مفاهيم القرآن

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 4

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1427 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-357-249-8

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء الأول

تفسير موضوعي يبحث حول الآيات الواردة في التوحيد والشرك

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء الأول

تفسير موضوعي يبحث حول الابيات

الواردة في التوحيد والشرك

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 4

مقدمة الطبعة الثالثة

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

القرآن كتاب القرون والأجيال

الحمد لله الذي نزّل القرآن تبياناً لكلّ شيء ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الذي نزل القرآنُ على قلبه ليكون من المنذِرين ، وعلى آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيش العلم وموت الجهل.

أمّا بعد ، فانّ القرآن كتاب أبديّ خالد ينطوي على أبعاد مختلفة وبطون لا يمكن للبشر أن يكتشف جميعها جملة واحدة ، وإنّما يكتشف في كلّ عصر بعداً من أبعاده ، وحقيقة من حقائقه.

وقد استخرج المحقّقون بفضل جِدّهم ومثابرتهم حقائق في غاية الأهمية لم يخطر على بال القدامى من المحقّقين ، وهذا دليل واضح على أبعاد القرآن اللامتناهية ، وإليها يشير ابن عباس بقوله : إنّ القرآن يفسره الزمان (1).

وهذه حكمة بالغة نطق بها حبر الأُمّة تلميذ الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ، وأثبتتها التجارب على مرّ الزمان.

ص: 5


1- راجع النواة في حقل الحياة ، تأليف مفتي الموصل الشيخ العبيدين.

والحقّ يقال : انّ السير التكاملي للعلوم على مرّ الزمان لم يمنع علماء الطبيعة فحسب من إمكانية استنباط حقائق هامة وجديدة من القرآن في حقول العلوم الطبيعية ، بل وأتاح للمفسرين أيضاً إمكانية استخراج حقائق قرآنية هامة لم تكن معروفة من ذي قبل ، وذلك بفضل تطور المناهج العلمية المتداولة.

إنّ القرآن الكريم صدر من لدن حكيم خبير لا يحد ولا يتناهى ، ومقتضى السنخية بين الفاعل والفعل أن يكون في فعله أثر من ذاته ، فإذا كانت ذاته لا متناهية ولا أوّل لها ولا آخر ، فاللازم أن ينعكس شيء من كمالات الذات على الفعل أيضاً ، وإلى ذلك يشير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في كلامه إذ يتحدّث حول أبعاد القرآن وأغواره ، فيقول :

« فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فانّه شافع مشفّع ، وماحل مصدَّق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم ، وباطنه علم ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له نجوم ، وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جالٍ بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ، ويتخلّص من نشب ، فانّ التفكر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور » (1).

كما أشار أمير المؤمنين علي علیه السلام إلى هذه الأبعاد اللا متناهية ، وقال في معرض كلامه عن القرآن : « ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره ، فهو ينابيع العلم وبحوره ، وبحراً لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون » (2).

ص: 6


1- الكافي : 2 / 599 ، كتاب فضل القرآن.
2- نهج البلاغة ، الخطبة رقم 198.

إنّ هذه الميزة ( البعد اللا متناهي للقرآن ) لم تكن أمراً خفياً على بلغاء العرب في صدر الرسالة ، وهذا هو الوليد بن المغيرة ريحانة العرب ، يشيد بالقرآن ويصفه بقوله :

واللّه لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وانّ له لحلاوة ، وانّ عليه لطلاوة ، وانّ أعلاه لمثمر ، وانّ أسفله لمغدق ، وانّه ليعلو وما يعلى عليه (1).

إنّه سبحانه خصَّ نبيّه بتلك المعجزة الخالدة ، وما هذا إلاّ لأنّ الدين الخالد يستدعي معجزة خالدة ، ودليلاً وبرهاناً أبدياً لا يختص بعصر دون عصر ، والنبي صلی اللّه علیه و آله وإن جاء بمعاجز ودلائل باهرة لم ترها عيون الأجيال المتعاقبة ولكن عوضهم اللّه سبحانه بمعجزة هي كشجرة مثمرة تعطي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها ، وينتفع كلّ جيل من ثمارها حسب حاجاته ، وإلى هذا يشير الإمام علي بن موسى الرضا علیهماالسلام حين سأله السائل ، وقال : ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلاّ غضاضة ؟ فقال الإمام : « إنّ اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة » (2).

اهتمام المسلمين بالكتاب العزيز

ارتحل النبي صلی اللّه علیه و آله وترك بين الأُمة تركتين ثمينتين ، إحداهما : الكتاب ، والأُخرى : العترة.

وقد أكبّ المسلمون بعد رحيله على قراءة القرآن وتجويده وكتابته ونشره بين الأُمم. وأسّسوا علوماً كثيرة خدموا بها القرآن الكريم ، كما أنّهم وراء ذلك اهتموا

ص: 7


1- مجمع البيان : 5 / 387 ، طبع صيدا ، وقد سقط عن النسخة لفظة « عليه » من قوله : « وما يعلى ».
2- البرهان في تفسير القرآن ، للسيد البحراني : 1 / 28.

بتفسير غريب القرآن وتبيين مفرداته ، ومجازاته وتفسير جمله وتراكيبه ، وردّ متشابهه إلى محكماته ، وتمييز ناسخه عن منسوخه ، وتفسير آيات أحكامه ، وإيضاح قصصه وحكاياته ، وأمثاله وأقسامه ، واحتجاجاته ومناظراته ، إضافة إلى بيان أسباب نزوله ، وكلّ ذلك يعرب عن الأهمية الفائقة التي يحظى بها القرآن الكريم.

وفي ظل هذه الجهود المضنية ظهرت تفاسير في كلّ قرن وعصر لو جمعت في مكان واحد لشكلت مكتبة ضخمة لا يستهان بها.

التفسير الترتيبي والتفسير الموضوعي

إنّ التفسير الرائج في الأجيال الماضية هو تفسير القرآن حسب السور والآيات الواردة في كلّ سورة ، فمنهم من سنحت له الفرصة أن يفسر آيات القرآن برمتها ، ومنهم من لم يسعفه الحظ إلاّ بتفسير بعض السور ، وهذا النوع من التفسير الذي يطلق عليه اسم التفسير الترتيبي ، ينتفع به أكثر شرائح المجتمع الإسلامي ، وكلّ حسب استعداده وقابلياته.

بيد انّ هناك لوناً آخر من التفسير يطلق عليه اسم التفسير الموضوعي الذي ظهر في العقود الأخيرة ، واستقطب قسطاً كبيراً من اهتمام العلماء نظراً لأهميته ، وهو تفسير القرآن الكريم حسب الموضوعات الواردة فيه بمعنى جمع الآيات الواردة في سور مختلفة حول موضوع واحد ، ثمّ تفسيرها جميعاً والخروج بنتيجة واحدة ، وقد أُطلق على هذا اللون من التفسير بالتفسير الموضوعي.

وأوّل من طرق هذا الباب لفيف من علماء الشيعة عند تفسيرهم آيات الأحكام الشرعية المتعلّقة بعمل المكلف في حياته الفردية والاجتماعية فانّ النمط السائد على تآليفهم في هذا الصعيد هو جمع الآيات المتفرقة الراجعة إلى موضوع واحد في مبحث واحد ، فيفسرون ما يرجع إلى الطهارة في القرآن في باب واحد ، كما

ص: 8

يفسرون ما يرجع إلى الصلاة في مكان خاص ، وهكذا سائر الآيات ، وهذا ككتاب « منهاج الهداية في شرح آيات الأحكام » للشيخ جمال الدين ابن المتوج البحراني ( المتوفّى عام 820 ه ) ، و « آيات الأحكام » للشيخ السيوري الأسدي الحلي المعروف بالفاضل المقداد ( المتوفّى عام 826 ) ، إلى غير ذلك مما أُلف في هذا الصدد ، وهذا على خلاف ما كتبه أهل السنة في تفسير آيات الأحكام كالجصاص وغيره ، فانّهم فسروا آيات الأحكام حسب السور ، وقد اعترف بذلك الشيخ الذهبي في كتابه « التفسير والمفسرون ».

يقول الذهبي عند ما يتطرق إلى تفسير « كنز العرفان في فقه القرآن » : يتعرض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط ، وهو لا يتمشى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف ذاكراً ما في كلّ سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصاص وابن العربي مثلاً ، بل طريقته في تفسيره : انّه يعقد فيه أبواباً كأبواب الفقه ، ويدرج في كلّ باب منها الآيات التي تدخل تحت موضوع واحد ، فمثلاً يقول : باب الطهارة ، ثمّ يذكر ما ورد في الطهارة من الآيات القرآنية ، شارحاً كلّ آية منها على حدة ، مبيناً ما فيها من الأحكام على حسب ما يذهب إليه الإمامية الاثنا عشرية (1).

ثمّ إنّ أوّل من توسع في التفسير الموضوعي هو شيخنا العلاّمة المجلسي ، فقد اتّبع هذا المنهج في جميع أبواب موسوعته النادرة « بحار الأنوار » حيث جمع الآيات المربوطة بكلّ موضوع في أوّل الأبواب وفسرها تفسيراً سريعاً ، وهذه الخطوة وإن كانت قصيرة ، لكنّها جليلة في عالم التفسير ، وقد قام بذلك مع عدم وجود المعاجم القرآنية الرائجة في تلك الأعصار.

وبما أنّ القرآن الكريم بحث في أُمور ومواضيع كثيرة لا يحيط بها أحد ، لذا

ص: 9


1- التفسير والمفسرون : 2 / 465.

فقد آثرنا دراسة الجانب العقائدي من هذه المواضيع الكثيرة جداً ، لأهميته في ترسيم معالم الإيمان وترسيخه في حياة الإنسان. وتؤلّف قضايا التوحيد والشرك حجر الأساس في العقيدة الإسلامية ، بل حجر الأساس في كلّ الشرائع السماوية.

فبإلقاء نظرة سريعة على الآيات القرآنية يتضح انّ القرآن الكريم بذل حيال مسألة التوحيد الأُلوهي وألربوبي من العناية ما لم يبذل مثلها حيال أية مسألة أُخرى من المسائل العقائدية والمعارف العقلية. بل حتى قضية « المعاد » والبعث في يوم القيامة التي تعد من القضايا المهمة جداً في نظر القرآن بحيث لا يمكن لأي دين أن يتجلى في صورة « عقيدة سماوية » ومنهج إلهي دون الاعتقاد بها ، كما لا يمكن لذلك المنهج أن ينفذ إلى الأعماق والافئدة بدونها.

ويجدر بالذكر انّ عناية القرآن تركزت أساساً على ابلاغ وبيان « أُصول الدين » وبذر بذورها في الأفئدة ، والعقول أكثر من العناية ببيان المسائل الفرعية العملية.

ويشهد على ذلك أنّ الآيات التي وردت في القرآن حول موضوع « المعاد » تتجاوز (2000) آية ، في حين يقارب مجموع الآيات الواردة حول الأحكام المبينة لفروع الدين (288) آية أو يتجاوزها بقليل.

وهذا هو بذاته يكشف عن الاهتمام الواسع والعناية الفائقة التي يوليها القرآن الكريم للمسائل الفكرية والقضايا الاعتقادية.

وعلى هذا الأساس قد خصصنا الجزء الأوّل للتوحيد والشرك بمختلف مراتبهما ، ولما انتهى بحثنا في آخر الجزء إلى التوحيد في الحكومة التي هي لله سبحانه فقط ، آثرنا أن نركز في الجزء الثاني على معالم الحكومة الإسلامية ، ثمّ تدرّجنا في البحث في سائر الأجزاء إلى الجزء العاشر الذي اهتم بالعدل والإمامة ، وما يمت لهما بصلة.

ص: 10

وبذلك انتهت هذه الموسوعة القرآنية المبتكرة في موضوعها ، وهي نعمة منَّ اللّه سبحانه بها على عبده الفقير.

وفي الختام لا يسعني هنا إلاّ أن أتقدم بخالص الشكر إلى ولدي الروحي الحجة الفاضل الشيخ جعفر الهادي ( حفظه اللّه) حيث قام بتدوين ما ألقيته من محاضرات في الجزء الأوّل والثاني على أحسن ما يمكن.

وقد بذل وقته الثمين لتحرير هذين الجزءين وإخراجهما بهذه الحلة القشيبة ، وهو ( حفظه اللّه ) ذو باع طويل في هذا المضمار.

وأمّا الأجزاء الثمانية الباقية فقد قمت بكتابتها وتحريرها بفضل من اللّه سبحانه فجاءت هذه الموسوعة في عشرة أجزاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

14 ذي الحجة الحرام من شهور عام 1420 ه

ص: 11

ص: 12

مراتب التوحيد

اشارة

لقد لخّص المحقّقون الإسلاميون البحوث المرتبطة بالتوحيد في أربعة أقسام نذكرها فيما يأتي باختصار :

1. التوحيد في الذات

والمقصود به أنّ اللّه واحد أحد لا شريك له ولا نظير ولا يتصور له شبيه ولا مثيل.

بل انّ ذاته المقدّسة بسيطة غير مركبة ، من أجزاء كما هو شأن الأجسام.

2. التوحيد في الصفات

ويراد منه أنّ اللّه تعالى وإن كان متّصفاً بصفات عديدة كالعلم والقدرة والحياة ، إلاّ أنّ هذا التعدّد إنّما هو باعتبار المفهوم الذهني وليس باعتبار الوجود والواقع الخارجي ، بمعنى أنّ كل واحدة من هذه الصفات هي « عين » الأُخرى وليست « غير » الأُخرى ، وهي أجمع « عين » الذات وليست « غير » الذات.

فعلم اللّه - مثلاً - هو « عين » ذاته ، فذاته كلّها علم ، في حين تكون ذاته كلها

ص: 13

« عين » القدرة ، لا أن حقيقة العلم في الذات الإلهية شيء ، وحقيقة القدرة شيء آخر ، بل كل واحدة منهما « عين » الأُخرى ، وكلتاهما « عين » الذات المقدسة.

ولتقريب المعنى المذكور نلفت نظر القارئ الكريم إلى المثال التالي فنقول :

من الواضح أنّ كل واحد منّا « معلوم » لله ، كما أنّه « مخلوق » لله في نفس الوقت.

صحيح أنّ مفهوم « المعلومية » غير مفهوم « المخلوقية » في مقام الاعتبار الذهني وعند التحليل العقلي البحت ، ولكنَّهما في مقام التطبيق الخارجي واحد ، فإنّ وجودنا بأسره معلوم لله ، كما أنّ وجودنا بأسره مخلوق لله في نفس الوقت .. هكذا وجود واحد باعتبارين.

فهما ( أي المعلومية والمخلوقية ) المتصف بهما وجودنا ليسا في مقام المصداق الخارجي إلاّ « عين » الأُخرى ، وهما « عين » ذاتنا ، لا أنّ قسماً من ذاتنا هو المعلوم لله والقسم الآخر هو المخلوق له تعالى ، بل كل ذاتنا بأسره مخلوق ومعلوم لله في آن واحد.

3. التوحيد في الأفعال

نحن نعلم أنّ هناك في عالم الطبيعة سلسلة من العلل والأسباب الطبيعية لها آثار خاصة ك :

الشمس والإشراق الذي هو أثرها ومعلولها ، والنار والإحراق الذي هو أثرها ومعلولها ، والسيف والقطع الذي هو أثره ومعلوله.

ص: 14

والتوحيد الافعالي هو أن نعتقد بأنّ هذه « الآثار » مخلوقة هي أيضاً لله تعالى كما أنّ عللها مخلوقة له سبحانه.

بمعنى أنّ اللّه الذي خلق العلل المذكورة هو الذي منحها تلك « الآثار ».

فخلق الشمس وأعطاها خاصية الإشراق ، وخلق النار وأعطاها خاصية الإحراق ، وخلق السيف وأعطاه خاصية القطع ، إلى آخر ما هنالك من العلل والمعلولات ، والأسباب والمسببات والمؤثرات وآثارها.

وبعبارة أُخرى : انّ « التوحيد الافعالي » هو أن نعترف بأنّ العالم بما فيه من العلل والمعاليل ، والأسباب والمسببات ، ما هو إلاّ فعل اللّه سبحانه ، وأنّ الآثار صادرة عن مؤثراتها بإرادته ومشيئته.

فكما أنّ الموجودات غير مستقلة في ذواتها بل هي قائمة به سبحانه ، فكذا هي غير مستقلة في تأثيرها وعلّيَّتها وسببيَّتها.

فيستنتج من ذلك أنّ اللّه سبحانه كما لا شريك له في ذاته ، كذلك لا شريك له في فاعليته وسببيته ، وأنّ كل سبب وفاعل - بذاتهما وحقيقتهما وبتأثيرهما وفاعليتهما - قائم به سبحانه وأنّه لا حول ولا قوة إلاّ به.

ويندرج في ذلك « الإنسان » ، فبما أنّه موجود من موجودات العالم وواحد من أجزائه فإنّ له فاعلية ، وعلية بالنسبة لأفعاله ، كما أنّ له حرية تامّة في مصيره وعاقبة حياته ، ولكنَّه ليس موجوداً مفوّضاً (1) إليه ذلك ، بل هو بحول اللّه وقوته يقوم ويقعد ويتسبب ويؤثر.

ص: 15


1- المراد من التفويض هو أنّ اللّه أعطاه الفاعلية ثم هو يفعل ما يريد دون مشيئة اللّه وعلى نحو الاستقلال ، وسيأتي شرح التفويض في الفصول القادمة مسهباً.

إنّ « التوحيد الافعالي » لا يعني إنكار العلل الطبيعية أو إنكار مشاركتها في التأثير وفي حدوث معلولاتها ، بل يعني مع الاعتراف بأنّ للعلل تمام المشاركة في ظهور الآثار ، وأنّ هذه الآثار هي من خواص هذه العلل.

أقول : يعني مع الاعتراف بهذا ، الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في صفحة الوجود إلاّ « اللّه » وأنّ تأثير ما سواه من المؤثرات إنّما هو في ظل قدرة اللّه ، ذلك المؤثر الحقيقي الأصيل ، وأنّ هذه العلل ما هي إلاّ وسائط للفيض الإلهي.

فمنه تعالى تكتسب « الشمس » القدرة على الإشراق والإضاءة كما استمدت منه أصل وجودها.

ومنه تعالى تكتسب « النار » خاصية الإحراق والحرارة كما استمدت منه أصل وجودها ، وأنّه تعالى هو الذي منح هذه العلل والأسباب هذه الخواص ، وأعطاها هذه الآثار كمامنحها : وجودها أساساً وأصلاً.

وبتعبير آخر نقول : إنّ التوحيد الأفعالي يعني أنّه لا مؤثر بالذات - في هذا الوجود - إلاّ « اللّه » ، فهو وحده الذي لا يحتاج إلى معونة أحد أو شيء في الإيجاد والتأثير والإبداع والابتكار.

وأمّا تأثير ما عداه « من العلل » ، فجميعه يكون بالاعتماد على قدرته وقوته سبحانه.

بهذا البيان يتضح الفرق بين مدرستين في هذا المجال :

مدرسة الأشاعرة القائلين بعدم دخالة العلل في الآثار مطلقاً.

والمدرسة القائلة بالتوحيد الافعالي.

ص: 16

فتذهب المدرسة الأُولى إلى أنّ الشمس والنار والسيف غير مؤثرة إطلاقاً ، وغير دخيلة مطلقاً في وجود النور والحرارة والقطع ، بل انّ عادة اللّه هي التي جرت على أن يوجد اللّه النور بعد طلوع الشمس ، والحرارة عند حضور النار ، والقطع عند حضور السيف ، وإن لم تكن لهذه الأشياء [ أي الشمس والنار والسيف ] أيّة مشاركة في إيجاد هذه الآثار ووقوعها.

ولا شك أنّ هذه النظرية مرفوضة في نظر العقل ومنطق القرآن (1).

فبينما تنفي مدرسة الأشاعرة دور العلل ومشاركتها رأساً ، تذهب المدرسة الثانية ( القائلة بالتوحيد الافعالي ) إلى الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في الوجود إلاّ « اللّه » (2) ولكن مع الاعتراف - إلى جانب ذلك - بدخالة « العلل » في إيجاد « الآثار » ، مستمدة هذه القدرة على التأثير من ذلك المؤثر الحقيقي الواحد ، ونعني « اللّه » سبحانه وتعالى.

ولهذا يغدو أي اعتقاد بالثنوية أو التثليث مرفوضاً في منطق هذه المدرسة.

وبهذا يتبيّن أنّ القائلين بأنّ الإنسان محتاج إلى اللّه في أصل وجوده ، ولكنه مستغن عنه تعالى في أفعاله ومستقل في تأثيره ، قد سقطوا في الشرك من حيث لا يعلمون ، ذلك لأنّهم بمثل هذا الاعتقاد يكونون قد اعترفوا - في الحقيقة - بمؤثرين أصيلين مستقلين غنيين وخرجوا بذلك عن إطار « التوحيد الافعالي » !!

ص: 17


1- فالقرآن يصرح بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها حيث يقول : ( يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ ) ( النحل : 11 ) فإنّ قوله ( بِهِ ) صريح في تأثير الماء في إنبات هذه الثمار ، وسيوافيك تفصيل القول في ذلك عند البحث في التوحيد الربوبي.
2- الاعتراف بوحدانية المؤثر في صفحة الوجود لا ينافي القول بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها.

كما أنّ الذين اعتقدوا بوجود « مبدأين » لهذا العالم ، وتصوّروا بأنّ خالق الخير هو غير خالق الشر هم أيضاً خرجوا عن دائرة التوحيد الافعالي وارتطموا في الشرك والثنوية في الفاعلية والتأثير (1).

4. التوحيد في العبادة

ونعني أنّ العبادة لا تكون إلاّ لله وحده ، وأنّه لا يستحق أحد أن يتخذ معبوداً مهما بلغ من الكمال والجلال وحاز من الشرف والعلاء.

ذلك لأنّ الخضوع العبودي أمام أحد لا يجوز إلاّ لأحد سببين ، لا يتوفران إلاّ في « اللّه » جل جلاله :

1. أن يبلغ المعبود حداً من الكمال يخلو معه عن أي عيب ونقص ، فيستوجب ذلك الكمال أن يخضع له كل منصف ويعبده كل من يعرف قيمة ذلك

ص: 18


1- ونظنك أيّها القارئ قد وقفت على الفرق بين التوحيد الافعالي ، وبين ما يذهب إليه الأشاعرة والمجبرة. فإن الفاعل عند هاتين الطائفتين (الأشاعرة والمجبرة) لامشاركة له في أفعاله وآثاره أصلاً، وإنها تستند إلى اللّه سبحانه مباشرة وبلا واسطة فهو الذي ينفذ الفعل عن طريق الفاعل دون إرادة و مشاركة من الفاعل في الفعل مطلقاً !! و أما الذي نقوله نحن فهو أن كل فاعل إنّما يعتمد - في فعله وأثره _ على اللّه من حيث إنّه فقير محتاج إلى الغني بالذات في جميع شؤونه وأطواره وأن للفاعل - مريداً كان أو غير مريد _ دوراً في حدوث الأثر و بروزه و أنّ الأثر لا يمكن أن يتحقق على صعيد الوجود إلا عن طريق هذا الفاعل. وكم فرق بين أن ننسب أفعال الفاعل كلها إلى اللّه مع نفي مشاركته فيها، وبين أن نعزي إمكانية التأثير إلى اللّه مع الاعتراف بمشاركة الفاعل في فعله. و سوف يظهر لك الفرق بين المدرستين _ بنحو أكثر تفصيلاً _ في البحوث الآتية.

« الكمال المطلق ».

ونعني ببلوغ أقصى درجات الكمال ومراتبه أن يتحلّى - مثلاً - بالوجود اللامتناهي الذي لا يشوبه عدم ، والعلم اللامحدود الذي لا يخالطه جهل ، والقدرة المطلقة التي لا يمازجها عجز أو عيّ.

فهذه الأُمور هي التي تدفع كل ذي وجدان سليم وضمير حي إلى التعظيم والخضوع لصاحبها وإظهار العبودية أمام ذلك الكمال المطلق.

2. أن يكون ذلك المعبود بيده مبدأ الإنسان ومنشأ حياته فيكون خالقه وواهب الجسم والروح له ومانح الأنعم والبركات إياه ومسبغها عليه بحيث لو قطع عنه فيضه لحظة من اللحظات عاد عدماً واستحال خبراً بعد أثر.

ترى هل يتوفر هذان الوصفان في أحد غير اللّه ؟ وهل سواه يتصف بأكمل الكمال ؟ أم هل سواه منح للأشياء وجودها وخلق الإنسان ويسر له سبل الحياة ؟ وهل سواه المبدأ الفياض الذي لو وكل الحياة إلى ذاتها ، وترك الإنسان لنفسه آناً من الآونة صارت الحياة كأن لم تكن ؟

هذا والجدير بالذكر أنّ عبادة الأنبياء والأئمّة والأولياء الصالحين لله سبحانه لم تكن إلاّ ل ( كمال ) ذلك المعبود المطلق.

فهم لمعرفتهم الأفضل ، واطّلاعهم الأعمق على عالم الغيب عبدوا اللّه سبحانه لما وجودوا فيه من الجمال المطلق ، والكمال اللامحدود ، ولأجل أنّهم وجدوه أهلاً للعبادة ، والتقديس والخضوع والتعظيم فعبدوه وقدسوه وخضعوا له وعظموه.

أجل لذلك فحسب وليس لسواه عبدوه ، وأعطوه بلاءهم وولاءهم ، حتى

ص: 19

أنّهم كانوا سيعبدونه - حتماً - حتى ولو لم يك هناك العامل والملاك الآخر للعبادة ، في حين أنّ الآخرين إنّما يعبدون « اللّه » لكونه خالقهم ، ومصدر وجودهم وسابغ الأنعم عليهم ، وواهب القدرة والطول لهم ، ولأنّ بيده مفتاح كل شيء وناصية كل موجود (1).

على كل حال سواء كان الأولى هو الأخذ بالملاك الأوّل للعبادة أم الثاني ، فإنّ العبادة بكلا الملاكين المذكورين مخصوصة باللّه وليس معه في ذلك شريك ، لعدم وجودهما في غيره تعالى.

وبذلك تكون عبادة غير اللّه أمراً مرفوضاً بشدة في منطق العقل والشرع على السواء.

كان هذا هو مقصود علماء الإسلام من مراتب وأقسام التوحيد الأربعة ، التي ذكرناها باختصار وسنذكرها مفصّلة ، كما سنذكر غيرها من مراتب التوحيد في الصفحات القادمة مع استعراض الآيات الدالة عليها إن شاء اللّه.

غير أنّنا مع تقديرنا لما قام به أُولئك العلماء والمحقّقون المسلمون من خدمات علمية جليلة على هذا الصعيد نقول : إنّ مراتب التوحيد - حسب نظر القرآن - لا تنحصر في ما ذكروه من المراتب ، بل يستفاد من آيات الكتاب العزيز أنّ هناك مراتب توحيدية أُخرى يمكن استنباطها واستفادتها من القرآن ، من الصعب ، ادراجها تحت المراتب الأربع المذكورة.

وإليك فيما يلي هذه المفاهيم باختصار :

ص: 20


1- هناك عوامل أُخرى للعبادة سيوافيك بيانها في موضعه.

التوحيد في الولاية

اشارة

ولا نعني من الولاية « الولاية التكوينية » أي الربوبية والتدبير ، بل المراد « الولاية التشريعية » وتنظيم شؤون الفرد والمجتمع في عامّة مجالات الحياة.

والولاية بهذا المعنى تعني الأمارة ، ولها مظاهر ثلاثة :

1. التوحيد في الحاكمية

ولقد وجّه القرآن الكريم عناية خاصة إلى « التوحيد في الحاكمية » بحيث يتبيَّن بوضوح أنّ الحكم والولاية في منطق القرآن ليس إلاّ لله تعالى وحده ، وانّه لا يحق لأحد أن يحكم العباد دونه ، وأنّه لا شرعية لحاكمية الآخرين إلاّ إذا كانت مستمدة من الولاية والحاكمية الإلهية وقائمة بأمره تعالى ، وفي غير هذه الصورة لن يكون ذلك الحكم إلاّ حكماً طاغوتياً لا يتصف بالشرعية مطلقاً ولا يقرّه القرآن أبداً.

على أنّنا حينما نطرح هذا الكلام ونقول : بأنّ الحكم محض حق لله وأنّ الحاكمية منحصرة فيه دون سواه فليس يعني ذلك أنّ على اللّه أن يباشر هذه الحاكمية بنفسه ، ويحكم بين الناس ويدير شؤون البلاد دونما واسطة ، ليقال إنّ ذلك محال غير ممكن ، أو يقال إنّ ذلك يشبه مقالة الخوارج إذ قالوا للإمام علي علیه السلام رافضين حكمه وإمارته :

« أن الحكم إلاّ لله ، لا لك يا علي ، ولا لأصحابك » (1).

بل مرادنا هو : أنّ حاكمية أيِّ شخص يريد أن يحكم البلاد والعباد لا بد أن

ص: 21


1- كان هذا شعار الخوارج يردّدونه في المسجد وغيره.

تستمد مشروعيتها من : « الإذن الإلهي » له بممارسة الحاكمية.

فما لم تكن مستندة إلى هذا الإذن لم تكن مشروعة ولم يكن لها أي وزن ، ولا أي قيمة مطلقاً.

ونفس هذا الكلام جار في مسألة الشفاعة أيضاً.

فعندما يصرح القرآن بوضوح قائلاً : ( قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1) لا يعني أنّه لا يشفع إلاّ اللّه ، إذ لا معنى لأن يشفع اللّه لأحد.

بل المفاد والمراد من هذه الآية هو أنّه ليس لأحد أن يشفع إلاّ بإذن اللّه ، وأنّه لا تنفع الشفاعة إذا لم تكن برضاه ومشيئته (2).

وإن شئت قلت : إنّ أمر الشفاعة بيد اللّه تعالى من حيث الشافع والمشفع واللام في قوله ( لله ) يدل على اختصاص خاص وهو أنّ أمر التصرّف باختياره تعالى كقوله : ( وَللهِ غَيْبُ السَّماوَاتِ والأرضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ ) (3).

2. التوحيد في الطاعة

كما أنّ الحاكمية على العباد مختصة باللّه سبحانه ، كذلك لا يجوز لأحد أن يطيع أحداً غير اللّه ، فالطاعة هي أيضاً حق منحصر باللّه سبحانه لا يشاركه فيها ولا ينازعه أحد.

وأمّا لو شاهدنا القرآن يأمرنا - في بعض الموارد - بطاعة غير اللّه ، مثل

ص: 22


1- الزمر : 44.
2- بحث المؤلف الشفاعة في كتاب مستقل باسم « الشفاعة بين يدي القرآن والسنّة والعقل ».
3- هود : 123.

الأنبياء والأولياء ، فليس لأنّ طاعة هؤلاء واجبة بالذات ، بل لأنّ وجوب طاعتهم من جهة أنَّها « عين » طاعته سبحانه ، وبأمره.

وبتعبير أجلى : حيث إنّ اللّه تعالى « أمر » بطاعة هؤلاء ، لهذا وجبت إطاعتهم واتّباع أوامرهم والانقياد لأقوالهم امتثالاً لأمر اللّه وتنفيذاً لإرادته ، فلا يكون هناك حينئذ إلاّ « مطاع واحد » في واقع الحال ، وهو اللّه جل جلاله. وأمّا إطاعة الآخرين (أي غير اللّه) فليست إلاّ في ظل إطاعة اللّه تعالى شأنه ، وفرع منها.

3. التوحيد في التقنين

إنّ حق التقنين والتشريع - هو الآخر - مختص باللّه في نظر القرآن الكريم ، تماماً مثل الأُمور السالفة الذكر.

فليس لأحد سوى « اللّه » حق التقنين والتشريع وجعل الأحكام وسن القوانين للحياة البشرية.

ولذلك فإنّ الذين أعطوا مثل هذا الحق للأحبار والرهبان خرجوا من دائرة التوحيد في التقنين ، ودخلوا في زمرة المشركين.

ويمكن إدراج هذا القسم ( أي التوحيد في التقنين ) تحت قسم ( التوحيد الافعالي ) ولكن من الأفضل أن نفرد له قسماً خاصاً ، وبحثاً مستقلاً ، لأنّ المقصود بالأفعال في « التوحيد الافعالي » هو الأفعال التكوينية أي المرتبطة بعالم الخلق والتكوين والطبيعة ، في حين أنّ التقنين والتشريع نوع من الأُمور الاعتبارية والجعلية العقلائية ، فليس التحليل والتحريم أمرين تكوينيين ، بل من الملاحظات العرفية القائمة بذهن المعتبر واعتباره ، ولهذا يكون من الأنسب التفريق بين هذين القسمين.

ص: 23

وهكذا بالبحث في :

التوحيد في الحاكمية.

والتوحيد في الطاعة.

والتوحيد في التقنين.

أقول : بالبحث في هذه الأُمور تتضح صيغة الحكومة ونظام الحكم في الإسلام ، وتتجلّى لنا الصورة الواقعية للحكومة الإسلامية.

لأنّ على هذا الأساس لن تكون الحكومة الإسلامية من نوع « حكم الفرد على الشعب » ولا من نمط « حكم الشعب على الشعب » على إطلاقه ، بل هي من نوع « حكومة اللّه على المجتمع بواسطة المجتمع » (1) أو بعبارة أُخرى : حكومة القانون الإلهي على المجتمع.

وأمّا بقية الصيغ الأُخرى للحكم التي سوف نستعرضها فيما بعد فلا توافق الصيغة القرآنية على صعيد نظام الحكم مطلقاً.

ففي كثير من الصيغ المطروحة لنظام الحكم يشار فيها - في العادة - إلى هذه الأُصول الثلاثة وهي :

1. السلطة التشريعية.

2. السلطة القضائية.

3. السلطة التنفيذية.

ص: 24


1- على النحو الذي سيأتي بيانه موسعاً فيما بعد.

وكل هذه السلطات الثلاث محترمة في نظر الإسلام ، إلاّ أنّ مهمة « السلطة التشريعية » في الحكومة الإسلامية ليست إلاّ « التعريف بالقانون » والتخطيط وفق موازين الشريعة الإسلامية وليس سن القوانين ، لأنّ في النظام الإسلامي يختص حق التقنين باللّه ، فلا مكان لمقنّن آخر فيه سوى اللّه الذي سن جميع ما يحتاجه البشر من القوانين وأبلغها إليهم عن طريق الأنبياء والمرسلين.

من هنا لا بد لتكميل « البحوث التوحيدية » - بالإضافة إلى دراسة مراتب التوحيد الأربع - من البحث في هذه الأنواع الثلاثة من التوحيد على ضوء القرآن.

على أنّنا لا ندعي بتاتاً بأنّ مراتب التوحيد وأقسامها تنحصر في هذه المراتب السبع وتقف عند هذا الحد ، بل يمكن أن يكون للتوحيد مراتب أُخرى ذكرها القرآن (1) ولكن بحثنا سيدور فعلاً حول هذه الأقسام السبعة.

ولكي نحيط إحاطة كاملة بالكثير من المسائل المرتبطة « بالتوحيد والشرك » من وجهة نظر القرآن الكريم يتعين علينا أن نتعرف على نظر القرآن الكريم في المباحث التالية التي هي موضع عناية القرآن :

1. اللّه والفطرة.

2. اللّه وعالم الذر.

ص: 25


1- مثل « التوحيد في الهداية » و « التوحيد في المالكية » و « التوحيد في الرازقية » و « التوحيد في الشفاعة » مما يمكن إدخال بعضها أو جميعها في قسم « التوحيد الافعالي ».

3. اللّه وبراهين وجوده في القرآن (1).

4. اللّه وسريان معرفته في الوجود بأسره.

5. اللّه والتوحيد في الذات.

6. اللّه وبساطة ذاته وعينيّة صفاته لذاته.

7. اللّه والتوحيد في الخالقية (2).

8. اللّه والتوحيد في الربوبية ( التدبير ) (3).

9. اللّه والتوحيد في العبادة.

10. اللّه والتوحيد في التقنين.

11. اللّه والتوحيد في الطاعة.

12. اللّه والتوحيد في الحاكمية.

ص: 26


1- ليس من الصحيح أن يؤخذ علينا استدلالنا بالقرآن على وجود اللّه بظن أنّ هذا يستلزم الدور الصريح بأن يقال : إن القرآن حجة فيما يقول لو ثبت الوحي والرسالة، والوحي والرسالة لا يثبتان إلا بعد ثبوت الموحي المرسل، فالاستدلال بالقرآن لثبوت الموحي المرسل استدلال بالشيء على نفسه. أقول: لا يصح أن يؤخذ علينا إشكال كهذا، لأننا إنّما نستدل بالقرآن، لأنه لا يعرض ما يتعلق بالعقائد الدينية إلا مع الأدلة العقلية القاطعة، وهذا وحده أمر يستدعي الاهتمام بغض النظر عن كون القرآن وحياً إلهياً وكتاباً سماوياً. فاستشهادنا واستهداؤنا بالقرآن إذن هو من قبيل استهداء التلميذ بأستاذه الذي يريه الطريق، أي بصرف النظر عن كون القرآن كلام اللّه بل بالنظر إلى كونه مبيناً للأدلة والبراهين العقلية ومشيراً إلى الأدلة التي تستدعي من عقولنا التأمل.
2- الخالقية والتدبير ( اللّذين فتحنا لهما فصلين مستقلين ) هما في الحقيقة من فروع التوحيد في الأفعال ، ولكن لكثرة مباحثهما بحثنا عن كل واحد بالاستقلال.
3- الخالقية والتدبير ( اللّذين فتحنا لهما فصلين مستقلين ) هما في الحقيقة من فروع التوحيد في الأفعال ، ولكن لكثرة مباحثهما بحثنا عن كل واحد بالاستقلال.

وسنبحث في هذا الكتاب وفق هذا الجدول الذي يؤلف فصول هذا الكتاب الرئيسية ، وسيكون مستندنا الوحيد - طوال هذا البحث - هو (آيات القرآن الكريم ) ومداليل هذه الآيات ومفادها.

كما أنّنا لمزيد التوضيح ربّما استعنا - خلال البحث - بالأدلة العقلية الواضحة والتحليل الفلسفي ، وربّما نستشهد ببعض الأحاديث التي رواها السنّة والشيعة عن النبي الكريم صلی اللّه علیه و آله وآله علیهم السلام ومن اللّه نسأل العون والسداد.

ص: 27

ص: 28

الفصل الأوّل: اللّه والفطرة

اشارة

ص: 29

معرفة اللّه والفطرة

1. هزيمة التكنولوجيا والحياة الآلية.

2. اعترافات علماء الاجتماع بأصالة التديّن.

3. هل وجود اللّه أمر بديهي ؟

4. تعاليم الدين - بأُصولها - أُمور فطرية.

5. تجلّي الفطرة عند الشدائد.

6. هل وحدانية اللّه أمر فطري وإن لم يكن الاعتقاد بذاته فطرياً ؟

7. الإجابة عن هذا السؤال.

8. ما هو الفرق بين التوحيد الفطري والاستدلالي ؟

9. كيف نميز بين الفطري وغير الفطري ؟

10. علامات الفطرية الأربع.

11. البعد الرابع أو غريزة التدين.

12. سلوك الماركسيين تجاه أُصولهم.

13. المعنى الآخر لفطرية الإيمان باللّه.

14. الفطرة في الأحاديث.

ص: 30

هزيمة التكنولوجيا والحياة الآلية

في التحوّل العلمي الأخير للغرب انطلق المكتشفون والمخترعون يعدون العالم البشري بأنّه لو تم لهم اكتشاف الضوابط والسنن المتحكمة في دنيا المادة ، ولو تم لهم الوقوف والاطّلاع على العلاقات السائدة بين الظواهر الطبيعية وبالتالي لو أمكنهم أن يكبحوا جماح غول الجهل الذي يطارد البشرية دونما رحمة.

لو تم لهم كل ذلك لاستطاع البشر أن يحصلوا على « المدينة الفاضلة » التي وعد بها إفلاطون ، بل لاستطاعوا أن يحصلوا على الجنّة التي طالما تحدث عنها الأنبياء ، وأخبر بها الرسل !! ولم يعد بعد ذلك أيّة حاجة إلى الدين والتعاليم الدينية !! فالتقدّم العلمي والتكنولوجي وحده كفيل بأن يحقق للإنسانية ما يليق بها من العزة والكرامة والسعادة !!

هذا ما كان يتحدّث عنه.

بيد أنّه الحوادث المريعة التي شهدتها أوائل وأواسط القرن الأخير والتي بلغت ذروتها في الحربين العالميتين اللتين كان مجموع ضحاياهما ما يزيد عن المائة مليون إنسان ما بين قتيل وجريح ومفقود الأثر.

هذه الحوادث أفرغت اليأس في قلوب كل أُولئك المتشدّقين وفنّدت مزاعمهم ، وأثبتت بقوّة بأنّ عهد الدين لم يول بعد ، وأنّ الحاجة إلى التعاليم

ص: 31

الدينية لا ولن ترتفع أو تزول ، وأنّ من المستحيل أن تسعد البشرية وتنال الرفاه المنشود ورغد العيش دون الأخذ بالدين ، ودون التوجّه إلى اللّه ، وأنَّها على فرض حصولها على العيش الرغيد في معزل عن الدين ، فإنّها - ولا ريب - ستواجه مشكلات جديدة لا يمكن حلها وعلاجها بأدوات التطور العلمي المادي والتقدم الصناعي ، والتكنولوجي.

لأنّه ما الذي سيمنع - في ظل الأنظمة المعتمدة على العلم المجرّد عن الدين - من بروز الحروب المبيدة الساحقة ، واندلاع المعارك المدمرة ؟

أم أي نظام حقوقي سيكون قادراً على تلبية كل احتياجات الإنسان الحقوقية ومعالجة كل المشكلات الطارئة على العلاقات الاجتماعية ؟!!

لقد أصبح عرض المبادئ والنظريات الفجة مع انتحال صفة « الآيديولوجية » لها ، شعار هذا العصر ، ولكن الواقع العملي أثبت أنّ كل هذه المبادئ والنظريات وما يسمّى ب « الآيديولوجيات التقدمية » عجزت ، وفشلت ، وسقطت على صعيد التطبيق السياسي والاجتماعي والأخلاقي ، وعجزت عن تقديم نموذج أعلى للحياة وطريقة فضلى للعيش ، فإذا بنا نجدها تختفي عن المسرح الواحدة تلو الأُخرى وبسرعة ، مسلمة نفسها إلى يد النسيان والفناء ، والاندحار.

فالماركسية التي جعلت « الاقتصاد » مبدأ حركة التاريخ وغايته ومحور كل التحولات الاجتماعية لم تستطع - أبداً - أن تروي عطش الإنسان إلى القضايا الروحية والمعنوية ولم تستطع أن تشبع تلك الجوعة المتأصلة في كيان الكائن البشري إلى ما وراء المادة ، وبالتالي عجزت الماركسية عن الإجابة على أبسط الأسئلة في هذا المجال !!

ص: 32

فالإنسان يريد دائماً أن يعرف :

من أين جاء ؟؟

ولماذا جاء ؟؟

وإلى أين يذهب ؟؟

ولكنَّ الفكر الماركسي يلوذ بالصمت تجاه هذه الأسئلة المحرجة ، ويعجز - تماماً - عن الإجابة عليها.

ومن المعلوم أنّ الإنسان ما لم يحصل على إجابات مقنعة على أسئلته حول علة خلقه والهدف منه والغاية التي تنتظره فإنّه لن تنحل عنده بقية مسائل الحياة بصورة جدية وقطعية.

وكيف - ترى - يمكن أن تنحل هذه المشاكل ويتضح جواب هذه التساؤلات والماركسية تعتبر الكون ككتاب مندرس سقط أوّله وآخره فلا أوّل له ولا آخر ولا مبدأ ولا منتهى حيث إنّها لا تعترف بالمبدأ الأوّل ولا تقرّ به ولا تعرفه كما لا تعرف الغاية من الخلق ولا تقرّ بها ولا تعترف.

من هنا يعتقد المفكرون المتحررون واقعيو النظرة في العالم ، اليوم بأنّ على البشرية أن تعود إلى أحضان الدين ، وأنّ المعتقدات والتعاليم الدينية يجب أن تؤخذ في الحسبان على أنّها جانب أساسي في حياة الإنسان وأنّ أي مبدأ وآيديولوجية تريد أن تشغل الإنسان بالطبيعة فقط متجاهلة ما وراء الطبيعة فإنّها ستكون محكومة بالفشل وسيكون مآلها إلى السقوط في وجه المشاكل العويصة والطرق المسدودة التي تعترض سبيلها ، وسبيل كل فكرة وعقيدة.

وصفوة القول هو ما قاله العالم المعروف : « جان ديورث » :

ص: 33

كيفما فسرنا الأُمور الدينية وكيفما تصورناها ، فإنّ للدين سابق عهد في الحياة البشرية وله دور فعلي الآن ، ولا ريب أنّه سيكون له ذلك في المستقبل أيضاً.

إنّ كون الآيديولوجية ( إلهية ) وكون المنهج إلهياً لا يعني أنّ نوجه عنايتنا إلى ما « وراء الطبيعة » ونتجاهل عالم المادة ونهمل دنيا الطبيعة ، بل انّ الفارق بين « الإلهي » و « المادي » هو أنّ الإلهي يجعل معرفته بالطبيعة سبيلاً إلى معرفة ( ما وراء الطبيعة ) هذا إلى جانب الاستفادة الكاملة والمعقولة من عالم الطبيعة والمادة ، في حين يقتصر المادي على الاستفادة من الطبيعة ويجعلها هدفه الوحيد ، وغايته القصوى ، ويحبس نفسه في سجن المادة دون أن يحاول التحليق إلى آفاق ما وراء الطبيعة كما يفعل المادي.

علماء الاجتماع وأصالة التديّن

يذهب علماء الاجتماع المحقّقون المحايدون إلى أنّ للاعتقاد والإيمان باللّه جذوراً عميقة ، وتاريخاً عريقاً في حياة الإنسان ، بحيث لم يحدث للبشر حذف الدين من منهاج حياته ولا حتى لبرهة عابرة من الزمن.

أمّا البلاد الشيوعية التي حذفت الإيمان باللّه من برنامج حياتها ، وتظاهرت بالإلحاد والكفر وإنكار الخالق وبكل ما يتعلق بما وراء الطبيعة « الميتافيزيقا » فلها تراجيديا واسعة سنشير إليها في خاتمة البحث.

والآن إلى البحث حول أصالة التديّن وتجذّره في تاريخ البشر :

إنّ حياة البشر على هذا الكوكب كنز غني وثمين متاح للإنسان المعاصر والقادم. ولكل فرد من أبناء البشر حسب رؤيته ، وتبعاً لمقدار معلوماته وتخصصه

ص: 34

أن يستفيد من هذا الكنز العظيم الزاخر بالعبر والدروس.

ومن أجل ذلك راح الأنبياء العظام والمصلحون العالميون ، والحكماء والفلاسفة ، ومن ورائهم المربون الاجتماعيون وأساتذة الأخلاق ، والنفسانيون وغيرهم يلفتون نظر المجتمعات البشرية إلى « تاريخ الأسلاف » ويدعونهم إلى قراءته واستلهام الدروس منه ، وراح كل واحد من هذه الطوائف التي ذكرنا يستفيد من هذا الكنز العظيم ، أعني : التاريخ البشري ، ما أمكنه لإنجاح مهمته ، وأهدافه لما في التاريخ من أدلة وشواهد لما يقولون.

إنّ تصفح مثل هذا التاريخ ومطالعة حياة الأقوام والشعوب السالفة وعلل ظهور الحضارات « الواحدة والعشرين » (1) وأرضياتها وأُسسها ، وسيلة مطمئنة للباحث الذي يريد الاطلاع على جذور التديّن في قلوب البشر وفي تاريخه الطويل.

فالمتصفح في التاريخ البشري الطويل يرى كيف أنّ البشر اختار - طوال آلاف السنين وخلال هذه الحضارات المتنوعة - عشرات المناهج والأساليب لحياته ، ولكنّه سرعان ما كان ينبذها ويحذفها من حياته تماماً.

لقد كان البشر ولا يزال طالباً للجديد ، وخاضعاً لسنة التطور والتحول والتغير ففيما هو يوجد لنفسه ولحياته ، أو يختار ، برامج وأساليب جديدة لنظامه نجده من جانب آخر يلغي أُموراً - تبعاً للعوامل الطبيعية والظروف المحيطية والعنصرية - طالما دافع عنها وأحبها إلى درجة بذل النفس في سبيلها.

لكنَّ هناك أمراً واحداً بقي ثابتاً لا يتغير في قاموس الحياة البشرية ، رغم كل

ص: 35


1- حسبما أحصاها بعض مؤرخي الحضارات.

تلك التغيّرات والتحوّلات.

أمراً واحداً بالغ البشر في حفظه وصيانته وتوسيع دائرته ألا وهو : موضوع « الدين » ، والإيمان بما وراء المادة الذي لم يعرف فيه مللاً ولا فتوراً ولا إعراضاً.

هذا القدم في الوجود وهذه الأصالة كاشفة ولا شك عن أنّ « التديّن » والدين يعتبر من العناصر التي تؤلِّف ذات الإنسان وتعد من غرائزه الأصيلة وحاجاته الروحية والنفسية التي كانت لا تزال معه بحيث لم تتسلل إليها يد التغيير والتبديل.

يقول « ويل دورانت » المؤرّخ المعاصر :

صحيح أنّ بعض الشعوب البدائية ليس لها ديانة على الظاهر فبعض قبائل الأقزام في إفريقية لم يكن لهم عقائد أو شعائر دينية على الإطلاق ، إلاّ أنّ هذه الحالات نادرة الوقوع ولا يزال الاعتقاد القديم بأنّ الدين ظاهرة تعم البشر جميعاً اعتقاداً سليماً وهذه في رأي الفيلسوف حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية.

ثم يقول :

إنّ الفيلسوف معني بمسألة العقيدة الدينية من حيث قدم ظهورها ودوام وجودها (1).

ويقول العالم الاجتماعي المعروف « صموئيل كونيك » في بعض كلماته حول جذور الدين في الأسلاف من البشر :

إنّ أسلاف البشر المعاصر - كما تشهد آثارهم التى حصل عليها في

ص: 36


1- قصة الحضارة : 1 / 99.

الحفريات - كانوا أصحاب دين ، ومتدينين ، بدليل أنَّهم كانوا يدفنون موتاهم ضمن طقوس ومراسيم خاصة وكانوا يدفنون معهم أدوات عملهم ، وبهذا الطريق كانوا يثبتون اعتقادهم بوجود عالم آخر ، وراء هذا العالم (1).

انّ ذلك الفريق من البشر وان كان يعيش في عصر لم يتم فيه اختراع « الخط » بعد ، ولكنه مع ذلك كان الالتفات إلى الدين الذي يلازم بالضرورة « التوجه إلى الميتافيزيقيا » جزء من حياته.

وفي موضع آخر يطرح « ويل دورانت » السؤال التالي ويقول :

ما أساس هذه التقوى التي لا يمحوها شيء من صدر الإنسان (2) ؟

ثم يجيب هو بنفسه على هذا السؤال في موضع آخر من الصفحات التالية بنحو ما إذ يقول :

إنّ الكاهن لم يخلق الدين خلقاً لكن استخدمه لأغراضه كما يستخدم السياسي دوافع الإنسان الفطرية وغرائزه ، فلم تنشأ العقيدة الدينية عن تلفيقات أو الاعيب كهنوتية إنّما نشأت عن فطرة الإنسان (3).

وقد يقال : لو كان للدين والتدين جذور عميقة في فطرة الإنسان وأعماق وجدانه ، إذن فلماذا خاض أصحاب الأديان كل تلك الحروف طوال التاريخ البشري من أجل إقرار الدين في مجتمعاتهم.

وجواب هذا واضح ، فإنّه لم يكن هناك خلاف في أصل « وجود اللّه »

ص: 37


1- كتاب « جامعه شناسي » : 192.
2- قصة الحضارة : 1 / 99.
3- المصدر نفسه.

والالتفات إلى ما وراء المادة .. وإنّما الخلاف وقع في خصوصيات هذا الاعتقاد وليس في جوهره وأصله.

وبهذا يتضح أنّ الصراع قام حول التفاصيل والخصوصيات ، وأمّا أصل العقيدة والإيمان بوجود اللّه فقد اتفقت عليه كلمة البشرية على مدار التاريخ الإنساني الطويل.

هل وجود اللّه بديهي ؟

لقد اعتبر بعض العرفاء « وجود اللّه » في العالم أمراً بديهياً ، وادّعوا بأنّ استنباط هذه الحقيقة من آيات القرآن والوقوف عليها استنباط واضح ولا يحتاج إلى الاستدلال عليه والتفكير مطلقاً.

وكأنّ « توماس كارليل » الفيلسوف الانجليزي قد انتزع مقالته التالية من هذا التصور والاعتقاد إذ قال :

إنّ الذين يريدون إثبات وجود اللّه بالبرهان والدليل ما هم إلاّ كالذي يريد الاستدلال على وجود الشمس الساطعة الوهّاجة بالفانوس (1).

ولدى مراجعة الآيات القرآنية والأدعية الواردة عن أهل بيت النبي علیهم السلام يمكن الوقوف على إشارات جلية إلى هذا المطلب ، ونعني بداهة « وجود اللّه » (2).

ص: 38


1- گلشن راز : 51.
2- ليس المراد من البداهة أن لا يختلف فيه اثنان أو لا يحتاج إلى تذكير مذكر بل للبداهة مراتب بعضها يحتاج إلى تذكير مذكر أو إشارة مشير ، وربما يحتاج التصديق به إلى تخلية النفس من الرواسب والآراء السابقة ، ولأجل ذلك لا مانع من أن يكون وجود اللّه معنى بديهياً وإن اختلف فيه الناس والفلاسفة.

ومن ذلك قوله تعالى :

( أَفِي اللّه شَكٌّ فَاطِرِ السَّماوَاتِ والأرض ) (1).

فما يمكن أن يكون إشارة إلى قضية « بداهة وجود اللّه » في هذه الآية هو قوله : ( أَفِي اللّه شَكٌّ ) في حين أنّ المقطع التالي من الآية أعني قوله : ( فَاطِرِ السَّماوَاتِ والأرض ) يعتبر دليلاً مستقلاً على وجود اللّه كما سيأتي توضيحه وبيانه فيما بعد.

وكما يمكن أن تكون الآية المذكورة إشارة إلى « بداهة وجود اللّه » كذلك يستفاد ذلك من الآية التالية التي تصف اللّه بالظهور إذ تقول :

( هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيء عَلِيمٌ ) (2).

كما ويمكن استفادة إشارات واضحة إلى هذا الأمر من دعاء الإمام أبي عبد اللّه الحسين بن علي سيد الشهداء علیه السلام ، ومناجاته يوم عرفة مع ربه إذ يقول :

« كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟!

أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ؟!

متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟!

ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟!

عميت عين لا تراك عليها رقيباً ».

ص: 39


1- إبراهيم : 9.
2- الحديد : 3.

ويقول علیه السلام في ختام دعائه :

« يا من تجلّى بكمال بهائه ، كيف تخفى وأنت الظاهر ؟!

أم كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر ؟ » (1).

ولكن لابد أن نعلم أنّه لا تنافي بين « بداهة وجود اللّه » و « فطرية الإيمان به » فلا مانع من أن يكون وجود اللّه بديهياً ويكون الإيمان بوجوده فطرياً أيضاً.

وفي الحقيقة فإنّ بداهة وجود اللّه ما هي إلاّ نتيجة فطريته ، لأنّ أحد أقسام البديهي هو : « الفطريات » كما هو واضح لمن يراجع هذا البحث في محله (2).

ولأجل ذلك لا مانع من أن تكون مسألة وجود اللّه بديهية وفطرية في آن واحد وما ذلك إلاّ لأنّ الإيمان بوجوده تعالى قد امتزج بوجداننا وبفطرتنا ، ولذلك يبدو وجوده لنا في صورة الأمر البديهي.

الإنسان يبحث عن اللّه فطرياً

يذهب أكثر المفسرين إلى أنّ فطرية الإيمان باللّه أمر يمكن استفادته من الآيات القرآنية (3) وإذا بهم يجعلون الإيمان باللّه كسائر الغرائز المتأصلة في البشر

ص: 40


1- راجع كتاب الأدعية في دعائه علیه السلام يوم عرفة.
2- بحث « مواد الأقيسة » وهذا البحث من المباحث الهامة جداً في علم المنطق ، ولكنّ المتأخرين لم يهتموا به كما ينبغي مع الأسف ، وقد انفرد العلاّمة الحلي فقط في كتابه « الجواهر النضيدة » بهذا المبحث.
3- بمعنى أنّ الآيات القرآنية تصرّح بأنّ الإذعان بوجود اللّه فطري لدى الإنسان.

ويقولون : كما أنّ الإنسان يحب الخير فطرياً ، أو يكره الشر فطرياً كذلك يبحث عن اللّه فطرياً وذاتياً ، ويريد معرفة ما وراء الطبيعة فطرياً أيضاً ، وما كل ذلك إلاّ لأنّ البحث عن اللّه والتفتيش عن الخالق أمر جبل عليه الإنسان وفطر عليه تكوينه وعجنت به سريرته ، فإذا به يميل إلى الإذعان باللّه ذاتياً بينما يكره الإلحاد ونكران اللّه ذاتياً كذلك.

وفي هذا الباب نواجه نوعين من الآيات :

نوعاً يعتبر التعاليم الدينية بأُصولها ( من عقيدة وعمل ) قضايا فطرية مغروسة في جبلة البشر وخلقته ، فإذا هي ( أي هذه التعاليم ) ليست سوى نداءات الضمير ، ومحاكاة للفطرة.

ونوعاً آخر يصرح بأنّ الإيمان باللّه وألتوجه إليه في الشدائد من الأُمور الفطرية التي ولدت مع الإنسان.

وإليك فيما يلي كلا النوعين من الآيات :

التعاليم الدينية أُمور فطرية

قال اللّه تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلّدِينِ حَنِيفاً فِطْرةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

ففي هذه الآية لم تجعل مسألة « معرفة اللّه والإيمان به » فقط أمراً ، فطرياً بل وصف الدين بأُصوله ( والتي تعني تلك الأُصول والكليات التي تؤلّف أساس

ص: 41


1- الروم : 30.

الدين الإلهي ) بكونه فطرياً جبلياً (1).

ويشهد الواقع على ذلك إذ نرى أنّ كل التعاليم الّتي جاء بها الدين من عقيدة وعمل ، تنطبق على مجموع الاحتياجات الفطرية سواء بسواء. (2)

والإمعان في الآية المذكورة يفيدنا أنّ الدين عجن بفطرة البشر عجناً ، فإذا هو منها وإذا هي منه ، وجزء من كيانه.

وحقيقة الدين ليست سوى الطريق الأفضل الذي يجب أن تسلكه البشرية للوصول إلى السعادة.

وبتعبير آخر : انّ الهدف والغاية من خلق البشر ليس إلاّ الحصول على السعادة والكمال ، وقد هدى اللّه تعالى كل فرد من أفراد البشر بل وكل نوع من أنواع مخلوقاته إلى ذلك إذ جهزه بما يوصله إلى شواطئ السعادة المنشودة والكمال المطلوب بوسيلة مناسبة.

وقد أشار الكتاب العزيز بصراحة إلى هذه « الهداية التكوينية » العامة والتي لا تقتصر على بني آدم بل تشمل كل الكائنات على الإطلاق.

ص: 42


1- الاستدلال بالآية في المقام موقوف على كون الدين بمعنى مجموع العقيدة والشريعة لا بمعنى الطاعة كما هو الظاهر من قوله تعالى : ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ( البينة : 5 ) أي مخلصين له الطاعة. فإن الدين في تلك الآية وأضرابها بمعنى الطاعة. فلو قلنا بكون الدين في هذه الآية بمعنى الطاعة لصارت من شواهد التوحيد في الطاعة. غير أن مشاهير المفسرين قد فسروا الدين في الآية المبحوثة هنا بمجموع العقيدة والشريعة، وجعلوا العقائد الإسلامية وأصول الشريعة وكليّاتها (لا جزئياتها وتفاصيلها) من الأمور الفطرية.
2- هذا بالإضافة إلى أنّنا نجد أغلبية الناس يميلون إليها طوعاً ورغبة إذا عرضت عليهم على النحو الصحيح ، وإذا هم تجرّدوا عن العصبية - الهادي -.

فقد صرح بذلك في آيات أُخرى مضافاً إلى ما سبق ، إذ قال :

( رَبُّنُا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (1).

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (2).

هذه الآيات تفيد - بوضوح كامل - أنّ اللّه زوّد كل كائنات هذا العالم - بشراً وغير بشر - بهداية فطرية تكوينية تتبين بموجبها طريقها في الحياة فتأخذ ما يناسبها وتدع ما لا يناسبها ، وتعينها تلك الهداية الفطرية على معرفة ما هو مفيد لها وما هو مضر.

وفي خصوص الهداية الفطرية التي زود بها البشر خاصة يقول القرآن الكريم : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (3).

( أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (4).

( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبيلَ يَسَّرَهُ ) (5).

كل هذه الآيات حاكية عن أنّ جميع الموجودات - أعم من الإنسان وغير الإنسان - تعيش في ظل هداية تكوينية فطرية ، هداية تقودها إلى الكمال المنشود المطلوب.

والهادي للإنسان في هذا المسير إنّما هو خلقته وتكوينه. وجميع البشر سواسية في هذه الموهبة الإلهية المعنوية ونعني الهداية الفطرية فلم يفضل اللّه فيها

ص: 43


1- طه : 50.
2- الأعلى : 2 - 3.
3- الشمس : 7 - 8.
4- البلد : 8 - 10.
5- عبس : 19 - 20.

بعضاً على آخر ، ولم يعطها لفريق ويحرم منها آخرين. إنّما هي فطرة فطر عليها عامة البشر بلا استثناء إذ يقول :

( فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ) .

فلم يخلق جماعة على غريزة الإيمان ، وجماعة أُخرى على غريزة الإلحاد. جماعة على الميل إلى الخير ، وجماعة أُخرى على الميل إلى الشر.

كلاّ ، إنّما هي فطرة واحدة فطر عليها جميع الناس دون تمييز وتفضيل. إذ لا ريب أنّه لو لم يقم مجتمع ما على أساس مشترك لما أمكن سوقه إلى هدف الخلقة ( ونعني به التكامل ).

فإذا كانت التعاليم الدينية بأُصولها ذات طابع فطري وصفة جبلية ، فمن الأحرى أن تكون مسألة « معرفة اللّه والإيمان به » التي تعد أساس كل التعاليم الدينية أمراً فطرياً كذلك.

تجلّي الفطرة عند الشدائد

من المعلوم أنّ فطرية الإيمان باللّه لا تعني بالضرورة أن يكون الإنسان متوجهاً إلى اللّه دائماً ملتفتاً إليه متذكراً إيّاه في جميع حالاته وآونة حياته اليومية ، إذ رب عوامل تتسبب في إخفاء هذا الإحساس في خبايا النفس وحناياها وتمنع من تجليه ، وظهوره على سطح الذهن ، وفي مجال الوعي والشعور.

وأمّا عند ما يرتفع ذلك الحجاب المانع عن الفطرة فالإنسان يسمع نداء فطرته بوضوح.

أجل .. هذه حقيقة لا تنكر .. فعندما يواجه المرء حوادث مخيفة نجده

ص: 44

يتوجه إلى اللّه ، ويستنجد به بحكم فطرته طالباً منه تيسير عمله ، وتسهيل أمره.

عندما تقع للإنسان حوادث خطيرة كهجوم الأمواج العاتية على السفينة التي يركبها في عرض البحر ، أو حدوث عطل فني في الطائرة التي يمتطيها في الجو ، أو انحراف السيارة التي يستقلها ، أو يتعرض لهجوم سيل كاسح على قريته أو مدينته.

أقول : عندما يواجه الإنسان أحد هذه المخاطر نراه يتوجه من فوره - وبصورة تلقائية فطرية - إلى اللّه ، وتحدث لديه حالة عرفانية قلبية ، يطلب فيها من اللّه سبحانه الخلاص والنجاة.

ففي هذه الحالة صار الخوف مذكراً له بنداء الفطرة وكاشفاً عنها لا موجداً للإيمان باللّه.

فلا يصح لنا أن نستنتج من توجه البشر إلى اللّه في هذه الحالة وفي هذه اللحظات من حياته بأنّ الإيمان وليد الخوف والرهبة من الطبيعة الغاضبة كما يدعي الماركسيون ومن حذا حذوهم بل الخوف مجرد وسيلة تكشف الغطاء عن ذلك الإيمان المغروس في أعماق البشر ، المودوع في الفطرة بيد الخالق العظيم.

إنّ غريزة حب الجمال واكتناز الثروة وطلب العلم رغم أنّها أُمور مجبولة مع فطرتنا ومعجونة مع خلقتنا فهي لا تظهر ولا تتفتّح ولا تبرز في كل الأوقات والظروف ، ولا تتجلّى في عالم الذهن في كل الأزمنة والأحوال ما لم تتهيّأ الظروف المناسبة لها في وجودنا.

وكذلك تكون غريزة التديّن وفطرة الإيمان باللّه.

وها هو القرآن الكريم يذكرنا بهذه الحقيقة فيخبرنا كيف أنّ فريقاً من البشر

ص: 45

يذكرون اللّه ويتوجهون إليه في مواقع الشدة ، والخطر .. أي عندما تواجه سفنهم طغيان الأمواج - مثلاً -.

ففي هذا الموضع - بالذات - يتذكّرون اللّه وينسون ما سواه من العلل المادية حتى الأصنام التي كانوا يتصورون بأنّها مقربة لهم إلى اللّه ، فيدعون اللّه ويطلبون منه بكل إخلاص أن ينجيهم مما هم فيه :

( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِريح طَيِّبَة وَفَرِحُوا بِها جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكَان وَظَنَّوا أَنَّهُمْ أُحِيْطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحَقِّ ... ) (1).

( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوا اللّه مُخْلِصِينَ لهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (2).

( وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّار كَفُور ) (3).

( وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (4).

( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (5).

ص: 46


1- يونس : 22 - 23.
2- العنكبوت : 65.
3- لقمان : 32.
4- يونس : 12.
5- النحل : 53 - 54.

( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُوراً ) (1).

( وَإَذَا مَس النَّاسَ ضُرٌّ دَعوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (2).

هذه الآيات كلها تفيد أنّ الإيمان باللّه مزروع في فطرة الإنسان ، غاية ما في الأمر أنّ الإنسان قد يغفل عن ذلك بعض الأحيان بسبب ما يعتريه من سهو ولهو ولذات منسية سريعة الفوت ، ولكنَّه سرعان ما يعود بحكم فطرته إلى اللّه - عندما يواجه الشدائد وتفقد الحياة رتابتها - فهنالك لا يرى سوى اللّه منقذاً ومخلصاً ، ولا يرى في غيره ولياً ولا نصيراً.

هل الإيمان بوحدانية اللّه فطري أيضاً ؟

يعتقد فريق من العلماء أنّ الآيات المذكورة ناظرة إلى مسألة « فطرية الاعتقاد بوحدانية اللّه » لا إلى مسألة « فطرية الاعتقاد بوجوده تعالى ».

فقد كتب من هذا الفريق من يقول :

لو كانت هذه الآيات تتحدث عن فطرية شيء ، فهي إنّما تتحدث - في الحقيقة - عن فطرية « وحدانية اللّه » لا عن فطرية « أصل وجوده ».

وذلك لأنّ هذه الآيات موجهة - أساساً - إلى المشركين الذين كانوا يتخذون مع اللّه إلهاً أو آلهة أُخرى.

ص: 47


1- الإسراء : 67.
2- الروم : 33.

وبذلك يكشف شأن نزولها عن أنّ الأمر الموصوف بالفطرية والمنعوت بكونه جبلياً هنا ليس هو « الاعتقاد بوجود اللّه » بل هو « الاعتقاد بوحدانيته » كما لا يخفى.

الجواب :

ويمكن الإجابة على هذا الاعتراض بجوابين :

1. أنّ هذا الكلام - لو صح - إنّما هو صادق بالنسبة للآيات التي تتحدث عن حالة راكبي الفلك (1) حينما تعتريهم الأمواج الطاغية فيتوجهون - في غمرة الخوف والانقطاع - إلى اللّه فيما يتوجهون في غير هذه اللحظات إلى معبوداتهم وآلهتهم المزعومة المصطنعة مشركين ، حائدين عن جادة التوحيد.

وأمّا تلكم الآيات التي تصف أُصول التعاليم الدينية بالفطرية ، وتعتبرها أُموراً نابعة من صميم ذاته ومنطبقة مع جبلته ، ومقتضى خلقته فخارجة عن مجال هذا الكلام والاعتراض.

ففي هذه الآيات الأخيرة لم يعتبر التوحيد فقط أمراً فطرياً جبلياً بل اعتبر العلم بالمحسنات والمقبحات والعلم بالتقى والفجور كما في قوله تعالى : ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (2) أو العلم بالدين كما في قوله : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّه ) (3).

أقول : اعتبر العلم بهذه الأُمور فطرياً.

ص: 48


1- يونس : 23 ، والعنكبوت : 65 ، لقمان 32 ، والإسراء : 67.
2- الشمس : 8.
3- الروم : 30.

وفي هذه الصورة لا منافاة بين فطرية الاعتقاد بأصل وجود اللّه والاعتقاد بوحدانيته فطرياً ، لأنّ كل ذلك يندرج تحت إطار « التعاليم الدينية » على السواء.

2. وحتى لو أغمضنا النظر عن هذا الجواب وقصرنا النظر على آيات راكبي الفلك ، فإنّ الاعتراض لن يصح في موردها أيضاً.

وذلك لأنّ المشركين رغم اعتقادهم باللّه ، فإنَّهم ما كانوا يعبدون - في الأوقات الاعتيادية - إلاّ أوثانهم خاصة ، فلم يكن لديهم في تلك الأحيان أي توجه إلى اللّه أبداً ، بينما كان هذا الأمر ينعكس تماماً عند مواجهة الأخطار والشدائد فكانوا يتوجهون إلى اللّه وحده ، يعبدونه وحده ، ويتضرعون إليه وحده ، وأمّا الأصنام فكانت تسلم إلى يد الإهمال والنسيان.

من هذا الأمر يمكن استنباط الحقيقة التالية ، وهي أنّه كما أنّ وحدانية اللّه أمر فطري كذلك الاعتقاد بأصل وجوده فطري أيضاً.

لأنّ المشرك - كما لاحظنا - لم يتوجه في الشدائد إلاّ إلى اللّه الذي كان ينسى وجوده وصفته في الحالات الاعتيادية نسياناً مطلقاً وكأنّ اللّه لم يكن.

ولا ريب أنّ هذه الالتفاتة بعد تلك الغفلة الشاملة للذات أيضاً ، علامة أنّ الذات والصفة ، ونعني ذات اللّه ووحدانيته كلاهما أمران فطريان.

وبعبارة أُخرى : إذا كان الاعتقاد بصفة من صفات اللّه فطرياً فمن الأحرى أن يكون « أصل الاعتقاد بوجوده » كذلك أمراً فطرياً لدى الإنسان ، ولذلك فإنّ الآيات المذكورة حتى إذا كانت تعني فطرية التوحيد - حسبما ادّعوا - فإنّها تعني بالضرورة والأولوية فطرية الإيمان بوجود اللّه.

ص: 49

تنبيه إلى عدة نقاط

اشارة

لقد قادنا التحقيق السابق إلى فطرية مباني الدين وأُسسه وأُصوله ، ويتعين علينا الآن أن ننبه القارئ الكريم بعدة نقاط نراها ضرورية في المقام :

الأُولى : الفرق بين التوحيد الفطري والتوحيد الاستدلالي

يمكن البحث والتحدث حول معرفة اللّه والتوصل إليها عن طريقين هما :

1. طريق الفطرة.

2. طريق الاستدلال.

والمراد من « طريق الفطرة » هو أنّ كل إنسان يشعر في قرارة ضميره ، ومن تلقاء نفسه بانجذابه نحو اللّه ، وميله العفوي الفطري إليه دون أن يكون في ذلك متأثراً ببرهان ، أو خاضعاً لدليل ، أو نابعاً من تعليم معلم ، أو دعوة أحد ، أو ما شابه ذلك من المؤثرات الخارجية.

والمقصود بالطريق الثاني أي التوحيد الاستدلالي ، هو أن يجد المرء طريقه إلى معرفة اللّه عبر الاستدلال وإقامة البراهين العقلية والفلسفية فلا يكون دليله في هذا السبيل ، إلاّ تلك البراهين ليس إلاّ.

وقد يحدث خلط والتباس بين هذين الطريقين وهذين النوعين من « التوحيد » لذلك لا بد من التلميح إلى ما يساعدنا على التمييز بين « الفطري » و « غير الفطري » من الأُمور. وهذا هو ما نبينه في النقطة الثانية التالية :

ص: 50

الثانية : كيف نميّز العمل الفطري عن غير الفطري ؟
اشارة

يصدر من الإنسان في حياته نوعان من الأفعال :

1. الأفعال الفطرية.

2. الأفعال العادية.

والأفعال الفطرية هي تلك الأفعال التي تنبع من جبلة الإنسان وفطرته وغريزته كالتنفس ، والدفاع عن النفس عند مواجهة الخطر.

وهذه الأعمال لا تختلف عما تفعله الحيوانات من أعاجيب الأفعال بحكم الغريزة وتحت هداية الفطرة وتأثير الجبلة ودون أن تخضع في شيء من ذلك لأي عامل خارجي عن وجودها.

والأفعال العادية هي التي لا يكون لها أية جذور غريزية باطنية بل يقوم بها الإنسان تحت تأثير العوامل الخارجية عن ذاته.

ولمزيد من التوضيح نمثل للأفعال الفطرية بالأمثلة التالية :

1. الغريزة الجنسية وميل كل جنس إلى مخالفه من الأُمور الفطرية التي تتجلّى لدى كل فرد من أبناء البشر في سنين متفاوتة.

فكل أبناء البشر - بلا استثناء - يميلون في هذه الفترة من العمر إلى الزواج واللقاء الجنسي دون أن يدعوهم إلى ذلك داع أو مبلّغ ودون أن يسوقهم إلى ذلك مرشد أو معلّم.

2. الميل إلى الجاه والمكانة الاجتماعية هو الآخر من الأُمور الفطرية التي تنبع من أعماق الباطن البشري ، وحنايا النفس الإنسانية.

ص: 51

فالحكم على الناس والحصول على المناصب ليس شيئاً لا يريده أحد أو يحتاج إلى تعليم معلّم.

3. حب المال واكتناز الثروة وجمعها من الأُمور الفطرية كذلك.

ألا ترى كيف لا يشبع الإنسان من جمع المال ، ولا يمل من تكديس الثروة وكأنّ جبلته عجنت بطلب الدنيا وحبها.

هذه هي بعض النماذج من الأفعال الفطرية ، وهي كما نرى لا تخضع لأي تغيير وتبدّل ، كما لا تخضع لأي عامل خارج الذات.

ويقابل ذلك مجموعة من الأفعال العادية التي تخضع لحالة التغيّر والتبدّل باستمرار.

فإذا كانت الحاجة إلى اللباس فطرية فإنّ كيفية اللباس الذي يلبسه الإنسان ليست فطرية ، ولأجل هذا نرى التفاوت الكبير في كيفية الثياب والألبسة والأزياء واختلافها من شعب إلى شعب ومن أُمّة إلى أُخرى.

واليوم حيث يتزايد تقارب الشعوب بفضل المواصلات وأجهزة الإعلام بحيث يكاد يصبح العالم عائلة واحدة نجد أنّ مواصفات الأزياء وطُرُز الألبسة تتعرض للتغير والتبدل في كل عام في أغلب نقاط عالمنا ، فتذهب طُرُز وتحل محلها طُرُز أُخرى جديدة بينما تبقى الحاجة إلى اللباس ثابتة لا تتغير.

وعلى غرار الأزياء تخضع أساليب تجميل النساء وطرق الزينة ، وهكذا زخارف المنازل والمحلات والمخازن ، للتغيّر والتبدّل كل عام وينتخب كل شعب لنفسه زياً من الأزياء وطرازاً من الطُرُز ، وشكلاً من الأشكال.

مع ملاحظة الأمثلة التي ذكرناها للنوعين يمكن تمييز الأمر الفطري عن

ص: 52

الأمر غير الفطري بمعونة العلامات التالية :

1. حيث إنّ الأُمور الفطرية ذات جذور غريزية باطنية ، لذلك فهي تتصف بالشمولية والعمومية ، فليس هناك أحد من أبناء البشر يفقدها ويخلو منها.

2. الأُمور الفطرية تتحقق بوحي الفطرة وهدايتها ، ولا تحتاج إلى تعليم معلّم.

3. كل فكرة أو عمل تكون له جذور فطرية لا تخضع لتأثير العوامل السياسية والاقتصادية والجغرافية ، بل هي تعمل وتتحقق بعيداً عن نطاق هذه العوامل وتأثيرها.

4. الدعايات المكثفة والمستمرة ضد الأُمور الفطرية يمكن أن تضعفها وتحد من نموها ولكن لا تتمكن - أبداً - من استئصالها والقضاء عليها بالمرة.

هكذا تكون الأُمور الفطرية بينما تكون الأُمور العادية - على العكس -.

فهي محلية.

وهي تتأثر بالعوامل والمؤثرات المحيطية والبيئية.

وهي تخضع لتعليم معلم.

وأخيراً هي مما تتمكن الدعايات المضادة من استئصالها بالمرة.

والآن علينا أن نرى ما إذا كانت غريزة التديّن تتصف بالصفات والعلامات الأربع التي ذكرناها أو لا ؟

ص: 53

1. البحث عن اللّه ظاهرة عالمية

لقد كشف التحقيق الكلّي الذي قمنا به في مطلع هذا الفصل كشف النقاب عن « عالمية » هذا الإحساس ، ونعني حس البحث عن اللّه والانجذاب إلى ما وراء المادة « الميتافيزيقيا ».

ونضيف هنا أنّ علماء التنقيب والآثار عثروا ويعثرون باستمرار - وخلال حفرياتهم - على معابد وهياكل للعبادة وأصنام تصور معبودات جميلة كان يتخذها البشر القدامى وتقدّسها الأجيال الغابرة البائدة ، وتعود إلى أقدم العصور.

فها هو فريد وجدي يكتب في دائرة معارفه :

إنّ نتيجة التنقيبات في باطن الأرض تفيد أنّ الوثنية كانت من أظهر وأبرز الإدراكات البشرية ، وكأنّ الاعتقاد بالمبدأ نشأ مع ظهور البشر جنباً إلى جنب (1).

ويكتب « جان دايورث » الأُستاذ بجامعة كولومبيا حول الدين وأصالته في المجتمع البشري (2) :

إنّك لن تجد أية ثقافة لدى أية أُمَّة من الأُمم وقوم من الأقوام إلاّ ويكون في تلك الثقافة شكل من أشكال التديّن وأثر بارز للدين.

إنّ جذور التديّن ممتدة إلى أعماق التاريخ .. إلى الأعماق المجهولة من التاريخ السحيق البعيد غير المدون (3).

ص: 54


1- دائرة المعارف : مادة « إله » و « وثن ».
2- الدين في التجارب.
3- المصدر السابق.
2. الفطرة هي الهادية إلى اللّه وليس التعليم

يستيقظ الشعور الديني في باطن كل إنسان - تماماً - كبقية الأحاسيس الباطنية دون معلم ودون إرشاد أو توصية من أحد.

فكما يحس الإنسان باطنياً وذاتياً في فترة من فترات حياته أو في كل الفترات بميل شديد إلى أُمور كالجاه أو الثروة أو الجمال أو الجنس وذلك تلقائياً ودون تعليم معلم ، كذلك يستيقظ في باطنه « ميل إلى اللّه » وإحساس تلقائي يدفعه بدون إرادته إلى التفتيش عنه ، وهو إحساس يتعاظم ويتزايد ويظهر ويتجلّى أكثر فأكثر أثناء البلوغ حتى أنّ علماء النفس يتفقون في أنّ بين « ازمة البلوغ » و « القفزة المفاجئة في المشاعر الدينية » في الفرد ارتباطاً وتلازماً لا ينكر.

ففي هذه الأوقات نشاهد نهضة قوية ، واندفاعة شديدة في الشعور الديني حتى عند أُولئك الذين كانوا قبل تلك الفترة غير مكترثين بالدين وقضايا الإيمان.

ويبلغ الشعور الديني ذروته في سن السادسة عشرة حسب نظرية « استانلي هال ».

وأمّا الأشخاص الذين سبق لهم أن تلقّوا تربية دينية في عهد الطفولة ، فلا توجد لديهم مثل تلك النهضة المفاجئة ، بل يمتد الشعور الديني الموجود قبل البلوغ إلى ذلك الوقت دونما مفاجأة.

إنّ ظهور الميل المفاجئ إلى الدين وإلى اللّه ومسائل الإيمان دون تعليم أو توجيه ، لهو أحد الدلائل القاطعة على فطرية هذا الأمر ، وكون هذا الإحساس يظهر فطرياً شأن بقية الأحاسيس الإنسانية الفطرية الأُخرى.

ص: 55

ولكن علينا أن لا نغفل عن نقطة مهمة وهي : أنّ هذا الإحساس ، وكذا بقية الأحاسيس والمشاعر الإنسانية لو لم تحط بالمراقبة الصحيحة والرعاية اللازمة أمكن - بل من المحتم - أن تعروها سلسلة من الانحرافات وتتعرض للاعوجاج كما هو الحال عند الوثنيين وغيرهم ممن تركوا عبادة اللّه ، وأخذوا بعبادة الآلهة.

3. الشعور الديني ليس وليد العوامل المحيطية

عندما نجد الشعور الديني منتشراً وسائداً في كل مكان وكل صقع من هذا العالم ، وفي كل عصر من عصور التاريخ البشري ، فإنّ من البديهي أن نستنتج أنّ هذا الشعور نداء باطني فطري لا محرك له سوى الفطرة ، ولا مقتضي له سوى الجبلة.

لأنّه لو كان للظروف الجغرافية أو العوامل الأُخرى دخل في نشوء هذا الشعور ، لوجب أن يوجد في مكان دون مكان ، ولدى شعب دون شعب ، ولدى طبقة خاصة دون أُخرى.

وبتعبير آخر لوجب أن يكون هذا الشعور لدى من تتوفر لديه الظروف الجغرافية أو السياسية أو الاقتصادية الخاصة دون من لا تتوفر فيه تلكم الخصوصيات. في حين أنّ الأمر على العكس من هذا تماماً ، فالشعور الديني موجود في جميع المناطق ولدى جميع الشعوب وفي جميع أدوار التاريخ البشري الطويل .. وهذا هو بالذات شأن كل ما لا يخضع لتأثير العوامل الخارجية .. وبالتالي شأن كل أمر فطري.

وفي هذا الصدد يقول « بلورتاك » المؤرخ الإغريقي الشهير منذ نحو من ألفي سنة :

ص: 56

من الممكن أن نجد مدناً بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب ولا مسارح ولكن لم ير قط مدينة بلا معبد ، أو لا يمارس أهلها عبادة (1).

ويقول العالم الأثري الراحل الدكتور سليم حسن :

دلت البحوث العلمية البحتة الآن على أنّ لكل قوم من أقوام العالم عامة - مهما كانت ثقافتهم منحطة - ديناً يسيرون على هديه ويخضعون لتعاليمه (2).

4. الدعايات حدّدت هذا الشعور ولم تستأصله

لا شك في أنّ الدعايات المناوئة ، في مقدورها أن تحد من نمو كثير من الأحاسيس والمشاعر الدينية ، ولكنّها لا تستطيع - بتاتاً - أن تقضي عليها وتستأصلها.

وحتى الآن ورغم سيطرة الأفكار اليسارية على ما يقرب من ثلث عالمنا المعاصر ومحاولة البعض لحبس « الشعور الديني » في سجن الاستعمار الشيوعي أو القضاء عليه بالمرة (3) فإنّ هذه الجهود المناوئة للدين لم تحقق أي قسط مهم من النجاح في القضاء على الدين ، أو تفريغ قلوب أكثرية سكان هذا العالم من هذا الشعور.

فها هو الشعور الديني - في نفس الاتحاد السوفياتي البلد الشيوعي الأُم - رغم مرور أزيد من ستين عاماً على الثورة الشيوعية فيها لا يزال يحتفظ بمكانته في أعماق القلوب ، ولذلك عمدت السلطات - في الأوان الأخير - إلى إعطاء بعض

ص: 57


1- بين العلم والدين : 36.
2- بين العلم والدين : 25.
3- حتى أنّ بعض الأحزاب التقدمية رفعت مؤخراً شعار : « القضاء على الدين دين ».

الحريات للمسلمين والمسيحيين لإقامة شعائرهم الدينية.

وفعلت الصين مثل ذلك مؤخراً كما تنقل نشرات الأخبار ووكالات الأنباء.

كل ذلك برهان ساطع ودليل قاطع على أنّ الشعور الديني فطرة فطر عليها الناس ، جميع الناس .. لا تمحوها الدعايات المناوئة ، ولا أي شيء آخر ، وإن كانت تقلل من اندفاعاتها وتحد من نموها ، بعض الوقت ، وبعض الشيء.

الثالثة : الشعور الديني أو البعد الرابع في الروح الإنسانية
اشارة

إذا كان القرآن الكريم وأحاديث أئمّة الإسلام تعتبر الشعور الديني أمراً نابعاً من الفطرة ، وراجعاً إليها .. وأمراً جبل عليه الإنسان يوم خلق فإنّ علماء النفس منهم خاصة يصفون هذا الشعور بأنّه « البعد الرابع » للروح الإنسانية.

وإذا تهافتت في الغرب نظرية الأبعاد الثلاثة للجسم إثر ظهور النظرية النسبية التي أضافت بعداً رابعاً للأجسام هو الزمان مضافاً إلى أبعاده الثلاثة المنظورة ( وهي الطول والعرض والعمق ) فقالت : كما أنّ الجسم لا يخلو من هذه الأبعاد الثلاثة كذلك لا يخلو من الزمن الذي هو وليد الحركة بما أنّ الأجسام في حركة دائمة.

أقول : كما تهافتت نظرية الأبعاد الثلاثة بظهور البعد الرابع للأجسام ، كذلك مع اكتشاف الشعور الديني في الإنسان والاطلاع على أنّ هذا الشعور يمثل أحد العناصر الثابتة والطبيعية في الروح والنفس الإنسانية تهافتت النظرية القائلة بأنّ للروح الإنسانية ثلاثة أبعاد فحسب ، وثبت في المآل أنّ في الروح والفطرة البشرية حسّاً آخر علاوة على الأحاسيس والغرائز الثلاث المعروفة ، وهذا

ص: 58

الحس هو « حس التدّين » الذي لا يقل أصالة عن بقية الأحاسيس الأصيلة والمشاعر المتأصلة في وجود الإنسان.

وإليك فيما يلي بيان الغرائز والأحاسيس الثلاث باختصار :

1. غريزة حب الاستطلاع

وهذه الغريزة هي التي دفعت وتدفع الفكر الإنساني - منذ البداية - إلى البحث وإلى دراسة المسائل والمشاكل والسعي لاكتشاف المجهولات وفك الرموز واستكناه الحقائق. وهي الغريزة التي نشأت في ظلها العلوم والصناعات وتوسعت المعارف وتطوَّرت وتقدّمت ... وهي الغريزة التي ساعدت المكتشفين والمخترعين منذ القدم وكانت معواناً ومشجعاً لهم على مواصلة البحث المضني لاكتشاف ألغاز الطبيعة وأسرار الحياة وكشف القناع عنها ، وتحمل كل الصعوبات والمتاعب في ذلك الطريق الوعر.

2. غريزة حب الخير

وهي منشأ ظهور الأخلاق ، ومعتمد الفضائل والسجايا الإنسانية والصفات النفسانية المتعالية.

وهي الغريزة التي تدفع الإنسان إلى أن يحب بني نوعه ويطلب العدل ، والحق ، والسلام.

وهي التي توجد في المرء نوعاً من الميل الفطري الباطني إلى الأخلاق النبيلة والسجايا الحميدة ونفوراً من الرذائل والصفات الذميمة.

ص: 59

3. غريزة حب الجمال

وهي منشأ الفنون الجميلة قديماً وحديثاً وسبب ظهور الأعمال الفنية في شتى مجالات الحياة.

4. غريزة التدّين

وتعني بأنّ كل فرد من أبناء الإنسان يميل بنحو ذاتي وفطري ، وبحكم غريزته إلى اللّه ويميل إلى التدّين ، وينجذب عفوياً إلى معرفة ما وراء الطبيعة والقوة الحاكمة على هذا الكون الذي يعيش ضمنه ويكون وجود الإنسان فرعاً من وجوده وجزءاً من أجزائه.

تلك القوة التي بيدها أمر العالم ويمكن أن تنقذه من البلايا ، وتدفع عنه كل مكروه إن شاءت.

ولقد أوجد اكتشاف هذا الشعور وهذا البعد الأخير حركة عظيمة في الأوساط العلمية ، إذ حط هذا الاكتشاف العلمي النفساني الهام من غرور ماديي القرن العشرين وكبريائهم.

فإذا كان إنكار ما وراء الحس « الميتافيزيقيا » دليلاً على الفهم والعلم والتحقيق ذات يوم ، فقد أصبح هذا الأمر - بعد اكتشاف البعد الرابع - علامة الجهل والتعصب والتحجّر ، والإنكار لأبده الحقائق الحاضرة.

وإذا كانت مقالة لينين حول الدين ، تعتبر ذات يوم في نظر البعض أصلاً لا يقبل النقاش والجدل ، وكانت جماهير السواد تتصور بأنّه قد اكتشف لغزاً وسراً عظيماً من أسرار الكون ، فقد أصبحت هذه النظرية بعد اكتشاف البعد الرابع ،

ص: 60

أي الشعور الديني الفطري ، واحدة من السخافات والمهازل.

إنّ وجود البعد الرابع في الروح الإنسانية يثبت أنّ لجميع الميول الدينية عند الإنسان جذوراً ضاربة في أعماق الوجدان ، وقد تجلى هذا الشعور في جميع أدوار الحياة البشرية حتى في تلكم الأدوار والمناطق التي لم تكن فيها مشكلة العامل ورب العمل (1) مطروحة بحال.

فقد كان هذا الشعور يدفع البشر في تلك الأدوار والمناطق إلى اللّه وإلى ما وراء الطبيعة.

كما أنّ آثار الشعور الديني لم تختف عن الكهوف والمغارات التي كان يسكنها الإنسان الأوّل.

هذا ونظائره يكشف بوضوح عن ملازمة هذا البعد للروح الإنسانية ملازمة الظل للشاخص ، وملازمة الزوجية للأربعة ... وكأنّ التوجه إلى اللّه وإلى قضايا ما وراء الطبيعة نشيد غيبي لا يفتأ ينبع من الفطرة الإنسانية ..

نشيد لا يهدأ ...

الماركسيون وتقديس المبادئ الماركسية

رغم كل الدعايات المستمرة التي يقوم بها الماديون ضد « الدين » ووصمهم له بأنّه من عوامل الجمود والتأخر ، وكونه منافياً للحرية الإنسانية ومانعاً من تقدم

ص: 61


1- هذا هو رد تلويحي إلى ما يردّده الماديون الماركسيون حول الدين إذ يقولون : إنّ الدين لم يوجد إلاّ لإخماد ثورة العمال الكادحين على أرباب العمل. ولكن بعد أن ثبت أن للدين جذوراً في ضمير البشر، وأنّه كان موجوداً حتى في النقاط التي لم يكن فيها خبر عن العامل ورب العمل لم يعد للنظرية الماركسية حول الدين أية قيمة.

البشرية في مجالات البناء الفكري والاجتماعي.

رغم كل تلك الدعايات المضادة لم يستطيعوا أن ينبذوا الدين والأفكار الدينية من أدمغة البشر ، أو يقلّلوا من تقديس المجتمعات المؤمنة لمعتقداتها.

وربما عاب الماركسيون على المتدينين ذلك التقديس المفرط لمعتقداتهم والحال إنّ تقديس الماركسيين - أنفسهم - لمبادئ الماركسية ولمؤسسيها لم يقل ، ولم يختلف عن معاملة المتديّنين لمعتقداتهم وكتبهم السماوية ومن جاء بها.

إنّ الماركسيين يعتبرون أُصول الماركسية وما جاء به وقاله ماركس وانجلز ولينين ، أُموراً صحيحة مائة بالمائة ، ويرون أنّها منزّهة عن أي غلط أو عيب وعارية عن أي اشتباه وخطأ ، وإنّها قطعية لا يأتي الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، ولا يمكن أن تتغيّر أو تتبدل (1) تماماً كما يعتقد المتديِّنون والإلهيون في شأن الوحي والكتب السماوية.

ويكفي لمعرفة مدى تقديس الشيوعيين والماركسيين لشخصياتهم ومؤسسي مبادئهم ما نشرته صحيفة البرافدا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي في 26 أبريل 1949م إذ قالت :

نحن نؤمن بثلاثة أشياء : كارل ماركس ، ولينين ; وستالين ، ولا نؤمن بثلاثة أشياء : اللّه ، والدين ، والملكية الخاصة.

إنّهم يحرمون أية إعادة نظر في المبادئ والأُصول الماركسية ، ويصمون كل من يحاول ذلك بالردة الفكرية ، والمروق من اللينينية الماركسية ... ويعتبرونه مرتداً حزبياً ، تماماً كما يفعل المتدينون ، إذ يعتبرون الانحراف عن التعاليم النبوية وإنكار

ص: 62


1- هذا رغم أنّ من أُصول المادية الديالكتيكية هو التغير المستمر في الأشياء !!!

بعض الضروريات الدينية سبباً للارتداد ، ويعدون منكرها « مرتدّاً دينياً » ويهدرون دمه.

إنّ الاحترام الذي يلقاه مؤسسو الاشتراكية من قبل أتباعهم لا يختلف كثيراً عن احترام أتباع الديانات الإلهية للأنبياء والرسل إن لم يزدد عليه.

وغاية التفاوت بين السلوكين أنّ أتباع هذه الأحزاب والمبادئ المادية يحترمون قادتهم السياسيين ما داموا يحتلون المناصب ، ففي مثل هذه الفترة تجدهم يصفون قادتهم بأنّهم « ملائكة الرحمة » وأنّهم « محطمو قيود الاستعمار والاستبداد » وأنّهم « ملجأ الجماهير الكادحة » وما إلى ذلك من ألفاظ المديح والثناء.

ولكن ما أن أُقصي هؤلاء القادة من مناصبهم أو حان موتهم وأُودعوا باطن الأرض إلاّ ووجدت انعكاس الآية. فإذا بالأسياد المحترمين بالأمس المستحقين لأجمل وأسمى آيات المديح والثناء ، ينهال عليهم كل ما في قاموس الشتائم من سباب واتهامات ، فإذا بالقائد التقدمي يصبح رجعياً ، ضد الكادحين ، سفاكاً ، خرق أُسس الماركسية وتجاوز عليها ، واستهان بآراء الجماهير ، إلى غير ذلك من الاتهامات الرخيصة !!!

وقد وجدنا ووجد العالم كله - طوال الفترة التي عشناها - نوعين متضادين من الوصف في حق ستالين .. فبينما كان يعد ذات يوم ملاكاً طاهراً مقدساً صار يعد في يوم آخر سفاكاً دموياً إلى درجة أنّ تماثيله أُزيلت من الساحات والميادين العامة في الاتحاد السوفياتي بعد موته (1).

ص: 63


1- بل وأُريد إخراج جثمانه للحرق انتقاماً ، كما تتحدث عن ذلك بعض الكتب عن الاتحاد السوفياتي.

وها نحن اليوم نشاهد بدايات لنفس الموقف في شأن « ماو » ، وسوف لن يمضي زمان طويل إلاّ ونجد « ماو » وقد أُصيب بما سبق أن أُصيب به سلفه ستالين المنكود الحظ.

إنّ الاحترام والتعظيم الذي يظهره أتباع الفلسفة المادية لمؤسّسي أُصول الماركسية كماركس وانجلز ، لدليل قاطع على فطرية سلسلة من المفاهيم كالخلود والأبدية.

فهذه المفاهيم صحيحة في حد ذاتها وهي أُمور قطعية مائة بالمائة إلاّ أنّ القوم استخدموها في غير مواضعها خطأ (1).

فبدل أن يستخدموا وصف الخلود والأبدية في حق « الوحي الإلهي » ويعتبروا الانحراف عن ذلك الوحي ارتداداً ، نجدهم وصفوا « الماركسية » بالخلود ونعتوا مؤسسيها بالأبدية فإذا بهم يواجهون ذلك التخبط الذريع.

ولو لم تكن مفاهيم كمفهوم الخلود والأبدية أُموراً فطرية لما راح الماركسيون يطلقونها على هذا أو ذاك حتى ولو خطأ.

ثم إنّنا كثيراً ما نجد الماركسيين يستخدمون في شعاراتهم ونشراتهم ألفاظاً ك « التضحية والفداء » في حين أنّ هذه المفاهيم لا تتلاءم مع أُصول الماركسية لحصرها الوجود في « العالم المادي » وإنكارها لما وراء ذلك.

وإذا كنا نعلم بأنّ الإنسان لا يعمل شيئاً إلاّ لتحقيق منفعة شخصية إلى

ص: 64


1- يقصد الأُستاذ بأنّ الإيمان الفطري بوجود أُمور خالدة وأبدية أمر صحيح وموجود في باطن البشر ، وأنّ هناك بالفعل أُموراً خالدة وأبدية في الوجود بيد أنّ الماركسيين أخطأوا في استعمال هذه الأوصاف فاستخدموها في غير مواضعها - الهادي -.

درجة أنّ المنافع الاجتماعية أيضاً لا يريدها الإنسان إلاّ لمنفعة نفسه ، فلمن يضحي الماركسي ولمن يقدم نفسه فداء وهو لا يعتقد بالآخرة وما فيها من أجر وثواب ؟!

أما يعتقد المنطق الماركسي بأنّ الإنسان يفنى بالموت فناء كاملاً ولا تعود منافعه إليه بعد موته ؟

فماذا تعني التضحية والفداء عند الماركسيين ؟

أليس ذلك يدل على أنّ دوافع التضحية والفداء أُمور فطرية متأصلة في ضمير الإنسان ووجدانه ، وأنّ الماركسيين أخطأوا في طريقة استخدامها ؟

المعنى الآخر لفطرية الإيمان باللّه

وقد تفسر فطرية الإيمان باللّه بنحو آخر إذ يقال : يكمن في قرارة كل إنسان عشق للكمال والخير المطلق لم يزل ولا يزال يدفع الإنسان إليه.

فإذا ما وجد الإنسان في نفسه ميلاً شديداً إلى العلم أو إلى الأخلاق أو الفن والجمال ، فإنّ هذا الميل إنّما هو شعبة نابعة من ذلك العشق للكمال ، وإشعاعة من إشعاعاته.

إنّ أوضح دليل على وجود مثل هذا العشق للكمال المطلق في باطن البشر هو أنّ أي كمال مادي لا يروي عطش الإنسان ولا يطفئ ظمأه.

فها هو الإنسان يسعى جهده ليبلغ إلى ما يريده من المناصب الرفيعة ، ويظل يطمح إلى ما هو أعلى وأعلى حتى إذا نال ما أراد ، فكّر في أن يسخّر قمة أعلى ممّا ناله وكلّما ازداد رقياً ازداد عطشاً وظمأ وطموحاً أكثر فأكثر.

كل هذا - لو تأملنا - دليل واضح على أنّ للإنسان ضالة ينشدها أبداً ،

ص: 65

ويبحث عنها باستمرار وقد كان يظنها في الكمالات المادية المزيجة بالنقائص والشرور وأنّها قادرة على إرواء ظمئه وغليله ، ولكنَّه كلّما خطا خطوة جديدة إلى الإمام رأى خلاف ما كان يتصوره ويتوقعه ، ووجده دون ما يهواه ويعشقه.

إنّ عشق الكمال المطلق لدليل - حقاً - على وجود مثل هذا الكمال ، ولدليل أيضاً على وجود رابطة قائمة بين الإنسان والكمال ذاك.

إنّ الوصول إلى ذلك الكمال وبلوغه يحتاج إلى تفكّر وتدبّر ، وإلى السير في الطريق المؤدّي إليه ، وإلى الرياضة الدؤوبة التي تشعل الجذوة الكامنة في أعماق النفس وتوجد في حناياه شغفاً أكبر وعطشاً أعمق ، وتحوله بالتالي من باحث عن اللّه إلى واجد لله ، ثم يتحول وجدانه لله إلى الشهود ، واليقين الذي لا ينفذ إليه شك ، ولا يتسلل إليه تردد وارتياب.

إنّ هذا الشهود ليس برؤية العين بل بعين البصيرة التي نوّه عنها في كلام الإمام علي علیه السلام إذ قال :

« لم تدركه العيون بمشاهدة العيان ، بل تدركه القلوب بحقائق الإيمان » (1).

إنّ اليقين الحاصل للسالك والعارف في مسألة « وجدان اللّه » لهو أعلى من اليقين الحاصل من استخدام الجوارح والحواس ، انّه نور لا ظلمة فيه ، ويقين لا شك فيه ، ولا تردد ولا احتمال ولا ظن.

والآن ما هو طريق الوصول إلى مثل هذا الكمال واليقين المطلق والشهود الأعلى ؟

إنّ القرآن الكريم يشير بنحو ما إلى هذا الطريق في آية ، إذ يقول :

ص: 66


1- نهج البلاغة : شرح محمد عبده ، خطبة 174.

( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ الْسَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ) (1).

ففي هذه الآية وصفت العبادة والدعاء بكونها طريقاً للوصول إلى هذا اليقين والمعرفة القلبية اليقينية (2).

إنّ هذا اليقين هو غير اليقين الذي يحصل لكل العابدين .. إنّ هذا هو ذلك الشهود الذي يكون على غرار اليقين الحاصل من الاحتكاك بالمحسوسات الذي يكون من القوة بحيث يمنع من تطرق أي شك أو ترديد إليه.

وهذا الطريق ليس في وسع كل أحد سلوكه كيفما اتفق ، بل لابد لسلوكه من التهيؤ اللازم الذي لا يوجد إلاّ عند القليلين من عباد اللّه المخلصين.

الشعور الديني الفطري في الأحاديث

نظراً للأهمية التي تتمتع بها مسألة فطرية الحس الديني في العلوم الإنسانية وردت بعض الأحاديث الصادرة من النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، والأئمّة الطاهرين الصادقين علیهم السلام التي تتحدث عن ذلك وإليك طائفة منها :

1. صحيح البخاري في تفسير الآية ( فِطْرَةَ اللّهِ ... ) نقل الحديث التالي عن النبي صلی اللّه علیه و آله :

« ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة ثم أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو

ص: 67


1- الحجر : 98 - 99.
2- انّ التفسير المذكور في المتن للآية هو أحد المداليل والأبعاد التي يمكن استخراجها من الآية ولا ينافي تفسير بعض الأحاديث اليقين هنا بالموت.

يمجّسانه » ثم قال صلی اللّه علیه و آله : ( فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (1).

وقد ورد في أحاديث أهل البيت علیهم السلام في تفسير آية الفطرة ما يقارب (15) حديثاً فسرت الفطرة بالتوحيد ، وهي تفيد أنّ توحيد اللّه والإيمان بذاته ووجوده وصفاته ممّا جبل عليه البشر وعجنت به فطرته (2).

وربما فسرت بعض هذه الأحاديث الفطرة المذكورة في الآية ب « الإسلام » و « معرفة اللّه » التي تعود في الحقيقة إلى المعنى السالف.

ونذكر هاهنا كل تلك الأصناف من الروايات مع الإشارة إلى ما هو مكرر منها :

أمّا ما صرح منها بالتوحيد فهي :

2. سأل هشام بن سالم الإمام الصادق جعفر بن محمد علیهماالسلام عن معنى الفطرة فقال الإمام :

« فطرهم على التوحيد » (3).

وقد روى مثل هذا عن الإمام الصادق علیه السلام غير هشام كزرارة والعلاء بن فضيل ومحمد الحلبي وعبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر.

3. ما رواه زرارة عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر علیهماالسلام حينما سأله قائلاً : أصلحك اللّه ، قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه : ( فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) فقال الإمام مجيباً :

ص: 68


1- التاج الجامع للأُصول : 4 / 180 ، وتفسير البرهان : 3 / 261 ، الحديث 5.
2- راجع تفسير البرهان : 3 / 261 - 263 ، والتوحيد للصدوق : 328 - 331.
3- راجع تفسير البرهان : 3 / 261 - 263 ، والتوحيد للصدوق : 328 - 331.

« فطرهم على التوحيد (1) عند الميثاق على معرفته أنّه ربّهم » (2).

وأمّا ما فسرت الفطرة فيه بالمعرفة فهي :

4. ما عن زرارة أيضاً عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي الباقر علیهماالسلام قال سألته عن قول اللّه عزّ وجل : ( حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ) وعن الحنيفية ، فقال الإمام :

« هي الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ».

ثم قال :

« فطرهم اللّه على المعرفة » (3).

وقد أوضح الإمام الباقر المقصود بهذه المعرفة في رواية أُخرى رواها زرارة عنه أيضاً لمّا سأله عن نفس الآية فقال علیه السلام :

« فطرهم على معرفة أنّه ربهم ، ولولا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم » (4).

وأمّا ما فسرت الفطرة بالإسلام فهي :

5. ما عن عبد اللّه بن سنان ، عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام لمّا سأله عن قول اللّه عزّ وجلّ : ( فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟ قال الإمام :

ص: 69


1- انّ تفسير الدين المفطور عليه ، في هذه الأحاديث بالتوحيد لا يدل على اختصاص الدين في الآية بالتوحيد خاصة بل أنّ ذكر التوحيد إنّما هو من باب ذكر أظهر المصاديق وأجلاها.
2- نفس المصادر السابقة.
3- نفس المصادر السابقة.
4- نفس المصادر السابقة.

« هي الإسلام » (1).

ثم أوضح الإمام نفسه في رواية أُخرى عن عبد اللّه بن سنان أيضاً المقصود بالإسلام وأنّه هو التوحيد ومعرفة اللّه إذ قال علیه السلام :

« هي الإسلام فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد » . (2)

6. سأل محمد بن حكيم الإمام الصادق علیه السلام عن المعرفة من صنع من هي ؟ فقال علیه السلام :

« من صنع اللّه ، ليس للعباد فيها صنع » . (3)

7. سأل أبو بصير الإمام الصادق علیه السلام فقال الإمام علیه السلام :

« نعم وليس للعباد فيها صنع » . (4)

8. ولقد تعرض الإمام علي علیه السلام إلى هذا المطلب « أي فطرية الاعتقاد باللّه » في نهج البلاغة في أوّل خطبة فيه عندما ذكر بأنّ الأنبياء أُرسلوا لإثارة دفائن العقول ، أي لإحياء ما هو مرتكز في عقول البشر وما هو كامن في حنايا فطرتهم من الاعتراف بوجود اللّه والإذعان بإلهيته ، إذ يقول علیه السلام :

« فبعث اللّه فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول » (5).

مع ملاحظة هذا الكلام العلوي يمكننا القول بأنّ المقصود من قول اللّه

ص: 70


1- 1المصادر السابقة.
2- 1المصادر السابقة.
3- أُصول الكافي : 1 / 85 ، 93 ، 165.
4- أُصول الكافي : 1 / 163.
5- نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.

تعالى : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (1) في حق الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله هو : أن يذكّر الرسول الأكرم الناس بما هو كامن ومودوع - أساساً - في فطرتهم .. أو أنّ هذا هو أحد أبعاد الآية ومعانيها - على الأقل -.

9. ما دار بين رجل والإمام جعفر بن محمد الصادق علیهماالسلام .. قال الرجل : يابن رسول اللّه دلّني على اللّه ما هو ؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.

فقال له الإمام : « يا عبد اللّه هل ركبت سفينة قط ؟ » قال : نعم ، قال : « فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ، ولا سباحة تغنيك ؟ » قال : نعم.

قال : « فهل تعلَّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ » قال : نعم.

قال الصادق علیه السلام : « فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث » (2).

تنبيه

دلّت الأبحاث الماضية على أنّ للإنسان إدراكات فطرية منذ أن يولد ، وهي تواكب جميع مراحل حياته ، وتتكامل بتكامل وجوده وتتفتح بتفتح مشاعره .. ولكن ربّما يتوهم أنّ هذا منقوض بقوله تعالى :

( واللّهُ أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (3).

ص: 71


1- الغاشية : 21.
2- بحار الأنوار : 3 / 41 ، نقلاً عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق.
3- النحل : 78.

فهذه الآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس من خلو صفحة النفس من المعلومات في بدء تكونها ، بلا فرق بين العلوم الفطرية وغيرها.

والجواب عن هذا واضح بعد الوقوف على مقدمة وهي : انّ التصورات والتصديقات إمّا كسبية أو بديهية ، والكسبية إنّما يمكن تحصيلها بواسطة تركيب البديهيات فلابد من سبق هذه العلوم البديهية.

أمّا العلوم البديهية فلم تكن حاصلة في نفوسنا ، بل حصلت هي أيضاً بمعونة الحواس كالسمع والبصر ، فالطفل إذا أبصر أو سمع شيئاً مرّة بعد أُخرى ارتسمت - في ذهنه - ماهيّة ذلك المبصر أو المسموع ، وكذا القول في بقية الحواس.

فالمدركات على قسمين : ما يكون نفس حضورها موجباً تاماً في جزم الذهن باسناد بعضها إلى بعض كما إذا حضر في الذهن إنّ الواحد ما هو ؟ وانّ نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصوّرين في الذهن علّة تامة في جزم الذهن بأنّ الواحد محكوم عليه بأنّه نصف الاثنين وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.

والقسم الثاني ما لا يكون كذلك ، وهو العلوم النظرية ، مثلما إذا أُحضر في الذهن انّ الجسم ما هو ؟ وإنّ المحدث ما هو ؟ فإنّ مجرد هذين التصوّرين لا يكفي في جزم الذهن بأنّ الجسم محدث بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة.

وهذا هو الملاك في تقسيم العلوم إلى بديهية وكسبية (1).

والآية ناظرة إلى العلوم الحصولية التي تنقسم إلى البديهي والنظري لا العلوم الحضورية مثل علم النفس بذاتها ، ولا العلوم الفطرية التي ليس لها إلاّ قوة العلم

ص: 72


1- راجع مفاتيح الغيب للرازي : 5 / 349.

وإنّما تنفتح إذا خرج الإنسان إلى هذا العالم واعمل حواسه ، ولامس الحقيقة الخارجية ، فعند ذاك ينقلب ما هو علم بالقوة إلى العلم بالفعل.

وصفوة القول : إنّ هناك في النفس البشرية سلسلة من المعلومات على صورة خمائر تتجلّى وتظهر وتتفتح شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن ومع احتكاك الإنسان بالوقائع الخارجية ولا يسمّى هذا علماً فعلياً وإدراكاً حاضراً.

وبالتالي فالآية ناظرة إلى ذلك .. أي انّ الإنسان منذ يخرج من بطن أُمّه ليس فيه علم فعلي ولا ينافي وجود ما يشبه خمائر العلوم التي تحتاج إلى أرضية للتفتح والظهور.

ص: 73

ص: 74

الفصل الثاني: اللّه وعالم الذر

اشارة

ص: 75

ما هو عالم الذر وما هو الميثاق ؟

1. استعراض الآيات أوّلاً.

2. نقاط جديرة بالاهتمام.

3. آراء العلماء حول « الميثاق في عالم الذر ».

4. النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث.

5. انتقادات على هذه النظرية.

6. النظرية الثانية.

7. إشكالات على هذه النظرية.

8. النظرية الثالثة.

9. أسئلة حول هذه النظرية.

10. بحث حول الأحاديث الواردة في تفسير الآية.

ص: 76

استعراض الآيات أوّلاً

قبل أن نعطي رأينا في حقيقة ذلك العالم وواقع ذلك الميثاق المأخوذ في العالم المذكور ، ولأجل أن نتجنب اتخاذ أي موقف قبل دراسة ومراجعة الآية المرتبطة بهذا الموضوع يتعين علينا استعراض هذه الآية ، أوّلاً ، لكي ندفع القارئ نفسه إلى التأمل فيها والتفكير حولها لمعرفة معنى هذه الآية ومغزاها.

وإليك فيما يأتي نص الآية المتعلّقة بالموضوع مضافاً إلى آيتين لاحقتين لها :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (1).

نقاط جديرة بالاهتمام

1. لقد وردت لفظة ( الذرية ) في (18) موضعاً آخر ما عدا هذا الموضع أيضاً .. والمقصود بها في كل تلك الموارد هو : « النسل البشري » وليس في ذلك خلاف ، انّما وقع الخلاف في أصل هذه اللفظة وانّها مأخوذة من ماذا ؟

ص: 77


1- الأعراف : 172 - 174.

فذهب فريق إلى أنّ لفظة « الذرية » مشتقة من « الذرء » بمعنى الخلق ، وفي هذه الصورة تكون الذرية بمعنى : المخلوق.

وذهب فريق آخر إلى أنّها مشتقة من « الذر » بمعنى الكائنات الصغيرة الدقيقة جداً كذرات الغبار وصغار النمل.

وذهب فريق ثالث إلى أنّها مأخوذة من « الذرو » أو « الذري » بمعنى التفرّق والانتشار وانّما تطلق « الذرية » على ولد آدم ونسله لتفرقهم على وجه الأرض وأكناف البسيطة (1).

2. تستعمل لفظة الذرية - غالباً - في الأولاد الصغار مثل قوله تعالى :

( وَلَهُ ذُرِيَّةٌ ضُعَفَاءُ ) (2).

وقد تستعمل في مطلق الأولاد مثل قوله سبحانه :

( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) (3).

كما أنّها قد تستعمل في فرد واحد مثل قوله سبحانه :

( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) (4).

وفيها يطلب زكريا ولداً صالحاً (5).

وقد تستعمل في الجمع مثل قوله تعالى :

ص: 78


1- راجع في هذا الصدد : مفردات الراغب مادة « ذرو » ، ومجمع البيان : 1 / 199 تفسير آية ( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) .
2- البقرة : 266.
3- الأنعام : 84.
4- آل عمران : 38.
5- ويؤكد هذا أنّ طلب زكريا تكرر في آية أُخرى بلفظ « ولي » إذ يقول : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيْاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ( مريم : 6 ).

( وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) (1).

3. يجب المزيد من الدقة والعناية في عبارة الآية ...

فالآية تفيد أنّ اللّه أخذ من ظهور كل أبناء آدم ، أنسالهم وذرياتهم ، وليس من ظهر آدم وحده.

وذلك بدليل أنّ اللّه تعالى يقول :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَم ) .

ولم يقل : وإذ أخذ ربك من آدم .. وعلى هذا الأساس فإنّ مفاد هذه الآية هو غير ما هو معروف عند المفسرين الذاهبين إلى أنّ الذرية أُخذت من ظهر آدم فحسب.

4. تصرح الآية بأنّ اللّه أخذنا شهداء على أنفسنا ، وأننا جميعاً اعترفنا بأنّه إلهنا ، وانّ هذا الاعتراف كان بحيث لم يبق من ذكراها في ذاكرتنا شيء.

5. كما تفيد الآية بأنّ هذا الاستيثاق والاستشهاد سيسد باب العذر في يوم القيامة في وجه المبطلين والمشركين ، فلا يحق لهم بأن يدّعوا بأنّهم لم يعطوا مثل هذه الشهادة ، ولم يكن عندهم علم بمثل هذا الميثاق والاعتراف كما يشهد به قوله سبحانه :

( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ... ) .

من هنا يتخذ المفاد لنفسه شكلاً خاصاً وطابعاً مخصوصاً.

فمن جانب لم يك عندنا أي علم بهذا الميثاق والاعتراف.

ص: 79


1- الأعراف : 173.

فمن جانب آخر لا يحق لنا أن ندعي الغفلة عن هذا الميثاق ، وعن مثل هذا الإقرار كما تقول الآية :

( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ ) .

أي أن لا تقولوا (1).

في هذه الصورة ينطرح هذا السؤال :

كيف يمكن أن يسد اقرار لا نعلم به هنا أبداً (باب العذر) علينا ؟!

وكيف يمكن أن نلزم بميثاق لا نتذكره وعهد لا نعرف عنه شيئاً ؟!

وبعبارة أُخرى : إنّنا - لا شك - لا نعلم مثل هذا الميثاق على نحو العلم الحصولي ، في حين أنّ الآية (172) تقول بمنتهى الصراحة والتأكيد : إنّه لا حق لأحد أن يغفل أو يتغافل عن هذا الميثاق ... فكيف تتلاءم هذه الغفلة وعدم تذكرنا له في هذه الدنيا مع قوله تعالى : ( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ ) ؟

6. لا شك أنّ الخطاب في هذه الآية أمّا موجه إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وأمّا إلى

ص: 80


1- إنّ للمفسرين في أمثال هذه الآية مذهبين : أحدهما: تقدير لا ، ففي مثل قوله سبحانه : (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (النساء: ١٧٦) قالوا: إن المعنى هو أن لا تضلّوا. فهم جعلوا قوله: (أَنْ تَضِلُّوا) مفعولاً له ليبين، بنحو «التحصيلي» في_ك__ون المعنى «يبين اللّه لكم لأجل أن لا تضلوا». الثاني: عدم تقدير لا وجعل المفعول له من باب الحصولي» كقول القائل ضربته لسوء أدبه ، أي لوجود هذا وحصوله فعلاً ضربته. فيكون معنى الآية السابقة هو يبين اللّه لوجود الضلالة فيكم ومنه يعلم حال الآية المبحوثة عنها، فيجوز فيها وجهان.

عامة البشر.

وحتى لو كان صدر الآية موجهاً إلى النبي صلی اللّه علیه و آله إلاّ أنّ ذيلها - لا ريب - موجه إلى عامة البشر.

إنّ القرآن يريد بهذا الخطاب أن يلفت أنظارنا إلى حادث حدث قبل الخطاب لا حينه ولا بعده بدليل مجيء إذ في مطلع الآية.

ف « إذ » تستعمل فيما إذا كان ظرف الحادثة هو الماضي ، ومعناها « واذكر إذ » وقعت هذه الحادثة في الماضي (1).

آراء العلماء حول الميثاق في عالم الذر

إنّ غاية ما يفيده ظاهر آية الميثاق المطروحة هنا على بساط البحث هو أنّ اللّه أخذ من بني آدم ميثاقاً وعهداً على الإقرار بربوبيته .. وأمّا كيفية هذا الميثاق فلم يرد - في الآية المذكورة - أي توضيح بشأنها ... ولأجل هذا اختلف المفسرون المسلمون حول حقيقة هذا الميثاق.

وفيما يلي عرض للآراء المطروحة حول هذا المطلب :

النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث

اشارة

وتقول هذه النظرية - والتي لها سند حديثي - إنّ اللّه أحضر أبناء آدم عند خلقه ، من صلبه على هيئة كائنات ذرية صغيرة الحجم جداً وأخذ منهم الميثاق

ص: 81


1- تقدير « اذكر » في هذه المواضع لإراءة ماضوية الحادثة ، وإن كان غير محتاج إليه حسب القواعد الأدبية فإنّ « إذ » ظرف مهمل غير مقيد بشيء.

قائلاً لهم : « ألست بربكم ؟ فقالوا : بلى » (1) ثم أعادهم إلى صلب آدم علیه السلام ، وقد كانت هذه الكائنات الدقيقة الحجم ذات شعور وعقل كافيين آنئذ ، وقد سمعت ما قال اللّه لها وأجابت على سؤاله ، وقد أخذ هذا الإقرار من بني آدم ليغلق عليهم باب الاعتذار والتعلّل يوم القيامة.

وهذه النظرية اتخذت باعتبار أنّ لفظة « ذرية » مشتقة من مادة « ذر » واختارها جمع من المفسرين.

انتقادات على هذه النظرية

1. انّ أوضح دليل على قصور هذه النظرية هو عدم موافقتها للمدلول الظاهري للآية ، لأنّ ظاهر الآية - كما قلنا في النقطة الخامسة - يفيد أنّ اللّه أخذ من ظهور كل أبناء آدم ذرّيتهم ، لا من آدم وحده.

ولأجل هذا قال سبحانه : ( مِن بَنِي آدَمَ ) ولم يقل من آدم.

كما أنّ الضمائر جاءت في صيغة الجمع : ( مِن ظُهُورِهِمْ ) ، ( ذُرِّيَّتَهُمْ ) لا المفرد.

وعلى هذا الأساس لا تطابق هذه النظرية مفاد الآية في هذه الناحية.

2. إذا كان قد أخذ هذا الميثاق من بني آدم وهم في كامل وعيهم ، فلماذا لا يتذكره أحد منّا ؟

وأجيب عن هذا الإشكال بأنّ ما هو منسي ومغفول عنه هو « وقت هذا

ص: 82


1- راجع مجمع البيان : 3 / 497 طبع صيدا ، وتفسير الفخر الرازي : 4 / 320 طبع مصر عام 1308 ه.

الميثاق والإقرار » وليس نفس الميثاق والإقرار والاعتراف ، بدليل ما يجده كل إنسان في ذاته من ميل فطري إلى الإذعان بوجود اللّه وربوبيته ، ولا شك أنّ هذا هو امتداد طبيعي لذلك الإقرار المأخوذ في عالم « الذر ».

لكن هذا الجواب ليس بوجيه جداً كما تصوّر أصحابه ، لأنّه ليس من المعلوم أنّ ما نجده من « الميل الفطري » إلى اللّه في ذواتنا يرتبط حتماً بمثل ذلك الميثاق .. بل ربما يكون نتيجة « فطرية وجود اللّه وربوبيته » وبداهتهما.

وما يقال من أنّ الفاصل الزمني الطويل هو الذي كان سبباً لنسيان الميثاق المذكور ليس بصحيح كما يظهر.

لأنّ طول هذا الفاصل لا شك أقل - بكثير - من طول الفاصل الزمني بين الإنسان في الدنيا ويوم القيامة على حين نجد أنّ الإنسان لا ينسى ما شاهده من حوادث في الدنيا فهاهم أهل الجنة - مثلاً - يقولون لأهل النار :

( أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُّم مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ ) (1).

ونظير ذلك قول بعض أهل الجنة :

( إنّي كَانَ لِي قَرينٌ [ أي في الدنيا ] * يقول ءَإِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقِينَ ) (2).

ومثله قول بعض أهل النار :

( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ [ أي في الدنيا ] مِنَ الأشْرَارِ ) (3).

ص: 83


1- الأعراف : 44.
2- الصافات : 51 - 52.
3- ص : 62.

وغير ذلك من الآيات الدالة على تذكر أهل القيامة لما جرى لهم في العالم الدنيوي ممّا يدلّ على عدم نسيان الحوادث رغم طول الفاصلة الزمنية.

3. انّ الهدف من أخذ الميثاق - أساساً - هو أن يعمل الأشخاص بموجب ذلك الميثاق ، والعمل فرع للتذكّر ، فإذا لم يتذكّر الشخص أي شيء من هذا الميثاق ، فكيف ترى يصح الاحتجاج به عليه ، وكيف يمكن دفعه إلى العمل وفقه ؟

على أنّنا بعد أن كتبنا هذا ، وقفنا على كلام للعلاّمة الشريف المرتضى في ( أماليه ) وهو ينص على ما ذكرنا حيث أبطل هذا الرأي إذ قال :

« وقد ظن بعض من لا بصيرة له ولا فطنة عنده ، أنّ تأويل هذه الآية : أنّ اللّه استخرج من ظهر آدم علیه السلام جميع ذريته وهم في خلق الذر ، فقررهم بمعرفته وأشهدهم على أنفسهم.

وهذا التأويل - مع أنّ العقل يبطله ويحيله - مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه ، لأنّ اللّه تعالى قال : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) ولم يقل من آدم وقال : ( مِن ظُهُورِهِمْ ) ولم يقل : من ظهره ، وقال : ( ذُرِّيَّتَهُمْ ) ولم يقل : ذريته.

ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة أنّهم كانوا عن ذلك غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم ، وأنّهم نشأوا على دينهم وسنتهم ».

ثم يقول الشريف المرتضى :

« فأمّا شهادة العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذرية - التي استخرجت من ظهور آدم علیه السلام فخوطبت وقررت - من أن تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف أو لا تكون ، فإن كانت بالصفة الأُولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم

ص: 84

وإنشائهم ، وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال ، وما قرّروا به واستشهدوا عليه ، لأنّ العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى وأن بعد العهد وطال الزمان وليس أيضاً لتخلل الموت بين الحالتين تأثير.

على أنّ تجويز النسيان عليهم ينقض الغرض في الآية ، وذلك لأنّ اللّه تعالى أخبر بأنّه إنّما قرّرهم وأشهدهم لئلاّ يدّعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك وسقوط الحجة عنهم فيه ، فإذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجة وزوالها ، وإن كانوا على الصفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم وصار ذلك عبثاً قبيحاً يتعالى اللّه عنه » (1).

4. انّ هذه النظرية تؤول إلى نوع من القول بالتناسخ الذي بطلانه من ضروريات الدين ، لأنّه يعني - على أساس هذه النظرية - أنّ الإنسان أتى إلى هذه الدنيا قبل ذلك ، ثم بعد العيش القصير ارتحل ثم عاد بصورة تدريجية إلى هذه الدنيا مرة ثانية .. وهو التناسخ الذي أبطله المحقّقون والعلماء المسلمون (2).

ويبقى ها هنا سؤال وهو : إذا كانت هذه النظرية تواجه تلك الإشكالات وتعاني من هذا القصور ، فما هو مصير الأحاديث والروايات التي تسند هذه النظرية ؟! وسيوافيك حق المقال فيها.

ص: 85


1- الأمالي : 1 / 28 - 29.
2- هذه الانتقادات الأربعة نقلها صاحب مجمع البيان من المحققين الإسلاميين في : 4 / 497. وذكرت أيضاً في الميزان بالإضافة إلى انتقادات أُخرى ، راجع لذلك : 8 /2. 327 ، كما وذكرت هذه النظرية في تفسير الرازي مع اثني عشر إشكالاً فراجع : 4 / 221 - 222.

النظرية الثانية

يحمل بعض المفسرين ( وعلى رأسهم : الرماني وأبو مسلم وفريق آخر ) هذه الآية على : التوحيد الفطري ، ويفسرونها بهذا التفسير.

فهم يقولون : يحط الإنسان قدميه في هذه الدنيا ، وهو ينطوي على سلسلة من الغرائز والاستعدادات ، وسلسلة من الحاجات الطبيعية والفطرية إلى جانب سلسلة من المدركات العقلية.

فهو [ أي الإنسان ] عند نزوله من صلب أبيه إلى رحم أُمّه ، وعند انعقاد نطفته لا يكون أكثر من ذرة ، ولكن هذه الذرة تنطوي على استعدادات وقابليات جديرة بالاهتمام .. ومن جملة تلكم الاستعدادات هي قابليته لمعرفة اللّه التي تنمو وتتكامل مع تكامل هذه الذرة وجنباً إلى جنب مع تكامل سائر استعداداته الأُخرى حتى تنتقل في المآل من مرحلة « القوة » إلى مرحلة « الفعلية » والكمال.

وبعبارة أُخرى ، فإنّ الإنسان يولد وقد أُودعت في كيانه « غريزة معرفة اللّه » والتوجه إلى ما وراء الطبيعة بشكل سر إلهي مزروع في أعماق البشر بحيث لو لم تنله يد خارجية لنمت غريزة « الميل إلى معرفة اللّه » في فؤاد الإنسان ولما انحرف عن جادة التوحيد مطلقاً إلى درجة أنّ علماء النفس اعتبروا « الشعور الديني » هذا أحد أبعاد الروح الإنسانية ووصفوه بمثل هذا البعد ، إذ قال أحدهم في تعريف الإنسان بأنّه « حيوان ميتافيزيقي ».

وفي الحقيقة أنّ هذا الشعور الديني الغريزي رسم في ضمير الإنسان بقلم التكوين على غرار بقية الغرائز والأحاسيس الموجودة في الإنسان وهي [ أي غريزة الشعور الديني ] تنمو وتنضج مع نمو الإنسان وتكامله.

ص: 86

وبعبارة - ثالثة - : فإنّ اللّه أخرج أبناء الإنسان من ظهور آبائهم إلى بطون أُمهاتهم وقد جعل تكوينهم بنحو خاص بحيث يعرفون ربهم دائماً ، ويحسّون باحتياجهم إليه تعالى.

وعندما يحس الإنسان باحتياجه إلى اللّه ، ويجد نفسه غارقاً في التوجه إليه سبحانه فساعتئذ يكون وكأنّه يقال له : ألست بربكم ؟ فيقول البشر : بلى أنت ربي (1).

خلاصة القول : إنّ الإنسان خلق مؤمناً باللّه بمقتضى الفطرة الإلهية السليمة الموهوبة له ، وسيظل بمعونة العقل الهادي إلى اللّه يبحث عن اللّه ويطلبه ويسأل عنه ، ويظل يواصل هذه المسيرة ما لم يعقه عائق ولم يمنعه مانع.

وعلى هذا فإنّ الميثاق المذكور في الآية لم يكن ميثاقاً تشريعياً وعلى نحو الخطاب والجواب اللفظيين ، بل هو ميثاق تكويني فطري ، وجوابه - كذلك - تكويني فطري.

على أنّ مثل هذا النوع من الحوار والاستيثاق شائع جداً في القرآن الكريم وكذا في محاوراتنا اليومية.

ففي المثال يقال : إنّ اللّه أعطانا البصر وأخذ منّا الميثاق بأن لا نسقط في البئر.

أو كما يقال : إنّ اللّه أعطانا العقل وأخذ منّا العهد بأن نميّز به الحق عن

ص: 87


1- راجع لمعرفة هذه النظرية : الميزان : 8 / 333 طبع طهران ، وتفسير الفخر الرازي : 4 / 322 ومجمع البيان : 4 / 498 ، طبع صيدا ، وفي ظلال القرآن : 9 / 58 - 59 ، وقد جعل الأخير وقت استقرار الخلية البشرية في رحم الأُمّ موعد ذلك الميثاق.

الباطل.

ويقول القرآن الكريم حول السماوات والأرض :

( فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهَاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (1).

وهذا النوع من الكلام وتوجيه الخطاب إلى السماوات والأرض الفاقدة للشعور والإدراك والعقل ليس إلاّ عن طريق التكوين .. فيكون معنى هذه الآية هو أنّ السماء والأرض خاضعتين - تكوينياً - لمشيئة اللّه وإرادته ، وأنّهما تجريان وفق سننه التي شاءها لهما (2).

ونقل من بعض بلغاء العرب وخطبائهم مقال من هذا القبيل إذ قال :

« سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك ، وأينع ثمارك ، فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً » (3).

ولهذا الرأي شاهد قرآني وحديثي :

أمّا الشاهد القرآني فهو قوله سبحانه : ( فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ ) الذي يمكن أن يكون مبيناً لهذه الآية.

وغاية التفاوت ما بين الآيتين هي : أنّ آية ( فِطْرَةَ اللّهِ ) تقول بإجمال : أنّ الشعور الديني عجن بفطرة البشر وخلقته من دون أن تعين الآية زماناً ، في حين أنّ الآية - المبحوثة هنا - تتحدث عن تحقّق هذا السر الإلهي في كيان الإنسان في بدء تكوينه وظهوره ، أي أنّ الإنسان كان ينطوي فطرياً وتكوينياً على هذا السر الإلهي

ص: 88


1- فصلت : 11.
2- سيوافيك حق المقال في الآية في فصل سريان العلم في الموجودات.
3- مجمع البيان : 4 / 498 طبع صيدا.

منذ أن كان موجوداً ذرياً صغيراً في رحم أُمّه .. وكأنّ أوّل خلية إنسانية تستقر في رحم الأُم تنطوي على هذه الوديعة الإلهية وهي « غريزة الميل والانجذاب إلى اللّه ».

وإذا أردنا أن نتحدث عن ذلك بلغة العلوم الطبيعية لزم أن نقول :

إنّ جينات الخلية لدى كل إنسان تحمل بين جوانحها هذه الخاصية الروحية ، وإنّ هذه الخاصية تنمو وتتكامل مع تكامل الخلية ونموها.

هذا مضافاً إلى أنّ هذه النظرية تنطبق مع ما جاء في حديث معتبر السند من أنّ عبد اللّه بن سنان يقول سألت أبا عبد اللّه - الصادق - علیه السلام ، عمّا هو المقصود من الفطرة ؟ فقال :

« هي الإسلام فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد ، قال : ألست بربكم وفيه المؤمن والكافر » (1).

وإنّ للشريف الرضي كلاماً لعله يشير إلى أنّه اختار هذه النظرية إذ قال :

« إنّه تعالى لما خلقهم وركبهم تركيباً يدل على معرفته ويشهد بقدرته ، ووجوب عبادته ، وأراهم العبر والآيات ، والدلائل في أنفسهم وفي غيرهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم وكانوا في مشاهدة ذلك ومعرفته - على الوجه الذي أراده اللّه تعالى وتعذر امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالته - بمنزلة المقر المعترف وان لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة ، ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (2) وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة ولا منهم جواب ، ومثله

ص: 89


1- تفسير البرهان : 3 / 47 في تفسير آية ( فِطْرَة اللّه ) الحديث 7.
2- فصلت : 11.

قوله تعالى : ( شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) (1) ونحن نعلم أنّ الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم وإنّما لما ظهر منهم ظهوراً لا يتمكنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به ومثل هذا قولهم :

« جوارحي تشهد بنعمتك وحالي معترفة بإحسانك » (2).

ثم إنّ سيدنا الحجة شرف الدين ممن ذهب إلى هذا المذهب إذ قال رحمه اللّه :

« واذكر يا محمد للناس ما قد وثقوا اللّه عليه بلسان حالهم التكويني من الإيمان باللّه والشهادة له بالربوبية وذلك ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ) أي حيث أخذ ربك جل سلطانه ( مِن بَنِي آدَمَ ) أي ( مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) فأخرجها من أصلاب آبائهم نطفاً ، فجعلها في قرار مكين من أرحام أُمهاتهم ثم جعل النطف علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ثم كسا العظام لحماً ثم أنشأ كلاً منهم خلقاً سوياً قوياً في أحسن تقويم سميعاً بصيراً ناطقاً عاقلاً مفكّراً مدبّراً عالماً عاملاً كاملاً ذا حواس ومشاعر وأعضاء أدهشت الحكماء ، وذا مواهب عظيمة وبصائر نيرة تميّز بين الصحيح والفاسد والحسن والقبيح وتفرق بين الحق والباطل فيدرك بها آلاء اللّه في ملكوته وآيات صنعه جل وعلا في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ... وبذلك وجب أن يكونوا على بيّنة قاطعة بربوبيته ، مانعة عن الجحود بوحدانيته فكأنّه تبارك وتعالى إذ خلقهم على هذه الكيفية قررهم ( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ) فقال لهم : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) وكأنّهم ( قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) على أنفسنا لك بالربوبية .. نزولاً على ما قد حكمت به عقولنا وجزمت به بصائرنا حيث ظهر

ص: 90


1- التوبة : 17.
2- الأمالي : 1 / 30.

لديها أمرك ... فلا إله إلاّ أنت خلقتنا من تراب ثم أخرجتنا من الأصلاب فلك الحمد إقراراً بربوبيتك ...

ثم يقول : هذا كلّه من مرامي الآية الكريمة ، وإنّما جاءت على سبيل التمثيل والتصوير تقريباً للأذهان إلى الإيمان وتفنّناً في البيان والبرهان ، وذلك ممّا تعلوا به البلاغة فتبلغ حد الإعجاز .. ألا ترى كيف جعل اللّه نفسه في هذه الآية بمنزلة المشهد لهم ، على أنفسهم وجعلهم بسبب مشاهدتهم تلك الآيات وظهورها في أنفسهم بمنزلة المعترف الشاهد وإن لم يكن هناك شهادة وإشهاد.

وباب التمثيل واسع في كلام العرب ولا سيما في الكتاب والسنّة » (1).

إشكالات هذه النظرية

هذه النظرية وإن كانت أفضل من سابقتها ، إلاّ أنّها رغم ذلك لا تخلو من نقود وإشكالات نذكر طرفاً منها :

1. أنّ ظاهر الآية المبحوثة هنا حاك عن أنّ حادثة أخذ الميثاق قد تحقَّقت في الزمن السابق بدليل قوله : ( وَإِذْ أَخَذَ ) .

ولفظة ( إِذْ ) تستعمل في الماضي ، وإذا ما اتفق أن استعملت في المستقبل كان ذلك تجوزاً ولعناية خاصة اقتضاها المقام مثل : ( وَإِذْ قَالَ اللّه يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه ) (2) ، فإنّ من المسلّم أنّ الباري تعالى لم يقل هذا الكلام لعيسى بن مريم في الماضي ، وإنّما سيقوله له في المستقبل [ أي في يوم القيامة ] ... ويسوغ استعمال « إذ » و « قال » في المستقبل كون

ص: 91


1- فلسفة الميثاق والولاية : 3 - 5.
2- المائدة : 116.

هذا المستقبل محقّق الوقوع فيكون كالماضي.

وعلى كل حال فإنّ ظرف توجه هذا الخطاب القرآني إلى النبي صلی اللّه علیه و آله أو إلى المسلمين أو إلى عامة البشر هو ظرف نزول القرآن ، ولكن ظرف وقوع أخذ الميثاق هو الماضي ، ولذا جاءت الآية مبتدئة ب « إذ » الذي هو بمعنى « واذكر إذ ».

فإذا كانت الآية ناظرة إلى خلقة الإنسان وتكوينه مع الاستعدادات القابلة لهدايته إلى اللّه - كما تقوله النظرية هذه - ففي هذه الصورة يكون ظرف هذا الحادث وظرف الخطاب واحداً ، وهذا خلاف ظاهر الآية حيث يفيد تعدّد ظرفي أخذ الميثاق ، والخطاب.

2. إذا كان هدف الآية هو بيان أنّ الإنسان خلق مع سلسلة من القابليات الفطرية والعقلية التي تهديه إلى اللّه ، ففي هذه الصورة لماذا يقول اللّه :

( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ) ؟

في حين كان المناسب أن يقول :

فعرف نفسه لهم.

ولماذا قالوا في آية أُخرى :

( بَلَى شَهِدْنَا )

وكان الأحرى أن يقولوا :

بلى عرفناك ؟

3. انّ تفسير قول اللّه تعالى ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ) بالخطاب والجواب « التكوينيين » وان كان صحيحاً في حد ذاته إلاّ أنّه خلاف الظاهر قطعاً .. إذ أنّ

ص: 92

ظاهر الآية هو الخطاب والجواب « التشريعيين ».

ومعلوم أنّ الأخذ بما هو خلاف الظاهر لا يصح ما لم يدل عليه دليل ، وما لم يصرفنا عن الأخذ بالظاهر صارف وجيه.

4. هذه النظرية « أعني : أخذ الميثاق بمعنى خلق الإنسان مع قابليات فطرية وعقلية تهديه إلى اللّه » بيان ملخّص للتوحيد الفطري والاستدلالي.

ولو كان هذا هو هدف القرآن من هذه الآية ، لتعيّن عليه أن يبيّن ذلك بعبارة أوضح.

النظرية الثالثة

اشارة

وهي ما ذهب إليها وارتآها الأُستاذ الجليل العلاّمة الطباطبائي ، مؤلّف تفسير الميزان ، حيث فسر آية الميثاق هذه ، بنحو نذكر توضيحه قبل نقل نص ما قاله حرفياً :

وإليك هذا التوضيح في نقاط :

1. انّ الزمان ظاهرة تدريجية الظهور ، فأجزاء الزمان - بحكم كونه حادثاً - لا تجتمع في مكان واحد ، وهذه الخاصية ونعني بها خاصية الظهور والحدوث التدريجي والتقطيع والتفرق لا تختص بالزمان فقط ، بل تشمل كل حادث وتعم كل حادثة ظاهرة تستقر على بساط الزمن.

2. لا شك أنّ حوادث العالم تنقسم بالنسبة إلينا إلى :

حوادث الماضي.

وحوادث الحاضر.

ص: 93

وحوادث المستقبل.

ولكل حادث زمان ومكان خاصان ، ولا يمكن للإنسان الذي يعيش ضمن نطاق الزمان أن يشهد كل الحوادث دفعة واحدة وفي نظرة واحدة ، ولا يمكن أن تجتمع كلها لديه.

ولكن الناظر إلى الحوادث لو شاهدها من فوق نطاق الزمان والمكان ، ونظر إلى كل أجزاء الزمان على أنّها ظاهرة واحدة فحينئذ ينتفي مفهوم الماضي والحاضر والمستقبل.

ولتقريب هذا الأمر إلى الذهن نشير إلى بعض الأمثلة التي تقرب هذه الحقيقة إلى الذهن فنقول :

3. لنفترض شخصاً جالساً في غرفة وهو ينظر من روزنة صغيرة جداً إلى خارج تلك الغرفة وفي هذا الأثناء يمر من أمام تلكم الروزنة قطار إبل ، فإنّ من المسلّم - في هذه الحالة أن لا يرى ذلك الشخص في كل لحظة إلاّ بعيراً واحداً.

أمّا إذا صعد هذا الشخص على سطح تلك الغرفة فإنّه يتسنى له في هذه الحالة أن يرى كل الآبال في نظرة واحدة وفي لحظة واحدة ، وليس جملاً واحداً في كل لحظة كما كان ينظر من خلال الروزنة داخل الغرفة.

إنّ مثل المحبوس في نطاق الزمن الناظر إلى الحوادث من خلال هذا المنفذ مثل الجالس في الغرفة - في المثال المذكور - لا يرى الأشياء إلاّ تدريجاً.

أمّا إذا تسنّى للإنسان أن ينظر إلى الحوادث من فوق هذا النطاق ، فإنّه يمكنه حينئذ أن يرى كل أجزاء الشيء وحالاته في مكان واحد ودفعة واحدة ، لأنّه في مثل هذه الحالة سينظر إلى الشيء من خلال المنظار الواسع.

ص: 94

4. لنتصور نملة تسير فوق سجّاد ملوّن ، فإنّ هذه النملة ستشاهد في كل لحظة لوناً واحداً لا أكثر ، لمحدودية نظرها ، وصغر أُفق رؤيتها.

أمّا الإنسان حيث إنّه يتمتع بنظر أوسع ، فإنّه يرى كل ألوان ذلك السجّاد والبساط دفعة واحدة.

5. لنتصوّر أنفسنا ونحن جلوس في مكان ما من ضفاف النيل ننظر إلى الماء ونراقب جريانه وتموّجاته ، فإنّنا لن نرى في هذه الحالة إلاّ جانباً محدوداً من جريان هذا النهر العظيم وجانباً من مائه وتموّجاته.

ولكنّنا عندما ننظر إلى النيل من طائرة محلّقة فوق ذلك النهر ، فإنّنا سنرى جانباً أعظم وأكثر من مسيره ومسيله وتموّجاته وتعرّجاته.

من هذا البيان يتضح أنّ بُعد الحوادث وقُربها إنّما يصدق بالنسبة إلى من يعيش ضمن نطاق الزمان ، فالزمان هو الذي يقرّبه من الحوادث أو يبعده عنها ، ولكن الموجودات التي تعيش فوق الزمان والمكان ، فلا يصدق في حقّها الفاصل الزماني أو المكاني.

6. للإنسان ولغيره من أجزاء هذا العالم ممّا يعيش ضمن نطاق الزمان وجهان :

وجه بالنسبة إلى اللّه.

ووجه بالنسبة إلى الزمان.

فهي من جهة كونها مرتبطة باللّه ، وكون اللّه تعالى محيطاً بها لا يكون شيء من أجزائها بغائب عن بعضها ، كما لا يكون اللّه بغائب عنها ، ولا هي بغائبة عن ساحة اللّه ومتناول علمه .. بل كل كائنات العالم [ دون أن يكون فيها ماض

ص: 95

ومستقبل ] حاضرة عنده سبحانه.

وكيف يمكن أن تكون تلك الأشياء على غير هذا النحو ، في حين أنّ العالم بأسره من صنعه وفعله ، ولا شيء من المصنوع بغائب عن صاحبه وصانعه.

وإلى ذلك يشير الإمام زين العابدين علي بن الحسين علیه السلام في دعائه قائلاً :

« كيف يخفى عليك - يا إلهي - ما أنت خلقته ؟! وكيف لا تحصي ما أنت صنعته ؟! أو كيف يغيب عنك ما أنت تدبّره ؟! » (1).

ولكن هذه الموجودات من حيث كونها تعيش في بطن الزمان ، وتكون مزيجة به ، لذلك تبدو في شكل حوادث متناثرة وأجزاء متفرّقة ومختلفة تتخلّلها فواصل زمنية .. وهنا تمنعها عوامل معينة من حضور اللّه عندها (2).

[ لا حضورها عند اللّه ] فيوجد بين اللّه وبين رؤيتها القلبية له حجاب حائل.

في هذا المحاسبة يعمد الأُستاذ الطباطبائي إلى تقسيم العالم إلى وجهين :

الباطن.

والظاهر.

فيكون الوجود الجمعي للعالم هو الباطن ، والوجود الجزئي المتفرق هو الظاهر.

ويستفيد الأُستاذ الطباطبائي لإثبات هذين الوجهين من بعض الآيات ، ويقول : إنّ جملة « كن فيكون » إشارة إلى هذين الجانبين :

الجمعي والتدريجي.

ص: 96


1- الصحيفة السجادية : الدعاء 52.
2- أي أن تكون هي عالمة باللّه.

فيقول : إنّ لفظة « كن » إشارة إلى الوجود الدفعي الجمعي للعالم (1) خصوصاً إذا ضممنا هذا المقطع من الآية إلى الآية 50 من سورة القمر ، وهي :

( ومَا أمْرُنا إلاّ واحدةٌ كَلَمْحٍ بالبَصَر ) .

بتقريب أنّ وحدة الأمر لا تعني إلاّ أن تتواجد كل الحوادث في مكان واحد دفعة واحدة دون تفرّق أو تدرّج وذلك بعد توجّه الخطاب « كن » إليها.

وجملة « فيكون » الحاكية عن التدريجية والتواجد التدريجي إشارة إلى الجانب التدريجي والظهور المتفرق لهذا العالم.

من هذا البيان الذي قرّرناه بتوضيح وشرح منا نستنتج أنّ الآية المبحوثة [ أي آية أخذ الميثاق ]ناظرة إلى حالة الوجود والحضور الجمعي الدفعي عند حضرة ذي الجلال حضوراً لا تتصور فيه غيبة ، وكأنّ كل أبناء آدم أخذوا وجمعوا من ظهور آبائهم ، وحضروا عند اللّه ، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يجد كل إنسان ربه ، ووجدانه لله تعالى دليل واضح على وجود اللّه وربوبيته.

ولكن استقرار الإنسان ضمن نطاق الزمان وتطورات الحياة أشغله بحيث نسي نفسه وغفل عن علمه الحضوري باللّه [ أي علمه باللّه الناشئ من حضوره بين يديه سبحانه ].

وإليك فيما يلي نص ما قاله العلاّمة الطباطبائي في ميزانه :

« إنّ لكل شيء عند اللّه وجوداً وسيعاً غير مقدّر في خزائنه ، وإنّما يلحقه الأقدار إذا نزله إلى الدنيا مثلاً :

فللعالم الإنساني على سعته سابق وجود عنده تعالى في خزائنه أنزله إلى هذه

ص: 97


1- الحاضر عند اللّه بمجموعه وكله وأسره.

النشأة.

وأثبت بقوله : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء ) (1) ، ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْح بِالْبَصَرِ ) (2) وما يشابههما من الآيات ، أنّ هذا الوجود التدريجي الذي للأشياء ومنها الإنسان هو أمر من اللّه يفيضه على الشيء ، ويلقيه إليه بكلمة « كن » إفاضة دفعية وإلقاء غير تدريجي فلوجود هذه الأشياء وجهان :

وجه إلى الدنيا ، وحكمه أن يحصل بالخروج من القوة إلى الفعل تدريجياً ومن العدم إلى الوجود شيئاً فشيئاً ويظهر ناقصاً ثم لا يزال يتكامل حتى يفنى ويرجع إلى ربّه.

ووجه إلى اللّه سبحانه وهي بحسب هذا الوجه أُمور غير تدريجية ، وكل ما لها فهو لها في أوّل وجودها من غير أن تحتمل قوة تسوقها إلى الفعل.

وهذا الوجه غير الوجه السابق وإن كانا وجهين لشيء واحد وحكمه غير حكمه وإن كان تصوره التام يحتاج إلى لطف قريحة .. وقد شرحناه في الأبحاث السابقة بعض الشرح وسيجيء إن شاء اللّه استيفاء الكلام فيه.

ومقتضى هذه الآيات أنّ للعالم الإنساني على ماله من السعة وجوداً جمعياً عند اللّه سبحانه ، وهو الذي يلي جهته تعالى ويفيضه على أفراده لا يغيب فيها بعضهم عن بعض ولا يغيبون فيه عن ربهم ولا هو يغيب عنهم ، وكيف يغيب فعل عن فاعله ، أو ينقطع صنع عن صانعه ؟ وهذا هو الذي يسمّيه اللّه سبحانه

ص: 98


1- يس : 83.
2- القمر : 50.

بالملكوت ويقول : ( وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) (1).

وأمّا هذا الوجه الدنيوي الذي نشاهده نحن من العالم الإنساني وهو الذي يفرّق بين الآحاد ، ويشتت الأحوال والأعمال بتوزيعها على قطعات الزمان ، وتطبيقها على مر الليالي والأيام ، ويحجب الإنسان عن ربه بصرف وجهه إلى التمتعات المادية الأرضية ، واللذائذ الحسية فهو متفرع على الوجه السابق متأخر عنه ، وموقع تلك النشأة وهذه النشأة في تفرعها عليها موقعا كن ويكون في قوله تعالى : ( أن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (2).

ويتبيّن بذلك أنّ هذه النشأة الإنسانية الدنيوية مسبوقة بنشأة أُخرى إنسانية هي هي بعينها غير أنّ الآحاد موجودون فيها غير محجوبين عن ربّهم يشاهدون فيها وحدانيته تعالى في الربوبية بمشاهدة أنفسهم لا من طريق الاستدلال ، بل لأنّهم لا ينقطعون عنه ولا يفقدونه ويعترفون به وبكل حق من قبله. وأمّا قذارة الشرك وألواث المعاصي فهو من أحكام هذه النشأة الدنيوية دون تلك النشأة التي ليس فيها إلاّ فعله تعالى القائم به.

وأنت إذا تدبّرت هذه الآيات ثم راجعت قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ... ) وأجدت التدبّر فيها وجدتها تشير إلى تفصيل أمر تشير هذه الآيات إلى إجماله.

فهي تشير إلى نشأة إنسانية سابقة فرّق اللّه فيها بين أفراد هذا النوع وميّز

ص: 99


1- الأنعام : 75.
2- يس : 82.

بينهم وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا ». (1)

أسئلة حول هذه النظرية

هناك أسئلة تفرض نفسها حول هذه النظرية لابد من طرحها هنا ، لأنّه ما لم يجب عليها بإجابات قاطعة لا يمكن الاعتماد على هذه النظرية.

وإليك فيما يأتي بعض هذه الأسئلة :

1. لا شك أنّ هذا العالم يتجلّى للشخص المحيط الناظر إليه من فوق الزمان والمكان على غير ما يتجلّى للمحاط الغارق في الزمان والمكان.

وبعبارة أُخرى : فإنّه يمكن أن ينظر إلى هذا العالم من منظارين :

أ. من منظار الناظر المحيط بالزمان والمكان.

وفي هذه الصورة لا وجود للتفرّق والتشتّت بل ما يراه هو الوجود الجمعي للأشياء ، والظواهر.

ب. من منظار الناظر المحاط بالزمان والمكان.

وفي هذه الصورة لا يرى إلاّ الوجود المتفرّق المتشتّت المتناثر التدريجي لجميع الظواهر والحوادث.

ولكن هذا الاختلاف في السعة والضيق في المرأى ، هل هو عائد إلى السعة والضيق في الرائي ، ونظرة الناظر بمعنى أنّ في الأُولى يكون لدى الرائي قدرة على النظر الواسع فيما يكون الرائي في الصورة الثانية فاقداً لهذه القدرة ، أم أنّ هذا الاختلاف يرجع إلى نفس الظواهر والحوادث ؟

ص: 100


1- راجع تفسير الميزان : 8 / 334 - 336.

لا شك أنّ هذا الاختلاف لا يرتبط بذات الكون وذات الحوادث والظواهر ، بل هو مرتبط بسعة رؤية الناظر إن كان محيطاً ، تلك السعة التي تمكّنه من مشاهدة كل نقوش البساط وألوانه ، وكل تموّجات النهر وتعرّجاته ، وكل عربات القطار دفعة واحدة كما في الأمثلة السابقة.

في حين أنّ فقدان هذه السعة في رؤية الشخص الآخر يجعله لا يرى في كل لحظة إلاّ حادثة واحدة فقط ، وإلاّ تموّجاً واحداً من النهر ، وإلاّ لوناً واحداً من ألوان البساط.

ومن هذا البيان يتبيّن أنّه ليس للعالم وجهان ونشأتان :

نشأة باسم الباطن.

وأُخرى باسم الظاهر.

وبعبارة أُخرى انّه ليس للظواهر والحوادث مرحلتان :

مرحلة الوجود الجمعي الدفعي.

ومرحلة الوجود التدريجي.

بل ليس للظاهرة - في الحقيقة - تحقّقان ووجودان إنّما هو وجود واحد ، وتحقّق واحد ، يرى تارة في صورة المجتمع ، وأُخرى في صورة المتفرّق.

وأمّا الاختلاف - لو كان - فهو يرجع إلى قدرة الملاحظ وسعة نظرته وضيقها ، وليس إلى ذات الحوادث والظواهر.

2. انّ حضور الحوادث والظواهر عند اللّه دليل على علم اللّه بها جميعاً ، لأنّ حقيقة العلم ليست إلاّ حضور المعلوم عند العالم وحيث إنّ موجودات العالم من

ص: 101

فعله سبحانه وقائمة به فهي إذن حاضرة لديه.

ونتيجة هذا الحضور ليست سوى علم اللّه بها ولكن لا يدل مثل هذا الحضور على علم الموجودات هي بالخالق الواحد سبحانه.

وبعبارة أُخرى لو كان هدف الآية هو بيان أنّ اللّه أخذ من بني آدم « الإقرار » بربوبيته والشهادة بها من جهة حضور هذه الموجودات لدى اللّه - كما تفيده هذه النظرية - يلزم علم اللّه بهذه الموجودات والحوادث لا علم هذه الحوادث والموجودات باللّه تعالى ، فلا يتحقّق معنى الشهادة والإقرار.

فإنّه ربّما يتصور إنّ حضور الأشياء عند اللّه كما يستلزم علمه بها ، كذلك يستلزم علم تلك الموجودات باللّه.

ولكن هذا وهم خاطئ وتصور غير سليم ، لأنّ الحضور إنّما يكون موجباً للعلم إذا اقترن بقيام الشيء باللّه وإحاطته سبحانه بذلك الشيء ، ومثل هذا الملاك موجود في جانب اللّه حيث إنّه قيوم [ تقوم به الأشياء ]محيط بالكون في حين أنّه لا يوجد هذا الملاك في جانب الموجودات ، لأنّها محاطة وقائمة باللّه ( أي ليست محيطة باللّه ولا أنّ اللّه سبحانه قائم بها حتى تعلم هي به تعالى ).

3. انّ هذا التوجيه والتفسير لآية الميثاق بعيد عن الأذهان العامة ، ولا يمكن إطلاق اسم التفسير عليه ، بل هو للتأويل أقرب منه إلى التفسير.

نعم غاية ما يمكن قوله هو أنّ هذه النظرية تكشف عن أحد أبعاد هذه الآية ، لكنَّه ليس البعد المنحصر والوحيد.

هذا مضافاً إلى أنّ ألفاظ هذه الآية مثل قوله : ( فَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ) ونظائره الذي هو بمعنى أخذ الشهادة والاعتراف والإقرار لا يتلاءم ولا ينسجم

ص: 102

مع هذا التفسير.

النظرية الرابعة

وتظهر هذه النظرية من الشريف المرتضى في أماليه ، وإليك نص ما قاله الشريف بلفظه : (1)

إنّ اللّه تعالى إنّما عنى جماعة من ذرية بني آدم خلقهم وبلّغهم وأكمل عقولهم وقرّرهم على ألسن رسله علیهم السلام بمعرفته وما يجب من طاعته ، فأقرّوا بذلك ، وأشهدهم على أنفسهم به لئلاّ يقولوا يوم القيامة : ( إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ ) أو يعتذروا بشرك آبائهم.

وحاصل هذا الكلام وتوضيحه أنّ اللّه تعالى أخذ الاعتراف من جماعة خاصة ، من البشر ، وهم العقلاء الكاملون ، لا من جميع البشر.

وقد أخذ هذا الاعتراف والميثاق حيث أخذ بواسطة الرسل والأنبياء الذين ابتعثهم اللّه إلى البشرية في هذه الدنيا.

وهذه النظرية مبنية على كون « من » في قوله سبحانه : ( مِن بَنِي آدَمَ ) تبعيضية لا بيانية ، ولأجل ذلك يختص بالمقتدين بالأنبياء.

ويمكن تأييد هذه النظرية بأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قد أخذ منهم الاعتراف في بعض المواضع على اختصاصه تعالى بالربوبية ، كما يحدّثنا القرآن الكريم إذ يقول : ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) (2) ، وما يشابههما من الآيات التي أخذ فيها الاعتراف من الأشخاص ،

ص: 103


1- الأمالي : 1 / 29.
2- المؤمنون : 86 - 87.

وسيوافيك بعض هذه الآيات عند البحث في التوحيد الخالقي والربوبي.

ولكن ضعف هذه النظرية ظاهر ، إذ مآلها انّ المؤمنين بكل نبي هم الذين اعترفوا - دون سواهم - بتوحيده سبحانه.

ولو كان مقصود الآية هو هذا ، لكان ينبغي أن يكون التعبير عنه بغير ما ورد في الآية.

ثم إنّه يجب أن يكون تعبير القرآن عن المعاني الدقيقة بأوضح العبارات وأحسنها وأبلغها.

فلو كان مقصوده تعالى هو اعتراف جماعة خاصة ممَّن اقتدوا بالرسل ، بتوحيده سبحانه ، لوجب أن يبين ذلك بغير ما ورد في الآية من بيان.

هذه هي الآراء والنظريات التي أبداها المفسرون الكبار حول مفاد آية الميثاق والذر .. ونحن نأمل أن يستطيع المحقّقون - في المستقبل - من إيقافنا على معنى أوضح وأكثر انسجاماً مع ألفاظ هذه الآية الشريفة ، وأن يوفقوا إلى توضيح حقيقتها ومغزاها.

* * *

ذكرنا فيما سبق أنّ النظرية الأُولى تستند إلى طائفة من الأحاديث الواردة في المجاميع الحديثية ولابد من دراستها والتوصل إلى حل مناسب لها.

فالعلاّمة المرحوم السيد هاشم البحراني نقل في تفسيره المسمّى ب « البرهان » في ذيل تفسير آية الميثاق (37) حديثاً (1).

ص: 104


1- البرهان : 2 / 46 - 51.

وكذا نقل نور الثقلين - وهو تفسير للقرآن على أساس الأحاديث على غرار تفسير البرهان - أيضاً (27) حديثاً في ذيل تفسير هذه الآية (1).

ولابد من الالتفات إلى أنّ هذه الأحاديث والأخبار تختلف في مفاداتها عن بعض ، فليست بأجمعها ناظرة إلى النظرية الأُولى ، فلا يمكن الاستدلال بها - جميعاً - على ذلك لوجوه :

أوّلاً : أنّ بعض هذه الأحاديث صريحة في القول الثاني ، أو أنّها قابلة للانطباق على القول الثاني ، مثل الأحاديث : 6 و 7 و 20 و 22 و 35.

وإليك نص هذه الأحاديث :

أمّا الأحاديث 6 و 22 و 35 وجميعها واحد راوياً ومروياً عنه وان اختلفت في المصدر ، فهي :

عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : كيف أجابوا وهم ذر ؟ فقال علیه السلام :

« جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه ».

ففي هذه الأحاديث - كما نلاحظ - ليس هناك أي كلام عن الاستشهاد والشهادة اللفظيين بل قال الإمام : « جعل فيهم » وهي كناية عن وجود الإقرار التكويني في تكوينهم.

أما الحديث 7 فقد روي عن عبد اللّه بن سنان قال : سألت أبا عبد اللّه ( الصادق ) علیه السلام عن قول اللّه ( فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟

ص: 105


1- نور الثقلين : 2 / 92 - 102.

قال :

« هي الإسلام فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد ، قال : ألست بربكم ، وفيه المؤمن والكافر ».

وهذا الحديث كما هو واضح يفسر الميثاق المذكور في آية الذر بالفطرة ممّا يكون تصريحاً بأنّ الاستيثاق وأخذ الميثاق والإقرار أمر فطري جبلي تكويني.

وفي الحديث 20 جاء عن المفضل بن عمر ، عن الصادق جعفر بن محمد علیهماالسلام في حديث طويل قال فيه :

« قال اللّه عزّ وجلّ لجميع أرواح بني آدم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، كان أوّل من قال بلى محمد صلی اللّه علیه و آله فصار بسبقه إلى بلى سيد الأوّلين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين ».

وليس في هذا الحديث أي كلام عن اعتراف الذر وإقرار بني آدم وهم على هيئة ذرات صغيرة ، ولذلك فهو وإن لم يكن صريحاً في النظرية الثانية « القائلة بالإقرار التكويني لا اللفظي من جانب الذرية » ولكنّه قابل للانطباق عليها.

ثانياً : أنّ بعض هذه الأحاديث صريحة في أنّ الإقرار والاعتراف بالربوبية جاء من جانب الأرواح كما لاحظنا في الحديث 20.

أمّا ما يدل من تلك الأحاديث ( المنقولة في تفسير البرهان ) على النظرية الأُولى فهي 3 ، 4 ، 8 ، 11 ، 14 ، 17 ، 18 ، 27 ، 29.

وعددها كما هو الظاهر (9) أحاديث ، ولكنّنا لو أمعنا النظر فيها لوجدنا أنّ عددها الحقيقي لا يتجاوز 5 أحاديث لا أكثر ، لأنّ خمسة من هذه الأحاديث رواها « زرارة بن أعين » بمعنى أنّ آخر راو في هذه الأحاديث من الإمام هو زرارة ،

ص: 106

ومن المسلم أنّ راوياً واحداً لا يسأل عن شيء من الإمام خمس مرات ، وأمّا نقل رواية زرارة ( التي هي - في الحقيقة - رواية واحدة ) في خمس صور ، فلتعدد من روى هذا الحديث عن « زرارة » ، ولذلك اتّخذ الحديث الواحد طابع التعدّد والكثرة ، وهذا لا يوجب أن يعد الحديث الواحد خمسة أحاديث.

وعلى هذا فإنّ الأحاديث 3 و 4 و 11 و 27 و 29 التي تنتهي إلى راو واحد هو « زرارة » لا يمكن عدّها خمسة أحاديث ، بل يجب اعتبارها حديثاً واحداً لا غير.

وفي هذه الحالة ينخفض عدد الأحاديث المؤيدة للنظرية الأُولى من 9 إلى 5.

يبقى أنّ الأحاديث الأربعة الأُخرى ( أعني : 8 و 14 و 17 و 18 ) فهي مبهمة نوعاً ما ، وليست صريحة في المقصود.

وبعض تلك الأحاديث تعتبر هذا الميثاق والميثاق الذي أخذه اللّه من خصوص النبيين وتحدّث عنه القرآن في الآية 81 - آل عمران : ( وإذ أخَذَ اللّه ميثاقَ النّبِيِّينَ لَما آتَيْتكُمْ مِنْ كِتابٍ وحِكْمَةٍ ) تعتبر هذين الميثاقين واحداً مثل الحديث رقم 12.

وها نحن ننقل لك أيها القارئ نص حديث زرارة أوّلاً ، وهذا الحديث هو ما جاء تحت رقم 3 و 4 و 11 و 27 و 29.

وإليك نصها بالترتيب :

عن ابن أبي عمير ، عن زرارة أنّ رجلاً سأل أبا جعفر الباقر علیه السلام عن قول اللّه عزّ وجل : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ... ) فقال ، وأبوه

ص: 107

يسمع :

« حدثني أبي أنّ اللّه عزّ وجل قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم فصب عليها الماء العذب الفرات ، فخرجوا كالذر من يمينه وشماله ، وأمرهم جميعاً أن يقعوا في النار ، فدخل أصحاب اليمين فصارت عليهم برداً وسلاماً » إلى آخر الحديث.

وعن ابن أُذينة ، عن زرارة ، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال : سألته عن قول اللّه عز وجل : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ... ) قال :

« أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة ، فخرجوا كالذر ، فعرفهم وأراهم نفسه ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه ».

ومثل هاتين الصورتين بقية الصور لحديث زرارة حرفاً بحرف.

أمّا الروايات الأربع الأُخرى ( أعني : 8 و 14 و 17 و 18 ) فهي بالترتيب :

عن حمران عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال :

« فقال اللّه لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون : إلى الجنة ولا أبالي ، وقال لأصحاب الشمال : إلى النار ولا أبالي ، ثم ؟ قال : ألست بربكم قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا ... » الخ.

وعن ابن مسكان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في قوله ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ... ) قلت : معاينة كان هذا ؟ قال :

« نعم ، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه ، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه ، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه ».

ص: 108

وعن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام في قوله عزّ وجلّ : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ... ) قال :

« أخذ اللّه من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة وهم كالذر ، فعرفهم نفسه ، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه ، وقال : ألست بربكم ، قالوا : بلى ».

وفي حديث طويل عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام قال :

« قول اللّه عزّ وجلّ ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ... ) أخبرك أنّ اللّه سبحانه لمّا خلق آدم مسح ظهره فاستخرج ذرية من صلبه سيما في هيئة الذر فألزمهم العقل ، وقرر بهم أنّه الرب وأنّهم العبد فأقروا له بالربوبية ».

هذه هي عمدة الأحاديث التي نقلها تفسير البرهان في ذيل الآية المبحوثة تؤيد النظرية الأُولى.

وكذا نقل صاحب تفسير الدر المنثور أحاديث تؤيد هذه النظرية نذكر بعضها :

فمنها ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ... ) قال : خلق اللّه آدم وأخذ ميثاقه أنّه ربّه ، وكتب أجله ورزقه ومصيبته ، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنّه ربهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم ».

وغير ذلك كثير (1).

***

ص: 109


1- راجع الدر المنثور : 3 / 141 - 142.

ثالثاً : لقد بين أئمّة الشيعة المعصومون علیهم السلام معياراً خاصاً لمعرفة الصحيح من الأحاديث وتمييزه عن غير الصحيح ، وأمرونا بأن نميز صحاح الأحاديث على ضوء هذه المعايير .. هذا المعيار هو اعتماد ما يوافق الحديث للقرآن وطرح ما يخالفه.

وقد ذكرنا فيما سبق إنّ هذا القسم من الأحاديث ( التي نقلناها عن البرهان ) يخالف ظاهر القرآن ، ولذلك ينبغي التسليم أمامها ، ورد علمها إلى الأئمّة أنفسهم على فرض صدورها منهم.

ص: 110

الفصل الثالث: اللّه وبراهين وجوده في القرآن

اشارة

ص: 111

اللّه وبراهين وجوده في القرآن

1. كثرة البراهين على وجود اللّه تعالى.

2. دليل الفطرة.

3. برهان الحدوث.

4. برهان الإمكان.

5. برهان الحركة.

6. برهان النظم.

7. برهان محاسبة الاحتمالات.

8. برهان التوازن والضبط.

9. الهداية الإلهية في عالم الحيوان.

10. برهان الصدّيقين.

11. براهين أُخرى.

ص: 112

كثرة البراهين على وجود اللّه تعالى

من الأقوال المشهورة في أوساط العلماء تلك الجملة التي تقول :

« الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق ».

فهذه الجملة المقتضبة تشير إلى أنّ الأدلة على وجود اللّه جل شأنه ليست واحداً ولا اثنين ولا عشر ولا مائة ، بل هي بعدد أنفاس المخلوقات.

وهذا الكلام وإن كان مثار عجب ودهشة عند من ليس لديه دراسة مفصلة وتعمّق في العلوم الإلهية .. إذ كيف يمكن - في نظر هؤلاء غير المتعمّقين في الإلهيات وغير الملمّين بعلوم التوحيد -.

كيف يمكن أن تكون أدلّة وجود اللّه بعدد أنفاس الخلائق التي لا يحصيها عدد ولا يحصرها عد ؟!!

ولكن لو أُتيح لنا أن نطّلع على ما ورد في كتب العقائد والفلسفة من الأدلّة على وجود اللّه ، لأدركنا أنّ هذا الكلام لم يكن مبالغاً فيه ، بل هو عين الحقيقة.

لأنّ بعض هذه الأدلّة التي سنشير إلى « أُصولها » وأُمّهاتها - هنا - من السعة والشمولية بحيث يتّخذ من نظام كل ذرة في عالمنا دليلاً على وجود اللّه ، وطريقاً إلى إثباته.

ومن المعلوم أنّه لا يعلم عدد ذرات هذا العالم إلاّ اللّه تعالى.

وفيما يأتي نذكر أُصول وأُمهات هذه البراهين الرائجة :

ص: 113

1. دليل الفطرة

دليل الفطرة - كما تحدّثنا عنه في الفصل الأوّل - طريق القلب ودليل الفؤاد لا العقل والاستدلال.

فكل فرد ينجذب إلى اللّه ويميل إليه قلبياً وبصورة لا إرادية ، سواء في فترة من حياته ، أم في كل فترات حياته دون انقطاع.

وهذا التوجّه القلبي العفوي الذي يكمن في وجود كل فرد فرد من أبناء البشر لهو إحدى الأدلّة القاطعة على وجود اللّه ، وهذا هو ما يسمّى بدليل « الفطرة ».

2. برهان الحدوث

برهان الحدوث هو البرهان الذي يعتمد على « حدوث » الكون وما فيه.

وملخّصه : أنّ لهذا الكون بداية ، وأنّه لذلك فهو مسبوق بالعدم ، ومن البديهي أنّ ما يكون مسبوقاً بالعدم ( أي كان حادثاً ) ، فإنّ له محدثاً بالضرورة ، لامتناع وجود الحادث دون محدث.

ويعتمد المتكلّمون الإسلاميون - في الأغلب - على حدوث العالم لإثبات الصانع ، ربما باعتباره أقرب الأدلة إلى متناول العقول ، والأفهام.

3. برهان الإمكان

يتوسّل الفلاسفة المسلمون - في الغالب - لإثبات وجود اللّه بتقسيم الأشياء إلى :

واجب

ص: 114

وممكن

وممتنع

وذلك لأنّ أيّة ظاهرة وأي شيء نتصوّره في عالم الذهن لا يخرج عن إحدى حالتين عندما ننسب إليه الوجود الخارجي فهو :

إمّا أن يقتضي الوجود لذاته ، أي ينبع الوجود من ذاته ، فهو « واجب الوجود ».

وإمّا يقتضي العدم لذاته ، بمعنى أنّ العقل يمنع الوجود عنه ، فهو « ممتنع الوجود ».

وأمّا لو كان الوجود والعدم بالنسبة إليه على حد سواء ( أي لا يقتضي لا الوجود ولا العدم بذاته ) فحينئذ يحتاج اتصافه بأحد الأمرين ، أعني : العدم والوجود إلى عامل خارجي حتماً ، لكي يخرجه من حالة التوسط والتساوي ويضفي عليه طابع الوجود أو العدم ، وهذا النوع هو ما اصطلح على تسميته ب « ممكن الوجود ».

وعندما نتصور الأشياء والظواهر الكونية نجد أنّ العدم أو الوجود لم يكن جزءاً من ماهيتها ولا عينها ولا مزروعاً فيها في الأصل ، فإذا وجدناها تلبس ثوب الوجود ، فلابد أن يكون هناك عامل خارجي عن ذاتها هو الذي أسبغ عليها ذلك .. وهو الذي أخرجها من عالم المعدومات إلى حيز الموجودات ، أو بالعكس.

وهذا العامل الخارجي إن كان هو أيضاً على غرار تلك الأشياء في كونها ممكنة الوجود إذن لاحتاج إلى عامل خارجي آخر يضفي عليه حلة الوجود ويطرد عن ساحته صفة العدم.

ص: 115

وإن كان هذا العامل الثاني نظير العامل الأوّل « في صفة الإمكان » لاحتاج إلى عامل آخر ، وهكذا دواليك بحيث يلزم « التسلسل ».

وأمّا لو كان العامل الخارجي الأوّل - في حين كونه موجداً وعلّة للأشياء - معلولاً وموجداً من قبل نفس تلك الأشياء لزم « الدور » المستحيل في منطق العقول.

ولما كان التسلسل والدور باطلين عقلاً (1) لزم أن نذعن بأنّ كل الحادثات الممكنات تنتهي إلى موجد « غني بالذات » « قائم بنفسه » غير قائم بغيره ، وغير مفتقر في وجوده إلى أحد أو شيء على الإطلاق.

وذلك الغني بالذات هو « الواجب الوجود » هو اللّه العالم ، القادر ، القيوم .. القائم بذاته القائم به ما سواه.

وهذا هو دليل الإمكان.

4. برهان الحركة

كان روّاد العلوم الطبيعية - في السابق - كأرسطوا وأتباعه ، يستدلّون ب « حركة الأجسام والأجرام الفلكية » على وجود المحرّك ، وبذلك يثبتون وجود اللّه.

فكانوا يقولون ما خلاصته : إنّه لا بد لهذه الأجرام المتحرّكة من محرّك منزّه عن الحركة ، وذلك استناداً إلى القاعدة العقلية المسلمة القائلة : « لابد لكل متحرّك من محرّك غير متحرّك ».

ص: 116


1- سيوافيك بيان جهة بطلان التسلسل والدور في الأبحاث القادمة.

5. برهان النظم

لقد ظل النظام البديع العجيب الذي يسود كل أجزاء الكون من الذرة إلى المجرّة ، أحد العوامل المهمة التي هدت ذوي الألباب والفكر والمتذكرين (1) من البشر إلى اللّه ، إذ لم يكن من المعقول - أبداً - أن لا يخضع مثل هذا النظام البديع والمعقد لتدبير قوة عاقلة عليا ، وتدبير مدبّر حكيم.

والآيات القرآنية المتعرضة لبيان آثار اللّه تعالى في عالم الخلق إن كانت تهدف إلى إثبات الصانع ، فهي في الحقيقة إنّما تعتمد على « برهان النظم ».

فإذا كانت ورقة من أوراق الشجرة ، أو ذرة من ذرات العالم ، دليلاً على حكمة اللّه تعالى وبرهاناً على إرادته ، فهي بطريق أولى دليل على « أصل وجوده ».

إذ الوجود مقدّم على الصفات ، فما دلّ على الصفات فهو بالأحرى دال على الوجود.

وسيأتي الحديث المفصّل عن هذا القسم في المستقبل.

6. برهان محاسبة الاحتمالات

وهو برهان ابتكره علماء الغرب وزاده نضجاً وتوضيحاً العالم المعروف « كريسي موريسون » صاحب كتاب « العلم يدعو للإيمان » الذي لم يهدف من كتابته إلاّ بلورة وإيضاح هذا البرهان - أساساً -.

ص: 117


1- هذه الأوصاف الثلاثة مقتبسة من القرآن الكريم ، فهو عندما يذكر آثار قدرة اللّه وحكمته وعلمه تعالى يعقب كلامه بهذه العبارات : ( أُولُو الأَلْبَابِ ) و ( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) و ( لقوم يتذكّرون ) .

وإليك ملخّص هذا البرهان :

يقول : لا شك أنّ ظهور الحياة بشكلها الحاضر على وجه الأرض ليس إلاّ نتيجة تضافر شرائط وتوفر علل وعوامل كثيرة بحيث لو فقد واحد منها لامتنع ظهور الحياة على الأرض ولاستحالت حياة الأحياء عليها.

فلو أنّ ظهور الحياة كان نتيجة انفجار أو انفجارات في المادة الأُولى عن طريق المصادفة ، لكان من الممكن أن تتحقّق ملياردات الصور والكيفيات ويكون احتمال ظهور هذه الصورة واحداً من مليارات الصور ، وحيث إنّ صورة واحدة فقط هي التي تحققت دون بقية الصور ينطرح هذا السؤال :

كيف تحقّقت هذه الصورة الحاضرة دون بقية الصور عقيب الانفجار ؟

وكيف وقع الاختيار على هذه الصورة بالذات من بيان سائر الصور والحال كان المفروض أنّ جميعها متساوية في منطق المصادفة.

إنّنا لا نجد جواباً معقولاً في هذا المجال إلاّ أن نعزي الأمر إلى غير المصادفة.

وبعبارة أُخرى : انّ كثرة الشروط اللازمة لظهور الحياة على الكرة الأرضية تكون بحيث إنّ احتمال اجتماع هذه الشرائط بمحض المصادفة مرة في بليون مرة ، ولا يمكن لعاقل أن يفسر ظاهرة من الظواهر بمثل هذا الاحتمال غير العقلائي وغير المنطقي جداً.

وننقل هنا نص ما قاله العالم المعروف تحت عنوان « المصادفة » :

« إنّ حجم الكرة الأرضية وبعدها عن الشمس ، ودرجة حرارة الشمس وأشعتها الباعثة للحياة ، وسمك قشرة الأرض وكمية الماء ، ومقدار ثاني أوكسيد

ص: 118

الكربون وحجم النتروجين وظهور الإنسان وبقاءه على قيد الحياة ، كل أولاء تدلّ على خروج النظام من الفوضى ، وعلى التصميم والقصد ، كما تدلّ على أنّه طبقاً للقوانين الحسابية الصارمة ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة ، « كان يمكن أن يحدث هكذا » ولكن لم يحدث هكذا بالتأكيد !!

وحين تكون الحقائق هكذا قاطعة وحين نعترف - كما ينبغي لنا - بخواص عقولنا التي ليست مادية فهل في الإمكان أن نغفل البرهان ، ونؤمن بمصادفة واحدة في بليون ونزعم أنّنا وكل ما عدانا ، نتائج المصادفة.

لقد رأينا أنّ هناك 999/999/999 فرصة ضد واحد ، ضد الاعتقاد بأنّ جميع الأُمور تحدث مصادفة » (1).

7. برهان التوازن والضبط

وهذا البرهان من فروع برهان النظم ، والمقصود منه هو ذلك « التعادل والتوازن والضبط » الذي يسود عالم الأحياء كلها من حيوانات ونباتات.

ونذكر نموذجاً لذلك من باب المثال فنقول :

يتبيّن لنا من دراسة عالم الحيوان والنبات أنّ كلاً منهما مكمّل للآخر ، بحيث لو لم يكن في عالم الطبيعة إلاّ الحيوانات فحسب لفنيت الحيوانات وزالت من صفحة الوجود ، وهكذا لو لم يكن إلاّ النباتات فحسب لفنيت النباتات وزالت هي أيضاً.

ص: 119


1- العلم يدعو للإيمان : 195 - 196.

وذلك لأنّ النباتات - على وجه العموم - تتنفس « ثاني أُكسيد الكاربون » فيما تطلق الأوكسجين في الفضاء.

فأوراق الشجر بمنزلة رئة الإنسان مهمتها التنفس ، في حين أنّ الحيوانات تستهلك الأوكسجين وتدفع الكربون.

وبهذا يبدو - جلياً - أنّ عمل كل واحد من هذين الصنفين من الأحياء مكمل لعمل الآخر ومتمم لوجوده ، وأنّ حياة كل منهما قائمة على الأُخرى.

فلو كانت في الأرض : « النباتات » فقط لنفذ الكربون ... ولم يكن لها ما تتنفسه.

ولو لم يكن في الأرض إلاّ « الحيوانات » فقط لفني الأوكسجين ولم يكن لها ما تتنفسه.

ولكان معنى كل ذلك فناء النوعين بالمرة وزوالهما من وجه الأرض بسرعة.

8. الهداية الإلهية في عالم الحيوانات

يعتبر « اهتداء » الحيوانات والحشرات إلى ما يضمن بقاءها ، واستمرار حياتها ، دليلاً آخر على وجود « هاد » لها فيما وراء الطبيعة هو الذي يقوم بهدايتها في مسيرة الحياة ، ويلهمها كل ما يفيدها ويساعدها على العيش والبقاء إلهاماً أسماه القرآن ب « الوحي ».

ولهذا البرهان جذور وأُصول قرآنية ، ولذلك سنتعرض له بالبحث ونتاوله بالتحقيق بنحو مبسوط في المستقبل ، كما سنبرهن على أنّه غير البرهان المعروف ببرهان « النظم في عالم الوجود ».

ص: 120

تلك هي أُصول البراهين وأُمهات الأدلّة المتعارفة (1) التي يستدل بها لإثبات وجود اللّه سبحانه في مقدور كل فرد من أفراد البشر أن يستفيد منها حسب مذاقه وحسب إدراكه فيهتدي إلى اللّه ويتوصل إلى معرفته تعالى.

ولذلك يقول القرآن الكريم : ( وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ) (2).

ويعني بذلك أنّ لكل فرد أن يستدل على وجود اللّه بشيء من هذه البراهين والأدلة .. فهي أدلة توصل إلى معرفة اللّه ، والإذعان بوجوده لا محالة.

غير أنّ أكثر هذه الأدلة شهرة وشمولاً وأقربها إلى الأذهان هو برهان النظم .. فهو برهان يلتفت إليه كل أحد مهما بلغت معلوماته من الضيق والضآلة ومهما هبط مستواه الفكري ، لأنّ هذا البرهان قائم على إثبات الصانع عن طريق المشاهدات والاستنباطات والمقدمات البسيطة التي يدركها ويلمسها كل إنسان حتى العادي.

ولكن هناك طائفة أُخرى من الأدلة العقلية تفوق مستوى الفهم العام وهي تحتاج - لعمقها - إلى إمعان ومزيد تعمّق وتدبّر ... بل وإلى إرشاد « معلم إلهي » متخصّص في هذا العلم ، متضلّع في هذا الفن من المعارف .. وليس ذلك إلاّ لدقة مسالكها ، وعمق محتوياتها.

ومن هذه الأدلة ما يلي :

9. برهان الصدِّيقين

وهو أحد البراهين ذات الدلالة القوية على « وجود اللّه » سبحانه.

ص: 121


1- والتي يندرج تحت كل واحد منها آلاف بل آلاف الآلاف من الأدلّة.
2- البقرة : 148.

ويتلخص هذا البرهان في : أنّ للإنسان أن يتوصل إلى معرفة اللّه من مطالعة الوجود نفسه ... بمعنى أنّه لا يحتاج - هنا - لإثبات الصانع إلاّ إلى مطالعة نفس الوجود لا غير.

ولهذا البرهان أصل قرآني وجذور في كتاب اللّه الكريم.

وربما يكون قوله تعالى : ( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (1) إشارة إلى هذا الدليل (2).

كما ورد في أدعية أئمّة أهل البيت علیهم السلام ما يشير إلى هذا البرهان من قريب أو بعيد :

فقد ورد في الدعاء المعروف بدعاء « الصباح » وهو الدعاء القيّم الذي علّمه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام لتلميذه « كميل » قوله :

« يا من دل على ذاته بذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته » (3).

وقد تعرض ابن سينا ، الفيلسوف الإسلامي إلى هذا البرهان في كتابه « الإشارات » (4).

كما تبعه في ذلك المحقّق نصير الدين الطوسي في كتابه المعروف ب « تجريد الاعتقاد » الذي شرحه تلميذه العلاّمة الحلي رحمهما اللّه (5).

ص: 122


1- فصلت : 53.
2- وهناك آيات أُخرى ربّما حملوها على هذا البرهان وسيوافيك بيانها في موضعه.
3- راجع كتب الأدعية.
4- الإشارات : 3 / 18 - 28.
5- التجريد : 172 ، وقد قرر هذا البرهان المرحوم صدر المتألّهين بشكل آخر في كتابه « الأسفار » فليراجعه من أراد أن يقف على تقريره.

وحيث إنّ لهذا البرهان أصلاً قرآنياً - كما أسلفنا - لذلك سنذكره مفصلاً في محله من هذه البحوث.

10. براهين أُخرى

مثل : برهان الوجوب.

برهان الترتب.

برهان الأسد والأخصر.

وهي براهين خارجة عن إطار الهدف الذي من أجله عقدنا هذه البحوث وكتبنا هذه الدراسة ، إذ غاية ما نرمي إليه في هذه البحوث هو ذكر البراهين ذات « الأصل القرآني » أي ذكر ما له جذور في كتاب اللّه من هذه البراهين ، لأنّ هدفنا - كما يتضح من عنوان هذه الدراسة - هو استجلاء « معالم التوحيد في القرآن الكريم » (1).

ص: 123


1- وقد تحدث المرحوم صدر المتألّهين حول برهان « الوجوب » وبرهان « الأسد والأخصر » في كتاب الأسفار : 2 / 165 - 166.

التوحيد الاستدلالي في القرآن الكريم

اشارة

ذكرنا فيما مضى أنّ هناك طريقين لإثبات وجود اللّه تعالى :

طريق الاستدلال ، وطريق الفطرة.

وها نحن نستعرض في هذا الفصل « الأدلّة » العقلية والعلمية الواردة في القرآن لإثبات وجود اللّه سبحانه .. ولن نتقيّد بتطبيق هذه الأدلّة القرآنية على البراهين التسعة التي ذكرناها .. نعم لو حصل أن انطبق دليل قرآني على واحد من تلك البراهين التسعة أشرنا إلى ذلك ، وعمدنا إلى توضيحه قدر المستطاع والإمكان.

* * *

بعث رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله في بيئة كانت تسودها الوثنية ، وكان الناس إلاّ الشاذ منهم وثنيين يعبدون الأصنام ويعكفون على الأوثان رغم اعتقادهم باللّه ظناً بأنّ هذه الأصنام والصور المعبودة مقربة عند اللّه ، وشفعاء بينه وبين البشر.

ولأجل هذا تركز اهتمام القرآن على تنزيهه سبحانه عن « الشريك » في العبادة لا على إثبات وجوده ، لأنّ وجوده تعالى كان أمراً مسلّماً ومفروغاً عنه في ذلك المجتمع.

ص: 124

وفيما يلي نذكر الآيات التي تبيَّن اعتقاد وثنيي عصر الرسالة حول اللّه وكيف أنّهم كانوا يعتقدون بوجوده :

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ اللّه ) (1).

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ اللّه ) (2).

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ الْعَلِيمُ ) (3).

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (4).

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرض وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والقمر لَيَقُولُنَّ اللّه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (5).

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءَ فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللّه ) (6).

إنّ ملاحظة مفادات هذه الآيات تفيد - بوضوح لا يقبل جدلاً - بأنّ المجتمع الجاهلي المعاصر لعصر الوحي ونزول الرسالة لم يكن معتقداً بوجود اللّه فحسب بل كان معتقداً - فوق ذلك - بأنّه الخالق الوحيد لهذا الكون والمدبّر الحقيقي لأُموره وشؤونه ، بمعنى أنّهم كانوا موحِّدين في الخالقية والربوبية - كما هو

ص: 125


1- لقمان : 25.
2- الزمر : 38.
3- الزخرف : 9.
4- الزخرف : 87.
5- العنكبوت : 61.
6- العنكبوت : 63.

المصطلح -. ولذلك فإنّ أوّل موضوع طرحه الرسول الأكرم على قومه هو الدعوة إلى « توحيد اللّه » في العبادة لا الاعتقاد بوجوده.

على أنّ مراجعة معتقدات المشركين والوثنيين في عصر الوحي وقبله ، والتي سوف نوردها في الفصل التاسع : « التوحيد في العبادة » أفضل شاهد ودليل على ما قلناه من أنّ انحراف المشركين كان في مسألة « الوحدانية » في العبادة لا في أصل وجود اللّه.

فهناك - في الفصل التاسع - سوف نذكر كيف أنّ غالبية وثنيي العرب ما كانوا يعتقدون بأنّ الأصنام خالقة السماوات والأرض ، ولا أنّها مدبّرة للكون إلى جانب اللّه ، بل كانوا يعتقدون بأنّها مقربة عند اللّه ، وشفعاء لديه وكانوا يظنون بأنّ عبادتهم لها ستقربهم إلى اللّه تعالى ، وتوجب الزلفى لديه (1).

ويدل على وجود مثل هذا الاعتقاد لدى من كان يعبد الأصنام آيات هي :

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مَا لا يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه ) (2).

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى ) (3).

( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلاَ يَعْقِلُونَ ) (4).

ص: 126


1- نعم لا يمكن القول بأنّ كل وثنيي العرب أو كافة وثنيي العالم على مثل هذا الاعتقاد ، بل هناك من يعتقد بتعدد « واجب الوجود » كالمثلثة ، أو تعدد « الخالق » تعدداً حقيقياً كالثنويين ، أو من يعتقد بتعدد « المدبّر » وسيوافيك بيان مفصل عن مقالاتهم وعقائدهم في الفصل التاسع.
2- يونس : 18.
3- الزمر : 3.
4- الزمر : 43.

( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُم تَزْعُمُونَ ) (1).

ولكن رغم كل هذا لا يمكن لأحد أن يدّعي عدم وجود ملحدين - بتاتاً - في عصر الرسالة ، أو يدّعي أنّ القرآن الكريم لم يتحدث أبداً حول أصل وجود اللّه ، بل على خلاف هذا النظر فإنّ بعض الآيات القرآنية تكشف عن وجود ملحدين في عصر الرسالة ، كما أنّ هناك مجموعة من البراهين العلمية في القرآن الكريم قد وردت - في الحقيقة - لإثبات وجود اللّه.

وسنذكر الآيات الدالة على كلا الأمرين.

ونذكر أوّلاً الآية التي تذكر عقيدة جماعة من الماديين الذين كانوا يعاصرون عهد الوحي ، حول الإنسان وما سواه من الظواهر الكونية مبدأ ومآلا ، حيث يقولون - حسبما يحدثنا القرآن - :

( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) (2).

ومن الطبيعي أنّ هذا المنطق أعني : زعم هؤلاء بأنّ سبب هلاك البشر هو مرور الزمن لم يكن إلاّ بسبب عدم اعتقادهم بوجود « خالق » اسمه اللّه ، هو الذي يميت كما خلق.

فهم كانوا يعتقدون بأنّ الحياة والموت ما هما إلاّ أثرين من آثار المادة. أي

ص: 127


1- الأنعام : 94.
2- الجاثية : 24.

من الآثار الفيزياوية والكيمياوية للمادة - حسب المصطلح الحديث -.

فحينما تشيخ المادة وتهرم بسبب مرور الزمن فتأخذ طريقها - في المآل - إلى البلى وتؤول إلى دنيا العدم ، فذلك هو الموت.

إذا تبيّن هذا نقول : هل من المعقول أن يطرح القرآن هذه النظرية الإلحادية عن لسان أتباعها في عصر الرسالة ثم لا يعمد إلى نقدها والرد عليها ، ولا يقيم ضدها ما يرفع الشك ويزيل الشبهة ؟!!

لقد كان الأُستاذ العلاّمة الطباطبائي - صاحب تفسير الميزان - يصر في محاضراته العلمية على أنّ القرآن الكريم لم يتعرض مطلقاً لإثبات أصل وجود اللّه ، ولم يقم عليه أي دليل أبداً ، وذلك إمّا لبداهة وجود اللّه وفطريته ، أو لأنّ ذات اللّه أسمى من أن يحتاج إثباتها إلى دليل.

ولكنّنا نتصور أنّه قد وردت في الكتاب العزيز براهين لإثبات وجود اللّه تعالى ، وسوف نورد هذه البراهين في هذه الدراسة بنحو من الأنحاء بإذن اللّه.

ص: 128

التوحيد الاستدلالي : البرهان الأوّل

برهان الفقر والإمكان

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللّه واللّه هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْق جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّه بِعَزِيزٍ ) (1). (2)

قبل الورود في توضيح الآيات التي وردت لإثبات وجوده سبحانه نأت بنكتة وهي : أنّه قد سبق منا - آنفاً - أنّ البراهين الواردة في القرآن حسب النوع تناهز عشرة براهين أو أكثر ، ولسنا مدّعين أنّ هذه الآيات صريحة في تلك البراهين أو منطبقة عليها انطباقاً تاماً حسب العناوين التي نأتي بها في أوّل البحث ، وإنّما هدفنا هو طرح الأدلّة التي تعرّض لها القرآن واستدلّ بها لإثبات الصانع ، سواء كانت هذه الأدلّة الواردة في القرآن منطبقة مع الأدلّة والبراهين السالفة الذكر أم لا.

ص: 129


1- فاطر : 15 - 17.
2- يصف القرآن الكريم ( اللّه تعالى ) في الآية الأُولى من الآيات الثلاث بأنّه الغني الحميد ، وقد جاء في الآيتين التاليتين دليل ذلك : ١ . أما أن اللّه غني، فلأنه يمكنه أن يعدمنا لنعلم أنه لا يحتاج إلينا، وأنه لو شاء لأتى بخلق جديد، وهذا مفاد (الآية ١٦). ٢ . وأما أنّه تعالى حميد، فلأنّه قادر على ذلك وهذا هو مفاد (الآية ١٧).

وصفوة القول : إنّ ما نبغيه هنا هو التتلمذ على القرآن واتّخاذه إماماً ومعلماً لنا في هذا المجال لا ما يقوله الحكماء والفلاسفة والعلماء نعم لو طابق شيء من كلامهم مع ما ذهب إليه القرآن واستدل به أشرنا إليه ، وقلنا انّ هذا الاستدلال يشير إلى دليل النظم أو الإمكان أو ...

وفي كل ذلك نستعين اللّه على فهم مراد كتابه ومفاهيمه ، وهو ولي التوفيق.

لا ريب أنّ « فقر » الشيء دليل قاطع على احتياجه إلى « غني قوي » يزيل حاجته ، ويمسح عن وجهه غبار الاحتياج والافتقار ، فما لم تمتد يد من الخارج إلى ذلك الشيء لم يرتفع فقره ، ولم يندحر احتياجه.

تلك حقيقة لا يمكن أن يجادل أو يشك في أمرها أحد.

من هنا لا بد أن يكون لهذا الكون - بأسره - من أفاض عليه الوجود.

فالظواهر الكونية من الذرة إلى المجرة مقرونة ب « الفقر الذاتي » .. فجميعها مسبوقة بالعدم ، ولهذا فهي تحتاج في تحقّقها ووجودها إلى « غني » يطرد عنها غبار العدم ، ويلبسها حلّة الوجود.

افترض - للمثال - أيّة ظاهرة شئت تجد أنّها قبل أن ترتدي حلّة الوجود كانت تختفي خلف حجاب العدم وتنغمس في ظلماته ، ثم استطاعت - في ظل قدرة فعّالة - أن تمزّق حجب العدم ، وتشق طريقها إلى عالم الوجود.

ومن المعلوم أنّه لو لم يكن ثمت غني باسم « العلة » لما قدر لهذه الظاهرة المعدوم - أصلاً - أن تدخل إلى ساحة الوجود ، ذلك لأنّ نسبة أي شيء ممكن يتصوّره الذهن ، إلى الوجود والعدم سواء ، بمعنى أنّه كما لا يترجح وجوده ذاتياً كذلك لا يترجح عدمه ذاتياً أيضاً.

ص: 130

ويسمّى هذا التساوي في منطق العلماء ب « الإمكان ».

ولكي ندرك بنحو أحسن معنى هذا التساوي ، ومعنى الإمكان المذكور لابد أن نشير إلى مثال مقنع في هذا المقام.

إنّ للفلاسفة في تصوير « الإمكان » بياناً نشير إليه فيما يأتي :

فهم يقولون :

لنفترض دائرة ، ولنضع ما نتصوّره في ذهننا من الأشياء في وسط هذه الدائرة تماماً.

ولنجعل على طرف من الدائرة : الوجود ، ونجعل في مقابله العدم.

ثم يقولون :

إنّ الشيء الممكن هو كهذا « الشيء المتصور الموضوع في وسط الدائرة » لا يقتضي بذاته أي واحد من الحالتين لا الوجود ولا العدم. بل هو بالنسبة إليهما سواء .. بمعنى أنّ الوجود أو العدم لا ينبع من ذات ذلك الشيء .. وإلاّ لكان ذلك الشيء « ممتنع الوجود » ان اقتضى العدم ذاتياً ، أو « واجب الوجود » ان اقتضى الوجود ذاتياً.

ولأجل ذلك فإنّ كل الظواهر التي كانت معدومة - ذات يوم - ثم لبست حلة الوجود في يوم آخر ما هي - في الحقيقة - إلاّ سلسلة من « المفاهيم المجردة عن الوجود أو العدم » كالنقطة الموجودة في وسط الدائرة بين كفتي الوجود والعدم التي نسبتها إلى كل من الحالتين سواء .. ولو حدث أن خرجت هذه « المفاهيم المجردة » عن وسط الدائرة ومالت إلى إحدى الحالتين الوجود أو العدم فإنّ ذلك الخروج لم يتحقّق بالضرورة إلاّ بسبب « علة » ساقت تلكم الظاهرة إلى الحالة التي

ص: 131

تلبست بها.

إنّ « العلة الموجدة » هي التي جرّت الظاهرة المذكورة إلى ناحية الوجود.

كما أنّ « علة العدم » هي التي جرّتها إلى ناحية العدم.

بناء على هذا فإنّ الوجود أو العدم لم يكن ولن يكون عيناً ولا جزءاً أصيلاً في ذات الشيء المجرد عن علة الوجود أو العدم ، بل جاذبية العامل الخارجي هي التي ساقت ذلكم الشيء إلى إحدى الناحيتين ..

فإن كان هناك موجد غني ، جرّ الظاهرة قهراً إلى ناحية الوجود.

وأمّا لو واجهت الظاهرة فقدان علة الوجود انجذبت قهراً إلى جانب العدم.

على أنّ هناك فرقاً بين مسألة « وجود » الظاهرة و « عدم وجودها ».

فلظهور ظاهرة ما ووجودها لابد من حضور علة موجدة ضمن ظروف وشروط خاصة لتعطي الوجود لتلك الظاهرة.

بينما لا يحتاج فقدان الظاهرة إلى أي نوع من الفعل والانفعال ، بل يكفي لفقدان أية ظاهرة فقدان علتها فقط.

إنّ الظواهر الحاضرة فعلاً ، والتي كانت قبل هذا معدومة ، ومختبئة خلف حجب العدم قروناً متمادية ، لم يكن فقدانها - في تلك الأزمنة - لأجل أنّها كانت ترفض الوجود ذاتياً .. إذ لو كان كذلك لامتنع وجودها بالمرة وإلى الأبد ، بل انّ فقدانها في تلك الأوقات إنّما هو لفقدان مقتضي وجودها ، ومجرد فقدان هذا المقتضي كان كافياً لأن تنجذب الظواهر الكونية المذكورة بسببه إلى ناحية العدم وأن لا تتجلّى على مسرح الوجود.

ص: 132

ثم إنّ قولنا : بأنّ الظواهر تنجذب إلى ناحية « الوجود » على أثر وجود عللها لا يعني أنّ هذه الظواهر بعد وجودها بسبب العلة تتخلص نهائياً من صفة « الفقر الذاتي » ومن خصلة « الإمكان الذاتي » فتنقلب إلى موجودات غنية ، لا تحتاج إلى علة.

لا نقول ذلك ، لأنّه لا يمكن أن ينقلب ما هو « فقير بالذات » إلى « غني بالذات » (1) إنّما المقصود هو أنّ الظاهرة تلبس حلة الوجود مع كونها متصفة بالفقر والإمكان الذاتيين دون أن تفقد هذه الصفة حتى بعد ارتدائها حلة الوجود.

ولأجل هذا « الإمكان والفقر الذاتيين » يكون الاحتياج إلى العلة احتياجاً أبدياً وحالة دائمية لا تفارق طبيعة الأشياء ، بحيث لو انقطع الارتباط بين « العلة والمعلول » لحظة واحدة لم يبق للظاهرة أي وجود .. بل عادت خبراً بعد أثر كما يقول المثل السائر.

ولتوضيح هذه الحقيقة نشير إلى مثالين :

1. لنتصور قصراً فخماً غارقاً في أضواء المصابيح المتعدّدة المتنوعة.

فعند ما يرى الشخص السطحي التفكير هذا المشهد يظن أنّ هذا النور نابع من القصر نفسه .. أي انّ طبيعة المصابيح مضيئة بنفسها. بينما لو تفحص هذا جيداً لرأى أنّ هذا النور وهذه الأضواء تتعلّق ب « مولد الكهرباء » بحيث لو انقطع الارتباط بين المصابيح والمولد الكهربائي لحظة واحدة لغرق القصر بأسره في

ص: 133


1- نعم غاية ما يحصل أنّ الظاهرة بعد انضمام العلّة إليها تصبح غنية بالعرض - حسب المصطلح الفلسفي - وهو يجتمع مع « الفقر الذاتي » ولا يناقضه ولا يعارضه.

الظلام ، ولهذا فلابد أن يستمر المولد الكهربائي في إمداد القصر بالطاقة والتيار الكهربائي حتى يبقى ذلك القصر مضاء سابحاً في الأنوار.

2. لنتصوّر أرضاً مملحة تحت أشعة الشمس ، ونحن نريد أن تبقى رطبة .. ففي هذه الصورة لابد أن تتوالى قطرات الماء عليها فتسقط القطرة ثم تليها القطرة الثانية قبل أن تجف الأُولى .. وهكذا حتى نحافظ على رطوبتها ونحول دون جفافها .. إذ في غير هذه الصورة تجف الأرض تحت أشعة الشمس.

هذان مثالان يوضحان لنا أنّ « الفقير ذاتياً » لابد من ارتباطه بعلة وجوده على الدوام وبصورة مستمرة ليحافظ على وجوده .. وذلك لأنّه ليس من طبيعته : الوجود ، وما ليس الوجود من طبيعته افتقر إلى علة موجدة واستمر افتقاره هذا ما دام « الفقر الذاتي » إلى الوجود ملازماً له ، وحاكماً فيه.

من البيان السابق نستنتج الأُمور التالية :

أوّلاً : أنّ احتياج الظواهر إلى العلة هو مقتضى ذاتي لتلك الظواهر ، وأمر ملازم لها ، بحيث لا ينفك هذا الاحتياج عنها لا في حال تلبسها بالعدم ، ولا في حال اتصافها بالوجود.

ثانياً : أنّ حالة الشيء المحتاج الممكن لن تتغيّر ولن تتبدّل ما لم يساعده « الغني » في ذلك.

ثالثاً : أنّ جميع البشر ، وجميع الظواهر الكونية فقيرة ومحتاجة - بطبيعتها - وأنّها كانت تبقى محكومة بالعدم ما لم يتوفر علتها .. ولو كان الوجود عيناً أو جزءاً من ذاتها وطبيعتها لما عدمت ولا لحظة واحدة. ولو أنّ غنياً بذاته غير مفتقر في وجوده إلى غيره ، لم يمد إليها يد العون ولم يفض عليها الوجود لبقيت خلف حجب

ص: 134

العدم إلى الأبد.

وحيث إنّ الفقر والاحتياج من لوازم ذوات تلك الأشياء - لأجل ذلك - يجب أن تبقى محكومة بالفقر في كل الحالات ، حتى بعد وجودها.

بناء على ذلك ، ومن ملاحظة حالة الموجودات الكونية ، وملاحظة فقرها واحتياجها الذاتي وكونها غير قادرة على تغيير حالتها ووضعها وانتقالها من عالم العدم إلى صفحة الوجود دون الاعتماد على ركن أصيل غني.

أقول : من ملاحظة كل هذه الأُمور يمكن الاستدلال على وجود خالق غني أصيل هو الذي منح الوجود لهذه الأشياء ، وهو بالتالي واهب الكون والمكان والوجود والزمان لجميع الممكنات كما ويمكن - بهذا الدليل - إثبات احتياج الممكنات - بجملتها - إليه في كل الأزمنة واللحظات وفي جميع الأحوال والأوقات ، ابتداء من أول عمرها إلى آخره ، احتياجاً لازماً لا ينقطع ، وافتقاراً دائماً لا يزول ولا يرتفع.

هذا هو ما صرح به القرآن الكريم في نداء يشمل جميع أبناء البشر إذ قال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ واللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (1).

ففي هذه الآية ركز القرآن الكريم على موضوع « الفقر الذاتي » في الإنسان واحتياجه إلى « العلة الموجدة » أي اللّه تعالى ، إذ قال : ( أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلى اللّهِ ) وصرح بأنّ الموجود الوحيد الذي يمكنه رفع هذا الاحتياج والفقر الإنساني هو اللّه تعالى شأنه.

فهو الوحيد الذي يقدر على مساعدة البشر ، وليس سواه بقادر على ذلك

ص: 135


1- فاطر : 15.

لاتصاف ما سواه بصفة الإمكان.

وقد بيَّنت الآية هذه الحقيقة بقولها : ( إِلى اللّه واللّه هُو [ أي وحده ] الغَنِيُّ ) .

على أنّ القرآن الكريم لا يعتبر الإنسان محتاجاً وفقيراً إلى اللّه قبل الخلق فحسب ، بل هو محكوم لهذا الفقر والحاجة حتى بعد أن يرتدي حلّة الوجود ..

وهذا هو ما تفيده جملة : ( أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلى اللّه )

فهي كما نلاحظ لم يؤخذ فيها « قيد الزمان الماضي » فلم يقل مثلاً : كنتم الفقراء إلى اللّه ، بل بإطلاقها وعدم تقيدها بالزمان تشمل الماضي والحاضر والمستقبل ، وهذا يعني بكل وضوح أنّ الإنسان محتاج إلى اللّه سبحانه ، وجوداً وبقاءً.

وينقل الحكماء والفلاسفة المسلمون في هذا الصدد حديثاً عن الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله يقول فيه :

« الفقر سواد الوجه في الدارين » (1).

ويقال : إنّ مراد النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله من هذه العبارة هو : الإشارة إلى أنّ حاجة الإنسان إلى اللّه أمر ملازم له في الدنيا والآخرة.

وقد ركز القرآن الكريم في مواضع متعددة على صفة « الغنى » في الذات الإلهية بحيث يمكن اعتبار ذلك إشارة ضمنية أو صريحة إلى هذا البرهان ، نعني : برهان الفقر والإمكان.

وإليك فيما يلي بعض الآيات التي وصف اللّه فيها بالغنى :

ص: 136


1- تجد نصَّ هذا الحديث في الكتب الفلسفية والعرفانية وسفينة البحار : 2 / 378.

( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) (1).

وهذا هو موسى الكليم علیه السلام يعتبر نفسه محتاجاً إلى ما وهبه له ربّه وما أنزل وينزل عليه - ومن ذلك وجوده - إذ يقول : ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) (2).

وقد وصف اللّه ذاته في تسعة عشر موضعاً (3) آخر بأنّه الغني إذ يقول - على غرار ما مر في الآية المبحوثة هنا - : ( واللّهُ الغَنْيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ ) (4).

فقر الأشياء وبرهان الإمكان

إنّ هذه الآية ، أعني قوله تعالى : ( وَاللّهُ الغَنْيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ ) ، يمكن أن

ص: 137


1- النجم : 48.
2- القصص : 24.
3- نشير فيما يلي إلى هذه المواضع بذكر السورة والآية : البقرة : 263 و 267. آل عمران : 97. الأنعام : 133. يونس : 68. إبراهيم : 8. الحج : 64. النمل : 40. النساء : 131. العنكبوت : 6. لقمان : 12 و 26. فاطر : 15. الزمر : 7. محمد : 38. الحديد : 24. الممتحنة : 6. التغابن : 6.
4- محمد : 38.

تكون ناظرة إلى « برهان الإمكان » (1) ، لأنّ التركيز في هذه الآية واقع - كما نرى - على مسألة « الفقر والاحتياج » الكائنين في أبناء البشر والملازمين للكيان الإنساني حتى بعد وجوده ، ملازمة الظل للشاخص.

إنّ الفقر والاحتياج عين الإمكان أو ملازم له ، لأنّ الممكن يفقد - بطبيعته - الوجود ، والعدم ، إذا قيس ب « واجب الوجود » و « ممتنع الوجود » ، ولذا فالممكن في حد ذاته مفتقر في اتصافه بإحدى الحالتين ( أعني : الوجود والعدم ) إلى العلة التي توجده ، أو تعدمه.

فعندما نقول : الإنسان ممكن الوجود فكأنّنا نقول : الإنسان فاقد - في مقام التصور - للوجود ومحتاج للتلبّس بالوجود والاتصاف به إلى « غني » يأتي به ويهب له الوجود.

لهذا يمكن القول بأنّ أساس الاستدلال في هذه الآية هو : « برهان الإمكان ».

ص: 138


1- المقصود من الإمكان في هذا الفصل هو : الإمكان الماهوي الذي هو صفة الماهية والمفاهيم الذهنية ، وليس الإمكان الوجودي الذي له معنى آخر وأجماله هو : « تعلّق الموجودات باللّه القائم بنفسه ». والحاصل أن الإمكان قد يقع صفة للماهية ومعناه حينئذ تساوي «الماهية» بالنسبة إلى الوجود والعدم. وقد يقع صفة لنفس «الوجود» ولا يصح حينئذ تفسيره بتساوي الوجود والعدم بالنسبة إليه، إذ لا معنى لتساوي الوجود بالنسبة إلى الوجود، لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري، بل معناه عندئذ قيامه بالواجب القيوم واحتياجه إليه: (حدوثاً وبقاء).

التوحيد الاستدلالي : البرهان الثاني

الأُفول والغروب يدلّ على وجود مسخّر

( وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ والأرضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذَا رَبّي هذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ والأرضِ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَاني وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ باللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) (1).

ص: 139


1- الأنعام : 75 - 83.

قبل أن نبيّن هدف هذه الآيات لابد من الإشارة إلى عدّة نقاط تساعد على فهم مفاد هذه الآيات :

1. « الملكوت » و « الملك » تهدفان إلى معنى واحد غير انّه أُضيف إلى الأوّل « الواو والتاء » لأجل المبالغة والتوكيد على غرار « جبروت » و « طاغوت » الذي يرجع أصلهما إلى جبر وطغيان.

وحيث إنّ معنى الملك هو المالكية والحاكمية لذلك فمن الطبيعي أن يكون معنى الملكوت هو ذلك المعنى نفسه مع المبالغة والتأكيد.

وسوف نوضح عند شرح استدلال إبراهيم علیه السلام كيف أبطل الخليل : حكومة الكواكب والشمس والقمر ومشاركتها في تدبير نظام الكون والحياة الإنسانية. وبالتالي أعلن عن اعتقاده بأنّه ليس للكون سوى « مدبّر » واقعي واحد تجري أُمور العالم تحت إرادته خاصّة.

2. استفاد بعض المفسرين من العبارات التالية : « رأى كوكباً ، فلما رأى القمر » وما يماثلهما أنّ إبراهيم علیه السلام قال هذه العبارات عندما وقع نظره - لأوّل مرّة - على تلك الكواكب إذ أنّه لم يكن قد رآها قبل ذلك.

وتؤيد بعض الروايات هذا الرأي حيث تقول : إنّ أُم إبراهيم علیه السلام أخفته منذ بدء طفولته في الغار ، خوفاً عليه من بطش طاغية زمانه « نمرود » ، وكان هذا أول خروجه من الغار ، والتحاقه بمجتمعه ، وقومه ، وأوّل خطوة له في مطالعة ما حوله والتحقيق فيما يراه.

غير أنّ هاهنا احتمالاً آخر هو أنّ إبراهيم علیه السلام كان قد رأى الشمس والقمر والكواكب من قبل ، ولكنَّه لم ينظر إليها بنظرة الباحث المدقّق ، وكان هذا أوّل

ص: 140

مطالعته الباحثة للكون ، وأوّل نظره إلى ما حوله بنظرة المحقق المتأمّل واستفادته هذه المطالب التوحيدية من ذلك.

3. تشهد عبارة ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) أنّ إبراهيم بدأ تحقيقه هذا بين أبناء قومه الذين كانوا يعبدون هذه الكواكب باعتقاد أنّها أرباب وتشهد أنّهم كانوا معه ، في كل المراحل الثلاث من التحقيق ، المذكورة في الآيات ، يرون تحقيقه ، ويشاهدون بحثه ، للوقوف على الرب الحقيقي ويسمعون كلامه طوال ذلك البحث والتأمّل.

ولو كان الأمر على غير هذا لما صح توجيه الخطاب إلى قومه مرّة واحدة فيقول : ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) ، لأنّ الهدف من جعل قومه موضعاً لخطابه هو ضم قومه إليه في الاعتقاد الصحيح ، ودفعهم إلى ترك الشرك ، وهذا التكليف إنّما يكون صحيحاً إذا سمعوا منطقه وحديثه المبرهن.

4. عندما كانت تقع عينا إبراهيم على الكوكب أو القمر أو الشمس كان يقول : ( هذَا رَبِّي ) .

إنّ هذه الجملة لا تعني - بالمرّة - وللأدلة التي سنذكرها ، إذعاناً قلبياً بربوبية هذه النجوم بل كان الهدف هو طرح النظرية هذه ليتضح ويوضح - بعد ذلك - بطلانها أو صحتها.

وهذا أسلوب متعارف وشائع في عمليات البحث والتحقيق العلمي.

فالباحث عن علّة حادثة ما يستعرض في مخيلته جميع الاحتمالات والفروض الواحد تلو الآخر ، ويعمد إلى مطالعة كل واحد من هذه الفروض والاحتمالات فيفترض كونه هو العلة ولو للحظة واحدة ، ولا يتركه إلى غيره ما لم تتضح النتيجة

ص: 141

وما لم يثبت بطلان الفرض. فإذا ثبت بطلان الفرض تركه وانتقل إلى دراسة الفرض الآخر ، وهكذا يتحكم نوع من الروح الباحثة على كل هذه الفروض دون أن يكون في البين أيُّ إذعان وتصديق.

هذا مضافاً إلى أنّ قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيم ... ) يفيد أنّ إبراهيم كان مشمولاً بالعناية الإلهية الخاصة في كل المواقف ، وكان علیه السلام يستمد منه تعالى العون ، والمدد ، وكان اللّه سبحانه يريد لإبراهيم أن يقف على معنى مالكية اللّه وحاكميته المطلقة عبر طي مراحل من استعراض مجموعة من الفرضيات عن حاكمية الكواكب والنجوم وإبطالها ، وأن يطمئن - من خلال دليل رافع للشك - إلى أنّ أمر الإنسان بيد اللّه وليس بيد هذه الأجرام النورية الأسيرة في قبضة القوانين الطبيعية ، الخاضعة للسنن الكونية.

مع هذا البيان لا يكون قول إبراهيم علیه السلام : ( هذَا رَبِّي ) بمعنى الإذعان والتصديق القلبي.

وبعبارة أُخرى : كان اللّه تعالى يريد لإبراهيم أن يكون - بمشاهدته لملكوت السماوات والأرض وتعلّق هذه الموجودات بالقدرة الإلهية - من الموقنين ، كما صرح بذلك القرآن الكريم بعد أن كان من المؤمنين.

وهذا الكلام لا يعني - بالطبع - أنّ إبراهيم كان إلى ذلك الحين خالياً من هذا اليقين عارياً عنه. كلا بل كان يعلم بفطرته السليمة أنّ الرب الحقيقي للكون والإنسان هو اللّه الخالق لا غير ، ولكنّه أُريد له أن يقف على ذلك الأمر الذي كانت الفطرة تدعو إليه عن طريق الاستدلال ، ليزداد يقيناً إلى يقين.

ولم يكن هذا بالأمر الجديد في شأن إبراهيم علیه السلام ، بل تكرر منه مثل هذا في

ص: 142

أمر المعاد ، وبعث الإنسان والحياة أيضاً.

ولك أن تراجع في هذا الصدد تفسير قوله سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِيَنَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1).

كل هذا مضافاً إلى أنّ بحث إبراهيم وتحقيقه تم في حين كان قومه مشركين يعبدون تلك الكواكب والنجوم ، فهو كان فيهم وكانوا معه ، وحيث إنّ أحد أهدافه علیه السلام في هذا التحقيق كان إرشاد قومه وهدايتهم إلى طريق الحق والصواب ، وذلك يقتضي أن يقبل الموجّه والمرشد الفكرة الباطلة بنحو موقت ثم يعمد إلى إبطالها بالدليل وإقامة البرهان ، لذلك لم يكن بد لإبراهيم من اتخاذ هذا الاسلوب المعقول والمنطقي في الإرشاد والهداية والتوجيه.

5. الظاهر أنّ الآيات المبحوثة تفيد أن إبراهيم علیه السلام قام بجميع مراحل بحثه - المذكورة في الآيات - تباعاً وفي موقف واحد بحيث طلع القمر على أثر أُفول النجم ، وطلعت الشمس على أثر غياب القمر.

ومثل هذا الفرض أي ملازمة طلوع القمر مع أُفول النجم يحصل - في الأكثر - مع كون النجم المذكور هو الزهرة.

لأنّ كوكب الزهرة - نظراً لضيق مداره - لا يمكن أن يبتعد عن الشمس أكثر من 47 درجة ، ولهذا فهو يلازم الشمس دائماً ، وقد يظهر في السماء قبل طلوع الشمس ، ولكن لا يلبث أن يختفي بعيد طلوع الشمس ، وقد يظهر بعد غروب

ص: 143


1- البقرة : 260.

الشمس في جهة المغرب ولا يلبث أن يغيب من الأُفق بسرعة.

فعلى هذا يقارن غروب الزهرة طلوع القمر في النصف الثاني من الشهر في الليالي 17 و 18 و 19.

لأجل هذا لا يستبعد أن يكون المراد بالكوكب المذكور في الآية هو كوكب الزهرة (1).

ذلك مضافاً إلى أنّ الصابئة الذين كانوا يقطنون في العراق وكان النبي إبراهيم يعيش بينهم كانوا ينسبون تدبير الظواهر والحوادث الأرضية إلى السيارات السبع ( ومنها الزهرة ) وكانوا يحترمون هذه الكواكب فقط دون بقية الكواكب ، هذا على العكس من الهندوس الذين كانوا ينسبون تدبير الموجودات والوقائع الأرضية إلى الثوابت من الكواكب ويحترمونها خاصة.

6. تكشف آية : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ والأرض ) عن أنّ مسألة خالقية اللّه لم تكن موضع بحث وحوار بين إبراهيم وقومه. فهو وقومه - أيضاً - كانوا يعتقدون بأنّه لا خالق للكون غير اللّه ، بل كان البحث والجدل يدور حول من هو « مدبّر » الظواهر والحوادث الأرضية ؟

هل هو اللّه الخالق ؟

أم أنّ بعض أُمور تدبير الموجودات الأرضية قد فوض إلى بعض المخلوقات

ص: 144


1- وقد أثر عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام أنّ هذا الكوكب كان الزهرة ، من ذلك قول الإمام علي بن موسى الرضا علیه السلام : أنّ إبراهيم علیه السلام وقع إلى ثلاثة أصناف صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر وصنف يعبد الشمس ، فلما رأى الزهرة قال هذا ربي على الاستنكار والاستخبار فلما أفل الكوكب قال : لا أحب الآفلين ، لأنّ الأُفول من صفات المحدث لا من صفات القديم. راجع التوحيد الصدوق: 74 - 75.

كما كان يظن ويعتقد قوم إبراهيم في العراق ، ويتصورون أنّ تدبير الحوادث الأرضية فوِّض إلى القمر والشمس وغيرهما من الكواكب ؟

إذن فمصب البحث لم يكن إثبات الصانع ، أو توحيد ذاته تعالى ، أو توحيد الخالقية ، بل كان تعيين « المدبّر » الحقيقي للظواهر الأرضية.

وبتعبير آخر : فإنّ مصب البحث كان هو التوحيد الافعالي ، لأنّ البحث في إرجاع تدبير الكون ، كله أو بعضه ، إلى بعض المخلوقات من فروع التوحيد في الأفعال.

وقد كان قوم إبراهيم علیه السلام مشركين في مسألة التدبير هذه. وكان إبراهيم يريد أن يدعوهم إلى التوحيد في هذه المسألة ويدفعهم إلى الاعتقاد بوحدانية المدبّر.

لهذا السبب جاء في نهاية آية ( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ) قوله : ( وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ) تلويحاً إلى أنّه يعتقد بوحدانية المدبّر على خلاف ما عليه أبناء قومه المشركين في قضية التدبير.

7. يستدل إبراهيم بأُفول هذه الأجرام الثلاثة على أنّ هذه الأجرام لا تصلح لأن تكون هي المدبّر لشؤون الأرض وحوادثها ، وعلى الأخص : الإنسان.

وهنا ينطرح سؤال هو : كيف ولماذا استدل الخليل بأُفول هذه الأجرام على عدم كونها مدبّرة ، أو مشاركة في التدبير ؟!

إنّ الجواب على هذا السؤال يمكن أن يتم في صور مختلفة على أنّ كل صورة من هذه الصور مفيدة في حد ذاتها.

هذا بالإضافة إلى أنّ تعدد تفسير منطق إبراهيم في إبطال مدبّرية الكواكب

ص: 145

يكشف عن تعدّد أبعاد مفاهيم القرآن وكثرتها ، بحيث يصلح كل بعد منها لفريق من الناس المختلفي المدارك.

وإليك التفسيرات المتعددة المتنوّعة لهذا الاستدلال :

ألف. لمّا كان الهدف من اتخاذ الرب هو أن يبلغ الموجود الضعيف في ظل اتصاله بالقدرة الربانية إلى الكمال المطلوب ، لذلك ينبغي ( بل ويتحتم ) أن يكون هذا الرب والمربي قريباً من مربوبيه بحيث يكون عالماً بأحوالهم مطّلعاً على احتياجاتهم ، ولا يكون بعيداً عنهم ، مفارقاً لهم ، غير حاضر لديهم ولا شاهداً لأوضاعهم.

أمّا ذلك الموجود الذي يكون بعيداً عن مربوبيه ، ساعة أو ساعات ، ويكون نائياً عنهم بالمرة بحيث يحجب عنهم أنواره ، وبركاته ، فكيف يصلح أن يكون مربياً لتلك الموجودات المربوبة ورباً للكائنات الأرضية ؟!

من أجل هذا كان أُفول هذه الكواكب ، وغيبتها علامة على غربتها عن الكائنات الأرضية وانقطاع الصلة بينها وبين هذه الموجودات ، وشاهداً على أنّ لهذه الكائنات مدبّراً غير هذه الكواكب .. مدبّراً عارياً عن أي نقص منزّهاً عن أي عيب.

ب. انّ طلوع وغروب الأجرام السماوية وحركتها المنتظمة في مدارات لا تتغير لدليل قاطع على أنّها خاضعة لموجود آخر فوقها ، وأنّها مسخَّرة لقدرة عليا سخَّرها لإرادته ، وجعلها محكومة لقوانين خاصة تابعة لمشيئته.

ومن المعلوم أنّ المسخَّر لا يمكن أن يكون مدبّراً مطلقاً ، وأنّ الخضوع لقوانين منتظمة آية ضعف هذه الكواكب ، وعلامة واضحة على أنّها لا يمكن أن

ص: 146

تحكم على الوجود ، أو تدبّر شؤون الأرض.

وأمّا استفادة الكائنات الأرضية من نور هذه الأجرام فليست دليلاً على ربوبية هذه الأجرام ، بل هي شاهد آخر على أنّ هذه الأجرام تأتمر بأوامر قدرة عليا ، وتخضع لمشيئة مقام أعلى ، وأنّها بالتالي لا تقوم تجاه الأرض إلاّ بما حملت من تكاليف.

ج. ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات ، ونعني النجوم والكواكب هل الهدف هو السير من النقص إلى الكمال ، أم العكس ؟

أمّا الثاني فليس قابلاً للتصوّر ، وعلى فرض التصوّر فلا معنى لأن يسير « الرب » من الكمال إلى النقص ، والعدم.

إذن لابد أن يكون الأوّل هو الصحيح على حين أنّ ذلك الأمر ، أي السير من النقص إلى الكمال ، أفضل شاهد على وجود مربّ آخر ، يوصل هذه الموجودات الضعيفة الناقصة في الحقيقة ، القوية في الظاهر ، إلى مرحلة الكمال الأفضل.

وفي الحقيقة فإنّ ذلك المربّي هو الرب الحقيقي الذي يجر هذه الأجرام وما سواها وما دونها نحو الكمال الذي تسير إليه.

هذا ويمكن تفسير وتصوير استدلال النبي إبراهيم علیه السلام أشكال أُخرى ، بعضها بعيد عن روح استدلاله علیه السلام .

وإليك بعض هذه التفسيرات :

1. انّ الأُفول والغروب في الأجرام والكواكب علامة الحركة.

والحركة ملازمة للتغيّر في المتحرّك.

ص: 147

والتغيّر دليل على حدوث المتحرّك ، لأنّ الموجود المتحرّك يصل بعد الحركة إلى كمال كان فاقداً له قبل ذلك.

لأجل هذا تكون الحركة ملازمة للحدوث.

ومن البيّن أنّ الموجود « الحادث » لكونه غير أزلي ، وغير أبدي لا يمكنه أن يكون رباً.

ونقائص هذا الاستدلال واضحة :

أوّلاً : إذا كان الأُفول والغروب علامة الحدوث ، فإنّ الطلوع والشروق هو أيضاً علامة الحدوث ، فلم استدل الخليل علیه السلام بالأُفول والغروب فقط في حين أنّ الغروب والطلوع من حيث الدلالة على الحدوث سواء ؟!

ثانياً : إذا كان قوم إبراهيم يعتقدون في شأن الأجرام السماوية بأنّها آلهة واجبة الوجود تنتهي إليها سلسلة الممكنات صح أن يقال حينئذ أنّ الحدوث لا يلائم ولا يوافق شأنها قطعاً ، لأنّها في هذا الفرض ، أي كونها آلهة واجبة الوجود تحتل مكان علّة العلل ولابد أن تكون علّة العلل أزلية أبدية.

ولكن قوم إبراهيم كانوا يعتبرون هذه الكواكب مخلوقة لله ، وغاية ما كانوا يعتقدون في حقّها أنّ أمر تربية الموجودات الأرضية وأمر تدبيرها قد فوّض إليها تفويضاً على النحو الذي مر معناهن.

وفي مثل هذه الحالة لايضير الحدوث بها ، كما لا تشترط الأبدية والأزلية في شأنها.

وبناء على هذا لا ربط لطرح مسألة الحدوث وعدم الأبدية والأزلية ببرهان إبراهيم الذي عرضه على قومه.

ص: 148

2. إذا كانت الحركة دليل الحدوث فهي دليل الإمكان أيضاً ، بدليل أنّ كل حادث ممكن أيضاً وكل ممكن لا بد أن ينتهي - من حيث الوجود - إلى موجود آخر ، منزّه عن صفة الإمكان ، واجب الوجود - حسب الاصطلاح العلمي - أي غير مستمد وجوده من غيره.

وإشكال هذا الاستدلال بيّن أيضاً : لأنّ قوم إبراهيم لم يعتبروا الكواكب - قط - إلهاً خالقاً يرتبط به وجود العالم ليكون إمكانه دليلاً على بطلان اعتقادهم وفساد مذهبهم.

3. يعتبر الحكيم صدر المتألّهين استدلال النبي إبراهيم مرتبطاً بإثبات الصانع .. وذهب إلى أنّه ناظر إلى « برهان الحركة » ، وهو البرهان الذي يتوسّل به علماء الطبيعة لأثبات وجود خالق لهذا الكون ، على أساس أنّ الحركة الشاملة في الكون تدلّ على محرّك (1).

فقد تصور صدر المتألّهين لأدلة ثبت بطلانها على أثر الاكتشافات المهمة التي تمت في عالم الفلك والفضاء أنّ حركة الأجرام السماوية لا تعود إلى طبيعتها ، كما أنّ ذلك ليس قسرياً ، إنّما هي حركة نابعة من « شوق وإرادة » في هذه الكواكب والأجرام غير ناشئة عن الغضب أو الشهوة ، لأنّ هذه الأجرام أسمى - كما في نظره

ص: 149


1- من الطبيعي أن يستدل كل فريق بما يناسب تخصّصه العلمي على وجود اللّه ، وهكذا فعل علماء الطبيعة الذين يبحثون عن خواص المادة وأحوالها ، فهم استدلوا على وجود اللّه بالحركة فقالوا : لا بد لهذا العالم المتحرّك من محرّك ، ولابد أن ينتهي هذا المحرك إلى محرك غير متحرّك لنتخلص من ورطة الدور والتسلسل ، وفي هذا الصدد يقول الحكيم السبزواري صاحب المنظومة في المنطق والفلسفة : ثم الطبيعي طريق الحركة *** يأخذ للحق سبيلاً سلكه أي أنّ العالم الطبيعي والناظر في الأجسام الطبيعية يسلك طريق « الحركة » لإثبات وجود اللّه.

- من أن تكون حركتها ناشئة عن الغضب أو الشهوة.

وإذا تبيّن أنّ حركتها هكذا فلابد أن يكون الغاية التي تتحرك نحوها أمراً قدسياً ، فإن كان ذلك واجب الوجود ثبت بذلك وجود اللّه الصانع وإن لم يكن كذلك فلابد أن ينتهي إلى واجب الوجود حتماً ، دفعاً للتسلسل والدور.

وهكذا أثبت صدر المتألّهين وجود « الوعي » لدى هذه الأجرام ، واستدل من حركتها على وجود الصانع .. وبذلك تصوّر أنّ استدلال إبراهيم كان لإثبات الصانع.

وإليك نص ما كتبه صدر المتألّهين في كتابه « المبدأ والمعاد » قال :

« وللطبيعيين طريق خاص في الوصول إلى هذا المقصد أي إثبات وجود الصانع وهو أنّهم قالوا في بيانه : إنّ الأجسام الفلكية حركتها ظاهرة ، وهي ليست طبيعية ولا قسرية ، بل نفسانية شوقية لابد لها من غاية.

وإذ ليست الغاية غضبية ولا شهوية لتعاليها عنهما .. ولا الغاية الأجسام التي تحتها أو فوقها .. ولا النفوس التي لشيء منها - كما ستطلع على بيان الجميع بالبرهان إن شاء اللّه -.

فتعين أن يكون غايتها أمراً قدسياً مفارقاً عن المادة بالكلية تكون ذا قوة غير متناهية ، لا تكون تحريكاته لها على سبيل الاستكمال .. فإن وجب وجوده فهو المقصود ، وإن لم يجب فينتهي إلى ما يجب وجوده دفعاً للدور والتسلسل.

وهذه الطريقة هي التي سلكها واعتمد عليها مقدم المشّائين ، وأُشير إليها في الكتاب الإلهي حكاية عن الخليل » (1).

ص: 150


1- المبدأ والمعاد : 11 ، والأسفار : 6 / 44.

ولكن هذا الرأي وهذا الاستدلال مضافاً إلى أنّه ثبت بطلانه - كما قلنا - لبطلان أدلّته ، وثبت أنّ حركة الأجسام الفلكية ليست حركة واعية ، توجيه بعيد عن هدف إبراهيم علیه السلام ، لأنّه - كما قيل - لم يكن الخليل علیه السلام في مقام إثبات الصانع وأبطال الإلحاد ، بل هو في مقام استنكار الشرك وإبطال فكرة الشريك لله في التدبير.

كلمة أخيرة حول هذه الآيات

وآخر ما يمكن قوله حول هذه الآيات هو أن نقول :

إنّ هذه الآيات تتحدث مباشرة عن محاربة الشرك في التدبير ولكنّها تتعلّق - بصورة غير مباشرة - بإثبات الصانع أيضاً ، بتقريب أنّ أُفول هذه الكواكب يدلّ على كونها مسخّرة وأنّ هناك مسخّراً هو الذي خلقها وسخّرها.

وفي هذه الصورة لا يمكن أن تكون هي مدبّرة ، إنّما التدبير لذلك الخالق الذي خلقها وسخّرها.

وفي هذه الحالة يكون أُفول وغياب هذه الأجرام حين كونها دليلاً على عدم ربوبيتها دليلاً قاطعاً وشاهداً واضحاً على ربوبية مسخّرها ومالك أمرها.

ص: 151

التوحيد الاستدلالي : البرهان الثالث

خلق السماوات والأرض دليل على وجود الخالق

( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّه شَكٌّ فَاطِرِ السَّماوَاتِ والأرض يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) (1).

كيفية الاستدلال بهذه الآية واضحة. فالقرآن الكريم يطرح مسألة « الشك في وجود اللّه » في صورة استفهام إنكاري ، إذ يقول : ( أَفِي اللّهِ شَكٌّ ) ؟

ولكي يرد هذا الشك ويدفعه يذكّر بخلق السماوات والأرض وفطرها ، إذ يقول :

( فَاطِرِ السَّماوَاتِ والأرض ) .

أي وهو فاطر السماوات والأرض.

و « الفطر » تعني لغة : « الخلق ».

وإطلاق الفطر على الخلق بمناسبة أنّ الخالق يشق بطن العدم ، ويستخرج

ص: 152


1- إبراهيم : 10.

منه « الشيء » الذي يريد خلقه وإيجاده.

خلاصة القول : إنّ الآية تعني أنّ خلق السماوات والأرض ووجودهما بعد العدم ، خير دليل على وجود موجد لها ، وخالق خلقها ، وأتى بها إلى حيز الوجود.

لهذا يجب أن لا نسمح للشك في هذا الأمر « أي وجود الخالق » ونحن نرى هذه المخلوقات الجسام العظيمة الصنع.

والاستدلال في هذه الآية على نمط الاستدلال بوجود الأثر والمصنوع على وجود المؤثر الصانع ، وهو ما يصطلح عليه بالبرهان الأنّي (1).

وقد بيّن هذا البرهان في كتب الكلام والعقائد في صور مختلفة متنوعة.

سؤال حول الآية

لقد بعث الأنبياء والرسل المذكورون في الآية لهداية أقوام نوح وعاد وثمود (2) في حين كان جميع هذه الشعوب والأقوام مؤمنين باللّه خالقاً لهذا الكون وفاطراً للسماوات والأرض ، ولكنّهم كانوا يعبدون الأصنام باعتقاد أنّها شفعاء مقرّبة ، ومقرّبة عند اللّه أو لأسباب أُخرى ، وفي هذه الحالة لماذا طرح القرآن الكريم موضوع الشك في « وجود » اللّه ، وأقام البرهان على « وجوده » تعالى ، وليس المقام مقام شك في وجوده سبحانه ؟

وبتعبير آخر : لم تكن هذه الأقوام التي مر ذكرها ، ملحدة ، ومنكرة لوجود

ص: 153


1- الاستدلال الإنّي هو الاستدلال بالمعلول على وجود العلة عكس البرهان اللّمي الذي يستدل فيه بالعلة على المعلول وستوافيك كلمتنا حول الاستدلالين.
2- كما يلاحظ ذلك من مراجعة الآية السابقة لهذه الآية إذ تقول : ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودٍَ ) ( إبراهيم : 9 ).

اللّه ، بل كانوا يعانون من عبادة المعبودات المتعددة. ومن المعلوم أنّ الأنبياء لم يبعثوا إلاّ ليجنّبوا البشرية عن عبادة غير اللّه ، ولذلك يتحتم - عند المحاورة والدعوة - إبطال أساس الشرك العبادي ، وإقامة البراهين على وهنه وضعفه وفساده ، لا على إثبات وجود اللّه ، فلماذا طرح أُولئك الأنبياء قضية إثبات وجود اللّه كما نرى في الآية المبحوثة ؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يتضح من الإمعان والتدبّر في ما قبل وما بعد هذه الآية.

فمن تأمل رأى كيف أنّ الأنبياء عندما دعوا هذه الأقوام - في بداية الأمر - إلى توحيد العبادة ، ونهوا عن عبادة غير اللّه قوبلوا من جانب تلك الأُمم بهذا الرد :

( إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيب ) (1).

لقد كانت دعوة الأنبياء مركبة من أمرين :

1. عبادة اللّه.

2. ترك عبادة الأوثان.

وقد رفضت تلك الأقوام - وبشهادة الآية 9 - كلا المطلبين ، أو المطلب الثاني على الأقل.

ولذلك عمد الأنبياء إلى البرهنة على صحة المطلبين بطرح مسألة خالقية اللّه للسماوات والأرض فقالوا :

( أَفِي اللّهِ شَكٌّ ) ؟

ص: 154


1- إبراهيم : 9.

يعني كيف يجوز ويمكن الشك في وجود اللّه وآيات وجوده ظاهره ساطعة .. وأعظمها هو خلق السماوات والأرض : ( فَاطِرِ السَّماوَاتِ والأرض ) وإذا لم يكن له وجود لما كان لهذه السماوات والأرض من وجود.

وبعد أخذ هذا الاعتراف من تلكم الأقوام ، أصبح الطريق ميسّراً لإثبات المطلبين على النحو الآتي :

1. إذا كنتم تعتقدون بمثل هذا الإله ، الخالق والمالك للكون ولأرواحكم وأجسادكم ، أذن لابد - وبحكم أفضليته وعلوّه وبحكم مالكيته للكون والإنسان - من عبادته والخضوع أمامه خضوع العبيد.

ولأجل هذا جاء في ذيل الآية قوله حكاية عنهم علیهم السلام : ( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) .

2. إذا كنتم تعتقدون بمثل هذا الإله فلماذا تعبدون الأصنام التي هي جزء من مخلوقات هذا العالم ، وشأنها شأن بقية الكائنات في هذا الكون في الضعف والعجز ، إذن لابد أن تعبدوا اللّه المنعم المحسن لا المخلوق المملوك الضعيف (1).

بناء على هذا فإنّ الهدف من الإشارة إلى « مسألة خالقية اللّه للسماوات والأرض » إنّما هو إثبات انحصار العبادة فيه تعالى وأنّه يجب أن لا يعبد سواه ، من خلال إثبات خالقيته التي هي ملاك العبادة وموجبها.

وصفوة القول : إنّ ضمائر تلك الأقوام كانت تنطوي على مقدمة ضمنية ، وهي « من كان خالقاً كان مدبّراً أيضاً » ولهذا وبحكم فاطرية اللّه للسماء والأرض تثبت مدبّريته للكون .. وإذا لم يكن من مدبّر سواه إذن فبيده - دون غيره - مفاتيح

ص: 155


1- تفسير الفخر الرازي : 5 / 229 طبعة عام 1308 ه.

كل الخيرات .. ولأجل هذا يجب أن يعبد وحده ولا يعبد غيره ، ذلك لأنّ الغير لا يملك أي خير وأي أمر.

وبهذا يكون القرآن قد اعتمد على مقدمة وجدانية واستفاد منها لإثبات انحصار العبادة في اللّه.

وهذا الاستدلال يشبه ما إذا راجع عامل مؤسسة ، من لا يستطيع حل مشكلته وفك عقدته فتقول له - لأجل منعه عن مراجعة من لا ينبغي مراجعته - ؛

من هو صاحب المؤسسة ورئيسها ؟

ومن الذي بيده مقاليد الأمر فيها ؟

وهدفك من هذه العبارات المعروف جوابها عند المخاطب ، هو ردعه عن مراجعة الآخرين.

وكأنّك تريد أن تقول له : أيها العامل أنت الذي تعرف أنّ صاحب المؤسسة هو غير هذا ، فلماذا لا تراجع صاحب المؤسسة ولماذا تراجع هذا ؟

ص: 156

التوحيد الاستدلالي : البرهان الرابع والخامس والسادس

اشارة

1. برهان الإمكان

2. برهان امتناع الدور

3. برهان حاجة المصنوع إلى الصانع

1. المعلول بلا علة محال.

2. خلق الشيء لنفسه مستلزم للدور المحال.

3. وجود السماوات والأرض دليل على وجود الخالق.

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ) (1).

( أَمْ خَلَقُوا السَّماوَاتِ والأرض بَلْ لا يُوقِنُونَ ) (2).

( أمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (3). (4)

تتألف دعوة رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله من ثلاثة أُصول أساسية ، وهي الدعوة إلى :

ص: 157


1- الطور : 35.
2- الطور : 36.
3- الطور : 43.
4- لمزيد الاطلاع راجع نص الآيات من 36 - 43 من السورة المذكورة ، وقد اكتفينا منها بنقل هذه الآيات التي تتضمن أصل الاستدلال رعاية للاختصار.

1. الاعتقاد بالمعاد.

2. الاعتقاد بنبوته.

3. التوحيد بمعناه الواسع الجامع الذي من شعبه : الاعتقاد بوجود الصانع.

وقد بحثت هذه المواضيع الثلاثة في سورة « الطور » بنحو بديع.

ففي الآيات 1 إلى 28 طرحت مسألة « المعاد » وبعث الناس في يوم القيامة وما يلابس ذلك.

وفي الآيات 29 إلى 34 طرحت مسألة « نبوة الرسول الأعظم » صلی اللّه علیه و آله .

وفي الآيات المبحوثة هنا طرحت مسألة « وجود اللّه الواحد » (1).

وقد هدى القرآن الكريم الإنسان الباحث إلى الاعتقاد بوجود اللّه بطرح مجموعة من الاحتمالات والأسئلة ، كما نشاهدها في هذه الآيات.

وهذه الاحتمالات وإن كانت واضحة ، يدركها كل أحد بمجرد ملاحظة نصوص الآيات لكننا نشير - مرة أُخرى - إلى مضامين هذه الاحتمالات والتساؤلات لغرض الاستنتاج.

وإليك مجموعة هذه التساؤلات والاحتمالات التي تطرحها هذه الآيات حول مبدأ الإنسان وعلة وجود العالم :

1. أن تكون الكائنات البشرية قد وجدت بلا علة ( علة مادية كانت كالأب والأُم والخلية التناسلية ، أو علة مجردة عن المادة كاللّه تعالى ) بمعنى أن تكون قد وجدت مصادفة ، ومن تلقاء نفسها.

ص: 158


1- تفسير الرازي : 28 / 259 الطبعة الجديدة.

وقد طرح هذا السؤال في قوله تعالى :

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ) (1).

2. أن تكون هي الخالقة لنفسها وهي الصانعة لذاتها والموجدة لها.

وإلى هذا الاحتمال أشارت جملة :

( أَمْ هُمُ الخالِقُونَ ) ؟

3. على فرض أنّها هي الموجدة لنفسها فإنّه يبقى سؤال آخر في هذا المجال وهو : من خلق السماوات والأرض ؟

هل يمكن القول بأنّ هؤلاء الأفراد هم الذين خلقوا السماوات والأرض ؟

وإلى هذا السؤال أشار قوله سبحانه :

( أَمْ خَلَقُوا السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ ) (2) ؟

4. أن يكون لهم إله غير اللّه وهذا الاحتمال أشار إليه قوله :

( أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّه ) ؟

هذه هي الاحتمالات التي طرحها القرآن الكريم ليفكر الناس فيها ثم يهتدوا إلى اللّه الواحد ، وهي كلّها باطلة وغير صحيحة في منطق الوجدان الحي ، والضمائر اليقظة.

ص: 159


1- بملاحظة ما بين القوسين يمكن إرجاع كثير من الاحتمالات التي ذكرها المفسرون لكلمة « غير شيء » إلى معنى جامع واحد ولمعرفة هذه الاحتمالات يراجع تفسير الرازي : 29 / 260 ، والميزان : 19 / 19.
2- الطور : 36.

فلابد إذن من الإذعان بوجود اللّه الواحد ، ولابد من التزام العبودية أمامه.

يبقى أن نعرف وجه بطلان هذه الاحتمالات فنقول :

أمّا بطلان الاحتمال الأوّل ففطري ، لبداهة أنّ لكل ظاهرة وحادث موجداً ومحدثاً لدلالة الفطرة السليمة ، والضمير اليقظ والتجربة المتكررة ، والبرهان العقلي عليه ، بحيث لو ادّعى أحد إمكان وقوع معلول دون علة لسخَّر منه العقلاء أجمعون.

وبرهان الإمكان يؤيد هذه الآية.

وأمّا بطلان الاحتمال الثاني فهو كذلك بديهي كالأوّل لبداهة أنّ كل ظاهرة إذا كانت موجدة لنفسها كان معنى ذلك رجوع الاحتمال الثاني إلى الأوّل ، وهو « تواجد المعلول بلا علة موجدة له خارجة عن ذاته » وقد عرفت فساده.

وخلاصة القول : إنّ الشيء إذا كان غير موجود بالذات ( أي لم يكن وجوده نابعاً من ذاته ) فهو إذن حادث ، فهو إذن يحتاج - بحكم ما قلناه في الاحتمال الأوّل - إلى محدث.

وأما لو كان وجود الشيء نابعاً من ذاته فهو ليس إذن بحادث ، بل هو أزلي أبدي في حين أنّهم ( أي الملحدين ) مذعنون بأنّ هذه الأشياء ( أي البشر ) ليست سوى أُمور حادثة مسبوقة بالعدم.

وبعبارة أكثر وضوحاً : انّ خلق الشيء لنفسه يستلزم « الدور » الواضح بطلانه.

لأنّ معنى قولك : « خلق الشيء نفسه » هو أن يكون الشيء موجوداً قبل ذلك ليتسنّى له خلق نفسه. ومعنى هذا : توقف الشيء وتقدمه على نفسه وهو

ص: 160

معنى الدور البديهي البطلان.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو كسابقيه في التهافت والبطلان ، إذ ليس هنا من يدّعي أنّ السماوات والأرض مخلوقة لأُولئك البشر وأنّ البشر هم خالقوها وموجدوها فيتعين أن يكون لها خالق وهو الذي يسمّى ب « اللّه ».

وأخيراً يمكن أن نستنتج من بطلان الاحتمالات الثلاثة أنّ البشر حيث لا يمكن أن يوجد بدون علّة تعطيه الوجود ، كما لا يمكن أن يكون علة لوجود نفسه ، ولا يمكن أن يكون هو خالق السماوات والأرض ، لذلك لابد أن يكون للبشر والسماوات والأرض من خالق .. وهو من يشار إليه بلفظة « اللّه » ، وهو خالق الجميع بلا استثناء.

لقد طرح في المقطع الأوّل هذا السؤال : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ) .

أي هل خلق منكرو وجود اللّه من تلقاء أنفسهم ، وعلى نحو المصادفة .. دون علة ؟

والجواب هو النفي طبعاً ، لأنّ تلك الموجودات ( أعني : المنكرين ) أشياء ممكنة الوجود ، وكل ممكن مرتبط في وجوده بعلّة ومحتاج إليها فيه.

وهذا المقطع من الآية ناظر - على ما يبدو - إلى « برهان الإمكان ».

وفي المقطع الثاني من تلك الآية ، ( أعني قوله : ( أَمْ هُمُ الخالِقُون ) ) والذي جرى الحديث فيه عن خلق الشيء لنفسه ، يؤلّف « بطلان الدور » أساس البرهان فيه.

لأنّ منكري اللّه - بحكم أنّهم علّة لوجود أنفسهم - يجب أن يكونوا

ص: 161

موجودين متحقّقين قبل أنفسهم ، وهذا هو تقدّم الشيء على نفسه ، وهو محال ، لأنّه دور.

وأمّا في الآية الثانية ( أعني قوله : ( أَمْ خَلَقُوا السَّماوَاتِ والأرض ) ) فقد استدل فيها على وجود اللّه ببرهان « النظم » أو ببرهان آخر يقرب منه كدلالة « المصنوع على صانعه » ، و « الأثر على مؤثره ».

فإذا كان أساس البرهان هو نظام السماوات والأرض فالآية حينئذ تكون ناظرة إلى « برهان النظم ».

وإذا كان أساسه هو « دلالة الآثر على المؤثر » ، فالآية حينئذ ناظرة إلى برهان آخر .. ولعلّها ناظرة إلى « برهان الإمكان » أو « برهان الحدوث ».

وأمّا دلالة « المصنوع على الصانع » التي وردت الإشارة إليها في عنوان هذا البحث فليست ببرهان مستقل ، بل تعود إلى أحد هذه البراهين ونحن لم نذكرها بصورة مستقلة إلاّ للتنوّع.

وها هنا ينطرح سؤالان هما

الأوّل : انّ إبطال هذه الاحتمالات الثلاثة لا يفيد أكثر من إثبات احتياج البشر والسماوات والأرض إلى موجد وخالق.

وأمّا أنّ موجد الجميع هو اللّه « الواحد » فلا يستفاد من إبطال هذه الاحتمالات أبداً ، ولا يثبت من خلال ذلك .. بل وربما يمكن التصوّر بأنّ خالق البشر غير خالق السماوات والأرض أو يمكن أن يكون خالق العالم والبشر غير مدبّر أُمورهما فما هو وجه دلالة إبطال الاحتمالات المذكورة على وحدانية الخالق والمدبّر ؟

ص: 162

الجواب

لقد ذكر القرآن الكريم لإبطال هذا التصوّر وهذا الاحتمال جملة رابعة حيث قال في الآية الثالثة من الآيات المذكورة في مطلع البحث :

( أمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

إنّ التوحيد في الخالقية والمدبّرية قد أبطل هذا التصوّر وهذا الاحتمال ( ونعني احتمال تعدّد خالق البشر والكون ومدبّرهما ). لأنّ الخالق والمدبّر - بحكم التوحيد في الخالقية والمدبّرية - ليسا أكثر من واحد.

من هذا البيان يتضح أنّ المقصود من « الإله » في الآية السالفة ليس هو مطلق المعبود المتخذ بعنوان الشفيع والمقرب .. بل أمر أعلى من ذلك ، وهو من يقدر على الخلق والإيجاد والتدبير.

فيكون معنى قوله تعالى : ( أمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ ) أي هل لهم خالق ومدبّر غير اللّه ؟

وبهذا لم يبق القرآن مجالاً لتصور تعدد خالق البشر والكون ومدبّرهما.

السؤال الثاني : أنّ المخاطبين في هذه الآيات - المطروحة هنا على بساط البحث - لا ريب هم « مشركو مكة » .. وهم لم يكونوا معتقدين بوجود اللّه حسب ، بل كانوا - فوق ذلك - يعتبرونه الخالق الوحيد للكون والإنسان جميعاً.

وفي هذه الصورة ما هو الداعي لطرح هذه الاحتمالات ثم إبطالها والقوم مؤمنون باللّه أساساً ، وجوداً ، ووحدانية في الخالقية والمدبّرية ؟

ص: 163

وهل ذنب هؤلاء ليس سوى إعراضهم عن عبادة اللّه وحده ، وعبادة الأصنام التي ظنوا أنَّها شفعاء لا أكثر.

أفليس مقتضى البلاغة في المقام هو صب الحديث على معتقداتهم التي هم عليها ، لا النقاش فيما لم يكن عندهم بموضع نزاع .. بل كان موضع اتفاق ( أعني : وجود اللّه الواحد ).

انّ الجواب على هذا السؤال هو ما قلناه ، وبينّاه في قوله تعالى : ( أَفِي اللّهِ شَكٌّ ) .

فهناك قلنا : بأنّ القرآن الكريم يحاول بطرح هذه التساؤلات أخذ الاعتراف من ضمائرهم وتحريك ما هو كامن في فطرتهم لأجل إيقاظها وتنبيهها ، كمقدمة لأخذ نتيجة أُخرى.

إنّ القرآن يسعى من خلال الاستفادة من المقدمة المسلم بها التي تنطوي عليها ضمائر القوم وهي « اعترافهم بوجود اللّه الواحد » أن يمهد لدعوتهم إلى عبادة اللّه الواحد ، وهدايتهم إلى توحيد العبادة.

فبأخذ هذا الاعتراف منهم ( نعني الاعتراف بأنّه لا خالق ولا مدبّر لهم إلاّ اللّه ، وأنّه الخالق المدبّر الوحيد الذي منه وجود وتدبير كل الكائنات على الإطلاق ).

أقول : بأخذ هذا الاعتراف يوجه القرآن ضربة قاضية إلى مسلكهم المنحرف في العبادة ، لأنّه إذا كان الخالق والمدبّر واحداً لا أكثر .. وإذا كان هذا الخالق والمدبّر هو الوحيد الذي استمدت منه كل الموجودات ( من إنسان وغيره ) وجودها وتدبيرها ، فإذن لابد من عبادته وحده ، والكف عن عبادة غيره من الموجودات

ص: 164

الحقيرة الذليلة المحتاجة هي إلى ذلك الخالق المدبّر العظيم (1).

ص: 165


1- وبهذا يكون القرآن الكريم قد هدم بنيان الشرك العبادي ونسف قواعده وأركانه مع الاستفادة من قضية وجدانية مفيدة عندهم. وفي الحقيقة فأنّ القرآن الكريم يكون _ في الوقت الذي عرّف العالم فيه على منطق التوحيد _ قد أثبت ضرورة التوحيد العبادي، الذي كان مشكلة مخاطبي القرآن في ذلك العصر أيضاً. ومع ملاحظة هذا النوع من الاستدلال الموضوعي الرصين نكتشف مدى تمشي القرآن مع جميع العصور وجميع الأجيال رغم أنه نزل ليعالج مشاكل موجودة في عصر نزوله ضمناً.

التوحيد الاستدلالي : البرهان السابع والثامن

اشارة

1. برهان الإمكان

2. برهان النظم

تركيب الخلايا البشرية العجيبة ونمو النباتات وتساقط المطر وخلقة الأشجار تشهد بوجود خالقها

( هذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ * نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ) (1).

( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ) (2).

( أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُون * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * ءَأَنْتُمْ أَنْشَأتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُون ) (3).

ص: 166


1- الواقعة : 56 - 59.
2- الواقعة : 63 - 65.
3- الواقعة : 68 - 72.

( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ) (1).

الآيات كلّها من سورة الواقعة (2).

قبل أن نشرع في بيان مفاد هذه الآيات لابد من الإشارة إلى عدّة نقاط :

1. أنّ الهدف الأصلي للآيات القرآنية هو : الدعوة إلى الإيمان بالمعاد ، وبعث الإنسان في يوم القيامة ، وضرورة عبادة اللّه وحده.

وأمّا مسألة إثبات وجود اللّه ، فلها جانب ضمني في هذه الآيات ، كما سنبين ذلك.

بل انّ مراجعة آيات هذه السورة [ أي سورة الواقعة ] تفيد أنّ الهدف الأصلي لهذه السورة التي تبدأ بآية ( إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ ) والآيات المبحوثة هنا التي تبدأ بقوله : ( هذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) .

إنّ الهدف هو - في الحقيقة - إثبات إمكان المعاد ، حتى أنّ مسألة لزوم عبادة اللّه وحده تقع في الدرجة الثانية من اهتمام وهدف هذه السورة.

وقد أُشير إلى هذا الهدف الثانوي في قوله سبحانه : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ) .

ولكن على الرغم من ذلك يمكننا أن نجد في الآيات المذكورة إشارات واضحة إلى وجود الصانع حتى لأوّل نظرة.

وحيث إنّ آيات هذه السورة تشبه - من جهة طرح التساؤلات - سورة

ص: 167


1- الواقعة : 74.
2- لقد اكتفينا هنا بنقل الآيات المرتبطة بهذا البحث التوحيدي وللمزيد من الاطلاع والتوضيح ينبغي مراجعة مجموع الآيات من 56 - 74 في السورة نفسها.

الطور ، لذلك رأينا أن نجعل كلا القسمين إلى جانب بعض ، وسيتضح بالتأمل والإمعان في آيات هذه السورة ، وآيات سورة الطور أنّ القرآن الكريم جعل الإنسان أمام حزمة من التساؤلات ، تماماً على النمط السقراطي ، لأجل إيقاظ وجدان البشر ، ليتسنّى له في ظل هذه اليقظة أن يميّز الحق عن الباطل ، وليخضع - بالتالي - لمنطق الحق ولا يكون له سبيل إلى غير ذلك.

2. لقد طرح القرآن الكريم في هذه الآيات أربعة مواضيع :

1. تركيب الخلية البشرية وخلقتها العجيبة.

2. نمو النباتات وحفظها وصيانتها عن الآفات.

3. نزول الغيث وصيانته عن التلوث والتأسن والاجوج.

4. استخراج ونشأة النار من الشجر.

وفي الحقيقة فإنّ موضوع البحث في هذه الآيات هو : الإنسان والنعم الثلاث الكبرى ، وهي : المواد الغذائية ، والماء ، والنار التي لا يمكن أن يحيا البشر بدونها (1).

3. انّ طريقة الاستدلال في هذه الآيات هي من باب الاستدلال بوجود المصنوع ( وهو هنا النطفة البشرية ، وتربية النباتات ، ونزول المطر ، وخلق الأشجار ) على وجود الصانع.

صحيح أنّ للإنسان مشاركة جزئية في تكون ونشوء هذه الظواهر الطبيعية كاللقاح والجماع في تكون الإنسان ، والبذر ، إلاّ أنّ هذه المشاركة الجزئية والتأثير الجزئي لا يكفي في تكون وظهور هذه الظواهر والموجودات ، وما لم تكن ثمة قدرة

ص: 168


1- تفسير الرازي : 29 / 180.

عليا مطلقة تساعد على تأثير هذه المقدمات لما أمكن لها أن تتواجد وتتكون وتأتي إلى منصة الظهور وساحة الوجود.

وإليك توضيح المطلب

في الآيات : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ) يتحدث القرآن الكريم عن مبدأ وجود وتكون الإنسان وهو ما أسماه بالنطفة.

وقد اعترف القرآن بسهم الوالدين في نشوء الإنسان وتكوّنه ، ولكنه اعتبر إسهامهما هذا في مستوى عملية النقل والانتقال فقط.

وتلك العملية تتمثّل في أنّ الأب ينقل جزءاً منه ، من موضع معين في جسمه إلى رحم الأُم لا أكثر.

أمّا من خلق النطفة ومن أوجدها ؟ فلا يمكن أن نعتبر الأب هو الخالق لها ، لبداهة جهله بحقيقتها.

ولذلك فلا مناص من أن يكون لها خالق معين.

خالق أعطى - بقدرته وعلمه - للنطفة ، القدرة على النمو في رحم الأُم ، ومكّنها من الرشد في ذلك الجو ، حتى يتكون الموجود البشري.

من المسلم أنّ تكوين هذه الذرة العجيبة يحكي عن موجود أعلى من الإنسان ، هو الذي خلق هذه البداية العجيبة للبشر.

وقد تحدث القرآن الكريم - في هذه الآية - على نمط الاستدلال بالمصنوع على الصانع ، والنظام على المنظم.

وفي الآيات : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ )

ص: 169

طرحت مسألة الزراعة ، ونرى فيها أنّ القرآن الكريم يسهم الزّراع في ظهور النباتات وتواجدها ، ولكنّه يعتبر اسهامهم محدوداً لا يتعدّى عملية بذر البذور ، ولهذا يسمح بأن يطلق عليهم صفة الزارع (1).

ولكن عمل الزارع لا يتجاوز هذا الأمر ، أعني : البذر.

غير أنّ هذا العمل وحده غير كاف في مسألة الزراعة ونشوء النباتات والثمار لأنّه :

يسأل أوّلاً : من الذي خلق البذرة ؟ وعلى قدرة من اعتمدت هذه الحبة بحيث استطاعت أن تتسبب في ظهور مئات الحبات ونشوئها في شكل سنابل ؟

لا مناص من أن يكون لهذه الحبة خالقاً غير البشر.

ثم يسأل ثانياً : هل يكفي لتربية النباتات وخروجها مجرد الحرث وبذر البذور ، أم أنّ مئات العوامل والعلل الخارجية الأُخرى ، يجب أن تتضافر وتتفاعل وتتعاضد فيما بينها لتمنع من جفاف النبتة والسنبلة ، وهذا شيء خارج عن قدرة البشر.

ترى هل هذا كلّه من صنع اللّه أم من فعل العوامل المخلوقة لله ؟

وإلى هذه الحقيقة أشار القرآن بقوله :

( لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (2) * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) (3).

ص: 170


1- إلاّ أنّه لا يخلو من العناية والمجاز كقوله سبحانه : ( يَعْجَبُ الزُّرَاّعَ ) (الفتح : 29).
2- تتفكهون أي تتحدثون ، وأصله من التفكّه : أخذ الشيء فاكهة واستعير للحديث الذي يتحدثون به تفرجاً بتناوله.
3- الواقعة : 65 - 67.

وفي هذا الاستدلال استدلّ القرآن بوجود المصنوع ( كالمزارع الخضراء وحفظها وصيانتها من الجفاف ) على وجود الصانع.

وقد جاء عين هذا الاستدلال في القسم الثالث والرابع أيضاً ، فنزول المطر من السحاب - وهو أمر حادث - لا بد له من محدث ..

وإذا ساعدت بعض العوامل على ذلك ، كتبخر مياه البحار بسبب الشمس ، فإنّه لا محيص - في المآل - من أن يعتمد الموضوع على إرادة قادر متعال ، هو الذي أوجد تلك العوامل ، وهو الذي نسّقها ، ونظّمها ، وساعدها على التأثير وصانها من أي تلوث وأجوج كما يقول :

( أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) (1).

في هذا المورد استدل الكتاب الكريم بوجود ظاهرة هطول المطر ، وظاهرة السحاب وصيانتها عن الأُجوج والتلوث ، على وجود الصانع.

وعلى هذا النمط والغرار يكون أمر تواجد النار تلك الظاهرة العجيبة جداً.

فالإنسان لا يقوم في مسألة النار إلاّ بدور الناقل فحسب.

فهو - كما نلاحظ - لا يفعل إلاّ إيصال شعلة الكبريت إلى الحطب في المطبخ لا أكثر.

لهذا فلا يكون للإنسان أي دور في نشأة هذه الظاهرة ( النار ) وتكوّنها ، اللّهم إلاّ عملية الإشعال والوري.

ص: 171


1- الواقعة : 68 - 70.

ولذلك نسب القرآن الكريم عملية « الوري » إلى البشر ، إذ قال :

( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ) .

ولكن الوري والإيقاد وحده لا يكفي في تكوّن هذه الظاهرة ، أعني : النار ، بل لابد من قادر أوجد بقدرته هذه المواد الاحتراقية في الشجر يابسه ورطبه حتى يتأتّى - ضمن شروط وفي ظروف خاصة معينة - أن تشتعل.

ترى هل يمكن لأحد أن ينكر تأثير قدرة عليا في ظهور هذه الأشجار التي تختزن المواد الاحتراقية ؟

بالطبع لا.

ولذلك يقول الكتاب العزيز :

( ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ ) .

وفي هذه الأقسام الأربعة استدلّ بوجود المصنوع على وجود الصانع القادر العالم.

وفي الختام نعترف - ثانية - بأنّه مع أنّ هذه الآيات تستدل على وجود اللّه بطريق الإن ، غير انّ مقصودها الأصلي ليس إثبات أصل وجود اللّه ، بل المقصود والهدف هو الاستدلال على إمكان وقوع المعاد وبعث الإنسان بعد موته ، ونشور الكون بعد انعدامه ، وإنّما ذكرت البراهين الدالة على وجود اللّه وخالقيته كمقدمة لإثبات إمكان إعادة الخلق بعد الموت.

لأنّنا حيث نعلم أنّ الفاعل والمدبّر لهذه الظواهر الكونية هو اللّه القادر فلماذا ننكر إمكانية المعاد الإنساني ؟!

ص: 172

وبتعبير القرآن :

( وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ) (1).

فالآية تقول :

الآن وأنتم ترون آثار تلك القدرة الإلهية ظاهرة في عالم الخلق ساطعة في دنيا الطبيعة ، فلم تستبعدون قدرته على إحياء الموتى وإعادة الكون والإنسان يوم القيامة ولماذا تنكرون المعاد ؟

وعلى كل حال لو كان مبدأ البرهان في هذه الآيات أنّ هذه الأشياء كانت فاقدة الوجود من ذي قبل ، ولذلك فهي محتاجة في اتصافها بالوجود إلى علة فالآيات حينئذ ، ناظرة إلى « برهان الإمكان ».

وإن كان مبدأ البرهان هو التنبيه إلى النظام السائد في هذه الأشياء ، فإنّ البرهان المشار إليه هنا هو « برهان النظم ».

وإن كان مبدأ البرهان هو التركيز على سبق العدم على وجود الأشياء ، فهو يعتمد على الاستدلال بالحدوث على وجود المحدث.

ص: 173


1- الواقعة : 62.

التوحيد الاستدلالي : البرهان التاسع

اشارة

بطلان المصادفة وبرهان محاسبة الاحتمالات

اجتماع شرائط الحياة على النسق الموجود يبطل نظرية المصادفة

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْري فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ * وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ * وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (1).

في هذه الآية يلفت القرآن الكريم نظرنا إلى ظاهرة الحياة ، وعشرات بل مئات وآلاف العوامل الخفيّة والبارزة التي ساعدت على وجود ظاهرة الحياة على هذا الكوكب الترابي ، وكأنّها تقول : هل يمكن اجتماع كل هذه العوامل والشرائط بمحض المصادفة ، ودون وجود خالق هو الذي أوجدها ورتّبها ونظمها ، فحدثت ظاهرة الحياة على الصورة الموجودة ؟

وبهذا كما يمكن أن تكون هذه الآية دليلاً على وجود الصانع الخالق من

ص: 174


1- البقرة : 164.

باب دلالة النظام على المنظم ، كذلك يمكن أن تكون دلالتها على ذلك من باب بطلان نظرية المصادفة وبرهان محاسبة الاحتمالات.

ويجدر بالذكر أنّ برهان محاسبة الاحتمالات وبطلان فرضية المصادفة من الأدلة الحديثة التي توصّل إليها العلماء الغربيون المعاصرون ، وبلورهما العالم المعروف كريسي موريسون صاحب كتاب « العلم يدعو للإيمان » الذي كتبه خصيصاً لإبطال نظرية المصادفة ، تلك النظرية التي تمسّك بها بعض الملحدين لإنكار وجود الخالق.

ولأجل أن نعرف معنى المصادفة ، وكيفية بطلانها علميّاً وحسابيّاً لابد أن نعطي شرحاً لذلك ثم نشير إلى بعض الأدلة التي أشار إليها العلامة السالف الذكر ، وغيره من العلماء في هذا المجال.

ما هو المقصود من المصادفة ؟

ليس المقصود من المصادفة هو بروز حادثة وظاهرة معينة دون علّة خارجية ، لأنّ هذا التفسير للتصادف يتنافى مع قانون العلية الذي يقرّ به ويعترف كل العلماء في العالم ، فليس بين العلماء والفلاسفة من ينكر قانون العلية هذا ، اللّهم إلاّ « هيوم » الفيلسوف الانجليزي المعروف ، على أنّه إنّما أنكر هذا القانون الكلّي لأجل أنّه أراد أن يثبته عن طريق التجربة ، وكان يرى التجربة أعجز من أن تثبت أصالة لهذا القانون.

أمّا لماذا كان يرى أنّ التجربة أعجز من أن تثبت ذلك فلسنا بصدده الآن. ولو كان هيوم مطّلعاً على القوانين والمقدمات الفلسفية لهذا الأصل ، لما كان يحدث له أي شك في ذلك.

ص: 175

إنّما المقصود من المصادفة - عند الماديين وفي منطقهم - هو أن تتسبب سلسلة من التفاعلات الطويلة والحركات المتتالية في ظهور ظاهرة أو ظواهر منظمة ، دون أن يكون وراء ذلك أيُّ تخطيط وأيّة محاسبة ، ودون أن يكون وراء ذلك أيُّ موجد منظم ومخطط ، كأن يلعب طفل بآلة كاتبة - طويلاً - حتى تظهر قصيدة منظمة ، أو تنحدر صخرة وتسقط عدة مرّات من فوق جبل ، وتتحول فجأة - وبعد اصطدامها المكرر بالصخور - إلى تمثال إنسان معين ، وهكذا.

هذا هو رأي الماديين حول وجود الكون وظهور النظام الكوني ، ولكن برهان محاسبة الاحتمالات الذي سندرسه في هذا الفصل يبطل وجود الكون المنظم عن طريق المصادفة ، وإليك توضيح ذلك.

ظاهرة الحياة

سواء اعتبرنا الحياة ظاهرة مادية مائة بالمائة وأثراً كيمياوياً لتفاعلات المادة ، أم اعتبرناها ظاهرة مجرّدة ، فإنّه لابد من الإذعان - حتماً - بأن تحقّق الحياة في هذه الكرة أو في غيرها من الكرات يحتاج إلى عوامل وشرائط كثيرة ، حتى يتسنّى أنّ تتحقق الحياة على الأرض بسببها ، ومن المعلوم أنّ اجتماع هذه الشرائط والعوامل الكثيرة ، بمحض المصادفة بعيد إلى درجة أنّه لا يمكن عدّه في عداد الاحتمالات المعقولة ، والعقلائية.

وعندما يلزم ، لتحقق ظاهرة مادية من الظواهر ، توفر عوامل متعددة فإنّ كل عامل من هذه العوامل سيكون جزءاً من العلة ، يستوجب وجوده وجود الظاهرة ، وفقدانه فقدانها ، قطعاً.

وبالنسبة إلى ظاهرة الحياة فإنّ عدد العوامل والظروف الموجبة لتحققها على

ص: 176

الأرض من الكثرة بحيث لا يمكن أن يحيط بها فكر البشر ، وبحيث إنّ احتمال اجتماعها عن طريق التصادف ما هو إلاّ احتمال واحد من بين مليارد من الاحتمالات ، ومن غير الممكن لعاقل أن يعتمد في تفسير وجود الظاهرة على مثل هذا الاحتمال من بين ذلك الركام الهائل من الاحتمالات ، والفروض.

ولهذا يقول العالم الكندي المتخصص في الطبيعة البيولوجية حول نظرية المصادفة :

« إنّ ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صوراً عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة » (1).

كما لهذا السبب أيضاً قال العالم الجليل : « كريسي موريسون » في كتابه : « العلم يدعو للإيمان » :

« إنّ جميع مقومات الحياة الحقيقية ما كان يمكن أن يوجد على كوكب واحد في وقت واحد بمحض المصادفة » (2).

وقال في موضع آخر من نفس الكتاب :

« إنّ للحياة فوق أرضنا هذه شروطاً جوهرية عديدة بحيث يصبح من المحال حسابياً أن تتوافر كلّها بالروابط الواجبة بمجرد المصادفة على أي أرض في أي وقت » (3).

ثم يضرب العالم المذكور مثلاً لذلك بالغازات التي نستنشقها ونتنفسها

ص: 177


1- راجع « اللّه يتجلّى في عصر العلم » : 5 ، مقال : هل العالم مصادفة ؟
2- العلم يدعو للإيمان : 195.
3- المصدر السابق : 24.

قائلاً :

« إنّ الاوكسجين والهيدروجين وثاني أوكسيد الكاربون والكاربون سواء أكانت منعزلة أم على علاقاتها المختلفة - بعضها مع بعض - هي العناصر البيولوجية الرئيسية وهي عين الأساس الذي تقوم عليه الحياة. غير أنّه لا توجد مصادفة من بين عدة ملايين ، تقضي بأن تكون كلها في وقت واحد وفي كوكب سيار واحد ، بتلك النسب الصحيحة اللازمة للحياة ! وليس لدى العلم إيضاح لهذه الحقائق.

أمّا القول بأنّ ذلك نتيجة المصادفة فهو قول يتحدّى العلوم الرياضية » (1).

ولكي يتضح هذا البحث نشير إلى بعض هذه الظروف والشرائط التي يكون لكل واحد منها دور مهمّ ومؤثر في نشأة الحياة واستمرارها على هذا الكوكب الترابي ، بحيث لو فقد لانتفت هذه الحياة ، ولامتنع وجودها بالمرة.

1. يحيط بالكرة الأرضية غلاف جوّي غليظ من الغازات يقدر العلماء ضخامته ب « 800 » كيلومتر ، وهو بمثابة ترس واق يحفظ سكان هذه الكرة من خطر عشرين مليوناً من الشهب القاتلة والصخور الفضائية المتناثرة كل يوم في الفضاء والتي يبلغ سرعة الواحد منها 50 كيلومتراً في الثانية ، حيث يحول هذا الغلاف دون وصول تلك الصخور إلى الأرض.

ولو كان هذا الغلاف الواقي أرق وألطف مما هو عليه لاخترقت النيازك - كل يوم - غلاف الأرض الجوي الخارجي ، ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها.

ص: 178


1- المصدر السابق : 73.

فهذه النيازك والصخور الفضائية الطائرة في الجو تواصل رحلتها بسرعة 6 إلى 40 ميلاً في الثانية ، ونتيجة لهذه السرعة العظيمة فإنّها ستحرق كل شيء تصطدم به وتحدث فيه انفجاراً هائلاً.

ولو كان سرعتها أقل من ذلك ، أي كان بسرعة رصاصة ، وكانت تصل كلّها إلى الأرض ، لأحدثت فيها خراباً لا يتحمل ، وحولتها إلى غربال.

إنّ للغلاف الهوائي للأرض - مضافاً إلى الخاصية المذكورة - دوراً آخر وهو حفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة.

2. انّ الماء لهو من عوامل الحياة على وجه الأرض ، فلكي تستمر الحياة في المحيطات والبحار والأنهر ، خلال فصول الشتاء الطويلة فقد خلق هذا العنصر الحياتي وهذه المادة الحيوية بشكل خاص بحيث ينجمد إذا بلغت درجة الحرارة ما يقارب الصفر ، وبذلك يحدث ويوجد غطاء يمنع من خروج الحرارة من داخل المياه ، ونتيجة لذلك تبقى المياه في أعماق البحار والأنهر وما شابه على حالة السيولة والميعان ، إذ في غير هذه الصورة لا يعني إلاّ أن تنجمد مياه المحيطات والبحار والأنهر ويستحيل على أثر ذلك بقاء الحياة والأحياء.

ولا يخفى أنّ وزن الثلج ، الخاص به يساعد على ذلك ، إذ من البيّن أنّ وزن الثلج أخف من الماء السائل ، ولذلك يطفو الماء المنجمد على السطح ولا ينزل إلى الأعماق.

3. انّ الأرض هي أيضاً من عناصر الحياة ومقوّماتها كالماء تماماً ، فهي تحتوي على مواد معدنية خاصة ، تجذبها وتمتصها النباتات وتصنع منها الأغذية التي تحتاج إليها الحيوانات.

ص: 179

إنّ وجود المعادن والفلزات في باطن الأرض وعلى مسافة قريبة من متناول أيدي البشر هو سبب ظهور وجوه متنوعة من الحضارات الإنسانية والتي من أبرزها الحضارة التكنولوجية التي نعاصرها.

4. لقد خلقت الأرض بجاذبية خاصة وعلى قطر خاص بحيث تجذب بها المياه والهواء نحو مركزها وتحافظ عليها.

فلو أنّ قطر الأرض كان ربع قطرها الفعلي لعجزت جاذبيتها عن الاحتفاظ بالماء والهواء على سطحها ولارتفعت درجة الحرارة إلى حد الموت.

ولو أنّ الأرض بعدت عن الشمس بمقدار ضعف ما هي عليه الآن لانخفضت درجة حرارتها ( أي حرارة الأرض ) إلى ربع حرارتها الحالية ، ولتضاعف طول مدة الشتاء فيها ، ولانجمدت كل الأحياء فيها.

ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس إلى نصف ما هي عليه الآن لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض أربعة أمثال ، ولآلت الفصول إلى نصف طولها الحالي ولصارت الحياة على سطح الأرض غير ممكنة.

فهل يمكن - ترى - أن تكون كل هذه الشرائط والعوامل قد اجتمعت واتفقت وجعلت الحياة ممكنة ، عن طريق التصادف في حين أنّ الاجتماع التصادفي لها كان من الممكن أن يؤول إلى آلاف الصور الأُخرى وتجعل الحياة في المآل غير ممكنة.

محاسبة أُخرى

تدور الأرض حول نفسها في كل 24 ساعة دورة واحدة ، وهي في دورتها

ص: 180

هذه تسير بسرعة ألف ميل في الساعة.

فلو تناقص ذلك أي بلغ مقدار سرعتها مائة ميل في الساعة مثلاً ، لتضاعف طول الليالي والأيام إلى عشرة أضعاف ما هي عليه الآن ، ولأحرقت شمس الصيف بحرارتها الملتهبة كل النباتات في الأيام الطويلة ، ولجمدت برودة الليالي الطويلة من جانب آخر كل البراعم والنبتات الصغيرة ، وتلفت.

ولو أنّ شعاع الشمس الواصل إلى الأرض تناقص إلى درجة النصف مما هو عليه الآن لهلكت جميع أحياء الأرض من فرط البرد.

ولو تضاعف هذا المقدار لمات كل نبت بل لماتت نطفة الحياة وهي في بطن الأرض.

ولو نقصت المسافة بين الأرض والقمر إلى خمسين ألف ميل بدلاً من المسافة الشاسعة الحاضرة (1) لبلغ المد والجزر من القوة بحيث إنّ جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها ، وفي هذه الحالة ربما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب.

وإذا فرضنا أنّ القارات قد اكتسحها الماء فإنّ معدل عمق الماء فوق الكرة الأرضية كلها يكون نحو ميل ونصف ميل ، وعندئذ ما كانت الحياة لتوجد إلاّ في أعماق المحيط السحيقة بصورة حيوانات تتغذى على نفسها وتفنى بالتدريج ويؤول نسلها إلى الانقراض.

5. انّ الهواء المحيط بالأرض سميك بالقدر اللازم لمرور الأشعة الكونية

ص: 181


1- المسافة الفعلية بين القمر والأرض هي 000/240 ميل.

ذات التأثير الكيمياوي التي يحتاج إليها الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات دون أن تضر بالإنسان ، وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور ومعظمها سام ، فإنّ الهواء باق دون تلوث في الواقع ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان.

إنّ الهواء الذي نستنشقه مكون من غازات مختلفة ، فنسبة النتروجين الموجود فيه هي 78% في حين تكون نسبة الاوكسجين فيه 21% تقريباً ويتألف 1% من بقية الغازات الأُخرى.

فلو كان الأُوكسجين بنسبة 50% مثلاً ، لأصبحت جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم عرضة للاشتعال لدرجة أنّ أوّل شرارة من البرق تصيب شجرة لابد أن تلهب الغابة.

فهل يمكن لعاقل منصف وهو يرى ويواجه مثل هذه المحاسبات الدقيقة والتي لم نشر إلاّ إلى جزء يسير جداً منها ، أن يقول بأنّها وليدة المصادفة العمياء ، وانّ انفجار المادة الأُولى ، والذي كان يمكن أن ينتهي إلى آلاف الصور غير الصورة الفعلية ، انتهى إلى الصورة الفعلية بمحض المصادفة ؟!!

كيف يمكن القول بأنّ هذه العوامل والعلل وغيرها من الظروف التي تؤلّف قوام الحياة وأركانها قد ظهرت فجأة ومصادفة على وجه هذه الأرض في زمان واحد دون مداخلة عقل قادر وإرادة حكيمة ، بل كانت العوامل - هي بنفسها من حيث الكمية والكيفية - بحيث أوجد اجتماعها هذه الحياة المعقدة ؟!!

يقول البروفيسور ايدوين كوبكلين :

« إنّ القول بأنّ الحياة وجدت نتيجة « حادث اتفاقي تصادفي » شبيه في مغزاه

ص: 182

بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار تصادفي يقع في مطبعة » (1).

برهان رياضي لإبطال المصادفة

إنّ العلماء لم يهملوا حساب احتمال وجود الشيء عن طريق المصادفة ، فها هو العالم الأمريكي الشهير كريسي موريسون يضرب لنا مثلاً لهذا في كتابه الذي أشرنا إليه فيقول :

« لو تناولت عشر قطع ، وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة ثم رميتها في جيبك وخلطتها خلطاً جيداً ثم حاولت أن تخرج منها الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي بحيث تلقي كل قطعة في جيبك بعد تناولها مرة أُخرى.

فإمكان أن تتناول القطعة رقم (1) في المحاولة الأُولى هو واحد على عشرة ، وإمكان أن تتناول القطعة رقم (1) و (2) متتابعين هو بنسبة واحد على مائة ، وفرصة سحب القطع التي عليها أرقام (1 و 2 و 3) متتالية هي بنسبة واحد على ألف ، وفرصة سحب (1 و 2 و 3 و 4) متوالية هي بنسبة واحد على عشرة آلاف ، وهكذا حتى تصبح فرصة سحب القطع بترتيبها الأوّل من 1 إلى 10 هي بنسبة واحد من عشرة بلايين محاولة (2).

مثال آخر

لنفترض أنّ معك كيساً يحوي مائة قطعة رخام تسع وتسعون منها سوداء وواحدة بيضاء والآن هز الكيس وخذ منه واحدة ، انّ فرصة سحب القطعة

ص: 183


1- راجع « اللّه يتجلّى في عصر العلم » : 72.
2- العلم يدعو للإيمان : 51.

البيضاء هي بنسبة واحدة إلى مائة ، والآن أعد الرخام إلى الكيس ، وابدأ من جديد ، انّ فرصة سحب القطعة البيضاء لا تزال بنسبة واحدة إلى مائة ، غير أنّ فرصة سحب القطعة البيضاء مرتين متواليتين هي بنسبة واحد إلى عشرة آلاف ( المائة مضاعفة مرة ).

والآن جرب مرة ثالثة انّ فرصة سحب تلك القطعة البيضاء ثلاث مرات متوالية هي بنسبة مائة مرة عشرة آلاف أي بنسبة واحد من المليون ، وهكذا.

ولنعد الآن إلى أصل البحث فنقول :

لابد لتحقق « ظاهرة الحياة » من توفر عوامل لا تحصى حيث لو فقد أحدها لامتنعت الحياة ولصارت مستحيلة وغير ممكنة ، والآن لنحاسب :

أليس القول بأنّ انفجار المادة الأُولى وبصورة منتظمة تحتوي على كل الشروط والعوامل اللازمة للحياة ، إلاّ أنّه انتخاب احتمال واحد من ملياردات من الاحتمالات ، لأنّه كان من الممكن للمادة الأُولى - أثر الانفجار المذكور - أن تنتهي إلى واحدة من ملياردات الصور الأُخرى من جهة الكم والكيف ، وتبقى من بين تلك الصور الكثيرة صورة واحدة تضمن ظهور الحياة وبقاءها ، وهو الاحتمال المطلوب الذي توفرت فيه الشروط المساعدة للحياة والنظم والترتيب اللازمان ، وأمّا بقية الصورة فلا تصلح لظهور الحياة وبقائها.

إنّ احتمال أن يتحقق خصوص هذا الفرض وهذه الصورة - عقيب الانفجار التصادفي - من بين تلك المحتملات التي لا تعد ولا تحصى لهو ترجيح احتمال في مقابل احتمالات كثيرة ، لا يمكن أن يقع موضع القبول لدى عاقل.

إنّ الآية التي ذكرناها في مطلع هذا الفصل يمكن أن تكون ناظرة إلى مثل

ص: 184

هذا الاستدلال ، أعني : عدم إمكان توفر كل الشروط والعوامل اللازمة للحياة من باب المصادفة.

فإنّ قوله تعالى :

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ والأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْري فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ * وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ * وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (1).

إنّ قول اللّه هذا - مضافاً إلى كونه مشيراً إلى « برهان النظم » يمكن أن يكون تلويحاً إلى عوامل استقرار الحياة على الأرض ، ومذكراً للعقول بأنّه لا يمكن أن تجتمع كل هذه العوامل - مع ما فيها من المحاسبات العلمية الدقيقة - عن طريق المصادفة ومن باب « المصادفة العمياء » دون أن يتدخل في ذلك تدبير « مدبّر عاقل حكيم » ودون أن يكون قد جمعها - على هذا النسق المطلوب المناسب لظاهرة الحياة - « إله خالق » عارف بالأُمور ، محيط بالمحاسبات والسنن.

كما يمكن أن تكون بعض الآيات الأُخر مشيرة إلى هذا البرهان مثل قوله تعالى :

( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَونَهَا ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأجَل مُسَمّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (2).

ص: 185


1- البقرة : 164.
2- الرعد : 2.

وقوله تعالى :

( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغشِي الَّليلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).

فإنّ كثيراً من العلل والعوامل اللازمة لنشوء ظاهرة الحياة قد ذكرت في هذه الآيات ، فهل يمكن أو هل من المعقول والمقبول أنّ كل هذه الشرائط والعوامل اجتمعت دفعة واحدة ودون مخطط سابق ، بل مصادفة ، وأوجدت ظاهرة الحياة على وجه الأرض بنحو اتفاقي تصادفي ؟!!

ص: 186


1- الرعد : 3.

التوحيد الاستدلالي : البرهان العاشر

اشارة

الآيات الآفاقية والأنفسية

دلائل وجود اللّه في الآفاق والأنفس

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللّه ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ ) (1).

لقد جرت العادة - في الكتب الفلسفية (2) والكلامية - أن يستدل بالآية الثانية على المسائل التوحيدية ( أعم من إثبات وجود اللّه ، أو توحيد ذاته ، وصفاته ) ، وجرت عادة الخطباء كذلك على الاستشهاد بها عند تعرضهم لمباحث التوحيد ومسائله.

لأجل هذا يلزم أن نعرف هنا هدف هذه الآية.

فإن كانت الآية الثانية مرتبطة في مفادها بالآية الأُولى ، واعتبرنا السياق ، فإنّ الآية تكون حينئذ في مقام بيان مطلب آخر ليس له كثير ارتباط بالتوحيد ، إلاّ من بعيد.

ص: 187


1- فصلت : 53 - 54.
2- الإشارات : 3 / 66 ، الأسفار : 6 / 26.

توضيح ذلك أنّ محور الحديث في الآية الأُولى هو : القرآن ، وضمير « كان » عائد إلى القرآن إذ يقول تعالى :

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ ( القرآن ) مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) .

وبناء على هذا يجب أن يكون الضمير في الآية الثانية في قوله : ( أَنَّهُ الحَقُّ ) عائداً إلى القرآن ، هذا لو اعتبرنا الآيتين مرتبطتين مفاداً ومتحدتين سياقاً فيكون ملخص الآية الثانية هو : أنّ الآيات الآفاقية والأنفسية التي سيريها اللّه للبشر خير دليل على صدق جميع ما يحتويه القرآن ، لا خصوص « وجود اللّه » أو خصوص « توحيده الذاتي ».

ومعنى ذلك أنّ الآية تعني : أنّ اللّه سيثبت صدق ما جاء به القرآن بنحو كلي من خلال ما سوف يريه الباري سبحانه من الآيات الآفاقية والأنفسية المرتبطة ببيئة المشركين ، والآيات الموجودة في أنفسهم.

إنّ توسّع الإسلام التدريجي في شبه الجزيرة العربية ، وتهافت قلعة الشرك والوثنية على أيدي المؤمنين الموحدين ، وقيام دولة التوحيد في تلكم الربوع ، لهي بجملتها سلسلة من الآيات الآفاقية التي أخبرها بها القرآن ، والتي تثبت مصادفة.

أفليست الآيات القرآنية حملت سلسلة من البشائر والوعود والتنبّؤات التي صرح فيها بوقوع تلك الوعود في المستقبل القريب ، ومنها إخبار القرآن باستقرار حكم اللّه على الأرض بأيدي الموحدين المسلمين والذين آمنوا ، إذ يقول :

( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرضِ ) (1).

ص: 188


1- النور : 55.

إذن يجب علينا أن ننظر كيف عمل اللّه بوعده في استخلاف المؤمنين.

إنّ انتشار الإسلام وتوسعه في عهد النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وبعده لهو أحد تلك الوعود ، والبشائر التي تحقّّقت ، وهو بالتالي إحدى الآيات الآفاقية الدالة على صدق أخبار القرآن الغيبية المستقبلية.

كما أنّ هلاك صناديد قريش وأقطابها وزعمائها في بدر وأحد والأحزاب واندحار النظام الكسروي والقيصري هي الأُخرى من الآيات الأنفسية الشاهدة على صدق أخبار القرآن ومغيّباته.

وبعد تحقّق هذين النوعين من الآيات والعلامات يجب أن لا يشك أحد في صحة القرآن الكريم وصدقه ، لصدق تنبّؤاته ، وصحة دعاويه.

لقد ذكر اللّه تعالى في ذيل الآية الثانية بواحد من أهم أُسس الدعوة القرآنية ، ألا وهو حضور اللّه في كل مكان وشهادته على كل شيء دون استثناء أو أنّ جميع الأشياء تراه وتشهده ، إذ قال :

( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ) .

وعندئذ - أي وفق النظرية التي ذكرناها - لا تكون الآية الثانية ناظرة إلى الاستدلال على وجود اللّه سبحانه عن طريق الآيات الآفاقية والأنفسية ، بل تكون ناظرة إلى صحة دعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله لتحقّق أخباره.

وهذا التفسير - كما قلنا - إنّما يكون وجيهاً ومقبولاً إذا ربطنا بين الآيتين وحافظنا على وحدة السياق بينهما.

وأمّا إذا درسنا الآية الثانية بقطع النظر عن الآية المتقدمة عليها ، أو احتملنا نزول الآية الثانية مرتين : مرة مع الآية الأُولى وبصحبتها ، وأُخرى منفردة وبصورة

ص: 189

مستقلة.

ففي هذه الحالة ( أي في حالة نزولها منفردة مستقلة ) يمكن أن تكون ناظرة إلى دلائل وجود اللّه في الآفاق والأنفس ويكون ذيلها إشارة إلى برهان ثالث.

وحينئذ يكون مرجع الضمير في قوله ( أَنَّهُ الحَقُّ ) هو : اللّه تعالى ، نفسه.

على أنّ ذيل الآية ، أعني قوله تعالى : ( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ) ، أنسب مع هذا التفسير.

توضيح الاستدلال

إنّ جميع الأنظمة البديعة الحاكمة على عالم الكون ، والسنن السائدة على النجوم ، ثابتتها وسيارتها ، والأنواع المختلفة من الموجودات التي تعيش على الأرض.

كل ذلك من الدلائل والآيات الآفاقية على وجود اللّه تعالى.

كما أنّ الأنظمة العجيبة المعقدة الحاكمة في وجود البشر وتكوينه وخلقته منذ نشوئه في رحم الأُم حتى موته أدلة وآيات أنفسية على وجود اللّه سبحانه.

والنظر إلى هذه الدلائل والآيات في الآفاق والأنفس يقود كل عاقل منصف إلى الإذعان بوجود اللّه ، والاعتراف به.

وهذا هو ما تقصده الآية المطروحة هنا.

إلى هنا تم الاستدلال بصدر الآية على وجوده سبحانه عن طريق آياته الآفاقية ، الأنفسية ، وبقي الكلام في ذيل الآية ، أعني قوله : ( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ) ، فيمكن أن يكون إشارة إلى برهان آخر تسمّيه الفلاسفة ببرهان « الصديقين » وننقل كلاماً لابن سينا في المقام.

ص: 190

كلام ابن سينا

لقد قسّم ابن سينا في كتابه « الإشارات » وهو آخر مؤلفاته الفلسفية مضمون هذه الآية الثانية إلى قسمين :

القسم الأوّل قوله : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أنْفُسِهِمْ ) فيقول فيه ما حاصله : أنّها تعني انّنا سنهتدي من وجود آيات اللّه في الكون والأنفس إلى وجود اللّه ، فهو ينطوي على البرهان « الإنّي » وهو الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلة كما نستدل بنزول المطر وصوت الرعد والبرق على وجود السحب الداكنة (1).

القسم الثاني من الآية وهو قوله : ( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ ) ، ففي هذا القسم نكون قد توصلنا عن طريق شهود اللّه إلى معرفة صفاته ، ومن معرفة صفاته إلى أنّ له خلقاً ومخلوقات بهذه الصفة أو تلك (2).

ص: 191


1- ومما يجب التنبيه عليه هو أنّ الشيخ الرئيس قال في كتاب البرهان في منطق الشفاء : إنّ البرهان الإنّي مما لا يفيد اليقين ، وهو ما كان السلوك فيه من المعلول إلى العلّة لتوقف العلم بوجود المعلول على العلم بوجود العلة فلو عكس لدار. وأمّا الاستدلال من الآيات الآفاقية والأنفسية علی وجوده سبحانه وصفاته فعلی وجه آخر لا يسع المقام لبيانه.
2- والاستدلال فيه ليس لمّياً وهو الذي يسلك فيه من العلة إلى المعلول ، إذ ليس الواجب عز شأنه معلولاً ولا إنّياً ، وهو ما يسلك فيه من المعلول إلى العلة أو يتناسب مع السلوك من الآيات الآفاقية والأنفسية إلى خالقها ، بل هو نوع آخر شبيه بالاستدلال من بعض اللوازم على بعضها ، وهذا واضح خصوصاً إذا قررنا البرهان على الطريقة الصدرائية ، إذ فيها يسلك من كون الوجود حقيقة ثابتة بذاتها ، على كونه واجباً لذاته. وإن شئت فسمّه برهاناً انياً تحفظاً علی حضر البرهان في اللم والإن كما عليه سيدنا الأستاذ العلامة الطباطبائي -دام ظله- في تعليقاته علی الأسفار: 29/6.

وهذا النوع من الاستدلال هو استدلال الصدّيقين ، الذي يبدأ بحثه ودراسته في الوجود ، فمنه إليه سبحانه وإلى صفاته وأفعاله ، ثم يختمه في الكائنات ، وسوف نشير في الفصل التالي إلى « برهان الصدِّيقين » على الطريقة السينائية (1).

واكتفاؤنا ببيان هذا البرهان على الطريقة السينائية فحسب ، لأنّ بيانها حسب الطريقة الصدرائية يحتاج إلى ذكر مقدمات خارجة عن هدف هذا الكتاب.

ثم إنّ الحكيم الإسلامي الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي - دام ظله - قد قرر هذا البرهان بوجه رائع ، ربما يكون أفضل مما قرره « صدر المتألّهين » ، فمن أراد أن يقف على تقريره ، فليراجع تعاليقه على « الأسفار » (2) ، وكتابه القيم : « أُصول الفلسفة » (3).

ص: 192


1- ومن أراد أن يقف على تقرير صدر المتألهين فليراجع الأسفار : 6 / 14 - 18 ، والمظاهر الإلهية : 10 ، والمشاعر : 68.
2- الأسفار : 6 / 14 - 15.
3- أُصول الفلسفة : 5 / 277.

التوحيد الاستدلالي : البرهان الحادي عشر

اشارة

برهان الصدّيقين

معرفة اللّه عن طريق معرفة الوجود

يعتقد الفلاسفة المسلمون أنّ بعض الآيات القرآنية ناظرة إلى برهان خاص هو ما اصطلحوا عليه ببرهان الصدّيقين.

وقد تصدّى لتقرير هذا البرهان قطبان من أقطاب العلوم العقلية هما :

1. الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا في كتاب « الإشارات » (1) حيث ذكر هذا البرهان مع مقدماته في ذلك الكتاب في عدة فصول.

وقد أورد المحقّق نصير الدين الطوسي في كتابه الكلامي الشهير المسمّى ب « تجريد الاعتقاد » هذا البرهان باختصار ، وقد تصدى العلاّمة الحلي شارح الكتاب المذكور ، لشرحه وبيانه.

وإليك نص البرهان كما جاء في تجريد الاعتقاد حيث قال المحقّق الطوسي : « الوجود ، إن كان واجباً فهو المطلوب ، وإلاّ استلزمه لاستحالة الدور والتسلسل » (2).

ص: 193


1- 2 / 18 - 28 الطبعة الجديدة.
2- تجريد الاعتقاد : 172 ، طبعة صيدا.

2. صدر المتألّهين مؤلف الأسفار الأربعة ، فقد بيّن هذا البرهان بنحو آخر لا يحتاج إلى أية مقدمات كإبطال « الدور والتسلسل » ثم عد هذا البرهان أفضل البراهين لمعرفة المبدأ تعالى شأنه.

وبهذا الطريق حدثت نقطة عطف في مسألة معرفة اللّه والطريق إلى ذلك.

وسنكتفي هنا بعرض ذلك البرهان وبيانه وتوضيحه على الطريقة السينائية فحسب للسبب الذي ذكرناه في خاتمة الفصل السابق ، موكلين بيان هذا البرهان حسب الطريقة الصدرائية إلى موضع ووقت آخرين.

لقد جاء في كلا التقريرين ( السينائي والصدرائي ) أنّ هناك طائفة من الآيات القرآنية ناظرة إلى هذا البرهان ، وإليك الآيات المذكورة :

( اللّهُ نُورُ السَّماوَاتِ والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللّه لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ واللّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ ) (1).

( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (2).

( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (3).

هذا ويمكن أن تكون هناك آيات أُخرى على هذا الصعيد ، وها نحن نذكر

ص: 194


1- النور : 35.
2- فصلت : 53.
3- آل عمران : 18.

البرهان على الطريقة السينائية :

حاصل البرهان - على ما لخصه صدر المتألّهين - : انّ الموجود ينقسم بحسب المفهوم إلى واجب وممكن ، والممكن لذاته لا يترجّح وجوده على عدمه ، فلابد له من مرجّح من خارج ، وإلاّ ترجحه بذاته ، فكان ترجحّه واجباً بذاته ، فكان واجب الوجود بذاته وقد فرض ممكناً ، وكذا في جانب العدم فكان ممتنعاً وقد فرض ممكناً وهذا خلف ، فواجب الوجود لابد من وجوده.

وبما انّ الموجودات حاصلة فإن كان شيء منها واجباً فقد وقع الاعتراف بالواجب ، وإلاّ وقع الانتهاء إليه لبطلان ذهاب السلسلة إلى غير نهاية ، وبطلان عودها إلى بدئها لكونه مستلزماً للدور وهو باطل لاستلزامه تقدم الشيء على نفسهوذلك ضروري البطلان فلم يبق إلاّ الانتهاء إلى الواجب لذاته وهو المطلوب ، وهذا المسلك أقرب المسالك إلى منهج الصدِّيقين ، وليس بذلك كما زعم (1).

وأمّا تفصيل البرهان :

1. لا ريب انّ وراء ذهننا ، وتصوّراتنا وجوداً خارجياً ، وواقعاً غير قابل للإنكار وإنّ ما يتصوّره الإنسان من الصور الذهنية لها مصاديق خارجية ووجوداً عينياً على صعيد الخارج ، وهذا على خلاف ما يتصوره السوفسطائيون من قصر الوجود والواقعية على مجرد (الصور الذهنية) ، وانّه ليس وراء ذهننا أي شيء ، وأية واقعية ، بل هو خيال في خيال.

وهذا الذي قلناه نحن أمر لا ينكره من لديه أقل حظ من الفكر السليم.

ص: 195


1- الأسفار : 6 / 26.

2. الوجود في أي مرتبة من المراتب لا يخلو إمّا أن يكون واجباً أو يكون ممكناً.

وبتعبير آخر : إمّا أن يكون له ضرورة الوجود ويكون وجوده نابعاً من ذاته ونفسه ، أو لا يكون كذلك بل يكون وجوده من غيره ، ولا شق ثالث لهما.

3. كل شيء ليس وجوده من ذاته ومن نفسه ، فإنّه محتاج في تحقّقه ووجوده إلى « علة » تمنحه الوجود.

وهذا الأمر ، أعني : احتياج الممكن إلى العلة من الأُمور البديهية التي لا يشك فيها من له أدنى حظ من العقل.

4. الممكنات لا يمكن أن توجد من سلسلة لا تنتهي من العلل والمعلولات ، لأنّ ذلك يستلزم « التسلسل ».

كما أنّه لا يمكن أن يؤثر كل من الممكنين في الآخر دون واسطة ، أو مع الواسطة فيؤثر كل في الآخر ، ويعطي كل واحد منها الوجود للآخر ، لأنّ نتيجة ذلك هو الدور ، والدور والتسلسل من المحالات العقلية.

هذه هي الأُسس والقواعد التي يقيم عليها ابن سينا برهانه المذكور : « برهان الصدِّيقين ».

وإليك صورة البرهان

لو أمكن أن يشك أحد منّا في شيء ، فإنّه لا يمكنه أن يشك أبداً في أنّ هناك - خارج أذهاننا - واقعاً موجوداً وعالماً كائناً قائماً.

ثم إنّه لا ريب أنّ هذه الموجودات من سماء وأرض وإنسان أو أي شيء

ص: 196

آخر موجود ، أمّا أن يكون وجودها من لدن نفسها (1) بحيث لا تحتاج في تحققها على صعيد الوجود الخارجي إلى غيرها ، بمعنى أنّه لا تكون معلولة لشيء ، بل يكون وجودها نابعاً من ذاتها ، أو تكون على خلاف هذا الفرض.

أمّا في الصورة الأُولى فنكون قد اعترفنا بوجود « موجود واجب » يكون وجوده نابعاً من ذاته غير آت من غيره ... ، موجود يكون علة دون أن يكون معلولاً لشيء ، وغنياً غير فقير ، لا يكون وجوده مكتسباً من شيء أو أحد سواه.

وأمّا في الصورة الثانية التي يكون وجود الأشياء مفاضاً عليها من غيرها فنحن نسأل عن ذلك « الغير » هل وجوده نابع من ذاته ونفسه ، أي أنّه واجب الوجود ؟

فإن كان كذلك ففي هذه الحالة نكون قد اعترفنا بوجود موجود واجب يسمّى في منطق الإلهيين ب : اللّه.

وأمّا إذا كان هذا الموجود الثاني على نمط الموجود الأوّل في كون وجوده غير نابع من ذاته ، وإنّما هو مكتسب من غيره ففي هذه الصورة ننقل السؤال إلى الموجود الثالث ونطرح عليه ما طرحناه على الثاني ، وهكذا.

وهذه السلسلة إمّا أن تتوقف عند نقطة معينة ، أي عند موجود يكون علة غير معلول ويكون وجوده نابعاً من ذاته لا من غيره فهو المطلوب.

وإمّا إذا لم تتوقف هذه السلسلة من العلل والمعاليل عند حد معين في نقطة معينة ف :

ص: 197


1- أي بحيث لا ينفك عنها الوجود ولا تنفك هي عن الوجود ، فعندئذٍ اعترفنا بأنّ في العالم واجب الوجود.

إمّا أن تمضي إلى غير نهاية بحيث يكون كل واحد من هذه الممكنات قد اكتسب الوجود من سابقه فحينئذ يلزم أن يكون العالم سلسلة غير متناهية من العلل والمعاليل ، ومجموعة من الممكنات دون أن تنتهي إلى موجود واجب الوجود ، وهذا هو « التسلسل » الذي سنثبت بطلانه بالأدلة القاطعة والبراهين المحكمة.

وأمّا أن يعود بأن يكون الواقع في المرتبة المتقدمة متأثراً من الواقع في المرتبة المتأخرة ، وذلك هو « الدور » الذي ثبت بطلانه أيضاً.

ونمثل للصورة الأخيرة بما إذا مضت السلسلة إلى عشر حلقات ولكن الحلقة العاشرة تكون قد اكتسبت وجودها من سابقتها ، فهذا هو « الدور ».

والحاصل أنا إذا نظرنا إلى العينية الخارجية المتيقنة لكل إنسان ، فإمّا أن تكون تلك العينية نابعة من ذاتها غير مفاضة من غيرها ، فقد اعترفنا بوجود واجب قائم بنفسه غير متعلق بغيره ، وهذا ما نقصده من « واجب الوجود ».

وإمّا أن يكون ما نتيقنه من العينية الخارجية مفاضة من غيرها وقائمة بغيرها ، فهذا الوجود الثاني إمّا أن يكون مفاضاً من ثالث ، فرابع ، فخامس إلى غير نهاية ، فهذا هو التسلسل الذي سنبرهن على بطلانه ، وإمّا أن يتوقف فعندئذٍ :

إمّا أن يكون وجود المتوقف عليه نابعاً من ذاته ، فهذا هو الواجب سبحانه وإمّا أن يكون وجوده معلولاً لسابقه فهذا هو « الدور ».

وبتعبير ثالث نقول :

الحاصل أنّ صور المسألة لا تخرج من أربع :

1. أمّا أن تكون العينية الخارجية هي الوجود الأزلي النابع من ذاته غير القائم بغيره ، فقد اعترفنا عندئذ بواجب الوجود.

ص: 198

2. وأمّا أن يكون مفاضاً من غيره ، وقائماً بذلك الغير لكن ذلك الغير قائم بنفسه ، فقد اعترفنا بواجب الوجود ، ولكن في الرتبة الثانية.

3. وأمّا أن يكون الثاني قائماً بالثالث فالرابع فالخامس إلى غير نهاية ، فهذا هو « التسلسل » الباطل.

4. وأمّا أن يكون الأوّل قائماً بالثاني والثاني قائماً بالأوّل وهذا هو « الدور » الثابت بطلانه واستحالته.

صفوة القول : إنّ الوجود الخارجي - مع حذف الصور المستلزمة للدور والتسلسل - إمّا أن يكون « الواجب الوجود » إن كان وجوده لذاته ، أو يكون مستلزماً لمثل ذلك « الوجود الواجب » إن كان وجوده مكتسباً من غيره.

هذا هو توضيح البرهان المعروف ببرهان الصدّيقين والذي راح ابن سينا يعتز به ويفتخر بابتكاره ، ويعتقد بأنّه أفضل برهان على وجود « واجب اللّه ».

ففي هذا البرهان - كما لاحظنا - لم يدرس إلاّ الوجود نفسه.

فمطالعة الوجود وحده هي التي تقودنا إلى واجب الوجود.

ويسمى هذا البرهان ببرهان الصديقين للاستدلال فيه باللّه على نفسه ، لا بالغير عليه تعالى ، وهذا هو غاية التصديق.

إذ في هذا البرهان لم يتخذ النظام الكوني أو وجود المصنوعات طريقاً لإثبات الخالق.

ولذلك يقول ابن سينا.

« تأمّل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأوّل ووحدانيَّته وبراءته عن الصمات إلى تأمل لغير نفس الوجود ، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله وإن كان ذلك دليلاً

ص: 199

عليه. لكن هذا أوثق وأشرف ، أي إذا اعتبرنا حال « الموجود » فشهد به الوجود من حيث هو وجود ، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الواجب.

وإلى مثل هذا أُشير في الكتاب الإلهي في قوله سبحانه : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ) .

أقول : إنّ هذا حكم لقوم ، ثم يقول : ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) إنّ هذا حكم للصدّيقين الذين يستشهدون به لا عليه (1).

هذا ولإكمال البحث نذكر نقطتين هما :

1. لقد جرى الحديث في البرهان المذكور عن بطلان « الدور والتسلسل » ولابد أن نورد هنا التوضيحات اللازمة لمن لا يعرف شيئاً عن هذين المصطلحين وعلة بطلانهما :

ألف. الدور هو أن نفترض موجودين باسم (أ) و (ب) ونعتبر كلا منهما علة لوجود الآخر.

فعندما نلاحظ (أ) نجد أنّ وجوده متوقف على (ب) بمعنى أنّ (ب) كان موجوداً قبل ذلك ليمكنه أن يوجد (أ).

ثم إذا لاحظنا (ب) نجد أن وجوده متوقف على (أ) بمعنى أنّ (أ) كان موجوداً قبل ذلك ليمكنه ايجاد (ب).

ومن الطبيعي أنّ هذا الفرض باطل قطعاً ، لأنّ معنى هذا الفرض هو أن يكون وجود كل واحد منهما متوقفاً على وجود الآخر ومشروطاً بوجوده بحيث يمتنع وجوده ما لم يتحقق وجود ذلك الآخر ، لأنّ التحقّق السابق لكل واحد منهما

ص: 200


1- الإشارات : 3 / 66.

سبب وشرط لتحقّق الآخر ، وحيث إنّه ليس لأي واحد منهما تحقّق ووجود سابق ، فتكون النتيجة لمثل هذا الاشتراط أن لا يتحقّق وأن لا يوجد أي واحد منهما.

ولأجل التوضيح نضرب المثال التالي :

لنفترض أنّ شخصين يريدان حمل متاع معاً ، ولكن كل واحد منهما يشترط بأن لا يأخذ طرفاً من ذلك المتاع إلاّ إذا أخذ الآخر طرفه قبله ، فمن المعلوم - حينئذ - أنّ هذا المتاع لن يحمل - في النتيجة - أبداً ، لعدم تحقّق شرط أي واحد منهما.

والحقيقة أنّ قضية الدور ليست في جوهرها إلاّ كون وجود كل من الحادثين متوقفاً على الوجود القبلي للآخر ، وحيث إنّه لا وجود قبلي لأي واحد منهما قبل الإيجاد من جانب الآخر ، فلن يوجد أي منهما في المآل.

ب. « التسلسل » ليس إلاّ أن تمضي سلسلة العلل والمعاليل إلى ما لا نهاية ، أي ما لا يصل إلى نقطة واحدة معينة تكون علة للجميع ، دون أن تكون معلولاً لشيء ، ويكون موجوداً غنياً غير فقير.

وهذا الفرض هو أيضاً باطل ومحال بالبيان الذي مر في إبطال « الدور ».

لأنّه على فرض التسلسل ، فإنّ الحادثة الأخيرة تكون معلولة للحادثة السابقة عليها ، والحادثة السابقة تكون معلولة لما قبلها ، وهكذا.

وفي الحقيقة فإنّ الحادثة الأُولى التي نواجهها تكون مشروطة الوجود بالحادثة الثانية التي تسبقها والحادثة الثانية تكون متوقفة على الحادثة التي تسبقها ، وهكذا الثالثة على الرابعة ، والرابعة على الخامسة ، وهكذا كلّما نتقدّم فإنّنا لا نقف على موجود غير مشروط بشرط ، بل إنّ هذا الوضع سيستمر إلى ما لا نهاية ، وفي هذه

ص: 201

الحالة فإنّ الحادثة التي نواجهها ليس فقط هي التي لا تتحقق بل ولا تتحقق أية حلقة من هذه السلسلة الطويلة غير المتناهية.

لأنّه لو أُتيح لهذه الحلقات أن تتكلم وتنطق بلسان حالها لقالت الأخيرة : إنّما أتحقّق أنا لو أنّ ما قبلي تحقّق ، وما قبلها تقول : إنّي أتحقّق لو أنّ ما قبلي تحقّق ، وحيث إنّ وجود أية واحدة من هذه الحلقات غير خال عن ال « لو » الشرطية كان معناه عدم تحقّق أي شيء من هذه الحلقات بالمرة ، لأنّنا لن نصل - في هذه السلسلة - إلى حلقة غير مشروطة الوجود بشيء.

فينتج أن لا توجد مثل هذه السلسلة بتاتاً ، اللّهم إلاّ أن يوجد بين حلقات هذه السلسلة ما لا يكون وجوده مشروطاً بشرط أبداً.

فإذا كان هناك مثل هذا الموجود كان معناه حينئذ أنّ هذا الموجود يكون هو « الموجود المطلق » ، أو ما يصطلح عليه ب « الواجب الوجود » ، ومن الطبيعي حينئذ أن ينقطع تصاعد هذه السلسلة ، وينتفي التسلسل.

ولنمثل - لتوضيح هذه الحقيقة - بنفس المثال الذي ضربناه ، أعني : مسألة حمل المتاع.

فلنفترض أنّ الأوّل قال : أنا سأحمل هذا المتاع لو ساعدني عليه الثاني.

وقال الثاني : أنا سأحمله لو ساعدني عليه الثالث.

وقال الثالث : وأنا سأحمله لو ساعدني عليه الرابع.

وهكذا قال الرابع فالخامس فالسادس - مثل ذلك الكلام - إلى ما لا نهاية ، فمن المعلوم أنّ حمل المتاع المذكور لن يتحقّق بالمرّة ما لم يكن في هذه السلسلة من لا يشترط حمل المتاع على شرط.

ص: 202

أمّا إذا تحقّق حمل المتاع المذكور فسنكتشف أنّ هناك - قطعاً - من أقدم على حمل المتاع دون أن يعلّق مساعدته وحمله على شرط.

وبعبارة مختصرة حيث نجد أنّ هذه السلسلة تحقّقت بتحقّق آخر حلقاتها نكتشف وصول هذه السلسلة إلى حد معين ونقطة معينة لم يكن وجودها مشروطاً بشرط ، ولا متوقفاً على شيء ، وهذا هو واجب الوجود والموجود المطلق.

* * *

2. الآيات التي أتينا بها في مطلع هذا الفصل قابلة للتطبيق على هذا البرهان بنحو ما ، إذ لو تمكنا من ملاحظة الوجود نفسه ملاحظة دقيقة أمكن أن نصل إلى اللّه وأمكن أن نعتبر قوله تعالى : ( أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ناظراً إلى هذا المعنى.

أي انّه شاهد على كل شيء حتى نفسه وذاته ، أو مشهود لكل الأشياء عموماً وللإنسان المتفكر في الوجود خصوصاً.

كما أنّه يمكن أن يقال بأنّ شهادة اللّه على وحدانيته (1) على غرار شهادته على وجوده ، لا تعني إلاّ أن نطالع ونلاحظ نفس الوجود لنصل إلى هذه الحقيقة.

إنّ ملاحظة نفس الوجود تشهد على وجود اللّه ، وأما كيف تشهد على وحدانيته ، فسيوافيك بيانه في فصل التوحيد الذاتي.

كما أنّ آية سورة النور ، لو قلنا بقابلية انطباقها على هذا البرهان يكون المقصود من أنّ ( اللّهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ ) حينئذ أنّ وجود اللّه هو واقع هذا العالم ، أو أنّه واهب « الواقعية » للممكنات.

ص: 203


1- اشارة إلى الآية 18 من سورة آل عمران : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ) .

ومطالعة الوجود هي التي توصلنا إلى هذه « الواقعية ».

والحق أن يقال : انّ استخراج مثل هذا المراد من الآية المذكورة أخيراً ما هو إلاّ من قبيل التأويل ، أو اكتشاف بعد من أبعاد القرآن ، الكثيرة لا أنّه تفسير لظاهر الآية.

وعلى كل حال ، سواء أكان تطبيق مفاد الآيات المذكورة على هذا البرهان صحيحاً وصائباً أم كان من قبيل التأويل واكتشاف بعد جديد من أبعاد الآيات فإنّ برهان الصدّيقين - في حد ذاته - وعلى الطريقة السينائية برهان واضح ، وقابل للاعتماد عليه بل وجدير بالاهتمام.

ونأمل أن نعرض الطريقة الصدرائية منه في فرصة أُخرى بإذن اللّه.

ص: 204

التوحيد الاستدلالي : البرهان الثاني عشر

آيات اللّه في عالم الطبيعة

إنّ القرآن الكريم يدعونا إلى التفكّر والتدبّر والنظر في آيات اللّه في عالم الطبيعة والخلق ويعتبر مثل هذا النظر والتفكّر جديراً بأهل الفكر والألباب وأصحاب الضمائر الحية والعقول السليمة (1).

والآيات القرآنية في هذا المجال من الكثرة بحيث لا يمكننا نقل عُشرها في هذه الصفحات القلائل ، ولذلك سنقتصر على إيراد نماذج معدودة منها ، ثم نتحدث عن أهداف هذا القسم من الآيات فيما بعد.

وإليك الآن هذه النماذج التي وعدناك بها :

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ والأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْري فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللّه مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (2).

ص: 205


1- ( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ( البقرة : 164 ) ( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( الرعد : 3 ) ( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( إبراهيم : 25 ) ( لأُولِي الألْبَابِ ) ( ص : 43 ).
2- البقرة : 164.

هذه الآية تدعونا إلى التدبّر في أُمور عديدة :

1. النظر في العالم من أرض وسماء واختلاف الليل والنهار.

2. التدبّر في أمر صناعة السفن ، والتدبّر في منافعها الاقتصادية.

3. التفكّر في الكائنات الجوية ، كالرياح والسحاب والمطر ، وعلل تكوّنها.

4. التدبّر في الأحياء والدواب التي تعيش على وجه البسيطة ، والذي يؤلِّف أساس علم الأحياء.

إنّ للتدبّر في هذه الأُمور والأشياء نتائج مهمة ، ويمكن أن يكون منشأ لمعرفة سلسلة من المعارف والعلوم.

فماذا تهدف هذه الآية من دفعنا إلى التدبّر في هذا النظام البديع ؟

هل تهدف إلى أن نهتدي من التدبّر في هذا النظام البديع إلى مبدعه وصانعه ؟

أو أن نتعرّف على صفاته تعالى من هذا السبيل كالقدرة والعلم ؟

أمّ أنّ الهدف هو شيء ثالث وهو : أن نوحّده في العبادة بعد أن وقفنا على أنّه سبحانه هو خالق هذا النظام البديع وتعرفنا على مدى علمه ، فتكون هذه الآية في الحقيقة دعوة إلى « التوحيد العبادي ».

هذه الاحتمالات الثلاثة ليست مطروحة في هذه الآية فحسب ، بل هي مطروحة ومحتملة في كل الآيات التي تشير إلى النظام الكوني والقدرة الإلهية الكبرى في عالم الطبيعة.

( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ

ص: 206

فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغشِي الَّليلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).

هذه الآية تدعونا إلى التدبّر والنظر في أُمور معينة ، ومن المعلوم أنّ للتدبّر في هذه الأُمور نتائج مختلفة متنوعة :

وأمّا هذه الأُمور فهي :

1. كيف امتدت الأرض واتّسعت ؟

2. كيف ولماذا وجدت الجبال والأنهار في الأرض ؟

3. كيف خلقت الثمار أزواجاً ؟

4. كيف يختلف الليل والنهار ؟

إنّ التدبّر في هذه الأُمور كما يمكن أن يقودنا إلى معرفة وجود اللّه سبحانه ، كذلك يدلّنا على علم اللّه وقدرته ، وكذا على وحدانية مدبّر الكون أيضاً ، ذلك لأنّ وحدة النظام وترابط أجزائه يكشف عن حاكمية إرادة واحدة على عالم الكون ، ولو كان هناك آلهة متعدّدون لتعرض هذا النظام للفوضى والفساد والتبعثر ...

كما أنّ التعرف على مركز القدرة وصاحب التدبير الحقيقي من شأنّه أن يوقظ ضمائرنا ويدفعنا - بالتالي - إلى عبادة هذا الخالق الحقيقي والمدبّر الواقعي للكون دون سواه.

( وَفِي الأرض قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَاب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَومٍ يَعْقِلُونَ ) (2).

ص: 207


1- الرعد : 3.
2- الرعد : 4.

هذه الآية تدعونا إلى التدبّر في الأُمور التالية :

1. الأرض رغم كونها متصلة ببعضها ، فإنّ قسماً منها صالح للزراعة ، وقسماً آخر غير صالح للزراعة ، منها الخصب ، ومنها الجدب ، فما هو السبب ؟

2. في كثير من المزارع والبساتين توجد ثمار متنوعة ومختلفة ، من عناقيد العنب وأعذاق التمر ، وسنابل القمح إلى غير ذلك من ألوان الثمر والنباتات.

فلماذا - ترى - هذا التنوّع والاختلاف في الألوان ، والتراب واحد ، والماء واحد ، وأشعة الشمس تتساقط على الجميع بصورة متساوية ، والمنطقة واحدة ، والظروف كذلك واحدة ؟

3. رب ثمار بستان واحد تختلف فيما بينها في النوعية والجودة ، فلماذا ذلك ؟

إنّ التدبّر والنظر والتفكير في هذه الأُمور الثلاثة لا ريب تستتبع نتائج هامة ثلاث :

أ. أنّ هذه المشاهد الجميلة للبساتين التي تمثّل معرضاً طبيعياً لأجمل اللوحات تكشف - ولا ريب - عن وجود صانع وخالق رسم بريشته الخفية هذه النقوش الرائعة الجمال في صفحة هذه البساتين الزاهية المناظر.

ب. أنّ هذه المعارض الجميلة ذات النقوش المتناسقة تكشف - أيضاً - عن علم صانعها وقدرته المطلقة.

ج. أنّ صاحب هذه النقوش البالغة الروعة وهذه المعارض والمشاهد الجميلة هو اللّه فهو الذي أوجد هذه المعارض والنقوش ، فلماذا إذن لا نعبده وحده ، ولماذا نعبد سواه مما لا يكون لا خالقاً ولا مدبّراً.

إنّ الآيات التي تتضمن بيان النظام الكوني البديع والسنن الإلهية في عالم

ص: 208

الطبيعة التي لا تقبل تحويلاً ، وتغيراً ، من الكثرة والوفور بحيث لا يمكن نقلها جميعاً في هذه الصفحات ، ولكنّنا عرّفنا القارئ الكريم على نماذج منها ، ولمزيد الاطّلاع يراجع « المعجم المفهرس » مادة : « آية ».

فمثلاً ذكرت في سورة الروم دلائل وجود اللّه في ست آيات ، وكلها تبدأ بكلمة : ( وَمِنْ آياتِهِ ) ، وإليك فيما يلي هذه الآيات نصاً :

( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِِهِ خَلْقُ السَّماوَاتِ والأرض وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفَاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْىِِ بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَومٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتهِِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ والأرض بِأَمْرِه ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرض إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجونَ ) (1).

لا شك أنّ هذه الآيات تتركز - في الأكثر - على إيقاظ الوجدان البشري وتوجيهه إلى صفات اللّه ، والتأكيد على أنّه هو الإله الواحد العالم القادر المدبّر الرحيم.

وقد ذكرت هذه النتائج في ذيل الآيات ، التي تبدأ في القرآن بكلمة ( وَمِنْ آياتِهِ ) . (2)

ص: 209


1- الروم : 20 - 25.
2- راجع المعجم المفهرس.

وفي سورة النحل توجد سلسلة من الآيات التي تشير هي أيضاً إلى جوانب من النظام الكوني العجيب البديع وكيفية انتفاع البشر بها ، وتبدأ هذه الآيات بقوله : ( هُوَ الَّذِي ) :

( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذِلَكَ لآيَةً لِقَومٍ يَتَفَكّرونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللّيلَ والنهارَ والشمس والقمر والنجومُ مُسَخَّراتٌ بأمرِهِ إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحَرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَريّاً وتسْتَخْرجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأرضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) (1).

ثم يستنتج القرآن من كل ذلك بقوله : ( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) (2) ، إنّ هذه الآية الأخيرة تكشف عن أنّ الهدف من تلك الآيات هو الدعوة إلى التوحيد « العبادي » ، ولأجل ذلك صدرت الآية الحاضرة بفاء النتيجة ، لأنّ بعض مشركي العرب رغم علمهم بأنّ اللّه هو الخالق والمدبّر للكون ، كانوا يعبدون آلهة مدّعاة مصطنعة ، ولذلك يعني التذكير بمظاهر القدرة الإلهية في عالم الطبيعة ، إيقاظ ضمائرهم الغافلة ، وإثارة عقولهم الغافية ، كيما يتذكروا أنّ العبادة لا تصح إلاّ لله سبحانه دون سواه ، وأنّ ما يعبدون من دونه عاجزون ضعفاء لا

ص: 210


1- النحل : 10 - 16.
2- النحل : 17.

يملكون ضراً ولا نفعاً.

وقد يكون الهدف من التذكير بالنظام الكوني البديع هو التمهيد لطرح موضوع المعاد والحياة الأُخرى ، لكي لا ينكر الإنسان المعاد ، أو لا يستبعد وقوعه بعد وقوفه على مظاهر وآثار القدرة الإلهية في عالم الكون ، إذ صرح سبحانه بهذا الاستنتاج بقوله :

( ... ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعوةً مِنَ الأرض إذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) (1).

وعلى هذا الأساس فإنّ الاستدلال بهذه الآيات على وجود اللّه يجب أن يكون بصورة ضمنية لا بصورة أنّه الهدف الأصلي لها ، لأنّه إذا كانت أجزاء هذا الكون ، من صغيرها إلى كبيرها ، من دقيقها إلى جسيمها ، تشهد بثبوت صفة القدرة والعلم لله تعالى ، وإذا تعرفنا من خلالها على جماله وكماله سبحانه ، فإنّ من القطعي البديهي أن تهدينا إلى « أصل وجوده » ، ويثبت لنا ذلك بما لا يقبل الشك ، كما تهدينا إلى أنّه المعبود دون غيره ، وانّه وحده يستحق العبادة.

إنّ الطريق الواضح لمعرفة اللّه والذي يتناسب مع أذهان كل الطبقات هو « البحث حول أنظمة الكون الدقيقة العجيبة البديعة » التي تشهد بلسان حالها على وجوده وتوحيده وسائر صفاته العليا :

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنّه واحد

ص: 211


1- الروم : 25.

التوحيد الاستدلالي - البرهان الثالث عشر

الحيوانات والهداية الإلهية

( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (1).

من الأدلّة التي يقيمها القرآن الكريم لمعرفة اللّه هي تلك الهداية التي تشمل مخلوقات الكون وأحياءه بحيث تهتدي - بهذه الهداية - إلى طريقها ، وتختار ما يصلحها ، ويناسبها في ظل هذه الهداية الإلهية.

وهذا هو ما أشار إليه النبي موسى بن عمران علیه السلام ، واصفاً اللّه تعالى عندما سأله فرعون عن ربه ؟ فأجابه بالآية السابقة.

فاهتداء الحيوانات - مثلاً - إلى طريقها التي تضمن حياتها وبقاءها دون أن تعرف معلماً أو مدرسة ، أو تتلقّى معلوماتها عن طريق الوراثة أو ما شابه ، أمر يدلّ على وجود هاد يهديها ، ومرشد يوجّهها إلى ما يضمن بقاءها واستمرار وجودها ، ومواصلة السير إلى هدفها دون أن تخطأ.

إنّ « اهتداء » هذه الحيوانات إلى ما يناسب طبيعتها ويوافق خلقتها لا يمكن أن يكون بفعل الوراثة ولا بفعل الغريزة كما يدّعي البعض.

ص: 212


1- طه : 50.

أمّا أنّها لا يمكن أن تكون عن طريق الوراثة ، فلأنّ المعلومات لا يمكن أن تنتقل من أحد إلى أحد من هذا الطريق ، وإلاّ لكان ابن الطبيب طبيباً بالوراثة ، ولكان ابن العالم عالماً بالوراثة حتماً دون أن يتلقّى العلم أو الطب من أحد.

وأمّا أنّ هذه الحيوانات لا تفعل ما تفعل بتأثير الغريزة فقط ، فلأنّ الغريزة لا يمكن أن تخضع للانتخاب والاختيار ، بينما نجد كثيراً من هذه الحيوانات عندما تواجه مفترق طرق متعدّدة تختار إحداها بفعل ما تتلقّاه من الهداية والتوجيه ، وهذه الهداية التي تعين الحيوانات على الانتخاب والاختيار هو ما يسمّى في منطق القرآن بالوحي أو ما سمّاه بعض العلماء ب « الإلهام » (1).

ونمثّل لهذا الأمر بما جاء حول النحل في القرآن الكريم ، إذ يقول :

( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوم يَتَفَكَّرُونَ ) (2).

فحشرة النحل الصانعة لألذ الأشياء وأطيبها ، نعني : العسل ، تبدأ عملها منذ أن تخرج من البيض دون تعب وملل ، وفي ذكاء مفرط ، وانضباطية فائقة.

فتختار - في ذكاء - أفضل وأطيب الزهور وتمتص عصارتها بنحو عجيب ، وتصنع للبشر شهداً من أطيب الشهد.

وتصنع بيوتها سداسية الشكل في نظم لا يخطئ ، وعلى فواصل دقيقة لا تزيد ولا تنقص.

ص: 213


1- راجع كتاب العلم يدعو للإيمان : 116.
2- النحل : 68 - 69.

ويلاحظ أنّها قبل أن تمتص الزهور تقوم بعملية انتخاب وتفتيش عن الزهرة المناسبة لها ، وهذا - كما نرى - لا يصدر إلاّ من موجود ملهم ، موحى إليه ، موجَّه بتوجيه أعلى ، لأنّ في أعمالها ما يتجلّى منه القصد والهدفية ، وهذا من خصائص « الإلهام » ليس إلاّ.

ومن هنا ندرك معنى قوله تعالى :

( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) .

يقول العلامة كريسي موريسون حول عجائب ما تفعله نحلة العسل :

« إنّ العاملات من نحل العسل تصنع حجرات مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية ، وتعد الحجرات الصغيرات للعمال ، والأكبر منها لليعاسيب ( أي الذكر من النحل ) وتعد غرفة خاصة للملكات الحوامل ، والنحلة الملكة تضع بيضاً غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكور وبيضاً مخصباً في الحجرات الصحية المعدة للعاملات الإناث والملكات المنتظرات.

والعاملات اللائي هي إناث معدلات بعد أن انتظرن طويلاً مجيء الجيل الجديد ، تهيّأن أيضاً لإعداد الغذاء للنحل الصغيرة بمضغ العسل واللقح ، ومقدمات هضمه ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة معينة من تطور الذكور الإناث ولا يغذين سوى العسل واللقح ، والإناث اللائي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات فيما بعد.

أمّا الإناث اللائي في حجرات الملكة فإنّ التغذية بالمضغ ومقدمات الهضم تستمر عندهن ، وهؤلاء اللائي يعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطورن إلى ملكات نحل ، وهن وحدهن اللائي ينتجن بيضاً مخصباً ، وعملية تكرار الإنتاج هذه

ص: 214

تتضمن حجرات خاصة وبيضاً خاصاً ، كما تتضمن الأثر العجيب الذي لتغيير الغذاء. وهذا يتطلب الانتظار والتمييز وتطبيق اكتشاف أثر الغذاء » (1).

ويقول كريسي موريسون عن النحلة في موضع آخر من كتابه :

« والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار كل ذلك دليل يرى ، وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الإنسان ، ولكنه يكمل عتاده القليل منها [ ويصل إلى مقصده ] بأدوات الملاحة » (2).

ومن المعلوم أنّ هذه الأعمال المقصودة الدقيقة التي تقوم بها حشرة النحل دون أن تخطىء أو تضل عن طريقها لو كانت بدافع الغريزة ، وتحت تأثير الجبلة والخلقة لما حسن أن يقول اللّه : ( وَأوحَى ) ، والوحي كما نعلم نوع من التوجيه المباشر الإلهي للمخلوق الحي ، ونوع من الخطاب الصادر من جانب اللّه إلى الموحى إليه.

ويدل على ما قلناه توجيه الخطاب إلى النحل بقوله : اتخذي ، وكلي ، واسلكي.

إنّ ما تفعله هذه الحشرة الذكية وكلّ الحشرات المثيلة لها كالنمل - مثلاً - خير دليل على وجود هاد لها ، يوحي إليها ما يوحي ، ويهديها إلى سبل حياتها.

فها هو القرآن الكريم يتحدث لنا عن النمل في قصة مواجهتها لعرش سليمان بما يكشف لنا عن فطنة هذه الحشرة ، الكاشفة هي بدورها عن « الهداية العليا » التي تحيط هذه الحشرة بالعناية والرعاية.

ص: 215


1- العلم يدعو للإيمان : 114 - 118.
2- العلم يدعو للإيمان : 114 - 118.

فالقرآن يخبرنا أنّ نملة لما شاهدت جنود سليمان وأدركت الخطر نبهت بني جنسها بذلك :

( قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ) (1).

وهي قصة تكشف عن أنّ النملة تدرك بفعل الإلهام الإلهي ما يحيق بها من أخطار فتتحذر منها وتحذر بني نوعها.

ولنلقي نظرة على ما يقوله كريسي موريسون في كتابه المذكور عن النمل :

« والنحل والنمل يبدو أنّها تدرك كيف تنظم وتحكم نفسها ، فلها جنودها وعمالها وعبيدها ويعاسيبها.

إنّ هناك أنواعاً من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير إلى زرع أعشاش للطعام.

والنمل يأسر طوائف من الدود ويسترقها.

وبعض النمل حين يصنع أعشاشه يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب.

كيف يتاح لهذه الحشرة أن تقوم بهذه العمليات المعقدة ؟!

لا شك أنّ هناك خالقاً أرشدها إلى كل ذلك (2).

ترى في أية مدرسة وأي معهد تلقّت النمل وغيرها من الحشرات هذه

ص: 216


1- النمل : 18.
2- العلم يدعو للإيمان : 130 - 132.

المعلومات.

ومن أي شخص تعلّمت كيف تعرف الخطر وتشخص البلايا وتحذر منها أبناء نوعها.

أم بماذا يمكن تفسير هذا التمييز والقصد والاختيار الذي تتصف بها تصرفات النمل والنحل وما سواهما من الحشرات ؟

هل ذلك إلاّ بوحي من خالقها وإلهام من بارئها وصانعها ؟

ولكي نقف على المزيد من هذه النماذج التي تدل على وجود الهداية الإلهية والإرشاد الرباني في عالم الحيوانات نقرأ معاً ما يقوله العلاّمة موريسون حول بعض الحيوانات.

فمثلاً يقول موريسون عن سمك « السلمون » :

« إنّ سمكة السلمون التي تسبح في النهر صعداً إذا نقلت إلى نهر آخر ، أدركت تواً أنّه ليس جدولها ، فهي تشق طريقها خلال النهر ، ثم تحيد ضد التيار قاصدة إلى مصيرها.

فما الذي يجعل السمك يرجع إلى مكان مولده بهذا التحديد ؟ » (1).

ويكتب حول بعض الحيوانات التي تسارع إلى تعويض ما فقدته من الأعضاء فيقول :

« وكثير من الحيوانات هي مثل سرطان البحر الذي إذا فقد مخلباً ، عرف أنّ جزءاً من جسمه قد ضاع وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل

ص: 217


1- المصدر نفسه : 120.

الوراثة ، ومتى تم ذلك كفت الخلايا عن العمل لأنَّها تعرف بطريقة ما أنّ وقت الراحة قد حان » (1).

ويشير موريسون إلى صفة انطباق الحيوانات مع المحيط والبيئة ، فيقول عن هذه الصفة في مجال الخلايا :

« وقد يمكن السؤال عما إذا كان للخلايا فهم وإدراك أم لا.

وسواء اعتقدنا أنّ الطبيعة قد زودت الخلايا بالغريزة - مهما تكن هذه - أو بقوة التفكير ، أم لم نعتقد ذلك ، فلا مناص لنا من الاعتراف بأنّ الخلايا ترغم على تغيير شكلها وطبيعتها كلها ، لكي تتمشى مع احتياجات الكائن الذي هي جزء منه ، وكل خلية تنتج في أي مخلوق حي يجب أن تكيف نفسها لتكون جزءاً من اللحم ، أو أن تضحي نفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى ، وعليها أن تضع ميناء الأسنان وأن تنتج السائل الشفاف في العين أو أن تدخل في تكوين الأنف أو الآذان.

ثم على كل خلية أن تكيف نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أُخرى لازمة لتأدية مهمتها.

ومن العسير أن نتصور أنّ خلية ما هي ذات يد يمنى أو يسرى ، ولكن إحدى الخلايا تصبح جزءاً من الإذن اليمنى ، بينما الأُخرى تصبح جزءاً من الأُذن اليسرى » (2).

أليس كل هذا يكشف عن وجود القصد والتمييز في هذه الموجودات

ص: 218


1- المصدر السابق : 124.
2- المصدر السابق : 103.

الحية ؟

وهل هذا إلاّ تفسير قول النبي موسى علیه السلام ، إذ قال : ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ؟

يبقى أن نعرف أنّنا نستطيع استنتاج وجود مثل هذا الإلهام والوحي والتوجيه الإلهي الموجّه إلى الحيوانات من قول موسى علیه السلام ، إذ يذكر في كلامه أوّلاً ما يتعلّق بالجانب الخلقي الغريزي في الحيوانات بقوله :

( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ) .

ثم أشار إلى ذلك الإلهام والوحي الإلهي بقوله :

( ثُمَّ هَدَى ) .

بتقريب أنّ في الفصل بين الجملتين ( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ) و ( هَدَى ) ب ( ثُمَّ ) التي هي للعطف المتراخى المتأخّر ، دلالة أدبية على أنّ هذه الهداية لم تخلق مع الحيوانات والحشرات بنحو فطري وجبلي ، بل هي هداية تصل إلى الحشرات عندما تحتاج إلى مثل هذه الهداية وعندما تواجه ما يضطرها إلى مثل هذا التوجيه والإرشاد الربانيّين ، فحينئذ تأتيها هذه الهداية وينزل إليها ذلك الوحي والإلهام.

إنّنا نستطيع أن نكتشف آثار هذه الهداية وهذا الالهام في عالم الحشرات بجلاء ووضوح ، إذا قايسناها بوليد الإنسان الذي لا يعرف شيئاً عندما يولد ، ولا يمكنه أن يقوم بأي عمل إلاّ بعد مدة من التربية والرشد ، وإلاّ بعد فترة من التعلم والدراسة ، وتلقّي المعلومات والمعارف في المدارس والمعاهد ، وإلاّ بعد سلسلة طويلة من التجارب والأخطاء والهفوات.

ص: 219

وخلاصة القول : إنّنا نلاحظ في فعاليات هذه الحشرات عدة أُمور :

أ. أنّ هذه الحشرات تعرف احتياجاتها وطريق رفعها ، بدون معلم مشهود ومنظور.

ب. أنّ هذه الأحياء تعرف - على وجه الدقة - أُصول تقسيم أعمالها ، وانتخاب وظائفها وطرق تنفيذها على أحسن وجه وبصورة جماعية.

ج. أنّ هذه الأحياء تسعى دوماً إلى تطبيق نفسها مع الأوضاع المحيطية المتغيرة ، بل وتحدث هي بعض التغييرات في جسمها وأعضائها.

وأمام هذه الظاهرة العجيبة ، لنا أن نختار إحدى طرق ثلاث :

1. أمّا أن نحتمل بأنّ هذه الأحياء تملك بنفسها من العقل والإدارك والفهم ما لم يكتشف الإنسان إلاّ جزءاً ضئيلاً يساوي واحداً بالمائة منها.

غير أنّ هذا الاحتمال لا يمكن أن يركن إليه ، لأنّ الخلايا النباتية والحيوانية لا تملك العقل والفهم لتعالج مشاكلها على ضوئهما.

ومن هنا يتضح سبب عدم إدخالنا للإنسان في أمثلة هذا الفصل ، واقتصارنا على الحشرات كالنحل والنمل وما شابههما ، لأنّ الإنسان إنّما يقوم بأعماله على ضوء ما أُوتي من عقل وفكر ، بمعنى أنّ بيولجيته وخلاياه ودماغه الكبير والمفكّر هي التي تضيء له سبيل حياته دون حاجة إلى إلهام من العالم الأعلى ووحي من خارج.

هذا أمر أدركه البشر ذاته ، وهي بالتالي فكرة واردة في شأن الإنسان.

أمّا بالنسبة إلى هذه الحيوانات والحشرات فلا يمكن أن يخطر ببال أحد أنّها تملك عقلاً وفكراً ، أو لا يمكن أن يخطر لأحد بأنّ الخلايا النباتية والحيوانية تملك -

ص: 220

ذاتياً - ذلك الفهم والفكر والشعور الهادي وتكون - هي بذاتها - موجدة للأفكار التي تعين تلك الأحياء على الاهتداء إلى سبل حياتها.

وحيث إنّ هذا الاحتمال لا يمكن أن يكون وارداً وصحيحاً ، لذلك لابد أن نسلك طريقاً آخر بأن نقول :

2. انّ طبيعة البناء الميكانيكي والتركيب المادي لهذه الأحياء تكفي - دون شيء آخر - لإيقاع هذه الأعمال ، ونقول بالتالي : إنّ اهتداء هذه الأحياء وما سوى ذلك من الأعمال التي ذكرناها والتي نشاهدها في عالم النمل والنحل وحشرة الموروفيل أو الاسفنج البحري ، كل ذلك إنّما هو نتيجة انتظام الأجزاء والعناصر الجسمانية لهذه الأحياء وانضمامها إلى بعض بنحو يؤدي ذلك النظم والتركيب الخاص إلى صدور هذه العمليات والأفعال من هذه الأحياء بصورة تلقائية لا إرادية.

وبعبارة أُخرى : أنّ الخواص الفيزياوية والكيمياوية لخلايا هذه الأحياء هي التي تقتضي وتوجب هذه السلسلة من الأعمال والنشاطات دون تدخل من خارج.

وفي هذه الصورة لن يكون موضوع « اهتداء » هذه الأحياء إلى سبيل حياتها دليلاً مستقلاً على وجود اللّه ، بل يندرج تحت عنوان « برهان النظم » لكونه مسألة ترجع إلى النظم ، فقد جهّزت خلقة هذه الأحياء بجهاز متين على نظم خاص رصين يقدر معه وبفضله على القيام بشؤون حياته كالأشجار فيكون اهتداؤها ليس إلاّ مقتضي كيفية تركيب أجزائها.

3. أن نختار ما اختاره بعض المحقّقين إذ قال ما خلاصته : إنّ الحركات

ص: 221

والفعّاليات الصادرة من أي جهاز من الأجهزة إنّما يمكن التنبّؤ بها من قبل ما دامت ترتبط بنفس ذلك الجهاز وتركيبته ، بمعنى أنّ نفس الجهاز المادي وتشكيلاته الداخلية تكون كافية لأن تكون الإحاطة به سبباً للتنبّؤ بأعماله وفعالياته.

وبعبارة أُخرى : انّ ما تقوم به هذه الحشرات من الأعمال البديعة إنّما تصح نسبتها إلى الجهاز الميكانيكي إذا كان ذلك الجهاز كافياً في صدور تلك الأعمال منها بأن يكون نفس نظام ذلك الجهاز وكيفية تركيبه كافياً في القيام بهذه الأعمال.

وأمّا عندما يصل الأمر إلى موضع لا يجب أن يقوم ذلك الجهاز فيه بفعل مخصوص بل يواجه مفترق طريقين ، ومع ذلك يختار أحد الطريقين مما يكون موصلاً إلى الهدف فهناك لابد من الإذعان بأنّ مجرد النظم المادي لذلك الجهاز غير كاف لاختيار أحد الطريقين دون سواه ، بل انّ هذا النوع من الاهتداء والانتخاب كاشف عن وجود رابطة خفية بين الجهاز المذكور وبين مصيره ، وأنّ هذه الحقيقة ، أعني : الابتكار والابتداع ، دليل على الهداية من النوع الثاني « أي الذي لا يرتبط بنفس الجهاز ونفس نظامه وتركيبه العضوي » بل يرتبط بهداية عليا.

إنّ آلة حاسبة يمكن أن تصنع وتنظم بشكل تؤدي كل عمليات الجمع والطرح والضرب والتقسيم الحسابية بدقة متناهية ، ولكن من المستحيل أن تقدر هذه الآلة الحاسبة على القيام بابتكار وابتداع قاعدة رياضية واحدة.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى آلة ترجمة فإنّها قادرة على ترجمة كلام شخص أو مقالة ، ترجمة دقيقة متقنة ، ولكن نظمها لا يقدر - أبداً - على تصحيح أخطاء ذلك

ص: 222

القائل والقيام بعمل ابتكاري ، وابداعي من هذا النمط (1).

ونستخلص مما سبق أنّ القدرة الغيبية الخفية التي تهدي هذه الأحياء ، قوة واسعة مطلقة تحيط علماً بكل الحشرات ، إحاطة شاملة كاملة وهي عنده بمنزلة سواء.

وتلك القوة الهادية العظيمة ليست سوى اللّه تعالى أو سائر القوى الغيبية المدبّرة لأُمور الكون العاملة بإذن اللّه ومشيئته ، التي أُنيطت إليها هداية هذه الحشرات وإرشادها وتوجيهها.

وأخيراً لابد من الإشارة إلى نكتة مهمة وهي :

أنّ هذا البرهان سواء رجع إلى برهان النظم بمعنى أنّ أعمال هذه الأحياء ما هي إلاّ نتيجة النظم المادي الحاكم على تركيبتها المادية ، وتشكيلاتها الداخلية ، أو قلنا بأنّ هناك قوة هادية هي التي تقوم بهداية هذه الحشرات إلى تلك الأعمال والمواقف العجيبة ، وتساعدها في هذه الابتكارات والإبداعات فيكون هذا برهاناً مستقلاً بنفسه.

أقول : سواء كان هذا أم ذلك فإنّ مما لا شك فيه انّ دراسة « الأحياء » في حد ذاتها واحدة من سبل معرفة اللّه وإحدى الطرق للتعرف عليه.

وقد اعتمد القرآن على ذلك في غير الآية المذكورة - في مطلع بحثنا هذا - إذ يقول - في موضع آخر - مخبراً عن اللّه بأنّه :

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) (2).

ص: 223


1- راجع تعاليق أُصول الفلسفة للأُستاذ الشهيد مرتضى مطهري : 49 - 51.
2- الأعلى : 2 - 3.

والجدير بالذكر أنّ الإمام علياً علیه السلام أشار إلى هذا البرهان ذاته عندما تحدّث عن خلقة النمل قائلاً :

« ولو فكروا في عظيم القدرة ، وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ، ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة !

ألا ينظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر ، وسوى له العظم والبشر ؟

انظروا إلى النملة في صغر جثتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبتّ على أرضها ، وصبت على رزقها ، تنقل الحبة إلى جحرها ، وتعدّها في مستقرها ، تجمع في حرّها لبردها ، وفي ورودها لصدرها ، مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنّان ، ولا يحرمها الديّان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس !

ولو فكرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها وأذنها ، لقضيت من خلقها عجباً ، ولقيت من وصفها تعباً ! فتعالى الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ! لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه في خلقها قادر ، ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلاّ على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كل شيء وغامض اختلاف كل حي ، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء ».

وفي سياق هذا الكلام يقول الإمام علیه السلام :

ص: 224

« وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان » ؟ (1).

وتبعه في ذلك الإمام الصادق علیه السلام حيث ذكر في أماليه التي أملاها على تلميذه « المفضل » إذا قال عن النحل مثلاً :

« انظر إلى النحل واحتشاده في صنع العسل ، وتهيئته البيوت المسدّسة ، وما ترى في ذلك من دقائق الفطنة ، فإنّك إذا تأمّلت العمل رأيته عجيباً ، وإذا رأيت المعمول ( أي العسل ) وجدته عظيماً شريفاً موقعه من الناس.

وإذا راجعت إلى الفاعل ( أي النحل ) ألفيته غبياً جاهلاً بنفسه (2) فضلاً عمّا سوى ذلك ، ففي هذا أوضح الدلالة على أنّ الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل ، بل هي للذي طبعه عليها وسخّره فيها لمصلحة الناس » (3).

ص: 225


1- نهج البلاغة : الخطبة : 180 ، وللإمام نظير هذا الكلام في الخفاش والطاووس والجراد ، راجع نهج البلاغة.
2- قال المجلسي رحمه اللّه في بحار الأنوار في تعليقته : 3 / 110 على هذا المقطع من كلام الإمام : أي ليس له عقل يتصرف في سائر الأشياء على نحو تصرفه في ذلك الأمر المخصوص ، فظهر أنّ خصوص هذا الأمر ( الهام ) من مدبّر حكيم.
3- المصدر السابق.

ص: 226

الفصل الرابع: اللّه وسريان معرفته في العالم كلّه

اشارة

ص: 227

سريان معرفة اللّه في الكون بأسره

1. الكون بأسره يسجد لله ويسبّح بحمده.

2. ما هو المقصود من سجود أجزاء الكون ؟

3. بيان حقيقة سجود الكائنات.

4. ما المراد من السجود الطوعي والإكراهي ؟

5. الحمد والتسبيح الكوني كيف ؟

6. آراء المفسرين في تسبيح الكائنات.

7. النظرية الأُولى.

8. النظرية الثانية.

9. النظرية الثالثة.

10. النظرية الرابعة.

11. القرآن وسريان الشعور في عموم الموجودات.

12. القرآن وسريان الشعور في الجمادات.

13. البرهان العقلي على هذا الرأي.

14. سريان الشعور والعلم الحديث.

ص: 228

ذرّات الكون بأجمعها تسجد لله وتسبّح بحمده

من الحقائق الجليلة والمعارف الرفيعة التي تضمّنها القرآن الكريم هو إخباره عن سجود الكائنات - بأجمعها - لله وتسبيحها له سبحانه.

وتلك حقيقة عليا لم تسمع إذن الدهر من غير هذا الكتاب العزيز بمثل هذا التفصيل والشمولية.

وبعبارة أُخرى فإنّ القرآن الكريم يخبرنا - وفي صراحة كاملة - أنّ جميع أجزاء العالم - بدءاً من الذرة حتى أعظم مجرّة - تقوم بثلاث وظائف وأعمال كبرى هي :

1. السجود لله تعالى.

2. حمده وتمجيده عز شأنه.

3. تسبيحه وتنزيهه سبحانه.

وكأنّ الكون بأسره : « كتلة واحدة » من الخضوع والخشوع ، والشعور والإحساس والوعي.

أو كأنّ الكون - بجميع أجزائه وذرّاته - لسان واحد ينطق بحمد اللّه ، ويلهج بثنائه ، وقلب واحد ينبض بتمجيده ، ويؤدّي السجود له.

ص: 229

والفرق بين السجود والتسبيح والحمد واضح.

أمّا السجود فهو الخضوع أمام كماله المطلق ، أو الخضوع أمام أنعامه وأفضاله.

وأمّا الفرق بين الحمد والتسبيح فيتلخص في أنّ الحمد تمجيد لله وثناء عليه بالجميل الاختياري ، في حين أنّ حقيقة التسبيح تعني أنّ موجودات هذا العالم بأجمعها تنزهّه عن أي نقص وعيب.

قال الراغب - في مفرداته : - « الحمد لله : الثناء عليه بالفضيلة وهو أخص من المدح ، وأعم من الشكر ، فإنّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره وغيره ، فقد يمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه كما يمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه والحمد يصح في الثاني دون الأوّل ، والشكر لا يقال إلاّ في مقابلة نعمة فكل شكر حمد وليس كل حمد شكراً ، وكلّ حمد مدح وليس كل مدح حمداً » (1).

إذا تبين هذا فإنّ علينا الآن أن نتحدث بالتفصيل عن هذه الأُمور الثلاثة التي هي من معارف القرآن العليا.

ذرّات الكون بأجمعها تسجد لله

طرح القرآن الكريم قضية « سجود الكائنات بأسرها لله » في صور مختلفة.

ففي بعض الآيات تحدّث عن سجود ذوات الشعور من موجودات هذا العالم خاصة إذ قال :

( وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاَلُهُمْ بِالغُدُوِّ

ص: 230


1- مفردات الراغب باب الحاء : حمد.

والآصَالِ ) (1).

ففي هذه الآية (2) أُشير إلى سجود الموجودات العاقلة خاصة ، بدلالة لفظة ( مَن ) في قوله ( وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ ) مع العلم بأنّ ( مَن ) تستعمل في العقلاء.

وبما أنّ الآية تخبر عن سجود الموجودات العاقلة كلّها بلا استثناء ، لا يمكن حملها على السجود التشريعي الصادر من المؤمنين لأجل امتثال أمر إلههم ، لأنّه من الواضح عدم عمومية هذا النوع من السجود لكل من له عقل وفكر ، فإنّ كثيراً من الناس يتركون عبادة ربهم والسجود له ، فعندئذٍ يجب تفسير الآية بالسجود التكويني الذي سنبيّن مفاده.

وقد أُشير إلى هذا النوع من السجود ، أعني : سجود العقلاء ، أيضاً في سورة النحل إذ يقول :

( وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماوَاتِ وما فِي الأرض مِنْ دَابَّة وَالمَلاَئِكَةُ ) (3).

والشاهد فيها هو سجود الملائكة.

وفي سورة الحج إذ يقول :

( أَلَمْ تَرَ أَن اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الأرض ) (4).

ص: 231


1- الرعد : 15.
2- محل الاستشهاد هو قوله سبحانه : ( وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّماواتِ ) باعتبار لفظ « من » وإن كانت لفظة « وظلالهم » دالة على سجود الموجودات غير العاقلة أيضاً ، لكن بهذا الاعتبار تدخل الآية في الطائفة الرابعة الآتية.
3- النحل : 49.
4- الحج : 18.

وفي طائفة أُخرى من الآيات تحدّث القرآن عن نطاق أوسع للسجود ، فتحدّث عن سجود كلّ الدواب ، إذ يقول - كما في الآية المتقدمة -.

( وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأرض مِنْ دَابَّة ) (1).

ثم تحدث ثالثاً عن سجود النباتات والأشجار إذ قال :

( وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان ) (2).

ثم تحدّث رابعاً عن سجود أكثر شمولاً ، إذ قال وهو يخبر عن سجود ظلال الأجسام :

( أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّه مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً للهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ) (3).

وقد تقدم في التعليقة السابقة دلالة قوله : ( وَظِلالُهُمْ ) على مفاد هذه الآية أيضاً.

وتحدّث خامساً عن سجود الشمس والقمر والكواكب والجبال والشجر والدواب إذ يقول :

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الأرض والشمس والقمر وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) (4).

فهذه النصوص القرآنية تفيد بأنّ السجود ظاهرة عامة ، وحالة تشمل كل

ص: 232


1- النحل : 49.
2- الرحمن : 6.
3- النحل : 48.
4- الحج : 18.

أجزاء هذا الوجود دون أن تختص بشيء معين.

إنّ ما هو المهم - هنا - هو فهم حقيقة هذا السجود ، وكيف أنّ هذه الموجودات أجمع ( عاقلها وغير عاقلها ) تظهر الخضوع أمام اللّه وتسجد له سبحانه. ما هو المقصود من سجود أجزاء الكون ؟

يؤدّي الإنسان عمل السجود - عادة - بالهوي إلى الأرض ، ووضع الجبين أو الذقن على التراب ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم إذ يقول :

( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للإذْقَانِ سُجَّداً ) (1).

وهذه الهيئة - ما هي في الحقيقة - إلاّ الشكل الظاهري للسجود ، ولكن جوهرها وروحها هو « إظهار غاية التذلّل والخضوع أمام المعبود ».

وهنا ينطرح هذا السؤال وهو : هل يلزم - في السجود - وجود هيئة خاصة بحيث لا يصح استعمال هذه اللفظة مع عدم تلك الصورة الخاصة ، أو أنّ ملاك السجود هو مجرد إظهار الخضوع ، فإذا تحقّق ذلك ، تحقّقت حقيقة السجود وصح إطلاق لفظة السجود على ذلك المورد دونما إشكال ، حتى وان لم يكن في البين تلك الهيئة الخاصة ، حتى أنّ إطلاق السجود على الهيئة الخاصة ليس إلاّ باعتبار أنّ تلك الهيئة تحكي في نظر العرف عن غاية التواضع ومنتهى الخضوع وباعتبار أنّها - في الحقيقة - طريق إلى إظهار الصغار والتذلّل أمام المعبود ؟

ص: 233


1- الإسراء : 107.

الحق أنّ القرآن يختار في هذه المسألة الطريق الثاني ، بمعنى أنّ السجود في نظر القرآن الكريم هو إظهار التذلّل والخضوع في أية صورة تحقّق وفي أي شكل وقع.

ويدلّ عليه أنّ أئمّة اللغة فسّروا السجود بالذل والتطامن تارة ، وطأطأة الرأس وانحنائه تارة أُخرى بلا إشارة إلى الهيئة المخصوصة الرائجة.

قال ابن فارس : « سجد يدلّ على تطامن وذل ، يقال : سجد ، إذا تطامن وكل ما ذلّ فقد سجد ، قال أبو عمرو : سجد الرجل ، إذا طأطأ رأسه وانحنى.

قال أبو عبيدة أنشدني أعرابي أسدي :

« وقلن له اسجد للبلى فاسجدا ».

يعني البعير إذا طأطأ رأسه » (1).

قال الراغب في مفرداته : « السجود أصله التطامن والتذلّل ، وجعل ذلك عبارة عن التذلّل لله وعبادته ، وهو عام في الإنسان والحيوان والجماد ، وذلك ضربان :

سجود باختيار وليس ذلك إلاّ للإنسان.

وسجود تسخير وهو للإنسان والحيوان والنبات حتى فسر قوله تعالى : ( وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً ) (2) ، بقوله متذلّلين منقادين » (3).

وعلى ذلك فاحتمال انّ السجدة مختصة بالهيئة المخصوصة واستعمالها في

ص: 234


1- المقاييس : 2 / 13 مادة سجد.
2- البقرة : 58.
3- مفردات الراغب : مادة سجد.

غيرها مجاز ، بعيد ، كاحتمال أنّ المقصود هو أنّنا ندرك الخضوع والسجود من الموجودات غير الشاعرة لا أنّها تظهر من نفسها التذلّل والخضوع الذي هو أبعد ، لكونه خلاف المتبادر من نسبة السجود إلى ذوات الموجودات بأنفسها ، لا أنّ الغير يدرك ذلك منها من دون أن توجد حقيقة السجود في ذواتها.

على أنّ العرف والعقل هما أيضاً اختارا هذا الطريق ( أي عدم الخصوصية ) في أمر استعمال الألفاظ.

فعندما استعملت لفظة المصباح على المصابيح البدائية كالشمعة التي لا تضيء إلاّ بضع سانتيمترات حولها وما عداها من المصابيح البدائية ذات الهيئة الخاصة التي لا تشبه المصابيح الضخمة الحاضرة في أية جهة من الجهات.

أقول : يوم استعملت هذه اللفظة أُريد منها - في الحقيقة - ما يضيء ، ولذلك حيث إنّ خاصية تلكم المصابيح القديمة موجودة - بذاتها - في المصابيح الحاضرة وبنحو أكمل جاز وصح استعمال اللفظة المذكورة في المصابيح الضخمة القوية الضوء ، أيضاً دون أي تغيير.

حقيقة سجود الكائنات

جميع الكائنات في هذا الوجود ، تظهر من نفسها التذلّل والخضوع لله ، وبنحو خاص.

وإنّ أعلى مظاهر ذلك الخضوع ، والتذلّل لله هو كون العالم بأسره تحت أمره سبحانه وفي قبضته ، وهو كونها - دون استثناء - مطيعة له تعالى ، ومؤتمرة بأوامره ، وخاضعة لمشيئته المطلقة.

ص: 235

وبتعبير آخر : انّ علامة هذا الخضوع الكوني الشامل هو : سيادة الإرادة الواحدة على الكون برمّته واتّباع كلّ أجزاء هذا العالم لتلك الإرادة العليا الواحدة دون مقاومة ، أو تمرّد ، ودون طغيان أو تردّد.

وبناء على هذا لا يمكن تصور أي نوع من « الإكراه والكراهية » في السجود بهذا المعنى ونعني به : الإطاعة المطلقة للأرادة الإلهية النافذة في مجال التكوين.

إذ « الإكراه » إنّما يتصور عندما يملك الشيء إرادة واختياراً من نفسه ، ليتمكن من معاندة المكره ومقاومته ، ومخالفة أمره في حين لا يملك أي واحد من هذه الكائنات « وجوده » دون الاستناد إلى اللّه ، فكيف يمكن لها - والحال هذه - أن تخالف مشيئة اللّه ، ويصدق عليها أنَّها مكرهة في سجودها أمام العظمة الإلهية ، وخضوعها أمام المشيئة الربانية ؟

السجود الطوعي والإكراهي

إذا كان معنى السجود هو خضوع الموجود أمام إرادة اللّه ومشيئته ، فلا معنى لتقسيمه إلى الطوعي والإجباري مع أنّا نرى القرآن الكريم يثبت للإنسان ولغيره من ذوي العقول نوعين من السجود إذ يقول :

( وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً ) (1).

سجود عن طواعية ورغبة.

وسجود عن كراهية وإجبار.

وفي هذه الصورة لابد أن نختار لهذين النوعين من السجود معنى آخر غير

ص: 236


1- الرعد : 15.

ما سلف فنقول : إنّ المراد ب « السجود الطوعي » هو قبول تلك الحالات الملائمة للطبع البشري أو لطبع أي موجود آخر ، كالنمو ، ودوران الدم ، وضربان القلب ، بينما يكون المقصود ب « السجود الإجباري » هو قبول تلك الحالات المنافية للطبع كالموت والبلاء والمحنة التي تقضي على الإنسان أو الحيوان قبل حلول أجله الطبيعي.

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم استعمل هاتين اللفظتين : « طوعاً وكرهاً » في مورد سجود السماوات والأرض ، ومن الطبيعي أنّ المقصود من ذلك هو ما قلناه كذلك.

فمراد اللّه من خطابه للسماوات والأرض إذ يقول لهما : ( ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) هو دعوة السماوات والأرض إلى أن تقبل أي نوع من التغيّرات والتبدّلات والحالات سواء أكانت ملائمة لطبعها أم لا ؟

وعلى هذا فإنّ قبول الشيء للوجود ، وقبوله لأي نوع من التصرّفات سواء أكانت موافقة لطبعه أم مخالفة له ، خضوع وإظهار للتذلّل أمام اللّه ، غاية ما هنالك أنّ قبول هذه الأُمور قد يكون كلّه عن رغبة وطواعية باعتبار ، وقد يكون قبول بعض هذه الحالات عن كراهية عندما تكون على خلاف طبع الشيء.

على أنّه ليس وجود الموجودات هو وحده في قبضة اللّه تعالى ، بل ظلالها هي الأُخرى تابعة لإرادته تعالى في حركاتها ، وتحوّلاتها ، بكرة وعشياً كما قال سبحانه :

( أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّه مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً للهِ ) (1).

ص: 237


1- النحل : 48.

فهل ترى يجوز للإنسان - وهو يجد جميع الكائنات حتى ظلالها تسبِّح لله وحده.

هل يجوز لهذا الإنسان أن يشرك في سجوده أو يمتنع من الخضوع أمامه تعالى ، وله يسجد كل ما عداه ؟!

وبعد أن تعرّفنا على معنى سجود الموجودات آن الأوان أن نتحدّث بتفصيل أكثر عن تسبيحها وحمدها لله وتمجيدها له سبحانه.

* * *

إذا وقفت على ما تعنيه آيات السجود فلا يمكن أن يستفاد منها علم الموجودات بسجود نفسها ، بعد ما كان معنى السجود هو مطلق خضوعها وتذلّلها لدى إرادة بارئها.

نعم يستفاد سريان العلم في جميع الموجودات من آيات التسبيح كما سيمر عليك.

الحمد والتسبيح الكونيان كيف ؟

كل الكائنات - في هذا الوجود - تسبح لله ، وتحمده ، وتمجّده.

هذه - كما قلنا - حقيقة نطق بها الكتاب العزيز في أكثر من موضع.

وقد مر عليك أنّ الحمد يعني ثناء الموجودات على اللّه ، لأجل أفعاله الجميلة وكمالاته الاختيارية ، وأنّ التسبيح يعني تنزيهه عن كل عيب ونقيصة ، وبالتالي وصف اللّه بالتنزيه عن الصفات السلبية التي لا تليق بشأنه.

قال ابن فارس في مقاييسه : « التسبيح : هو تنزيه اللّه جل ثناؤه من كل سوء ،

ص: 238

والتنزيه : التبعيد ، والعرب تقول : سبحان من كذا : أي ما أبعده ».

وحيث إنّ بعض الآيات ذكرت كلا اللفظين في مكان واحد ، لذلك سنبحث عنهما في مقام واحد أيضاً دون تفريق.

وسنذكر كل الآيات الواردة في هذا الباب فيما يأتي.

* * *

1. ربما عرض القرآن موضوع تسبيح الموجودات في نطاق واسع ، واعتبره أمراً عاماً ، وحالة شاملة لكل الكائنات بلا استثناء عندما يقول :

( سَبَّحَ لله مَا فِي السَّماوَاتِ والأرض وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1).

ولفظة ( ما ) على العكس ممّا يتصوره البعض ، تستعمل في العاقل وغيره ، والمقصود - هنا - في هذه الآية هو كل موجود وكائن في السماوات والأرض.

وعلى هذا الغرار أيضاً كل ما جاء في المواضع التالية من القرآن :

( سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (2).

( يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ والأرض وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (3).

( سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (4).

( يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّماوَاتِ وما فِي الأرض المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ) (5).

ص: 239


1- الحديد : 1.
2- الحشر : 1.
3- الحشر : 24.
4- الصف : 1.
5- الجمعة : 1.

( يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1).

على أنّ أشد آية صراحة في هذا الشأن هو قوله تعالى :

( تُسَبِّحُ لَهُ السَّماوَاتُ السَّبْعُ والأرضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ) . (2)

والجدير بالذكر أنّ هذه الآية تحمل في ذيلها دليل ما ادّعيناه وهو قوله :

( ولكِنْ لا تَفْقَهوُنَ تَسْبِيحَهُمْ ) (3).

وهي عبارة تكشف عن أنّ التسبيح العام أمر واقع وكائن ، ولكن البشر لا يفقه ذلك.

2. وربّما تحدّث القرآن عن تسبيح الملائكة بالصراحة تارة ، وبالكناية تارة أُخرى ، إذ يقول :

( وَالمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) (4).

وقد ورد الإخبار بتسبيح الملائكة في آيات أُخرى غير هذه الآية أيضاً ، وهي :

( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) (5).

ص: 240


1- التغابن : 1.
2- الإسراء : 44.
3- الإسراء : 44.
4- الشورى : 5.
5- الأعراف : 206.

( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) (1).

( وَلَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتَرُونَ ) (2).

( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ) (3).

( فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْئَمُونَ ) (4).

( وَتَرَى المَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) (5).

3. وربما ذكر القرآن - بعد الاخبار عن عموم التسبيح - تسبيح الطير إذ يقول : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ والأرضِ وَالطَّيْرُ صَافَّات كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (6).

إنّ الإمعان في هذه الآية يفيد أنّ القرآن الكريم ينسب « العلم والوعي » إلى الفريق المسبِّح ، ويصرّح بأنّ كل واحد من هذه الموجودات يعلم تسبيح نفسه بمعنى أنّ ما يقع منها من تسبيح يقع عن وعي وشعور بذلك ، إذ يقول :

( كُلٌّ ( أي كل واحد من الموجودات العاقلة والطير ) قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ

ص: 241


1- الرعد : 13.
2- الأنبياء : 19 - 20.
3- غافر : 7.
4- فصلت : 38.
5- الزمر : 75.
6- النور : 41.

وَتَسْبِيحَهُ ) .

وقد ورد تسبيح الطير في آيات أُخرى ، وهي :

( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ (1) ) (2).

( إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ * وَالطَيْرَ محْشُورَةً كُلٌّ ( من الجبال والطير ) لَهُ أَوَّابٌ ) (3).

4. وفي آيات أُخرى صرح القرآن الكريم بتسبيح الجبال في أوقات خاصة معينة ، إذ يقول :

( إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ) (4).

وقد جاء تسبيح الجبال في آيات غير هذه الآية أيضاً ، وهي :

( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ ) (5).

( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ) (6).

5. وتحدث القرآن عن تسبيح الرعد ، فقال :

( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) (7).

ص: 242


1- عطف على محل الجبال ، أي ودعونا الطير لتسبّح معه.
2- سبأ : 10.
3- ص : 18 و 19.
4- ص : 18.
5- الأنبياء : 79.
6- سبأ : 10.
7- الرعد : 13.

والآن يجب أن نعرف ماذا يعني التسبيح ؟

التسبيح لغة يعني التنزيه عن النقائص والمعايب.

فعندما ينزّه شخص أحداً عن النقائص والمعايب يقال : سبحه ، وقدسه.

إذن فينطوي التسبيح على معنى التقديس والتنزيه ، وأي تفسير للتسبيح لا يكون حاكياً عن تنزيه اللّه ، وتقديسه من النقائص والعيوب لا يمكن أن يكون تفسيراً صحيحاً ومقبولاً.

آراء المفسرين في تسبيح الكائنات

اشارة

إنّ بعض المفسرين - وإن قال بأنّ المراد من لفظة ( ما ) في قوله تعالى : ( مَا فِي السَّماوَاتِ ) هو الموجودات العاقلة المدركة الشاعرة كالإنسان والملائكة التي تقدّس الباري ، وتنزّهه بكامل شعورها وإدراكها ووعيها - ولكن كثيراً من المفسرين لم يرتضوا هذا الرأي وقالوا : بأنّ المقصود من ( ما ) هو مطلق الموجودات ( عاقلة وغير عاقلة ، مدركة وغير مدركة ) وظاهر الآية يؤيد هذا الرأي ، إذ أنّ لفظة ( ما ) تستعمل عادة في مطلق الموجودات على عكس ( من ) التي تطلق - في الأغلب - على أصحاب العقل والإدراك.

أضف إلى ذلك أنّ الآية الدالة على سجود الموجودات غير العاقلة لا تختص بالآيات التي وردت فيها لفظة ( ما ) ، بل كان هناك لفيف من الآيات ذكر فيها تسبيح الطير والجبال والرعد.

وعلى ذلك فالتوجيه المزبور لو صح لتم في القسم الأوّل من الآيات لا في القسم الثاني.

ص: 243

وقد ذكر فريق من المفسرين توجيهات مختلفة للتسبيح ، ولكن أكثرها وإن كانت صحيحة غير أنّها لا ترتبط بالمعنى الحقيقي للتسبيح ، وسوف نشير فيما يلي إلى جملة من هذه الآراء.

النظرية الأُولى

النظرية الأُولى (1)

قال أصحاب هذه النظرية : إنّ المراد من التسبيح هو « التسبيح التكويني » بمعنى أنّ وجود كل موجود حادث يشهد - بحدوثه - أنّ له صانعاً خالقاً حتى أنّ وجود المادي الملحد المنكر لله بلسانه ، هو أيضاً ، يشهد بوجود الخالق الصانع.

بيد أنّ هذا الرأي - رغم صحته واستقامته في حد نفسه - لا يمكن أن يكون تفسيراً صحيحاً ومقبولاً للتسبيح ، لما قلناه من انطواء التسبيح على معنى ( التنزيه ) والتقديس من العيوب والنقائص ، ولا ربط لدلالة الموجودات على وجود خالق لها بمسألة « التنزيه » و « التقديس » عن العيب والنقص والشريك.

النظرية الثانية

وتقول هذه النظرية : إنّ المقصود من التسبيح هو « الخضوع التكويني » الذي يبديه كل واحد من الموجودات الكونية تجاه مشيئة اللّه وأمره ، إذ نحن نلمس بالوجدان كيف يخضع كل الوجود بلا استثناء أمام الإرادة الإلهية ، سواء أكان في تقبل الوجود ، أم في اتّباع السنن الطبيعية التي قررها وأرساها اللّه في عالم الكون.

ص: 244


1- هذه النظرية إجمال ما سيوافيك في النظرية الثالثة ، ولعل مراد من فسر التسبيح بما في هذه النظرية ، هو ما سيأتي في ثالثتها من أنّ العالم كما يدل على وجود خالقه يدل على صفاته من توحيده وعلمه و ... وعلى ذلك تتحد النظريتان.

فهذه الطاعة المطلقة أزاء تلك الإرادة الإلهية العليا ، وهذا الانصياع لتلكم السنن الإلهية هو « تسبيح الموجودات » ليس غير.

ثم يستدل أصحاب هذا الرأي على تسليم جميع الموجودات تجاه الإرادة الإلهية النافذة بآيات ، مثل قوله تعالى :

( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (1).

وبناء على هذه النظرية فإنّ جميع الآيات التي نسب فيها « السجود » والخضوع إلى كل ما في السماوات والأرض ، يمكن أن تكون مؤيدة للرأي المذكور.

ولكنّنا نتصور أنّ هذا الرأي غير صحيح هو أيضاً ، ذلك لأنّ مسألة « خضوع » الوجود بأسره وبكل أجزائه ، وتسليمه للسنن والقوانين الإلهية لا يرتبط بمسألة تنزيه اللّه ، وتقديسه تعالى من العيب والنقص والشرك ، وينبغي أن لا نخلط بين هذين الموضوعين ، وإن كان كل منهما صحيحاً وصائباً في حد ذاته.

النظرية الثالثة

ذهب كثير من المفسرين إلى تفسير تسبيح عموم الموجودات على النحو الآتي ، إذ قالوا :

إنّّ النظام العجيب المستخدم في تكوين كل واحد من هذه الموجودات والدقة المتناهية في هذا النظام دليل على « قدرة » عليا و « حكمة » و « علم » مطلقين لصانعها وخالقها.

ص: 245


1- فصلت : 11.

فالكيان المعقّد والعجيب لكل واحد من هذه الموجودات ، والمليء بالأسرار كما يشهد بصدق وجلاء على صانع لها ، كذلك يشهد - بلسان التكوين - على خالق واحد ، عالم وقدير وحكيم ، وعلى الجملة على « علم » ذلك الصانع و « حكمته » و « قدرته » وخلوّه عن أي نوع من الجهل والعجز والعي ، بل يكفي في التسبيح دلالتها على صفاته الكمالية فقط ، الملازم لدفع الصفات السلبية ولا يجب أن يكون بصورة سلب النقائص ابتداء.

ففي مجال تنزيه اللّه عن « الشريك » مثلاً ، تأتي شهادة هذه الموجودات على النحو الآتي :

إنّ النظام الواحد الذي يسود في الذرة والمجرّة على السواء يشهد بأنّ الكون بأسره وجد بإرادة خالق وصنع صانع واحد دون أن تكون لأي خالق آخر مشاركة في هذا الخلق والصنع ، وأنّ وحدة النظام دليل على وحدة المنظم وعدم الشريك له سبحانه.

وكذا إنّ سيادة نظام موحد على مجموع أجزاء الكون كما تفيد أنّ ثمة « منظماً واحداً » يحكم هذا العالم ، كذلك تكشف الأسرار الدقيقة ، والتقدير المتقن عن « علم » صانعها و « حكمته » و « قدرته » الملازم لتنزّهه عن الجهل واللعب والعجز (1) ، وقد مر أنّه يكفي في التسبيح دلالة الشيء على كمال المؤثر الملازم

ص: 246


1- هذا مضافاً إلى أنّ هذه النظرية تفصيل لما أجمل في النظرية الأُولى ، فإنّ القائل بالنظرية الأُولى أجمل القول واكتفى بالقول بأنّ كل موجود حادث يدل على وجود محدثه ، لكن القائل بالنظرية الثالثة بسط الكلام وأفاد بأنّ وجود كل حادث كما يدل بحدوثه على وجود محدثه ، كذلك يدل بصفاته ( أعني : النظام السائد فيه ) على صفات موجده من العلم والقدرة والحكمة ، وخلوّه عن العجز والجهل والعبث. ولأجل هذا قلنا إنّ النظرية الثالثة تفصيل لما جاء في الأولی.

لدفع العيب عنه ولا يلزم أن يدل على تنزيهه من الجهل مطابقة.

ولنا على هذا الرأي الذي اعتمد عليه كثير من المفسرين ملاحظات من عدة جهات :

1. إذا كان هذا هو مقصوده سبحانه من تسبيح عموم الموجودات ، فهو ممّا يدركه ويفقهه جميع الناس أو أكثرهم ، ولا معنى لأن يقول القرآن في سورة الإسراء الآية 44 : ( وَلَكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) .

وقد اضطر البعض إلى إصلاح هذه النظرية بتفسير جملة ( لا تَفْقَهُونَ ) بأنّها بمعنى عدم الانتباه والالتفات ، وإنّ أكثر الناس غير منتبهين إلى تسبيح الموجودات ، أمّا لانغماسهم في المادية ، أو لأجل كون دلالة الموجودات على « تنزيه » اللّه عظيمة جداً بحيث لا يمكن للبشر أن يقف على مداها.

ولكن لا يخفى انّ هذا التوجيه خلاف ظاهر الآية ، ولو صح ما فسروا به جملة ( لا تَفْقَهُونَ ) للزم أن يقول « ولكنكم إذا لاحظتم تفقهون » أو ما يناسب ذلك مع ما نعرف من الدقة في التعبير القرآني ، لا أن يسلب عنهم العلم والفهم بتاتاً.

هب أنّ أكثر الناس غير واقفين على دقة الخلقة وأسرارها والروابط السائدة على المخلوقات غير أنّ ذلك لا يصحح سلب العلم عن الناس عامة ، جاهلهم وعالمهم ، ولا سيما في هذا العصر الذي ظهرت فيه البواطن والأسرار واكتشفت الحقائق.

2. إذا كان تسبيح الموجودات بالمعنى المذكور في هذه النظرية ، ( أي أنّنا يمكن أن ندرك من التدبّر في خلقة الأشياء نزاهة خالقها وصانعها من الجهل

ص: 247

والعجز ) فلماذا وصف القرآن بعض الحيوانات كالطير بإدراكها لتسبيحها وتنزيهها لربها وكونها تعلم بحقيقة تسبيحها إذ قال :

( كُلّ ( أي كل من في السماوات والأرض والطير ) قَد عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (1).

وبتعبير أوضح : لماذا نسب القرآن الكريم « العلم » إلى الطير بشكل صريح في حين أنّ مقتضى هذه النظرية هو أنّها لا تعلم بتسبيح نفسها ، ولا تشعر ولا تدرك ذلك ، بل نحن فقط نشعر ونعلم بتسبيحها التكويني من التدبّر في خلقتها ودقة صنعتها دون أن تشعر هي نفسها بذلك.

اللّهم إلاّ أن يخصص العلم - بحكم ظاهر الآية - بالموجودات العاقلة للفظة ( مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ ) وخصوص الطير.

3. إذا كان المقصود من تسبيح الكائنات هو ما جاء في هذه النظرية لما كان لهذا التسبيح وقت خاص ، وزمان معين.

بل هو ( أي التسبيح بلسان التكوين ) حقيقة ملازمة للكائنات في كل وقت وآن ، بحيث يدركها البشر أنّى تدبّر في خلقتها ، وأنّى تفكّر في تكوينها ، وتمعّن في صنعها ، في حين أنّ القرآن الكريم يحدّد زمن « تسبيح الجبال » بأوقات خاصة من طرفي النهار بكرة وأصيلاً ، إذ يقول في سورة ( ص الآية 18 ) :

( يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ) (2).

ص: 248


1- النور : 14.
2- إلاّ أن يكون « العشي والإشراق » كنايتين عن مداومة التسبيح طول الليل والنهار ، وعند ذلك لا يصلح هذا الوجه للاستدلال.

نعم يمكن أن يقال : إنّ تحديد تسبيحها بالعشي والإشراق ، لأجل أنّ تسبيح داود كان محدّداً بهذين الوقتين وكانت الجبال يسبحنّ معه ، ولأجل تلك التبعية صار تسبيح الجبال محدّداً بها.

ولكن ذلك لا يضر بالمقصود ، إذ هو حاك عن سريان شعور مرموز إليها بحيث تدرك تسبيح ولي اللّه سبحانه في أوقات خاصة فتنطلق تسبح معه كما هو صريح الآية.

واحتمال أنّ تسبيح الجبال كتكلّم شجرة موسى ، وأنّ التسبيح إذا صدر من عباد اللّه الصالحين ، تتجاوب معه الجبال بصورة خارقة كتكلم الشجرة بأمره ، ولأجل ذلك صح اسناد التسبيح إلى الجبال ، احتمال لا يمكن الركون إليه في تفسير الآية إلاّ بشاهد من نفسها أو خارجها والظاهر هو المتبع ما لم يذدنا عنه البرهان.

على أساس هذه الملاحظات - بالرغم من صحة نظرية التسبيح التكويني في كل موجود في حد ذاتها - لا يمكن حمل « آيات التسبيح الكوني » عليها والقول بأنّها ناظرة إلى هذا المعنى.

النظرية الرابعة

وهذه النظرية هي للفيلسوف الإسلامي الجليل المرحوم « صدر المتألّهين » صاحب الآراء الجليلة في الإلهيات ، وما وراء الطبيعة ، وأحد كبار المؤسّسين

ص: 249

لأُصول الفلسفة الإسلامية ، المحقّقين النادرين (1).

يقول هذا الفيلسوف الإسلامي ما توضيحه :

إنّ الكون بجميع أجزائه يسبح لله ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور وإدراك.

فلكل موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والإدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب.

وعلى هذا الشعور تسبّح الموجودات كلّها ، خالقها ، وبارئها ، وربها سبحانه وتنزّهه عن كل نقص وعيب.

ثم يقول :

إنّ العلم والشعور والإدراك كل ذلك متحقّق في جميع مراتب الوجود ، ابتداء من « واجب الوجود » إلى النباتات والجمادات ، وأنّ لكل موجود يتحلّى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة و .. و .. ولا يخلو موجود من ذلك أبداً ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علينا - بعض الأحيان - لضعفها وضآلتها.

على أنّ موجودات الكون كلّما ابتعدت عن المادة والمادية ، واقتربت إلى التجرد ، أو صارت مجردة بالفعل ازدادات فيها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً

ص: 250


1- ولد عام 979 ه في شيراز من بلاد إيران ، وتوفّي عام 1050 ه في طريق الحج في البصرة. لقد أنشأ المرحوم السيد حسين البروجردي في تاريخ وفاته قوله - كما في كتابه نخبة المقال - : ثم ابن إبراهيم صدر الأجل *** في سفر الحج « مريضاً » ارتحل قدوة أهل العلم والصفاء *** يروي عن الداماد والبهائي

بينما كلما ازدادت اقتراباً من المادة والمادية ، وتعمقت فيها ، ضعفت فيها هذه الصفات ، وضؤلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرة ، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والإدراك ولكنّها ليست كذلك ( أي أنّها ليست خلوة من العلم والشعور والإدراك ) - كما نتوهم - إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف ، والضآلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة (1).

ثم إنّ صاحب هذه النظرية أثبتها عن طريق الأدلة والبراهين الفلسفية ، والمكاشفات النفسانية.

على أنّه خطا خطوة أكبر ، إذ قال : انّ ما يقوله القرآن بأنّ البشر لا يفقه تسبيح الموجودات ، ناظر إلى أغلب الناس ، لأنّ أغلبهم لا يفقهون هذا التسبيح ، ولا يمنع ذلك من أن يفقهه بعض العارفين الذين ارتبطت أرواحهم بحقائق الموجودات ، فلمسوا تسبيح الكائنات عامة ، بعين القلب ، واطّلعوا على تقديسها لله سبحانه ، وانقيادها لمشيئته ، وخضوعها له.

أجل أنّ القلوب الخالية من الوساوس الشيطانية ، الطاهرة من العلائق المادية التي صارت محلاً للنور الإلهي ومحطّاً للفيوض الربانية ، ومهبطاً للبركات المعنوية قادرة على « مشاهدة » هذه الحقائق العليا ، مشاهدة وجدانية ، وإدراكها إدراكاً قلبياً لا يتطرق إليه شك ، وماذا يمنع من ذلك يا ترى ؟

* * *

وبعد أن وصل البحث إلى هذه النقطة يلزم أن نحاول الوصول إلى هذه الحقيقة القرآنية ، بالتدبّر في آياتها التي تنسب الشعور والعلم إلى عموم

ص: 251


1- راجع الأسفار : 1 / 18 و 6 / 139 - 140 ، الطبعة الجديدة.

الموجودات ، لأنّ القرآن إذا نسب « التسبيح والحمد » إلى عمومها ، فهو في نفس الوقت يصف كل ذرات العالم بأنّها شاعرة ، ومدركة ، وسامعة.

فإذا وضعنا هاتين الطائفتين من الآيات إلى جانب بعض ، ثبتت لنا صحة النظرية التي ذهب إليها « صدر المتألّهين ».

وإليك - فيما يأتي - الآيات الدالة على سريان الشعور ، والعلم في عامة الموجودات بدءاً من الذرة وانتهاء بالمجرة ، مع ما يمكن استنباطه واستفادته من هذه الآيات.

سريان الشعور في عموم الموجودات

ويمكن إثبات هذا الادّعاء عن طريقين :

أوّلاً : عن طريق الآيات التي تشهد على وجود الشعور ، وسريانه في جميع موجودات هذا العالم ، أحيائها ، وغير أحيائها.

ثانياً : عن طريق البراهين والدلائل العقلية التي تثبت وجود الشعور في كل ذرات الكون.

وإليك الطريق الأوّل : ويتألف من آيات متعددة هي :

1. يشهد القرآن - بصراحة ووضوح - على أنّ النمل تتمتع بشعور خاص ، لأنّها عندما مر على واديها سليمان وجنوده راحت نملة تخاطب بني نوعها وتحثّها على الدخول في بيوتها لئلاّ يسحقها سليمان وجنوده ، كما يحدثنا القرآن إذ يقول :

( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ) (1).

ص: 252


1- النمل : 18.

وكان هذا النداء التطميني ( أو التحذيري ) من تلك النملة ، نداء حقيقياً ، واقعياً ، ولا يمكن أن نحمله على معنى مجازي ، وندعي بأنّ ما قالته النملة كان بلسان « الحال » ، وذلك لأنّ سليمان تبسّم على أثر سماعه ذلك النداء ، ودعا ربّه أن يوفقه للشكر على ما وهبه وأنعم عليه وعلى والديه ، إذ يقول القرآن :

( فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا (1) وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ) (2).

2. انّ في القرآن قصة عن الهدهد تكشف عن شعور خاص لدى هذا الطائر ، بحيث يمكن للهدهد أن يميز بواسطته : الموحد عن المشرك وبحيث كان سليمان يبعثه في إنجاز مهام معينة تحتاج إلى الشعور وتتطلب العلم والفهم.

وإليك هذه القصة بلسان القرآن نفسه :

( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَان مُبِين * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَم تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّماوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخُفْونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيم * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ

ص: 253


1- إنّ في لفظة « قولها » دلالة على أنّ نداءها لم يكن بلسان الحال ، بل كان بالكلام والقول الذي ينطلق من شعور وأدراك.
2- النمل : 19.

مِنَ الكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرجِعُونَ ) (1).

ألا يدل فعل هذا الطائر - العجيب - الذي يدرك كل الأُمور الدقيقة ، ويخبر عنها بدقة وأمانة ، ويمتثل لأُوامر سيده سليمان على أحسن وجه.

أقول : ألا يدل كل هذا على أنّ هذا الطائر يتمتع بشعور خاص وإدراك مخصوص هو الذي أهّله لتحمّل تلك المسؤولية الكبيرة الدقيقة ؟

3. يعد القرآن من مفاخر سليمان : علمه بمنطق الطير ، وهذا يكشف عن وجود منطق خاص للطير كاشف عن شعوره بما يقول ، إذ قال :

( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) (2).

كما أنّ القرآن يخبرنا بأنّ سليمان ألّف جيشاً ضخماً من الإنسان والجن والطير ، وكانت جميعها تحت أمره ، ورهن إرادته ، وإشارته :

( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ ) (3).

وهكذا يستفاد من مجموع هذه الآيات أنّ الطيور والنمل تتمتع بنوع خاص من الوعي والشعور ، وأنّه لو أُتيح للإنسان أن يحكم على الكون كله ، لاستطاع أن يتحدث معها ويعرف حديثها ، وأن يستفيد منها في إرساء النظام التوحيدي وتقوية دعائمه ، وتحطيم مظاهر الشرك والوثنية وتقويض قواعدها ، كما استفاد سليمان من الهدهد ذلك الأمر ، والظاهر أنّه لا خصوصية للمورد.

ص: 254


1- النمل : 19 - 28.
2- النمل : 16.
3- النمل : 17.

سريان الشعور في الجمادات

تحدّثت الآيات القرآنية عن هذه الحقيقة بنحو ما ، وراحت تنسب أفعالاً إلى ( الجمادات ) تقترن بالشعور وتثبت الإدراك لها.

فالقرآن الكريم يرى أنّ سقوط بعض الصخور من نقطة ما إنّما هو نتيجة خوفها من اللّه وخشيتها منه تعالى إذ يقول :

( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه ) (1).

نعم ربما يحتمل أنّ المراد من قوله تعالى : ( وإِنَّ مِنها ( مِنَ الحْجَارَةِ ) لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ... ) هو التعبير عن شدّة قسوة قلوب اليهود ، بشهادة أنّ من الحجارة ما تتفجّر منه الأنهار ، دون قلوبهم ، وانّ من الحجارة ما يهبط من خشية اللّه دونها ، وعند ذاك لا تصلح الآية للاستدلال على سريان الشعور في الموجودات عامّة.

غير انّ هذا الاحتمال لا يضر بما ذهبنا إليه ، فإنّ التعبير عن شدّة قسوة قلوبهم يجتمع مع دلالة الآية على سريان الشعور في عامّة الموجودات ، فإنّ الآية أثبتت للحجارة صفتين : التفجّر ، والهبوط من خشية اللّه.

فكما أنّ التفجّر أمر حقيقي لها ، فكذلك الهبوط من خشية اللّه أمر حقيقي لها ، ومع ذلك تدلّ على شدّة قسوة قلوبهم.

وفي آية أُخرى يخبر القرآن الكريم عن قضية عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، وامتناع هذه الأشياء عن حملها خشية وإشفاقاً فيقول :

( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ والأرض وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا

ص: 255


1- البقرة : 74.

وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ ) (1).

غير أنّ طائفة من المفسرين فسّروا هذه الآية ونظائرها بالمعاني المجازية ، وبأنّ كل هذا الذي يخبر عنه القرآن تم بلسان الحال ، بمعنى أنّها أبين وأشفقن عن تحمّل الأمانة المعروضة عليها ، بلسان حالها ، لا بلسان مقالها الكاشف عن الشعور في حين أنّ هذا التفسير والحمل ضرب من اتخاذ المواقف قبل البحث والدرس وهو أمر لا مبرر له ، إذ لا دليل على حمل مثل هذه الآيات على غير ظاهرها ، وتأويل هذه الحقيقة - التي يتحدّث عنها القرآن بصراحة - بمعان مجازية ، ومحامل لم يقم عليها دليل.

على أنّ عدم توصل العلم إلى هذه الحقيقة ، أعني : وجود الشعور عند عامّة الموجودات لا يكون دليلاً - أبداً - على عدم وجود هذا الشعور عند هذه الكائنات ، لأنّ وظيفة العلم إنّما هي الإثبات فقط ، وليس للعلم حق « النفي » والسلب ، والإنكار.

إنّ العلم لم يبلغ تلك المرحلة من المعرفة ، والإحاطة بحقائق الكون ، إحاطة يمكنه معها أن ينكر ما لا يعرف وجوده أو عدمه (2).

وفي موضع آخر يقول القرآن في هذا الصدد :

ص: 256


1- الأحزاب : 72.
2- وهذه إحدى الفروق بين العلم والفلسفة فإنّ للثانية حق النفي والإثبات وليس للأوّل ذلك الحق ، لأنّ الوسائل التي يتوسل بها العلم للتحقيق أقصر من أن يتوسل بها إلى الإحاطة بجميع الموجودات ، وهذا بخلاف الفلسفة فإنّها تجعل صفحة الوجود مسرحاً لنقاشها ونفيها ، وإثباتها وللبحث عن الفرق الكامل بين العلم والفلسفة موضع آخر.

( لَوْ أَنْزَلْنَا هذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعَاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) (1).

ولا ريب أنّنا لو تجرّدنا عن آرائنا الشخصية حول الآيات القرآنية ، لوجب علينا أن نقول : إنّ هذه الجبال لابدّ أنّها تنطوي على قابلية الخشوع والتصدّع لكي يصح أن يتوجه إليها الخطاب الإلهي القرآني.

إذ ليس من المعقول أن ينسب القرآن الكريم - وليس من شأنه المبالغة الكاذبة - هذا النوع من الحالة ( أي حالة الخشوع ) إلى ما لا يكون قابلاً لها.

وربّما يحتمل أنّ الآية كناية عن عظمة القرآن وجلالة قدره ، بدليل انّه لو أنزله اللّه على جبل لخشع وتصدّع ، ولا يستلزم هذا إثبات قابلية الشعور في الجبال.

غير انّ الإجابة على هذا الاحتمال واضحة جداً ، فإنّ هذا التفسير مبني على ما سلّم به القائل مسبقاً من أنّه لا شعور في الجبال ، ولذلك عاد ففسر الآية على ما بنى عليه.

ولو تخلّى عن هذه الفكرة - كما قلناه آنفاً - ودرس الآية بدون فكرة سابقة لوقف على أنّ الآية مع دلالتها على عظمة القرآن تدل أيضاً على وجود شعور في الجبال ، وقابلية للخضوع والخشوع الحقيقيين لديها.

وليست دلالة الآية على عظمة القرآن مانعة عن دلالتها على الأمر الثاني.

ويستفاد وجود مثل هذا الشعور والوعي في الجبال من بعض الآيات الأُخرى عندما تقول :

( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ ) (2).

ص: 257


1- الحشر : 21.
2- إبراهيم : 46.

وكقوله تعالى :

( تَكَادُ السَّماوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدّاً ) (1).

فإذا لم تكن في « الجبال » تلك القابلية وذلك الوعي لما يدور خارجها لما صحت هذه التوصيفات والنسب ، ولوجب حينئذ أن نفترض لهذه الآيات « معاني مجازية » من قبيل المبالغة ، والتمثيل تماماً كما ذهب إليها بعض المفسرين حيث ارتكبوا حملها على التجوز والتمثيل.

نعم يمكن أن تكون الآية وسابقتها ناظرتين إلى أمر آخر وهو : أنّ عظم مكرهم بلغ إلى حد يمكن أن تنقلع به الجبال وتنشق السماء والأرض ، والإزالة والانشقاق أثر المكر لا أن تزول وتنشق بتأثر ناشئ عن إدراك وشعور لديها.

فمكرهم أو قولهم بأنّ اللّه اتخذ ولداً قد بلغ من التأثير السيّء إلى حد الآلة الهدامة.

على أنّ الآيات المرتبطة بيوم القيامة تكشف النقاب عن وجود هذا الوعي والشعور - فضلاً عن إمكانه - حيث إنّها تخبرنا عن تكلّم الأيدي والأرجل والجلود وشهادتها على الإنسان في ذلك اليوم الرهيب بأمر اللّه ، فإذا بها تشهد على العصاة بكل ما فعلوا من أفاعيل ، وآثام ، بدقة متناهية.

وإليك هذه الآيات :

( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (2).

( اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا

ص: 258


1- مريم : 90.
2- النور : 24.

يَكْسِبُونَ ) (1).

( وَيَومَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللّه إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إَذَا مَا جَاءُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّه الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (2).

نعم الآية واردة في شهادة الجلود يوم القيامة وألاستدلال بها على إمكانية وجود الشعور في جلود الإنسان هنا في الدنيا يحتاج إلى لطافة ذوق فإنّ النشأة الأُخروية ليست مباينة للنشأة الدنيوية.

ثم إنّ القرآن يشهد - بصراحة تامة - في آيات أُخرى بأنّ الأرض تتحدث بأمر اللّه وتخبر عما وقع على ظهرها إذ يقول :

( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ ( أي الأرض ) أخْبَارَها * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) (3).

كما أنّ القرآن الكريم يخبرنا عن طاعة « السماوات والأرض » الكاشفة عن وجود مثل هذا الوعي فيها إذ يقول :

( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (4) (5).

ص: 259


1- يس : 65.
2- فصلت : 19 - 21.
3- الزلزلة : 4 - 5.
4- فصلت : 11.
5- والخطاب إلى السماء والأرض باعتبار أنّ الخطاب توجّه إليهما بعد إيجاد مادتهما الأُولى بشهاد قوله سبحانه : ( وَهِيَ دُخَانٌ ) فلا يمكن قياس تلك الآية بالآيات التي ورد فيها لفظ كن ، فإنّ الخطاب هناك تكويني لغرض الإيجاد ، دون المقام.

هذه الآيات ونظائرها تفيد - حسب نظر من يتخلّى عن آرائه الشخصية عند فهم مقاصد القرآن - سريان الشعور والفهم في جميع أجزاء هذا العالم ، وذراته.

أمّا كيف وماذا تكون حقيقة هذا الشعور والفهم والوعي ، وما هو مستواها وحجمها فذلك ما ليس بواضح ولا معلوم لنا ، بيد أنّ هذا الجهل لا يمكن أن يكون سبباً للإنكار فما أكثرها من حقائق في هذا الوجود لا يعرفها البشر المحدود الرؤية والتفكير.

ومما يجدر بالذكر أنّ الأدعية الإسلامية قد أشارت إلى هذا الموضوع ، نذكر من باب المثال بعض النماذج :

« تسبّح لك الدواب في مراعيها والسباع في فلواتها ، والطير في وكورها ، وتسبح لك البحار بأمواجها والحيتان في مياهها » (1).

كما أنّنا نقرأ في « الصحيفة السجادية » نظير هذا حيث يخاطب الإمام السجاد « الهلال » عند رؤيته ، إذ يقول علیه السلام :

« أيّها الخلق المطيع الدائب السريع المتردّد في منازل التقدير ، المتصرّف في فلك التدبير ... » (2).

بعد ملاحظة هذه الآيات والروايات الكاشفة عن سريان الشعور والفهم في كل الموجودات يتعيّن علينا أن نختار نظرية المرحوم صدر المتألّهين التي فسر فيها التسبيح المذكور في مورد الكائنات عامة ، بالتسبيح « الحقيقي الواقعي » بمعنى أنّ

ص: 260


1- راجع كتب الأدعية.
2- الصحيفة السجادية : الدعاء : 43.

الموجودات تسبّح لله ، عن شعور وإدراك لا بلسان « الحال » والتكوين كما ذهبت إليه النظريات الأُخرى.

البرهان العقلي على هذا الرأي

ويمكن إثبات هذا الرأي بالدليل العقلي ، وأُصول « الحكمة المتعالية » (1) وخلاصة ذلك هي : أنّ الوجود - في كل مراتبه - ملازم للشعور والعلم والوعي ، وكل شيء نال حظاً من الوجود ، فإنّه يتمتع بالوعي والعلم والشعور بقدر ما نال من الوجود.

ويتألّف الدليل الفلسفي لهذا الادّعاء من مقدمتين ونتيجة :

1. انّ ما هو أصيل في الكون ، ومصدر لجميع الآثار والكمالات هو : « الوجود ».

فهو منبع كل فيض معنوي ومادي وهو منشأ كل علم وقدرة وكل إدراك وحياة.

فكل ذلك ناشئ من وجود الأشياء ، بحيث لو انتفى الوجود من البين ، لتوقّفت جميع الحركات وسكنت جميع النشاطات وانعدمت كل الفيوض وآل كل ذلك إلى العدم.

2. ليس للوجود - في كل مراحله من واجب وممكن ومجرد ومادي وعرض وجوهر - إلاّ حقيقة واحدة لا أكثر.

وحقيقة الوجود وان لم تكن واضحة لنا ولكننا يمكننا أن نتعرف عليها

ص: 261


1- هذه اللفظة تشير إلى مدرسة شيخ المتألّهين صدر الدين الشيرازي رحمه اللّه .

بسلسلة من المفاهيم الذهنية ونقول :

إنّ الوجود هو الذي يطرد العدم وتفيض العينية والتحقّق منه للأشياء.

وبعبارة أُخرى : ليست للوجود - من أشرفه إلى أخسّه ، من واجبه إلى ممكنه - إلاّ حقيقة واحدة ، تتفاوت في الشدة والضعف حسب تفاوت مراتبه ودرجاته وليست الشدة إلاّ نفس الوجود ، لا أمراً منضماً إليه وليس الضعف إلاّ محدودية الوجود.

فللوجود - في جميع مراتبه - حقيقة واحدة ، ونشير إلى تلك الحقيقة الواحدة بأنّها « طاردة للعدم » أو كونها نفس العينية الخارجية ، وإن كانت لتلك الحقيقة مراتب مختلفة من الشدة والضعف لكن الاشتداد ليس إلاّ نفس الوجود لا أمراً زائداً عليه ، كما أنّ الضعف ليس إلاّ محدوديته ، لا أمراً ينضم إليه.

فإذا اعتبرنا الوجود منبعاً للكمالات ، وأنّه ليس له إلاّ حقيقة واحدة لا أكثر وجب أن نستنتج من تلك المقدمات هذه النتيجة وهي : إذا كان الوجود في مرتبة خاصة من مراتبه - كوجود الحيوانات - ذا أثر ، وهو العلم والشعور فلابد أن يكون هذا الأثر سارياً في كل المراتب بنسبة ما فيها من الوجود.

وغير هذه الحالة يجب إمّا أن لا يكون الوجود منشأ للكمالات ومنبعاً للآثار وإمّا أن نتصور للوجود حقائق متباينة ، أي أن نعتبر حقيقته في مرتبة الحيوانات متغايرة عما هي في مرتبة النباتات والجمادات.

إذ ليس من المعقول أن يكون لحقيقة واحدة أثر معين في مرتبة دون مرتبة أُخرى منها.

وبتعبير آخر إذا كان الوجود ذا حقائق متباينة جاز أن يكون ذا أثر معين في

ص: 262

مورد ما بينما يكون فاقداً لذلك الأثر في مورد آخر.

ولكن إذا كانت للوجود حقيقة واحدة ، ولم تختلف مصاديقها إلاّ في الشدة والضعف فحينئذ لا معنى لأن يكون الوجود ذا أثر في مرحلة بينما يكون فاقداً لذلك الأثر في مرحلة أُخرى.

هذه هي خلاصة البرهان الفلسفي الذي تحدث عنه المرحوم صدر المتألّهين في مواضع مختلفة من كتبه.

على أنّ ظواهر الآيات القرآنية تؤيد هذه الحقيقة إذ تقول : ( وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (1).

سريان الشعور والعلم الحديث

من حسن الحظ أنّ العلوم الحديثة - اليوم - أثبتت بفضل جهود المحققين والباحثين : « وجود الوعي والعلم » في عالم النبات إلى درجة أنّ علماء روس اعتقدوا بأنّ للنبات أعصاباً على غرار الإنسان ، وأنّها تصرخ وتظهر من نفسها ردود فعل معينة.

وإليك ما نشرته صحيفة اطلاعات في هذا الصدد :

« كشفت إذاعة موسكو عن نتائج جديدة لتحقيقات علماء روس في عالم النبات حيث قالت : بأنّ العلماء توصلوا مؤخراً إلى أنّ للنباتات أجهزة عصبية شبيهة بالأجهزة في الحيوانات.

ولقد توصل العلماء إلى هذه الحقيقة بعد أن علّقوا أجهزة سمع وبث

ص: 263


1- الإسراء : 44.

الكترونية دقيقة على ساق نبات القرع ثم لاحظوا - بوضوح - ظهور ردود فعل غريبة على ساق النبات المذكور عندما راحوا يقطعون بعض جذوره !!

وفي الوقت ذاته كانت قد أُجريت اختبارات مشابهة في المختبر الفسيولوجي للنبات بأكاديمية العلوم الزراعية أفرزت نتائج مشابهة أيضاً !

ففي هذه الاختبارات وضعوا جذور إحدى النباتات في ماء ساخن فضبطوا على أثره صيحات ألم وأنات صدرت من النبات غير أنّ هذه الأصوات لم تسمع بالطبع بالأُذن المجردة ، وإنّما أجهزة تسجيل الأصوات الالكترونية الدقيقة هي التي التقطت هذه الصرخات ، وسجلتها على أشرطة خاصة » (1).

ص: 264


1- جريدة اطلاعات.

الفصل الخامس: اللّه والتوحيد الذاتي « وانّه لا نظير ولا مثيل له »

اشارة

ص: 265

اللّه والتوحيد الذاتي

1. أنواع الوحدات.

2. شهادة اللّه على وحدانيته سبحانه.

3. بحث حول كيفية شهادته سبحانه.

4. إجابة عن سؤال.

5. وجود اللّه غير متناه.

6. عوامل المحدودية منتفية في ذاته تعالى.

7. اللامحدود لا يتعدد.

8. سؤال وجواب.

9. سؤال آخر وجواب.

10. أحاديث أئمّة أهل البيت حول وحدانية اللّه.

11. وحدة اللّه ليست وحدة عددية.

12. الآلهة الثلاثة أو خرافة التثليث.

13. كيف تسرب التثليث إلى النصرانية ؟

14. رأي القرآن في التثليث.

15. آثار المسيح البشرية.

ص: 266

التوحيد في الذات

قبل الخوض في دراسة الآيات القرآنية وتحليل الدلائل العقلية والمرتبطة بوحدانية الذات الإلهية المقدسة يلزم أن نذكّر القارئ الكريم بنقاط هي :

1. قلنا فيما تقدم أنّ المحقّقين الإسلاميين اختصروا ولخصوا مراتب التوحيد في أربع هي :

أ. التوحيد الذاتي.

ب. التوحيد الصفاتي.

ج. التوحيد الإفعالي.

د. التوحيد العبادي.

لكن مراتب التوحيد - في الحقيقة - لا تنحصر في هذه الأقسام الأربعة ، بل ثمة مراتب أُخرى له قد ورد ذكرها في الكتاب العزيز ، وسوف يوافيك شرحها ، وبيانها تدريجياً.

والمقصود من « التوحيد الذاتي » هو أنّ اللّه لا شريك ولا نظير ولا شبيه ولا مثيل له.

وبتعبير أوضح ، إنّ « التوحيد الذاتي » هو أنّ الذات الإلهية لا تقبل التعدّد

ص: 267

ولا يمكن أن يتصوّر الذهن مصداقاً وفرداً آخر لله في عالم الخارج ، فالذات الإلهية تكون بحيث لا تقبل التعدّد والتكثّر.

* * *

2. يتركز اهتمام القرآن - في الأغلب - على : مسألة « التوحيد الافعالي » و « التوحيد العبادي » وقلّما يهتم القرآن - في الظاهر - بالتوحيد « الذاتي » والتوحيد في « الصفات » وقلّما يتناولهما بالبحث والبيان.

بيد أنّ الناظر في المفاهيم والمعارف التي يتناولها القرآن الكريم لو أجاد النظر في الآيات القرآنية لوجد أنّ القرآن تعرض للمسألتين الأخيرتين أيضاً ، ولكن في مستويات أرفع يحتاج فهمها واستيعابها واستنتاجها إلى مزيد فحص وإمعان.

* * *

3. لقد قسّم الفلاسفة الإسلاميون الوحدة إلى أربعة أنواع :

أ. الوحدة الشخصية ( العددية ).

ب. الوحدة الصنفية.

ج. الوحدة النوعية.

د. الوحدة الجنسية.

ولتوضيح ذلك نقول :

هناك « وحدة شخصية » و « واحد بالشخص » كما أنّ هناك « وحدة صنفية » و « واحداً بالصنف » ثم « وحدة نوعية » و « واحداً بالنوع » كما أنّ هناك « وحدة جنسية » و « واحداً بالجنس ».

ص: 268

وربما يخلط بينهما وإلى هذا الاختلاط والالتباس يشير الحكيم السبزواري في منظومته الفلسفية قائلاً :

وواحد بالنوع غير النوعي *** في مثله التمييز أيضاً مرعي

وعمدة الفرق بين الصورتين أنّ الأمرين اللّذين يقعان تحت الصنف أو النوع الواحد مثلاً يسميان « واحداً بالنوع أو بالصنف أو بالشخص أو بالجنس ».

فزيد وعمرو بما أنّهما داخلان تحت « نوع واحد » وهو « الإنسانية » فهما واحدان بالنوع كما أنّ مفهوم الإنسانية له « وحدة نوعية ».

والإنسان والفرس بما أنّهما داخلان تحت جنس واحد فهما « واحدان بالجنس » أعني الحيوانية ، كما أنّ ذلك المفهوم « أي مفهوم الحيوانية » له وحدة جنسية.

وقس عليه الوحدة الصنفية مثلاً ، فالطالبان بما أنّهما داخلان تحت عنوان طلبة العلم فهما واحدان بالصنف ويكون لمفهوم الطالبية « وحدة صنفية ».

4. على هذا الأساس لا يمكن ولا يجوز أن نصف اللّه تعالى بالوحدة العددية بأن نقول اللّه واحد ليس باثنين.

إذ أنّ هذا التعبير إنّما يجوز استعماله فيما يمكن تصور فرد « ثان » للشيء الموصوف بالوحدانية ، في الخارج ، أو في عالم الذهن ، وان لم يكن للمفهوم المعين سوى مصداق واحد.

ولكن إذا كانت كيفية وجود الشيء بحيث لا يمكن تصور فرد آخر مثيل له أبداً ، كما بالنسبة إلى اللّه سبحانه ، ففي هذه الصورة لا تتحقق الوحدة العددية مطلقاً ، ولا يصح إطلاقها واستعمالها في مثل هذا المورد بتاتاً.

ص: 269

إنّ الدلائل العقلية ، التي سنذكر طائفة منها - في هذا المقام - لتذكرنا وتهدينا إلى النقطة الهامة ، وهي : أنّ الذات الإلهية « حقيقة خارجية » لا تقبل التعدّد والكثرة بأي شكل من الأشكال وحتى لو أمكننا افتراض « ثان » له فإنّه سيكون نفسه لا غيره (1).

هذا مضافاً إلى أنّ « الوحدة العددية إنّما تصح إذا اندرج الفرد الواحد المعين تحت ماهية كلية كالفرد أو الفردين من أفراد الإنسان التي تندرج تحت عنوان الإنسان.

وهذا التصور باطل في شأن « اللّه » ، إذ لا تندرج ذاته سبحانه أبداً تحت أية ماهية كلية.

وبتعبير فلسفي ، إنّ اللّه منزّه عن الماهية وأن يندرج تحت مفهوم ذاتي.

5. سنبحث في الفصل التاسع من هذا الكتاب حول لفظة « الإله » و « اللّه » وسوف نقول هناك أنّ لفظة إله ولفظة اللّه ترجعان - لفظاً ومعنى - إلى شيء واحد غير أنّ لفظة « إله » عامّة ولفظة « اللّه » اسم خاص ، ولذلك يجمع الأوّل لكونه اسماً عاماً ، في حين لا يمكن جمع الثاني لكونه اسماً خاصاً ، وعلماً.

فعلى هذا تكون الآيات التي وردت في القرآن الكريم بشكل « لا إله إلاّ اللّه » وما شابهها ناظرة إلى وحدانية الذات الإلهية ، ونفي المثيل والنظير له تعالى.

وقد أخطأ من حمل هذه الآيات على « التوحيد العبادي » ونفي معبودات غير اللّه ، لأنّ « إله » كما قلنا ليس بمعنى المعبود ، بل هو ولفظة اللّه سواسية في اللفظ والمعنى.

ص: 270


1- سوف نوضح هذا البرهان بمزيد من البيان في المستقبل.

6. انّ أوضح آية دلالة على توحيد الذات ونفي الشريك والنظير لله سبحانه هو قوله تعالى :

( شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1).

وقد وردت في القرآن آيات أُخرى بهذا المضمون وفي عبارات متنوعة مثل :

( لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ) (2).

( لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ ) (3).

( لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ ) (4).

( لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا ) (5).

وغير ذلك مما يمكن الوقوف عليها بمراجعة « المعجم المفهرس لألفاظ القرآن » بسهولة ويسر.

وإليك آيات أُخرى في هذا الصدد :

( فَاطِرُ السَّماوَاتِ والأرض جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجَاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (6).

ص: 271


1- آل عمران : 18.
2- محمد : 19.
3- الحشر : 22.
4- الأنبياء : 87.
5- النحل : 2.
6- الشورى : 11.

وهل الكاف في الآية زائدة فيكون هدف الآية نفي المثل له ، أو غير زائدة فيكون معناها نفي مثل المثل له ، ويستلزم ذلك نفي المثل بالدلالة الالتزامية إذ من الطبيعي أنّه إذا لم يكن لمثل الشيء مثل فلن يكون لذاته مثل أصلاً.

وتوضيح ذلك :

قال التفتازاني : إنّ الآية بصدد نفي شيء بنفي لازمه ، لأنّ نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما يقال : ليس لأخي زيد أخ فأخو زيد ملزوم والأخ لازمه ، لأنّه لابد لأخي زيد من أخ هو زيد ، فنفيت هذا اللازم والمراد نفي ملزومه ، أي ليس لزيد أخ ، إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ هو زيد.

فكذا نفيت أن يكون لمثل اللّه مثل ، والمراد نفي مثله تعالى إذ لو كان له مثل لكان هو مثل مثله إذ التقدير انّه موجود.

ثم نقل عن صاحب الكشاف وجهاً آخر لعدم زيادة الكاف ، وهو : انّهم قد قالوا مثلك لا يبخل والغرض نفيه عن ذاته ، فسلكوا طريق الكناية قصداً إلى المبالغة ، لأنّهم إذا نفوه عما يماثله وعمّن يكون على أخص أوصافه فقد نفوه عنه. فحينئذ لا فرق بين قوله : ليس كاللّه شيء وقوله : ليس كمثله شيء ، إلاّ ما تعطيه الكناية من فائدتها وهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته (1).

( قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ * اللّه الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) (2).

ص: 272


1- المطول : بحث المجاز المفرد 320.
2- الإخلاص : 1 - 4.

توضيحات حول الآية الأُولى

تذكر الآية الأُولى - بجلاء تام - شهادة اللّه والملائكة والعلماء على وحدانية اللّه ، وعلينا هنا أن نعرف كيف تكون شهادة اللّه على هذا الموضوع.

1. يمكن أن تحمل هذه الشهادة على الشهادة القولية كما نشهد نحن على وحدانيته بقولنا : « لا إله إلاّ اللّه ».

وقد شهد اللّه على وحدانيته بالشهادة اللفظية عن طريق القرآن وهو الوحي والكلام الإلهي ، ضمن الآيات التي تعرضت لبيان هذه الوحدانية وإثباتها ، وقد أشرنا إلى بعضها - فيما تقدم -.

وجملة ( قَائِمَاً بِالقِسطِ ) إشارة إلى القسط الإلهي في القول والعمل ، ومن المعلوم أنّ قبول الشهادة فرع « عدالة الشاهد » وصدقه فلما كان الشاهد عادلاً كانت شهادته صادقة وصحيحة.

2. يمكن أن تكون هذه الشهادة ( المذكورة في الآية ) شهادة عملية ، لأنّ اللّه بخلقه الكون الذي يسوده نظام واحد ، وتترابط أجزاؤه ، وكأنّها موجود واحد ، وكائن فارد أثبت عملياً وحدانية الذات المدبرة لهذا الكون ووحدانية الإرادة المنظمة ، الحاكمة على هذا العالم.

أليس لو كان يحكم إلهان أو أكثر على هذا الكون لم يكن هذا النظم ، ولما كان لهذا التلاحم والترابط وجود ولا أثر ؟

والحق أنّ « الرأي الأوّل » أفضل وأقوم ، لانسجام هذا الرأي مع شهادة الفريقين الآخرين ، أعني : شهادة الملائكة وأُولي العلم ، التي يناسب أن تكون شهادتهما « قولية » ، وحفظ سياق الآية يقتضي تفسير الشهادات الثلاث بمعنى

ص: 273

واحد.

هذا مع العلم أنّ هذه الآية ليست هي الآية الوحيدة التي تخبر عن شهادة « اللّه » ، بل ورد نظير ذلك في آيات أُخرى أيضاً ، ولا يمكن لأحد حملها على الشهادة العملية فقط .. وذلك مثل : ( لَكِنِ اللّه يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى باللّهِ شَهِيداً ) (1).

ولأجل ورود مثل هذه الشهادة في القرآن الكريم ( خاصة بالنظر إلى قوله يشهد بما أنزل ) ينبغي أن نحمل الشهادة المذكورة في الآية المبحوثة على : الشهادة اللفظية ، التي يحكي « الوحي » الإلهي عنها.

سؤال في المقام

اشارة

إنّ الهدف من الشهادة هو أن يتعرف السامع على حقيقة ما ، لاعتقاده بعدالة الشاهد وصدقه حتى إذا كان « المشهود به » من القضايا الاعتقادية اعتقد به ، وإذا كان من الوظائف العملية أتى به.

ولا شك في أنّه لا شاهد أعدل من « اللّه » ولا أصدق منه حديثاً ، فإذا شهد بوحدانية نفسه ، أزالت هذه الشهادة كل شك في ذلك وكل ريب وتردد.

ولكن من أين يمكن إثبات أنّ هذا القرآن الذي يتضمن شهادة اللّه ، هو كلام اللّه وحديثه وخطابه ووحيه ؟!

والجواب : أنّ القرآن أثبت انتسابه إلى اللّه تعالى عن طريق تحدي الناس ، وأنّه

ص: 274


1- النساء : 166.

ليس من صنع الفكري البشري ، وعن طريق عجز الناس عن مواجهة هذا التحدي ، والإتيان بمثل القرآن في جميع الدهور.

وإذا ثبت كون القرآن « وحياً إلهياً » عن هذا الطريق ، لزم قبول كل الشهادات الواردة فيه - بشكل مطلق - دونما مناقشة أو تردد.

* * *

وأمّا الفريق الثاني من الشهود ، أعني : الملائكة ، فهو يسبح لله باستمرار وعلى الدوام وينزّهه ، ويقدّسه عن كلّ عيب ونقص وخاصة عن الشريك.

وقد نقلت شهادة هذا الفريق في الكتاب العزيز بنحو آخر ، إذ يقول القرآن :

( وَالمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) (1).

* * *

وأمّا الفريق الثالث من الشهود ، أعني : أُولي العلم ، فهم يشهدون بوحدانية اللّه بالاستلهام من البراهين المتنوعة ، كبرهان « الفطرة » ، لأنّ الإنسان يتوجه عند الشدائد ، إلى اللّه الواحد دائماً ، وهذا هو خير دليل على وحدانيته سبحانه.

هذا بالإضافة إلى غيره من الأدلّة العقلية ، وآيات وحدانية ذاته تعالى ، التي تهديهم إلى هذه الشهادة ، ونحن - في هذا الفصل - سنشير إلى بعض هذه الأدلة العقلية الدالة على وحدانية الذات الإلهية ، كما سنورد الدلائل الآفاقية ، والأنفسية ، على وحدانية خالق الكون في فصل « التوحيد في الخالقية ».

ص: 275


1- الشورى : 5.

ولا يفوتنا أن نطلب من القارئ الكريم في هذا المقام أن يعيد مطالعة الآية المبحوثة ويمعن فيها وفي مفادها ثم يسلم ويخضع أمام منزلها وموحيها ، لكي يكون في عداد الشهود بوحدانية اللّه ، مع الملائكة وأُولي العلم.

قال الزبير بن العوّام : قلت لأدنونّ هذه العشية من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهي عشية عرفة حتى أسمع ما يقوله ، فحبست ناقتي بين ناقة رسول اللّه وناقة رجل كانت إلى جنبه فسمعته صلی اللّه علیه و آله يقول : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) إلى آخرها ، فما زال يردّدها حتى رفع. (1)

والآن حين انتهينا من دراسة الآية الأُولى ، يلزم أن نعطي بعض التوضيحات حول الآية الثانية ، والثالثة.

ففي الآية 11 من سورة الشورى جاء قوله سبحانه هكذا :

( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ) .

وفي الآية الرابعة من سورة الإخلاص نقرأ قوله سبحانه :

( ولمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) .

فلماذا ليس لله مثيل ولا نظير ؟

فهل من غير الممكن أن يكون له نظير ؟

أم أنّ ذلك ممكن - أساساً - ولكن لم يكن لله تعالى نظير ولا مثيل من باب المصادفة والاتفاق.

إنّ الدلائل العقلية والقرآنية تهدينا إلى امتناع مثل هذا الكفو والنظير -

ص: 276


1- مجمع البيان : 1 - 2 / 717.

أساساً - ولذلك يتعين علينا أن نتوقف هنا قليلاً ونصغي إلى شهادة العقل.

لقد استدل الفلاسفة الإسلاميون على وحدانية الذات الإلهية المقدسة من طريقين :

أ. الوجود « غير المتناهي » لا يقبل التعدّد.

ب. الوجود « المطلق » لا يقبل التعدّد.

وسنعمد - هنا - إلى توضيح البرهان الأوّل فحسب ، لكونه ذا جذور قرآنية.

وأمّا البرهان الثاني فيطلب توضيحه من الكتب الفلسفية والكلامية ، التي تتحدث عن الصفات الإلهية (1).

وإذا ثبتت لنا « لا محدودية » وجود اللّه ، حينئذ يسهل علينا تصوّر توحيده.

والآن يجب علينا إثبات الأمرين (2) بأوضح دليل وبرهان.

أ. وجود اللّه غير متناه
اشارة

إنّ محدودية الموجود ملازمة للتلبس بالعدم.

لنفترض كتاباً طبع بحجم خاص ثم لننظر إلى كل طرف من أطرافه الأربعة ، فإنّا نرى أنّه ينتهي - ولا شك - إلى حد معين ينتهي إليه وجود الكتاب ، وحدود حجمه ، ولا شيء وراء ذلك.

ولنفترض جبال الهملايا فهي مع عظمتها محدودة أيضاً ، ولذلك لا نجد بين

ص: 277


1- شرح المنظومة للحكيم السبزواري : 143 ، وفي ذلك يقول : صرف الوجود كثرة لم تعرضا *** لأنّه أمّا التوحد اقتضى
2- أي لا محدودية اللّه ، واستلزام ذلك ، لتوحيده تعالى.

كل جبلين من جبال الهملايا أي أثر للجبل وذلك دال على أنّ كلاًّ من الجبلين محدود.

من هذا البيان نستنتج أنّ « محدودية » أية حادثة من حيث « الزمان » أو محدودية أي جسم من حيث « المكان » هي أن يكون وجوده مزيجاً بالعدم ، وانّ المحدودية والتلبس بالعدم متلازمان.

ولذلك فإنّ جميع الظواهر والأجسام المحدودة « زماناً ومكاناً » مزيجة بالعدم ، ويصح لذلك أن نقول في حقّها بأنّ الحادثة الفلانية ، لم تتحقق في الزمان الفلاني أو أنّ الجسم الفلاني لا يوجد في المكان الفلاني.

على هذا الأساس لا يمكن اعتبار ذات « اللّه » محدودة ، لأنّ لازم المحدودية هو الامتزاج بالعدم ، والشيء الموجود الممزوج بالعدم موجود باطل لا يليق للمقام الربوبي الذي يجب كونه حقاً ثابتاً مائة بالمائة كما هو منطق القرآن الكريم والعقل حول اللّه سبحانه.

( ذلِكَ بأنَّ اللّه هُوَ الحَقُّ وأنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الباطِلُ ) (1).

ويمكننا أن نستدل لإثبات لا محدودية الذات الإلهية بدليل آخر هو :

عوامل المحدودية منتفية في ذاته

ويقصد من « انتفاء عوامل المحدودية في ذاته » أنّ للمحدودية موجبات وأسباباً ، منها : « الزمان والمكان » فهما من أسباب محدودية الظواهر والأجسام.

فالحادثة التي تقع في برهة خاصة من الزمان حيث إنّ وجودها مزيج

ص: 278


1- الحج : 62.

بالزمان ، فمن الطبيعي أن لا تكون هذه الظاهرة في الأزمنة الأُخرى.

كما أنّ الجسم الذي يشغل حيزاً ومكاناً معيناً من الطبيعي أن لا يكون في مكان وحيز آخر ، وهذا هو معنى « المحدودية ».

في هذه الصورة لا بد أن يكون وجود اللّه المنزّه عن الزمان والمكان منزّهاً من هذه القيود المحدّدة.

وحيث لا يمكن تصوّر الزمان والمكان في شأنه تعالى ، لزم وصفه سبحانه باللامحدودية من جانب الزمان والمكان.

وبتعبير آخر ، أنّ الشيء الذي يتصف بالكم والكيف لابدّ وأن يكون محدوداً بحد ، إذ لازم اتصاف الشيء بكمية أو كيفية معينة ، هو عدم اتصافه بكمية وكيفية أُخرى مضادة (1).

أمّا عندما يكون الشيء خالياً وعارياً عن أي نوع من أنواع الكيفية والكمية ، بل يكون وجوده أعلى من الاتصاف بهذه الأوصاف فإنّه يكون لا محالة « غير متناه » وغير محدود من هذه الجهات ، كما هو واضح وبديهي.

إلى هنا استطعنا أن نثبت - ببيان واضح - لا محدودية الذات الإلهية ، وقد حان الأوان أن نثبت المطلب الثاني ، أعني : عدم إمكان تعدّد اللامحدود.

ب. اللامحدود لا يتعدّد

هذا أمر يتضح بأدنى تأمل ، لأنّنا إذا اعتبرنا « اللامحدود » متعدداً فإنّنا

ص: 279


1- لأنّ التكيّف والاتصاف بالكيفيات والكميات والإضافات والانتسابات توجب للأشياء المحدودية بالحدود ، والموجود العاري عن هذه القيود لا يتحدد بأي نوع من المحدودية ، واللّه سبحانه منزَّه عن الكيف والكم ، منزَّه عن الانتساب والإضافة.

نضطر حينئذ - لإثبات الاثنينية - إلى أن نعتبر كل واحد منهما « متناهياً » من جهة أو جهات ، ليمكن أن نقول : هذا غير هذا.

لأنّ ذينك الشيئين إذا كان أحدهما عين الآخر من كل الجهات لم يصدق - حينئذ - كونهما اثنين ، أي لم تصح الاثنينية.

وبعبارة أُخرى : انّ نتيجة قولنا : هذا غير ذاك. هي أنّ وجود كل واحد منهما خارج عن وجود الآخر ، وإنّ الثاني يوجد حيث لا يوجد الأوّل ويوجد الأوّل حيث لا يوجد الثاني ، وهذه هي « المحدودية » و « التناهي » ، في حين أنّنا أثبتنا في الأصل الأوّل : « عدم محدودية اللّه وعدم تناهيه ».

ومن باب المثال نقول : إنّما يمكن افتراض خطين غير متناهيين في الطول إذا كانا متوازيين ( أي كانا بحيث لا يشغل الأوّل مكان الثاني ) ، ففي مثل هذه الصورة فقط يمكن افتراض اللانهائية واللامحدودية في كل من الخطين.

أمّا عندما نفترض جسماً غير متناه في الكبر والسعة في جميع أبعاده فإنّه لا يمكن - حينئذ - أن نفترض وجود جسم آخر غير متناه في الكبر والسعة في جميع أبعاده على غرار الجسم الأوّل.

لأنّ المفروض أنّ الجسم الأوّل لكونه « غير محدود » في الكبر والسعة ، شغل كل الفضاء ، وبهذا لم يترك أي مجال لجسم آخر ، وإلاّ لعاد الجسم الأوّل « محدوداً » وهو خلاف ما افترضناه.

وحينئذ إمّا أن يكون الجسم الثاني عين الجسم الأوّل قطعاً ، وإمّا أن يكون الجسم الأوّل محدوداً من جهة أو من جهات.

وهكذا الأمر في الحقيقة الإلهية التي لا حد لها ولا نهاية.

***

ص: 280

من هذين البيانين اتضح مقصود القرآن الكريم من قوله :

( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .

وقوله :

( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) .

كما اتضح أيضاً لماذا لا تكون الوحدة التي نصف بها الذات الإلهية ، وحدة عددية ، لأنّ مثل هذه الوحدة ( أي العددية ) إنّما تتصور إذا أمكن تصور فردين أو أفراد للشيء ، في حين لا يمكن تصور التعدّد في مورد اللامحدود ، لأنّ كل واحد من الفردين عند افتراض التعدّد ، غير الآخر ، ومنتهى حدود الآخر ، ولهذا يكون أي واحد منهما غير محدود ، وغير متناه في حين أنّنا افترضنا الأوّل غير محدود ، وغير متناه.

سؤال في المقام

نرى في الكتاب العزيز مجيء وصف « القهار » عقيب وصف اللّه ب « الواحد » مثل قوله :

( وَمَا مِنْ إِله إِلاَّ اللّه الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (1).

( سُبْحَانَهُ هُوَ اللّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (2).

( وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (3).

ص: 281


1- ص : 65.
2- الزمر : 4.
3- الرعد : 16.

وهنا ينطرح سؤال عن وجه الارتباط بين وصفي الوحدانية والقهارية ؟

الجواب :

الحق أنّ « القهارية » دليل على وحدانية اللّه ، لأنّ الشيء المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه ، وعلامة المقهورية هي أن يصح سلب أُمور منه ، مثلاً يصح أن يقال في شأنه :

هذا الجسم ليس هناك أو أنّه لم يكن في ذلك الوقت.

وعلى هذا فإنّ المقهورية هي سبب المحدودية.

وأمّا إذا كان الشيء « قاهراً » من كل الجهات ، فلا تتحكم فيه الحدود قطعاً ، واللامحدودية تستلزم الوحدانية والتفرّد ، ولأجل ذلك قورنت صفة الوحدانية بوصف القاهرية ، وقال : ( الوَاحِدُ القَهَّارُ ) .

وفي الحقيقة يمكن اعتبار هذا النوع من الوصف ( أي الوصف بالقهارية ) إشارة إلى ذلك الدليل العقلي الذي ذكرناه في هذه الإجابة.

وهكذا يتضح وجه الارتباط بين وصفي « الوحدانية » و « القهّارية » اللّذين اجتمعا في بعض الآيات القرآنية.

سؤال آخر :

إذا كان وجود اللّه منزّهاً عن الوحدة العددية ، ففي هذه الصورة ماذا يكون معنى الآيات التي تصف اللّه بأنّه « الواحد » ، والواحد ، كما نعلم ، هو ما يقابل الاثنين والثلاث إلى غيرهما من الأعداد ، كقوله سبحانه :

ص: 282

( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) (1).

( وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (2).

خاصة إذا عرفنا بأنّ هذه الآيات نزلت في مقام الرد على ما كان يذهب إليه المشركون من الاعتقاد ب « تعدّد الآلهة » ، والذين كانوا يقولون :

( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) (3).

الجواب : انّ الهدف من هذه الآيات - في الحقيقة - هو استنكار ما كان يعتقده المشركون بأنّ لكل قبيلة وقوم إلهاً خاصاً بها كانوا يعبدونه ولا يعتقدون بآلهة الآخرين.

فالمقصود من هذه الآيات هو إبطال إلوهية هذه الأوثان والآلهة المدّعاة وتوجيه الأذهان إلى « اللّه الواحد » بدل تلك الآلهة المتعددة.

وأمّا أنّ وحدته كيف ؟ وعلى أي وجه ؟ ومن أي نوع من أنواع الوحدات الأربع تكون هذه الوحدة ؟ فليست الآيات المذكورة ناظرة إليه ، بل يجب استفادة هذا الأمر من الإشارات التي وردت في القرآن إلى هذه الوحدة في مواضع أُخرى.

أحاديث أئمّة أهل البيت علیهم السلام حول وحدانية اللّه

لقد ورد هذان الموضوعان ، أعني : عدم تناهي ذاته سبحانه وعدم الوحدة العددية ، المذكوران في البرهان العقلي في أحاديث أئمّة أهل البيت علیهم السلام أيضاً فهي

ص: 283


1- البقرة : 163.
2- العنكبوت : 46.
3- ص : 5.

صرّحت بنفي المحدودية والتناهي في الذات الإلهية ، وصرّحت أيضاً بعدم صدق « الوحدة العددية » في حقّه سبحانه.

فقد قال الإمام الثامن علي بن موسى الرضا علیه السلام في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء :

« ليس له حد ينتهي إلى حده ، ولا له مثل فيعرف بمثله » (1).

ومما يستحق الإمعان والدقة أنّ الإمام علیه السلام - بعد نفيه الحد عن اللّه - نفى المثيل له سبحانه لارتباط اللامحدودية وملازمتها لنفي المثيل على النحو الذي مر بيانه.

ومن ذلك ما قاله الإمام علي علیه السلام في وقعة الجمل عندما كان بريق السيوف يشد إليها العيون ، وكانت ضربات الطرفين تنتزع النفوس والأرواح التفت إليه رجل من أهل العراق وسأله عن كيفية وحدانية اللّه ، فلامه أصحاب الإمام وحملوا عليه قائلين له : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ( أي تشتت الفكر واضطراب البال ) ؟!

فقال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

« دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ».

ثم قال - شارحاً ما سأل عنه الأعرابي - :

« وقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ».

ص: 284


1- توحيد الصدوق : 33.

ثم أضاف علیه السلام قائلاً :

« هو ( أي اللّه ) واحد ليس له في الأشياء شبيه ، كذلك ربنا » (1).

وهكذا يصرح الإمام بأنّ الواحدية المذكورة هنا تعنى أنّه لا عديل له لا أنّه واحد على غرار قولنا : « هذا قلم واحد » الذي يكون مظنة لإمكان الاثنينية ، إذ في هذه الصورة يمكن أن يكون ذات مصاديق متعددة وأفراد متكثرة ، ولكنه انحصر في اللّه ، وهذا خلف ، وغير صحيح.

الآلهة الثلاثة أو خرافة التثليث

بعد أن درسنا - بالتفصيل - الآيات المرتبطة بتوحيد اللّه ، يلزم أن نعرف نظر القرآن في حقيقة التثليث.

الحقيقة أنّه قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام والغموض كما تعاني منها المسيحية.

كما أنّه قلّما توجد مسألة في غاية الإبهام واللامعقولية كما تكون عليه مسألة « التثليث » في تلك العقيدة.

لقد أدّى تقادم الزمن وتطور الحياة والتكامل الفكري وتضاؤل العصبيات المذهبية والتحولات الفكرية ، أدّت كل هذه الأُمور إلى ظهور « طبقة » جديدة بين مفكري المسيحية وعلمائها ، كما تسببت في وجود فجوة عميقة بين العلم والمنطق من جانب ، وبين معتقداتهم القديمة من جانب آخر بشكل لا يمكن ملؤها بأي نحو ، وأي شيء.

غير أنّ هذه « الطبقة الجديدة » من العلماء المسيحيين اتخذت لملء هذه

ص: 285


1- توحيد الصدوق : 83.

الفجوة الفكرية وهذا الخلاء العقيدي طريقين :

الطريق الأوّل : محاولة البعض منهم لتأويل تلك المعتقدات المسيحية الباطلة المرفوضة حتى في المنطق البشري الحاضر ، وإعطاء هذه الأفكار الخرافية صبغة منطقية عصرية كما نشاهد ذلك في تأويلهم لمسألة التثليث.

الطريق الثاني : هو اجتناب التأويل واتباع قاعدة أتفه وهي قولهم : « بأنّ طريق العلم يختلف عن طريق الدين » وأنّه من الممكن أن يقول الدين بشيء أو يرتضي أصلاً لا يصدقه العلم فيه. وإنّه ليس من الضروري أن يطابق الدين مع العلم دائماً.

وبالتالي قبول خرافة « الدين يخالف العلم ».

ولكن هؤلاء غفلوا عن نقطة هامة جداً وهي أنّ القول بخرافة : « مضادة الدين للعلم » ستؤدي في المآل إلى إبطال أصل الدين ، لأنّ اعتقاد البشر بأي دين من الأديان يتوقف على الاستدلالات العقلية والعلمية ، وفي هذه الصورة ، نعني : مضادة العلم للدين ، كيف يمكن إثبات صحة الدين بالاستناد إلى الأُسس العقلية والعلمية والحال أنّ بين الدين والعلم مباينة - حسب هذه النظرية - أو أنّ في الدين ما ربما يخالف العلم والعقل ؟!!

إنّ البحث في العقيدة النصرانية حول سيدنا المسيح يتركّز في مسألتين :

1. التثليث وانّ اللّه سبحانه هو ثالث ثلاثة.

2. كونه سبحانه اتخذ ولداً.

والمسألتان مفترقتان من حيث الفكرة وإقامة البرهان ، ولأجل ذلك نعقد لكل واحدة منهما عنواناً خاصاً.

ص: 286

كيف تسربت خرافة التثليث إلى النصرانية ؟

ينقل الأُستاذ فريد وجدي نقلاً عن دائرة معارف « لاروس » :

« أنّ تلاميذ المسيح الأوّليّين الذين عرفوا شخصه ، وسمعوا قوله ، كانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنّه أحد الأركان الثلاثة المكونة لذات الخالق وما كان بطرس أحد حوارييه ، يعتبره إلاّ رجلاً موحى إليه من عند اللّه ، أمّا بولسن فإنّه خالف عقيدة التلامذة الأقربين لعيسى وقال : إنّ المسيح أرقى من إنسان وهو نموذج إنسان جديد أي عقل سام متولد من اللّه » (1).

إنّ التاريخ البشري يرينا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء - بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم - إلى الشرك والوثنية - تحت تأثير المضلّين - وبذلك كانوا ينحرفون عن جادة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي والغاية القصوى لأنبياء اللّه ورسله.

إنّ عبادة بني إسرائيل للعجل وترك التوحيد الذي هداهم النبي العظيم موسى له ، لمن أفضل النماذج لما ذكرناه وهو ما أثبته القرآن والتاريخ للأجيال القادمة ، وعلى هذا فلا داعي للعجب إذا رأينا تسرب خرافة « التثليث » إلى العقائد النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح علیه السلام وغيابه عن أتباعه.

إنّ تقادم الزمن قد رسخ موضوع « التثليث » وعمّقه في قلوب النصارى وعقولهم بحيث لم يستطع حتى أكبر مصلح مسيحي ونعني « لوثر » الذي هذّب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير والخرافات وأسس المذهب البروتستانتي ، لم يستطع لوثر هذا من التخلّص من مخالب هذه الخرافة وأحابيلها.

ص: 287


1- دائرة معارف القرن العشرين مادة ثالوث.

رأي القرآن في التثليث

يعتبر القرآن الكريم « قضية التثليث » مرتبطة بالأديان السابقة على المسيحية ويعتقد أنّ المسيح علیه السلام نفسه ما كان يدعو إلاّ إلى اللّه « الواحد » الأحد إذ يقول :

( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إنّ اللّهَ هُوَ المسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ وقالَ المَسِيحُ يا بَنِي إسرائيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبَّكُمْ إنّهُ مَنْ يُشْرِكْ باللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّه عَلَيْهِ الجَنَّةَ ) (1).

ويعتقد القرآن أنّ النصارى هم الذين أدخلوا هذه الخرافة في العقائد المسيحية إذ يقول :

( وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (2).

لقد أثبتت تحقيقات المتأخرين من المحققين صحة هذا الرأي القرآني بوضوح لا لبس فيه.

فهذه التحقيقات والدلائل التاريخية جميعها تدل على أنّه أدخلت - في القرن السادس قبل الميلاد - إصلاحات على الدين البراهماني ، وفي النتيجة ظهرت الديانة الهندوسية.

وقد تجلّى الرب الأزلي الأبدي وتجسد - لدى البراهمة - في ثلاثة مظاهر وآلهة :

1. برهما ( الخالق ).

ص: 288


1- المائدة : 72.
2- التوبة : 30.

2. فيشنو ( الواقي ).

3. سيفا ( الهادم ).

ويوجد هذا الثالوث الهندوكي المقدس في المتحف الهندي ، في صورة ثلاث جماجم متلاصقة ، ويوضح الهندوس هذه الأُمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي :

« براهما » : هو الموجد في بدء الخلق ، وهو دائماً الخالق اللاهوتي ، ويسمى الأب.

« فيشنو » : هو الواقي الذي يسمى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.

« سيفا » : هو المفني الهادم المعيد للكون إلى سيرته الأُولى.

لقد أثبت مؤلف كتاب « العقائد الوثنية في الديانة النصرانية » في دراسته الشاملة حول هذه الخرافة وغيرها من الخرافات التي تعج بها الديانة النصرانية أثبت أنّ هذا « الثالوث » المقدس كان في الديانة البراهمانية ، وغيرها من الديانات الخرافية ، قبل ميلاد المسيح علیه السلام بمئات السنين.

وقد استدل لإثبات هذا الأمر بكتب قيمة وتصاوير حية توجد الآن في المعابد والمتاحف يمكن أن تكون سنداً حياً ، ومؤيداً قوياً لرأي القرآن الكريم ، الذي ذكرناه عما قريب.

ثم في هذا الصدد يكتب غوستاف لوبون :

« لقد واصلت المسيحية تطورها في القرون الخمسة الأُولى من حياتها مع

ص: 289

أخذ ما تيسر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الأوربية حوالي القرن الأوّل الميلادي ، فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوناً من الأب والابن وروح القدس مكان التثليث القديم المكون من نروپي تر ، وژنون ونرو » (1).

***

لقد أبطل القرآن الكريم مسألة التثليث بالبرهان المحكم إذ قال :

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً ) (2).

نعم لم يرد في هذه الآية كلام صريح عن التثليث بل تركز الاهتمام فيها على إبطال « إلوهية المسيح » ، ولكن طرحت - في آيات أُخرى - إلوهية المسيح في صورة إنكار « التثليث » ومن هذا الطرح يعلم أنّ إلوهية المسيح كانت مطروحة بصورة « التثليث » وتعدد الآلهة كما قال القرآن في موضع آخر :

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه ثَالِثُ ثَلاَثَة وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ ) (3).

يقيم القرآن الكريم - في هذا المجال - برهانين في غاية الوضوح والعمومية ، وها نحن نوضحهما فيما يأتي :

والبرهانان هما :

1. قدرة اللّه على إهلاك المسيح.

ص: 290


1- قصة الحضارة.
2- المائدة : 17.
3- المائدة : 73.

2. أنّ المسيح مثل بقية البشر يأكل ويمشي و ...

يقول القرآن حول البرهان الأوّل :

( فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّه شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ واللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ) (1).

ولا ريب أنّ جميع النصارى يعترفون بأنّ السيد المسيح « ابن » لمريم ولذلك يقولون : المسيح ابن مريم.

فإذا كان عيسى « ابناً » لمريم فلابد أنّه بشر كسائر البشر وآدمي كبقية الآدميين ، محياه ومماته بيد اللّه ، وتحت قدرته ، فهو تعالى يهبه الحياة متى يشاء ، وهو تعالى يميته متى أراد ، ومع هذه الحالة كيف تعتبره النصارى « إلهاً » وهو لا يملك لنفسه حياة ولا موتاً ؟!! »

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم وجّه في هذه الآية عناية كاملة إلى « بشرية » المسيح باعتبار أنّ بشرية المسيح تؤلِّف أساس البرهان الأوّل ولذلك نجد القرآن يصفه علیه السلام بأنّه ابن مريم ، ويتحدث عن « أُمه » وعن جميع من في الأرض فيقول : ( وََأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً ) مشيراً إلى بشريته ، بل وليثبت أنّ المسيح ليس أكثر من كونه واحداً من آحاد البشر وفرداً من أفراد النوع الإنساني يشترك مع بني نوعه في كل الأحكام على السواء.

وبعبارة أوضح أنّ هناك قاعدة في الفلسفة الإسلامية هي قاعدة « حكم

ص: 291


1- المائدة : 17.

الأمثال » التي تقول : « حكم الأمثال فيما يجوز [ عليها ] وما لا يجوز واحد ».

فإذا كان هلاك أفراد الانسان ( ما عدا المسيح ) ممكناً كان هلاك المسيح أيضاً ممكناً كذلك ، لكونه واحداً من البشر ، وفي هذه الصورة كيف تعتبره النصارى إلهاً ، والإله لا يجوز عليه الموت ؟!

ولتتميم هذا المطلب يختم القرآن الكريم الآية بجملة ( وَللهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ والأرض ) وفي الحقيقة إنّ هذه الجملة تكون علة للحكم السابق فمعناه أنّ اللّه يملك اهلاك عيسى وأُمّه وكل أفراد البشر لأنّهم جميعاً ملكه ، وفي قبضته ، وتحت قدرته ، فيكون معنى مجموع الآية : انّ اللّه قادر على إهلاك عيسى وأُمّه ، لأنّه مالكهم جميعاً وبيده ناصيتهم دون استثناء ، والقدرة على إهلاكه وإهلاك أُمّه ، أدل دليل على كونه مخلوقاً له سبحانه. البرهان الثاني : المسيح والآثار البشرية

خلاصته : أنّ المسيح وأُمّه شأنهم شأن بقية الأنبياء ، يأكلون الطعام ، كأي بشر آخر ، إذ يقول :

( مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمَّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) (1).

وعلى هذا فليس بين المسيح وأُمّه وبين غيره من الأنبياء والرسل أي فرق ، وتفاوت ، فهم يأكلون عندما يجوعون ويتناولون الطعام كلما أحسّوا بالحاجة إلى الطعام ، وشأن عيسى وأُمّه شأنهم ، ولا ريب أنّ « الحاجة » دليل الإمكان والإله

ص: 292


1- المائدة : 75.

منزّه عن الحاجة والإمكان.

إنّ هذه الآية لا تبطل إلوهية المسيح فحسب ، بل تبطل إلوهية أُمّه أيضاً ، إذ يستفاد من بعض الآيات أنّ « أُمّه » كانت معرضاً لهذه التصورات الباطلة أيضاً حيث يقول القرآن :

( ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ ) (1).

لقد استوفينا البحث حول التثليث في نظر القرآن وبقي البحث حوله من زاوية البراهين العقلية ، وسيوافيك ذلك في مختتم هذا الفصل ، بعد أن ندرس بنوة عيسى ومعبوديته وبطلانها قرآنياً ، لنتفرغ بعده إلى دراسة التثليث عقلياً.

اللّه سبحانه واتخاذ الولد

اشارة

اللّه سبحانه واتخاذ الولد (2)

تعتبر مسألة بنوة المسيح لله إحدى مظاهر الشرك في « الذات » ، الذي يصوّر حقيقة الإله الواحد في صورة آلهة متعددة ، ويقوم « التثليث » النصراني في الحقيقة على هذا الأساس ، أي على أساس اعتبار المسيح ابناً لله سبحانه.

وقد فنّد القرآن الكريم هذا الاعتبار الخاطئ وأبطله ببراهين عديدة ، وأوضح تفاهته بطريقين :

أوّلاً : عن طريق البراهين العلمية الدالة على استحالة أن يكون لله ولد مطلقاً سواء أكان هذا الولد عيسى علیه السلام أم غيره.

وثانياً : عن طريق بيان تولد المسيح من أُمّه ، واستعراض حياته البشرية ،

ص: 293


1- المائدة : 116.
2- هذه هي المسألة الثانية التي أشرنا إليها - آنفاً في مطلع بحث التثليث -.

الدال على بطلان كونه « ولداً » لله خصوصاً.

على أنّ النصارى ليسوا هم وحدهم الذين اعتقدوا بوجود ولد لله ، بل قالت بمثل ذلك اليهود حيث ينقل سبحانه عنهم :

( وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ ) (1).

وحذا حذوهم مشركو العرب حيث كانوا يتصورون أنّ « الملائكة » بنات اللّه إذ يقول سبحانه :

( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ ) (2).

وإليك هذه البراهين حول الطريق الأوّل بالتفصيل.

البرهان الأوّل

يقول سبحانه :

( بَدِيْعُ السَّماوَاتِ والأرض أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (3).

أُشير في هذه الآية الشريفة إلى برهانين على استحالة اتخاذ اللّه للولد :

1. انّ اتخاذ الولد يتحقق بانفصال جزء من الأب باسم « الحويمن » ويستقر في رحم الأُم ويتفاعل مع ما ينفصل منها وتسمّى بالبويضة ، وتواصل تلك البويضة تكاملها حتى يكون الوليد بعد زمن.

ص: 294


1- التوبة : 30.
2- النحل : 57.
3- الأنعام : 101.

إذن فمثل هذه العملية تحتاج ولا ريب إلى وجود « زوجة » أو بتعبير القرآن إلى « صاحبة » في حين يعترف الجميع بعدم الصاحبة له سبحانه كما يقول القرآن ( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ) .

2. إن كان معنى « اتخاذ الولد » هو ما قلناه ، إذن فلا يكون الولد مصنوعاً لله ومخلوقاً له تعالى بل يكون عدلاً وشريكاً له.

لأنّ « الوالد » ليس خالق « الولد » بل الولد جزء من والده انفصل عنه ، ونما خارجه ، وكبر ، في حين انّ اللّه خالق كل شيء ما سواه من الأشياء بلا استثناء كما تقول : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) .

ويقول سبحانه في صدر الآية : ( بَدِيعُ السَّماوَاتِ والأرْضِ ) بمعنى موجد السماوات والأرض وخالقهما وما فيهما.

البرهان الثاني

( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ والأرضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (1).

وقد أُشير في هذه الآية إلى برهان واحد على « نفي الولد لله » وهو مسألة « المالكية التكوينية له سبحانه والوهيته المطلقة » لما سواه ، وتوضيحه :

إنّ هناك نوعين من المالكية : مالكية اعتبارية ، تنشأ من العقد الاجتماعي الدارج بين أبناء البشر ، ومالكية تكوينية تنشأ من خالقية المالك.

إنّ مالكية الإنسان لأمواله مالكية ناشئة عن « العقد الاجتماعي » الذي

ص: 295


1- الفرقان : 2.

أذعن له الإنسان لغرض إدارة الحياة وضمان تمشيتها وجريانها ، في حين أنّ مالكية اللّه للسماوات والأرض وما بينهما مالكية تكوينية ناشئة عن خالقيته لها.

فإذا كان اللّه سبحانه مالكاً لكل شيء فلا يمكن حينئذ أن نتصور له ولداً لأنّ ولد الإنسان - بحكم كونه ليس مخلوقاً له - لا يكون مملوكاً له كذلك مع أنّا أثبتنا أنّ اللّه مالك لكل شيء لكونه خالقاً لكل شيء ، وإلى هذا البرهان أُشير في هذه الآية : ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ والأرضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ) .

كما أُشير - في ذيل هذه الآية - إلى علة هذه المالكية وأساسها وهو « الخالقية » إذ يقول : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) .

البرهان الثالث

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ والأرضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّماوَاتِ والأرضِ وَإِذَا قَضَى أَمراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1).

استدل في هاتين الآيتين على « نفي الولد » بثلاثة براهين :

1. أنّ معنى الولد هو انفصال جزء من الوالد واستقراره في رحم الأُم ، وهذا يستلزم كون اللّه جسماً ، ومتصفاً بالآثار الجسمانية كالمكان ، والزمان والجزئية ، والتركب من الأجزاء بينما يكون اللّه سبحانه منزّهاً عن هذه الأُمور وإلى هذه الناحية أشارت الآية بكلمة « سبحانه ».

2. انّ إلوهية اللّه مطلقة وربوبيته عامة وشاملة ، فكل الموجودات قائمة به ومحتاجة إليه ، غير مستغنية عنه.

ص: 296


1- البقرة : 116 - 117.

فإذا كان له « ولد » يلزم - حتماً - أن يكون الولد مثيلاً ونظيراً له في الاتصاف بجميع صفات اللّه ومنها : « الاستقلال والغنى عن الغير » على حين ثبت كونه سبحانه مالكاً مطلقاً للسماوات والأرض وما بينهما فهي قائمة به ، تابعة له ، محتاجة إليه دون استثناء ومطيعة لأمره وخاضعة لمشيئته بلا منازع ، وليس هنا موجود مستقل غيره.

وإلى هذا البرهان أشار بقوله سبحانه : ( لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ والأرضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) .

3. انّه لا موجب لاتخاذ اللّه للولد ، لأنّ طلب الأبناء والأولاد ، إمّا أن يكون لغرض استمرار النسل والذرية ، أو بهدف الاستعانة بهم لرفع الاحتياج عند الشيخوخة والعجز ، ولا يمكن أن يتصور أي واحد من هذه الدوافع في مقامه سبحانه وإلى هذا أشارت الآية بقولها :

( بَدِيعُ السَّماوَاتِ والأرضِ وَإِذَا قَضَى أَمراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1).

فأية حاجة تتصوّر لله إلى الولد وهو بديع كل شيء ؟

وفي آية أُخرى اعتمد على موضوع « الغنى الإلهي » لنفي الولد ، إذ يقول :

( قَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ وما فِي الأرْضِ ) (2).

وهكذا ينفي القرآن الكريم خرافة اتخاذ اللّه للبنين والبنات ، تلك الخرافة التي كانت توجد في الديانات القديمة ك : « اليهودية » و « النصرانية »

ص: 297


1- البقرة : 117.
2- يونس : 68.

و « الزرادشتية » و « الهندوكية » وعند المشركين.

ولقد استدل المسيحيون على بنوة عيسى لله بتولده من غير أب ، إذ قالوا للنبي صلی اللّه علیه و آله هل رأيت ولداً من غير أب ؟ إذن فليس لعيسى من أب إلاّ اللّه.

فأجاب اللّه عن هذا الزعم بقوله :

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1).

أي إنّ مثل عيسى في تكونه من غير أب كمثل آدم في خلق اللّه له من غير أب وأُم فليس عيسى عندئذ بأبدع وأعجب من آدم فكيف أنكروا هذا وأقرّوا بذلك ؟!

خلاصة ما سبق

تلخّص مما سبق أنّ القرآن يستند في نفيه لاتخاذ اللّه ولداً على البراهين التالية :

1. ليست له سبحانه أية زوجة حتى يكون له ولد منها.

2. انّه تعالى خالق كل شيء واتخاذ الولد ليس خلقاً بل هو انفصال جزء من الوالد وهو ينافي خالقيته لكل شيء.

3. انّه مالك كل شيء مالكية ناشئة عن الخالقية وكون المسيح ولداً له سبحانه يستلزم عدم مخلوقيته وهو يستلزم عدم كونه مملوكاً وهو ينافي مالكية اللّه العامة.

4. انّه سبحانه منزّه عن أحكام الجسم ، واتّخاذ المسيح ولداً يستلزم كون اللّه

ص: 298


1- آل عمران : 59.

جسماً ومحكوماً بالأحكام الجسمانية ، لأنّ معنى كون المسيح ولداً له سبحانه هو انفصال جزء منه سبحانه وهو يستلزم كونه جسماً.

5. انّ جميع الأشياء قائمة باللّه فلا استقلال لسواه في حين يستلزم افتراض ولد لله سبحانه استقلاله كاستقلال الوالد حتى يكون الولد نظير الوالد.

6. انّ اللّه تعالى غني فلا حاجة له إلى ولد.

7. انّ كون المسيح دون والد ليس بأعجب من آدم الذي وجد من دون أبوين مطلقاً.

* * *

وأمّا الطريق الثاني (1) الذي سلكه القرآن لإبطال « بنوة خصوص المسيح » فهو بيان حياة السيد المسيح وشرحها بنحو واضح في سور مختلفة خاصة في سورة « مريم » (2) بحيث لا يبقى أي شك لمنصف في « بشريته » علیه السلام .

وقد وردت في بعض الآيات التي مرت في هذا البحث نماذج عن حياته البشرية (3).

بقي هنا بحث هام اعتنى به القرآن الكريم بجد ، وهو مسألة كون المسيح

ص: 299


1- قد تقدم آنفاً في صفحة 293 إنّ القرآن استعرض مسألة نفي الولد لله سبحانه بشكلين تارة عن طريق نفي أي ولد له سواء أكان المسيح أم غيره وأُخرى عن طريق نفي خصوص بنوة المسيح ، وقد استوفينا البحث في القسم الأوّل وإليك البحث في القسم الثاني.
2- راجع سورة مريم : 16 - 35.
3- راجع سورة المائدة : 17 و 75 ، وسورة التوبة : 30 وسيوافيك قوله سبحانه : ( إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّه وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ) ( النساء : 171 ) فبملاحظة حالاته في هذه الدنيا نجزم بأنّه مخلوق لله سبحانه وليس ولداً له.

معبوداً وانّه لا يستحق العبادة سواء أكان ابناً لله سبحانه أم لا ، وسواء أصح التثليث أم لا ، وهذه مسألة مستقلة تجتمع مع نفي التثليث والبنوة ، ولأجل ذلك نستعرض هذا البحث مستقلاً عن البحثين الماضيين.

القرآن ومعبودية المسيح

إنّ القرآن ينزّه اللّه تنزيهاً مطلقاً عن أن يبعث رسلاً يدعون الناس إلى عبادة أنفسهم بدل الدعوة إلى عبادة اللّه سبحانه ، فقال :

( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللّه وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيّيِنَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (1).

وفي هاتين الآيتين نفي لمعبودية المسيح أو مشاركته في الربوبية.

كما أنّ القرآن الكريم طرح مسألة عبادة السيد المسيح في آيات أُخرى وأبطل - بنفي مالكية المسيح لضر عباده ونفعهم - إمكان كونه مستحقاً للعبادة فيقول :

( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ولا نَفْعاً واللّه هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) (2).

ص: 300


1- آل عمران : 79 - 80.
2- المائدة : 75.

وحيث إنّ البحث هنا هو حول التوحيد الذاتي ، فنرجئ البحث عن التوحيد في العبادة مطلقاً وبطلان معبودية المسيح خصوصاً إلى الفصل التاسع.

غير أنّ التدبر في هذه الآية والآيات المشابهة لها يوضح لنا نقطة مهمة وهي : أنّ الدافع الأساسي لاتخاذ شخص أو شيء معبوداً إنّما هو لأجل الاعتقاد بمالكية ذلك المعبود لضرهم ونفعهم.

وعلى هذا فكل خضوع وخشوع ينبع من هذه النقطة المهمة يمكن أن يكون مصداقاً للشرك في العبادة.

وأمّا إذا خضع أحد أمام إنسان آخر دون هذا الدافع فإنّ عمله لا يكون حينئذ إلاّ احتراماً ، وتكريماً وليس عبادة.

وسوف يأتي مفصل هذا القسم في الفصل التاسع إن شاء اللّه.

وبالتالي فإنّ القرآن الكريم يبدي نظره حول « السيد المسيح » وهو - في الحقيقة - الرأي الصحيح البعيد عن أية مبالغة أو غمط حق ، وهو قوله سبحانه :

( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ) (1).

فلقد وصفت هذه الآية السيد المسيح بأفضل ما يمكن أن يكون مبيناً لحقيقة شخصية رفيعة الشأن جليلة المقام ، وكان هذا الوصف والتعريف رفيعاً ومؤثراً جداً بحيث جعل النجاشي ( ملك الحبشة ) الذي سأل جعفر بن أبي طالب أن يبين له رأي القرآن في المسيح فقرأ عليه هذه الآية.

ص: 301


1- النساء : 171.

أقول : جعل النجاشي يعمد - بعد سماعه الآية - إلى عود من الأرض ، ويقول :

« ما عدا [ أي ما تجاوز ] عيسى عما قلت هذا العود » (1).

إنّ الأوصاف التي وصف بها عيسى في هذه الآية هي :

1. ( إِنَّما المَسِيحُ ) ، وتعني لفظة المسيح : المبارك وقد وصف عيسى في آية أُخرى بهذا النحو :

( وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ ) (2).

2. ( عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) ، فقد وصف في هذا المقطع بكونه « ابناً لمريم » ومع هذا كيف يجوز أن يعتبره النصارى إلهاً ، أو ابناً لله ؟

3. ( رَسُولُ اللّهِ ) حيث وصف بالرسالة والنبوة ، فلا هو إله ولا هو رب كما ادّعى النصارى.

4. ( كَلِمَتُهُ ) ، وهنا لا بد أن نقول : إنّ الكون بأجمعه وإن كان كلمة لله وإنّ النظام البديع وإن كان يحكي عن علمه ويخبر عن حكمته ويعبَّر عن قداسته كما تعبر الألفاظ والكلمات عن معانيها ، ولكن حيث إنّ هذه الكلمة ( أعني : المسيح ) خلق دون توسط أسباب وعلل ، لذلك أطلقت عليه لفظة الكلمة بخصوصه لإبراز أهميته الخاصة من بين كلمات اللّه الأُخرى.

5. ( وَرُوحٌ مِنْهُ ) ، أي من جانب اللّه.

ص: 302


1- الكامل لابن الأثير : 2 / 55.
2- آل عمران : 45.

التثليث في نظر العقل

بعد أن فرغنا من البحث حول التثليث من وجهة نظر القرآن ، يتعين علينا أن نعرضه على المعايير العقلية لنرى مدى انطباقه على تلك المعايير.

تحكي كلمات المسيحيين - في كتبهم الكلامية - عن أنّ الاعتقاد بالتثليث - عندهم - من المسائل التعبدية التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي ، لأنّ التصورات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهم هذا المطلب ، كما أنّ المقايسات التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث لأنّ حقيقته - حسب زعمهم - فوق القياسات المادية.

ثم يقولون : حيث إنّ تجارب البشر مقصورة بالمحدود ، فإذا قال اللّه بأنّ طبيعته غير المحدودة تتألف من ثلاثة أشخاص ، لزم قبول ذلك ، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك ، وإن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه ، بل يكفي في ذلك ورود الوحي على أنّ هؤلاء الثلاثة يؤلِّفون بصورة جماعية « الطبيعة الإلهية اللامحدودة » !! وانّهم رغم تشخص كل واحد منهم وتميّزه عن الآخرين ليس بمنفصل ولا متميز عن الآخر رغم انّه ليست بينهم أية شركة في الالوهية ، بل كل واحد منهم إله مستقل بذاته ومالك بانفراده لكامل الالوهية !!! (1).

فالأب مالك - بانفراده - لتمام الالوهية وكاملها متحقق فيه دون نقصان.

والابن كذلك مالك - بانفراده - لتمام الالوهية وكامل الالوهية متحقق فيه دون نقصان.

ص: 303


1- انظر إلى التناقض الواضح بين تشخص كل واحد من جانب وعدم تميز كل واحد عن الآخر ، ولأجل ذلك جعلوا منطقة التثليث منطقة محرمة على العقل.

وروح القدس هو أيضاً مالك بانفراده - لكامل الالوهية وانّ الالوهية بتمامها متحققة فيه دون نقصان.

هذه العبارات وما يشابهها من التوجيهات للتثليث المسيحي توحي بأنّهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الاستدلال والبرهنة العقلية ، وأنّها بالتالي « منطقة محرمة » على العقل ، فلا يمكن الاستدلال الصحيح عليها ، بل مستند ذلك هو الوحي والنقل ليس غير.

ولهذا ينبغي - قبل أي شيء - أن نبحث أوّلاً في الأدلة النقلية ، وهم وان كانوا يستندون في هذه الفكرة إلى النقل ولكن ليس للتثليث أي مستند نقلي معتبر.

وأمّا « الأناجيل » الأربعة الفعلية فليست بمعتبرة إطلاقاً ، إذ لا تشبه الوحي بل تدل طريقة كتابتها على أنّها من بقايا أدب القرن الأوّل والثاني الميلاديين ، وهذا يعني عدم كونها متعلقة بفجر المسيحية حقيقة.

ثمّ إنّ عالم ما وراء الطبيعة وإن كان لا يمكن أن يقاس بالأُمور المادية المألوفة ولكنّه ليس بمعنى أنّ ذلك العالم فوضى وخلو من المعايير ، بل لكل مقياسه الخاص ، والدليل على ذلك انّ هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش والجدل تحكم في عالم المادة ، وعالم ما وراء المادة سواء كمسألة احتياج كل معلول إلى علة وكمسألة ( امتناع اجتماع النقيضين ).

إلى غير ذلك من القواعد العامة الحاكمة في عالمي المادة والمعنى.

وعلى ذلك إذا أبطلت البراهين العقلية مسألة التثليث لم يعد مجال للاستناد بالأدلة النقلية ، بل يتعين أن نعترف ببطلان النصوص هذه ، ونذعن بأنّها ليست من كلام اللّه ووحيه إذ كيف يجوز للوحي أن يخالف ما هو مسلم عقلاً.

إذا عرفت هذا ، حان الوقت لأن نعرف حقيقة الأمر من وجهة نظر العقل.

ص: 304

هل يمكن واحد وثلاثة في آن واحد ؟

يتعين علينا أن نعرف أوّلاً ما هو المقصود من التثليث الذي ربما يعبرون عن الموصوف به ب « الثالوث المقدس » وهم يقولون في تفسير فكرة « التثليث » :

إنّ الطبيعة الإلهية تتألف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر أي الأب والابن وروح القدس.

والأب هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن ، والابن هو الفادي ، وروح القدس هو المطهر وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة ، وعمل واحد (1).

والأقنوم - لغة - يعني : الأصل ، والشخص ، فإذن يصرح المسيحيون بأنّ هذه الآلهة الثلاثة ذات رتبة واحدة ، وعمل واحد وإرادة واحدة ، بموجب هذا النقل.

ونحن نتساءل ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة ؟ والواقع إنّ للتثليث صورتين لا يناسب أي واحد منهما المقام الربوبي :

1. أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجود مستقل عن الآخر بحيث يظهر كل واحد منها في تشخص ووجود خاص ، فكما أنّ لكل فرد من أفراد البشر وجوداً خاصاً ، كذلك يكون لكل واحد من هذه الأقانيم ، أصل مستقل ، وشخصية خاصة ، متميزة عما سواها.

غير أنّ هذا هو نظر « الشرك » الجاهلي الذي كان سائداً في عصر الجاهلية في

ص: 305


1- قاموس الكتاب المقدس.

صورة تعدد الآلهة ، وقد تجلّى في النصرانية في صورة التثليث !

ولكن دلائل « التوحيد » قد أبطلت أي نوع من أنواع « الشرك » من الثنوية والتثليث في المقام الالوهي والربوبي.

وقد وافتك تلك الأدلة حول التوحيد في الذات وسيأتي ما يدل على التوحيد في الربوبية في الفصل الثامن ، والعجيب - حقاً - أنّ مخترعي هذه البدعة من رجال الكنيسة يصرون - بشدة - على أن يوفقوا بين هذا « التثليث » و « التوحيد » بالقول بأنّ الإله في كونه ثلاثة ، واحد ، وفي كونه واحداً ثلاثة ، وهل هذا إلاّ تناقض فاضح ؟! إذ لا يساوي الواحد مع الثلاثة في منطق أي بشر !! وليس لهذا التأويل من سبب غير أنّ - هم لما واجهوا - من جانب - أدلة التوحيد اضطروا إلى الإذعان بوحدانية اللّه تعالى.

ولكنهم من جانب آخر لما خضعوا للعقيدة الموروثة ( أي عقيدة التثليث ) التي ترسخت في قلوبهم أيما رسوخ ، حتى أنّهم أصبحوا غير قادرين من التخلص منها ، والتملص من حبائلها ، التجأوا إلى الجمع بين التوحيد وألتثليث وقالوا : إنّ الإله واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد !!

أقانيم ثلاثة أم شركة مساهمة ؟!

هناك تفسير آخر للتثليث وهو : أنّ يقال انّ الأقانيم الثلاثة ليست بذات لكل منها وجود مستقل ، بل هي بمجموعها تؤلف ذات إله الكون الواحد ، فلا يكون أي واحد من هذه الأجزاء والأقانيم بإله بمفرده ، بل الإله هو المركب من هذه الأجزاء الثلاثة.

ص: 306

ويرد على هذا النوع من التفسير أنّ معنى هذه المقالة هو كون اللّه « مركباً » محتاجاً في تحقّقه وتشخصه إلى أجزاء ذاته ( أي هذه الأقانيم الثلاثة ) بحيث ما لم تجتمع لم يتحقق وجود اللّه.

وفي هذه الصورة سيواجه أرباب الكنيسة والنصارى إشكالات أكثر وأكبر من ذي قبل :

ألف. أن يكون إله الكون محتاجاً في تحقّق وجوده إلى الغير ( وهو كل واحد من هذه الأقانيم باعتبار أنّ الجزء غير الكل ) في حين أنّ المحتاج إلى الغير لا يمكن أن يكون إلهاً واجب الوجود ، بل يكون حينئذ ممكناً مخلوقاً محتاجاً إلى من يرفع حاجته كغيره من الممكنات.

بل يلزم كون الأجزاء الممكنة مخلوقة لله سبحانه من جانب ويلزم أن يكون الإله المتكون منها مخلوقاً لها من جانب آخر.

ب. إمّا أن تكون هذه الأجزاء ممكنة الوجود أو واجبة ، فعلى الأوّل يلزم احتياج الواجب ( أعني : الكل ) إلى الأجزاء الممكنة ، وعلى الثاني يلزم تعدد واجب الوجود ، وهو محض الشرك ، وعندئد فلا مناص من أن يكون ذلك الإله الخالق بسيطاً غير مركب من أجزاء وأقانيم.

ج. انّ القول : بأنّ في الطبيعة الإلهية أشخاصاً ثلاثة ، وأنّ كل واحد منها يملك تمام الالوهية ، معناه أن يكون لكل واحد من هذه الثلاثة وجوداً مستقلاً مع أنّهم يقولون : إنّ طبيعة الثالوث لا تقبل التجزئة.

وبتعبير آخر ، إنّ بين هذين الكلامين ، أي استقلال كل اقنوم بالطبيعة الالوهية وعدم قبول طبيعة الثالوث للتجزئة ، تناقضاً صريحاً.

ص: 307

د. إذا كانت شخصية الابن إلهاً ( أي أحد الآلهة ) فلماذا كان يعبد الابن أباه ؟ وهل يعقل أن يعبد إله إلهاً آخر مساوياً له ، وأن يمد إليه يد الحاجة ، أو يخضع أحدهما للآخر ويخفض له جناح التذلل والعبودية وكلاهما إلهان كاملا الالوهية ؟!

هذا حق المقال حول التثليث ومن العجب أنّ أحد القسيسين القدامى وهو « أوغسطين » قال : أؤمن بالتثليث لأنّه محال (1).

ص: 308


1- راجع مقارنة الأديان المسيحية للكاتب أحمد شلبي.

الفصل السادس: اللّه وبساطة ذاته تعالى « وعينية صفاته لذاته »

اشارة

ص: 309

بساطة ذاته تعالى

1. التوحيد الذاتي وبساطة الذات.

2. ذات اللّه منزّهة عن التركيب الخارجي.

3. ذاته منزهة عن التركيب العقلي.

4. صفات اللّه عين ذاته.

5. الدليل على وحدة الصفات والذات.

6. تعدد الصفات وبساطة الذات كيف ؟

ص: 310

بساطة ذاته تعالى

ويقع البحث في هذا الفصل في مقامين :

1. ذات اللّه منزّهة عن التركيب.

2. صفات اللّه عين ذاته.

بعد ما عرفنا « التوحيد الذاتي » بمعنى نفي الشبيه والنظير والمثيل لله سبحانه ببراهينه ، يتعين علينا الآن أن نستعرض « التوحيد الذاتي » من زاوية أُخرى ، وهي بساطة الذات الإلهية ، ونفي أي نوع من أنواع التركيب الخارجي والعقلي فيها.

ولما كانت لمسألة بساطة الذات عن التركيب الخارجي والعقلي ، ومسألة التوحيد في الصفات ( بمعنى اتحاد الذات مع صفاتها وجوداً وخارجاً ) دلائل مشتركة جعلناهما في فصل واحد وهو الفصل الحاضر ، مع الاعتراف بأنّ المسألتين من بابين مختلفين ، فمسألة « بساطة الذات » من فروع التوحيد الذاتي ، ومسألة اتحاد الذات والصفات من شعب التوحيد في الصفات ، ونركز بحثنا أوّلاً على بساطة الذات.

التوحيد الذاتي وبساطة الذات

للتوحيد الذاتي معنيان :

ص: 311

1. أنّ اللّه واحد لا يتصور له نظير ولا مثيل.

2. أنّ ذاته تعالى بسيطة ومنزهة عن أي نوع من أنواع التركيب ، والكثرة العقلية ، والخارجية.

وقد اصطلح بعض العلماء على التوحيد الذاتي بالمعنى الأوّل بالواحدية ، وبالمعنى الثاني بالأحدية ، ولعل هذين الاصطلاحين مبتنيان على أنّ لفظة « واحد » تعني في لغة العرب ما يقابل الاثنين فإذا قلنا : « اللّه واحد » ، يعني : لا ثاني له ولا نظير ولا مثيل ولا عديل ، ولكن لفظة « أحد » ، تعني الوحدة في مقابل التركيب ، وإذا وجدنا القرآن يصف اللّه بلفظة الأحد ويقول : ( هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) فهو يقصد مقابلة « التثليث التركيبي » الذي كانت النصارى تدعيه فتزعم بأنّ المقام الالوهي « مركب » من ثلاثة أقانيم.

ويدل على ذلك أنّه لو كان المقصود من « أحد » في هذه الآية هو أنّ اللّه واحد ، ولا نظير له لما كان ثمة داع لتكرار هذا المضمون في ذيل السورة إذ يقول : ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ، ويتضح ما قلناه إذا وقفنا على أنّ هذه السورة برمتها نزلت في رد عقائد المسيحيين ، وإن لم يرد ذكرهم بالاسم.

وعلى كل حال سواء أطابق هذا الاصطلاح المعنى اللغوي ل : « الواحد » أو « الأحد » أم لا (1) ، فإنّ مثل هذا الاصطلاح سبب للتفكيك بين نوعين من « التوحيد الذاتي ».

* * *

ص: 312


1- سنثبت في البحث القرآني لهذا الفصل أنّ المعنى اللغوي للواحد والأحد هو الذي جاء في هذا الاصطلاح.

قد يتصور الإنسان - في النظرة البدائية - أنّه لا توجد في القرآن أية آية أو آيات ناظرة إلى هذا القسم من التوحيد ( أي بساطة الذات ) ، وكأنّ القرآن أو كل أمثال هذه البحوث إلى عقل البشر ، ولكننا عندما نعيد النظر في القرآن بعد الاطلاع على التحقيقات الفلسفية التي من شأنها إعطاء الإنسان نظرة أعمق وأوسع نجد أنّ القرآن يصف اللّه سبحانه بطائفة من الصفات التي لا تنسجم مع أي نوع من أنواع التركيب في الذات أبداً ، وهو يدل ضمنياً على نفي التركيب وإثبات البساطة لذاته تعالى ، وقد ذكرنا في السابق أنّ القرآن ذو أبعاد متعددة من حيث الأهداف والمعاني وإنّه يمكن أن يدرك بعد من أبعاد الآية في النظرة الأُولى بينما ينكشف بعد آخر لنفس الآية في النظرة الثانية في حين يكون اكتشاف بعد ثالث ورابع لنفس الآية محتاجاً إلى مزيد تعمّق وإمعان.

ويؤيد هذا الأمر ما قاله الإمام السجاد حول آيات من سورة الحديد :

« إنّ اللّه عز وجل علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل اللّه عز وجل ( قُل هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ ) والآيات من سورة الحديد ... إلى قوله ( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) فمن رام وراء ما هنالك هلك (1).

لهذا يجب أن لا نكتفي - في استخراج المعارف المتعلّقة بالمبدأ أو المعاد من الآيات القرآنية - بالنظرة الأُولى بل لابد من الغوص في بحار القرآن ، معتمدين على النظر الأعمق ، والجهد الفكري الأكثر ، فحينئذ سنرى أيّة جواهر ثمينة سنصيب في هذا الغوص المبارك.

لهذا السبب ولكي نقوي من نظرتنا فإنّنا سنعالج مسألة « بساطة أو تركيب

ص: 313


1- توحيد الصدوق : 283 - 284 طبع الغفاري.

الذات » وكذا التوحيد في الصفات من نظر العقل أوّلاً ، ثم نطرح بعد ذلك هذه المسألة على القرآن وصحاح الأحاديث.

1. ذات اللّه منزّهة عن التركيب الخارجي

والمراد من « التركيب الخارجي » هو أن يكون الشيء ذا أجزاء خارجية ، كالمعادن والمحاليل الكيمياوية ، التي تتألف من الأجزاء المختلفة.

ولكن مثل هذا « التركيب » يستحيل في شأن اللّه سبحانه ، لأنّ الشيء المركب من مجموعة الأجزاء سيكون « محتاجاً » في وجوده إلى تلك الأجزاء لا محالة ، والمحتاج إلى غيره معلول لذلك الغير ولا يصلح للإلوهية حينئذ.

هذا مضافاً إلى أنّ الأجزاء المؤلفة للذات الإلهية إمّا أن تكون « واجبة الوجود » فحينئذ سنقع في مشكلة « تعدد الآلهة » التي يعبر عنها في علم الكلام بتعدد القدماء.

وإمّا أن تكون « ممكنة الوجود » وفي هذه الصورة ستحتاج هذه الأجزاء إلى الغير ليوجدها ، فيكون معنى هذا أنّ ما فرضناه « إلهاً » يكون معلولاً لأجزاء ذاته التي هي معلولة لموجود أعلى وبالتالي لا يكون إلهاً.

2. ذاته منزّهة عن الأجزاء العقلية

ولتوضيح هذا النوع من البساطة نذكر الأُمور التالية :

أ. انّ الشيء ، يعرف بجنسه وفصله أو ما يقوم مقامهما التي تسمّى بالماهية وليس للماهية أي دور ، إلاّ تحديد وجود الأشياء وبيان موقعها في عالم الوجود.

ص: 314

ب. انّ كل موجود ممكن مركب من شيئين : ماهية ووجود وليس المقصود تركبه من الجزءين الخارجيين كالعناصر المتركبة ، بل المراد هو أنّ الذهن النقاد يرى الشيء الخارجي الواحد - في مختبر العقل - مكوناً من جزءين :

أحدهما يحكي عن مرتبته الوجودية وانّه يقع في أي مرتبة من مراتب الوجود ، من الجماد والنبات والحيوان ، وغيرها ، والثاني يحكي عن عينيته الخارجية التي طرد بها العدم عن ساحة الماهية.

ولكن هذا النوع من التركيب يستحيل في شأن الذات الإلهية ، لأنّها إذا كانت مؤلفة من وجود وماهية ، انطرح هذا السؤال :

إنّ الماهية كانت في حد ذاتها فاقدة للوجود والعينية ، فبماذا طرد هذا العدم وأُقيم محله الوجود فإنّ هذا الطرد يحتاج - تبعاً لقانون العلية العام - إلى عامل خارجي عن ذات الشيء ؟ ومن المعلوم أنّ الشيء المحتاج إلى العلة الخارجة عن وجوده ممكن لا يستحق الالوهية ؟!

ولأجل هذا ذهب العلماء إلى بساطة ذاته وانّها منزّهة عن الماهية ، وهو عين الوجود وصرفه.

3. صفات اللّه عين ذاته

لا شك في أنّ لله سبحانه صفات ، كالعلم والقدرة والحياة ، غير أنّه يجب أن نقف على أنّها هل هي أزلية أم حادثة ، وعلى الأوّل فهل هي « زائدة » على الذات ، وبعبارة أُخرى هل الصفات « عين » الذات أو « غيرها » ؟

إنّ هناك فرقة واحدة أعني الكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني ذهبت

ص: 315

إلى حدوث الصفات ، وقالوا بخلو الذات الإلهية عنها - في البداية - ثم اتصفت بها فيما بعد (1).

ولو تجاوزنا هذه الفرقة لوجدنا جميع الفلاسفة والمتكلمين الإسلاميين متفقين على « أزلية » هذه الصفات.

ومما لا يخفى أنّ الكرامية وغيرها مذاهب ابتدعتها السياسة العباسية آنذاك لإشغال المفكّرين الإسلاميين بالبحوث والمناقشات الجانبية ، لكي تسهل لهم السيطرة على الأُمّة الإسلامية ، ولأجل هذا لا نجد لهذه المذاهب المفتعلة بأيدي السياسات الزمنية المنحرفة أي أثر إلاّ في طيات كتب الملل والنحل فقط.

ولو كانت « الذات الإلهية » فاقدة لهذه الصفات منذ الأزل لاستلزم ذلك حتماً أن تكون الصفات « ممكنة » وحادثة ، وحيث إنّ كل ممكن مرتبط بعلة ، ومحتاج إلى محدث لزم أن نقف على محدثها.

فهل وجدت من قبل نفسها ، أو من قبل اللّه سبحانه ، أو من جانب علة أُخرى ؟ وكلّها باطلة.

أمّا الأوّل فلا يحتاج إلى مزيد بيان إذ لا يعقل أن يكون الشيء علة لنفسه ، وأمّا الثاني فكسابقه فإنّ فاقد الشيء لا يكون معطيه ، إذ كيف يمكن أن يكون فاقد العلم معطياً له ؟ وأمّا الاحتمال الثالث فكسابقيه أيضاً ، إذ ليس هناك عامل خارجي محدث أخذاً بحكم التوحيد في الذات ، ولأجل ذلك اختار الجمهور من الإسلاميين ، أزلية الصفات.

***

ص: 316


1- الأسفار الأربعة : 6 / 123.

فإذا ثبتت أزلية صفاته سبحانه كذاته يبقى بحث آخر وهو :

هل هذه الصفات القديمة الأزلية زائدة عليها لازمة لها ، كما ذهب إلى ذلك فريق من المتكلمين الإسلاميين كالأشاعرة (1) ، أم هي « عين » الذات ، وأنّه ليس للذات والصفات سوى مصداق واحد لا أكثر ، وهنا يتعين علينا أن نتوقف قليلاً لنرى التفاوت بين القولين ثم بمعونة العقل نميز الصحيح عن غير الصحيح منها.

ولوضوح المطلب نقدم أُموراً لها صلة بالموضوع :

1. انّ قولنا : اللّه سبحانه عالم ، مركب من كلمتين : اللّه وعالم ، وكل واحدة تحكي عن أمر ، فالمبتدأ يحكي عن الذات ، والخبر يحكي عن صفته.

والقائل باتحاد صفاته مع ذاته لا يقول باتحاد مفاهيمها مع ذاته أي اتحاد مفهوم العالم وما وضع عليه ذلك اللفظ مع مفهوم لفظ الجلالة الذي وضع عليه ذلك اللفظ ، بل يقصد منه اتحاد واقعية العلم مع واقعية ذاته وانّ وجوداً واحداً ببساطته ووحدته مصداق لكلا المفهومين ، وليس مصداق لفظ الجلالة في الخارج غير مصداق لفظ العالم.

ثم يبقى هنا سؤال وهو أنّ ذاك الاتحاد لا يختص بذاته سبحانه بل هو حال عامة الموجودات مع صفاتها ، فلماذا اختص هذا البحث باللّه سبحانه ؟ وهذا ما نرجع إليه في الكلام التالي.

2. إذا قلنا أنّ زيداً عالم نرى أنّ علمه ليس بمنفصل عن ذاته ووجوده ، بحيث لا يمكننا أن نشير إلى علمه على حدة وعلى ذاته إلى انفرادها ، فنقول هذا

ص: 317


1- كشف المراد : 181 ، والأسفار الأربعة : 6 / 123.

ذاته وهذا علمه ، بل الذات والعلم متحدان على الصعيد الخارجي.

وعند ذلك يتوجه السؤال الآتي : ما هو مقصود القائلين باتحاد صفاته سبحانه مع ذاته ؟ فإنّ الاتحاد حسب ما أوضحناه ليس منحصراً به سبحانه بل جار في جميع الموجودات الممكنة ، فإنّ كل موجود ممكن يختلف عن صفاته مفهوماً ويتحد معها خارجاً.

عندما نقول : الصدف أبيض ، أو العسل حلو ، فإنّ البياض متحد بالصدف ، والحلاوة متحدة بالعسل بحيث لا يمكن الإشارة إلى الحلاوة بمعزل عن العسل ، وهكذا بالنسبة إلى بياض الصدف ، فما الفرق بين النوعين من الاتحاد ؟ ويجاب على ذلك ، بأنّ المقصود من اتحاد الذات الإلهية مع صفاته تعالى ليس من قبيل اتحاد الصدف مع بياضه ، وعلم زيد مع ذاته بل هو نوع خاص من الاتحاد والعينية لا يوجد في غير اللّه. وتوضيح ذلك هو ما تقرؤه في البيان التالي :

3. انّ « الصفات والذات » في الممكنات وان كانت تتمتع بنوع من الاتحاد في كل الموارد ولكن كيفية الاتحاد في مورد « الصفات والذات الإلهية » تختلف عن الاتحاد في الممكنات.

فإنّ علم زيد وان كان متحداً مع ذاته بنوع من الاتحاد ولكن علمه لا يتحد مع ذاته في جميع مراحلها ، بل يتحد معها في بعض مراحل الذات ، بدليل أنّ زيداً كان في مجتمعه - ذات يوم - ولم يكن معه ذلك العلم - فكانت الذات متحققة ولم يكن العلم معها ، وهذا يشعر بأنّ ذاته أي ما به يكون زيد ، زيداً غير علمه ، وهذا يشعر بأنّ ذاك الاتحاد ليس بمنزلة يجعل الصفات في مرتبة حقيقته وذاته.

وبعبارة أُخرى فإنّ ملاك إنسانية زيد والعناصر المكونة لذاته هي ما يوجد

ص: 318

في الآخرين سواء بسواء فإنّ ملاك الإنسانية ، والعناصر المكونة لحقيقة الأفراد الآخرين هي « الحيوانية والناطقية » التي تتكون منهما ذات زيد ، أما « علمه » فما هو إلاّ « حلية » توجت إنسانيته ، وزينتها ، وفضلتها على الآخرين ، ولتوضيح الحقيقة نفترض « بناء » قد تم وبقي طلاؤه الذي يطلى به ظواهر البناء وخارجه وأبوابه وجدرانه.

وفي هذه الصورة ، فإنّ كل ما ينقش على جدران هذا البناء ، يضيف إلى جمال البناء جمالاً إضافياً ، لكن هذا الطلاء رغم أنّه ليس منفصلاً عن البناء وجدرانه وأبوابه ، إلاّ أنّه لا يشكل حقيقة البناء ، لأنّ العناصر والمواد المنشئة لذلك البناء هي الحديد والاسمنت والجص والآجر ، وليست الأصباغ والطلاء.

وعلى هذا فإنّ اتحاد الأبواب والجدران مع الطلاء ( عندما نقول الجدار أزرق ) لا يعني أنّ اللون جزء من واقعيته وذاته ، بل غاية ما في الأمر أنّ الألوان قد اتحدت بظاهر الجدار لا أنّها اتحدت بذاته وحقيقته ، وعلى هذا النمط يكون بياض الصدف وحمرة التفاح وصفرة الليمون ، كما أنّ على غرار هذا يكون اتحاد علم زيد بذاته.

وخلاصة القول : إنّ الاتحاد في هذه الموارد ليس بمعنى أنّ « العارض » قد أصبح جزءاً من ذات « المعروض » بل اتحد مع بعض مراحله ومعنى هذا أنّ العارض والمعروض شيء واحد ولكن دون أن يكون العارض داخلاً في ذات المعروض وجزءاً من حقيقته ، وعلى هذا فالمقصود من « وحدة صفات اللّه مع ذاته » ليس على هذا النمط من الاتحاد بل وحدة آكد وأشد بمعنى أنّ « صفات اللّه تؤلِّف ذاته » سبحانه فهي « عين » ذاته وليست عارضة عليها ، وبالتالي ليس يعني ، أنّ ذاته شيء وصفاته شيء آخر ، بل صفاته هي ذاته وحقيقته ، فعلم الإنسان بشيء

ص: 319

إنّما هو بعلم زائد على ذاته فهو بالعلم الزائد يطّلع على ما هو خارج عن ذاته فيدرك المرئيات والمسموعات عن طريق « الصور الذهنية » التي تدخل إلى الذهن بواسطة الحواس الخمس ، وإذا أخذت منه هذه « الصور الذهنية » لم يعد قادراً على درك ما هو خارج عن ذاته ولكنه يحتفظ بذاته مع فقد علمه ، وبما أنّ ذات اللّه عين علمه ، وليس العلم بزائد على ذاته ، فهو تعالى يدرك جميع المبصرات والمسموعات بنفس ذاته بحيث يكون فرض سلب العلم والقدرة عنه تعالى مساوياً لفرض نفي ذاته.

وعلى هذا فالمقصود من « اتحاد صفات اللّه مع ذاته » هو عينية الصفات للذات في عامة مراحلها ، وكون العلم الإلهي عين الذات الإلهية ، وكذا القدرة والحياة ، وغيرها من صفات الذات فهي عين ذاته سبحانه ، لا أنّ الذات شيء وحقيقة مستقلة ، والصفات حقائق طارئة على الذات وعارضة لها.

نظرية الأشاعرة في الصفات

إنّ القول بزيادة الصفات على الذات لا يخلو من مفاسد عقلية أظهرها أنّه يستلزم وجود قدماء ثمانية حسب تعدد صفاته تعالى ، وليس هذا إلاّ الفرار من خرافة التثليث المسيحي ، والوقوع في ورطة القول بالقدماء الثمانية بدل الثلاثة في حين أنّ براهين « التوحيد الذاتي » قاضية بانحصار القديم في اللّه سبحانه وعدم وجود « واجب آخر سواه ».

الدليل على وحدة الصفات والذات

1. انّ القول باتحاد ذاته سبحانه مع صفاته وعينية أحدهما للآخر يوجب

ص: 320

« غناءه » سبحانه في العلم ، بما وراء ذاته ، عن غيره ، فيعلم بذاته كل الأشياء دون حاجة إلى الغير ، وهذا بخلاف القول بالزيادة - كما عليه الأشاعرة - فإنّه يستلزم ذلك افتقاره سبحانه في علمه بالأشياء وخلقه إياها ، إلى أُمور خارجة عن ذاته ، فهو يعلم بالعلم الذي هو سوى ذاته ، ويخلق بالقدرة التي هي خارجة عن حقيقته ، وهكذا سائر الصفات من السمع والبصر ، والواجب سبحانه منزّه عن احتياجه إلى غير ذاته فهو غني في ذاته وفعله عمن سواه.

نعم الأشاعرة وإن كانت قائلة بأزلية الصفات مع زيادتها ولكن ذلك لا يدفع الفقر والاحتياج عن ساحته ، لأنّ الملازمة غير العينية فكونه سبحانه مع صفاته متلازمين منذ الأزل غير كونه نفس هذه الصفات وعينها.

والحاصل إنّ كون الصفات عندهم غير الذات عين القول باحتياجه في العلم والإيجاد إلى غيره.

إذ نتيجة قولهم بفصل الذات عن الصفات هي أنّه يستعين في تحصيل العلم بذاته ، بعلم منفصل كما يعني أيضاً أن يستعين في إيجاد شيء بقدرة خارجة عن ذاته على أنّ دلائل « عينية الصفات للذات » وبالعكس لا تقتصر على هذا الدليل الذي ذكرناه فقط ، ولكننا نكتفي بذلك.

تعدّد الصفات وبساطة الذات كيف ؟

لقد قادتنا البراهين السابقة إلى « بساطة الذات الإلهية » وخلوّها عن أي نوع من أنواع التركيب العقلي والخارجي ، وهنا ينطرح سؤال هو : كيف يتناسب تعدّد الصفات مع بساطة الذات ؟ أليس يستلزم تعدد الصفات تركّب الذات الإلهية من صفات متعدّدة ، وهذا ما يخالف بساطتها ؟

ص: 321

إنّ السؤال إنّما يتوجه إذا كان كل واحد من هذه الصفات يكوّن جزءاً خاصاً ويحتل موضعاً معيناً من ذاته سبحانه ، فحينئذ يمكن القول بأنّه يستلزم التركيب في ذاته سبحانه.

ولكن إذا قلنا بأنّ كل واحد من هذه الصفات يكوّن تمام الذات ، برّمتها وبأسرها فلا يبقى حينئذ أي مجال لتصوّر التركيب في شأنه تعالى ، إذ ماذا يمنع من أن يكون شيء على درجة من الكمال بحيث يكون ذاته علماً كلها ، وقدرة كلها وحياة كلها ، دون أن تظهر أية كثرة في ذاته ، نعم لو كانت هناك كثرة فإنّما هي في عالم الاعتبار والذهن دون الواقع الخارجي إذ يكون في هذه الصورة مصداق العلم في اللّه نفس مصداق القدرة ويكون كلاهما نفس مصداق الذات بلا مغايرة ولا تعدّد.

ولتقريب هذا المعنى الدقيق نشير إلى مثال له في عالم الممكنات.

ولنأخذ مثلاً الإنسان ، فكل وجوده مخلوق لله ، بينما هو أيضاً بكلّه معلوم له سبحانه دون أن يكون معنى ذلك أنّ جزءاً من ذات الإنسان معلوم لله والجزء الآخر مخلوق له سبحانه ، بل كلّه معلوم لله في عين كونه مخلوقاً كله له وليست جهة المعلومية في الخارج غير جهة المخلوقية.

وللمزيد من التوضيح لاحظ النور ، فإنّ الإضاءة والحرارة من خواص النور ، ولكن ليست الكاشفية والإضاءة مرتبطة بناحية خاصة من وجوده ، بل الإضاءة والكاشفية خاصية تمامه دون تبعض ، كما أنّ الحرارة هي أيضاً خاصية تمامه دون أن يستلزم ذلك أي تعدد في ذات النور وحقيقته.

ص: 322

إلى هنا تبيّنت لنا حسب التحليل العقلي مسائل ثلاث هي :

1. ذات اللّه منزّّهة عن التركيب الخارجي.

2. ذات اللّه منزّهة عن التركيب الذهني.

3. صفات اللّه عين ذاته.

وقد ذكرنا - في معرض بيان هذه الحقائق وشرحها - أنّ الأمر لو كان على غير ما أثبتناه للزم أن يفتقر اللّه تعالى إلى سواه.

فالواجب الوجود غني عن غيره ، لا يفتقر إلى شيء سبحانه ، وسنذكر فيما يلي ما ورد من الآيات في هذا المجال.

1. هو الغني المطلق

إنّ القرآن يصف اللّه سبحانه في سبعة عشر مورداً بالغني وعدم الافتقار والاحتياج ، فقال :

( واللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) (1).

( فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ) (2).

( أنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (3).

( واللّهُ هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ ) (4).

( سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيُّ ) (5).

ص: 323


1- البقرة : 263.
2- آل عمران : 97.
3- البقرة : 267.
4- فاطر : 15.
5- يونس : 68.

( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (1).

وفي سورة فاطر وصف القرآن الكريم جميع الناس بالفقر إلى اللّه كما وصف اللّه وحده بالغني دون غيره ، إذ قال :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ واللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (2).

وليس لغناه سبحانه معنى إلاّ عدم احتياجه في ذاته ووجوده ، وفي علمه ، وقدرته إلى من سواه ، والاحتياج في هذه المراحل من أشد أنواع الاحتياج ، وقد أسلفنا أنّ تركب الذات من الأجزاء الخارجية والعقلية يستلزم - بالبداهة - الاحتياج إلى الأجزاء.

كما أنّ عدم عينية الصفات للذات الإلهية دليل على احتياجه تعالى إلى العلم والقدرة الخارجين عن ذاته ، وحيث إنّ اللّه هو الغني غير المفتقر يلزم أن يكون منزّهاً عن هذه التصوّرات.

فكونه سبحانه غنياً على الإطلاق يثبت المسائل الثلاث : تنزّهه عن التركيب العقلي ، والخارجي ، وعينية صفاته لذاته.

2. هو اللّه الأحد

يقول اللغويون :

الأحد أصله وحد.

وحيث إنّ هذه اللفظة ذات معنى خاص ، لذلك لا يوصف بها غير اللّه تعالى (3).

ص: 324


1- النمل : 40.
2- فاطر : 15.
3- راجع مفردات الراغب : 12.

ولو جعلت هذه اللفظة ( أعني : الأحد ) في سياق النفي أُطلقت على غير اللّه مثل أن تقول : ما جاءني من أحد. وأمّا لو جُعلت في سياق الإثبات فتستعمل على نحو الإضافة فقط مثل قولهم : أحدهم ، أحد عشر.

وأمّا في غير صورة الإضافة فتطلق على اللّه فحسب ، مثل قوله : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) بمعنى أنّه لا يوصف بها حينئذ ، إلاّ اللّه سبحانه.

يقول الأزهري ، اللغوي المعروف :

« إنّ « أحد » صفة من صفات اللّه استأثر بها فلا يشركه فيها شيء من الكائنات ، ويأتي في كلام العرب بمعنى الأوّل كيوم الأحد » (1).

وأمّا المفسرون الإسلاميون فيذكرون لفظة الأحد في قوله تعالى : ( هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) طائفة من التفاسير منها :

« الأحد : هو الذي لا يتجزأ ولا ينقسم في ذاته ، ولا في صفاته » (2).

ويقول الجزائري في كتاب « فروق اللغات » في الفرق بين الواحد والأحد :

« إنّ الواحد : الفرد الذي لم يزل وحده ، ولم يكن معه آخر ; والأحد : الفرد الذي لا يتجزأ ولا يقبل الانقسام » (3).

ويقول العلاّمة الطباطبائي - دام ظله - في تفسيره في هذا المجال :

« والأحد وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد ، غير أنّ الأحد إنّما يطلق على

ص: 325


1- تفسير سورة الإخلاص للشيخ حبيب اللّه الكاشاني : 31.
2- مجمع البيان : 5 / 564.
3- فروق اللغات : 38.

ما لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً ، ولذلك لا يقبل العد ولا يدخل في العدد بخلاف الواحد ، فإنّ كل واحد له ثانياً وثالثاً أمّا خارجاً وأمّا ذهناً بتوهم أو بفرض العقل فيصير بانضمامه كثيراً ، وأمّا الأحد فكل ما فرض له ثانياً كان هو هو لم يزد عليه شيء » (1).

وهذه الحقيقة نكتشفها بوضوح من التحقيق في موارد استعمال هاتين اللفظتين : الأحد والواحد في سياق النفي.

فإذا قال قائل : ما جاءني من القوم أحد ، كان مفهوم الجملة نفي مجيء مطلق الأفراد ، لا نفي مجيء فرد واحد أو فردين ، أو ثلاثة.

وبتعير أوضح ، فإنّ مفهوم هذه الجملة هو نفي الجنس لا نفي الواحد.

ولكن إذا قال : ما جاءني واحد ، فهم من هذه الجملة نفي مجيء شخص واحد في مقابل نفي مجيء فردين أو ثلاث.

وحيث إنّ للفظة « أحد » مثل هذه الخصوصية لذلك عدّت صفة منحصرة في اللّه سبحانه ولم يجز أن يوصف بها غيره ، ولذلك يقول أحد أئمّة أهلالبيت علیهم السلام :

« كل مسمّى بالوحدة غيره قليل » (2).

ويؤيد ما قاله أهل اللغة والمفسرون مجيء جملة ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) بعد وصف اللّه تعالى نفسه ب ( الأحد ) في سورة الإخلاص ونحن نعلم أن مفاد

ص: 326


1- تفسير الميزان : 20 / 387.
2- سيوافيك عن قريب أنّه يمكن استنتاج المسألة الثالثة ، أعني : عينية الصفات مع الذات من هذه الآية فارتقب أيضاً.

هذه الجملة أي قوله : ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) ، هو نفي النظير والمثيل له سبحانه في الذات والفعل ، فلا ذات كذاته ولا خالق أو لا مدبر مثله ، فإذا كان معنى هذه الجملة هو ما عرفناه وذكرناه فليس من المستحسن أن نفسر جملة ( هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) بنفس المعنى أيضاً ، إذ أنّ ذلك يستلزم تكرار مضمون واحد في سورة واحدة وعلى فاصلة قصيرة لهذا يجب القول بأنّ الجملة الأُولى تفيد نفي أي نوع من أنواع التركيب والتجزئة ، والجملة الثانية تفيد نفي الشبيه والنظير له سبحانه.

وبملاحظة هذا التفسير تستفاد مسألتان (1) من المسائل الثلاث المطروحة في مطلع هذا القسم من هذه الآية ، لأنّ وحدة الذات تستلزم - بالضرورة - نفي أي نوع من أنواع التركيب الخارجي والذهني عن اللّه.

وأمّا المسألة الثالثة وهي « عينية الصفات الإلهية للذات » فطريق إثباتها هو « صفة الغنى المطلق » التي أثبتها القرآن الكريم لله سبحانه في مواضع عديدة.

كما أنّ وصف اللّه في سورة الإخلاص بالصمد يثبت هذه العينية والاتحاد أيضاً بناء على أنّ أحد معاني الصمد هو « المقصود لكل محتاج ».

فإذا كان اللّه مقصود كلِّ محتاج ولم يكن أيُّ مقصود سواه ، استلزم ذلك أن تكون « الصفات عين الذات » وإلاّ لاحتاج في العلم بالأشياء ، أو إيجاد شيء ، إلى علم خارج ، وقدرة خارجة عن ذاته ، وفي هذه الصورة لا يكون اللّه متصفاً بالغنى المطلق ولن يكون حينئذ مقصود كلِّ محتاج.

بل يكون هناك مقصود آخر ، يتوجّه إليه حتى اللّه سبحانه.

إلى هنا أثبتنا ، عن طريق الآيات القرآنية « بساطة الذات الإلهية » ووحدتها

ص: 327


1- الميزان : 20 / 387.

وكذا عينية الصفات للذات ، ولتكميل هذا المبحث يتعيّن علينا الآن أن نستعرض ما ورد عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام حول هذا المطلب.

والجدير بالذكر أنّ الأحاديث والأخبار الواردة في هذا الشأن أكثر من أن تحصى ، ومن أن يمكن الإتيان بها في هذا الموضع ، إلاّ أنّنا سنكتفي بذكر نماذج منها ، فقد قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

« وأمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه [ أي في اللّه من التوحيد ] فقول القائل :

1. هو واحد ليس له في الأشياء شبه.

2. أنّه عزّ وجلّ أحدي المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود [ خارجي ] ولا عقل ولا وهم » (1).

والعبارة الأخيرة تثبت بوضوح بساطة الذات الإلهية ونفي أيّ شكل من أشكال التركيب الخارجي والذهني (2) في شأنها.

كما وصفه الإمام الصادق علیه السلام بالبساطة ، ضمن كلام طويل ، إذ قال :

« وصانع الأشياء غير موصوف بحد مسمّى » (3).

وهذا الحديث يمكن أن يكون ناظراً إلى نفي « الحد والماهية » عن اللّه تعالى ، كما يمكن أن يكون المراد منه هو نفي المحدودية عنه تعالى ، أو يكون مسوقاً لبيان كليهما.

ص: 328


1- توحيد الصدوق : 83 - 84.
2- كالتركب من الوجود والماهية.
3- توحيد الصدوق : 192.

ويقول الإمام الثامن علي بن موسى الرضا علیه السلام في هذا الصدد :

« بتجهيره الجواهر عرف أنّ لا جوهر له » (1).

من هذه الأحاديث يمكن استنباط كلا المسألتين المذكورتين بوضوح ، وأعني بهما :

1. نفي الأجزاء الخارجية ( والتركيب الخارجي ).

2. نفي الأجزاء العقلية ( والتركيب العقلي ).

أمّا المسألة الثالثة ، وهي عينية الصفات للذات ، فنشير إلى بعض الأحاديث الناظرة إليها فيما يأتي :

قال أمير المؤمنين علیه السلام :

« وكمال الإخلاص له ، نفي الصفات [ الزائدة ] عنه لشهادة كلِّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلِّ موصوف أنّه غير الصفة.

فمن وصف اللّه [ أي وصف زائد على ذاته ] فقد قرنه [ أي قرن ذاته بشيء غير الذات ] ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله » (2).

وفي هذا الكلام العلوي تصريح بعينية الصفات للذات المقدسة ، بل في هذا الكلام إشارة إلى برهان آخر ، وهو أنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته يوجب تنزيهه تعالى عن التركيب والتجزئة ، ونفي الاحتياج والافتقار عن ساحته.

وأمّا إذا قلنا بغيريَّتها مع الذات فذلك يستلزم التركيب وبالم آل : الثنويّة ،

ص: 329


1- توحيد الصدوق : 37.
2- نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.

والتركيب آية الاحتياج ، واللّه الغني المطلق لا يحتاج إلى من سواه.

وعلى هذا الأساس يكون قوله تعالى : ( هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) التي تدل على بساطة الذات دليلاً أيضاً على عينيّة الصفات للذات ، إذ على فرض زيادتها على الذات يحصل هنا وجود مركب من العارض والمعروض فيكون مصداق لفظة الجلالة هو المركب منهما ، مع أنّ المفروض بساطة ذاته.

هذا مضافاً إلى أنّ الاعتقاد بزيادة الصفات - حسب ما ذهب إليه الأشاعرة - يستلزم أن يكون هناك « قدماء ثمانية » ما عدا اللّه القديم ، في حين أنّ الآيات القرآنية التي تدل على وحدانية القديم الأزلي تنفي هذه النظرية أيضاً ، وقد أشرنا إليه سابقاً.

قال الإمام الصادق علیه السلام لأبي بصير في هذا الصدد :

« لم يزل اللّه جل وعزّ ربنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور » (1).

والإمام يشير إلى قسم خاص من علمه سبحانه وهو وجود العلم بلا وجود معلوم ، ووجود السمع بلا وجود مسموع ، وشرح هذا القسم من العلم يطلب من الكتب الكلامية والفلسفية.

وللفيلسوف الجليل صدر المتألّهين في هذا المقام بيان لا يسع هذا المجال لإيراده (2).

ص: 330


1- التوحيد للصدوق : 139.
2- الأسفار الأربعة : 6 / 263 - 270.

الفصل السابع: اللّه والتوحيد في الأفعال

اشارة

1. التوحيد في الخالقية

ص: 331

اللّه والتوحيد في الخالقية

1. عقيدة المعتزلة في العلل والأسباب.

2. نقد هذه العقيدة.

3. مذهب الإمام الأشعري في العلل الطبيعية.

4. نقد هذا المذهب.

5. مذهب أئمة أهل البيت علیهم السلام « الأمر بين الأمرين ».

6. التوحيد في الخالقية من شعب التوحيد الافعالي.

7. ما معنى الخالقية ؟

8. لماذا يؤكد القرآن على التوحيد في الخالقية ؟

9. ما معنى خالقية المسيح ؟

10. التوحيد في الخالقية يؤكد الاختيار.

11. كيف تعلّقت الإرادة الأزلية بصدور الفعل عن الفاعل.

12. تحليل عن الشرور.

13. خلاصة القول في الشرور.

14. جواب آخر حول الشرور.

15. الشر أمر نسبي.

ص: 332

التوحيد في الخالقية

تشهد النظرة العلمية والفلسفية بقيام النظام الكوني على أساس سلسلة الأسباب والمسببات وارتباط كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية بعلّة وسبب مادي ، فهذا النظام - بمجموعه - نظام ممكن ، محتاج - في ذاته ، وفعله - إلى واجب غني بالذات ، وحيث إنّ الإمكان والافتقار لازم « ذات » الممكن وماهيته ، والفقر والاحتياج لا ينقطع ولا ينفك عنه ، فالنظام الذي يتألف من سلسلة « العلل والمعلولات » يكون قائماً - في وجوده وبقائه وفي تأثيره وفعله - باللّه تعالى دون أن يتمتع بأي « استقلال » ذاتي واستغناء عنه حدوثاً وبقاء ذاتاً وفعلاً.

وبعبارة أُخرى إنّ الظواهر الكونية كما أنّها « غير مستقلة في ذاتها » وأصل وجودها كذلك هي غير مستقلة - في مقام عليتها وتأثيرها - بمعنى أنّها لا تؤثر أو لا يمكنها التأثير إلاّ بإرادة اللّه ، وحوله وقوته سبحانه ، ويستنتج من ذلك أنّه كما لا شريك له سبحانه في الفاعلية والعلية ، ليس هناك في الواقع إلاّ « فاعل مستقل واحد » لا غير ، وإلاّ علة واحدة قائمة بنفسها لا بسواها ، وذلك هو « اللّه » عز وجل.

وأمّا الأسباب والعلل الأُخرى فهي تستمد « وجودها » و « فاعليتها » أيضاً من اللّه ، وتقوم به ، ولذلك فإنّ شعار المؤمن الموحد يكون دائماً هو : « لا حول ولا قوة إلاّ باللّه ».

ص: 333

عقيدة المعتزلة

ذهب المعتزلة إلى أنّ كل ممكن مؤثر ، يحتاج في ذاته إليه سبحانه لا في فعله ، فوجوده فقط قائم به تعالى ، دون إيجاده ، وإنّ فعل الممكن يرتبط بنفسه لا بموجده.

فقد فوض تأثير الفاعل - في نظر هذه الطائفة - إلى نفس « الأسباب والعلل » بحيث لم تعد هذه الأسباب بحاجة إلى اللّه في « تأثيرها وفاعليتها » بل هي تأتي بكل ذلك على وجه الأصالة والاستقلال دون فرق في هذه الناحية بين الإنسان وغيره.

وقد دفع هذه الفرقة إلى اختيار مثل هذه العقيدة ، تصور تنزيه اللّه عمّا يفعله العباد من الآثام والقبائح كالظلم والقتل والزنا.

فلو كانت « سببية » هذه الأفعال مستندة إلى الإرادة الإلهية ، لاستلزم ذلك أن يكون عقاب العصاة - حينئذ - مخالفاً للعدل الإلهي ، واستلزم نسبة القبيح إليه سبحانه.

فهم بغية الحفاظ على العدل الإلهي وتنزيهه سبحانه سلكوا هذا المسلك على خلاف البراهين العلمية والفلسفية ، وعلى خلاف الآيات والأحاديث الإسلامية ، واعتبروا العلل « عللاً مفوضة » فوضت إليها السببية والتأثير ، بحيث تؤثر دون الاستناد إلى القدرة الإلهية ، أي بالاستقلال والأصالة.

وفي الحقيقة ، جعلوا مكان « الفاعل المستقل الواحد » ملايين الفاعلين المستقلين ، وبذلك اتخذوا لله - بدل شريك واحد - شركاء كثيرين له في الفعل

ص: 334

والتأثير ، فسقطوا بذلك في ورطة « الشرك الخفي » (1) بظن المحافظة على العدل الإلهي.

نقد هذا الاعتقاد

ونحن قبل أن نتحدث حول الآيات المرتبطة ب « التوحيد في الخالقية » الذي هو في الحقيقة بحث في « التوحيد الأفعالي » سنذكر باختصار ما يرد على هذه النظرية من نقد وأشكال ، فنقول :

1. هل يصح أن يستند الموجود الممكن في وجوده وذاته إلى اللّه ، ولكن يكون مستقلاً عنه في تأثيره في حين أنّ الارتباط من حيث الذات يستلزم الارتباط من حيث الفعل والتأثير ، لزوماً وحتماً.

وبعبارة أُخرى : إذا كان وجود هذه الموجودات وذاتها مرتبطة باللّه ، فإنّ فعلها وتأثيرها يكون أيضاً مرتبطاً به تعالى ، فكيف يقول هؤلاء باستقلال هذه الموجودات في فعلها وتأثيرها مع اعترافهم بارتباطها باللّه سبحانه في ذاتها ، الملازم لارتباطها قهراً به في الفعل والتأثير في حين لو كان الفاعل مستقلاً في فعله لوجب أن يكون أيضاً مستقلاً في ذاته وأصل وجوده ، والاعتقاد باستقلال الأشياء في « أصل وجودها وذاتها » موجب للاعتقاد بوجوب وجودها - لا محالة - ومعلوم أنّ مثل هذا الاعتقاد مناف ل « التوحيد الذاتي ».

2. من الجدير - جداً - التعمّق في الآية التالية :

ص: 335


1- انّ اعتقاد المعتزلة باستقلال العلل والأسباب في الفاعلية هو نوع من الشرك الخفي الذي لا يدركه إلاّ العلماء والمحققون دون عامة الناس ، ولهذا لا يكون هذا الاعتقاد سبباً للخروج من الإسلام.

( وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) (1).

فإنّ قوله سبحانه : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ ) أوضح دليل على عدم استقلال أي فاعل في فعله ، إذ لا شك أنّ أثر الفاعل عاقلاً كان أو غيره جزء من الملك ، فلو كان الفاعل مستقلاً في فعله ، لكان بعض الكون وهو ذوات العلل والأشياء ملكاً لله سبحانه والبعض الآخر يكون ملكاً لغيره تعالى ، أعني : العلل والأسباب ، فإنّ المالكية متفرعة على الخالقية فلو كانت الآثار خارجة عن إطار خالقية اللّه لخرجت عن إطار مالكيته.

إنّ القرآن الكريم يخبر عن مجموعة من المدبرات إلى جانب اللّه حيث يقول :

( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (2).

فمن ترى تكون تلك المدبّرات ؟

المراد من تلك المدبّرات أمّا العلل الطبيعية أو الملائكة التي تدبّر الكون.

فإذا كانت هذه الأشياء تدبّر شؤون العالم على وجه الاستقلال دون أن تكون أفعالها مستندة إلى إرادة اللّه ومشيئته ، فهل يصح قوله تعالى :

( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ) .

فأي شريك أعلى وأبين من هذه الشركاء المشتغلة بتدبير العالم دون الاعتماد على اللّه ودون الرجوع إليه فرضاً.

3. لقد أشار أحد أئمّة أهل البيت في الرد على عقيدة المعتزلة إلى نكتة

ص: 336


1- الإسراء : 111.
2- النازعات : 4.

خاصة وهي :

« انّ القدرية أرادوا أن يصفوا اللّه عز وجل بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه » (1).

فلقد كشف الإمام موسى بن جعفر علیه السلام النقاب ، منذ بداية نشوء مذهب الاعتزال (2) عن الدوافع الأوّلية لمثل هذا الاعتقاد ، وأعلن منذئذ عن فساده ، وعلة بطلانه ، لأنّه يحدّد قدرة اللّه.

ولو أمعنوا النظر في كيفية صدور الفعل عن الإنسان ، وكيفية فاعليته ، مع المحافظة على أصل « التوحيد الافعالي » ، لثبت لهم أنّ كل فعل صادر من الإنسان مع أنّه فعل اللّه هو فعل الإنسان نفسه ، ومع أنّه ( أي الفعل البشري ) قائم باللّه تعالى هو صادر من العبد نفسه أيضاً ، غاية ما في الباب أنّ فاعليته تعالى بالقيومية وفاعلية البشر فاعلية مباشرية.

يقول الإمام موسى بن جعفر علیه السلام في كتاب له إلى أحد أصحابه :

« قال اللّه : يابن آدم بمشيئتي كنت ، أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبقوتي أديت إليَّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعاً ، بصيراً ، قوياً » (3).

ص: 337


1- بحار الأنوار : 5 / 54.
2- نعم أنّ أصحاب الاعتزال قد أخذوا الأصلين الرئيسيين ( التوحيد والعدل ) عن خطب أمير المؤمنين عن طريق محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم غير أنّهم لابتعادهم عن سائر أئمّة أهل البيت لم يوفقوا إلى تفسير هذين الأصلين على النحو اللائق بهما إلى أن وجد فيهم أقوام لهجوا بأنّ اللّه غير قادر على أفعال الإنسان إيجاداً واعداماً وهؤلاء هم القدرية الحقيقية.
3- بحار الأنوار : 5 / 57.

فالحديث رغم أنّه يصف الإنسان بأنّه هو الذي يريد لنفسه ما يريد ، وبإرادته يؤدي فرائضه ويرتكب جرائمه إلاّ أنّه في نفس الوقت يقول : بأنّه يفعل ما يفعل بأنعام اللّه وأقداره.

نعم اختارت المعتزلة ما اختارت من استقلال العبد في فعله بدافع المحافظة على « العدل الإلهي » متوهّمين بأنّ القول بوجود فاعل مستقل واحد في العالم يستلزم أن يكون عقاب العصاة على أفعالهم على خلاف العدل ، ولكنّهم غفلوا عن أنّ عقاب العصاة على آثامهم إنّما يكون مخالفاً له إذا أنكرنا حرية الإنسان في الاستفادة من المواهب الإلهية ، واعتبرناه مجبوراً مقهوراً في أفعاله وأنكرنا وساطة العلل والأسباب وفاعليتها وعلّيتها.

وأمّا إذا قلنا بمشاركة العلل والأسباب في وقوع الفعل بحيث لا يتحقق الفعل إلاّ عن هذا الطريق ، أعني : وجود العبد وإرادته واختياره فلا يكون لذلك التوهم أي مجال ، والقول بمشاركة العبد في فعله على النحو الذي ذكرنا لا ينافي « التوحيد الافعالي » إذ لا يعني منه إنكار علية العلل والأسباب الطبيعية وغير الطبيعية وإلغاء دورها وتأثرها ، بل يعني مع احترام علية العلل وسببية الأسباب أنّه ليس ثمت سبب مستقل ومؤثر بالذات إلاّ اللّه ، وانّه تعالى المؤثر الوحيد الذي يؤثر بالأصالة والاستقلال دون غيره ، وبهذا الطريق وحده يمكن الاجتناب عن أي نوع من ألوان الشرك في الذات والفعل (1).

وبعبارة أُخرى : انّ اللّه قد أعطى القدرة والنعمة لعبده ، ولكن جعله حراً في كيفية الاستفادة منهما ، فهو بإرادته واختياره يصرف كل نعمة في أي مورد شاء ،

ص: 338


1- للسيد الرضي في المقام كلام فراجع حقائق التأويل : 209 - 210.

وعندئذ يكون هو المسؤول عن أعماله وأفعاله ، وعلى هذا الأساس فالفعل مستند إلى اللّه سبحانه باعتبار أنّه أقدر عبده على الفعل وأنعم عليه ، كما أنّه مستند إلى عبده لكونه باختياره صرف القدرة والنعمة في أي مورد شاء ، وهذا هو مذهب الأمر بين الأمرين الذي تواترت عليه الأخبار عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

مذهب الإمام الأشعري

إنّ هناك مذهباً آخر يعد مقابلاً للمذهب الماضي وهو المنسوب إلى الإمام الأشعري ، فهو لا يعترف إلاّ بمؤثر واحد وهو اللّه سبحانه وينكر علّية أي موجود سواه ، بل يقول جرت إرادة اللّه على خلق الحرارة بعد النار وخلق النور بعد الشمس وهذا هو ما أسموه بالعادة الإلهية.

فالعادة الإلهية جرت - حسب تلك النظرية - على ظهور الأثر عقيب وجود المؤثر ، دون مشاركة أو سببية للمؤثر في حصول ذلك الأثر مطلقاً.

ولكن هذه النظرية مرفوضة لمخالفتها الصريحة للبراهين العلمية والفلسفية ولصريح الآيات القرآنية حول تأثير العلل والأسباب الطبيعية في عالم الكون ، ونحن نرجئ بيان بطلان هذا الرأي من الناحية العلمية والفلسفية (1) إلى موضع آخر ، وإنّما نكتفي هنا ببيان بطلانه من وجهة نظر القرآن.

ص: 339


1- نعم هذه النظرية تقارب ما نقل من الفيلسوف الإنجليزي المعروف : هيوم ، حيث إنّه أنكر مطلق العلية ولم يعترف حتى بعلّة واحدة ، وعلّل ذلك بأنّ التجربة لا تثبت إلاّ التوالي والتقارن بين النار وحرارتها والشمس وضوئها ، وهما غير العلّية أي نشوء شيء من شيء. ولكنه لما حصر أسباب المعرفة بالتجربة والاختبار عجز عن إثبات قانون العلية الذي تبتني عليه المعارف البشرية، ولو رجع إلى البراهين الفلسفية التي أقامها الفلاسفة على أن كل ظاهرة ممكنة تحتاج إلى سبب يخرجها من نقطة الاستواء لظهر له الحق بأجلى مظاهره.

ففي هذه الآيات يصرح القرآن - بوضوح كامل - بعلية وتأثير العلل الطبيعية نفسها.

وإليك هذه الآيات :

( وَفِي الأرضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَاب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَان يُسْقَى بِمَاء وَاحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِقَوْم يَعْقِلُونَ ) (1).

وجملة ( يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ) كاشفة عن دور الماء وأثره في إنبات النباتات ونمو الأشجار ، ومع ذلك يفضل بعض الثمار على بعض.

وأوضح دليل على ذلك قوله تعالى في الآيتين التاليتين :

( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ ) (2).

( أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الأرض الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ) (3).

ففي هاتين الآيتين يصرح الكتاب العزيز - بجلاء - بتأثير الماء في الزرع ، إذ أنّ « الباء » تفيد السببية - كما نعلم -.

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرىَ الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَد فَيُصِيبُ بِهِ مِنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ ) (4).

ص: 340


1- الرعد : 4.
2- البقرة : 22.
3- السجدة : 27.
4- النور : 43.

ففي هذه الآية نرى - لو أمعنا النظر - كيف بيّن القرآن الكريم المقدّمات الطبيعية لنزول المطر والثلج من السماء من قبل أن يعرفها العلم الحديث ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدماتها.

فقبل أن يتوصل العلم الحديث إلى معرفة ذلك - بزمن طويل - سبق القرآن إلى بيان تلك المقدمات في عبارات هي :

1. يزجي ( يحرك ) سحاباً.

2. ثم يؤلّف ( ويركب ) بينه.

3. ثم يجعله ركاماً ( أي كتلة متراكمة متكاثفة ).

4. فترى الودق ( أي المطر ) يخرج من خلاله.

5. يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.

وهكذا يصرح اللّه سبحانه في كل المراحل بتأثير الأسباب والعلل الطبيعية ، غاية ما هنالك أنّ تأثير هذه العلل والأسباب بإذن اللّه ومشيئته بحيث إذا لم يشأ هو سبحانه لتعطلت هذه العلل عن التأثير.

( اللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مِنْ يَشَاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (1).

وأية جملة أوضح من قوله : ( فَتُثِيرُ سَحَاباً ) أي الرياح ، فالرياح في نظر

ص: 341


1- الروم : 48.

القرآن هي التي تثير السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر.

إنّ الإمعان في عبارات هذه الآية يهدينا إلى نظرية القرآن ورأيه الصريح حول « تأثير العلل الطبيعية بإذن اللّه ».

ففي هذه الجمل جاء التصريح :

1. بتأثير الرياح في نزول المطر.

2. وتأثير الرياح في تحريك السحب.

3. وانبساط السحب في السماء.

4. وتجمع السحب - فيما بعد - على شكل قطع متراكمة.

5. ثم نزول المطر بعد هذه التفاعلات والمقدمات.

فإذا ينسب القرآن هذه الأفاعيل إلى اللّه في هذه الآيات عند تعرضه لذكر مراحل تكون المطر ونزوله بأنّه ( هو ) يبسط السحاب في السماء و ( هو ) الذي يجعله كسفاً ، فإنّما يقصد - من وراء ذلك - التنبيه إلى مسألة « التوحيد الافعالي » الذي سنبحثه من وجهة نظر القرآن في هذا الفصل وما بعده.

على أنّ الآيات التي تؤكد دور العلل الطبيعية وتأثيرها المباشر ، وتعتبر العالم مجموعة من الأسباب والمسببات التي تعمل بإرادة اللّه وإذنه وتكون فاعليتها فرعاً من فاعلية اللّه ، أكثر من أن يمكن إدراجها هنا ، ولكننا نرى في ما ذكرنا الكفاية لمن تدبّر.

هذا وقال أحمد أمين المصري : إنّ من الدائر على ألسنة الأزهريين :

ومن يقل بالطبع أو بالعلّه *** فذاك كفر عند أهل الملّه

ص: 342

وقال الزبيدي في إتحاف السادة (1) وهو شرح لإحياء العلوم :

ثبت مما تقدم أنّ الإله هو الذي لا يمانعه شيء وإنّ نسبة الأشياء إليه على السوية ، وبهذا أبطل قول المجوس وكل من أثبت مؤثراً غير اللّه من علة أو طبع أو ملك أو أنس أو جن ، إذ دلالة التمانع تجري في الجميع ولذلك لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة حيث جعلوا التأثير للإنسان.

هذا ، وقد تقرب الإمام الأشعري إلى أهل السنّة بنسبته فعل الشر إلى اللّه تعالى لمّا تاب عن الاعتزال ، فرقى يوم الجمعة كرسياً في المسجد الجامع بالبصرة ونادى بأعلى صوته : « من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان ، كنت أقول بخلق القرآن وانّ اللّه لا يرى بالأبصار وانّ أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة فخرج بفضائحهم ومعايبهم » (2).

ولا يخفى أنّ التوحيد الافعالي بهذا المعنى أي سلب العلية والتأثير عن أي موجود سواه استقلالاً وتبعاً وبالمعنى الاسمي والمعنى الحرفي جر الويل بل الويلات على أصحاب هذا الرأي من أهل السنّة فدخلوا في عداد الجبرية وان كانوا لا يقبلون بإطلاق هذا الاسم عليهم.

غير انّ هذا الرأي الزائف لا ينتج غير الجبر والإلجاء في أفعال الإنسان ، ولذا رأينا أنّ الإمام الأشعري قد تاب عن قول : « إنّ أفعال الشر أنا أفعلها » ، وذلك حينما دخل في عقيدة السنّة - حسب رأيه -.

ص: 343


1- اتحاف السادة : 2 / 135.
2- الفهرست لابن النديم : 257.

ما معنى هذه الجملة التي ذكرها الإمام الأشعري في جملة عقائد أصحاب الحديث والسنّة إنّ سيئات العباد يخلقها اللّه عزّ وجلّ ، وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً (1).

أو ليس هذا موجباً للغوية بعث الأنبياء والرسل ، ولغوية الحث على العمل الصالح والزجر عن غير الصالح.

ونرى إمام الحنابلة يمشي على هذا الضوء فيفسر القضاء والقدر على نحو يساوي الجبر والحتم حيث يقول : القدر خيره وشره ، حسنه وسيئه من اللّه قضاء قضاه وقدر قدره لا يعدو واحد منهم مشيئة اللّه عز وجل والعباد صائرون إلى ما خلقهم له واقعون فيما قدر عليهم لأفعاله وهو عدل منه عزّ ربنا وجل والزناء والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المرء المال الحرام والشرك باللّه والمعاصي كلها بقضاء وقدر (2).

إنّ تفسير القضاء والقدر بهذا المعنى تشعب عن الفكرة الخاطئة من إنكار العلية والمعلولية في عالم الطبيعة مطلقاً وانّ الظواهر الطبيعية لا مصدر ولا منشأ لها إلاّ إرادته سبحانه من دون وساطة علة أو مشاركة سبب ، وهو ما عرفت بطلانه في الصفحات السابقة.

وأمّا كشف النقاب عن حقيقة قضائه وقدره سبحانه مع شمولها لعامة الحوادث والظواهر الطبيعية والأفعال الإنسانية ، فقد أسهبنا فيه الكلام في بعض أبحاثنا الفلسفية (3).

ص: 344


1- مقالات الإسلاميين : 1 / 321.
2- طبقات الحنابلة : 1 / 25.
3- راجع القضاء والقدر في العلم والفلسفة تأليف شيخنا الأُستاذ وتعريب محمد هادي الغروي طبع في بيروت 1399 ه.

وللعلاّمة الحجة السيد مهدي الروحاني مقال مسهب في المقام في كتابه « بحوث مع أهل السنّة والسلفية » فراجعه.

مذهب أئمة أهل البيت

أقول : من جعل القرآن رائده وإمامه ، ونظر في آياته مجرّداً عن الميول والأفكار المسبقة ، يقف على أنّ كلا المذهبين ( مذهب المعتزلة والأشاعرة ) على جهتي الإفراط والتفريط ، فلا تفويض ولا جبر ، لا إشراك ولا ثنوية ولا اضطرار والجاء ، لا أنّ الممكن مستقل في فعله وتأثيره ، ولا هو منعزل عن فعله وأثره بتاتاً.

إنّ كلا الرأيين والمذهبين لا يصدقهما القرآن ولا الدلائل العقلية الواضحة بل انّ هناك مذهباً ثالثاً أسماه أئمّة أهل البيت بالأمر بين الأمرين وهو الذي يرشدنا إليه التدبر في القرآن وبه يحافظ على التوحيد في الخالقة والفاعلية ، وانّه لا خالق مستقل إلاّ هو ، وعلى مشاركة العلل والأسباب مختارها ومضطرها في الفعل والأثر « فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين » وسيوافيك توضيح الفرق بين المذهبين والأمر بين الأمرين بطرح مثال بديع.

* * *

ويمكن تلخيص التوحيد الافعالي في فصلين :

1. انّه ليس في عالم الوجود إلاّ خالق أصيل ومستقل واحد ، وأمّا تأثير العلل الأُخرى وفاعليتها فليست إلاّ في طول خالقية اللّه وعلّيته وفاعليته ، ومتحقّقة بإذنه.

ص: 345

2. انّه لا مدبر للعالم إلاّ « اللّه » ولا تدبير لغيره إلاّ بإذنه سبحانه وأمره.

وأمّا القسم الأوّل فهو « التوحيد في الخالقية ».

والقسم الثاني فهو « التوحيد في التدبير والربوبية ».

وسيوافيك انّ « الرب » ليس بمعنى : الخالق ، بل بمعنى المدبر الذي وكل إليه أمر إصلاح فرد أو جماعة (1).

التوحيد في الخالقية

من مراجعة القرآن الكريم يتضح أنّ هذا الكتاب السماوي لا يعرف خالقاً مستقلاً أصيلاً إلاّ اللّه ، وأمّا خالقية ما سواه فهي في طول خالقيته وليس له استقلال في الخلق والإيجاد ، وإليك فيما يلي طائفة من الآيات التي تشهد بهذا الأمر :

( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (2).

( اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ وَكِيلٌ ) (3).

( ذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ خَالُقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ) (4).

ص: 346


1- قد فسر الوهابيون « الرب » بالخالق واعتبروا التوحيد في الربوبية والتوحيد في الخالقية قسماً واحداً ، في حين أنّ الربوبية لا تعني الخالقية ، بل تعني إدارة فرد أو جماعة وتدبير أُمورهم وسيأتي توضيح هذا القسم في المستقبل.
2- الرعد : 16.
3- الزمر : 62.
4- غافر : 62.

( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ ) (1).

( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى ) (2).

( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (3).

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ ) (4).

( أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (5).

ولا يمكن أن تكون هناك عبارات أوضح من هذه العبارات في إفادة المقصود وهو : أنّ كل الأشياء - بذاتها وآثارها - معلولة لله ومخلوقة له سبحانه.

فهو الذي خلق الشمس والقمر والنار ، وهو الذي أعطاها النور والضوء والحرارة ، وأقام ارتباطاً وثيقاً بين هذه الآثار وتلك الأشياء.

وبالتالي فهو الذي أعطى للأسباب سببيّتها وللعلل علّيتها.

إنّ القرآن يرى - بحكم نظرته الواقعية - بأنّ كل ما في هذه الحياة من سماء وكواكب وأرض وجبال وصحراء وبحر ، وعناصر ومعادن ، وسحاب ورعد وبرق وصاعقة ، ومطر وبرد ، ونبات وشجر ، وحجر وحيوان وإنسان ، وغيرها من الموجودات غير مستقلة في التأثير ، وإنّ كل ما ينتسب إليها من الآثار ليست لذوات هذه الأسباب ، وانّما ينتهي تأثير هذه المؤثرات إلى اللّه سبحانه.

ص: 347


1- الأنعام : 102.
2- الحشر : 24.
3- الأنعام : 101.
4- فاطر : 3.
5- الأعراف : 54.

فجميع هذه الأسباب والمسببات رغم ارتباطها بعضها ببعض - بحكم العلية - فهي مخلوقة لله جميعاً ، فإليه تنتهي العلية وإليه تؤول السببية وهو معطيها للأشياء.

ولا شك أنّ البشر هو أيضاً ذو آثار وأفعال ، كالأكل والشرب والقيام والقعود وغيرها من الأفعال ، وكلّها مرتبطة بالإنسان نفسه ، فهي أفعاله الاختيارية التي يتعلّق بها الأمر والنهي.

ولكنّه ليس مستقلاً في فعله وأثره ، فكما أنّ فعله يعد فعلاً له ومرتبطاً به ، فهكذا يعد فعله فعلاً لله سبحانه ومرتبطاً به بحكم كون وجوده وما أُعطي من القوى والطاقات مستندة إلى اللّه سبحانه ، وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون فعل العبد مرتبطاً بالعبد ومنقطعاً عن اللّه ، إذ كيف يكون ذات الشيء مرتبطاً ويكون فعله منقطعاً ، فإنّ غير المستقل بالذات غير مستقل في الفعل ، والمستقل في الذات مستقل في الفعل أيضاً.

وبعبارة أُخرى : انّ المراد من كون أفعال العباد مخلوقة لله ليس هو كونها فعلاً له سبحانه بلا مشاركة العبد ، بل المراد هو عدم استقلال العبد والعلل كلها في مقام الإنشاء والإيجاد وإلاّ لزم أن يكون في صفحة الوجود فاعلون مستقلون في الفعل والإيجاد وهو بمنزلة الشرك.

وبذلك يرتفع الاستيحاش عن القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله ، إذ ليس المراد انّه سبحانه فاعل دونهم كما ليس المراد أنّها أفعال لهم دونه سبحانه ، بل هي أفعال له تعالى من جهة وأفعال لهم من جانب آخر.

وقد أوضحه بعض المحقّقين بالمثال التالي الذي يوضح موقف كل من مذهبي الجبر والتفويض وما هو الحق من الأمر بين الأمرين ، فلنفرض أنّ إنساناً

ص: 348

أعطى لأحد سيفاً مع علمه بأنّه يقتل به نفساً ، فالقتل إذا صدر منه لا يكون مستنداً إلى المعطي بوجه ، فإنّه حين صدوره يكون أجنبياً عنه بالكلية غاية الأمر أنّه هيّأ بإعطائه السيف مقدمة إعدادية من مقدمات القتل ، وهذا واقع التفويض.

كما أنّه لو شد آلة جارحة بيد الإنسان المرتعش بغير اختيار ، فأصابت الآلة من جهة الارتعاش نفساً فجرحته ، فالجرح لا يكون صادراً من ذاك الإنسان المرتعش ، بإرادته واختياره ، بل هو مقهور عليه في صدوره منه ، وهذا واقع الجبر وحقيقته.

وإذا فرضنا أنّ يد الإنسان مشلولة لا يتمكّن من تحريكها إلاّ مع إيصال الحرارة إليها بالقوة الكهربائية ، فأوصل رجل القوة إليها بواسطة سلك يكون أحد طرفيه بيد المولى ، فاختار ذلك الإنسان قتل نفس والموصل يعلم بذلك ، فالفعل بما انّه صادر من الإنسان المشلول باختياره يعد فعلاً له ، وبما أنّ السلك بيد الموصل وهو الذي يعطي القوة للعبد آناً فآناً فالفعل مستند إليه ، وكل من الإسنادين حقيقي من دون أن يكون هناك تكلّف أو عناية ، وهذا هو واقع الأمر بين الأمرين ، فالأفعال الصادرة من المخلوقين بما أنَّها تصدر منهم بالإرادة والاختيار ، فهم مختارون في أفعالهم ; وبما أنّ فيض الوجود والقدرة والشعور من مبادئ الفعل يجري عليهم من قبل اللّه تعالى آناً فآناً ، فأفعالهم منتسبة إلى خالقهم (1).

إنّ هناك طائفة من الآيات القرآنية تبيّن هذه الحقيقة بنحو آخر وهو أنّه ليس اللّه تعالى خلق الأشياء فقط ، بل هو الذي قدر تأثير كل شيء وخلق له

ص: 349


1- أجود التقريرات : 1 / 90.

« حدوداً » خاصة ، وغايات معينة مثل قوله تعالى :

( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (1).

( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (2).

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) (3).

هذه الآيات وما قبلها تبيّن « التوحيد الخالقي » بوضوح ولا تعترف بخالق أصيل ومستقل إلاّ اللّه ، كما أنّها لا تعترف بمقدّر أصيل للأشياء وهاد واقعي لها غيره سبحانه.

ما هو معنى الخالقية ؟

ماذا يراد من أنّ اللّه سبحانه هو الخالق الوحيد وانّ الذوات والأشياء وما يتبعها من الأفعال والآثار حتى الإنسان وما يصدر منه ، مخلوقات لله سبحانه بلا مجاز ولا شائبة عناية ؟

إنّ الوقوف على تلك الحقيقة القرآنية يتوقف على تحليل معنى الخلق لغة واستعمالاً.

إنّ لفظة « الخلق » تارة يراد منها « التقدير » وأُخرى الإبداع والإيجاد ، والميزان في ذلك هو إنّه إذا قيل : خلق هذا من ذاك وذكرت معه المادة القابلة للصياغة والتصوير والنحت والتكوين يراد منه التقدير ، قال سبحانه حاكياً عن سيدنا المسيح علیه السلام :

( أَنِّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهِيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً

ص: 350


1- الفرقان : 2.
2- طه : 50.
3- الأعلى : 2 - 3.

بِإِذْنِ اللّهِ ) (1).

يقال : خلقت الأديم للسقاء ، إذا قدرته ، ويقال أيضاً : خلق العود : سوّاه (2).

وأمّا إذا تعلّق الخلق بالشيء ونسب إليه من دون أن تقترن بمادة خاصة ، فيراد منه الإبداع والإيجاد من كتم العدم ، كقوله سبحانه :

( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (3).

نعم دلت البراهين الفلسفية على أنّ « الخلق » لا ينفك عن الإيجاد والإبداع حتى في القسم الأوّل ، فإنّ المادة وإن كانت موجودة لكن الصورة - لا شك - إنّها أبداعية قطعاً ، كقوله سبحانه :

( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) (4).

ولعلّه لذلك اكتفى ابن فارس في مقاييسه في توضيح معنى الخلق بالمورد الأوّل أي التقدير ولم يذكر المورد الثاني اعتماداً بأنّ التقدير لا ينفك عن الإيجاد والإبداع كما أنّ الإيجاد لا ينفك عن التقدير ، كما صرح بقوله : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (5).

***

ص: 351


1- آل عمران : 49.
2- المقاييس لابن فارس : 2 / 214 ، والقاموس المحيط : مادة خلق.
3- الفرقان : 2.
4- غافر : 67.
5- الفرقان : 2.

ثم إنّه وقع النزاع في صحة استعمال لفظ الخلق في الأفعال ، لغة ، وانّه هل يتعلّق الخلق بالأفعال كتعلّقه بالذوات ، أو أنّه لا يتعلّق إلاّ بالذوات ، وأمّا الأفعال والأحداث فيتعلّق بها الإيجاد ، والإنسان موجد لفعله لا خالق له ، فيقال : أوجد فعله ولا يقال : خلقه.

وربما يستدل على صحة تعلّقه بالفعل والعمل بقوله تعالى :

( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * واللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (1).

والشاهد هو قوله : ( خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) غير انّه يمكن أن يقال : انّ المراد من الموصول في قوله : ( وَمَا تَعْمَلُونَ ) هو الأصنام التي كانوا يعملونها وينحتونها بقرينة ما سبقها من الآيات ، أعني قوله : ( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ) والمقصود انّ اللّه خلقكم وخلق الأصنام التي تصنعونها ، ويكون وزان الآية وزان قوله سبحانه : ( يَعمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَان كَالْجَوَابِ ) (2).

وبذلك يسقط الاستدلال بالآية.

وربما يستدل على نفي صحة اسناد الخلق إلى غيره سبحانه بقوله تعالى :

( أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) (3). (4)

فإنّ الظاهر من قوله ( لا يَخْلُقُ شَيْئاً ) انّ كل معبود سواه لا يخلق شيئاً ولا

ص: 352


1- الصافات : 93 - 96.
2- سبأ : 13.
3- الأعراف : 191.
4- ومثله الآية 20 من سورة النحل والآية 3 من سورة الفرقان.

يقال لفعله انّه مخلوق ولا لنفسه انّه خالق.

غير انّ الإجابة عن هذا الاستدلال أيضاً واضحة ، فإنّ المراد بعد الغض عن احتمال كون المراد الأصنام المنحوتة لا كل موجود سواه ، نفي الخالقية اللائقة لساحته سبحانه ، وهي الخالقية المستقلة غير المعتمدة على شيء ومن المعلوم أنّ الخالقية بهذا المعنى لا يقدر عليها أحد.

إذا وقفت على استدلال الطرفين من حيث صدق الخلق على الفعل وعدم صدقه ، فهلمّ معنا نوقفك على الحقيقة وانّه هل يجوز استعمال لفظ الخلق في مورد الأعمال وعدمه ؟

فنقول : أمّا أوّلاً : لا شك أنّ الخلق يتعلّق بالفعل كما يتعلّق بالذات ، كما في قوله سبحانه :

( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) (1).

فإنّ قوله سبحانه : ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) بمعنى تقولون : كذباً ، فليس الكذب والصدق إلاّ من أفعال البشر.

وفي الحديث :

« خلقت الخير وأجريته على يدي من أحب وخلقت الشر وأجريته على يدي من أُريد ».

قال الطريحي في تفسير الحديث : المراد بخلق الخير والشر خلق تقدير لا خلق تكوين ، ومعنى التقدير نقوش في اللوح المحفوظ ، ومعنى خلق التكوين

ص: 353


1- العنكبوت : 17.

وجود الخير والشر في الخارج ، وهو من أفعالنا وقد ورد في الحديث يا خالق الخير والشر (1).

وثانياً : سلمنا أنّ الخلق لا يتعلّق بالفعل غير أنّ عمومية المتعلّق في الآيات الواردة في هذا الفصل التي تخص الخالقية باللّه سبحانه كقوله : ( خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) وقوله : ( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ ) أو قوله : ( هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرِ اللّه ) تكون قرينة على أنّ المراد من الخلق في الآيات هو مطلق الإيجاد والإبداع ، سواء تعلّق بالذات أو بالفعل ، فيستدل بعموم المتعلّق ( كل شيء ) مثلاً على إلغاء الخصوصية المتوهمة في لفظ الخلق من أنّه لا يتعلّق إلاّ بالذوات دون الأفعال.

إنّ عناية القرآن بطرح متعلّق الخلق بشكل عام عناية لا يرى مثلها في غيره تكون قرينة على أنّ المراد هو نفي وجود أي مؤثر أو موجود مستقل في صفحة الوجود دون اللّه ، وقد ذكر علماء المعاني ، انّ خصوصية الفعل ربّما يسري إلى المتعلّق فيخرجه عن السعة ، فإذا قال القائل : لا تضرب أحداً ، ينصرف لفظ الأحد بقرينة « لا تضرب » إلى الحي وإن كانت تلك اللفظة عامة تشمل الحي الميت.

وقد يعكس فتكون سعة المتعلّق قرينة على شمول الفعل وعموميته ، كما لا يخفى مثلاً أنّ قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ) (2) وإن كان خاصاً من جهة الموصول والصلة بالعاقل فلا يشمل إلاّ دعوة العقلاء ، إلاّ أنّ قوله من دون اللّه قرينة على أنّ الممنوع هو دعوة مطلق غير اللّه عاقلاً كان أو غيره ،

ص: 354


1- مجمع البحرين مادة خلق ، ولا يخفى أنّه كما تكون ذوات الأشياء خيراً وشراً كذلك تكون الأفعال خيراً وشراً ، بل نسبة الخير والشر إلى الذوات كصحة البدن والمال إنّما هي باعتبار كونها مبدأ للخير والشر.
2- الحج : 73.

وبذلك يظهر أنّ للعموم الحاكم على المتعلّق في الآيات ، أعني قوله تعالى : ( كُلَّ شَيْءٍ ) ، وإضرابه دليلاً على أنّ المقصود حصر مطلق الخلق المتعلّق بالذوات والأفعال باللّه سبحانه.

ثالثاً : انّ المقصود من التوحيد في الخالقية هو التوحيد في التأثير والإيجاد سواء أصح إطلاق الخلق عليه أم لا. (1) والمراد أنّ كل موجود ممكن غير مستقل في ذاته غير مستقل في فعله وتأثيره أيضاً ، لأنّ غير المستقل في الذات والقوى والطاقات غير مستقل في أعمال هذه القوى والاستفادة من هذه الطاقات ، إلاّ أنّ كون الفاعل غير مستقل ليس بمعنى كونه مجبوراً ومضطراً في أعمال هذه القوى والطاقات ، بل هو مخير في أعمالها على أي نحو شاء.

وتظهر حقيقة هذا المعنى بالتدبّر في الآيات التي تصف اللّه تبارك وتعالى بالقيومية كما في قوله سبحانه : ( اللّهُ لاَ إِله إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ) (2). (3)

فإنّ معنى القيومية ليس إلاّ قيام ما سواه - من ذات وفعل ومؤثر وأثر - به سبحانه ومعه كيف يمكن أن نصف الموجودات الإمكانية بالاستقلال في الفاعلية والتأثير.

سؤال في المقام

إذا كان المشركون لا يشكّون في موضوع « التوحيد في الخالقية » ، فلماذا نجد

ص: 355


1- نعم عند ذاك لا تصلح الآيات الحاصرة للخلق باللّه سبحانه للاستدلال في المقام إلاّ بضرب من التأويل ، ولابد من الاستدلال بالآيات التي تحصر القيومية باللّه سبحانه وغيرها من الآيات.
2- البقرة : 255 ، وآل عمران : 2.
3- وقوله سبحانه : ( وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ ) ( طه : 111 ).

القرآن ينهض لذم المشركين ، ويذكرهم بأنّ معبوداتهم لم تخلق شيئاً ؟ كقوله :

( هذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين ) (1).

( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لإنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً ) (2).

( أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّه خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (3).

( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) (4).

( اللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (5).

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الأرضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماوَاتِ ) (6).

الجواب : انّ الهدف من التذكير بخالقية اللّه وحده وسلب الخالقية من غيره ليس لأنّ المشركين كانوا يعتبرون الأوثان خالقة ، إنّما الهدف من طرح « حصر الخالقية باللّه ونفيها من الأصنام » هو في الحقيقة « ردع » المشركين من عبادة غير اللّه

ص: 356


1- لقمان : 11.
2- الفرقان : 3.
3- الرعد : 16.
4- الحج : 73.
5- الروم : 40.
6- فاطر : 40.

تعالى ، ذلك لأنّ العبادة إنّما يستحقها من يكون متصفاً بالكمال ومنزّهاً عن أية نقيصة أو عائبة ، وأي كمال أعلى من الاتصاف بالخالقية التي أسبغ صاحبها لباس الوجود على كل شيء مما سواه ؟

وبعبارة أُخرى فإنّ العبادة من مقتضيات المالكية والمملوكية ، الناشئتين من الخالقية والمخلوقية ، وإذ يعترف المشركون بأنّ اللّه هو الخالق دون سواه ، فلماذا يعبدون غيره ؟ ولماذا لا يجتنبون عن عبادة من سواه ؟

وعلى هذا الأساس فإنّ إصرار القرآن الكريم ليس لأنّ المشركين كانوا يشكون في « التوحيد الخالقي » وغافلين عن هذه الحقيقة الساطعة الثابتة ، بل لأنّهم كانوا غافلين عن لوازم التوحيد الخالقي ، وهو : التوحيد في العبادة ، فأراد اللّه بالتذكير بهذه الحقيقة أنّ يلفت نظرهم إلى لازمه وهو « التوحيد في العبادة ».

هذا وقد نقلنا لك فيما مضى بعض هذه الآيات (1).

وقد ذكرت هذه الحقيقة ( أي حصر الخالقية في اللّه تعالى ) في آيات أُخرى بعبارة ( الخَلاَّقُ العَلِيمُ ) ، مثل قوله :

( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ ) (2).

( أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضِ بِقَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ ) (3).

ص: 357


1- راجع الآيات التالية : الأنعام : 102 ، فاطر : 3 ، الزمر : 62 ، غافر : 62 ، الحشر : 24 وغيرها.
2- الحجر : 86.
3- يس : 81.

وصفوة القول : إنّ السبب وراء طرح « حصر الخالقية في اللّه » ونفيها عمّا سواه ، وكذا التنديد بالأوثان والأصنام بأنّها لا تقدر على خلق ذبابة ، (1) وغير ذلك هو تنبيه الضمائر الغافلة عن عبادة اللّه وحده ، لأنّه مع اعتراف المشركين بانحصار الخالقية في اللّه ونفيها عن المعبودات الأُخرى ( المصطنعة ) ينبغي أن يعبدوا اللّه وحده ، الذي خلق كل شيء وأخرج جميع الموجودات من العدم إلى حيز الوجود والتحقّق لا أن يعبدوا ما سواه ، من الأوثان والأصنام العاجزة عن فعل أو خلق شيء حتى ذبابة أو دفعها عن نفسها ، وهذا هو ما تريد هذه الآيات التنبيه إليه.

سؤال

إذا لم يكن في الوجود من خالق غير اللّه ، فكيف يصف القرآن عيسى المسيح علیه السلام بأنّه يخلق أيضاً حيث يقول حاكياً عنه :

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (2) ؟

ثم كيف يصف اللّه نفسه - بعد أن يذكر مراحل خلقه للإنسان - بأنّه ( أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) ، وفي ذلك اعتراف ضمني بوجود « خالقين » آخرين إلى جانب اللّه ، إذ يقول :

( فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) (3) ؟

ص: 358


1- الحج : 73 ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً ) .
2- آل عمران : 49.
3- المؤمنون : 14.

انّ الجواب : يتضح من التوجه إلى « استقلال » اللّه في التأثير والفعل ، و « عدم استقلال » غيره في مقام الذات والفعل.

فالخالقية المنحصرة في اللّه غير قابلة لاتصاف الغير بها ، ولا قابلة لإثباتها للغير ، إذ هو مستقل أصيل في خلقه بمعنى أنّه لا يعتمد على شيء ولا يستعين بأحد ولا يحتاج لأذن آذن ، ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم لم يصف أحداً بمثل هذه الخالقية دون اللّه تعالى.

أمّا الخلق والخالقية التي يكون المتصف بها معتمداً على اللّه ، ومحتاجاً إلى قدرته وإرادته وعونه ، فهي يمكن أن تثبت للمخلوقين ، إذ لا مشاركة حينئذ مع اللّه في الصفة الثابتة له المذكورة سابقاً.

فكل شيء من أشياء هذا الوجود يكون خالقاً في حد نفسه عندما يكون مؤثراً لأثر وسبباً لمسبب ، ولا ريب أنّ إثبات هذا النوع من الخالقية لغير اللّه لا ينافي « التوحيد الخالقي » على النحو الذي مر تفسيره وبيانه.

وربما يجاب عن هذا السؤال بأنّ لفظة « الخلق » تطلق ويراد منها الإيجاد من العدم تارة وأُخرى التقدير ، والمراد من قوله سبحانه : ( أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) هو المعنى الثاني ، أي أقدر لكم من الطين كهيئة الطير.

غير انّ هذا الجواب لا يخالف مع ما اخترناه في هذا الفصل ، فانّ التقدير وإن كان فعلاً للمسيح ، إلاّ أنّه بما هو ظاهرة كونية يحتاج إلى فاعل ، وليس الفاعل القريب إلاّ المسيح علیه السلام ، ولكنه ليس مستقلاً في فعله هذا ، كما هو ليس مستقلاً في ذاته وإلاّ تلزم الثنوية في الفاعلية المستقلة ، على ما أوضحنا برهانه فالتقدير مع كونه فعلاً له ، فعل لله سبحانه ، ونعم ما قاله الحكيم السبزواري في منظومته

ص: 359

الفلسفية :

وكيف فعلنا إلينا فوضا *** وإنّ ذا تفويض ذاتنا اقتضى

لكن كما الوجود منسوب لنا *** فالفعل فعل اللّه وهو فعلنا (1)

سؤال آخر

إنّ حصر الخالقية في اللّه سبحانه ربما يستشم منه القول بالجبر ويكون المسؤول عن فعل العبد هو خالق الفعل والمفروض إنّه لا خالق سوى اللّه ؟

الجواب

إنّ هذا الإشكال - في الحقيقة - إنّما يتجه ويصح إذا قلنا بأحد الأصلين التاليين ، وهما :

1. إنكار علّية أية ظاهرة من الظواهر الطبيعية ، وإحلال خالقيته سبحانه مكان العلل الطبيعية ، كما هو الظاهر من كل من أنكر قانون العلية في الأشياء وأراح نفسه بعادة اللّه.

2. أن نعترف بعلية الموجودات الأُخرى ومشاركتها المباشرة في الآثار والأفعال ، ولكن نعتقد بوجود نوع واحد من العلة في العالم فقط وهو العلة المضطرة المسيرة ، لا أكثر.

فمع قبول أحد هذين الأصلين يتوجه الإشكال المذكور على ما قلناه ويتجه ولكن إذا أنكرنا كلا الأصلين المذكورين اتضح جواب الإشكال.

فبالنسبة للأصل الأوّل بحثنا فيما سبق وأوضحنا كيف أنّ البراهين الفلسفية

ص: 360


1- شرح المنظومة : 175.

والقرآنية تعترف وتؤكد « رابطة العلية والمعلولية » بين الموجودات وآثارها واتضح من خلالها أنّ اللّه تعالى علّة العلل وموجد الأسباب ، لا أنّه يقوم مقام الأسباب والعلل بحيث تتعطل الأسباب والعلل ولا تعود لها أية مشاركة وفاعلية.

وعلينا الآن أن نبحث حول الأصل الثاني ونتحدث حول تقسيم العلة إلى « اضطرارية » وأُخرى « اختيارية ».

فنقول : هناك نوعان من العلل والأسباب :

1. علل ذات إدراك وشعور واختيار وإرادة.

وبعبارة أُخرى ، هناك « فاعل مختار » بمعنى أنّه إذا واجه مفترق طريقين اختار أحدهما على الآخر بإرادة واختيار منه ، وبكامل حريته دونما قهر أو جبر.

2. وهو ما يقابل النوع الأوّل وتلك هي العلل الفاقدة للإدراك والشعور بنفسها وبأفعالها ، أو تكون مدركة وشاعرة ولكنها لا تكون مختارة ومريدة لأفعالها.

وهذا النوع من العلل سواء أكانت فاقدة للشعور أم فاقدة للاختيار والإرادة تسمّى فاعلاً مضطراً.

فمثلاً الشمس هي من العلل التي لا تشعر هي بآثارها ( كالإشعاع والإنبات والإنماء ) وتكون لذلك مجبورة ومضطرة في فعلها ، والنحل والنمل وما شابههما من الدواب والحيوانات والحشرات - وإن كانت تشعر وتدرك ما تفعل - إلاّ أنّها تعمل ما تعمل بالوحي أو بالغريزة مائة بالمائة بمعنى أنّ هذه الأحياء لا تفعل ما تفعله بعد مراجعة العقل ، بل تأتي بأفعالها تحت وطأة الغريزة ، ودون إرادة منها ولا اختيار ، ومثل ذلك حركة يد المشلول وأضرابه.

ومع الالتفات إلى هذا النوع من التقسيم يتضح جواب السؤال ، لأنّه وان صحّ أن يقال إنّ أفعال البشر مخلوقة لله ومتعلّقة لإرادته ، وإنّ اللّه أراد من الأزل أن

ص: 361

تقع هذه الحوادث في عالم الطبيعة ، ولكنه يجب أن نعرف مغزى خالقية اللّه لكل شيء ، ويتعرف على ذلك من الوقوف على كيفية تعلّق إرادته سبحانه بكل شيء ، وبكل العلل والأسباب مختارها ومضطرها.

كيف تعلّقت إرادته سبحانه بأفعالنا ؟

إذا عرفنا كيفية تعلّق إرادته تعالى ، فسنعرف كيفية « خالقيته » بالنسبة لأفعالنا ، ولذلك يجب علينا هنا أن نركّز البحث على معرفة كيفية « تعلّق الإرادة الإلهية ».

لقد تعلّقت الإرادة الإلهية منذ الأزل بأن يصدر كل معلول من علّته الخاصة به ، وأن تصدر كل ظاهرة من سببها المخصوص بها ، بمعنى أنّ الإرادة الإلهية قد تعلّقت منذ الأزل بأن تلقي الشمس أشعتها - دون شعور منها - على الأرض ، وأن يمتص النحل رحيق الأشجار والأزهار بفعل الغريزة أو بدافع الشعور ، ولكن بلا اختيار ولا إرادة ولا حرية ، وأن تبني بيوتها كذلك مسدسة ، وكذلك تعلّقت إرادته تعالى بأن يأتي الإنسان بأفعاله باختيار منه وحرية.

وبعبارة أُخرى قد تعلّقت إرادة اللّه سبحانه بوجود الإنسان وفعله ، وصدور فعله منه بالاختيار ، فاللّه سبحانه كما شاء وجود الإنسان شاء صدور فعله منه بلا جبر ولا اضطرار ، فلو فرضنا صدور فعله منه بالاضطرار لزم تفريق إرادته سبحانه من مراده وهو أمر محال.

وعلى الجملة انّ اللّه سبحانه لم يشأ من الإنسان أن يصدر منه الفعل على وجه الإطلاق مختاراً أو مضطراً ، وإنّما شاء أن يصدر منه الفعل بإرادته واختياره ، ولو صدر بغير هذا الوجه لزم تخلّف إرادته عن مراده.

ص: 362

ومعلوم أنّ مثل هذه الإرادة الأزلية التي تعلّقت بأفعال الإنسان مضافاً إلى أنّها لا تخالف حرية الإنسان تكون مؤكدة لحريته واختياره ، فكما أنّ إرادة اللّه نافذة وماضية إذا تعلّقت بوجود الشيء ، فهكذا نافذة إذا تعلّقت بصدور شيء على نحو خاص ، فلو صدرت والحال هذه - على غير هذا النحو - لزم صدور الشيء على خلاف إرادته تعالى.

وحيث إنّ اللّه أراد أن يكون الإنسان حراً مختاراً آتياً بفعله باختياره فلابد أن تتنفذ إرادة اللّه بأن يأتي الإنسان بأفعاله حسب اختياره وحريته ، وإذا أتى بأفعاله باختيار منه وحرية ، تحققت حينئذ مشيئة اللّه في شأنه ، تلك المشيئة التي شاءت أن يكون الإنسان مختاراً في أفعاله.

وإذا فرضنا أنّه يصدر منه الفعل بنحو « الجبر » ودون اختياره يلزم أن لا يكون فعل الإنسان حينئذ مطابقاً للمشيئة الإلهية وأن لا تتحقّق هذه المشيئة الربانية مع أنّ من الضروري أنّ إرادة اللّه لابد أن تتحقّق ولابد أن تتنفذ.

وخلاصة القول : إنّ أصل وجود الإرادة الأزلية لله لا يكون - بتاتاً - موجباً للجبر ولا يكون رافعاً للاختيار ، بل يجب علينا أن ننظر إلى كيفية تعلّق تلك الإرادة أوّلاً ثم نصدر أحكامنا في هذا المجال (1).

ص: 363


1- هذا الجواب يرجع إلى ما ربما يقال أنّ اللّه خلق الإنسان وخلق فيه ( جبراً ) قوة الاختيار في الأفعال بمعنى أنّه لا يجبره شيء في كل فعل يصدر منه. نعم أن العبد وإن كان مجبولاً على الاختيار وخُلق على الحرية التامة لكن حريته وكونه مختاراً لا يخرج عن حيطة إرادة اللّه ومشيئته إذ لا يمكن أن يوجد شيء في صفحة الوجود ويكون خارجاً عن مشيئته وإرادته بتاتاً، فصدور الفعل عن العبد عن اختيار، غير خارج عن حيطة إرداته. وعلى القارئ الكريم أن يرجع للمزيد من التوضيح إلى المثال الذي ذكرناه في صفحة ٣٤٩ فإنه يصور كيفية إرادته سبحانه وإرادة العبد.

إنّ جميع الظواهر الكونية ومنها أفعال البشر وإن كانت داخلة في إطار الإرادة الإلهية وليس شيء منها يتحقّق بلا إذنه وإرادته ، ولكن يجب علينا أن نعرف كيفية تعلّق إرادته سبحانه بالظواهر الكونية عامة وأفعال البشر خاصة ، فنقول : إنّ إرادته سبحانه تعلّقت بصدور كل شيء عن مباديه الخاصة ، فلو كان الفاعل مضطراً ومجبوراً ، فقد تعلّقت إرادته بصدور فعله عنه بالجبر والاضطرار وان كان الفاعل مريداً مختاراً تعلّقت إرادته بصدور فعله عنه بالإرادة والاختيار.

إنّ الإرادة الإلهية الأزلية إنّما تكون موجبة للجبر ومستلزمة له في صورة واحدة بينما لا تكون مستلزمة للجبر في صورة أُخرى ، فإن قلنا بأنّ الإرادة الإلهية تعلّقت بصدور كل ظاهرة من علّتها لا عن اختيار ، ففي هذه الصورة تكون الإرادة الإلهية موجبة للجبر ، ولكنّنا إذا اعتبرنا العالم هذا عالم الأسباب والمسببات وتصوّرنا لكلّ معلول علّة خاصة به واعتبرنا الإنسان - من بين هذه الأسباب والعلل - فاعلاً مختاراً وقلنا بأنّ الإرادة الإلهية تعلّقت منذ الأزل بأن يصدر الفعل البشري منه بكامل اختياره وحريته ، ففي هذه الصورة بين هذا وبين الجبر مئات الفراسخ والأميال.

جواب على سؤال

لو قال أحد : إذا كان عالم الممكنات بكل خصائصه وآثاره مخلوقاً لله ، ومنبعثاً عن إرادته ومشيئته ، فقدرته وسعت كل شيء وشملت كل الوجود بلا استثناء إذن ، فكيف يمكن أن تنسب أفعال البشر القبيحة إلى « اللّه » سبحانه ؟

هل يمكن أن نسند الظلم والأفعال القبيحة إلى اللّه ونعتبرها مرادة ومخلوقة له ، وهو القائل :

ص: 364

( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) (1).

والقائل :

( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (2).

فهل من الصحيح أن نعتبره خالق المفاسد والمعاصي والرذائل ؟ وماذا يعني من كونه : ( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) ؟

أفليس يفيد قوله تعالى : ( لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ ) (3) أنّ خالقيته تشمل كل ما في الوجود وكل ما يكون مصداقاً للشيء ؟

وبعبارة أُخرى : أفلا يستفاد من الآية التي تقول : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) كما في سورة السجدة الآية 7 ، أنّ كل ما هو مخلوق لله فهو متصف بالحسن والجمال ، وبعيد عن القبح بحيث يمكن أن يقال أنّ الخلق والحسن متلازمان في خلق اللّه لا ينفكان ولا ينفصلان ؟ فإذا كان اللّه خالق كل شيء ، فكيف يمكن أن يوصف الظلم - مثلاً - بالحسن وهو كما نعلم من القبائح المسلمة ؟

على أنّ المشكلة لا تنحصر في مسألة الأفعال القبيحة التي يفعلها الناس بل تصدق على مسألة الآفات والبلايا والشرور ، فكيف تصدر من اللّه هذه الحوادث المستقبحة التي تصيب البشر ، وتشقيه ؟

ولنوضح الإشكال بصورة أكثر جلاء فنقول :

إنّ الإشكال يرد - على القائلين بأنّ ( اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) على الإطلاق -

ص: 365


1- الأعراف : 28.
2- فصلت : 46.
3- الأنعام : 102.

في موردين :

1. الأعمال القبيحة التي تصدر من العباد ، فكيف يمكن أن تكون مخلوقة لله ؟ وهذا هو ما دفع بعض أهل الكلام إلى أن ينسبوا كل أفكار البشر وأفعاله خيرها وشرها بنحو مطلق إلى البشر نفسه ، وأن يقطعوا وينكروا أي ارتباط وصلة بين هذه الأفكار والأفعال وبين المقام الربوبي ، وقد دفعهم إلى هذا الاعتقاد تصور أنّ اسناد أفعال البشر إلى اللّه يستلزم أن يكون الظلم مخلوقاً لله سبحانه.

2. انّ هناك في عالم الكون أُموراً تدعى بالشرور والبلايا ، فكيف يصح أن نعتبر اللّه الحكيم خالقاً لهذه الشرور والآفات ؟! وهذا هو ما تسبب في أن يظهر فريق باسم المجوس يعتقدون بخالقين للكون :

أ. خالق للخير يدعى يزدان.

ب. خالق للشر يدعى اهريمن.

فكيف يواجه القرآن هذين الفريقين وهو يؤكد على وحدة الخالق ، وما هو جوابه عليهما ؟

الجواب

أمّا الأفعال القبيحة فإنّ لها جانبين : وبتعبير آخر : انّ هذه الأفعال يمكن أن تطالع من جانبين :

1. الجانب الوجودي ، الإثباتي.

2. الجانب العدمي ، السلبي.

فالفعل على وجه الإطلاق لا يكون قبيحاً إذا طالعناه من الجانب

ص: 366

الوجودي ويكون قبيحاً إذا طالعناه من الجانب الثاني ( أي الجانب العدمي السلبي ).

خذ مثلاً : اللقاء الجنسي الذي يتم بين الرجل المرأة بصورة غير مشروعة ، فإنّ مثل هذا اللقاء غير المشروع لا يختلف عن اللقاء المشروع في الجوانب الوجودية ، فكلاهما سواء من حيث إنّ العملين نتيجة « الفعالية الجنسية » غايته انّ التفاوت بين هذين اللقاءين هو أنّ العمل الأوّل غير مأذون به من قبل اللّه أو السلطة التشريعية في حين أنّ العمل الثاني مأذون به من قبل اللّه أو موافق لرأي السلطة التشريعية.

وعلى هذا فإنّ عامل القبح في « الزنا » هو صفة « اللامشروعية » التي هي أمر عدمي وسلبي مائة بالمائة ، والذي تتعلّق به القدرة إنّما هو الجانب الوجودي ، للشيء وليس الجانب العدمي السلبي متعلّقاً بها ، لأنّ الأُمور العدمية والجوانب السلبية أقل من أن تتعلّق بها القدرة الإلهية بل يستحيل تعلّق عملية الخلق بها.

وانّك - بالإمعان في هذا المثال - بإمكانك أن تتناول بالتحليل غير عمل الزنا من القبائح كالظلم والخدعة والخيانة والجناية ، فالظلم - مثلاً - إنّما يكون قبيحاً ، لأنّه يؤدي إلى ذهاب حق المظلوم ويوقف نمو المجتمع وتقدّمه ، وهذا بما أنّه أمر عدمي ليس متعلّقاً للقدرة والإرادة الإلهية.

تحليل عن الشرور

إنّ السؤال السابق بعينه ينطرح بالنسبة إلى « الآفات والبلايا » كالزلازل والسيول وغيرها ، وقد بحثه المسلمون في كتبهم الكلامية والفلسفية ، ولكنّنا بغية إكمال هذا القسم نعمد إلى بحثه بصورة مختصرة.

ص: 367

لو تناولنا بالتحقيق كل ما يسمّى شراً ، لتبيّن لنا أنّ تلك الصفة ناشئة من كون الشيء مصحوباً بالعدم ، فالمرض - على سبيل المثال - إنّما يكون شراً وغير مطلوب ، لأنّ المريض - حال مرضه - يكون فاقداً للصحة والعافية ، وهكذا بالنسبة إلى الأعمى والأصم ، فحيث إنّ السمع والبصر من لوازم الحياة عند البشر لكونهما موجبين لكماله ، لذلك يكون فقدانهما « شراً » وأمراً غير مطلوب ، ولكن العمى أو الصمم ليس شيئاً وجودياً في الإنسان الأعمى والأصم ، إنّما هو فقدان وصفي السمع والبصر وعدمهما ليس غير.

فما العمى أو الصمم - في الواقع - سوى حالة الفقدان والعدمية ؟

من ملاحظة هذه النقطة ومقارنة كل الأُمور والموارد المعدودة من الشرور مع المثال المذكور ، يتبين أنّ الشر ملازم لنوع من العدم الذي لا يحتاج إلى موجد وفاعل ، بل هو عين ذلك الفقدان ، فكل البلايا والشرور والقبائح إنّما تكون إذن شروراً وأُموراً غير مطلوبة لكونها « فاقدة » لنوع من الوجود أو مستلزمة ومصحوبة بنوع من العدم.

وقس على ذلك الحيوانات المفترسة والضارة والآفات فكلّها إنّما تكون شراً لأنّها تجر إلى فقدان سلسلة من الأُمور والجهات الوجودية ، لأنّ كل هذه الأشياء ( الحيوانات المفترسة والمضرة والآفات ) توجب الموت وفقدان الحياة أو فقدان عضو من الأعضاء ، أو قوة من القوى ، أو تتسبب في منع نمو القابليات والاستعدادات وتحوّلها إلى مرحلة الفعلية ، فلو كانت هذه الشرور كالزلازل والآفات الحيوانية والنباتية لا تنطوي على مثل هذه النتائج لما عدت شروراً ، ولما كانت أُموراً قبيحة غير مطلوبة.

ص: 368

وعلى هذا فإنّ الموت والجهل والفقر إنّما تكون شروراً لكونها ترافق أنواعاً من العدم ، فالعلم كمال وواقعية يفقدها الجاهل ، والحياة حقيقة وكمال يفقدها الميت ، والفقير هو - بالتالي - من يفقد المال الذي يعيش بسببه.

خلاصة القول

إنّه ليس في هذا الوجود إلاّ نوع واحد من الموجودات ، وهو ما يكون خيراً وجميلاً وحسناً.

أمّا الشرور فهي من نوع العدم ، والعدم ليس مخلوقاً ، بل هو من باب « عدم الخلق » وليس من باب « خلق العدم ».

ولهذا ( أي الوجود الخير فقط ) لا يمكن أن يقال أنّ للعالم خالقين : أحدهما خالق الخير ، والآخر خالق الشر ، إنّ مثل الوجود والعدم مثل الشمس والظل ، فعندما نقيم في الشمس شاخصاً يحدث على الأرض ظل بسبب ذلك الشاخص الذي منع من وصول النور.

وما الظل في الحقيقة إلاّ عدم النور ، لأنّ الظل هو الظلمة ، والظلمة ليست إلاّ « عدم » النور ، فلا يصح أن نتساءل - هنا - : ما هي حقيقة الظل ؟ إذ ليست للظل واقعية خارجية وحقيقة عينية تقابل حقيقة النور وجوهره ، إنّما الظل هو : عدم النور ومعنى هذا أنّه ليس للظل أو الظلمة منبع ينبعان ، ومنشأ ينشآن منه.

هذا ولصدور الآفات والشرور من جانب اللّه توجيهات أُخرى نذكرها فيما يأتي.

ص: 369

جواب آخر حول الشرور

في التحليل - المذكور فيما سبق - بيّنا بوجه مبسوط أوّل الأجوبة التي يجيب بها العلماء على الثنويين ، واتضح أنّ الشر أمر عدمي ، والأمر العدمي الذي هو نوع من الفقدان لا يحتاج إلى خالق وفاعل وموجد ، وفيما يلي نعمد إلى توضيح ثاني أجوبتهم.

الشر أمر نسبي

إنّ لفظة « الحقيقي » و « النسبي » من الألفاظ الرائجة في اصطلاح العلماء كما هي تستعمل في كثير من العلوم الإنسانية والتجريبية ، وإليك توضيحها :

كل موجود نصفه بصفة أمّا أنّه موصوف بتلك الصفة في كل حال مع قطع النظر عن أي شيء وهذه ما نسمّيها ب « الصفة الحقيقية » ، مثلاً صفة الحياة ثابتة للموجود الحي على وجه الحقيقة ، ولا حاجة إلى توصيفه بصفة الحياة إلى أي نوع من المقارنة والمقايسة ولأجل ذاك تكون الحياة بالنسبة للحي صفة حقيقية ، ووصفه بالحياة توصيفاً حقيقياً وواقعياً.

فكون المتر يتألف من (100) سنتيمتر واقعية ثابتة للمتر في جميع الحالات ، ولا حاجة لتوصيف المتر بهذه الكمية إلى أي نوع من المقايسة بشيء.

ويقابل الوصف الحقيقي « الوصف النسبي » ، بمعنى أنّ الشيء ما لم يقس ويقارن بشيء آخر ، وما لم يكن هناك موجود آخر لا يمكن توصيف الشيء بصفة.

فالصغر والكبر - مثلاً - من الأوصاف التي لا يمكن أن يوصف بهما شيء من الأشياء إلاّ إذا كان هناك شيء ثان يقاس به هذا الشيء ، حتى يمكن أن يقال

ص: 370

في شأنه هذا « أصغر » وهذا « أكبر » أو هذا « صغير » وذاك « كبير » ، فإنّ الصغر والكبر وصفان لا يصدقان على شيء إلاّ بعد مقارنته بشيء آخر ، فالكرة الأرضية - مثلاً - إنّما يمكن وصفها بالصغر والكبر ويقال الكرة الأرضية « صغيرة » أو « كبيرة » إذا ما قيست بكرة الشمس والقمر فحينئذ يصح قولنا : الكرة الأرضية أصغر من الشمس وأكبر من القمر ، فالصغر والكبر ليسا وصفين حقيقيين بالنسبة إلى الأرض بحيث يدخلان في حقيقة الأرض وإلاّ لما أمكن وصفها بوصفين متضادين ، بل هما وصفان نسبيان وحالتان للأرض يعرضان لها كلّما قيست إلى الكرتين « الشمس والقمر » ويمكن وصف الأرض بهما في تلك الحالة ، وبذلك لا يكون هذان الوصفان حقيقيين.

من هذه المقارنة والبيان يمكن استنباط نتيجة فلسفية هامة ، وهي : انّ « الصفات الحقيقية » على غرار موصوفاتها التي تتمتع بواقعية لا تنكر على صعيد الخارج ، إنّما تحتاج إلى جاعل وخالق.

وأمّا الصفات النسبية حيث إنّ - ها ليست بذات واقعية خارجية ، بل هي وليدة الذهن ، ونتيجة أفكارنا لدى المقايسة لا تكون محتاجة إلى الخالق والموجد ، إذ لا واقعية خارجية لها حتى تكون محتاجة إلى موجد.

إنّ حياة الخلية أو وصف المتر بكونه مائة سنتيمتر من الأُمور التي تتمتع بالواقعية الخارجية ، فما لم يكن وراؤهما واقعية أُخرى ( ونعني الخالق ) ، لما تحقّقا على صعيد الخارج ، ولما كان لهما حظ من الوجود خارج عالم الذهن حسب قانون العلية.

ولكن الصغر والكبر في المقابل بالنسبة إلى الأرض ليسا لهما واقعية خارج الذهن لكي يحتاجان إلى الخالق والموجد.

ص: 371

إنّ المحتاج إلى الموجد والخالق إنّما هو وجود نفس الكرة الأرضية ، وأمّا صغرها وكبرها فهو وليد الذهن والفكر الذي ينشأ من مقارنة جسمين ببعضهما.

من هذا البيان يمكن معرفة حقيقة « الشرور والآفات » وأنّها من أي نوع من هذين النوعين من الصفات.

هل هي من الصفات الحقيقية ؟

أو هي من الصفات النسبية ؟

بمراجعة سريعة وتحقيق عاجل يمكن معرفة أنّ الشرور أُمور نسبية لا حقيقية بمعنى أنّ صفة الشر ليست جزءاً من ذوات وحقائق الأشياء الموصوفة بالشر ، بل الشر حالة تنسب إلى شيء من الأشياء عندما يقاس إلى شيء آخر ، فسم الحية والعقرب وغزارة المطر لا تكون شراً إذا ما قيست بنفس الأشياء ، بل هي مبعث كمالها وموجب لبقائها واستمرار حياتها ووجودها ، إنّما هي شر إذا ما قيست إلى الإنسان وتضرر البشر بها فالمطر الغزير مثلاً لا يكون شراً في حد ذاته بل عندما يقاس بشيء آخر اتصف حينئذ بهذا الوصف ، فلو نزل المطر الغزير في فصل مناسب أحيا الزرع والنبات واخضرت بسببه المزارع والحدائق وكان خيراً ، ولكنّه يكون شراً من جهة كونه موجباً لانهدام الأكواخ في الصحارى والبراري ، وعلى هذا فإنّ الخير والشر لو كانا من الأوصاف الحقيقية وكان لهما حظ من الوجود لأمكن وصح حينئذ أن نسأل عن موجدها وخالقها ونقول : إنّ المبدأ الذي يتصف بالخير المطلق لا يمكن أن يكون خالق الشرور ، ولذلك نضطر إلى افتراض خالق آخر ( غير خالق الخير ) يكون خالق الشرور وموجودها.

ولكنّ الحق أنّه ليس للشرور « واقعية خارجية » ليتعلّق بها جعل وخلق ،

ص: 372

وعلى هذا فإنّ ما يكون له حظ من الوجود الخارجي كسم العقرب لا يكون مستغنياً عن الخالق ، ولكن شرّية هذا السم ليست لها واقعية لتنضم إلى وجود السم فتكون رديفة للسم في عالم الوجود والكون ، ولأجل هذا لا تحتاج شرّية السم إلى خالق ، ويكون البحث عن خالقها لغواً لا معنى له ، لأنّ الشر - بالمعنى الذي ذكرناه - ليس بذات واقعية خارجية كيما يفتقر إلى الفاعل.

وبعبارة أُخرى انّه ليس من الصحيح أن يقال أنّ اللّه بخلقه للعقرب خلق شيئين وفعل أمرين : خلق « ذات » العقرب مع شرها ، بل فعل اللّه سبحانه شيئاً واحداً ، وهو أنّه تعالى ألبس هذا الموجود لباس الوجود ، وإنّما الإنسان هو الذي يصف هذا العقرب بالشرّية والقبح عندما يقيسه إلى شيء آخر.

من هنا يمكن إدراك حقيقة الجملة التي يرددها الفلاسفة عند بيان نسبة الشرور إلى اللّه إذ يقولون :

جميع الموجودات من حيث كونها تتحلّى بالوجود فهي مخلوقة لله بالذات ، وأمّا من حيث اتصافها بالشرّية فليست موضع إرادته سبحانه بل هي ذات نسبة عرضية ومجازية إذا قيست إلى مبدأ الخلق (1).

وهناك أجوبة أُخرى عن وجود الشر في صفحة الوجود نتركها رعاية للاختصار.

ص: 373


1- هذا هو تفصيل قولهم : الشرور ليست مجعولة بالذات بل هي مجعولة بالتبع والعرض.

ص: 374

الفصل الثامن: اللّه والتوحيد الافعالي

اشارة

2. التوحيد في التدبير والربوبية

ص: 375

التوحيد في التدبير والربوبية

1. وجود الشرك في التدبير بين الوثنيين.

2. هل للرب معان مختلفة ؟

3. نتيجة هذا البحث.

4. القرآن لا يعترف بمدبّر سواه.

5. التدبير لا ينفك عن الخلق والإيجاد.

6. وحدة النظام دليل على وحدة المدبّر.

7. النتيجة.

8. ما معنى المدبّرات في القرآن ؟

9. الجواب عن ذلك.

10. هل الحسنة والسيئة من اللّه ؟

11. ما معنى الآية التي تنسب الحسنة إلى اللّه والسيئة إلى الإنسان ؟

12. التوفيق بين هذه الآيات.

ص: 376

التوحيد في التدبير والربوبية

يستفاد - بجلاء - من التدبّر في الآيات القرآنية ومن مطالعة عقائد وثنيّي العرب المذكورة في كتب الملل والنحل أنّ مسألة « التوحيد في الخالقية » كانت موضع اتفاق وإجماع بينهم ، وأنّ الانحراف إنّما كان في « التوحيد في التدبير » و « التوحيد في العبادة » وبعبارة أوضح كان الأغلب متفقين على أنّ لهذا العالم خالقاً واحداً لا غير.

وقد ذكرت هذه الحقيقة في الكتاب العزيز مكرراً ، ونحن نذكر هنا طائفة من تلك الآيات :

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والقمر لَيَقُولُنَّ اللّهُ فَأنَّى يُؤْفَكُونَ ) (1).

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (2).

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (3).

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ

ص: 377


1- العنكبوت : 61.
2- لقمان : 25.
3- الزمر : 38.

العَلِيمُ ) (1).

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (2).

أجل لقد كان الاعتقاد بوجود مبدأين « خالقين » لهذا العالم في عقيدة زرادشت ، أحدهما يزدان والآخر أهريمن أمراً مشهوراً وإن كانت عقيدة زرادشت نفسه في هذه المسائل يكتنفها غموض كبير.

على أنّ عقيدة الزرادشتيين في هذه القضية ليست هي وحدها التي تحيط بها هالة من الإبهام والغموض بل عقيدة البراهمة والبوذيين والهندوس في قضية « وحدة الخالق » هي أيضاً غير واضحة.

وحيث إنّ البحث والتحقيق في عقائد تلك الطوائف خارج عن إطار بحثنا هذا لذلك نواصل بحثنا الأساسي.

* * *

من خلال مراجعة الآيات السالفة يتضح لنا أنّ وثنيّي جزيرة العرب الذين كانوا يعيشون قبل نزول القرآن أو بعده لم يكونوا يعانون من أي انحراف أو إشكال في مسألة « التوحيد في الخالقية » وإن لم يكن إدراكهم للتوحيد في الخالقية على غرار ما شرحه ووضّحه القرآن الكريم (3) ، ولكنّهم كانوا يعتقدون - إجمالاً - بأنّه ليس للكون سوى خالق واحد هو موجد السماوات والأرض وخالقها ، بيد أنّ بعضهم وليس جميعهم كان يشرك في قضية « التدبير لهذا العالم » أو كانوا يعتقدون

ص: 378


1- الزخرف : 9.
2- الزخرف : 87.
3- لأنّ الشرك في التدبير الذي نسمّيه شركاً في الربوبية وكان رائجاً بينهم ، يرجع إلى الشرك في الخالقية كما سيوافيك بيانه.

بأنّ اللّه - بعد أن خلق الكون - فوّض تدبير بعض أُمور الكون إلى واحد أو أكثر من خيار خلقه واعتزل هو عن أمر التدبير.

هذه المخلوقات المفوض إليها أمر التدبير كانت في نظر معتقدي هذه النظرية عبارة عن « الملائكة » و « الجن » و « الكواكب » و « الأرواح المقدسة » و ... و ... التي كان كل واحد منها مدبّراً لجانب من جوانب الكون - على حد زعمهم - !!

ولأجل أن نقرن قولنا بالأدلة والبراهين نلفت نظر القارئ الكريم إلى أدلّة وجود مثل هذا الشرك في عصر نزول القرآن الكريم.

فبملاحظة هذه الأدلّة سيذعن القارئ بأنّ وجود « الشرك في المدبّرية » في عصر الرسالة وقبل ذلك لم يكن موضع ترديد وشك ، وأنّ ما قد يتصوّر - أحياناً - بأنّ عرب الجاهلية أو من تقدّمهم من الأقوام السالفة كانوا يعتبرون الأصنام مجرد شفعاء عند اللّه لا أكثر ليس تصوراً ينطبق على كل الموارد في عالم الوثنية ، بل هو ( أي الاعتقاد بمجرد شافعية الأصنام لا أكثر ) اعتقاد فريق من العرب الجاهليين ولم يكن اعتقاد جميعهم.

وجود الشرك في التدبير بين الوثنيّين

1. انّ أوضح برهان على أنّ بعض الفرق منهم كان يعتقد بتعدّد المدبّر هو قصة احتجاج إبراهيم علیه السلام مع عبدة الكواكب والنجوم.

فقد كانت هذه الفرق تعبد الشمس والقمر والكواكب بعنوان أنّها رب مدبّر وليس باعتقاد أنّها خالقة ، إذ كانوا يتصوّرون أنّ هذه الأجرام هي المتصرفة في النظام السفلي من العالم ، وأنّ أمر تدبير هذا الكون فوّض إليها فهي أرباب هذا

ص: 379

العالم دون اللّه.

ولأجل هذا الاعتقاد نجد إبراهيم علیه السلام يبطل ربوبيتها عن طريق الإشارة إلى أُفولها وغروبها.

ولنفكر - هنا - ملياً في استدلال النبي العظيم إبراهيم علیه السلام لنرى أي أمر كان يقصد إثباته أو نفيه من خلال الاستدلال بأُفول هذه الكواكب والأجرام وغروبها.

فإذا كانت هذه الأجرام - حسب اعتقاد قوم إبراهيم - هي المدبّرة للموجودات الأرضية ومنها الإنسان فإنّ المدبّرية - بحكم أنّ نظام المدبّر يكون في اختيار المدبّر - تقتضي أن يعيش المدَبَّر في ظل إشراف المدَبِّر وعنايته ، وينمو ويتربّى ويتقدم نحو الكمال.

هذا ويقتضي بقاء هذه الكواكب والأجرام على اتصال دائم بالعالم السفلي الذي يقع تحت تدبيرها ليمكن التدبير والتصرف.

بيد أنّ هذا الاتصال الدائم يتنافى مع الأُفول والغروب وما تتصف به هذه الأجرام والكواكب من غيبة وجهل ، ولأجل هذا عد النبي إبراهيم علیه السلام الأُفول والغروب دليلاً واضحاً وقاطعاً على عدم كون هذه الأجرام ، مدبّرة للموجودات الأرضية.

ولو كان هؤلاء يعبدون هذه الأجرام بعنوان أنّها أجرام مقدسة توجب عبادتها القربى إلى اللّه لما تكون غيبتها عن صفحة السماء في غير أوقات عبادتها دليلاً على بطلان نظريتهم ، بل يكون حضورها ووجودها حين عبادة الناس لها كافياً لأن تصبح موضع عبادة ، ولا يلزم وراء ذلك أن تكون حاضرة - في كل

ص: 380

الأوقات - متمثلة أمام عبدتها بحيث ينظرون إليها في كل حين ، لأجل هذا استعمل الخليل علیه السلام لفظة رب في كل الموارد التي حمل فيها على عبادة الكواكب والأجرام فقال مستفهماً : ( هذَا رَبِّي ) ؟!!

و « رب » في لغة العرب هو المتصرّف والمدبِّر الذي يدبِّر الشيء ويديره ويتحمل أمر تربيته ويتصرف فيه ، وهذه القصة - مع ملاحظة كل خصوصياتها - دليل على وجود « الشرك الربوبي » في عصر إبراهيم علیه السلام .

إنّ الشرك في الربوبية يشبه إلى حد بعيد قصة من يريد أن يحصل على بيت لنفسه ، فيهيّئ كمية كبيرة من المواد الإنشائية ويجعلها تحت تصرف البنّاء والعامل ، ويطلب منهم أن يبنوا له البيت الذي يريد ، ففي هذه الصورة تكون المواد الإنشائية من صاحب العمل ، ولكن تنسيق هذه المواد وتشغيلها والتصرف فيها يتعلّق بالبنّاء والمعمار والعمال الذين أوكل إليهم بناء البيت المذكور على نحو ما يريدون وكيفما شاءوا.

هذا هو أوضح مثال للشرك الربوبي ، ولقد كان القائلون بربوبية الملائكة والجن والأرواح المقدسة يعتقدون بأنّ موجودات هذا العالم من القمر والشمس إلى الحيوان والإنسان إلى الشجر والحجر إنّما هي المواد الإنشائية لهذا العالم ، وإنّ اللّه فوّض أمر التصرف في هذه المواد - بعد أن خلقها - إلى هذه الأرباب ثم راحت تشتغل بتدبير الكون والتصرف فيه بالاستقلال وبمطلق الاختيار.

لقد كان هذا الفريق يعتقد أنّ مقام الخلق غير التدبير وأنّ الذي يرتبط باللّه إنّما هو الخلق والإيجاد الابتدائي من العدم ، ولكن حيث إنّ الخلق غير التدبير ، فالتدبير يتعلّق بموجودات أُخرى غير اللّه ، أعني : الموجودات المتصرفة لهذا العالم والتي فوض إليها تدبير عالم الطبيعة ، وليس لله أية مشاركة في أمر تدبير الكون

ص: 381

وإدارته وتنظيم شؤونه ، وتصريفه والتصرف فيه.

2. لقد دخلت الوثنية في مكة ونواحيها أوّل ما دخلت في صورة « الشرك في الربوبية » ، فقصة « عمرو بن لحي » دليل واضح على أنّ أهل الشام كانوا يعتبرون الأوثان والأصنام مدبّرة لجوانب من الكون.

يكتب ابن هشام في هذا الصدد :

كان « عمرو بن لحي » أول من أدخل الوثنية إلى مكة ونواحيها ، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان ، وعندما سألهم عمّا يفعلون قائلاً : ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها ؟

قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا.

فقال لهم : أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه.

وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم « هبل » ، ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ، ودعا الناس إلى عبادتها (1).

إذن فاستمطار المطر من هذه الأوثان والاستعانة بها يكشف عن أنّ بعض المشركين كانوا يعتقدون بأنّ لهذه الأوثان مشاركة في تدبير شؤون الكون وحياة الإنسان.

على أنّه ينبغي أن لا يتصوّر أحد بأنّهم كانوا يعتبرون هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي ذاتها المتصرّفة والمدبِّرة للكون ليقال : ليس هناك من جاهل - فضلاً عن عاقل - يقول بأنّ هذه الأصنام الجامدة تكون منشأ كل هذه الآثار والحوادث ، بل الحق أنّهم كانوا يعتقدون بأنّ هذه الأصنام الخشبية تمثّل صور الآلهة المدبّرة لهذا

ص: 382


1- سيرة ابن هشام : 1 / 79.

العالم التي فوّض إليها إدارة الكون وتصريفه والتصرف فيه ، ولكن حيث إنّ هذه الآلهة المزعومة لم تكن في متناول أيديهم ، وحيث كانت عبادة الموجود البعيد عن متناول الحس واللمس صعب التصور لديهم عمدوا إلى تجسيد تلك الآلهة وتصويرها في أوثان وأصنام ورسوم وأجسام وقوالب من الخشب أو الحجر أو المعدن وراحوا يعبدون الصور والتماثيل عوضاً عن عبادة أصحابها الحقيقين ( وهي الآلهة المزعومة ).

ويمكنك أيها القارئ الكريم أن تقف على مفصل هذه الأُمور في الفصل التاسع ، عند البحث عن « التوحيد في العبادة ».

3. يكتب المفسرون الإسلاميون أنّ « ودّاً » و « سواعاً » و « يغوث » و « يعوق » و « نسراً » كانوا من عباد اللّه الصالحين ، وكان يتبعهم في ذلك فريق من قومهم ، ولمّا ماتوا ظن فريق بأنّهم لو نظروا إلى صورهم وتماثيلهم لأمكنهم أن يعبدوا اللّه بنحو أفضل باعتقاد أنّ صورهم تذكرهم باللّه ، وبمرور الزمن تحولت هذه الفكرة إلى عبادة تلك الصور والتماثيل ذاتها.

وإليك نص ما كتبه صاحب مجمع البيان في هذا الصدد :

« عن محمد بن كعب أنّ هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح علیهماالسلام ، فنشأ قوم بعدهم يأخذون مأخذهم في العباد ، فقال لهم إبليس : لو صوّرتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ، ففعلوا ، فنشأ بعدهم قوم فعبدوهم ، فمبدأ عبادة الأوثان كان ذلك الوقت » (1).

يقول المحقّق المعاصر الأُستاذ جواد علي في كتاب : « المفصّل » الذي كتبه

ص: 383


1- مجمع البيان : 10 / 364 طبع صيدا.

حول تاريخ العرب قبل الإسلام ، ويقع في ثمانية مجلدات ضخمة استقصى فيها أحوال العرب في كل جوانب الحياة ومجالاتها.

يقول عن اعتقادهم بالنسبة إلى معبوداتهم المزعومة :

إنّ معارفنا عن الأساطير العربية الدينية قليلة جداً ، وهذا ممّا حمل بعض المستشرقين على القول بأنّ العرب لم تكن لهم أساطير دينية عن آلهتهم ، كما كان عند غيرهم من الأُمم كاليونان والرومان والفرس وعند بقية الآريين ، وإذا لم تصل إلينا نصوص دينية جاهلية عن العرب ، صعب علينا تكوين فكرة صحيحة عن مفهوم الدين عند العرب ، وعن كيفية عبادتهم لآلهتهم ، وعن كيفية تصوّرهم للآلهة.

فكلمات مثل ود وسعد (1) وهي أسماء لبعض آلهتهم تفيدنا في فهم عبادة الجاهلين وتفكيرهم في تلك الآلهة (2).

5. لم يكن المتنوّرون والطبقة المثقّفة يعتقدون بمدبّر غير اللّه ، بل كانوا يعتبرون الأصنام شفعاء توجب عبادتها الزلفى عند اللّه ، والقربى لديه ، ويدل على هذا الأمر آيات إليك بعضها :

( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) (3).

( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ والأرضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ

ص: 384


1- التي تكون لها معان تشير إلى صفة الآلهة ، إذ الأوّل يشير إلى أنّه إله المحبة والثاني يشير إلى أنّه إله السعادة.
2- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام : 6 / 19.
3- الزمر : 3.

فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) (1).

ولكن مع الاعتراف بهذا المطلب لابد من القول - بصراحة - بأنّ مفاد هذه الآية لا يمثل اعتقاد الجميع ، بل كان ثمت فريق من الوثنيين يعتقدون في حق آلهتهم ومعبوداتهم المزعومة بأنّها تملك بعض القوى الغيبية ، وأنّها تتصرف في عالم الطبيعة والكون على غرار ما يفعل الآلهة ، خاصة وأنّهم كانوا قد اختاروا معبوداتهم وآلهتهم المزعومة من صفوف الملائكة والجن والأرواح المقدسة.

صحيح أنّ وثنية « العرب الجاهليين » كانت تصرفاً خاطئاً وباطلاً ولم تكن تستند إلى قاعدة فكرية ، ولم تكن على نمط وثنية اليونانيين والروم والفرس التي كانت تقوم على أساس فلسفي ، ولكن بعض أُولئك العرب كانوا في نفس الوقت يعتقدون بربوبية الأوثان ، وهذا ما يستفاد من عدة آيات في هذا المجال.

ولكن قبل أن نعمد إلى نقل نصوص هذه الآيات نرى لزاماً علينا أن نعرف بدقة ماذا تعنيه لفظة رب التي اشتق منها الربوبية.

يقول اللغوي العربي المعروف ابن فارس :

« الرب : المالك ، الخالق ، الصاحب والرب المصلح للشيء يقال : رب فلان ضيعته إذا قام على إصلاحها والرب ، المصلح للشيء ، واللّه جل ثناؤه الرب ، لأنّه مصلح أحوال خلقه ; والراب ، الذي يقوم على أمر الربيب » (2).

ويكتب الفيروزآبادي قائلاً :

« رب كل شيء : مالكه ومستحقه وصاحبه ...

ص: 385


1- يونس : 31.
2- مقاييس اللغة : 2 / 381.

رب الأمر : أصلحه » (1).

وجاء في المنجد :

« الرب : المالك ، المصلح ، السيد » (2).

وما يشابه هذا المعنى في كتب اللغة والقواميس الأُخرى.

هل للرب معان مختلفة ؟

إنّ وظيفة كتب اللغة والقواميس هي ضبط موارد استعمال اللفظة ، سواء أكان المستعمل فيه هو الذي وضع عليه اللفظة أم لا ، وأمّا تعيين الأوضاع وتمييز الحقائق عن المجازات فخارج عما ترتئيه كتب اللغة.

وهذا هو نقص ملحوظ ومشهود بوضوح في كتب اللغة ومعاجمها ، إذ ما أكثر ما يجد الإنسان عدة معاني متباينة ومتمايزة للفظة واحدة حتى أنّه ليتصور - في أوّل وهلة - أنّ الواضع العربي جعل هذه اللفظة على عشرة معان في عشرة أوضاع ، ولكن بعد التحقيق والدراسة يتبيّن أنّه ليس لهذه اللفظة سوى معنى واحد لا غير ، وأمّا بقية المعاني المذكورة فهي من شعب المعنى الأصلي.

ومن المصادفات أنّ لفظة رب تعاني من هذا المصير حتى أنّ كاتباً كالمودودي تصور أنّ لهذه اللفظة خمسة معان - في الأصل - ، وذكر لكل معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن الكريم.

ولا شك في أنّ لفظة رب استعملت في الكتاب العزيز واللغة في الموارد التالية التي لا تكون إلاّ صورة موسعة ومصاديق متعددة لمعنى واحد لا أكثر ،

ص: 386


1- قاموس اللغة مادة الرب.
2- المنجد مادة ربب.

وإليك هذه الموارد والمصاديق :

1. التربية مثل رب الولد ، ربّاه.

2. الإصلاح والرعاية مثل ربّ الضيعة.

3. الحكومة والسياسة مثل فلان قد رب قومه ، أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.

4. المالك كما جاء في الخبر عن النبي صلی اللّه علیه و آله : أربّ غنم أم ربّ أبل.

5. الصاحب مثل قوله : رب الدار ، أو كما يقول القرآن الكريم : ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا البَيْتِ ) (1).

لا ريب أنّ هذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد وما يشابهها ولكن جميعها يرجع إلى معنى واحد أصيل ، وما هذه المعاني سوى مصاديق وصور مختلفة لذلك المعنى الأصيل ، وسوى تطبيقات متنوعة لذلك المفهوم الحقيقي الواحد ، أعني : من فوّض إليه أمر الشيء المربي من حيث الإصلاح والتدبير والتربية.

فإذا قيل لصاحب المزرعة إنّه ربها ، فلأجل أنّ إصلاح أُمور المزرعة مرتبط به وفي قبضته.

وإذا أطلقنا على سائس القوم ، صفة الرب ، فلأنّ أُمور ذلك القوم مفوّض إليه فهو قائدهم ، ومالك تدبيرهم ومنظم شؤونهم.

وإذا أطلقنا على صاحب الدار ومالكه اسم الرب ، فلأنّه فوّض إليه أمر تلك الدار وإدارتها والتصرف فيها كما يشاء.

فعلى هذا يكون المربي والمصلح والرئيس والمالك والصاحب وما يشابهها

ص: 387


1- الإيلاف : 3.

مصاديق وصور لمعنى واحد أصيل يوجد في كل هذه المعاني المذكورة ، وينبغي أن لا نعتبرها معاني متمايزة ومختلفة للفظة الرب ، بل المعنى الحقيقي والأصيل للفظة هو : من بيده أمر التدبير والإدارة والتصرف ، وهو مفهوم كلّي ومتحقّق في جميع المصاديق والموارد الخمسة المذكورة ( أعني : التربية والإصلاح والحاكمية والمالكية والصاحبية ).

فإذا أطلق يوسف الصديق علیه السلام لفظ الرب على عزيز مصر ، حيث قال : ( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) (1) ، فلأجل أنّ يوسف تربّى في بيت عزيز مصر وكان العزيز متكفّلاً لتربيته وقائماً بشؤونه.

وإذا وصف عزيز مصر بكونه رباً لصاحبه في السجن فقال : ( أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ) (2) ، فلأنّ عزيز مصر كان سيد مصر وزعيمها ومدبّر أُمورها ومتصرّفاً في شؤونها ومالكاً لزمامها.

وإذا وصف القرآن اليهود والنصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً ، إذ يقول : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ ) (3) ، فلأجل أنّهم أعطوهم زمام التشريع واعتبروهم أصحاب سلطة وقدرة فيما يختص باللّه.

وإذا وصف اللّه نفسه بأنّه « رب البيت » ، فلأنّ إليه أُمور هذا البيت مادّيها ومعنويّها ، ولا حق لأحد في التصرف فيه سواه.

وإذا وصف القرآن « اللّه » بأنّه ( رَبُّ السَّماوَاتِ والأرضِ ) (4) وأنّه ( رَبُّ

ص: 388


1- يوسف : 23.
2- يوسف : 41.
3- التوبة : 31.
4- الصافات : 5.

الشِّعْرَى ) (1) وما شابه ذلك ، فلأجل أنّه تعالى مدبّرها ومديرها والمتصرّف فيها ومصلح شؤونها والقائم عليها ، وبهذا البيان نكون قد كشفنا القناع عن المعنى الحقيقي للرب ، الذي ورد في مواضع عديدة من الكتاب العزيز.

* * *

إنّ الشائع بين الوهابيين تقسيم التوحيد إلى :

1. التوحيد في الربوبية.

2. التوحيد في الإلوهية (2).

قائلين : إنّ التوحيد في الربوبيّة بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الكون كان موضع اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة.

وأمّا التوحيد في الإلوهية فهو التوحيد في العبادة الذي يعني منه أن لا يعبد سوى اللّه ، وقد انصب جهد الرسول الكريم على هذا الأمر.

والحق أنّ اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة في مسألة التوحيد الخالقي ليس موضع شك ، ولكن تسمية التوحيد الخالقي بالتوحيد الربوبي خطأ واشتباه.

وذلك لأنّ معنى « الربوبية » ليس هو الخالقية كما توهم هذا الفريق ، بل هو - كما أوضحنا وبيّنّا سلفاً - ما يفيد التدبير وإدارة العالم ، وتصريف شؤونه ولم يكن هذا - كما بيّنّا - موضع اتفاق بين جميع المشركين والوثنيين في عهد الرسالة كما ادّعى هذا الفريق.

نعم كان فريق من مثقفي الجاهليين يعتقدون بعدم مدبّر سوى اللّه ولكن

ص: 389


1- النجم : 49.
2- سيوافيك معنى الالوهية في الفصل التاسع ، ونبين خطأهم في تفسيرها.

كانت تقابلهم جماعات كبيرة ممّن يعتقدون بتعدّد المدبّر والتدبير ، وهي قضية تستفاد من الآيات القرآنية مضافاً إلى المصادر المتقدمة.

هنا نلفت نظر الوهابيّين الذين يسمّون التوحيد في الخالقية بالتوحيد في الربوبية إلى الآيات التالية ، ليتضح لهم أنّ الدعوة إلى التوحيد في الربوبيّة لا تعني الدعوة إلى التوحيد في الخالقية ، بل هي دعوة إلى « التوحيد في المدبّرية » والتصرف ، وقد كان بين المشركين في ذلك العصر من كان يعاني انحرافاً وشذوذاً في التوحيد الربوبي ، ويعتقد بتعدّد المدبّر رغم كونه معتقداً بوحدة الخالق.

ولا يمكن - أبداً - أن نفسر الرب في هذه الآيات بالخالق والموجد ، وإليك بعض هذه الآيات :

أ. ( بَل ربُّكُمْ رَبُّ السَّماوَاتِ والأرضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ) (1).

فلو كان المقصود من الرب هنا هو الخالق والموجد ، لكانت جملة ( الَّذِي فَطَرَهُنَّ ) زائدة بدليل أنّنا لو وضعنا لفظة الخالق مكان الرب في الآية للمسنا عدم الاحتياج - حينئذ - إلى الجملة المذكورة ، أعني : ( الَّذِي فَطَرَهُنَّ ) ، بخلاف ما إذا فسر الرب بالمدبِّر والمتصرف ، ففي هذه الصورة تكون الجملة الأخيرة مطلوبة ، لأنها تكون - حينئذ - علّة للجملة الأُولى ، فتعني هكذا : أنّ خالق الكون هو المتصرف فيه وهو المالك لتدبيره والقائم بإدارته.

ب. ( يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدْوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) (2).

فإنّ لفظة الرب في هذه الآية ليست بمعنى « الخالق » ، وذلك على غرار ما

ص: 390


1- الأنبياء : 56.
2- البقرة : 21.

قلناه في الآية المتقدّمة المشابهة لما نحن فيه ، إذ لو كان الرب بمعنى الخالق لما كان لذكر جملة ( الَّذِي خَلَقَكُمْ ) وجه ، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الرب يعني المدبر ، فتكون جملة ( الَّذِي خَلَقَكُمْ ) علّة للتوحيد في الربوبية ، إذ يكون المعنى حينئذ هو : أنّ الذي خلقكم هو مدبِّركم.

ج. ( قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) (1).

وهذه الآية حاكية عن أنَّ مشركي عصر الرسالة كانوا على خلاف مع الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله في مسألة الربوبية على نحو من الأنحاء ، وأنّ النبي الأعظم كان مكلّفاً بأن يفنّد رأيهم ويبطل عقيدتهم ولا يتخذ غير اللّه رباً على خلاف ما كانوا عليه ، ومن المحتم أنّ خلاف النبي مع المشركين لم يكن حول مسألة « التوحيد في الخالقية » بدليل أنّ الآيات السابقة تشهد في غير إبهام بأنّهم كانوا يعترفون بأنّه لا خالق سوى اللّه تعالى ، ولذلك فلا مناص من الإذعان بأنّ الخلاف المذكور كان في غير مسألة الخالقية ، وليست هي إلاّ مسألة تدبير الكون ، بعضه أو كلّه.

د. ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذا غَافِلِينَ ) (2).

فقد أخذ اللّه في هذه الآية - من جميع البشر - الإقرار بالتوحيد الربوبي ، وكانت علّة ذلك هي ما ذكره من أنّه سيحتج على عباده بهذا الميثاق يوم القيامة ، كما يقول :

( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ

ص: 391


1- الأنعام : 164.
2- الأعراف : 172.

المُبْطِلُونَ ) (1).

إذا تبيَّن هذا فنقول : إنّ نزول هذه الآية في بيئة مشركة دليل - ولا شك - على وجود فريق معتد به في تلك البيئة كانوا يخالفون هذا الميثاق ، فإذا كانت الربوبية بمعنى الخالقية استلزم ذلك أن يكون في تلك البيئة من يخالفون النبي في الخالقية ، ولكن الفرض هو عدم وجود أي اختلاف في مسألة « توحيد الخالقية » في عصر الرسالة ، فلم يكن المشركون في ذلك العصر مخالفين في هذه المسألة ليعتبروا مخالفين للميثاق المذكور ، فلا محيص - حينئذ - من أنّ الخلاف كان - آنذاك - في مسألة تدبير العالم وإدارة الكون.

وبهذا التقرير يكون معنى الرب في الآية المبحوث هنا هو المدبّر.

ه. ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2).

تتعلّق هذه الآية بمؤمن آل فرعون الذي كان يدافع عن النبي موسى علیه السلام وراء قناع الصحبة والصداقة لآل فرعون ، ويسعى تحت ستار الموافقة معهم أن يدفع الخطر عن ذلك النبي العظيم ، وأمّا دلالتها على كون الرب بمعنى المدبّر فواضحة ، لأنّ فرعون ما كان يدّعي الخالقية للسماء والأرض ولا الشركة مع اللّه سبحانه في خلق العالم وإيجاده ، وهذه حقيقة يدلّ عليها تاريخ الفراعنة أيضاً ، وفي هذه الصورة يجب أن يكون المراد من دعوة النبي موسى بقوله : ( رَبِّيَ اللّهُ ) هو حصر « التدبير » في اللّه سبحانه لا مسألة الخلق ، ولو كانت تتعلّق بمسألة الخلق والإيجاد لما كان بينه وبين فرعون أي خلاف ونزاع ، إذ المفروض اعتراف فرعون بخالقية اللّه - كما أسلفنا - هذا مضافاً إلى أنّ اللّه تعالى يقول في الآية السابقة

ص: 392


1- الأعراف : 173.
2- غافر : 28.

لهذه الآية :

و. ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَليَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ) (1).

فإنّ التوحيد في الخالقية لم يكن موضع خلاف لتكوين دعوة موسى لبني إسرائيل سبباً لأي تبدّل وتبديل.

ومن هذا البيان يتضح المراد من قول فرعون : ( أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى ) (2).

ز. ( فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّماوَاتِ والأرضِ لَنْ نَّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَهاً ) (3).

إنّ الفتية الذين فرّوا من ذلك الجو الخانق الذي أوجدته طواغيت ذلك الزمان كانوا جماعة يسكنون في مجتمع يعتقد بالوهية غير اللّه ، ولكن الوهية غير اللّه - في ذلك المجتمع - لم تكن في صورة تعدّد الخالق ، خاصة وأنّ واقعة أهل الكهف حدثت بعد ميلاد السيد المسيح حيث كانت عقول البشرية وأفكارها قد تقدّمت في المسائل التوحيدية بشكل ملحوظ وحظيت من الرقي بمقدار معتد به ، ولم يكن يعقل - في ظل هذا الرقي الفكري - وجود مجتمع منكر لخالقية اللّه ، أو مشرك فيها ، فلابد أن يقال أنّ شركهم يرجع إلى أمر آخر وهو الاعتقاد بتعدّد المدبّر.

ح. انّ البرهان الواضح على أنّ مقام الربوبية هو مقام المدبّرية وليس الخالقية كما يتوهم ، هو الآية المتكررة في سورة الرحمن :

( فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

فقد وردت هذه الآية في السورة المذكورة 31 مرة ، وجاءت لفظة رب جنباً

ص: 393


1- غافر : 26.
2- النازعات : 24.
3- الكهف : 14.

إلى جنب مع لفظة الآلاء التي تعني النعم ، وغير خفي أنّ قضية النعمة مع التذكير بمقام ربوبية اللّه لحياة البشر وحفظها من الفناء أنسب وأكثر انسجاماً ، إذ ذكر النعم ( التي هي من شعب التربية الإلهية التي يوليها سبحانه للبشر ) يناسب موضوع التربية والتدبير الذي تندرج فيه إدامة النعم وإدامة الإفاضة.

ط. لقد اقترنت مسألة الشكر مع لفظة الرب في خمسة موارد في القرآن الكريم ، والشكر إنّما يكون في مقابل النعمة التي هي سبب بقاء الحياة الإنسانية ودوامها وحفظها من الفناء وصيانتها من الفساد ، وليست حقيقة تدبير الإنسان إلاّ إدامة حياته وحفظها من الفساد والفناء.

وإليك هذه الموارد :

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (1).

( قَالَ رَبّي أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَليَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ) (2).

( قَالَ هذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ) (3).

( قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ) (4).

( كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) (5).

ص: 394


1- إبراهيم : 7.
2- النمل : 19.
3- النمل : 40.
4- الأحقاف : 15.
5- سبأ : 15.

ي. وممّا يدلّ على ما قلنا قوله سبحانه :

( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَال وَبَنيِنَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَاراً ) (1).

ومثله في سورة هود الآية 52.

وهكذا : يلاحظ القارئ الكريم كيف جعلت إدارة الكون وتدبير شؤونه تفسيراً للرب : فهو الذي يرسل المطر ، وهو الذي يمدد بالأموال والبنين ، وهو الذي يجعل الجنات ، وهو الذي يجعل الأنهار ، وكلّ هذه الأُمور جوانب وصور من التدبير.

نتيجة هذا البحث

من هذا البحث الموسّع يمكن أن نستنتج أمرين :

1. أنّ ربوبية اللّه عبارة عن مدبِّريته تعالى للعالم لا عن خالقيته.

2. دلّت الآيات المذكورة في هذا البحث على أنّ مسألة « التوحيد في التدبير » لم تكن موضع اتفاق بخلاف مسألة « التوحيد في الخالقية » ، وانّه كان في التاريخ ثمّت فريق يعتقد بمدبّرية غير اللّه للكون كله أو بعضه ، وكانا يخضعون أمامها باعتقاد أنّها أرباب.

وبما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين ، فيمكن أن يكون بعض الفرق موحداً في الثاني ، ومشركاً في القسم الأوّل ، فاليهود والنصارى تورّطوا في « الشرك الربوبي » التشريعي ، لأنّهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الأحبار

ص: 395


1- نوح : 10 - 12.

والرهبان وجعلوهم أرباباً من هذه الجهة ، فكأنّه فوَّض أمر التشريع إليهم !! (1).

فها هو القرآن يقول عنهم :

( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابَاً مِن دُونِ اللّهِ ) (2).

( وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ ) (3).

في حين أنّ الشرك في الربوبية لدى فريق آخر ما كان ينحصر بهذه الدائرة بل تمثل في اسناد تدبير بعض جوانب الكون ، وشؤون العالم إلى الملائكة والجن والأرواح المقدسة أو الأجرام السماوية ، وإن لم نعثر - إلى الآن - على من يعزى تدبير « كل » جوانب الكون إلى غير اللّه ، ولكن مسألة الشرك في الربوبية تمثّلت في الأغلب في تسليم « بعض » الأُمور الكونية إلى بعض خيار العباد والمخلوقات.

إنّ الآيات الدّالّة على هذه النتيجة - في الحقيقة - أكثر من أن يمكن سردها هنا ، لهذا نكتفي بما ذكرنا من الآيات تاركين للقارئ الباحث التفتيش عنها في القرآن الكريم.

القرآن لا يعترف بمدبِّر سواه

ينص القرآن الكريم - بمنتهى الصراحة - على أنّ اللّه سبحانه هو المدبِّر الوحيد للعالم ، وينفي أي تدبير مستقل يكون مظهراً لربوبية غير اللّه.

( إِنَّ رَبَّكُمْ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا

ص: 396


1- سوف يوافيك في الفصل العاشر أنّ التقنين والتشريع من أفعاله سبحانه ، لا يشترك فيها غيره.
2- التوبة : 31.
3- آل عمران : 64.

تَذَكَّرُونَ ) (1).

( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأِجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (2).

ففي هاتين الآيتين وما شابههما تستدعي الجمل التالية التأمّل أكثر من أي شيء :

1. ثم استوى على العرش.

2 يدبّر الأمر.

3. ما من شفيع إلاّ بإذنه.

فنقول توضيحاً لهذه الجمل : ينتقل القرآن الكريم في هاتين الآيتين - بعد ذكر مسألة خلق السماوات والأرض - إلى مسألة الاستيلاء على العرش ، والهدف من ذلك هو الإشعار بأنّ زمام الكون - بعد خلقه - بيده تعالى ، ولم يفوّضه إلى غيره ، فهو الآخذ بزمام العالم كما هو خالقه ، دون إهمال أو إيكال أو تفويض.

إنّ الاستيلاء على العرش ( والمعني به مطلق عالم الوجود ) كناية عن السيطرة الكاملة والتسلّط التام على كل أجزاء الكون ، وتمام عالم الممكنات.

وفي هاتين الآيتين والآيات المشابهة لهما (3) طرح القرآن - بعد موضوع الاستيلاء على العرش - موضوع تدبير العالم ليفيد بأنّ المدبِّر هو تعالى ، وليس سواه

ص: 397


1- يونس : 3.
2- الرعد : 2.
3- مثل : الأعراف : 54 ، السجدة : 4 ، الحديد : 4.

من مدبِّر.

ثم إنّ النكتة في ذكر شفاعة الشفيع بإذنه سبحانه بعد مسألة حصر التدبير باللّه سبحانه هو أنّ المراد منه - في المقام - هو الشفيع التكويني ، أعني : نظام العلة والمعلول الحاكم على عالم الطبيعة ، فتشير الآية إلى أنّ تأثير أيّة علّة في العوالم العلوية أو السفلية منوطة بالإذن الإلهي كما أسلفنا.

ولأجل ذلك صرح بأنّه « ما من شفيع » أي وسيط مادياً كان أم مجرداً إلاّ من بعد إذنه لكي يفيد بأنّ مدبّرية اللّه المطلقة لا تنافي الاعتقاد بنظام العلية في عالم الطبيعة ، إذ أنّ وجود هذا النظام العلّي السببي نفسه مظهر من مظاهر تدبير اللّه ، وناشئ عن إرادته العليا ، فالمدبِّر الأصيل والمستقل ليس إلاّ هو وحده ، ولا تدبير لسواه إلاّ بأمره ومشيئته ، وإنّما أطلق لفظ الشفيع على نظام العلية ، لأنّه من الشفع بمعنى الزوج ، فكأنّ نظام العلية يتسبب في إيجاد آثاره وظواهره بالإنضمام إلى إرادة اللّه ومشيئته ، فكل علّة مشفوعة إلى إرادته وإذنه سبحانه تكون مؤثرة.

ولو أُريد من الشفيع الشفاعة التشريعية ، فهو أيضاً داخل في إطار تدبيره سبحانه ، فلا يشفع شفيع في الدنيا والآخرة في حق عباده إلاّ بإذنه سبحانه.

* * *

وربما يتصور البعض أنّ القرآن الكريم طرح مسألة « التوحيد في الربوبية » دون أن يقيم عليها أي برهان ، في حين أنّ القرآن أثبت هذا المطلب بالبراهين الواضحة القاطعة.

وإليك فيما يلي بعض هذه الأدلة.

ص: 398

1. التدبير لا ينفك عن الخلق

إنّ النقطة الأساسية في خطأ المشركين تتمثل في أنّهم قاسوا تدبير عالم الكون بتدبير أُمور عائلة أو مؤسسة وتصوروا أنّهما من نوع واحد.

إنّ تدبيره سبحانه لهذا العالم ليس كتدبير حاكم البلد بالنسبة إلى مواطنيه أو رب البيت بالنسبة إلى أهله حيث إنّ ذاك التدبير يتم بإصدار الأوامر ، في حين أنّ التدبير الإلهي هو إدامة الخلق والإيجاد ، وقد سبق أنّ الخالقية منحصرة باللّه سبحانه.

فالفريق الذي يعتقد بأنّ اللّه تعالى هو الخالق الوحيد يجب عليه أيضاً أن يعتقد بأنّه تعالى هو « المدبّر الوحيد » لكون التدبير خلقاً بعد خلق وهو فعل اللّه خاصة.

توضيح ذلك : أنّ النظام الإمكاني - بحكم كونه فقيراً ممكناً - فاقد للوجود الذاتي ، فإنّ فقره هذا ليس منحصراً في وجوده في بدء تحقّقه ، وإنّما يستمر هذا الفقر معه في جميع الأزمنة والأمكنة ، كما أنّ فقره ليس منحصراً في أصل وجوده ، فحسب بل هو محتاج حتى في علاقاته وروابطه وتأثيراته مع الموجودات الأُخرى وانسجامه مع مجموع العالم.

وليس التدبير إلاّ إفاضة الوجود وإعطاء « القدرة على التأثير » للشيء الممكن ، ثمّ إنّ وجود النظام الإمكاني كما أنّه مفاض عليه من جانب اللّه سبحانه ، فكذلك تدبيره وإدارة وجوده تقوم به سبحانه وليس هذا إلاّ نوع من الخلق.

وإذ ليس هناك من خالق سواه سبحانه ، فليس هناك مدبِّر سواه أيضاً ، وبذلك يستلزم الاعتراف بوحدة الخالق ، الاعتراف بوحدة المدبِّر.

ص: 399

فإنّ « تدبير » الوردة ليس إلاّ تقوّمها من المواد السكرية في الأرض ثم توليدها الأوكسجين في الهواء ، إلى غير ذلك من عشرات الأعمال الفيزيائية والكيميائية في ذاتها ، وليس هذا إلاّ شعبة من الخلق.

ومثلها ، الجنين منذ تكونه في رحم الأُم ، فهو لم يزل يمر بالتفاعلات حتى يخرج من بطن الأُم ، وليست هذه التفاعلات إلاّ شعبة من عملية الخلق وفرع منه وإيجاد بعد إيجاد.

ويمكن تقرير هذا المطلب بصورة أُخرى بأن نقول :

إنّ التدبير مأخوذ من مادة دبّر أي تابع وواصل وعقب ، وحقيقة التدبير ليست إلاّ لأنّ خالق العالم جعل الأسباب والعلل بحيث تأتي المعاليل والمسببات دبر الأسباب وعقيب العلل بحيث تأتي أجزاء الكون وراء بعضها تباعاً وبحيث يؤثر بعضها في البعض الآخر حتى يصل كل موجود إلى كمإله المناسب وهدفه المطلوب ، فإذا كان المراد من « التدبير » هو هذا ، فهو بعينه عبارة عن مسألة الخلق ، ومع هذا كيف يجوز أن نعتقد بأنّ التدبير مغاير للخلق ونعتبرهما أمرين مختلفين.

ولذا يذكر القرآن الكريم - بعد ذكر مسألة الخلق للسماوات والأرض - مسألة تسخير الشمس والقمر (1) الذي هو من التدبير ، ومن هذا الطريق يوقفنا القرآن الكريم على حقيقة التدبير الذي هو نوع من الخلق.

وحدة النظام دليل على وحدة المدبِّر

في البحث السابق تحدّثنا عن وحدة نظام الكون ، وأثبتنا بوضوح أنّ مطالعة كل صفحة من صفحات هذا الكتاب التكويني العظيم تقودنا إلى نظام موحد ،

ص: 400


1- الأعراف : 54 ، الرعد : 3.

وكأنّ أوراق الكتاب التكويني - على غرار الكتاب التدويني - شد بعضها إلى بعض بيد واحدة ، وأُخرجت في صورة واحدة.

إنّ القوانين والسنن الحاكمة على الموجودات الطبيعية كلية وشاملة بحيث لو أُتيح لأحد أن يكتشف بالتجربة سنة في نقطة خاصة من نقاط الكون أمكنه أن يكتشف قانوناً كلياً وشاملاً ، ويهتدي إلى سنة كونية عمومية وهذا هو أفضل دليل على وحدة النظام الحاكم على العالم الطبيعي.

إنّ وحدة النظام الكوني « وعمومية » السنن والقوانين الطبيعية تقودنا إلى موضوعين :

1. أنّه ليس للعالم إلاّ خالق واحد ، وتوضيح ذلك هو ما قرأته في الفصل السابق.

2. انّه ليس للعالم إلاّ مدبِّر واحد.

وبعبارة أُخرى ، فإنّ وحدة النظام والسنن الكونية لدليل واضح على صحة ما قاله القرآن الكريم.

( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (1).

إنّ جملة : ( لَهُ الخَلْقُ ) إشارة إلى التوحيد في الخالقية.

وجملة : ( وَالأمْرُ ) إشارة إلى التوحيد في التدبير الذي هو نوع من الحاكمية على عالم الوجود.

وهنا ينطرح سؤال هو : كيف تدل « وحدة القوانين » وعموميتها على « وحدة المدبِّر »؟

ص: 401


1- الأعراف : 54.

وجواب ذلك واضح : إذ عندما يحكم على الكون نوعان من الرأي والحاكمية يكون من الطبيعي والحتمي عدم وجود أي أثر لهذا النظام الواحد ، انّ وحدة النظام لا تتحقّق ولا تكون إلاّ إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم ومدبِّر واحد ، ولو خضع الكون لإدارة حاكمين ومنظمين ومدبِّرين لما كان للنظام الموحد أي أثر.

لأنّ تعدّد المدبِّر والمنظِّم - بحكم اختلافهما في الذات أو بعض الجهات منها - يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير والإدارة ، ويستلزم تعدّد التدبير - بالضرورة - فناء النظام الموحد ، وغيابه.

وبعبارة أُخرى : انّ المدبِّرين إن كانا متساويين من كل الجهات لم تصدق هناك اثنينية قهراً ، وإن تعدّد المدبِّر يعني - بالضرورة - اختلاف المدبِّرين من جهة أو جهات ، ومعلوم أنّ اختلافاً - كهذا - يؤثر لا محالة في تدبير المدبِّر.

* * *

ويمكن بيان هذا البرهان بصورتين :

1. أن نلتفت - في بيان البرهان - إلى الجوانب الإيجابية فيه ونقول : إنّ ترابط أجزاء الكون ، وتأثيرها في بعضها يدلّ على خضوعها لحاكمية حاكم واحد على جميع العالم يقودها تحت نظام واحد وخطة واحدة.

وقد أكد في أحاديث أئمّة أهل البيت علیهم السلام على هذه النقطة أحياناً ، إذ يقول أحدهم وهو :

« فلما رأيت الخلق منتظماً ، والفلك جارياً ، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر ، دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبِّر

ص: 402

واحد » (1).

2. وربما أُشير إلى الجوانب السلبية في هذا البرهان وأنّ تعدّد التدبير يوجب فساد النظام الكوني.

وقد استند القرآن الكريم على هذا الجانب ، إذ قال :

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّه رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (2).

وربما ورد في بعض نصوص أهل بيت الرسالة الإشارة إلى كلا الجانبين في هذا البرهان ، إذ يقول أحدهم علیهم السلام في جواب هشام الذي سأل عن دليل وحدانية الرب :

« اتصال التدبير وتمام الصنع ، كما قال اللّه عزّ وجل : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا ) (3).

النتيجة

1. انّ وحدة النظام ووحدة الكون وشمول السنن لجميع أجزاء هذا العالم وعمومية القوانين الطبيعية كل ذلك يمكن أن يكون أفضل دليل على وحدة الخالق ، وكذا وحدة المدبِّر.

2. أنّ هذا البرهان يمكن أن يبين في صورتين ، وكلا الصورتين اللّتين هما - في الحقيقة - برهان واحد وردا في القرآن الكريم.

ص: 403


1- توحيد الصدوق : 244.
2- الأنبياء : 22.
3- توحيد الصدوق : 250 وسيوافيك الاستدلال بهذه الآية بشكل آخر.

ما معنى المدبِّرات في القرآن ؟

فإذا كانت الظواهر الطبيعية وليدة عللها التي هي الموجدة والمدبِّرة لهذه الظواهر بنحو من الأنحاء ، فكيف ينسجم هذا مع حصر المدبّرية المطلقة في اللّه تعالى ؟

فإنّ التدبير الطبيعي عبارة عن تكفّل شيء لشيء آخر ، فإنّ كل علة في هذا النظام الكوني متكفّلة لوجود معلولها وسبب لاستمرار بقائه ودوامه ، وبمقتضى ذلك تكون كل علة مدبّراً ، وعند ذلك فكيف ينحصر التدبير في اللّه سبحانه ؟

مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم يعترف بسلسلة من المدبِّرات ويقول :

( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (1).

( وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) (2).

ولا شك أنّ هؤلاء الحفظة لو كانوا يراقبون البشر ويحفظونه من الشرور والأخطار ، فإنّ من الحتمي أن يعدوا مدبِّرين له بنحو ما ؟

الجواب

قد سبق منّا - عند البحث عن التوحيد في الخالقية - أنّ التوحيد في الأفعال ليس بمعنى تعطيل فاعلية الأسباب والعلل وإحلال اللّه تعالى محلها للتأثير في الظواهر مباشرة ، لأنّ هذا عين ما اختارته الأشاعرة ، الذي أبطلناه.

بل التوحيد في الأفعال - سواء أكان في الخالقية أم في التدبير - إنّما هو

ص: 404


1- النازعات : 5.
2- الأنعام : 61.

بمعنى أنّه لا يوجد في الكون مؤثر مستقل سواه ، وإنّ تأثير سائر العلل إنّما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه ومشيئته ، والاعتراف بمثل هذه المدبّرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في اللّه سبحانه ، ومن ليس له إلمام بألفباء المعارف والمفاهيم القرآنية يواجه حيرة كبيرة تجاه طائفتين من الآيات ، إذ كيف يمكن أن تنحصر بعض الشؤون والأفعال كالشفاعة ، والمالكية ، والرازقية والعلم بالغيب والإحياء في بعض الآيات باللّه سبحانه بينما تنسب هذه الأفعال في آيات أُخرى إلى غير اللّه من عباده ، فكيف ينسجم ذلك الانحصار مع هذه النسبة ؟

وإليك نماذج من هاتين الطائفتين من الآيات :

1. يعد القرآن - في بعض آياته - قبض الأرواح فعلاً لله تعالى ، ويصرح بأنّ اللّه هو الذي يتوفّي الأنفس حين موتها إذ يقول - مثلاً - :

( اللّهُ يَتَوفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (1).

بينما نجده يقول في موضع آخر ، ناسباً التوفّي إلى غيره :

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (2).

* * *

2. يأمر القرآن - في سورة الحمد - بالاستعانة باللّه وحده إذ يقول :

( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

في حين نجده في آية أُخرى يأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة إذ يقول :

ص: 405


1- الزمر : 42.
2- الأنعام : 61.

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (1).

* * *

3. يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقاً مختصاً باللّه وحده ، إذ يقول :

( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (2).

بينما يخبرنا - في آية أُخرى - عن وجود شفعاء غير اللّه كالملائكة :

( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يأْذَنَ اللّهُ ) (3).

* * *

4. يعتبر القرآن الاطّلاع على الغيب والعلم به منحصراً في اللّه ، حيث يقول :

( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ والأرضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) (4).

فيما يخبر الكتاب العزيز في آية أُخرى عن أنّ اللّه يختار بعض عباده لاطّلاعهم على الغيب ، إذ يقول :

( وَمَا كَانَ اللّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (5).

* * *

ص: 406


1- البقرة : 45.
2- الزمر : 44.
3- النجم : 26.
4- النمل : 65.
5- آل عمران : 179.

5. ينقل القرآن عن إبراهيم علیه السلام قوله بأنّ اللّه يشفيه إذا مرض حيث يقول :

( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (1).

وظاهر هذه الآية هو حصر الإشفاء من الأسقام في اللّه سبحانه ، في حين أنّ اللّه يصف القرآن والعسل بأنّ فيهما الشفاء أيضاً ، حيث يقول :

( فِيهِ [ العسل ] شِفَاءٌ لِلنّاسِ ) (2).

( وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ) (3).

* * *

6. إنّ اللّه تعالى - في نظر القرآن - هو الرازق الوحيد حيث يقول :

( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ ) (4).

بينما نجد القرآن يأمر المتمكنين وذوي الطول بأن يرزقوا من يلوذ بهم من الضعفاء إذ يقول :

( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) (5).

* * *

7. الزارع الحقيقي - حسب نظر القرآن - هو اللّه كما يقول :

ص: 407


1- الشعراء : 80.
2- النحل : 69.
3- الإسراء : 82.
4- الذاريات : 58.
5- النساء : 5.

( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) (1).

في حين أنّ القرآن الكريم - في آية أُخرى - يطلق صفة الزارع على الحارثين إذ يقول :

( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ ) (2).

* * *

8. إنّ اللّه هو الكاتب لأعمال عباده إذ يقول :

( واللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) (3).

في حين يعتبر القرآن الملائكة - في آية أُخرى - بأنّهم المأمورون بكتابة أعمال العباد ، إذ يقول :

( بَلَى وَرُّسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (4).

* * *

9. وفي آية ينسب تزيين عمل الكافرين إلى نفسه سبحانه يقول :

( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) (5).

وفي الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان :

ص: 408


1- الواقعة : 63 - 64.
2- الفتح : 29.
3- النساء : 8.
4- الزخرف : 81.
5- النمل : 4.

( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ ) (1).

وفي آية أُخرى نسبها إلى آخرين وقال :

( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ ) (2).

* * *

10. مر في هذا البحث حصر التدبير في اللّه حتى إذا سئل من بعض المشركين عن المدبّر لقالوا : هو اللّه ، ، إذ يقول في الآية 31 من سورة يونس :

( وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ ) .

بينما اعترف القرآن بصراحة في آيات أُخرى بمدبّرية غير اللّه حيث يقول :

( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) (3).

فمن لم يكن له إلمام بمعارف القرآن يتخيّل لأوّل وهلة أنّ بين تلك الآيات تعارضاً ، غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ حقيقة هذه الأُمور أعني : الرازقية ، والإشفاء و ... و ، قائمة باللّه على نحو لا يكون لله فيها أي شريك ، فهو تعالى يقوم بها بالأصالة وعلى وجه « الاستقلال » في حين أنّ غيره محتاج إليه سبحانه في أصل وجوده وفعله ، فما سواه تعالى يقوم بهذه الأفعال والشؤون على نحو « التبعية » وفي ظل القدرة الإلهية.

وبما أنّ هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات ، وأنّ كل ظاهرة لا بد أن تصدر وتتحقّق من مجراها الخاص بها المقرر لها في عالم الوجود ينسب القرآن هذه

ص: 409


1- الأنفال : 48.
2- فصلت : 25.
3- النازعات : 5.

الآثار إلى أسبابها الطبيعية دون أن تمنع خالقية اللّه من ذلك ، ولأجل ذلك يكون ما تقوم به هذه الموجودات فعلاً لله في حين كونها فعلاً لنفس الموجودات غاية ما في الأمر أنّ نسبة هذه الأُمور إلى الموجود الطبيعي نفسه إشارة إلى الجانب « المباشري » ، فيما يكون نسبتها إلى « اللّه » إشارة إلى الجانب « التسبيبي ».

ويشير القرآن إلى كلا هاتين النسبتين في قوله سبحانه :

( وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ) (1).

ففي حين يصف النبي الأعظم بالرمي ، إذ يقول بصراحة ( إذْ رَمَيْتَ ) نجده يصف اللّه بأنّه هو الرامي الحقيقي ، وذلك لأنّ النبي إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها اللّه له ، فيكون فعله فعلاً لله أيضاً ، بل يمكن أن يقال : إنّ انتساب الفعل إلى اللّه ( الذي منه وجود العبد وقوته وقدرته ) أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلاً لله لا غير ، ولكن شدة الانتساب هذه لا تكون سبباً لأن يكون اللّه مسؤولاً عن أفعال عباده ، إذ صحيح أنّ المقدمات الأوّلية للظاهرة مرتبطة باللّه وناشئة منه إلاّ أنّه لما كان الجزء الأخير من العلة التامة هو إرادة الإنسان ومشيئته بحيث لولاها لما تحقّقت الظاهرة يعد هو مسؤولاً عن الفعل.

وحدة المدبِّر في العالم

إنّ القرآن استدل على وحدة المدبِّر في العالم ببرهان ذي شقوق ، وقد جاء البرهان ضمن آيتين تتكفل كل واحدة منهما بيان بعض الشقوق من البرهان ، وإليك الآيتين :

ص: 410


1- الأنفال : 17.

( لَو كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (1).

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِله إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ ) (2).

وإليك مجموع شقوق البرهان :

إنّ تصوّر تعدّد المدبِّر لهذا العالم يكون على وجوه :

1. أن يتفرد كل واحد من الآلهة المدبِّرة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كل واحد ما يريده في الكون دونما منازع ، ففي هذه الصورة يلزم تعدد التدبير لأنّ المدبِّر متعدّد ومختلف في الذات ، فيلزم تعدد التدبير ، وهذا يستلزم طروء الفساد على العالم وذهاب الانسجام المشهود ، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه :

( قُلْ لَو كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .

2. وأمّا أن يدبِّر كل واحد قسماً من الكون الذي خلقه وعندئذ يجب أن يكون لكل جانب من الجانبين نظام مستقل خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير مرتبط به أصلاً ، وعندئذ يلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام من الكون ، في حين أنّنا لا نرى في الكون إلاّ نوعاً واحداً من النظام يسود كل جوانب الكون من الذرة إلى المجرة.

ص: 411


1- الأنبياء : 22.
2- المؤمنون : 91.

وإلى هذا الشق أشار بقوله : في الآية الثانية : ( إذَنْ لَذَهَبْ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ ) .

3. أن يتفضّل أحد هذه الآلهة على البقية ويكون حاكماً عليهم ويوحّد جهودهم ، وأعمالهم ويسبغ عليها الانسجام والاتحاد ، وعندئذ يكون الإله الحقيقي هو هذا الحاكم دون الباقي.

وإلى هذا يشير قوله سبحانه : ( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) فتلخّص أنّ الآيتين بمجموعهما تشيران إلى برهان واحد ذي شقوق تتكفل كل واحدة منهما بيان شق خاص.

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي اعتبر في تفسيره القيم - الميزان - الآية الثانية برهاناً مستقلاً عن الآية الأُولى وجعل كل جملة منها مشيرة إلى برهان خاص ، وإليك توضيح ما أفاده في كتابه :

توضيح البرهان الأوّل

إذا افترضنا أنّ للكون خالقين وأنّ العالم مخلوق لإلهين ، فإنّه لا بد أن نقول - وبحكم كونهما اثنين - أنّهما يختلفان عن بعض في جهة أو جهات ، وإلاّ لما صحت الاثنينية والتعدد أي لما صح - حينئذ - أن يكونا اثنين دون أن يكون بينهما أي نوع من الاختلاف.

ومن المعلوم أنّ الاختلاف في الذات سبب للاختلاف في طريقة التدبير والإرادة بين المختلفين ذاتاً.

فإذا كان تدبير العالم العلوي - مثلاً - من تدبير واحد من الإلهين وتدبير العالم السفلي من تدبير إله آخر ، فإنّ من الحتمي أن ينفصم الترابط بين نظامي

ص: 412

العالمين ويزول الارتباط بينهما ، لأنّه من المستحيل أن يكون ارتباط ووحدة بين أجزاء عالم واحد يدار بتدبيرين متنافيين متضادين.

وينتج من ذلك التفكك بين جزئي العالم ، وبالتالي فساد الكون بأسره من سماوات وأرض وما بينهما.

لأنّنا جميعاً نعلم بأنّ بقاء النظام الكوني - حسب التحقيقات العلمية - ناشئ من الارتباط الحاكم على أجزاء المنظومة الشمسية بحيث لو فقد هذا الارتباط على أثر الاختلاف في التدبير - مثل أن تختل قوتا الجذب والدفع - لتعرض الكون بأسره للخلل ولم يبق للكون وجود ولا أثر.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا البرهان بالعبارة التي يقول فيها :

( إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إلهٍ بِمَا خَلَقَ ) .

أي أنّ كل إله - في صورة التعدّد - يدبِّر مخلوقه حسب طريقته الخاصة ، وعلى أثر تعدّد التدبير يزول الارتباط والترابط الحاكم على أجزاء الكون ، ذلك الترابط الذي هو علّة بقاء النظام الكوني وعلّة استمراره واستقامته ، وثباته على النمط الذي هو عليه.

توضيح البرهان الثاني

إنّ في عالم الكون سلسلة من النظم والسنن الكونية الكلية والعامة التي يوجد بينها سلسلة من النظم الجزئية ، التي تدار في خلالها وأثنائها.

فالإنسان والحيوان والنبات وما يعيش على الأرض ذوات أنظمة صغيرة محدودة خاصة بها ، وهي جزء من النظام الكلي للكرة الأرضية.

ص: 413

ولكن النظام الكلي للكرة الأرضية هو بدوره يعد جزءاً من النظام الكلي للعالم ، وبهذه النسبة يكون وضع نظام المجموعة الشمسية إذا ما قورن إلى نظام المجرة.

فإذا كان النظام العالي الكلّي للكون مرتبطاً بأحد الإلهين ومحكوماً لتدبيره دون الآخر ، ففي هذه الصورة سيتعالى مدبّر النظام الكلي على مدبِّر النظام الذي يندرج فيه بحيث إذا ذهب وانتفى النظام الكلي لم يبق للنظام الجزئي المندرج فيه أي أثر.

فمثلاً إذا بطل نظام الكرة الأرضية ، فإنّه يبطل - بالضرورة - نظام الإنسان والحيوان وبقية الأحياء ويتعرض أمرهم للزوال والفناء والخطر ، بحكم التبعية والارتباط بينهما.

وإذا تعرض النظام الكلي للمنظومة الشمسية للخلل فإنّ من القطعي أن يختل كذلك النظام الجزئي للمنظومة مثل نظام الكرة الأرضية على أثر ذلك ، ولا يصح العكس طبعاً (1).

وفي هذه الحالة يصح ( بحكم تفوق النظام العالي الكلي على النظام الجزئي السفلي ) أن يقال أنّ مدبِّر النظام العلوي يتفضّل ويستعلي ويتفوّق على مدبِّر النظام السفلي الجزئي ، وتكون نتيجة هذا الفرض أن يستغني مدبِّر النظام العلوي الكلي عن مدبِّر النظام السفلي الجزئي ، بينما يستلزم أن يكون مدبّر النظام السفلي الجزئي محتاجاً في إرادته وتدبيره لمخلوقه للمدبِّر الأعلى.

لأنّ الفرض أنّ النظام السفلي مرتبط - كمال الارتباط - بالنظام العلوي

ص: 414


1- لأنّ فساد الكل يستتبع فساد الجزء.

ويستمد من الأخير دائماً ، ومعلوم أنّ نتيجة هذا الاستمداد هو أن لا يكون موجد النظام السفلي ، مستقلاً في تأثيره وتدبيره ، بل يكون معتمداً على غيره دائماً وأبداً.

ومن البديهي أنّ الموجود المحتاج إلى غيره في التدبير والإيجاد لا يمكنه أن يكون « الإله الغني ».

إنّ القرآن الكريم يشير إلى هذا النحو من الاستدلال بالجملة التالية :

( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) .

وعلّة هذا العلو والاستعلاء هو اعتماد تدبير أحدهما على تدبير الآخر بحيث لو اختل أو انتفى التدبير الكلي العلوي لانتفى التدبير السفلي الجزئي ولم يعد له أثر ولا خبر ، ولا ريب أنّ تفوق التدبير مستلزم لتفوق المدبِّر وعلوه (1).

سؤال وجواب

نرى في قوله سبحانه :

( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً * مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى باللّهِ شَهِيداً ) (2).

إنّ الآية الأُولى تنسب كلاّ من الحسنة والسيئة إلى اللّه ، وفي الوقت نفسه

ص: 415


1- قد تقدم في صفحة 403 الاستدلال بمضمون الآية الأُولى على « وحدة المدبر » غير أنّ الاستدلال هنا يكون بنفس هذه الآية منضمة إلى آية أُخرى ، وجعل الآيتين بمنزلة برهان واحد ذي شقوق تتكفل الآيتان بيان شقوق البرهان.
2- النساء : 78 - 79.

تنسب الآية الثانية الحسنة إليه سبحانه والسيئة إلى نفس الإنسان ، فكيف تجتمع هاتان النسبتان ؟

والخطاب في الآية الثانية وإن كان للنبي إلاّ أنّ الغاية منه أعم ، فهو وإن كان قد خوطب بالكلام ، ولكن المقصود الناس جميعاً ، وعندئذ ينطرح هذا السؤال : إذا كان المؤثر الحقيقي في العالم هو اللّه سبحانه وكان تأثير غيره منوطاً بإذنه ومشيئته وقدرته وأقداره ، كما يفيده قوله سبحانه : ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ اللّهِ ) ، لأجل أنّ للحسنة والسيئة عوامل وعللاً تنتهي إلى اللّه سبحانه وتقوم به ، فيكون الكلّ مستنداً إليه ، ومعه كيف يستدرك في الآية الثانية ويقرن بين الحسنة والسيئة فينسب الأُولى إلى اللّه والثانية إلى نفس النبي وبالنتيجة إلى مطلق الإنسان ويقول : ( ومَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) ؟ فهل هذا إلا تفكيك في الحوادث وجعل بعضها منتهياً إلى اللّه دون البعض الآخر.

الجواب

إنّ المقصود من الحسنة في الآية ، الأُمور التي تلائم وتنطبق مع المزاج والمصالح البشرية بينما تكون السيئة عكس ذلك ، كما في قوله سبحانه :

( إِنْ تَمسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُم سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ) (1).

وليس المراد منها الطاعة والمعصية ولا الثواب والعقاب بل الحوادث التي تعد خيراً أو شراً للإنسان طيلة حياته.

إنّ بعض المنضمين إلى صفوف المؤمنين كانت ألسنتهم طويلة وعملهم

ص: 416


1- آل عمران : 120.

قليلاً ، فكانوا يتفلسفون ، فإنْ حصل نصر قالوا : هو من عند اللّه ، وإن كانت هزيمة قالوا إنّ سوء القيادة هو سبب الهزيمة.

وبعبارة أُخرى قد كان المنافقون - لجهلهم بمعارف الكتاب العزيز - يعدون الظفر والغلبة في الحروب كحرب بدر - مثلاً - من اللّه ، والانكسار والهزيمة كحرب أُحد من النبي صلی اللّه علیه و آله .

ولم يكن هذا النوع من التفسير بجديد ، فقد سبقهم في ذلك أعداء موسى ، فقد كان منطقهم ، على شكل آخر ، فكانوا ينسبون الحسنة إلى أنفسهم والسيئة إلى موسى ومن معه.

فإذا واجهوا نعمة كانوا يرون أنّ ذلك نتيجة صلاحيتهم ، وإذا واجهوا نقمة أو بلاء تشاءموا بموسي علیه السلام وتطيّروا به ، واعتبروا وجوده ووجود جماعته المؤمنين سبباً لنزول ذلك البلاء ، كما يقول سبحانه :

( فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هذِهِ وِإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَعَهُ ) (1).

ولكنَّ القرآن الكريم يواجه هذا الزعم الأعوج الذي تنسب فيه « الحسنات » تارة إلى اللّه و « السيئات » إلى النبي وأُخرى تنسب الحسنات إلى أنفسهم ، والسيئات إلى موسى علیه السلام ، فكأنّ هناك مؤثرين مستقلين في عالم الكون ، لكل واحد منهما خالق خاص ينافي الآخر ويقول في قبال هذا المنطق : ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) .

لأنّه ليس للعالم - بحكم التوحيد في الخالقية - إلاّ خالق واحد لا أكثر ،

ص: 417


1- الأعراف : 131.

وكل ما يحدث في هذا العالم من انتصارات أو هزائم وانكسارات ونزول نعم أو نقم - من حيث وجودها في الخارج - تكون من اللّه ، وليس من الصحيح أبداً أن نعتبر بعضها من جانب اللّه ، والبعض الآخر من جانب النبي أو غيره ، ولأجل هذا يقول القرآن ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) .

إلى هنا اتضح مفاد الآية الأُولى ، وبقي الكلام في الآية الثانية وإنّه كيف تعود فتنسب الحسنة إلى اللّه والسيئة إلى النبي ، والمراد منه مطلق الإنسان ؟

غير انّ الإجابة عنه واضحة ، بعد الوقوف على موضوع البحث فيهما فإنّ الآية الأُولى تركز على أنّ وجود الحسنة والسيئة من اللّه سبحانه ، ولا خالق ولا مؤثر في الوجود إلاّ هو ، وأمّا الآية الثانية فهي تركز على مناشئ الحسنة والسيئة ومنابعهما ، فتفرّق بين مناشئ الحسنة ومنابع السيئة بأنّ منشأ الأُولى هو اللّه سبحانه ، إذ هو مبدأ لكل خير وإليه يرجع كل فضل ومنه يفاض إلى الغير ، كما أنّ منابع السيئة هي الإنسان وأفعاله وخصاله التي يمشي عليها في حياته. إذا عرفت ذلك فنقول :

السيئة - كالزلازل والبلايا والمصائب - بما أنّها ظاهرة طبيعية فوجودها من جانب اللّه سبحانه ، ولأجل ذلك نسبها القرآن إلى اللّه فقال : ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) وبما أنّ أعمالنا مؤثرة في نشوء تلك الظاهرة ، وكل إنسان مأخوذ بفعله فأعمالنا مبادئ لهذه الظواهر والطوارئ فنسب السيئة إلى نفس الإنسان فقال : ( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) .

ويؤيد ذلك قوله سبحانه :

( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَيَّ رَبِّي

ص: 418

إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) (1).

إنّه تعالى يأمر نبيه بأن يعترف بأنّ ضلالته من جانب نفسه وهدايته من جانب وحيه سبحانه ، وليس ذلك إلاّ لأنّ الضلالة مما ينشأ من موقف الإنسان نفسه في حياته ، فلأجل ذلك هي أولى بأن تنتسب إلى نفس الإنسان ، وأمّا الهداية فهي كالحسنة أولى بأن تنتسب إلى اللّه سبحانه.

وليس هذا مخصوصاً بالحوادث الطارئة في عالم الطبيعة ، المذكورة ، بل كل إنسان رهين بآثار عمله ، فإنّ الشاب المدمن على الخمر - مثلاً - يجب بالبداهة أن ينتظر سلسلة من البلايا والمصائب والمحن ، والمدينة التي لا تبني السدود في وجه السيول يجب حتماً أن تنتظر الدمار والخراب ، والبيوت التي لا تبنى على أساس مقاومة الزلازل يجب حتماً أن تنتظر الخراب والدمار على أثر الزلازل.

إنّ مثل هذه المجتمعات التي تقصر في هذه الأُمور لابد أن تكون في معرض المصائب والمحن والمآسي.

ولهذا قال تعالى في الآية الثانية : ( مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) وهو بذلك يشير إلى ما قلناه.

لقد كان الأنبياء علیهم السلام يذمّون من يتطيّر بهم ويتشاءم من وجودهم ويقولون : ( قَالُوا ( أي الأنبياء ) طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُم ) (2).

وهم بذلك يشيرون إلى أنّ علّة المحن والمصائب كامنة في نفس العصاة والمنكوبين ، وهو أمر ناشئ منهم ونابع من أعمالهم هم ، وأنّ داءهم فيهم ومنهم إن

ص: 419


1- سبأ : 50.
2- يس : 19.

كانوا يبصرون ويتذكرون.

ولأجل أن نعرف أنّ أعمال الإنسان هي صانعة مصيره يكفي أن نجد القرآن يخبرنا في آيات أُخرى بأنّ أعمال البشر وحالاته وسوابقه هي التي تكون علّة للمصائب والمحن والتحوّلات والتغيّرات التي تطرأ على حياته ، إذ يقول :

( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (1).

ويقول في آية أُخرى :

( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفِسِهِمْ ) (2).

ويقول أيضاً :

( ذِلِكَ بِأَنَّ اللّه لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (3).

وقد أُشير إلى هذا الجمع الذي ذكرناه في روايات أئمة أهل البيت علیهم السلام ، فعن الإمام الرضا علیه السلام ناقلاً عن الحديث القدسي :

« ابن آدم ! بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء وتقول ، وبقوتي أديت إلي فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، ما أصابك من حسنة فمن اللّه ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وذاك أنّي أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك مني » (4).

وفي حديث آخر عنه علیه السلام :. « فما أصابك من حسنة فمن عندي وبتوفيقي وقوتي ، وما أصابك من سيئة فمن سوء اختيارك وغواية نفسك » (5).

ص: 420


1- الشورى : 30.
2- الرعد : 11.
3- الأنفال : 53.
4- بحار الأنوار : 5 / 56 و 5 وقد نقل في الأخير بصورة مبسوطة.
5- بحار الأنوار : 5 / 56 و 5 وقد نقل في الأخير بصورة مبسوطة.

وفي ختام هذا المبحث نذكّر بعدة نقاط :

1. انّ الآيات القرآنية ، والدلائل العقلية أثبتت بوضوح أنّ التوحيد في الخالقية والتدبير لا يمنع من أن يقوم النظام الكوني على أساس العلة والمعلول ، لأنّ تأثير الأسباب لا يكون في معزل عن إرادة اللّه ، بل هو - بالتالي - فعله بنحو من الأنحاء.

2. قد توجب المصالح بأن يعطّل اللّه سبباً من تأثيره ، مثل أن يجرّد من النار خاصية الإحراق ، ويأمر البحر بأن لا يغرق كما فعل لموسى وقومه ، إذ يقول عن الأوّل :

( يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً ) (1).

ويقول عن الثاني :

( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى ) (2).

3. كيف يمكن القول بأنّ اللّه خالق الحسنات والسيئات ، وأي رابطة بين الكمال المطلق والخير البحت والجمال المحض وخلق السيئات ؟

والجواب : إنّ كون الشيء سيئاً ليس من الصفات الحقيقية التي يتّصف بها الشيء مطلقاً كالبياض والسواد حتى يمتنع صدوره من اللّه لكونه كمالاً وخيراً مطلقاً ، بل من الصفات النسبية التي لا يتّصف بها الشيء إلاّ بالمقايسة والنسبة ، كما في الكبر والصغر فإنّ الشيء لا يتّصف به من دون مقايسة.

وعلى ذلك فالسيئات من حيث وجودها لا تتصف بالسوء حتى يمتنع

ص: 421


1- الأنبياء : 69.
2- طه : 77.

انتسابها إلى اللّه ، بل هي من تلك الزاوية طوارئ جميلة ، وإنّما يتّصف بها إذا كان هناك نوع من النسبة بينها وبين حياة الإنسان ، فقدرة العدو مثلاً سيئة ومضرة بالقياس إلى الطرف الآخر ، والمطر مضر وشر بالقياس إلى تخريبه المنازل ، ففي هذه الحالة فقط يمكن أن توصف هذه الظواهر بالشر والسوء وفي هذه الصورة بالذات يقول الناس « لقد نزل البلاء ».

وعلى الجملة : الهدف من انتساب الحسنة والسيئة كليهما إلى اللّه سبحانه ، ليس هو انتساب السيئة - بوصف كونها سيئة - إلى اللّه ، فإنّ الشيء إنّما يتّصف بكونه سيئاً إذا كانت هناك مقايسة بالنسبة إلى الإنسان ، وإلاّ فلا يتصف من حيث وجوده بكونه شرّاً وسيئاً ، فالعقرب شرّ إذا قيس بالنسبة إلى الإنسان ، والسيل الجارف شر إذا قيس إلى الدور التي هدمها ، ومع عدم هذه المقايسة لا يتصف شيء بكونه سيئاً ، والآية بما أنّها في مقام توحيد الخالقية والربوبية تنسب وجود كل حادثة إلى اللّه سبحانه بما أنّه المنبع الوحيد للخلق والتقدير (1).

4. قد تبيّن ممّا ذكرناه في وجه الجمع بين نسبة الحسنات والسيئات إلى اللّه أوّلاً ، ونسبة الحسنات إليه سبحانه والسيئات إلى الإنسان ثانياً ، إنّه لا منافاة بين قوله سبحانه : ( أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (2). (3)

وقوله سبحانه : ( قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرتُم ) (4).

فما يتطيّرون به إنّما يجري في الكون بأمره سبحانه فلا خالق له إلاّ هو ، غير

ص: 422


1- راجع ما حققنا في صفحة 370 من نسبة الشرور والآفات إلى اللّه.
2- الأعراف : 131.
3- ونظير ذلك قوله سبحانه : ( قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ ) ( النمل : 47 ).
4- يس : 19.

أنّ منبع الطائر ليس إلاّ نفس الإنسان وعمله الذي يجري عليه الذي يسمّيه طائراً.

5. إنّ أيّة ظاهرة في العالم مرتبطة بعلة ، وهذا قانون كلّي وعام لا يقبل - في منطق العقل - أيَّ تغيير واستثناء ، وفي هذه الصورة ينطرح سؤال وهو : كيف إذن تتحقّق معجزات الأنبياء والرسل علیهم السلام ، وفي ظل أي سبب تقع ؟

غير أنّ المحقّقين من الفلاسفة والمتكلّمين قد بحثوا حول هذاالسؤال بحثاً وافياً ، فليراجع في محله.

ص: 423

ص: 424

الفصل التاسع: التوحيد في العبادة

اشارة

ص: 425

التوحيد في العبادة

1. دوافع الشرك في العبادة.

2. لفظة العبادة في معاجم اللغة العربية.

3. هل العبادة هي مطلق الخضوع ؟

4. هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك ؟

5. التعاريف الثلاثة للعبادة.

6. الشيعة الإمامية وتهمة التفويض.

7. معنى الإلوهية وما هو ملاكها ؟

8. هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية غير المستقلة يوجب الشرك ؟

9. هل التوسل بالأسباب غير الطبيعية يُعد شركاً ؟

10. هل الحياة والموت تعدّان حداً للتوحيد والشرك ؟

11. هل تعظيم أولياء اللّه والتبرك بآثارهم أحياء وأمواتاً شرك ؟

12. هل قدرة المستغاث وعجزه من حدود التوحيد والشرك ؟

13. هل طلب الأُمور الخارقة للعادة شرك وملازم للاعتقاد بالوهية المسؤول ؟

14. هل يكون طلب الشفاعة من الصالحين ودعوتهم شركاً ؟

15. عقائد الوثنيين في العصر الجاهلي.

ص: 426

1

دوافع الشرك في العبادة

اشارة

الأمر الذي كان يؤلِّف أساس دعوة الأنبياء في جميع عهود الرسالة السماوية هو : دعوة البشر إلى عبادة اللّه الواحد ، والاجتناب عن عبادة غيره.

فالتوحيد في العبادة وتحطيم أغلال الشرك والوثنية كان من أهم التعاليم السماوية التي تحتل مكان الصدارة في رسالات الأنبياء علیهم السلام حتى كأنّ الأنبياء والرسل لم يبعثوا - أجمع - إلاّ لهدف واحد ، هو تثبيت دعائم التوحيد ومحاربة الشرك.

لقد ذكر القرآن هذه الحقيقة - بجلاء - إذ قال :

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمّةٍ رَسُولاً أَنْ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (1).

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (2).

ثم في موضع آخر يصف القرآن الكريم التوحيد في العبادة بأنّه الأصل

ص: 427


1- النحل : 36.
2- الأنبياء : 25.

المشترك بين جميع الشرائع السماويّة ، إذ يقول :

( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تََعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ) (1).

وإذا أردت أن تعرف كيف بيّن القرآن الكريم الشرك في العبادة ، أو جميع أقسامه ، وصور المشرك في فقده ما يعتمد عليه في حياته فتدبّر في الآية التالية ، إذ يقول تعالى :

( وَمَنْ يُشْرِكْ باللّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) (2).

ولا يستطيع أيُّ تشبيه على ترسيم بطلان الشرك وضياع المشرك وخيبته وحيرته بأوضح ممّا رسمته هذه الآية الكريمة.

منشأ الشرك والوثنية

من العسير جداً إبداء الرأي في جذور الوثنية ومنشأ هذا الانحراف العقيدي ونموّه بين البشر ، خاصّة أنّ موضوع الوثنية لم يكن عند قوم أو قومين ، ولا في شكل أو شكلين ، ولا في منطقة أو منطقتين ، ليتيسّر للباحث إبداء نظر قطعي فيه وفي نشوئه.

فالوثنية عند « العرب الجاهليين » مثلاً تختلف عمّا عليها عند « البراهمة » ، وهي عند « البوذيين » تختلف عمّا هي عليها عند « الهندوس » ، فاعتقادات هذه الملل والشعوب مختلفة في موضوع الشرك ، بحيث يعسر تصوّر قدر مشترك

ص: 428


1- آل عمران : 64.
2- الحج : 31.

بينها (1).

أمّا العرب البائدة مثل عاد وثمود : أُمم هود وصالح ، ومثل سكنة مدين وسبأ : أُمم شعيب وسليمان ، فكانوا بين وثنيين وعبدة الشمس. (2) وقد ذكرت عقائدهم وطريقة تفكيرهم في القرآن الكريم.

وقد كان عرب الجاهلية من أولاد إسماعيل موحدين ردحاً من الزمن ، يتَّبعون تعاليم النبي إبراهيم وولده إسماعيل علیهماالسلام ولكن - على مرّ الزمان وعلى أثر الارتباط بالشعوب والأُمم الوثنية - حلّت الوثنية محل التوحيد في المجتمع العربي الجاهلي تدريجاً (3).

هذا حال الأُمّة العربية العائشة في تلكم النواحي ، وأمّا الأُمّة العائشة في مكة وضواحيها المقاربة لعصر الرسول صلی اللّه علیه و آله فقد نقل المؤرخون أنّ أوّل من أدخل الوثنية في مكة ونواحيها وروّجها فيها هو : « عمرو بن لحي ».

فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان ، وعند ما سألهم عمّا يفعلون قائلاً :

- ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها ؟

قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا !

ص: 429


1- شرحت دوائر المعارف ، وبخاصة دائرة معارف البستاني معتقدات هذه الشعوب الآسيوية التي تعيش في رقعة كبيرة في آسيا.
2- قال سبحانه : ( وَجَدْتَهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلْشَمْسِ مِنْ دُونِ اللّهِ ) ( النمل : 24 ).
3- وهذا يعطي أنّ الوثنية يمتد جذورها في المجتمع العربي الجاهلي إلى زمن بعيد وإن كان دخولها إلى مكة وضواحيها ليس بذاك البعد حسب ما ينقله ابن هشام وغيره من أهل السير والتاريخ.

فقال لهم : أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه ؟

وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم « هبل » ووضعه على سطح الكعبة المشرفة ، ودعا الناس إلى عبادتها (1).

هكذا تسرّبت الوثنية إلى الحجاز وظهرت عند الأقوام والقبائل العربية المختلفة : الأصنام والآلهة المدعاة التي كانوا يعبدونها.

يرى بعض الباحثين أنّ « الوثنية » نشأت من تعظيم الشخصيات وتكريمهم ، فعندما كان يموت أحد الشخصيات كانوا ينحتون له تمثالاً لإحياء ذكراه وتخليد مثاله في أفئدتهم ، ولكن مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال كانت تتحول هذه التماثيل - عند تلك الأقوام - إلى معبودات ، وإن لم تقترن ساعة صنعها بمثل هذا الاعتقاد (2).

وأحياناً كان رئيس عائلة يحظى باحترام وتعظيم كبيرين - في حياته - حتى إذا مات نحتوا له تمثالاً على صورته وعكفوا على عبادته.

وفي اليونان والروم القديمتين كان ربُّ العائلة ورئيسها يعبد من قبل أهله ، فإذا توفّي عبدوا تمثاله.

وتوجد اليوم في متاحف العالم أصنام وتماثيل لرجال الدين وللشخصيات البارزة الذين كانوا - ذات يوم - أو كانت أصنامهم تعبد كما يعبد الإله.

ومن محاورة النبي إبراهيم علیه السلام مع كبير قومه : « نمرود » يستفاد - بوضوح - أنّ نمرود كان موضع العبادة من جانب قومه.

ص: 430


1- سيرة ابن هشام : 1 / 79.
2- هذا الرأي غير ثابت عند كاتب هذه السطور ، ثم ليس من المعلوم هل كان عملهم ذاك مجرد تعظيم أو عبادة.

كما يتبين بأنّ فرعون زمان موسى علیه السلام رغم أنّه كان بنفسه معبوداً عند قومه كان يعبد أصناماً ، خاصة ، لعلها كانت أشكالاً لشخصيات سابقة من أسلاف فرعون ، حيث يخبرنا القرآن الكريم قائلاً :

( وَقَالَ المَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) (1).

خلاصة النظر : أنّ هذه الأصنام والتماثيل كانت تنحت وتصنع بادئ الأمر لتخليد ذكرى رجال دين وزعماء وشخصيات كبار ، ولكن مع مرور الزمن وانقراض أجيال وحلول أجيال أُخرى مكانها كان هذا الهدف ينحرف عن مجراه الأصلي ، وتتحول تلك التماثيل إلى معبودات ، وتلك الأصنام إلى آلهة مزعومة.

التوحيد في العبادة

والمقصود بهذا التوحيد هو : أن نفرد خالق الكون بالعبادة ، ونجتنب عن عبادة غيره ممّا يكون مخلوقاً له تعالى ، وهذا في مقابل الشرك في العبادة الذي يعني أن يعبد الإنسان رغم اعتقاده بوحدانية خالق هذا الكون - مخلوقاً ، أو مخلوقات ، لسبب من الأسباب.

وهذا هو ما تسمّيه الوهابية بالتوحيد في الإلوهية كما تسمّي التوحيد الذاتي بالتوحيد في الربوبية ، وكلا الاصطلاحين خطأ لما عرفت من معنى الإلوهية حيث قلنا : بأنّ معناها ليس المعبودية ، بل ( الإله ، واللّه ) متساويان من حيث المبدأ والمفهوم ، غير أنّ الأوّل كلّي ، والثاني علم لواحد من مصاديق ذاك الكلّي.

ص: 431


1- الأعراف : 127.

وأمّا الربوبية فهي بمعنى التدبير والتصرّف في الكون ، لا « الخالقية » وان كان التدبير من حيث الأدلة الفلسفية لا ينفك عن الخالقية كما تقدّم تفصيله في « التوحيد في الربوبية » (1).

والأولى بل المتعيّن أن نعبّر عن التوحيد الذاتي بالتوحيد في الإلوهية ، وأنّه ليس هناك إله إلاّ اللّه ، لا أنّ هناك إلهاً أعلى وهو اللّه سبحانه ، وألهة صغاراً يملكون بعض شؤونه سبحانه ، من الشفاعة والمغفرة وغيرهما مما هو من أفعاله سبحانه كما كان عليه العرب الجاهليون.

كما أنّ المتعيّن أن نعبّر عن « التوحيد في الخلق » بالتوحيد في الخالقية لا التوحيد في الربوبية ، لما عرفنا من أنّ الرب ليس بمعنى الخالق وإن كان لا ينفك عنه في الصعيد الخارجي حسب البرهان العقلي.

كما أنّ المتعيّن أن نعبّر عن التوحيد في العبادة بهذا اللفظ نفسه لا بالتوحيد الالوهي ، لما عرفت من أنّ الإله ليس بمعنى المعبود.

والحاصل : أنّه ليس المطروح في هذه المرحلة من الشرك هو : تعدد الآلهة ولا الاعتقاد بأنّ للكون أجمع خالقاً غير اللّه الواحد الذي خلق الكون بما فيه من الآلهة المزعومة ، ولكن مع هذا الاعتراف ربّما تترك عبادة الإله الواحد ، ويعبد غيره.

وتختلف دوافع « عبادة المخلوق أو المخلوقات » عند الأُمم والشعوب ، فربما كانت علة بسيطة ، وأحياناً كان يتخذ الدافع صبغة فلسفية ، وفيما يلي نستعرض أهم دوافع الشرك.

ص: 432


1- الفصل الثامن.
دوافع الشرك في العبادة
اشارة

نشير - من بين الدوافع الكثيرة - إلى ثلاثة دوافع :

1. الاعتقاد بتعدّد الخالق

كان الوثنيون ومن شاكلهم من القائلين بالتثليث ، بحكم اعتقادهم بالثنوية والتثليث ، مضطرين إلى عبادة أكثر من اله.

ففي البوذية تجلّى الإله الأزلي الأبدي في ثلاثة آلهة ، أو ثلاثة مظاهر بالأسماء التالية :

1. براهما : أي الإله الموجد.

2. فيشنو : أي الإله الحافظ المبقي.

3. سيفا أي الإله المفني.

وفي النصرانية ظهر بالأسماء التالية :

1. الأب.

2. الابن.

3. روح القدس.

وفي الدين الزرادشتي اعتقد إلى جانب « اهورامزدا » بإلهين آخرين هما :

1. يزدان.

2. اهريمن (1).

ص: 433


1- وعلى هذا التفسير يصير المجوس من الثنوية بلحاظ ، ومن أهل التثليث بلحاظ آخر فتدبر.

وإن كانت عقيدة الزرادشتيين - الواقعية - في شأن هذين الإلهين الأخيرين تكتنفها هالة من الإبهام والغموض.

وعلى كل حال فإنّ الاعتقاد الذهني بتعدد الذات الإلهية كان أحد الدوافع وراء عبادة غير اللّه ، والسبب للشرك في العبادة ، وقد أبطل القرآن الكريم بالبراهين العديدة الواضحة أساس مثل هذا الاعتقاد ، وقد تقدّم البحث في تلك البراهين عند البحث عن التوحيد في الربوبية والتدبير.

2. تصوّر ابتعاد الخالق عن المخلوق

وقد كان الدافع الثاني لعبادة غير اللّه هو تصوّر ابتعاد اللّه عن المخلوق ، بمعنى أنّهم كانوا يظنون أنّ اللّه بعيد عن المخلوقين لا يسمعهم ولا تبلغه أدعيتهم وطلباتهم ، ولذلك اختاروا وسائل ظنوا أنّها تتكفّل إيصال أدعيتهم إليه ، وكأنّ المقام الربوبي كالمقامات البشرية لا يمكن الوصول إليها إلاّ عن طريق الوسائط ، ومن أجل هذا راحوا يعبدون القدّيسين والملائكة والجن والأرواح لتوصل دعواتهم إلى المقام الربوبي !.

ولقد أبطل القرآن الكريم هذه التصوّرات ببيانات متنوعة ومتعددة يقول فيها :

بأنّ اللّه أقرب من كل قريب.

وانّه تعالى يسمع سرهم ونجواهم وعلانيتهم.

وانّه تعالى محيط بما يضمرون ويعلنون.

ولذلك فلا حاجة إلى اتخاذ تلك الآلهة المصطنعة ، ولا حاجة إلى عبادتها ، إذ

ص: 434

لو كان الهدف من عبادتها هو توسطهم لإيصال مطالبهم إلى اللّه ، فاللّه يعلم بها جميعاً ، وهو الذي لا يعزب عنه شيء :

وجاء كل هذا في الآيات التالية :

( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ ) (1).

( أَلَيْسَ اللّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) (2). (3)

( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (4). (5)

( قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ ) (6).

( مَا يَكُونُ مِنْ نَجوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ) (7).

وبهذه الآيات وغيرها يبطل القرآن الكريم هذا الدافع للوثنية والشرك.

3. تفويض التدبير إلى صغار الآلهة

يجد كل إنسان في قرارة نفسه الخضوع للقدرة العليا ، ويستصغر نفسه في قبالها ، ومثل هذا الإحساس الفطري وإن لم يظهر على اللسان والجوارح الأُخرى لكنّه يكمن في قرارة الضمير في صورة نوع من الإحساس بالخضوع ، هذا من

ص: 435


1- ق : 16.
2- الزمر : 36.
3- نعم ليست صراحة الآيتين في ما نرتئيه ، مثل الآية المتقدمة فلاحظ.
4- غافر : 60.
5- نعم ليست صراحة الآيتين في ما نرتئيه ، مثل الآية المتقدمة فلاحظ.
6- آل عمران : 29.
7- المجادلة : 7.

جانب ، ومن جانب آخر اعتاد على التعامل مع الموجودات المحسوسة فيريد صبَّ كلِّ أمر في قالب المحسوس.

وعلى هذا الأساس يريد المشرك أن يصبَّ القوى الغيبية في صورة الأجسام المشاهدة ، والأشكال المنظورة ، أضف إلى ذلك أنّه لقصور فكره ، أو لتصوّر أنّ كل حادثة في هذا الكون أُنيطت إلى قوّة قاهرة هي أيضاً مخلوقة لله كإله البحر ، وإله الحرب ، وإله السلام ، وكأنّ حكومة الكون مثل حكومات الأرض يفوض فيها كل جانب من جوانب الحياة إلى واحد ، وتكون هذه القدرة مختارة فيما تريد ، وفعالة لما تشاء !!

من أجل هذا عبد سكنة شواطئ البحار إله البحر ، لكي يجود عليهم بنعم البحر ويدفع عنهم آفاته وغوائله ، كالطوفان ; فيما عبد سكنة الأراضي والصحارى إله البر ، ليفيض عليهم بمنافعها ، ويدفع عنهم مضارها ، كالزلزال وما شابه ذلك من آفات الأرض ، وغوائل الصحراء.

ولكن حيث إنّهم ما كانوا متمكنين من رؤية هذه الآلهة التي توهموها واخترعوها ، فافترضوا لها صوراً خيالية ، وأشكالاً وهمية ، ونحتوا على غرارها تماثيل وأصناماً ، وراحوا يعبدون هذه الأصنام المصنوعة بدلاً عن عبادة القوى الغيبية نفسها التي تمثلها هذه الأصنام - كما في زعمهم -.

لهذا السبب كان بين عرب الجاهلية فريق يعبد الملائكة ، وفريق آخر يعبد الجن ، وثالث يعبد الكواكب الثابتة كالشعرى ، ورابع يعبد الكواكب السيارة ، وكان الهدف من عبادتها - جميعاً - هو جلب خيرها ونفعها ، واجتناب ضررها وشرورها.

ولقد كانوا يتمتعون - في صنع التماثيل والأصنام - بسعة نظر خاصة ، فهم لم

ص: 436

يلزموا أنفسهم بأن يصنعوا ما ينطبق على الصور الواقعية لتلك الأشياء ولذلك كانوا يصنعون لكل واحد من الآلهة الموهومة أصناماً لا تشبه صورها الواقعية أبداً كإله الحرب ، وإله السلام ، وإله الحب ، ولكن في كل هذه الموارد كان الدافع الوحيد هو صب الأُمور الغيبية في قالب المحسوسات ، وحيث إنّ هذه الأرباب والآلهة ( الصغار ) لم تكن بذاتها في متناول الإحساس ، وكان للكواكب طلوع وأُفول ، وكان التوجه إليها لا يخلو - لذلك - من مشقة فتوجهوا صوب تماثيلها ، وصاروا إلى عبادتها.

ولقد انتقد القرآن وندّد بشدَّة بفكرة تفويض القدرة وأمر تدبير الكون إلى الآلهة الصغار المدعاة المخلوقة لله ، ووصف اللّه - في مواضع عديدة - بأنّه المدبّر الوحيد لأُمور الكون حيث يقول :

( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ ) (1). (2)

لقد جعل القرآن الكريم - في آيات كثيرة - الخلق الأحياء والإماتة وتسيير الكواكب والأفلاك وتنظيم الشمس والقمر والأرزاق ، أفعالاً مختصة باللّه تعالى (3) وندّد بعنف وشدة بكلّ فكرة تقتضي بإشراك أيّة قدرة مع اللّه ، وكلِّ فكرة تقول بتفويض تدبير الأُمور الكونية إلى مخلوقاته.

إنّ الآيات القرآنية الواردة في هذا الشأن من الكثرة بحيث يعسر نقل

ص: 437


1- يونس : 3.
2- راجع الرعد : 2 والسجدة : 5.
3- اختصاص هذا النوع من الأُمور باللّه لا يمنع من توسيط الأسباب التي تعمل هي أيضاً بأمر اللّه ومشيئته ويكون قدرتها في طول القدرة الإلهية ، وواضح أنّ الإتيان بتلك الأُمور عن طريق الأسباب لا يعني تفويض أمر الكون إليها ، وقد وافاك حق القول في هذا الأمر ، عند البحث عن التوحيد في الربوبية والتدبير فلاحظ.

عشرها هنا ، ولكن للاطّلاع نذكر ونورد بعض هذه الآيات :

( إِنَّ رَبَّكُمْ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشَّمْسَ والقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَات بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (1).

( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ والأرضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الامْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمْ اللّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) (2).

* * *

إلى هنا بيّنا ثلاثة دوافع للإشراك باللّه في العبادة ولن ندّعي - مطلقاً - بأن لا يكون ثمة دافع آخر للشرك غير ما ذكرناه ، ولكن الدوافع التي ينتقدها القرآن الكريم تكون أساس نشوء الشرك وانتشاره في العالم.

إنّ المسلم المعتقد بإله الكون ، الإله الواحد ، الإله الحاضر في كل مكان ، القريب إلى عباده ، الإله الذي بيده الخلق المدبّر للكون بنفسه الذي لم يعط أمره ولم يفوضه إلى أحد.

إنّ المسلم مع هذا الاعتقاد ، لا يمكن أن يتخذ معبوداً سوى اللّه ، بل لا تكفي عبادته وحده ، إنّما يجب عليه أن يحارب عقائد الشرك والوثنية ، وأن لا يرضى بتجاوز أحد عن دائرة التوحيد لحظة واحدة.

* * *

ص: 438


1- الأعراف : 54.
2- يونس : 31 - 32.

وحول الدافع الثالث نذكّر بنكتة مهمة وهي : أنّه قد يمكن أن يعتقد أحد بأنّ أمر الكون كلّه لله ، ولم يسلّم هذا النوع من الأُمور إلى غيره ، ولكن يعتقد بأنّ الأُمور المعنوية التي ترتبط بأعمال العباد كالشفاعة والمغفرة مما تكون من الأُمور المختصة باللّه فإنّه يمكن أن يعطيها اللّه للأفراد ، وهذا هو أحد دوافع عبادة غير اللّه ، ولقد جعل القرآن الكريم : الشفاعة - بصراحة تامة - محض حق لله فلا يمكن لأحد أن يشفع بدون إذنه ، إذ يقول :

( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1).

كما جعل الغفران والمغفرة لذنوب عباده حقاً مختصاً به سبحانه لا يشاركه فيه أحد غيره ، ومن زعم أنّ المغفرة بيد غيره سبحانه فقد أشرك ، قال تعالى :

( فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ ) (2).

ولقد كان فريق من وثنيي عصر الرسالة يعبدون الأصنام التي كانوا يتصوّرون أنَّها من ذوي النفوذ عند اللّه ، وأنّها أُنيطت إليها أُمور الشفاعة والمغفرة.

وسوف نتحدث في البحوث القادمة حول هذا النوع من الشرك الذي هو أضعف أنواعه ، وإذا تبيّنت هذه الدوافع واتضحت لنا كيفية انتقاد القرآن الكريم لها يلزم أن نلتفت إلى ما يذكره أغلب كتّاب الوهابيين ومؤلّفيهم في كتبهم.

لم يزل مؤلفو الوهابية يعترفون بنوعين من التوحيد ، ويسمّون النوع الأوّل من التوحيد ب « التوحيد الربوبي » ويسمون النوع الآخر ب « التوحيد الالوهي » ثم يذكرون انّ التوحيد الربوبي ، والاعتقاد بوحدانية الخالق لا يكفي بمجرده في

ص: 439


1- الزمر : 44.
2- آل عمران : 135.

التوحيد الذي بعث الأنبياء والرسول الأعظم خاصة من أجل إقراره ونشره في المجتمع الإنساني ، بل يجب - علاوة على التوحيد الربوبي - أن يفرد اللّه بالعبادة ولا يشرك به أحد ، لأنّ مشركي العرب مع أنّهم كانوا يوحدون خالق الكون ويعتقدون بأنّه واحد لا أكثر ، فإنّ القرآن كان يعتبرهم مشركين ، إذ يقول :

( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ باللّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) (1). (2)

ولا كلام في هذا المطلب ، وليس من المسلمين أحد يتحلّى بالواقعية ينكر عدم كفاية التوحيد الربوبي وحده ، بل للتوحيد - كما أسلفنا - مراحل أربع وإن اقتصر الوهابيون على مرحلتين منها ونسوا أو تناسوا المرحلتين الأُخريين.

غير أنّ الجدير بالذكر هو : انّه لا يختلف أحد مع هؤلاء في هذه المسألة الكلية ، فالجميع متفقون على وجوب الاجتناب عن عبادة غير اللّه ، ولكن المهم هو أنّ الوهابيين يتصورن أنّ تعظيم الأنبياء ، وأولياء اللّه - مثلاً - عبادة ، في حين أنّ بين التعظيم والعبادة - في نظر الآخرين - بوناً شاسعاً وفرقاً كبيراً.

وبعبارة أُخرى : ليس بين المسلمين خلاف في هذا الأصل الكلي ، وهو عدم جواز عبادة غير اللّه أبداً ، وإنّما الخلاف هو في نظر الفرقة الوهابية إلى بعض الأعمال - كالزيارة مثلاً - حيث اعتبرتها عبادة ، في حين لا تكون هذه الأعمال عبادة في نظر الآخرين.

ص: 440


1- يوسف : 106.
2- فتح المجيد تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ( المتوفّى عام 1285 ه ) ص 12 و 20 ، وهذا الأمر يدرّس الآن في المناهج الدراسية عندهم ، ويؤكدون على هذين النوعين من التوحيد ثم يتهمون المسلمين بأنّهم موحدون ربوبياً لا الوهياً. وقد عرفت في ما مضی أنّ تسمية التوحيد في الخالقية بالتوحيد الربوبي، وتسمية التوحيد في العبادة بالتوحيد الالوهي خطأ من حيث اللغة ومصطلح القرآن فلاحظ الصفحة 431.

وبصيغة علمية لابد أن نقول : ليس الخلاف في الكلي وإنّما الخلاف هو في تعيين المصداق.

ولأجل حل هذه المشكلة لابد - أوّلاً - من التعرّف على المفهوم الواقعي للعبادة لنميّز في ضوء ذلك : العبادة عن غيرها.

وهكذا أيضاً يمكن الوقوف على حقيقة الحال في غير موضوع الزيارة من الأُمور التي يعدها الوهابيون من العبادة كالتوسّل بأولياء اللّه ، وطلب الحاجة منهم ، في حين يخالفهم المسلمون في ذلك ، فيجوّزون هذه التوسّلات ، ويعتبرونها نوعاً من الأخذ والتمسك بالأسباب ، الذي ورد في الشرع الشريف.

ص: 441

2

هل العبادة هي مطلق الخضوع أو التكريم ؟

اشارة

لأئمّة اللغة العربية في المعاجم تعاريف متقاربة للفظة العبادة ، فهم يفسرون العبادة بأنّها « الخضوع والتذلّل » وإليك فيما يلي نصَّ أقوالهم :

1. يقول ابن منظور في « لسان العرب » : أصل العبودية : الخضوع والتذلّل.

2. ويقول الراغب في « المفردات » : العبودية إظهار التذلّل ، والعبادة أبلغ منها ، لأنّها غاية التذلّل ، ولا يستحق إلاّ من له غاية الأفضال ، وهو اللّه تعالى ، ولهذا قال : ( أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيّاه ) (1) ».

3. وفي « القاموس المحيط » للفيروز آبادي : العبادة : الطاعة.

4. وقال ابن فارس في المقاييس : العبد له أصلان كأنّهما متضادان ، والأوّل من ذينك الأصلين يدل على لين وذل ، والآخر على شدة وغلظ.

ثم أتى بموارد المعنى الأوّل وقال :

من الباب الأوّل : البعير المعبد أي المهنوء بالقطران ، وهذا أيضاً يدل على ما

ص: 442


1- يوسف : 40 ، الإسراء : 23.

قلناه ، لأنّ ذلك يذلّه ويخفض منه. والمعبد : الذلول ، يوصف به البعير أيضاً.

ومن الباب : الطريق المعبد ، وهو المسلوك المذلّل.

بيد أنّ العبادة وإن فسروها بالطاعة والخضوع والتذلل ، أو إظهار نهاية التذلّل ، لكن جميع هذه التعاريف ما هي إلاّ نوع من التعريف بالمعنى الأعم ، لأنّ الطاعة والخضوع وإظهار التذلّل ليست - على وجه الإطلاق - عبادة ، لأنّ خضوع الولد أمام والده ، والتلميذ أمام أُستاذه ، والجندي أمام قائده ، لا يعد عبادة مطلقاً مهما بالغوا في الخضوع والتذلّل ، وتدل الآيات - بوضوح - على أنّ غاية الخضوع والتذلّل ، فضلاً عن كون مطلق الخضوع ، ليست عبادة ، ودونك تلك الآيات :

سجود الملائكة لآدم الذي هو من أعلى مظاهر الخضوع حيث قال سبحانه :

( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) (1).

فالآية تدل على أنّ آدم وقع مسجوداً للملائكة ، ولم يحسب سجودهم شركاً وعبادة لغير اللّه ، ولم تصر الملائكة بذلك العمل مشركة ، ولم يجعلوا بعملهم نداً لله وشريكاً في المعبودية ، بل كان عملهم تعظيماً لآدم وتكريماً لشأنه.

وهذا هو نفسه خير دليل على أنّه ليس كل تعظيم أمام غير اللّه عبادة له ، وأنّ جملة : ( اسْجُدُوا لآدَمَ ) وإن كانت متحدة مع جملة : ( اسْجُدُوا للهِ ) إلاّ أنّ الأوّل لا يعد أمراً بعبادة غيره سبحانه ويعد الثاني أمراً بعبادة اللّه (2).

ويمكن أن يتصور - في هذا المقام - أنَّ معنى السجود لآدم - في هذه الآية -

ص: 443


1- البقرة : 34.
2- وهذا يدل على أنّ الاعتبار إنّما هو بالنيات والضمائر لا بالصور والظواهر.

هو الخضوع له ، لا السجود بمعناه الحقيقي والمتعارف ، ومعلوم أنّ مطلق الخضوع ليس عبادة ، بل « غاية الخضوع » التي هي السجود ، هي التي تكون عبادة.

أو يمكن أن يتصوّر أنّ المقصود بالسجود لآدم هو جعله « قبلة » لا السجود له سجوداً حقيقياً.

ولكن كلا التصوّرين باطلان.

أمّا الأوّل فلأنّ تفسير السجود في الآية بالخضوع خلاف الظاهر ، والمتفاهم العرفي إذ المتبادر من هذه الكلمة - في اللغة والعرف - هو الهيئة السجودية المتعارفة لا الخضوع ، كما أنّ التصوّر الثاني هو أيضاً باطل ، لأنّه تأويل بلا مصدر ولا دليل.

هذا مضافاً إلى أنّ آدم علیه السلام لو كان قبلة للملائكة لما كان ثمة مجال لاعتراض الشيطان ، إذ قال :

( ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) (1).

لأنّه لا يلزم - أبداً - أن تكون القبلة أفضل من الساجد ليكون أي مجال لاعتراضه ، بل اللازم هو : كون المسجود له أفضل من الساجد ، في حين أنّ آدم لم يكن أفضل في نظر الشيطان منه ، وهذا ممّا يدلّ على أنّ الهدف هو السجود لآدم.

يقول الجصاص : ومن الناس من يقول إنّ السجود كان لله وآدم بمنزلة القبلة لهم ، وليس هذا بشيء ، لأنّه يوجب أن لا يكون في ذلك حظ من التفضيل والتكرمة ، وظاهر ذلك يقتضي أن يكون آدم مفضلاً مكرماً ، ويدل على أنّ الأمر بالسجود قد كان أراد به تكرمة آدم علیه السلام وتفضيله ، قول إبليس فيما حكى اللّه عنه :

ص: 444


1- الإسراء : 61.

( ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ) (1) ، فأخبر إبليس أنّ امتناعه من السجود لأجل ما كان من تفضيل اللّه وتكرمته بأمره إيّاه بالسجود له ، ولو كان الأمر بالسجود له على أنّه نصب قبلة للساجدين من غير تكرمة له ولا فضيلة لما كان لآدم في ذلك حظ ولا فضيلة تحسد كالكعبة المنصوبة للقبلة (2).

وعلى هذا فمفهوم الآية هو أنّ الملائكة سجدوا لآدم بأمر اللّه سجوداً واقعياً ، وانّ آدم أصبح مسجوداً للملائكة بأمر اللّه ، وهنا أظهر الملائكة من أنفسهم غاية الخضوع أمام آدم ، ولكنهم - مع ذلك - لم يكونوا ليعبدوه.

وما ربما يتصور من أنّ سجود الملائكة لما كان بأمره سبحانه صح سجودهم له ، إنّما الكلام في الخضوع الذي لم يرد به أمر ، فسيوافيك الجواب عن هذا الاحتمال الذي يردّده كثير من الوهابيين في المقام.

انّ القرآن يصرح بأنّ أبوي يوسف وإخوته سجدوا له ، حيث قال :

( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وقَالَ يَا أَبَتِ هذَا تَأْويلُ رُؤيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقّاً ) (3).

ورؤياه التي يشير إليها القرآن في هذه الآية هو ما جاء في مطلع السورة :

( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) (4).

وقد تحققت هذه الرؤيا بعد سنوات طويلة في سجود أخوة يوسف وأبويه

ص: 445


1- الإسراء : 61 - 62.
2- أحكام القرآن : 1 / 302.
3- يوسف : 100.
4- يوسف : 4.

له ، وعبَّر القرآن - في كل هذه الموارد - بلفظ السجود ليوسف.

ومن هذا البيان يستفاد - جلياً - أنّ مجرد السجود لأحد بما هو هو مع قطع النظر عن الضمائم والدوافع ليس عبادة ، والسجود كما نعلم هو غاية الخضوع والتذلّل.

3. يأمر اللّه تعالى بالخضوع أمام الوالدين وخفض الجناح لهم ، الذي هو كناية عن الخضوع الشديد ، إذ يقول :

( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (1).

ومع ذلك لا يكون هذا الخفض : عبادة.

4. إنّ جميع المسلمين يطوفون - في مناسك الحج - بالبيت الذي لا يكون إلاّ حجراً وطيناً ، ويسعون بين الصفا والمروة وقد أمر القرآن الكريم بذلك ، حيث قال :

( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ ) (2).

( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) (3).

فهل ترى يكون الطواف بالتراب والحجر والجبل (4) عبادة لهذه الأشياء ؟

ص: 446


1- الإسراء : 24.
2- الحج : 29.
3- البقرة : 158.
4- المسلمون كلهم يستلمون الحجر الأسود - في الحج - واستلام الحجر الأسود من مستحبات الحج ، وهذا العمل يشبه من حيث الصورة ( لا من حيث الواقعية ) أعمال المشركين تجاه أصنامهم في حين انّ هذا العمل يعد في صورة شركاً ، وفي أُخرى لا يعد شركاً بل يكون معدوداً من أعمال الموحدين المؤمنين ، وهذا يؤيد ما ذكرناه آنفاً من أنّ الملاك هو النيات والضمائر لا الصور والظواهر وإلاّ فهذه الأعمال بصورها الظاهرية لا تفترق عن أعمال الوثنيين.

ولو كان مطلق الخضوع عبادة لزم أن تكون جميع هذه الأعمال ضرباً من الشرك المجاز المسموح به ، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

5. انّ القرآن الكريم يأمر بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلّى عندما يقول : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهيمَ مُصَلّىً ) (1).

ولا ريب في أنّ الصلاة إنّما هي لله ، ولكن إقامتها في مقام إبراهيم الذي يرى فيه أثر قدميه أيضاً نوع من التكريم لذلك النبي العظيم ولا يتصف هذا العمل بصفة العبادة مطلقاً (2).

6. إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للمؤمن والتعزّز على الكافر كما يقول سبحانه :

( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنينَ أَعِزةٍ عَلَى الكَافِرينَ ) (3).

إنّ مجموع هذه الآيات من جانب ومناسك الحج وأعماله من جانب آخر تدل على أنّ مطلق الخضوع والتذلّل ، أو التكريم والاحترام ليس عبادة ، وإذا ما رأينا أئمّة اللغة فسّروا العبادة بأنّها الخضوع والتذلّل كان هذا من التفسير بالمعنى الأوسع ، أي أنّهم أطلقوا اللفظة وأرادوا بها المعنى الأعم ، في حين أنّ العبادة ليست إلاّ نوعاً خاصاً من الخضوع سنذكره عما قريب.

ص: 447


1- البقرة : 125.
2- ثم إنّ بعض من يفسر العبادة بمطلق الخضوع يجيب عن الاستدلال بهذه الآيات بأنّ السجود لآدم أو ليوسف حيث كان بأمر اللّه سبحانه فبذلك خرج عن كونه شركاً. وسنرجع إلی هذا البحث تحت عنوان «هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير الشرك»؟ فلاحظ.
3- المائدة : 54.

ومن هذا البيان يمكن أيضاً أن نستنتج أنّ تكريم أحد واحترامه ليست - بالمرة - عبادة ، لأنّه في غير هذه الصورة يلزم أن نعتبر جميع البشر حتى الأنبياء مشركين ، لأنّهم أيضاً كانوا يحترمون من يجب احترامه.

وقد أشار المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( وهو أوّل من أدرك - في عصره - عقائد الوهابية وأخضعها للتحليل ) أشار إلى ما ذكرنا ، إذ قال :

لا ريب أنّه لا يراد بالعبادة التي لا تكون إلاّ لله ، ومن أتى بها لغير اللّه فقد كفر ، مطلق الخضوع والانقياد كما يظهر من كلام أهل اللغة ، وإلاّ لزم كفر العبيد والأُجراء وجميع الخدّام للأُمراء ، بل كفر الأنبياء في خضوعم للآباء (1).

تمييز المعنى الحقيقي عن المجازي

نعم ربما تستعمل لفظة العبادة وما يشتق منها في موارد في العرف واللغة ، ولكن استعمال لفظ في معنى ليس دليلاً على كونه مصداقاً حقيقياً لمعنى اللفظ ، بل قد يكون من باب تشبيه المورد بالمعنى الحقيقي لوجود مناسبة بينهما ، وإليك هذه الموارد :

1. العاشق الولهان الذي يظهر غاية الخضوع أمام معشوقته ، ويفقد تجاه طلباتها عنان الصبر ، ومع ذلك لا يسمّى مثل هذا الخضوع عبادة ، وإن قيل في حقّه مجازاً انّه يعبد المرأة.

2. الأشخاص الذين يأسرهم الهوى فيفلت من أيديهم - تحت نداءات

ص: 448


1- راجع منهج الرشاد : 24 ، طبع 1343 ه تأليف الشيخ الأكبر المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( المتوفّى عام 1228 ه ). وقد ألّف المرحوم هذا الكتاب في معرض الإجابة على رسالة من أحد أُمراء السعودية الذين كانوا مروّجي الوهابية منذ أول يوم إلى زماننا هذا.

النفس الأمّارة - زمام الاختيار لا يمكن اعتبارهم عبدة واقعيين للهوى ، ولا عدهم مشركين ، كمن يعبد الوثن ، ولو قيل في شأنه أنّه يعبد هواه ، فإنّ ذلك نوع من التشبيه وضرب من التجوّز.

فها هو القرآن يسمي الهوى إلهاً ، ويلازم ذلك كون الخضوع للهوى : عبادة له ، لكن مجازاً ، إذ يقول :

( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ) (1).

فكما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى نوع من التجوّز ، فكذا إطلاق العبادة على متابعة الهوى هو أيضاً ضرب من المجاز.

3. هناك فريق من الناس يضحّون بكل شيء في سبيل الحصول على جاه ومنصب ، حتى ليقول الناس في حقّهم : إنّهم يعبدون الجاه والمنصب ، ولكنّهم في نفس الوقت لا يعدّون عبدة حقيقيّين للجاه ، ولا يصيرون بذلك مشركين.

4. انّ المتوغّلين في العنصرية - كبني إسرائيل - وفي الأنانية ، الذين لا يهمّهم إلاّ المأكل والمشرب رغم أنّهم يطلق عليهم بأنّهم عباد العنصر والنفس والشيطان ، ولكن الوجدان يقضي بأنّ عملهم لا يكون عبادة ، وأنّ اتباع الشيطان شيء وعبادته شيء آخر.

وإذا ما رأينا القرآن الكريم يسمّي طاعة الشيطان « عبادة » ، فذلك ضرب من التشبيه ، والهدف منه هو بيان قوة النفرة وشدّة الاستنكار لهذا العمل ، إذ يقول :

( ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (2).

ص: 449


1- الفرقان : 43.
2- يس : 60 - 61.

ومثل هذه الآية الآيتان التاليتان :

1. ( يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيّاً ) (1).

2. ( أَنُؤمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ) (2).

لا شك في أنّ بني إسرائيل ما كانت تعبد فرعون وملأه ، غير أنّ استذلالهم لمّا بلغ إلى حد شديد صح أن يطلق عليه عنوان العبادة على نحو المجاز.

والقرآن وإن أطلق على هذه الموارد عنوان العبادة ، لكن لا بمعنى أنّه جعلهم في عداد المشركين ، فلا يمكن التصديق بأنّ كل خضوع وطاعة وكل تكريم واحترام « عبادة » ، وعند ذاك يستكشف أن استعمالها في هاتيك الموارد بعناية خاصة ، وعلاقة مجازية.

وبعبارة أُخرى : أنّ عبّاد الهوى والنفس والجاه و ... وإن كانوا يعتبرون مذنبين ، تنتظرهم أشدُّ العقوبات إلاّ أنّه لا يكونون في عداد المشركين في العبادة الذين لهم أحكام خاصة في الفقه الإسلامي.

كيف لا ، ونحن نقرأ في الحديث الشريف :

« من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان ينطق عن اللّه فقد عبد اللّه ، وإن كان ينطق عن غير اللّه فقد عبد غير اللّه » (3).

فالناس يستمعون اليوم إلى وسائل الإعلام ويصغون إلى أحاديث المتحدّثين والمذيعين من الراديو والتلفزيون ، وأكثر أُولئك المتحدّثين ينطقون عن غير اللّه ، فهل يمكن لنا أن نصف كل من يستمع إلى تلك الأحاديث بأنّهم عبدة لأُولئك

ص: 450


1- مريم : 44.
2- المؤمنون : 47.
3- سفينة البحار : ج 2 مادة عبد.

المتحدّثين ؟

بل الصحيح هو أن نعتبر استعمال لفظ العبادة في مثل هذه الموارد نوعاً من التجوّز ، لأجل وجود المناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

فلطالما يتردد في لسان العرف بأنّ فلاناً عبد البطن أو عبد الشهوة فهل يكون هؤلاء - حقاً - عبدة البطن والشهوة ، أو لأنّ الخضوع المطلق تجاه نداءات الشهوات النفسانية حيث كان شبيهاً بالخضوع المطلق الذي يمثله الموحّدون أمام خالق الكون ، أطلق عنوان العبادة على هذه الموارد.

هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك ؟

ربما يقال أنّ سجود الملائكة لآدم ، واستلام الحجر الأسود ، وما شابههما من الأعمال لما كان بأمر اللّه ، لا يكون شركاً ، ولا يعد فاعلهاً مشركاً (1).

وبعبارة أُخرى : أنّ حقيقة العبادة وإن كانت الخضوع والاحترام ، ولكن لما كانت تلك الأعمال مأتياً بها بأمره سبحانه تعد عبادة للآمر لا لسواه.

ولكن القائل ومن تبعه يغفلون عن نقطة مهمة جداً ، وهي :

إنّ تعلق الحكم بموضوع لا يغيّر - بتاتاً - حقيقة ذلك الموضوع ، ولا يوجب تعلّق الأمر الإلهي به تبدل ماهيته.

إنّ العقل السليم يقضي بأنّ سب أحد وشتمه إهانة له - طبعاً - وذلك شيء تقتضيه طبيعة السباب والفحش والشتم ، فإذا أوجب اللّه سب أحد وشتمه - فرضاً - فإنّ أمر اللّه لا يغيرّ ماهية السب والشتم - أبداً -.

ص: 451


1- القائل هو الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي في محاورته مع بعض الأفاضل.

كما أنّ الضيافة وإقراء الضيف بطبيعتهما تكريم للوافد ، واحترام للضيف ، فإذا حرمت ضيافة شخص لم تتبدّل ماهية العمل ، أعني : الضيافة التي كانت بطبيعتها احتراماً ، لتصير إهانة في صورة تحريمها ، بل تبقى ماهية الضيافة على ما كانت عليه ولو تعلّق بها تحريم ، فإذا عُدّت أعمال - كالسجود واستلام الحجر الأسود وما شابههما - عبادة ذاتاً ، فإنّ الأمر الإلهي لا يغيّر ماهيتها ، فلا تخرج من حال كونها عبادة لآدم أو يوسف أو الحجر ، وما يقوله القائل من أنّها عبادة ذاتاً وطبيعة ، ولكن حيث تعلّق بها الأمر الإلهي خرجت عن الشرك ، يستلزم أن تكون هذه الأعمال من الشرك المجاز ، وهو قول لا يقبله أي إنسان.

والخلاصة : أنّ المسألة تدور مدار أمّا أن نعتبر هذه الأعمال خارجة - بطبيعتها - عن مفهوم الشرك ، أو أن نقول إنّها من مصاديق الشرك في العبادة ، ولكنّها شرك أذن اللّه به وأجازه !!

والقول الثاني على درجة من البطلان بحيث لا يمكن أن يحتمله أحد فضلاً عن الذهاب إليه ، وسيوافيك أنّ بعض الأعمال يمكن أن تكون باعتبار تعظيماً وتواضعاً ، وباعتبار آخر شركاً ، فلو كانت الملائكة - مثلاً - تسجد لآدم باعتقاد أنّه إله كان عملهم شركاً قطعاً ، وإن أمر اللّه به - على وجه الافتراض - ، وأمّا إذا كانت تسجد بغير هذا الاعتقاد لم يكن فعلها شركاً حتى لو لم يأمر به المولى جل شأنه.

نعم ورد في بعض الروايات - وإن لم يتحقق سنده - عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام أنّه لما سئل أيصلح السجود لغير اللّه ؟

فقال : « لا ».

قيل : فكيف أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم ؟

ص: 452

فقال : « إنّ من سجد بأمر اللّه فقد سجد لله إذ كان عن أمر اللّه تعالى » (1).

فإنّ المقصود من هذه الرواية - على فرض صحتها سنداً - هو أنّ السجود كان تعظيماً لآدم وتكريماً له ، وهو في الحقيقة عبادة لله لكونه بأمره.

وتوضيحه أنّ نفس العمل ( أعني : السجود ) كان تعظيماً لآدم غير أنّ الإتيان بهذا العمل حيث كان لامتثال أمر اللّه كان عبادة له سبحانه ، بحيث لولا أمره تعالى لكان العمل - في حد نفسه - جائزاً لكونه تعظيماً ، ونظيره تعظيم العالم واحترامه ، فإنّه لا بداعي أمره سبحانه تعظيم للعالم فقط ، وبداعي الأمر تعظيم له وطاعة لله سبحانه ، وهذا غير القول بأنّ ذات العمل كان شركاً ، ولكن أمر اللّه استلزم تغيره فلم يعد شركاً.

ويؤيد ما قلناه ما عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه علیهم السلام أنّ يهودياً سأل أمير المؤمنين ( علياً علیه السلام ) عن سجود الملائكة لآدم ، فقال الإمام في جوابه :

« إنّ سجودهم [ أي الملائكة ] لم يكن سجود طاعة [ بمعنى ] أنّهم عبدوا آدم من دون اللّه عزّ وجلّ ، ولكن اعترافاً لآدم بالفضيلة » (2).

وأيضاً ما جاء عن الإمام الرضا علي بن موسى بن جعفر ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين ( علي ) علیهم السلام قال :

« قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كان سجودهم لله عز وجلّ ولآدم إكراماً » (3).

وبهذا تبيّن انّ السجود كان - بطبيعته - تعظيماً لآدم وتكرمة له ، وهو في

ص: 453


1- الاحتجاج للطبرسي : 31 - 32.
2- الاحتجاج للطبرسي : 111.
3- عيون الأخبار : 45. نعم لا يوافق مضمون هذا الحديث مضمون ما تقدم من الحديثين حيث إن ما تقدمه جعل السجود لآدم، وهذا جعله اللّه سبحانه ، نعم ما يشتركان فيه هو أنّ السجود كان إكراماً وتعظيماً لآدم، ولأجل ذلك ذكرنا الأحاديث في مقام واحد.

الحقيقة عبادة لله تعالى لكونه بأمره وهو مختار جماعة من المفسّرين.

وتبيّن من ذلك أنّ الأمر الإلهي لا يغيّر ماهية هذا العمل ، بل ما يقترن به من الاعتقاد هو الدخيل في كونه شركاً أو لا.

ومن هذا البيان أيضاً علم مفاد الرواية المروية عن الإمام الصادق علیه السلام التي نقلناها عما قريب.

نعم أنّ للأمر الإلهي فائدة هي : أنّه لو نسب أحد أفعاله إلى الأمر الإلهي وأتى بها على أنّها فريضة أو سنّة مندوبة شرعاً ، وجعلها جزءاً من شريعته وكان الواقع يؤيد تلك النسبة ، خرج عمله عن موضوع البدعة ، وخرج هو عن كونه مبتدعاً في الدين ، لأنّ « البدعة : إدخال ما ليس من الدين في الدين ».

لقد كان الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي يحاول توجيه صحة وشرعية هذه الاحترامات بورود الأمر الإلهي بشأنها ، ويستشهد بما قاله عمر بن الخطاب حول الحجر الأسود ، إذ قال - ما مضمونه - : إني أعلم أنّك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أنّي رأيت النبي صلی اللّه علیه و آله يقبّلك لما قبّلتك (1).

وقد قيل للشيخ : إنّ مفاد كلامكم هو أن تكون هذه الأفعال من الشرك المجاز إذن ؟

ونلفت نظر الشيخ إلى الآية الكريمة : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (2).

فلو كانت ماهية السجود لآدم علیه السلام واستلام الحجر الأسود عبادة لآدم والحجر وشركاً لما كان اللّه سبحانه يأمر بها - أبداً -.

ص: 454


1- صحيح البخاري : 3 / 149 ، كتاب الحج ، طبعة عثمان خليفة.
2- الأعراف : 38.

3

العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بإلوهية المعبود وربوبيته واستقلاله في فعله

اشارة

لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء والأرض ، فهو مع وضوح مفهومه يصعب التعبير عنه بالكلمات رغم حضور هذا المفهوم في الأذهان ، والعبادة كما هي واضحة مفهوماً ، فهي واضحة - كذلك - مصداقاً بحيث يسهل تمييز مصاديقها عن مصاديق التعظيم والتكريم وغيرهما من المفاهيم ، فتقبيل العاشق الولهان دار معشوقته ، واحتضان ثيابها شوقاً ، أو تقبيل تراب قبرها بعد الموت ، لا يدعى عبادة للمعشوقة.

كما أنّ ذهاب الناس إلى زيارة من يعنيهم من الشخصيات ، والوفود إلى مقابرهم لزيارتها والوقوف أمامها احتراماً ، وإجراء مراسم وطقوس خاصة لديها لا يعد عبادة - أبداً - وإن كانت هذه الأفعال تبلغ - في بعض الأحايين - من حيث شدّة الخضوع إلى درجة كبيرة ، إنّ الضمائر اليقظة هي وحدها تقدر على أن تكون الحكم العدل - في مثل هذا البحث - لتمييز الاحترام والتعظيم عن العبادة ، دون حاجة إلى تكلّف ، ولكن إذا تقرر أن نعرّف العبادة بتعريف موضوعي أمكننا أن

ص: 455

نعرّفها بثلاثة تعاريف :

التعريف الأوّل

العبادة : هي الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد ب « إلوهية » المخضوع له ; وسيوافيك معنى « الإلوهية ».

وآيات كثيرة تدل على هذا التفسير ، فمن ملاحظة هذه الآيات يتضح لنا أمران :

الأوّل : انّ العرب الجاهليين الذين نزل القرآن في أوساطهم وبيئاتهم كانوا يعتقدون بالوهية معبوداتهم.

الثاني : أنّ العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئين من الاعتقاد بإلوهية المعبود ، وانّه ما لم ينشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد لا يكون الخضوع أو التعظيم والتكريم عبادة.

فهنا دعويان :

الأُولى : انّ العرب الجاهليين بل الوثنيين كلّهم وعبدة الشمس والكواكب والجن ، كانوا يعتقدون بإلوهية معبوداتهم ، ويتخذونهم آلهة صغيرة وفوقهم « الإله الكبير » الذي نسمّيه « اللّه » سبحانه.

الثانية : انّ الظاهر من الآيات هو انّ العبادة عبارة عن الخضوع المحكي بالقول والعمل الناشئين من الاعتقاد بالإلوهية ، إلوهية صغيرة أو كبيرة.

أمّا الدعوى الأُولى ، فتدل عليها آيات كثيرة نشير إلى بعضها :

ص: 456

يقول سبحانه :

( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (1).

( وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ ) (2).

( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) (3).

( أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخرى ) (4).

( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً ) (5).

فهذه الآيات تشهد على أنّ دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية أصنامهم ، وقد فسر الشرك في بعض الآيات باتخاذ الإله مع اللّه ، وذلك عندما يقول سبحانه : ( وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (6).

ولذلك يفسر القرآن حقيقة الشرك ب « اعتقادهم بإلوهية معبوداتهم » ، إذ قال سبحانه : ( أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (7).

ص: 457


1- الحجر : 96.
2- الفرقان : 68.
3- مريم : 81.
4- الأنعام : 19.
5- الأنعام : 74.
6- الحجر : 94 - 96.
7- الطور : 42.

ففي هذه الآية جعل اعتقادهم بإلوهية غير اللّه هو الملاك للشرك ، والمراد هنا « الشرك في العبادة ».

وبمراجعة هذه الآيات ونظائرها التي تعرضت لموضوع الشرك وبالأخص لموضوع شرك الوثنيين تتجلى هذه الحقيقة - بوضوح تام - أنّ عبادتهم كانت مصحوبة مع الاعتقاد بإلوهيتها ، بل يمكن استظهار أن شركهم كان لأجل اعتقادهم بإلوهية معبوداتهم ، ولأجل ذاك الاعتقاد كانوا يعبدونهم ويقدّمون لهم النذور والقرابين وغيرهما من التقاليد والسنن العبادية ، وبما أنّ كلمة التوحيد تهدم عقيدتهم بإلوهية غيره سبحانه ، كانوا يستكبرون عند سماعه كما قال سبحانه :

( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلا اللّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) (1).

أي يرفضون هذا الكلام لأنّهم يعتقدون بإلوهية معبوداتهم ويعبدونها لأجل أنّها آلهة - حسب تصوّرهم -.

ولأجل تلك العقيدة السخيفة كانوا إذا دعي اللّه وحده كفروا به لأنّهم لا يحصرون الإلوهية به وإذا أشرك به آمنوا ، لانطباقه على فكرتهم كما قال سبحانه :

( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ للهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ ) (2).

إلى هنا ظهرت الدعوى الأُولى بوضوح وجلاء.

وأمّا الدعوى الثانية فتدل عليها الآيات التي تأمر بعبادة اللّه ، وتنهى عن عبادة غيره ، مدللاً ذلك بأنّه لا إله إلاّ اللّه ، إذ يقول :

( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَالَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرَهُ ) (3).

ص: 458


1- الصافات : 35.
2- غافر : 12.
3- الأعراف : 59.

ومعنى ذلك أنّ الذي يستحق العبادة هو من كان إلهاً ، وليس هو إلاّ اللّه ، وعندئذ فكيف تعبدون ما ليس بإله ؟! وكيف تتركون عبادة اللّه وهو الإله الذي يجب أن يُعبد دون سواه ؟!

وقد ورد مضمون هذه الآية في (10) موارد أو أكثر في القرآن الكريم ، ويمكن للقارئ الكريم أن يراجع - لذلك - الآيات التالية :

الأعراف : 65 ، 73 ، 85 ، هود : 50 ، 61 ، 84 ، الأنبياء : 25 ، المؤمنون : 23 ، 32 ، طه : 14.

فهذه التعابير ( التي هي من قبيل تعليق الحكم على الوصف ) تفيد أنّ العبادة هي ذلك الخضوع والتذلّل النابعين من الاعتقاد بإلوهية المعبود ، إذ نلاحظ - بجلاء - كيف أنّ القرآن استنكر على المشركين عبادة غير اللّه بأنّ هذه المعبودات ليست آلهة ، وإنّ العبادة من شؤون الإلوهية ، فإذا وجد هذا الوصف ( أي وصف الإلوهية ) في الطرف جاز عبادته واتخاذه معبوداً ، وحيث إنّ هذا الوصف لا يوجد إلاّ في اللّه سبحانه لذلك يجب عبادته دون سواه.

سؤال وجواب

أمّا السؤال فهو أنّه لا شك أنّ الدعوى الأُولى ثابتة ، فالمشركون كانوا معتقدين بإلوهية الأوثان ، وما أورد من الآيات قد أثبتت ذلك بوضوح ، غير أنّ الدعوى الثانية غير ثابتة ، وقصارى ما يستفاد من هذه الآيات هو أنّ عبادتهم كانت ناشئة من الاعتقاد بالوهيتها ، وهذا لا يدل على دخول مفهوم الإلوهية في مفهوم العبادة كما هو المدّعى ، أو دخول كون النشوء عن ذلك الاعتقاد ، في مفهومها.

ص: 459

وعلى الجملة فهذه الآيات لا تدل على أكثر من أنّ عبادتهم للأوثان كانت مصحوبة بهذا الاعتقاد أو ناشئة عنه.

وأمّا كون العبادة موضوعة للخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية ، بحيث يكون النشوء عن تلك العقيدة جزءاً لمعنى العبادة فلا يستفاد من الآيات.

وأمّا الجواب فنقول : إنّما يرد الإشكال لو قلنا بأنّ « الاعتقاد بالإلوهية » داخل في « مفهوم العبادة » وضعاً ، حتى يقال انّ هذه الآيات لا تعطي أزيد من أنّ العبادة من شؤون الإلوهية ، وهذا غير القول باندراج مفهوم الإلوهية في مفهوم العبادة ، إنّما المراد أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع والتذلّل ، بل أضيق وأخص منهما وهذا أمر يعرفه كل إنسان بوجدانه وفطرته ، غير أنّنا نشير إلى هذه الخصوصية ونميز هذا الضيق بأنّه خضوع « ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية أو الربوبية » كما سيوافيك في التعريف الثاني ، لا أنّ هذه الجملة ( ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية والربوبية ) داخلة بتفصيلها في مفهوم العبادة ، ومعناها.

وبعبارة أُخرى : إنّ الإنسان قد لا يقدر على تعريف شيء بنوعه وفصله ، أو حدّه ورسمه حتى يحدّه تحديداً عقليّاً لا خدشة فيه ، ولكنّه يجد في نفسه ما هو بمنزلة الجنس والفصل فيضعهما مكان الجنس والفصل الواقعيين ، والأمر فيما نحن فيه كذلك ، إذ نجد أنّ التعظيم والخضوع والتذلّل وما أشبههما أمر مشترك بين العبادة وغيرها فيتصوّره بمنزلة الجنس لها ، ويجد أنّ العبادة تتميز بخصوصية عن غيرها ، ولكنه لا يقدر على بيان تلك الخصوصية بلفظ بسيط فيتوسل بوضع جملة مكانه وهي ما ذكرناها : « ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية » ويضعها مكان الفصل.

وبعبارة ثالثة : انّ الإنسان يجد أنّ « العبادة » ليست مطلق التعظيم ونهاية

ص: 460

التذلّل ، بل هي من خصائص من بيده شؤون الإنسان كلها ، أو شأناً من شؤونه مما به قوام حياته عاجلاً أو آجلاً من الموت والحياة ، والخلق والرزق ، والسعادة والشقاء ، والمغفرة والشفاعة ، فيدير شؤونه ويخطط مصيره حسب ما يليق به.

غير أنّ هذه الجمل ليست بتفصيلها داخلة في « مفهوم » العبادة. ولكنّه يشار إلى تلك الخصوصية الكامنة والضيق الموجود فيها ، بهذه الجمل والتفاصيل ، وحاشا أن تؤخذ هاتيك الجمل فيها بطولها.

وعلى ذلك فيصح أن يقال : العبادة قسم خاص من التواضع والخضوع لفظياً أو عملياً ، ( يؤتى به لتعظيم ما يعتقده العابد بإلوهيته ) ، وما وقع بين الهلالين وإن كان خارجاً عن مفهوم العبادة ، إلاّ أنّه يبيّن ماهو المقصود من القسم الخاص من الخضوع في أوّل العبارة.

ولذلك نظائر في العرف والعادة ، مثلاً :

1. يعرف القوس بأنّه قطعة من الدائرة ، ولا شك أنّه من باب زيادة الحد على المحدود ، إذ لا يعتبر في صدق القوس كونه قطعة من الدائرة ، بل هو يصدق وإن لم يكن قطعة منها ( أي من الدائرة ) ، إذ هو ( أي القوس ) عبارة عن سطح يحيط به خيط مستدير ينتهي طرفاه بنقطتين ، من غير اعتبار كونه بعضاً من الدائرة.

إلاّ أنّ أخذ هذا القيد ، ( أعني : كونه بعض الدائرة ، من باب بيان الخصوصية الموجودة فيه بحيث لو انضم إليه قوس آخر لتحقّقت الدائرة.

2. إنّ اللغويين يفسرون الصهيل بأنّه صوت الفرس ، والزقزقة بأنّها صوت العصفور ، فليس الفرس والعصفور داخلين في مفهومهما البسيطين ، وإنّما جيء

ص: 461

بقيد الفرس والعصفور ، للإشارة إلى تعيين صوت خاص.

* * *

إلى هنا اتضح أنّ الحق في التعريف هو أن يقال : العبادة هي الخضوع النابع عن الاعتقاد بإلوهية المعبود ، وإلى ذلك يشير آية اللّه الحجة المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي ، في تفسيره المسمّى ب « آلاء الرحمن » في معرض تفسيره وتحليله لحقيقة العبادة : العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالإلوهية (1).

لقد صب العلاّمة البلاغي ما يدركه فطرياً للعبادة في قالب الألفاظ والبيان. والآيات المذكورة تؤيد صحة هذا التعريف واستقامته.

التعريف الثاني

العبادة هي الخضوع أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شؤون وجوده وحياته وآجله وعاجله.

وتوضيح ذلك : انّ العبودية من شؤون المملوكية ومن مقتضياتها ، فعندما يحس العابد في نفسه بنوع من المملوكية ، ويحس في الطرف الآخر بالمالكية ، يفرغ إحساسه هذا - في الخارج - في ألفاظ وأعمال خاصة ، وتصير الألفاظ والأعمال تجسيداً لهذا الإحساس ، ويكون كل عمل أو لفظ مظهراً لهذا الإحساس العميق عبادة ، ولا شك أنّ المقصود بالمالكية ليس مطلق المالكية ، فالاعتقاد بالمالكية القانونية والاعتبارية لا يكون - أبداً - موجباً لصيرورة الخضوع عبادة ، إذ أنّ البشر

ص: 462


1- آلاء الرحمن : 57 طبعة صيدا ، وقد طبع من هذا التفسير جزءان فقط.

في عصور : « العبوديات الفردية » بالأمس ، وكذا في عصر : « العبودية الجماعية » الحاضر لا يعد امتثاله لأوامر أسياده عبادة ، فلابد أن يكون المقصود من المملوكية - هنا - هي القائمة على أساس الخلق والتكوين وأنّ شأناً من شؤون حياته في قبضته.

وإليك بيان مناشئ أنواع المالكيات الحقيقية :

1. قد يوصف بالمالكية لكونه خالقاً ، ولذلك يكون اللّه سبحانه مالكاً حقيقياً للبشر ، لأنّه خالقه ، وموجده من العدم ، ولهذا نجد القرآن الكريم يعتبر جميع الموجودات الشاعرة - مثلاً - عبيداً لله ، ويصفه تعالى بأنّه مالكها الحقيقي وذلك لأنّه خلقها إذ يقول :

( إِن كُلُّ مَنْ فِي السَّماوَاتِ والأرضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ) (1).

ولأجل ذلك أيضاً نجده يأمرهم بعبادة نفسه معلّلاً بأنّه هو ربّهم الذي خلقهم دون سواه ، إذ يقول :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (2).

( ذَلِكُمْ اللّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) (3).

2. وقد يوصف بالمالكية لكونه رازقاً ومحيياً ومميتاً ، ولذلك يحس كل بشر سليم الفطرة بمملوكيته لله تعالى ، لأنّه مالك حياته ومماته ورزقه ، ولهذا يلفت القرآن نظر البشر إلى مالكية اللّه لرزق الإنسان وانّه تعالى هو الذي يميته ، وهو

ص: 463


1- مريم : 93.
2- البقرة : 21.
3- الأنعام : 102.

الذي يحييه ، ليلفته من خلال ذلك إلى أنّ اللّه هو الذي يستحق العبادة فحسب ، إذ يقول :

( اللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) (1).

( هَل لَكُمْ مِن مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِن شُرَكَاءُ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ) (2).

( هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) (3).

3. وقد يوصف بها لكون الشفاعة والمغفرة بيده ، وحيث إنّ اللّه تعالى هو المالك للشفاعة المطلقة : ( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (4) ، ولمغفرة الذنوب ( وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ ) (5) ، بحيث لا يملك أن يشفع أحد لأحد من العباد إلاّ بإذنه ، لذلك يشعر الإنسان العادي في قرارة ضميره بأنّ اللّه سبحانه مالك مصيره من حيث السعادة الأُخروية ، وإذا أحس إنسان بمملوكية كهذه ومالكية مثل تلك ثم جسد هذا الإحساس في قالب اللفظ أو العمل فإنّه يكون بذلك عابداً له دون ريب.

وإلى ذلك يرجع ما ربما يفسر العبادة بأنّها الخضوع أمام من يعتقد بربوبيته ، فمن كان خضوعه العملي أو القولي أمام أحد نابعاً من الاعتقاد بربوبية ذلك الطرف كان بذلك عابداً له.

قال آية اللّه السيد الخوئي في تفسير العبادة بأنّه : إنّما تتحقّق العبادة

ص: 464


1- الروم : 40.
2- الروم : 28.
3- يونس : 56.
4- الزمر : 44.
5- آل عمران : 135.

بالخضوع لشيء على أنّه ربٌّ يعبد (1).

فالمقصود من لفظة « الرب » في التعريف هو المالك لشؤون الشيء المتكفّل لتدبيره وتربيته ، وقد أوضحنا معنى الرب في الفصل الثامن.

وعلى ذلك تكون لفظة العبودية في مقابل لفظة الربوبية ، أي مالكية تربية الشيء وتدبيره ، ومصيره عاجلاً وآجلاً.

ويدل على ذلك أنّ قسماً من الآيات تعلّل الأمر بحصر العبادة في اللّه وحده بأنّه الرب لا غير ، وإليك بعض هذه الآيات :

( وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) (2).

( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (3).

( إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (4).

وقد ورد مضمون هذه الآيات ، أعني : جعل العبادة دائرة مدار الربوبية ، في آيات أُخرى هي :

يونس : 3 ، الحجر : 99 ، مريم : 36 ، 65 ، الزخرف : 64.

ولأجل ما ذكرناه فسّر آية اللّه الخوئي العبادة على النحو الذي مرّ عليك.

وعلى كل حال فإنّ أوضح دليل على هذا التفسير للفظ العبادة هو الآيات التي سبق ذكرها.

ص: 465


1- البيان : 503 طبعة عام 1394 ه.
2- المائدة : 72.
3- الأنبياء : 92.
4- آل عمران : 51.
سؤال وجواب

أمّا السؤال فهو : لا شك أنّ « العبادة » مفهوم بسيط وجداني ، فكيف يفسر هذا المفهوم البسيط بهذا التعريف المفصّل ؟ وبعبارة أُخرى : لو قلنا بدخول مفهوم « الرب » في مفهوم العبادة ، يلزم تتابع إدراج مفاهيم متعددة في مفهوم بسيط وجداني ، فيدخل في مفهومها مفهوم الرب ، والمالكية ، والقسم الخاص من المالكية مما يليق بشأنه تعالى ... وهذا مما لا يقبله الوجدان السليم.

أمّا الجواب : فقد تقدم توضيحه في التعريف الأوّل ، أي تعريف العبادة بالخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية ، وقلنا : ليس المراد من التعريف أخذ هذه المفاهيم الكثيرة في مفهوم العبادة التي لها مفهوم بسيط ، بل المراد هو إيضاح القسم الخاص من الخضوع الذي يتبادر من لفظ العبادة ، إذ لا شك أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع بل القسم الخاص منها ، ولتوضيح هذه الخصوصية نتشبث بهذه الجملة وأشباهها.

التعريف الثالث

ويمكننا أن نصب إدراكنا للعبادة في قالب ثالث ، فنقول :

إنّ العبادة هي الخضوع ممن يرى نفسه غير مستقل في وجوده وفعله ، أمام من يكون مستقلاً ، وقد وصف اللّه سبحانه نفسه - في غير موضع من كتابه - بالقيوم ، فقال عزّ وجل :

( اللّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ) (1).

ص: 466


1- البقرة : 255 وأل عمران : 2.

وقال سبحانه : ( وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ ) (1).

ولا يراد منه سوى كونه قائماً بنفسه ، وليست فيه أيّة شائبة من الفقر والحاجة إلى الغير ، بل كل ما سواه قائم به.

وعلى ذلك فلو خضع واحد منا أمام موجود زاعماً بأنّه مستقل في ذاته أو فعله لصار الخضوع عبادة ، بل لو طلب فعل اللّه سبحانه من غيره كان هذا الطلب نفسه عبادة وشركاً ، فإنّ الطلب في هاتيك الموارد لا ينفك عن الخضوع ، فالذي يجب التركيز عليه هو أن نعرف ما هو فعل اللّه سبحانه ، ونميّزه عن فعل غيره حتى لا نقع في ورطة الشرك عند طلب شيء من الأنبياء والأولياء وغيرهم من الناس فنقول :

إنّ من أقسام الشرك هو أن نطلب فعل اللّه من غيره ، والمعلوم أنّ فعل اللّه ليس هو مطلق الخلق والتدبير والرزق سواء أكان عن استقلال أم بإذن اللّه ، لأنّه سبحانه نسبها إلى غيره في القرآن ، بل هو القيام بالفعل مستقلاً من دون استعانة بغيره فلو خضع أحد أمام آخر بما أنّه مستقل في فعله سواء أكان الفعل فعلاً عادياً كالمشي والتكلم ، أم غير عادي كالمعجزات التي كان يقوم بها سيدنا المسيح علیه السلام (2) ، مثلاً ، يعد الخضوع عبادة للمخضوع له.

توضيحه : انّ اللّه سبحانه غني في فعله ، كما أنّه غني في ذاته عما سواه فهو

ص: 467


1- طه : 111.
2- كما في الآية 49 من آل عمران : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهِيْئةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّه وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وَأُحْيِ المَوْتَى بِإِذْنِ اللّه وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) .

يخلق ويرزق ويحيي ويميت من دون أن يستعين بأحد (1) ، أو يستعين في خلقه بمادة قديمة غير مخلوقة له ، بل اللّه سبحانه يخلق الجميع بنفسه من دون استعانة بأحد أو بشيء ، فهو يخلق المادة ويصورها كيف شاء ، فلو اعتقدنا أنّ أحداً مستغن في فعله العادي ، وغير العادي عمّن سواه ، وإنّه يقوم بما يريد من دون استعانة أو استمداد من أحد حتى اللّه سبحانه ، فقد أشركناه مع اللّه واتخذناه نداً له تعالى.

وصفوة القول هي : إنّ ملاك البحث في هذا التعريف هو : « استقلال الفاعل » في فعله وعدم استقلاله ، والتوحيد بهذا المعنى مما يشترك فيه العالم والجاهل.

نعم ما يدركه المتألّه المثالي من التفاصيل في مورد الاستقلال في المعبود وعدمه في العابد على ضوء الأدلة العقلية والكتاب العزيز مما يدركه غيره أيضاً بفطرته التي خلق عليها ، وعقليته التي نما عليها ، فلا يلزم من اختصاص فهم التفاصيل بهذه الطبقة ( أي المتألهين البصيرين ) حرمان العرب الجاهليين من فهم معاني العبادة ومشتقاتها الواردة في القرآن ومحاوراتهم العرفية ، فالعبادة بهذا المعنى ( أي باعتقاد كون المعبود مستقلاً ) يشترك فيه العالم والجاهل ، والكامل وغير الكامل ، غير أنّ كل فرد من الناس يفهمه على قدر ما أُعطي من الفهم والدرك كما قال سبحانه : ( فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) (2).

غير أنّ الدارج في ألسن المتكلّمين هو « التفويض » فلنشرح مقاصدهم.

ص: 468


1- نعم قد سبق منا عند البحث عن التوحيد في الربوبية أنّ كون اللّه سبحانه لا يستعين - في فعله بأحد لا يلازم أن يقوم بنفسه بكل الأُمور ، وبأن تكون ذاته مصدراً للخلق والرزق والإحياء والإماتة من دون أن يتسبب في كل ذلك بالأسباب ، بل معناه أن يكون في فعله - سواء في أفعاله المباشرية أو التسبيبية - مستغنياً عن غيره ، وإن كانت أفعاله جارية عبر نظام الأسباب والعلل.
2- الرعد : 17.

4

ماذا يراد من التفويض ؟

اشارة

اتّفقت كلمة الموحدين على أنّ الاعتقاد بالتفويض موجب للشرك ، وأنّ الخضوع النابع من ذاك الاعتقاد يعد عبادة للمخضوع له ، والتفويض يتصور في أمرين :

1. تفويض اللّه تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة والأنبياء والأولياء ، ويسمّى بالتفويض التكويني.

2. تفويض الشؤون الإلهية إلى عباده كالتقنين والتشريع ، والمغفرة والشفاعة ممّا يعد من شؤونه سبحانه ، ويسمّى بالتفويض التشريعي.

أمّا القسم الأوّل

فلا شك أنّه موجب للشرك ، فلو اعتقد أحد بأنّ اللّه فوض أُمور العالم وتدبيرها من الخلق والرزق والإماتة ونزول الثلج والمطر وغيرها من حوادث العالم إلى ملائكته أو صالحي عباده ، فقد جعلهم أنداداً له سبحانه ، إذ لا يعني من التفويض ، إلاّ كونهم مستقلين في أفعالهم ، منقطعين عنه سبحانه فيما يفعلون وما

ص: 469

يريدون.

وبالجملة : فتفويض التدبير إلى العباد قسم من استقلال العبد في فعله وعمله عمّن سواه ، سواء أكان ذاك الاستقلال في الأفعال الراجعة إلى نفسه كمشيه وتكلّمه ، أم في الأفعال الراجعة إلى تدبير العالم والحوادث الواقعة فيه ، غير أنّه لما كان زعم الاستقلال في أفعال الإنسان العادية بحثاً فلسفياً بحتاً لم يتوجه إليه مشركو الجاهلية ، لذلك خصوا البحث بالاعتقاد باستقلالهم في تدبير العالم.

وإن أصبح الأوّل أيضاً مثار بحث ونقاش في العهود الإسلامية الأُولى ، بحيث قسّم الباحثين إلى جبري وتفويضي.

والخلاصة : أنّ الأمر دائر بين كون العبد ذا فعل بالاستقلال والانقطاع عن اللّه سبحانه ، أو كونه ذا شأن بأمره تعالى وإذنه ومشيئته ، وليس التفويض أمراً ثالثاً ، بل هو داخل في القسم الأوّل.

وأمّا الاعتقاد بأنّ القدّيسين من الملائكة والجن ، أو النبي والولي مدبّرون للعالم بإذنه ومشيئته ، وأمره وقدرته من دون أن يكونوا مستقلين فيما يفعلون ، أو مفوّضين فيما يصدرون فلا يكون ذاك موجباً للشرك ، بل أمره دائر - حينئذ - بين كونه صحيحاً مطابقاً للواقع كما في الملائكة ، أو غلطاً مخالفاً للواقع كما في النبي والولي ، فإنّ الأنبياء والأولياء غير واقعين في سلسلة العلل والأسباب ، بل هم كسائر الناس يستفيدون من النظام الطبيعي بحيث يختل عيشهم وحياتهم عند اختلال تلك النظم ، ومعلوم أنّه ليس كل مخالف للواقع يعتبر شركاً إذ عند ذاك يحتل الولي مكان العلّة الطبيعية والنظم المادية ، وليس الاعتقاد بوجود هذا النوع من العلل والأسباب مكان النظم المادية للظاهرة شركاً.

ص: 470

هذا ومن الجدير بالذكر أنّ مشركي عهد الرسالة كانوا يعتقدون لآلهتهم نوعاً من الاستقلال في الفعل ، وكانوا يتوجهون إليها على هذا الأساس ، وقد مرّ أنّ عمرو بن لحي عندما سافر من مكة إلى الشام ورأى أُناساً يعبدون الأصنام فسألهم عن سبب عبادتهم لها فقالوا له :

هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا (1).

وقد كان ثمة فريق من الحكماء يعتقدون بأنّ لكل نوع من الأنواع « رب نوع » فوض إليه تدبير نوعه ، وسلمت إليه إدارة الكون التي هي من شأن اللّه ومن فعله تعالى ، كما أنّ عرب الجاهلية الذين عبدوا الملائكة والكواكب - سياراتها وثوابتها - إنّما كانوا يعبدونها ، لأنّ أمر الكون وأمر تدبيره قد فوّض إليها - كما في زعمهم - وإنّ اللّه عزل عن مقام التدبير عزلاً تامّاً ، فهي مالكة التدبير دون اللّه ، وبيدها هي دونه ناصية التصرّف ، ولهذا كان يعتبر أيُّ خضوع يجسد هذا الإحساس عبادة ، وسيوافيك عقائد العرب الجاهليين حول معبوداتهم.

القسم الثاني من التفويض

إذا اعتقدنا بأنّ اللّه سبحانه فوّض إلى أحد مخلوقيه بعض شؤونه كالتقنين والتشريع ، والشفاعة والمغفرة فقد أشركناه مع اللّه ، وجعلناه نداً له سبحانه ، كما يقول القرآن الكريم :

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ) (2).

ولا ريب أنّ الموجود لا يقدر أن يكون نداً لله سبحانه ، إلاّ إذا كان قائماً

ص: 471


1- سيرة ابن هشام : 1 / 79. وقد مر مفصل هذه القصة في الفصل الثامن : 382 من هذا الكتاب.
2- البقرة : 165.

بفعل أو شأن من أفعال اللّه وشؤونه سبحانه « مستقلاً » لا ما إذا قام به بإذن اللّه وأمره ، إذ لا يكون عند ذاك نداً لله ، بل يكون عبداً مطيعاً له ، مؤتمراً بأمره ، منفذاً لمشيئته تعالى ، هذا وقد كان أخف ألوان الشرك وأنواعه بين اليهود والنصارى والعرب الجاهليين اعتقاد فريق منهم بأنّ اللّه فوّض حق التقنين والتشريع إلى الرهبان والأحبار كما يقول القرآن الكريم :

( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (1).

وانّ اللّه فوّض حق الشفاعة والمغفرة التي هي حقوق مختصة باللّه إلى أصنامهم ومعبوداتهم ، وأنّ هذه الأصنام والمعبودات مستقلّة في التصرّف في هذه الشؤون ولأجل ذلك كانوا يعبدونها ، لأجل أنّها شفعاؤهم عند اللّه ، وبأيديها أمر الشفاعة كما يقول سبحانه :

( وَيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ ) (2).

ولذلك أصرّت الآيات القرآنية على القول بأنّه لا يشفع أحد إلاّ بإذن اللّه ، فلو كان المشركون يعتقدون بأنّ معبوداتهم تشفع لهم بإذن اللّه لما كان لهذا الإصرار على مسألة متفق عليها بين المشركين ، أيُّ مبرر ، على أنّ ذلك الفريق من عرب الجاهلية الذين كانوا يعبدون الأصنام ، إنّما كانوا يعبدونها لكونها تملك شفاعتهم ، لا أنَّها خالقة لهم أو مدبّرة للكون ، وعلى أساس هذا التصوّر الباطل كانوا يعبدونها وكانوا يظنون أنّ عبادتهم لها توجب التقرّب إلى اللّه ، إذ قالوا :

( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) (3).

ص: 472


1- التوبة : 31.
2- يونس : 18.
3- الزمر : 3.
الشيعة الإمامية وفكرة التفويض

لقد شدد علماء الشيعة الإمامية - اقتداءً بأئمتهم - النكير على كل من يقول بالتفويض ، وعدّوا قائله مشركاً وخارجاً عن ربقة الموحّدين المسلمين.

فها هو العلاّمة المجلسي قد عقد - في موسوعته المسمّاة ب « بحار الأنوار » - باباً خاصاً أسماه « باب نفي الغلو في النبي والأئمّة وبيان معاني التفويض » سرد فيه مجموعة كبيرة من أحاديث أهل البيت علیهم السلام التي استنكروا فيها قول من يعتقد بالتفويض في شأنهم ، أو في شأن أحد من عباد اللّه ، كما سرد بعض أقوال علماء الشيعة كالصدوق والمفيد رحمهما اللّه.

وإليك بعض الأحاديث أوّلاً :

1. في عيون أخبار الرضا ، قال الراوي : سألت الرضا ( الإمام علي بن موسى ) علیه السلام عن التفويض ؟ فقال :

« الغلاة كفّار ، والمفوّضة مشركون ، من جالسهم ، أو واكلهم ، أو شاربهم ، أو واصلهم ، أو زوّجهم ، أو تزوّج منهم ، أو أمنهم ، أو ائتمنهم على شيء ، أو صدّق حديثهم ، أو أعانهم بشطر كلمة ، خرج من ولاية اللّه عزّ وجل وولاية الرسول ، وولايتنا أهل البيت » (1).

2. في عيون أخبار الرضا ، قال الإمام علیه السلام :

« من زعم أنّ اللّه فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه فقد قال بالتفويض ، والقائل بالتفويض مشرك ».

وهناك أحاديث أُخرى صريحة وقاطعة ذكرها ، ونقلها المجلسي في البحار ،

ص: 473


1- عيون أخبار الرضا : 325.

فمن شاء التوسع فليراجع الجزء 25 من الصفحة 261 إلى الصفحة 350.

ثم إنّ العلاّمة المجلسي ذكر ما قاله عالمان كبيران من قدامى علماء الإمامية وأعلامهم حول التفويض ، وها نحن نذكر ما قالاه - هنا - :

قال الشيخ الصدوق رحمه اللّه في كتابه : الاعتقادات :

اعتقادنا في الغلاة والمفوّضة أنّهم كفار باللّه - جل جلاله - وانّهم أشرّ من اليهود والنصارى والمجوس ، والقدرية والحرورية ، ومن جميع أهل البدع والأهواء المضلّة ، وانّه ما صغَّر اللّه جلّ جلاله تصغيرهم شيء ، وقال اللّه تعالى : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (1) وقال عزّ وجل : ( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الحَقَّ ) (2).

ثم أضاف الشيخ الصدوق قائلاً :

« وكان الرضا ( علي بن موسى ) علیه السلام يقول في دعائه :

« اللّهم إنّي أبرأ إليك من الحول والقوّة ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بك. اللّهم إنّي أبرأ إليك من الذين ادّعوا لنا ما ليس لنا بحق. اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا. اللّهم لك الخلق ومنك الأمر وإيّاك نعبد وإياك نستعين اللّهمّ أنت خالقنا وخالق آبائنا الأوّلين وآبائنا الآخرين اللّهم لا تليق الربوبية إلاّ

ص: 474


1- آل عمران : 79 و 80.
2- النساء : 171.

بك ، ولا تصلح الإلهية إلاّ لك ، فالعن النصارى الذين صغّروا عظمتك ، والعن المضاهئين لقولهم من بريتك ، اللّهمّ انّا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، اللّهم من زعم أنّا أرباب فنحن منه براء ، ومن زعم أنَّ إلينا الخلق وعلينا [ أو إلينا ] الرزق فنحن براء منه كبراءة عيسى بن مريم علیه السلام من النصارى ، اللّهم انّا لم ندعهم إلى ما يزعمون فلا تؤاخذنا بما يقولون ، واغفر لنا ما يدّعون ولا تدع منهم على الأرض دياراً ، إنّك إن تذرهم يضلُّوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفارا ».

وروي عن زرارة إنّه قال : قلت للصادق [ جعفر بن محمد ] علیه السلام : إنّ رجلاً يقول بالتفويض ، قال : « وما التفويض ؟ » قلت : يقول : إنّ اللّه تبارك وتعالى خلق محمداً وعلياً صلوات اللّه عليهما ففوّض [ ثم فوض ] الأمرإليهما فخلقا ورزقا وأماتا وأحييا !! فقال علیه السلام : « كذب عدو اللّه ، إذا انصرفت إليه فاتل عليه هذه الآية التي في سورة الرعد : ( أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الخَلقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الواحِدُ القهار ) (1).

يقول زرارة : فانصرفت إلى الرجل فأخبرته بكل شيء فكأنّه أُلقم حجراً (2).

وقال الشيخ المفيد رحمه اللّه في كتابه « تصحيح الاعتقاد » في شرح كلام الصدوق المتقدم :

الغلو في اللغة هو تجاوز الحد والخروج عن القصد ، قال اللّه تعالى : ( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الحَقَّ ) (3) ، فمنع عن تجاوز

ص: 475


1- الرعد : 16.
2- اعتقادات الصدوق : 109 - 110.
3- النساء : 171.

الحد في المسيح وحذر من الخروج من القصد في القول ، وجعل ما ادّعته النصارى غلواً لتعدّيه الحق على ما بيّنّاه ، والغلاة من المتظاهرين بالإسلام ، هم الذين نسبوا أمير المؤمنين [ علياً ] والأئمّة من ذريته إلى الإلهية والنبوة ووصفوهم بالفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد وخرجوا من القصد ، وهم ضلاّل كفّار ، حكم فيهم أمير المؤمنين بالقتل والتحريق بالنار ، وقضت الأئمّة عليهم بالإكفار والخروج عن الإسلام.

والمفوّضة صنف من الغلاة ، وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة : اعترافهم بحدوث الأئمّة ، وخلقهم ، ونفي القدم عنهم ، وإضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم ودعواهم أنّ اللّه تعالى تفرّد بخلقهم خاصة ، وانّه فوض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال ».

ثم قال الشيخ المفيد رحمه اللّه : ويكفي في علامة الغلو نفي القائل به عن الأئمّة : سمات الحدوث ، وحكمه لهم بالإلهية والقدم ، إذ قالوا بما يقتضي ذلك من خلق أعيان الأجسام واختراع الجواهر (1).

ثم إنّ المجلسي رحمه اللّه نفسه قال في شرح معاني التفويض ما نصه : وأمّا التفويض فيطلق على معان بعضها منفي وبعضها مثبت :

فالأوّل : التفويض في الخلق والرزق والتربية ، والإماتة والإحياء ، فإنّ قوماً قالوا : إنّ اللّه تعالى خلقهم [ أي الأئمّة ] وفوّض إليهم أمر الخلق فهم يخلقون ويرزقون ويميتون ويحيون.

وهذا الكلام يحتمل وجهين :

ص: 476


1- تصحيح الاعتقاد للمفيد : 63 - 66.

أحدهما : أن يقال : أنّهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم ، وهم الفاعلون حقيقة ، وهذا كفر صريح دلّت على استحالته الأدلة العقلية والنقلية ، ولا يستريب عاقل في كفر من قال به.

وثانيهما : انّ اللّه يفعل ذلك [ الخلق والرزق إلى آخره ] مقارناً لإرادتهم كشق القمر وإحياء الموتى وقلب العصا حية وغير ذلك من المعجزات ، فإنّ جميع ذلك إنّما يحصل بقدرته تعالى مقارناً لإرادتهم لظهور [ أي لأجل إثبات وإظهار ] صدقهم ، فلا يأبى العقل عن أن يكون اللّه خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم ثمّ خلق كلّ شيء مقارناً لإرادتهم ومشيئتهم.

ثم قال : وهذا الوجه وإن كان العقل لا يعارضه كفاحاً ، لكن الأخبار السالفة تمنع من القول به في ما عدا المعجزات ظاهراً ، بل صراحة ، مع أنّ القول به قول بما لا يعلم ، إذ لم يرو ذلك في الأخبار المعتبرة في ما نعلم (1).

ثم قال في معرض تفسيره لقول اللّه ( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (2) : يدل هذا على عدم جواز نسبة الخلق إلى الأنبياء والأئمّة ، وكذا قوله : ( هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ) (3) فإنّه يدل على عدم جواز نسبة الخلق ، والرزق والإماتة والإحياء إلى غيره سبحانه وإنّه شرك.

ثم قال ودلالة تلك الآيات على نفي الغلو والتفويض بالمعاني المذكورة

ص: 477


1- فما أبعد بين ما ذكره ذلك الوحيد الغواص في بحار علوم أهل البيت ، والغلو المزعوم الذي ربما ينسب إلى مشايخنا وحفّاظ علوم أئمتنا رضوان اللّه عليهم. نعم يمكن تفسير المعجزات والكرامات بوجهين آخرين غير ما ذكره قدس سره ، وسيوافيك بیانهما في المستقبل.
2- الرعد : 16.
3- الروم : 40.

ظاهرة ، والآيات الدالة على ذلك أكثر من أن تحصى ، إذ جميع آيات الخلق ودلائل التوحيد والآيات الواردة في كفر النصارى وبطلان مذهبهم دالة عليهم ( أي على المفوضة ). (1)

لا ملازمة بين التوزيع ونفي الإله الأعلى

اشارة

إنّ توزيع الإلوهية على صغار الآلهة المتخيّلة أمر باطل عقلاً ونقلاً ، ولا نطيل الكلام بسوق براهينه العقلية وما تدل عليه من الآيات.

ثمّ إنّ توزيع شؤون الإلوهية - كما في زعم عرب الجاهلية - ما كان يلازم نفي الإله الأعلى القاهر ، بل كان الجاهليون يعتقدون بالإله الأعلى رغم عبادتهم للأصنام واعتقاد توزيع الإلوهية عليها.

لكن الأُستاذ المودودي أبطل فكرة توزيع الإلوهية معللاً بأنّ : هذا التوزيع لا يجتمع مع الاعتقاد بإله أعلى ، حيث قال :

إنّ أهل الجاهلية ما كانوا يعتقدون في آلهتهم أنّ الإلوهية قد توزعت فيما بينهم ، فليس فوقهم إله قاهر ، بل كان لديهم تصوّر واضح لإله كانوا يعبّرون عنه بكلمة اللّه في لغتهم (2).

وفي هذا الكلام نظر ، فإنّ الجمع بين قوله : « إنّ الإلوهية توزعت فيما بينهم » وقوله : « فليس فوقهم إله قاهر » يوهم بأنّ القول بتوزيع الإلوهية يلازم القول بنفي الإله القاهر الذي هو فوق الكل ، ولكنّه ليس كذلك ، فإنّ الصابئة الذين ورد ذكرهم في القرآن أثبتوا للشمس : الإلوهية والتدبير مع القول بوجود إله قاهر ،

ص: 478


1- راجع بحار الأنوار : 25 / 320 - 350.
2- كتاب المصطلحات الأربعة : 19.

حيث قالوا :

« إنّ الشمس ملك من الملائك ولها نفس وعقل ومنها نور الكواكب وضياء العالم ، وتكون الموجودات السفلية فتستحق التعظيم والسجود والتبخير والدعاء » (1).

وأيّ الوهية أكبر من تكوين الموجودات السفلية التي ينسبها اللّه سبحانه في القرآن إلى ذاته.

ومن الصابئة من يقول :

« إنّ القمر ملك من الملائك ، يستحق العبادة ، وإليه تدبير هذا العالم السفلي والأُمور الجزئية ، ومنه نضج الأشياء المتكوّنة وإيصالها إلى كمالها » (2).

وليس لأحد أن يفسر قولهم بأنّ الشمس والقمر كانا - في عقيدتهم - يحتلان محل العلل الطبيعية ، وانّهما كانا يقومان بنفس الدور لا أكثر ، فإنّ المفروض إنّهم جعلوهما من الملائك وأثبتوا لهما العقل والنفس والتدبير القائم على التفكير ، وهذا يناسب الإلوهية ، وكونهما إلهين ، لا كونهما عللاً طبيعية ، إذ لو كانا عللاً طبيعية لما عبدوهما بتلك العبادة ، فإذن لا مانع من أن يعتقد المشرك - في حين اعتقاده بتوزيع شؤون الإلوهية بين صغار الآلهة - بوجود إله قاهر ، وهو الذي وزّع الإلوهية ، فالعربي الجاهلي كان يعتقد بتفويض المغفرة والشفاعة إلى أصحاب الأصنام والأوثان ، مع اعتقاده بوجود إله آخر قاهر وأعلى. والمغفرة والشفاعة من شؤون الإلوهية ، والدليل على أنّهم كانوا يعتقدون بالتفويض ، هو إصرار القرآن على القول بأنّه لا شفاعة إلاّ بإذن اللّه سبحانه : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ

ص: 479


1- الملل والنحل للشهرستاني : 265 - 266.
2- الملل والنحل للشهرستاني : 265 - 266.

بِإِذْنِهِ ) (1) ، وإنّ اللّه هو الذي يغفر الذنوب : ( وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ ) (2).

وأظن - ولعلّه ظن مصيب - أنّ للأُستاذ وراء هذا الكلام ( توزيع الإلوهية ينافي الاعتقاد بإله آخر ) قصداً وهدفاً آخر ، وهو إثبات أنّ الإله في القرآن إنّما هو بمعنى المعبود تبعاً لشيخ منهجه « ابن تيمية » فتوصيف الأصنام بالإلوهية إنّما هو بملاك المعبودية ، لا بملاك انّهم صغار الآلهة ، واللّه سبحانه كبيرها.

والأُستاذ وتلاميذ مدرسته نزّهوا المشركين عن قولهم بالوهية الأصنام ، وإنّما كانوا يعبدونها من دون أن يتخذوها آلهة صغاراً في مقابل إله قاهر.

أضف إلى ذلك إنّهم شوّهوا بذلك سمعة جمهرة من المسلمين حيث فسروا الآيات الناهية عن اتخاذ الآلهة ، بالنهي عن عبادتها ، لأنّ الإله عندهم بمعنى المعبود ، ثم طبقوا هذه الآيات على توسل المسلمين وزيارتهم لقبور أوليائهم.

فتفسير الآيات الناهية عن اتخاذ الآلهة ، باتخاذ المعبود خبط ، وعلى فرض الصحة فإنّ تطبيقها على توسّلات المسلمين وزيارتهم قبور أوليائهم خبط آخر.

خلاصة القول

خلاصة القول في المقام أنّ أيَّ عمل ينبع من هذا الاعتقاد ( أي الاعتقاد بأنّه إله العالم ، أو ربّه ، أو غني في فعله وانّه مصدر للأفعال الإلهية ) ويكون كاشفاً عن هذا النوع من التسليم المطلق يعد عبادة ، ويعتبر صاحبه مشركاً إذا فعل ذلك لغير اللّه.

ويقابل ذلك : القول والفعل والخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد ،

ص: 480


1- البقرة : 255.
2- آل عمران : 135.

فخضوع أحد أمام موجود وتكريمه - مبالغاً في ذلك - دون أن ينبع من الاعتقاد بالوهيته لا يكون شركاً ولا عبادة لهذا الموجود ، وإن كان من الممكن أن يكون حراماً ، مثل سجود العاشق للمعشوقة أو المرأة لزوجها ، فإنّها وإن كانت حراماً في الشريعة الإسلامية ، لكنها ليست عبادة ، فكون شيء حراماً ، غير القول بأنّه عبادة ، فإنّ حرمة السجود أمام بشر من غير اعتقاد بالوهيته وربوبيته إنّما هي لوجه آخر.

من هذا البيان يتضح جواب سؤال يطرح نفسه في هذا المقام ، وهو إذا كان الاعتقاد بالإلوهية أو الربوبية أو التفويض ، شرطاً في تحقق العبادة ، فيلزم أن يكون السجود لأحد دون ضم هذه النيّة جائزاً ؟

ويجاب على هذا : بأنّ السجود حيث إنّه وسيلة عامة للعبادة ، وحيث إنّ بها يعبد اللّه عند جميع الأقوام والملل والشعوب وصار بحيث لا يراد منه إلاّ العبادة ، لذلك لم يسمح الإسلام بأن يستفاد من هذه الوسيلة العالمية حتى في الموارد التي لا تكون عبادة ، وهذا التحريم إنّما هو من خصائص الإسلام إذ لم يكن حراماً قبله ، وإلاّ لما سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف علیه السلام ، إذ يقول : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُُّّوا لَهُ سُجَّداً ) (1).

* * *

لقد استدل بعض المحقّقين (2) بالآيات التالية على حرمة السجود لغير اللّه مطلقاً حتى لو لم يكن بعنوان العبادة :

( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ

ص: 481


1- يوسف : 100.
2- البيان : 504.

تَعْبُدونَ ) (1).

( وَأنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدَاً ) (2).

ولكن الإمعان في هاتين الآيتين يفيد أنّ الهدف هو : تحريم السجدة التي تكون بقصد العبادة لا ما كان بقصد التعظيم ، إذ يقول في أُولى الآيتين : ( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدونَ ) ويقول في ثانيتهما : ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدَاً ) على أنَّنا سنقول في المستقبل إنّ المقصود بالدعوة - هنا - هو : العبادة ، لذلك فالأفضل - في هذا المجال - أن نستدل بالإجماع والأحاديث ، ولذلك استدل هو بنفسه بعد الاستدلال بالآيتين الآنفتين بالإجماع ، إذ قال : « فقد أجمع المسلمون على حرمة السجود لغير اللّه ».

قال الجصاص : قد كان السجود جائزاً في شريعة آدم علیه السلام ، للمخلوقين ويشبه أن يكون قد كان باقياً إلى زمان يوسف علیه السلام ، فكان فيما بينهم لمن يستحق ضرباً من التعظيم ويراد إكرامه وتبجيله بمنزلة المصافحة والمعانقة فيما بيننا ، وبمنزلة تقبيل اليد ، قد روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله في إباحة تقبيل اليد أخبار ، وقد روي الكراهة ، إلاّ أنّ السجود لغير اللّه على وجه التكرمة والتحية منسوخ بما روت عائشة وجابر وأنس أنّ النبي قال : « ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر ، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها » (3).

* * *

ص: 482


1- فصلت : 37.
2- الجن : 18.
3- أحكام القرآن : 1 / 32 ، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص ( المتوفّى عام 370 ه ).

إلى هنا استطعنا - بشكل واضح - أن نتعرف على حقيقة « العبادة » و « الشرك » ويلزم أن نستنتج من هذا البحث فنقول : إذا خضع أحد أمام آخرين وتواضع لهم ، لا باعتقاد أنّهم « آلهة » أو « أرباب » أو « مصادر للأفعال والشؤون الإلهية » بل لأنّ المخضوع لهم إنّما يستوجبون التعظيم ، لأنّهم ( عِبَادٌ مُكَرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (1) فإنّ هذا الخضوع والتعظيم والتواضع والتكريم لن يكون عبادة قطعاً ، فقد مدح اللّه فريقاً من عباده بصفات تستحق التعظيم عندما قال :

( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ ) (2).

وفي موضع آخر من القرآن صرح اللّه تعالى باصطفاء إبراهيم لمقام الإمامة ، إذ يقول تعالى :

( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) (3).

وكل هذه الأوصاف العظيمة التي مدح اللّه بها : نوحاً وإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمداً - صلوات اللّه عليهم أجمعين - أُمور توجب نفوذهم في القلوب والأفئدة ، وتستوجب محبتهم واحترامهم حتى أنّ مودة بعض الأولياء فرضت علينا بنصِّ القرآن (4).

فإذا احترم أحد هؤلاء ، في حياتهم أو بعد وفاتهم ، لا لشيء إلاّ لأنّهم عباد اللّه المكرمون ، وأولياؤه المقربون ، وعظمهم دون أن يعتقد بأنّهم « آلهة » أو « أرباب »

ص: 483


1- الأنبياء : 26 - 27.
2- آل عمران : 33.
3- البقرة : 124.
4- ( قُل لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ( الشورى : 23 ).

أو « مصادر للشؤون الإلهية » لا يعد فعله عبادة - مطلقاً - ولا هو مشركاً أبداً.

وعلى هذا لا يكون تقبيل يد النبي أو الإمام أو المعلم ، أو الوالدين ، أو تقبيل القرآن أو الكتب الدينية ، أو أضرحة الأولياء وما يتعلّق بهم من آثار ، إلاّ تعظيماً وتكريماً لا عبادة.

نحن ومؤلّف تفسير المنار

وفي ختام هذا البحث يجدر بنا أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى طائفة من التعاريف للعبادة ، ونذكر بعض ما فيها من الضعف :

1. قال في المنار : العبادة ضرب من الخضوع ، بالغ حد النهاية ، ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشؤها واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها. (1)

وهذا التعريف لا يخلو عن قصور ، إذ بعض مصاديق العبادة ، لا تكون خضوعاً شديداً ، ولا يكون بالغاً حد النهاية كبعض الصلوات الفاقدة للخشوع ، ثم ربما يكون خضوع العاشق أمام معشوقته والجندي أمام آمره ، أشدَّ خضوعاً مما يفعله كثير من المؤمنين باللّه تجاه ربّهم في مقام الدعاء والصلاة والعبادة ، ومع ذلك لا يقال لخضوعهما بأنّه عبادة ، في حين يكون خضوع المؤمنين تجاه ربهم عبادة وإن كان أخف من الخضوع الأوّل.

نعم لقد ذكر هذا المؤلف نفسه - في حنايا كلامه - ما يمكن أن يكون معرّفاً صحيحاً للعبادة ومتفقاً - في محتواه - مع ما قلناه حيث قال :

للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرِّعت لتذكير الإنسان بذلك

ص: 484


1- تفسير المنار : 1 / 57.

الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة ، وسرها (1).

إنّ عبارة : « الشعور بالسلطان الإلهي » حاكية عن أنّ الفرد العابد حيث إنّه يعتقد بالوهية المعبود ، لذلك يكون عمله عبادة وما لم يتوفر مثل هذا الاعتقاد في عمله لا يتصف بالعبادة.

2. وقد جاء شيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت بتعريف يتحد مع ما ذكره صاحب المنار معنى ويختلف معه لفظاً ، فقال :

العبادة خضوع لا يحد لعظمة لا تحد (2).

فالتعريفان متحدان نقداً وإشكالاً ، فليلاحظ ، وان كان تفسير المنار يختص بإشكال آخر ، حيث إنّه يقول : « العبادة ناشئة عن استشعار القلب عظمة لا يعرف منشؤها » في حين أنّ العابد يعلم أنّ علة العظمة هي : السلطة الإلهية ، التي هي الوهية المعبود والإحساس بالحاجة الشديدة إليه ، وأنّ بيده مصير العابد ، وغير ذلك من الدوافع ، فكيف لا يعرف منشؤها ؟ (3).

3. وأكثر التعاريف عرضة للإشكال هو تعريف ابن تيمية ، إذ قال :

العبادة اسم جامع لكل ما يحبه اللّه ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنية والظاهرية كالصلاة ، والزكاة والصيام ، والحج ، وصدق الحديث ، وإداء الأمانة وبر الوالدين ، وصلة الأرحام (4).

وهذا الكاتب لم يفرق - في الحقيقة - بين العبادة ، وبين التقرّب ، وتصوّر أنّ

ص: 485


1- تفسير المنار : 1 / 57.
2- تفسير القرآن الكريم : 37.
3- آلاء الرحمن : 59.
4- مجلة البحوث الإسلامية : العدد2 / 187 نقلاً عن كتاب « العبودية » : 38.

كل عمل يوجب القربى إلى اللّه فهو عبادة له تعالى أيضاً ، في حين أنّ الأمر ليس كذلك ، فهناك أُمور توجب رضا اللّه ، وتستوجب ثوابه قد تكون عبادة كالصوم والصلاة والحج ، وقد تكون موجبة للقربى إليه دون أن تعد عبادة كالإحسان إلى الوالدين وإعطاء الزكاة والخمس ، فكل هذه الأُمور ( الأخيرة ) توجب القربى إلى اللّه في حين لا تكون عبادة ، وإن سميت في مصطلح أهل الحديث عبادة فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتب الثواب عليها.

وبعبارة أُخرى : إنّ الإتيان بهذه الأعمال يعد طاعة لله ، ولكن ليس كل طاعة عبادة.

وإن شئت قلت : إنّ هناك أُموراً عبادية ، وأُموراً قربية ، وكل عبادة قربة ، وليس كل قربة عبادة ، فدعوة الفقير إلى الطعام والعطف على اليتيم - مثلاً - توجب القرب ولكنها ليست عبادة ، بمعنى أن يكون الآتي بها عابداً بعمله لله تعالى.

ص: 486

5

ما هو معنى الإلوهية وما هو ملاكها ؟

اشارة

إذا كانت العبادة هي الخضوع أمام أحد بما هو « إله » (1) ، فيقع الكلام في معنى ال : « إله » فنقول : لا نظن أنّ القارئ الكريم يحتاج في فهم معنى : « إله » إلى التعريف ، فإنّ لفظي : « إله » و « اللّه » من باب واحد ، فما هو المتفاهم من الثاني « أي اللّه » هو المتفاهم من الأوّل « أي إله » ، وإن كانا يختلفان في المفهوم اختلاف الكلي والفرد.

غير أنّ لفظ الجلالة علم لفرد من ذاك الكلي ولمصداق منه ، دون ال : « إله » فهو باق على كلّيته وإن لم يوجد عند الموحّدين مصداق آخر له ، بل انحصر فيه.

ص: 487


1- هذا هو أحد التعاريف الماضية في البحث السابق ، وكانت هناك تعاريف أُخرى من كونها : الخضوع أمام أحد بما هو رب ، أو بما هو غني في فعله عن غيره ، أو بما هو مصدر للشؤون الإلهية كالشفاعة والمغفرة ، فراجع. وقد أوضحنا أنّ هذه القيود جيء بها للإشارة إلى أنّها ليست مطلق الخضوع بل هو قسمٌ خاصٌّ منه وإنّ دخول هذه القيود في مفهوم العبادة على غرار دخول الدائرة في مفهوم القوس وإنّه من باب زيادة الحد على المحدود فراجع.

فكما أنّه لا يحتاج أحد في الوقوف على معنى لفظ الجلالة إلى التعريف فلفظة « إله » مثله أيضاً ، إذ ليس ثمة من فارق بين اللفظتين إلاّ فارق الجزئية والكلية ، فهما على وجه كزيد وإنسان ، بل أولى منهما لاختلاف الأخيرين ( زيد وإنسان ) في مادة اللفظ بخلاف « إله » و « اللّه » ، فهما متحدان في تلك الجهة ، وليس لفظ الجلالة إلاّ نفس إله حذفت همزته وأُضيفت إليه « الألف واللام » فقط ، وذلك لا يخرجه عن الاتحاد ، لفظاً ومعنى.

وإن شئت قلت : إنّ ها هنا اسماً عاماً وهو « إله » ويجمع على « آلهة » ، واسماً خاصاً وهو « اللّه » ولا يجمع أبداً ، ويرادفه في الفارسية « خدا » وفي التركية « تاري » وفي الانجليزية « گاد » غير أنّ الاسم العام والخاص في اللغة الفارسية واحد وهو « خدا » ويعلم المراد منه بالقرينة ، غير أنّ « خداوند » لا يطلق إلاّ على الاسم الخاص ، وأمّا « گاد » في اللغة الانجليزية فكلما أُريد منه الاسم العام كتب على صورة « god » وأمّا إذا أُريد الاسم الخاص فيأتي على صورة « God » وبذلك يشخص المراد منه.

ولعل اختصاص هذا الاسم باللّه بخالق الكون كان بهذا النحو : وهو أنّ العرب عندما كانت في محاوراتها تريد أن تتحدث عن الخالق كانت تشير إليه ب « الإله » أي الخالق ، والألف واللام المضافتان إلى هذه الكلمة كانتا لأجل الاشارة الذهنية ( أي الإشارة إلى المعهود الذهني ) ، يعني ذاك الإله الذي تعهده في ذهنك ، وهو ما يسمّى في النحو بلام العهد ، ثم أصبحت كلمة « الإله » مختصة في محاورات العرب بخالق الكون ، ومع مرور الزمن انمحت الهمزة الكائنة بين اللامين وسقطت من الألسن وتطورت الكلمة من « الإله » إلى « اللّه » التي ظهرتفي صورة كلمة جديدة واسم خاص بخالق الكون تعالى وعلماً له

ص: 488

سبحانه (1).

وإلى ما ذكرنا يشير العلاّمة الزمخشري في « كشافه » : اللّه أصله : الإله ، قال الشاعر :

معاذ الإله أن تكون كظبية *** ولا دمية ولا عقيلة ربرب (2)

ونظيره : الناس أصله ، الاناس ، فحذفت الهمزة ، وعوض عنها حرف التعريف ، ولذلك قيل في النداء يا اللّه بالقطع ، كما يقال : يا إله ، والإله من أسماء الأجناس كرجل وفرس (3).

وينقل العلامة الطبرسي في « تفسيره » عن سيبويه أنّ « اللّه » أصله « إله » على وزن فعال ، فحذفت فاء فعله ، وهي الهمزة ، وجعلت الألف واللام عوضاً لازماً عنها ، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف في القسم والنداء في قوله : يا اللّه اغفر لي ، ولو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في غير هذا الاسم (4).

وقال الراغب في « مفرداته » : « اللّه أصله إله ، فحذفت همزته وأُدخل عليه الألف واللام ، فخصّ بالباري تعالى ولتخصّصه به قال تعالى : ( هَلْ تَعْلَمْ لَهُ سَمِّياً ) (5).

وعلى ذلك فلا نحتاج في تفسير إله إلى شيء وراء تصوّر أنّ هذا اللفظ كلي

ص: 489


1- في هذا الصدد نظريات أُخرى أيضاً راجع لمعرفتها تاج العروس : 9 مادة « أله ».
2- استعاذ الشاعر باللّه من تشبيه حبيبته بالظبية أو الدمية ، والربرب : هو السرب من الوحش.
3- الكشاف : 1 / 30 تفسير البسملة.
4- مجمع البيان : 1 / 19 طبعة صيدا.
5- مفردات الراغب : 31 مادة « إله ».

لما وضع عليه لفظ الجلالة ، وبما أنّ هذا اللفظ من أوضح المفاهيم ، وأظهرها فلا نحتاج في فهم اللفظ الموضوع للكلي إلى شيء أبداً ، نعم إنّ لفظ الجلالة وإن كان علماً للذات المستجمعة لجميع صفات الكمال ، أو الخالق للأشياء ، إلاّ أنّ كون الذات مستجمعة لصفات الكمال ، أو خالقاً للأشياء ليسا من مقومات معنى الإله ، بل من الخصوصيات الفردية التي بها يمتاز الفرد عمّن سواه من الأفراد ، وأمّا الجامع بينه وبين سائر الأفراد ، أو التي ربما تفرض ( لا المحقّقة ) فهو أمر سواه سنشير إليه.

ويؤيد وحدة مفهومهما ، بالذات ، مضافاً إلى ما ذكرناه من وحدة مادتهما أنّه ربّما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله (1) ، أي على وجه الكلية والوصفية ، دون العلمية فيصح وضع أحدهما مكان الآخر ، كما في قوله سبحانه :

( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّماوَاتِ وَفِي الأرضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) (2).

فإنّ وزان هذه الآية وزان قوله سبحانه :

( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرضِ إِلهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ ) (3).

( وَلا تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) (4).

( هُوَ اللّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ

ص: 490


1- استعمالاً مجازياً مثل قول القائل : هذا حاتم قومه ويوسف أبنائه.
2- الأنعام : 3.
3- الزخرف : 84.
4- النساء : 171.

العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (1).

( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ والأرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (2).

ولا يخفى أنّ لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف الإله على وجه الكلية ، ( أي ما معناه أنّه هو الإله الذي يتصف بكذا وكذا ).

ويقرب من الآية الأُولى قوله سبحانه :

( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيَّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى ) (3).

فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء والأمر بدعوة أي منها ربّما يشعر بخلوه عن معنى العلمية ، وتضمّنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ : « الإله » وغيره ، ومثله قوله سبحانه :

( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى ) (4).

فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلية لا العلمية الجزئية ، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.

نعم ، ربما يقال من أنّ لفظ الجلالة من أله بمعنى عبد ; أو من أله بمعنى تحيّر ، لأجل أنّ العبد إذا تفكر فيه تحيّر; أو من أله بمعنى فزع ، لأنّ الخلق يفزعون إليه في حوائجهم ; أو من إله بمعنى سكن ، لأنّ الخلق يسكنون إلى ذكره.

ص: 491


1- الحشر : 23.
2- الحشر : 24.
3- الإسراء : 110.
4- الحشر : 23.

أو أنّه متخذ من لاه بمعنى احتجب لأنّه تعالى المحتجب عن الأوهام ، أو غير ذلك مما ذكروه (1) ، ولكن ذلك مجرد احتمالات غير مدعمة بالدليل ، وعلى فرض صحتها ، أو صحة بعضها فلا تدل على أكثر من ملاحظة تلك المناسبات يوم وضع وأُطلق لفظ الجلالة أو لفظ الإله عليه سبحانه ، وأمّا بقاء تلك المناسبات إلى زمان نزول القرآن ، وانّ استعمال القرآن لهما كان برعاية هذه المناسبات فأمر لا دليل عليه مطلقاً.

والظاهر أنّ هذه المعاني من لوازم معنى الإله وآثاره ، فإنّ من اتخذ أحداً إلهاً لنفسه فإنّه يعبده قهراً ، ويفزع إليه عند الشدائد ، ويسكن قلبه عند ذكره ، إلى غير ذلك من اللوازم ، والآثار التي تستلزمها صفة الإلوهية ، ولو لاحظ القارئ الكريم الآيات التي ورد فيها لفظ الإله ، وما احتف بها من القرائن لوجد أنّه لا يتبادر من الإله غير ما يتبادر من لفظ الجلالة ، سوى كون الأوّل كلياً والثاني جزئياً.

هل الإله بمعنى المعبود ؟

نعم يظهر من كثير من المفسرين بأنّ أله بمعنى عبد ، ويستشهدون بقراءة شاذة في قوله سبحانه :

( لِيُفْسِدُوا فِي الأرضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) (2).

حيث قرئ والاهتك ، أي عبادتك.

ولعل منشأ هذا التصور هو كون الإله الحقيقي ، أو الآلهة المصطنعة موضعاً للعبادة - دائماً - لدى جميع الأُمم والشعوب ، ولأجل ذلك فسرت لفظة « الإله »

ص: 492


1- راجع مجمع البيان : 9 / 19.
2- الأعراف : 127.

بالمعبود ، وإلاّ فإنّ المعبودية هي لازم الإله وليست معناه البدوي.

والذي يدل - بوضوح - على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو : كلمة الإخلاص : « لا إله إلاّ اللّه » إذ لو كان المقصود من الإله « المعبود » لكانت هذه الجملة كذباً صراحاً ، لأنّ من البديهي وجود آلاف المعبودات في هذه الدنيا ، غير اللّه ، ومع ذلك فكيف يمكن نفي أي معبود سوى اللّه ؟!

ولأجل ذلك اضطر القائل بأنّ الإله بمعنى المعبود أن يقدر كلمة « بحق » بعد إله لتكون الجملة هكذا : « لا إله [ بحق ] إلاّ اللّه » ليتخلّص من هذا الإشكال ، ولكن لا يخفى أنّ تقدير كلمة « بحق » هنا خلاف الظاهر ، وأنّ هدف كلمة الإخلاص هو نفي أيّ إله في الكون سوى اللّه ، وانّه ليس لهذا المفهوم ( أي الإله ) مصداق بتاتاً سواه سبحانه ، وهذا لا يجتمع مع القول بأنّ « الإله » بمعنى « المعبود » ، لوجود المعبودات الأُخرى في العالم وإن كانت مصطنعة.

وأمّا جمعه على الآلهة فليس على أساس أنّه بمعنى المعبود ، بل لأجل اعتقاد العرب بأنّ هاهنا آلهة غير اللّه سبحانه ، قال تعالى :

( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا ) (1).

وإن شئت أن تفرغ ما نفهمه من لفظ الإله في قالب التعريف فارجع إلى الأُمور التي تعد عند الناس من شؤون الربوبية ولوازمها فالقائم بتلك الشؤون - كلها أو بعضها - هو : الإله ، فالخلق والتدبير والإحياء والإماتة والتقنين والتشريع والمغفرة والشفاعة بالاستقلال كلّها من شؤون الربوبية ، فالقائم بهذه الشؤون حقيقة أو تصوراً : إله ، واقعاً أو عند المتصوّر.

ص: 493


1- الأنبياء : 43.

وهنا آيات تدل بوضوح على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود ، بل بمعنى المتصرّف المدبّر ، أو من بيده أزمّة الأُمور ، أو ما يقرب من ذلك مما يعد فعلاً له تعالى ، وإليك بعض هذه الآيات :

1. ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا ) (1) ، فإنّ البرهان على نفي تعدد الآلهة لا يتم إلاّ إذا جعلنا « الإله » في الآية بمعنى المتصرّف المدبّر ، أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من هذين ، ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، لبداهة تعدد المعبودين في هذا العالم ، مع عدم الفساد في النظام الكوني ، وقد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحم الآلهة ، ومركزها مع كون العالم منتظماً ، غير فاسد.

وعندئذ يجب على من يجعل « الإله » بمعنى المعبود أن يقيده بلفظ « بالحق » أي لو كان فيهما معبودات - بالحق - لفسدتا ، ولمّا كان المعبود بالحق مدبّراً ومتصرفاً لزم من تعدده فساد النظام وهذا كله تكلّف لا مبرر له.

2. ( مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذَاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بعْضٍ ) (2).

ويتم هذا البرهان أيضاً لو فسرنا الإله بما ذكرنا من أنّه كلّي ما يطلق عليه لفظ الجلالة ، وإن شئت قلت : إنّه كناية عن الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من يقوم بأفعاله وشؤونه ، والمناسب في هذا المقام هو الخالق ، ويلزم من تعدده ما رتب عليه في الآية من ذهاب كلِّ إله بما خلق واعتلاء بعضهم على بعض.

ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، ولا يلزم من تعدّده أيُّ اختلال

ص: 494


1- الأنبياء : 22.
2- المؤمنون : 91.

في الكون ، وأدل دليل على ذلك هو المشاهدة ، فإنّ في العالم آلهة متعددة ، وقد كان في أطراف الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستون إلهاً ولم يقع أيُّ فساد واختلال في الكون.

فيلزم على من يفسر « إله » بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

3. ( قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً ) (1) ، فإنّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدد الخالق أو المدبّر المتصرف أو من بيده أزمّة أُمور الكون أو غير ذلك مما يرسمه في ذهننا معنى الإلوهية ، وأمّا تعدّد المعبود فلا يلازم ذلك إلاّ بالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

4. ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا ) (2) ، والآية تستدل من ورود الأصنام والأوثان في النار على كونها غير آلهة ، إذ لو كانت آلهة ما وردت النار.

والاستدلال إنّما يتم لو فسرنا الآلهة بما أشرنا إليه فإنَّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرف فيه أو من فوّض إليه أفعال اللّه أجل من أن يحكم عليه بالنار وأن يكون حصب جهنم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان لأنّ المفروض أنّها كانت معبودات وقد جعلت حصب جهنم ، ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه ، وإليك مورداً منها :

( فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتينَ ) (3).

ص: 495


1- الإسراء : 43.
2- الأنبياء : 98 و 99.
3- الحج : 34.

فلو فسر الإله في الآية بالمعبود لزم الكذب ، إذ المفروض تعدد المعبود في المجتمع البشري ، ولأجل هذا ربما يقيد الإله هنا بلفظ « الحق » أي المعبود الحق إله واحد ، ولو فسرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرف وإيصال النفع ، ودفع الضرّ على نحو الاستقلال لصح حصر الإله - بهذا المعنى - في واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة ، إذ من المعلوم أنّه لا إله في الحياة البشرية والمجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها.

ولا نريد أن نقول : إنّ لفظ الإله بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الشفيع الغافر ، إذ لا يتبادر من لفظ الإله إلاّ المعنى البسيط ، بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الموضوع له لفظ الإله ، ومعلوم أنّ كون هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط ، غير كونها معنى موضوعاً للفظ المذكور ، كما أنّ كونه تعالى ذات سلطة على العالم كلِّه أو بعضه سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره ، وصف مشير إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ الإله ، لا أنّه نفس معناه.

وبما أنّ بعض الكتاب المعاصرين خلط بين السلطة الغيبية المستقلّة التي يمكن أن تقع رمزاً للالوهية ، والسلطة المستندة إلى اللّه غير المستقلة التي ربما توجد عند الأنبياء ، والأولياء ، وخيار الناس والصالحين من العباد ، فلا بأس بأن نبحث في هذا الموضوع في البحث القادم.

ص: 496

6

هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية لغير اللّه موجب للشرك ؟

اشارة

لا شك في أنّ طلب الحاجة من أحد - بصورة جدية - إنّما يصح إذا اعتقد طالب الحاجة بأنّه قادر على انجاز حاجته ، وهذه القدرة قد تكون قدرة ظاهرية ومادية ، كأن نطلب من أحد أن يسقينا ماءً ، ويجعله تحت تصرفنا ، وقد تكون القدرة قدرة غيبية ، خارجة عن نطاق المجاري الطبيعية والقوانين المادية ، كأن يعتقد أحد بأنّ الإمام علياً علیه السلام قلع باب « خيبر » بالقدرة الغيبية ، كما جاء في الحديث.

أو أنّ المسيح علیه السلام كان يقدر ، بقدرة غيبية على منح الشفاء لمن استعصي علاجه ، دون دواء ، أو إجراء عملية جراحية.

والاعتقاد بمثل هذه القدرة الغيبية إن كان ينطوي على الاعتقاد بأنّها مستندة إلى الإذن الإلهي ، وإلى القدرة المكتسبة منه سبحانه ، فهي حينئذ لا تختلف عن القدرة المادية الظاهرية ، بل هي كالقدرة المادية التي لا يستلزم الاعتقاد بها الشرك ، لأنّ اللّه الذي أعطى القدرة المادية لذلك الفرد ، هو الذي أعطى القدرة

ص: 497

الغيبية لآخر ، دون أن يعد المخلوق خالقاً ، وأن يتصور استغناء أحد عن اللّه.

فلو قام أحد بمعالجة المرضى عن طريق السلطة الغيبية ، فقد قام بأمر اللّه وإذنه ومشيئته ، ومثل ذلك لا يعد شركاً ، وتمييز السلطة المستندة إلى اللّه عن السلطة المستقلة هو حجر الأساس لامتياز الشرك عن التوحيد ، وبذلك يظهر خطأ كثير ممّن لم يفرقوا بين السلطة الغيبية المستندة ، والسلطة الغيبية غير المستندة.

وقالوا : لو أنّ أحداً طلب من أحد الصالحين - حيّاً كان أم ميتاً - شفاء علّته أو رد ضالّته ، أو أداء دينه ، فهذا ملازم لاعتقاد السلطة الغيبية في حق ذلك الصالح وإنّ له سلطة على الأنظمة الطبيعية ، الحاكمة على الكون بحيث يكون قادراً على خرقها وتجاوزها ، والاعتقاد بمثل هذه السلطة لغير اللّه عين الاعتقاد بالوهية ذلك المسؤول ، وطلب الحاجة في هذا الحال يكون شركاً.

فلو طلب إنسان ظامئ الماء من خادمه فقد اتبع الأنظمة الطبيعية لتحقّق مطلبه ، أمّا إذا طلب الماء من إمام أو نبيّ موارى تحت التراب ، أو عائش في مكان ناء ، فإنّ مثل هذا الطلب ملازم للاعتقاد بسلطة غيبية لهذا النبي ، أو الإمام على نحو ما يكون لله سبحانه ، ومثل هذا عين الاعتقاد بالوهية المسؤول !!

وممّن صرح بهذا الكلام الكاتب أبو الأعلى المودودي ، إذ يقول :

صفوة القول إنّ التصور الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ، ويستغيثه ، ويتضرّع إليه ، هو - لا جرم - تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة. (1)

ص: 498


1- المصطلحات الأربعة : 17.

وهذا الكلام صريح في أنّه جعل الاعتقاد بهذه السلطة المهيمنة ملاكاً للاعتقاد بالإلوهية ، وقد صرّح بذلك في موضع آخر من كتابه حيث جعل ملاك الأمر في باب الإلوهية هو الاعتقاد بأنّ الموجود المسؤول قادر على أن ينفع أو يضر بشكل خارج عن إطار القوانين والسنن الطبيعية المألوفة ، إذ قال :

فالذي يتخذ كائناً ما وليّاً له ونصيراً وكاشفاً عنه السوء ، وقاضياً لحاجته ، ومستجيباً لدعائه ، وقادراً على أن ينفعه ، كل ذلك بالمعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية ، يكون السبب لاعتقاده ذلك ظنّه فيه أنّ له نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم ، وكذلك من يخاف أحداً ويتّقيه ويرى أنّ سخطه يجر عليه الضرر ، ومرضاته تجلب له المنفعة لا يكون مصدر اعتقاده ذلك وعمله إلاّ ما يكون في ذهنه من تصور أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الكون ، ثم إنّ الذي يدعو غير اللّه ويفزع إليه في حاجته بعد إيمانه باللّه العلي الأعلى فلا يبعثه على ذلك إلاّ اعتقاده فيه أنّه له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الإلوهية (1).

وصريح هذا الكلام هو التلازم بين القدرة على النفع والضرر ، والاعتقاد بالسلطة الإلوهية ، وإنّ كل قدرة على النفع والضرر من غير المجاري الطبيعية ينطوي على الإلوهية ، بالملازمة.

وهذا جد عجيب من المودودي.

إذا مضافاً إلى أنّ الاعتقاد بالإلوهية لا يستلزم الاعتقاد بالسلطة في الطرف الآخر ، بل يكفي الاعتقاد بكونه مالكاً للشفاعة والمغفرة كما كان عليه فريق من عرب الجاهلية ، إذ كانوا يعتقدون في شأن أصنامهم بأنّها آلهتهم ، لأنّها مالكة

ص: 499


1- المصطلحات الأربعة : 23 ، وفي موضع آخر صرح بهذا الاستلزام إذ قال في ص 30 : « انّ كلاّ من السلطة والالوهية تستلزم الأُخرى ».

شفاعتهم ومغفرتهم ، ومعلوم - جيداً - أنّ مالكية الشفاعة غير القول بوجود السلطة التي يراد منها : السلطة على عالم التكوين.

إنّ الاعتقاد بالسلطة الغيبية الخارجة عن إطار السنن الطبيعية لا يوجب الاعتقاد بالإلوهية.

إنّ السلطة على الكون بجميعه - فضلاً عن بعضه - إذا كانت بأقدار اللّه تعالى وبإذن منه - فهي بنفسها - لا تلازم الإلوهية ، فكما أنّ اللّه أعطى لآحاد الناس قدرة محدودة في أُمورهم العادية ، وفضل بعضهم على بعض في تلك القدرة ، فكذلك لا مانع من أن يعطي لفرد أو أفراد من خيار عباده قدرة تامّة على جميع الكون ، عادية أو غير عادية ، وذلك بنفسه لا يستلزم الإلوهية ، والذي يمكن أن يقع عليه الكلام هو البحث عن وجود تلك القدرة وانّه سبحانه هل أعطى ذلك أو لا ؟ والقرآن يصرح بذلك في عدة موارد ، منها ما ورد في شأن يوسف علیه السلام :

1. يوسف علیه السلام والسلطة الغيبية

أمر يوسف علیه السلام إخوته بأن يأخذوا قميصه إلى أبيه ويلقوه على بصره ليرتد بصيراً ، كما يقول القرآن الكريم في هذا الشأن :

( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) (1).

( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البَشِيرُ ألْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) (2).

إنّ ظاهر الآية يعطي أنّ رجوع البصر إلى يعقوب كان بإرادة يوسف ، وأنّه لم يكن فعلاً مباشراً لله سبحانه ، وإنّما فعل ما فعله يوسف بقدرة مكتسبة منه سبحانه.

ص: 500


1- يوسف : 93.
2- يوسف : 96.

ولو كان إشفاء يعقوب مستنداً إلى اللّه سبحانه مباشرة بلا دخالة يوسف لما أمر إخوته أن يلقوا قميصه على وجه أبيهم ، بل يكفي هناك دعاؤه من مكان بعيد ، وليس هذا إلاّ تصرّف لولي اللّه في الكون بإذنه سبحانه.

2. موسى علیه السلام والسلطة على الكون

ونظير هذا نجده في أنبياء آخرين كموسى علیه السلام ، إذ قيل له : ( اضْرِب بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجََرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ) (1) فلو لم يكن لضربه بالعصا عن إرادته ، تأثير في تفجّر الماء من الصخر لما أمر به اللّه سبحانه.

وربما يتصور أنّ موسى يضرب بعصاه ، ولكن اللّه هو الذي يفجّر الأنهار ، فهذا لا يدل على سلطة غيبية لموسى ، إذ غاية الأمر أنّ اللّه تعالى يفعل تفجير الأنهار عند ضربه ، لكنه ضعيف يرجع إلى لغوية الأمر بالضرب بالعصا ، فإنّ الضرب بالعصا ليس من قبيل الدعاء ، حتى يقال إنّه سبحانه يجيب دعوته عند دعائه.

وعلى الجملة لا يمكن أن تنكر مشاركة ضربه بالعصا وإرادته ذاك العمل في تفجر العيون ، وإن كان اذنه سبحانه ومشيئته فوقه ، ولا تدل الآية على أزيد من هذا.

ومثله قوله سبحانه :

( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ ) (2).

ودلالة هذه الآية على ما نرتئيه لا تقصر عن دلالة الآية السابقة.

ص: 501


1- البقرة : 60.
2- الشعراء : 63.
3. أصحاب سليمان علیه السلام والسلطة الغيبية

كما أنّ مثل هذه السلطة الغيبية لم تقتصر على من ذكرنا ، بل يثبتها القرآن الكريم لأصحاب سليمان وحاشيته ، فها هو أحد حاشيته يضمن له علیه السلام احضار عرش ملكة سبأ قبل أن يقوم من مقامه ، وقبل أن ينفض مجلسه ، إذ قال سبحانه :

( قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) (1).

بل ويضمن له آخر من حواشيه أن يحضر العرش المذكور في أقل من طرفة عين ، إذ قال :

( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ) (2).

ولم يتبيَّن - إلى الآن - ما المراد من هذا العلم الذي كان يحمله قائل هذا القول به : ( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (3).

وسواء أكان المراد من ذلك هو العلم بخواص الأشياء الغريبة وكيفية معالجتها واحضارها من مكان بعيد في أقل من طرفة عين ، أم كان المراد منه غيره.

وعلى أيِّ تقدير فليس هذا العلم من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب وتنال بالتعلّم ، وهذا يكفي في عد عمله خارقاً للنواميس العادية والسنن الطبيعية المكشوفة الرائجة.

ص: 502


1- النمل : 38 - 39.
2- النمل : 40.
3- ذكر المفسرون هناك أقوالاً واحتمالات فراجع الميزان : 15 / 363.

وربما يحتمل أنّه إذا كان عمله مستنداً إلى علمه بغرائب خواص الأشياء المستورة على الناس لا يخرج عن كونه عملاً طبيعياً ، وإن كان يعد غريباً ، ولعله كان له علم بغرائب الخواص ، وفيه - مع أنّه احتمال غير مدعم بدليل - لا يخرج عمل العامل عن كونه قرين المعجزات وعديل الكرامات التي لا يقدر عليها إلاّ أولياء اللّه سبحانه.

وقد احتمل بعض في باب المعجزات أن يكون عمل الآتي بها ، مستنداً إلى علمه بالسنن الطبيعية التي لم يقف عليها أحد من الناس ، فيتصرف في الطبيعة لإحاطته بتلك القوانين غير المعروفة ، وليس هذا من العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب والتعلّم ، وهذا يكفي في عدّه معجزة أو كرامة.

4. سليمان والسلطة الكونية

ويصرح القرآن كذلك بسلطة خارقة لسليمان علیه السلام في سور مختلفة :

1. انّه كان لسليمان سلطة على الجن والطير حتى أصبحت من جنوده :

( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الّجِنِّ وَالأِنسِ وَالطَّيْرِ ... ) (1).

2. انّه وهب السلطة على عالم الحيوانات حتى أنّه كان يخاطبهم ويتهددهم ويطلب منهم تنفيذ أوامره :

( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَان مُبِينٍ ) (2).

3. وانّه سُلِّط على الجن فكانوا يعملون بأمره وإرادته :

ص: 503


1- النمل : 17.
2- النمل : 20 - 21.

( وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلْ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ... يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءَ ) (1).

4. وانّه سُلِّط على الريح أيما تسليط :

( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ) (2).

وعلى أي تقدير فأية سلطة أعظم وأوضح من هذه السلطة على عالم التكوين التي كانت لسليمان ، والجدير بالذكر أنّ بعض الآيات صرحت بأنّ كل هذه الأُمور غير العادية كانت تتحقّق له بأمره.

5. المسيح علیه السلام والسلطة الغيبية

ومثله ما صدر عن عيسى المسيح علیه السلام من تصرّف يكشف عن وجود سلطة خارقة للعادة ، إذ كان يخلق من الطين كهيئة الطير ، وينفخ فيه فيكون طيراً يتحرك ويطير ، أو يعالج ما استعصي من الأمراض والعلل دونما آلة أو دواء ، كما يحدّثنا القرآن الكريم ، حيث يقول :

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ) (3).

والجدير بالذكر أنّ اللّه يصرح في آية أُخرى بأنّ هذه التصرفات كانت نتيجة فعل عيسى نفسه ، الكاشف عن سلطته نفسه ( وإن كانت مستندة إلى اللّه مآلاً ) ، إذ يقول تعالى :

ص: 504


1- سبأ : 12.
2- الأنبياء : 81.
3- آل عمران : 49.

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْرِ بِإذْني فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي ) (1).

ولما كان صدور هذه الآيات منه مستنداً إلى اللّه تعالى من غير أن يستقل عيسى بشيء منها كرر جملة « بإذن اللّه » في كل مورد ، لكيلا يضل فيه الناس فيعتقدوا بالوهيته ، لصدور تلك الآيات منه ، ولأجل ذلك قيّد المسيح كلَّ آية يخبر بها عن نفسه كالخلق وإحياء الموتى ب ( إِذن اللّه ) ثم ختم الكلام في آية أُخرى بقوله :

( إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (2).

وظاهر قوله : ( إِنَّي أَخْلُقُ لَكُمْ ) صدور هذه الآيات منه في الخارج ، ولم يكن الهدف منه مجرّد الاحتجاج والتحدّي ، ولو كان المراد ذلك لكان حق الكلام تقييده بقوله : إن سألتم أو أردتم.

على أنّ ما يحكيه اللّه سبحانه عنه ويخاطبه به يوم القيامة ، يدل على وقوع هذه الآيات أتم دلالة ، حيث قال :

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْر بِإِذْني فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى ... ) .

وها هنا يبرز سؤال ، وهو : إذا كان الإخبار عن الغيب آية من آياته المعجزة ، فلماذا لم يقيّده ب « إذن اللّه » كما قيد الآيات الأُخر بهذا القيد ، مع أنّ الإتيان بكلِّ آية من آيات الرسل مقيّد بإذن اللّه سبحانه حيث يقول :

ص: 505


1- المائدة : 110.
2- آل عمران : 51.

( وَمَا كَانَ لِرَسُول أَنْ يَأْتِيَ بِآيَة إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه ) (1) ؟

والإجابة عن هذا السؤال واضحة : فإنّ الإخبار عن ما يأكله الناس ويدّخرونه في بيوتهم ليس كالخلق والإحياء وإبراء الأكمه والأبرص ، فإنّ القلوب الساذجة تقبل وتتوهم الوهية خالق الطير ومحيي الموتى ومبرئ الأكمه والأبرص بأدنى وسوسة ومغالطة ، بخلاف الوهية من يخبر عن المغيّبات فإنّها لا تذعن لاختصاص الغيب باللّه سبحانه ، بل تعتقده أمراً يناله كلّ مرتاض أو كاهن ، ولأجل ذلك لم ير حاجة إلى تقييده ب « إذن اللّه » (2).

سؤال آخر هو : انّ قوله سبحانه : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ ) مشتمل على أُمور :

1. خلق هيئة الطير من الطين.

2. النفخ في تلك الهيئة.

3. صيرورتها طيراً بإذن اللّه.

وما هو فعل عيسى علیه السلام إنّما هو الأوّلان ، والثالث خارج عن فعله ، بل هو فعل اللّه بقرينة تقييد الثالث بإذن اللّه دون الأوّل والثاني ، وعلى الجملة : للخلق معنيان :

أ. الإيجاد من العدم.

ب. التقدير.

والمتعيّن في المقام هو المعنى الثاني ، والإيجاد من العدم إنّما يتصوّر فيما لم تكن

ص: 506


1- غافر : 78.
2- - الميزان : 3 / 218.

هنا مادة متحولة ، والمفروض وجود « الطين » في المقام ، وما صدر عن عيسى هو « التقدير » ، أعني : تقدير الطين كهيئة الطير ، وبقي الثالث وهو صيرورته طيراً حقيقياً ، فهو فعل اللّه يتحقق بإذنه سبحانه ، فلم يبق هنا فعل غير عادي يصح استناده إلى المسيح علیه السلام .

أمّا الجواب ، فنقول :

أوّلاً : أنّا لا نسلم بأنّ قوله تعالى : ( بِإِذْنِ اللّهِ ) راجع إلى الأمر الثالث ، بل من المحتمل جداً رجوعه إلى الأُمور الثلاثة ، والشاهد عليه أنّه قيّد الأمر الأوّل من سورة المائدة بهذا القيد حيث قال سبحانه :

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْني فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ) (1).

وعلى ذلك فلا يدل تقييد الأمر الثالث بإذن اللّه على أنّ الأمرين الأوّلين فعل عيسي علیه السلام والأمر الثالث فعل اللّه سبحانه ، بل الكلّ فعله علیه السلام من جهة ، وفعل اللّه من جهة أُخرى.

وثانياً : لو سلمنا بذلك التكلّف في خلق الطير ، فماذا يمكن أن يقال في إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، التي هي من أفعال اللّه ، كصيرورة الطين طيراً ، فقد نسبه اللّه إلى نفسه ، وقال : ( وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ ) (2) حتى أنّ اللّه سبحانه نسبها إلى المسيح وخاطبه بها وقال : ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي ) (3).

ص: 507


1- المائدة : 110.
2- آل عمران : 49.
3- المائدة : 110.

على أنّ اللّه يصف طائفة من ملائكته أيضاً بهذه السلطة فيقول عن جبرئيل بأنّه : ( شَدِيدُ القُوَى ) (1).

أي قواه العلمية كلّها شديدة فيعلم ويعمل (2) وكيف لا يكون ذا قوة وقد اقتلع قرى قوم لوط فرفعها إلى السماء ثم قلبها ، ومن شدة قوته صيحته على قوم ثمود حتى هلكوا (3) ولو كان المراد من شديد القوى هو جبرئيل ، فقد وصفه اللّه في موضع آخر بقوله : ( ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرشِ مَكِينٍ ) (4) ، ومن هذا هو شأنه فله السلطة الغيبية بإذنه سبحانه على الكون.

وهل هناك سلطة غيبية أظهر من هذه التي يثبتها القرآن الكريم لفريق من عباد اللّه وأوليائه ، فإذا كان الاعتقاد بالسلطة الغيبية لأحد ملازماً للاعتقاد بالوهيته لزم أن يكون جميع هؤلاء : آلهة من وجهة نظر القرآن ، بل لا بد من القول بأنّ تحصيل مثل هذه السلسلة الغيبية أمر ممكن لأشخاص آخرين - حتى غير الأنبياء - عن طريق العبادة.

فالعبادة التي يتصور أغلبية الناس أنّ آثارها تنحصر في جلب رضاء اللّه ، ودفع غضبه فقط ، تمنح الروح قدرة عظيمة ، وبعداً أعمق من ذلك.

فالعبادة ذات تأثير جد عظيم في الباطن ، والروح.

إذ الانتهاء عن المحرمات ، والمكروهات ، والتزام الواجبات والمستحبات ، والإخلاص فيها ذات أثر عظيم ، وعميق ، في تقوية الروح ، وتجهيزها بقدرة خاصة

ص: 508


1- النجم : 5.
2- مجمع البيان : 5 / 173.
3- مفاتيح الغيب للرازي : 7 / 702.
4- التكوير : 20.

خارقة للقوانين والسنن بحيث تكون الروح منشأ لآثار خارقة للعادة.

وهذا هو ما أشارت إليه أحاديث صحاح منها : ما روي في الحديث القدسي عن قوله تعالى :

« ما تقرّب إليّ عبد بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه ، وانّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ». (1).

فالحق : أنّ السلطة الغيبية التي أعطاها سبحانه لخيار عباده ليتصرفوا في الكون بإذنه ومشيئته ، ويخرقوا قوانين الطبيعة في مجالات خاصّة لا تستلزم الاعتقاد بالإلوهية ، ولا يكون صاحبها نداً وشريكاً لله تعالى.

نعم ، الاعتقاد بالسلطة الغيبية « المستقلّة » من دون أن تكون مستندة إليه سبحانه هو الموجب للاعتقاد بالإلوهية ، وقد قال سبحانه في هذا الصدد :

( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِي بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) . (2).

ص: 509


1- أُصول الكافي : 1 / 352. روى هذا الحديث بإسناد صحيح ، وظهور الرواية في أنّ العبادة تخلق للنفس قدرة خارقة مما لا ينكر واحتمال أنّ المقصود منها أنّ فعل العبد يكون محفوفاً برضا اللّه سبحانه ، وانّه لا يفعل ولا يترك إلاّ ما فيه رضاه ، احتمال مرجوح جداً ، فإنّ الحركة على طبق رضاه طيلة الحياة ، ليست أثر خصوص فعل الصلوات فرائضها ونوافلها ، بل هي قبل كل شيء إثر الإيمان باللّه وثوابه وعقابه ، لا الإقبال على الفرائض والنوافل ، ولو كان لهذه الأفعال تأثير في تلك الحركة فليكن للصوم والحج والجهاد ، تأثير أيضاً فلماذا لم يذكرها. فعلم أن للصلاة فريضتها ونافلتها، تأثيراً في تقوية النفس والروح ورفعها إلى حد يقدر معه الإنسان ، على أن يكون مظهراً اللّه سبحانه في بصره وسمعه، وبطشه وتكلمه، فيبصر ببصره، ويسمع بسمعه، ما لا يبصر ولا يسمع بغيره.
2- الرعد : 38.
كلام آخر للمودودي

يصف المودودي عقائد الجاهليين ، ويقول :

كانت عقيدتهم الحقيقية في شأن سائر الآلهة أنّ لهم شيئاً من التدخل والنفوذ في إلوهية ذلك الإله الأعلى ، وانّ كلمتهم تتلقّى بالقبول ، وإنّه يمكن أن تتحقق أمانينا بواسطتهم ، ونستدر النفع ، ونتجنب المضار باستشفاعهم. (1).

ويرد عليه أنّ ما صور به عقيدة الجاهلية في شأن سائر الآلهة « بأنّ لهم شيئاً من التدخل والنفوذ في إلوهية الإله الأعلى » يحتاج إلى التوضيح ، فإنّ تدخل الغير في شؤونه سبحانه على قسمين :

الأوّل : بصورة كونهم مستقلين في أفعالهم وأعمالهم ، وهذا يوجب الشرك ، وكون المتدخل إلهاً ، والتوجّه إليه عبادة.

الثاني : التدخل والنفوذ بإذنه سبحانه ، وأمره ، فلا نسلم بطلانه ، وليس الاعتقاد به شركاً ، والطلب عبادة ، كيف والقرآن يصرّح بأنّ الملائكة تدبّر الأُمور الكونية ، إذ يقول : ( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) . (2).

وانّهم هم الذين يقبضون الأرواح ويهلكون الأُمم العاصية ، إذ يقول عن لسان الملائكة :

( إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * ... فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا ) . (3).

ص: 510


1- المصطلحات الأربعة : 19.
2- النازعات : 6.
3- هود : 70 و 82.

فإنّنا نلاحظ - بجلاء - أنّ اللّه هو الجاعل ، ولكن المباشر للإهلاك هم : الملائكة ، إذن فلا مناص من تبديل كلمة التدخل والنفوذ في كلامه بكلمة « التفويض » وغيرها ممّا ينطوي على التصرّف في معزل عن أمر اللّه وإذنه وإرادته.

وأمّا ما نقل عنهم من أنّهم كانوا يعتقدون في حق آلهتهم « بأنّه يمكن أن تتحقق أمانيهم بواسطتها ، ويستدر النفع ، ويتجنب المضار باستشفاعهم » لا يخلو من قصور. (1).

فإن أراد أنّ النفع الأُخروي والتجنب عن الضرر الأُخروي لا يجوز سؤاله من غير اللّه سبحانه ، ويكون عند ذاك مثل الوثنيين الجاهليين فقد صرح القرآن بخلافه ، إذ لا شك أنّ دعاء الرسول لمؤدّي الزكاة موجب للسكن لهم ، ورافع للاضطراب عنهم ، إذ قال سبحانه :

( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ) . (2).

كما أنّ استغفار الرسول موجب لغفران الذنوب ، لقوله سبحانه :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) . (3).

ص: 511


1- أضف إلى ذلك : أنّ العربي الجاهلي وإن كان يتجنب المضار باستشفاعهم ، إلاّ أنّ عملهم هذا كان مبنياً على القول بالوهيتهم ، ولأجل ذلك عد عملهم شركاً ، وكم فرق بين طلب دفع المضار بالاستشفاع بما أنّ الشفيع عبد مكرم يشفع بإذنه سبحانه ، أو أنّه إله يعبد ويستقل في فعله وعلى ذلك لا فرق بين الضرر الدنيوي والأُخروي ، في جوازه على الأوّل ، وعدمه على الثاني مطلقاً وكان على الأُستاذ تركيز البحث على اعتقاد السائل في حق من يطلب منه جلب النفع ودفع الضرر في أنّه هل يعتقد بالوهية المسؤول واستقلاله في الجلب والدفع أو يعتقد بعبوديته وانّه لا يجلب ولا يدفع إلاّ بإذنه ؟ يجب أن يركز على هذا لا على الفرق بين الضرر الدنيوي والأُخروي.
2- التوبة : 103.
3- النساء : 64.

كما كان دعاء يعقوب موجباً لغفران ذنوب أبنائه لقولهم : ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ) (1) ، فأجابهم يعقوب علیه السلام إذ قال : ( سَوْفَ اسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) (2).

وهو كاشف عن جدوى استغفاره ، إذ لولا ذلك لما وعدهم به ، وعندئذ يجوز أن يطلب من الرسول الدعاء والاستغفار وهو طلب النفع الأُخروي.

وأي نفع - ترى - أولى من النفع الأُخروي ، وأي دفع ضرر أهم من دفع عذاب اللّه بدعاء النبي ؟ ولو طلب أحد من الرسول دعاءه واستغفاره لجلب هذا النفع لا يكون مشركاً ولا عابداً للنبي.

فهل - بعد هذه النماذج الواضحة - يتصور أن يكون الاعتقاد بتأثير النبي والولي في دفع الضرر وجلب النفع الأُخرويين وطلبهما منه موجباً للشرك ، والقرآن يصرح به بأعلى صوته وعلى رؤوس الأشهاد.

وإن أراد من النفع والضرر - في كلامه - النفع والضرر الدنيويين وإنّ طلبهما موجب للشرك ، فقد اعترف القرآن بوقوعه فضلاً عن إمكانه أيضاً.

فقوم موسى علیه السلام استسقوه وهم في التيه فطلبوا منه النفع الدنيوي ، فلم يردعهم موسى علیه السلام ، بل استسقى لهم من اللّه وسقاهم في المآل.

ويشير القرآن الكريم إلى هذا إذ يقول :

( وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ ) (3).

كما أنّهم طلبوا منه إنزال النعم السماوية ، فلم يزجرهم عن هذا الطلب ، بل

ص: 512


1- يوسف : 97.
2- يوسف : 98.
3- البقرة : 60.

دعا لهم.

وقد طلب آل فرعون منه أن يرفع عنهم الرجز ( أي العذاب الدنيوي المذكور قبل الآية ) وقالوا :

( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدََكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إسْرَائِيلَ ) (1).

فكل ذلك يدل على أنّ استدرار النفع وطلب دفع الضرر الدنيوي من الغير بإذن اللّه جائز هو أيضاً ، إذ لولا ذلك لكان على النبي أن يردعهم ويزجرهم في كل هذه الموارد ، وللزم أن يلفت نظرهم إلى اللّه ، ليسألوه تعالى هو مباشرة لا أن يسألوه ويطلبوا منه ذلك ، وهو خلق من خلق اللّه ، وعبد من عبيده.

ولا شك أنّ لموسى مشاركة في جلب النفع الدنيوي وكذا في دفع الضرر أيضاً.

فيجب على الأُستاذ أن يقيد كلامه في منع استدرار النفع ودفع الضرر بقولنا : بالاستقلال ونحوه ، بحيث يكون المسؤول مستقلاً في ذلك.

وصفوة القول هي أنّ الحل في هذه المسألة هو أن نفرّق بين السلطة المستندة إلى إرادة اللّه وإذنه ومشيئته ، والسلطة المستقلة ولا نخلط بينهما.

تكملة

إنّ النظريات في صدور المعجزات عن عباد اللّه الصالحين لا تخرج عن أربع نظريات :

ص: 513


1- الأعراف : 134.

الأُولى : ما عليه الغلاة والمفوّضة من كونهم مستقلين في الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة.

الثانية : انّ اللّه يوجد تلك الأُمور مقارناً لإرادتهم ، وقد مرت النظريتان عند البحث عن التفويض فراجع ص 477.

الثالثة : ما استظهرنا من الآيات من أنّ الفعل مستند إليهم علیهم السلام بإذن اللّه سبحانه وأقداره.

الرابعة : النظرية التسخيرية التي وردت فيها روايات غير ما أشرنا إليه ، ولا تعارض بين الثلاث الأخيرة ، فهي غير مانعة الجمع كما لا يخفى.

والنظرية الأخيرة مبنية على سريان الشعور والإدراك في جميع الموجودات ، وقد أوضحنا برهانه في الفصل الثالث.

وعليه فما في الكون يأتمر بأمر النبي إذا أمر بشيء ، وينقاد لطلبه ويؤيده قوله سبحانه : ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) (1).

ص: 514


1- ص : 36.

7

هل التوسل بالأسباب شرك ؟

اشارة

ذهب المتصوّفة والدراويش في وصف أقطابهم وشيوخ طرقهم إلى حد الشرك ، كما هو ظاهر ، وبذلك هدموا حدود التوحيد والشرك وتجاوزوا معاييرهما ، ويبدو هذا الأمر - بجلاء - من الأبيات التي مجّد بها القوم مشايخهم حيث تفوح من أكثرها رائحة الشرك الجلي فضلاً عن الخفي ، تلك الأبيات التي لا تنسجم مع أُسس التوحيد القرآني بحال ، وإن كان بعضهم يحاول أن يجد لتلك الأبيات والكلمات محامل بمنأى عن الشرك ، ولكن الحق هو أنّ الموحد لا ينبغي له ، بل ولا يجوز ، أن يجري على لسانه كلاماً غير منسجم مع التوحيد الإسلامي القرآني الجلي الملامح ، الواضح الطريق.

ولقد كانت نظرة هذه الفرقة إلى مفهوم الشرك نظرة خاصة وشاذة جداً بحيث راحت تعد الكثير من أنواع الشرك القطعي بأنّه عين التوحيد !! وبذلك ضيقوا دائرة الشرك أيّما تضييق !!

في مقابل هذه الفرقة - تماماً - وقف الوهابيون ، فهم توسّعوا في فهم حقيقة الشرك وإطلاقه ، توسّعاً يكاد يشمل كل حركة وسكون وكل تصرف يصدر من أهل التوحيد تجاه أولياء اللّه بهدف الاحترام والتكريم حيث اعتبره الوهابيون عين

ص: 515

الشرك ، والحيدة عن جادة التوحيد !! وسمّوا فاعله مشركاً ، حتى أنّه اتفق لي أن التقيت ذات يوم بواحد من « هيئة الأمر بالمعروف » في المسجد الحرام ، فاتفق أن صدر مني تكريم بانحناء رأسي - أثناء ذلك اللقاء - وإذا بذلك الشخص يقول - في جدية وانزعاج - :

لا تفعل هذا ... انّه شرك محرّم ... لا تحني رأسك أنّه شرك !!

والحق أنّه لو كان معنى الشرك والتوحيد هو كما يراه الوهابيون ويقولون به ، إذن لما أمكن أن نمنح لأي أحد تحت هذه السماء وفوق هذه الأرض هوية الموحّد ولما استحق أحد أن تطلق عليه تلك الصفة أبداً.

لقد نقل لي صديق ثقة أنّ إمام المسجد النبوي وخطيبه : الشيخ عبد العزيز كان يقول في تحديد الشرك :

« إنّ كل تعلّق بغير اللّه شرك » !

أقول : لو كان معنى الشرك هو هذا الذي يقوله إذن لابد أن نعتبر كل البشر على هذه الأرض مشركين ، بلا استثناء ، حتى الوهابيين أنفسهم ، لأنّهم يتوصلون إلى تحقيق مآربهم وتنفيذ حاجاتهم عن طريق التعلّق والتوسل بالأسباب مع أنّه لا يمكن أن يقال أنّ الأسباب والعلل هي اللّه ، بل هي غير اللّه ، فينتج عن هذا أن يكون تعلّقهم بالأسباب وتوسّلهم بالعلل توسّلاً بغير اللّه ، وتعلّقاً بسواه.

في حين أنّ هذا النوع من التعلّقات والتشبثات ليست فقط لا تعد شركاً ، بل هي عين التوحيد وصميمه ، لأنّ حياة الإنسان في هذه الدنيا مشدودة إلى الأسباب والعلل.

غاية الأمر أنّ عليه أن لا يعتقد لهذه الأسباب والعلل أي استقلال وانقطاع

ص: 516

عن الإرادة الإلهية العليا ، بل لابد أن يعتقد بتأثيرها تبعاً لمشيئته سبحانه ، نعم انّ التعلّق بالأسباب والعلل الظاهرية المادية قد يكون عين التوحيد من جهة ، وعين الشرك من جهة أُخرى ، فعندما لا نعتقد بأي استقلال لهذه الأسباب - عند تشبثنا بها - ولا نعتبر تأثيرها في مصاف الإرادة الإلهية وفي عرضها ، بل نعتقد بأنّها تقع في ضمن السلسلة التي تنتهي - بالمآل - إلى اللّه ، فلا نخرج عن إطار التوحيد.

وليس في الفكر التوحيدي من مناص إلاّ الاعتقاد بمثل هذا الأمر وعلى هذا النمط.

أمّا عندما نرى لهذه الأسباب والعلل استقلالاً ، ونعتقد بإمكان تأثيرها بمعزل عن الإرادة الإلهية ، لا بنحو التبعية ففي هذه الصورة سنكون معتقدين بخالقين ، ومؤثرين !!

إنّ على الموحّد أن يحافظ على الاعتقاد بوجود قانون ( العلية والسببية ) الحاكم في الظواهر الطبيعية ، وإنّ هذه الأسباب والعلل لا تملك استقلالاً في تأثيرها مطلقاً بل هي مفتقرة إلى اللّه في تأثيرها كما في وجودها وبقائها.

إنّ الموحّد رغم أنّه يعرف هذه الحياة ويتعامل معها على أساس أنّها خاضعة لنظام العلية ، إلاّ أنّه ينظر إلى هذه العلل على أساس أنّ وجودها وبقاءها وتأثيرها من اللّه.

فالسبب الأوّل هو اللّه سبحانه ، وأمّا الأسباب الأُخرى فهي مخلوقة له خاضعة لإرادته واقعة في طول مشيئته لا في عرضها.

إنّ الفارق الأساسي بين الموحّد والمادي يكمن في هذا الأمر.

فالثاني يعتقد ب « أصالة العلل المادية واستقلالها في التأثير » في حين يسندها

ص: 517

الموحد إلى اللّه خالق كل شيء ، مع أنّه يعترف بقانون العلية الحاكم في هذا الكون.

شهادة القرآن الكريم

إنّ قضية استقلال وعدم استقلال العلل الطبيعية المادية هو الفاصل بين التوحيد والشرك ، وبه يعرف الموحّد عن المشرك - بوضوح - وإلى هذه الحقيقة أشار القرآن الكريم في آيات عديدة ، فهناك فريق من الناس عندما يواجهون المشاكل المستعصية وتنسد في وجوهههم جميع الأبواب والسبل ويقابلون المهالك وجهاً لوجه ، يتوجهون إلى اللّه ويلوذون به ولا يرون سواه ملجأً ومخلصاً فإذا ما نجوا عادوا إلى شركهم مرة أُخرى ، وهذه حالة فريق من الناس ، وإلى هذه الحالة تشير طائفة من آيات القرآن ، وها نحن نذكر فيما يلي بعضها على أنّ المهم لنا هو أن نعرف ما هو المقصود بالشرك المذكور في هذه الآيات ؟

وإليك فيما يلي نص الآيات :

( وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (1).

( فَإِذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (2).

( قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُون ) (3).

ص: 518


1- الروم : 33.
2- العنكبوت : 65.
3- الأنعام : 64.

( ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (1).

هذه بعض الآيات في هذا المجال ، والواجب هو الإمعان في عبارة « إذا هم يشركون ».

إنّ المقصود من الشرك - في هذه الآيات - ليس فقط أنّ هؤلاء إذا وصلوا إلى البر أو نجوا عكفوا على عبادة الأوثان ، بل المراد ما هو أوسع من ذلك ، فإنّهم إذا نجوا عادوا إلى نسيان الحالة السابقة ، والتجأوا إلى الأسباب المادية متصوّرين أنّها أسباب مستقلة تمدّهم في إدامة الحياة من دون استمداد من اللّه سبحانه وناظرين إليها بعين العلل المستقلة غير المعتمدة على اللّه ، ولا شك أنّ النظر إلى الأسباب العادية من نافذة الاستقلال هو أيضاً شرك يجب الاجتناب عنه ، وهي نقطة الافتراق بين المدرسية الإلهية والمدرسة المادية ، ولو طالعت هذه الآيات المتعلّقة بالشرك والتوحيد بروح علمية ، لوجدت كيف أنّ القرآن الكريم يصر على أنّه ليست في عالم الوجود قدرة في مصاف القدرة الإلهية ، ولا إرادة في عرض تلك الإرادة.

ويرشدك إلى هذا أنّ القرآن يعتقد بأنّه سبحانه هو الهادي في ظلمات البر والبحر ، وهو مرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته ومنزل الغيث ، ويقول :

( أَمن يَهْدِيِكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ءَإِلهٌ مَعَ اللّهِ تَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (2).

مع أنّ البشر كان ولا يزال يستفيد من الأسباب والوسائل الطبيعية كالنجوم والبوصلات ويهتدي بها وبغيرها من الأدوات التكنولوجية في أسفاره البرية

ص: 519


1- النحل : 54.
2- النمل : 63.

والبحرية ، وليس هذا إلاّ لأجل أنّ سببية الأسباب بتسبيب من اللّه سبحانه.

كما أنّ الرياح والأمطار في هذه الطبيعة ينشآن نتيجة سلسلة طويلة من تفاعل العلل الطبيعية التي تتسبب في وجود ظاهرة الرياح ، أو الأمطار ، ولكن القرآن مع ذلك يقول :

( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) (1).

( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوْا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ) (2).

وليس ذلك إلاّ لأنّ اللّه وراء تلك الأسباب ، وهي تفعل بأمره واقداره.

وبكلام آخر أنّ هذه العلل والأسباب حيث إنّها غير مستقلة ، لا في وجودها ولا في تأثيرها ، بل هي مخلوقة بأسرها وبتمام وجودها ، وتأثيرها لله ، لذا يصرح القرآن الكريم بأنّه سبحانه الهادي في ظلمات البر والبحر ومرسل الرياح ومنزل الغيث من بعد ما قنطوا.

وهذه الحقيقة - بعينها - مبينة بوضوح تام في آيات سورة الواقعة.

إنّ هذا لا يعني أنّ القرآن الكريم يتنكر للعلل والأسباب الطبيعية ، وينكر وجودها ومشاركتها ، ويلغي دورها ، بل حيث إنّ هذه العلل والأسباب لا تملك من لدن نفسها استقلالاً وتقوم باللّه سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الإسمي بحيث لو قطعت عنها عنايته تعالى آناً ما ، انهارت وتهافتت جملة واحدة ، وانقلب عالم الوجود مع كل وضوحه إلى ظلام وعدم ، لذلك تفنن في تفسير الظواهر الطبيعية تارة بنسبتها إلى اللّه سبحانه وأُخرى إلى سائر العلل وثالثة إليهما معاً ، قال : ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ) (3). (4)

ص: 520


1- الأعراف : 57.
2- الشورى : 28.
3- الأنفال : 17.
4- ولقد بحثنا حول تلك الآيات في صفحة 405.
التوسل بالأسباب غير الطبيعية

إلى هنا تبيَّن أنّ النظرة إلى الأسباب الطبيعية بلحاظ أنّها علل غير مستقلة عين التوحيد ، وبلحاظ استقلالها في التأثير عين الشرك ، وأمّا غير الطبيعية من العلل فحكمها حكم الطبيعية حيث إنّ التوسل على النحو الأوّل عين التوحيد ، وعلى النحو الثاني عين الشرك حرفاً بحرف ، غير أنّ الوهابيين جعلوا التوسل بغير الطبيعية من العلل توسّلاً ممزوجاً بالشرك ويقول المودودي في ذلك :

« فالمرء إذا كان أصابه العطش - مثلاً - فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء لا يطلق عليه حكم « الدعاء » ولا أنّ الرجل اتخذ الخادم إلهاً ، وذلك إنّ كل ما فعله الرجل جار على قانون العلل والأسباب ، ولكن إذا استغاث بولي في هذا الحال فلا شك انّه دعاه لتفريج الكربة وأتَّخذه إلهاً.

فكأنِّي به يراه سميعاً بصيراً ، ويزعم أنّ له نوعاً من السلطة على عالم الأسباب ممّا يجعله قادراً على أن يقوم بإبلاغه الماء ، أو شفائه من المرض.

وصفوة القول : إنّ التصوّر الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرع إليه هو لا جرم تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ الطبيعة.

إنّ الحديث حول هذا المقام يقع في موردين :

الأوّل : إذا اعتقد إنسان بأنّ للظاهرة المعينة سببين : طبيعياً ، وغير طبيعي. فإذا يئس من الأوّل ولاذ بالثاني ، فهل يعد فعله شركاً أو لا ؟

الثاني : إذا اعتقد بأنّ لشخص خاص سلطة غيبية على الكون بإذنه سبحانه ، فهل يعد هذا الاعتقاد اعتقاداً بإلوهيته ؟

ص: 521

وقد حققنا القول حول الأمر الثاني ونركّز البحث على الأمر الأوّل ، فنقول :

إذا اعتقد إنسان بأنّ لبرئه من المرض طريقين أحدهما طبيعي والآخر غير طبيعي ، وقد سلك الطريق الأوّل ولم يصل إلى مقصوده فعاد يتوسل إلى مطلوبه بالتمسك بالسبب الثاني كمسح المسيح يديه عليه ، فهل يعد اعتقاد هذا وطلبه منه شركاً وخروجاً عن جادة التوحيد أو لا ؟

وأنت إذا لاحظت الضوابط التي قد تعرفت عليها في تمييز الشرك عن غيره لقدرت على الإجابة بأنّه لا ينافي التوحيد ولا يضاده بل يلائمه كمال الملاءمة فإنّه يعتقد بأنّ اللّه الذي منح الأثر للأدوية الطبيعية أو جعل الشفاء في العسل هو الذي منح المسيح قدرة يمكنه أن يبرئ المرضى بإذنه سبحانه ، ومعه كيف يعد اعتقاده هذا شركاً ؟

وبكلام آخر : انّ الشرك عبارة عن الاعتقاد باستقلال شيء في التأثير بمعنى أن يكون أثره مستنداً إليه لا إلى خالقه وبارئه والمفروض عدمه ، ومع ذلك كيف يكون شركاً ، والتفريق بين التوسل بالأسباب الطبيعية وغيرها بجعل الأوّل موافقاً للتوحيد دون الثاني تفريق بلا جهة ، فإنّ نسبتها إلى اللّه سبحانه في كون التأثير بإذنه سواسية.

نعم يمكن لأحد أن يخطّئ القائل في سببية شيء ، ويقول بأنّ اللّه لم يمنح للولي الخاص تلك القدرة وانّه عاجز عن الإبراء ، ولكنه خارج عن محط بحثنا ، فإنّ البحث مركز على تمييز الشرك عن غيره لا على إثبات قدرة لأحد أو نفيها عنه وأظن أنّ القائلين بكون هذا الاعتقاد والطلب شركاً لو ركزوا البحث على تشخيص ملاك الشرك عن غيره لسهل لهم تمييز الحق عن غيره ، إذ أي فرق بين الاعتقاد بأنّ اللّه وهب الإشراق للشمس والإحراق للنار وجعل الشفاء في العسل ،

ص: 522

وبين أنّه هو الذي أقدر وليه مثل المسيح وغيره على البرء ، أو أنّه أعطى للأرواح المقدسة من أوليائه قدرة على التصرف في الكون وإغاثة الملهوف.

وقد ورد في القرآن الكريم نماذج من إعطاء آثار خاصة لعلل غير طبيعية تلقي الضوء على ما ذكرنا ، فإليك بيانها :

1. انّ القرآن يصف عجل السامري بقوله : ( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) (1).

فبعد ما رجع موسى من الميقات ورأى الحال ، سأل السامري عن كيفية عمله ، وانّه كيف قدر على هذا العمل البديع ؟ فأجاب :

( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) (2).

فعلّل عمله هذا بأنّه أخذ قبضة من أثر الرسول فعالج بها مطلوبه فعاد العجل ذا خوار ، وهذا يعطي أنّ التراب المأخوذ من أثر الرسول كان له أثر خاص وقد توسل به السامري.

2. انّ القرآن يصف كيفية برء يعقوب مما أصاب عينيه ، ويقول حاكياً عن يوسف أنّه قال :

( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) (3).

ص: 523


1- طه : 88.
2- طه : 96.
3- يوسف : 93.

( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلْمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (1).

فإذا اعتقد الإنسان بأنّ الذي خلق في التراب المأخوذ من أثر الرسول المعين أثراً خاصاً بحيث إذا امتزج مع الحلي يجعلها ذات خوار ، أو منح للقميص ذلك الأثر العجيب هو الذي أعطى لسائر العلل غير الطبيعية آثاراً خاصة يستفيد منها الإنسان في ظروف معينة ، فهل يجوز لنا رمي المعتقد بهذا ، بأنّه مشرك ، وأي فرق بين ما أخذ السامري من أثر الرسول وقميص يوسف وسائر العلل مع أنّ الجميع علل غير مألوفة.

إنّ التوسل بالأرواح المقدسة والاستمداد بالنفوس الطاهرة الخالدة عند ربها نوع من التمسك بالأسباب في اعتقاد المتمسك وقد قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (2).

وأمّا البحث عن أنّ هذه الأرواح والنفوس هل في مقدورها أن تغيث من يستغيث بها أو لا ؟ فهو خارج عما نحن بصدده.

ص: 524


1- يوسف : 96.
2- المائدة : 35.

8

المعايير الثلاثة المتوهمَّة للشِّرك

1. هل الحياة والموت حدّان للتوحيد والشرك ؟

لا شك أنّ التعاون ، والتعاضد بين أبناء الإنسان أساس الحياة ، وما التاريخ الإنساني إلاّ حصيلة الجهود البشرية التي نبعت من التعاون ، وتقاسم المسؤوليات والاستفادة المتبادلة من الطاقات الإنسانية.

والقرآن حافل بنماذج كثيرة من استمداد البشر بمثله ، إذ يقول :

( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ) (1).

إذن فاستمداد الإنسان بالإنسان الآخر أمر واقع في الحياة البشرية وجائز عند جميع الأُمم غير أنّ للوهابيين تفصيلاً في المقام يرونه هو الحد الطبيعي الفاصل بين التوحيد والشرك.

فيقولون : إنّ التوسل بالأنبياء والأولياء جائز في حال حياتهم دون مماتهم

ص: 525


1- القصص : 15.

ويقول : محمد بن عبد الوهاب في هذا الصدد :

« وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي رجلاً صالحاً تقول له : ادع اللّه لي كما كان أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يسألونه في حياته ، وأمّا بعد مماته فحاشا وكلا أن يكونوا سألوا ذلك ، بل أنكر السلف على من قصد دعاء اللّه عند قبره فكيف بدعاء نفسه » (1).

إنّ للتوحيد والشرك معايير خاصة بها يمتاز أحدهما عن الآخر وإنّ الإسلام لم يترك تحديد تلك المعايير إلينا ، بل حدّد كل واحد بحد خاص.

وقد ألمعنا بها فيما سبق ولم يذكر في تلك المعايير أنّ الحياة والموت حدّان للتوحيد والشرك.

وستعرف أنّه لا مدخلية لحياة المستغاث منه ومماته في تحديد الشرك أو التوحيد مطلقاً ، لأنّ الاستمداد والاستغاثة بالحي مع الاعتقاد باستقلاله في القدرة والتأثير ، وأصالته في إغاثة المستغيث يوجب الشرك ، وكون الاستغاثة بالحي أمراً رائجاً بين العقلاء لا يوجب صحتها إذا كانت مقرونة مع الاعتقاد باستقلال المستغاث في الإغاثة ، لأنّ الدارج بين العقلاء هو : أصل الاستغاثة بالحي لا باعتباره مستقلاً في العمل.

فلا تكون استغاثة شيعة موسى مطابقة للتوحيد إلاّ في صورة واحدة وهي : أن لا يعتقد معها باستقلال موسى في التأثير ، بل يجعل قدرته ، وتأثيره في طول القدرة الإلهية ، ومستمدة منه تعالى.

ص: 526


1- كشف الارتياب : 271 نقلاً عن كشف الشبهات تأليف محمد بن عبد الوهاب ، طبع مصر ص 70.

إنّ نفس هذه الحقيقة جارية في الاستمداد ، والاستغاثة ب « الأرواح المقدسة » العالمة الشاعرة حسب إخبار القرآن وتأييد العلوم الحديثة ، فإذا استغاث شيعة موسى علیه السلام به بعد خروج روحه عن بدنه بهذه العقيدة لم يكن عمله شركاً ، ولم يجعل موسى شريكاً لله لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال ، ولا في العبادة ، ولم يعبد موسى بهذه الاستغاثة والطلب.

وأمّا لو استغاث به وهو يعتقد باستقلال روحه في الإغاثة ويعتقد بأنّها قادرة على التأثير دون القدرة الإلهية ، فإنّ هذا المستغيث يعد مشركاً ويكون موسى - كما يقتضي اعتقاده - في صف الآلهة.

ولو كانت حياة المستغاث ومماته مؤثرة في الأمر ، فإنّما تكون مؤثرة في جدوائية الاستغاثة أوّلاً ، لا في تحديد التوحيد والشرك ، والبحث عن الجدوائية وخلافها خارج عن موضوع بحثنا.

ومن العجب العجاب اعتبار التوسل والاستغاثة بالحي والاستشفاع به عين التوحيد ، وعد هذه الاستغاثة والاستشفاع - مع نفس الخصوصيات - بميت شركاً وفاعلها واجب الاستتابة مستحق القتل.

إنّ الوهابيين يسلمون انّ اللّه سبحانه أمر العصاة بأن يذهبوا إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ويطلبوا منه أن يستغفر لهم أخذاً بظاهر الآية ( النساء - 64 ) ، كما يسلمون أنّ أولاد يعقوب طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم ( يوسف 97 - 98 ) غير أنّهم يقولون : إنّ هذين الموردين إنّما ينطبقان مع أُصول التوحيد لأجل حياة المستغاث ، وأمّا إذا سئل ذلك في مماته عدّ شركاً.

غير أنّ القارئ النابه جد عليم بأنّ حياة الرسول ومماته لا يغيِّران ماهية العمل ، إذ لو كان التوسل شركاً حقيقة للزم أن يكون كذلك في الحالتين من دون

ص: 527

فرق بين حالتي الحياة والممات.

ولو اعترض على الاستغاثة بالميت بأنّه عمل عبثي أوّلاً ، وبدعة لم يرد في الشرع ثانياً فيقال في جوابه :

أوّلاً : انّ هذا العمل إنّما يصطبغ بلون البدعة إذا أتى به المستغيث بعنوان كونه وارداً في الشرع وأمّا لو أتى به من جانب نفسه من دون أن ينسبه إلى مقام فلا يعد بدعة وإحداثاً في الدين ، لأنّ البدعة هو إدخال ما ليس من الدين في الدين ، وهو فرع الإتيان بالعمل بما أنّه أمر ديني.

وثانياً : أنّ البحث في المقام إنّما هو عن تحديد التوحيد والشرك ولا عن كون العمل مفيداً أو غيره أو بدعة وغير بدعة ، فكل ذلك خارج عن بحثنا ، أضف إلى ذلك أنّه قد ثبت في محله مشروعية التوسّل بالأرواح المقدسة بالدلائل النقلية الصريحة (1).

وعلى كل حال لا يمكن اعتبار الاستغاثة بالميت شركاً ، إذ هو لم يشرك بعمله باللّه أبداً لا في الذات ولا في الصفات ولا في الفعل ليخرج بذلك عن توحيد الربوبية ، ولا في العبادة ليخرج عن التوحيد في العبادة.

إنّ المفتاح لحل هذه المشكلة هو ما ذكرناه في تحديد معنى الشرك والتوحيد وهو انّ الاعتقاد باستقلال الفاعل في ذاته وفعله والتوجه به كذلك يعد شركاً في العبادة ، كما أنّ الاعتقاد بعدم استقلاله في ذاته وصفاته وأفعاله يعد اعترافاً بعبوديته ويعد التوجّه به تكريماً واحتراماً ، ولو تناسينا هذه القاعدة لما وجد على أديم الأرض موحد أبداً.

ص: 528


1- راجع للوقوف على تلك الأدلة كشف الارتياب : 301.

وفيما لي نلفت نظر القارئ الكريم إلى كلام لتلميذ ابن تيمية في هذا المجال ، يقول ابن القيم :

ومن أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى ، والاستعانة بهم ، والتوجه إليهم ، وهذا أصل شرك العالم ، فإنّ الميت قد انقطع عمله ، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً » (1).

وما ذكره من الدليل لا يثبت مدّعاه لأنّ قوله : « فإنّ الميت قد انقطع عمله » دليل على عدم فائدة الاستغاثة بالميت ، وليس دليلاً على كونها شركاً ، وهو لم يفرق بين الأمرين ، والأغرب من ذلك قوله : « وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً » ، إذ لا فرق في ذلك بين الحي والميت ، فلا يملك أحد ضراً لنفسه ولا نفعاً بدون إذن اللّه وإرادته ، سواء أكان حياً أم ميتاً ، ومع الإذن الإلهي يملكون النفع والضر أحياء كانوا أم أمواتاً.

ومن هذا اتضح ضعف ما أفاده ابن تيمية ، إذ قال :

كل من غلا في نبي ، أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول : يا سيدي فلان انصرني أو أغثني ، ... فكلّ هذا شرك وضلال ، يستتاب صاحبه ، فإن تاب ، وإلاّ قتل (2).

إذا كانت الاستغاثة ب « الأرواح المقدسة » ( الأموات حسب تعبير الوهابيين ) ملازمة لنوع من الاعتقاد بإلوهية تلك الأرواح ، إذن يلزم أن تكون الاستغاثة بأي شخص - أعم من الحي والميت - ملازمة لمثل هذا الاعتقاد ، لأنّ حياة المستغاث ومماته حد لجدوائية الاستغاثة ولا جدوائيتها لا أنّها حد التوحيد ، وللشرك في حين

ص: 529


1- فتح المجيد : 68 الطبعة السادسة.
2- المصدر السابق : 167.

انّ الاستغاثة بالحي يعد من أشد ضروريات الحياة الاجتماعية البشرية ، ومما به قوامها.

وإليك فيما يلي نبذة أُخرى من كلام ابن تيمية في هذا الصدد ، فهو يقول :

« والذين يدعون مع اللّه آلهة أُخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنّها تخلق الخلائق ، أو تنزل المطر وإنّما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم ، أو يعبدون صورهم يقولون ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى اللّه زلفى ، أو هؤلاء شفعاؤنا » (1).

إنّ قياس الاستغاثة بأولياء اللّه بما كان يقوم به المسيحيون والوثنيون ابتعاد عن الموضوعية ، لأنّ المسيحيين كانوا يعتقدون في حق المسيح بنوع من الإلوهية ، وكان الوثنيون يعتقدون بأنّ الأوثان تملك بنفسها مقام الشفاعة ، بل كان بعضهم - على ما نقل ابن هشام - يعتقد بأنّها متصرفة في الكون ، ومرسلة الأمطار (2) - على الأقل - ، ولأجل هذا الاعتقاد كان طلبهم واستغاثتهم بالمسيح وبتلك الأوثان عبادة لها.

فعلى هذا إذا كانت الاستغاثة مقرونة بالاعتقاد بالوهية المستغاث كانت شركاً حتماً ، وأمّا إذا كانت الاستغاثة - بالحي أو الميت - خالية وعارية عن هذا القيد لم تكن شركاً ولا عبادة بل استغاثة بعبد نعلم أنّه لا يقوم بشيء إلاّ بإذنه سبحانه.

نعم يجب في موارد الاستغاثة بالموتى أن نبحث في فائدة مثل هذه الاستغاثة وعدم فائدتها ، لا في كونها شركاً وعبادة لغير اللّه ، والكلام إنّما هو في الثاني دون الأوّل.

ص: 530


1- المصدر السابق : 167.
2- راجع قصة عمرو بن لحي المذكورة في ص 382 من هذا الكتاب.
تعظيم أولياء اللّه وإحياء ذكرياتهم ؟

ينزعج الوهابيون - بشدة - من تعظيم أولياء اللّه وتخليد ذكرياتهم ، وإحياء مناسبات مواليدهم أو وفياتهم ، ويعتبرون اجتماع الناس في المجالس المعقودة لهذا الشأن شركاً وضلالاً ، ففي هذا الصدد يكتب محمد حامد الفقي ، رئيس جماعة أنصار السنّة المحمدية في هوامشه على كتاب فتح المجيد :

« الذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم » (1).

إنّّ هؤلاء لم يعينوا حدّاً للتوحيد والشرك ، وللعبادة على الأخص ، ولذلك رموا كل عمل بالشرك حتى أنّهم تصوروا أنّ كل نوع من التعظيم عبادة وشرك.

ولأجل ذلك جعل الكاتب « العبادة » إلى جانب التعظيم وتصور أنّ للّفظتين معنى واحداً ، ومما لاشك فيه أنّ القرآن يعظم فريقاً من الأنبياء والأولياء بعبارات صريحة كما يقول في شأن زكريا ويحيى علیهماالسلام :

( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) (2).

فلو أنّ أحداً أقام مجلساً عند قبر من عناهم اللّه وسماهم في هذه الآية ، وقرأ في ذلك المجلس هذه الآية المادحة ، معظماً بذلك شأنهم ، فهل اتبع غير القرآن ؟!

كما ويقول في شأن أهل بيت النبي صلی اللّه علیه و آله :

( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (3).

ص: 531


1- فتح المجيد : 154 ثم نقل عن كتاب قرة العيون ما يشابه هذا المضمون.
2- الأنبياء : 90.
3- الدهر : 8.

فهل ترى لو اجتمع جماعة في يوم ميلاد علي بن أبي طالب - وهو أحد الآل - وقالوا : إنّ علياً كان يطعم الطعام للمسكين واليتيم والأسير ، كانوا مشركين ؟

أو ترى لماذا يكون مشركاً لو أنّ أحداً تلا الآيات المادحة لرسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله في حفلة عامة في يوم مولده الشريف كالآيات التالية :

( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (1).

( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ) (2).

( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (3).

( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (4).

فلو تلا أحد هذه الآيات المثنية على النبي ، أو قرأ ترجمتها بلغة أُخرى ، أو سكب هذا المديح الإلهي القرآني في قالب الشعر وأنشد ذلك في مجلس كان مشركاً ؟!

إنّ عدم وجود هذه الاحتفالات في زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله ليس دليلاً على كونها شركاً ، وأقصى ما يمكن أن يقال أنّها بدعة لا شركاً ولا عبادة للإنسان الصالح ، بل لا تعد بدعة ، إذ لو نسب إقامة الاحتفالات التكريمية أو مجالس العزاء في

ص: 532


1- القلم : 4.
2- الأحزاب : 45 - 46.
3- التوبة : 128.
4- الأحزاب : 56.

الذكريات ، إلى الشارع المقدس وادّعى بأنّ اللّه أمر بذلك يلزم أن نفحص عن مدى صحة هذه النسبة وصدق هذا الادّعاء ، لا أن نصف إقامة هذه المجالس بأنّها شرك.

وأمّا لو أقامها من جانب نفسه من دون أن يسندها إلى أمره سبحانه فلا تكون بدعة بتاتاً.

كيف لا ، وهذا القرآن الكريم يثني على أُولئك الذين أكرموا النبي صلی اللّه علیه و آله وعظموا شأنه ، وبجّلوه ، إذ يقول :

( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (1).

إنّ الأوصاف التي وردت في هذه الآية والتي استوجبت الثناء الإلهي هي :

1. آمنوا به.

2. وعزّروه.

3. ونصروه.

4. واتّبعوا النور الذي أُنزل معه.

فهل يحتمل أحد أن تختص هذه الجمل الثلاث :

« آمنوا به ، ونصروه ، واتبعوا » بزمن النبي صلی اللّه علیه و آله ؟ الجواب : لا.

فإنّ الآية لا تعني الحاضرين في زمن النبي - خاصة - ، فعندئذٍ من القطعي أن لا تختص جملة « عزَّروه » بزمان النبي ، أضف إلى ذلك أنّ القائد العظيم يجب أن يكون موضعاً للتكريم والاحترام والتعظيم في كل العهود والأزمنة.

ص: 533


1- الأعراف : 157.

فهل إقامة المجالس لإحياء ذكريات : المبعث أو المولد النبوي ، وإنشاء الخطب والمحاضرات والقصائد والمدايح إلاّ مصداق جلي لقوله تعالى : ( وَعَزَّرُوهُ ) والتي تعني : أكرموه وعظّموه.

عجباً كيف يعظم الوهابيون أُمراءهم بالاحترام الذي يفوق ما يفعله غيرهم تجاه أولياء اللّه فلا يكون ذلك شركاً ، وأمّا إذا أتى أحد بشيء يسير من ذلك في حقهم عد شركاً ؟!

إنّ المنع عن تعظيم الأنبياء والأولياء وتكريمهم - أحياءً وأمواتاً - يصور الإسلام في نظر الأعداء ديناً جامداً لا مكان فيه للعواطف الإنسانية كما يصور تلك الشريعة السمحاء المطابقة للفطرة الإنسانية ديناً يفقد الجاذبية المطلوبة القادرة على اجتذاب أهل الملل الأُخرى واكتسابهم.

ماذا يقول - الذين يخالفون إقامة مجالس العزاء للشهداء في سبيل اللّه - في قصة يعقوب علیه السلام ؟ وماذا يقولون فيه وهو يبكي على ابنه أسفاً وحزناً في فراق ولده يوسف ، ليله ونهاره ، ويسأل كل من لقيه عن ابنه المفقود حتى يفقد بصره ، كما يقول سبحانه : ( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ ) (1).

فلماذا يكون إظهار مثل هذه العلاقة في حال حياة الولد جائزاً ومشروعاً ومطابقاً لأُصول التوحيد بينما إذا كان في حال مماته عد شركاً ؟!

فإذا اتبع أحد طريق يعقوب فبكى على فراق أولياء اللّه وأحبائه يوم استشهادهم ، فلماذا لا يعد عمله اقتداء بيعقوب علیه السلام .

لا ريب في أنّ مودة ذوي القربى هي إحدى الفرائض الإسلامية التي دعا

ص: 534


1- يوسف : 84.

إليها بأوضح تصريح ، فلو أراد أحد أن يقوم بهذه الفريضة الدينية بعد أربعة عشر قرناً فكيف يمكنه ، وما هو الطريق إلى ذلك ؟ هل هو إلاّ أن يفرح في أفراحهم ، ويحزن في أحزانهم ؟

فإذا أقام أحد - لإظهار مسرته - مجلساً يذكر فيه حياتهم ، وتضحياتهم أو يبين مصائبهم ، فهل فعل إلاّ إظهار المودة ، المندوبة إليها في القرآن الكريم ؟! وإذا زار أحد - لإظهار مودة أكثر - مقابر أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله وأقام مثل هذه المجالس عند تلكم القبور ، فإنّه لم يفعل - في نظر العقلاء - إلاّ إظهار المودة.

التبرّك بآثار النبي والأولياء

قد جرت سنّة السلف الصالح على التبرك بآثار النبي وآله سنّة قطعية لا يشك فيها كل من له إلمام بتاريخ المسلمين (1) غير انّ الوهابيين أنكروا ذلك أشد الإنكار وعدّوه شركاً وإن كان ذلك بدافع محبة النبي وآله ومودّتهم.

غير انّ المتبرّك إذا اعتمد في عمله على عمل يعقوب حيث وضع قميص يوسف على عينيه ، فارتد بصيراً ، هل يصح لنا رميه بالشرك ؟! إذ أي فرق بين التبرّك بآثار النبي وآثار سائر الأولياء وتبرّك يعقوب بقميص يوسف ، قال سبحانه : ( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) (2).

ص: 535


1- لقد ألّف الشيخ محمد طاهر المكي المعاصر كتاباً في ذلك وأسماه ( تبرك الصحابة بآثار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ) نقل فيه شواهد تأريخية قطعية على تبركهم وتبرك التابعين بآثاره صلی اللّه علیه و آله قاطبة ، وقد طبع ذلك الكتاب عام 1385 ه ، ثم أُعيد طبعه عام 1394 ه.
2- يوسف : 96.
خاتمة المطاف

إنّ من يلاحظ عصر الرسول صلی اللّه علیه و آله وما تلاه من عصور التحول العقائدي والفكري يجد إقبال الأُمم المختلفة ذات التقاليد والعادات المتنوعة على الإسلام وكثرة دخولهم واعتناقهم هذا الدين ، ويجد أنّ النبي والمسلمين كانوا يقبلون إسلامهم ، ويكتفون منهم بذكر الشهادتين دون أن يعمدوا إلى تذويب ما كانوا عليه من عادات اجتماعية ، وصوغهم في قوالب جديدة تختلف عن القوالب والعادات والتقاليد السابقة تماماً.

وقد كان احترام العظماء - أحياءً وأمواتاً - وإحياء ذكرياتهم والحضور عند القبور ، وإظهار العلاقة والتعلّق بها من الأُمور الرائجة بينهم.

واليوم نجد الشعوب المختلفة - الشرقية والغربية - تعظم وتخلد ذكريات عظمائها ، وتزور قبور أبنائها ، وتتردّد على مدافنهم ، وتسكب في عزائهم الدموع والعبرات ، وتعتبر كل هذا الصنيع نوعاً من الاحترام النابع من العاطفة والمشاعر الداخلية الغريزية.

وصفوة القول : إنّنا لا نجد مورداً عمد فيه النبي صلی اللّه علیه و آله إلى قبول إسلام الوافدين والداخلين فيه بعد أن يشرط عليهم أن ينبذوا تقاليدهم الاجتماعية هذه ، وبعد أن يفحص عقائدهم ، بل نجده صلی اللّه علیه و آله يكتفي من المعتنقين الجدد للإسلام بذكر الشهادتين ورفض الأوثان.

وإذا كانت هذه العادات والتقاليد شركاً لزم أن لا يقبل النبي صلی اللّه علیه و آله إسلام تلك الجماعات والأفراد إلاّ بعد أن تتعهد له بنبذ تلكم التقاليد والمراسم.

والحاصل : أنّ ترك التوسّل بالأولياء والتبرّك بآثارهم وزيارة قبورهم لو كان

ص: 536

شرطاً لتحقق الإيمان المقابل للشرك والصائن للدم والمال لوجب على نبي الإسلام اشتراط ذلك كله ( أي ترك هذه الأُمور ) عند وفود القبائل على الإسلام وللزم التصريح به على صهوات المنابر وعلى رؤوس الأشهاد مرة بعد أُخرى ، ولو صرح بذلك لما خفي على المسلمين ، إذن فكل ذلك يدل على عدم اشتراط ترك هذه الأُمور ، وليس ذلك إلاّ لأنّ تركها ليس شرطاً لتحقّق الإيمان ورفض الشرك ولعدم كون الآتي بها مجانباً للإيمان ومعتنقاً للشرك.

ولو كان التوسل والتبرك والزيارة ملازماً للاعتقاد بالإلوهية لما خفى ذلك على المسلمين الذين جرت سيرتهم العملية على ذلك حتى يكون عملهم مخالفاً لاعترافهم بإله واحد ، وقد أوضحنا معنى الإلوهية في هذا الفصل الصفحة 487 فراجع.

وقد تواترت الأخبار عن النبي وآله - صلى اللّه عليهم أجمعين - بأنّ الإسلام يحقن به الدم ، ويصان به العرض ، والمال ، وتؤدّى به الأمانة ، إلى غير ذلك من الأحكام المترتبة على الإسلام.

وحسبك أيها القارئ الكريم ما أخرجه البخاري عن ابن عباس عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن :

« إنّك ستأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه ، فإن هم أطاعوا لك بذلك ، فأخبرهم أنّ اللّه قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ اللّه قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم » (1).

ص: 537


1- صحيح البخاري : 5 / 162 ، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن.

وأخرج البخاري ومسلم في باب فضائل علي علیه السلام أنّه (1) قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم خيبر :

« لأعطين هذه الراية رجلاً يحب اللّه ورسوله يفتح اللّه على يديه ».

قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الإمارة إلاّ يومئذ قال : فتساورت لها رجاء أن أُدعى لها ، قال : فدعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال : « امش ولا تلتفت حتى يفتح اللّه عليك » فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت وصرخ : يا رسول اللّه على ماذا أُقاتل الناس ؟

قال صلی اللّه علیه و آله :

« قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها وحسابهم على اللّه » (2).

وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« بني الإسلام على خمس :

شهادة أن لا إله إلاّ اللّه

وأنّ محمداً رسول اللّه

وإقام الصلاة

وإيتاء الزكاة

والحج

ص: 538


1- واللفظ لمسلم ، وراجع البخاري : 2 / في مناقب علي علیه السلام .
2- صحيح مسلم : الجزء 6 ، باب فضائل علي بن أبي طالب.

وصوم رمضان » (1).

وأخرج البخاري - أيضاً - عن ابن عمر انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال :

« أمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على اللّه » (2).

إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية المبثوثة في كتاب الإيمان في كتب الصحاح والسنن.

وأمّا ما روي عن أئمّة أهل البيت فيكفيك ما رواه سماعة عن الإمام الصادق علیه السلام قال :

« الإسلام : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه والتصديق برسول اللّه به حقنت الدماء وجرت المناكح والمواريث » (3).

وكل هذه الأحاديث تصرح بأنّ ما تحقن به الدماء وتصان به الأعراض ويدخل الإنسان به في عداد المسلمين هو الاعتقاد بتوحيده سبحانه ورسالة الرسول.

وعلى ذلك جرت سنة النبي صلی اللّه علیه و آله ، فقد كان يكتفي من الرجل بإظهاره

ص: 539


1- راجع التاج الجامع للأُصول في أحاديث الرسول تأليف الشيخ منصور على ناصف : 1 / 20.
2- صحيح البخاري : ج 1 ، كتاب الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة ، وفي صحيح ابن ماجة : 2 / 457 ، باب الكف عمّن قال : لا اله إلاّ اللّه.
3- الكافي 2 / 25 ، الطبعة الحديثة راجع باب الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان ترى فيها نصوصاً رائعة وصريحة في هذا المقام. وراجع التاج الجزء الأول كتاب الإسلام والإيمان من صفحة 20 إلی صفحة 34.

الشهادتين ، ولم ير منه أنّه سأل عن الوافدين المظهرين للشهادتين : هل هم يتوسلون بالأنبياء والأولياء والقديسين أو لا ؟ هل هم يتبركون بآثارهم أو لا ؟ هل هم يزورون قبور الأنبياء أو لا ؟ فيشترط عليهم أن يتركوا التوسل والتبرك والزيارة.

أجل كل ذلك يدل على أنّ الإسلام الحاقن للدماء الصائن للأعراض والأموال هو قبول الشهادتين وإظهارهما فقط ، وأمّا ما وراء ذلك فلا دخالة له في حقن الدماء والأموال والأعراض.

نعم انّ اللّه فرض على المسلمين عندما تنازعوا ، أو اختلفوا في أمر أن يردّوه إلى اللّه والرسول كما قال سبحانه :. ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) (1) ، وقال سبحانه : ( وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإلى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) . (2).

وعلى ذلك فليس لأحد من المسلمين سب طائفة منهم وشتمها ورميها بالكفر والإلحاد ما دامت تتمسك بالشهادتين وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وذلك لأجل توسّلهم بالأنبياء أو تبرّكهم بآثارهم ، أو غير ذلك من المسائل الفكرية الدقيقة التي تضاربت فيها آراء علمائهم ونظرياتهم.

فإن طعن فيهم طاعن أو رماهم بالشرك ، فقد خرج عن النهج الذي شاءه اللّه للمسلمين ، وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) (3) ، أو قال : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) . (4). وقال

ص: 540


1- النساء : 59.
2- النساء : 83.
3- الأنعام : 159.
4- النساء : 94.

سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) (1).

والمراد بحبل اللّه الذي يجب الاعتصام به هو دينه المفسر بالإسلام ، كما قال : ( إِِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإسْلامُ ) (2) ، والإسلام هو إظهار الشهادتين ولا ريب في وجوده في طوائف المسلمين إلاّ من اتفقت كلمتهم على تكفيرهم كالخوارج والنواصب.

ومن راجع الكتاب والسنّة يجد انّهما يركزان دعوتهما على لزوم التوادد والتحابب بين المسلمين لا على التنافر ، ورمي بعضهم بعضاً بالكفر ، والتعدي بالضرب والشتم والقتل.

وأخرج البخاري بطرق عديدة عن النبي صلی اللّه علیه و آله انّه قال في حجة الوداع :

« انظروا ولا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ». (3).

فكيف يسمح الوهابيون لأنفسهم إذن بأن يرموا المسلمين الموحدين بالشرك ليس إلاّ لأنّهم يظهرون ما يضمرونه من محبة وود للنبي صلی اللّه علیه و آله بتقبيل ضريحه وتعظيمه.

2. هل القدرة والعجز حدّان للشرك ؟

ربما يستفاد من كلمات الوهابيين أنّ هناك معياراً آخر للشرك في العبادة ،

ص: 541


1- آل عمران : 102 - 103.
2- آل عمران : 19.
3- البخاري : ج 9 كتاب الفتن الباب السابع الحديث الأوّل والثاني ، ورواه أيضاً في مختلف كتبه ، ورواه ابن ماجة في باب سباب المسلم فسوق ، راجع 2 / 462 ، ط مصر.

وهو « قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة وعجزه عنه » ، فإذا طلب أحد من آخر حاجة لا يقدر عليها إلاّ اللّه عدّ عمله عبادة وشركاً ، فها هو ابن تيمية يكتب في هذا الصدد قائلاً :

« من يأتي إلى قبر نبي أو صالح ، ويسأله حاجته ، ويستنجد به ، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه ، أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه عزّ وجلّ ، فهذ شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلاّ قتل » (1).

لقد جعل في هذه العبارة للشرك معياراً آخر ، وهو قدرة المسؤول وعجزه عن تلبية السائل ، ولو كان هذا هو الميزان يجدر بابن تيمية أن يضيف بعد قوله : « قبر نبي أو صالح » جملة أُخرى هي : « أو ولي حي » ليتضح أنّ المعيار الذي اعتمده - هنا - ليس هو موت المستغاث وحياته ، بل قدرته على تلبية الحاجة وعدم قدرته على ذلك ، كما فعل الصنعاني ( وهو أحد مؤلّفي الوهابيين ) إذ قال : « من الأموات أو من الأحياء ».

وإليك فيما يأتي نص عبارة الصنعاني في المقام :

الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه مما لا ينكرها أحد ، وإنّما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم ، وطلبهم منهم أُموراً لا يقدر عليها إلاّ اللّه تعالى من عافية المريض وغيرها ، وقد قالت أُم سليم : يا رسول اللّه خادمك أنس ادع اللّه له.

وقد كانت الصحابة يطلبون الدعاء منه وهو حي وهذا أمر متفق على جوازه.

ص: 542


1- زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور : 156. وفي رسائل الهدية السنية : 40 نجد ما يقرب من هذا المطلب أيضاً يراجع كتاب كشف الارتياب.

والكلام في طلب القبوريين ، من الأموات أو من الأحياء أن يشفوا مرضاهم ويردوا غائبهم ، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلاّ اللّه (1).

وهكذا نعرف أنّ المعيار هنا هو غير ما سبق.

ففي المبحث السابق كان المعيار هو : حياة وموت المستغاث ، فلم يكن الطلب من الحي موجباً للشرك بينما كان الطلب من الميت موجباً لذلك ، ولكن في هذا المبحث جعلت قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة المطلوبة منه ، أو عجزه عنها هي الميزان والمدار للتوحيد والشرك.

فلو سأل أحد حاجة من آخر غير اللّه ، وكانت تلك الحاجة مما لا يقدر عليها غيره سبحانه ، فإنّه يعتبر - حسب هذا المعيار الجديد - مشركاً دون أن يكون لحياة وموت المستغاث أي ربط بذلك.

فإذن لا تفاوت في هذا المعيار بين المستغاث الحي والميت.

مناقشة هذا الرأي

والحق أنّ هذا الرأي أضعف من أن يحتاج إلى مناقشة ونقد ، وذلك لأنّ قدرة المستغاث أو عجزه إنّما يكون معياراً لعقلائية مثل هذا الطلب وعدم عقلائيته لا معياراً للتوحيد والشرك ، فالساقط في بئر مثلاً لو استغاث بالأحجار والصخور المحيطة به واستنجد بها عد - في نظر العقلاء - عابثاً ، أمّا لو استغاث بإنسان واقف عند البئر قادر على إنقاذه كان طلبه عملاً عقلائياً.

وأغلب الظن أنّ مراد الوهابيين من قولهم : « مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه عزّ

ص: 543


1- كشف الارتياب : 272.

وجل » ليس هو التفريق بين القادر والعاجز ، وانّ طلب الحاجة من الثاني شرك دون الأوّل ، وإن كان هذا تفيده ظواهر كلماتهم وعباراتهم ، بل المقصود من تلك الجملة هو التفريق بين طلب ما هو من فعل اللّه وشأنه وما لا يكون من فعله وشأنه فتكون النتيجة أنّه لو طلب واحد من غير اللّه ما هو من فعل اللّه وشأنه ارتكب شركاً ، كما تشعر بذلك عبارة ابن تيمية إذ قال : « أن يسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه عزّ وجلّ » ، ومثله عبارة الصنعاني إذ قال : « من عافية المريض وغيرها ... ».

ولا شك أنّ طلب ما هو من فعل اللّه وشأنه من غيره من أقسام الشرك ، ويعد السائل عابداً له ، وعمله عبادة ، وقد سبق منّا بيان هذا القسم من الشرك عند الكلام في التعريف الثالث للعبادة ، ونحن والمسلمون جميعاً نوافقهم في هذا الأصل.

إلاّ أنّ الكلام كله إنّما هو في تشخيص ما يعد فعلاً لله سبحانه عن فعل غيره ، وقد سلم ابن تيمية بأنّ إشفاء المريض وقضاء الدين على وجه الإطلاق من أفعاله سبحانه ، ولذلك لا يجوز طلبه من غيره مطلقاً ، بيد أنّ الحق أنّ هذه الأُمور ليست من فعل اللّه مطلقاً بل القسم الخاص منها يعد فعلاً له سبحانه ، وهو قضاء حاجة المستنجد « كإبراء المريض وقضاء الدين ورد الضالّة وغيرها من الأفعال » على وجه الاستقلال من دون استعانة بأحد.

وأمّا القسم الذي يقوم به غيره بإذنه سبحانه ، وإقداره فلا يعد فعلاً خاصاً به ، ولأجل ذلك لو طلب أحد هذه الأُمور من غير اللّه مع الاعتقاد بأنّ المستغاث يقوم بهذه الأُمور مستمداً من قدرة اللّه ونابعاً عن إذنه ومشيئته لم يكن شركاً.

كيف لا وقد نسب القرآن الكريم إشفاء المرضى والأكمه إلى المسيح علیه السلام

ص: 544

مع التلويح بالإذن الإلهي ، إذ قال : ( وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي ) (1).

كما ونسب القرآن : الخلق والتدبير والإحياء والإماتة والرزق إلى كثير من عباده مع أنّها - ولا شك - من أوضح أفعاله سبحانه ولا يقل وضوح انتسابه إلى اللّه مما مثل به ابن تيمية.

وليست هذه النسبة إلى غير اللّه إلاّ لأجل ما أشرنا إليه ، في محله (2) من أنّ ما يعد فعلاً للباري سبحانه ليس هو مطلق الخلق والرزق ، والتصرف والتدبير ، والإحياء والإماتة ، حتى يناقض نسبتها إلى غيره سبحانه ( كما في كثير من الآيات ) بل القسم الخاص منها وهو ما يكون الفاعل مستقلاً في فعله ، منحصر به سبحانه كما أنّه ليس ثمة مسلم يطلب هذه الأفعال بهذا النحو من غيره سبحانه حتى يعد عمله شركاً ويكون سؤاله عبادة.

فالواجب على ابن تيمية وأتباعه دراسة أفعاله سبحانه وتمييزها عن أفعال غيره أوّلاً ، فإنّه المفتاح الوحيد لحل هذه المشكلة ، بل هو المفتاح والطريق لحل كل الاختلافات بين ظواهر الآيات التي تبدو متعارضة مع بعضها في نسبة الأفعال.

وعلى ذلك فإنّ طلب إزالة المرض ورد الضالّة وغيرهما على نحوين :

قسم يختص به سبحانه ولا يجوز طلبه من غيره وإلاّ لعاد الطالب مشركاً وعابداً لغير اللّه.

وقسم يجوز طلبه من غيره ولا يعد الطالب مشركاً ، ولا يكون بطلبه عابداً لغير اللّه.

ص: 545


1- المائدة : 110.
2- راجع للوقوف على كيفية انتساب هذه الأفعال إلى اللّه سبحانه الفصل الثامن ص 404.

وأمّا أنّ المسؤول والمستغاث هل يقدر على تحقيق الحاجة أو لا ؟ وإنّ اللّه هل أقدره على ذلك أو لا ؟ فهي أُمور خارجة عن موضوع بحثنا الفعلي.

3. هل طلب الأُمور الخارقة حد للشرك ؟

لا شك أنّ لكل ظاهرة - بحكم قانون العلية - علَّة لا يمكن للمعلول أن يوجد بدونها ، فليس في الكون الفسيح كله من ظاهرة حادثة لا ترتبط بعلة ، ومعاجز الأنبياء ، وكرامات الأولياء غير مستثناة من هذا الحكم فهي لا تكون دون علة ، غاية الأمر أنّ علتها ليست من سنخ العلل الطبيعية ، وهو غير القول بكونها موجودة بلا علة مطلقاً.

فإذا ما تبدلت عصا موسى علیه السلام إلى ثعبان يتحرك ويبتلع الأفاعي ، وإذا ما عادت الروح إلى جسد ميت بال ، بإعجاز المسيح علیه السلام ، وإذا ما انشق القمر نصفين بإعجاز خاتم الأنبياء صلی اللّه علیه و آله ، أو تكلم الحصى معه ، أو سبّح في يده ، فليس معنى ذلك إنّها لا ترتبط بعلة كسائر الظواهر الحادثة ، بل ترتبط بعلل خاصة غير العلل الطبيعية المألوفة.

فلو استمد إنسان من انسان آخر لقضاء حاجته عن علله الطبيعية لقد جرى على السنة المألوفة بين العقلاء ، إنّما الكلام في الاستمداد لقضاء الحاجة عن الطرق الغيبية والعلل غير الطبيعية ، وهذا هو ما يتصور أنّه شرك ، وفي ذلك يقول المودودي لو طلب حاجة وأمراً لتعطى له من غير المجرى الطبيعي وخارجاً عن إطار السنن الطبيعية كان شركاً وملازماً للاعتقاد بإلوهية الجانب الآخر المسؤول (1).

ص: 546


1- راجع المصطلحات الأربعة : 14.

غير أنّ هذا التفصيل لا يمكن الركون إليه إذ جرت سيرة العقلاء على طلب المعجزة والأُمور الخارقة للعادة من مدعي النبوة ، وقد نقل القرآن تلك السيرة عن الذين عاصروا الأنبياء من دون أن يعقب على ذلك بالرد والنقد ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَة فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (1).

وقد كان الأنبياء يدعون الناس ليشهدوا ما يقع على أيديهم من خوارق العادات ، وعلى هذا فالإنسان المستهدي المتطلب لمعرفة صدق دعوى المتنبئ كالسيد المسيح وغيره إذا طلب منه أن يبرئ الأكمه ويشفي الأبرص - بإذن اللّه - (2) لا يكون مشركاً ، ومثله فيما إذا طلب ذلك منه بعد رفعه إلى اللّه سبحانه ، فلا يمكن التفريق بين الصورتين باعتبار الأوّل عملاً توحيدياً والثاني عملاً ممزوجاً بالشرك.

أضف إلى ذلك أنّ بني إسرائيل طلبوا من موسى الماء والمطر وهم في التيه ليخلصهم من الظمأ إذ يقول سبحانه : ( وَأَوْحَيْنَا إِلى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الحَجَرَ ) (3).

وقد طلب سليمان من حضّار مجلسه إحضار عرش المرأة التي كانت تملك قومها كما يحكي سبحانه : ( قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ) (4).

فلو كان طلب الخوارق من غيره سبحانه شركاً كيف طلب بنو إسرائيل من

ص: 547


1- الأعراف : 106.
2- راجع للوقوف على معاجز سيدنا المسيح سورة آل عمران : 249 ، والمائدة : 110.
3- الأعراف : 160.
4- النمل : 37 - 38.

نبيّهم موسى ذلك الأمر ؟ أو كيف طلب سليمان من أصحابه إحضار ذلك العرش من المكان البعيد ؟! وكل ذلك يعطي بأنّ طلب الخوارق أو طلب الشيء عن غير مجاريه الطبيعية ليس حداً للشرك كما أنّ الحياة والموت ليسا حدّين للشرك ، فلا يمكن أن يقال بأنّ طلب الخوارق جائز من الحي دون الميت ، ولأجل ذلك يجب أن نركز البحث في التعرف على ملاك الشرك والتوحيد.

وتصور أنّ طلب الخوارق ملازم للاعتقاد بالسلطة الغيبية الملازمة للإلوهية ، فقد عرفت جوابه في ذلك الفصل (1).

وتصور أنّ طلب شفاء المريض وأداء الدين طلب لفعل اللّه من غيره ، مدفوع بما عرفت من أنّ الملاك في تمييز فعله سبحانه عن غيره ليس هو كون الفعل خارجاً عن إطار السنن الطبيعية وخارقاً للقوانين الكونية ليكون طلب مثل هذا من غير اللّه طلباً للفعل الإلهي من غيره.

بل المعيار في الفعل والشأن الإلهي هو ما كان الفاعل مستقلاً في الخلق والإيجاد غير معتمد على غيره سواء أكان الأمر أمراً طبيعياً أم غير طبيعي ، ويجب على متطلب الحقيقة أن يدرس فعل اللّه وفعل غيره دراسة معمقة نابعة عن الكتاب والسنّة والعقل السليم.

وبكلام آخر : انّه ليس القيام بأمر عن طريق عادي فعلاً للإنسان ، والقيام به عن طريق غير عادي فعلاً لله سبحانه ، بل الفعل على قسمين : قسم منه يعد فعلاً له سبحانه لا يجوز طلبه من غيره سواء أكان عادياً أم غير عادي ، وقسم يعد فعلاً لغير اللّه يجوز طلبه من غيره سواء أكان عادياً أم غير عادي أيضاً ، وبذلك يعلم أنّ طلب الشفاء من الأولياء على النحو الذي بيناه لا يخالف أُصول التوحيد.

ص: 548


1- راجع في الوقوف على حقيقة الأمر ص 497.

ولما كان البحث في المقام عن تحديد معايير التوحيد والشرك يجب علينا أن نعود ونبحث في مسائل أربع :

1. هل طلب الشفاء من غيره سبحانه شرك ؟

2. هل طلب الشفاعة من عباد اللّه سبحانه شرك ؟

3. هل الاستعانة بأولياء اللّه شرك ؟

4. هل دعوة الصالحين شرك ؟

أمّا الوهابيُّون فقد اتفقت كلمتهم على أنّ هذه الطلبات عبادة محرمة وأنّ المسؤول سيعود معبوداً حتى أنّهم - مثلاً - لا يجوِّزون أن يقول الإنسان في باب الشفاعة : يا رسول اللّه ! اشفع لي عند اللّه بل يقولون إنّما يجوز أن يقول : اللّهم شفّعه فيَّ ، غير أنّ الفرق الأُخرى من المسلمين قد أجازوا ذلك واستدلّوا عليه بأدلة محررة في كتبهم ، ونحن نبحث هذه المسائل الأربع من زاوية خاصة وهي أنّ هذه الطلبات هل هي شرك أو لا ؟

وبعبارة أُخرى : هل هي من باب طلب فعل اللّه من غيره سبحانه أو لا ؟ والجواب في هذه المسائل هو النفي قطعاً ويظهر وجهه مما حررناه في تحديد فعله سبحانه عن فعل غيره بمعنى أنّ الشفاء على وجه الاستقلال فعله سبحانه ، وعلى النحو المعتمد على قدرته سبحانه فعل للغير ، ومثله الشفاعة والإعانة فإنَّهما يتصوّران على قسمين : قسم يختص به سبحانه ، وقسم يعم عباده.

غير أنّنا طلباً للوضوح الأكثر سندرس هذه المسائل الأربع في ضوء الآيات القرآنية ، وإن كان في ما تقدم غنى وكفاية.

ص: 549

9

هل طلب الإشفاء والشفاعة والإعانة ودعوة الصالحين شرك ؟

1. هل طلب الإشفاء من غيره سبحانه شرك ؟

لا شك في أنّ هذا الكون عالم منظم ، فجميع الظواهر الكونية فيه تنبع من الأسباب والعلل التي - هي بدورها - مخلوقة لله تعالى ، ومعلولة له سبحانه.

وحيث إنّ هذه العلل والأسباب لا تملك من لدن نفسها أي كمال ذاتي ، بل وجدت بمشيئة اللّه ، وصارت ذات أثر بإرادته سبحانه لذلك صح أن ينسب اللّه آثارها وأفعالها إلى نفسه ، كما يصح أن تنسب إلى عللها.

هذا ما أوضحناه في ما سبق أتم إيضاح وبذلك يظهر أنّ الشفاء تارة ينسب إلى اللّه سبحانه وأُخرى إلى علله القريبة المؤثرة بإذنه ، وبذلك يرتفع التعارض الابتدائي بين الآيات ، فبينما يخص القرآن الإشفاء باللّه سبحانه ويقول :

( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (1).

ص: 550


1- الشعراء : 80.

وبينما ينسب الشفاء إلى غيره كالقرآن والعسل ، والجواب انّه ليس هنا في الحقيقة إلاّ فعل واحد وهو الإشفاء ينسب تارة إلى اللّه على وجه التسبيب ، وإلى غيره من الأسباب العادية كالعسل والأدوية وغيرها على وجه المباشرة.

فهو الذي وهب أنبياءه وأولياءه القدرة على الإشفاء والمعافاة والإبراء ، وهو الذي أذن لهم بأن يستخدموا هذه القدرة الموهوبة ضمن شروط خاصة.

فهذا القرآن إذ يصف اللّه تعالى بأنّه هو الشافي الحقيقي ( كما في آية 80 الشعراء ) يصف العسل بأنّه الشافي أيضاً عندما يقول :

( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) . (1)

أو ينسب الشفاء إلى القرآن عندما يقول :

( وننَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ ) (2).

وطريق الجمع الذي ذكرناه وارد هنا وجار في هذا المقام كذلك ، وهو بأن نقول :

إنّ الإبراء والإشفاء - على نحو الاستقلال - من فعل اللّه لا غير.

وعلى نحو التبعية واللااستقلال من فعل هذه الأُمور والأسباب ، فهو الذي خلقها ، وأودع فيها ما أودع من الآثار ، فهي تعمل بإذنه وتؤثر بمشيئته.

ففي هذه الصورة إذا طلب أحد الشفاء من أولياء اللّه وهو ملتفت إلى هذا الأصل (3) كان عمله جائزاً ومشروعاً وموافقاً للتوحيد المطلوب تماماً.

ص: 551


1- النحل : 69.
2- الإسراء : 82.
3- نعني كونهم يؤثرون بإذن اللّه وقدرته ومشيئته.

لأنّ الهدف من طلب الشفاء من الأولياء هو تماماً مثل الهدف من طلب الشفاء من العسل والعقاقير الطبية ، غاية ما في الباب أنّ العسل والعقاقير تعطي آثارها بلا إرادة وإدراك منها ، بينما يفعل ما يفعله النبيُّ والولي عن إرادة واختيار ، فلا يكون الهدف من الاستشفاء من الولي إلاّ مطالبته بأن يستخدم تلك القدرة الموهوبة له ويشفي المريض بإذن اللّه ، كما كان يفعل السيد المسيح علیه السلام ، إذ كان يبرئُ من استعصى علاجه من الأمراض بإذن اللّه والقدرة الموهوبة له من اللّه.

وواضح أنّ مثل هذا العمل لا يعد شركاً ، إذ لا ينطبق على ذلك معايير الشرك ، أو قل المعيار الواحد الحقيقي.

نعم يمكن المناقشة في أنّهم هل يقدرون على ذلك أو لا ؟ وهل أُعطيت لهم تلك المقدرة أو لا ؟ غير أنّ البحث مركز على كونه طلباً توحيدياً أو غير توحيدي.

ومما يوضح ذلك أنّ الفراعنة كانوا يطلبون من موسى كشف الرجز ، كما في قوله سبحانه قالوا :

( يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِننَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (1).

ولا نريد أن نستدل بطلب فرعون أو قومه ، بل الاستدلال إنّما هو بسكوت موسى أمام مثل هذا الطلب.

2. هل طلب الشفاعة من غيره سبحانه شرك ؟

لا مرية في أنّ الشفاعة حق خاص باللّه سبحانه ، فالآيات القرآنية - مضافة

ص: 552


1- الأعراف : 134.

إلى البراهين العقلية - تدل على ذلك ، مثل آية :

( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1).

إلاّ أنّ في جانب ذلك دلت آيات كثيرة أُخرى على أنّ اللّه أذن لفريق من عباده أن يستخدموا هذا الحق ، ويشفعوا - في ظروف وضمن شروط خاصة - حتى أنّ بعض هذه الآيات صرحت بخصوصيات وأسماء طائفة من هؤلاء الشفعاء ، كقوله تعالى :

( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّه لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) (2).

كما أنّ القرآن أثبت لنبيِّ الإسلام « المقام المحمود » ، إذ يقول :

( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (3).

وقد قال المفسرون : إنّ المقصود بالمقام المحمود هو : مقام الشفاعة ، بحكم الأحاديث المتضافرة التي وردت في هذا الشأن.

كل هذا مما اتفق عليه المسلمون ، إنّما الكلام في أنّ طلب الشفاعة ممن أُعطي له حق الشفاعة كأن يقول : « يا رسول اللّه اشفع لنا » هل هو شرك أو لا ؟

وليس البحث في المقام - كما ألمعنا إلى ذلك غير مرّة - في كون هذا الطلب مجدياً أو لا ، إنّما الكلام في أنّ هذا الطلب هل هو عبادة أو لا ؟

فنقول : قد ظهر الجواب مما أوضحناه في الأبحاث السابقة ، فلو اعتقدنا بأنّ من نطلب منهم الشفاعة ، لهم أن يشفعوا لمن أرادوا ومتى أرادوا وكيفما ارتأوا ، دون

ص: 553


1- الزمر : 44.
2- النجم : 26.
3- الإسراء : 79.

رجوع إلى الإذن الإلهي أو حاجة إلى ذلك ، فإنّ من المحتّم أنّ هذا الطلب والاستشفاع عبادة وإنّ الطالب يكون مشركاً حائداً عن طريق التوحيد ، لأنّه طلب الفعل الإلهي وما هو من شؤونه من غيره.

وأمّا لو استشفعنا بأحد هؤلاء الشفعاء ونحن نعتقد بأنّه محدود مخلوق لله لا يمكنه الشفاعة لأحد إلاّ بإذنه ، فهذا الطلب لا يختلف عن طلب الأمر العادي ماهية ، ولا يكون خارجاً عن نطاق التوحيد.

وإنّ تصوّر أحد أنّ هذا العمل ، أعني : طلب الشفاعة من أولياء اللّه ، يشبه - في ظاهره - عمل المشركين ، واستشفاعهم بأصنامهم ، فهو تصوّر باطل بعيد عن الحقيقة.

لأنّ التشابه الظاهري لا يكون أبداً معياراً للحكم ، بل المعيار الحقيقي للحكم إنّما هو : قصد الطالب ، وكيفية اعتقاده في حق الشافع ، ومن الواضح جداً أنّ المعيار هو النيّات والضمائر ، لا الأشكال والظواهر ، هذا مع أنّ الفرق بين العملين واضح من وجوه :

أوّلاً : أنّه لا مرية في أنّ اعتقاد الموحّد في حق أولياء اللّه يختلف - تماماً - عن اعتقاد المشرك في حق الأصنام.

فإنّ الأصنام والأوثان كانت - في اعتقاد المشركين - آلهة صغاراً تملك شيئاً من شؤون المقام الإلوهي من الشفاعة والمغفرة ، بخلاف أهل التوحيد فإنّهم يعتقدون بأنّ من يستشفعون بهم : عباد مكرمون لا يعصون اللّه وهم بأمره يعملون ، وأنّهم لا يملكون من الشفاعة شيئاً ، ولا يشفعون إلاّ إذا أذن اللّه لهم أن يشفعوا في حق من ارتضاه.

ص: 554

وبالجملة فإنّ تحقق الشفاعة منهم يحتاج إلى وجود أمرين :

1. أن يكون الشفيع مأذوناً في الشفاعة.

2. أن يكون المشفوع له مرضياً عند اللّه.

فلو قال مسلم لصالح من الصالحين : ( اشفع لي عند اللّه ) ، فإنّه لا يفعل ذلك إلاّ مع التوجّه إلى كونه مشروطاً بالشرطين المذكورين.

ثانياً : أنّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام مضافاً إلى استشفاعهم بها ، بحيث كانوا يجعلون استجابة دعوتهم واستشفاعهم عوضاً عما كانوا يقومون به من عبادة لها ، بخلاف أهل التوحيد فإنّهم لا يعبدون غير اللّه طرفة عين أبداً.

وأمّا استشفاعهم بأُولئك الشفعاء فليس إلاّ بمعنى الاستفادة من المقام المحمود الذي أعطاه اللّه سبحانه لنبيّه في المورد الذي يأذن فيه اللّه ، فقياس استشفاع المؤمنين بما يفعله المشركون ليس إلاّ مغالطة. وقد مر غير مرّة أنّه لو كان الملاك التشابه الظاهري للزم أن نعتبر الطواف بالكعبة المشرفة ، واستلام الحجر ، والسعي بين الصفا والمروة ، موجباً للشرك وعبادة للحجر.

الوهابيون وطلب الشفاعة

إنّ الوهابيّين يعتبرون مطلق طلب الشفاعة شركاً وعبادة ، ويظنون أنّ القرآن لم يصف الوثنيين بالشرك إلاّ لطلبهم الشفاعة من أصنامهم كما يقول سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) (1).

ص: 555


1- يونس : 18.

وعلى هذا فالشفاعة وإن كانت حقاً ثابتاً للشفعاء الحقيقيين ، إلاّ أنّه لا يجوز طلبه منهم ، لأنّه عبادة لهم ، قال محمد بن عبد الوهاب :

إن قال قائل : الصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصدهم وأرجو من اللّه شفاعتهم ، فالجواب أنّ هذا قول الكفار سواء بسواء ، واقرأ عليهم قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) (1) وقوله : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) (2). (3)

وإن قال : إنّ النبي أُعطي الشفاعة ، وأنا أطلبه ممّن أعطاه اللّه ، فالجواب أنّ اللّه أعطاه الشفاعة ونهاك عن طلبها منه ، فقال تعالى : ( فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدَاً ) (4) وأيضاً فإنّ الشفاعة أُعطيها غير النبي فصح أنّ الملائكة يشفعون والأفراد يشفعون والأولياء يشفعون ، أتقول إنّ اللّه أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم ؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها اللّه في كتابه (5).

استدل ابن عبد الوهاب على حرمة طلب الشفاعة بآيات ثلاث :

الأُولى : قوله سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) إذ قال بأنّ عبادة المشركين للأوثان كانت متحققة بطلب الشفاعة منهم لا بأمر آخر.

الثانية : قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ

ص: 556


1- الزمر : 3.
2- يونس : 18.
3- كشف الشبهات : 7 - 9 طبعة القاهرة.
4- الجن : 18.
5- كشف الشبهات : 7 - 9 طبعة القاهرة.

لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) (1) قائلاً بأنّ عبادة المشركين للأصنام كانت متحققة بطلب شفاعتهم منها.

الثالثة : قوله سبحانه : ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (2).

ولابد من البحث حول الآيات التي استدل بها القائل على أنّ طلب الشفاعة ممّن له حق الشفاعة عبادة له فنقول :

أمّا الاستدلال بالآية الأُولى فالإجابة عنه بوجهين :

1. ليس في قوله سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ) إلى آخر الآية ، أيّة دلالة على مقصودهم ، وإذا ما رأينا القرآن يصف هؤلاء بالشرك فليس ذلك لأجل استشفاعهم بالأوثان ، بل لأجل أنّهم كانوا يعبدونها لتشفع لهم بالمآل.

وحيث إنّ هذه الأصنام لم تكن قادرة على تلبية حاجات الوثنيين ، لذلك كان عملهم عملاً سفهياً ، لا أنّه كان شركاً.

فالإمعان في معنى الآية وملاحظة أنّ هؤلاء المشركين كانوا يقومون بعملين : ( العبادة ، وطلب الشفاعة كما يدل عليه قوله : ( وَيَعْبُدُونَ ) و ( وَيَقُولُونَ ) ) يكشف عن أنّ علّة اتّصافهم بالشرك واستحقاقهم لهذا الوصف كانت عبادتهم لتلك الأصنام وليس استشفاعهم بها ، كما لا يخفى.

ولو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها في الحقيقة لما كان هناك مبرر للإتيان بجملة أُخرى ، أعني : قوله « ويقولون هؤلاء شفعاؤنا » بعد قوله « ويعبدون » إذ كان حينئذ تكراراً.

ص: 557


1- الزمر : 3.
2- الجن : 18.

إنّ عطف الجملة الثانية على الأُولى يدل على المغايرة بينهما ، إذن لا دلالة لهذه الآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة ، فضلاً عن كون : الاستشفاع بالأولياء المقربين عبادة لهم ، نعم قد ثبت أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة لهم بأدلّة أُخر.

2. أنّ هناك فرقاً بين الاستشفاعين ، فالوثني يعتبر الصنم ربّاً مالكاً للشفاعة يمكنه أن يشفع لمن يريد وكيفما يريد ، والاستشفاع بهذه العقيدة شرك ، ولأجل ذلك يقول سبحانه نقداً لهذه العقيدة : ( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1) والحال أنّ المسلمين لا يعتقدون بأنّ أولياءهم يملكون هذا المقام ، فهم يتلون آناء الليل وأطراف النهار قوله سبحانه :

( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) (2).

ومع هذا التفاوت البيّن ، والفارق الواضح ، كيف يصح قياس هذا بذلك ؟

والدليل على أنّ المشركين كانوا معتقدين بكون أصنامهم مالكة للشفاعة أمران :

الأوّل : تأكيد القرآن في آياته بأنّ شفاعة الشافع مشروطة بإذنه سبحانه وارتضائه.

قال سبحانه : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) (3).

وقال : ( مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) (4).

ص: 558


1- الزمر : 44.
2- البقرة : 255.
3- البقرة : 255.
4- يونس : 3.

وقال : ( يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ) (1).

وقال : ( لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأذَنَ اللّهُ لِمَنْ يَشَاءُ ) (2).

وقال : ( وَلا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى ) (3).

الثاني : تأكيد القرآن على أنّ الأصنام لا تملك الشفاعة ، بل هي لمن يملكها :

قال سبحانه : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ ) (4).

وقال سبحانه : ( لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) (5).

فالشفاعة محض حق لمالكها ، وليس هو إلاّ اللّه ، كما تصرّح بذلك الآيات السابقة ، وأمّا المشركون فكانوا يعتقدون أنّ أصنامهم تملك هذا الحق ، ولذلك كانوا يعبدونها أوّلاً ، ويطلبون منها الشفاعة عند اللّه ثانياً.

نعم : انّ الظاهر من قوله سبحانه : ( لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) (6).

وقوله سبحانه : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ ) (7) هو : انّ المتخذين للعهد والشاهدين بالحق يملكون الشفاعة كما هو

ص: 559


1- طه : 109.
2- النجم : 26.
3- الأنبياء : 28.
4- الزخرف : 86.
5- مريم : 87.
6- مريم : 87.
7- الزخرف : 86.

مقتضى الاستثناء.

لكن المراد من المالكية في هاتين الآيتين هو : المأذونية بقرينة سائر الآيات ، لا المالكية بمعنى التفويض ، وإلاّ لزم الاختلاف والتعارض بين مفاد الآيات ، وما ورد في السير والتواريخ من أنّ المشركين كانوا يقولون عند الإحرام والطواف : ( الا شريك هو لك تملكه وما ملك ) (1) يحتمل الأمرين.

وبذلك يظهر ضعف الاستدلال بالآية الثانية : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا ... ) إذ حمل ابن عبد الوهاب قوله سبحانه : ( مَا نَعْبُدُهُمْ ) على طلب الشفاعة ، مع أنّ الآية المتقدّمة صريحة في مغايرة العبادة لطلب الشفاعة.

نعم إنّما يكون عبادة إذا اتخذ المستشفع المدعو إلهاً ، أو من صغار الآلهة - كما تقدم -.

وأمّا ما اعترف به ابن عبد الوهاب ( ضمن كلامه المنقول سلفاً ) من أنّ اللّه أعطى الشفاعة لنبيّه ولكنَّه تعالى نهى الناس عن طلبها منه ، فغريب ، إذ لا آية ولا سنّة تدل على النهي عن طلبها ، مضافاً إلى غرابة هذا النهي من الناحية العقلية ، إذ مثله أن يُعطي للسقّاء ماء وينهى الناس عن طلب السقي منه ، أو يُعطي الكوثر لنبيّه وينهى الأُمّة عن طلبه.

وأمّا قوله : ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) وهي ثالثة الآيات التي استدل بها ابن عبد الوهاب فسيوافيك مفادها عن قريب حيث نبيّن - هناك - انّ المراد من الدعوة في الآية المذكورة هو : العبادة ، فيكون معنى : فلا تدعوا هو : فلا تعبدوا مع اللّه أحداً ، فالحرام المنهي عنه عبادة غير اللّه ، لا مطلق دعوة غير اللّه ، وليس طلب الشفاعة إلاّ طلب الدعاء من الغير لا عبادة الغير ، وبين الأمرين بون شاسع.

ص: 560


1- الملل والنحل : 2 / 255.

ومن ذلك يظهر ضعف دليل رابع لمحمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات ، ما حاصله :

إنّ الطلب من الشفيع ينافي الإخلاص في التوحيد الواجب على العباد في قوله : ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (1).

إنّ دعوة الشفيع - بعد ثبوت الإذن له والرضا من اللّه - ليست عبادة للشفيع حتى تنافي إخلاص العبادة لله سبحانه ، بل هو طلب الدعاء منه ، وإنّما يشترط الإخلاص في العبادة ، لا في طلب الدعاء من الغير ، كما لا تنافي دعوة اللّه ولا تنفك عنها ، إذ الشفاعة من الشفع ، وطلب الشفاعة من الشفيع بمعنى أنّ المستشفع يدعو الشفيع لأن ينضم إليه ، ويجتمعا ويدعوا اللّه سبحانه - معاً - فدعوة المستشفع للشافع ليس إلاّ دعوة الثاني إلى أن يدعو اللّه لا أكثر ، فأيُّ ضير في هذا يا ترى ؟!

ومن العجب تفسير طلب الشفاعة من النبي وغيره بأنّه دعاء للنبي مع اللّه كما في أسئلة الشيخ ابن بليهد : قاضي القضاة عن علماء المدينة (2) حيث قال :

وما يفعل الجهّال عند هذه الضرائح من التمسّح بها ودعائها مع اللّه.

ولا يخفى ما في كلامه من ضعف :

أمّا أوّلاً : فإنّ هؤلاء المتوسلين عند الضرائح لا يشركون أحداً في الدعاء ( الذي هو مخ العبادة ) ولا يدعون إلاّ اللّه الواحد القهّار ، وإنّما يطلبون من أوليائهم أن يضموا دعاءهم إلى دعاء المتوسلين ، فيشتركوا معهم في دعاء اللّه

ص: 561


1- كشف الشبهات : 8.
2- نقلت جريدة أُم القرى في عددها 69 المؤرخ 17 شوال عام 1344 ه كل نص هذه الأسئلة والأجوبة.

لنجاح حاجتهم ، ولولا ذلك لما كان لطلب الشفاعة معنى ، فإنّ الشفاعة مأخوذة من الشفع - كما قلنا - الذي هو ضد الوتر ، فهو يطلب من وليّه أن ينضم إليه في الدعاء ويجتمع معه في العمل ، فأين ذلك من تشريك غير اللّه معه في الدعاء ؟

وثانياً : أنّ المسلمين لا يدعون الضرائح ، بل يطلبون من صاحب الضريح أن يشترك معهم في الدعاء ، لأنّه ذو مكانة مكينة عند اللّه ، وإن كان متوفّياً ، ولكنّه حي يرزق عند ربّه - بنص الكتاب العزيز - وانّه لا يرد دعاؤه لقوله سبحانه في حق النبي صلی اللّه علیه و آله مثلاً :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) . (1)

( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (2).

ثم إنّه يظهر من ابن تيمية في بعض رسائله (3) ، وتلميذ مدرسته محمد بن عبد الوهاب في رسالة « أربع قواعد » (4) إنّهما استدلا على تحريم طلب الشفاعة من غير اللّه بقوله سبحانه : ( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (5).

وكأنّ الاستدلال مبني على أنّ معنى الآية هو : ولله طلب الشفاعة فقط.

ولكنه تفسير للآية بغير ظاهرها ، إذ ليس معنى الآية أنّ اللّه وحده هو الذي يشفع وغيره لا يشفع ، لأنّه تعالى لا يشفع عند أحد ، ثم قد ثبت أنّ الأنبياء

ص: 562


1- النساء : 64.
2- التوبة : 103.
3- رسالة « زيارة القبور والاستغاثة بالمقبور » : 156.
4- ص 25 ، راجع كشف الارتياب : 240 - 241 وكشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب : 8.
5- الزمر : 44.

والصالحين والملائكة يشفعون لديه.

كما أنّه ليس معناها أنّه لا يجوز طلب الشفاعة إلاّ منه سبحانه ، بل معناها أنّ اللّه مالك أمرها فلا يشفع عنده أحد إلاّ بإذنه.

قال سبحانه : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) ، وقال : ( وَلا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى ) .

ويتضح ما قلناه إذا لاحظنا صدر الآية وهو :

( أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1).

فالمقطع الأخير من الآية بصدد الرد على الذين اتَّخذوا الأصنام والأحجار شفعاء عند اللّه ، وقالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه مع أنّها ما كانت تملك شيئاً ، فكيف كانت تملك الشفاعة وهي لا عقل لها حتى تشفع ؟

يقول الزمخشري - في كشافه - :

( مِنْ دُونِ اللّهِ ) أي من دون إذنه ( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةَ جَمِيعاً ) أي مالكها فلا يشفع أحد إلاّ بشرطين :

أن يكون المشفوع له مرتضى ، وأن يكون الشفيع مأذوناً له ، وهاهنا الشرطان مفقودان جميعاً (2).

وما ذهب إليه ابن عبد الوهاب ومن قبله ابن تيمية وأتباعهما من أنّ الآية هذه تدل على أنّ طلب الشفاعة لا يكون إلاّ من اللّه وحده ، دون طلبها من

ص: 563


1- الزمر : 43 و 44.
2- تفسير الكشاف : 3 / 34.

المخلوق وإن كان له حق الشفاعة ، لم يذكره أحد من المفسرين.

* * *

ثم إنّه كيف يمكن التفريق بين طلب الشفاعة من الحي وطلبها من الميت ، فيجوز الأوّل بنص قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) (1) ، وبدليل طلب أولاد يعقوب من أبيهم الشفاعة وقولهم : ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ) (2)ووعد يعقوب علیه السلام إيّاهم بالاستغفار لهم ، بينما لا يكون الثاني ( أي الاستشفاع بالميت ) جائزاً ؟

أفيمكن أن تكون الحياة والممات مؤثرتين في ماهية عمل ؟! وقد سبق أنّ الحياة أو الممات ليست معياراً للتوحيد والشرك ، وبالنتيجة لجواز الشفاعة أو عدم جوازها.

وإذا لاحظت كتب الوهابيين لرأيت أنّ الذي أوقعهم في الخطأ والالتباس هو مشابهة عمل الموحدين في طلب الشفاعة والاستغاثة بالأموات والتوسّل بهم ، لعمل المشركين عند أصنامهم ، ومعنى ذلك أنّهم اعتمدوا على الأشكال والظواهر وغفلوا عن النيّات والضمائر.

وأنت أيها القارئ لو وقفت على ما في ثنايا هذه الفصول ، لرأيت أنّ الفرق بين العملين من وجوه كثيرة ، نذكر منها :

1. انّ المشركين كانوا يقولون بالوهية الأصنام بالمعنى الذي مرّ ذكره ، بخلاف الموحّدين.

ص: 564


1- النساء : 64.
2- يوسف : 97.

2. انّ الأوثان والأصنام كانت أعجز من أن تلبي دعوتهم ، وهذا بخلاف الأرواح الطاهرة المقدسة ، فإنّها أحياء بنص الكتاب العزيز ، وقادرة على ما يطلب منها في الدعاء.

3. انّ الأوثان والأصنام لم يأذن اللّه لها ، بخلاف النبي الأكرم فإنّه مأذون بنص القرآن الكريم :

قال سبحانه : ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (1).

والمقام المحمود - باتّفاق المفسرين - هو مقام الشفاعة.

3. هل الاستعانة بغير اللّه شرك ؟

إنّ الاستعانة بغير اللّه يمكن أن تتحقق بصورتين :

1. أن نستعين بعامل - سواء كان طبيعياً أم غير طبيعي - مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى اللّه بمعنى أنّه قادر على أن يعين العباد ويزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللّه وإذنه.

وهذا النوع من الاستعانة - في الحقيقة - لا ينفك عن الاستعانة باللّه ذاته ، لأنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل ذلك الأثر وأذن به وإن شاء سلبها وجرّدها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس والماء وحرث الأرض ، فقد استعان باللّه - في الحقيقة - لأنّه تعالى هو الذي منح هذه العوامل ، القدرة على

ص: 565


1- الإسراء : 79.

إنماء ما أودع في بطن الأرض من بذر ومن ثم إنباته والوصول به إلى حد الكمال.

2. وإذا استعان بإنسان أو عامل طبيعي أو غير طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقل في وجوده ، أو في فعله عن اللّه فلا شك أنّ ذاك الاعتقاد يصير شركاً والاستعانة معه عبادة.

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة وهو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها ، أو أنّها مستقلة في وجودها ، ومادتها كما في فعلها وقدرتها فالاعتقاد شرك والطلب عبادة.

مع مؤلّف المنار في تفسير حصر الاستعانة

إنّ مؤلف المنار تصوّر أنّ حد التوحيد هو : أن نستعين بقدرتنا ونتعاون فيما بيننا - في الدرجة الأُولى - ثم نفوّض بقية الأمر إلى اللّه القادر على كل شيء ، ونطلب منه - لا من سواه - ويقول في ذلك :

يجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك ونبذل لإتقان أعمالنا كل ما نستطيع من حول وقوة وأن نتعاون ، ويساعد بعضنا بعضاً ، ونفوض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كل شيء ونلجأ إليه وحده ، ونطلب المعونة للعمل والموصل لثمرته منه سبحانه دون سواه (1).

إذ صحيح أنّنا يجب أن نستفيد من قدرتنا ، أو من العوامل الطبيعية المادية ولكن يجب بالضرورة أن لا نعتقد لها بأية أصالة وغنى واستقلال وإلاّ خرجنا عن حدود التوحيد.

ص: 566


1- تفسير المنار : 1 / 59.

فإذا اعتقد أحد بأنّ هناك - مضافاً إلى العوامل والقوى الطبيعية - سلسلة من العلل غير الطبيعية التي تكون جميعها من عباد اللّه الأبرار الذين يمكنهم تقديم العون (1) لمن استعان بهم تحت شروط خاصة وبإذن اللّه وإجازته دون أن يكون لهم أي استقلال لا في وجودهم ولا في أثرهم ، فإنّ هذا الفرد لو استعان بهذه القوى غير الطبيعية - مع الاعتقاد المذكور - لا تكون استعانته عملاً صحيحاً فحسب ، بل تكون - بنحو من الأنحاء - استعانة باللّه ذاته كما لا يكون بين هذين النوعين من الاستعانة ( الاستعانة بالعوامل الطبيعية والاستعانة بعباد اللّه الأبرار ) أي فرق مطلقاً.

فإذا كانت الاستعانة بالعباد الصالحين - على النحو المذكور - شركاً لزم أن تكون الاستعانة في صورتها الأُولى هي أيضاً معدودة في دائرة الشرك ، والتفريق بين الاستعانة بالعوامل الطبيعية وألاستعانة بغيرها إذا كانتا على وزان واحد وعلى نحو الاستمداد من قدرة اللّه وبإذنه ومشيئته بكونها موافقة للتوحيد في أُولى الصورتين ، ومخالفة له في ثانية الصورتين ، لا وجه له.

من هذا البيان اتضح هدف صنفين من الآيات وردا في مسألة الاستعانة :

الصنف الأوّل : يحصر الاستعانة باللّه فقط ويعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.

والصنف الثاني : يدعونا إلى سلسلة من الأُمور المعينة غير اللّه ويعتبرها ناصرة ومعينة إلى جانب اللّه.

ص: 567


1- البحث مركز في أنّ طلب العون والحال هذه شرك أو لا ، وأمّا أنّه هل أُعطيت لهم تلك المقدرة على العون أو لا ؟ فخارج عن موضوع بحثنا وإنّما إثباته على عاتق الأبحاث القرآنية الأُخرى وقد نبهنا على ذلك غير مرة.

أقول : من البيان السابق اتضح وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات وتبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً ، إلاّ أنّ فريقاً نجدهم يتمسّكون بالصّنف الأوّل من الآيات فيخطّئون أي نوع من الاستعانة بغير اللّه ، ثم يضطرون إلى إخراج الاستعانة بالقدرة الإنسانية والأسباب المادية من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة باللّه بنحو التخصيص بمعنى أنّهم يقولون :

إنّ الاستعانة لا تجوز إلاّ باللّه ، إلاّ في الموارد التي إذن اللّه بها ، وأجاز أن يستعان فيها بغيره ، فتكون الاستعانة بالقدرة الإنسانية والعوامل الطبيعية - مع أنّها استعانة بغير اللّه - جائزة ومشروعة على وجه التخصيص ، وهذا مما لا يرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً ، فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد وهو : عدم الاستعانة بغير اللّه ، وانّ الاستعانة بالعوامل الأُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة باللّه بل تكون بحيث تعد استعانة باللّه لا استعانة بغيره.

وبتعبير آخر : أنّ الآيات تريد أن تقول : بأنّ المعين والناصر الوحيد والذي يستمد منه كل معين وناصر ، قدرته وتأثيره ، ليس إلاّ اللّه سبحانه ، ولكنه - مع ذلك - أقام هذا الكون على سلسلة من الأسباب والعلل التي تعمل بقدرته وأمره ، استمداد الفرع من الأصل ، ولذلك تكون الاستعانة بها كالاستعانة باللّه ، ذلك لأنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالأصل.

وإليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين :

( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ) (1).

ص: 568


1- آل عمران : 126.

( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (1).

( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (2).

هذه الآيات نماذج من الصنف الأوّل ، وإليك فيما يأتي نماذج من الصنف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير اللّه من العوامل والأسباب :

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ) (3).

( وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتّقْوَى ) (4).

( مَا مَكّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّة ) (5).

( وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) (6).

ومفتاح حل التعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه :

إنّ في الكون مؤثراً تاماً ، ومستقلاً واحداً غير معتمد على غيره لا في وجوده ولا في فعله وهو اللّه سبحانه.

وأمّا العوامل الأُخر فجميعها مفتقرة - في وجودها وفعلها - إليه ، وهي تؤدي ما تؤدي بإذنه ومشيئته وقدرته ، ولو لم يعط تلك العوامل ما أعطاها من القدرة ، ولم تجر مشيئته على الاستمداد منها لما كانت لها أية قدرة على شيء.

ص: 569


1- الحمد : 4.
2- الأنفال : 10.
3- البقرة : 45.
4- المائدة : 2.
5- الكهف : 95.
6- الأنفال : 72.

فالمعين الحقيقي في كل المراحل - على هذا النحو تماماً - هو اللّه فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلاً ، لهذه الجهة حصرت مثل هذه الاستعانة باللّه وحده ، ولكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير اللّه باعتباره غير مستقل ( أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الإلهية ) ، ومعلوم أنّ استعانة - كهذه - لا تنافي حصر الاستعانة باللّه سبحانه لسببين :

أوّلاً : لأنّّ الاستعانة المخصوصة باللّه هي غير الاستعانة بالعوامل الأُخرى ، فالاستعانة المخصوصة باللّه هي : ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات ، وبدون الاعتماد على غيرها ، في حين أنّ الاستعانة بغير اللّه سبحانه إنّما هي على نحو آخر ، أي مع الاعتقاد بأنّ المستعان قادر على الإعانة مستنداً على القدرة الإلهية ، لا بالذات ، وبنحو الاستقلال ، فإذا كانت الاستعانة - على النحو الأوّل - خاصة باللّه تعالى ، فإنّ ذلك لا يدل على أنّ الاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً : أنّ استعانة - كهذه - غير منفكة عن الاستعانة باللّه ، بل هي عين الاستعانة به تعالى ، وليس في نظر الموحّد ( الذي يرى أنّ الكون كله من فعل اللّه ومستند إليه ) مناص من هذا.

وممّا سبق يتبيَّن لك أيها القارئ الكريم ما في كلام ابن تيمية من الإشكال ، إذ يقول :

أمّا من أقرّ بما ثبت بالكتاب والسنّة والإجماع من شفاعته صلی اللّه علیه و آله والتوسّل به ونحو ذلك ، ولكن قال : لا يدعى إلاّ اللّه وإنّ الأُمور التي لا يقدر عليها إلاّ اللّه فلا تطلب إلاّ منه ، مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك ، فهذا مصيب في ذلك ، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين

ص: 570

أيضاً ، كما قال تعالى :

( وَمَنْ يَغْفِرُ الذُنُوبَ إِلاَّ اللّه ) (1).

وقال : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (2).

وكما قال تعالى : ( يا أَيُّها النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّه يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ والأرضِ ) (3).

وكما قال تعالى : ( وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) (4).

وقال : ( ألاّ تَنْصُرُوه فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَروا ثَانِي اثنِين إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللّهَ مَعَنَا ) (5). (6)

فقد غفل ابن تيمية عن أنّ بعض هذه الأُمور يمكن طلبها من غير اللّه مع الاعتقاد بعدم استقلال هذا الغير في تحقيقها ، وهذا لا ينافي طلبها من اللّه مع الاعتقاد باستقلاله وغناه عمن سواه في تحقيقها.

نعم لا تقع هذه الاستعانة مفيدة إلاّ إذا ثبتت قدرة غير اللّه سبحانه على إنجاز الطلب ، ولكنّه خارج عن محط بحثنا ، فإنّ البحث مركز على كون هذا العمل شركاً أو لا ، وأما كون المستعان قادراً أو لا فالبحث عنه خارج عن هدفنا.

ص: 571


1- آل عمران : 135.
2- القصص : 56.
3- فاطر : 3.
4- آل عمران : 126.
5- التوبة : 40.
6- مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية الرسالة الثانية عشرة : 482.

وربّما يتوهم أنّها لا تنفع أيضاً إلاّ إذا ثبتت مأذونية الغير من قبله سبحانه في الإعانة ، كما يتوقف على ذلك جواز أصل طلب العون ، وإن كان غير شرك.

ولكنه مدفوع ، بأنّ إعطاء القدرة دليل على المأذونية في أعمالها في الجملة ، إذ لا معنى لأن يعطيه اللّه القدرة ويمنعه عن الأعمال مطلقاً ، أو يعطيه القدرة ويمنع الغير عن طلب أعمالها.

ويكفي في الجواز ، كون الأصل في فعل العباد ، الجواز والإباحة ، دون الحظر والمنع إلاّ أن ينطبق على العمل أحد العناوين المحرمة في الشرع.

وأخيراً نذكّر القارئ الكريم بأنّ مؤلّف المنار حيث إنّه لم يتصور للاستعانة بالأرواح إلاّ صورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك ، فقال :

ومن هنا تعلمون : انّ الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم وتيسير أُمورهم وشفاء أمراضهم ونماء حرثهم وزرعهم ، وهلاك أعدائهم ، وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون ، وعن ذكر اللّه معرضون (1).

ولا يخفى عدم صحته إذ الاستعانة بغير اللّه ( كالاستعانة بالعوامل الطبيعية ) على نوعين :

أحدهما عين التوحيد والآخر موجب للشرك ، أحدهما مذكر باللّه والآخر مبعد عن اللّه.

إنّ حد التوحيد والشرك ليس هو كون الأسباب ظاهرية أو غير ظاهرية إنّما هو الاستقلال وعدم الاستقلال ، هو الغنى والفقر ، هو الأصالة وعدم الأصالة.

ص: 572


1- تفسير المنار : 1 / 59.

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلة المستندة إلى اللّه ، التي لا تعمل ولا تؤثر إلاّ بإذنه تعالى ليس فقط غير موجبة للغفلة عن اللّه ، بل هو خير موجه ، ومذكر باللّه ، إذ معناها : انقطاع كل الأسباب وانتهاء كل العلل إليه.

ومع هذا كيف يقول صاحب المنار : « أُولئك عن ذكر اللّه معرضون » ولو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان اللّه والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالأسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّ الأعجب من ذلك هو شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل - في هذا المجال - نص كلمات عبده دون زيادة ونقصان ، وختم المسألة بذلك ، وأخذ بظاهر الحصر في ( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) غافلاً عن حقيقة الآية وعن الآيات الأُخرى المتعرضة لمسألة الاستعانة. (1)

نقد نظر ثالث

وهناك رأي آخر يتوسط بين الرأيين وهو أنّه تجوز الاستعانة بالأسباب الطبيعية في الحوائج الحيوية ، ولا تجوز الاستعانة بالأسباب غير العادية إلاّ إذا كان بصورة التوسل والاستشفاع إلى اللّه سبحانه.

وهذا القول وإن كانت عليه مسحة من الحق ولمسة من الصدق إلاّ أنّه ليس عينه.

فإنّ المنع عن الاستعانة بالأسباب غير العادية لماذا ؟ إن كان لأجل كونه مستلزماً للشرك ، فالمفروض عدمه ، إذ المستعين إنّما يستعين ، باعتقاد أنّ المستعان إنّما يعين بالقدرة المعطاة له من اللّه سبحانه ، ويعملها بإذنه ومشيئته ، وطلب

ص: 573


1- راجع تفسير شلتوت : 36 - 39.

العون مع هذا الاعتقاد لا يستلزم الشرك ، ومع فرضه فأي فرق بين الممنوع ( طلب العون ) والمجاز وهو التوسل والاستشفاع ؟

وإن كان المنع لأجل عدم وجود القدرة فيهم على الإعانة ، فهو مناقشة ، وهو في الصغرى خارج عن موضوع بحثنا ، فإنّ البحث إنّما هو على فرض قدرتهم.

وإن كان المنع ، لأجل كون الأصل في فعل المكلّف ، هو المنع حتى يثبت الجواز ، فهو محجوج بأصالة الإباحة ما لم يمنع عنه دليل قاطع ، وعدم ورود تلك الاستعانة في الأدعية وغيرها على فرض صحته لا يدل على المنع.

ولو كان المنع لأجل أنّ قوله سبحانه : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) شامل لهذه الاستعانة التي لا تنفك عن الاستعانة به سبحانه كما أوضحناه ، فلا يمكن تخصيصه بالتوسل والاستشفاع ، لأنّ لسانه آب عن التخصيص وغير قابل له.

4. هل دعوة الصالحين عبادة لهم ؟

تبيّن من البحوث السابقة أنّ طلب الحاجة من غير اللّه مع الاعتقاد بأنّه لا يملك شيئاً من شؤون المقام الالوهي ، ولم يفوض إليه شيء ، بل لو قام بشيء لا يقوم به إلاّ بإذن اللّه سبحانه ، لا يكون شركاً.

وبقي في هذا المجال مطلب آخر وهو : انّ القرآن الكريم نهى - في موارد متعددة - عن دعوة غير اللّه سبحانه غير أنّ الوهابية استنتجت من هذه الآيات مساوقة الدعوة للعبادة.

وإليك فيما يأتي الآيات المتضمّنة ، بل المصرحة بهذا المطلب :

ص: 574

( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (1).

( لَهُ دَعْوَةَ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبونَ لَهُمْ بِشَيءٍ ) (2).

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (3).

( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) (4).

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير ) (5).

( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً ) (6).

( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ ) (7).

( ولاَ تَدْعُ مِنْ دِونِ اللّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ) (8).

( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ ) (9).

( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ) (10).

ص: 575


1- الجن : 18.
2- الرعد : 14.
3- الأعراف : 197.
4- الأعراف : 194.
5- فاطر : 13.
6- الإسراء : 56.
7- الإسراء : 57.
8- يونس : 106.
9- فاطر : 14.
10- الأحقاف : 5.

فقد جعل دعاء الغير - في هذه الآيات - مساوياً مع دعاء اللّه ويستنتج من ذلك أنّ دعاء الغير عبادة له ، ومن هذه الآيات يستنتج الوهابيون كون دعوة الأولياء والصالحين - بعد وفاتهم - عبادة للمدعو.

وملخص كلامهم : أنّ من قال متوسّلاً : يا محمد ، فنداؤه ودعوته بنفسها عبادة للمدعو.

يقول الصنعاني في هذا الصدد :

وقد سمّى اللّه الدعاء : عبادة بقوله ( إِدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) ومن هتف باسم نبي أو صالح بشيء ، أو قال : اشفع لي إلى اللّه في حاجتي ، أو استشفع بك إلى اللّه في حاجتي أو نحو ذلك ، أو قال : اقض ديني أو اشف مريضي أو نحو ذلك ، فقد دعا ذلك النبي والصالح والدعاء عبادة بل مخّها ، فيكون قد عبد غير اللّه ، وصار مشركاً ، إذ لا يتم التوحيد إلاّ بتوحيده تعالى في الإلهية باعتقاد أنّ لا خالق ولا رازق غيره ، وفي العبادة بعدم عبادة غيره ولو ببعض العبادات وعباد الأصنام إنّما أشركوا لعدم توحيد اللّه في العبادة (1).

* * *

ولكن لا مرية في أنّ لفظة الدعاء تعني في لغة العرب : النداء لطلب الحاجة ، فلا يتحقّق مفهوم الدعوة إلاّ بطلب الحاجة ، ولو استعملت في مورد في مطلق النداء ولم يكن معه طلب حاجة ، فإنّما هو لأجل أنّ المنادي يطلب توجّه المنادى إلى نفسه ، بينما تعني لفظة العبادة معنى آخر ( وهو الخضوع النابع من الاعتقاد بالإلوهية والربوبية على ما مر تفصيله ) (2) ، ولا يمكن اعتبار اللفظتين

ص: 576


1- تنزيه الاعتقاد للصنعاني كما في كشف الارتياب : 272 - 274.
2- راجع ص 455 - 468 من كتابنا هذا

مترادفتين ، ومشتركتين في المفاد والمعنى بأن يكون معنى الدعاء هو العبادة لأسباب عديدة هي :

أوّلاً : انّ القرآن استعمل لفظة الدعوة والدعاء في موارد لا يمكن أن يكون المراد فيها العبادة مطلقاً مثل :

( قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ) (1).

فهل يمكن أن نقول إنّ مراد نوح علیه السلام هو أنّه عبد قومه ليلاً ونهاراً ؟!

وأيضاً مثل قوله تعالى حاكياً عن الشيطان قوله :

( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (2).

فهل يحتمل أن يكون مقصود الشيطان هو أنّه عبد أتباعه ؟ في حين أنّ العبادة - لو صحت وافترضت - فإنّما تكون من جانب أتباعه له لا من جانبه تجاه أتباعه.

ومثل هاتين الآيتين ما يأتي من الآيات :

( وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ) (3).

( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ ) (4).

( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الهُدَى لاَ يَسْمَعُوا ) (5).

ص: 577


1- نوح 5.
2- إبراهيم : 22.
3- غافر : 41.
4- الأعراف : 193.
5- الأعراف : 198.

( وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (1).

( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ) (2).

ففي هذه الآيات وأمثالها استعملت لفظة الدعاء والدعوة في غير معنى العبادة ، ولهذا لا يمكن أن نعتبرهما مترادفتين ، ولذلك فلو دعا أحد ولياً أو نبياً أو رجلاً صالحاً ، فإنّ عمله ذلك لا يكون عبادة له ، لأنّ الدعاء أعم من العبادة وغيرها (3).

ثانياً : أنّ المقصود من الدعاء في مجموع الآيات ( المذكورة في مطلع البحث هذا ) ليس هو مطلق النداء ، بل نداء خاص يمكن أن يكون - مآلاً - مرادفاً للفظ العبادة.

لأنّ مجموع هذه الآيات وردت حول الوثنيين الذين كانوا يتصوّرون بأنّ أصنامهم آلهة صغار قد فوّض إليها بعض شؤون المقام الالوهي ، ويعتقدون في شأنها بنوع من الاستقلال في التصرف والفعل.

ومعلوم أنّ الخضوع والتذلّل أو أي نوع من القول والعمل أمام مخلوق باعتقاد أنّه إله كبير أو إله صغير لكونه رباً أو مالكاً لبعض الشؤون الإلهية ، يكون عبادة.

ص: 578


1- المؤمنون : 73.
2- آل عمران : 61.
3- النسبة بين الدعاء والعبادة عموم وخصوص من وجه : ففي هذه الموارد يصدق الدعاء ولا تصدق العبادة ، وأمّا في العبادة الفعلية المجردة عن الذكر كالركوع والسجود فتصدق العبادة ، لأنّها تقترن مع الاعتقاد بالوهية المسجود له ولا يصدق الدعاء لخلوّه عن الذكر اللفظي. ويصدق كلا المفهومين: «الدعاء والعبادة» في أذكار الصلاة، لأنها دعوة بالقول ناشئة عن الاعتقاد بالوهية المدعو.

لا شك أنّ خضوع الوثنيين ودعاءهم واستغاثتهم أمام أوثانهم كانت بوصف أنّ هذه الأصنام آلهة أو أرباب أو مالكة لحق الشفاعة ، وباعتقاد أنّها آلهة مستقلة في التصرف في أُمور الدنيا والآخرة ، ومن البديهي أنّ أية دعوة لهذه الموجودات وغيرها مع هذه الشروط ، عبادة لا محالة.

وتدل طائفة من الآيات : على أنّ دعوة الوثنيين كانت مصحوبة بالاعتقاد بالوهية الأصنام أو مالكيتها لمقام الشفاعة والمغفرة ، وإليك بعضها :

( فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ ) (1).

ففي هذه الآية يتضح جلياً بأنّهم كانوا يعبدونها متصوّرين ومعتقدين بأنّها تغنيهم من شيء كما يمكن للإله الحقيقي أن يفعل ذلك.

( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ) (2).

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير ) (3).

( فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ) (4).

فالآيات المذكورة ( في مطلع هذا الفصل ) لا ترتبط بموضوع بحثنا مطلقاً ، إذ الموضوع هو الدعوة دون الاعتقاد بإلوهية ، ولا مالكية لشيء ولا استغناء ، واستقلاله في التصرف في أُمور الدنيا والآخرة ، بل لأجل أنّ المدعو عبد من عباد اللّه المكرمين ، وأنّه ذو مقام معنوي استحق به منزلة النبوة ، أو الإمامة ، ولأنّه وعد المتوسّلون به بقبول أدعيتهم ، وإنجاح طلباتهم فيما إذا قصدوا اللّه عن طريقه ، كما

ص: 579


1- هود : 101.
2- الزخرف : 86.
3- فاطر : 13.
4- الإسراء : 56.

ورد في حق النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) (1).

ثالثاً : يمكن أن يقال أنّ المراد من الدعاء في هذه الآيات هو القسم الخاص منه ، أعني ما كان ملازماً للعبادة لا بمعنى أنّ الدعاء مستعمل في مفهوم العبادة ابتداء ، بل بمعنى أنّها مستعملة في معناها الحقيقي ، غير أنّها لما كانت في موارد الآيات مقرونة باعتقاد الدعاة بالوهيتهم يكون المنهي عنه ذلك القسم من الدعوة لا مطلقاً ، وتكون عقيدة الدعاة في حق المدعوين قرينة متصلة على أنّ المقصود ذلك القسم المعين لا جميع أقسامها ومن المعلوم أنّ الدعاء مع هذه العقيدة يكون مصداقاً للعبادة.

والدليل على أنّ المراد من الدعوة في هذه الآيات هو القسم الملازم للعبادة أنّه ربّما وردت في إحدى الآيتين ذاتي مضمون واحد لفظة الدعوة ووردت في الآية الأُخرى لفظة الدعاء ، مثل قوله :

( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلا نَفْعاً ) (2).

بينما يقول في الآية الأُخرى وهي :

( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَنْفَعُنا وَلاَ يَضُرُّنَا ) (3).

ويقول أيضاً في الآية 12 من سورة فاطر :

ص: 580


1- النساء : 64.
2- المائدة : 76.
3- الأنعام : 71.

( والَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) .

ففي هذه الآية وما قبلها استعملت لفظة « تدعون وندعوا » في حين استعملت في الآية الأُولى لفظة « تعبدون ».

ونظير ما سبق قوله سبحانه :

( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) . (1).

هذا وقد ترد كلا اللفظتين في آية واحدة وتستعملان في معنى واحد :

( قُلْ إِنّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ) (2).

وقوله سبحانه : ( وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي اسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عَبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرينَ ) (3).

والآية وما تقدمها ظاهرتان في أنّ المراد من الدعوة هو العبادة لا مطلق النداء وطلب الحاجة ، وذاك ليس بمعنى استعمال الدعاء ابتداء في معنى العبادة حتى يكون الاستعمال مجازياً بل إنّما استعملت في معناها الحقيقي ، أعني : الدعاء ، ولكن لمّا كان الدعاء مقروناً باعتقاد الداعي بالوهية المدعو صار المراد منه - بالمآل العبادة ، وقد تقدمت تلك النكتة آنفاً.

ويؤيد ما ذكرناه ما ورد في دعاء سيد الساجدين مشيراً إلى مفاد الآية المتقدمة حيث يقول :

« وسميت دعاءك عبادة ، وتركه استكباراً ، وتوعّدت على تركه دخول جهنم

ص: 581


1- العنكبوت : 17.
2- الأنعام : 56.
3- غافر : 60.

داخرين » (1).

وإنا لنطلب من القارئ الكريم أن يراجع بنفسه مادة الدعوة في المعجم المفهرس ، فسيرى ورود مضمون واحد تارة بلفظ العبادة ، وأُخرى بلفظ الدعاء والدعوة.

وهذا هو أوضح دليل على أنّ المقصود من الدعوة في الآيات المذكورة ( في مطلع هذا الفصل ) هو العبادة وليس مطلق النداء.

هذا والقارئ الكريم إذا درس مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ الدعوة وأُريد منه القسم الملازم للعبادة لرأى أنّ الآيات أمّا وردت حول خالق الكون الذي يعترف جميع الموحدين بإلوهيته وربوبيته ومالكيته ، أو وردت في مورد الأوثان التي كان عبدتها يتصورون إلوهيتها وأنّها مالكة لمقام الشفاعة ، وفي هذه الحالة فإنّ الاستدلال بهذه الآيات في مورد بحثنا الذي هو الدعاء مجرداً عن تلك العقيدة لمن أعجب العجب.

سؤال وجواب

إلى هنا تبيَّن أنّ دعوة العباد الصالحين بأي شكل كان ، سواء أكان لأجل التوسل والاستشفاع أم لأجل طلب الحاجة وإنجازها ليست عبادة ، ولا تشملها الآيات الناهية عن الدعوة بتاتاً غير أنّه ينطرح هنا سؤال ، وهو : انّه إذا كان غيره سبحانه لا يملك من قطمير ولا يملك كشف الضر والتحويل ، فما فائدة هذه الدعوة ، إذ قال سبحانه :

( فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ) (2).

ص: 582


1- الصحيفة السجادية ، الدعاء : 49.
2- الإسراء : 56.

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) ؟ (1).

والجواب : انّ البحث في هذا الفصل مركز على تمييز العبادة عن غيرها ، وأمّا كون الدعوة مفيدة أو لا ، فخارج عن موضوع بحثنا ، أضف إلى ذلك أنّ الآيات التي استدل بها تهدف إلى موضوع آخر لا يرتبط بالمقام.

ملخّص البحث

إنّ هذه الآيات راجعة إلى أصنام العرب الخشبية والمعدنية والحجرية ويتضح ذلك من سياق الآيات ، هذا أوّلاً ، وثانياً أنّ الهدف من نفي المالكية عن غير اللّه ليس هو مطلقها ، بل المراد المالكية المناسبة لمقامه سبحانه ، أعني : المالكية المستقلة ، ونفي هذه المالكية عن غيره سبحانه لا يدل على انتفاء ما يستند إليه سبحانه ، عنهم ، ويؤيد ذلك أنّه سبحانه يقول : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ واللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (2) والمراد من الفقر هنا هو الفقر الذاتي ولا ينافي القدرة المكتسبة والفعالة بإذنه سبحانه.

والدليل على أنّ العرب كانوا يعتقدون في أصنامهم القدرة المستقلة قوله سبحانه : ( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ولا نَفْعاً ) (3).

وقوله سبحانه : ( ويَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماوَاتِ والأرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ ) (4).

ص: 583


1- فاطر : 13.
2- فاطر : 15.
3- المائدة : 76.
4- النحل : 73.

وعلى ذلك فلو قال سبحانه لا يملكون عن اللّه كشف الضر ولا تحويلاً فالمقصود هو نفي تلك المالكية لا الأعم منها ومن المكتسبة.

البحث مركز على معرفة التوحيد في العبادة

قد ثبت بحمد اللّه أنّ طلب الشفاء والشفاعة والعون من عباد اللّه الصالحين ليست عبادة لهم ، وأمّا أنّهم قادرون على الإجابة أم لا ، مأذونون في الإعانة من قبله سبحانه أو لا ، أو أنّ هذا الطلب جائز في الشرع أو لا وإن لم يكن شركاً ؟ أو غير ذلك من الأسئلة ، فكلّها خارجة عن محط البحث الذي هو التعرف على معايير التوحيد والشرك ، وتطلب أجوبة تلك الأسئلة من مظانها.

نعم كفانا في الإجابة عليها ما كتبه أعلام السنّة والشيعة في هذا المقام ، فراجع « الدرر السنية » للسيد أحمد زيني دحلان المكي ، و « كشف الارتياب » للعلامة الأمين العاملي ، و « التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية » للعلاّمة المعاصر محمد الفقي من علماء الأزهر الشريف ، فقد تكفّلت هذه الكتب الإجابة عليها ، ولم تبق لأي مشكك مجالاً للتشكيك ، شكر اللّه مساعيهم.

ص: 584

10

عقائد الوثنيين في العصر الجاهلي

اشارة

إنّ الوقوف على عقائد الوثنيين في العصر الجاهلي يسلط أضواء على البحث الحاضر ، فإليك بعض عقائد الوثنيين من أصحاب الهياكل وأصحاب الأشخاص والحرنانية والدهرية ، والتفصيل يطلب من مواضعه.

1. أصحاب الهياكل

وكانوا يقولون : إنّ الإنسان ليس في مستوى عبادة اللّه والاتصال المباشر به ، بل لابد له من واسطة ، فيتوجه إليه ويتقرب به ، وحيث إنّ الأرواح لم تكن في متناول أيديهم ، فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع ، وكانوا يتقربون إلى هذه الهياكل تقرباً إلى الروحانيات ، ويتقربون إلى الروحانيات تقرباً إلى البارئ تعالى ، لاعتقادهم بأنّ الهياكل أبدان الروحانيات.

وكانوا يقومون بمراسيم خاصة لدى عبادة هذه الهياكل ، فيعملون الخواتيم على صورها وهيئتها وصنعتها ، ويلبسون اللباس الخاص به في ساعات مخصوصة

ص: 585

من اليوم ، ويبخرون ببخوره الخاص ، ويعبدون كل واحد من تلك السيارات في وقت معين ، ثم يسألون حاجتهم منها ، ويسمّونها : « أرباباً » « آلهة » واللّه هو رب الأرباب وإله الآلهة (1).

2. أصحاب الأشخاص

وكان هؤلاء يشتركون مع الفريق السابق - في بعض العقائد - إلاّ أنّهم كانوا يعبدون أشكال السيارات بدل السيارات نفسها ، لأنّ لها طلوعاً وأُفولاً وظهوراً بالليل وخفاء بالنهار ، ولهذا صنعوا لها صوراً ثابتة على مثالها ، ويقولون : نعكف عليها ونتوسل بها إلى الهياكل ، فنتقرّب إلى الروحانيات ، ونتقرّب بالروحانيات إلى اللّه سبحانه وتعالى ، فنعبدهم ( إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) (2).

3. عقائد العرب الجاهلية

قليل من العرب من كان يتديّن بالدهرية فقالوا بالطبيعة المحيية ، والدهر المفني وكانت الحياة - في نظرهم - تتألف من الطبائع والعناصر المحسوسة في العالم السفلي ، فيقصرون الحياة والموت على تركبها وتحلّلها ، فالجامع هو الطبع والمهلك هو الدهر ، ولكن أغلبهم كانوا يقرّون بالخالق وحدوث الخلق ، وينكرون البعث والإعادة وإرسال الرسل من جانب اللّه (3).

ومنهم من كان يعبد الملائكة والجن ويعتبرونها بنات لله سبحانه ، وصنف منهم كانوا من الصابئة الذين يعبدون الكواكب.

ومنهم من كان ينكر الخالق ، وحدوث الخلق والبعث وإرسال الرسل ولكن

ص: 586


1- الملل والنحل : 2 / 244.
2- الملل والنحل : 2 / 244.
3- الملل والنحل : 2 / 244.

كلا الفريقين كانوا يعبدون الأصنام ويعتبرونها مالكة لمقام الشفاعة عند اللّه.

ومن العرب من كان يتديّن باليهودية أو بالنصرانية ، وكانت المدينة محط الأُولى ونجران محط الثانية.

وأمّا الطوائف المسيحية الثلاث التي كانت تختلف فيما بينها في السيد المسيح وروح القدس والأب ، فكانت عبارة عن : الملكانية والنسطورية واليعقوبية.

وكانت هذه الطوائف رغم اختلافاتها تشترك في عبادة المسيح الذي لم يكن غير رسول.

وفي الآيات المتعرضة لذكر احتجاج إبراهيم ، إشارة إلى عقائد عبدة الكواكب والأجرام السماوية (1).

كما أنّه وردت في بيان عقائد المسيحيّين آيات (2).

والآيات التي استنكر فيها القرآن ، الوثنية - بشدة وعنف - ترتبط بعرب الجاهلية الذين كانوا يعتنقون عقائد مختلفة إذ كان أكثرهم يعبد الأصنام باعتقاد أنّها الشفعاء وأنّها آلهة صغار ، ومن هذه الآيات - على سبيل المثال - :

( وَإِذَا رَءَاكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كَافِرُونَ )(3) .

( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أنفسِهِمْ ) (4).

ص: 587


1- راجع الفصل الثالث ، والفصل الخامس : 285 - 302.
2- راجع الفصل الثالث ، والفصل الخامس : 285 - 302.
3- الأنبياء : 37.
4- الأنبياء : 43.

( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَات بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (1).

( أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ) (2).

إلى من تشير هذه الآيات ؟

إنّ الهدف الأساسي في هذه الآيات ونظائرها هو : النهي عن دعوة الفرق الوثنية ، التي كانت تتخذ الأصنام شريكة لله في بعض لتدبير أو مالكة للشفاعة على الأقل فكان ما يقومون به من خضوع واستغاثة واستشفاع بهذه الأصنام باعتبار أنّها آلهة صغار ، فوّض إليها جوانب من تدبير الكون وشؤون الدنيا والآخرة.

فأي ارتباط لهذه الآيات بالاستغاثة بالأرواح الطاهرة مع أنّ المستغيث بها لا يتجاوز عن الاعتقاد بكونها عباد اللّه الصالحين.

فالمقصود من قوله سبحانه : ( وإِنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدَاً ) (3) ، وما شابهها مما تقدم في أوّل البحث هو الدعوة العبادية التي كان المشركون يقومون بها أمام اللات والعزى ومناة أو الأجرام الفلكية والملائكة والجن ، وكأنّ الآية تريد أن تقول :

فلا تعبدوا مع اللّه أحداً.

فلو نهى القرآن الكريم عن إشراك غير اللّه معه سبحانه في العبادة ، فأي ربط لهذه المسألة بمسألة دعوة الصالحين وطلب الحاجة منهم مما يقدرون عليها

ص: 588


1- الأنعام : 100.
2- النجم : 20 - 21.
3- الجنّ : 18.

بإذن اللّه واقداره :

فإذا قال القرآن الكريم :

( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ) (1).

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ) (2).

( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) (3).

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) (4).

( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا ) (5).

( وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ ) (6).

وما سواها من الآيات مما يوجد في القرآن بوفرة ، فكل هذه الآيات مرتبطة بالدعوة التي تكون عبادة للأصنام والكواكب والملائكة والجن ، باعتبار أنّها آلهة صغار وباعتبار أنَّها معبودات ومدبّرة للكون وشفعاء تامي الاختيار ، ولا مرية في أنّ أية دعوة تكون هكذا ، تكون مصطبغة - لا محالة - بصبغة العبادة ، فأي ربط لهذه الآيات بدعوة الصالحين وطلب الشفاعة منهم مع الاعتقاد بأنّهم لا يقدرون على شيء بدون الإذن الإلهي ، ومع الاعتقاد بأنّهم لا يملكون أي مقام إلهي وربوبي وتدبير ، وما شابههما ؟ فهل يمكن قياس الدعوتين بالأُخرى وبينهما بون شاسع ؟

إنّ أوضح دليل على التباين بين هاتين الدعوتين هو أنّ الوهابيين يعتقدون بأنّ مثل هذا الطلب من الأنبياء الصالحين شرك حرام بعد وفاتهم ، وجائز مشروع

ص: 589


1- الرعد : 14.
2- الأعراف : 197.
3- الأعراف : 194.
4- فاطر : 13.
5- الأنعام : 71.
6- يونس : 106.

حال حياتهم ، وقد أثبتنا - فيما سبق - أنّ الموت والحياة غير مؤثرين - مطلقاً - في ماهية العمل ، وفي جوازه وعدم جوازه.

ومما سبق تبين ما في فتح المجيد ، إذ قال :

وقوله : ( أو يدعو غيره ) : اعلم أنّ الدعاء نوعان : دعاء عبادة ، ودعاء مسألة ، ويراد به في القرآن هذا تارة وهذا تارة ، ويراد به مجموعهما.

فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر ، ولهذا أنكر اللّه على من يدعو أحداً من دونه ممّن لا يملك ضرّاً ولا نفعاً ، كقوله تعالى : ( قُل أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلا نَفْعَاً واللّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيم ) (1) وقوله : ( قُل أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا ولا يَضُرُّنَا ونُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلى الهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الهُدى وَأُمِرْنَا لِنُسَلِّمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ ) (2) ، وقال : ( ولاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذَاً مِنْ الظَّالِمِينَ ) (3).

قال شيخ الإسلام [ ابن تيمية ] : فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة قال اللّه تعالى : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدينَ ) (4).

ص: 590


1- المائدة : 76.
2- الأنعام : 71.
3- يونس : 106.
4- الأعراف : 55.

وقال تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللّهِ أَو أَتَتْكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين * بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَونَ ما تُشْرِكُونَ ) (1).

وقال تعالى : ( وَأَنَّ المَساجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (2).

وقال تعالى : ( لَهُ دعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيءٍ إِلاّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلى الماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الكافِرينَ إِلاّ في ضَلال ) (3).

وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر ، وهو يتضمن دعاء العبادة ، لأنّ السائل أخلص سؤاله لله ، وذلك من أفضل العبادات ، وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه ونحوه طالب من اللّه في المعنى فيكون داعياً عابداً.

فتبيّن بهذا من قول شيخ الإسلام أنّ دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة ، كما أنّ دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة (4).

فمن هذا البحث الضافي حول الدعوتين وكون إحداهما مسألة عبادية ، والأُخرى مسألة غير عبادية ، تتضح أُمور :

الأوّل : كيف استفاد ابن تيمية من الآية : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخِفْيَةً ) والآية : ( وانّ المَساجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) إنّ طلب الحاجة من أحد تكون دعوة عبادة للمدعو.

ص: 591


1- الأنعام : 40 - 41.
2- الجنّ : 18.
3- الرعد : 14.
4- فتح المجيد : 166.

فإذا كانت لفظة « ادعوا » في قوله سبحانه : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً ) ولفظة ( لا تَدْعُوا ) في قوله سبحانه ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ ) بمعنى المناداة ، فكيف تكون الدعوة الطلبية مستلزمة للدعوة العبادية ؟

إنّ هاتين الآيتين - على فرض دلالتهما - ( ولا دلالة لهما ) لا تدلان على أكثر من النهي عن دعوة غير اللّه ، وأمّا أنّ دعوته تكون مستلزمة لعبادته فلا يدل ظاهر الآية عليه أبداً ، إذ أنّ النهي عن الشيء ليس دليلاً على كون المنهي عنه مصداقاً للعبادة.

الثاني : انّ الدعوة الطلبية إنّما تستلزم الدعوة العبادية إذا اعتقد الداعي بإلوهية المدعو على مراتبها ، ففي هذه الموارد تستلزم الدعوة الطلبية ، الدعوة العبادية ، بل هي الدعوة العبادية عينها ، وليست مستلزمة لها ، وتكون مثل هذه الدعوة عبادة لا أنّها مسلتزمة للعبادة.

ولكن إذا دعا الداعي أحداً ، مجرّداً عن الاعتقاد المذكور ، فلا تكون دعوت - حينئذ - عبادة له.

ثالثاً : من الغريب جداً أنّ تصح الاستغاثة بالأحياء وتكون مشروعة - على الإطلاق - غافلاً عن أنّه لو كان مطلق الاستغاثة بغير اللّه ( حتى إذا لم تكن مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية أو مالكية المستغاث ) شركاً لما كان لموت المدعو وحياته أيُّ أثر في هذا القسم.

وما ورد عن النبي الأكرم من أنّ الدعاء مخ العبادة ، فالمراد هو الدعوة الخاصة ، أعني : ما إذا كانت مصحوبة بالاعتقادبإلوهية المدعو.

وبتعبير آخر ، أنّ المقصود بالدعاء في الحديث المذكور إنّما هو دعاء اللّه ، فيكون دعاء اللّه مخ العبادة.

ص: 592

فأيّ ربط لهذا الحديث بدعوة الصالحين التي لا تكون مقرونة بأيّ شيء من الاعتقاد بإلوهية المدعو ؟!!

نعم يبقى هنا سؤال وهو أنّ دعوة الغير وإن لم تكن عبادة له على ما أوضحناه ، ولكنها أمر محرّم بحكم هذه الآيات ، فدعوة الصالحين من الأموات من الدعوات المحرّمة ، لأنّها دعوة غيره سبحانه ، ودعوة الغير منهية عنه ، نعم لا تشمل الآيات دعوة الأحياء لأنّه أمر جائز بالضرورة ، فيستنتج منها حرمة دعوة الصلحاء الماضين وإن لم يكن شركاً.

والجواب عنه واضح بعد الاحاطة بما ذكرناه ، لأنّ الآيات ناظرة إلى دعوة خاصّة صادرة من المشركين ، وهي دعوة آلهتهم وأربابهم المزعومة ، والنهي عن هذه الدعوة المخصوصة لا توجب حرمة جميع الدعوات حتى فيما لم تكن بهذه المنزلة.

وأوضح دليل على ما ذكرناه هو ما اعترف به السائل من عدم شمول الخطابات لدعوة الأحياء وطلب الحاجة منهم ، فإنّ خروج هذا القسم ليس خروجاً عن حكم الآيات حتى يكون تخصيصاً ، بل خروج عن موضوعها وعدم شمولها له من أوّل الأمر ، وليس الوجه لخروجه عن الآيات إلاّ ما ذكرناه من أنّ الآيات ناظرة إلى الدعوة التي كان المشركون يقومون بها طيلة حياتهم ، وهي دعوة الأصنام والأوثان بما هي آلهة ، بما هم يملكون لهم النفع والضر والشفاعة والغفران ، وهذا الملاك ليس بموجود في دعوة الصلحاء.

ولأجل هذه العقيدة في حق الآلهة يقول سبحانه في الإله الذي صنعه السامري : ( هذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ) (1).

ص: 593


1- طه : 88 - 89.

ومما يدل على ما ذكرناه هو تكرار كلمة « من دونه » في الآيات ، فإنّها ليست لتعميم كل دعوة متوجهة إلى غيره سبحانه ، حتى نحتاج إلى إخراج بعض الأقسام ، أعني : دعوة الأحياء لطلب الحوائج ، أو دعوة الأموات لا لطلب الحاجة ، بل للتوسل والاستشفاع ، بل جيء به لتبيين خصوصية هذه الدعوة ، وهي دعوة الغير بظن أنّه يقوم بالفعل مستقلاً من دون اللّه كما هو المزعوم للمشركين في آلهتهم.

وأمّا طلب الحاجة ممّن لا يقوم ( في زعم الداعي ) إلاّ بأمره سبحانه ومشيئته بحيث لا تكون دعوته منفكة عن دعوة اللّه سبحانه فلا يصدق عليه قوله تعالى : ( والَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ بِشَيْءٍ ) (1).

وغيره من الآيات.

بناء المساجد على القبور

قد سبق (2) منا أنّ التبرّك بآثار الأولياء وعباد اللّه الصالحين خصوصاً التبرك بآثار النبي كان أمراً رائجاً بين المسلمين ، وعلى ذلك فبناء المساجد على القبور بعنوان التبرّك ممّا لا إشكال فيه ، هذا ، ويظهر من بعض الآيات أنّ أهل الشرائع السماوية كانوا يبنون المساجد على قبور أوليائهم أو عندها ، ولأجل ذلك لما كشف أمر أصحاب الكهف تنازع الواقفون على آثارهم ، فمنهم من قال وهم المشركون : ( ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) (3) ، وقال الآخرون وهم المسلمون : ( لَنَتَّخِذَنَّ

ص: 594


1- الرعد : 14.
2- من كتابنا هذا ص 535.
3- الكهف : 21.

عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) (1).

قال الزمخشري في تفسير قوله : ( ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً ) : أي ابنوا على باب كهفهم لئلاّ يتطرّق إليهم الناس ضنّاً بتربتهم ومحافظة عليها ، كما حفظت تربة رسول اللّه بالحظيرة.

وقال في تفسير قوله : ( قَالَ الَّذِينَ غُلِبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) ، أي قال المسلمون وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم : لنتخذنّ على باب الكهف مسجداً ، يصلي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم (2).

وقال في تفسير الجلالين : فقالوا - أي الكفّار - : ابنوا عليهم أيّ حولهم بنياناً يسترهم ، ربّهم أعلم بهم ، قال الذين غلبوا على أمرهم : أمر الفتية وهم المؤمنون : لنتخذن عليهم - حولهم - مسجداً يصلّى فيه (3).

وعلى الجملة : فقد اتفق المفسرون على أنّ القائل ببناء المسجد على قبورهم كان هم المسلمون ، ولم ينقل القرآن هذه الكلمة منهم إلاّ لنقتدي بهم ونتّخذهم في ذلك أُسوة.

ولو كان بناء المسجد على قبورهم أو قبور سائر الأولياء أمراً محرماً لتعرض عند نقل قولهم بالرد والنقد لئلا يضل الجاهل.

وأمّا ما روي عن النبي من قوله : « لعن اللّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (4) ، فالمراد منه هو السجود على قبور الأنبياء واتخاذها قبلة في

ص: 595


1- الكهف : 21.
2- الكشاف : 2 / 254.
3- تفسير الجلالين : 2 / 3.
4- صحيح البخاري : 2 / 111 ، كتاب الجنائز.

الصلاة وغيرها ، والمسلمون بريئون من ذلك ، وقد أوضحه القسطلاني في كتابه « إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ».

اقتراح على كتّاب الوهابية

إنّ كثيراً من كتّابهم خلطوا في البحث بين العناوين التالية : الشرك ، البدعة ، المحرم.

فتجب عليهم الدقة في تطبيق هذه العناوين على أفعال المسلمين فربّما يكون شيء محرماً ولا يكون بدعة ، وربما يكون محرماً وبدعة ولا يكون شركاً ، فليس كل حرام بدعة ، وليس كل بدعة شركاً ، غير أنّهم لا يميّزون بين هاتيك العناوين ويطلقون على كل حرام - في زعمهم - شركاً وبدعة.

وفي الختام نذكّر القارئ أنّ التوسع المشهود في هذا الفصل لم يكن إلاّ لتوضيح الحقيقة والإصحار بها مع التحفظ على الأدب الإسلامي في نقل الكلمات ونقدها ، فإن صدر هناك شيء فلم يكن ذلك إلاّ لأجل الصراحة في القول لا للقسوة في الحجاج ، وإلاّ فيجمعنا التآخي في اللّه والدين : ( إنَّما المُؤْمِنُونَ إخوَة ) (1) فنحن كما قال شاعر الأهرام :

إنا لتجمعنا العقيدة أمة *** ويضمنا دين الهدى أتباعاً

ويؤلّف الإسلام بين قلوبنا *** مهما ذهبنا في الهوى أشياعاً

بقيت هنا أبحاث طفيفة ملأت كتب الوهابية :

1. التوسّل إلى اللّه بالأنبياء.

ص: 596


1- الملك : 14.

2. الإقسام على اللّه بمخلوق ، أو بحق مخلوق ، ونحوه مثل أن تقول : أقسم عليك بفلان ، أو بحقه.

3. الحلف بغير اللّه ، الذي ملأ القرآن ذلك الحلف كما في سورة الشمس ، فقد ورد في القرآن قرابة أربعين حلفاً بغير اللّه ، وقد نبهنا آنفاً أنّ ورود شيء في القرآن يدل على جوازه وكونه أُسوة.

4. النحر والذبح باسمه سبحانه وإهداء الثواب إلى الأموات.

5. بناء القبور وعقد القباب فوقها.

6. الدعاء والصلاة عند قبر النبي والإسراج عنده.

7. شدّ الرحال لزيارة القبور.

ونرجئ البحث عن هذه العناوين إلى محل آخر ، وقد أوضحنا حالها في بعض تآليفنا.

على أنّنا لا نحب أن نعبّر عن هذه الطائفة بالوهابية غير أنّ اشتهارهم بهذا واستعمالهم هذه الكلمة في حقّهم سوّغ لنا هذا الأمر ، كيف ، وقد نشرت الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة كتاباً باسم « الحركة الوهابية » ، طبع عام 1396 ه رداً على مقال للدكتور محمد البهي.

ص: 597

ص: 598

الفصل العاشر: اللّه والتوحيد في التقنين والتشريع

اشارة

ص: 599

التوحيد في التقنين والتشريع

1. حاجة المجتمع إلى القانون.

2. شرائط المشرّع.

3. لا تتوفر هذه الشروط إلاّ في اللّه.

4. الآيات الدالة على التوحيد في التشريع.

5. الصنف الأوّل الدال على عدم جواز التشريع لغير اللّه.

6. الصنف الثاني الدال على تقريع من يحلون حرامه ويحرمون حلاله.

7. إجابة على سؤال.

8. الصنف الثالث الدال على أنّ الأنبياء بعثوا مع نظم كاملة للحياة.

9. ما هي معاني الشريعة والملة والدين ؟

10. الصنف الرابع الدال على المنع من التحاكم إلى الطاغوت.

11. الصنف الخامس الآيات التي تذم النصارى على إعطاء الأحبار حق التشريع.

12. الصنف السادس الآيات الحاثّة على اتّباع الرسول.

13. ماذا يراد من الشرك في التشريع ؟

14. سؤال واجابة.

15. الشيعة وفكرة حق التشريع للنبي صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام .

ص: 600

1. حاجة المجتمع إلى القانون.

2. شرائط المشرّع.

3. لا تتوفر هذه الشروط إلاّ في اللّه.

إنّ اتساع الحياة الاجتماعية للبشر على وجه الأرض من جانب ، وغياب العيش الفردي في الكهوف والغابات والبراري شيئاً فشيئاً من جانب آخر ، يكشف عن أنّ الإنسان ميّال بطبعه إلى النمط الاجتماعي من الحياة ، ليتمكن بالتعاون مع أبناء نوعه من التفوّق على المشكلات والمصاعب.

ومن جهة أُخرى لما كان الإنسان أنانياً بطبعه مشدوداً إلى « حب الذات » وهو من الغرائز الأصيلة فيه ، فهو يريد - بمقتضى هذه الغريزة - حصر كل ّشيء لنفسه ، وإذا يخضع للقوانين والنظم فلأنّه يرى في خضوعه للنظام ضماناً لمصالحه الشخصيه ، ولأجل هذاإذا وجد فرصة للتمرّد عليه ولم يجده مخالفاً لمصالحه يتمرّد عليه بحرص وولع.

ولذلك اتفق العقلاء على لزوم وجود ما ينظم العلاقات البشرية ، حتى يتسنّى تكوين مجتمع إنساني صحيح يستطيع في ظله جميع البشر من استيفاء حقوقهم ، ومعرفة واجباتهم وفي الحياة الاجتماعية ليقوموا بها دونما تجاوز أو عدوان ، غير أنّه يجب علينا أن نعرف من هو الذي يقوم بهذا الواجب الأساسي.

فنقول : بما أنّ المقنّن يريد أن يقود المجتمع البشري نحو الكمال المنشود ،

ص: 601

ويعيّن في ضوء ذلك واجبات الأشخاص تجاه بعضهم وتجاه أنفسهم ويضمن حقوقهم ، ويقيّض لهم سعادتهم المادية والمعنوية ، يجب أن يتوفر فيه أمران أساسيان :

1. أن يعرف الإنسان بعامّة خصوصياته ، ويكون واقفاً على أسرار الكائن البشري وعارفاً بأُموره الروحية والجسمية بنحو دقيق ، كالطبيب الذي لا يمكن أن يقوم بواجبه إلاّ بعد أن يتعرف على أحوال المريض وأوضاعه معرفة جيدة دقيقة ليتسنّى له معالجة المريض بنحو صحيح.

وبعبارة أُخرى : أنّ المقنّن يجب أن يكون ملمّاً جيداً بعلم النفس الإنسانية ، وعلم الاجتماع محيطاً بهما ، واقفاً على حقائقهما ، لتوقف غرض التشريع على ذلك ، وبالجملة يجب أن يكون واقفاً على الأحوال الفردية والاجتماعية.

2. يجب أن يكون منزّهاً عن الهوى وعن أي نوع من حب الذات والنفعية ، لأنّ حب الذات حجاب غليظ يحول دون رؤية المشرع للواقع ، ويغطي على بصره وبصيرته.

لأنّ المرء مهما كان عادلاً ومنصفاً ربما يقع بصورة لا شعورية في شباك « الهوى » ويتأثر بغريزة « حب الذات » وينحرف تحت ضغط « النفعية » عن صراط العدل المستقيم.

ويجب أن نرى الآن فيمن يتوفر هذان الشرطان بنحو كامل ؟

لا ريب إذا كان يتعين على المقنن أن يكون ذا معرفة كاملة بالإنسان ، فلا ريب أنّه لا يوجد هناك من يعرف حقيقة النفس الإنسانية واحتياجاتها بكاملها سوى اللّه خالق الإنسان.

ولقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة إذ قال :

ص: 602

( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (1).

فاللّه الذي خلق جميع ذرات هذا العالم وركّب أجزاءه ولاءم بين مختلفاته ، هو الذي يعلم - علماً تاماً - أسرار ما خلق ، وهو الذي يعلم ما يصلح النفس الإنسانية وما يفسدها ، أحسن من غيره.

وهو بعلمه المطلق وإحاطته الواسعة أدرى من غيره بعلاقات الأفراد ، وأبعادها وآثارها ، ويعرف العناصر الصالحة لإقامة مجتمع صالح سعيد ، فهو أدرى من غيره بالقوانين التي تليق بالمجتمع الإنساني وتسعده ، هذا بالنسبة إلى الشرط الأوّل.

* * *

وأمّا الشرط الثاني ، أعني : تجرّد المشرّع عن أيّ نوع من أنواع الهوى والنفعية ، فلابد من الاعتراف بأنّه لا أحد هناك يتصف بهذه الصفة غيره سبحانه ، فهو الموجود الوحيد الذي لا نفع له في المجتمع الإنساني ليخشى عليه ويحرص على حفظه وصيانته عند سن القوانين.

فهو الذي تنزّه عن الغرائز ، في حين يتصف جميع أبناء البشر بحب الذات - التي تعتبر من أخطر آفات التشريع الصحيح - فهم مشدودون إليها رغم سعيهم للتخلّص من مخالبها ، ومتأثرون بها مهما حاولوا عدم الخضوع لسلطانها.

وقد أشار جان جاك روسو إلى هذه الحقيقة بقوله :

لاكتشاف أفضل القوانين المفيدة للشعوب لابد من وجود عقل يرى جميع الشهوات البشرية ، ولكن لا يجد في ذاته ميلاً نحوها ، عقل لا يرتبط بالطبيعة ولا

ص: 603


1- الملك : 14.

يخضع لضغوطها ، ولكنه يعرفها تمام المعرفة ، عقل لا ترتبط سعادته بنا ، ولكنه مستعد لأن يعيننا في سعادتنا (1).

على هذا الأساس لا توجد في الإسلام أيّة سلطة تشريعية ، لا فردية ولا جماعية ، ولا يكون هناك مشرِّع إلاّ اللّه وحده.

وأمّا المجتهدون والفقهاء فهم في الحقيقة ليسوا إلاّ متخصصين في معرفة القانون ، وظيفتهم الكشف عن الأحكام بعد الرجوع إلى مصادرها ، وبالتالي تطبيق الأحكام الشرعية على مصاديقها في بعض المجالات.

فمن مراجعة الآيات القرآنية يثبت أنّ حق التشريع خاص باللّه فقط ، ولا يحق لأحد - في النظام التوحيدي - أن يفرض رأيه على الآخرين فرداً كان أو مجتمعاً ، وأن يدعوا الناس إلى الخضوع لها والأخذ بها.

فالناس جميعاً - في النظام التوحيدي - متساوون كأسنان المشط ، كما قال الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله :

« الناس كأسنان المشط » (2).

فلا فضل لأحد على أحد ، ولا امتياز.

إنّ الإسلام كما لم يسمح لأحد بأن يختص بوضع القوانين دون سواه وحارب تلك الفكرة ، كذلك حارب كل الطبقيات السائدة في الأنظمة الطاغوتية التي تضع بعض الطبقات فوق القوانين ، فالجميع سواسية أمام القانون ، كما عبّر عن ذلك الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله إذ قال :

ص: 604


1- العقد الاجتماعي.
2- حديث مشهور.

« الناس أمام الحق سواء » (1).

ففي الأنظمة الطاغوتية نجد الأُمراء والحكام والملوك وحواشيهم ومن يدور في فلكهم ، يعفون أنفسهم من الضرائب والرسوم ، وكأنّهم بحاجة إلى الشفقة والعطف والمعونة - رغم امتلاكهم لأضخم الثروات - في حين يتحتم على أفراد الشعب حتى الضعفاء أن يتحملوا تلك الرسوم الثقيلة والضرائب الباهظة ، لا على الحاجات المهمة فقط ، بل حتى على الإبرة والخيط التي يستوردونها من الخارج ليكسوا عريهم ، ويقوا أبدانهم برد الشتاء ، وحر الصيف.

هذه هي خصائص النظم الطاغوتية ، وهي تماماً على العكس من النظام الإسلامي التوحيدي الذي لا يقرّ أيَّ امتياز لأحد على آخر ، أو لطبقة على أُخرى ، ولا يعمل إلاّ بميزان العدل والمساواة.

ومن الطبيعي أنّ هذه العدالة والمساواة في النظام الإسلامي ليستا ناشئتين إلاّ من تنزّه المشرّع ( أي اللّه )عن الهوى والنفعية وحب الذات التي يخضع لها مشرّعو القوانين والنظم البشرية.

الآيات الدالّة على التوحيد في التقنين

اشارة

إنّ الآيات التي تعتبر حق التقنين خاصّاً باللّه تعالى ، والتي لا تأذن لأحد بأن يتعرّض لهذا المقام ، كائناً من كان ، تقع على أصناف ، إليك بيانها :

الصنف الأوّل

تدل الآيتان التاليتان على أنّه لا يحق لأحد غير اللّه أن يسن القوانين ، معلّلة

ص: 605


1- حديث مشهور.

بأنّ مثل هذا الحق إنّما هو لمن يملك أزمّة الحياة البشرية برمّتها ، الذي هو نوع من السلطة عليهم ، وليس هو إلاّ اللّه تعالى دون سواه ، قال سبحانه :

( مَا تَعبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللّه بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (1).

لقد وردت جملة ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) في آيتين من سورة يوسف ، إحداهما الآية السابقة ، والأُخرى في قوله تعالى :

( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ إنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ ) (2).

غير أنّ المقصود من حصر الحاكمية باللّه سبحانه في الآية الأُولى هو الحاكمية التشريعية ، كما أنّ المراد من حصرها به في الآية الثانية هو الحاكمية التكوينية.

والدليل على ذلك هو مضامين الآيتين ، فالآية الأُولى تهدف إلى أنّه لا يحق لأحد أن يأمر وينهى ويحرّم ويحل سوى اللّه سبحانه ، ولأجل ذلك قال - بعد قوله - ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) : ( أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) ، فكأنّ أحداً يسأل عن أنّه إذا كان الحكم مختصاً به سبحانه والتشريع خاصّاً به ، فماذا أمر اللّه في مورد العبادة ؟ فأجاب على الفور ( أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) .

ص: 606


1- يوسف : 40.
2- يوسف : 67.

وأمّا الآية الثانية ، فهي تهدف إلى أنّ يعقوب لا يملك لأبنائه أمراً ولا يضمن لهم في صفحة الوجود شيئاً ، فأُمور الكون كلّها بيده ، ولابد من التوكّل عليه رغم معرفة أسباب الظفر بالمطلوب ، ولأجل ذلك بعد ما عرفهم أسباب الظفر بقوله : ( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) عاد يذكّرهم بأنّه لا يضمن - مع ذلك - لهم شيئاً بقوله : ( وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ إن الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) .

وأوضح دليل على كون المراد من الحكم هو الحكم التكويني أمره بإيكال الأُمور إليه في مجاري الحياة بقوله : ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ ) .

وعلى الجملة فالآية الأُولى من الآيتين صريحة في اختصاص التشريع باللّه سبحانه ، لا يتردد في مضمونها من له إلمام بمعارف القرآن.

ويقرب من هذه الآية قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشَّمْسَ وَالْقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (1).

فإنّ المفسرين فسّروا الأمر هنا بالأمر التشريعي ، قال الطبرسي : إنّما فصل بين الخلق والأمر ، لأنّ فائدتهما مختلفة لأنّه يريد بالخلق أنّ له الاختراع ، وبالأمر أنّ له أن يأمر في خلقه بما أحبّ ويفعل بهم بما شاء (2).

ص: 607


1- الأعراف : 54.
2- مجمع البيان : 4 / 428 وهذه الآيات كما دلت على حصر التشريع باللّه سبحانه كذلك تدلّ على حصر الحاكمية باللّه سبحانه وسيوافيك بيان دلالة الآية على حصر الحاكمية باللّه سبحانه ولفظ « الحكم » والأمر في الآيتين أعم من التشريع والحاكمية.

ويمكن أن يقال إنّ المراد منه هو الأعم من الأمر التكويني والتشريعي بقرينة ( وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ) فإنّ المراد من لفظة بأمره بقرينة التسخير هو الأمر التكويني ، وعلى ذلك يمكن أن يراد من قوله : ( لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) الأعم من تدبير العالم بالأوامر التكوينية وتدبير المجتمع بالأوامر التشريعية.

الصنف الثاني
اشارة

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤمِنْ قُلُوبهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَومٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤتوهُ فَاحْذَرُوا وَمن يرد اللّه فِتْنَته فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَم يَرِد اللّه أَنْ يطهر قُلوبهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَة عَذابٌ عَظِيم ) .

( سَمّاعُونَ لِلكذب أَكّالُونَ للسُّحتِ فَإِنْ جاؤوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَو أَعْرِض عَنْهُمْ وَإِنْ تعرض عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ اللّه يُحِبُّ المُقْسِطين ) .

( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوراةُ فِيها حُكْمُ اللّه ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنين ) .

( إِنّا أَنْزَلْنا التَّوراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُم ُبِها النبِيُّونَ الّذِينَ أَسْلَمُوا لِلّذينَ هادُوا والرَّبّانيُّون والأَحبارُ بِما استُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّه وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوا النّاسَ وَاخْشَونِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتي ثَمَناً قَليلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون ) .

ص: 608

( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعينَ بِالعينِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذنَ بِالأُذنِ وَالسنَّ بالسنِّ وَالجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون ) .

( وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعَيسى ابن مَرْيَم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مَنَ التَّوراةِ وَآتَيْناهُ الإِنْجِيلَ فيهِ هدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوراةِ وَهُدىً وَمَوعِظَةً لِلْمُتَّقين ) .

( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانْجِيل بِما أَنْزل اللّه فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ ) (1).

( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ منَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيْهِ تَخْتَلِفُون * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللّه إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّه أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّه حُكْمَاً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (2).

ولو تأمل القارئ الكريم في مضامين هذه الآيات لتبيّن له بوضوح أنّ اللّه تعالى منذ أن بعث الرسل والأنبياء لم يأذن لأحد في أن يشرّع لنفسه ولا لغيره قانوناً لقصور علم البشر ، وض آلة معلوماته ، ولذلك أنزل في كل عصر أفضل ما يناسبه

ص: 609


1- المائدة : 41 - 47.
2- المائدة : 48 - 50.

من الأحكام والقوانين.

فقوله : ( يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ) إشارة إلى أنّهم يخالفون ما قرر اللّه لهم من الأحكام.

وقوله : ( أَكّالُونَ لِلْسُّحْتِ ) يُراد منه أنَّهم كانوا يحرمون حلال اللّه ويحلّون ما حرمه.

وأبلغ من كل ذلك قوله : ( وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ) .

وقوله : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) .

وقوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون ) .

وقوله : ( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها انَّ النَّفْسَ ... ) .

وقوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون ) .

وقوله : ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيل بِما أَنْزَل اللّه فِيهِ ) .

وقوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون ) .

فهذه المقاطع توضح لنا أنّ ممنوعية التقنين على البشر لم تكن في الإسلام فحسب ، بل كانت في كل الشرائع السماوية والماضية ، وإن حق التقنين حق منحصر باللّه فقط ، فهو من شأنه وفعله تعالى خاصة ، ولم يفوّض هذا الحق إلى أحد أبداً ، أليس هذا القرآن يصف كل من يستبدل النظام الإلهي بغيره ، بالكفر تارة ، وبالظلم أُخرى ، وبالفسق ثالثة.

فهم كافرون ، لأنّهم يخالفون التشريع الإلهي بالرد والإنكار والجحود.

وهم ظالمون ، لأنّهم يسلمون حق التقنين الذي هو خاص باللّه إلى غيره.

ص: 610

وهم فاسقون ، لأنّهم خرجوا بهذا الفعل عن طاعة اللّه.

ثم هل هناك عبارة أصرح في انحصار حق التقنين في اللّه وانتفائه عن غيره ، من قوله تعالى :

أ. ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ ) .

ب. ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ) .

وهذا المنهاج والشرعة هو نظام الحياة لكل الأُمم ، لكل أُمّة حسب استعدادها وحسب حاجتها.

وحيث لا يمكن للنظام الإلهي أن يكون ناقصاً وعاجزاً ليكمل عن طريق النظام البشري ، لذلك ليست هناك حاجة مطلقاً إلى النظام البشري مع وجود النظام الإلهي والقانون الربّاني.

ج. ثم يعود القرآن مرة أُخرى يؤكد بقاطعية ، أنّ أي اتباع لغير أحكام اللّه ما هو إلاّ اتباع للهوى ، والهوس إذ يقول :

( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) .

د. وبالتالي يعتبر القرآن كلَّ حكم وتشريع لا ينبع عن الوحي ( حكماً جاهلياً ) فيقول بصراحة متناهية :

( أَفَحُكْمُ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) .

إجابة عن سؤال

يمكن أن يقال إنّ الرجوع إلى غير الحكم الإلهي إنّما لا يجوز إذا كان هناك حكم إلهي ، أمّا إذا لم يكن هناك حكم لله في مورد من الموارد ، فلم لا يجوز حينئذ

ص: 611

لفرد أو لشورى أن يسن قانوناً ، ويجعل حكماً لكيلا تقف حركة الأُمّة ، ولا يتعرقل تقدمها ؟

إنّ السؤال إنّما يتوجّه إذا وجد مورد مثلما قاله ، غير أنّ كون المنهاج إلهياً يوجب كونه في غاية الكمال والجامعية ولذلك لا مجال لتدخّل أيِّ أحد في أمر التشريع وبعبارة أُخرى : انّ القرآن يقسم القوانين الحاكمة على البشر على قسمين : إلهي وجاهلي ، وبما أنّ كل ما كان من صنع الفكر البشري لم يكن إلهياً ، فهو بالطبع يكون حكماً جاهلياً.

وقد أشار إلى هذه الحقيقة الهامة الإمام محمد بن علي الباقر علیه السلام ، إذ قال :

« الحكم حكمان : حكم اللّه ، وحكم أهل الجاهلية ، فمن أخطأ حكم اللّه حكم بحكم أهل الجاهلية » (1).

* * *

إنّ القرآن الكريم يعتبر نفسه مبيّناً لكل ما يحتاج إليه البشر في تنظيم حياته ومعيشته ، إذ يقول :

( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء ) (2).

وفي آية أُخرى يجعل بيانه وتوضيح مقاصده على عاتق الوحي ، قال سبحانه : ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبْعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) . (3)

وفي آية أُخرى يعتبر القرآن ، النبي الأكرم مبيّناً له ، لا مقتصراً على القراءة ،

ص: 612


1- وسائل الشيعة : 18 / 18 ، كتاب القضاء.
2- النحل : 89.
3- القيامة : 18 - 19.

كما يقول :

( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).

إنّ للنبي - بحكم هذه الآية والآيات الأُخر - وظيفتين :

الأُولى : تلاوة القرآن وقراءته على الناس حسبما نزل به الروح الأمين على قلبه ، قال سبحانه : ( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْث ) (2) ، وقوله سبحانه : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (3).

الثانية : بيان أهدافه ومقاصده ، ويشير إليه قوله تعالى : ( لتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) ، ولا منافاة بين أن يكون بيان القرآن على عاتق الوحي ، كما يفيده قوله : ( ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) وبين أن يكون بيانه من وظيفة النبي ، لأنّ ما يبينّه الرسول مستند إلى الوحي والتعليم الإلهي.

كما أنّه لا منافاة بين أن يكون النبي مبيّناً لمقاصد القرآن ، وأن تكون طائفة من الآيات معلومة عند أهل اللسان ، مع قطع النظر عن بيان النبي صلی اللّه علیه و آله ، كيف لا ، والقرآن نزل بلسان عربي مبين ، قال سبحانه : ( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (4) ، وقال سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (5) ، وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر ) (6).

نعم لا منافاة بينهما لأنّ القرآن مشتمل بالضرورة على المجملات في كثير من

ص: 613


1- النحل : 44.
2- الإسراء : 106.
3- القيامة : 16 - 19.
4- النحل : 103.
5- الشعراء : 193 - 195.
6- القمر : 17.

آيات الأحكام ، فما هو المبين راجع إلى غير هذه المجملات كالصلاة والصوم وغيرهما ممّا بيّنها الرسول بأعماله وأقواله ، وقال : صلّوا كما رأيتموني أُصلّي - مثلاً - كما أنّه لا منافاة بين أن يكون بعد من أبعاد آية واحدة واضحاً جليّاً في حين يكون البعد الآخر منه خفيّاً محتاجاً إلى بيان الرسول وخلفائه - صلوات اللّه عليهم -.

وبذلك يظهر أنّه لا منافاة بين هذه الطوائف من الآيات التي نقلنا نماذج منها.

إذا وقفت على ذلك تعرف أنّ ما ورد عن النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله حجّة ملزمة واجبة الاتّباع بحكم كونه مبيّناً للقرآن ، لأنّه يرجع إلى بيان الأحكام التي وردت أُصولها وكليّاتها في القرآن كالآيات المرتبطة بالعبادات والمعاملات والسياسات.

يبقى أن نعرف أنّ أقوال الأئمّة المعصومين مأخوذة - بحكم حديث الثقلين (1) وحديث سفينة نوح (2) - من النبي صلی اللّه علیه و آله ومنتهية إليه.

وبملاحظة هذه الأُمور كلّها يتضح موضع القرآن وأقوال الرسول وأهل بيته المعصومين ، ويتجلّى لنا موقعهم في النظام الإسلامي.

هذا مضافاً إلى أنّ ما يدل على حجية قول النبي صلی اللّه علیه و آله لا ينحصر في ما ذكرنا ، بل هناك آيات أُخرى تشهد بحجية قول النبي وفعله ، كقوله تعالى :

( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (3).

( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (4).

وغيرها من الآيات التي تدارسها المحققون في مبحث العصمة.

ص: 614


1- حديث الثقلين هو : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي » وهو مشهور.
2- حديث السفينة هو : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق » وهو مشهور أيضاً.
3- النجم : 3 و 4.
4- الحشر : 7.
الصنف الثالث
اشارة

إنّ الآيات في هذا الصنف تدل - بجلاء تام - على أنّ الأنبياء عامة ورسول الإسلام خاصة بعثوا مع نظام إلهي.

وإليك فيما يلي الآيات المرتبطة بهذا الصنف :

( إِنَّ هذَا القُرآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) (1).

إنّ المقصود ب ( لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) هو شريعة الإسلام التي ذكرت في آية أُخرى بلفظة « الشريعة » ، إذ قال اللّه سبحانه :

( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فاتَّبِعْها ) (2).

كما أنّ لفظة « أقوم » التي هي صيغة التفضيل من « القائم » كناية عن صحة أحكام القرآن واستقامتها قاطبة ، بحيث تنطبق مع الطبيعة ، وتكون معها على وفاق كامل.

إنّ أحكام الإسلام توفر للإنسان السعادة والحياة الكريمة ، وتسوقه إلى الكمال في حين لا يصدق مثل هذا بالنسبة إلى النظم البشرية.

فهي رغم كونها مفيدة للبشر من بعض النواحي ، إلاّ أنّها مضرة به وبحياته من جهات أُخرى هامة ، وعديدة.

وتؤكد هذه الحقيقة آيات أُخرى مثل قوله تعالى :

( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) (3).

ص: 615


1- الإسراء : 9.
2- الجاثية : 18.
3- الأنعام : 161.

في هذه الآية ذكر الإسلام أُصولاً وفروعاً بقوله :

1. ديناً قيماً.

2. ملّة إبراهيم.

وفي آية أُخرى عبّر عن أحكام الإسلام بلفظة الشريعة ، إذ يقول :

( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

في هذه الآية يتراءى للقارئ أمران :

1. أنّ النبي الأكرم أُرسل مع شريعة لتربية الناس وهدايتهم ، وإيصالهم إلى ذرى الكمال.

وحيث إنّ الشريعة تعني الطريقة ، فلابد للطريقة ، من هدف يقصد ، ومقصود يراد ، وغاية تطلب ، وما ذاك إلاّ الكمال الإنساني المنشود ، اللائق بالإنسان أكرم المخلوقات.

2. أنّ اتّباع الأحكام غير الإلهية وغير المستمدة من الوحي الإلهي - مهما كانت الأدمغة التي صنعتها - ليس إلاّ اتباع للهوى.

ومن ذلك يتضح لنا موضوع ( التوحيد في التقنين والتشريع ) فإنّ حق التقنين مختص باللّه سبحانه ومسلوب من المجتمع البشري ، وعلى ذلك فلو أشركنا في هذا الحق أحداً غير اللّه لعدلنا عن جادة التوحيد.

ثم إنّ الآية التالية تؤكد مضمون هذا الصنّف وتؤيده ، إذ تقول :

( لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ

ص: 616


1- الجاثية : 18.

إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُّسْتَقِيمٍ ) (1).

والمنسك الوارد في الآية ليس إلاّ الشريعة الإلهية التي أنزلها اللّه تعالى على كل أُمّة حسب احتياجاتها وظروفها ، ثم كان يحدث فيها التغيير مع مرور الزمن وتقدّم الأُمم وتوسع نطاق حاجاتها وتكاملها ، حتى أكملها اللّه وأتّمها في نهاية المطاف ، وإن كان كل شريعة منها كاملة بالنسبة إلى الظروف والأُمم التي أُرسلت إليها.

ما هي معاني : الدين ، الشريعة ، الملّة ؟

حيث وردت في الآية 161 من سورة الأنعام لفظة الدين والملّة - كما لاحظنا - يجدره بنا أن نوضح الفرق بين هاتين اللفظتين ولفظة الشريعة.

إنّ الدين حسب اصطلاح القرآن هو الطريقة الإلهية العامّة التي تشمل كل أبناء البشر في كل زمان ومكان ولا تقبل أيَّ تغيير وتحويل مع مرور الزمن وتطور الأجيال ، ويجب على كل أبناء البشر اتباعها ، وهي تعرض على البشرية في كل أدوار التاريخ بنحو واحد دونما تناقض وتباين.

ولأجل ذلك نجد القرآن لا يستعمل لفظة الدين بصيغة الجمع مطلقاً ، فلا يقول : « الأديان » وإنّما يذكره بصيغة المفرد ، كما يقول :

( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلاَمُ ) (2).

( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (3).

ص: 617


1- الحج : 67.
2- آل عمران : 19.
3- آل عمران : 85.

في حين أنّ « الشريعة » تعني مجموعة التعاليم الأخلاقية والاجتماعية التي يمكن أن ينالها التغيير مع مرور الزمن وتطور المجتمعات وتكامل الأُمم ، ولذلك لا يضير استعمال هذه اللفظة في صورة الجمع فيقال « شرائع » وقد صرح القرآن بتعدّد الشريعة.

فهو رغم تصريحه بوحدة الدين - كما مر في الآية السابقة - يخبر عن وجود شريعة لكل أُمّة ويكشف بذلك عن تعدد الشريعة ، إذ يقول :

( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ) (1).

وعلى هذا فإنّ البشرية دُعيت في الحقيقة إلى دين واحد وهو الإسلام الذي كان متحد الأُصول في كل الأدوار والأزمنة ، وكانت الشرائع في كل زمن وظرف طريقاً للوصول إلى الدين الواحد ولم تكن الشرائع إلاّ طرقاً للأُمم والأقوام ، لكل قوم حسب مقتضيات عصره ومدى احتياجه.

وأمّا الملّة ، فهي بمعنى السنن التي بها تتقوّم الحياة البشرية وتستقيم ، تلك السنن التي أودع في مفهومها « الأخذ والاقتباس من الغير ».

ولذلك يضيف القرآن الكريم هذه العبارة - لدى استعمالها - إلى الرسول والأقوام ، إذ يقول - مثلاً - : ( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) (2).

( إِنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ ) (3).

وعلى هذا تكون الملّة والشريعة متحدتين معنى ومفاداً ، مع فارق واحد ، هو

ص: 618


1- المائدة : 48.
2- البقرة : 135.
3- يوسف : 37.

أنّ الملّة تضاف إلى غير اللّه ، فيقال « ملّة محمد » و « ملّة إبراهيم » ، ولا تضاف إلى اللّه تعالى فلا يقال ملّة اللّه.

الصنف الرابع

في هذا الصنف نجد الآيات تحذر من التحاكم إلى الطغاة والأخذ بقوانينهم ، كما يقول :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُريدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعْيداً ) . (1)

بل انّ القرآن يحذر المجتمع الإسلامي أساساً من أيِّ ركون إلى النظم الطاغوتية والابتعاد عن سنن اللّه وشرائعه ، إذ يقول :

( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن باللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انْفِصَامَ لهَا واللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (2).

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ

ص: 619


1- النساء : 59 - 60.
2- البقرة : 256 - 257.

وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاَء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ لَعَنَهُمُ اللّه وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ) (1).

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (2).

( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللّهِ لَهُمُ البُشْرَى ) (3).

أجل انّ القرآن - كما رأيت - يحذر من الركون إلى الطاغوت والميل إليه ، فضلاً عن طاعته وتسليم المقدّرات إليه.

إنّ هذه الحقيقة تتجلّى من ملاحظة الآيتين الأُوليين ، المذكورتين في مطلع هذا الصنف ، فالآية الأُولى تأمر باتّباع اللّه ورسوله وأُولي الأمر في المجتمع الإسلامي ، وأنّه إذا حدث حادث يجب ردّه إلى اللّه والرسول لا إلى غيرهم ، ثم يندد بالذين يتحاكمون إلى الطاغوت رغم ادّعائهم الإيمان بالكتب السماوية.

ويا للأسف هل سلك مجتمعنا الإسلامي - في القرن الأخير - غير هذا الطريق الوبي ؟ وهل اتبع غير الأنظمة البشرية ، وحل مشكلاته ومنازعاته إلاّ وفق القوانين الطاغوتية التي ما أنزل اللّه بها من سلطان ؟

ويمكن أن يسأل : أنّ القوانين الإسلامية بين ثابت وأبدي لا يقبل التغيير مع تطوّر الظروف وبين متغير ومتطوّر ، فما هو موقف السلطة التشريعية تجاه القسم الثاني ؟

أمّا الجواب : فنقول : إنّ التغيّر والتطوّر ليس في جوهر القانون وصلبه ، وإنّما هو في شكله وصورته ، والذي يجب صيانته وحفظه إنّما هو جوهره وصلبه ، لا

ص: 620


1- النساء : 51 - 52.
2- النحل : 36.
3- الزمر : 17.

عنوانه وصورته ، فبالنسبة لروابط الحكومة الإسلامية وعلاقتها مع الأجانب - مثلاً - لا يمكن اتخاذ نظر واحد غير متغيّر.

فقد توجب بعض الظروف أن تتعامل الحكومة الإسلامية مع الأجانب وتوسّع الروابط السياسية والثقافية والتجارية معها ، وربما أوجبت ظروف أُخرى أن تقطع هذه العلاقات أو تحرمها إلى أمد ، أو تحددها على الأقل ، غير أنّ هذا التغيير والتبدّل إنّما هو في شكل هذا القانون الحاكم على العلاقات وفي كيفية التطبيق والتنفيذ لا في أصل القانون وحقيقته ، لأنّ على الحاكم الإسلامي أن يصون مصالح الأُمّة الإسلامية ، ويحفظ مكانتها العالية ، ولا يسمح لأن تقع تحت سيطرة الكفار والمستعمرين ، وهذا القانون هو ما يصرح به القرآن ، إذ يقول :

( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرينَ عَلَى المُؤْمِنينَ سَبِيلاً ) (1).

وتدل الآيات والأحاديث الأُخرى على أنّ هذا القانون لا يقبل التغيّر والتبدّل أبداً ، غاية ما في الأمر أنّ صيانة الكيان الإسلامي قد تكون في قطع الروابط وقد تكون في إقامتها مع الآخرين.

وأنت إذا لاحظت الآيتين التاليتين تقف على أنّ أساس السياسة الإسلامية مع الدول الأُخرى مذكور فيهما بوضوح قال سبحانه :

( لا يَنْهَاكُمْ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّما يَنْهَاكُمُ اللّهَ عَنِ الذَّينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَولَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ) (2).

ص: 621


1- النساء : 141.
2- الممتحنة : 8 - 9.

وحاصل الآيتين : أنّ اللّه سبحانه ينهى عن إيجاد العلاقات الدبلوماسية مع الأُمم المحاربة للإسلام والمسلمين الذين أخرجوهم عن أوطانهم وظاهروا على عدوانهم.

وأمّا الأُمم المسالمة مع الحكومة الإسلامية فلا ضير في إقامة العلاقات معها وبذل البر والقسط إليهم.

قل لي بربك ، هل يمكن أن نعتبر عمل حكومة مصر « لا شعبها » عملاً إسلامياً منطبقاً مع الموازين الإسلامية التي جاء بها القرآن ؟

أو ما أخرجت إسرائيل الأُمّة الإسلامية من وطنها السليب فلسطين ؟!

أو ما ظاهرت على إخراجهم ، وانتزعت منهم حقوقهم المشروعة وشرّدتهم شرّ تشريد ، وفرّقتهم شر تفريق ؟!

* * *

وهكذا الأمر في مسألة تقوية بنية الدفاع الإسلامي فإنّ هناك أصلاً كليّاً بيّنه القرآن على هذا الصعيد ، إذ قال :

( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) (1).

فهذا القانون الذي يقرر ضرورة التفوق العسكري الإسلامي على جميع الجيوش العالمية قانون لا يتبدل ولا يقبل التغيير ، غاية ما في الباب أنّ طريقة تطبيقه هي التي تقبل التغيير حسب الأدوار المختلفة.

ففي ما مضى كان الجيش الإسلامي يتسلّح بالرماح والسهام والسيوف ويتخذ من هذه الأسلحة ما كان يضمن له التفوق والغلبة ، غير أنّ تطبيق هذا

ص: 622


1- الأنفال : 60.

القانون في هذا العصر يقتضي تسليح الجيش الإسلامي بأحدث الأسلحة وأكثرها تطوراً ، وقوّة وتفوقاً ، في كل المجالات البرية والجوية والبحرية.

وخلاصة القول : إنّ زمام التشريع الإلهي ليس في أيدي الناس حتى هذا القسم من القوانين الأساسية التي ينبغي أن تساير تطور الحياة البشرية ، فهي ثابتة روحاً وجوهراً ، متغيرة تطبيقاً وشكلاً حسب ما تقتضي الظروف المتجددة.

ومع الإمعان في هذين المثالين والموردين يتضح حكم الموارد الأُخرى من القوانين المتغيرة :

الصنف الخامس
اشارة

وهي الآيات التي تذم اليهود والنصارى لاتّخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه ، كقوله تعالى :

( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ ) (1).

كيف كانوا يتخذون رهبانهم وأحبارهم أرباباً ، هل كانوا يعبدونهم ؟ كلا ، بل كانوا يعطونهم حق التشريع الذي هو من الشؤون الإلهية ، فإذا أحل الرهبان والأحبار لهم شيئاً أو حرّموا اتّبعوهم في ذلك.

أخرج الكليني ، عن الإمام الصادق علیه السلام في تفسير قول اللّه جل وعزّ ( اتَّخذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (2) :

« واللّه ما صاموا لهم ، ولا صلّوا لهم ، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم

ص: 623


1- التوبة : 31.
2- التوبة : 31.

حلالاً فاتّبعوهم » (1).

وروى الثعلبي باسناده عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول اللّه وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال لي : « يا عدي اطرح هذا الربق من عنقك » قال : فطرحته ، ثم انتهيت إليه وهو يقرأ هذه الآية : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً ) حتى فرغ منها ، فقلت : إنّا لسنا نعبدهم ، فقال : « أليس يحرّمون ما أحله اللّه فتحرمونه ، ويحلّون ما حرّم اللّه فتستحلّونه ؟ » قال : فقلت : بلى ، قال : « فتلك عبادة » (2).

وفي حديث آخر :

« أمّا واللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون » (3).

الصنف السادس

تحثّ آيات هذا الصنف على أن لا يتقدّم المؤمنون على اللّه ورسوله واتّباعه على ما يأمر وينهى ، إذ يقول :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (4).

وقد ورد في المأثور أنّه صلی اللّه علیه و آله أمر بالإفطار في السفر غير أنّ بعضهم تمرّدوا عليه فسماهم رسول اللّه عصاة (5).

ص: 624


1- أُصول الكافي : 1 / 53 وقد روى العلاّمة البحراني في تفسيره البرهان أحاديث جمة بهذا المضمون فراجع : 2 / 120.
2- أُصول الكافي : 1 / 53 وقد روى العلاّمة البحراني في تفسيره البرهان أحاديث جمة بهذا المضمون فراجع : 2 / 120.
3- البرهان : 2 / 121.
4- الحجرات : 1.
5- وسائل الشيعة : 4 / 125 باب وجوب الإفطار في السفر.

ولأجل هذا يستنكر القرآن الكريم بشدة - في هذه السورة اتباع طلب النبي صلی اللّه علیه و آله - لآراء الناس ومشتهياتهم فيقول :

( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لََعَنِتُّم ) (1).

أي لأصابكم بسبب ذلك العنت والنصب.

وهنا يمكن أن ندرك عمق ما قاله الإمام أمير المؤمنين علي علیه السلام ، إذ قال :

« لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد من قبلي ، ألا وإنّ الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل » (2).

ماذا يراد من الشرك في التشريع ؟

إذا وقفت على مضامين هذه الآيات وعرفت أنّ اللّه تعالى لم يعط زمام التشريع لأحد من عباده ، تقف على أنّ العدول عنه عدول عن جادة التوحيد وتورط في الشرك.

إنّ التقنين والتشريع من الأفعال الإلهية التي يقوم سبحانه بها حسب ، فلو أنّ أحداً اعتقد بأنّ غير اللّه يملك هذا الحق إلى جانب اللّه وإنّ الحبر اليهودي أو الراهب النصراني مثلاً أو من يشاكلهما له الحق في أن يسن للناس القوانين ، ويعين من لدن نفسه لهم الحلال والحرام ، فإنّه اتخذ سوى اللّه ربّاً ، وبذلك نسب فعل اللّه إلى غيره ، وتجاوز حد التوحيد بتعميم هذا الحق على غيره سبحانه ، وكان بذلك مشركاً.

ص: 625


1- الحجرات : 7.
2- نهج البلاغة الكلمات القصار : الرقم 120.

فلو اعتقد أحد بأنّ لغيره سبحانه حق التقنين وأنّ بيده زمام التحليل والتحريم ومصير العباد في حياتهم الاجتماعية والفردية فقد اتخذه ربّاً أي مالكاً لما يرجع إلى عاجل العباد وآجلهم ، فلو خضع مع هذا الاعتقاد أمامه صار خضوعه عبادة ، وعمله شركاً.

ولأجل هذا نجد القرآن يقول : إنّ اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ، إذ معنى الربوبية في هذا المورد هو امتلاك الأمر وامتلاك زمام الاختيار في التحليل والتحريم ، في حين أنّ اللّه سبحانه لم يعط لأحد مثل هذا الاختيار.

سؤال وإجابة

إذا ثبت أنّ زمام التشريع بيده سبحانه دون سواه فكيف يفسر ما ورد في الأحاديث من :

1. انّ اللّه فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، ليكون المجموع عشر ركعات ، فأضاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الركعتين ركعتين ، وإلى المغرب ركعة.

2. انّ اللّه فرض في السنة صوم شهر رمضان وسنَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صوم شعبان وثلاثة أيام من كلِّ شهر.

3. انّ اللّه حرم الخمر بعينها وحرم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسكر من كل شراب.

4. انّ اللّه فرض الفرائض في الإرث ولم يقسم للجد شيئاً ، ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أطعمه السدس. (1) ؟

ص: 626


1- أُصول الكافي : 1 / 266 ، الحديث 4.

يمكن أن يقال : انّ اللّه سبحانه أدّب رسوله فأحسن تأديبه وعلّمه مصالح الأحكام ومفاسدها وأوقفه على ملاكاتها ومناطاتها ، ولما كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد كامنة في متعلّقاتها ، وكان النبي بتعليم منه سبحانه واقفاً على المصالح والمفاسد على اختلاف درجاتها ومراتبها كان له أن ينص على أحكامه سبحانه من طريق الوقوف على عللها وملاكاتها ، ولا يكون الاهتداء إلى أحكامه سبحانه من طريق التعرّف على عللها بأقصر من الطرق الأُخر التي يقف بها النبي على حلاله وحرامه ، وإلى هذا يشير الإمام أمير المؤمنين علیه السلام بقوله :

« عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية ، فإنّ رواة العلم كثير ورعاته قليل » (1).

غير أنّ اهتداءه صلی اللّه علیه و آله إلى الأحكام وتنصيصه بها من هذا الطريق قليل جداً لا يتجاوز عما ذكرناه ، وبذلك يعلم حال الأئمّة المعصومين علیهم السلام في هذا المورد.

وقد يجاب عنه أنّ عمل الرسول لم يكن في هاتيك الموارد سوى مجرّد طلب وقد نفذ اللّه طلبه ، لا أنّه قام بنفسه بتشريع وتقنين ، ويشير إلى ذلك قوله : « فأجاز اللّه عزّ وجل له ذلك ».

ولو أنّ النبي كان يمتلك زمام التشريع وكان قد فوّض إليه أمر التقنين - على نحو ما تفيده كلمة التفويض (2) - إذن لما احتاج إلى إذنه وإجازته المجدّدة ، ولما كان للجملة المذكورة أي معنى.

* * *

ص: 627


1- نهج البلاغة : الخطبة 234 طبعة محمد عبده.
2- أي أنّ اللّه فوض هذا الحق إلى رسول اللّه واعتزل هو ليفعل النبي ما يشاء.

قد تبيّن من هذا البحث الضافي أنّه لا مكان للسلطة التشريعية بمفهومها الشائع في ظل النظام الإسلامي ، فليس لأحد ولا لجماعة حق في سن القانون ، غير أنّه يبقى هناك سؤال ، وهو : ماذا يخلف هذه السلطة في الحكومة الإسلامية ؟ نقول يخلفها جهازان :

1. فريق الإفتاء ، وهم المجتهدون الذين يستنبطون الأحكام الشرعية عن الأدلّة وهؤلاء الجماعة يستكشفون الأحكام ببركة الأدلة وليست لآرائهم وأفكارهم من دون الاستناد إلى إحدى الأدلة الشرعية أيّة قيمة.

2. فريق الشورى ، ووظيفته تخطيط شؤون البلاد في الاقتصاد والسياسة والعمران على ضوء القوانين الإسلامية.

وأمّا تفصيل عمل هذين الفريقين فموكول إلى الجزء الثاني من كتابنا ، الذي يتضمن البحث عن شؤون النبوة وقيادة النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله .

الشيعة وفكرة حق التشريع للأئمّة

نشر الكاتب إبراهيم السليمان الجهمان مقالاً في مجلة « الدعوة » تحت عنوان « مزاعم طائفة الشيعة » جاء فيه بأكاذيب وافتراءات على هذه الطائفة هم برآء منها ، وممّا جاء فيه : أنّ الشيعة تزعم أنّ للأئمّة حق التشريع والنسخ ( أي نسخ الأحكام ).

إن هذا إلاّ افتراء وكذب ألصقه بهم هذا الكاتب غير المكترث بما يقول ، ونحن نرشد - هنا - القارئ الكريم إلى عقيدة الشيعة في حق أئمتهم بنقل ما تواتر عن إمامهم الخامس أبي جعفر الباقر علیه السلام حيث قال مخاطباً لجابر :

« يا جابر أنّا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدثكم

ص: 628

بأحاديث نكنزها عن رسول اللّه كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم ».

وفي رواية أُخرى : « ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول اللّه وأُصول علم عندنا نتوارثها كابراً عن كابر ».

وفي رواية محمد بن شريح عن الصادق علیه السلام :

« واللّه ما نقول بأهوائنا ولا نقول برأينا ، ولا نقول إلاّ ما قال ربنا ».

وفي رواية عنه علیه السلام :

« مهما أجبتك فيه بشيء فهو عن رسول اللّه ، لسنا نقول برأينا من شيء » (1).

إلى غير ذلك من الأحاديث المتضافرة عنهم وكلّها تفيد أنّ علومهم وأحاديثهم مأخوذة عن نبيهم وجدهم الأطهر.

غير أنّا لا نريد أن نؤاخذ بالمثل ، ولا نريد أن نعكر الصفو ، فإنّ ما نسبه إلى تلك الطائفة أولى بأن ينسب إلى غيرهم فإنّ منهم من يعد الصحابة ممن حق لهم التشريع !!

يقول مؤلّف « السنّة قبل التدوين » : انّه تطلق السنّة أحياناً على ما عمل أصحاب رسول اللّه وإن لم يكن في القرآن ، أو في المأثور عنه ، وقد كان يفرق بعض المحدثين فيرى الحديث هو ما ينقل عن النبي والسنّة ما كان عليه العمل المأثور في الصدر الأوّل ، وعلى ذلك يحمل قول عبد الرحمن بن مهدي : لم أر أحداً قط أعلم بالسنة ولا بالحديث الذي يدخل في السنّة من حماد بن زيد ، وقوله : سفيان الثوري إمام في الحديث وليس بإمام في السنّة ، والأوزاعي إمام في السنّة وليس بإمام في الحديث ، ومالك إمام فيهما ، ومن أبرز ما ثبت في السنّة بهذا المعنى سنّة

ص: 629


1- راجع جامع أحاديث الشيعة ، المقدمة : 1 / 17.

الصحابة في الخمر ، وتضمين الصناع ، ويحتج بذلك بقوله : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ.

وبما قال علي بن أبي طالب بعد ما جلد الشارب أربعين جلدة : « كف ، جلد رسول اللّه أربعين ، وأبو بكر أربعين وكملها عمر ثمانين ، وكل سنّة ».

وقال ابن قيم الجوزية ، في توجيه الحديث الأوّل : فقرن سنّة خلفائه بسنته ، وأمر باتّباعها كما أمر باتّباع سنَّته ، وهذا يتناول ما أفتوا به وسنّوه للأُمّة وإن لم يتقدّم من بينهم فيه شيء وإلاّ كان ذلك سنَّته (1).

وهذه الروايات تدل على أنّ للصحابة سنة كسنّة النبي وآراءهم وفتاواهم حجة كحديث رسول اللّه ، فعندهم سنَّة أبي بكر ، سنَّة عمر ، وسنَّة علي.

وما أتفه ما رواه السيوطي في « تاريخ الخلفاء » قال : قال حاجب بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة فقال في خطبته : ألا إنّ ما سنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصاحباه ، فهو دين نأخذ به وننتهي إليه وما سنَّ سواهما فإنّا نرجئه (2).

وفي محاورة ثعلبة بن أبي مالك القرضي مع عبد الملك بن مروان : وليست سنّة أحب إلي من سنّة عمر وقد أخّر صلاته إلى مزدلفة (3).

ومنهم من يجعل قول الصحابي حجة ، من دون تسميته سنّة ، فقد نقل الشيخ أبو زهرة عن ابن القيم انّه استدل على حجية آرائهم بنحو ستة وأربعين وجهاً.

ص: 630


1- السنّة قبل التدوين : 18 ، راجع أعلام الموقعين : 4 / 140.
2- تاريخ الخلفاء : 160.
3- طبقات ابن سعد : 5 / 172.

نعم خالف الشوكاني في المقام وجاء بالحق حيث قال : والحق أنّ قول الصحابي ليس بحجة ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبينا محمداً وليس لنا إلاّ رسول واحد ، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنّة ، فمن قال : إنّه تقوم الحجة من دين اللّه بغيرهما فقد قال في دين اللّه بما لا يثبت ، وأثبت شرعاً لم يأمر اللّه به (1).

وما ذكره الشوكاني حق والحق أحق أن يتّبع وقال سبحانه : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ ) (2).

وقال سبحانه : ( ءَاللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (3).

إنّ حق التشريع من حقوقه سبحانه لم يعطه لأحد حسب مفاد هذه الآيات ولم يشرك فيه أحداً غير أنّ بعض أهل السنّة قد جانب الحق وأثبته للأُمراء ، وراء الصحابة يسمّونه « صوافي الأُمراء ».

فعن المسيب بن رافع قال : إذا كان الشيء من القضاء وليس في الكتاب ولا في السنّة سمّي « صوافي الأُمراء » فجمع له أهل العلم فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق (4).

وعن هشام بن عروة قال : ما سمعت أبي يقول في شيء قط برأيه ، قال : ربما سئل عن الشيء فيقول هذا من خالص السلطان (5).

ص: 631


1- راجع ص : 231 - 239 كتاب بحوث مع أهل السنّة والسلفية.
2- النحل : 116.
3- يونس : 59.
4- جامع بيان العلم : 2 / 174.
5- جامع بيان العلم : 2 / 147.

وبالاسناد عن أبي هرمز قال : أدركت أهل المدينة ما فيها الكتاب والسنّة والأمر ينزل فينظر فيه السلطان (1).

هذا وذاك بل وغيره من الكلمات تفيد - بصراحة - أنّ الصحابة والأُمراء لهم حق التشريع والتقنين ، وأنّ آراءهم ونظرياتهم تعدّ أحكاماً إلهية - حسب منطق أهل السنّة - وعلى ذلك فرعوا حجية القياس والرأي للعلماء قائلين بأنّا أمرنا بطاعة أُولي الأمر بمقتضى قوله : ( أَطِيْعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) ، فيدخل في هذه الاطاعة ما قالوه بقياس أو رأي (2).

ولقد أشبع الكلام في المقام العلاّمة الحجّة السيد مهدي الروحاني في كتابه القيّم « بحوث مع أهل السنّة والسلفية » فراجعه.

وقد عد الأُستاذ عبد الوهاب خلاف في كتابه « مصادر التشريع الإسلامي » في ما لا نص فيه ، من الأدلة : إجماع أهل المدينة ، وقول الصحابي ، وإجماع أهل الكوفة ، وإجماع الخلفاء الأربعة. فراجع ص 109 واقرأ ما فيه ثم أقض في التهمة التي ألصقها الجهمان بالشيعة ، وأنّ أي طائفة أحرى بهذه النسبة.

ص: 632


1- المصدر السابق.
2- لا يخفى ما في هذا الاستدلال من الوهن والضعف.

الفصل الحادي عشر: اللّه والتوحيد في الطاعة

اشارة

ص: 633

اللّه والتوحيد في الطاعة

1. انحصار حق الطاعة في اللّه.

2. الطوائف التي وجب طاعتها بإذن اللّه.

3. الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله .

4. وظائف الرسول.

5. أُولو الأمر.

6. الوالدان.

7. محدودية إطاعتهما.

ص: 634

انحصار حق الطاعة في اللّه سبحانه

تعتبر مسألة التوحيد في الطاعة من أهم مسائله والمراد منه الاعتقاد بأنّه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّ اللّه تعالى ، فهو وحده الذي يجب أن يُطاع وتمتثل أوامره ، وأمّا طاعة غيره فإنّما تجوز إذا كانت بإذنه وأمره وإلاّ تكون محرمة ، ووجه ذلك هو أنّ الطاعة من شؤون المالكية والمملوكية ، ومن فروع الربوبية والمربوبية ، فالمالك للوجود بأسره ورب الكون الذي منه وإليه كل شؤوننا هو الذي يجب أن يُطاع دون سواه ، ولا تعني الطاعة - في الحقيقة - سوى أن نضع ما وهبنا من آلاء ونعم بما في ذلك « وجودنا » و « إرادتنا » - في الموضع الذي يرضاه ولا ريب أنّ المروق من هذه الطاعة لا يكون إلاّ ظلماً تقبّحه العقول السليمة ، وتنفر منه الطباع المستقيمة.

وبعبارة أوضح : أنّ التوحيد في الطاعة يعد في الحقيقة من شؤون التوحيد في الأفعال.

فعندما نعتقد بأنّه ليس للكون إلاّ خالق ومنعم واحد وأنّ وجود العالم مستمد من ذلك الخالق المنعم ، في هذه الصورة يتعين بالضرورة أن نعترف بأنّه ليس في الوجود سوى مطاع واحد هو الذي تجب طاعته دون غيره ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَراءُ إِلَى اللّهِ واللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (1).

ص: 635


1- فاطر : 15.

ولأجل ذلك نجد القرآن الكريم يطرح مسألة الطاعة لله وحده مشعراً بانحصارها فيه ، إذ قال :

( فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأنْفُسِكُمْ ) (1).

وتقرب من ذلك الآية التالية حيث تمدح فريقاً من المؤمنين بأنّهم يسمعون أوامر اللّه ويطيعونها مشعرة بانحصار الطاعة فيه سبحانه إذ تقول :

( وَقَالُوا سَمِعْنَا وََأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ ) . (2)

وفي آية ثالثة تصرح بأنّ النبي لا يُطاع إلاّ بإذنه سبحانه :

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (3).

فهذه الآية تفيد - بوضوح - أنّ طاعة النبي فرع لطاعة اللّه ، وأنّها في طول طاعته تعالى وليس في عرضها ومصافها ، بمعنى أنّها ليست واجبة بذاتها وأنّ النبي ليس مطاعاً بذاته ، فلو لم يأمر بها لما وجبت طاعته ولما كان مطاعاً.

وفي آية رابعة تعد طاعة النبي طاعة اللّه نفسه ، إذ تقول :

( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهُ ) (4).

فإذا كان هذا حال النبي فحال غيره أوضح ، فتلخص أنّه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّ اللّه سبحانه وأمّا إطاعة غيره فإنّما تجب بأمر من تجب طاعته بالذات.

ص: 636


1- التغابن : 16.
2- البقرة : 285.
3- النساء : 64.
4- النساء : 80.

الذين تجب طاعتهم بأمره

اشارة

يصرح القرآن الكريم بوجوب طاعة طوائف خاصة بإذنه وأمره ، وفي مقدّمتهم النبي الأكرم ثم أُولو الأمر من المؤمنين ثم الوالدان.

ولمّا كان البحث عن المطاع الثاني يرتبط بمباحث الحكومة والولاية التي تأتي في الجزء الثاني من هذا الكتاب ، لذلك نرجئ البحث عنه إلى ذلك الجزء ، ونخص البحث في هذا الفصل بالأوّل والثالث فنقول :

1. الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله
اشارة

إنّ النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله ممّن افترض اللّه طاعته والانقياد لأوامره والانتهاء عن نواهيه ، وهذه حقيقة صرحت بها الآيات التالية مضافاً إلى الآيات التي مر ذكرها عليك :

وهذه الآيات هي :

( قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَولَّوْا فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ ) (1).

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (2).

( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ) (3).

( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ) (4).

ص: 637


1- آل عمران : 32.
2- النساء : 59.
3- المائدة : 92.
4- الأنفال : 1.

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَولَّوا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (1).

( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا ) (2).

( قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ) (3).

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) (4).

( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ واللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (5).

( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاَغُ المُبِينُ ) (6).

وقد ورد لزوم طاعة النبي في آيات أُخرى في صورة التسوية ، بين طاعة اللّه وطاعة الرسول مثل قوله : ( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ) (7).

( مَنْ يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) (8).

( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ ) (9).

ص: 638


1- الأنفال : 20.
2- الأنفال : 46.
3- النور : 54.
4- محمد : 33.
5- المجادلة : 13.
6- التغابن : 12.
7- النساء : 69.
8- النساء : 80.
9- النور : 52.

( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) (1).

( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) (2).

( وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ ) (3).

( وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (4).

ثم يعود القرآن فيصف معصية الرسول بالكفر ، لأنّ رد الرسول والتمرّد عليه رد على اللّه وتمرّد عليه ، إذ يقول :

( قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ ) (5).

وعلى هذا الأساس يعتبر القرآن تكذيب النبي بمنزلة التكذيب لله والجحد لآياته سبحانه ، إذ يقول :

( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللّه يَجْحَدُونَ ) (6).

وعلى هذا يعتبر تكذيب القرآن ، وتكذيب النبي بل وتكذيب أي شخص أو شيء مرتبط باللّه ارتباطاً مسلماً ، تكذيباً لله تعالى ، في الحقيقة.

ص: 639


1- الأحزاب : 71.
2- الفتح : 17.
3- التوبة : 71.
4- الأحزاب : 33.
5- آل عمران : 32.
6- الأنعام : 33.
ما هو المراد من إطاعة النبي ؟

إنّ النبي الأعظم بما هو نبي ورسول كان يتحمل من جانبه سبحانه أُموراً ووظائف هامة تنبع من صميم نبوته ورسالته ونشير إلى أهمها :

الأوّل : تلاوة وتعليم الآيات القرآنية ، التي كان ينزل بها أمين الوحي جبرائيل ، على قلبه الشريف ، تلك الآيات التي كانت تتضمن الأوامر والنواهي الإلهية ، مثل أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وما شابه ذلك.

الثاني : إبلاغ الأحكام والأوامر والنواهي بالبيان الشخصي ، والمراد من البيان الشخصي هو « الأحاديث » والألفاظ التي يكون إنشاؤها من النبي نفسه ، فيما يكون معانيها من جانب اللّه تعالى ، وهو ما يطلق عليه « الحديث النبوي » حسب ما اصطلح عليه.

ولم يكن للنبي في إبلاغه لرسالات ربه من شأن - سواء أكان عن طريق تلاوة القرآن أم عن طريق أحاديثه - إلاّ كونه رسولاً ومبلغاً لأوامره ونواهيه سبحانه.

وإذا ما وجدنا القرآن الكريم يصف النبي بأنّه : « الشاهد والبشير والنذير » وما شابه ذلك ، فإنّ تلك الأوصاف ليست ناظرة إلاّ إلى هذه الوظائف التي ما كان للنبي فيها من دور إلاّ دور المبلغ حسب.

الثالث : أعمال الولاية الإلهية الموهوبة له من اللّه سبحانه بقوله : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (1) ومن الواضح أنّ إعمالها يحتاج إلى إصدار أوامر ونواهي إلى المؤمنين ، ولا ينجح النبي في هذا المقام إلاّ أن يكون مطاعاً بين أُمّته.

ص: 640


1- الأحزاب : 6.

وهذا كما لو أمر بتجييش الجيش ، والنفر إلى الجهاد ، ومكافحة الظالمين إلى غير ذلك ممّا يتقوّم به إصلاح المجتمع ، ولأجل ذلك عد اللّه سبحانه مخالفة النبي معصية ربما توجب الخروج عن الدين.

وما ورد من الآيات الدالة على لزوم طاعة النبي ناظرة إلى هذا القسم من الأوامر الناشئة من هذا المقام ، إنّ مقام النبي في هذه الصورة هو مقام القائد الذي يأمر من يكون تحت قيادته وإمرته أو ينهاه ، وليس مقام الإبلاغ المحض الذي ليس له شأن سوى إبلاغ أحكامه سبحانه.

قد تقتضي المصالح الإسلامية - مثلاً - أن يدفع المسلمون - عدا الحقوق المالية الواجبة عليهم - مبالغ إضافية في سبيل المصالح الإسلامية ، أو قد يطّلع النبي صلی اللّه علیه و آله على ظلم رجل لزوجته ، ويرى في استمرار العلاقة الزوجية بينهما حرجاً لا يطاق وعسراً لا يتحمّل ، وفي مثل هذه الصور يأمر النبي صلی اللّه علیه و آله بدفع الضرائب الخاصة للدولة الإسلامية وإطلاق سراح الزوجة حسماً لمادة الفساد ، ويجب على المؤمنين إطاعته ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :

( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ) (1).

ففي هذه الآية التي تتحدّث عن معصية اللّه والرسول ليس المقصود هو معصية الرسول بما هو مبلغ لرسالات اللّه وأحكامه ، إذ ليس في هذه الحالة للرسول الأعظم أي أمر ونهي حتى تعد مخالفته مخالفة للرسول ، بل هو في هذه الحالة ليس إلاّ مبلغاً ومنبّئاً ورسولاً بين اللّه وعباده.

إنّ معصية الرسول إنّما تتحقّق إذا كانت الأوامر صادرة عن موقع القيادة

ص: 641


1- الأحزاب : 36.

والإمرة ، وعند ذلك يعد الأمر والنهي أمراً ، ونهياً له وتعد المخالفة مخالفة له.

والعجب أنّ صاحب المنار حصر إطاعة النبي في مورد الأحكام التي أمر اللّه رسوله أن يبلغها عنه حيث قال : قضت سنَّة اللّه بأن يبلغ عنه شرعه للناس رسل منهم وتكفل عصمتهم في التبليغ ، ولذلك وجب أن يطاعوا في ما يبيّنون من الدين والشرع.

مثال ذلك أنّ اللّه تعالى هو الذي شرع لنا عبادة الصلاة وأمرنا بها ، ولكنّه لم يبيّن لنا في الكتاب كيفيتها وعدد ركعاتها ولا ركوعها ولا سجودها ولا تحديد أوقاتها ، فبيّنها الرسول بأمره تعالى إيّاه بذلك في مثل قوله : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (1).

فهذا البيان بإرشاد من اللّه تعالى فاتّباعه لا ينافي التوحيد ولا كون الشارع هو اللّه وحده (2).

وضعف هذا الكلام ظاهر ، إذ ليس للنبي الأكرم في هذا المضمار أي أمر ولا نهي ، وإنّما هو مجرد مبلِّغ أو مذكِّر وليس له عليهم أية سلطة وسيطرة ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( فَذَكِّر إِنَّمَا أَنْت مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (3).

نعم في مجال الحاكمية التي يحتل النبي صلی اللّه علیه و آله فيها دست الحكومة ، يكون له الأمر والنهي.

ص: 642


1- النحل : 44.
2- راجع تفسير المنار : 5 / 180.
3- الغاشية : 21 - 22.
2. أُولو الأمر

إنّ الفريق الثاني الذي أوجب اللّه طاعتهم علينا من سمّاهم اللّه سبحانه بأُولي الأمر ويكون لهم بالتالي مقام الآمرية والقيادة في المجتمع الإسلامي ، حيث قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الْرَّسُولَ وَأُوْلي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأحْسَنُ تَأْوِيلاً ) . (1)

وبما أنّ التعرف على أُولي الأمر في المجتمع الإسلامي أنسب بمباحث القيادة والحكم نرجئ البحث عنه إلى الجزء الثاني الذي يتكفّل بتحليل مباحث النبوة في الكتاب العزيز ، ونبحث عنه عند البحث عن الرسول الخاتم والنبي القائد.

3. الوالدان

اتّفق المسلمون - اقتداء بالكتاب العزيز - على حرمة مخالفة الوالدين مستندين إلى قوله سبحانه :

( وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إحْسَانا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) (2).

إذ لو كانت لفظة ( أُفٍ ) التي توجب انزعاجهما محرّمة ، فمن الأولى أن

ص: 643


1- النساء : 59.
2- الإسراء : 23.

تكون مخالفتهما في سائر الأُمور التي توجب انزعاجهما بكثرة حراماً أيضاً ، نعم إطاعتهما وإن شئت قل : حرمة مخالفتهما محددة بما إذا لم يأمرا بالشرك ، بل بما إذا لم يأمرا بما فيه معصية اللّه.

لأنّ القرآن لمّا نهى عن طاعة أمر المسرفين في قوله : ( وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ ) (1) ، وعن طاعة الآثم والمكذِّب والغافل في قوله : ( وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) (2) ، وقوله سبحانه : ( فَلاَ تُطِعِ المُكَّذِبِينَ ) (3) ، وقوله سبحانه : ( وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) (4) ، وجب علينا أن لا نطيع أمر من يأمر بمخالفة اللّه ومعصيته ، فإنّ ذلك يشبه أمر من أغفل اللّه قلبه أو صار من المكذبين والمسرفين ، سواء في ذلك الوالدان وغيرهما ، وبذلك تكون دائرة الإطاعة أضيق مما سبق فتتحدد الإطاعة عندئذ بما لم تكن دعوتهما دعوة إلى معصية اللّه ومخالفته - على الإطلاق -.

لقد دعا القرآن الكريم المجتمع البشري إلى تكريم مقام الوالدين واحترامهما ، وإطاعتهما ، ولكنّه ذكّر - في نفس الوقت - بنقطة مهمة وجديرة بالاهتمام وهي : أنّ محبة الأبناء لآبائهم وأُمّهاتهم يجب أن لا تكون محبة عمياء ، ولا أن تكون طاعتهم لهم طاعة غير محسوبة تسبب في الخروج عن حدود العدالة.

فإنّ على الأبناء أن لا يكتموا الشهادة الحقّة حتى لو كانت ضد آبائهم وأُمهاتهم لو كانوا ظالمين حقاً.

ص: 644


1- الشعراء : 151.
2- الإنسان : 24.
3- القلم : 7.
4- الكهف : 28.

فها هو القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ) (1).

فلو دعا أحد الوالدين ولده إلى الشرك ، وجب أن يقاومهما ، فلا تجرّه مودته وعاطفته إلى اختيار الباطل ، ولا ينساق وراء ما دعا إليه الأبوان بدافع المحبة ، كما يقول القرآن الكريم :

( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ) (2).

( وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ) (3).

ولقد أشار الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام إلى حق إطاعة الوالدين المحدود ، في عبارة مقتضبة له ، إذ قال :

« فحق الوالد على الولد أن يطيعه - أي الولد يطيع والده - في كل شيء إلاّ في معصية اللّه » (4).

ص: 645


1- النساء : 135.
2- لقمان : 15.
3- العنكبوت : 8.
4- نهج البلاغة : الكلمات القصار : رقم 399.

ص: 646

الفصل الثاني عشر: اللّه والتوحيد في الحاكمية

اشارة

ص: 647

اللّه وانحصار حق الحاكمية فيه

1. انحصار حق الحاكمية فيه سبحانه.

2. الآثار السيئة لفقدان القائد.

3. الاقتداء بسيرة النبي صلی اللّه علیه و آله .

4. الولاية والحاكمية لله سبحانه.

5. الولاية لله سبحانه لا الإمرة والإدارة.

6. كلمة أخيرة.

ص: 648

الحكومة ضرورة اجتماعية

بالرغم من تصوّر البعض بأنّ « الحرية » وقيام « السلطة الحكومية » أمران متناقضان لا يجتمعان أبداً وأنّ صيانة الحرية الفردية تقتضي - بالضرورة - أن تحذف « الحكومة والدولة » من قاموس الحياة البشرية.

وبالرغم من تصوّر أنّ الدول والحكومات هي ما تتألف - دائماً - من الأقوياء ، وتراعي حقوقهم ومصالحهم على حساب حقوق الضعفاء ومصالحهم.

وكذا بالرغم من تصوّر أنّ الإنسان طيب ذاتاً وأنّه مخلوق عاقل وعالم فلا حاجة إذن إلى وجود دولة تنظم أُموره وتدبّر شؤونه وتحفظ مصالحه.

على الرغم من جميع تلك التصوّرات والمزاعم التي تكشف عن نوع من السفسطة والسذاجة ولا تنتج سوى الفوضى والهرج والمرج فإنّ ضرورة وجود حكومة في حياة البشر في غاية الوضوح بحيث لا يحتاج إلى دليل وبرهان أبداً.

إنّ الضرورة تقضي بقيام دولة تصون الحريات الفردية إلى جانب المصالح الاجتماعية وتسعى في تنظيم الطاقات وتنمية المواهب ، وتوقف أبناء المجتمع على واجباتهم ، وتجري القوانين الإلهية أو البشرية.

ولأجل هذا اعتبر جماعة من الفلاسفة والعلماء الكبار ، ( كإفلاطون وأرسطوا وابن خلدون وغيرهم (1) ، وجود الدولة ضرورة حيوية لا بد منها.

ص: 649


1- مقدمة ابن خلدون : 41 - 42.

ولم يشذ عن ذلك إلاّ ماركس الذي اعتبر وجود الدولة أمراً ضرورياً ما دام هناك وجود للصراع الطبقي ، أما مع انتشار الشيوعية واستقرار النظام الشيوعي في العالم كله فلا حاجة إليها.

غير أنّ ماركس نظر إلى الحياة البشرية من زاوية واحدة هي زاوية « الصراع الطبقي » في حين أنّ للحياة البشرية زوايا أُخرى لو نظر إليها ماركس ، وطالعها بموضوعية ودقة ، لما حكم بعدم الحاجة إلى الدولة ، ولما دعا إلى زوالها حتى بعد انتشار الشيوعية - حسب نظره -.

لأنّ سبب النزاع والاختلاف بين أفراد البشر لا ينحصر في الصراع الطبقي فقط بحيث لو زال هذا الصراع لأصبحت الأرض جنة عدن ، بل هناك الغرائز البشرية كغريزة حب الجاه ، وحب الذات ، وغيرها من الغرائز غير المهذبة ، هي أيضاً منشأ الصراع والاختلاف بين البشر إلى جانب « الصراع الطبقي ».

ثم على فرض أن لا يكون هناك صراع طبقي فضرورة وجود الحكومة لأجل إدارة المجتمع من زاوية للقيام بحوائجها الاجتماعية أمر لا مناص منه.

فالمجتمع الذي زال فيه الصراع الطبقي لا يشذ عن سائر المجتمعات في احتياجه إلى من يدير أُموره من تأمين سكنه وصحته وتعليمه وتربيته ومواصلاته البرية والبحرية والجوية ، والفصل في خصوماته في ما لا يرجع إلى الأُمور الطبقية إلى غير ذلك من الشؤون التي لا مناص منها لإقامة المجتمع مما يحتاج إلى المؤسسات ، وإدارة شؤونها.

فلابد من مؤسسات تقوم كل واحدة منها بناحية من هذه الأُمور وتنظيمها ولا نعني من الحكومة إلاّ هذا.

ص: 650

وعلى أي حال فلابد من دولة توقف الناس على وظائفهم القانونية ، وتعاقب المخالفين المتجاوزين ، وتعيد الحقوق المهضمومة إلى ذويها ، وتصون النظام والانضباط الاجتماعي الذي يمثل قاعدة السعادة ورمز بقاء المدنية ، وأساس استمرار الحضارة وسبب تقدم البشرية في المجالات المادية والمعنوية.

وخلاصة القول : إنّ حفظ النظام الاجتماعي والحضارة الإنسانية وتعريف أفراد المجتمع بواجباتهم ، ومالهم وما عليهم من الحقوق ، ورفع أي نزاع وتصارع في حياة الجماعة أُمور تحتاج إلى : مرجع قوي يقوم بهذه المهام الضخمة ، وهذا الواجب الإنساني الشريف ويحفظ بالتالي أساس الحضارة الذي هو حفظ النظام الاجتماعي وصيانته من التقهقر والانحطاط.

إنّ حقيقة الإسلام ليست إلاّ سلسلة من « الأُصول والفروع » المنزلة من جانب اللّه والتي كلَّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدعوة الناس إليها وتطبيقها على الحياة في الظروف المناسبة ، ولكن حيث إنّ تطبيق طائفة من الأحكام التي تكفل استقرار النظام في المجتمع لم يكن ممكناً دون تشكيل حكومة وقيام دولة ، لذلك أقدم النبي صلی اللّه علیه و آله بحكم العقل ، وبحكم ما كان له من الولاية المعطاة له من قبل اللّه ، على تشكيل دولة.

على أنّ الحكومة ليست بذاتها هدف الإسلام بل الهدف هو تنفيذ الأحكام والقوانين وضمان الأهداف الإسلامية العليا ، وحيث إنّ هذه الأُمور لا تتحقق دون أجهزة سياسية ، وسلطات حكومية لذلك قام النبي صلی اللّه علیه و آله بنفسه بمهمة تشكيل مثل هذه الدولة وتأسيس مثل هذه الحكومة.

والخلاصة : أنّ إجراء حد السرقة والزنا على السارق والزاني ، وتنفيذ سائر الحدود والعقوبات ، ومعالجة مشاكل المسلمين ، وتسوية نزاعاتهم في الأُمور المالية

ص: 651

والحقوقية ، ومنع الاحتكار والغلاء ، وجمع الضرائب المالية الإسلامية وتوسيع رقعة انتشار الإسلام ، ورفع الاحتياجات الأُخرى في المجتمع الإسلامي وغيرها ، لا يمكن أن تتحقق دون وجود أمير جامع وزعيم حازم وبدون حكومة ، وزعامة مقبولة لدى الأُمّة.

وحيث يتوجب على المسلمين الآن أن يطبقوا الأحكام الإسلامية بحذافيرها من جانب ، وحيث إنّ تطبيقها على الوجه الصحيح لا يمكن دون تأسيس سلطة يخضع لها الجميع من جانب آخر ، لهذا كله يتحتم أن تكون لهم أجهزة سياسية وتشكيلات حكومية ، في إطار التعاليم والقيم الإسلامية ليستطيعوا بها أن يتقدّموا - في كل عصر - جنباً إلى جنب مع المتطلبات المستحدثة والاحتياجات المتجدّدة.

لقد أشار الإمام أمير المؤمنين علي علیه السلام إلى ضرورة تكوين مثل هذه الحكومة بل إلى ضرورة وجود حاكم ما مرجحاً الحاكم الجائر على الفوضى الاجتماعية والهرج والمرج الذي يستتبعه عدم وجود حاكم ، وأشار في نفس الوقت إلى أنّ الحكومة في منطق الإسلام ليست هي الهدف ، بل هي وسيلة لاستقرار حياة كريمة آمنة حتى يتمتع كل فرد بحقوقه العادلة.

لقد أشار الإمام علي إلى أنّ الدولة - في نظر الإسلام - وسيلة لحفظ النظام الاقتصادي والأمن والدفاع وأخذ حقوق المستضعفين من الأقوياء المستكبرين ، إذ يقول :

« إنّه لابد للناس من أمير ، بر أو فاجر ، يعمل في إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ اللّه فيها الأجل ، ويجمع الفيء ويقاتل به العدو ، وتأمن به السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوي ».

وفي رواية أُخرى قال :

ص: 652

« أمّا الإمرة البرة فيعمل فيها التقي ، وأمّا الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي ، إلى أن تنقطع مدته ، وتدركه منيته » (1).

وعلى هذا البيان يكون وجود الدولة ضرورة اجتماعية لا مناص منها.

أضف إلى ذلك أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كلّف بعد رجوعه من حجة الوداع في غدير خم بأن ينصّب علياً خليفة من بعده لإمرة المسلمين ، من جانب اللّه ، وكان الأمر الإلهي مصدراً بقوله تعالى :

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (2).

ثم يجسد اللّه أهمية هذا الموضوع وخطورته القصوى بأنّ عدم إبلاغ ما أُوحي إليه في أمر الخلافة يساوي عدم إبلاغ الشريعة رأساً ، إذ قال تعالى :

( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (3).

إنّ هذه الآية كما تدلّ على مقام الإمام وعظيم مكانته تكشف - كذلك - عن أهمية مقام الإمامة وخطورة قيادة المجتمع ، لأنّه بسبب الإمام القائد تشرق أشعة العدالة على المجتمع البشري ولا تغيب ، وهو الذي بسببه تبقى التعاليم الإلهية حية مصانة من كل تحريف ، وبسببه تصل البشرية إلى شواطئ السعادة المادية والمعنوية على السواء.

الآثار السيئة لفقدان القائد

لقد بلغ الإسلام في حرب أحد أخطر مراحله ، حيث عمد العدو إلى بث

ص: 653


1- نهج البلاغة : الخطبة 39.
2- المائدة : 67.
3- المائدة : 66.

الشائعات عن مقتل النبي صلی اللّه علیه و آله ، وفي هذه اللحظة الحساسة التي شعر المسلمون فيها بفقدان الزعيم والقائد ، خطرت في أذهان البعض فكرة العودة إلى الجاهلية والارتداد على الأعقاب ، وراح هذا البعض يقول : لِمَ نحارب وقد مات رسول اللّه ، فنزل القرآن يوبّخ من لهج بهذه الكلمة ، وقال :

( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) (1).

ولو أنّ شائعة مقتل النبي لم تكذب بظهوره صلی اللّه علیه و آله عند أصحابه ، لآل نظام المسلمين إلى التمزّق حتماً ، ولانتهى الأمر بمقتل فريق وفرار آخرين في أسوأ نكسة عرفها التاريخ ، فهل من الصحيح أن تهمل مسألة القيادة وهي بهذه الدرجة من الخطورة والأهمية في حياة الشعوب ؟

وهل من الصحيح أن لا يقدم المسلمون على إيجادها لتنظيم حياتهم لكي يستتب الأمن والسلام ؟

الاقتداء بسيرة النبي صلی اللّه علیه و آله

كان الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إذا بعث سرية إلى الجهاد عيّن أُمراء متعددين لتلك السرية يتوالون على قيادتها ، لكي لا تبقى دون آمر إذا أُصيب أحدهم ، فتصبح كالقطيع بلا راع تنال الذئاب من أطرافها ، وتتخطفها أيدي المخاطر من جوانبها.

ولمّا كان القرآن الكريم يأمرنا باتّباع سيرة الرسول والاقتداء به وجعله قدوة وأُسوة ، فيقول :

ص: 654


1- آل عمران : 144.

( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً ) (1).

توجب علينا أن نجعل حياة النبي وفعله أُسوة لنا حتى في موضوع تأسيس الدولة.

ولقد أدرك المسلمون - بعد وفاة النبي - ضرورة وجود قائد للأُمّة ، وإمام للمسلمين ، فاتفقوا على وجود زعيم لهم بعد وفاة نبيهم ، فصاروا فرقتين : فرقة تزعم أنّ حل هذه المشكلة بيد الأُمّة وأنّ لها تنصيب من يشغل هذه المنصة ، في حين أنّ فريقاً آخر راح يستمد من نصوص النبي ويقول إنّ النبي قد سد هذا الفراغ ولم يهمل أمر الخلافة والقيادة ، وعين القائد والخليفة من بعده ، وبالتالي لم يكن بين المسلمين واحد ينكر ضرورة وجود الأمير والقائد.

وانطلاقاً من الأهمية التي تكمن في تأثير الحكومة في إصلاح أمر الناس عاجلاً وآجلاً قال الإمام الصادق علیه السلام في حديث مقتضب له :

« لا يستغني أهل كل بلد من ثلاثة ، يفزع إليه في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإن عدموا كانوا همجاً : فقيه عالم ورع ، وأمير خيّر مطاع ، وطبيب بصير ثقة » (2).

كما صرح الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام بهذه الفريضة الدينية في إحدى خطبه ، إذ قال :

« والواجب في حكم اللّه والإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل ، ضالاً كان أو مهتدياً ، مظلوماً كان أو ظالماً ، حلال الدم ، أو حرام الدم أن

ص: 655


1- الأحزاب : 21.
2- تحف العقول : 237.

لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم ، عفيفاً عالماً ، ورعاً ، عارفاً بالقضاء والسنّة ، يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم يحفظ أطرافهم ، ويجبي فيئهم ، ويقيم حجتهم ، ويجبي صدقاتهم ».

يبقى أن نعرف أنّ هذا القانون الكلي الذي يذكره الإمام علي يرتبط بالفترة التي لم يسد هذا الفراغ من جانب اللّه ، وتنصيب النبي الأعظم ، إذ لو كان القائد معيناً من جانبه سبحانه لانتفى التكليف بانتخاب الإمام ، قال سبحانه :

( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ) (1).

وعلى كل حال فالضرورة قاضية بلزوم وجود قائد للناس يتحمل أعباء الحكومة ، ويتصدى لأُمور الزعامة ، وإدارة المجتمع ، حسب الطرق الصحيحة.

الولاية والحاكمية لله سبحانه

لقد أثبت البحث السابق لزوم وجود الحكومة في المجتمع البشري بالمعنى الجامع بين السلطة التشريعية التي لها حق التشريع والتقنين ، والسلطة التنفيذية التي لها حق تنفيذ الأحكام والمقررات ، والسلطة القضائية التي لها حق القضاء وفصل الخصومات بين الناس.

ومن المعلوم جداً أنّ إعمال الحاكمية في المجتمع لا ينفك عن التصرف في النفوس والأموال وتنظيم الحريات من غير فرق بين أن تكون الحكومة بيد الفرد أو المجتمع.

ص: 656


1- الأحزاب : 36.

لكن التسلط على الأموال والنفوس وإيجاد أي محدودية مشروعة بين الأُمّة يحتاج إلى ولاية بالنسبة ، إلى المسلّط عليهم ، ولولا ذلك لعدّ التصرف تصرفاً عدوانياً.

ولا نعني بالولاية هنا ولاية الولي بالنسبة إلى الأيتام والقصّر والغيب ، بل المقصود هو الولاية التي يحق معها أن يتصرف في شؤون المجتمع نفوساً وأموالاً وينظم أُمورهم ويعمّر بلادهم ويؤمن مجتمعهم ، بالسلطات الثلاث ولولا ذلك لصار النظام طاغوتياً يحكم في المجتمع من كان غالباً وقاهراً فيجب علينا أن نعرف من له الولاية أصالة على العباد والبلاد.

وبما أنّ جميع الناس سواسية أمام اللّه ، والكل مخلوق ومحتاج إليه لا يملك شيئاً حتى وجوده وفعله وفكره ، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات والأصالة ، بل الولاية لله المالك الحقيقي للإنسان والكون والواهب له وجوده وحياته كما يقول سبحانه :

( هُنَالِكَ الولاَيَةُ للهِ الحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) (1). (2)

فقد ظهر من هذا البيان أنّ المقصود من حصر الحاكمية في اللّه هو حصر جذور الحاكمية وعللها المستتبعة لها ، وهي الولاية فيه ، فبما أنّ الولاية على العباد منحصرة في خالقهم فالحاكمية بمعنى الولاية منحصرة فيه سبحانه أيضاً ، فلا يجوز لأحد أن يتولّى الحكومة إلاّ أن يكون مأذوناً ممن له الولاية الحقيقية وإلاّ

ص: 657


1- الكهف : 44.
2- مجمع البيان : 3 / 472. والاستدلال بالآية على انحصار الولاية في اللّه سبحانه متفرع على أن يكون اسم الإشارة ( هنالك ) إشارة إلى الوقت الذي يتنازع فيه الكافر والمؤمن في هذه الدنيا وأن تكون الولاية بمعنى تولّي الأُمور فهو الذي يتولّى أمر عباده ، وللأمين الطبرسي تحقيق حول كلمة الولاية في الآية فراجع.

أصبحت حكومته حكومة جور وعدوان.

ولا نعني من عنوان « انحصار حق الحاكمية في اللّه » حصر الإمرة في اللّه بأن يتولّي هو سبحانه الإمرة على العباد ، كما سيتضح ذلك ، فإنّ للأنبياء والصلحاء وكل مأذون من قبله سبحانه أن يتولى الإمرة من جانب اللّه ، بل المراد أنّ الولاية وحق الحكومة بالأصالة حق لله سبحانه وإنّما يتصدى غيره بإذنه ، وذلك مثل قوله : ( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1) ، أي بيده أمر الشفاعة من تعيين الشافع والمشفوع له ، ومثله المقام فإنّ بيده زمام الحكومة ، فهو يعين الحاكم ويعين له وظائفه وكيفية حكمه.

وعلى هذا فالحاكمية خاصة باللّه تعالى ومنحصرة فيه ، وهي من إحدى مراتب التوحيد.

ولقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله :

( إِنِ الحُكْمُ إلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (2).

إنّ المراد من الحكم في جملة ( إِنِ الحُكْمُ ) هو الحاكمية القانونية التي تنبعث من الولاية الحقيقية المنبعثة من خالقيته ومالكيته سبحانه لا الحاكمية التكوينية بمعنى التصرف في الكون بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة ، وقد أوضحنا مفاد الآية في الفصل العاشر فراجع ص 606.

نعم لا داعي لأن نحصر لفظة « الحكم » التي لها معنى وسيع في خصوص

ص: 658


1- الزمر : 44.
2- يوسف : 40.

« القضاء » أو في خصوص « التشريع والتقنين » ، بل الحكم في هذه الآية ذو مدلول أوسع يكون « القضاء » من إحدى شؤونه ، وما ذلك المعنى إلاّ السلطة والإمرة والحاكمية بمفهومها الوسيع التي تقوم بالسلطات الثلاث.

هذا وفي مقدور القارئ الكريم أن يستظهر هذه الحقيقة ، ونعني : انحصار الحاكمية في اللّه تعالى ، من آيات أُخرى أيضاً غير ما ذكرناه في مطلع هذا المبحث ، مثل قوله :

( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفاصِلِينَ ) (1).

( أَلاَ لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) (2).

( لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (3).

الولاية لله سبحانه لا الإمرة والإدارة

إنّ اختصاص حق الحاكمية باللّه سبحانه ليس بمعنى قيامه بإدارة البلاد وإقرار النظام وممارسة الإمرة وفصل الخصومة إلى غير ذلك مما يدور عليه أمر الحكومة ، فإنّ ذلك غير معقول ولا محتمل ، بل المراد أنّ من يمثّل مقام الإمرة في المجتمع البشري يجب أن يكون مأذوناً من جانبه سبحانه لإدارة الأُمور والتصرف في النفوس والأموال وأن تكون ولايته مستمدة من ولايته سبحانه ، ومنبثقة منها ، ولولا ذلك لما كان لتنفيذ حكمه جهة ولا دليل.

وإن شئت قلت : إنّ المقصود هو حصر الولاية التي تنبعث منها الحاكمية

ص: 659


1- الأنعام : 57.
2- الأنعام : 62.
3- القصص : 70.

في اللّه سبحانه ، لا حصر الإمرة والتصدي لنظام البلاد وإقرار الأمن في المجتمع البشري ، إلى غير ذلك من الشؤون.

نعم لا مناص في إعمال الولاية لله سبحانه من تنصيب من يباشر إدارة البلاد ، إذ تستحيل ممارسة الحكم لله بصورة مباشرة.

ولأجل ذلك نجد أُمّة كبيرة من جنس البشر تولّوا منصة الولاية من جانب اللّه سبحانه وإذنه الخاص يديرون شؤون الحياة الاجتماعية للإنسان ، وفي ذلك يخاطب اللّه نبيه داود ويقول :

( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) (1).

إنّ الآية وإن كانت واردة في تنصيب داود على القضاء ولكن نفوذ قضائه في زمانه كان ناشئاً عن ولايته وحاكميته الواسعة التي تشمل الحكم والإمرة بحيث يكون نفوذ القضاء من لوازمها وفروعها ، فهو سبحانه لم ينصبه للقضاء فحسب ، بل أعطى له الحكومة الواسعة بأبعادها ، لأنّ نفوذ حكم القاضي غير ممكن من دون أن تكون له سلطة وحاكمية ، ولم يكن القضاء في تلكم الأعصار منفصلاً عن سائر شؤون الحكومة كما هو الرائج في عصرنا وقد كان داود علیه السلام يتمتع بسلطة تامة واسعة تشمل التنفيذية والتشريعية - بمعنى بيان الأحكام عن طريق الوحي - والقضائية إذ يقول عنه القرآن :

( وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَولاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرضُ ) (2).

ص: 660


1- ص : 26.
2- البقرة : 251.

فتحصل من ذلك أنّ استخلاف اللّه لداود كان بمعنى إعطائه حق الحاكمية على الناس بمفهومها الواسع.

وبذلك اتضح الفرق بين قولنا حصر الحاكمية في اللّه سبحانه وبين ما كان يردّده الخوارج شعاراً ضد علي علیه السلام حيث كانوا يقولون : « لا حكم إلاّ لله لا لك ولا لأصحابك ».

فهؤلاء كانوا يريدون نفي أيَّة إمرة في الأرض بتاتاً لا من جانب اللّه ولا من جانب الناس ، وبذلك نهضوا في وجه إمرة علي ، وقد ردّ الإمام عليهم بقوله :

« كلمة حق يراد بها باطل ! نعم لا حكم إلاّ لله ، ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة إلاّ لله » (1).

أي أنّهم ينفون أن يكون في الأرض أمير على الناس من جانب اللّه سبحانه.

كلمة أخيرة

أثبت البحثان السابقان أنّ الحكومة ضرورة يتوقف نظام الحياة عليها ، كما أثبتا من جانب آخر أنّ الحكومة بما أنّها تلازم التصرف في الأموال والأنفس وتلازم تحديد الحريات ، لذلك لابد أن تكون ناشئة من ولاية ثبت أنّها لا توجد إلاّ في اللّه سبحانه ، وحده.

ولمّا كان يمتنع عليه سبحانه أن يباشر هذه الحكومة ، فلابد أن يتصدّى لها من ينصبه اللّه تعالى لذلك فرداً كان أو جماعة ، وهذا ما ينبغي بحثه ومعالجته في البحوث التي تتكفل بيان طريقة الحكم ونظام الحكومة في الإسلام ، والتي أبدى فيه المفكرون آراء مختلفة.

ص: 661


1- نهج البلاغة ، الخطبة 40.

ففي تلك البحوث سنبحث هل يجب أن يكون الحاكم الإسلامي منصوباً من جانب اللّه سبحانه ؟ أو أنّ تعيينه ترك إلى اختيار الناس وانتخابهم ؟ أو أنّ هناك رأياً ثالثاً يقول : إذا كان هناك حاكم منصوب من جانب اللّه فعلى الناس اتّباعه ؟ أمّا عندما لا يكون هناك من عيّنه اللّه بخصوصه للحكومة ، فعلى الأُمّة أن تختار - وفق الموازين الإسلامية للقيادة - من تجده صالحاً للإمرة والحاكمية ، وتقوم هي بتأسيس الدولة بسلطاتها الثلاث.

ولمّا كان الرسول الأعظم وأُولو الأمر من المؤمنين حسب تنصيصه سبحانه في قوله : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) (1) يمثلون تلك القيادة الإسلامية والحكومة الإلهية خصّصنا الجزء الثاني لدراسة كيفية الحكم والولاية في الإسلام.

ومن اللّه نسأل التوفيق ، وآخر دعوانا أنّ الحمد لله رب العالمين.

ص: 662


1- النساء : 59.

فهرس المحتويات

العنوان / الصفحة

مقدمة المؤلف القرآن كتاب القرون والأجيال ... 5

اهتمام المسلمين بالكتاب العزيز ... 7

التفسير الترتيبي والتفسير الموضوعي ... 8

مراتب التوحيد ... 13

1. التوحيد في الذات ... 13

2. التوحيد في الصفات ... 13

3. التوحيد في الأفعال ... 14

4. التوحيد في العبادة ... 18

التوحيد في الولاية ... 21

التوحيد في الحاكمية ... 21

التوحيد في الطاعة ... 22

التوحيد في التقنين ... 23

ص: 663

العنوان / الصفحة

الفصل الأوّل

اللّه والفطرة

هزيمة التكنولوجيا والحياة الآلية ... 31

اعترافات علماء الاجتماع وأصالة التديّن ... 34

هل وجود اللّه سبحانه أمر بديهي ؟ ... 38

الإنسان يبحث عن اللّه فطرياً ... 40

تعاليم الدين بأُصولها أُمور فطرية ... 41

تجلّي الفطرة عند الشدائد ... 44

هل وحدانية اللّه أمر فطري وإن لم يكن الاعتقاد بذاته فطرياً ؟ ... 47

ما هو الفرق بين التوحيد الفطري الاستدلالي ؟ ... 50

كيف نميّز الفطري عن غير الفطري ؟ ... 51

علائم الفطرية الأربع ... 53

البحث عن اللّه ظاهرة عالمية ... 54

الفطرة هي الهادية إلى اللّه دون التعليم البشري ... 55

الشعور الديني ليس وليد العوامل المحيطية ... 56

الدعايات حدّدت هذا الشعور ولم تستأصله ... 57

البعد الرابع أو غريزة التدين ... 58

سلوك الماركسيين تجاه مبادئهم ... 61

المعنى الآخر لفطرية الإيمان باللّه ... 65

الفطرة في الأحاديث ... 67

ص: 664

العنوان / الصفحة

الفصل الثاني

اللّه وعالم الذر

استعراض الآيات أوّلاً ... 77

نقاط جديرة بالاهتمام ... 77

آراء العلماء حول الميثاق في عالم الذر ... 81

النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث ... 81

انتقادات على هذه النظرية ... 82

النظرية الثانية ... 86

إشكالات على هذه النظرية ... 91

النظرية الثالثة ... 93

أسئلة حول هذه النظرية ... 100

النظرية الرابعة ... 103

بحث حول الأحاديث الواردة في تفسير الآية ... 104

الفصل الثالث

اللّه وبراهين وجوده في القرآن

كثرة البراهين على وجود اللّه تعالى ... 113

دليل الفطرة ... 114

برهان الحدوث ... 114

برهان الإمكان ... 114

برهان الحركة ... 116

ص: 665

العنوان / الصفحة

برهان النظم ... 117

برهان محاسبة الاحتمالات ... 117

برهان التوازن والضبط ... 119

الهداية الإلهية في عالم الحيوان ... 120

برهان الصدِّيقين ... 121

براهين أُخرى ... 123

التوحيد الاستدلالي في القرآن الكريم ... 124

1. برهان الفقر والإمكان ... 129

2. الأُفول والغروب يدلّ على وجود مسخّر ... 139

3. خلق السماوات والأرض دليل على وجود الخالق ... 152

4. برهان الإمكان ... 157

5. برهان امتناع الدور ... 157

6. برهان حاجة المصنوع إلى الصانع ... 157

7 و 8. تركيب الخلايا البشرية العجيبة ونمو النباتات وتساقط المطر وخلقة الأشجار تشهد بوجود خالقها 166

9. اجتماع شرائط الحياة على النسق الموجود يبطل نظرية المصادفة ... 174

10. دلائل وجود اللّه في الآفاق والأنفس ... 187

11. برهان الصدّيقين : معرفة اللّه عن طريق معرفة الوجود ... 193

12. آيات اللّه في عالم الطبيعة ... 205

13. الحيوانات والهداية الإلهية ... 212

ص: 666

العنوان / الصفحة

الفصل الرابع

اللّه وسريان معرفته في العالم كلّه

الكون بأسره تسجد لله وتسبّح بحمده ... 229

ما هو المقصود من سجود أجزاء الكون ؟ ... 233

بيان حقيقة سجود الكائنات ... 235

ما المراد بالسجود الطوعي والإكراهي ؟ ... 236

الحمد والتسبيح الكونيّ كيف ؟ ... 238

آراء المفسرين في تسبيح الكائنات ... 243

النظريات الأربع ... 244

القرآن وسريان الشعور في عموم الموجودات ... 252

القرآن وسريان الشعور في الجمادات ... 255

البرهان العقلي على هذا الرأي ... 261

سريان الشعور والعلم الحديث ... 263

الفصل الخامس

اللّه والتوحيد الذاتي

وانّه لا نظير ولا مثيل له

التوحيد في الذات ... 267

شهادة اللّه على وحدانيته سبحانه ... 273

إجابة عن سؤال ... 274

وجود اللّه غير متناه ... 277

ص: 667

العنوان / الصفحة

عوامل المحدودية منتفية في ذاته تعالى ... 278

اللامحدود لا يتعدّد ... 279

أحاديث أئمّة أهل البيت حول وحدانية اللّه ... 283

الآلهة الثلاثة أو خرافة التثليث ... 285

كيف تسربت خرافة التثليث إلى النصرانية ؟ ... 287

رأي القرآن في التثليث ... 288

الآثار المسيح البشرية ... 292

اللّه سبحانه واتخاذ الولد ... 293

القرآن ومعبودية المسيح ... 300

التثليث في نظر العقل ... 303

هل يمكن أن يكون شيء واحد وثلاثة في آن واحد ؟ ... 305

أقانيم ثلاثة أم شركة مساهمة ؟! ... 306

الفصل السادس

اللّه وبساطة ذاته تعالى وعينية صفاته لذاته

التوحيد الذاتي وبساطة الذات ... 311

ذات اللّه منزّهة عن التركيب الخارجي ... 314

ذاته منزّهة عن التركيب العقلي ... 314

صفات اللّه عين ذاته ... 315

نظرية الأشاعرة في الصفات ... 320

الدليل على وحدة الصفات مع الذات ... 320

ص: 668

العنوان / الصفحة

هو الغني المطلق ... 323

هو اللّه الأحد ... 324

الفصل السابع

اللّه والتوحيد في الأفعال

1. التوحيد في الخالقية

التوحيد في الخالقية ... 333

عقيدة المعتزلة في العلل والأسباب ... 334

نقد هذا العقيدة ... 335

مذهب الأشعري في العلل الطبيعية ... 339

نقد هذا المذهب ... 339

مذهب أئمة أهل البيت ( الأمر بين الأمرين ) ... 345

التوحيد في الخالقية من شعب التوحيد الافعالي ... 346

ما هو معنى الخالقية من شعب التوحيد الأفعالي ... 350

لماذا يؤكد القرآن على التوحيد في الخالقية ... 355

ما معنى كون المسيح خالقاً للطير ؟ ... 358

التوحيد في الخالقية يؤكد الاختيار ... 360

كيف تعلّقت الإرادة الأزلية بصدور الفعل عن الفاعل ؟ ... 362

تحليل عن الشرور ... 367

الشر أمر نسبي ... 370

ص: 669

العنوان / الصفحة

الفصل الثامن

اللّه والتوحيد الافعالي

2. التوحيد في التدبير والربوبية

وجود الشرك في التدبير بين الوثنيّين ... 379

هل للرب معان مختلفة ؟ ... 386

القرآن لا يعترف بمدبِّر سواه ... 396

التدبير لا ينفك عن الخلق والإيجاد ... 399

وحدة النظام دليل على وحدة المدبِّر ... 400

ما معنى المدبِّرات في القرآن ؟ ... 404

وحدة المدبِّر في العالم ... 410

ما معنى الآية التي تنسب الحسنة إلى اللّه والسيئة إلى الإنسان وفي الوقت نفسه تنسبها إلى اللّه 415

الفصل التاسع

التوحيد في العبادة

دوافع الشرك في العبادة ... 427

هل العبادة هي مطلق الخضوع ؟ ... 442

هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك ؟ ... 451

التعاريف الثلاثة للعبادة ... 455

الشيعة الإمامية وتهمة التفويض ... 469

ما هو معنى الإلوهية وما هو ملاكها ؟ ... 487

ص: 670

العنوان / الصفحة

هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية غير المستقلة موجب للشرك ؟ ... 497

هل التوسل بالأسباب غير الطبيعية يعد شركاً ؟ ... 515

هل الحياة والموت تعدّان حداً للتوحيد والشرك ؟ ... 525

هل تعظيم أولياء اللّه والتبرك بآثارهم أحياءً وأمواتاً شرك ؟ ... 535

هل قدرة المستغاث وعجزه من حدود التوحيد والشرك ؟ ... 541

هل طلب الأُمور الخارقة للعادة شرك وملازم للاعتقاد بالوهية المسؤول ؟ ... 546

هل يكون طلب الإشفاء والشفاعة والإعانة من الصالحين ودعوتهم شركاً ... 550

عقائد الوثنيين في العصر الجاهلي ... 585

الفصل العاشر

اللّه والتوحيد في التقنين والتشريع

حاجة المجتمع إلى القانون ... 601

شرائط المشرّع. لا تتوفر هذه الشروط إلا في اللّه ... 601

الآيات الدالّة على التوحيد في التشريع ... 605

الصنف الأوّل الدال على عدم جواز التشريع لغير اللّه ... 605

الصنف الثاني الدال على تقريع من يُحلُّون حرامه ويحرمون حلاله ... 608

الصنف الثالث الدال على أنّ الأنبياء بعثوا مع نُظُم كاملة للحياة ... 615

ص: 671

العنوان / الصفحة

ما هي معاني الدين ، الشريعة ، الملّة والدين ؟ ... 617

الصنف الرابع الدال على المنع من التحاكم إلى الطاغوت ... 619

الصنف الخامس الآيات التي تذم النصارى على إعطاء الأخبار حق التشريع ... 623

الصنف السادس الآات الحاثة على التباع الرسول ... 624

ماذا يراد من الشرك في التشريع ؟ ... 625

الشيعة وفكرة حق التشريع للنبي صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام ... 628

الفصل الحادي عشر

اللّه والتوحيد في الطاعة

انحصار حق الطاعة في اللّه ... 635

الطوائف التي وجب طاعتها بإذن اللّه ، الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ... 637

أُولو الأمر. الوالدان ... 643

الفصل الثاني عشر

اللّه والتوحيد في الحاكمية

الحكومة ضرورة اجتماعية ... 649

الآثار السيئة لفقدان القائد ... 653

الاقتداء بسيرة النبي صلی اللّه علیه و آله ... 654

الولاية والحاكمية لله سبحانه ... 656

الولاية لله سبحانه لا الإمرة والإدارة ... 659

كلمة أخيرة ... 661

فهرس المحتويات ... 663

ص: 672

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 4

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1413 ه.ق

الصفحات: 616

نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء الثاني

دراسة موسعة عن صيغة الحکومة الإسلامية وأرکانها وخصائصها وبرامجها

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 2

يشهد العالم الإسلاميّ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يشهد العالم الإسلاميّ - منذ سنوات قريبة - تعطُّشاً كبيراً من أبناء الأُمّة الإسلاميّة للتعرُّف على كنوز المعرفة في كتابهم الإلهيّ العظيم « القرآن الكريم ».

وقد ازداد هذا التعطّش والشوق مع بزوغ القرن الخامس عشر الهجري ، وما حقّقته تعاليم القرآن الكريم وتوجيهاته الربانيّة من انتصارات ساحقة على قوى الطغيان والشرِّ والظلام.

من هنا نجد الأيدي والقلوب تتلقّف كلَّ ما يصدر حول هذا الكتاب الإلهيّ الخالد من دراسات ، لأنّهم وجدوا فيه مصدر عزَّتهم الغابرة ، ورمز مجدهم التليد ، ودستور حضارتهم الكبرى.

ومن هنا أيضاً ، شهدت الموسوعة القرآنيّة « مفاهيم القرآن » - وهي من محاضرات الأُستاذ العلاّمة الشيخ جعفر السُّبحانيّ منذ الأيّام الأُولى من انتشار أوّل حلقة منها عام ( 1393 ه ) - استقبالاً شديداً من القرّاء الكرام ، وتشجيعاً وترحيباً كبيرين من أقطاب الفكر الإسلاميّ ، وكبار أعلام التفسير والعلم ، الذين عبّروا عن ذلك برسائلهم وكتبهم القيّمة ، أو بالتشجيع الشفهيّ ، وحثُّوا على مواصلة هذا المشروع القرآنيّ المفيد.

وقد جاءت الحلقة - هذه المرّة - لتُلبّي حاجةً شديدةً طالما أحسَّ بها المسلمون في أعماقهم ، ألا وهي الحاجة إلى معرفة « الحكومة الإسلاميّة » والتعرّف على طبيعتها وتركيبتها ومناهجها على ضوء القرآن الكريم.

ص: 3

وليس بخافٍ على أحدٍ أنّ إيقاف القرّاء الأعزّاء على الملامح الحقيقيّة للحكومة الإسلاميّة لم يكن بالأمر السهل بعد أن مضى على المسلمين زمن طويلٌ غاب عنهم فيه الوجه القرآنيّ الأصيل لهذه الحكومة في خِضمِّ الممارسات البعيدة عن روح القرآن.

ولهذا ، سيقف القارئ الكريم بنفسه على مدى الجهود الضخمة ، والمساعي المُضنية التي بُذلت لإخراج هذه الدراسة ، واستجلاء صيغة الحكومة الإسلاميّة على ضوء القرآن الكريم ، وما ورد في ذلك من السنَّة المطهّرة.

ولهذا نعتقد بأنّ القارئ الكريم سيولي هذا الكتاب اهتماماً خاصّاً ، وسيجده - ربّما - أولى وأوسع دراسة في هذا الصعيد.

ونحن إذ نقدِّم هذا المجهود الذي هو حصيلة تلكُم الجهود الطويلة من البحث والتنسيق إلى كلِّ القوى الإسلاميّة المخلصة ، التي تعمل وتجاهد الآن للإطاحة بالنُّظم الطاغوتيّة في البلاد الإسلاميّة ، لإقامة نظام الحكومة الإسلاميّة فوق أنقاضها إظهاراً لدولة الحق ، وإعلاءً لكلمة اللّه العليا.

وإذ نرى أنفسنا مَدينين لترحيب كبار رجال الفكر والعلم وتشجيعهم ، فننشر هنا بعض رسائلهم وفاءً لجميلهم ، وإحياءً لذكراهم ، نرجو العليّ القدير أن يتقبَّل منّا هذا العمل ، ويجعله خالصاً لوجهه إنّه سميعٌ مجيب.

الجامعة العلميّة الإسلاميّة في مدينة قم المقدّسة

جعفر الهادي

30 / شعبان / 1401

ص: 4

تقييمٌ وتقدير

من فقيد الإسلام المفكّر الكبير آية اللّه العظمى الشهيد السيد محمّد باقر الصّدر قدس سره (1)

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ جعفر سبحاني متّعنا اللّه تعالى بوجوده الشريف.

السلام عليكم زِنَة شوقي إليكم وتقديري لكم ورحمة اللّه وبركاته.

وبعد ، فقد تسلّمت بالأمس بواسطة السيّد الفاضل أحمد العلوي البحريني قَبَسكم الهادي المشعّ بمفاهيم القرآن الكريم ، وهو كما ذكرتم بحقّ منهجٌ جديدٌ في تفسير القرآن الكريم على الصعيد الإسلاميّ ، وفي حدود ما اتّسعت له النظرة الأُولى خلال هذا اليوم وجدت علماً غزيراً واطّلاعاً واسعاً وعمقاً في البحث والاستنتاج ، وعشت فترةً سعيدةً مع الكتاب الجليل ذكّرتني باللقاء السابق مع سماحتكم وما خلّفه ذلك اللقاء من أعمق الانطباعات وأرسخ المشاعر ، ولئن كنت أشعر باستمرار باعتزاز كبير بشخصيّتكم العلميّة المجاهدة ، فإنَّ هذه النفحة القرآنية الجديدة ، أكّدت هذا الاعتزاز وجسّدت بعض الآمال المعقودة عليكم ، وسوف أُحاول في فرصة أوسع أن أستوعب قدراً معتدّاً به من بحوث الكتاب الجليلة وأُسجّل لكم ما قد يحصل من انطباعات.

حفظكم اللّه تعالى مناراً للعلم وسنداً للدّين الحنيف والسّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

محمّد باقر الصّدر

غرّة شعبان 1395

ص: 5


1- استشهد قدس سره في رجب عام ( 1400 ه ).

كتابٌ كريم

من فقيد الإسلام سماحة العلاّمة الحجّة الشيخ مرتضى آل ياسين المتوفّى في ذي القعدة الحرام عام ( 1398 ه ) رحمه اللّه .

بسم اللّه وله الحمد وبه نستعين وصلّى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

وبعد لا يخفى عليك أيّها القارئ الكريم أنّ هذا السِّفر الجليل الذي بين يديك مجموعة من بحوث قيّمة في القرآن الكريم قلّما تناولتها أقلام الباحثين من قبل إلاّت بنحو من الإجمال لا يكاد يروي من غلّة ، أو يشفي من علّة ، وفيه من الفوائد الرائعة ما يُشبع طرفاً كبيراً من نهمك العلمي ، وذلك بما يعرض إليه من الشكوك والشبهات الدائرة حول العقائد الحقّة فينسفها نسفاً ببيان رصين لا يشذّ عنه الدليل والبرهان ، هذا إلى استئثاره بمنهج من التفسير له طابعه الخاص الّذي يميّزه عن سائر التفاسير كما يبدو ذلك جلياً لكلّ من سرّح نظره فيه.

وليس من شك عندي أنّ الموهبة الإلهيّة الّتي مُنح بها مؤلف هذا الكتاب فضيلة العلاّمة العبقري الشيخ السُّبحاني - أيّده اللّه - هي الّتي آثرته بالتوفيق لإنجاز مثل هذا النتاج القيّم الّذي طالما تطلّعت إليه المكتبة الإسلاميّة لكي تسدّ به فراغاً لا يزال ماثلاً بين صفوفها منذ أمد بعيد. فإليه دام تأييده أُزجي تحيّتي ، وتهنئتي تقديراً لجهوده ، وتثميناً لمجهوده راجياً من المولى عزَّ شأنه أن يجعله ذخراً له في آخرته كما جعله فخراً له في دنياه والسّلام عليه ورحمة اللّه وبركاته.

مرتضى آل ياسين

7 / 3 / 1394 ه

ص: 6

إكبارٌ وتشجيع

من رائد الفكر الإسلامي فقيد الأُمّة العلاّمة الشيخ محمّد جواد مغنيّة رحمه اللّه .

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

فضيلة الأخ العلاّمة الكبير الشيخ جعفر سبحاني - دام ظلّه - بعد السلام والاحترام ، أشكر هديّتكم السنيّة الغنيّة : التفسير الموضوعي للقرآن الكريم هذا السِّفر المَعلَم القيّم في سموّ مطالبه وعلوّ صاحبه ، الجديد في بابه أو موضوعه ، لقد جمع الآيات المتشابكة المتعاضدة على إرساء فكرة واحدةٍ ، وأرانا بأُسلوبه السهل : كيف ينطق بعضها ببعض توضيحاً وتحديداً حتّى عالج الكثير من الصعاب التي تخطّاها السابق واللاحق عن قصد أو غير قصد ... ولا بِدْعَ أن يتصدّى لها شيخنا الأجلّ فقد توفّرت فيه كلُّ الشروط ، وتكاملت كلُّ الصفات الّتي يتطلّبها هذا الميدان الصعب المستصعب.

محمّد جواد مَغنيَّة

ج 2 / 1396 ه

شكر واعتذار

لقد وردت إلينا رسائل أُخرى من الشخصيّات العلميّة البارزة تشجّعنا على هذا المشروع ، فنحن إذ نشكرهم شكراً جميلاً وجزيلاً ، نرفع إليهم الاعتذار لعدم نشر ما كتبوه بأقلامهم الشريفة في هذا الجزء ، ونرجو نشرها في الجزء الثالث من هذه الموسوعة الّذي هو جاهزٌ للطبع أيضاً.

ص: 7

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 8

مقدّمة

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

بدأ القرن الرابع عشر الهجريّ بيقظة المسلمين وقد بذل علماء الإسلام ومفكّروه جهوداً عظيمةً وجبارةً بالقلم تارةً ، وباللسان اُخرى ، وبتحمُّل المَشاقّ الجسيمة ، والصعوبات المُضنية لإيقاظ الأُمّة الإسلاميّة من رقْدتها العميقة ، وذكروا - بالإجماع - بأنّ استعادة مجد الإسلام لا تُمكن إلاّ بالعودة إلى القرآن ، والوقوف على حقائق الدّين النّابضة بالحياة ، والعمل بالكتاب العزيز.

ومن هذا المنطلق ، ظهرت - في عصورنا - جهودٌ قيّمة في مختلف نقاط البلاد الإسلاميّة لمعرفة القرآن الكريم والتعريف بمفاهيمه ، وهي جهودٌ تستطيع أن تفتح الطريق أمام المتعطّشين لمعرفة هذا الكتاب الإلهيّ الخالد في القرن الحاضر.

والآن بعد أن بدأت الأُمّة الإسلامية تتحرَّر في مطلع القرن الخامس عشر الهجريّ وراحت تخرج من رِبْقة الإستعمار البغيض ، وتتخلّص من قيود الإستكبار العالمي ازداد تعطّش الشباب خاصّةً ، إلى « القرآن » ، وهي ظاهرة ملموسة ومحسوسة في أكثر البلاد الإسلاميّة.

نعم لمّا كانت بعض البلاد الإسلاميّة لا تزال ترزح تحت نير الاستعمار

ص: 9

وتُعاني من قيوده ؛ فإنَّ طرح الكثير من الجوانب الثوريّة والحيويّة من الإسلام بات ممنوعاً أو مستحيلاً ، فيكتفى في تلك البلاد بقراءة القرآن وتجويده دون أنْ يصلَ الناس إلى نتيجةٍ مطلوبةٍ من هذا السِّفر الإلهيّ العظيم.

ففي بعض هذه البلاد التي لا تزال تعيش في قيود الاستعمار - باطناً - تُقام المؤتمرات السنويّة الضّخمة لمعرفة ( اجود مقرئ للقرآن ) ويشترك فيها قرّاء من مختلف البلاد الإسلاميّة ، ثمّ يتمُّ اختيار أجود قارئ حسب معايير خاصة ليست بغريبة عن السياسات الحاضرة غالباً ، ولكن دون أن تقوم أيّة مؤتمرات بصدد التعريف بمفاهيم القرآن ، أو جدوَلة موضوعاته أو الحصول على طرق جديدة للتفسير أكثر عطاءً ، للوقوف على حقائق هذا الكتاب السماويّ وبيّناته وبصائره ، حتّى أنّني عندما اشتركت على رأس هيئة في أحد هذه المؤتمرات المعقودة لاختيار أفضل قارئ طرحت هذا الموضوع على وزير الأوقاف في البلد المضيِّف وقدّمت له اقتراحاً مكتوباً بهذا الصدد ولكن دون أن أجد منه ترحيباً بالاقتراح ، والعلّة واضحةٌ والسبب معلوم.

إنّنا بحكم واجبنا الدّينيّ الذي يقضي بأنّ تكون الجهود العلميّة موافقةً للاحتياجات الحاضرة ، ركّزنا قسماً كبيراً من نشاطاتنا العلميّة والفكريّة - طوال عشرين عاماً منصرمات - على دراسة القرآن الكريم واستجلاء حقائقه واستقصاء معارفه ومسائله ، وقد حقّقنا - في هذا السبيل - نجاحاً كبيراً والحمد لله.

وقد كان نتيجة ما حققناه - طوال هذه السنين - هو عرض نمط جديد للتفسير لم يكن له مثيلٌ فيما كتبه المفسّرون في هذا المضمار وهو تفسير القرآن حسب الموضوعات ، مستعينين في تفسير الآيات بنفس الآيات ، وكشف معضلاتها بمشابهاتها.

ص: 10

وقد طُبع - إلى الآن - سبعة أجزاء من هذا التفسير لقيت ترحيباً كبيراً من قبل العلماء والمفكّرين المهتمّين بهذا النوع من البحوث القرآنيّة.

هذه الدّراسة

وما يراه القارئ في هذه الدراسة هو نتيجة ما ألقيناه على فضلاء الجامعة الدينيّة في قم المشرّفة من ذلك النَّمط التفسيريّ الجديد.

ولمّا انتهى البحث في الجزء الأوّل إلى التوحيد في الحاكميّة ، وقلنا : إنّ الحاكميّة مختصّةٌ باللّه سبحانه ، وذكرنا أنّ اختصاص الحكومة باللّه لاتعني اختصاص الإمرة به سبحانه ، فلأجل ذلك ، جعلنا محور البحث في هذا الجزء رفع الستار عن صيغة الحكومة الإسلاميّة نزولاً عند رغبة أكثر القرّاء من الشباب حيث ازداد تعطّشهم إلى معرفة الحكومة الإسلاميّة ، تلك الناحية الحسّاسة من النظام الإسلاميّ التي أُهملت في القرون الغابرة ، بياناً ، وتأليفاً.

شكر وتقدير

وقد تمّ تنسيق وتأليف محتويات هذا الجزء بواسطة الكاتب الإسلاميّ الفاضل الشيخ جعفر الهادي الذي بذل جهداً كبيراً في تحرير هذه البحوث وتنظيمها وصبّها في ثوب قشيبٍ من التعبير ، وكأنّه بذلك أفاض عليها حياةً جديدة.

وإنّني إذ أشكر - بإخلاص - جهوده المضنية في هذا الصعيد ، أسأل اللّه تعالى أن يوفقه لتحقيق الأهداف الإسلاميّة العليا ويأخذ بيده لخدمة الفكر الإسلاميّ العظيم.

ص: 11

على أنّنا نُذكِّر القرّاء الكرام بأنّنا لا ندّعي أبداً بأنّ عملنا - هذا - عمل متكاملُ الأركان ، عارٍ عن النقصان ، وأنّنا في غنىً عن النقد البنّاء والاعتراض الهادف السليم ... ولهذا ، فإنّنا نرحّب بكلّ نقد في هذا المجال ، ونتلقّاه برحابة صدرٍ آملين أنْ يُتحفنا الإخوة بما يرونه مفيداً وضرورياً لنزيد من كمال هذا المجهود فيتحقّق الهدف ، ويحصل المطلوب ، واللّه من وراء القصد.

جعفر السبحاني

5 / شعبان / 1403 ه.

ص: 12

الفصل الأوّل

اشارة

1

الحكومة حاجة طبيعيّة وضروريّة

اشارة

الحديث عن الحكومة الإسلاميّة من المسائل التي تطرح نفسها اليوم بشدّة على أذهان الناس في المجتمع الإسلامي ، وتستقطب اهتمامهم في كلّ مكان.

ولقد استوفينا الكلام حول لزوم وجود الحكومة ، وضرورة استقرارها وقيامها في الحياة البشريّة عامّةً ، وفي المجتمع الإسلامي خاصّةً ، وذلك عند دراسة « التوحيد في الحاكميّة » الذي كان آخر فصل لكتابنا : « معالم التوحيد في القرآن الكريم ».

ونرى هنا - لدى البحث عن معالم الحكومة الإسلاميّة - أن نعيد الكرّة على ما ذكرناه هناك باختصار فنقول :

إنّ ضرورة قيام الحكومة ووجود الدولة في الحياة البشريّة ليست أمراً تقتضيه وتؤكّده الحياة المعاصرة التي اشتدّت فيها الحاجة إلى الحكومة فحسب ، بل كانت موضع تأكيد كبار الفلاسفة والمفكّرين في التاريخ القديم أيضا.

ص: 13

فها هو « أرسطو » كبير الفلاسفة القدامى وزعيمهم يقول :

« إنّ الدولة من عمل الطبع ، وإنّ الإنسان بالطبع كائن اجتماعيّ ، وإنّ الذي يبقى متوحّشاً - بحكم النظام لا بحكم المصادفة - هو على التحقيق إنسان ساقط أو إنسان أسمى من النوع الإنسانيّ » (1).

فإذن ، تعتبر الدولة - حسب رأي أرسطو - حاجة طبيعيّة تقتضيها الفطرة الإنسانيّة بحيث يعدُّ الخارج على الدولة ونظامها وتدبيرها إمّا متوحّشاً ساقطاً ، أو موجوداً يفوق النوع الإنساني ، ويخلو عن الطبيعة البشريّة.

وها هو « أفلاطون » يرى : « أنّ أفضل حياة للفرد لا يمكن الحصول عليها إلاّ بوجود الدولة ، لأنّ طبيعة الإنسان م آلها إلى الحياة السياسيّة ، فهي من الاُمور الطبيعيّة التي لا غنى للناس عنها » (2).

وهذا هو ابن خلدون يستدلُّ على ضرورة وجود الدولة والحكومة بضرورة الاجتماع الإنساني التي يعبّر عنها في اصطلاح الحكماء بعبارة : « أنّ الإنسان مدنيّ بالطبع ».

ثمّ يستدلُّ على ذلك حتى ينتهي إلى إثبات ضرورة إيجاد الحكومة والدولة (3).

وأمّا من المفكّرين المعاصرين ، فيكتب ثروت بدوي : « إنّ أوّل مقوّمات النظام السياسيّ هو وجود الدولة ، بل إنّ كلّ تنظيم سياسيّ للجماعة يفترض وجود الدولة ، حتّى أنّ البعض يربط بين مدلول السياسة وفكرة الدولة ، ولا يعترف بصفة الجماعة السياسيّة بغير الدولة » (4).

هذا وما جاء في الإسلام وورد من نصوص وسيرة أكثر دلالةً ، وأقوى برهنةً على لزوم إيجاد الدولة في الحياة البشريّة ، من أي دليل آخر.

ص: 14


1- السياسة : 96 ترجمة أحمد لطفي.
2- الجمهوريّة بتلخيص.
3- مقدّمة ابن خلدون : 41 - 42.
4- النُّظم السياسيّة : 1 - 7.

أمّا السيرة فيكفي النظر إلى حياة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وسيرته الشريفة للوقوف على هذه الحقيقة.

المؤسّس الأوّل للحكومة الإسلاميّة :

فمن تتبّع تلك السيرة الشريفة وجد كيف أنّ الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله أقدم بمجرّد نزوله في المدينة المنوّرة على تأسيس الدولة بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى ، وكيف مارس كلّ ما هو من شأن الحاكم السياسي من تشكيل جيش منظّم ، وعقد معاهدات ومواثيق مع الطوائف الاخرى ، وتنظيم الشؤون الإقتصاديّة والعلاقات الإجتماعيّة ممّا يتطلّبه أي مجتمع منظّم ذو طابع قانونيّ ، وصفة رسميّة وصيغة سياسيّة ، واتخاذ مركز للقضاء والإدارة - وهو المسجد - ووضع رواتب وتعيين مسؤوليات إداريّة ، وتوجيه رسائل إلى الملوك والامراء في الجزيرة العربيّة وخارجها ، وتسيير الجيوش والسرايا وبذلك يكون الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله أوّل مؤسّس للدولة الإسلاميّة التي استمرّت من بعده ، واتّسعت ، وتطوّرت وتبلورت ، واتّخذت صوراً أكثر تكاملاً في التشكيلات والمؤسّسات وإن كانت الاسس متكاملةً في زمن المؤسّس الأوّل صلی اللّه علیه و آله .

إنّ من يراجع التاريخ النبويّ يلاحظ - بجلاء - أنّ النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان منذ بداية بعثته الشريفة وحياته الرساليّة بصدد تأسيس الحكومة ، وإقامة الدولة.

وقد تمّ ذلك في مرحلتين كانت المرحلة الاولى في مكة ، والاخرى في المدينة.

ففي مكة - يوم لم يكن مأموراً بالظهور والإعلان عن دعوته - قام بتأسيس الحزب السريّ - إن صحّ هذا التعبير - حيث أخذ في إعداد وبناء الأفراد الصالحين ، وتوفير الكوادر المؤمنة عن طريق الاتّصالات الخاصّة واللقاءات السّريّة.

ثمّ بعد أن امر باعلان رسالته لقوله سبحانه : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ) ( الحجر : 94 و 95 ) ، راح الرسول الأكرم يلتقي بقادة القبائل ورؤساء الوفود الآتية إلى مكّة يدعوهم الى دينه ، والانضمام

ص: 15

إلى جماعته ؛ وكان من أبرز ما فعله على صعيد التهيئة العامّة لإقامة حكومته المرتقبة ، عقد البيعة مع بعض الوفود القادمة من أنحاء الجزيرة إلى مكة ، وأخذ العهد منهم على نصرته ودعم ما ينشد إقامته في ظرفه المناسب كما تمّ ذلك في بيعتي العقبة الاولى والثانية (1).

وعندما هاجر إلى المدينة ، وسنح له الظرف المناسب باشر بتأسيس أوّل حكومة إسلاميّة وبذل في ذلك أكبر مجهود بعد أن مهّد لها بعقد ميثاق الاخوّة بين أصحابه من الأنصار والمهاجرين ، وإقامة مسجد جعله مركزاً لتجمّع المسلمين وموضعاً لعملياته ونشاطاته الاجتماعيّة والسياسيّة.

وقد تجلىّ العمل السياسيّ الذي قام به النبيُّ صلی اللّه علیه و آله والذي يدلُّ على أنّه كان أوّل من أقام حكومة إسلاميّة وبنى قواعدها ، أنّه كان يباشر اُموراً هي من صميم العمل السياسي والنشاط الاداري الحكومي ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :

1. أنّه صلی اللّه علیه و آله عقد بين أصحابه وبين الطوائف والقبائل الاخرى المتواجدة في المدينة كاليهود وغيرهم اتفاقيةً وميثاقاً يعتبر في الحقيقة أوّل دستور للحكومة الإسلاميّة ، وقد ذكرنا بنودها في هذا الفصل من كتابنا هذا.

2. أنّه صلی اللّه علیه و آله جهّز الجيوش وبعث البعوث العسكريّة والسرايا إلى مختلف المناطق في الجزيرة ، وقاتل المشركين وغزاهم ، وقاتل الروم وقام بمناورات عسكريّة لإرهاب الخصوم ... وقد ذكر المؤرّخون أنّه صلی اللّه علیه و آله خاض أو قاد خلال 10 أعوام من حياته المدنيّة 85 حرباً.

3. بعد أن استتبّ له الأمر في المدينة وما حولها وأمن جانب مكّة وطرد اليهود من المدينة وماحولها وقلع جذورهم وقضى على مؤامراتهم ، توجّه باهتمامه إلى خارج الجزيرة ، وإلى المناطق التي لم تصل إليها دعوته ودولته من مناطق الجزيرة ، فراح يراسل الملوك والامراء يدعوهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام والدخول تحت ظلّ دولته والقبول

ص: 16


1- راجع السيرة النبويّة 1 : 431 و 467 ، وإعلام الورى.

بحكومته الإلهيّة.

فراسل قيصر ملك الروم.

وكسرى ملك إيران وامبراطورها.

والمقوقس عظيم القبط في مصر.

والنجاشيّ ملك الحبشة.

وكبار قادة الشام واليمن وغيرهم من الامراء والملوك ورؤساء القبائل الكبيرة.

وربّما وقّع مع بعضهم المعاهدات ، وأقام بعض التحالفات العسكريّة والسياسيّة والمعاهدات الإقتصاديّة (1) كما ستعرف ذلك.

وقد جمعت أكثر هذه الرسائل والمواثيق في كتب خاصّة أمثال ( الوثائق السياسيّة ) تأليف البروفسور محمد حميد اللّه الاستاذ بجامعة باريس و ( مكاتيب الرسول ) وإليك نماذج من هذه الرسائل والمكاتيب السياسيّة :

كتابه إلى ملك عمان والأزد ، جيفر وعبد ابني الجلندي :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد بن عبد اللّه إلى ..

سلام على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد ، فإنّي أدعوكم بدعاية الإسلام ، أسلما تسلما. إنّي رسول اللّه إلى الناس كافّةً لأنذر من كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين. إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما ، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما ، وخيلي تحلُّ بساحتكما ، وتظهر نبوّتي على ملككما » (2).

وكتابه لرفاعة بن زيد الجذاميّ أحد امراء الجزيرة :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا كتاب من محمّد رسول اللّه لرفاعة بن زيد : إنّي قد بعثته إلى قومه عامّة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى اللّه ورسوله ، فمن أقبل منهم ففي

ص: 17


1- على نحو ما فعل مع أهل اليمن ( راجع تاريخ اليعقوبي 2 : 64 ).
2- المواهب اللدنيّة 3 : 440 ، السيرة الحلبيّة 3 : 284 ، أعيان الشيعة 2 : 14 ومكاتيب الرسول : 147.

حزب اللّه وحزب رسوله ومن أدبر فله أمان شهرين » (1).

ومن رسالته إلى اسقف نجران :

« بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، من محمّد النبيّ رسول اللّه إلى أسقف نجران : أسلم أنتم ( أي أنتم سالمون إذا أسلمتم ) فإنّي أحمد اللّه إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام » (2).

4. أنّه صلی اللّه علیه و آله بعث السفراء والمندوبين السياسيين إلى الملوك والزعماء.

قال الاستاذ عبد اللّه عنّان عن هذه السفارات النبويّة : « كانت هذه السفارات والكتب النبويّة عملاً بديعاً من أعمال الدبلوماسيّة ، بل كانت أوّل عمل قام به الإسلام في هذا الميدان.

إنّ هذه الدبلوماسيّة الفطنة التي لجأ إليها النبيُّ في مخاطبة الملوك في عصره لم تذهب كلُّها عبثاً كما رأينا » (3).

5. أنّه صلی اللّه علیه و آله نصب القضاة وعيّن الولاة ، وأعطاهم برامج للإدارة والسياسة فأوصاهم فيما أوصاهم بتعليم أحكام الإسلام ، ونشر الأخلاق والآداب التي جاء بها الإسلام ، وتعليم القرآن الكريم ، وجباية الضرائب الإسلاميّة كالزكاة وإنفاقها على الفقراء والمعوزّين وما شابه ذلك من المصالح العامّة ، وفصل الخصومات بين الناس وحلّ مشاكلهم والقضاء على الظلم والطغيان ... وغير ذلك من المهام والصلاحيّات والمسؤوليّات الإداريّة والاجتماعيّة.

وبالتالي لقد كان النبيُّ صلی اللّه علیه و آله يعمل كلّ ما يعمله الساسة وأصحاب السلطات

ص: 18


1- السيرة الدحلانيّة على هامش السيرة الحلبية 3 : 131.
2- البداية والنهاية 5 : 53 والدرّ المنثور 2 : 38 وبحار الأنوار 6 : 9 الطبعة القديمة.
3- مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام : 208.

اليوم ، ولكن يفعل كلّ ذلك وفق منهج السّماء ، فكان يقوم بالعزل والنّصب ، والمراسلة وعقد الأحلاف ، وتوقيع الوثائق السياسيّة والعسكريّة والإقتصاديّة حسبما تقتضيها المصلحة الإسلاميّة والاجتماعيّة في عصره وضمن تشكيلات بسيطة ..

هذا مضافاً إلى أنّ من طالع سورة الأنفال والتوبة ومحمّد صلی اللّه علیه و آله يلاحظ كيف يرسم القرآن فيها الخطوط العريضة لسياسة الحكومة الإسلاميّة وبرامجها ووظائفها ... فهي تشير إلى مقوّمات الحكومة الإسلاميّة الماليّة ، واسس التعامل مع الجماعات غير الإسلاميّة ، ومبادئ الجهاد والدفاع وبرامجها ، وتعاليم في الوحدة الإسلاميّة التي تعتبر أقوى دعامة للحكومة الإسلاميّة ... وكذا غيرها من السور والآيات القرآنيّة ، فهي مشحونة بالتعاليم والبرامج اللازمة للحكومة والدولة.

وهذا يكشف عن أنّ النبيّ ( محمّداً ) صلی اللّه علیه و آله كان أوّل مؤسّس للحكومة الإسلاميّة وأنّ أوّل حكومة إسلاميّة هي التي أقامها وأوجدها النبيُّ صلی اللّه علیه و آله في المدينة المنورة بعد أن مهّد لها في مكّة.

على أنّ هذه الحكومة - كما قلنا - وإن لم تكن من حيث التشكيلات والتنظيمات الإداريّة على النحو المتعارف الآن ، إلاّ أنّها كانت على كلّ حال تمثّل حكومةً كاملة الأركان ، ودولةً كاملة السّمات والملامح.

وهذا يعني أنّه لابدّ أن تكون للحكومة الإسلاميّة أركان ومؤسّسات وتشكيلات للقيام بمثل ما كان يقوم به النبيُّ صلی اللّه علیه و آله حسب ما تقتضيه طبيعة عصرنا الحاضر ..

وكلُّ هذا يتّضح من مطالعة ما دوّن حول السيرة النبويّة من كتب تأريخيّة على أيدي مؤرّخين من القدماء ، مثل سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وتاريخ الكامل للجزريّ والإرشاد للمفيد وكشف الغمّة للأربلّي ، ومن المتأخّرين ، مثل كتاب تاريخ الإسلام السياسيّ (1) ، وغير ذلك من المؤلّفات التاريخيّة المختصرة والمفصّلة.

ص: 19


1- تأليف الكاتب المعاصر الدكتور حسن إبراهيم حسن استاذ التاريخ الإسلاميّ بجامعة القاهرة.

ثمّ إنّ نظرةً اخرى إلى الدين الإسلاميّ نفسه تشهد بأنّ الأحكام والمناهج الإسلاميّة تقتضي - بنفسها - قيام مثل هذه الدولة وذلك من جهتين :

الاُولى : أنّ الإسلام يدعو - في أكثر من نصّ - إلى الوحدة بين أبنائه وأتباعه ، وينهى عن التشتُّت والفرقة والاختلاف حتّى عرف الإسلام بأنّه بني على كلمتين : « كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة » قال القرآن الكريم : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) ( الأنعام : 153 ).

وقال تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) ( آل عمران : 103 ).

وقال تعالى : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات : 10 ).

وقال تعالى : ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال : 63 ).

فإنّ اللّه يمنُّ على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه وحّد بهداه قومه ، وهو يعني أنّ التوحيد ورصّ الصفوف هو غاية الإسلام الأكيدة.

إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن أنّ القرآن يريد وحدة الاُمّة الإسلاميّة.

ولذلك قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من أتاكم وأمركم جميع ( مجتمع ) على رجل واحد ، يريد ان يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله أيضاً : « مثل المؤمن من المؤمن كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً » (2).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام في هذا الصّدد : « والزموا السّواد الأعظم ،

ص: 20


1- أخرجه مسلم في صحيحه كما في جامع الاُصول في أحاديث الرسول 3 : 48.
2- مسند أحمد 4 : 404 ورواه غيره من أصحاب الصّحاح والسُّنن.

فإنّ يد اللّه على الجماعة وإيّاكم والفرقة ، فإنّ الشاذّ من النّاس للشّيطان ، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب ألا من دعا إلى هذا الشّعار فاقتلوه ، ولو كان تحت عمامتي هذه » (1).

وقال علیه السلام في حديث آخر : « من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الإمام جاء إلى اللّه عزّ وجلّ أجذم » (2).

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام : « من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه » (3).

إلى غير ذلك من النصوص الإسلاميّة الداعية إلى رصّ الصفوف ، وتعميق الوحدة ، وجمع الكلمة ، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يمكن ان يتحقّق إلاّ بوجود دولة وجهاز يؤلّف بين الآراء ويجمع الكلمة ، ويوفّق بين المصالح ، ويحافظ على العلاقات ، ويعيد الشاذّ إلى رشده والخارج إلى صفّه ، إذ لولا ذلك الجهاز( الدولة ) لذهب كلُّ فريق مذهباً ، واتّخذت كلُّ جماعة طريقاً ، وتمزّق المجتمع أشتاتاً ، وعادت الوحدة اختلافاً وتفرقة.

وصفوة القول : أنّ الدولة عامل الوحدة ورمز التآلف ، بقدر ما هي طاردة للفرقة ، وما نعة عن التخالف.

الثانية : أنّ ملاحظة ذات القوانين الإسلاميّة في مختلف المجالات الحقوقيّة والاجتماعيّة والماليّة تفيد أنّ طبيعتها تقتضي وجود الدولة.

فالإسلام الذي دعا إلى الجهاد والدفاع ، ودعا إلى إجراء الحدود والعقوبات على العصاة والمجرمين ودعا إلى انصاف المظلوم ، وردع الظالم ، وسنّ نظاماً خاصاً وواسعاً للمال.

إنّ الدعوة إلى كلّ هذه الأحكام تدلُّ - بدلالة التزاميّة - على أنّ اللّه قد فرض وجود دولةً قويةً تقوم بإجرائها في المجتمع.

إنّ الإسلام ليس مجرد أدعية خاوية أو طقوس ومراسيم فرديّة يقوم بها كلُّ فرد في

ص: 21


1- نهج البلاغة الخطبة 123 طبعة عبده.
2- الكافي 1 : 405 كتاب الحجة.
3- الكافي 1 : 405 كتاب الحجة.

بيته ومعبده ، بل هو نظام سياسيّ وماليّ وحقوقيّ واجتماعيّ واقتصاديّ واسع وشامل ، وما ورد في هذه المجالات من قوانين وأحكام تدلُّ بصميم ذاتها على أنّ مشرّعها افترض وجود حاكم يقوم بتنفيذها ورعايتها. لأنّه ليس من المعقول سنُّ مثل هذه القوانين دون وجود قوة مجرية وسلطة تنفيذيّة تتعهد إجراءها وتتولّى تطبيقها ، مع العلم بأنّ سنّ القوانين وحده لا يكفي في تنظيم المجتمعات.

ولقد استدلّ السيد المرتضى على لزوم الحكومة ببيان لطيف هذا حاصله : « إنّ بقاء الخلق يتوقّف على اُمور منها الأمر والنهي. قال اللّه تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) ( الأنفال : 24 ) ، وفسّر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولقوله سبحانه : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ) ( البقرة : 179 ) ، فصار الأمر بالمعروف هنا المتمثّل في الاقتصاص من القاتل مبدءاً للحياة.

فإذا كان الأمر والنهي كما توحي هذه الآيات مبدءاً للحياة ، وجب أن يكون للناس إمام يقوم بأمرهم ونهيهم ، ويقيم فيهم الحدود ، ويجاهد فيهم العدو ، ويقسّم الغنائم ، ويفرض الفرائض - أبواب ما فيه صلاحهم - ويحذّرهم عمّا فيه مضارّهم ... ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب بقاء الخلق ... فوجبا وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع أحد ، ولفسد التدبير ، وكان ذلك سبباً لهلاك العباد » (1).

هذا هو ما تفيده النظرة إلى الأحكام والتشريعات الإسلاميّة التي لم تنزّل إلاّ للتنفيذ ، ولم تشرّع إلاّ للتطبيق.

أمّا النصوص الإسلاميّة المصرّحة بضرورة قيام الدولة ووجودها فهي أكثر من أن تحصى ، وقد مرّ في الجزء الأوّل قسم منها ونشير هنا إلى ما لم نشر إليه هناك :

قال الإمام عليّ بن موسى الرضا علیه السلام في حديث طويل حول ضرورة وجود

ص: 22


1- المحكم والمتشابه للسيد المرتضى : 50.

الحكومة في الحياة البشريّة : « إنّا لا نجد فرقةً من الفرق ولا ملّةً من الملل بقوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدّين والدُّنيا ، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق لما يعلم أنّه لابدّ لهم منه ، ولاقوام لهم إلاّ به فيقاتلون به عدوّهم ويقسّمون به فيئهم ، ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم ، ويمنع ظالمهم من مظلومهم » (1).

وقد بلغت أهمية الدولة والحكومة في نظر الإسلام حداً جعلت هي السبب الأساسيُّ في صلاح أو فساد الاُمّة ، حيث قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي ، وإذا فسدا فسدت امّتي ... ».

قيل : يا رسول اللّه ومن هم ؟

قال : « الفقهاء والامراء » (2).

إنّ ضرورة وجود الدولة والحكومة في الحياة البشريّة الاجتماعيّة بديهيّة جداً عقلاً وشرعاً وتاريخيّاً بحيث لا تحتاج إلى سرد المزيد من الأدلة والاستشهادات ولذلك نكتفي بهذا القدر.

* * *

ولأجل هذه الأهمية التي تحظى بها الحكومة الإسلاميّة يتعيّن على علماء الإسلام أن يبذلوا غاية الجهد في توضيح معالمها ومناهجها وخطوطها وخصائصها في جميع العصور والعهود.

وسوف نذكر أنّ هذه الناحية الحسّاسة من حياتنا الاجتماعيّة قد أهملت في أكثر القرون كتابةً وتحقيقاً ودراسةً.

نماذج من الوظائف الحكوميّة في الأحاديث

لم يكن وجود( الحكومة ) ووظائفها في النظام الإسلاميّ بدعاً يمكن أن يدّعيه

ص: 23


1- علل الشرائع : 253 ، الحديث مفصّل وجدير بالمطالعة.
2- تحف العقول : 42.

أحد بدون دليل في القرآن أو السُّنّة.

فمن يطالع الأحاديث والأخبار الواردة عن النبيّ والأئمّة الطاهرين يجد سلسلةً من الوظائف المخوّلة إلى ( الإمام ) وهو يدلُّ بالدلالة الإلتزاميّة على وجود الحكومة في النظام الإسلاميّ ، وأنّ الأئمّة كانوا يعتبرون وجود الإمام والحاكم أمراً مفروضاً ولذلك كانوا يعتبرون هذه الاُمور من وظائف الحاكم.

وبالتالي ، أنّ ما يمكن أن يستظهر من خلال الروايات الكثيرة لزوم وجود ( دولة ) تقوم بالأعمال الاجتماعيّة الكثيرة التي لم يكلّف بها في الإسلام مسؤول خاص من عامّة الناس ، بل جعل أمر إجرائها والقيام بها على عاتق الإمام ( أو الحاكم ).

وذلك يدل على لزوم وجود جهاز تنفيذيّ يقوم بهذه المسؤوليات والأعمال الاجتماعيّة الحيويّة ، ويدلُّ على أنّ الحكومة قد كانت مفروضة الوجود في نظرهم.

واليك نماذج من الأحاديث التي توكل بعض الأعمال إلى ( الإمام ) والحاكم اللّذين يعدّان رمزاً للحكومة. وما ذكرناه في هذه الصحائف قليل من كثير ، ولم نأت بالجميع ابتغاءً للإختصار ، ويمكن للقارئ الكريم أن يجد أكثر ما ذكرناه إذا تصفّح المجاميع الحديثيّة لا سيّما الأجزاء العشرة الأخيرة من وسائل الشيعة :

* * *

1. يقول الإمام الصادق في الأنفال : « وما أخذ بالسّيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذّي يرى كما صنع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بخيبر » (1).

2. وفي الزكاة لمّا سئل الإمام الصادق علیه السلام عمّا يعطى المصّدّق ( أي الذي يجبي الصّدقات ) قال : « ما يرى الإمام ولا يقدّر له شيء » (2).

3. وفي تقسيم الزكاة قال الإمام الصادق علیه السلام : « والغارمين ... يجب على الإمام أن يقضي عنهم ويفكّهم من مال الصدّقات ».

ص: 24


1- وسائل الشيعة 6 : 129.
2- وسائل الشيعة 6 : 144.

« وفي سبيل اللّه قوم يخرجون في الجّهاد ليس عندهم ما يتقوُّون به ، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجُّون به أو في جميع سبل الخير فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصّدقات حتّى يقووا على الحجّ والجهاد ، وابن السبيل أبناء الطريق يكونون في الأسفار في طاعة اللّه فيقطع عليهم ويذهب مالهم فعلى الإمام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصّدقات » (1).

4. وفي احياء الأراضي الميّتة قال الإمام أمير المؤمنين : « من أحيا أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤدّيه إلى الإمام في حال الهدنة فإذا ظهر القائم فليوطّن نفسه على أن تؤخذ منه » (2).

5. سئل الباقر علیه السلام عن المفطر في رمضان بلا عذر مستحلاًّ ، فقال علیه السلام : « يسأل هل عليك من افطارك إثم ؟ فإن قال : لا ، فإنّ على الإمام أن يقتله ، وإن قال : نعم فإنّ على الإمام أن ينهكه ضرباً » (3).

6. وفي رؤية الهلال قال الإمام الباقر علیه السلام : « إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشّمس ، وإن شهدا بعد زوال الشّمس ، أمر الإمام بافطار ذلك اليوم وأخّر الصلاة ( أي صلاة العيد ) إلى الغد فصلّى بهم » (4).

7. وفي أمر إقامة الحجّ قال الإمام الصادق علیه السلام : « لو عطّل النّاس الحجّ لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحجّ إن شاؤوا وإن أبوا ... فإنّ هذا البيت إنّما وضع للحجّ » (5).

8. وفي ادارة اُمور الحجّ روي أنّه لمّا حجّ إسماعيل بن عليّ بالنّاس سنة أربعين ومائة ( أي كان أمير الحجّ ) فسقط أبو عبد اللّه الصادق علیه السلام عن بغلته فوقف عليه إسماعيل ( أي توقّف ) فقال له الصادق علیه السلام : « سر فإنّ الإمام لا يقف » (6).

ص: 25


1- وسائل الشيعة 6 :1. 382.
2- وسائل الشيعة 6 :1. 382.
3- وسائل الشيعة 7 :2. 199.
4- وسائل الشيعة 7 :2. 199.
5- وسائل الشيعة 8 :3. 290.
6- وسائل الشيعة 8 :3. 290.

9. ومثله ما روي عن علي بن يقطين قال : رأيت أبا عبد اللّه ( الصادق ) علیه السلام وقد حجّ فوقف الموقف فلمّا دفع الناس منصرفين سقط أبو عبد اللّه علیه السلام عن بغلة كان عليها فعرفه الوالي الذي وقف بالناس تلك السّنة وهي سنة أربعين ومائة فوقف على أبي عبد اللّه علیه السلام [ أي توقّف لأجله ] فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : « لا تقف فإنّ الإمام إذا دفع بالنّاس لم يكن له أن يقف » (1).

وكان الذي وقف بالناس في تلك السنة اسماعيل بن عليّ بن عبد اللّه بن عبّاس.

10. قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله في أداء دين الغريم : « ما من غريم ذهب إلى وال من ولاة المسلمين واستبان للوالي عسرته إلاّ برء هذا المعسر من دينه وصار دينه على والي المسلمين فيما يديه من أموال المسلمين » (2).

11. قال الإمام الصادق علیه السلام في ذلك أيضاً : « إنّ الإمام يقضي عن المؤمنين الدّيون ما خلا مهور النّساء » (3).

12. قال الإمام الكاظم علیه السلام في ذلك أيضاً : « من طلب هذا الرّزق من حلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه ، فإن غلب عليه فليستدن على اللّه ورسوله ما يقوت به عياله ، فإن مات ولم يقض كان على الإمام قضاؤه ، فإن لم يقض كان عليه وزره. إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا - إلى قوله - وَالْغَارِمِينَ ) ( التوبة : 60 ) فهو فقير مسكين مغرم » (4).

13. قال الإمام الرضا علیه السلام في ذلك أيضا : « المغرم إذا تديّن أو استدان في حقّ أجّل سنةً فإن اتّسع ، وإلاّ قضى عنه الإمام من بيت المال » (5).

14. قال الإمام عليّ علیه السلام في مسؤولية الحاكم اتجاه ثقافة الاُمّة : « على الإمام

ص: 26


1- وسائل الشيعة 8 : 290.
2- مستدرك الوسائل 2 : 491.
3- وسائل الشيعة 15 : 22.
4- قرب الإسناد : 179.
5- الكافي 1 : 407 ونقله العيّاشي في تفسيره 1 : 155.

أن يعلّم أهل ولايته حدود الإسلام والإيمان » (1).

15. قال الإمام عليّ علیه السلام من كتاب له إلى قثم بن العبّاس وهو عامله على مكّة : « واجلس لهم العصرين فافت المستفتي ، وعلّم الجاهل وذاكر العالم » (2).

16. قال الإمام علّي علیه السلام في مسؤوليّة الحاكم اتجاه أصحاب الفكر والمهن : « يجب على الإمام أن يحبس الفسّاق من العلماء والجهّال من الأطبّاء والمفاليس من الأكرياء » (3).

17. قال الإمام الباقر علیه السلام في مسؤولية الحاكم اتّجاه الاسر والعوائل : « من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها ، ويطعمها ما يقيم صلبها كان حقاً على الإمام أن يفرّق بينهما » (4).

18. قال الإمام الصادق علیه السلام في مسؤوليّة الحاكم في أمر المساجين : « على الإمام أن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة ويوم العيد إلى العيد فيرسل معهم ، فإذا قضوا الصلاة والعيد ردّهم إلى السّجن » (5).

19. قال الإمام الصادق علیه السلام أيضاً في مسؤوليات الحكام اتّجاه الفسّاق والمنحرفين خلقيّاً : « الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره ، لأنّه أمين اللّه في خلقه وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه ، ويمضي ويدعه ».

قلت : وكيف ذلك ؟

قال : « لأنّ الحقّ إذا كان لله ، فالواجب على الإمام إقامته ، وإذا كان للنّاس فهو للنّاس » (6).

20. في موقف الإمام اتجاه المحارب ، قال الإمام الصادق علیه السلام : « إذا كانت

ص: 27


1- غرر الحكم : 215.
2- نهج البلاغة قسم الكتب الرقم 67.
3- وسائل الشيعة 18 : 221.
4- وسائل الشيعة 15 : 223.
5- وسائل الشيعة 18 : 221 - 244.
6- وسائل الشيعة 18 : 221 - 244.

الحرب قائمةً ولم تضع أوزارها ولم يثخن أهلها فكلُّ أسير أخذ في تلك الحال فإنّ الإمام فيه بالخيار إن شاء ... وإن ... » (1).

21. وفي أمر القصاص قال الإمام الصادق علیه السلام : « إذا اجتمعت العدّة على قتل رجل واحد حكم الوالي أن يقتل أيُّهم شاؤوا » (2).

22. وقال الإمام الباقر علیه السلام : « من قتله القصاص بأمر الإمام فلا ديّة له في قتل ولا جراحة » (3).

23. وقال الإمام الباقر علیه السلام في رجل قتل مجنوناً كان يقصد قتل الرجل : « أرى أن لا يقتل به ولا يغرّم ديّته وتكون ديّته على الإمام ولا يبطل دمه » (4).

24. وقال الإمام الباقر علیه السلام حول أعمى فقأ عين صحيح : « إنّ عمد الأعمى مثل الخطأ ، هذا فيه الديّة في ماله ، فإن لم يكن له مال فالدّية على الإمام ولا يبطل حقُّ امرئ مسلم » (5).

25. وقال الإمام الباقر علیه السلام في رجل جرح رجلاً في أوّل النهار وجرح آخر في آخر النّهار : « هو بينهما ما لم يحكم الوالي في المجروح الأوّل ... الخ » (6).

26. وقال في حكم من قتل وعليه دين وليس له مال : « إن قتل عمداً قتل قاتله وأدّى عنه الإمام الدّين من سهم الغارمين » (7).

27. وقال الإمام الصادق علیه السلام في الرجل يقتل وليس له وليّ إلاّ الإمام : « إنّه ليس للإمام أن يعفو ، له أن يقتل أو يأخذ الديّة » (8).

28. وقال أمير المؤمنين علیه السلام في قتيل في زحام ونحوه لا يدرى من قتله : « إن كان عرف له أولياء يطلبون ديّته أعطوا ديّته من بيت مال المسلمين ولا يبطل دم امرئ مسلم لأنّ ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته على الإمام » (9).

ص: 28


1- وسائل الشيعة 11 : 53.
2- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
3- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
4- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
5- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
6- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
7- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
8- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
9- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.

29. وقال الإمام علي علیه السلام فيمن لم يكن له من يحلف معه ولم يوثق به على ما ذهب من بصره وأبى أن يحلف : « الوالي يستعين في ذلك بالسّؤال والنّظر والتثبُّت في القصاص والحدود والقود » (1).

30. وقال الإمام الصادق علیه السلام في ميّت قطع رأسه قال : « عليه الديّة » ، فقيل فمن يأخذ ديّته ؟ قال : « الإمام ... هذا لله » (2).

31. وقال علیه السلام في القاتل عمداً إذا هرب : « إن كان له مال أخذت الديّة من ماله وإلاّ فمن الأقرب فالأقرب ، وإن لم يكن له قرابة أدّاه الإمام ، فإنّه لا يبطل دم امرئ مسلم ».

وفي رواية اخرى : « ثمّ للوالي بعد أدبه وحبسه » (3).

32. وقال الصادق علیه السلام في من قتل خطأً إذا مات قبل دفع الديّة وليس له عاقلة : « إن لم يكن له عاقلة ؛ فعلى الوالي من بيت المال » (4).

هذا والملحوظ ؛ أنّ بعض الروايات وإن كان ظاهراً في الإمام المعصوم إلاّ أنّ كثيراً من هذه الروايات ظاهر في مطلق القائم بالإعمال المذكورة سواء أكان معصوماً أم غير معصوم ، وهو يعني مطلق الحاكم الإسلاميّ.

ويدلُّ على ذلك رواية 8 و 9 حيث يسمّي فيهما الإمام الصادق علیه السلام أمير الحاجّ والوالي بالإمام ممّا يدلّ على أنّ لفظ الإمام الموجود في هذه الرواية وأشباهها يراد به مطلق الحاكم الإسلاميّ ووليّ أمر المسلمين وليس الإمام المعصوم المصطلح في علم الكلام.

ويؤيّد هذا الاتّجاه ما قاله صاحب وسائل الشيعة في تعليقه على إحدى الروايات المشتملة على لفظ الإمام كالروايات المذكورة هنا : « الإمام العدل أعمُّ من المعصوم » (5).

وصفوة القول ، أنّ الناظر في هذه الروايات يجد أنّ هناك أحكاماً اجتماعيّةً

ص: 29


1- وسائل الشيعة 19 : 220 - 248 - 303 - 304 - 402.
2- وسائل الشيعة 19 : 220 - 248 - 303 - 304 - 402.
3- وسائل الشيعة 19 : 220 - 248 - 303 - 304 - 402.
4- وسائل الشيعة 19 : 220 - 248 - 303 - 304 - 402.
5- وسائل الشيعة 19 : 220 - 248 - 303 - 304 - 402.

اقتصاديّةً أخلاقيّةً وغيرها ، جعلها الإسلام على عاتق الإمام أو الوالي أو من شابههما وذلك يفيد أنّ ماهيّة هذه الأحكام ماهيّة خاصّة يتوقّف تحقيقها في الخارج على وجود سلطة وجهاز يجريها في المجتمع ، وقد عبّر في هذه الروايات - عن تلك السلطة والجهاز - بالإمام والوالي أو السلطان أي صاحب السلطة ، وذلك يدلُّ - بالدلالة الإلتزاميّة - على أنّ هذه أحكام سلطانيّة ، وواجبات حكوميّة لا تنفكُّ عن وجود السلطة والدولة وقد فرضها الأئمّة علیهم السلام مسلّمة الوجود في الواقع الخارجي.

وإنمّا أدرجنا لك نموذجاً من هذه الأحاديث لإثبات أمر واحد هو ، أنّ الحكومة الإسلاميّة أمر مسلّم الوجود وإيجادها فريضة يتوقّف عليها الكثير من الأحكام الدينيّة ، ومع ذلك كيف يسمح البعض لأنفسهم أن يقولوا : إنّ الإسلام يمكن أن يطبّق في المجتمع دون حاجة إلى حكومة قويّة ، وسلطة سياسيّة قادرة.

قال الإمام الخميني قائد الثورة الإسلاميّة في محاضراته عن الحكومة الإسلاميّة : « والحقُّ أنّ القوانين والأنظمة الاجتماعيّة بحاجة إلى منفّذ. في كلّ دول العالم لا ينفع التشريع وحده ، ولا يضمن سعادة البشر ، بل ينبغي أن تعقب سلطة التشريع سلطة التنفيذ فهي وحدها التي تنيل الناس ثمرات التشريع العادل.

لهذا قرّر الإسلام إيجاد سلطة التنفيذ إلى جانب سلطة التشريع فجعل للأمر وليّاً للتنفيذ إلى جانب تصدّيه للتعليم والنشر والبيان » (1).

وصفوة القول ، أنّ ضرورة وجود الحكومة في الحياة الاجتماعيّة ممّا دلّ عليه العقل والكتاب والسُّنّة وسيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة بما لا يقبل جدلاً ، ولذلك نكتفي بما سردناه لك وفيه كفاية.

ص: 30


1- الحكومة الإسلاميّة للإمام الخمينيّ : 24.

2

لماذا يرفض البعض وجود الحكومة ؟

اشارة

« إنّ المنكرين لضرورة وجود الدولة في الحياة الاجتماعيّة على طائفتين :

الاولى : من يقول بعدمها ، ويعلّل ذلك بفلسفة ونظرية معتبرة عنده وهم ماركس وأتباعه.

الثانية : من ينكر ذلك لمجرّد عوامل نفسيّة وهم على فرق ثلاث ».

رغم أنّ ضرورة قيام الدولة وايجادها لم تكن موضع ترديد وشكّ - كما أثبتت البحوث المتقدّمة - لما فيها من ضمان لسعادة الحياة الانسانيّة وتقدم الحضارة وديمومتها واستقامتها ، فإنّ هناك شرذمةً قليلةً من الناس تستوحش من قيام الدولة وتتوجّس خيفةً من وجودها وتنفي ضرورتها ... وربّما يصبُّ بعضهم هذا المذهب الباطل في قالب منطقيّ فيقول : إنّ وجود الحكومة ضرورة ملحّة للبشر لفترة خاصة من الزمان فقط ، وليس دائماً.

وينقسم أصحاب هذا الرأي إلى طوائف أربع :

الطائفة الاُولى : هم ماركس ومؤيّدوه ، فهم يعتقدون بضرورة وجود الدولة مادام المجتمع البشريّ يعاني من « الصراع الطبقي » ولكنّه بعد استقرار الشيوعيّة وزوال جميع

ص: 31

الفوارق والمشكلات الاقتصاديّة تنتفي الحاجة إلى الدولة.

وقد مضت الإجابة الكاملة على هذه النظرية الخاطئة في الجزء الأوّل من كتابنا.

فهناك قلنا : بأنّ الدوافع الحقيقية إلى وجود الدولة لا تنحصر في المسائل الماديّة ، والمشاكل الاقتصاديّة ، ليزول الاختلاف والتصارع بمجرّد محو الفوارق الطبقيّة ، وزوال الصراع الطبقي وتنتفي الحاجة إلى الدولة. بل هناك دوافع أخلاقيّة وغرائزيّة إلى جانب المسائل الاقتصاديّة - سبق شرحها - (1) ولأجلها لامناص للمجتمع - كيفما كان - من تأسيس الدولة وإقامتها.

الطائفة الثانية : هم أصحاب السوابق السوداء الذين تضمن الأوضاع الفوضويّة وغياب السلطة الحكومية مصالحهم الخاصّة ، ويخشون طائلة الحساب والعقاب والملاحقة والمؤاخذة ، ولذلك نجدهم يعارضون وجود الدولة ليتسنّى لهم المضيُّ في ما يريدون دون محاسب أو رقيب ، ودون شيء يعرّض مصالحهم للخطر ، ويسدّ عليهم طريق النهب والسلب !!

الطائفة الثالثة : وهم الذين لم يعهدوا من الحكومات إلاّ العنف والجور والاستبداد وخدمة الأقوياء ، وسحق المستضعفين وهضم حقوقهم ، وامتصاص دمائهم ، ونهب خيراتهم وهدر كرامتهم. فهم بمجرد سماع لاسم الدولة يتذكرون فوراً تلك الحكومات الجائرة وسجونها المخيفة ، وتعذيبها الوحشيّ الذي كان ينتظر أي معارض أو معترض ... ولذلك فهم ينفرون من سماعهم اسم الدولة ، ويخشون من قيامها أشدّ خشيةً لما يلازمها من صور الاستبداد والعنف والظلم !!

غير أنّ هذا الفريق لو تسنّى له أن يقف على صيغة ( الحكومة الإسلاميّة ) بخصائصها المطلوبة منها ، وما تتّسم به من إنسانيّة ورحمة وعدل ، لما اتخذ هذا الموقف السلبيّ من الحكومة التي يدعو الإسلام إلى انشائها وايجادها. بل لاستقبلها برحابة صدر ، ولسعى إلى إيجادها وإقامتها سعياً.

ص: 32


1- راجع الجزء الاول من كتابنا : 572.

الطائفة الرابعة : هم الذين يبتغون الحرّيات الفرديّة مطلقةً لا تحدُّها حدود ، أو يتصورون أنّ قيام الدولة والحريّة الفرديّة أمران متناقضان لا يجتمعان ... فالدولة تزاحم هذه الحريات وتحدّها على الإطلاق.

والحقُّ أنّ هذا الفريق لم يفرّق بين الحرية اللائقة بالإنسان ، اللازمة له ، والحريّة السائدة في عالم الغاب.

فالحريّة السائدة في الغاب ، تعني عدم التقيّد بأيّة سنّة معقولة ، وأي قانون يحفظ الحقوق وأيّ حدود تحفظ الكرامات ... فهناك تفعل الحيوانات والوحوش ما تشاء ، بمجرّد أن تكون ذات قوّة غالبة ، وشهوة عارمة ومخالب أشدّ فتكاً وبأساً.

وأمّا الحرية اللائقة بالانسان الجديرة بشأنه ومكانته ، فهي التي تكون ضمن قوانين وسنن وحدود وموازين معقولة تضمن نموّ القوى البشريّة ، وتكامل المواهب الإنسانيّة وسيرها في الاتجاه الصحيح ، وبلوغها إلى كمالها الممكن ، ولا يتأتّى ذلك إلا في إطار حريّة معقولة محسوبة.

وبعبارة اخرى : أنّ الحريّة الصحيحة اللائقة بالإنسان إنّما هي توفير الفرص المناسبة لنموّ الاستعدادات والقابليّات الانسانيّة في الفرد والمجتمع ، لانتقالها من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعليّة ، وبالتالي رشدها وبلوغها إلى درجة الكمال الممكن.

وحيث إنّ هذا النمو والبلوغ لا يمكن أن يتمّ في جو من الفوضى ، بل لابدّ من شروط وحدود ، تكون القوانين والسنن الصالحة هي تلك الشروط التي تضمن ذلك البلوغ ، لا أن تقيّده وتمنع من تحقُّقه كما يتوهّم.

وحول الحريّة المعقولة الصحيحة يقول الإمام الصادق علیه السلام لإسماعيل البصريّ : « تقعدون في المكان فتحدّثون وتقولون ما شئتم ، وتتبرّؤون ممّن شئتم ، وتولّون من شئتم ؟ ».

قال إسماعيل : نعم.

ص: 33

قال الإمام علیه السلام : « وهل العيش إلا هكذا » (1).

إنّ الحريّة الصحيحة في نظر الإمام علیه السلام هو أن يستطيع الإنسان أن يختار عقيدته وولاءه بنفسه بعد أن يتبيّن له الرشد من الغيّ ، ليستطيع في ظلّ الاختيار الإراديّ الصحيح ، أن يسير في طريق التكامل الإنسانيّ المطلوب.

إنّ الحكومة النابعة من إرادة الشعب فضلاً عن الحكومة التي يدعو إليها الإسلام ، لا تهدف إلاّ حراسة مثل هذه « الحريّة المعقولة » التي تساعد المواهب والقابليات على التفتُّح والنموّ والتكامل ، فلا مخالفة ولا منع ولا تحديد.

هذا مضافاً إلى أنّ الحاكم في نظام الحكم الإسلاميّ بما أنّه من جانب اللّه سبحانه ، لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر اللّه به أو نهى عنه ، وهو تعالى لا ينهي عن شيء ولا يأمر إلاّ بما فيه كمال الإنسان وارتقاؤه وتفتُّح مواهبه ونموّها ، ودفع قابلياته واستعداداته إلى مرحلة الفعليّة والتحقّق ، والنضج.

وإليك شطراً من النصوص الإسلاميّة التي ترسم لنا بعض ملامح الحكومة التي ينشد الإسلام إيجادها وإقامتها ، آخذين هذه النصوص من القرآن الكريم والأحاديث الإسلاميّة الصحيحة.

ملامح الحكومة الإسلاميّة حسب النصوص :

إنّ الحاكم الإسلاميّ - في منطق القرآن وحسب تشريعه - ليس مجرّد من يأخذ بزمام الجماعة كيفما كان ، ويأمر وينهى بما تشتهيه نفسه ، ويحكم على الناس لمجرّد السلطة وشهوة الحكم ، بل هو ذو مسؤوليّة كبيرة وثقيلة أشار إليها القرآن الكريم بقوله :

( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج : 41 ).

ص: 34


1- الكافي 8 : 229.

فالمسؤوليّات الملقاة على عاتق الحاكم في الإسلام عبارة عن :

1. إقامة الصلاة ، وتوثيق عرى المجتمع الإسلاميّ بربّه الذي فيه كلّ الخير.

2. إيتاء الزكاة الذي فيه تنظيم اقتصاده ومعاشه.

3. الأمر بالمعروف ، وإشاعة الخير والصلاح في المجتمع.

4. النهي عن المنكر ، ومكافحة كلّ ألوان الفساد والانحراف ، والظلم والزور.

ومن المعلوم ، أنّ حكومةً كهذه ، توفّر للاّئقين والصالحين وذوي القابليات والمواهب فرصاً مناسبةً لإبراز مواهبهم ، وتهيّئ الظروف المساعدة لتنمية استعداداتهم العلميّة والفكريّة ، في جميع المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وتدفعها في طريق التقدُّم والازدهار.

فإذا كانت هذه الحكومة التي ينشدها الإسلام ويدعو النّاس كافّة إلى إقامتها فأيُّ شيء يبرّر الخوف والاستيحاش منها ؟ ولماذا يخشى البعض من إقامتها وهي أجدر الحكومات بإسعاد الشعوب ، وإصلاح أمرها ، وضمان مصالحها ، وحماية حقوقها وكرامتها على أحسن وجه ؟

وسيوافيك بعض الآيات الاخرى في المباحث الآتية.

وأمّا ما يصور لنا ملامح الحكومة الإسلاميّة من الأخبار والأحاديث ، فقول الرسول الأكرم محمّد صلی اللّه علیه و آله : « لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال :

ورع يحجزه عن معاصي اللّه.

وحلم يملك به غضبه

وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرّحيم » (1).

وقوله صلی اللّه علیه و آله في ردّ من قال : بئس الشّيء الإمارة ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « نعم الشّيء الإمارة لمن أخذها بحلّها وحقّها ، وبئس الشّيء الامارة لمن أخذها بغير حقّها وحلّها تكون عليه

ص: 35


1- الكافي 1 : 407.

يوم القيامة حسرةً وندامةً » (1).

وقوله صلی اللّه علیه و آله في جواب من سأله عن الإمارة ، فقال : « إنّها أمانة وإنّها يوم القيامة حسرةً وندامةً ، إلاّ من أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها » (2).

وقوله صلی اللّه علیه و آله : « لعمل الإمام العادل في رعيّته يوماً واحداً أفضل من عبادة العابد في أهله مائة عام » (3).

ولمّا دخل « سعد » على « سلمان » عندما كان حاكماً في المدائن ، يعوده في مرضه ، قال له سعد : « اعهد علينا أبا عبد اللّه عهداً نأخد به ».

فقال : « اذكر اللّه عند همّك إذا هممت ، وعند يدك إذا قسمت ، وعند حكمك إذا حكمت » (4).

وهذه صورة عن التربية الإسلامية التي ربّى بها الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله أصحابه وأتباعه. فهو ربّاهم على ، أن يذكروا اللّه عند العزم على كلّ شيء ، وعند القسمة ، والحكم.

ثمّ هاهو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يتحدّث عن مسؤولية الحاكم ، اتّجاه الاُمّة الإسلاميّة التي يأخذ بزمام حكمها فيقول : « كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته.

فالأمير الذي على النّاس ، راع عليهم وهو مسؤول عنهم.

والرّجل ، راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم.

وامرأة الرّجل ، راعية على بيت زوجها ، وولدها وهي مسؤولة عنهم

ألا فكلّكم راع ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته » (5).

كما يمكن أن تستجلى ملامح الحكومة الإسلاميّة وصفات الحاكم الإسلاميّ من قول الإمام عليّ علیه السلام الذي يرسم لنا ما على الحاكم الإسلاميّ ، اتّجاه الشعب ، وما

ص: 36


1- كتاب الأموال للحافظ أبي عبيد سلام بن القاسم المتوفّى عام 225 ه : 10.
2- الأموال :2. 13 - 13 - 1.
3- الأموال :2. 13 - 13 - 1.
4- الأموال :2. 13 - 13 - 1.
5- الأموال :2. 13 - 13 - 1.

على الشعب ، اتّجاه الحاكم إذ يقول - في وضوح كامل - :

« وأعظم ما افترض اللّه من تلك الحقوق ، حقُّ الوالي على الرّعيّة وحقُّ الرّعيّة على الوالي ، فريضةً فرض اللّه سبحانه ، لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاماً لالفتهم ، وعزاً لدينهم ، فليست تصلح الرّعيّة إلا بصلاح الولاة ، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرّعيّة.

فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إليها حقّها عزّ الحقُّ بينهم ، وقامت مناهج الدّين ، واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السُّنن ، فصلح بذلك الزّمان ، وطمع في بقاء الدّولة ويئست مطامع الأعداء ، وإذا غلبت الرّعيّة واليها أو أجحف الوالي برعيّته اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الإدغال في الدّين ، وتركت محاجُّ السُّنن ، فعمل بالهوى ، وعطّلت الأحكام وكثرت علل النفوس ، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل ، ولا لعظيم باطل فعل ، فهنالك تذلُّ الأبرار ، وتعزُّ الأشرار ، وتعظّم تبعات اللّه عند العباد » (1).

ثمّ إنّ الإمام عليّاً علیه السلام يصرّح في هذه الخطبة ذاتها بالحقوق المشتركة والمسؤوليات المتقابلة إذ يقول : « أمّا بعد ، فقد جعل اللّه لي عليكم حقّاً بولاية أمركم ، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم ».

ثم يشير الإمام علیه السلام في هذه الخطبة إلى واحدة من أنصع القوانين الإسلاميّة ، وهو قانون التسوية بين جميع أفراد الاُمّة الإسلاميّة حكّاماً ومحكومين ، رؤوساء ومرؤوسين ، وزراء ومستوزرين ، وبذلك ينسف فكرة : أنا القانون ، أو أنا فوق القانون ، فيقول علیه السلام : « ... الحقُّ لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه ، ولا يجري عليه إلاّ جرى له ».

وعلى هذا ، فلا تمييز ولا تفرقة بين الحاكم والمحكوم بل الجميع أمام القوانين الإسلاميّة المدنيّة والجزائيّة وغيرها سواء ، وعلى الحاكم والرئيس أن يؤدّي حقوق الناس كأيّ فرد من أفراد الاُمّة العاديين ، وبذلك يدعم الإمام ما روي عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إذ يقول : « النّاس أمام الحقّ سواء ».

ص: 37


1- نهج البلاغة : الخطبة 211 ، طبعة عبده.

وهو علیه السلام في موضع آخر يلخّص هدف الحكم الإسلاميّ في كلمتين لا أكثر ، يقول ابن عبّاس : دخلت خيمة عليّ علیه السلام بذي قار ، فوجدته يخصف نعله ، فقال لي : « ما قيمة هذه النعل » ؟

فقلت : لا قيمة لها.

فقال : « واللّه لهي أحبُّ إليّ من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً » (1).

ثمّ ها هو علیه السلام يوصي أحد ولاته بقوله : « ... وأشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة والمحبّة لهم ، واللطف بهم ، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان : إمّا أخ لك في الدّين أو نظير لك في الخلق » (2).

فإذن ليست الحكومة في ظلّ الإسلام إلاّ الرحمة والمحبّة واللطف التي يجب أن تعمّ كلّ المواطنين ، لا السبعيّة والغلظة التي تتّصف بها الحكومات غير الإسلاميّة.

كما يمكن أن نعرف طبيعة الدولة الإسلاميّة من كلام الإمام الشهيد الحسين بن عليّ علیه السلام إذ يقول : « اللّهمّ ، إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك » (3).

إنّ المتخوّفين من قيام الدولة مطلقاً أو من قيام الحكومة الإسلاميّة خاصّةً ، إمّا أنّهم يجهلون أهداف الحكومة الإسلاميّة ، وإمّا أنّهم من ذوي السوابق السوداء والمطامع الرخيصة ، فيرعبهم قيام الحكومة الإسلاميّة العادلة خيفةً من الفضيحة ، أو خشيةً من العقاب.

إنّ الدولة الإسلامية لا تشمل المواطنين المسلمين فقط ، بعدلها ورحمتها ولطفها ، بل تشمل من سواهم من أهل الملل الاخرى كاليهود والنصارى وغيرهم ، بذلك حتّى

ص: 38


1- نهج البلاغة : الخطبة 32.
2- نهج البلاغة : الرسالة 53 لمالك الأشتر واليه على مصر.
3- تحف العقول : 172 ، طبعة بيروت.

أنّهم يجدون في ظلّها من كرامة العيش ، وشرف الحياة ما لا يجدون نظيره في ظّل الدول المتديّنة بدينهم ، والمنتحلة لعقائدهم ، والتاريخ الإسلاميّ المدوّن أفضل دليل على ذلك.

ففي التاريخ الإسلاميّ نرى ، كيف كان يرجّح النصارى واليهود الحياة في ظلّ الدولة الإسلاميّة ورعايتها على الحياة في ظلّ السلطات والدول التي كانوا يعيشون فيها ، وكيف أنّهم كانوا يفتحون صدورهم للفتوحات الإسلاميّة ، ويقبلون بسيادة المسلمين لأنّهم كانوا يجدون في كنفهم دفء الرحمة وحرارة الإيمان وبرد الإحسان.

ولأجل ذلك ، فإنّ أوّل خطوة خطاها رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله بعد استقراره في يثرب - المدينة - وبعد تشكيل أوّل حكومة إسلاميّة هو عقد وثيقة تعايش بين المسلمين وغيرهم وقّعها النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله والمسلمون وأهل المدينة من اليهود وغيرهم ، تحدّد العلاقات الإنسانيّة ، والحقوق المتقابلة بين المسلمين وغيرهم ، وهي بذلك تعتبر قانوناً أساسياً للدولة الإسلاميّة ، بل تمثّل وثيقةً عالميّةً خالدةً لحقوق الإنسان.

وإليك مقتطفات مهمّة من هذه الوثيقة : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ... هذا كتاب من محمّد النبيّ [ رسول اللّه ] بين المؤمنين والمسلمين من قريش و [ أهل ] يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم ، إنّهم امّة واحدة من دون النّاس ».

ثمّ بعد أن ذكر النبيّ القبائل الإسلاميّة وما يقع عليها من مسؤوليّة حفظ الأمن ومساعدة الضعيف وإجراء العدل والقسط ، ذكر اُموراً ترتبط بعامة المسلمين فكتب صلی اللّه علیه و آله يقول : « وأن لايخالف مؤمن مولى مؤمن دونه [ أي لا ينقض عهداً عهده مع غيره ] وإنّ المؤمنين المتّقين أيديهم على كلّ من بغى منهم ، أو ابتغى دسيعة ظلم ، أو إثماً ، أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين ، وإنّ أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم ..

وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النّصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.

وإنّ يهود بني عوف امّة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم

ص: 39

وأنفسهم ، إلاّ من ظلم وأثم فإنّه لا يوتغ إلاّ نفسه وأهل بيته.

وإنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم ، وإنّ بينهم النّصر على من حارب أهل هذه الصّحيفة وإنّ بينهم النُّصح والنّصيحة والبرّ دون الإثم » (1).

وخلاصة هذا الكتاب - الميثاق - هي :

1. جعل المسلمين امّةً واحدةً على اختلاف شعوبهم وقبائلهم.

2. إقرار المهاجرين من قريش على عاداتهم وسننهم في أحكام الديات والدماء ، وقد نسخ ذلك فيما بعد بفرض الحدود والديات على أسلوب خاص.

3. مسؤولية المهاجرين عن فداء أسيرهم وتخليصه من أيدي المشركين.

4. المسؤوليّة الشاملة لجميع الطوائف والقبائل بأن تفدي أسيرها بالقسط والمعروف.

5. إقرار القبائل التي وردت أسماؤها في الصحيفة على عاداتهم ، وإنّ كلّ طائفة منهم مسؤولة عن فداء عانيها.

6. قيام المؤمنين بإعانة المثقل منهم بالديون من أجل الفداء.

7. إنكار البغي والظلم وشجبه في جميع المجالات ومناهضة القائم به وإن كان ولداً لأحدهم فإنّهم مسؤولون عنه جميعاً لو أخلّوا به.

8. عدم قود المؤمن بالكافر لو قتله ، فتؤخذ منه الديّة لا غير.

9. منح أدنى المسلمين أن يجير أي شخص شاء.

10. عدم السماح للمشركين بأن يجيروا مالاً أو دماً للمشركين من قريش.

11. إنّ القاتل للمؤمن من غير سبب يقاد به إلاّ أن يرضي أولياء المقتول بالديّة فتؤخذ منه.

ص: 40


1- سيرة ابن هشام 1 : 501 ، الأموال : 517 طبعة مصر ، البداية والنهاية 3 : 224 - 226.

12. عدم السماح للمسلمين بنصرة المحدثين والمبتدعين في الإسلام ولزوم مقاومتهم.

13. قيام النبيّ صلی اللّه علیه و آله بحلّ مشاكلهم والخصومات التي تحدث بين المسلمين أو بينهم وبين اليهود.

14. منح اليهود الحقوق العامّة من الأمن والحريّة وغير ذلك بشرط أن يسايروا المسلمين ولا يعيثوا فساداً في الأرض.

15. إعتبار الجار كالنفس غير مضار ولا إثم.

وهذه هي بعض بنود تلك المعاهدة التاريخية (1).

ولم تكن هذه سيرة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله فحسب مع غير المسلمين من مواطني الدولة الإسلاميّة ، بل كانت سيرة الدولة الإسلاميّة حتّى بعد الرسول الكريم.

فها نحن نرى كيف يساوي الدين الإسلامي بين الحاكم والمحكوم في جميع المجالات ... ومنها القضاء. وإليك مثلاً على ذلك.

وجد الإمام عليّ علیه السلام - أيام خلافته - درعه عند يهوديّ من عامّة الناس ، فأقبل به إلى أحد القضاة ، وهو شريح ، ليخاصمه ويقاضيه ، ولمّا كان الرجلان أمام القاضي قال الإمام عليّ : « إنّها درعي ولم أبع ولم أهب ».

فسأل القاضي الرجل اليهوديّ : ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ؟ فقال اليهوديّ : ما الدرع إلاّ درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب.

وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله : هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك ؟ فضحك عليّ ، وقال : « أصاب شريح ، مالي بيّنة ».

فقضى شريح بالدرع للرجل اليهودىّ ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه ! إلاّ أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول : أمّا أنا فأشهد أنّ هذه أحكام

ص: 41


1- النظام السياسيّ في الإسلام : 155 - 156.

أنبياء ، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ...

ثمّ قال : الدرع واللّه درعك ياأمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت.

وبعد زمن شهد الناس هذا الرجل وهو من أصدق الجنود ، وأشدّ الأبطال بأساً وبلاءً في قتال الخوارج يوم النهروان إلى جانب الإمام عليّ (1).

وفي رواية مماثلة : أنّ يهودياً خاصم عليّاً علیه السلام في أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فقال له عمر : قم يا أبا الحسن وقف مع خصمك.

فتغيّر وجه الإمام علیه السلام وبعد الانتهاء من المرافعة قال له عمر : يا أبا الحسن لعلّه ساءك أمري ؛ أن تقف مع خصمك اليهوديّ ؟

قال علیه السلام : « كلاّ ، وإنّما ساءني أنكّ كنّيتني ولم تساو بيني وبين خصمي ، والمسلم واليهوديّ أمام الحقّ سواء » (2).

كما مرّ شيخ أعمى كبير السنّ يستجدي ويسأل الناس فقال عليّ علیه السلام - وهو آنئذ في أيّام خلافته - : « ما هذا » ؟

فقالوا : يا أمير المؤمنين نصرانيّ !

فقال أمير المؤمنين : « استعملتموه حتّى إذا كبر وعجز منعتموه ؟ أنفقوا عليه من بيت المال » (3).

وقبل كلّ ذلك يشير القرآن الكريم إلى قانون التسامح الدينيّ هذا ، فهو يسمح للمسلمين بأن يعاملوا غيرهم من الطوائف والجماعات غير المسلمة بالعدل والرفق ، والشفقة ما داموا لا يتآمرون على المسلمين ولا يسيئون إلى أمنهم ، ولا يؤذونهم بالقتال أو

ص: 42


1- الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة : 87 - 88 ، بحار الأنوار 9 : 598 طبعة تبريز مع اختلاف يسير.
2- الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة : 49.
3- الوسائل 11 : 49 ( الطبعة الجديدة ).

الإخراج من البلد. فيقول : ( لا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الممتحنة : 8 - 9 ).

فالإسلام لا يمنع عن البرّ والقسط إليهم ، وإنّما منع عن الذين ظاهروا على المسلمين وتآمروا ضدّهم.

إنّ هذه الآية تعطي ميزاناً كلّيّاً لكيفية تعامل المسلمين مع غيرهم ، والميزان هو مسالمة كلّ من سالم ومعاداة كلّ من عادى.

وممّا يؤيّد هذا الأمر قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ) ( آل عمران : 118 ).

إذن ، فالقرآن يمنع من التسامح مع الآخرين إذا كانوا يعادون المسلمين ويتعاونون مع المشركين لإيذاء المسلمين.

إنّ نظرةً واحدةً إلى التاريخ الإسلاميّ تكشف لنا ، أنّ عدل الحكومات الإسلاميّة وعفوها ولطفها كان سبباً لأن يرجّح الكثير من المسيحيين وغيرهم ، العيش في ظل النظام الإسلاميّ رغبةً وطواعية لما رأوا وسمعوا ولمسوا من مسامحة المسلمين وحسن معاملتهم ، ولما لمسوه من حكّامهم المتديّنين بدينهم من الظلم والجور على خلاف المسلمين وحكّامهم.

وإليك ما ذكره البلاذري في هذا المجال : ( لمّا جمع هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ، ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج ، وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم ، فقال أهل حمص [ وكانوا مسيحيّين ] : لولايتكم وعدلكم أحبُّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم ، والغشم ، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ، ونهض اليهود فقالوا :

ص: 43

والتوراة ، (1) لا يدخل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد ، فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود ، وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه [ من الظلم والحرمان ] وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.

فلمّا هزم اللّه الكفرة وأظهر المسلمين ، فتحوا مدنهم ، وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج ) (2).

هذا ، والشواهد والأمثلة التاريخية على هذا الموضوع أكثر من أن تحصى.

وقد بلغ تسامح الدول الإسلاميّة في التاريخ حداً عجيباً ، إذ أشرك المسيحيون وغيرهم في الأجهزة الحكوميّة ، وهو يدل على العناية القصوى بغير المسلمين.

وستوافيك هذه النصوص وغيرها عند البحث عن السلطة القضائية وحقوق الأقلّيات في الإسلام ، وما ذكرناه هنا سوى لمحة عابرة اقتضاها المقام.

الحكومات الجائرة

ليس من الغريب أن تتبادر إلى أذهان البعض من شعوب الشرق - عند سماع اسم الحكومة - صورة مخيفة عن الحكومات الجائرة والحكام الجائرين ، فإنّ شعوب هذه المنطقة عانت طوال قرون متمادية أسوأ أنواع الظلم والاضطهاد على أيدي الحكومات المستبدّة.

ولذلك ، سرعان ما يتبادر إلى أذهانهم صورة الحاكم القاهر ، والأمير المتسلّط الذي يمتصُّ دماء الناس ، وينهب أموالهم ، ويتحالف مع أضرابه من الظالمين ومع القوى الأجنبيّة لترسيخ دعائم عرشه. ولكنّ الغاية التي يتوخاها الإسلام ، ليست هي

ص: 44


1- أي قسماً بالتوراة.
2- فتوح البلدان للبلاذري ( المتوفّى سنة 279 ه ) : 143 ، وراجع أيضاً ( الدعوة إلى الإسلام ) للسير توماس ارنولد.

إيجاد مثل هذه الحكومات الجائرة المستبدّة ، إنّما هي : الحكومة الصالحة العادلة الحائزة لرضا الاُمّة ، الملتزمة بإجراء القوانين الإلهيّة العادلة.

ومن المعلوم ، أنّ مثل هذه الحكومة لن تهدف إلاّ خدمة الامة ، وحماية حقوقها وحرمتها وصيانة كرامتها ، وتحقيق سعادتها ، ولذلك فهي تعيش في ضمير الاُمّة وترتبط بوجدانها.

إنّ ما ينشد الإسلام إقامته وإيجاده هو : الدولة العادلة التي رسم الإمام عليّ علیه السلام أهمّ خطوطها في عهده المشهور لمالك الأشتر الذي ولاّه على مصر ، حيث يقول في موضع منه : « واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك ، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك ، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع » (1).

إنّ الحاكم العادل - في نظر الإسلام - هو من يشارك شعبه في أفراحه وأتراحه ، وفي آلامه وآماله ، لا أن يعيش في البروج العاجيّة ، متنعّماً في أحضان اللّذة ، رافلاً في أنواع الخير ، غير عارف بأحوال من يسوسهم ، كما قال الإمام عليّ علیه السلام وهو يرسم بذلك ملامح الحكومة الإسلاميّة الصالحة : « ءأقنع من نفسي بأن يقال : أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر ، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمُّمها » (2).

ولو كان المفكّرون المعاصرون يعرفون ما اشترطه الإسلام للحاكم من شروط وعيّن له من وظائف وواجبات ، وفرض عليه من قيود ، وكيف يجب عليه أن يكون في جميع أفعاله منسجماً مع القوانين الإسلاميّة العادلة ، ولو عرفوا الأهداف التي يبتغيها الإسلام من وراء إقامة الدولة الإسلاميّة ، لما اعتبروا قيام مثل هذه الحكومة معارضاً للحرّيّات الفرديّة أبداً.

ص: 45


1- نهج البلاغة : الرسالة رقم ( 53 ).
2- نهج البلاغة : الرسالة رقم ( 45 ).
وظيفة الاُمّة اتّجاه الحكومة

إذا كانت الحكومة الإسلاميّة تضمن تلك المصالح الكبيرة للاُمّة ، وتوصل الإنسانية إلى قمّة الكمال ، فيجب على الاُمّة الإسلاميّة القيام بتأسيسها وتشكيلها إذا لميكن هناك حكومة إسلاميّة ، وتأييدها ونصرها والتحرُّز عن خيانتها عند قيامها ووجودها.

وإليك بعض النصوص التي تشرح وظيفة الاُمّة الإسلاميّة وواجبها اتّجاه الحكومة الإسلاميّة.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الدّين النّصيحة ».

قيل : لمن يا رسول اللّه ؟

قال : « لله ، ولرسوله ، ولكتابه ، وللأئمّة ولجماعة المسلمين » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « يحقُّ على الإمام أن يحكم بما أنزل اللّه ، وأن يؤدّي الأمانة فإذا فعل ذلك فحقّ على النّاس أن يسمعوا له. ويطيعوه ، ويجيبوه إذا دعا » (2).

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام : « إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خطب الناس في مسجد الخيف فقال : نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها فربّ حامل فقه إلى غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

ثلاث لا يغلُّ عليهنّ قلب امرئ مسلم :

إخلاص العمل لله.

والنّصيحة لأئمّة المسلمين.

واللّزوم لجماعتهم. فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم.

المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم » (3).

ص: 46


1- الأموال :1. 12.
2- الأموال :1. 12.
3- الكافي 1 : كتاب الحجة : 402.

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « قال أمير المؤمنين عليّ علیه السلام : لا تختانوا ولاتكم ، ولا تغشّوا هداتكم. ولا تجهلوا أئمّتكم ، ولا تصدّعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم ، وعلى هذا فليكن تأسيس أموركم ، والزموا هذه الطّريقة » (1).

وقال الإمام محمّد الباقر علیه السلام : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما نظر اللّه عزّ وجلّ إلى وليّ له يجهد نفسه بالطّاعة لإمامه والنّصيحة إلاّ كان معنا في الرّفيق الأعلى » (2).

وسأل أبو حمزة من الإمام محمّد الباقر علیه السلام : ما حقُّ الإمام على الناس ؟ قال : « حقُّه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ».

قلت : فما حقُّهم عليه ؟ قال علیه السلام : « يقسم بينهم بالسّويّة ويعدل في الرّعيّة » (3).

هذه لمحة عن واجبات الاُمّة ووظائفها اتّجاه الحكومة الإسلاميّة.

ومن المعلوم ، أنّ الحكومة لو قامت بوظائفها التي قرّرها الإسلام ، وقامت الاُمّة الإسلاميّة بواجباتها اتّجاه الحكومة كما عيّنها الدين لاستقرّت العدالة ، واستتبّ الأمن ، وانتشر السلام ، وازدهر الخير ، وعّمت السعادة كلّ أرجاء البلاد.

ص: 47


1- الكافي 1 : كتاب الحجة : 405.
2- الكافي 1 : كتاب الحجة : 404.
3- الكافي 1 : كتاب الحجة : 405.

3

أنواع الحكومات في العالم

اشارة

إنّ لنظم الحكم في العالم ألواناً وأنواعاً نذكر المعروفة منها باختصار :

1. الملوكيّة
اشارة

ويتحقّق النظام الملكيّ باستيلاء شخص على زمام الحكم والسلطة بانقلاب عسكريّ وبقوّة النار والحديد ، يعلن على أثره نفسه حاكماً على البلاد ، وملكاً للناس ، ويعاقب معارضيه وينكّل بهم ، ولا يكتفي باعلان نفسه ملكاً على الناس ، بل ينصّب خلفه ملكاً من بعده ، وهكذا تتناوب ذرّيّته عرشه وسلطانه جيلاً بعد جيل ، ونسلاً بعد نسل.

وربما تبلغ به شهوة السلطة وداعية الملك إلى أن يسمّي نفسه ظلاّ ًللّه إن لم يبلغ به الاستعلاء والتفرعن إلى أن يجعل نفسه في مصافّ اللّه تعالى ، فإذا به يرفع شعار : ( اللّه ، الملك ، الوطن ).

وهذا هو ما نلحظه في أكثر الملوكيّات الراهنة.

إنّ النظام الملكيّ ضرب من الحكومة الفرديّة التي يكون فيها( فرد واحد ) مبدأً

ص: 48

للسلطة ، ومصدراً لكلّ القرارات ، ومنشأً للقوانين. ولا يكون وحده كذلك بل يكون أبناؤه وأحفاده حكّاماً وملوكاً بالتوارث ، فإذن ، هو نظام فرديّ وراثيّ استبداديّ.

وقد كان هذا النمط من النظام - ولا يزال - ملازماً للاستعلاء والاستكبار ومنشأً للإرهاب والكبت ، وهو - لا شكّ - أمر مرفوض في منطق القرآن الكريم إذ يقول :

( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( القصص : 83 ).

القرآن الكريم والملوكيّة
اشارة

إنّ القرآن الكريم يعتبر طبيعة الملوكيّة بحكم كونها ناشئةً من الفرد ، طبيعيةً ميّالةً إلى الفساد والتفرعن ، وحمل الإرادة الفرديّة على الشعوب بالقهر والإرغام وإذلال أبنائها وأعزّتها ، إلى غير ذلك من المنكرات والمفاسد والتبعات التي عانت منها البشريّة ، طوال قرون ، إذ يقول : ( قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) ( النمل : 34 ).

هذه الكلمة التي نقلها اللّه سبحانه في هذه الآية عن بلقيس ملكة سبأ ، تمثّل إحدى سنن التاريخ الحاكمة في الحياة البشريّة ، ولولا أنّها كذلك ، لردّ عليها اللّه سبحانه ولم يمر عليها بسلام كما هو شأنه في هذه الحالات.

يقول السيد قطب - في ظلاله - حول تفسير هذه الآية : ( ... فهي تعرف أنّ من طبيعة الملوك أنّهم إذا دخلوا قرية أشاعوا فيها الفساد وأباحوا ذمارها ، وانتهكوا حرماتها ، وحطّموا القوّة المدافعة عنها ، وعلى رأسها رؤساؤها ، وجعلوهم أذلّةً لأنّهم عنصر المقاومة ، وأنّ هذا هو دأبهم الذي يفعلون ) (1).

إنّ القرآن عندما يتعرّض لأحوال الملوك الذين حكموا الأرض ، يذكر جشعهم

ص: 49


1- في ظلال القرآن 19 : 146.

وطمعهم الذي لم يقف عند حدّ ويصوّر لنا كيف أنّهم لم يتركوا حتّى أموال الضعفاء والمساكين طمعاً وجشعاً.

فها هو القرآن يذكر لنا عن ملك بلغ به الجشع والحرص إلى درجة انتزاع سفينة بعض المساكين التي كانوا يرتزقون من ورائها ، ويحصلون بها على لقمة عيشهم ، فيقول : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) ( الكهف : 79 ).

وها هو فرعون أحد ملوك مصر الذين حملوا أنفسهم على رقاب الناس وأكتافهم ، يبلغ به الطمع والحرص إلى أن يعدّ نفسه مالكاً لأرض مصر وأنهارها وما فيها من خيرات من دون مبرر ولا سبب ، إلاّ الطمع وحب الاستئثار بكلّ شيء لوحده ، فإذا به يتباهى بما في يده من ملك ، ويتبجّح بما له من سلطان كما يقول القرآن عنه : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( الزخرف : 51 ).

إنّ الملوكيّة بما أنهّا لا تنطلق من مقاييس وضوابط إلهيّة دينيّة ، بل تنطلق من المقاييس الشخصيّة والتسلُّط الفرديّ ، لا يمكن أن تلازم غير صفة الاستئثار والطمع في اموال الآخرين.

فإذا كانت هذه هي طبيعة الملوك ، وهذه هي سجيّتهم ، فهل يسمح العقل - فضلاً عن الشرع - بأن يفوّض إليهم مقدّرات الناس وأعراضهم وأموالهم ونفوسهم وما يملكون من حول وقوّة ؟! وهل يسمح العقل بأن يترك الأمر لتلك النفوس الجشعة والطبائع المنحرفة أن تتصرّف في شؤون الناس كيفما شاءت وارتأت ؟ وأن تتسلّط على رقاب الناس لتفعل ما تريد ؟.

أجل ، إنّ الملوكيّة بما أنّها نظام فرديّ يقوم على تغليب إرادة الفرد على الجماعة ، وبما أنّها تحظى بالسيادة والحاكميّة دون أن تمتلك كفاءة الإدارة والحكم حسب الضوابط الإنسانيّة والأخلاقيّة بل تمارس ذلك بالقوّة والقهر والإرهاب ، فمن الطبيعيّ أن تؤول إلى

ص: 50

الجشع والتفرعن والطغيان والاستكبار ... وهذا هو ما تثبته أحوال الملوك في الماضي والحاضر وفي كلّ مكان من العالم.

يقول العلامة الطباطبائيّ - في تفسير الميزان - في وصفه لطبيعة النظام الملكيّ والسلطة الملوكيّة تحت عنوان ( من الذي يتقلّد ولاية المجتمع في الإسلام وما سيرته ) :

( إنّ هذه الطريقة - أي طريقة نظام الحكم الإسلاميّ - غير طريقة الملوكيّة التي تجعل مال اللّه فيئاً لصاحب العرش ، وعباد اللّه أرقّاء له ، يفعل بهم ما يشاء ، ويحكم فيهم ما يريد ، كما هي ليست من الطرق الاجتماعيّة التي وضعت على أساس التمتُّع الماديّ من الديمقراطيّة وغيرها ، فإنّ بينها وبين الإسلام فروقاً بيّنةً تمنع من التشابه والتماثل.

ومن أعظم هذه الفروق أنّ هذه المجتمعات لمّا بنيت على أساس التمتُّع الماديّ نفخت في قالبها روح الاستثمار والاستعباد ، والاستكبار البشريّ الذي يجعل كلّ شيء تحت إرادة الإنسان وعمله ، حتّى الإنسان بالنسبة إلى الإنسان ، ويبيح له طريق الوصول إليه والتسلُّط على ما يهواه ويأمله منه لنفسه ، وهذا بعينه هو ( الاستبداد الملوكي ) في الأعصار السالفة ، وقد ظهرت في زيّ الاجتماع المدنيّ على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القويّة وإجحافاتهم وتحكُّماتهم بالنسبة إلى الامم الضعيفة ، وعلى ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التاريخ.

فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يجري في ضعفاء عهده بتحكُّمه ولعبه ، كلّ ما يريده ويهواه ، ويعتذر - لو اعتذر - أنّ ذلك من شؤون السلطنة ولصلاح المملكة ، وتحكيم أساس الدولة ويستدلُّ عليه بسيفه !!! ) (1).

إنّ الإمام عليّاً علیه السلام يتحدّث عن وضع الناس المأساويّ في ظلّ النظام الملكيّ ، الكسرويّ والقيصريّ ، اللّذين كانا يمثّلان أسوء مظاهر الملوكيّة التاريخيّة ، وهو علیه السلام يخبرنا : كيف أنّ الاكاسرة والقياصرة كانوا يعتدون على حقوق الناس الطبيعيّة

ص: 51


1- تفسير الميزان 4 : 131.

ويهجّرونهم عن أوطانهم ومساكنهم ومزارعهم إلى أراض لا عشب فيها ولا ماء ولا عيش فيها ولا حياة ، طمعاً في أراضيهم ، واستئثاراً لممتلكاتهم ومزارعهم. ويعبّر الإمام عليّ علیه السلام عن تلك العهود والأيام بالليالي السود إذ يقول : « واعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل علیهم السلام فما أشدّ اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال !

تأمّلوا أمرهم في حال تشتُّتهم وتفرُّقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم يحتازونهم ( أي يمنعونهم ويدفعونهم ويهجرونهم ) عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدُّنيا ، إلى منابت الشّيح ومهافي الرّيح ونكد المعاش فتركوهم عالةً مساكين ، أذلّ الامم داراً وأجدبهم قراراً ... فالأحوال مضطربة والكثرة متفرّقة في بلاء أزل ، وأطباق جهل !!! » (1).

إنّ الحكم الملكيّ حكم استبداديّ ، وإنّ مفاسد الحكم الاستبداديّ أوضح وأكثر من أن تبيّن.

غير أنّنا للوقوف على ما يذكره القرآن الكريم من مفاسد تترتب على الحكم الاستبداديّ لا بدّ من ملاحظة ما ورد في هذا الصدد من آيات.

إنّ القرآن الكريم يأتي بفرعون نموذجاً حيّاً وكاملاً للحاكم المستبدّ ، والحكومة الاستبداديّة ، ثم يستعرض ما كان يفكّر فرعون به ، ويقوم به انطلاقاً من هذه الخصّيصة ، وبمقتضى هذه الصفة ، وبذلك يوقفنا القرآن على مفاسد الحكم الفرديّ الاستبداديّ :

1. مفاسد الحكم الاستبداديّ

فالقرآن الكريم يصف ( فرعون ) بأنّه كان مستكبراً عالياً مسرفاً متجاوزاً الحدّ ، فهو يرى نفسه فوق الآخرين ، وإرادته فوق إرادتهم إذ يقول : ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم

ص: 52


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم (187).

مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ) ( يونس : 75 ). ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ ) ( يونس : 83 ). ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ) ( المؤمنون : 45 - 46 ). ( وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ المُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ المُسْرِفِينَ ) ( الدخان : 30 - 31 ).

ومن البديهي لمن يعتبر نفسه أعلى من الآخرين ، أن يطغى على اللّه تعالى ويعصيه ويفسد في الأرض ، وكذلك كان فرعون المستبدّ كما يصفه القرآن إذ يقول : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) ( يونس : 90 - 91 ).

ترى وأيّ فساد أعظم وأيّ استكبار أكبر من أن يستعبد الناس ، ويسلبهم حرياتهم ويتخذ عباد اللّه خولاً.

فها هو القرآن ، ينقل عن فرعون قوله مخاطباً قومه وهو يشير إلى قوم موسى وهارون : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ) ؟ ( المؤمنون : 45 - 47 ).

كما أنّ القرآن الكريم ينقل اعتراض النبيّ موسى علیه السلام على فرعون ، استعباده للناس إذ يقول له بعد أن ذكر تربيته وحضانته وعنايته بموسى في طفولته بقوله : ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ) ؟ ( الشعراء : 18 ). ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء : 22 ).

وما أوقح فرعون وأشد كفره واستكباره إذ يقول : ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) !!! ( الشعراء : 23 ).

ص: 53

إنّ الاستبداد حالة طغيان تجعل الحاكم المستبدّ أن لا يقبل نصيحةً أو انتقاداً فيصير سيّء فعله حسناً في نظره كما يخبر بذلك القرآن عن فرعون إذ يقول : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ ) ( المؤمن : 36 - 37 ).

إنّ الحاكم المستبد في الرأي والحكم ، يعتقد أنّه يجب على الجميع أن يروا رأيه ويتبعوا فكرته ، سواء وافق الدليل أم لا ، وسواء طابق المصلحة أم لا ، بل يكفي في صحّته ولزوم طاعته أنّه رأي الملك ومشيئته.

ولهذا يقول القرآن حاكياً عن لسان فرعون كلامه بعد ما قال موسى : ( يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللّهِ إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى ) ( غافر : 29 ).

ويبلغ الاستبداد بالحاكم المتفرّد ، إلى أن يستهين بالمجتمع ولا يعتني بأرائه ، ويستخفّه ، كما فعل فرعون الملك المستبد في مصر آنذاك إذ يقول اللّه عنه : ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ ) .

ومن الطبيعي أن يفقد مثل هذا المجتمع ثقته بنفسه وبفكره وبعقله فيطيع الحاكم المستبدّ طاعةً عمياء كما يقول القرآن الكريم معقّباً على هذه الكلمة : ( فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) ( الزخرف : 54 ).

كما قد يبلغ الاستبداد بالحاكم المستبد إلى أن يرى نفسه أعلى من كلّ الموجودات ويطلب من الناس عبادته كما يعبدون اللّه ويحظر عليهم عبادة غيره ، حظراً شديداً ومنعاً باتاً ، بحيث لو سوّلت لأحد نفسه أن يعبد غير ذلك الحاكم الطاغي والملك المستبد ، أخذه بأشدّ العذاب وأقسى أنواع العقاب بدءاً من السجن وانتهاءً بما هو أشدّ.

وهذا هو ما يخبر به القرآن عن فرعون إذ يقول : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) ( القصص : 38 ). ( فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ ( أي فرعون ) أَنَا

ص: 54

رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى ) ( النازعات : 23 - 25 ). ( قَالَ ( أي فرعون لموسى علیه السلام ) لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ ) ( الشعراء : 29 ).

وقد بلغ به الاستبداد إلى أن يوجد الكبت في المجتمع ويقف دون يقظتهم ووعيهم ، بحيث لو لمس فيهم ذلك نكّل بهم وعذّبهم أشدّ العذاب : ( قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ) ( الشعراء : 49 ). ( قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ) ( طه : 71 ).

إن الحاكم الاستبدادي ، لا يتحمل حركات التوعية والإصلاح ، ولذلك يتهم اصحابها بكلّ تهمة كما فعل فرعون بالنسبة لموسى علیه السلام ودعوته الإلهية المباركة حيث اتّهمه فرعون وأخاه بأنّه يطلب الزعامة : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ) ( يونس : 78 ).

بل ينفر الناس عن اولئك المصلحين ، وأصحاب الرسالات بأنّهم يريدون إشقاء الناس وخداعهم وتضليلهم : ( وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ) ( طه : 56 - 57 ). ( قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا ) ( طه : 63 ).

وربّما يصوّر للناس وضعهم الأسود البائس تصويراً جميلاً ويلقّنهم بأنّ ما هم فيه من طريقة ، هي الطريقة المثلى كما يقول ذلك عن لسان فرعون وملائه : ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ ... وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى ) ( طه : 63 ).

وقد يبلغ الاستبداد بالحاكم المستبدّ حداً يجعله يتوسّل بكلّ وسيلة للحفاظ على عرشه حتّى ادّعاء التديُّن ، والتستُّر به ، ونصب نفسه حامياً لحياض الدين مع أنّه يريد - في قرارة نفسه - ، هدم الدين والقضاء عليه من جذوره ، وربّما يتّهم من يريد إرشاد

ص: 55

الناس إلى الحقيقة ، وإلى الدين الحقيقيّ ، بأنّه يريد الفساد والعبث بأمن البلاد ، كما فعل فرعون لما جاءه موسى علیه السلام يدعوه ويدعو قومه إلى اللّه : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ) ( غافر : 26 ).

بل أنّ الحاكم المستبدّ لا يمتنع من أن يخادع الجماهير ويضلّلهم ، ويصوّر نفسه مرشداً وهادياً إلى الحقّ إذ يقول القرآن عنه : ( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) ( غافر : 29 ).

وقد يتوسّل لتثبيت سلطانه ، بتقسيم المجتمع إلى مستكبر بالغ درجة كبيرة في استكباره ومستضعف محروم من أقلّ حقوقه الإنسانيّة ، فيستعين بالمستكبرين على المستضعفين كما فعل فرعون إذ يصفه اللّه تعالى : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) ( القصص : 4 ).

إنّ الاستبداد قد يبلغ بالحاكم المستبد إلى أن يدّعي ملكيّة البلاد كلّها وملكية انهارها وعيونها ، كما ادعى فرعون إذ قال : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( الزخرف : 51 ).

وإذ لم يكن للحاكم المستبد أي رادع من خلق وأي وازع من دين ، فإن استبداده قد ينتهي به إلى حدّ يجعل نفسه مشرّعاً ، ويعطي لنفسه حق التشريع والتقنين ، ويحمل بذلك اهواءه على الناس في قالب الدين - كما هو الرائج - وهذا هو ما ينهى القرآن عنه إذ يقول : ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ ) ( النحل : 116 ).

كما أنّ الاستبداد قد يدفع بصاحبه إلى مساواة نفسه العاجزة باللّه في القدرة على بعض الأفعال التي هي من شؤون اللّه خاصّةً كالإماتة والإحياء ... كما يحدّثنا القرآن الكريم عن نمرود وهو ملك آخر من الملوك المستبدّين ، إذ يقول عنه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا

ص: 56

أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ( البقرة : 258 ).

إنّ التاريخ مليء بالم آسي التي سببّتها الديكتاتوريّة والاستبداد للناس وحوّلت حياتهم إلى جحيم لا يطاق ، فمن يمكن أن ينسى ما لحق ببعض الناس الأبرياء على أيدي أصحاب الاخدود ، الذين يذكرهم القرآن ، وكانوا ملوكاً جبابرة ... أرادوا أن يحملوا الناس على عقيدتهم ومسلكهم فلمّا رفض الناس ذلك خدُّوا لهم أخدوداً وخندقاً ، وأوقدوا فيه النار ، ورموا اولئك الناس فيها أحياء مع أولادهم وأطفالهم ... وكان ذلك من أشدّ ما عاناه الناس على أيدي الملوك المستبدّين ، إذ يقول القرآن وهو يصبُّ لعناته عليهم : ( قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ) ( البروج : 4 - 8 ).

ففي تفسير القمّي في قوله تعالى : ( قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ) ( كان سببه ، أنّ آخر ملك من ملوك حمير تهوّد ، واجتمعت معه حمير على اليهودية ، وسمّى نفسه يوسف وأقام على ذلك حين من الدهر.

ثمّ أخبر أنّ بنجران بقايا قوم على دين النصرانية ، وكانوا على دين عيسى وحكم الانجيل ، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ، ويدخلهم فيها فسار حتى قدم نجران ، فجمع من كان بها على دين النصرانية ، ثمّ عرض عليهم دين اليهوديّة والدخول فيها ، فأبوا عليه ، فجادلهم وعرض عليهم وحرص كل الحرص أن يدخلوا في اليهوديّة ، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها ، واختاروا القتل.

فاتّخذ لهم أخدوداً [ أي خندقاً ] وجمع فيه الحطب ، وأشعل فيه النار ، فمنهم من أحرق بالنار ، ومنهم من قتل بالسيف ، ومثّل بهم كلّ مثلة فبلغ عدد من قتل وأحرق بالنار : عشرين ألفاً ) (1).

وفي حديث آخر حول هذه الآية عن عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « أنّ ملكاً

ص: 57


1- تفسير القمّي كما في نور الثقلين 5 : 544.

سكر فوقع على ابنته [ أو قال على اخته ] فلمّا أفاق قال لها كيف المخرج ممّا وقعت فيه. . قالت : تجمع أهل مملكتك وتخبرهم أنّك ترى [ أي تجوّز ] نكاح البنات وتأمرهم أن يحلّوه فأخبرهم ، فأبوا أن يتابعوه ، فخدّ لهم اخدوداً في الأرض وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها ، فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار ، ومن أجاب خلى سبيله » (1).

وهكذا يبلغ الاستبداد بالحاكم والملك المستبد إلى أن يرتكب ما يريد ، ويستبيح كلّ حرام ، ويأتي بكل منكر ، ويدعو قومه مع ذلك إلى متابعته ، وإلاّ قتلهم ونكّل بهم وعذّبهم وأخذهم بأشدّ عقاب.

إنّ ما يذكره القرآن الكريم عن فرعون أو بعض الملوك من الاستبداد وما يترتب عليه من مفاسد خطيرة ، لا يختصُّ بفرعون ومن ذكرهم القرآن خاصة ، بل هي خصّيصة تلازم النظام الملكيّ باعتباره حكماً فردياً لا ينطلق من مقاييس إلهيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة ، بل ينطلق من التسلط والقهر ، وحمل الفرد نفسه على رقاب الشعوب ... وإنّما ذكر القرآن فرعون وخصّه بالذكر ، لكونه مثلاً حيّاً ونموذجاً معروفاً للملك المستبدّ.

على أنّ آثار الاستبداد ومفاسده على درجات ومراتب في الكمّية والكيفيّة حسب توفُّر هذه الخصلة [ الاستبداد ] في الحاكم والملك.

فمن مستبد يسلب بعض الحريات ويترك بعضها ، إلى آخر يسلب جميعها جملةً واحدةً ويتجاوز الحدود ويستأثر بفيء العباد ، إلى آخر يتصوّر نفسه مالكاً للبلد الذي يحكم فيه ، ومالكاً لأهله وما فيه قاطبةً ، إلى آخر يشتدُّ فيه الاستبداد حتّى يدعي الالوهيّة ، أو يصف نفسه بأنّه الإله الأعلى وعلى الناس أن يعبدوه إلى ... وإلى ..

فأين هذا النظام من الحكومة التي ينشدها الإسلام ويريد اقامتها ، حيث يخاطب اللّه تعالى نبيّه داود - بصددها - بقوله : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) ( ص : 26 ).

أو يخاطب نبيّه محمّداً صلی اللّه علیه و آله قائلاً : ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ

ص: 58


1- مجمع البيان 10 : 465 والدرّ المنثور للسيوطيّ 6 : 333.

أَهْوَاءَهُمْ ) ( المائدة : 49 ).

أجل ، تلك هي طبيعة الملكية ... جشع بالغ وطمع يتجاوز الحدود ، وتفرعن واستعلاء وفساد وإفساد ، وبالتالي تاريخ مشحون بالمآسي والدموع ، وإخراج الآمنين من أوطانهم ظلماً وعدواناً.

وأمّا الملكيّة التي منّ اللّه بها على بني اسرائيل ، فهي تختلف عن هذه الملكية لأنّها مقرونةً بالنبوّة ، موهوبةً من جانب اللّه سبحانه ، فلا تفرعن فيها ولا استكبار ولا عدوان فيها ولا إفساد.

وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) ( المائدة : 20 ).

والمقصود من الملوك في الآية ، هم الأنبياء أمثال يوسف وداود وسليمان علیهم السلام إذ يقول القرآن عن ذلك : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) ( النساء : 54 ) (1).

ومن المعلوم ، أنّ يوسف وداود وسليمان علیهم السلام كانوا من آل إبراهيم علیه السلام وكانوا في القمّة من أنبياء بني اسرائيل.

وأمّا الشخص الذي اختاره اللّه ملكاً لبني اسرائيل كما في قوله سبحانه : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة : 247 ).

فهو وإن لم يكن نبيّاً ، ولكنّه مع ذلك لم يكن فرداً عادياً ، بل كان ممّن تربّى

ص: 59


1- والمراد بالملك - في المورد هو السلطة على الاُمور الماديّة والمعنويّة ، فيشمل ملك النبوّة والولاية والهداية والثروة وغيرها ، وذلك هو الظاهر من سياق الجمل السابقة واللاحقة ، فإنّ الآية السابقة ( أي الآية 53 ) تؤمى إلى دعواهم أنّهم يملكون القضاء والحكم على المؤمنين ، راجع الميزان للعلاّمة الطباطبائيّ 4 : 375.

بالتربية الإلهية ، وحظي بمؤهلات الحكم والملك ، ولذلك اختاره اللّه سبحانه ، وإلى هذه المؤهلات أشار القرآن الكريم بقوله : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ ) .

فلا يمكن الاستدلال بهذه الموارد التي اقترنت فيها الملوكيّة بالنبوّة ، والصفات الإنسانيّة العليا الموهوبة من اللّه سبحانه لهم ، على حسن الملوكيّة وقدرتها على إقامة العدل بين الاُمّة.

وهذا أشبه شيء بالاستدلال بموارد نادرة على طبيعة الحكم الكلّي.

أضف الى ذلك ، أنّ من المحتمل جداً أن يكون المراد من الملوكيّة هو مطلق الحاكميّة على الناس ، وامتلاك هؤلاء الأنبياء إدارة اُمور الناس ، الذي اعطي لهم من جانب اللّه سبحانه وتعالى.

غير أنّ التعبير عن هذه الحاكميّة والامتلاك بلفظ الملوكيّة ، إنّما هو لأجل المحافظة على الاصطلاح الرائج بين الناس في موضوع الحاكميّة ، حيث إنّه لم يكن يوجد بينهم أي لون من الحاكميّة إلاّ الملوكيّة ، فاستعار سبحانه هذه اللفظة للتعبير عن حاكميتهم المعطاة لهم ، مع الفارق الكبير والبون الشاسع بين الحاكميتين والامتلاكين.

وبالتالي ، فانّ هذه الملوكية التي وصف اللّه بها ثلّةً من الأنبياء ، تختلف جداً عن الملكية التي هي محطُّ بحثنا هنا ، فإنّ الملكيّة التي في هذه الآيات ، هي ممّا جعلها اللّه سبحانه لرجل صالح من الأنبياء ، وليست ممّا حصّلت بالقهر ، والتغلُّب بالقوّة على رقاب الناس ، ممّا تتصف بها جميع ملوكيات الأرض.

وباختصار : إنّ الملوكية التي كانت للأنبياء ، تفترق عن الملوكيات الدارجة المتعارفة - التي يذمُّها اللّه سبحانه في ما مضى من الآيات في مطلع هذا البحث - في أمرين :

الأوّل : اقتران العصمة والصفات الكريمة العليا مع صفة الملوكية في الأنبياء دون غيرهم من ملوك الأرض.

ص: 60

الثاني : إنّ الملوكية التي اتّصف بها الأنبياء ، كانت معطاة من اللّه سبحانه ، لا أنّهم اكتسبوها بالقوّة والقهر كما هو شأن ملوك الأرض.

ولو كانت الملوكية مجردةً عن ذينك الأمرين ، لأدّى إلى الفساد ، والتفرعن كما يشهد به التأريخ.

وأقصى ما يمكن أن يقال حول توصيف اللّه سبحانه لبعض الأنبياء الصالحين بالملوكيّة : أنّ التأريخ وإن كان يشهد على أنّ الملوكيّة وإن كانت مقرونة بالاستكبار والتفرعن والفساد ، غير أنّه لم يكن يتبادر من تلك الكلمة - في عصر نزول القرآن - ما يتبادر في العصور المتأخّرة عن نزوله وبالأخصّ في هذه الأعصار الأخيرة.

ولأجل ذالك وصف اللّه سبحانه طالوت بالملوكيّة ( بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) ومنّ على بني اسرائيل بأن جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكاً ، قال سبحانه : ( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) ( المائدة : 20 ).

كما وصف آل ابراهيم بقوله : ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) ( النساء : 54 ).

إلى أن عاد سبحانه ينقل عن داود بأنّه طلب من اللّه سبحانه أن يهب له ملكاً ، قال تعالى : ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ) ( ص : 35 ).

إنّ الملكيّة بكلّ أنواعها ، مرفوضة في نظر الإسلام وخاصّة الوراثيّة منها ، لما في ذلك من الفساد وضياع الحق والعدل ... كما أثبتته التجارب التأريخيّة في حياة البشريّة.

يقول المؤرّخ المعروف ابن خلدون في مقدّمته في الفصل الحادي والعشرين تحت عنوان ( فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه ) :

( إذا استقر الملك في نصاب معيّن ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدولة وانفردوا به ، ودفعوا سائر القبيل عنه ، وتداوله بنوهم واحداً بعد واحد ، بحسب الترشيح ، فربّما حدث التغلّب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم ، وسببه في الأكثر ولاية صبيّ

ص: 61

صغير ، أو مضعف من أهل المنبت يترشّح للولاية بعهد أبيه ، أو بترشيح ذويه وخوله ، ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك ، فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله ، ويورّي بحفظ أمره عليه حتّى يؤنس منه الاستبداد ويجعل ذلك ذريعةً للملك ، فيحجب الصبيّ عن الناس ، ويعوده اليها ترف أحواله ، ويسيمه في مراعيها متى أمكنه ، وينسيه النظر في الاُمور السلطانيّة حتّى يستبدّ عليه ، وهو بما عوّده يعتقد أنّ حظّ السلطان من الملك ، إنّما هو الجلوس على السرير ، وإعطاء الصّفقة ، وخطاب التهويل ، والقعود مع النساء خلف الحجاب ، وأنّ الحلّ والربط والأمر والنهي ومباشرة الأحوال الملوكيّة ، وتفقُّدها من النظر في الجيش والمال والثغور ، إنّما هو للوزير ، ويسلّم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرئاسة والاستبداد ، ويتحوّل الملك إليه ويؤثر به عشيرته وأبناءه من بعده كما وقع لبعض البلاد.

وقد يتفطّن ذلك المحجور المغلّب لشأنه ، فيحاول على الخروج من ربقة الحجر والاستبداد ، ويرجع الملك إلى نصابه ، ويضرب على أيدي المتغلّبين عليه ، إمّا بقتل أو برفع عن الرتبة فقط ، إلاّ أنّ ذلك في النادر ... وإنّما يحدث لأبناء الملوك ذلك ، لأنّهم ينشأون منغمسين في نعيمه وقد نسوا عهد الرجولة ) (1).

وصفوة القول ، أنّ النظام الملكيّ المطلق منه والدستوري والوراثيّ ، أمر ملازم للاستعلاء والطغيان.

* * *

2. الحكومة الأشرافيّة

إنّ المقصود من هذا النوع ، هو أن يتسلّم فريق من أعيان المجتمع ووجوهه زمام الحكم والسلطة بحجّة تفوّقهم الروحيّ والفكريّ أو النسبيّ على الآخرين ، وهذا هو ما يصطلح عليه الآن بالحكومة ( الارستقراطيّة ) أو حكومة طبقة ( الأعيان ).

ولا يخفى ، أنّ مجرّد التفوّق الروحيّ أو الفكريّ أو النسبيّ ما لم يقترن بسائر

ص: 62


1- مقدمة ابن خلدون : 185 - 186.

الصلاحيّات والمؤهلات ، لا يمكن أن يكون مسوّغاً للقيادة والحاكميّة ، ولأجل ذلك لا تكون الأشرافية بهذا المعنى ملاكاً لها.

أضف إلى ذلك ، أنّه ربّما تتصدّر شرذمة من الطغاة الحريصين على الحكم والسلطة مسند الحاكميّة بادعاء تفوّقهم الروحيّ أو الفكريّ أو النّسبيّ على الآخرين من دون أن يكون فيهم شيء من ذلك.

* * *

3. حكومة الأغنياء

3. حكومة الأغنياء (1)

وهي تتحقّق باستيلاء جماعة من ذوي الثراء الكبير على زمام الحكم لثرائهم ، وهذا النمط هو ما يسمّى بحكومة الخاصّة أيضاً.

ويبرّر هذا الفريق حقّهم في الأخذ بزمام الحكم دون غيرهم ، بقدرتهم الاقتصادية وتفوّقهم الإداريّ.

ولكن هذا النوع وما تقدمه من الحكومات ، لا يلتقي ولا ينسجم مع النظام الإسلاميّ مالم يرتضيه الشعب ، ولم يكن موافقاً للاسس والضوابط الإسلاميّة في مجال الحكم والحاكم ، لأنّ هذه الحكومات تؤول - لا محالة - إلى الديكتاتورية والاستغلال ، وإن كانت تغطّي نفسها - أحياناً - برداء الديمقراطيّة ، وتدّعي خدمة الشعوب.

4. النمطُ الديمقراطيّ

ويعني هذا النوع من الحكومة : « حكومة الشعب على الشعب » ، وهو في ظاهره يختلف عن الأنواع السابقة بأنّه يستند إلى إرادة الشعب ، ورأيه ، ويتحقّق بأن يكون الحاكم أو الرئيس منتخباً من جانبهم ، أو يكون موضع قبولهم على الأقلّ.

وهذا النمط ، وهو الذي تدّعيه أكثر الحكومات الحاضرة وخاصّةً في الغرب بل ،

ص: 63


1- وتسمّى حكومة الاستئثار.

ويتبجّح به العالم الغربيّ ويفتخر به ويدّعي أنه السبيل الوحيد لضمان الحريات التي يتطلبها الإنسان ، طيلة حياته ، ويشتريها بأغلى ثمن ولكنّه ادعاء خال عن الحقيقة ، مجرد عن الواقع.

فإنّ الديمقراطيّة الدارجة في الغرب ديمقراطيّة ظاهريّة ، وحريّة صوريّة غير حقيقّية ، فالناخبون هناك ينتخبون نوّابهم وحكاّمهم مجبورين ومضطّرين في الواقع وإن كانوا مختارين في الظاهر.

فهم ينتخبون تحت تأثير الوسائل الإعلاميّة الفعّالة ، والمؤثرات الخفيّة والجليّة التي تدفع بالناخب الغربيّ إلى أن ينتخب - بصورة لا إرادية - ما تروّج له أجهزة الإعلام ، أو تسوّله دعايات اصحاب الشركات والمعامل الكبرى ، أو تدعو له الراقصات والمغنّيات والمغنون.

إنّ المرء يتصوّر - في بادئ الأمر - ، أنّ الغرب يمارس ديمقراطيّةً حقيقيّةً ، غير أنّ من يطالع الأوضاع وخلفياتها الخفيّة ، يرى صورةً عن الديمقراطيّة لا روح فيها ، وشكلاً من حرية الانتخاب لا واقع لها ، فالإنسان في تلك الديار مسيّر بفعل العوامل الدعائية التي تملكها شرذمة من أصحاب الثروة والنفوذ والمصالح ، فالإنسان الغربي يمارس ديمقراطيّةً كاذبةً ، لأنّه لا يختار إلاّ - تحت التأثير الإعلاميّ - من تريده تلك الشرذمة من أصحاب المصالح والنفوذ لا ما يريده هو في قرارة وجدانه ، أو يحكم به عقله ، وتقتضيه مصالحه.

وهل يستطيع أحد أن ينكر تأثير الأجهزة الإعلاميّة والدعائية في بذر فكرة خاصّة وإلقائها في أذهان الناس ، وتوجيههم الوجهة التي تريد ، ودفعهم إلى اختيار من تشاء ؟.

أم هل يمكن إنكار الدور المؤثر لوسائل الطّرب ، وللفنّ ، والحفلات الغنائيّة والموسيقيّة ؟ فكيف لا يؤثر في الأذهان ، جعل صورة المرشّح للرئاسة أو للنيابة على صدور الفتيات الشبه عاريات والراقصات أمام الجماهير ، أو ترديد اسم المرشّح في أناشيد

ص: 64

المطربين والمطربات وفي أغاني المغنّين والمغنّيات ؟.

أم هل يمكن أن ينسى تأثير الوعود البرّاقة الكاذبة ، أو شراء الأصوات بالأموال الطائلة أو التحالفات العشائريّة ، وغير ذلك من الوسائل المتّبعة في الغرب وفي النظم الديمقراطية السائدة في عالمنا الحاضر ؟.

وليس من شكّ في أنّ انتخاب الإنسان المسيّر في اختياره ، المدفوع تلقائياً إلى انتخاب مرشّح شرذمة معينة ، لا قيمة له في ميزان العدل والحق ، ولا يمكن أن يسمى انتخاباً حرّاً واختياراً صحيحاً ، ولا يكون مثل هذا في الغرب إلاّ لأنّهم لا يشترطون في الانتخاب شرطاً من الاُمور المعنويّة عدا كونه منتخباً لأكثريّة الشعب فحسب. ولكن الإسلام يشترط في الناخب والمنتخب شروطاً كثيرةً عدا كونه مقبولاً للشعب ومرضيّاً عندهم ، ولا يأذن لأحد أن يتجاوز هذه الشروط أو يتغافلها ، بلغ الأمر ما بلغ.

إنّ النمط الديمقراطيّ للحكم - على ما يراه الغرب ومن تبعهم في الشرق - لا يهتمُّ إلاّ بكثرة الأصوات والتفوق في عدد الآراء لا غير.!!

يكتب ( فرانك كنت ) الكاتب السياسيّ في هذا الصدد قائلاً : ( انّ مسألة « ضرورة تحصيل أغلبيّة الأصوات » موضوع مهم جداً ، وفي سبيل تحصيلها لا يمكن أن يسمح أبداً بأن تتدخّل فيها مواضيع تافهة مثل قضية الأخلاق ، ومراعاة الحقّ ، والباطل ).

ويكتب هذا الكاتب نفسه أيضاً : ( إنّ أهمّ نقد وجّهه النائب « آشورست » إلى أحد زملائه الذي كان يخوض حملةً انتخابيةً في انتخابات ( 1920 م ) هو : أنّك لاتريد أن تتحايل على الناس ، يعني أنّك لا تريد في سبيل الوصول إلى المركز النيابيّ أن تسحق وجدانك ، إنّك يجب أن تتعلّم بأنّ على الرجل السياسيّ - في بعض الموارد - أن يتجاهل ضميره ، ويتناسى وجدانه ) (1).

ص: 65


1- اقتبس من مقال لجون اف كندي الرئيس الأسبق للولايات المتّحدة.

ثمّ إنّ هذا النوع من نظام الحكم وإن لم يكن من مصاديق الاستعلاء المذموم في القرآن الكريم ، غير أنّ مجرد كونه شعبياً لا يكفي في شرعيّته وصحته ، بل لابدّ أن يكون ناشئاً من حاكميّة اللّه سبحانه ، إمّا بالنصّ ، أو موضع تأييده برعاية الضوابط والسنن التي نصّ عليها في الشريعة الإسلاميّة في مجال الحكم والحاكم. وبذلك تختلف صيغة الحكومة الإسلاميّة - التي سيأتي ذكرها - عن سائر الصيغ والأنماط الرائجة لنظام الحكم ، وإن كانت بعض هذه الصيغ موضع قبول الشعوب ورضاها.

إنّ الحاكميّة - حسب منطق العقل والدين - مخصوصة باللّه سبحانه ومحض حقّ له دون سواه ، ولذلك ، لابدّ أن تكون حاكميّة غيره ناشئةً منه ، أو موضع تأييده سبحانه.

وبعد استجلاء هذه الحقيقة ، ينطرح هذا السؤال : ما هي إذن صيغة الحكومة الإسلاميّة ؟.

ص: 66

الفصل الثاني

اشارة

1

صيغة الحكومة الإسلاميّة كيف ؟

تلخيصٌ لما سبق :

لقد أثبتت الأبحاث السابقة اُموراً ، هي :

1. أنّ العقل - فضلاً عن الآيات القرآنيّة ، والأحاديث الشريفة - يقضي بلزوم وجود( دولة ) تدير دفّة البلاد ، وتتولّى ادارة شؤون المجتمع ، إذ بدون الدولة لن يكون أمر الاُمّة إلاّ فوضى واختلاف.

2. أنّ طبيعة القوانين الإسلاميّة في مختلف المجالات المدنية والاقتصاديّة والدفاعيّة تقتضي وجود مثل هذه الدولة ، وإلاّ كان تشريعها لغواً وعبثاً.

3. أنّ على المسلمين إذن ، أن يقوموا بتشكيل مثل هذه الدولة لتطبيق الإسلام في جميع الأصعدة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.

ص: 67

4. أنّ الحكومة الإسلاميّة ليست على نمط النظام الملكيّ ، أو حكومة الأشراف أو حكومة الخاصّة ، أو النظام الديمقراطي الرائج في الغرب ، أو المتّبع في بلدان العالم الثالث.

بعد أن ثبت كلّ ذلك في الأبحاث السابقة ينطرح السؤال التالي :

ما هي صيغة الحكومة الإسلاميّة إِذنْ ؟

إنّ البحث عن شكل وصيغة « الحكومة الإسلاميّة » رغم أنّه من أهمّ المباحث في هذا المجال ، لكننا لا نجد دراسةً وافيةً شاملةً عنها.

إنّ علماء الشيعة لمّا كانوا يمثّلون - طوال العصور - ، جبهة الرّفض والمعارضة للحكومات الجائرة ، فإنّهم كانوا بسبب ذلك يعانون من أشدّ أنواع الملاحقة والمضايقة ، فلم تسمح لهم تلك الظروف العصيبة أن يتحدثوا عن صيغة الحكومة الإسلاميّة ، أو يتفرّغوا للكتابة عنها ، وتوضيح ملامحها ، ورسم خطوطها ، ويؤلّفوا فيها كما ألّفوا عن بقيّة المجالات الإسلاميّة.

نعم ، لقد قام بعض علماء السّنّة بتأليف بعض الكتب في هذا المجال ، ولكن هذه الكتب لم تشرح إلاّ الوضع الذي كانت عليه الحكومات السائدة حينذاك في المجتمعات الإسلاميّة ، من دون أن ترفع النّقاب عن وجه الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة كما تحدّث عنها القرآن الكريم والسّنّة المطهّرة ودلّ عنها العقل السليم.

ولأجل ذلك ، لا يرى القارئ في ( الأحكام السلطانيّة ) للماورديّ وما يماثله من الكتب والمصنّفات إلاّ هذا الأمر ... وأما تصوير الحكومة الإسلاميّة كما ينبغي أن تكون فلا يكاد أن يجده كما ستعرف.

ويمكن أن نعزي غياب الصورة الحقيقيّة للحكومة الإسلاميّة إلى عدّة اُمور أخرى :

1. توالي الحكومات المنحرفة على دفّة الحكم في الاُمّة الإسلاميّة ، الأمر الذي حال

ص: 68

دون قيام الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة ، وكان ذلك من أسباب غياب النمط الواقعيّ لنظام الحكم الإسلاميّ ، وعدم معرفتنا به.

أضف إلى ذلك ، أنّ تأريخ المسلمين في العصور الماضية كان له صبغة الإسلام وصبغة القيادة الإسلاميّة ، لا أنّه كانت تتوفّر فيه جميع عناصر الدولة الإسلاميّة وشرائط المجتمع الإسلاميّ ومواصفاته ، ولأجل ذلك لم تكن تلك الحكومات المنصبغة بصبغة الإسلام ممثّلةً لواقع القيادة الإسلاميّة.

2. بعدنا الزمني عن العهد النبويّ وتطوّر اللغة ، ممّا جعلنا لا نفهم الكثير من مقاصد المصطلحات القرآنيّة التي تدلّ على ملامح الحكومة الإسلاميّة كما كان يفهم العربي المعاصر لذلك العهد.

وتتعيّن على الكتّاب المعاصرين ، لاستجلاء الملامح الغائبة للحكومة الإسلاميّة ، اُمور :

أوّلاً : العودة إلى المصادر الأساسيّة للإسلام ، ونعني بها الكتاب والسّنّة المطهّرة والسيرة الشريفة التي سار عليها الأئمّة الواقعيّون.

ثانياً : أن لا يخلطوا بين ما وقع وجرى على الساحة الإسلاميّة في مجال الحكم ، وبين ما هو مرسوم لنظام الحكم في أصل الشريعة المقدّسة.

ثالثاً : أن لا يخلطوا بين تأريخ المسلمين ونظام الدين ، لأنّ ذلك التأريخ لا يكون ممثلاً واقعيّاً لكلّ تعاليم الدين ، ولا مبرزاً لجميع حقائقه.

فإذا تجاوزنا جميع هذه الحواجز المانعة عن رؤية الحقيقة ، استطعنا أن نقف على الصورة الحقيقيّة لنظام الحكم الإسلاميّ وأبعاده ، وجميع خصوصياته وامتيازاته.

إنّا مع تقديرنا لكلّ ما قام به علماؤنا الأقدمون من خدمات عظيمة في تدوين الفكر الإسلاميّ وحمايته وصيانته وتعميقه وتوضيحه ، نعذرهم في عدم توضيحهم لصورة الحكومة الإسلاميّة ، نظراً للظروف الصعبة وغير العاديّة التي عاشوها وقاسوا منها الأمرّين كما ستعرف ، ولكنّنا نعتبر القيام بهذا الأمر واجباً حتميّاً بالنسبة إلى كتّابنا

ص: 69

ومفكّرينا المعاصرين ، وخاصّةً أنّ الحاجة إلى ذلك - بعد قيام أوّل حكومة إسلاميّة من نوعها في بلد إسلاميّ هو إيران - قد أصبحت شديدةً وماسةً في الوقت الذي يتطلّع فيه الكثير من المسلمين إلى إقامة الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة في بلادهم أيضاً.

إنّ غموض موضوع ( الحكومة الإسلاميّة ) جعل أكثر المسلمين في هذا العصر لا يعرفون عنها سوى ، أنّها كبقية الحكومات القائمة في بعض البلاد الإسلاميّة التي تنتحل لنفسها صفة الإسلام واسمه ، وهي أبعد ما تكون عن الإسلام جوهراً وشكلاً ، أسلوباً وسياسة.

إنّ الحكومة الإسلاميّة تمتاز بخصوصيّات وخصائص عديدة تميّزها عن جميع الحكومات الحاضرة - والغابرة - التي تتقمّص رداء الإسلام كذباً وزوراً.

إنّ التتبّع في الكتاب والسّنّة يقضي ، بأنّ الحكومة في الإسلام تقوم بأحد أمرين ، لكلّ واحد ظرفه الخاصّ :

1. التنصيص الإلهيّ على الحاكم الأعلى باسمه وشخصه. وهذا فيما لو كان هناك نصّ أو نصوص على حاكميّة شخص معيّن على الاُمّة كما في النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله باتّفاق المسلمين ، أو الأئمة المعصومين حسب ما يذهب إليه الشيعة.

ومن المعلوم ، أنّه لو كان هناك نصّ لما جاز العدول عنه إلى الطريق الآخر الذي سنشير إليه.

2. التنصيص الإلهيّ على صفات الحاكم الأعلى ، وشروطه ، ومواصفاته الكليّة فيما إذا لم يكن هناك تنصيص على الشخص ، أو كان ولكن الظروف تحول دون الوصول إليه ، والانتفاع بقيادته.

ومن المعلوم ، أنّ الطريق الثاني يؤخذ به في ظرف عدم الطريق الأوّل.

وعلى كلّ تقدير ، فالحاكميّة تنصيصيّة منه سبحانه مطلقاً ، فهي إمّا بالتنصيص على الشخص المعيّن ، أو التنصيص على المواصفات الكليّة ، وإلى هذا القسم الثاني يرجع انتخاب الاُمّة حسب الشرائط والضوابط.

ص: 70

التنصيص الإلهيّ على الحاكم الأعلى باسمه وشخصه

اشارة

إن الحاكميّة كما أسلفنا (1) ، حقّ مختصّ باللّه سبحانه ، ولا حاكمية لسواه إلاّ بإذنه ، وله الحقّ وحده في تعيين من يقود البشرية ، ويسوس اُمورهم ويحكمهم ..

وهذا هو ما يؤكّده القرآن الكريم في كثير من آياته صراحة وتلويحاً ، إذ يقول :

( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام : 57 ).

( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الانعام 62 ).

( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) ( يوسف : 40 ).

يقول العلاّمة الطباطبائيّ : ( إنّ نظرية التوحيد التي يبني عليها القرآن الشريف بنيان معارفه ، لمّا كانت تثبت حقيقة ( التأثير في الوجود ) لله سبحانه وحده لا شريك له ، وإن كان الإنتساب مختلفاً باختلاف الأشياء ، غير جار على وتيرة واحدة ، كما ترى أنّه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه ، ثمّ ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة بنسب مختلفة ، وكذلك العلم والقدرة والحياة والمشيئة والرزق والحسن ، إلى غير ذلك. وبالجملة ، لمّا كان التأثير له تعالى ، كان (2) الحكم الذي هو نوع من التأثير والجعل له تعالى ، سواءً في

ص: 71


1- راجع الجزء الأول من كتابنا : 578.
2- جواب لمّا الشرطيّة.

ذلك الحكم في الحقائق التكوينيّة أو في الشرائع الوضعيّة (1) الاعتباريّة ، وقد أيّد كلامه تعالى هذا المعنى ، كقوله : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) ( الأنعام : 57 يوسف : 67 ) وقوله تعالى : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) ( الأنعام : 62 ) وقوله تعالى : ( لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ ) ( القصص : 70 ) وقوله تعالى : ( وَاللّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) ( الرعد : 41 ) ولو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقّب حكمه ويعارض مشيئته ، وقوله تعالى : ( فَالْحُكْمُ للهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) ( غافر : 12 ) إلى غير ذلك.

ويدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى ، قوله : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) ( يوسف : 40 ) فالحكم لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره ، على ظاهر ما يدلّ عليه ما مرّ من الآيات ، غير أنّه تعالى ربّما ينسب الحكم مطلقاً وخاصةً التشريعيّة منه إلى غيره ، كقوله تعالى : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ) ( المائدة : 95 ) وقوله لداوود علیه السلام : ( إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ ) ( ص : 26 ) وقوله للنبيّ صلی اللّه علیه و آله : ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ) ( المائدة : 49 ) وقوله ( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) ( المائدة : 44 ) إلى غير ذلك من الآيات وضمّها إلى القبيل الأوّل يفيد ، أنّ الحكم الحقّ لله سبحانه ب ( الأصالة ) وأوّلاً ، لا يستقلّ به أحد غيره ، ويوجد لغيره بإذنه وثانياً. ولذلك عدّ تعالى نفسه أحكم الحاكمين وخيرهم ، لما أنّه لازم الأصالة والاستقلال والأوّليّة ، فقال : ( أَلَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ ) ( التين : 8 ) وقال : ( وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( الأعراف : 87 ) (2) ».

وكتب حول قوله تعالى : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ ... ) ( الأنعام : 62 ) أيضاً يقول : ( قوله

ص: 72


1- المصطلح لدى الاُصولييّن في الوضعيّة هو الأحكام والقوانين المجعولة كالسببيّة والشرطيّة والرئيسيّة والمرؤوسيّة والحاكميّة والمحكوميّة ويقابله الأحكام التكليفيّة الخمسة المعروفة كالوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة. غير أنّ الأستاذ (قدس سره) أراد منها هنا مطلق الأحكام التشريعية سواء أكانت بلسان الوجوب والحرمة، أم غيرها، مما تسمی - اصطلاحاً بالأحكام الوضعية.
2- تفسير الميزان 7 : 117 - 118.

تعالى : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) إلخ ... لمّا بيّن تعالى اختصاصه بمفتاح الغيب وعلمه بالكتاب المبين الذي فيه كل شيء ، وتدبيره لأمر خلقه من لدن وجدوا ، إلى أن يرجعوا إليه ، تبيّن أنّ الحكم إليه لا إلى غيره ، وهو الذي ذكره فيما مرّ من قوله : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) أعلن نتيجة بيانه فقال : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) ليكون منبّهاً لهم ممّا غفلوا عنه ) (1). فإذا لم تكن الحاكميّة إلاّ لله تعالى ، كان إليه وحده أمر التنصيص والتعيين للحاكم الأعلى ، أمّا على الاسم والشخص ، كما إذا اقتضت المصالح أن يكون لون الحكومة على هذا النمط ، أو على الصفات والشروط اللازمة فيه ، كما إذا اقتضت المصلحة أن يكون لون الحكومة على هذا الطراز.

بيد انّ المسلمين قد اتفقوا على أنّ النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان حاكماً منصوباً من جانبه سبحانه على الاُمّة.

ومن المعلوم ، أنّه لو كان هناك تنصيب للشخص لما كان للاُمّة رفض النصّ والتعيين والركون إلى الطريق الآخر ... يقول سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا ) ( الأحزاب : 36 ).

وقد نصّ اللّه تعالى على حاكمية النبيّ ، وحاكميّة ولاة الأمر من بعده إذ قال في كتابه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ( النساء : 59 ).

ومن الواضح أنّ وجوب إطاعة النبيّ واولي الأمر (2) في كلّ ما يأمر وينهى دليل

ص: 73


1- تفسير الميزان 7 : 136.
2- المشهور بين الإماميّة تبعاً للأخبار أنّ المراد من اولي الأمر ، أشخاص معيّنون بأسمائهم وشخصيّاتهم ، وقد نصّ النبيّ عليهم في متواتر الأحاديث والروايات ، التي رواها أعلام الحديث من الفريقين ، فهي قضيّة خارجيّة - حسب المصطلح المنطقيّ - مقصورة على أولئك الأشخاص ، وليست قضيّةً كليّةً قانونيّةً مضروبةً على إطاعة كلّ من ولي الأمر من المؤمنين ، حتّى تصير قضيّةً حقيقيّةً حسب اصطلاح المنطق. وإن كان - ربّما - يجب إطاعة ولي الأمر من المؤمنين ، لكنّه بسبب دليل آخر لا لأجل هذه الآية ، وهناك وجه آخر في مفاد الآية قرّر في محلّه.

على حاكميّته وولايته المفوّضة إليه من جانب اللّه بتنصيصه سبحانه على ذلك.

كيف لا وقد صرح القرآن بولاية النبيّ ، وحكومته على الأنفس فضلاً عن الأموال بقوله سبحانه : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب : 6 ).

فهذه الآية ، تدلّ - بوضوح - على أنّه تعالى نصب النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله حاكماً ، وأولاه سلطةً على نفوس المؤمنين وأموالهم ، سلطةً شرعيةً في إطار الحقّ والعدل والصلاح.

خاصّةً أنّه ورد عن الإمام الباقر علیه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : « إنّها نزلت في الإمرة يعني الإمارة » (1).

هذا والأدلة على أنّ النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان حاكماً منصوباً من جانبه سبحانه ، أكثر ممّا ذكرناه من الآيات ، وبما أنّه لم يختلف فيه أحد من المسلمين نكتفي بما أوردناه.

إنّما البحث في صيغة الحكومة بعد النبيّ الأكرم ، فهل هي كانت على غرار حكومة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأنّ اللّه سبحانه نصب أشخاصاً معيّنين للحكومة بلسان نبيّه ، أو أنّ الحكومة بعده صلی اللّه علیه و آله على غرار الطريق الثاني ، أعني التنصيص على الصفات والشروط الكلية اللازمة للحاكم ، وحثّ الاُمّة على تعيين الحاكم من عند أنفسهم حسب تلك الصفات والشروط وعلى ضوء تلكم المواصفات.

فهناك قولان ، ذهبت إلى كلّ واحد طائفة من المسلمين.

ما هي صيغة الحكومة بعد النبيّ ؟

إنّ تحليل صيغة الحكومة بعد النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله من المسائل الهامّة التي فرقت المسلمين إلى طائفتين كبيرتين ، تمثّل كلّ واحدة منهما شطراً كبيراً من الاُمّة الإسلاميّة.

ورفع النقاب عن وجه الحقيقة في هذا المجال ، يحتاج إلى تجرد عن الأهواء والميول

ص: 74


1- مجمع البحرين : 457 ، الطبعة الجديدة.

الطائفية ، ولأجل ذلك نسأل اللّه سبحانه أن يوفّقنا لإراءة ما نلمسه بالدليل فنقول :

إنّ طائفةً كبيرةً من المسلمين ذهبت إلى أنّ صيغة الحكومة بعد الرسول ، وإلى مدّة خاصّة من الزمن ، كانت حكومةً تنصيصيةً إلهيّةً على غرار حكومة النبيّ الأكرم نفسه ، فاللّه تعالى نصّ على أسماء من يجب أن يخلفوا النبيّ ، على لسانه ، وأوجب طاعتهم وحرّم مخالفتهم.

ويمكن استجلاء الحقيقة ، وصدق هذا المدّعى ، بالطرق الثلاث التالية :

1. محاسبة المصالح العامّة ، وما كانت تقتضيه في تلك الفترة ، فنرى ، ماذا كانت تقتضي مصالح الاُمّة الإسلاميّة آنذاك ، وأيّ لون من ألوان الحكومة كانت تتطلّب ، هل كانت تقتضي الحكومة التنصيصيّة على الاسم والشخص ؟ أو التنصيص على الصفات والشروط ؟

وبتعبير آخر : هل كانت المصالح في تلك الفترة تقتضي التنصيص على أشخاص معيّنين ؟ أو ترك الأمر إلى انتخاب الاُمّة حسب الضوابط المقرّرة شرعاً ؟.

2. لا شك أنّ وفاة الرسول الأكرم وغيابه عن الساحة كان من شأنه أن يحدث فراغاً بعده ، فكان لابد من سد هذا الفراغ بمن يكون كالنبيّ علماً وسياسةً وخلقاً وقيادةً ، فهل كان يمكن سدّ هذا الفراغ بانتخاب الاُمّة ، أو لا يمكن إلاّ بالتنصيص على فرد معيّن ؟.

3. لمّا كانت مسألة القيادة موضع اهتمام المسلمين في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وبعده ، فحينئذ لا بدّ أن يكون للنبيّ وأصحابه في ذلك المجال رأي ونظر ، فماذا يستفاد من النصوص الواردة حول هذه المسألة ؟.

ولنبدأ بعون اللّه بذكر هذه الطرق على وجه التفصيل :

ص: 75

الطريق الأوّل: المصالح العامّة في الصدر الأوّل وشكل الحكومة

اشارة

1. عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة.

2. الاُمّة الإسلاميّة وآلخطر الثلاثيّ.

3. العشائريات تمنع من الاتفاق على قائد.

ماذا كانت تقتضيه المصالح ؟
اشارة

ماذا كانت تقتضي مصالح الاُمّة الإسلاميّة آنذاك ؟ هل كانت تقتضي أن يترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله اُمّته لتختار هي من تريد لقيادتها ؟ وهل كانت الظروف آنذاك تساعد على مثل هذا الأمر ؟ أو كان يجب النص على أشخاص معيّنين لذلك المقام الخطير ؟ وبعبارة واضحة : هل كانت المصلحة تقتضي تنصيب الإمام من جانب اللّه سبحانه بلسان نبيّه ؟ أو كانت المصلحة تقتضي أن يترك مسألة الخلافة بعده إلى رأي الاُمّة ؟

إنّ اُموراً كثيرةً تدلّ على أنّ مصالح الاُمّة كانت آنذاك تتطلّب تنصيب الإمام والقائد الذي يخلّف النبيّ صلی اللّه علیه و آله وتعيينه بلسانه في حياته ، بل كان في عدم التعيين والتنصيب ، وترك الأمر إلى اختيار الاُمّة وانتخابها ، من الاختلاف والتفرّق وعدم الاتّفاق

ص: 76

ما يشكل أكبر الخطر على تلك الجماعة ويعرّضها للتقهقر.

وإليك بيان هذه الاُمور :

أ - عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة
اشارة

إنّ الاُمّة الإسلاميّة - كما يدلّنا عليه التأريخ - لم تبلغ في القدرة على تدبير اُمورها ، وإدارة شؤونها ، وقيادة سفينتها حدّ الاكتفاء الذاتيّ ، الذي لا يحتاج معه إلى نصب قائد لها من جانب اللّه تعالى.

وقد كان عدم بلوغ الاُمّة هذا طبيعياً ، لأنّه من غير الممكن إعداد امّة كاملة الصفات ، قادرة على إدارة نفسها ، وبالغة في الرّشد القياديّ والإداريّ حدّاً يجعلها مستغنيةً عن نصب قائد محنّك رشيد لها.

إنّه من غير الممكن إعداد مثل هذه الاُمّة وتربيتها في فترة ثلاث وعشرين سنة مليئة بالأحداث والوقائع الجسيمة ، ومشحونة بالحروب الطاحنة والهزات العنيفة.

وليس هذا مختصاً بالاُمّة الإسلاميّة ، بل التجارب تدلّ على أنّه من غير الممكن تربية امّة كانت متوغّلةً في العادات الوحشيّة والعلاقات الجاهليّة ، والنهوض بها إلى حدّ تصير امّةً كاملةً تدفع عن نفسها تلك الرواسب والعادات والخصائص الجاهليّة المتخلّفة ، وتتقدّم بنفسها إلى ذرى الكمال ، بحيث تستغني عن نصب قائد محنّك ورئيس مدبر ، بل هي تقدر على تشخيص مصالحها في تعيين القائد.

إنّ إعداد مثل هذه الجماعة ومثل هذه الاُمّة لا يمكن - في العادة - إلاّ بعد انقضاء جيل أو جيلين ، وبعد مرور زمن طويل يكفي لتغلغل التربية الإسلاميّة إلى أعماق تلك الاُمّة ، بحيث تخلط مفاهيم الدين بدمها وعروقها ، وتتمكّن منها العقيدة درجةً يحفظها من التذبذب ، والتشرذم والتراجع إلى الوراء.

وهذا ممّا لم يتيسّر للمسلمين الذين تولّى النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله تربيتهم وصياغتهم ، فإنّ الأحداث التي وقعت ، أثبتت ، أنّ الإسلام لم يتعمّق في نفوس أكثرية المسلمين

ص: 77

وعقولهم ، ولم تجتثّ الرواسب الجاهلية المتأصّلة فيهم ، فقد كانت هذه الرواسب تلوح منهم بين حين وآخر ، . وتظهر مظاهر التذبذب والتردّد ، كلمّا أحكمت الصعوبات والمحن بقبضتها عليهم !!!

ففي معركة ( احد ) مثلاً عندما ترك بعض الرماة مواقعهم على الجبل ( خلافاً لأمر الرسول الأكرم وتأكيداته على البقاء ) وبوغت المسلمون بهجوم الكفار عليهم وهم يجمعون الغنائم ، واصيبوا بنكسة كبرى وروّج الأعداء المشركون شائعات عن مقتل النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، هرب بعض المسلمين من ساحة المعركة ، ولاذ بعضهم بالجبل ، بل فكّر بعضهم بالتفاوض مع المشركين حتّى أتاهم أحد المقاتلين ووبّخهم على فرارهم وتخاذلهم وتردّدهم قائلاً : « إن كان محمّد قد مات فربّ محمّد حيّ ، قوموا ودافعوا عن دينه » (1).

ولم تكن هذه الواقعة وحيدة من نوعها ، فقد ظهرت بادرة الارتداد من بعضهم في ( هوازن ) ما لا يقلّ عمّا ظهر في أحد.

فقد روى ابن هشام عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ ، قال : لمّا استقبلنا وادي حنين ، انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف( أي متّسع ) حطوط( أي منحدر ) انّما ننحدر فيه انحداراً ، وقال : وفي عماية الصبح ، وكان القوم ( العدو ) قد سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه وقد أجمعوا وتهيّأوا وأعدّوا ، فواللّه ما راعنا ونحن منحطون إلاّ الكتائب قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد وانشمر ( أي انهزم ) الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد وانحاز رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات اليمين ، ثمّ قال : « أين أيّها الناس هلمّوا إلّي ، أنا رسول اللّه ».

فانطلق الناس ( أي هربوا ) إلاّ أنّه قد بقي مع رسول اللّه نفر من المهاجرين والأنصار.

فلمّا انهزم الناس ، ورأى من كان مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من جفاة أهل مكّة الهزيمة ،

ص: 78


1- سيرة ابن هشام 2 : 83.

تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضّغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وإنّ الأزلام لمعه في كنانته ، وصرخ جبلة بن الحنبل : ( الا بطل السحر اليوم ) (1).

إلى غير ذلك من الأحداث والوقائع ، التي كشفت عن تأصّل الرواسب الجاهليّة في نفوسهم ، وعدم تغلغل الإيمان والعقيدة في قلوبهم. حتّى أنّنا نجد القرآن يشير إلى ذلك تعليقاً على ما حدث ووقع منهم في معركة ( أحد ) إذ يقول سبحانه : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) ( آل عمران : 144 ).

ويقول في شأن من راح يبحث عن ملجأ له فراراً من الموت : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ ) ( العمران : 154 ).

وصفوة القول ، أنّنا لا ننكر - في الوقت نفسه - وجود من بلغت عقيدته واستقامته حداً استوجب أن يتحدث اللّه عنه في كتابه بقوله : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة : 111 ).

بيد أنّ الأكثرية منهم لم تكن قد بلغت ذلك المبلغ من رسوخ الإيمان وعمق العقيدة ، ولم يكونوا قد تخلّصوا تماماً من رواسب الجاهلية.

ويدلّ على ما ذكر من عدم تغلغل الإيمان في نفوس أكثرية الصحابة والمعاصرين للنبيّ صلی اللّه علیه و آله بالإضافة إلى ما ورد من آيات ، ما أخرجه أصحاب الصحاح والسنن ، والمسانيد في هذا المجال من أخبار وأحاديث صحيحة.

ص: 79


1- سيرة ابن هشام 2 : 442 - 444.

فقد روى البخاري عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قوله : « ما بعث اللّه من نبيّ ولا استخلف من خليفة إلاّ كانت له بطانتان ، بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه ، وبطانة تأمره بالشّرّ وتحضّه عليه ، فالمعصوم من عصمه اللّه » (1).

وروى البخاري أيضاً في صحيحه (2) في باب ( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ) من كتب التفاسير بسنده عن ابن عباس ، قال :

خطب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : « ألا وإنّه يجاء برجال من امتي فيؤخذ بهم ذات الشّمال فأقول يا ربّ : أصحابي ... فيقول : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصّالح ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم ما فارقتهم » (3).

فهل كان يجوز لصاحب الدعوة - والحال هذه - أنّ يتجاهل أمر القيادة من بعده ، ولا ينصب أحداً باسمه وشخصه ، ويدع تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام ، الناشئة في الدين ، التي لم تترسّخ العقيدة الإسلاميّة في مشاعر الأكثريّة من أبنائها وأفرادها ، ولم تكتسب من التربية الفكريّة ، والإداريّة ما يجعلها قادرةً على إدارة نفسها بنفسها بحزم ، ومتمكّنةً من تدبير شؤونها بدراية وحنكة ؟!

أم لابدّ من تعيين قائد ونصب زعيم مدير لها بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله يكون له من المؤهلات

ص: 80


1- صحيح البخاري 4 : باب ( بطانة الإمام وأهل مشورته ) : 150.
2- صحيح البخاري 3 : 85.
3- وقد ورد هذا الحديث بنصّه وطوله ، أو باختلاف يسير في : كتاب التفسير في باب ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) وفي باب ( كيف الحشر ) من صحيح البخاري نفسه ، وفي صحيح مسلم في كتاب الجنّة ونعيمها ، وفي صحيح الترمذيّ بطريقتين باب ( ما جاء في شأن الحشر ) وفي أبواب ( تفسير القرآن ) ، وفي صحيح النسائيّ ( ج 1 ) في ذكر أوّل من يكسى ، وفي مستدرك الحاكم في كتاب التفسير في ( سورة الزخرف ) ، وفي مسند أحمد بن حنبل ( ج1 : ص235 وص 253 ) وفي مسند الطيالسيّ ( ج 1 ) في أحاديث سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. وفي الدّر المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالی: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) وقال أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي.

الإداريّة ، والقدرة على التدبير والدراية ما للنبيّ صلی اللّه علیه و آله حتّى يخلّفه في سياسة الاُمّة ، وتسيير اُمورها الاجتماعيّة والفرديّة.

وربّما يتصوّر أنّنا نقسوا على الصحابة مع ما يكيل لهم الجمهور من تجليل واحترام كبيرين ، غير أنّ من يرجع إلى القرآن الكريم ، يجد بأنّنا لم نقس على أحد منهم ، بل القرآن الكريم هو الذي يقسمهم إلى صنفين ، فيمدح صنفاً ويذم صنفاً بصراحة كاملة.

فالصنف الأوّل الذين يمدحهم القرآن ويذكر عنهم بخير يشمل السابقين الأوّلين إلى الإسلام والتابعين لهم ، حيث يقول عنهم :

1. ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ (1) وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة : 100 ).

2. ( لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح : 18 ).

3. ( لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر : 8 ).

4. ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح : 29 ).

ص: 81


1- لا يخفى أنّ الرضاية الإلهيّة الواردة في الآية مقيّدة بظرفها ووقتها ( أي ظرف المبايعة ووقتها ) لقوله ( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ، فبقاء الرضاية يحتاج إلى دليل ، كما أنّ ادّعاء نفيها يحتاج أيضاً إلى دليل.

غير أنّ هناك آيات جمّة - إلى جانب ذلك - تدلّ على عدم كون الصحابة كلّهم عدولاً ، بل وممدوحين ، إذ فيهم المنافق الذي يقلّب الاُمور على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وفيهم من مرد على النفاق ونبت عليه : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة : 101).

ومنهم من خلط عملاً صالحاً بعمل سيّئ : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ( التوبة : 102 ).

وطائفة قد بلغ ضعف إيمانهم إلى حدّ الدنوّ إلى الارتداد والعودة إلى الجاهليّة : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران : 154 ).

وطائفة قد بلغ مبلغ إيمانهم باللّه ورسوله أنّهم كلّما أعتورهم الخوف وداهمهم الخطر ، لاذوا بالفرار ، قال سبحانه عنهم : ( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ

ص: 82

يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الأحزاب : 10 - 20 ).

وهذه الآيات ، تشرح بصراحة ما عليه جماعة كثيرة من أصحاب النبيّ ولا تختصّ بالمنافقين ، لقوله سبحانه : ( إِذْ جَاءُوكُم ... مِن فَوْقِكُمْ ... وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) وقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) عاطفاً لها على المنافقين فقال ( وَالَّذِينَ ) ولم يقل ( الذين ).

نعم كانت في صحابة النبيّ ثلة جليلة بالغة منتهى الإيمان والعمل ، وهم الذين عناهم اللّه تعالى بقوله : ( وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . ( الأحزاب : 22 - 23 ).

إجابةٌ عن سؤال

ولعل القائل يقول : بأنّهم كيف لم يبلغوا الدرجة الكاملة في أمر القيادة مع أنّهم ، حطّموا امبراطوريتين كبيرتين ، وبنوا فوق أنقاضها صرح الإسلام ، أضف إلى ذلك ، أنّه سبحانه وصفهم في سورة الفتح بقوله : ( فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ ) ( الفتح : 29 ).

فهو يدل على كفاءتهم في أمر القيادة والاعتماد على أنفسهم ، حيث شبّههم بالزرع المستغلظ القائم على سوقه.

ولكن الإجابة على هذا السؤال سهلة بعد الوقوف على ما نذكره :

1. إنّ التسلّط على الامبراطوريّتين لم يكن نتيجة قوة القيادة وصحتها ، بل كان لقوّة تعاليم الإسلام ، أكبر سهم في نفوذهم وسيطرتهم عليهما ، حيث كانت التعاليم بمجرّدها تسحر القلوب ، وتجذب العقول وتفتح الطريق خاصّة بين تلك الشعوب التي طالما عاشت الضغط والحرمان ، وعانت من الظلم والاضطهاد المرير.

ص: 83

2. إنّ التأريخ يشهد ، بأنّ الامبراطوريتين كانتا تلفظا أنفاسهما الأخيرة ، وكانتا قد بلغتا درجةً كبيرةً من الضعف ، فساعد الإسلام على سقوطها واندحارها.

ويشهد على ذلك ، أنّ الشعوب التي كانت تعيش تحت حكميهما كانت تسارع إلى استقبال الفتح الإسلامي وترحّب بحكم المسلمين ونظامهم ، فتفتح أبواب المدن لعساكر الإسلام وتبدي رغبتها الشديدة في العيش تحت لواء الحكومة الإسلامية.

روى البلاذريّ : ( لمّا ردّ المسلمون على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج ، وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم ، فأنتم على أمركم ، قال أهل حمص لهم :

لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. و ...

ونهض اليهود وقالوا : والتوراة ، لايدخل عامل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.

وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد فلمّا هزم اللّه الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج ) (1).

3. إنّ المراجع للتأريخ الإسلاميّ يجد أنّ أمير المؤمنين عليّاً علیه السلام كان له السهم الأوفر في القيادة ، وتحقيق الانتصارات التي أصابها المسلمون بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويدلّ على تلك المساهمة الفعلية ، ما قاله عليّ علیه السلام عندما شاوره عمر بن الخطاب في الخروج بنفسه إلى غزو الروم : « إنّك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك ، فتلقهم فتنكب ، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه ، فابعث إليهم رجلاً محرباً ، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة ، فإن أظهر اللّه فذاك ما تحب ، وإن

ص: 84


1- فتوح البلدان للبلاذريّ : 143.

تكن الاخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين » (1).

وبالرغم من أنّه علیه السلام قد اقصي عن الخلافة ، ولم يكن يخطر بباله أنّ العرب تزعج هذا الأمر - من بعد النبيّ - عن أهله ، فإّنه لم يمسك يده عن نصرة المسلمين ، عندما لاحظ رجوع الناس عن الإسلام يريدون محق دين محمد ، والعودة إلى الجاهلية وفي ذلك يكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لمّا ولاّه إمارتها ويقول : « حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد صلی اللّه علیه و آله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان ، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق ، واطمأنّ الدين وتنهنه » (2).

4. إنّ الفرق الكبير بين قيادتهم وقيادة من كان يجب أن يسلّم الأمر إليه إنّا يعلم ، لو باشرت تلك الطائفة الاخرى أمر القيادة ، فعند ذلك نعلم مدى صحة قيادة الطائفة الاولى.

وبما أنّ الأمر لم يسلّم إلى من كان يجب تسليم الأمر إليه. صارت قيادتهم عندنا قيادةً عاريةً عن الضعف والنقص.

والذي يدل على ذلك. أنّ القيادة بعد النبيّ جرّت على المسلمين أكبر المآسي والويلات ، خصوصاً عندما أخذت بنو اميّة وبنو العباس زمام الأمر ، وعادت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً وحكماً قيصرياً كسروياً.

وللبحث عن أحوال الصحابة ومواقفهم في القرآن الكريم ، مجال آخر ربّما نتوفّق للبحث عنها في وقت آخر. ولا نريد بهذه الكلمة تعكير الصفو ، أو تمزيق الوحدة ، وإنّما نريد أن نوقف القارئ الكريم على الحقيقة على وجه الإجمال.

وخلاصة القول ، أنّ الصحابة ليس كلّهم عدولاً يقتدى بهم ويستضاء بنورهم ،

ص: 85


1- نهج البلاغة : الخطبة 130 ( طبعة عبده ).
2- نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم (62).

بل هم على أقسام تحدّث عنها القرآن الكريم ، ويقف عليها من استشفّ الحقيقة عن كثب ، كما لم تبلغ الاُمّة إلى حد الإكتفاء الذاتي في القيادة ، كما هو محط البحث.

ب - الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ
اشارة

من الواضح لكل مطلع على أوضاع الاُمّة الإسلاميّة قبيل وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ الدولة الإسلاميّة الحديثة التأسيس كانت محاصرة من جهتي الشمال والغرب بأكبر إمبراطوريّتين عرفهما تأريخ تلك الفترة ، إمبراطوريّتان كانتا على جانب كبير من القوة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة مما لم يتوصّل المسلمون إلى أقل درجة منها ... وتلك الامبراطوريّتان هما : الروم ، وإيران.

هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل ، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن ( أو ما يسمى بالطابور الخامس ).

ولأجل أن نعرف مدى الخطر المتوجّه من هذه الجهات الثلاث على الاُمّة والدولة الإسلاميّة يجدر بنا أن ندرس كلّ واحدة منها بالتفصيل :

1. خطر إمبراطوريّة إيران

لقد كانت إيران إمبراطوريّةً ضخمةً ، ذات حضارة متقدمة زاهرة ، وذات سلطان عريض فرضته على عدد كبير من المستعمرات أحقاباً مديدةً من السنين ، ممّا أكسبت ملوكها وزعماءها روح التسلّط والسيطرة ، وأصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة امّة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم في العراق واليمن ، وهم الذين لم يعترفوا بالسيادة لأحد قروناً طويلةً ، فلأجل هذه الغطرسة والأنانية شمخ الامبراطور الفارسيّ (خسرو برويز ) بأنفه عندما أتته دعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله فمزّق رسالته المباركة التي كتبها صلی اللّه علیه و آله يدعوه فيها إلى الإسلام وعبادة اللّه تعالى ... وكتب إلى عامله باليمن :

ص: 86

( ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز [ ويعني الرسول ] رجلين من عندك جلدين فليأتياني به ) (1).

2. خطر الروم

كانت الامبراطوريّة البيزنطيّة تقع في شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله دائماً ، ولم يبارحه التفكير في خطرها حتى رحل إلى ربّه.

ولقد كان لهذا القلق مبرّره ، فإنّ هذه الامبراطورية على غرار الامبراطوريّة الإيرانية ، كانت ذات صفة توسّعيّة ، وكان قادتها يقمعون أي حركة ومحاولة من مستعمراتهم للخروج من فلكها.

ولقد وقعت بين هذه الامبراطوريّة وبين المسلمين اشتباكات عديدةً. وكان أوّل اشتباك مسلّح وأوّل صدام عسكريّ عنيف هو الذي وقع في السنة الثامنة من الهجرة ، وذلك عندما بعث النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله ( الحارث بن عمير الأزدي ) مع رسالة إلى ( الحارث بن أبي شمر الغساني ) يدعوه فيها وقومه إلى الإسلام ، فلمّا وصل إلى ( مؤتة ) تعرّض له ( شرحبيل بن عمرو الغساني ) ، وضرب عنقه (2).

ولمّا كان قتل الرسل أمراً ممنوعاً في جميع الحالات والظروف ، وكان يعني أعتداءً على الجهة المرسلة ، فإنّ هذا الفعل ( اعني قتل رسول النبيّ ) كشف عن استهانتهم بقوة الإسلام وأمره ، وعن تعصبهم ضدّه ، وعدم اعترافهم بكيانه السياسيّ ، وقد حملت هذه الاُمور النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله على ، أن يجهّز لهم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل ، ويوجّهه إلى ( مؤتة ) وقد قتل في هذه الموقعة من اختارهم لقيادة الجيش وهم جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وعبد اللّه بن رواحة ، وأخذ اللواء بعدهم خالد بن الوليد ، ورجع الجيش الإسلاميّ من تلك الواقعة منهزماً أمام الجيش البيزنطيّ.

ص: 87


1- الكامل للجزري 2 : 145.
2- اُسد الغابة 1 : 341 - 342.

ولقد أثار إخفاق المسلمين وهزيمتهم في هذه المعركة ، واستشهاد القادة الثلاثة ، لوعةً ونقمةً في نفوس المسلمين اتّجاه الروم. كما أنّه زاد من جرأة جيوش الروم ، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إلى تبوك في السنة التاسعة يقصد غزو ذلك الجيش المعادي ، ولكنّه لم يلق أحداً فأقام في تبوك أياماً ، وصالح أهلها على الجزية ، وقد حققت هذه الحملة هدفاً كبيراً وبعيداً على الصعيد السياسيّ وأنست تقهقر الجيش الإسلاميّ المحدود في طاقاته ، أمام جحافل الروم المجهّزة بأحسن تجهيز (1).

ولم يكتف النبيّ صلی اللّه علیه و آله بهذه الحملة ، بل عمد في أخريات حياته إلى بناء جيش إسلاميّ بقيادة ( أسامة بن زيد ) لمواجهة جيش الروم (2).

3. خطر المنافقين

إنّ الدارس للمجتمع الإسلاميّ إبّان الدعوة الإسلاميّة ، والمطّلع على تركيبته يجد ، أنّ ذلك المجتمع كان يزخر بوجود المنافقين بين صفوفه.

والمنافقون هم الذين استسلموا للمدّ الإسلاميّ وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً. فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام والمودّة للمسلمين ، ولكنّهم يضمرون لهم كل سوء ويتحيّنون الفرص ، لتوجيه الضربات إلى الدين الجديد ، وضرب المسلمين بعضهم ببعض ، وإضعاف الدولة الإسلاميّة من الداخل بإثارة الفتن ، بين أفرادها وأبنائها ، والسعي لتمزيق صفوفهم وإشعال الحروب الداخليّة فيما بينهم بإيقاظ النخوة الجاهليّة التي طهّر الإسلام أرض الجزيرة منها.

وربّما كانوا يتربّصون بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله الدوائر ، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة ، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجة الوداع ، وربّما اتّفقوا مع اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلاميّ من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد

ص: 88


1- السيرة النبويّة لابن هشام 2 : 515 - 529.
2- الملل والنحل 1 : 29 ( طبعة القاهرة ) ، الطبقات الكبرى 4 : 65 ، الكامل في التاريخ 2 : 215.

مصالحهم.

ولقد كان المنافقون ولايزالون أشدّ خطراً من أي شيء آخر على الإسلام وذلك ، لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفية ، وبنحو يخفى على العاديين من الناس (1).

وإليك طرفاً ممّا ذكره القرآن الكريم حولهم ، فهم متآمرون يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أما م النبيّ إذ يقول : ( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) ( النساء : 81 ).

وهم يريدون الشر للمسلمين دائماً ، ولذلك يذيعون الشائعات التي من شأنها إضعاف معنويات المسلمين إذ يقول عنهم : ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) ( النساء : 83 ).

وهم يريدون الفتنة دائماً ، لذلك يقلبون الوقائع ويخفون الحقائق كما يقول القرآن : ( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة : 48 ).

وهم لا يرتدعون عن أي عمل يحقّق مصالحهم وأغراضهم المضادّة للإسلام ، حتّى ولو كان بالتحالف مع المشركين والكفار ، بل حتّى ولو كان باعطاء الوعود الكاذبة لهم ، والتغرير بهم وخذلانهم عند اللقاء ، وعدم الوفاء بالوعد : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) ( الحشر : 11 - 12 ).

ص: 89


1- لقد تصدّى القرآن الكريم ، لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم ، وخططهم ، الجهنّمية ضدّ الدين والنبيّ والاُمّة في أكثر السور القرآنيّة ، مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب ومحمّد والفتح والمجادلة والحديد والحشر ، كما نزلت في حقّهم سورة خاصّة تسمّى بسورة المنافقين.

ولذلك ، شدّد القرآن الكريم في ذكر عذابهم أكثر من أي جماعة اخرى إذ يقول : ( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ( النساء : 145 ).

ويحدثنا التأريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً ، وخطيراً في تعكير الصفو وإفساح المجال أمام أعداء الإسلام الأجانب - سواء قبل قوة الإسلام وبعدها - للمكر بالإسلام والكيد له ، والمؤامرة عليه ، بحيث لولا وجود النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأتوا على ذلك الدين ، ولقضوا على كيانه وأطاحوا بصرحه ، وأطفأوا نوره.

وقد كان من المحتمل - بقوة - أن يتّحد هذا الثلاثي الخطر ( الفرس والروم والمنافقون ) لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره ، وخاصّة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وغياب شخصه عن الساحة.

وكان من المحتمل جداً ، أن يتفق هذا الثلاثي - الناقم على الإسلام - على محو الدين ، وهدم كلّ ما بناه الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب ، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

ج - العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميّز به المجتمع العربيّ قبل الإسلام ، هو النظام القبلي ، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ - في ذلك المجتمع - مكانةً كبرى ، وتتمتّع بأهمّية عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية ، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

صحيح أنّ جميع القبائل العربية - آنذاك - كانت ترجع - في الأصل - إلى قبيلتي ، القحطانيين ( وهم اليمنيّون ) والعدنانيين ( وهم الحجازيّون ) ، إلاّ أنّ هذا التقسيم الثنائيّ قد تحوّل بمرور الزمن ، إلى تقسيمات كثيرة وعديدة ، حتّى أصبح من العسير ، إحصاء القبائل العربيّة وأفخاذها وفروعها وبطونها.

ص: 90

فمن يراجع الكتب التالية : ( بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب ) تأليف السيد محمود شكري الآلوسي ، و ( المفصّل في تأريخ العرب ) تأليف علي جواد ، الجزء (4) الفصل (46) ، و ( معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ) تأليف عمر رضا كحالة الجزء (3). من يراجع هذه المؤلفات التي تشرح النظام القبليّ وأبعاده في المجتمع العربيّ قبل الإسلام ، يعرف - معرفةً كاملةً - مدى تغلغل وتوسّع النمط القبليّ عند العرب ، ومدى تأثير القبيلة وعدد بطونها وأفخاذها وفروعها ، تلك القبائل والأفخاذ والبطون التي كانت تبدأ أسماؤها - في الغالب - بلفظة ( آل ) مثل ، آل النعمان وآل جفنة ، أو لفظة ( بنو) ، كبني أشجع وبني بكر وبني تغلب ، أو كان يطلق على جميع أبنائها اسم الجدّ الأعلى للقبيلة مثل ، غطفان وخزاعة ( وهما - في الحقيقة - اسمان للجدود ولكنّهما اطلقا على القبيلة ).

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية - قبل الإسلام - وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد ، وتبنى الأمجاد ، كما كانت هي ، منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربّما كانت تستمرّ قرناً أو قرنين من الزمان ، كما حدث بين الأوس والخزرج ، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب ( المدينة ) ، وكلّفهم آلاف القتلى قبل دخول النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة.

كما أنّ التأريخ يشهد لنا ، كيف كاد التنازع القبليّ في قضية بناء الكعبة الشريفة ووضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية ، أن يؤدي إلى الاختلاف فالصراع الدموي ، والاقتتال المرير ، لولا تدخّل النبيّ صلی اللّه علیه و آله الذي حسم الأمر بطريقة أرضت جميع القبائل المتنافسة ، وأطفأت نار الفتنة التي كادت أن تأكل كلّ أخضر ويابس (1).

ونظراً لما كان يتمتع به رؤساء هذه القبائل من نفوذ ، وكانت تلك الجماعات تملك من قوّة ورابطة - في ذات الوقت - فقد سعى الرسول الأكرم - وبحكمة كبرى - أن

ص: 91


1- راجع السيرة النبويّة لابن هشام 1 : 196 تحت عنوان اختلاف قريش فيمن يضع الحجر ولعقة دم ، ومروج الذهب 2 : 278 تحت عنوان بناء قريش الكعبة واختلافهم في وضع الحجر الأسود وحكم النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيهم.

يستفيد من قدرة تلك القبائل ونفوذ رؤسائها ، في إنجاح الدعوة الإسلامية وتقوية أركانها ، والتغلّب على أعدائها من الكفّار والمشركين وغيرهم من المعارضين.

إلاّ أنّ هذا النظام ( القبلي ) لما كان ينطوي عليه - في نفس الوقت - من سيئات جسيمة ، وتبعات لا يمكن التغاضي عنها ، ومنافاتها مع ما ينشده الإسلام ويدعو اليه من الوحدة والاتّحاد بين جميع أفراد المسلمين ، فقد سعى الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله في محو الروح القبلية ، وتذويب الفوارق العشائرية. وصهر تلك التجمّعات المتشتّتة المتباينة في بوتقة الإيمان الموحّد ، والصف الإسلامي الواحد ، ولكنّه صلی اللّه علیه و آله رغم ما أوجده في ضوء التعاليم الإسلامية من تحوّلات عظيمة في حياة العرب ، إلاّ أنّ أكثر هذه التحوّلات كانت تتعلّق بقضايا العقيدة ، والمسائل الأخلاقية والروابط الاجتماعية ... ولم يكن من الممكن أن ينقلب شكل النظام القبليّ العربيّ في خلال ( 23 عاماً ) ويتبدل كليةً. ويدلّ على ذلك ، وجود بقايا من هذا النظام في القسم الأكبر من شبه الجزيرة العربية مثل اليمن ونجد والحجاز ... و و.

إنّ اُصول هذه العشائر - في ابّان العهد الإسلاميّ - وإن كانت عبارةً عن حمير وكهلان وقضاعة ومضر وربيعة ، إلاّ أنّ هذه القبائل الأساسية تفرّعت وتشعّبت باستمرار ، إلى قبائل وأفخاذ وفروع ، وكان لكل قبيلة وفخذ منها شيخ ورئيس يرأس الجماعة وتكون له الكلمة والقيادة وتعطي له الإحترام والطاعة.

وقد كانت النفسيات والأخلاق العشائرية ، المتوغّلة في نفوسهم بحيث لم تنعدم انعداماً كلياً ، رغم ما تلقاه اُولئك من التعاليم الإسلاميّة والتربية القرآنية ، ولذلك كانت تظهر بين الفينة والاخرى ، وينشأ بسببها النزاع ويكاد يتوسّع لولا حكمة الرسول صلی اللّه علیه و آله وتدبيره.

فقد ذكر ابن هشام ، حادثةً عند عودة النبيّ والمسلمين من غزو بني المصطلق ، بدأت من قضية صغيرة وكادت أن تتطوّر إلى نزاع قبليّ واسع لولا تصرّف النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

قال : ( بينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عائداً من غزو بني المصطلق وقد نزل عند ماء ، وردت

ص: 92

واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له : جهجاه بن مسعود يقود فرسه ، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين (1) ، فغضب عبد اللّه بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم ، غلام حدث ، فقال : أو قد فعلوها ، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، واللّه ما أعدنا وجلابيب قريش [ أي من أسلم من المهاجرين ] إلاّ كما قال الأوّل : سمّن كلبك يأكلك ، أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، ثم أقبل على من حضره من قومه ، فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما واللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم ، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وذلك عند فراغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من عدوّه ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب فقال : مر به عباد بن بشر فليقتله ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه ؟ لا ، ولكن أذّن بالرحيل ، وذلك في ساعة لم يكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يرتحل فيها ... فارتحل الناس (2).

كما أنّ هناك حادثةً اخرى تدلّ على أنّ مادة الاختلاف كانت كامنةً في أعماقهم ، وكانت مستعدةً للإنفجار في كلّ لحظة ، وبأقل تحريك ، وإيقاد للعصبيات والرواسب القبليّة الجاهليّة.

فها هو ابن هشام ينقل : أنّ شأس بن قيس وكان شيخاً من اليهود قد أسنّ ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه ، فغاضه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم من

ص: 93


1- قال السهيليّ : ( لمّا سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذه الكلمات قال : « دعوها فإنّها دعوة منتنة » يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهليّة ، وجعل اللّه المؤمنين إخوةً وحزباً واحداً ، فإنّما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ).
2- السيرة النبويّة لابن هشام 2 : 290 - 291.

العداوة في الجاهلية. فقال : قد اجتمع ملأُ بني قيلة بهذه البلاد ... لا واللّه مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار ، فأمر فتىً شابّاً من يهود كان معهم ، فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله ، وانشدهم بعض ما كانوا ما تقاولوا فيه من الأشعار.

وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج ، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهليّ ، أبو أسيد بن حضير ، وعلى الخزرج عمرو النعمان البياضيّ ، فقتلا جميعاً ..

قال ابن هشام : قال أبو قيس بن الأسلت :

على أن قد فجعت بذي حفاظ *** فعاودني له حزن رصين

فأما تقتلوه فإنّ عمراً *** أعض برأسه عضب سنين

وهذان البيتان في قصيدة له ، وحديث يوم بعاث أطول ممّا ذكرت.

قال ابن هشام : ففعل [ ذلك الشاب ما أراده شأس ] فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحييّن على الركب ، أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس ، وجبّار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا ثمّ قال أحدهما لصاحبه ، إن شئتم رددناها الآن جذعة [ أي رددنا الآخر إلى أوّله وأعدنا الاقتتال والتنازع ] فغضب الفريقان جميعاً وقالوا : قد فعلنا ، موعدكم الظاهرة [ أي الحرّة ] السلاح السلاح فخرجوا إليها فبلغ ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم ، فقال : « يا معشر المسلمين ، اللّه اللّه أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم اللّه للإسلام ، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة [ أي إفساد بين الناس ] من الشيطان وكيد من عدوّهم ، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ، ثمّ انصرفوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سامعين مطيعين ، قد أطفأ اللّه عنهم كيد عدوّ اللّه شأس بن قيس ، فأنزل اللّه تعالى في شأس بن قيس وما صنع : ( قُلْ يَا أَهْلَ

ص: 94

الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( العمران : 98 - 99 ).

وأنزل اللّه في أوس بن قيظيّ وجبّار بن صخر ومن كان معهما من قومهما ، الذين صنعوا ما صنعوا عمّا أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * إلى أخر قوله تعالى - وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران : 100 - 105 ) (1).

وممّا يدلّ أيضاً على وجود رواسب الخلاف عند قبيلتي الأوس والخزرج حتّى بعد دخولهم في الإسلام ، وانضوائهم تحت لوائه في صف واحد ، ما نقله الشيخ البخاري في صحيحه ، في قصّة الإفك قال ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهو على المنبر : « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، واللّه ما علمت على أهلي إلاّ خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً ، وما يدخل على أهلي إلاّ معي ».

قالت عائشة : فقام سعد بن معاذ (2) أخو بني عبد الأشهل فقال : أنا يا رسول اللّه أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت : فقام رجل من الخزرج وهوسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، قالت : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمرو اللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عمّ سعد [ بن معاذ ] ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمرو اللّه لنقتلنّه ، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

ص: 95


1- السيرة النبويّة لابن هشام 1 : 555 - 557.
2- فيه تأمل ، فإنّ سعداً توفّي قبل غزو بني المصطلق.

قالت عائشة : فصار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتّى همّوا أن يقتتلوا ، ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائم على المنبر.

قالت : فلم يزل رسول اللّه يخفّضهم ( أي يهدّئهم )حتّى سكتوا وسكت (1).

فكيف كان يجوز - والحال هذه - أن يترك الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله اُمّته المفطورة على العصبيّات القبليّة ، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصها على النفس ، ورفض سلطة الآخر ؟

فهل كان يجوز للنبيّ أن يترك تعيين مصير الخلافة لتقوم به اُمّة هذه حالها ، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟

وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الاُمّة جمعاء على واحد ... ولا تخضع للرواسب القبليّة ولا تبرز إلى الوجود مرّة اخرى ما مضى من الصراعات والتطلّعات العشائرية ، وما يتبع ذلك من حزازات ؟

أم هل يصلح لقائد يهتمّ ببقاء دينه واُمّته أن يترك أكبر الاُمور وأعظمها ، وأشدّها دخالةً في حفظ الدين ، إلى اُمّة نشأت على الاختلاف ، وتربّت على الفرقة ، مع أنّه كان يرى الاختلاف منهم في حياته أحياناً أيضاً كما عرفت ؟

إنّ التأريخ يدلّ على أنّ هذا الأمر قد وقع فعلاً بعد وفاة النبيّ - في السقيفة التي سيأتي ذكرها مفصّلاً - حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة ، منتحلةً لنفسها حججاً وأعذاراً ... وطالبةً ما تريد بكلّ ثمن حتّى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلاميّة ، والوصايا النبويّة.

فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة ، تفرّق الكلمة » نقلاً عن عمر بن الخطاب ، ما يدلّ على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد :

قال عمر : لمّا جلسنا ( أي في سقيفة بني ساعدة ) قام واحد من الأنصار فأثنى

ص: 96


1- صحيح البخاري 5 : 119 باب غزو بني المصطلق.

على اللّه بما هو أهله ثمّ قال :

( أمّا بعد فنحن أنصار اللّه وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا ، وقد دفّت دافّة من قومكم ( أي جاء جماعة ببطء ) وإذا هم يريدون أن يحتازونا ( أي يدفعوننا ) من أصلنا ، ويغصبونا الأمر ).

... فقام أبو بكر وقال :

( أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن تعرف العرب هذا الأمر ( أي الزعامة ) إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم ) وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجّراح :

ثمّ قام وقال قائل من الأنصار ( أنا جذيلها المحكّك ، وعذيلها المرجّب ، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ).

قال عمر بن الخطاب : ( فكثر اللغط ( أي اختلاف الأصوات ودخول بعضها على بعض ) ، وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف ) (1).

ولم يقتصر اختلاف الاُمّة على هذا الذي ذكرناه ، بل ظهرت مظاهر التشتت القبليّ حتّى بعد ما جرى في السقيفة من بيعة من فيها لأبي بكر ، حيث راح المهاجرون والأنصار يتهاجون فيما بينهم ، وجرت بينهم مشادات كلاميّة وشعريّة هجائيّة ، هاجم فيها كلّ فريق الفريق الآخر بأشدّ أنواع الهجاء نقلها المؤرّخون ونذكر منها شيئاً :

فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن كتاب الموفّقيّات : لمّا بويع أبو بكر ... وراح أبو سفيان بن حرب يدّعي الفضل لقريش ويذكر اُموراً في هذا المجال ، قال حسّان بن ثابت :

تنادى سهيل وابن حرب وحارث *** وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه *** فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل

ص: 97


1- السيرة النبويّة لابن هشام 2 : 659 - 660.

فأمّا سهيل فاحتواه ابن دخشم *** أسيراً ذليلاً لا يمرّ ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله *** غداة لوا بدر فمرجله يغلي

اولئك رهط من قريش تبايعوا *** على خطّة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم *** كأنّا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلّهم ثان عن الحقّ عطفه *** يقول اقتلوا الأنصار بئس من فعل

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف *** صروف الليالي والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا *** كقسمة أيسار الجزور من الفضل

ونحمي ذمار الحيّ فهو بن مالك *** ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم *** جهالتهم حمقاً وما ذاك بالعدل

فبلغ شعر حسّان قريشاً ، فغضبوا وأمروا أبي عزّة شاعرهم أن يجيبه ، فقال :

معشر الأنصار خافوا ربّكم *** واستحيروا اللّه من شّر الفتن

إنّني أرهب حرباً لاقحاً *** يشرق المرضع فيها باللبن

جرّها سعد وسعد فتنة *** ليت سعد بن عبّاد لم يكن

خلف برهوت خفيّاً شخصه *** بين بصرى ذي رعين وجدن

ليس ما قدّر سعد كائناً *** ما جرى البحر وما دام حضن

ليس بالقاطع منّا شعرةً *** كيف يرجى خير أمر لم يحن

ليس بالمدرك منها أبداً *** غير أضغاث أماني الوسن

واتّفق أن اجتمع الأنصار والمهاجرين في مجلس ، فأفاضوا الحديث عن يوم السقيفة ، فقال عمرو بن العاص : واللّه لقد دفع اللّه عنّا من الأنصار عظيمةً ، ولما دفع اللّه عنهم أعظم ، كادوا واللّه أن يحلّوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه ، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه ؟ ولقد قاتلونا أمس فغلبونا ، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة ، فلم يجبه أحد وانصرف إلى منزله وقد ظفر فقال :

ص: 98

ألا قل لأوس إذا جئتها *** وقل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب *** فأنزلت القدر لم تنضج

إلى آخر الأبيات.

فلمّا بلغ الأنصار مقالته وشعره ، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان فقال لعمرو وهو في جماعة من قريش : ( واللّه يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلاّ ما كرهنا من حربكم ، وما كان اللّهليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه ، إن كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « الأئمّة من قريش » فقد قال : « لو سلك النّاس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار » فأمّا المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم ، ولكنّك وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة ، لقتل جعفر وأصحابه ، ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد ).

ثمّ أنشد أبياتاً يمتدح فيها قومه الأنصار ويهجو المهاجرين.

فلمّا انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منهم.

وقد طالت المماحكات والمشاجرات الكلاميّة وطال التهاجي الحاد بين الصحابة ... حتّى قال أحدهم :

أيال قريش أصلحوا ذات بيننا *** وبينكم قد طال حبل التماحك

فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا *** ولا خير فينا بعد فهر بن مالك

فلا تذكروا ما كان منّا ومنكم *** ففي ذكر ما قد كان مشيُ التساوك (1)

إنّ ما نقلناه لك هنا ، هو غيض من فيض ممّا جرى بين صحابة الرسول صلی اللّه علیه و آله من المنازعات والاختلافات في مسألة القيادة ، فهل كان يجوز ترك مثل هذا المجتمع غير المتّفق في تطلعاته وآرائه دون نصب قائد يكون نصبه قاطعاً لدابر الاختلاف ومانعاً من مأساة التمزّق والتقاطع والفرقة ؟.

* * *

ص: 99


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 17 - 38 ( طبعة مصر ).

تلك محاسبات عقليّة واجتماعيّة من واقع المجتمع الإسلاميّ الأوّل ، تدلّنا على أنّ الحقّ في مسألة القيادة في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله هو أن يستخلف صلی اللّه علیه و آله ( قائداً ) للاُمّة ، وراعياً لمصالحها وشؤونها ، لما في نفس التنصيب من مصلحة وقطع دابر الاختلاف.

فمثل هذه المحاسبات ، تمنع القائد الحكيم أن يترك الاُمّة من بعده من دون أن يعيّن لها قيادةً تحافظ على الكيان الإسلاميّ الناشيء من الأخطار المحدقة به ، وتقود الاُمّة الإسلاميّة الفتية في الطريق الشائك إلى الهدف المرسوم لها ، والغاية المطلوبة.

إنّ القائد الحكيم ، والرئيس المحنّك هو من يعتبر بالأوضاع الاجتماعيّة لاُمّتة والظروف المحيطة بها ، ويأخذ بنظر الاعتبار ما يمكن أنّ يحدث لها جرّاء غيبته ووفاته ، ثمّ يرسم على ضوء تلك الظروف والأحوال ، والتوقّعات والمحاسبات ما يراه صالحاً للاُمّة ولمستقبلها ، وأهم تلك الاُمور هو تعيين القائد لها ، والمدير لشؤونها من بعده.

إنّ أوضاع المسلمين آنذاك ، والظروف الحرجة المحيطة بهم ، كانت تقتضي أن لا يدع النبيّ صلی اللّه علیه و آله تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام وتلك الدولة الفتية الجديدة البنيان ، لآراء الاُمّة وإرادتها لتختار هي بنفسها قائدها ورئيسها ، وهي في خضمّ تلك الأخطار ، والظروف الحسّاسة البالغة الخطورة ، إذ ربمّا كانت تبتلي - في ذلك الأمر - بالخلاف الذريع ، والفرقة الكبيرة ، فتسهل للخصم سبيل السيطرة عليها وتمكّنه من مؤامراته ونواياه.

إنّ عدم بلوغ الاُمّة الإسلاميّة حدّ الاكتفاء الذاتيّ في القيادة والادارة ، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأخطار التي كانت تحدق بها ، والرواسب القبليّة الجاهليّة ، وعدم قدرتها على التغلّب على كلّ ذلك لوحدها ، كانت توجب على النبيّ صلی اللّه علیه و آله بحكم العقل السليم ، أن ينصّب للاُمّة قائداً يدبّر شؤونها ويجمع شتاتها ويحافظ على وحدتها ، ويقود سفينتها إلى شاطيء الأمن والدعة والسلام.

ص: 100

ماذا يُراد من الخلافة عن رسول اللّه ؟

إنّ الإمامة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والخلافة عنه تتصوّر بمعنيين :

الأوّل : أنّها إمرة إلهيّة واستمراراً لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهيّ ، وهذا ما تعتقده الشيعة الإماميّة في الإمامة والخلافة ، ويشترط فيه كلّ ما يشترط في النبي صلی اللّه علیه و آله إلاّ ما استثني.

الثاني : أن تكون رئاسةً دينيّةً لتنظيم اُمور الاُمّة ، من تدبير الجيوش وسدّ الثغور وردع الظالم والأخذ للمظلوم وإقامة الحدود وقسم الفيء بين المسلمين وقيادتهم في حجّهم وغزوهم (1). وهذا ما يعتقده اخواننا أهل السنّة في الخلافة ، ولأجل ذلك لا يشترط فيها نبوغ في العلم زائداً على علم الرعيّة ، بل هو والاُمّة في علم الشريعة سيّان ، كما لا يشترط سائر الصفات سوى القدرة على التدبير.

فلو كانت الخلافة بالمعنى الثاني الذي اختاره إخواننا أهل السّنّة ، فيكفي في لزوم نصب الإمام ما مرّ في البحث السابق.

وأمّا إذا قلنا بما اختاره الشيعة الإماميّة ، فيجب أن يكون الإمام ذات صفات وملكات يملأُ بها كلّ الفراغات الحاصلة بوفاة النبيّ ، والإمام بهذه الخصائص يحتاج إلى تربية إلهيّة كما في النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولا يعرف تلك الشخصيّة مع ما تتصف به من الصفات إلاّ اللّه سبحانه ، فيجب أن يعرّفها إلى الاُمّة وإلاّ جهلها الناسن ويلزم نقض الغرض.

ولأجل الاختلاف في معنى الإمامة ، عقدنا هذا البحث وفصلناه عن البحث السابق.

ص: 101


1- وقد أجمل الماورديّ مسؤوليّات الإمام في عشرة ، لاحظ الأحكام السلطانيّة : 15 - 16.

الطريق الثاني: وفاة النبيّ والفراغات الهائلة

اشارة

2

1. الفراغ في بيان الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة.

2. الفراغ في تفسير القرآن الكريم وشرح مقاصده.

3. الفراغ في مواصلة تكميل الاُمّة روحياً ونفسياً.

4. الفراغ في مجال الردّ على الأسئلة والشبهات.

5. الفراغ في صيانة الدين من محاولات التحريف.

دراسة الفراغات لماذا ؟
اشارة

إنّ دراسة الفراغات الهائلة المذكورة والحاصلة بوفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله والوقوف على كيفيّة سدّها بعده ، تعيننا على معرفة لون الحكومة الإسلاميّة - بعده -.

وعلى القارئ ، أن يتأمّل في هذه النقاط الحساسة ، بتجرّد وموضوعية ، حتّى يقف على ضالّته المنشودة.

لا شكّ أنّ وجود النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان يملأُ فراغاً كبيراً وعظيماً في حياة الاُمّة الإسلاميّة.

فالرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله لم تقتصر مسؤوليّاته وأعماله على تلقيّ الوحي الإلهيّ وتبليغ الرسالة الإلهيّة إلى الناس ، بل كانت تتجاوز ذلك بكثير.

ص: 102

فقد كان النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله يقوم ب :

1. بيان الأحكام الإسلاميّة من كليات وجزئيات.

2. تفسير الكتاب العزيز وشرح مقاصده وبيان أهدافه ، وكشف رموزه وأسراره.

3. دفع اُمّته - بحسن قيادته ودرايته - في طريق الكمال والرّقيّ والتقدّم. وتربية المسلمين ، وتهذيبهم وتزكيتهم وتخليص نفوسهم من شوائب الشرك والكفر والجاهلية ، وإعداد المسلم القرآني الكامل.

4. الردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يلقيها أعداء الإسلام ، ويوجّهونها ضد الدعوة الإسلاميّة.

5. صون الدين الإسلاميّ والرسالة الإلهيّة من أيّة محاولة تحريفية ... ومن أي دس في التعاليم المقدّسة.

وقد كانت كلّ هذه الاُمور تعتمد بالإضافة إلى ( الوحي ) إلى قدرات نفسيّة عالية ، وقابليات فكريّة هائلة ، ومعنويّات خاصّة تؤهّل النبيّ صلی اللّه علیه و آله للقيام بكلّ تلك المهام الجسيمة ، والاضطلاع بجميع تلك المسؤوليات الكبرى.

ولا ريب أنّ من كان يقوم بمثل هذه المسؤوليات ، يعتبر فقده وغيابه من الساحة ملازماً لحدوث فراغ هائل في الحياة الاجتماعيّة ، وثغرة كبرى في القيادة لا يسدّها إلاّ من يقوم مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله في القدرة القياديّة ، والإداريّة ، ويتمتّع بكلّ تلك الكفاءات الذاتيّة ، ويتحلّى بجميع تلك الصفات النفسية العليا ، والمؤهّلات الفكريّة والعلميّة والسياسيّة ، ما عدا خصيصة النبوّة وتلقّي الوحي.

ولمّا كانت هذه الكفاءات النفسيّة والمؤهّلات المعنويّة من الاُمور الباطنيّة الخفيّة التي لا يمكن الوقوف عليها ومعرفتها إلاّ بتعريف من اللّه تعالى وتعيينه وتشخيصه.

كما أنّها لمّا كانت لا تحصل للشخص بطريق عاديّ وبالتربية البشريّة المتعارفة بل لابدّ من اعداد إلهيّ خاص ، وتربية إلهيّة خاصّة ، ينطرح هذا السؤال :

ص: 103

هل كان يمكن للاُمّة أن تتعرفّ بنفسها على هذا الشخص ... وتكتشف من تتوفر فيه تلك المؤهّلات والكفاءات الخفيّة بالطرق العاديّة ؟ أو كان يحتاج ذلك إلى تشخيص اللّه تعالى ، وتعيينه وتنصيبه ؟.

ولو قلت : إنّ رحيل النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوجد فراغاً في الرسالة واستمرار الوحي فكيف يمكن سد هذا الفراغ ؟ أو هل يمكن ملؤه أيضاً ؟.

قلنا : إنّ خصيصة الخاتميّة التي أخبر عنها القرآن الكريم ، واتّصفت بها النبوّة المحمّديّة ، تخبر عن عدم حصول مثل هذا الفراغ ، وعدم احتياج الاُمّة إلى تتابع الرسالات واستمرار الوحي ، والاتصال السماويّ بالأرض ، لأنّ الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله جاء بأكمل الشرائع وأتمّها ، وأوفاها بحاجات البشريّة.

وبعبارة اخرى ، إنّ الرسول الخاتم قد أتى بكلّ ما تحتاج إليه البشريّة من تشريعات للحاجات الفعليّة ، ومن اُصول للتشريعات اللازمة للحاجات المستجدّة فلا توجد وفاة الرسول فراغاً في ذلك الجانب ، وإنّما الفراغ هو في الجوانب القياديّة الخمس المذكورة ، التي تحتاج إلى الكفاءات والمؤهّلات الذاتيّة والنفسيّة التي كان يتمتّع بها الرسول القائد صلی اللّه علیه و آله .

إنّ الوجوه التي تدلّ بصراحة كافية على أنّ الاُمّة الإسلاميّة لم يكن في مقدورها اختيار ومعرفة القائد المناسب الذي يخلّف الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله ويقود الاُمّة بنفس المؤهّلات والكفاءات التي كان يتحلّى بها النبيّ الراحل - ما عدا الوحي - بل كان يجب تعريفه من جانب اللّه سبحانه ، وتعيينه ونصبه لقيادة الاُمّة وسدّ ما حدث - بوفاة النبيّ القائد المعلّم - من فراغ بل فراغات ..

إنّ هذه الوجوه هي :

1. الفراغ في مجال الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة
اشارة

لا شكّ أنّ الوحي الإلهيّ انقطع بوفاة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله كما لا شكّ أنّ

ص: 104

الرسول صلی اللّه علیه و آله التحق بربه وقد أدّى ما عليه من مهمّة التبليغ والدعوة خير أداء ، وقام بتثقيف الاُمّة الإسلاميّة أفضل قيام ، ولكن الاُمّة كانت تعاني - بعد وفاة النبيّ - من مشكلات كبيرة تشريعيّة بالنسبة للحوادث المستجدّة والوقائع الجديدة ، فماذا كان السبب ؟ فهل كان هناك نقص في التشريع الإسلاميّ ، أم كان هناك أمر آخر يتعلّق بالاُمّة نفسها ؟.

وبعبارة اخرى : إنّ القرآن الكريم والسنّة المطهّرة أعلنا من جانب عن إكمال الشريعة وأنّه ما من شيء تحتاج إليه الاُمّة إلاّ وقد جاء به الكتاب والسنّة ، وبيّنه وأتمّه النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

وهذا ممّا لا يشكّ فيه أحد من المسلمين ، خصوصاً بعد القول بخاتميّة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وانسداد باب الوحي الإلهيّ.

ومن جانب آخر ، نرى بأن الاُمّة الإسلاميّة فوجئت بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بحوادث جمّة لم تجد لها حلولاً في الكتاب والسنّة ، وقد اعترفت بذلك أتم اعتراف.

فكيف يمكن الجمع بين الأمرين والتوفيق بينهما ؟.

إنّ الذي تدلّ عليه الشواهد التأريخية ، هو أنّ المسلمين لم يستطيعوا - رغم ما بذله الرسول الأكرم من جهود كبرى في فترة رسالته - أن يستوعبوا التربية العلميّة الكافية والتعبئة الفكريّة اللازمة التي تؤهّلهم لمواجهة جميع المفاجئات ، وحلّ جميع المشكلات والمسائل المستجدّة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وذلك لأنّ مثل هذه التربية الكافية ، وهذه التعبئة الوافية بالحاجة والحاجات المستجدّة كانت تتطلّب فترة طويلة ، وجوّاً من الطمأنينة ، وتركيزاً شديداً.

ولكن هذه الظروف والشرائط المساعدة لم تتوفّر لا للمسلمين ، ولا للنبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله خلال مدّة الدعوة التي استغرقت 23 عاماً.

وإليك فيما يأتي تفصيل العوامل التي حالت دون أن يستوعب المسلمون جميع أبعاد الشريعة ، ويتلقّوا عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله التعبئة الفكرية الكافية والتعليم الواسع ، رغم

ص: 105

ما بذله صلی اللّه علیه و آله في سبيل تحقيق ذلك من جانبه :

(أ) : لقد قضى الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله الفترة المكّيّة من حياته الرسالية - التي استغرقت 13 عاماً كاملة - في دعوة المشركين في مكّة ، وما حولها. تلك الدعوة الرفيقة الرحيمة المخلصة التي كانت تقابل بالعناد واللجاج منهم ، وتواجه بالمضايقات وخلق الصعوبات.

وحتّى لو تمكّن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله من إحراز بعض النجاح في مهمّته فإنّ عناد المشركين والوثنيين يجعل تلك النتائج قليلة وضئيلة ... واستمر هذا الحال في مكّة حتّى انتهى إلى محاولة اغتيال الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله والقضاء على حياته الشريفة - في فراشه - ، وكانت الهجرة المباركة إلى يثرب ( المدينة ).

إنّ تركيز الدعوة في مكّة على الجوانب الاعتقادية لم يسمح بالتكلّم عن القوانين العباديّة والاجتماعيّة ، والسياسيّة ... هذا مضافاً إلى أنّ التحدّث عن هذه الجوانب والمسائل التي تتعلّق بالنظام الاجتماعيّ في ذلك الجوّ الخانق ، ومع تلك العقول البدائيّة ، والنفوس غير المستعدّة ، كان بعيداً عن مقتضى البلاغة ، التي تقتضي أن يكون لكلّ مقام مقال ولكلّ مقال مقام.

لأجل ذلك نجد أنّ الآيات التي نزلت في مكّة تدور - في الأغلب - حول قضايا التوحيد والمعاد وإبطال الشرك ومقارعة الوثنيّة وغيرها من القضايا الاعتقاديّة الكليّة ، حتّى صار أكثر المفسّرين يعرف الآيات المكّية والمدنيّة ويميّز بينهما بهذا المعيار.

وأمّا في الفترة المدنيّة التي استقبل فيها أهل المدينة رسول الإسلام بحفاوة بالغة وشوق كبير ، فقد تمكّن الرسول الأكرم - بعد أن وجد بعض الأجواء المناسبة للتربية والتعليم - أن يبيّن للاُمّة بعض أحكام الإسلام ويطبق قسماً منها ، ويعرّف الناس بواجباتهم وحقوقهم ، وما يجب أن يعرفوه من مسائل الحلال والحرام.

غير أنّ حياة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله في المدينة لم تسلم ولم تخل هي أيضاً من مزاحمة

ص: 106

المشاكل الكثيرة ، فقد أثار تمركز المسلمين في يثرب ، وتعالي شوكتهم ، وتعاظم أمر الرسالة الإسلاميّة حفيظة الكفّار والمشركين ، وخوفهم وقلقهم من مستقبل الأمر ، ودفعهم ذلك إلى التعرّض للرسول والمسلمين في المدينة اكثر من مرة.

وهذه الحملات والتحرشات وإن كانت تواجه موقفاً شجاعاً وقوياً من المسلمين بقيادة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وكانت تعود في كل مرة بالويل والخيبة على أصحابها ، كما تشهد بذلك وقائع بدر وأحد والأحزاب وغيرها ، إلاّ أنهّا كانت - ولا شكّ - تأخذ الكثير الكثير من أهتمام الرسول ووقته الذي كان يصرفه إلى تجهيز المسلمين وتهيئتهم لصد العدوان ، ومواجهة الأعداء أو إبطال المؤامرات التي كانت تبيّت ضدّ الدولة الإسلاميّة الفتيّة ، الحديثة التأسيس في المدينة المنوّرة.

هذا إلى جانب المشاكل الداخلية التي كان يثيرها المنافقون واليهود الذين كانوا - كما قلنا - بمثابة الطابور الخامس ، وكان لهم دور كبير في إثارة البلبلة في صفوف المسلمين ، وخلق المتاعب للقيادة من الداخل ، وكانوا بذلك يفوّتون الكثير من الوقت الذي كان يمكن أن يصرف على تربية المسلمين وتعبئتهم الفكريّة واعدادهم العلميّ ، وتعليمهم ما يعينهم على حلّ كلّ ما قد يطرأ على حياتهم ويستجدّ من مشكلات ومسائل وحوادث في المستقبل.

إنّ اشتراك النبيّ في (27) غزوة ، كان البعض منها يستغرق أكثر من شهر ، والاشتغال ببعث وتسيير ما يقارب (55) سرّية لقمع المؤمرات وإبطالها ، وصدّ التحركات العدوانيّة.

وبالتالي ، أنّ ماصرفه الرسول القائد في مواجهة المثلّث التآمري ( اليهود - المنافقون - المشركون ) اخذ من وقت الرسول صلی اللّه علیه و آله واهتمامه وجهده ما لو اتيح له أن يصرفه على تعبئة المسلمين علميّاً ، وتربيتهم فكرياً ، لأتى بثمار كبيرة وكثيرة.

على أنّ الوظائف المهمة التي كان يضطلع بها النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويقوم بها بنفسه لم تقتصر على هذه الاُمور ، بل كانت تقع على كاهله مهمّة : ( عقد الاتفاقيّات السياسيّة

ص: 107

والمواثيق العسكريّة الهامّة ) التي يزخر بها تأريخ الدعوة الإسلاميّة (1).

مثل هذه الحياة الحافلة بالأحداث والوقائع ، الزاخرة بالصعوبات والمتاعب ، كانت تحمل المسلمين من جانب آخر على صرف جلّ اهتمامهم وأوقاتهم في مسألة الدفاع عن حياض الإسلام ، وحياة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله فإذا ما تيسّر لهم بعض الفرصة والفراغ ، وانصرفوا إلى تعلّم الأحكام والقوانين الإسلاميّة ، إذا بحوادث جديدة تستقطب اهتمامهم ، وتسلب منهم فرصة الأخذ ، والتعلّم الواسع من النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

وخاصّة إذا عرفنا أنّ أوضاع المسلمين وإمكاناتهم البشريّة وعددهم لم يبلغ حدّاً يسمح بأن تتفرّغ كل جماعة منهم لعمل خاصّ ، جماعة للدفاع وجماعة للزراعة ، وجماعة للتعلّم والتفقّه ، ولكن كان الجميع جنوداً عند تعرّض البلاد لهجوم الأعداء ، فإذا فرغوا من الحرب انصرفوا - بعض الوقت - إلى الزراعة أو التعلّم ، أو التكسّب والتجارة.

(ب) : لقد كان التشريع الإسلاميّ يشقّ طريقه نحو التكامل بصورة تدريجية ، لأنّ حدوث الوقائع والحاجات الاجتماعيّة في عهد الرسول الأكرم ، وما كانت تثيره من أسئلة وتتطلّب من حلول هي التي كانت توجب نزول التشريع عن طريق الوحي الإلهيّ ، وبهذه الصورة كان التشريع الإسلاميّ يتكامل ، ويتخذ صيغته الكاملة.

وهذا هو شأن كلّ تشريع ، فلا يمكن أن يكون القانون وليد لحظة واحدة من الزمان أو مقتضيات يوم واحد ، بل يكون وقوع الحوادث والوقائع هو السبب في اتّساع دائرة القانون وتكامله.

ثمّ إنّ تكامل التشريع الإسلاميّ ليس بالمعنى المتبادر في التشريعات البشريّة المتكاملة تدريجياً.

فإنّ الباعث على التدرّج في التشريعات ( الوضعيّة ) هو عدم علم المشرّع بما سيحدث ، وأمّا التشريع الإسلاميّ فالمشرع فيه هو اللّه سبحانه وهوعالم بمقتضيات الأحكام ومصالحها وملابساتها وما يوجب النسخ والتخصيص فيكون معنى التكامل

ص: 108


1- راجع كتاب الوثائق السياسيّة للبروفسور محمّد حميد اللّه. ومكاتيب الرسول للعلاّمة الأحمدي.

التشريعيّ في الإسلام ، هو التكامل في البيان والتدريج في النزول ، لأجل أنّ بيان الأحكام لا يصحّ إلاّ بعد وجود مقتضيات وشروط في نفس المجتمع.

أضف إلى ذلك ، أنّ التدريج في البيان والنزول إذا كان متّصلاً بالواقعة الخاصّة التي نزل في حقّها القرآن يكون أوقع في النفوس وأقرب إلى الحفظ ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان : 32 ) وقوله سبحانه : ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) ( الاسراء : 106 ).

هذا مضافاً إلى ناحية خاصّة بالمجتمع المدنيّ في عهد الرسول كانت تستوجب هذا التدرج ، وهو كون ذلك المجتمع فاقداً لأيّ قانون اجتماعيّ وأخلاقيّ ، فكان تعليمه جميع القوانين الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة دفعةً واحدةً ، أو في فترة قصيرة ، أمراً يكاد يكون مستحيلاً حتّى لو خلت حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله من المشاكل والمتاعب التي مرّ ذكرها.

وقد كان ذلك عاملاً من عوامل عدم قدرة الاُمّة على استيعاب كلّ معالم الشريعة وأبعادها وتفاصيلها وتفريعاتها ، وأخذها من النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

ثمّ إنّ اُموراً وأسباباً عديدةً اخرى كانت تقتضي التدرّج في نزول القرآن الكريم إلى جانب ما ذكرناه ، ويمكن تلخيصها فيما يلي :

1. تثبيت فؤاد النبيّ

إنّ النبيّ إذ كان يتحمّل مسؤوليةً ضخمةً جداً وكان يواجه في هذا السبيل صعوبات ومشقّات صعبة جدّاً ، كان لابدّ له من إمداد غيبيّ مستمرّ غير منقطع ونجدة إلهيّة متّصلة ، ولهذا كان نزول جبرائيل المتكرر موجباً لتسليته وتقويته الروحيّة وإلى هذا أشار القرآن إذ قال : ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) ( الفرقان : 32 ).

ص: 109

2. تسهيل عملية التعليم

إنّ صعوبة مهمّة التعليم كانت تقتضي أن يتنزّل القرآن شيئاً فشيئاً ، ليسهل تعليمه للناس وإلقاؤه إليهم.

كيف لا ، والنبيّ طبيب يعالج النفوس ، ويداوي الأرواح وذلك يقتضي التدرّج في العلاج كما يفعل المداوون.

3. بيان الميزة التطبيقيّة للقرآن

إنّ القوانين التي تسنّ طبقاً للحاجات ، وعند ظهور المشكلات ، تكون أقرب إلى النتيجة المطلوبة منها فيما لو سنّت جملةً في وقت واحد.

ولهذا ، كانت الآيات القرانية تتنزّل وفقاً للحاجات وتبعاً للحوادث التي كانت تقع شيئاً فشيئاً ، فيأخذ بها المسلمون ويعالجون بها مشكلاتهم فيشاهدون النتائج العمليّة الطيّبة ، فبسببها تزداد ثقتهم بالوحي ويزداد تعلقّهم به.

وبهذا كان القرآن يحقّق نجاحات كبيرةً في النفوذ إلى القلوب والأعماق لأنّه كان يقرن العلم بالعمل ، ويلبّي الحاجات الفكريّة والحياتية ... وهي أفضل وسيلة للتأثير في القلوب.

4. تعدّد الاحتجاجات

إنّ قسماً كبيراً من الآيات القرآنية كانت تتنزّل على النبيّ في مقام الاحتجاج على طوائف اليهود والنصارى ، الذين كانوا يتوافدون على النبيّ بين فينة وأخرى ، فكان طبيعياً أن تنزل الآيات في أوقات متعدّدة وأزمنة متفاوتة.

5. التدليل على صدق الرسالة
اشارة

إنّ التدرّج في التنزيل كان أحد الأدلة الساطعة على صدق هذا الكتاب في

ص: 110

انتسابه إلى اللّه ، وكونه وحياً سماوياً وليس تأليفاً بشريّاً ... إذ أنّ نزول الآيات في مواسم وأشهر وأعوام متفاوتة مع حفظ النمط الخاصّ بها ، ورغم ما تعرّض له الرسول في حياته الرسالية من شدّة ورخاء ، وعسر ويسر ، وهدوء واضطراب ، وسلم وحرب ، كان خير دليل على أنّ هذا الكلام لم يكن إلاّ وحياً يوحى إليه من إله قادر حكيم ، وخالق عليّ عليم ... فكان ذلك أظهر لعظمة القرآن ، وأقوى دليل على إعجازه.

* * *

(ج) : إنّ اتساع رقعة الدولة الإسلاميّة ، ومخالطة المسلمين للشعوب والأقوام المختلفة بسبب الفتوحات المتتالية التي قام بها المسلمون ، جعلهم أمام مشاكل مستجدّة ومسائل مستحدثة لم تكن معهودةً ولا معروفةً في عهد النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله الذي لم تكن فيه الدولة الإسلاميّة قد توسعت كما توسعت بعد وفاته والتحاقه بالرفيق الأعلى.

فهل كان من الصحيح - والحال هذه - أنّ يبيّن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله للناس ، حلولاً لمشاكل لم تحدث بعد ، ويتحدث عن موضوعات لم يعرفوا شيئاً عن ماهيتها وتفاصيلها ، ولم يشهدوا لها نظيراً في حياة الرسول صلی اللّه علیه و آله وانّما كانت تحدث بصورة طبيعية فيما بعد ؟.

ألم يكن بيان تلك الأحكام والحلول لتلك الموضوعات المستقبلية المجهولة عملاً غير مفيد ، بل أمراً صعباً للغاية ، لأنّه لم يكن في وسع المسلمين أنّ يدركوا معناه وهم لم يعرفوها عن كثب ولم يعرفوا لها أي مثيل ونظير ؟.

وهكذا لم يتسنّ للمسلمين أنّ يتعرّفوا على كلّ شيء فيما يتعلق بالحوادث والموضوعات الواقعة في المستقبل ، ولذلك كانوا يجهلون الكثير من الأحكام المتعلّقة بها ، والحلول اللازمة لها.

هذه كانت أهم العوامل التي حالت دون أن يستطيع المسلمين استيعاب كافة التعاليم والأحكام الإسلاميّة من النبيّ الكريم صلی اللّه علیه و آله .

فلم يكن ما وعوه منه صلی اللّه علیه و آله وافياً بالحاجات المستجدة ... وهذا ما يلمسه كلّ من درس تأريخ الاُمّة الإسلاميّة في الصدر الأوّل ... وستقف على نماذج من هذه الحاجات

ص: 111

التي لم يجد فيها المسلمون الأجوبة فيما لديهم من تشريع.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر أنّ القرآن الكريم يصرّح في غاية الوضوح بأنّ اللّه سبحانه أكمل دينه بنبيّه صلی اللّه علیه و آله إذ يقول سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة : 3 ).

كما يصرّح النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله بذلك في خطابه التأريخي عند عودته من حجة الوداع إذ يقول : « يا أيّها الناس واللّه ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به وما من شيء يقرّبكم من النّار ويباعدكم من الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه » (1).

وأكّدالإمام عليّ علیه السلام على هذه الحقيقة أيضاً إذ قال : « أم أنزل اللّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ، أم كانوا شركاء له ، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ، أم أنزل اللّه سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول - صلی اللّه علیه و آله - عن تبليغه وأدائه ، واللّه سبحانه يقول : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) وفيه تبيان لكلّ شيء (2).

فإذا كان اللّه قد أكمل دينه فلا نقصان ، بل كمال وتمام ، فلماذا كانت الاُمّة تعجز عن حل المعضلات الجديدة التي تواجهها في حياتها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ؟.

ترى كيف اُكمل الدين في السنة العاشرة من الهجرة ، وبيّن الرسول صلی اللّه علیه و آله كلّ ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة من علوم ومعارف وأصول وفروع وحلول لمشاكلهم الفعليّة والحادثة فيما بعد ؟.

هل استودع النبيّ صلی اللّه علیه و آله كلّ ذلك عند الاُمّة نفسها ، وقد تقدم استحالة تحقق ذلك في تلكم الفترة القصيرة ... ومع تلك المشاكل الكثيرة ، وعدم قدرة الناس على الاستيعاب والأخذ الكامل ؟.

ص: 112


1- الكافي 2 : 74 وتحف العقول : 40 ( طبعة إيران ).
2- نهج البلاغة : الخطبة رقم (18).

كيف لا ؛ وكلّ الأحاديث الصحيحة التي نقلها أعلام السنّة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الفروع والاُصول لا تتجاوز (500) حديثاً.

قال السيد محمّد رشيد رضا في الوحي المحمّديّ : ( إنّ أحاديث الأحكام الاُصول خمسمائة حديث تمدّها أربعة آلاف فيما أذكر ) (1).

وقال أيضاً في موضع آخر : ( يقولون : إنّ مصدر القوانين الاُمّة ، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنّة كما قرره الإمام الرازيّ ، والمنصوص قليل جداً ) (2).

هذه هي كلّ الأحاديث المنقولة عن طرق أهل السنّة ، وهي تتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله غالباً ، بينما نعلم أنّ ما حدث ووقع بعد وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله كان أكثر بكثير ممّا حدث في حياته الشريفة.

ثمّ لما كانت أكثر الأحاديث ردّاً على الأسئلة التي يطرحها الصحابة ، وتدور حول ما كان يحدث لهم ، لذلك لم يسألوا عمّا لم يحدث ولم يقع بعد.

وقد كان هذا عاملاً مهمّاً من عوامل قلّة الحديث النبويّ في الأحكام.

هذا مضافاً إلى ، أنّ السبب الآخر لقلّة الحديث النبويّ ، هو ضياع طائفة كبيرة منه ، لعدم اعتناء الأوائل بتدوين السنّة وهو الأمر الذي استوجب وقوع الخلاف والاختلاف حتى في أبسط المسائل ، وأكثرها ابتلاء ، مثل الاختلاف في عدد التكبيرات في صلاة الموتى ، وهو أمر كما نعلم ممّا يبتلى به المجتمع كثيراً ، ولو كان هناك شيء مكتوب لما وقع الاختلاف والحيرة.

فإذا بطل هذا الشقّ ( أي استيعاب الاُمّة جميع ما يحتاجون إليه وتكميل الدين من هذا الطريق ) تعيّن الشقّ الآخر لتفسير تكميل الدين ، وهو أنّ النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله أودع كل ما تحتاج إليه الاُمّة من اُصول وفروع لدى فرد أو طائفة خاصّة من الاُمّة ، لكي يرجع إليهم المسلمون بعده صلی اللّه علیه و آله ويعالجوا بما يخرجونه إليهم من تلك المعارف والعلوم ،

ص: 113


1- الوحي المحمّديّ ( الطبعة السادسة ) : 212.
2- تفسير المنار لرشيد رضا 5 : 189.

مشاكلهم في العقيدة والعمل ، في اُمور الدين والدنيا.

أجل لابدّ أن يكون في الاُمّة من يرفع هذه الحاجة ، أي يكون حاملاً لعلم النبيّ صلی اللّه علیه و آله وإن لم يكن له نصيب في النبوّة ، إيفاءً لغرض التشريع الإلهيّ ويكون له من الكفاءات والمؤهّلات ما تؤهّله للقيام بمثل هذه العبء الثقيل والأمر الخطير ، ويسدّ بالتالي ما أحدثه رحيل الرسول صلی اللّه علیه و آله وغيابه من فراغ بل فراغات هائلة وخطيرة.

على أنّ من يتحمّل هذه العلوم لا يمكن أن يتحمّلها عن طريق الأسباب العاديّة والتربية العرفيّة المتعارفة ، وإلاّ لتيسّر للجميع أن يتحمّلوها ... ثمّ إنّ التعلّم والتربية على هذا النمط ، أقصر من أن ينتج شخصيّةً متفوّقةً علميّةً كفوءةً للقيام مقام النبيّ في علمه وسياسته ودرايته وكياسته ، وتدبيره وإدارته وجميع مؤهّلاته ( ما عدا النبوّة وتلقّي الوحي الإلهيّ السماوي ) ويفي بغرض التشريع ويسدّ الفراغ الحاصل بوفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

بل لابدّ أن يكون تعلّمه وأخذه لتلك المعارف والعلوم الجمّة من طرق غير متعارفة وتربية تفوق نوعاً وكيفاً ما تعارف من التربية والتعليم.

ثمّ إنّ التعرف على مثل هذا الشخص أمر متعذّر على الاُمّة لدقّة المواصفات وخفاء المؤهّلات ... فلابدّ أن يكون التعريف من جانب اللّه المحيط بجمبع عباده ، العارف بأسرارهم وسرائرهم ، العالم بنفوسهم ونفسياتهم ، وذلك بالتنصيص عليه بالاسم والشخص.

وبعبارة اُخرى : إنّ هناك أمرين يتطلّبان أن يكون القائم مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله متعيّناً بتنصيص من اللّه سبحانه :

الأوّل : أنّه يجب أن يكون القائم مقامه قادراً على تبيين ما لم يبيّنه النبيّ صلی اللّه علیه و آله لكافّة المسلمين وعامّتهم ، لأسباب خاصّة وقفت عليها في هذا المقام ... وهذه المقدرة لا تحصل في فرد أو طائفة ، إلاّ بتربية إلهيّة خاصّة ، وتعليم خارج عن نطاق التعليم المألوف ، ولولا هذه العناية الخاصّة لما قدر القائم مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله على سدّ الفراغ الحاصل من وفاته.

ص: 114

الثاني : أنّ التعرف على هذا الشخص لا يتحقق بالاختبار والتجربة ، أو أنّه يصعب معرفته بهذا الطريق.

وعلى هذين الأمرين ، يجب أن يكون القائم مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذا تربية إلهيّة أوّلاً ، ومعرّفاً من جانبه سبحانه ثانياً ... وهذا يعيّن لون الحكومة وشكلها بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

إنّ ما ذكرناه ، عن عدم إحاطة الاُمّة ومعرفتها بكلّ معالم الشريعة الإسلاميّة وأحكامها ومعارفها على النحو الذي يعينها على حلّ مشاكلها المستحدثة ، لم يكن مجرّد ادّعاء خال من الدليل ، فلنا أن نستدل على ذلك بوجهين :

الأوّل : اعتراف ثلّة من الصحابة بعدم وجود الحلول في الكتاب أو السنّة لبعض المسائل.

الثاني : ذكر بعض الموارد التي لم يردفيها نصٌّ اسلاميٌّ صريح ، ممّا جعل المسلمين أن يأخذوا فيها بظنونهم ، أو أن يأخذوا بمقاييس ومعايير لم يرد على صحّتها دليل.

وإليك أمثلة من الوجهين :

أوّلاً : اعتراف الصحابة بالقصور

أ - عن ميمون بن مهران قال : ( كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب اللّه ، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول اللّه في ذلك الأمر سنّة قضى بها ، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين فقال : أتاني كذا وكذا ، فهل علمتم أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قضى في ذلك بقضاء ؟ فربّما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيه قضايا ، فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا علم نبيّنا. فإن أعياه أن يجد فيه سنّةً عن رسول اللّه ، جمع رؤوس الناس وخيارهم فأستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به ) (1).

إنّ هذا اعتراف صريح من الخليفة والصحابيّ ، بأنّ الكتاب والسنّة النبويّة

ص: 115


1- دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 212 ( مادة جهد ).

- عندهم - كانا غير وافيين بالحاجات الفقهيّة ، ولهذا كان يعمد إلى الأخذ بالرأي والمقاييس المصطنعة لاستنباط حكم الموضوع.

ب - عندما نصب عمر بن الخطاب شريحاً قاضياً للكوفة ، قال له فيما قال : ( ان جاءك شيء من كتاب اللّه ، فاقض به ولا يلفتك عنه الرجال ، فإن جاءك ما ليس في كتاب اللّه ، فانظر سنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاقض بها ، فإن جاءك ما ليس في كتاب اللّه ولم تكن في سنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به ، فإن جاءك ما ليس في كتاب اللّه ولم يكن في سنّة رسول اللّه ، ولم يتكلم فيه أحد قبلك ، فاختر أي الأمرين شئت ... إن شئت أن تجتهد برأيك لتقدّم فتقدّم ، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر ، ولا أرى التأخّر إلاّ خيراً لك ) (1).

في حين نجد الإمام عليّاً علیه السلام لمّا ولّى شريحاً القضاء يشترط عليه أن لا ينفّذ القضاء حتّى يعرضه عليه ... (2).

ج - عن عبد اللّه بن مسعود قال : ( أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك ، وإنّ اللّه قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون ، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب اللّه عزّ وجلّ ، فإن جاءه ما ليس في كتاب اللّه فليقض بما قضى به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فإن جاءه ما ليس في كتاب اللّه ولم يقض به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فليقض فيه بما قضى به الصالحون ، ولا يقل إنّي أخاف وإني أرى ) (3).

وزاد مؤلف كتاب « تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة » :

فإن جاء أمر ليس في كتاب اللّه ولم يقض به نبيّه ولم يقض به الصالحون ، فليجتهد برأيه فإن لم يحسن فليقم ولا يستحيي (4).

ص: 116


1- دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 212 ( مادة جهد ).
2- وسائل الشيعة 18 : 6 كتاب القضاء ( أبواب صفات القاضي ، الباب الثالث ).
3- دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 212 - 213 ( مادة جهد ).
4- تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة : 177 ، على ما نقله مؤلّف : الإمامة في التشريع الإسلاميّ.

د - كان ابن عباس إذا سئل عن أمر : فإن كان في القرآن أخبر به ، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخبر به ، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر ، فإن لم يكن قال فيه رأيه (1).

إنّ هذه العبارات وما يشابهها من الاعترافات ، تستطيع أن تكشف عن مدى قصور الصحابة في أخذ التعاليم والأحكام الإسلاميّة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فهي تكشف - بوضوح - عن أنّ الصحابة كانوا يواجهون وقائع وحوادث جديدةً لا يجدون لها حلولاً في الكتاب الكريم أو في ما تلقّوه من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولذلك كانوا يحاولون استنباط حلول لها من غير الكتاب والسنّة.

* * *

ثانياً : بعض ما لا نص فيه من المسائل
اشارة

إنّ الوجه الثاني الذي يدل على عدم استيعاب الاُمّة لكل أبعاد الشريعة وتفاصيلها ، هو الموارد التي لم يرد فيها نصٌّ صريحٌ ، فعمد الصحابة إلى الأخذ بالرأي والقياس ، التماساً للحلول والأحكام المناسبة.

ولذلك أضطرّ الصحابة منذ الأيام الاولى من وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى إعمال الرأي والاجتهاد في المسائل المستحدثة ، وليس اللجوء إلى الاجتهاد بمختلف أشكاله إلاّ تعبيراً واضحاً عن عدم استيعاب الكتاب والسنّة النبويّة - عندهم - للوقائع المستحدثة بالحكم والتشريع.

غير أنّ الاجتهاد في هذا العصر وما بعده ، لم يكن مقصوراً على الاجتهاد المألوف بين الشيعة الإماميّة من ردّ الفروع إلى الاُصول ، وتطبيق الكليات على المصاديق والجزئيات ، بل كان يعبّر عن لون آخر أشبه بإبداء الرأي من عند الشخص بلا دليل وحجّة قاطعة فيما بينه وبين اللّه.

ص: 117


1- دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 213 ( مادة جهد ).

فقد أحدثوا مقاييس للرأي ، واصطنعوا معايير جديدة للاستنباط لم يكن منها أثر في الشرع ، وكان القياس أوّل هذه المقاييس ، ومن هذه المعايير : المصالح المرسلة ، وسدّ الذرائع والاستحسان ، إلى غيرها من القوانين التي اضطرّ الفقهاء إلى اصطناعها عندما طرأت على المجتمع الإسلاميّ ألوان جديدة من الحياة لم يألفوها ، وتشعّبت بهم مذاهبها ، ولم يجد الفقهاء بدّاً من الالتجاء إلى إعمال الرأي في مثل هذه المسائل ، وللبحث حول هذه المعايير المصطنعة مقام ومجال آخر فيطلب منه.

وإليك فيما يلي بعض هذه الموارد ، وهي غيض من فيض ، وقليل من كثير :

(أ) : فيمَنْ شرب خمراً

رفع رجل إلى أبي بكر وقد شرب الخمر ، فأراد أنّ يقيم عليه الحدّ ، فقال : إنّي شربتها ولا علم لي بتحريمها ، لأنّي نشأت بين قوم يستحلّونها ، ولم أعلم بتحريمها حتى الآن ... فتحيّر أبو بكر في حكمه ... فأرسل إلى أمير المؤمنين عليّ علیه السلام فقال :

« مرّ رجلين ثقتين من المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار يناشدانهم هل فيهم أحد تلى عليه آية التحريم ، أو أخبره بذلك عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فإن شهد بذلك رجلان فأقم عليه الحدّ ، وإنّ لم يشهد أحد بذلك ، فاستتبه وخلّ سبيله ».

ففعل أبو بكر ذلك فلم يشهد أحد فاستتابه وخلاّ سبيله (1).

(ب) : ما الكَلاَلَة ؟!

سئل أبو بكر عن الكلالة في قوله تعالى ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) ( النساء : 176 ). فقال : إنّي سأقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن اللّه وإن يك خطأً فمنّي ومن الشيطان واللّه

ص: 118


1- الإرشاد للمفيد : 106 ، مناقب ابن شهر آشوب : 489

ورسوله بريئان منه ، أراه ما خلا الولد والوالد ، فلمّا استخلف عمر قال : إنّي لأستحيي اللّه أن أردّشيئاً قاله أبو بكر (1).

وهكذا نرى من يتصدر مقام الزعامة والقيادة في المجتمع الإسلاميّ ، يجهل حكماً إسلامياً ويعمد إلى رأيه الشخصيّ ، والأخذ بظنه.

(ج) : أمرأةٌ ولدت لستّة أشهر

رفعت إلى عمر بن الخطاب أمرأة ولدت لستة أشهر فهمّ برجمها ، فبلغ ذلك عليّاً فقال : « ليس عليها رجم » فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه فسأله فقال : « قال اللّه تعالى : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) ( البقرة : 233 ) وقال : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) ( الأحقاف : 15 ) فستّة أشهر حمله وحولان رضاعه فذلك ثلاثون شهراً » ، فخلاّ عنها (2).

ولا يمكن القول بأنّ حكم هذه المسألة قد جاء في صريح الكتاب ، لأنّ معنى وروده في الكتاب العزيز هو أن يكون مفهوماً لأغلبية الصحابة ، ومعلوماً لهم ، وخاصّةً لمن يتصدر مقام الزعامة ، ولكن الواقعة بمجموعها تثبت بأن استخراجه وفهمه لم يكن مقدوراً إلاّ للإمام.

(د) : مسألة العوْل

لقد شغلت هذه المسألة بال الصحابة فترةً من الزمن ... وكانت من المسائل المستجدّة بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله التي واجهت جهاز الحكم.

ص: 119


1- سنن الدارمي 2 : 365 ، تفسير الطبري 6 : 30 ، الجامع الكبير للسيوطي 6 : 20 ، تفسير ابن كثير 1 : 260.
2- السنن الكبرى 7 : 442 ، مختصر جامع العلم : 150 ، تفسير الرازي 7 : 484 ، الدرّ المنثور 1 : 288 ، ذخائر العقبى : 82.

ويعنى من العول ؛ أن تقصر التركة عن سهام ذوي الفروض ، ولا تقصر إلاّ بدخول الزوج أو الزوجة في الورثة ، ومثال ذلك ، ما إذا ترك الميت زوجةً وأبوين وبنتين. ولمّا كان سهم الزوجة - حسب فرض القرآن - الثمن ، وفرض الأبوين الثلث ، وفرض البنتين الثلثين ، فإنّ التركة لا تسع للثمن والثلث والثلثين ، أو إذا ماتت امرأة وتركت زوجاً وأختين للأب ، فلمّا كان فرض الزوج النصف ، وفرض الأختين الثلثين ، زادت السهام عن التركة ، فهنا - عندما - يجب إدخال النقص على من له فريضة واحدة في القرآن ، وذلك كالأبوين والبنتين والأختين لاستحالة أن يجعل اللّه في المال ثمناً وثلثاً وثلثين ، أو نصفاً وثلثين وإلاّ كان جاهلاً أو عابثاً تعالى عن ذلك.

ولكن هذه المسألة لمّا طرحت على عمر بن الخطاب تحيّر ، فأدخل النقص على الجميع استحساناً وهو يقول : ( واللّه ما أدري أيكم قدّم اللّه ، ولا أيّكم أخّر ، ما أجد شيئاً هو أوسع لي من أن أقسم المال عليكم بالحصص وادخل على ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة ) (1).

( ه ) : الطلاق في الجاهليّة والإسلام

سئل عمر بن الخطاب عن رجل طلّق امرأته في الجاهلية تطليقتين وفي الإسلام تطليقةً فقال : ( لا آمرك ولا أنهاك ).

فقال عبد الرحمان بن عمر : ( لكنّي آمرك ، ليس طلاقك في الشرك بشيء ) (2).

(و) : معنى الأبّ

بينا عمر جالس في أصحابه إذ تلا هذه الآية ( فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا *

ص: 120


1- أحكام القرآن للجصّاص 2 : 109 ، مستدرك الحاكم 4 : 340 وصحّحه.
2- كنز العمال 5 : 161.

وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) ( عبس : 27 - 31 ) ، ثمّ قال : ( هذا كله عرفناه فما الأبّ ؟ ) ثمّ رفع عصا كانت في يده فقال : ( هذا لعمر اللّه هو التكلّف فما عليك أن تدري ما الأبّ ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه ) (1).

(ز) : خمسةُ أشخاصٍ أُخذوا في الزنا

أحضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في زنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ ... وكان أمير المؤمنين حاضراً ... فقال : « يا عمر ، ليس هذا حكمهم » ، قال عمر : أقم أنت عليهم الحكم ، فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه ، وقدم الثاني فرجمه حتّى مات وقدّم الثالث فضربه الحدّ ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ ، وقدّم الخامس فعزّره ، فتحير الناس وتعّجب عمر فقال : يا أبا الحسن خمسة نفر في قصّة واحدة ، أقمت عليهم خمس حكومات ( أي أحكام ) ليس فيها حكم يشبه الآخر ؟ قال :

« نعم ... أما الأوّل : فكان ذميّاً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني : فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث : فغير محصن زنا فضربناه الحدّ.

وأمّا الرابع : فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس : فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه ».

فقال عمر : ( لا عشت في اُمّة لست فيها يا أبا الحسن ) (2).

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نص صريح ، وقد واجهت كبار الصحابة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح ، على أنّه لو كان

ص: 121


1- المستدرك للحاكم 2 : 514 ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 11 : 268 ، الكشّاف 3 : 314.
2- الكافي 7 : 265.

الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها ، لأجابوا عليها دون تحيّر أو تردد. ولأصابوا فيما أجابوا. وهذا يدل بصراحة لا إبهام فيها ، على أنّ الاُمّة كانت بحاجة شديدة إلى إمام عارف بأحكام الإسلام معرفةً كافيةً كاملةً وحامل لنفس الكفاءات والمؤهلات النفسيّة والفكريّة التي كان يتحلّى بها الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله ( فيما عدا مقام الوحي والنبوة ) ، إذ بهذه الصورة فحسب ، كان من الممكن أن يلي النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويخلفه في قيادة الاُمّة ويسد مسدّه ، من حل معضلاتها ، ومعالجة مشاكلها التشريعية والفكريّة المستجدّة ، دون أن يحدث له ما حدث للصحابة من العجز والارتباك ، ومن التحيّر والمفاجأة - كما عرفت -.

وإليك بقية الأوجه التي تدلّ على هذا الادّعاء المدعم بالدليل :

* * *

2. الفراغ في مجال تفسير القرآن وشرح مقاصده

لم يكن القرآن الكريم حديثاً عاديّاً ، وعلى نسق واحد ، بل فيه : المحكم والمتشابه والعامّ ، والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، والمنسوخ والناسخ ، مما يجب على المسلمين أن يعرفوها جيداً ليتسنّى لهم أن يدركوا مقاصد الكتاب العزيز ومفاداته (1).

ثمّ لمّا كان هذا الكتاب الإلهيّ ، جارياً في حديثه مجرى كلام العرب وسائراً على نهجهم في البلاغة وطرقها ... فإنّ الوقوف على معانيه ورموزه ولطائفه كان يتوقف على معرفة كاملة بكلامهم وبلاغتهم.

أضف إلى كل ذلك ، أنّ القرآن إذ كان كتاباً إلهياً حاوياً لأدقّ المعارف وأرفعها

ص: 122


1- ولقد أشار الإمام عليّ علیه السلام إلى هذه الاُمور بقوله : «خلف ( أي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ) .. فيكم كتاب ربكم، مبيناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصه وعامه وعبره وأمثاله ، ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله ومبيناً غوامضه » نهج البلاغة: الخطبة رقم (1).

درجةً ، ومنطوياً على علوم لم تكن مألوفةً في ذلك العصر ، وعلى أبعاد عديدة (1) تخفى على العاديين من الناس ، فإنّ الإطلاع على هذه الأبعاد والأوجه والحقائق كان يقتضي أن يتصدى لشرحها وتفسيرها وبيان مفاهيمها العالية جليلها ودقيقها : النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو من يليه في العلم والكفاءة والمؤهلات الفكريّة صيانةً من الوقوع في الاتجاهات المتباينة ، والتفاسير المتعارضة التي تؤول إلى المذاهب المتناقضة والمسالك المتناحرة - كما حدث ذلك في الاُمّة الإسلاميّة - مع الأسف.

ولو سأل سائل :

إنّ القرآن الكريم يصف نفسه بأنه كتاب مبين إذ يقول : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( المائدة : 15 ).

كما يصف نفسه بأنّه نزل بلسان عربي مبين فيقول : ( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل : 103 ).

ويقول في آية اخرى بأن اللّه سبحانه وتعالى يسّره للذكر حيث يقول مكرّراً : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) ( القمر : 17 ، 22 ، 32 ، 40 ).

ويصرّح في موضع آخر بأنّه سبحانه يسره بلسان النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الدخان : 58 ).

ومع ذلك كيف يحتاج إلى التفسير والتوضيح ، وما التفسير إلاّ رفع الستر وكشف القناع عنه ؟.

كيف يحتاج إلى مبيّن ومفسّر قد قال الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله فيه : « إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ».

وقال الإمام عليّ علیه السلام في شأنه : « كتاب اللّه تبصرون به وتنطقون به

ص: 123


1- ولقد أشار النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى هذا بقوله : « له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلی نجومه نجوم لا تحصی عجائبه ولا تبلی غرائبه» الكافي (كتاب القرآن) 598:2 - 599.

وتسمعون به وينطق بعضه ببعض » (1).

لأجبنا : صحيح أنّ القرآن الكريم يصف نفسه بما ذكر ، ولكنّه يصف نفسه أيضاً بأنّه نزل حتى يبيّنه الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله للناس إذ يقول تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل : 44 ). ( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ( النحل : 64 ).

فقد وصف النبيّ صلی اللّه علیه و آله في هاتين الآيتين ، بأنّه مبيّن لما في الكتاب لا قارئ فقط.

فكم من فرق بين القراءة والتبيين ؟.

بل يذكر القرآن الكريم بأنّ بيان القرآن عليه سبحانه ، فهو يبيّن للرسول والرسول يبيّن للناس ، كما يقول سبحانه : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة : 16 - 19 ).

إنّ وجود هاتين الطائفتين من الآيات في القرآن ، يكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى والظواهر ، ورغم أنّه منزّه عن الشباهة بكتب الألغاز والأحاجي إذ أنّه كتاب تربية وتزكية وهداية عامّة ، فإنّه يحتاج إلى ( مبيّن ) ومفسّر لعدّة أسباب :

أوّلاً : وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.

ثانياً : كون آياته ذات أبعاد وبطون متعددة.

ثالثاً : ، غياب القرائن الحاليّة التي كانت آياته محفوفة بها حين النزول ، وكانت معلومةً للمخاطبين بها في ذلك الوقت.

كلّ هذه الاُمور توجب أن يراجع من يريد فهم الكتاب مصادر تشرح هذه الأمور ، وإليك مفصل هذا القول فيما يأتي :

أوّلاً : إنّ القرآن كما ذكرنا ليس كتاباً عادياً ، بل هو كتاب إلهيّ اُنزل للتربية

ص: 124


1- نهج البلاغة : الخطبة 129 ( طبعة عبده ).

والتعليم ولهداية البشريّة وتهذيبها ، وذلك يقتضي أن ينزل القرآن بألوان مختلفة من الخطاب تناسب ما تقتضيه طبيعة التربية والتعليم ، ومن هنا نشأ في أسلوب القرآن : المطلق والمقيّد ، والعام والخاصّ ، والمنسوخ والناسخ ، والمحكم والمتشابه ، والمجمل والمبيّن كمفاهيم الصلاة والزكاة والحج والجهاد وغيرها ... فهي رغم كونها واضحة في أول نظرة ولكنّها مجملة من حيث الشروط والأجزاء والموانع والمبطلات والتفاصيل.

فكان لابدّ أن يتولّى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بيان مجمله ومطلقه ومقيده ... وما شابه ذلك ، وقد فعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذلك بقدر ما تطلّبه ظرفه واقتضته حاجة المسلمين ... بيد أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يكشف القناع عن جميع تفاصيل هذه الاُمور وجزئياتها قاطبة ، لعدم الحاجة إلى ذلك ، وتحيّناً للظروف المناسبة ، وانتظاراً للحاجات والحالات المستجدّة. وإن كان قد أخبر عن اُصولها واُمهاتها أو معظمها ، فتعيّن أن يخلّف النبيّ - من يماثله بالعلم والدراية بالوحي الإلهيّ المدوّن في الكتاب العزيز ، ليسدّ مسدّه في بيان ما يتعلق بالكتاب من اُمور مستجدّة ، ويكشف النقاب عن بقية الجزئيات والتفاصيل لتلك المجملات حسب الظروف والحاجات الجديدة والضرورات الطارئة ، ممّا أودع النبيّ عنده من معارف الكتاب وعلومه ، ويخرج إلى الاُمّة من تلكم المعارف شيئاً فشيئاً.

نعم ، قال شيخ الطائفة الطوسيّ رحمه اللّه في تفسير قوله سبحانه : ( حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ ) ( الزخرف : 1 - 2 والدخان : 1 - 2 ).

( إنّما وصف بأنّه مبين ، وهو بيان مبالغة في وصفه بأنّه بمنزلة الناطق بالحكم الذي فيه ، من غير أن يحتاج إلى استخراج الحكم من مبيّن آخر ، لأنّه يكون من البيان ما لا يقوم بنفسه دون مبيّن حتّى يظهر المعنى فيه ) (1).

ولكن الصحيح أنّ توصيف القرآن بكونه كتاباً مبيّناً ، هو وضوح انتسابه إلى اللّه ، بحيث لا يشك أحد في كونه كلام اللّه والآية نظير قوله سبحانه ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ

ص: 125


1- التبيان 9 : 224 ( طبعة النجف الأشرف ).

فِيهِ ) ( البقرة : 2 ) ، أي لا ريب أنّه منّزل من جانب اللّه سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّ الجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل : 44 ) وقوله سبحانه : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة : 16 - 19 ، ، يقضي ، بأنّ المراد هو وضوح مفاهيمه الكليّة لا خصوصياته وجزئياته كما أوضحناه.

ثانياً : لمّا كان القرآن كتاباً خالداً انزل ليكون دستور البشريّة مدى الدهور ، ومعجزة الرسالة الإسلامية الخالدة ، تطلّب ذلك أن يكون ذا أبعاد وبطون يكتشف منه كل جيل ، ما يناسب عقله وفكره وتقدّمه وترقّيه في مدارج الكمال والصعود ، وقد أشار الإمام عليّ بن موسى الرضا علیه السلام إلى هذا الأمر حيث قال عن القرآن وعلّة خلوده وغضاضته الدائمة : « إنّ اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس ، فهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة » (1).

فكأنّ القرآن الكريم - في انطوائه على الحقائق العلميّة الزاخرة ، وعدم إمكان التوصل إلى أعماقه - هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف ، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره ، إلاّ معرفة أنّ الإنسان لا يزال في الخطوات الاولى من التوصّل إلى مكامنه الخفيّة وأغواره ، فإنّ كتاب اللّه تعالى كذلك لا يتوصّل إلى جميع ما فيه من الحقائق والأسرار ، لأنّه منزّل من عند اللّه الذي لا يضمّه أين ولا تحدّده نهاية ، ولا تحصى أبعاد قدرته ، ولا تعرف غاية عظمته.

إذن ، فكون القرآن أمراً مبيّناً لا ينافي أن تكون له أبعاد متعدّدة ، وأفاق كثيرة ، يكون البعد الواحد منه واضحاً مبيّناً دون الأبعاد الاُخرى.

ولهذا ، فإنّ الوقوف على البطون المتعددة بحاجة إلى ما روي من روايات وأخبارحول الآيات ، وما ورد في السّنّة من النصوص المبيّنة والأحاديث الموضّحة ،

ص: 126


1- البرهان في تفسير القرآن 1 : 28.

حتّي تكشف بعض البطون والأبعاد الخفيّة كما هو الحال في بعض أحاديث النبيّ وأهل بيته علیهم السلام وإن كان بعض هذه البطون تنكشف لنا بمرور الزمن وتكامل العقول ونضج العلوم.

وبتعبير آخر : إنّ فهم بعد واحد من أبعاد معاني الآية القرآنيّة ، وإن كان ممكناً للجميع ، غير أنّ وضوح بعد واحد ومعلوميّته لا تغني عن الإحاطة بالأبعاد والأوجه الاخرى لها.

إنّ فهم بعد واحد من أبعاد الآيات التالية :

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء : 22 ).

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) ( المؤمنون : 91 ).

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) ( النمل : 82 ).

وكذا الآيات الواقعة في سورة الحديد ، وما بدأ من السور بالتسبيحات.

أقول : إنّ فهم بعد واحد من أبعاد هذه الآيات وإن كان أمراً ميسّراً للجميع ، ولكن لا يمكن لمن له أدنى إلمام بمفاهيم القرآن وأسلوب خطاباته أن يدّعي ، أنّ جميع أبعاد هذه الآيات مفهومة للجميع بمجّرد الوقوف على اللغة العربيّة والاطّلاع على قواعدها.

كلاّ ، فإنّ الوقوف على مغزى هذه الآيات وأبعادها وبطونها وآفاقها ، يحتاج إلى جهود علميّة واطّلاع شامل ودقيق على السنّة المطهّرة ، وما جاء فيها حول الآيات من توضيحات وبيانات.

وقد تمكّن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله أن يرفع النقاب عن جملة من هذه الأبعاد في حدود ما سمحت له الظروف ، واستعدّت له النفوس المعاصرة ، فكان لابدّ من وجود من يخلّفه

ص: 127

للقيام بهذه المهمة الخطيرة ، فيما يأتي من الزمان ، ولمن يأتي من الأفراد والجماعات.

ثالثاً : لقد نزل القرآن الكريم بالتدريج في مناسبات مختلفة كانت تستدعي نزول آيات من الوحي الإلهيّ المقدسّ ... ولذلك ، فقد كان القرآن - في عصر تنزّله - محفوفاً بالقرائن التي كانت تبيّن مقاصده ، وتعيّن على فهم أهدافه وغاياته.

ولهذا فإنّ القرآن وإن كان مبيّناً في حين نزوله بيد أنّ مرور الزمن ، وبعد الناس عن عهد نزوله ، وانفصال القرائن الحالية عن الآيات صيّر القرآن ذا وجوه وجعل آياته ذات احتمالات عديدة ، لغياب علل النزول وأسبابه التي كانت قرائن حاليّة من شأنها أن توضّح مقاصد الكتاب وتفسر عن غاياته.

وهذا أمر يعرفه كلّ من له إلمام بالقرآن الكريم ، وتاريخه ، وعلومه.

ولأجل ذلك ، يطلب الإمام عليّ علیه السلام من ابن عباس عندما بعثه للمحاجّة مع الخوارج أن لا يحاججهم بالقرآن ، لأنّه أصبح ذا وجوه إذ يقول علیه السلام : « لا تخاصمهم بالقرآن ، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لم يجدوا عنها محيصاً » (1).

وإليك نماذج من الاختلاف الموجود في هذه الآيات بين الاُمّة ، ولا يمكن رفع هذا الاختلاف إلاّ بإمام معصوم تعتمد عليه الاُمّة ، وتعتبر قوله قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

1. قال سبحانه في آية الوضوء : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة : 6 ).

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية ، وصارت الاُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ ( أَرْجُلَكُمْ ) على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

ومن المعلوم ، أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

ص: 128


1- نهج البلاغة : الرسالة (77).

فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟ (1).

2. لقد حكم اللّه تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة : 38 ).

وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضع اليد :

فمن قائل : إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكفّ وترك الإبهام ، كما عليه الإماميّة وجماعة من السلف.

ومن قائل : إنّ القطع من الكوع ، وهو المفصل بين الكفّ والذراع ، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعيّ.

ومن قائل : إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج (2).

3. أمر اللّه سبحانه الورثة بإعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه : ( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ) ( النساء : 12 ).

وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه بأعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) ( النساء : 176 ).

فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟

لا شكّ أنّه لم يكن ثمة إبهام في مورد هاتين الآيتين ... بل حدث الإبهام في ذلك فيما بعد.

ألا يدلّ هذا على ضرورة وجود الإمام ، الذي يرفع الستار عن الوجه الحقّ بما

ص: 129


1- وممّن أقرّ بالحقيقة وأنّ مدلولها يوافق مذهب الإماميّة ، ابن حزم الظاهريّ في كتابه المحلّى ، والفخر الرازيّ في تفسيره والحلبيّ في كتاب منية المتملّي في شرح غنية المصلّي فلاحظ المحلّى 3 : 54 ، لاحظ المسألة (200) فإنّه أدّى حقّ المقال فيها ، ومفاتيح الغيب 11 : 161 ( طبع دار الكتب العلمية ).
2- راجع الخلاف للطوسيّ ( كتاب السرقة ) : 184.

عنده من علوم مستودعة.

ولهذا أيضاً عمد علماء الإسلام إلى تأليف كتاب حول شأن نزول الآيات ، كالواحديّ وغيره ، جمعوا فيها ما عثروا عليه من وقائع وأحاديث في هذا السبيل.

على أنّ بعض الآيات ما لم يضّم إليها ، ما ورد حولها من شأن النزول لكانت غير واضحة المقصود ، وإليك نماذج من ذلك :

1. قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( البقرة : 189 ).

فيقال ، أي مناسبة بين السؤال عن الأهلّة والإجابة عنها بأنّها مواقيت للناس وبين قوله : ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا ... ) وعلى فرض وضوح المناسبة ، ماذا يقصد القرآن من هذا الدستور ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) ؟ أليس هذا توضيحاً للواضح ؟ ولكن بالمراجعة إلى ما ورد حوله يظهر الجواب عن كلا السؤالين.

2. قوله سبحانه : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) ( النمل : 82 ).

فما هذه الدابة التي تخرج من الأرض ، وكيف تكلمهم ومع من تتكلم ؟.

3. وقوله سبحانه : ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة : 118 ).

إلى غير ذلك من هذه الآيات التي تتضح الحقيقة فيها بالمراجعة إلى ما حولها من الأحاديث الصحيحة.

هذا هو مجمل القول في علّة احتياج القرآن إلى مبيّن ، وللوقوف على تفصيله لابدّ من بسط الكلام والتوسع في الحديث ، وقد ألفّنا في ذلك رسالةً خاصّة.

ص: 130

إنّ إيقاف الاُمّة على مقاصد الكلام الإلهيّ ، من دون زيادة أو نقصان ، ومن دون تحريف أو تزييف ، ومن دون جهل أو شطط يحتاج إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو من يتحلى بمثل ما يتحلى به النبيّ من كفاءات علمية ومؤهلات فكريّة ... ويكون مضافاً إلى ذلك عيبةً لعلمه ، وأميناً على سره ، ومؤدّباً بتأديبه ، وناشئاً على ضوء تربيته ، حفاطاً على خطّ الرسالة من الشذوذ ، وصيانةً للفكر الإسلاميّ من الانحراف ، وصوناً للاُمّة من الوقوع في متاهات الحيرة والضلال والأخذ بالأهواء والأضاليل.

لقد كان من المتعيّن على اللّه بحكم الضرورة والعقل ، وانطلاقاً من الاعتبارات المذكورة ، أن يقرن كتابه بهاد يوضح خصوصياته ، ويبيّن أبعاده ، ويكشف عن معالمه ، ليؤوب إليه المسلمون عند الحاجة ، وترجع إليه الاُمّة عند الضرورة ويكون المرجع الصادق الأمين لمعرفة القرآن حتّى يتحقّق بذلك غرض الرسالة الإلهيّة ، وهو الإرشاد والهداية ، ودفع الاختلاف والغواية الناشئة من التفسيرات الشخصيّة العفويّة للقرآن الكريم.

إنّ ترك أمر الاُمّة وعدم نصب من يقدر - فيما يقدر - على هذه المهمّة القرآنيّة الخطيرة على ضوء ما استودع عنده النبيّ من معارف وعلوم إلهيّة قرآنيّة يؤدّي إلى اختلاف الاُمّة في الرأي والتفسير ، وهو بدوره يؤدّي لا محالة إلى ظهور الفرق والمذاهب المختلفة الشاذّة كما يشهد بذلك تأريخ الاُمّة الإسلاميّة.

يقول منصور بن حازم ، قلت لأبي عبد اللّه ( جعفر بن محمّد الصادق ) علیه السلام :

إنّ اللّه أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون باللّه.

قال : « صدقت ».

قلت : إنّ من عرف أنّ له ربّاً فينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضىً وسخطاً ، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلاّ بوحي أو رسول ، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة ، وأنّ لهم الطاعة المفترضة ، وقلت للناس : تعلمون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان هو الحجّة من اللّه على خلقه ؟ قالوا : بلى ، قلت : فحين

ص: 131

مضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من كان الحجّة على خلقه ؟ فقالوا : القرآن ، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجّيء والقدريّ والزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّةً إلاّ بقيّم ، فما قال فيه من شيء كان حقاً ، فقلت لهم : من قيّم القرآن ؟ (1) فقالوا : ابن مسعود قد كان يعلم ، وعمر يعلم ، وحذيفة يعلم ، قلت : كلّه ؟ قالوا : لا ، فلم أجد أحداً يقال أنّه يعرف ذلك كلّه إلاّ عليّاً علیه السلام وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : أنا أدري ، فأشهد أنّ عليّاً علیه السلام كان قيّم القرآن ، وكانت طاعته مفترضةً ، وكان الحجّة على الناس بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ.

فقال ( الإمام الصادق ) : « رحمك اللّه » (2).

كما ورد شاميّ على الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام فقال له : « كلّم هذا الغلام » ، يعني هشام بن الحكم ، فقال : نعم ، ثمّ دار بينهم حديث فقال الغلام للشاميّ : أقام ربّك للناس حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا ، يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم.

قال : فمن هو ؟

قال : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قال هشام : فبعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

قال : الكتاب والسنّة.

قال هشام : فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟

قال الشاميّ : نعم.

قال : فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت ألينا من الشام في مخالفتنا إياّك ؟

ص: 132


1- أي من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوّله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهيّ أو بإلهام رباني ، أو بتعلم نبويّ ( راجع مرآة العقول ).
2- الكافي 1 : 168 - 169.

قال : فسكت الشاميّ.

فقال أبو عبد اللّه للشاميّ : « مالك لا تتكلم ؟ ».

قال الشاميّ : إن قلت : لم نختلف كذبت ، وإن قلت : إنّ الكتاب السنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت ، لأنهّما يحتملان الوجوه ، وإن قلت : قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ ، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة إلاّ أنّ لي عليه هذه الحجّة (1).

أجل ، لابدّ من قائم بأمر القرآن وهاد للاُمّة إلى مقاصده وحقائقه ، لكي لا تضلّ الاُمّة ولا تشذّ عن صراطه المستقيم.

وهذا الهادي الذي يجب أن يقرن اللّه به كتابه هو من عناه النبيّ صلی اللّه علیه و آله بقوله الذي تواتر نقله بين السنّة والشيعة.

فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب ... إني تارك فيكم خليفتين كتاب اللّه وأهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (2).

وروي هكذا أيضاً : « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : الثّقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ألاّ وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (3).

فقد صرح النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعدم افتراق الكتاب والعترة ، وهذا دليل على علمهم بالكتاب علماً وافياً وعدم مخالفتهم له قولاً وعملاً.

كما أنّه جعلهما خليفتين بعده ، وذلك يقتضي ، وجوب التمسك بهم كالقرآن

ص: 133


1- الكافي 1 : 172.
2- (2 و 3) رواه أحمد بن حنبل في مسنده 5 : 182 و 2. والحاكم في مستدركه 3 : 109 ، ومسلم في صحيحه 7 : 122 ، والترمذيّ في سننه 2 : 307 ، والدارميّ في سننه 2 : 432 ، والنسائيّ في خصائصه : 30 ، وابن سعد في طبقاته 4 : 8 ، والجزريّ في اسد الغابة 2 : 12 ، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين. وقد أفرد دار التقريب رسالة ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونة ونشره عام 1375 ه.
3- (2 و 3) رواه أحمد بن حنبل في مسنده 5 : 182 و 2. والحاكم في مستدركه 3 : 109 ، ومسلم في صحيحه 7 : 122 ، والترمذيّ في سننه 2 : 307 ، والدارميّ في سننه 2 : 432 ، والنسائيّ في خصائصه : 30 ، وابن سعد في طبقاته 4 : 8 ، والجزريّ في اسد الغابة 2 : 12 ، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين. وقد أفرد دار التقريب رسالة ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونة ونشره عام 1375 ه.

ولزوم اتّباعهم على الإطلاق لعلمهم بالكتاب وأسراره وبمصالح الاُمّة واحتياجاتها المتعلقة بالقرآن.

وهو من حيث المجموع ، يدلّ على حاكميّة العترة النبويّة وسلطتهم وولايتهم على الناس بعد الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

* * *

3. الفراغ في مجال تكميل الاُمّة روحياً

إنّ نظرةً دقيقةً إلى الكون ، تهدينا إلى أنّ اللّه خلق كلّ شيء لهدف معيّن هو غاية كماله ، وعلّته الغائيّة ، وقد زوده بكلّ ما يبلّغه إلى ذلك الكمال ، ويوصله إلى تلك الغاية المنشودة.

ولم يكن « الإنسان » بمستثنى من هذه القاعدة الكلية الكونيّة ، فقد زوده اللّه تعالى - بعد أن أفاض عليه الوجود - بكل ما يوصله إلى كماله الماديّ ..

ولم يكن معقولاً أن يهمل اللّه تكامل الإنسان في الجانب المعنويّ ، وهو الذي أراد له الكمال المادّيّ وهيّأ له أسبابه ، وقيّض وسائله.

ولمّا كان تكامل الإنسان في الجانبين : المادّيّ والمعنويّ لا يمكن إلاّ في ظلّ الهداية الإلهيّة خاصّةً ، وكانت الهداية فرع الإحاطة بما في الشيء من إمكانات وخصوصيّات وأجهزة وحاجات ، وليس أحد أعرف بالإنسان من خالقه فهو القادر على هدايته ، وتوجيهه ، نحو التكامل والصعود إلى كماله المطلوب.

من هنّا تطلّب الأمر إرسال الرسل إلى البشر ... ليضيئوا للبشريّة طريق الرقيّ والتقدّم ، بالتزكية والتعليم والتربية ، ويساعدوها على تجاوز العقبات والعراقيل ، ليبلغوا بها إلى الكمال الذي أراده اللّه لها.

وقد قام انبياء اللّه ورسله الكرام - بكلّ ما في مقدورهم ووسعهم - بهداية البشريّة على مدار الزمن ، وحقّقوا من النجاحات والنتائج العظيمة ما غيّر وجه التاريخ البشريّ ،

ص: 134

وكان منشأ الحضارات الإنسانيّة العظمى ، ومنطلقاً للمدنيّات الخالدة.

لقد كان دور الأنبياء والرسل في تكميل البشريّة معنويّاً وروحيّاً ، دوراً أساسيّاً وعظيماً ، بحيث لولاه لبقيت البشريّة في ظلام دامس من التخلّفات الفكريّة والجاهليّات المقيتة.

ولقد كان هذا الدور منطقيّاً وطبيعيّاً ، فالبشريّة بحكم ما تتنازعها من أهواء ومطامع ، ويكتنفها من جهل بالحقّ والعدل ، لا يمكنها بنفسها أن تشقّ طريقها نحو التكامل المنشود ... فكم من مرّة ابتعدت البشريّة عن العناية الربانيّة والهدايّة الإلهيّة ، فسقطت في الحضيض ، ونزلت إلى مستوى الطبيعة البهيميّة ... وعادت كالأنعام بل أضلّ.

ولقد أشار الإمام السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسين علیه السلام إلى حاجة البشريّة إلى الهدايّة الإلهيّة ، وأثر هذه الهداية في تكامل البشريّة سلباً وإيجاباً ، إذ قال في دعائه الأوّل في الصحيفة السجاديّة : « الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه ( إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) » (1).

ولقد كان إيصال هذه الهداية الإلهيّة التكميليّة الضروريّة إلى البشر غير ميسور إلاّ عن طريق إرسال الرسل وبعث الأنبياء الأصفياء الهداة.

إنّ دراسةً سريعةً خاطفةً لحالة العالم الإنسانيّ ، وخاصّة حالة المجتمع العربيّ الساكن في الجزيرة العربية قبيل الإسلام ، وما كان يعاني منه الإنسان من تخلف وتأخّر وسقوط ، وما تحقق له من تقدّم ورقيّ واعتلاء في جميع الأبعاد الأخلاقيّة والفكريّة والإنسانيّة بفضل الدعوة المحمديّة ، والجهود التي بذلها صاحب هذه الدعوة المباركة ،

ص: 135


1- الصحيفة السجادية : الدعاء الأوّل.

وبفضل ما قام به من عناية ورعاية وإراءة الطريق الصحيح ، يكشف عن مدّعى تأثير الهداية الإلهيّة في تكامل المجتمع الإنسانيّ.

إنّ توقف تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ على إرسال الرسل ، وهداية الأنبياء ورعايتهم ، هو نفسه يستدعي ، وجود الخلف المعصوم العارف بالدين ، للنبيّ ، ليواصل دفع المجتمع الإسلاميّ في طريق الكمال ، ويحفظه من الانقلاب على الأعقاب ، والتقهقر إلى الوراء ، كيف لا ، ووجود الإمام المعصوم العارف بأسرار الشريعة ومعارف الدين ، ضمان لتكامل المجتمع ، وخطوة كبيرة في سبيل إرتقائه الروحيّ والمعنويّ.

فهل يسوغ لله سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء الهادي للبشريّة إلى ذروة الكمال ؟.

إنّ اللّه سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضروريّة وغير ضروريّة ، ليوصله إلى الكمال المطلوب حتّى أنّه تعالى قد زودّه بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين ، لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة ، فهل تكون حاجته إلى هذه الاُمور أشد من حاجته إلى الإمام المعصوم الذي يضمن كماله المعنوي ؟ (1).

وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت علیهم السلام في فلسفة وجود الإمام المعصوم المنصوب من جانب اللّه سبحانه ، ومدى تأثيره في تكامل الاُمّة :

أ - يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « إنّ الأرض لا تخلو إلاّ وفيها إمام كي ما إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم » (2).

ب - روى أبو بصير عن الإمام الصادق [ جعفر بن محمّد ] والإمام الباقر [ محمّد بن عليّ ] علیهماالسلام : « إنّ اللّه لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل » (3).

ص: 136


1- هذا الاستدلال مأخوذ من كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيّات الشفا وكتاب النجاة ( له أيضاً ) : 304.
2- الكافي 1 : 178.
3- الكافي 1 : 178.

ج - قال الإمام أمير المؤمنين عليّ علیه السلام في نهج البلاغة : « اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة ، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً ، لئلاّ تبطل حجج اللّه وبيّناته » (1).

وفي حوار طويل جرى بين هشام بن الحكم وهو شاب وبين عمرو بن عبيد العالم المعتزليّ البصريّ ، أشار إلى الفائدة المعنويّة الكبرى لوجود الإمام المعصوم فقال هشام : أيّها العالم إنّي رجل غريب أتأذن لي في مسألة ؟

فقال : نعم.

فقال : ألك عين ؟

قال : نعم.

قال : فما تصنع بها ؟

فقال : أرى بها الألوان والأشخاص.

قال : فلك أنف ؟

فقال : نعم.

قال : فما تصنع به ؟

فقال : أشمّ به الرائحة.

قال : ألك فم ؟

فقال : نعم.

قال : فما تصنع به ؟

فقال : أذوق به الطعام.

قال : فلك اُذن ؟

فقال : نعم.

قال : فما تصنع به ؟

ص: 137


1- نهج البلاغة : قصار الكلمات.

فقال : أسمع به.

قال : ألك قلب ؟

فقال : نعم.

قال : فما تصنع به ؟

فقال : اميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قال : أو ليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟

فقال : لا.

قال : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟

فقال : يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته ، أو ذاقته ، أو سمعته ، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.

قال هشام : فإنّما أقام اللّه القلب لشكّ الجوارح [ أي لضبطها ] ؟

قال : نعم.

قال : لا بدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟

قال : نعم.

قال : يا أبا مروان ، فاللّه تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها ( إماماً ) يصحّح لها الصحيح ويتيّقن به ما شكّ فيه ، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لايقيم لهم ( إماماً )يردون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك ( إماماً ) لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟!

قال هشام : فسكت ولم يقل لي شيئاً (1).

وغير خفي على القارئ النابه ، أنّ لزوم الحاجة إلى الإمام المعصوم ليس بمعنى تعطيل أثر الكتاب والسنّة وإنكار قدرتهما على حلّ الكثير من المشكلات والاختلافات ، بالنسبة إلى من يرجع إليهما بنيّة صادقة ، وتجرّد عن الآراء المسبقة.

ص: 138


1- الكافي 1 : 170.

غير أنّ هناك مسائل واُموراً عويصةً - خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد وإلى فهم كتاب اللّه وسنّة رسوله - فلا مناص للاُمّة من وجود إمام عارف معصوم يخلِّف النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويقوم مقامه في تكميل المجتمع الإسلاميّ في جميع شؤونه.

وصفوة القول : أنّ تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ كما أنّه منوط ببعثة الأنبياء ووجود الرسل ، فهو كذلك منوط بوجود الإمام المعصوم الذي يتسنى له بما اوتي من علم وعصمة وملكات عالية وكفاءات قياديّة أن يوصل هداية المجتمع الإسلاميّ إلى ذرى الكمال الروحيّ والارتقاء المعنويّ بلا تعثّر ولا إبطاء ، ولا تقهقر ولا تراجع.

ومن المعلوم ، أنّ الاُمّة لا تقدر على معرفة ذاك الإمام ، إلاّ بتنصيب من اللّه سبحانه وتعيينه.

4. الفراغ في مجال الرد على الأسئلة والشبهات
اشارة

لقد تعرض الإسلام منذ بزوغه لأعنف الحملات التشكيكية ، وكان هدفاً لسهام الشبهات والتساؤلات العويصة والمريبة ، التي كان يثيرها اعداء الإسلام والنبيّ والمسلمين من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.

وقد قام الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله في حياته بردّ هذه الشبهات وتبديد تلك الشكوك وصدّ الحملات التشكيكيّة بحزم فريد ، وتفوّق عليها بنجاح كبير مستعيناً بالوحي الإلهيّ.

وقد كانت هذه الشبهات تتراوح بين التشكيك في أصل وجود اللّه أو توحيده أو صدق الرسالة الإسلاميّة أو المعاد والحشر ، وغيرها من الاُمور الاعتقاديّة وبعض الاُمور العمليّة.

ولا شكّ ، أنّ هذه الحملات كانت تجد اذناً صاغيةً بين بعض المسلمين ، وتوجب بعض التزعزع في مواقفهم إلاّ أنّها كانت تتبدّد وينعدم أثرها بما كان يقوم به الرسول الأكرم المعلم من ردّ ودفع قاطع وحاسم.

ص: 139

نماذج من الأسئلة العويصة

عندما راجعت قريش يهود يثرب لمعرفة صدق ما يدّعيه النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لهم اليهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ ، فإن لم يخبر بها فالرجل متقوِّل فروا فيه رأيكم :

1. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان أمرهم ؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجب.

2. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟

3. وسلوه عن الروح ما هي ؟

فأقبلوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وطرحوا عليه الأسئلة المذكورة ، فأخبرهم عن أجوبتها ، وأخبرهم بأنّ الأوّل ، هم أصحاب الكهف الذين ذكرهم القرآن في سورة الكهف ، والثاني ، هو ذو القرنين الذي ذكره اللّه في سورة الكهف أيضاً ، وأمّا الثالث فقد أوكل علمه إلى اللّه بأمره حيث قال : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الإسراء : 85 ) ، وقد أخبر بكل ذلك بما أوحى اللّه تعالى إليه (1).

كما قدم جماعة من كبار النصارى وعلمائهم إلى المدينة لمحاججة الرسول صلی اللّه علیه و آله فاستدلوا لاعتقادهم في المسيح علیه السلام بكونه ولداً لله ، بأنّه لم يكن له أب يعلم وقد تكلّم في المهد ، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله ، فأجابهم بما أوحى إليه اللّه سبحانه بأنّ أمر عيسى ليس أغرب من أمر آدم الذي لم يكن له لا أب ولا أمّ. فهو أعجب من عيسى الذي ولد من أمّ حيث قال اللّه في هذا الصدد : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران : 59 ) (2).

وعن أمير المؤمنين علي علیه السلام أنّه اجتمع يوماً عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أهل خمسة أديان : اليهود والنصارى والثنويّة والدهريّة ومشركو العرب.

ثمّ وجّه كلّ طائفة من هذه الطوائف أسئلة عويصة ومشكلة إلى النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله

ص: 140


1- سيرة ابن هشام 1 : 300 و 575.
2- سيرة ابن هشام 1 : 300 و 575.

وطالبوه بالإجابات المقنعة الكافية ، وجعلوا ذلك شرطاً لإسلامهم والتصديق به وبرسالته ، فأجابهم الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله بأجوبة كافية شافية مذكورة بتفصيلها في محلّها فأسلموا على أثر ذلك (1) ، والقصة بطولها جديرة بالمطالعة.

وقد بلغت هذه الحملات المعادية للإسلام ذروتها بعد وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله وغياب شخصه الكريم عن الساحة ... فشهد عهد الخلفاء موجات هائلةً من التيارات الإلحادية ، والمحاولات التشكيكيّة وطرح التساؤلات العويصة ، التي هبّت على المجتمع الإسلاميّ لتزعزع المسلمين عن عقيدتهم ، وذلك عندما أخذ يتوافد على المدينة جموع القساوسة والرهبان والأحبار يحملون إلى المسلمين الأسئلة العويصة ، والشبهات المريبة.

ولمّا كان مجرد الاطلاّع على الأحكام والمعارف الإسلاميّة وحدها لا يكفي في مواجهة تلكم الحملات والتيارات ، بل ينبغي أن يكون المتصدّي للرد على تلك الشبهات مضطلعاً ومطّلعاً على ما في الأديان والمباديء الاخرى من عيوب ونواقص ، وثغرات ، لذلك ، فإنّ المتصدّرين لمقام الخلافة كانوا يعانون صعوبات جمّةً وعجزاً ذريعاً في الإجابة عليها ، أو كانت الردود غير مقنعة ولا كافية.

إنّ التأريخ الإسلاميّ يحدثنا أنّ المسلمين لم يبلغوا من الناحية الفكريّة والعلميّة والإحاطة بالمبادئ والأديان الاخرى درجةً تؤهلهم للقيام بذلك ، ولم يقدر أحد منهم ، على مجابهة اولئك العلماء المتوافدين من أرباب الأديان أو الملحدين إلى عاصمة الدولة الإسلاميّة من كلِّ فج عميق بهدف الإيقاع بالإسلام والمسلمين.

وقد أثبتت الوقائع التي وقعت في ذلك العهد ، أنّ الشخص الوحيد الذي كانت ترجع إليه الاُمّة ، ويرجع إليه من تسلّموا مسند الخلافة والحكومة بعد النبيّ لحلِّ تلك المعضلات وردِّ تلك الشبهات والإجابة على تلك التساؤلات ، كان هو الإمام عليّ علیه السلام .

وإليك نماذج من تلك الأسئلة :

ص: 141


1- الاحتجاج للطبرسيّ ( من علماء القرن السادس الهجريّ ) 1 : 16 - 24.

1. جاء بعض أحبار اليهود إلى أبي بكر فقال : أنت خليفة نبيّ هذه الاُمّة ؟

قال : نعم.

فقال : إنّا نجد في التوراة أنّ خلفاء الأنبياء أعلم اممهم ؛ فأخبرني عن اللّه تعالى ، أين هو أفي السماء أم في الأرض ؟

فقال أبو بكر : هو في السماء على العرش.

فقال اليهوديّ : فأرى الأرض خاليةً منه وأراه على هذا القول في مكان دون مكان.

فقال أبو بكر : هذا كلام الزنادقة.

فولىّ الحبر متعجّباً يستهزئ بالإسلام فاستقبله أمير المؤمنين عليّ علیه السلام فقال : « يا يهوديّ قد عرفت ما سألت عنه وما اجبت به ، وإنّا نقول : إنّ اللّه عزّ وجلّ أيّن الأين فلا أين له ، وجلّ أن يحويه مكان وهو في كلِّ مكان بغير مماسة ولا مجاورة يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره وإنّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدِّق ما ذكرته لك ... » (1).

2. حضر مجلس علي علیه السلام في جامع الكوفة أحد يهود اليمن فقال : يا أمير المؤمنين صف لنا خالقك وانعته لنا كأنّا نراه وننظر إليه ، فسبح عليّ علیه السلام ربّه وقال :

« الحمد لله الذي هو أوّل بلا بديء ممّا ، ولا باطن فيما ، ولا يزال مهما ، ولا ممازج مع ما ، ولا خيال وهما. ليس بشبح فيُرى ، ولا بجسم فيتجزّأ ، ولا بذي غاية فيتناهى ، ولا بمحدَث فيبصر ، ولا بمستتر فيكشف ، ولا بذي حجب فيحوى ، كان ولا أماكن تحمله أكنافها ، ولا حملة ترفعه بقوّتها ، ولا كان بعد أن لم يكن ، بل حارت الأوهام أن تكيّف المكيّف للأشياء ، ومن لم يزل بلا مكان ، ولا يزول باختلاف الأزمان ... وكيف يوصف بالأشباح ، وينعت بالألسن الفصاح ... » إلى آخر المفصّل (2).

3. عن سلمان الفارسيّ في حديث طويل ذكر فيه قدوم كبير النصارى ( الجاثليق )

ص: 142


1- الإرشاد للمفيد : 108 في قضايا أمير المؤمنين.
2- توحيد الصدوق: 78 ح 34.

إلى المدينة مع مائة من النصارى بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله :

وسأل أبا بكر عن مسائل لم يجبه عنها ثمّ ارشد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام فسأله عنها وكان ممّا سأل عنه أنّه قال : ( اخبرني عن وجه الربِّ تبارك وتعالى ) ، فدعا عليّ بحطب ونار فأضرمه ، فلمّا اشتعلت قال عليّ علیه السلام له : « أين وجه هذه النّار ؟ ».

قال النصرانيّ هي وجه من جميع حدودها فقال علیه السلام : « هذه النار مدّبرة مصنوعة لا يعرف وجهها ، وخالقها لا يشبهها ، ولله المشرق والمغرب ، فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه ، لا يخفى على ربِّنا خافية » (1).

4. وسأله رأس الجالوت ( اليهودي )عن مسائل بعد ما سأل أبا بكر فلم يجبه ..

سأله : ما أصل الأشياء ؟

فقال علیه السلام : هو الماء لقوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) ( الانبياء : 30 ).

وما جمادان تكلّما ؟

فقال علیه السلام : هما الأرض والسماء لقوله تعالى : ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) ( فصلت : 11 ).

ما شيئان ينقصان ويزيدان ولا يرى الخلق ذلك ؟فقال علیه السلام : هما الليل والنهار لقوله تعالى : ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) ( الحديد : 6 ).

إلى غير ذلك من المسائل العويصة ، والصعبة التي أجاب عنها الإمام عليّ علیه السلام بسرعة أدهشت الجاثليق وأثارت إعجابه (2).

هذا ولم تقتصر الموارد التي واجه فيها قادة المسلمين شبهات وأسئلة عجزوا عن

ص: 143


1- قضاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب : 88 ( طبعة النجف ).
2- مناقب ابن شهر آشوب 1 : 490 - 491 عنه البحار40 : 224.

ردهّا والإجابة عليها على ما ذكرناه ، بل هناك عشرات الموارد الاخرى نذكر بعضها إجمالاً :

1. سؤال الغلام اليهوديّ من عمر بن الخطاب في اليوم الأوّل من خلافته وإرجاع الخليفة له إلى الإمام عليّ علیه السلام (1).

2. بعد أن ارتد الحارث بن سنان الأسدي الذي كان أحد الصحابة ، والتحق بالروم ، حث الروم على طرح بعض الأسئلة على المسلمين ، فتوجّه ممثل الروم إلى المدينة وطرح بعض الأسئلة (2).

3. سؤال القائد الروميّ من عمر (3).

4. الأسئلة التي طرحها علماء اليهود على عمر حول أصحاب الكهف (4).

5. سؤال كعب الأحبار من عمر (5).

6. وفود أسقف نجران على عمر وطرح بعض الأسئلة عليه (6).

7. وفود جماعة من اليهود على عمر وطرح بعض الشبهات والمواضيع عليه (7)

8. وفود جماعة من اليهود على عمر أيضاً وطرح بعض الأسئلة عليه (8).

9. سؤال كعب الأحبار من عمر ، وإحالة عمر له على الإمام أيضاً (9).

ص: 144


1- الغدير 6 : 168 ، نقلاً عن كتاب زين الفتى في تفسير هل أتى تأليف أحمد بن محمّد بن عليّ العاصميّ الشافعيّ ( مخطوط ) ، علي والخلفاء : 138 - 145 ، نقلاً عن فرائد السمطين 1 : باب 66 ( مخطوط ).
2- قضاء أمير المؤمنين : 263.
3- تذكرة الخواص لابن الجوزيّ المتوفّي عام ( 656 ه ) : 144 - 147 ( طبع النجف الأشرف ).
4- غاية المرام للبحرانيّ المتوفّي عام ( 1107 ه ) : 517 ، والغدير 6 : 47 نقلاً عن العرائس في قصص الأنبياء : 227.
5- كنز العمال للمتّقي الهنديّ 4 : 55 نقلاً عن طبقات ابن سعد المتوفّي عام ( 207 ه ).
6- تفسير البرهان 2 : 107 ، عليّ والخلفاء : 171 نقلاً عن كتاب زين الفتى.
7- قضاء أمير المؤمنين للتستريّ : 67 ( طبعة النجف ) ، عليّ والخلفاء : 176.
8- قضاء أمير المؤمنين : 82 ( طبعة النجف ) ، عليّ والخلفاء : 178.
9- قضاء أمير المؤمنين : 64 ، البحار 9 : 483 ( الطبعة القديمة ).

10. سؤال كعب الأحبار من عثمان وإرجاع عثمان له على الإمام عليّ (1).

11. طرح سؤال عويص من الروم على معاوية والتماس معاوية الجواب من الإمام عليّ بطريقة ماكرة (2).

12. طرح أسئلة اُخرى من جانب البلاط الرومانيّ على معاوية واستمداد معاوية الأجوبة من الإمام عليّ علیه السلام (3).

13. طرح أسئلة للمرّة الثالثة من جانب الامبراطور الرومانيّ على معاوية والتماس معاوية الأجوبة من الإمام عليّ علیه السلام أيضاً (4).

إنّ هذه الوقائع ووقائع كثيرةً اُخرى تشير بوضوح إلى عدم قدرة الاُمّة ، على مواجهة الشبهات والشكوك التي كان يبثّها ويلقيها أعداء الإسلام على المسلمين لتقويض عقيدتهم ، فهل كان من الجائز أن يترك اللّه سبحانه الاُمّة الإسلاميّة - والحال هذه - من دون أن يربّي ويخلّف فيهم من يصون الدين ويحفظ عقيدة اتباعه من أخطار التشكيك ، وذلك بالوقوف في وجه كلّ مشكّك وصاحب شبهة بالمنطق أو الجدل المفحم ، وهل يمكن ذلك إلا لمن يكون عارفاً بأبعاد الدين وقضاياه تفصيلاً ، ويكون محيطاً بما في الأديان الاخرى وما في كتبها وعند علمائها ؟

أليس أي نكسة تصيب المسلمين في هذا المجال من شأنها أنّ تؤثر على معنويّتهم وتزعزع اعتقادهم ، وتزيد من جرأة الأعداء وطمعهم في إخراج المسلمين من دينهم ؟.

إنّ بقاء أي دين وعقيدة ، يرتبط بمدى قدرة المدافعين عن حياضه ، والذبّ عن كيانه الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ ، إمّا بقوّة السلاح أو بقوّة المنطق من قبل

ص: 145


1- عليّ والخلفاء : 313 نقلاً عن كتاب عجائب أحكام أمير المؤمنين : 119.
2- المصدر نفسه.
3- قضاء أمير المؤمنين : 78 و 114 ، عليّ والخلفاء : 320.
4- قضاء أمير المؤمنين : 16 نقلاً عن مناقب ابن شهر بن آشوب.

الشخصيات المؤهلة القادرة على الدفاع الحازم.

بل لابدّ من الاعتراف بأنّ القوّة العسكريّة وحدها غير كافية للمحافظة على سطوع الدين وبقائه ، وسلامته على مدار الزمان ، فلابدّ - مضافاً إلى ذلك - من وجود الشخصيّات العلميّة اللائقة التي تحرس سياج الدين ، وتلبّي احتياجات الاُمّة ، وتمدّها وتمدّ عقيدتها بطاقة البقاء والاستقامة والحياة.

من هنا يتعين على صاحب الدعوة تربية وتعيين من يكون جديراً بتحمل هذه المسؤولية وقادراً على القيام بها لينير للمسلمين طريقهم ، ويصون من شبهات العابثين المغرضين إيمانهم وعقيدتهم.

* * *

5. الفراغ في مجال صيانة الدين من التحريف
اشارة

إنّ من أهم ما كان يقوم به النبيّ العظيم صلی اللّه علیه و آله هو محافظته الشديدة على الدين وصيانته من التحريف والدسّ ، فقد كان يعلم المسلمين كتابهم العزيز ، ويراقب ما أخذوه عنه من اُصول وفروع فينبّه على خطأهم ، ويدلّهم على الحق.

ولا ريب أنّ من أبرز ما تتمتّع به امّة من الامم ، هو قدرتها على حفظ دينها من كيد الكائدين ودس الداسيّن وتحريف المحرفين ، وهو الخطر الذي تعرضت له جميع الأديان السالفة والمذاهب السابقة وعانت منه أسوء أنواع الدسّ والتحريف وإلى هذا يشير القرآن إلى ما عانى منه دين موسى على أيدي أتباعه اليهود ، إذ قال : ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) ( النساء : 46 ).

ولقد كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يقوم بهذه المهمة الخطيرة في حياته الشريفة ... فكيف يمكن تحقيق ذلك بعد وفاته ؟ وكيف يمكن حفظ الدين من التحريف بعده ؟!

إنّ صيانة الدين من التحريف والدسّ ، لا تمكن إلاّ إذا توفرت لدّى الاُمّة اُمور ثلاثة :

ص: 146

1. أنّ تكون الاُمّة قد بلغت في الرشد الفكريّ والعقليّ مبلغاً يؤهلها للحفاظ على أسس الشريعة ومفاهيمها من أي دسّ وتحريف.

2. أن تكون فروع الدين واُصوله واضحةً ومعلومةً لدى الاُمّة ، وضوحاً يمكِّنها من تمييز الحقّ عن الباطل ، والدخيل عن الأصيل في مفاهيمه ، وعقائده وتشريعاته.

3. أن يكون لديها كلّ ما صدر من النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله من أحاديث ونصوص كاملة ، لتقدر بمراجعة ما لديها من الحديث وعلم الكتاب ومعارفه ، على أن تميِّز الصحيح من المجعول والوارد من الموضوع.

ولا ريب أنّ الاُمّة الإسلاميّة قد وصلت آنذاك بفضل جهود صاحب الدعوة ، إلى درجة مرموقة من الوعي والحفظ لنص الكتاب الكريم ما يجعلها قادرةً على حفظ النصّ القرآنيّ من التحريف ، وصونه من محاولات الزيادة والنقصان كما نرى ذلك في قصة الصحابيّ الجليل « ابيّ بن كعب » الذي كان له موقف عظيم من عثمان في قضية إثبات الواو في آية الكنز ، وإليك الواقعة كما ينقلها تفسير الدرّ المنثور عن علباء بن أحمر : ( انّ عثمان بن عفان لمّا أراد أن يكتب المصاحف أرادوا (1) أن يلقوا ( الواو ) التي في سورة البراءة في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( التوبة : 34 ).

قال ابيّ : ( لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي ) فألحقوها (2).

فقد كان عثمان يريد أن يقرأ قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ) بدون واو العطف لتكون هذه الجملة وصفاً للأحبار اليهود ... وهذا مضافاً إلى كونه خلاف التنزيل وتغييراً في ما نزل به الوحي كما تلاه الرسول وقرأه على مسامع القوم ، فإنّ حذف الواو كان يعني ، أنّ آية حرمة الكنز لا ترتبط بالمسلمين ، بل هي صفة للأحبار والرهبان وكان يقصد من

ص: 147


1- هكذا في الأصل ، والصحيح : أراد إلاّ أن يراد الكتّاب.
2- الدرّ المنثور 3 : 232.

هذا إضفاء طابع الشرعيّة على اكتناز الأموال الطائلة الذي كان يقوم به جماعة من بطانة الخليفة كما يشهد بذلك التأريخ.

ولكن عثمان لم يستطع تحقيق هذا المطلب فقد عارضه أبّي بن كعب ، واعترض عليه هذا التغيير الطفيفة اللفظي في الظاهر.

وهذا يكشف عن مدى حفظ الاُمّة لنصّ الكتاب بهذه الصورة الدقيقة الأمينة. بيد أنّ حفظ الاُمّة كان محدوداً لا يتجاوز هذا الحدّ ، إذ كان غير شامل لجوانب اخرى من الشريعة واُصولها ومصادرها وينابيعها.

ويدل على ذلك :

أوّلاً : أنّ الامّة اختلفت في تفسير الكثير من آيات القرآن ، وبيان مقاصده ومعارفه اختلافاً جرّ إلى تعدّد المذاهب ، ونشوء الاتّجاهات المختلفة ، والتيارات المتضاربة وكلّ يتمسّك بالكتاب وربّما بالسنّة.

فمن جبريّة إلى معتزلة ، إلى صفاتيّة إلى خوارج ، إلى مرجّئة ، وشيعة ، وكلّ منها يتفرع إلى فرق وطوائف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في العقيدة والمسلك ، وفي الاُصول والفروع (1).

فهل يمكن أن يكون كلّ ذلك هو الحقّ الذي تضمّنه القرآن ، ودعا إليه ؟!!

أليس ذلك يدل على أنّ الاُمّة لم تبلغ في الإحاطة بالشريعة والنضج الفكريّ الإسلاميّ ذلك المستوى الذي يؤهلها لحفظ الاُصول والفروع ، والمحافظة على ما يتّصل بالكتاب والسنة ، وطرح ما لا يمتّ إليهما بصلة.

ثانياً : أنّ التأريخ يشهد بأنّ الأمّة الإسلاميّة - في عصر الخلفاء - يوم اتّسعت رقعة البلاد الإسلاميّة واستوعبت شعوباً كثيرةً ، شهدت دخول جماعات عديدة من أحبار

ص: 148


1- راجع للوقوف على هذه المذاهب وفروعها : الملل والنّحل للشهرستانيّ والفرق بين الفرق وغيرهما ممّا ألّف في هذا المجال.

اليهود وعلماء النصارى في الإسلام ، مثل كعب الأحبار وتميم الداريّ ووهب بن منبّهوعبد اللّه بن سلام ، الذين تسللوا إلى صفوف المسلمين ، وراحوا يدسون الأحاديث الإسرائيليّة ، والخرافات والأساطير النصرانيّة في أحاديث المسلمين وكتبهم وأذهانهم.

وقد ظلت هذه الأحاديث المختلفة ، تخيِّم على أفكار المسلمين ردحاً طويلاً من الزمن ، وتؤثر في حياتهم العمليّة ، وتوجّهها في الوجهة المخالفة لروح الإسلام الحنيف في غفلة من المسلمين وغفوتهم. ولم ينتبه إلى هذا الأمر الخطير ، إلاّ من عصمه اللّه كعليّ علیه السلام الذي راح يحذّر المسلمين عن الأخذ بمثل هذه الأحاديث المختلفة فقال : « ولو علم النّاس أنّه منافق كذّاب ، لم يقبلوا منه ولم يصدّق ، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول اللّه ورآه وسمع منه وأخذ عنه وهم لا يعرفون حاله » (1).

نماذجٌ وأرقامٌ عن الأحاديث الموضوعة :

وحسبك لمعرفة ما أصاب المسلمين وما تعرضت له أحاديثهم ولمعرفة الذين لعبوا هذا الدور الخبيث في غفلة من الاُمّة ما كتب في هذا الصدد مثل كتاب :

ميزان الاعتدال للذهبيّ.

وتهذيب التهذيب للعسقلانيّ.

ولسان الميزان للعسقلانيّ

ونظائرها من الكتب التي صنفت في هذا المجال.

ولعل فيما قاله البخاري صاحب « الصحيح » المعروف ، إشارة إلى طرف من هذه الحقيقة المرّة ، حيث قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري :

إنّ أبا عليّ الغسّانيّ روي عنه أنّه قال : خرّجت الصحيح من 600 ألف

ص: 149


1- نهج البلاغة : الخطبة 205.

حديث (1).

وروى عنه الإسماعيليّ أنّه قال :

احفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح (2).

ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمّة الحديث أخبار تآليفهم ( الصحاح والمسانيد ) من أحاديث كثيرة هائلة ، والصفح عن غيرها ، وقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديثاً وقال ، انتخبته من خمسمائة ألف حديث (3).

ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرارعلى ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستين حديثاً اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث (4).

وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث اُصول دون المكررات صنفه من ثلاثمائة ألف (5).

وذكر احمد في مسنده ثلاثين ألف حديث وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة وخمسين وألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث (6).

وقد قام الباحث الكبير المجاهد العلامة الأمينيّ في موسوعته ( الغدير ) - الجزء الخامس - باستخراج أسماء الكذّابين والوضّاعين للحديث على حسب الحروف الهجائية فبلغ عددهم 700.

وما قام به رحمه اللّه وإن كان عملاً كبيراً يشكر عليه ، غير أنّه لو قام بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا على أضعاف ما ذكره ذلك الباحث الكبير.

ص: 150


1- من الهدى الساري مقدمة فتح الباري : 4.
2- من الهدى الساري مقدمة فتح الباري : 5.
3- طبقات الحفّاظ للذهبيّ 2 : 154 ، تاريخ بغداد 9 : 57.
4- إرشاد الساري 1 : 208 ، صفوة الصفوة 4 : 143.
5- طبقات الحفاظ للذهبيّ 2 : 151 ، 157 ، شرح صحيح مسلم للنووي 1 : 32.
6- طبقات الذهبيّ 9 : 17.

والذي يرشدك إلى كثرة الاحاديث الموضوعة الكاذبة ما يوجد في ترجمة شرذمة قليلة من أولئك الجمّ الغفير من الكذّابين ، من أنّه وضع عشرة آلاف حديث كما ذكروه في ترجمة أحمد بن عليّ الجويباريّ.

فقد قام الباحث المتقدم الذكر بعد ما أورد من الأرقام في ترجمة اولئك الكذابين بإحصاء عدد الأحاديث التي وضعوها أو قلبوها فبلغت ما يقارب النصف مليون حديثاً.

وهذه الأرقام راجعة إلى واحد وأربعين شخصاً (1).

وقد الفّت في تمييز الأحاديث الموضوعة من الأحاديث الصحيحة كتب نذكر منها ما ألّفه أبو الفرج عبد الرحمان بن عليّ المعروف بابن الجوزيّ البغداديّ المتوفّى ( 597 ه ) الذي ذكر كلّ حديث موضوع.

وقد تنبّأ الرسول صلی اللّه علیه و آله بما سيصيب سنتّه الشريفة ويصيب المسلمين فيما بعد على أيدي الكذّابين ، ووضّاعي الحديث وأعداء الإسلام ، وأخبر عن وجود من يقف في وجه هذا الخطر العظيم إذ قال : « يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين ، وانتحال الجاهلين ، كما ينفي الكير خبث الحديد » (2).

وروي عن الإمام الصادق علیه السلام قوله : « إنّ فينا أهل البيت في كلِّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » (3).

أليس كلّ هذا يستوجب ، أن يربّي النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله بعده من يتمتّع بالعصمة الكافية والعلم الواسع ليحفظ الدين من محاولات التحريف ، ويصون الشريعة من أي خيانة ودسّ ؟

ص: 151


1- راجع الغدير 5 : 247 - 249 تحت عنوان ( قائمة الموضوعات والمقلوبات ).
2- رجال الكشّيّ : 5.
3- الكافي 1 : 25.
خلاصةُ ما سبق

لقد تبين مما تقدم أنّ الإمام الذي يخلّف النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو من يقوم مقامه في سدّ ما حدث بوفاته صلی اللّه علیه و آله من فراغ هائل بل فراغات كبرى في الحياة الإسلاميّة :

فكما أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يقوم إلى جانب مهمّة التبليغ للدين الإلهيّ ب :

1. بيان معالم الشريعة وأحكامها حسب الحاجات المتجددة في حياة الاُمّة.

2. شرح معاني القرآن الكريم ، وتفسير آياته ، وبيان مقاصده وكشف القناع عن أسراره ورموزه وأبعاده حسب اقتضاء الظروف والنفوس.

3. هداية الاُمّة نحو التكامل الروحيّ والمعنويّ بتوحيد صفوف الاُمّة وجمع شملها ، وتعاهدها بالتربية والتزكية ..

4. الدفاع عن حمى الشريعة ، بالرد على الشبهات ، والإجابة على الأسئلة العويصة وتبديد الشكوك التي يثيرها أعداء الإسلام.

5. صيانة الدين عن محاولات الدسّ والتحريف ، في مفاهيمه وشرائعه.

أقول : كما أنّ وجود النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يملأ هذه الفراغات الهائلة ، فإنّ فقدانه يوجب حدوثها ، فلابدّ من إمام معصوم ليملأها كما كان النبيّ يملأها بحزمه وعلمه ، وقيادته وهدايته.

فعلى الإمام - بما لديه من علم شامل بأبعاد الشريعة وجزئياتها - أن يعالج مشاكل الاُمّة المستحدثة ، ويفسّر لهم الكتاب العزيز ويكشف لهم ما لم يكشف من أبعاده ووجوهه ، ويعين الاُمّة على مواصلة طريق التكامل الذي بدأته بدعوة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويدافع عن حمى الشريعة برد الشبهات ، والإجابة الوافية على الأسئلة العويصة التي يثيرها الأعداء ، بهدف احراج المسلمين وزعزعتهم عن عقيدتهم ، ويصون الدين والعقيدة من أي تحريف ودسّ.

وبالتالي ، يقوم بكل ما يقوم به النبيّ من قيادة وهداية ، وتربية وتزكية.

ص: 152

ولمّا كانت هذه المسؤوليات لا ينهض بها إلاّ الإمام اللاّئق بخلافة النبيّ صلی اللّه علیه و آله القادر على سدّ الفراغ الكبير الذي يحدثه غياب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولا توجد هذه اللياقة بالتربية العاديّة المتعارفة بل لا بدّ من عناية ربانية واعداد إلهيّ.

ولمّا كانت معرفة مثل هذا الإمام اللائق المعصوم متعذرةً على الاُمّة ، يتعين على اللّه سبحانه العارف بعباده ، المحيط بهم ، أن يعرّف الاُمّة بالإمام وينصبه لهم. ولا يترك الأمر إلى نظر الاُمّة ورأيها لتختار حسب ما ترى ، وتشاء.

ثمّ إنّ الشيخ الرئيس ( ابن سينا ) أشار في بعض كلماته إلى فوائد تنصيب الإمام ، التي ترجع إلى بعض ما ذكرنا ، وإليك بعض نصوص كلماته : ( ثمّ إنّ هذا الشخص الذي هو النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ليس ممّا يتكرر وجود مثله في كلّ وقت فإنّ المادة التي تقبل كمال مثله يقع في قليل من الأمزجة ، فيجب لا محالة ، أن يكون النبيّ قد دبّر لبقاء ما يسنّه ويشرّعه في اُمور المصالح الإنسانية تدبيراً عظيماً ).

إلى أن قال - في الفصل الخامس - : ثمّ يجب أن يفرض السانّ ( أي الشارع ) طاعة من يخلفه ، وأن لا يكون الاستخلاف إلاّ من جهته ( أي من جهة السانِّ الشارع ) أو بإجماع من أهل السابقة على من يصححون ، علانيةً ، عند الجمهور أنّه مستقل بالسياسة وأنّه أصيل العقل حاصل عنده الأخلاق الشريفة من الشجاعة والعفة وحسن التدبير ، وأنّه عارف بالشريعة حتّى لا أعرف منه تصحيحاً.

إلى أن قال : ويسنّ عليهم أنّهم إذا افترقوا وتنازعوا للهوى والميل ، أو أجمعوا على غير من وجدوا الفضل فيه والاستحقاق فقد كفروا باللّه.

والاستخلاف بالنصّ أصوب ، فإنّ ذلك لا يؤدي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف ) (1).

ص: 153


1- الشفاء 2 ( الفن الثالث عشر في الإلهيّات - المقالة العاشرة الفصل الثالث والخامس - في المبدأ والمعاد ) : 558 و 564 ( طبعة إيران ).

الطريق الثالث: الخلافة عند النبيّ والصحابة والاُُمم السابقة

اشارة

3

1. تصوّر النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن مسألة القيادة بعده.

2. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ.

3. صيغة القيادة والخلافة عند الاُمم السالفة.

لقد دلّت المحاسبات العقليّة والاجتماعيّة السابقة على لزوم تعين الإمام من جانب اللّه تعالى ، وأثبتت أنّ إيكال الأمر إلى نظر إلامّة وانتخابها وتعيينها خطأ فاضح ، يأباه العقل وترفضه المصالح العامّة وتعارضه المحاسبات الاجتماعيّة.

هذا ويمكن الاستدلال أيضاً على لزوم نصب الإمام من جانب اللّه بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعدم إيكال ذلك إلى رأي الاُمّة ، بالأدلّة النقلية والتاريخيّة وهي تشمل :

1 / تصوّره صلی اللّه علیه و آله عن مسألة القيادة من بعده.

2 / تصوّر الصحابة عن هذه المسألة.

3 / صيغة القيادة - لدى الامم السابقة - وسيرتهم في ذلك بعد غيبة أنبيائهم.

وإليك فيما يلي بيان هذه الاُمور والأدلة بالتفصيل :

ص: 154

1. تصوّر النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله عن القيادة بعده :

لا ريب أنّ من أهمّ الأدلة على لزوم نصب الإمام والقائد بعد النبيّ هو تصوّر النبيّ صلی اللّه علیه و آله نفسه عن هذه المسألة ، فماذا كان هذا التصوّر ؟

هل كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يعتقد بلزوم نصب الإمام والقائد من جانب اللّه ؟ أم كان يعتقد ترك ذلك إلى نظر الاُمّة وإرادتها وإختيارها ؟ أم كان يعتبر ذلك من شؤونه واختصاصاته على الأقل ؟

إنّ الكلمات المأثورة عن الرسول الأكرم وموقفه صلی اللّه علیه و آله من قضية القيادة بعده ، تدلّ على أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يعتبر أمر القيادة وتعيين القائد مسألةً إلهيّةً وحقاً إلهيّاً ... فاللّه سبحانه هو الذي له أن يعين القائد وينصب الخليفة الذي يخلِّف النبيّ بعد وفاته. ولا نجد في كلّ ما نقل عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ما يدل على إرجاع الأمر إلى اختيار الاُمّة ونظرها ، أو إلى اراء أهل الحلّ والعقد واجتماعهم ، أو غير ذلك من صور الانتخاب والتعيين غير الإلهيّ.

إنّ الأدلة والشواهد النقليّة تشهد برمتها بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذكر للاُمّة مراراً بأنّ تعيين الأمير من بعده أمر إلهيّ ، وليس له في ذلك شيء ، فلا يمكنه أن يقطع لأحد عهداً بأن يستخلفه من بعده ، دون أن يأذن اللّه تعالى له في ذلك أو يأتيه منه سبحانه أمر ووحي.

وفيما يأتي نذكر شاهدين تأريخيين على ذلك ، والشاهد الأوّل أكثر صراحة في ما ذكرناه :

1. لمّا عرض الرسول صلی اللّه علیه و آله نفسه على بني عامر الذين جاؤوا إلى مكة في موسم الحجِّ ودعاهم إلى الإسلام قال له كبيرهم : ( أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك اللّه على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ ).

فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء » (1).

ص: 155


1- السيرة النبويّة لابن هشام 2 : 424 - 425.

2. لما بعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله سليط بن عمرو العامريّ إلى ملك اليمامة ( هوذة بن عليّ الحنفيّ ) الذي كان نصرانياً ، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً ، فقدم على هوذة ، فأنزله وحباه وكتب إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله يقول فيه : ( ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي ، وخطيبهم ، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك ).

فقدم سليط على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأخبره بما قال هوذة ، وقرأ كتابه فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لو سألني سيابةً من الأرض ما فعلت ... باد وباد ما في يده » (1).

ونقل ابن الأثير على نحو آخر فقال : أرسل هوذة إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وفداً يقول له :

( إن جعل له الأمر من بعده أسلم وصار إليه ونصره ، وإلاّ قصد حربه ).

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فمات بعده قليل لا ولا كرامة ... اللّهمّ اكفنيه » (2).

إنّ هذين النموذجين التاريخيين الذين لم تمسّهما أيدي التحريف والتغيير يدلان بوضوح كامل على تصوّر النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله عن مسألة الخلافة والقيادة من بعده ، فهما يدلاّن على أن هذه المسألة كانت إذا طرحت على النبيّ ، وسئل عمّن سيخلّفه في أمر قيادة الأمّة كان يتجنب إرجاعها إلى نفسه ، أو إلى نظر الاُمّة ، بل يرجع أمرها إلى اللّه تعالى. أو يتوقّف في إبداء النظر فيه على الأقل.

على أنّ مسألة انتخاب الخليفة القائد بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله لو كانت من شؤون الاُمّة وصلاحياتها وجب أن يصرح النبيّ بذلك أو يشير إلى أصل الموضوع ولو بالإجمال.

بل وجب أن يبيّن للاُمّة الطريقة الصحيحة للانتخاب ، ويذكر لهم الشروط والضوابط اللازمة في الناخب ، والمنتخب ، لكي يتحقق هذا الأمر بوجه صحيح ، بينما نجد النبيّ لا يتعرض لهذا الأمر أبداً ، ولم يؤثر عنه أي نقل ، وإرشاد وتعليم في هذا المجال ، رغم أهميّة الموضوع وخطورته البالغة ، مع أنّه صلی اللّه علیه و آله قد تعرّض لاُمور أسهل وأبسط

ص: 156


1- طبقات ابن سعد الكبرى 1 : 262.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير 2 : 146.

من ذلك فهل مسألة القيادة ، والإدارة والإمرة - وخصوصاً في تلك الظروف العصيبة وبالنسبة إلى تلك الاُمّة الناشئة - أقلّ شأناً ، وأهميّةً من المستحبّات والمكروهات التي ورد فيها الكثير الكثير من الأحاديث النبويّة ؟

* * *

2. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ
اشارة

إنّ المتتبع في تاريخ الصحابة والخلفاء والذين تعاقبوا على مسند الحكومة بعد النبيّ ، يرى بوضوح أنّ الطريقة التي اتبعها أولئك الصحابة ، والخلفاء كانت هي الطريقة الانتصابيّة لا الانتخابيّة الشعبيّة.

فالخليفة السابق كان يعين الخليفة اللاحق ، إمّا مباشرة أو بتعيين شورى تتولى هي تعيين الخليفة والاتفاق عليه ... ولم يترك أحد من أولئك الخلفاء أمر القيادة إلى نظر الاُمّة وإرادتها واختيارها ، أو يتكل على آراء المهاجرين والأنصار ، أو أهل الحلّ والعقد ليختاروا هم - بمحض إرادتهم - من يشاؤون للخلافة والإمرة.

فمن يلاحظ تاريخ الصدر الأوّل يرى ، أنّ خلافة ( عمر بن الخطاب ) تمت بتعيين من أبي بكر.

وأمّا خلافة ( عثمان بن عفان ) فتمت بواسطة شورى عيّن ( عمر بن الخطاب ) أفرادها وأمرهم بانتخاب الخليفة من بين انفسهم ، ولم يترك أحد من هؤلاء أمر القيادة إلى اختيار الاُمّة.

وإليك تفصيل الأمر في كيفية استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب ... ويليه تفصيل لكيفية استخلاف عمر بن الخطاب لعثمان بن عفان.

أ - استخلاف أبي بكر لعمر

قال ابن قتيبة الدينوري في تاريخ الخلفاء : ( ... دعا ( أبو بكر ) عثمان بن عفان ،

ص: 157

فقال : اكتب عهدي ، فكتب عثمان ، وأملى عليه : ( بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها ، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها ، إنّي استخلف عليكم عمر بن الخطاب فإن تروه عدل فيكم ظنّي به ورجائي فيه ، وإن بدّل وغيّر فالخير أردت ، ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) (1).

ويظهر من ابن الاثير - في كامله - أنّ أبا بكر أملى على عثمان عهده ، ولكنّه غشي عليه أثناء الإملاء ، فأكمله عثمان وكتب فيه استخلاف عمر من عند نفسه ، ثمّ إنّه لمّا أفاق أبو بكر من غشيته ، وافق على ما كتبه عثمان ، وإليك نصّ ما كتبه ابن الأثير : ( ... إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خالياً ليكتب عهد عمر فقال له : اكتب بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة ، أمّابعد ... ثم اغمي عليه ... فكتب عثمان : فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً.

ثمّ أفاق أبو بكر فقال : اقرأ عليّ ، فقرأ عليه ، فكبّر أبو بكر ، وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي ) (2).

قال عثمان : نعم.

قال : جزاك اللّه خيراً عن الإسلام وأهله.

فلمّا كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس فجمعهم ، وأرسل الكتاب مع مولىً له مع ( عمر ) وكان عمر يقول للناس : انصتوا واسمعوا لخليفة رسول اللّه إنّه لم يألكم نصحاً.

فسكت الناس ... فلمّا قرأ عليهم الكتاب سمعوا له وأطاعوا (3).

ص: 158


1- الإمامة والسياسة للدينوريّ المتوفّي ( 262 ه ) : 18 ( طبعة مصر ).
2- هل يمكن أن يلتفت الخليفة إلى الخطر الكامن في ترك الأمّة دون خليفة يستخلفها عليهم ولا يلتفت إليها النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!
3- الكامل في التاريخ لابن الأثير 2 : 292 وطبقات ابن سعد الكبرى 3 : 200 ( طبعة بيروت ).

وقد نقل موضوع استخلاف ( ابي بكر ) ل ( عمر ) عدة من أعلام التأريخ والحديث بهذين النحوين من النقل.

ب - استخلاف عثمان

وأمّا قصة استخلاف عثمان فهي كالآتي ، كما نقلها وأثبتها كتّاب التأريخ وأعلام السيرة :

قال ابن قتيبة الدينوريّ في كتابه الإمامة والسياسة : ( قال عمر : ساستخلف النفر الذين توفيّ رسول اللّه وهو عنهم راض ..

فأرسل إليهم فجمعهم ، وهم علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد اللّه ، والزبير بن عوّام ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمان بن عوف وكان طلحة غائباً فقال :

يا معشر المهاجرين الأولين : إنّي نظرت في أمر الناس ، فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم ، فتشاوروا ثلاثة أيام ، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك ، وإلاّ فأعزم عليكم باللّه أن لا تتفرقوا من اليوم الثالث حتّى تستخلفوا أحدكم ) (1).

وكتب ابن الأثير في كامله : ( انّ عمر بن الخطاب لمّا طعن قيل له : يا أمير المؤمنين لو استخلفت ؟ فقال : من استخلف ؟ لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته ... ولو كان سالم مولى حذيفة حياً لاستخلفته ..

فقال رجل : أدلّك عليه ؟ عبد اللّه بن عمر ، فقال ( عمر ) : قاتلك اللّه كيف استخلف من عجز عن طلاق امرأته ... الى أن قال :

عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنهّم من أهل الجنّة وهم عليّ

ص: 159


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوريّ المتوفّي عام ( 262 ه ) : 23.

وعثمان وعبد الرحمان وسعد والزبير بن عوّام وطلحة بن عبد اللّه.

فلمّا أصبح عمر ، دعا عليّاً وعثمان وسعداً وعبد الرحمان والزبير ، فقال لهم :

إنّي نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلاّ فيكم. وقد قبض رسول اللّه وهو عنكم راض. فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها ، واختاروا منكم رجلاً ، فإذا متّ فتشاوروا ثلاثة أيّام ، وليصلّ بالناس صهيب ، ولا يأتي اليوم الرابع إلاّ وعليكم أمير ».

فاجتمع هؤلاء الرهط في بيت حتّى يختاروا رجلاً منهم.

قال لصهيب : « صلِّ بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ... وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما ... وإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا ، فحكّموا عبد اللّه بن عمر فان لم يرضوا بحكم عبد اللّه بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس ) (1).

وممّا يدلّ على أنّ هذا الموقف والرأي لم يكن موقف الصحابة ورأيهم خاصّة في مسألة الاستخلاف والقيادة بل أنّ الرأي العام في ذلك العهد كان يعتقد ضرورة استخلاف القائد والحاكم ، وعدم ترك الأمر إلى نظر الناس وإرادتهم وانتخابهم ، نظريات لطائفة من الشخصيّات نذكر بعضها فيما يأتي :

1. نقل أنّ عمر بن الخطاب لمّا أحس بالموت قال لابنه [ عبد اللّه ] : ( اذهب إلى عائشة واقراها مني السلام ، واستأذن منها أن أقبر في بيتها مع رسول اللّه ومع أبي بكر.

فأتاها عبد اللّه بن عمر فأعلمها ... فقال : ( نعم وكرامة ).

ثمّ قالت : ( يا بنيّ أبلغ عمر سلامي فقل له : لا تدع امّة محمّد بلا راع ... استخلف عليهم ، ولا تدعهم بعدك هملا ، فإنّي أخشى عليهم الفتنة ) (2). فأتى عبد اللّه

ص: 160


1- الكامل لابن الأثير 3 : 35.
2- وهل يمكن أن تلتفت أمّ المؤمنين إلى هذه النكتة ولا يلتفت إليها النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

[ إلى أبيه ] فأعلمه ) (1).

2. نقل الحافظ أبو نعيم الأصفهانيّ المتوفىّ عام (430) أنّ عبد اللّه بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته فقال : ( انّي سمعت الناس يقولون مقالةً فآليت أن أقولها لك وزعموا أنّك غير مستخلف وأنّه لو كان لك راعي إبل - أو راعي غنم - ثمّ جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيّع ، فرعاية الناس أشدّ ) (2).

3. قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهل المدينة البيعة ليزيد ، فاجتمع مع عدة من الصحابة إلى أن أرسل إلى ابن عمر ، فأتاه وخلا به فكلّمه بكلام وقال : إنّي كرهت أن أدع امّة محمّد بعدي كالضأن لا راعي لها. (3).

كلّ هذه النصوص ، تدلّ بجلاء على أنّ ادّعاء انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبيّ أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد ، أو اتفاق الأنصار والمهاجرين لم يكن له أصل ولا ذكر في دراسات المتقدمين من أعلام التاريخ وكتّاب السيرة وعلماء المسلمين.

ولو دل هذا الأمر على شيء فإنّما يدلّ على ، أنّ الأصل الذي كان يعتقد به الصحابة والخلفاء في مسألة الخلافة والقيادة ، كان هو التنصيص والتعيين ، وعدم ترك الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها.

* * *

نظرية تفويض الأمر إلى الاُمّة بعد النبيّ

إنّ في الاُمّة الإسلاميّة طائفةً كبيرةً تعتقد ، بأنّ أمر الحكومة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان مفوضاً إلى انتخاب الاُمّة ونظرها ، وهم يستندون في ذلك إلى عمل المسلمين في تعيين الخليفة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ص: 161


1- الإمامة والسياسة للدينوريّ : 32.
2- حلية الأولياء 1 : 44.
3- الإمامة والسياسة 1 : 168 ( طبعة مصر ).

ولكنّك - أيّها القارئ الكريم - اطّلعت على كيفية تصدي الخليفة الثاني والثالث للحكم ، وعرفت أنّه لم يكن هناك أي انتخاب من جانب المسلمين ، بل تم الأمر للخليفتين بالاستخلاف من جانب الخليفة السابق.

نعم ، يمكن أن يستند القائل إلى انتخاب ( ابي بكر ) و ( الإمام علي ) للحكم ، فهما تسلّما زمام الحكم والأمر بهذا الطريق.

والحق أنّ هذين الموردين هما من أهم وأوضح ما يمكن أن يستدلّ به القائل بتفويض الأمر إلى نظر الاُمّة بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله على مذهبه ، وهو بظاهره يتصادم مع ما شرحناه وأوردناه من الأدلة على كون صيغة الحكومة الإسلاميّة بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان على التنصيص والاستخلاف لا على التفويض والانتخاب.

ولنتناول البحث حول خلافة ( ابي بكر ) اولاً ، ونعقبه بالبحث حول كيفية استتباب الأمر للإمام عليّ ثانياً.

تحليل لخلافة أبي بكر

إنّ الاستدلال على نظرية تفويض الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها ، أو إلى أهل الحلّ والعقد منهم ، أو ما شابه ذلك ، بتصدي أبي بكر للخلافة ، يتوقف على أثبات أمرين ، لولا ثبوتهما لما صح الاستناد بهذا الطريق على هذا الانتخاب أبداً :

الأوّل : هل كان هناك انتخاب شعبيّ واقعيّ بحيث اجتمع المسلمون عامّة ، وتشاوروا في الأمر ودرسوا الموضوع ، فانتخبوا أبا بكر وفق الضوابط والمعايير الإسلاميّة ، أو كان هناك انتخاب محدود من جانب عدّة قليلة يهاب منها ، واتبعها الآخرون بلا تفكير ولا مشاورة ... بينما تخلف عن ذلك عدّة اُخرى ؟

الثاني : هل كان انتخاب المنتخبين لأبي بكر بأسلوب المبايعة ، ينبع من تعليم اسلاميّ ويرتكز إلى أصل جاءت به الشريعة ، وكان الداعي لهم إلى ذلك هو ما أخذوه وتعلموه من الرسول ، أو كان اتخاذهم لذلك الاسلوب ، مستنداً إلى ما كان مركوزاً في

ص: 162

أذهانهم ممّا قبل الإسلام ، حيث كانوا يعيّنون الأمير والرئيس بالبيعة ؟

والحقّ أنّ هاتين النقطتين في خلافة أبي بكر قابلتان للمناقشة و التحقيق والتأمّل فنقول : (1)

أمّا النقطة الاُوّلى : فإنّ دراسة التأريخ الإسلاميّ في هذه القظية خير دليل على أنّ خلافة أبي بكر لم تأت نتيجة مشاركة الاُمّة الإسلاميّة في اختياره وانتخابه للحكم والقيادة ، بل لم ينتخبه إلاّ أربعة أنفار لا غير ، وهؤلاء النفر هم ، عمر بن الخطاب وأبو عبيدة من المهاجرين وبشير بن سعد واسيد بن حضير من الأنصار. وأمّا الباقون من رجال الأوس لم يبايعوا أبا بكر إلاّ تبعاً لرئيسهم أسيد بن حضير ، في حين غاب عن هذا المجلس كبار الصحابة وأفاضلهم كالإمام عليّ بن أبي طالب ، والمقداد ، وأبي ذر وحذيفة بن اليمان ، وأبّي بن كعب وطلحة والزبير ، وعشرات اخرين من الصحابة.

كما أنّ الخزرجيين - رغم حضورهم في السقيفة - امتنعوا من البيعة لأبي بكر.

وحتّى لو سلّم بوقوع الانتخاب المزعوم فإنه لا ريب كان فريداً من نوعه ، لأنّه لم يقترع فيه الحاضرون على أبي بكر كما هو المتّبع في الانتخابات الحرّة المتعارفة ، بل تمّ بمبادرة ( عمر ) إلى مبايعة أبي بكر ، ثمّ بايعه المهاجر الآخر وبايعه بشير ورئيس الأوس أسيد بن حضير ، وتبعه الأوسيون ... بينما تخلّف الخزرجيون الحاضرون في السقيفة عن مبايعة أبي بكر ... كما تبين لك ذلك من ما ذكرناه سابقاً ... من تهاجيهم.

ثمّ أخذوا البيعة من كلّ من صادفوه في الطريق خارج السقيفة ، واستمرّ ذلك إلى ستة أشهر بالتهديد والترغيب ... وهذا أمر واضح لمن درس تاريخ السقيفة وما تلاها من الأحداث والوقائع.

ص: 163


1- البحث عن النقطة الاولى ، بحث في الصغرى وهو كون خلافة أبي بكر كانت بالانتخاب الشعبيّ. والبحث عن النقطة الثانية؛ بحث عن الكبری أی كون صيغة الحكومة بعد وفاة رسول اللّه - بلا فصل - هي تعيين الخليفة باسلوب المبايعة، واللازم علی القاریء أن لايخلط بين الأمرين.

ومن الواضح أنّ بيعةً بهذه الصفة ، لا يمكن انّ تكون انتخاباً حقيقيّاً واستفتاءً حرّاً.

فأيّ انتخاب شعبيّ حرّ جاء بالخليفة الأوّل ، وهذا التأريخ يروي لنا ما جرى في السقيفة وما وقع من التهديد والتنديد والسيف ، والشتيمة والمهاترات.

فها هو الحبّاب بن المنذر الصحابيّ البدريّ الأنصاريّ العظيم وقد انتضى سيفه على أبي بكر - يوم السقيفة - وهو يقول : ( واللّه لا يرد عليّ أحد ما أقول إلاّ حطّمت أنفه بالسيف أنا جذيلها المحكّك [ أي أصل الشجرة ] وعذيقها المرجب [ أي النخلة المثقلة بالثمر ] أنا أبو شبل في عرينة الأسد يعزى إليّ الأسد ) (1).

وهو بكلامه هذا يتهدّد كلّ من يحاول إخراج القيادة من الأنصار وإقرارها لغيرهم.

وها هو آخر ( وهو سعد بن عبادة ) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي : ( انا أرميكم بكلِّ سهم كنانتي من نبل واخضّب منكم سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي ) (2).

وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشبّ نار الحرب بقوله : ( انّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلاّ دم ) (3).

وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار ، يداس بالأقدام ، وينزى عليه وينادى عليه بغضب : ( اقتلوا سعداً قتله اللّه إنّه منافق ، أو صاحب فتنة ) وقد قام الرجل على رأسه ويقول : ( لقد هممت أنّ أطأك حتّى تندر عضوك أو تندر عيونك ) (4).

فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول : ( واللّه لو حصصت منه شعرةً ما

ص: 164


1- شرح ابن أبي الحديد 2 : 16.
2- الغدير 7 : 76.
3- الإمامة والسياسة 1 : 11 ، تاريخ الطبري 3 : 210.
4- مسند أحمد 1 : 56 ، تاريخ الطبري 3 : 210 وغيرهما.

رجعت وفي فيك واضحة !!! أو : لو خفضت منه شعرةً ما رجعت وفيك جارحة ) (1).

وهذا الزبير لمّا رأى أنّ الأمر قد عقد لأبي بكر يخترط سيفه ويقول : ( لا أغمده حتّى يبايع عليّ ) فيقول عمر : عليكم الكلب ، فيؤخذ سيفه من يده ، ويضرب به الحجر ويكسر (2).

وها هو المقداد ذلك الرجل الصحابيّ العظيم يدافع في صدره (3).

وها هو أبو بكر يبعث عمر بن الخطاب إلى بيت الإمام عليّ وفاطمة ، ويتهدّد اللائذين به الممتنعين عن مبايعته ويقول له : إن أبوا فقاتلهم.

فيأتي عمر إلى بيت فاطمة ويقول : واللّه لتحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فتقول فاطمة الزهراء بنت النبيّ صلی اللّه علیه و آله وتصيح وتنادي : « يا أبت يا رسول اللّه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة » (4).

وها هو الإمام عليّ علیه السلام يقاد إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش ويساق سوقاً عنيفاً ويقال له : بايع فيقول : « إن أنا لم أفعل فمه » ؟ فيقال : إذن واللّه الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك ، فيقول : « إذن تقتلون عبد اللّه وأخا رسوله » (5).

وهؤلاء لمّا يتناقشون الأمر في السقيفة فيقول الأنصار : منّا أمير ومنكم أمير ، يردّ عليه عمر قائلاً : إذا كان ذلك فمت إن استطعت !!

وهذا عمر يعترف أنّ هذه البيعة كانت فلتةً لا تخضع لضابطة ، ولا تقوم على أساس من المبادئ الإسلاميّة والمنطلقات الصحيحة والمشروعة إذ يقول : ( كانت بيعة أبي بكر فلتةً كفلتة الجاهليّة ، وقى اللّه شرّها ».

ص: 165


1- تاريخ الطبري 3 : 210 ، السيرة الحلبيّة 3 : 387.
2- الإمامة والسياسة 1 : 11 ، تاريخ الطبري 3 : 199.
3- تاريخ الطبري 3 : 210.
4- تاريخ الطبري 3 : 210 ، الإمامة والسياسة 1 : 13.
5- الإمامة والسياسة 1 : 13 ، أعلام النساء 3 : 206.

ولهذا يحذِّر المسلمين من الأخذ بها لأنّها لم تكن تمثّل أي صورة انتخابيّة صحيحة حتّى لو قيل بمشروعية تعين الخليفة عن طريق الانتخاب فيقول : ( فمن عاد إليها فاقتلوه ) (1).

تحليل لخلافة الإمام عليّ
اشارة

وأمّا خلافة الإمام عليّ علیه السلام فهي وإن أجمع المسلمون عليها ، وأقبل عليه الناس برمّتهم ، إلاّ أنّه علیه السلام لم يستدلّ لخلافته باجتماع الآراء والأصوات عليه وانتخاب الناس له ، بل كان يستند غالباً بالنصوص النبويّة الواردة في حقّه علیه السلام والتي تنص على خلافته من جانب اللّه سبحانه.

وما عليك إلاّ أنّ تستعرض ما قاله في يوم الرحبة.

عن الصحابيّ أبي الطفيل الليثي قال : جمع عليّ رضی اللّه عنه الناس في الرحبة ، ثم قال لهم : « أنشد اللّه كلّ أمرء مسلم سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول يوم غدير خم ما سمع لمّا قام » ، فقام ثلاثون من الناس وقال ، أبو نعيم : فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس : « أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم » قالوا : نعم يا رسول اللّه ، قال : « من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » قال : فخرجت وكأنّ في نفسي شيئاً ، فلقيت زيد بن أرقم فقلت له : إنّي سمعت عليّاً رضی اللّه عنه تعالى يقول : كذا وكذا. قال : فما تنكر ؟ قد سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول له ذلك (2).

وفي رواية أنّ علياً علیه السلام نشد الناس من سمع رسول اللّه يقول من كنت مولاه فهذا مولاه فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد ، وكان يعلمها فدعا عليّ علیه السلام عليه بذهاب البصر فعمي فكان يحدّث الناس بالحديث بعد ما كفّ بصره (3).

ص: 166


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 123 ( طبعة مصر ).
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 2. اسد الغابة3 : 307 و 5 : 205 ، والإصابة 4 : 80 ، ومسند أحمد بن حنبل 1 : 84 ، ومجمع الزوائد 9 : 107 ، ومطالب السؤل : 54 ، شرح المواهب 7 : 13 ، ذخائر العقبى : 67 ، خصائص النسائيّ : 26 وأسنى المطالب : 3.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 2. اسد الغابة3 : 307 و 5 : 205 ، والإصابة 4 : 80 ، ومسند أحمد بن حنبل 1 : 84 ، ومجمع الزوائد 9 : 107 ، ومطالب السؤل : 54 ، شرح المواهب 7 : 13 ، ذخائر العقبى : 67 ، خصائص النسائيّ : 26 وأسنى المطالب : 3.

هذا كله في البحث عن النقطة الاولى ، أي البحث عن الصغرى وهو هل كان انتخاب الخليفة الأوّل انتخاباً شعبياً أو لا ؟

وأمّا النقطة الثانية : أعني البحث عن الكبرى أي كون صيغة الحكم بعد رسول اللّه بلا فصل هو تفويض الأمر إلى الاُمّة لانتخاب القائد عن طريق البيعة.

نقول : أنّ تعيين القائد والرئيس بهذه الكيفيّة ( أي البيعة ) لم يكن تعليماً إسلاميّاً ، سار على ضوئه من حضر في السقيفة وأخذوا به بما أنّه قانون نصّت عليه الشريعة ، وأتى به الإسلام.

لأنّ تعيين الحاكم في منطق الدين الإسلاميّ لم يكن بمبايعة أحد على ذلك ، وما قد يتبادر إلى الذهن من وقوع ذلك مع الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إذ بايعه بعض الناس أو بايعه اصحابه ، فإنّ تلك البيعة لم تكن إلاّ بعد الإقرار بنبوّته وحاكميّته وقيادته وكانت البيعة بمثابة إظهار الإخلاص والوفاء القلبيين له ، وعهداً لفظياً وظاهرياً على التقيد بطاعته ، وتنفيذ اوامره في الحروب والوقائع المهمّة ، لا أنّ البيعة كانت بمعنى نصبه للقيادة ، فالقيادة كانت مجعولة للنبيّ صلی اللّه علیه و آله من جانب اللّه تعالى ، وهي لا تخضع للبيعة وعدم البيعة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ البيعة كانت بعد الإقرار بالقيادة النبويّة المجعولة إلهيّاً ولأجل الإخلاص والوفاء للنبيّ المعترف بنبوّته قبلاً.

ومن المحتمل جداً أنّ طريقة تعيين الخليفة بالبيعة له التي تمّت في السقيفة وبموجبها عيّنوا الخليفة كانت تقليداً لما كان مرتكزاً في نفوس البعض ممّا قبل الإسلام ، حيث كان المتبع في الجاهلية إذا أرادوا أن ينصبوا لأنفسهم رئيساً بايعوا أحداً ، وكانت البيعة بمعنى نصبه للقيادة ، وبمثابة جعل الإمرة والرئاسة لشخص (1).

ص: 167


1- وسيوافيك عند البحث عن طرق انتخاب الحاكم ، أنّ البيعة المذكورة في الآيات القرآنيّة لم تكن إلاّ تأكيداً لاعترافهم بالنبوّة وقيادة النبيّ المجعولة من جانب اللّه سبحانه ، ولطمأنة النبيّ صلی اللّه علیه و آله على ما يكنّون له من إخلاص وثبات.

وممّا يدلّ على أنّ تعيين الخليفة والقائد بهذا النمط الذي تمّ في السقيفة كان أسلوباً يعتمد على ما كان مرتكزاً ومترسِّباً في نفوسهم ممّا قبل الإسلام ، أنّهم لم يلتفتوا ولم يعتنوا - في تعيين الخليفة - بالشروط اللازمة في الحاكم الإسلاميّ ، ولم يستندوا في ذلك إلى أصل قرآنيّ واسلاميّ لتصحيح عملهم - في وقته - كآيات الشورى والمشورة ، أو الآيات التي تضمنت كلمة البيعة ، بل كان كلّ من الطائفتين المتنازعتين على نيل الرئاسة والقيادة ، يرجِّح نظره وموقفه باُمور لا أساس لها في الإسلام ولا عبرة بها في تعيين الحاكم وتقرير مصير الحاكميّة كالنسب والنصرة ، حيث ادّعى المهاجرون أنّ الخلافة يجب أنّ تكون فيهم لأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان من قريش ، وعارضهم الأنصار بأنّهم أولى بالخلافة ، لأنّهم آووا الرسول ونصروه وفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم.

ومن المعلوم ، أنّ ما استندوا إليه واستدلوا به من الملاكات لم تكن ملاكات إسلاميّة في تعيين الخليفة.

وإلى عدم اعتبار تلك الملاكات الواهية ، يشير الإمام عليّ علیه السلام وينتقد أهل السقيفة على تمسكهم بها إذ يقول محتجاً عليهم :

فإن كنت بالشّورى حججت خصيمهم *** فكيف بهذا والمشيرون غيّب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنّبيِّ وأقرب (1)

أمّا ما ورد في كلامه علیه السلام من الاستدلال بالشورى. ورأي المهاجرين والأنصار وأهل الحلّ والعقد ، فلم يكن إلاّ لإبطال ادِّعاء معاوية في الخلافة من باب إفحام الخصم بما يعتقده ويدّعيه ، وذلك لأنّ موضوع القيادة - كما أسلفناه - ، كان ينحصر في التنصيص والاستخلاف ، وهوما ظلّ يعتقد به المسلمون بعد الرسول حتّى انّهم قد بنوا سيرتهم العمليّة عليه.

* * *

ص: 168


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18 : 416.
3. صيغة القيادة والخلافة عند الاُمم السابقة :

إنّ ملاحظة الآيات القرآنيّة الواردة حول القيادة ، ومراجعة ما نقل وصحّ من الأحاديث والتأريخ في هذا المجال ، تفيد ثلاث نقاط بارزة تؤيّد فكرة التنصيص على الخليفة ، وما أسميناه بالاستخلاف ، وتفيد - بالتالي - أنّ المتّبع بين الامم الغابرة كان هو التنصيص والتعيين للقائد ، وليس ترك الأمر إلى نظر الناس وانتخابهم.

وإليك هذه النقاط :

1. لقد كان المتّبع بين الانبياء السابقين هو تسليم أمر من قاموا بهدايتهم وتربيتهم من الامم وسهروا في صياغتهم ، واجتهدوا في تعليمهم ، إلى خلفاء صالحين لائقين (1). ليتسنّى لتلك الامم والأقوام والجماعات - في ظلِّ الرعاية والتربية الصحيحة التي يوليها الخلفاء والأوصياء - أن تستمر في طريق التكامل والرشد.

صحيح أنّ أكثر الذين كانوا يخلّفون الانبياء كانوا من الانبياء أيضاً ، إلاّ أنّ بعضهم لم يكونوا من الانبياء ، بل كانوا مجرد أوصياء يقومون بما يقوم به الإمام في الاُمّة الإسلاميّة.

وحتّى لو كان الخلفاء المذكورين من الانبياء أيضاً ، فان ذلك يفيد قانوناً كليّاً هو أنّ مسألة القيادة والزعامة والرئاسة بعد غياب النبيّ كان من الأهميّة والخطورة ، بحيث لم يترك أمرها إلى اختيار الناس ونظرهم ، بل كانت تعهد على طول التاريخ إلى رجال أكفّاء ، يعيّنونهم بالاسم والشخص ، لأنّ ترك تعيين القائد إلى اختيار الاُمّة قد يؤدي إلى الاختلاف والفرقة والفتنة ، أو الاشتباه والخطأ في تعيين الراعي الصالح والقائد الكفوء.

2. إنّ القيادة والرئاسة بين الامم السالفة كانت تتحقّق بصورة وراثيّة غالباً ، فيتوارثها أفراد من سلالة الأنبياء والرسل خلفاً عن سلف كما نلاحظ في الآيات التالية :

ص: 169


1- هذا معلوم على نحو الإجمال ، وإن لم نعلم خصوصيّات ولا أسماء تلكم الشخصيات الذين كانوا يخلفّون الأنبياء السابقين.

أ - ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران : 33 ). ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( آل عمران : 34 ).

ب - ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( العنكبوت : 27 ).

ج - ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) ( الحديد : 26 ).

ففي هذه الآيات ، نرى كيف ينتقل مقام الحاكميّة والقيادة بين أفراد من سلالة الانبياء وذريتهم فيتوارثون ذلك المقام الخطير خلفاً عن سلف.

د - وعندما يختار اللّه تعالى إبراهيم لمقام النبوّة والقيادة ، يدعو إبراهيم ربّه أن يجعل هذا المقام في ذرّيّته أيضاً كما جعله فيه ، ولا يردّ اللّه دعاءه ولا يستنكر عليه مطلبه ، بل يخبره بأنّه لا ينيلها الظالمين منهم إذ يقول : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ( البقرة : 124 ).

ه - وعند ما يطلب موسى علیه السلام أن يكون أخاه هارون مساعداً ومعيناً له في القيادة ... يحكي اللّه ذلك عنه دون أن يستنكر طلبه إذ يقول : ( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي ) ( طه : 30 ).

وهذه الآيات ، تكشف بوضوح عن توارث النبوّة والقيادة خلفاً عن سلف وصالحاً عن صالح ، فلا تخرج من سلالة الانبياء وذرياتهم غالباً.

3. إنّ مراجعة تاريخ الانبياء والاُمم السالفة ، تكشف عن أنّ الأنبياء كانوا ينصّون على الخلفاء من بعدهم بصورة الوصاية ، ونذكر فيما يأتي طائفةً من الانبياء ، وأوصيائهم كما يرويها المسعوديّ :

ونبدأ ذلك من النبيّ إبراهيم علیه السلام :

1. إسماعيل بن إبراهيم.

ص: 170

2. إسحاق بن إبراهيم.

3. يوسف بن يعقوب.

4. ببرز بن لاوي بن يعقوب.

5. أحرب بن ببرز.

6. ميتاح بن أحرب.

7. عاق بن ميتاح.

8. خيام بن عاق.

9. مادوم بن خيام.

10. شعيب بن مادوم.

* * *

11. موسى بن عمران.

12. يوشع بن نون.

13. فيخاس بن يوشع.

14. بشير بن يوشع.

15. جبرئيل بن بشير.

16. أبلث بن جبرئيل.

17. أحمر بن أبلث.

18. محتان بن أحمر.

19. عوق بن محتان.

20. طالوت بن عوق.

* * *

21. داود.

22. سليمان بن داود.

23. آصف بن برخيا.

ص: 171

24. صفورا بن برخيا.

25. منبه بن صفورا.

26. هندوا بن منبه.

27. أسفر بن هندوا.

28. رامي بن أسفر.

29. إسحاق بن رامي.

30. أيم بن إسحاق.

31. زكريا بن أيم.

و ...

وقد أخرجنا هذا الفهرس من كتاب إثبات الوصيّة للمسعوديّ المتوفىّ عام (345) تاركين الاطِّلاع على بقيّة أسماء الانبياء وأوصيائهم وأسباطهم للقارئ.

إنّ مراجعة هذا الفهرس من الأسماء ، ومراجعة ذلك الكتاب ، تهدينا إلى نقطتين بوضوح :

الاُوّلى : إنّ القيادة وإن كانت مقرونةً بالنبوّة غالباً ، غير أنّها كانت وراثيّةً في الامم السالفة ، يرثها صالح عن صالح وكابر عن كابر ممّا يعني أنّها لم يكن أمرها متروكاً إلى الناس ومفوضاً إلى آرائهم.

الثانية : أنّ جميع الزعامات والقيادات كانت بأمر اللّه وبنصّ الانبياء السابقين. وممّا يدلّ على أنّ الاُمّة الناشئة لا يجوز ترك أمرها إلى نفسها ، دون تعيين قائد محنّك وراع صالح منصوص عليه يأخذ بزمام أمرها. ويحفظها عن الانحراف ، ما جرى في امّة موسى علیه السلام وذلك لمّا أراد النبيّ موسى بن عمران الاعتزال عن قومه مدّة أربعين ليلةً لمناجاة ربّه سبحانه ، لم يترك امّته دون تعيين الخليفة عليهم ... بل عيّن هارون خليفةً وأميراً في غيابه وإلى هذا يشير قول اللّه سبحانه منبّهاً إلى هذه الواقعة : ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ

ص: 172

اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) ( الاعراف : 142 ).

فإذا كان هذا هو المتّبع عند الامم السالفة في مسألة القيادة والخلافة بعد الانبياء ، وكان ذلك أمراً متكرراً ومتعارفاً بينهم ، فالانصراف عن تلك الطريقة والإعراض عنها في الإسلام يحتاج إلى التصريح والبيان.

الخلافة بالوصاية

اشارة

ومن طالع الكتاب والسنّة بتتبّع وتوسّع ، لا يجد أي دليل يدلّ على ما يخالف هذه الطريقة ولا أي صارف عن الأخذ بها ، بل يجد في ذينك المصدرين العظيمين المقدسين ما يدلّ على أنّ كلّ ما جرى على الامم السابقة يجري على هذه الاُمّة إلاّ ما استثني ، وهو مبيّن.

ويدل على ذلك بصراحة لا تقبل جدلاً ما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ ، وإنّه لا نبيّ بعدي وسيكون خلفاء » (1).

وبما أنّ التلازم بين النبوّة والاستخلاف ممّا تقتضيه طبيعة الحياة الاجتماعيّة وتؤكّده حياة الامم السالفة كما ذكرنا لك ، لهذا نجد أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بمجرد أنّ يصدع بنبوّته ، يواجه الناس بمسألة الخلافة من بعده ويشير إلى الخليفة الذي سيخلفه ، والوصيّ الذي سيلي مهمّاته ومهامّه بعد وفاته ..

وهذا يدلّ على أنّ النبوة والاستخلاف ( وتعيين الخليفة بالوصاية ) متلازمان لا ينفصلان وتوأمان لا يفترقان ..

وإليك ما جرى في يوم الدار المعروف ، وهو يثبت ما قلناه :

أخرج الطبريّ في تاريخه عن عبد اللّه بن عبّاس عن علي بن أبي طالب قال : « لمّا

ص: 173


1- أخرجه البخاري ومسلم كما في جامع الاُصول لابن الاثير الجزريّ 4 : 48.

نزلت هذ الآية على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء : 214 ) ، دعاني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال يا علي إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أنّي متى ابادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليه حتى جاء جبرئيل فقال : يا محمّد إنّك إن لا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك ، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة ، وأملأ لنا عسّاً من لبن ، ثمّ أجمع لي بني عبد المطلب حتّى أكلّمهم وأبلغهم ما أمرت به. ففعلت ما أمرني به ثمّ دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الّذي صنعت لهم فجئت به فلمّا وضعته تناول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حذيةً من اللحم فشقّها بأسنانه ، ثمّ ألقاها في نواحي الصّحفة ثمّ قال : خذوا بسم اللّه ، فأكل القوم حتّى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلاّ موضع أيديهم ، وأيم اللّه الذي نفس عليّ بيده وإنّه كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم ثمّ قال صلی اللّه علیه و آله اسق القوم ، فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا منه جميعاً ، وأيم اللّه إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله ، فلمّا أراد رسول اللّه أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لقدما سحركم صاحبكم ، فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال الغد : يا عليّ إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن أكلمهم ، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثمّ أجمعهم إليّ ، قال ففعلت ، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتّى ما لهم بشيء حاجة ثمّ قال اسقهم فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا منه جميعاً ، ثمّ تكلم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : يا بني عبد المطلب إنّي واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ».

قال : « فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً : أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثمّ قال :

ص: 174

إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ».

قال : « فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع » (1).

إنّ الناظر في كلمات الإمام عليّ علیه السلام يرى أنّ الإمام يصرّح بوجود النصّ النبويّ على خلافته وولايته بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ يقول في أهل البيت علیه السلام وهو منهم ... يقول علیه السلام : « هم موضع سرّه وملجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه وهم أساس الدين وعماد اليقين ، وإليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصيّة » (2).

وهذه العبارة صريحة في أنّه علیه السلام الصاحب الشرعيّ لمقام الخلافة ، لوجود خصائص الولاية في أهل البيت وهو رئيسهم ، ولوجود الوصيّة في أعيانهم وهو أوّلهم.

كما يرى أنّه علیه السلام يصرّح ، بأنّ الولاية حقّ شرعيّ له خاصّةً ولكنّ قريشاً حالوا بينه وبين ذلك الحقّ إذ يقول : « إنّ اللّه لمّا قبض نبيّه استأثر علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من النّاس كافةً ، ورأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ، وسفك دمائهم ، والناس حديثوا عهد بالإسلام ، والدّين يمخض مخض الرّطب ، يفسده أدنى وهن ويقلبه أقلّ خلق » (3).

وفي عبارة أخرى يصرّح الإمام علیه السلام بهذا الحقّ بأشدّ وضوح إذ يقول : « اللّهمّ استعينك على قريش ومن أعانهم ، فإنّهم قطعوا رحمي وصغّروا عظيم منزلتي وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي » (4).

ص: 175


1- تاريخ الطبريّ 2 : 216 ، نقض العثمانيّة كما في شرح نهج البلاغة 3 : 263 ، شرح الشفاء للقاضي عياض 3 : 37 ، تفسير الخازن : 390 ، وحياة محمّد لهيكل : 104 ، مسند أحمد 1 : 159 وغيرها.
2- نهج البلاغة : الخطبة 2.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8 : 30.
4- نهج البلاغة لعبده : الخطبة 168.

وفي عبارة رابعة قال مجيباً على اعتراض أبي عبيدة الجّراح على الإمام حرصه على الخلافة والإمرة : « بل أنتم - واللّه - أحرص وأبعد وأنا أخصّ وأقرب ، وإنّما طلبت حقّاً لي ، وأنتم تحولون بيني وبينه وتصرفون وجهي دونه » (1).

ووجه الدلالة لهذا الكلام العلويّ يتّضح إذا درسنا هذا الحقّ الذي يدّعيه الإمام لنفسه ، ماهيّته وحقيقته.

وفي عبارة خامسة يقول الإمام علیه السلام : « فواللّه ما زلت مدفوعاً عن حقّي مستأثراً عليّ منذ قبض اللّه نبيّه صلی اللّه علیه و آله حتّى يوم النّاس هذا » (2).

والعجيب ، أنّ ابن أبي الحديد فسّر هذا ( الحقّ ) الذي صرّح به الإمام في مواضع عديدة بما يخالف ظاهره. إذ قال ما توضيحه :

إنّ الإمام لمّا كان أقرب الناس إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وكان أعلمهم وأعدلهم كان له بذلك ( حقّ طبيعيّ ) بأن يكون هو الخليفة ، وأن يقع اختيار الاُمّة عليه للقيادة والإمرة ، غير أنّ الاُمّة - مع ماله من الحقّ المذكور - عدلت عنه ، وقدّمت المفضول على الفاضل لمصلحة كانت تراها ، فعمد الإمام إلى التظلّم والشكوى واللوم على الناخب والمنتخب.

فالحقّ الذي يدّعيه الإمام علیه السلام في هذه العبارات ، والذي حرمته قريش وأزالته عنه ليس حقّاً شرعيّاً ، وليس انتخاب غيره عدولاً عن أمر الشرع ، بل كان حقاً طبيعيّاً ، وعقليّاً واجباً يوجب على الإنسان ان لا يعدل مع وجود الأعلم إلى العالم ، ومع وجود الأفضل إلى المفضول ، ومع وجود اللائق إلى غير اللائق ، بل لابدّ أن يعطى زمام الأمر إلى العالم المستجمع لشرائط القيادة روحيّاً وجسميّاً.

بيد أنّ هذا التوجيه والتفسير ، ينبع عن رأي مسبّق اتخذه صاحبه ، ودرس ( الحقّ ) مستنداً على ذلك الرأي والموقف المسبّق وهو غير مقبول.

ص: 176


1- نهج البلاغة لعبده : الخطبة 167.
2- نهج البلاغة : الخطبة 59.

فإنّه إذ ذهب إلى تصحيح خلافة الخلفاء الذين تسلّموا قيادة المسلمين بعد الرسول ، صار إلى تأويل هذه العبارات وتفسير الحقّ على النحو المخالف لظواهرها الواضحة.

والناظر إلى هذه العبارات والعارف بكلمات الإمام علیه السلام يعلم أنّ الإمام يقصد غير ما قاله ابن ابي الحديد ، فإنّه :

أوّلاً : يعتمد على كلمة ( الوصاية ) ، وهو يبطل بصراحة ما أدّعاه ابن أبي الحديد إذ المراد من الوصاية هو إيصاء النبيّ بالخلافة والولاية الشرعيّة له بعده.

وكلمات الوصاية هذه وردت في كلمات كثيرة للإمام مرّ عليك بعضها في العبارات السابقة ، كما وصف الإمام بها في بعض كلمات المسلمين وأشعارهم (1).

ثانياً : إنّ اللياقة التي توجد في الإمام عليّ علیه السلام لا تولّد لوحدها حقّاً لعليّ علیه السلام ما لم ينضّم إليه انتخاب الاُمّة على مبنى ابن أبي الحديد ، الذي يرى أنّ الخلافة عمليّة انتخابيّة ، فإنّ الحقّ في الخلافة على هذا المبنى يعتمد على أمرين :

1. اللياقة الذاتيّة.

2. انتخاب الشعب.

فلو انتفى أحد الجزئين ، انتفى الحقّ في الخلافة ، فلا يبقى حقّ لكي يدّعيه الإمام ويركّز عليه.

وبتعبير آخر : إنّ أمر القيادة لو كان راجعاً إلى المشاورة والاستفتاء ومفوّضاً إلى انتخاب الصحابة أو أهل الحلّ والعقد ، فإذا لم ينتخبوا أحداً لا يكون الشخص ذا حقّ في الخلافة والإمرة والقيادة ، وإن كان ذا فضائل وكفاءات وصفات قياديّة ، ولا يعدّ العدول عنه عدولاً عن الحقّ ، وميلاً إلى الظلم والإجحاف بأحد ، مع أنّ كلمات الإمام علیه السلام صريحة في أنّ هذا العدول كان عدولاً من الحقّ إلى غير الحقّ إذ قال : « وأجمعوا

ص: 177


1- لاحظ شرح النهج 1 : 143 - 150.

على منازعتي أمراً هو لي ».

وأمّا أنّ الإمام لماذا لم يقم على اخذ الحقّ مع ما يتمتّع به من الشرعيّة والقوّة ؟ فقد أشار الإمام إلى سببه في كلماته إذ قال معزياً ذلك إلى حرصه على وحدة المسلمين ودمائهم : « فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من فرقة المسلمين وسفك دمائهم والناس حديثوا عهد بالإسلام ، والدّين يمخض مخض الرّطب يفسده أدنى وهن ويقلبه أقلّ خلق ».

وإلى هذا السبب أشار في موضع آخر إذ قال : « لمّا قبض اللّه نبيّه قلنا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون النّاس وأيم اللّه لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن لا يعود الكفر ويبور الدّين لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه » (1).

ولمّا طالب بعض اصحاب الإمام في أبيات له أن يطالب الإمام بذلك الحقّ الشرعيّ قال علیه السلام : « سلامة الدّين أحبّ إلينا من غيره » (2).

وفي كلام آخر له علیه السلام نجده يعزي سكوته العظيم وإحجامه عن استخدام القوّة إلى عدم وجود النصير الحقيقيّ له إلاّ أهل بيته الذين كان يحرص على المحافظة عليهم : « فنظرت فإذا ليس معين إلاّ أهل بيتي فضننت بهم عن الموت وأغضيت على القذى وشربت على الشّجى ، وصبرت على أخذ الكظم وعلى أمر من طعم العلقم » (3).

ويؤيّد أنّ الحقّ الذي كان يدّعيه الإمام علیه السلام إنّما هو حقّ شرعيّ ، أنّه حكّم اللّه بينه وبين من دفعوه عن مقامه إذ قال لمن سأله وهو أحقّ به : « فاعلم فأمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً والأشدّون برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نوطاً ( أي تعلّقاً ) فإنّها كانت أثرةً شحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين والحكم اللّه ، والمعود إليه يوم القيامة » (4).

ص: 178


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 307.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 41.
3- (3 و 4) نهج البلاغة : الخطبة3. 157.
4- (3 و 4) نهج البلاغة : الخطبة3. 157.

وهذا يفيد بوضوح أنّ ذلك الحقّ كان حقّاً شرعيّاً إلهيّاً ستسئل الاُمّة الإسلاميّة عنه يوم القيامة.

وخلاصة القول : أنّ النصوص متضافرة على أنّ الإمام كان موصى له بالخلافة ومنصوصاً عليه بالإمرة والولاية ... ولكنّه علیه السلام لم يجد الظروف مناسبةً للمطالبة بذلك المقام المنصوص والحقّ المصرّح به ، حفاظاً على مصلحة الإسلام والمسلمين ، وتجنباً من سفك الدماء وتفرق وحدة الاُمّة ... وسقوط هيبتها. وهو أمر تقتضيها مصلحة القيادة الحكيمة.

وهكذا تبيّن ممّا سبق من البحث المفصّل ، أنّ القاعدة الأصليّة في صيغة الحكومة الإسلاميّة بعد النبيّ هو التنصيص الإلهيّ على حاكم معين باسمه وشخصه ... وهذا هو ما يعبر عنه بالوصاية.

وحاصلها ، أنّ الحاكم الأعلى في نظام الحكم الإسلاميّ يجب أن يكون منصوصاً عليه من جانب اللّه سبحانه ، فكما أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان نبيّاً ورسولاً وحاكماً وقائداً من جانب اللّه سبحانه ، فلابدّ أن يكون خليفته المتولّي لشؤون المسلمين من بعده ، منصوصاً عليه ، وعلى قيادته من جانبه سبحانه أيضاً.

فذلك كما أسلفنا ، ممّا يقتضيه العقل ويدلّ عليه الكتاب والسنّة ويؤكّده موقف الصحابة والخلفاء ، وتكشف عنه سيرة الامم السالفة والأنبياء السابقين.

وقد اقتصرت مهمّتنا في هذا البحث الموسّع ، على الاستدلال والبرهنة على هذه القاعدة الأصيلة في صيغة الحكومة الإسلاميّة ولا يهمّنا هنا إثبات من ورد في شأنه النصّ الإلهيّ ، وعيّنه اللّه سبحانه لإمرة المسلمين وقيادتهم ... فذلك موكول إلى الكتب المعتبرة والمصادر الموثوقة التي تهتمّ بهذا الأمر وتحتوي على النصوص المرتبطة به.

وصفوة القول ، أنّ جميع الأدلة النقليّة والمحاسبات العقليّة والاجتماعيّة والشواهد التأريخيّة تدلّ بالإجماع على ، أنّ الأصل الأصيل في الحاكميّة هو أنّ الحكم لله سبحانه وحده بالأصالة والاستقلال ، وهو يستخلف من يشاء من عباده الصالحين اللائقين

ص: 179

القادرين على إدارة البشريّة وكفايّة اُمورهم وهم ممن تتوفر فيهم مؤهّلات ، وكفاءات عالية ... ولا تعرف بالطريق العاديّ ، ولا تكشف بالتجربة والاختيار ولا تحصل إلاّ بإعداد إلهيّ ... وتربية ربانيّة.

بيد أنّ الإسلام إذ لم يشرّعه اللّه سبحانه إلاّ ليكون منهج حياة للبشريّة يتكفّل تنظيم حياتهم عامّةً ، ولم يكن له بدّ من التخطيط لموضوع الحكومة والدولة التي هي محور الحياة الاجتماعيّة وأساسها في جميع الأحوال وجميع الظروف والأزمنة ، فإذا لم يتسنّ للمجتمع التوصّل إلى الحاكم المنصوص عليه من جانب اللّه بالاسم ، لأسباب استثنائيّة ، وظروف خاصّة ، ولم يجز للإسلام إهمال مسألة الحكومة ، فلابدّ أن يكون له منهج رصين في هذا المجال ايضاً.

وبتعبير آخر أنّ ما ذكرناه لك في الصفحات الماضية والبحوث المتقدمة إنّما هو راجع إلى الظروف التي يوجد فيها إمام منصوص عليه يمكن التوصّل إليه بالأسباب العاديّة ، ويتسنّى له أن يباشر إدارة المجتمع وتدبيره.

غير أنّ المفروض في هذا العصر هو عدم وجود مثل ذلك الإمام فلابدّ أن يكون للدين الإسلاميّ تخطيط آخر قطعاً ... ولا شكّ أنّه تخطيط موجود في الشريعة ويمكن تحصيله بالدراسة والتحقيق ، إذ لا يمكن للإسلام أن يهمل هذه الناحية الحساسّة من حياة المجتمع على كلّ حال.

فلابدّ إذن للباحث عن الحقيقّة ، أن يتحرّى برنامج الإسلام في هذا المجال في الكتاب والسنّة ونصوص الأئمّة الإسلامييّن ، حتّى يستنبط ما يقرره الإسلام في مجال الحكم في هذه الظروف.

وهذا هو ما سنفعله في البحث القادم.

رأي الخُضريّ ومناقشته

وفي الختام نأتي بما قاله الاستاذ محمّد الخضرّي :

ص: 180

( لم يرد في الكتاب أمر صريح بشكل انتخاب خليفة لرسول اللّه اللّهمّ إلاّ تلك الأوامر العامّة التي تتناول الخلافة وغيرها مثل وصف المسلمين بقوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (1) وكذلك لم يرد في السنّة بيان نظام لانتخاب الخليفة إلاّ بعض نصائح تبعد عن الاختلاف والتفرّق ، كأنّ الشريعة أرادت أن تكل هذا الأمر للمسلمين حتّى يحلّوه بأنفسهم ، ولو لم يكن الأمر كذلك لمهّدت قواعده وأوضحت سبله ، كما أوضحت سبل الصلاة والصيام ) (2).

وما ذكره الأستاذ ادّعاء غريب إذ فيه :

أوّلاً : كيف لم يرد في السنّة بيان نظام خاصّ حول الخلافة إلاّ الأوامر العامّة ، وقد فصّل الرسول صلی اللّه علیه و آله جلائل الأمور وصغائرها فيما هو أقلّ شأناً من أمر الخلافة بكثير.

كيف وقد بين الرسول كثيراً من المستحبات والمسنونات التي لا تبلغ في الأهميّة والخطورة مبلغ الخلافة والحكومة.

وثانياً : إنكّ قد عرفت أنّ أمر الخلافة لا يصحّ أن يكله النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى الاُمّة وقد عرفت الوجوه الدالة على ذلك ، من عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة ، وتجذّر الخلافات العشائريّة بينهم ، والخطر الثلاثي الذي يحدق بهم ، ويهدّد كيانهم (3).

وثالثاً : أنّ الاستاذ لو أحاط بتاريخ الإسلام والمسلمين وما أثر من الرسول من أحاديث صحيحة ومتواترة حول الخلافة لوقف على النصوص الصريحة في لون الخلافة ونظامها في جميع الظروف.

ص: 181


1- الشورى : 38.
2- محاضرات في تاريخ الامم الإسلاميّة 2 : 161.
3- لاحظ صفحة 76 - 100 من هذا الجزء.

ص: 182

الفصل الثالث: صيغةُ الحكومة الإسلاميّة في العصور الحاضرة

اشارة

قد أوقفك ما مضى من البحث على لون الحكومة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعرفت حقّ المقال فيه بما لا يبقى لمشكّك شكّ ، ولا لذي ريب ريب.

غير أنّ المهمّ - الآن - هو ، بيان صيغة الحكومة في العصور الحاضرة التي لا تتمكن الاُمّة فيها من الوصول إلى الإمام المنصوص عليه باسمه وشخصه ، وهذا هو ما عقدنا له الفصل التالي.

* * *

ماذا كُتب حول الحكومة ؟

إنّ إيضاح صيغة الحكومة الإسلاميّة في هذه العصور ، وبيان مناهجها وخطوطها وخصائصها مع كونها من أهمّ الموضوعات الحيويّة ، لم يبذل علماء الفريقين حولها الجهود الكبيرة اللائقة بشأنها ، وذلك لسبب في جانب أهل السنّة ، وسبب في جانب الشيعة.

أمّا الأوّل ، فبما أنّ الاسلوب الّذي تمّت به خلافة الخلفاء في العصر الأوّل قد صار ملاكاً للحكومة الإسلاميّة عندهم وحسبوا أنّه المعيار الصحيح ولأجل ذلك صار هذا

ص: 183

مانعاً عن تحقيق الموضوع حسب ما يليق به.

وقد صار ذلك مؤثراً في تعطيل القوى المفكِّرة للبحث عن إسلوب آخر من أساليب الحكم التي ربّما يرشدنا إليه الكتاب والسنّة عند التدبُّر.

وقد سبقنا إلى ذكر هذا السبب الكاتب عبد الكريم الخطيب في كتابه الخلافة والإمامة ( صفحة 272 ) حيث قال : ( وقد كان لهذا الإسلوب أثره في تعطيل القوى المفكّرة للبحث عن إسلوب آخر من أساليب الحكم التي جرّبتها الامم ... إذ أصبحت البيعة التي ظهرت صورتها في سقيفة بني ساعدة ، هي الصورة المرتسمة في ذهن المسلمين وهي عندهم الصورة المثلى لاختيار الخليفة ).

وأمّا من جانب الشيعة ، فلأجل أنّهم لم تقم لهم حكومة إسلاميّة واسعة الأطراف إلاّ دويلات مثل الحمدانييّن والبويهييّن والفاطمييّن ، وقد قضت عليها السلطات الجائرة ، لم يستدعي ذلك البحث عن خطوط الحكومة الإسلاميّة ومسائلها ولأجل ذلك ، اكتفوا بالبحث عن المسائل التي كانت تبتلي بها الشيعة في جميع العصور ، كالخراج والمقاسمة والتولّي عن الحاكم الجائر وغيرها ممّا لم تكن خاصّةً بعصر دون عصر.

نعم ذكر ابن النديم في فهرسته ( صفحة 50 ) كتاباً لأبي موسى جابر بن حيّان تلميذ الإمام جعفر الصادق المتوفّى عام ( 200 ) اسمه ( الحكومة ) ولا نعلم خصوصيّات الكتاب.

وألّف بعض علماء الشيعة كتباً ورسائل في بعض المسائل التي تمت إلى الحكومة بصلة « كقاطاعة اللجاج في حلّ الخراج » للمحقّق الكركي المتوفّى عام ( 940 ه ) ، و « الخراجيّة » للمحقّق الأردبيليّ المتوفّى عام (993) وقد طبعت في هامش كتاب درر الفوائد للمحقّق الخراسانيّ.

كما أنّ هناك رسائل اخرى في هذا الموضوع ذكرها البحّاثة شيخنا الطهرانيّ في موسوعته الذريعة ، راجع الجزء 7 صفحة 68 و 144.

وألّف غير واحد من علماء الشيعة حول الدفاع والجهاد ، كتباً مفصّلة وهما يعدّان

ص: 184

من مسؤوليات الدولة ، كما ألفّوا رسالات حول الولاية عن الحاكم الجائر.

وقد قام في العصر الحاضر أعلام من الشيعة بدراسة هذا الأمر الحيويّ ، ونخص بالذكر العلمين الجليلين : آية اللّه المحقّق النائينيّ المتوفي عام (1355) وقد سمّى كتابه : تنبيه الاُمّة وتنزيه الملّة وطبع عام (1327) وقرضه العلمان ( آية اللّه الخراسانيّ وآية اللّه المازندراني ) وآية اللّه العظمى الإمام الأكبر المجاهد السيد روح اللّه الخمينيّ قائد الثورة الإسلاميّة الظافرة ، وقد بحث عن الحكومة الإسلاميّة بصورة مسهبة في سلسلة محاضرات منتظمة وقد طبعت تحت عنوان « الحكومة الإسلاميّة ».

ولأعلام السنّة مؤلفات في هذا المجال ، يعالج كلّ واحد منها بعض النواحي من الحكومة الإسلاميّة ، وأخصُّ بالذكر كتب :

1. الأموال للإمام الحافظ أبي عبيد القاسم بن سلام المتوفّى عام (224) وهو من أنفس ما ألّف في هذا الموضوع.

2. « الأحكام السلطانيّة » للشيخ أبي الحسن عليّ بن محمد الماورديّ الشافعيّ المتوفّى عام (450) وقد رتّبه على عشرين باباً.

3. « الأحكام السلطانيّة » للشيخ أبي يعلى محمّد بن الحسين الفرّاء الحنبليّ المتوفّى ببغداد عام (458) وهو معاصر للماورديّ.

4. « معالم القربة في أحكام الحسبة » لابن الأخوة القرشيّ المتوفّى عام ( 760 ه ) وهو من أبسط ما كتب في شؤون المحتسب.

5. « الحسبة في الإسلام » تأليف أحمد بن تيمية المولود عام ( 661 - 728 ه ) هذا ما كتبه القدامى من المفكّرين والعلماء.

وأمّا المتأخِّرون ، فقد أكثروا في الكتابة عن الموضوع في عصرنا هذا ، غير أنّ الجميع - كما أشرنا إليه - لم يتجاوزوا عن تصوير الحكومة الإسلاميّة التي قامت في عهد الخلفاء ومن بعدهم من الأموييّن والعباسييّن ، فهذه الكتب أشبه بتأريخ الخلافة الإسلاميّة من

ص: 185

تحقيق خطوطها ورسم معالمها على ضوء الكتاب والسنّة.

والغريب ، أنّ هذه المسائل تهمل ولا يعتني بها كتابنا الأوائل والحال أنّنا نجد بعض مؤرخينا السالفين ، دأبوا على تكريم الظالمين وكالوا لهم الثناء بغير حساب ، وسخّروا تفكيرهم وجهودهم للإطراء على سرفهم وترفهم ، وأعمالهم السيئة فحفلوا - فيما كتبوه من تاريخ - حتّى بحياة المشعوذين والمجانين ، بل وأحوال غلمان الملوك وقردتهم والمغنيّن والراقصين ، ونمثل لذلك بكتاب ( الأغاني ) لأبي فرج الأصفهانيّ المتوفّى عام (356) الذي حفل بكلّ مغنّ ومغنيّة وكلّ راقص وراقصة ، وكلّ شاذّ وشاذّة ، ونقل أشعارهم المائعة وقصائدهم الماجنة ، وكتب في ألوان الألحان والأصوات وذكر الأشعار الموافقة لألحانها مع تراجم شعرائها والمغنيّن بها ... بينما غفل اولئك الكتّاب عن الكتابة والتأليف عن الحكومة الإسلاميّة وخطوطها وخصوصيّتها وما ورد في شأنها في الكتاب والسنّة إلاّ عدّة مختصرات مرّت عليك ، وهو لا يكشف إلاّ عن عدم الاهتمام بهذا الأمر الحيويّ ، هذا وسيقف القارئ الكريم على أنّ صيغة الحكومة في العصور الحاضرة هو التنصيص أيضاً لكن لا على العين والشخص بل على الوصف والمواصفات.

وبعبارة أخرى : إنّ صيغة الحكومة في هذه العصور هي انتخاب الاُمّة للحاكم حسب الضوابط المنصوص عليها في الكتاب والسنّة أو كون الحاكم الأعلى مرضيّاً عند الاُمّة بعد أن يكون متّصفاً بالضوابط الشرعيّة.

وهذا هو الذي يتجلى لك بالتفصيل والبرهان في الصفحات القادمة ، ولا يرجع هذا النمط إلى النظام الدارج في الغرب وفي كثير من البلاد الاُخرى في العالم الثالث.

إذ في الأنظمة الديمقراطيّة السائدة اليوم ، يكفي مجرّد اجماع الشعب ، أو أكثريّته على اختيار فرداً للحكم والرئاسة ، بغضّ النظر عمّا يجب أن تتوفّر في الحاكم والرئيس الأعلى من مؤهّلات وكفاءات عالية تتوقّف عليها عمارة البلاد وسعادة العباد.

بينما يختلف الأمر عن ذلك في ظلّ النظام الإسلاميّ الذي يحصر حقّ الحاكميّة في اللّه وحده.

ص: 186

فإنّ هذا المنطلق وهذه القاعدة الأصليّة الرصينة في الفكر الإسلاميّ تفرض ، أن تكون حاكميّة غير اللّه مستندةً إلى حاكميّته سبحانه ، وموضع رضاه تعالى ، فتكون إمّا منصوصاً عليها بالاسم والعين من جانبه تعالى - كما أسلفناه - ، وإمّا أن تكون موافقةً للصفات والضوابط التي نصّ عليها الكتاب والسنّة ، فلا يكفي في شرعيّة الحكومة والرئاسة مجرد انبثاقها من إرادة الشعب كلّه أو أغلبيّته ، ما لم تكن وفق الضوابط الإلهيّة والمعايير الإسلاميّة المقرّرة في شأن الحاكم.

وهذا أمر منطقيّ ، لأنّ الغرض من إقامة الحكومة في منطق الإسلام إنّما هو إشاعة العدل والحق والأمن ، ولا يتحقق ذلك إلاّ في ظلّ حكومة تكون منطبقةً على المعايير والضوابط الإلهيّة.

ولذلك لا يمكن أن نصف ( الحكومة الإسلاميّة ) في هذه الحال بأنّها : حكومة الشعب على الشعب. بل هي حكومة اللّه على الشعب بقوانينه وضوابطه ، أو حكومة القانون الإلهيّ.

ولا يهمّ مع ذلك ، الوصف والتسمية ، بعد أن اتضح منشأ الحكومة الإسلاميّة وهو حاكميّة اللّه ، وحاكميّة قوانينه وضوابطه وأحكامه.

وبذلك يفترق اسلوب الانتخاب الشعبيّ في ظلّ النظام الإسلاميّ عمّا هو متعارف في ظلّ الأنظمة الديمقراطيّة السائدة ، التي تعتمد على السيادة الشعبيّة دون قيد أو مراعاة للمواصفات والمؤهّلات اللازمة في الحاكم والمنتخب ، وهي بذلك تعتبر الحاكميّة حقّاً خاصّاً بالشعب ونابعاً منه ، ومن إجماعه على شيء أو شخص وارتضائه به حقّاً أو باطلاً ، صالحاً أو فاسداً ، وستعرف المواصفات التي يشترطها الإسلام في الحاكم الأعلى في الفصول القادمة ، ويتعّين علينا هنا أوّلاً أن نعرف الأدلّة التي تعطي الاُمّة حقّ اختيار الحاكم أو ارتضائه - على الأقل - في ظرف عدم التوصُّل إلى الحاكم المنصوص عليه من جانب اللّه.

ص: 187

انتخاب الاُمّة والأدلّة الإسلاميّة

اشارة

انتخاب الاُمّة والأدلّة الإسلاميّة (1)

يحتوي الكتاب والسنّة وسيرة المسلمين العمليّة على أدلّة كثيرة تدلّ على أنّ للاُمّة أن تنتخب حكامها ورؤساءها وفق الضوابط والمعايير الإسلاميّة ، وهي إلى جانب دلالتها على هذا الأمر ، وإثباتها هذا الحقّ للاُمّة ، تكشف عن طبيعة ( الحكومة الإسلاميّة ) ومنطلقاتها ومبادئها الإلهيّة التي تميّزها عن غيرها من أنظمة الحكم المعمول بها في التاريخ أو الرائجة في العالم المعاصر.

وإليك هذه الأدلّة :

1. استخلاف اللّه للإنسان
اشارة

تصرّح بعض الآيات القرآنيّة ، بأنّ اللّه تعالى استخلف الإنسان في الأرض ، فهو إذن (خليفة اللّه ) فيها من غير فرق بين آدم وأبنائه إلى يوم القيامة ، غير أنّ تلك الخلافة قد تجسّدت في ذلك الوقت في آدم ، حيث يقول اللّه تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ... ) ( البقرة : 30 ).

وهذه الآية والآيات التي ستمرّ عليك ، تدلّ بوضوح كامل على أنّ الخلافة لم تكن منحصرة في فرد واحد من النوع الإنسانيّ وهو آدم علیه السلام بل هي تشمل جميع أبناء البشريّة ، بدليل أنّه بعد ما قال سبحانه : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) سأل الملائكة بقولهم : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ) مظهرين بذلك ، أنّ الخليفة المزمع استخلافه في الأرض سيركب الفساد ويسفك الدماء ، ومن المعلوم ، أنّ هذا العمل لم يكن صادراً من الإنسان الشخصيّ المتمثّل في آدم علیه السلام بل من أبنائه وأبناء أبنائه ، الذين طالما اقترفوا الذنوب وارتكبوا المعاصي ، وأخبر القرآن

ص: 188


1- إنّ الأدلّة التي ستمر عليك في الصفحات القادمة تتكفّل بيان أمرين : أحدهما ضمنيّ والآخر استقلاليّ ، فهي مضافاً إلى أنّها تبيّن صيغة الحكومة في العصور الحاضرة تبيّن لزوم إقامة الدولة وتشكيل السلطة في إطار الضوابط الإلهيّة.

الكريم عن فسادهم الكبير في الأرض.

وبعبارة آخرى : بما أنّ الملائكة تنسب الفساد وسفك الدماء إلى الخليفة المجعول في الأرض ، يعلم أنّ الخلافة هذه كانت عامّةً والاستخلاف كان شاملاً لجميع أبناء البشر.

ويمكن استظهار هذا المطلب من الآيات التالية أيضاً :

أ - ( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) ( فاطر : 39 )

ب - ( أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ) ( النمل : 62 ).

إنّ هاتين الآيتين - بإطلاقهما تفيدان أنّ المخاطبين بهما : خلفاء اللّه في أرضه وينبغي أن لا نتوهّم أنّ المراد هو خلافتهم عن الامم السابقة ، إذ لو كان المراد هو ذلك ، لوجب إلقاء الكلام على غير هذا النحو كما في بعض الآيات التي أريد منها خلافة امّة لاحقة عن امّة سابقة كقوله سبحانه : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ ) ( يونس : 14 ) (1).

وصفوة القول : أنّ مقتضى هذه الآيات هو أنّ اللّه سبحانه شرّف الإنسان باستخلافه وجعله خليفته في الأرض ، فكان الإنسان بذلك خلقاً ممتازاً على جميع عناصر الكون ، وبهذه الخلافة والاستخلاف استحقّ أن تسجد له الملائكة تكرمةً وإعظاماً ، وإظهاراً لفضله ومقامه.

أبعاد خلافة الإنسان عن اللّه

إنّ كون الإنسان خليفة اللّه في الأرض يقصد ( أو يستنتج ) منه أمران :

1. كون الإنسان خليفةً لله سبحانه في تمثيل أسمائه ، وصفاته الحسنى.

ص: 189


1- وبهذا المضمون الآية (73) من سورة يونس والآيتين ( 69 و 74 ) من الأعراف.

فهو بما أنّه خليفة اللّه يحكي - بوجوده - قدرة اللّه المستخلف له ، وعمله ، فهو يتفنّن ويبتدع ، ويكتشف ، ويستخرج ، ويجدّ ، ويعمل ، فيجعل الحزن سهلاً والماحل خصباً ، والخراب عمراناً ، والبراري بحاراً أو خلجاناً ، ويولّد بالتلقيح أزواجاً من النبات ، وقد يتصرف في أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية والتغذية ، والتوليد حتّى ظهر التغيير في خلقتها ، وخلائقها ، وأصنافها فصار منها الكبير والصغير ، ومنها الأهليّ والوحشيّ ، فهو ينتفع بكلّ نوع منها ويسخِّره لخدمته ، كما سخّر القوى الطبيعيّة ، وسائر المخلوقات.

أليس من حكمة اللّه الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى ، أن جعل الإنسان بهذه المواهب خليفته في الأرض يقيم سننه ، ويظهر عجائب صنعه ، وأسرار خليقته ، وبدائع حكمه ، ومنافع أحكامه ؟ وهل وجدت آية على كمال اللّه ، وسعة علمه أظهر من هذا الإنسان ، الذي خلقه على أحسن تقويم ، وإذا كان الإنسان خليفته بهذا المعنى فكيف تعجب الملائكة منه (1).

ولأجل خلافة الإنسان عن اللّه سبحانه في الاُمور التكوينيّة جعل اللّه تعالى عمارة الأرض ، على عاتق هذا الإنسان حتّى يمثّل بعمله وتعميره للأرض تدبير اللّه سبحانه فقال : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) ( هود : 61 ).

وكما أنّ اللّه سبحانه ربّ البقاع والبهائم ومدبّرها ، فإنّ الخليفة مسؤول عنها ومسؤول عن العناية بها أيضاً كما قال الإمام عليّ علیه السلام : « إنّكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم » (2).

وخلاصة هذا البعد هي ، خلافة الإنسان عن اللّه سبحانه في الاُمور التكوينيّة بما أعطي من مقدرة من جانبه سبحانه.

2. إنّ الإنسان يخلفه سبحانه في الاُمور الاجتماعيّة ، أعني بها الاُمور الراجعة إلى القيادة والحاكميّة.

ص: 190


1- تفسير المنار 1 : 260.
2- نهج البلاغة : الخطبة (165).

فإنّ كونه خليفةً لله في الأرض لا يقتصر على ما ذكر ، بل يعمّ كونه خليفةً فيها في ( الحكم والحاكميّة ) أيضاً ، إذ من المعلوم أنّه إذا كان الإنسان مسؤولاً - بالخلافة - عن تعمير البقاع ومكلّفاً بالعناية بالبهائم وتدبير شؤونها ، فإنه بالأحرى مسؤول ومكلف بتدبير أمر نفسه ومجتمعه. وهذا ما نعبر عنه بخلافته عن اللّه في الاُمور الاجتماعيّة والاعتباريّة ( الحاكميّة ).

وعلى ذلك يكون معنى استخلاف اللّه للإنسان ، أنّه خوّل إليه أمر القيادة وتدبير مجتمعه ، وممارسة ( الحكم والولاية ) في إطار الضوابط والسنن التي جاء بها الدين.

وفي هذا الصدد يقول العلامة الطباطبائيّ في تفسيره ( الميزان ) : ( انّ الملائكة فهموا من قوله سبحانه ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) أنّ الخلافة لا تقع في الأرض إلاّ بكثرة من الأفراد وقيام وضع اجتماعيّ بينهم ، وهو يفضي بالتالي إلى الفساد والسفك ، والخلافة وهي قيام شيء مقام الآخر لا تتمّ إلاّ بكون الخليفة حاكياً للمستخلف في جميع شؤونه الوجوديّة وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف.

وبما أنّ الخليفة الأرضيّ بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف بهذا المعنى الجامع تساءل الملائكة.

ثمّ أنّه سبحانه أجاب عن هذا التساؤل بأنّ هناك مصالح في خلقه ما لا تعرفه الملائكة ولم تقف عليه ) (1).

فخلافة الإنسان عن اللّه لا تنحصر بالاُمور التكوينيّة من عمارة الأرض وغيرها ، بل تعمُّ حاكميّته وقيادته نيابةً عن اللّه سبحانه ، فهو بوجوده الفردي يحكي عن أسمائه وصفاته ، وبوجوده الاجتماعيّ يمثّل حاكميّة اللّه العليا في الأرض.

وبذلك يظهر أنّ حاكميته تنبثق من خلافته.

* * *

ص: 191


1- الميزان 1 : 115.

وصفوة القول : أنّ كون الإنسان خليفة اللّه في أرضه مضافاً إلى كونه ممثلاً بصفاته ، صفات المستخلف له - بمقدار ما يمكن - وممثّلاً بكماله وقدرته وعلمه ، كماله وقدرته وعلمه تعالى ، يعني أيضاً كون الخليفة ذات مسؤوليات من جانب مخلِّفه ، كمسؤوليّة الوكيل عن جانب موكِّله في مجتمعه ، ومن المسؤوليات الموجّه إلى الإنسان من جانب ربّه - بهذا الاستخلاف - هو القيام بتدبير شؤون نفسه ، وشؤون مجتمعه بممارسة القيادة لذلك المجتمع ومزاولة الحكومة والولاية خلافة عن اللّه.

إذن فللناس أن يزاولوا الحاكميّة في الأرض بالخلافة والنيابة عن اللّه ... ولكن من البيّن أنّ هذا لا يتحقّق إلاّ بتقسيم المسؤوليات في عامّة المجالات الحكوميّة ، حتّى تتفرّغ جماعة لإدارة شؤون المجتمع الإنسانيّ ، وسياسته.

وعلى هذا الأساس تقوم فكرة سيادة الاُمّة في منطق الإسلام ، وتتّجه شرعيّة ممارسة الجماعة البشريّة للولاية والحاكميّة على نفسها وبالتالي يبتنى عليه مبدأ الانتخاب الشعبيّ للحكّام في النظام الإسلاميّ السياسيّ.

* * *

آثار الحاكميّة نيابةً عن اللّه

وتترتّب على هذه السيادة والولاية الشعبيّة المنبثقة عن الاستخلاف الإلهيّ للإنسان اُمور :

أوّلاً : انتماء الجماعة البشريّة الواحدة إلى محور واحد ، وهو ( المستخلف الواحد ) الذي استخلفها على الأرض ، بدلاً عن كلّ الانتماءات الاخرى ، وما يتبع ذلك من الإيمان بسيد واحد ، ومالك واحد للكون ، وما فيه.

ويشير القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العليا في الآية التالية ، لكن استفادتها تحتاج إلى ذوق خاصّ ، قال سبحانه : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ) ( الزمر : 29 ).

ص: 192

فالآية تصور حال الفرد المؤمن والفرد الكافر.

فالمؤمن ، بما أنّه ليس في عنقه إلاّ طاعة اللّه فهو بمنزلة رجل سلم لرجل ، والفرد الكافر ، بما أنّه يعتقد بالوهيّات مختلفة متعدّدة فإنّه كرجل فيه شركاء متشاكسون ، هذا حال الفرد ، ومثله حال المجتمع المؤمن والمجتمع الكافر ، فالأوّل بما أنّه لا يخضع لحاكميّة أحد سوى اللّه سبحانه فهو بمنزلة رجل سلم لرجل ، والمجتمع الكافر بما أنّه لا يدور أمره حول محور واحد في العقيدة والنظام فهو كرجل تتنازع فيه شركاء.

ونظيره قوله سبحانه : ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف : 39 ).

ثانياً : إقامة العلاقات الاجتماعيّة على أساس العبودية المخلصة لله تعالى ، وتحرير الإنسان من عبودية الأسماء التي تمثّل أبشع أنواع الاستغلال والجهل والطاغوت كما يشير إليه قوله : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم ) ( يوسف : 40 ).

وهو إلذي أشار إليه الإمام عليّ علیه السلام بقوله : « بعث اللّه محمّداً صلی اللّه علیه و آله ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته ومن عهود عباده إلى عهوده ، ومن طاعة عباده إلى طاعته ، ومن ولاية عباده إلى ولايته » (1).

ثالثاً : تجسيد روح الاُخوة العامّة في جميع العلاقات الاجتماعيّة ، بعد محو كلّ ألوان التمييز والتسلط والاستغلال ... فما دام اللّه واحداً ولا سيادة إلاّ له وحده ومادام الناس جميعاً متساوون بالنسبة إليه ، فالجميع خلفاؤه في الأرض في تدبير ما فيها من أشياء ، فيجب أن يكونوا اخوة متكافئين في الكرامة الإنسانية والحقوق الطبيعيّة كأسنان المشط.

فالجماعة البشريّة التي تتحمّل مسؤوليّة الخلافة على الأرض ، إنّما تمارس هذا الدور بوصفها خليفةً عن اللّه سبحانه ، ولهذا فهي غير مخوّلة أن تحكم بهواها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه اللّه سبحانه ، لأنّ هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف

ص: 193


1- الوافي 3 : 22.

ومقتضاه.

وبهذا تتمّيز سيادة الجماعة البشريّة حسب منطلقها القرآنيّ والإسلاميّ عن الأنظمة الديمقراطيّة الغربيّة.

فإنّ الجماعة البشريّة - حسب هذه الأنظمة - هي بنفسها صاحبة السيادة ، لا أنّها تنوب عن اللّه في ممارستها للسيادة ، ويترتّب على ذلك أنّها ليست مسؤولةً بين يدي أحد ، وغير ملزمة بمقياس موضوعيّ في الحكم ، بل يكفي أن يتّفق الشعب على أمر ليصبح قانوناً يؤخذ به حتّى إذا كان ذلك الأمر مخالفاً لكرامته ، أو مخالفاً لمصلحة جزء من الجماعة.

وهذا بخلاف حكم الجماعة باعتبار الاستخلاف ، فإنّه حكم مسؤول ، والجماعة بمقتضاه ملزمة بتطبيق الحقّ والعدل ، ورفض الظلم ، ومقاومة الطغيان وتكون مسؤولة أمام اللّه فيما تفعل ، وعلى ذلك فالحكومة الإسلاميّة هو « حكومة الاُمّة على الاُمّة خلافةً عن اللّه » بمعنى : إجراء سننه وقوانينه ومراعاة ضوابطه وحدوده ، في الحكم والحاكميّة (1).

* * *

2. استخلاف داود يستبطن حاكميّته

والذي يدلّ على أنّ الحكم والحاكميّة من آثار الاستخلاف الإلهيّ للإنسان : أنّ اللّه سبحانه لمّا جعل داود خليفته في الارض ، رتّب على هذا الاستخلاف أمره بأن يحكم ويقود الناس بالعدل والحقّ فقال : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ ) ( ص : 26 ).

ومن المعلوم أنّ ( الخليفة ) هنا وهناك في قصّة آدم علیه السلام واحدة معنىً ومراداً ، غير أنّها هناك ذات معنىً أعمّ ، وهنا ذات معنىً أخصّ.

وقد نقل شيخ الطائفة ( الطوسي ) رحمه اللّه في تفسير التبيان عن ابن مسعود أنّه

ص: 194


1- لاحظ رسالةً ( لمحة فقهيّة تمهيديّة ) للمفكّر الإسلاميّ الشهيد السيد محمّد باقر الصّدر.

قال في تفسير الخليفة مشيراً إلى البعد الأوّل : ( قيل : إنّه يخلفني في إنبات الزرع وإخراج الثمار ، وشقّ الأنهار ).

وقال مشيراً إلى البعد الثاني : ( انّه تعالى أراد بقوله ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) أنّه يخلفني في الحكم بين الخلق ، وهو آدم ومن يقوم مقامه من ولده ) (1).

* * *

3. أداء الأمانة لا يمكن إِلاّ بالحكومة
اشارة

إنّ القرآن الكريم يتحدث عن أنّ اللّه سبحانه عرض الأمانة على الأشياء كلّها ولم يحملها إلاّ الإنسان ، فقال سبحانه : ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللّهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الأحزاب : 72 - 73 ).

فالمراد من الأمانة : هو ما أنزل اللّه سبحانه على الإنسان عن طريق سفرائه من الأحكام والفرائض والحدود وغيرها (2).

ولا شكّ أنّ تحمّل الأمانة ، لأجل أدائها وتنفيذها. ومن المعلوم أنّ تنفيذ الأحكام والفرائض والحدود في الحياة البشريّة لا يمكن إلاّ في ظلّ حكومة نابعة من نفس الدين الإلهيّ تقيمها الاُمّة المؤمنة ، لتستطيع في ظلهّا على طاعة اللّه سبحانه والإتيان بأوامره والاجتناب عن نواهيه وإقامة دينه.

على أنّ الآية الثانية ( لِيُعَذِّبَ اللّهُ ... ) توضّح حقيقة الأمانة المذكورة ، فهي تفيد أنّ حملة الأمانة ينقسمون إلى مؤمن ومنافق ومشرك ، ولا يكون هذا التقسيم صحيحاً إلا بالقياس إلى الاعتقاد بالحقّ والعمل بالدين. فيكون المؤمن هو من يقوم بالدين ... والمشرك هو من يشرك في ذلك فيأخذ بالدين وبغيره ... والمنافق هو من يتظاهر بالأخذ

ص: 195


1- التبيان 1 : 131.
2- التبيان 8 : 373.

بالدين.

وبعبارة اُخرى : إنّ الأمانة هو الدين الحق وأداؤها هو الأخذ به والعمل بمقتضاه ، ولا شكّ أنّ الأخذ بالدين ينطوي على مسؤولية كبيرة اتّجاه اللّه سبحانه ، واتّجاه نبيّه واتّجاه اُمّته.

وهذه المسؤوليّة إذا فسِّرت ، كان من أجزاءها : تدبير المجتمع ، وتنظيم شؤونه ، وأموره ، وإجراء السياسات والحدود في ذلك المجتمع.

وممّا يجدر بالذكر ، أنّ العلاّمة الطباطبائيّ اعترض على هذا التفسير لكلمة الأمانة المذكورة في الآية بالدين الإلهيّ بقوله : ( انّ الآية تصرِّح بحمل مطلق الإنسان لتلك الأمانة كائناً من كان ، أي مؤمناً كان أم كافراً ، مشركاً كان أو منافقاً ... ومن البين أنّ أكثر من لا يؤمن لا يحمله ، ولا يعلم به أساساً ، فكيف يمكن تفسير الأمانة بالدين ، فلابدّ من تفسيرها بغير الدين ، ليصدق حمل جميع أفراد النوع الإنسانيّ لها ) (1).

غير أنّ ما ذكره من الإشكال ليس صحيحاً إذ ليس المراد من ( الحمل ) هو الأخذ الفعليّ بالدين وتطبيقه في المجالات ، بل هو ( تقبّل ) الأخذ بالدين ، ولمّا كان الإنسان ظلوماً ، جهولاً حسب نصّ الآية فإنّه قد خان الأمانة ولم يخرج عن عهدتها ... ولأجل ذلك ، صار بين مؤمن يقوم بتعهده والتزامه ، ومنافق يختلف ظاهره عن باطنه ، فيتظاهر بالتسليم للدين. وهو كاره له في باطنه ، ومشرك يشرك في الأخذ فيأخذ من الدين ضغثاً ومن أهوائه ضغثاً.

* * *

الاستخلاف غير التفويض

قد صار المحصّل من هذا البحث الضافي ، أنّ الإنسان بما هو خليفة اللّه في أرضه ، خليفته في الحكم والقيادة.

ص: 196


1- ملخّص ما كتبه في تفسير الميزان 16 : 371.

وهذه السيادة التي تفيده هذه الآيات كما تختلف اختلافاً أساسياً عن الحقّ الإلهيّ الذي استغله الطغاة والملوك والجبابرة ، قروناً من الزمن للتحكم والسيطرة على الآخرين ، ووضعوا السيادة اسميّاً لله ، لكي يحتكرونها واقعيّاً ، وينصبوا من أنفسهم خلفاء لله على الأرض.

أقول : كما يختلف عن ذلك يختلف أيضاً عن تفويض الحاكميّة من اللّه للمجتمع كلّه ، بل هو خلافة ونيابة عن اللّه سبحانه ، فما فوِّضت الخلافة للإنسان حتّى يتقلب فيها بأيّ نحو يشاء ، بل هو يحكم ويدير خلافةً ونيابةً عن اللّه سبحانه.

ولأجل ذلك فما دام اللّه سبحانه هو مصدر السلطات ، وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعيّ المحدّد عن اللّه ، يجب أن تحدّد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإلهيّة.

وبهذا ترتفع الاُمّة - وهي تمارس السلطة - إلى قمّة شعورها بالمسؤوليّة لأنها تدرك بأنها تتصرف بوصفها خليفة لله في الأرض ، فحتّى الاُمّة ليست هي صاحبة السلطان وإنّما هي المسؤولة أمام اللّه سبحانه عن حمل الأمانة وأدائها (1).

* * *

4. الوظائف الاجتماعيّة وتشكيل الدولة
اشارة

تدل الآيات القرآنية التالية - بالدلالة الالتزاميّة - على ، أنّه يتوجب على الاُمّة القيام بتشكيل دولة في إطار القوانين الإسلاميّة ، وأنّ للشعب السيادة ، وأنّه لا يحقّ لأحد أن يحمل نفسه على كاهل الشعب ، ويفرض سيادته عليه دون رضاه ودون موافقته.

وقبل الخوض في تفاصيل هذا البحث لا بدّ من طرح سؤال هو :

هل للمجتمع وجود على الصعيد الخارجيّ ، وواقعيّة مستقلة عن وجود الفرد. أو أنّه أمر اعتباريّ يعتبره الذهن من انضمام فرد إلى فرد آخر ؟

ص: 197


1- لاحظ ( لمحة فقهيّة تمهيديّة ) ، للمفكر الإسلاميّ الشهيد محمّد باقر الصّدر : 20 - 24 بتصرّف.
المجتمع في نظر الفلاسفة والحقوقيّين

يعتقد الفلاسفة بأنّه ليس للمجتمع أي وجود على الصعيد الخارجيّ ... فليس في الواقع الخارجيّ إلاّ ( الأفراد ) وما المجتمع سوى صورة تنتزعها عقولنا عن انضمام الفرد إلى الفرد.

وعلى العكس من الفلاسفة ، يعتقد علماء الاجتماع والحقوقيون أنّ للمجتمع وجوداً وحقيقةً قائمةً على الصعيد الخارجيّ ، ولذلك تكون هناك علاقات اجتماعيّة ، وحقوق ، وأحكام خاصّة للمجتمع.

والحقّ أن كلتا الطائفتين على صواب ، وذلك ، لأنّ الفيلسوف الذي يلاحظ الأشياء من زاوية العينيّة الملموسة ، لا يجد واقعاً في عالم التكوين بمعزل عن واقع الفرد التكوينيّ ، ووجوده الخارجيّ فلا يرى مناصاً من إنكار الوجود الخارجيّ للمجتمع وراء وجود الأفراد.

فعندما يجلس خمسة أشخاص حول طاولة فإنّ الفيلسوف لا يعتبر ( الهيئة الاجتماعيّة ) الحاصلة من اجتماع الأشخاص الخمسة ، شيئاً مستقلاً ووجوداً خاصّاً ، ليفترضه سادساً لهم.

ولكن النظر من الزاوية الحقوقيّة التي هي أكثر مساساً بالواقعيّات العرفيّة يهدينا إلى ، أنّ المجتمع البشريّ سواء كان في حجمه الصغير ( القبيلة ) أو الكبير ( الاُمّة ) يتمتّع بواقعيّة عرفيّة ، وله حقوق وواجبات غير ما للفرد ، وكما للفرد من حقوق وواجبات ومسؤوليّات. فهكذا للمجتمع ومن هذه الزاوية تنظر الامم المتحضّرة إلى المجتمع ، وتعترف به وبوجوده ، وتقرّر له الأنظمة ، والحقوق والواجبات.

وعندما ينظر الإسلام إلى الفرد والمجتمع من الزاوية الحقوقيّة ، نجده يعترف بكلّ واحد منهما في موضعه ومحلّه ، ويقرّر لكلّ واحد منهما ما يناسبه من الشخصيّة والحقوق والواجبات سواء بسواء.

ص: 198

فعندما ينظر القرآن الكريم إلى المجتمع من هذه الزاوية الحقوقيّة ، يعتبر للمجتمع وجوداً ، وعدماً وحياةً ونشوراً ، وأجلاً وكتاباً وتقدمّاً وتقهقراً إلى غير ذلك من الآثار التي تكون للفرد. وفي هذا الصدد يكتب العلاّمة الطباطبائيّ في تفسيره قائلاً :

( انّ القرآن اعتبر للمجتمع وجوداً وعدماً ، وأجلاً وكتاباً ، وشعوراً وفهماً وعملاً وطاعةً ومعصيةً وكلُّ ذلك يدلّ على أنّ للمجتمع - في مقابل الفرد حقيقةً واقعيّةً في ظرفه المناسب له ، يقول سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف : 34 )

وقال : ( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ) ( الجاثية : 28 )

وقال : ( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) ( الأنعام : 108 )

وقال : ( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ) ( المائدة : 66 )

وقال : ( أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ ) ( آل عمران : 113 )

وقال : ( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) ( غافر : 5 )

وقال : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) ( يونس : 47 ).

ومن هنا ، نرى أنّ القرآن يعتني بتواريخ الامم كاعتنائه بقصص الأشخاص بل أكثر ، حينما لم يتداول في التواريخ إلاّ ضبط أحوال المشاهير من الملوك والعظماء ، ولم يشتغل المؤرّخون بتواريخ الامم والمجتمعات إلاّ بعد نزول القرآن ، فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم المسعودي وابن خلدون ، حتّى ظهر التحول الأخير في التأريخ النقليّ ، بتبديل الأشخاص اُمماً وهذا هو الملاك في اهتمام الإسلام بشأن الاجتماع ، ذلك الاهتمام الذي لا نجد ولن نجد نظيره في واحد من الشرائع ولا في سنن الاُمم المتمدِّنة ، فإنّ تربية الأخلاق والغرائز في الفرد وهوالأصل في وجود المجتمع ، لا تكاد تنجح مع كينونة الأخلاق والغرائز المعارضة والمضادةّ القوية القاهرة في المجتمع ، إلاّ يسيراً لا قدر له عند القياس والتقدير.

ص: 199

ولأجل ذلك وضع الإسلام أهّم أحكامه كالحجّ والصلاة والجهاد والإنفاق أساس الاجتماع وحافظ على ذلك ، مضافاً إلى قوى الحكومة الإسلاميّة الحافظة لشعائر الدين العامّة وحدودها ، ومضافاً إلى فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشاملة لجميع الاُمّة ، بجعل سعادة المجتمع هي السعادة الحقيقيّة وجعل غرض المجتمع الإسلاميّ هو القرب والمنزلة عند اللّه.

وهذا هو الذي ذكرناه من أنّ الإسلام تفوق سنّة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السنن والطرق ) (1).

فكما تجب على الفرد - في نظام الإسلام - اُمور كالصلاة والصيام واحترام الوالدين وما شابه ذلك ، كذلك ، توجّهت الشريعة الإسلاميّة إلى المجتمع بسلسلة من التكاليف والواجبات ويتعيّن على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بها دون تلكؤ أو ابطاء.

فيأمر الإسلام المجتمع مثلاً بأن يقطع يد السارق إذ يقول : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( المائدة : 38 ).

ويأمره بجلد الزاني والزانية إذ يقول : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ ) ( النور : 2 ).

كما يأمره بأن يحافط على حدود الوطن الإسلاميّ ويدافع عن ثغوره بالصبر والمرابطة إذ يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( آل عمران : 200 ).

ويأمره بأن يقاتل البغاة والطغاة حتّى يفيئوا إلى الحق ، ويكفّوا عن البغي والطغيان والعدوان إذ يقول : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الحجرات : 9 ).

ص: 200


1- الميزان 4 : 96 - 97.

وفي هذا الصدد يكتب العلامة الطباطبائيّ في تفسيره قائلاً :

( انّ عامّة الآيات المتضمنّة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجّه خطاباتها إلى عامّة المؤمنين دون النبيّ خاصّةً كقوله تعالى : ( وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ) ( البقرة : 195 )

وقوله : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) ( آل عمران : 104 )

وقوله : ( وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ) ( المائدة : 35 )

وقوله : ( وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) ( الحج : 78 )

وقوله : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) ( البقرة : 179 )

وقوله : ( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) ( الطلاق : 2 )

وقوله : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ) ( آل عمران : 103 )

وقوله : ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى : 13 ).

إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها أنّ الدين ذو صبغة اجتماعية الشكل وقد حملها اللّه تعالى على الناس بصفتهم الاجتماعيّة ( كما حمل بعض الاُمور على الافراد بوصفهم الفرديّة ) ولم يرد إقامة الدين إلاّ منهم أجمعهم ، فالمجتمع المتكون منهم هو الذي أمره اللّه وندبه إلى ذلك من غير مزيّة في ذلك لبعضهم ) (1).

إنّ توجيه الخطاب بهذه التكاليف إلى المجتمع ، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المجتمع بما هو مجتمع عليه أن يقوم بها كما يقوم الفرد بواجبه الدينيّ ، وهي على نحو الواجب الكفائّي الذي يجب على الجميع القيام بها أوّلاً وبالذات ، فإن قام بها أحد سقطت عن الآخرين ، وأمّا إذا لم يقم بها أحد كان الجميع عصاةً مسؤولين.

وحيث أنّ هذه التكاليف والواجبات المتوجّهة شرعاً إلى المجتمع ممّا لا يمكن

ص: 201


1- الميزان 4 : 122 - 123.

القيام بها وأدائها دون جماعة متفرّغة لذلك ، ودون جهاز حكم يتولّى تنفيذها ، توجّب على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بتشكيل دولة يعهد إليها مسؤولية القيام بهذه التكاليف ، وتطبيق النظم الاجتماعيّة الإسلاميّة ، والوظائف المتوجهة إلى المجتمع أساساً ، وذلك صيانةً للمجتمع من الإنهيار ، وحفظاً لمصالحه وشؤونه ، إذ بغير هذه الصورة لن يكون هناك إلاّ الهرج والمرج والفوضى والفساد الذي يأباه الإسلام بشدّة ، وترفضه تعاليم السماء أشدّ الرفض.

من هذا البيان المقتضب ، يمكن لنا أن نستنبط كون الاُمّة والمجتمع هو مصدر السلطات الحكوميّة ، ولكن ليس مصدراً مطلقاً بل مصدراً في إطار الحاكميّة الإلهيّة والقوانين الإسلاميّة ، فالناس في الدين الإسلاميّ هم المكلفون بتشكيل الحكومة والدولة وتعيين الحاكم وانتخابه - إن لم يكن هناك حاكم منصوص عليه من جانب اللّه - لقيادة الاُمّة ، وإدارة شؤونها ، وتطبيق الشريعة الإلهيّة في المجالات الاجتماعيّة ، لأنّهم هم المخاطبون بالخطابات المذكورة ... ولمّا لم يكن في مقدورهم جميعاً القيام بذلك بأشخاصهم ، لزم أن يبادروا إلى استنابة من يقوم بها.

أليس المجتمع - حسب منطق القرآن - هو الذي توجه إليه الأمر بقطع السارق وحدّ الزاني وردّ المعتدي وحفظ الثغور ، وإقامة النظام الدينيّ ؟؟.

أفلا يدلّ ذلك ضمناً على أن الإسلام سمح للمجتمع الإسلاميّ بأن يشكّل الدولة التي تتولّى القيام بهذه الواجبات الاجتماعيّة ، لأنّ الإسلام جعل هذه التكاليف في عهدة المجتمع ، وطلب منه أداءها ؟ وهل يمكن للمجتمع الذي يقوم كلّ صنف من أصنافه بتكفُّل جانب ضروريّ من الجوانب المعيشيّة ، بكلّ تلك الواجبات الاجتماعيّة والإداريّة والسياسيّة ، دون جهاز حكوميّ متفرّغ ينّفذ ويراقب ويضمن إجراء القوانين الإلهيّة في المجالات المذكورة ؟

وهل يمكن أن يريد الإسلام إقامة الاُمور الاجتماعيّة والنظم الاجتماعيّ ... ولا يريد مقدّمة ذلك وهي تشكيل دولة تقوم ... وتتعهّد بتوزيع المسؤوليات وحفظ الحقوق.

ص: 202

وحراسة العلاقات ؟

وهكذا تكون الاُمّة - في نظر الإسلام - مصدر السلطة الذي له أن يختار وينتخب حكّامه ، وتكون الحكومة نابعةً من إرادته.

* * *

5. العقلُ وتشكيل الدولة

يعتبر ( العقل ) أحد الأدلّة الشرعيّة التي يستند إليها الفقهاء في استنباط الأحكام جنباً إلى جنب مع القرآن والسّنة والاجماع.

وقد أشبع العلماء البحث في حجّية العقل في الموارد التي له الحكم فيها.

لقد دلّ العقل هذا على وجوب تشكيل الدولة من جانب الاُمّة ، وذلك لما في إقامة الدولة من حفظ النظام الإنسانيّ ... ومن المعلوم أنّ حفظ النظام الإنسانيّ من الواجبات العقليّة التي يحتِّمها العقل على البشر.

فإنّه يتوجب على البشر - بحكم العقل - أن يبذل غاية جهده في إقرار النظام وحفظه والدفاع عنه وصيانته ، إذ في ظلّ النظام يمكن أن يحصل الإنسان على سعادته وسلامته ويضمن مصالحه ومستقبله.

ولأجل هذا ، نجد الشعوب تقرّر أنظمةً وقوانين لحفظ هذا النظام رغم أنّ بعضها لا يتديّن بدين ولا يتمسّك بشريعة إلهيّة.

وهذا إنّما يدلّ على أنّ موضوع إقامة النظام الاجتماعيّ ، ممّا يقرُّ به الناس ويذعنون له عقلاً وبديهةً ، قبل أن يأتي لهم في ذلك شرع ودين.

فهذه إذن حقيقة لا نقاش فيها.

ولكن ترى ، هل يمكن للمجتمع أن يقوم بنفسه - ورغم عدم تخصُّصه في شؤون الإدارة ، وعدم تفرغه لها - بحفظ النظام وإقراره ؟ أو هل يمكن التوصل إلى ذلك بمجرد أن يؤمن الناس بهذه الحقيقة إيماناً مجرّداً من أي رادع ، ومن دون أنّ يكون ثمة جهاز يتولّى

ص: 203

مسؤولية الحفاط على النظام الاجتماعيّ الذي يدعو إليه العقل ويطلبه العقلاء ، وينادون به.

والحقّ أنّ مجرّد الاعتقاد بضرورة حفظ النظام الاجتماعيّ وبحجّة أنّه يكفل سعادة الفرد والمجتمع ، من دون إقامة ( دولة ) ، لا يمنع من وقوع الاختلال في هذا النظام ، ولذلك فإنّ العقل نفسه يحتِّم على البشر أن يقيم جهازاً يعهد إليه حفظ النظام ، ولأجل ذلك لم يخل - كما قلنا - أي مجتمع بشريّ من دولة أو دويلة وزعيم كبير أو صغير يتكفّل إقرار النظام الاجتماعيّ المطلوب.

وهذا خير دليل على ، أنّ للشعوب بل عليها أن تقوم بتشكيل السلطات ... فهي إذن مصدرها ، وهذا هو بالضبط ما يؤكّده الإسلام ويؤيّده ، إذ الشرع كما يقولون يعضد العقل ويؤيّده فيما تكون فيه مصلحة الناس ومنفعتهم وخيرهم.

* * *

6. سيرة المسلمين بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله

إنّ الصحابة - بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله - أحسّوا بضرورة إقامة دولة وتشكيل جهاز حكوميّ يخلف القيادة النبويّة ، يلمّون به شعثهم ويحفظون به اجتماعهم ، فأقدموا على انتخاب رئيس من بينهم لزعامة الاُمّة وقيادة البلاد ، وإن كان ذلك لا يخلو من علّة وعلاّت ، كما أوضحناه.

إنّ الصحابة - وإن تناسوا وجود إمام منصوص عليه من جانب النبيّ صلی اللّه علیه و آله حيث كان النبي صلی اللّه علیه و آله قد عيّن عليّاً علیه السلام إماماً للمسلمين من بعده ، كما تدلّ الأخبار القطعيّة والأحاديث المتواترة (1) على ذلك - إلاّ أنّ فعلهم كان يدلّ في حدّ نفسه على أنّ الطريق الطبيعيّ لتأسيس الحكومة وإقامتها ، هو انتخاب الاُمّة للحاكم والقائد ، لولا النصّ.

* * *

ص: 204


1- لقد أشرنا إلى بعض مصادر هذه النصوص في الصفحة 104 - 181 من هذا الكتاب وتركنا الكثير.
7. سلطةُ الناس على أموالهم وأنفسهم

إنّ من أبرز مسلّمات الفقه الإسلاميّ هو قاعدة ( سلطة الإنسان على ماله ) التي هي مفاد قول الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « الناس مسلطون على أموالهم » (1).

فإذا كان الناس مسلّطين على أموالهم بحيث لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلاّ بإذن أصحابها ، فهم - بطريق أولى - مسلّطون على أنفسهم ، فلا يجوز لأحد أن يحدّد حرياتهم ، ويحمل نفسه عليهم أو يتصرّف في مقدّراتهم وشؤونهم دون إذنهم.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر نرى ؛ أنّ إقرار النظام يستلزم بالضرورة تصرّفاً في أموال الناس ونفوسهم وتحديداً لحرياتهم المشروعة بالذات ، فإنّ الجمع بين هذين الأمرين ( سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم ، واستلزام أقرار النظام ، التصرّف في تلك الأموال والنفوس ) ، هو بأن تكون الدولة التي تقيم النظام نابعةً من انتخاب الاُمّة ، أو موضع رضاها على الأقلّ.

وبعبارة أوضح : إنّ سيادة أي نظام على الناس لا تخلو من السلطة على أموالهم وأرواحهم والتصرّف فيها بالضرورة لأنّ من النظام أخذ الضرائب ، وتنظيم الصادرات والواردات وتحديدها ، وذلك بوضع القيود اللازمة عليها ، وتنظيم الحريات والعلاقات

ص: 205


1- مبدأ البرهان في هذا الدليل هو القاعدة المسلّمة بين الفقهاء وهي ( الناس مسلّطون على أموالهم ) وقلنا : إذا كان الناس مسلّطين على أموالهم فبالأولى أن يكونوا مسلّطين على نفوسهم. غير أنه يجب التنبيه على نكتة وهي أنّ الأولوية في الجانب السلبي لا الجانب الإيجابي. والمقصود من الجانب السلبي أنه إذا كان للأنسان أن يردّ الغير عن التصرف في ماله فبالأولى يكون له رد الغير عن التصرف في نفسه، إذ جواز الردّ في جانب الأموال يستلزم جوازه في جانب النفس بطريق أولى. وأما الجانب الإيجابي فليست هناك أية ملازمة والمراد منه هو أنه إذا جاز للرجل أن يتصرف في ماله فبالأولى له أن يتصرف في نفسه، ومن المعلوم بطلان هذه الملازمة.

وإرسال الجيوش إلى ميادين القتال ، واستحضار الأفراد للخدمة العسكريّة ، وما شابه ذلك ممّا يكون به حفظ النظام وصيانته وإقراره ، ولمّا كان حفظ النظام واجباً مفروضاً عقلاً وشرعاً وكان ممّا لا يتحقّق إلاّ بإقامة دولة قويّة ذات سلطة واقتدار ، يتراءى - في بادئ النظر - أنّه يصطدم مع ما أقرّه الإسلام للإنسان من سلطة وسلطان على أمواله ونفسه ... فكان الحلّ ، هو أن تكون الدولة المتصرفة واقعةً موقع رضاهم ، حتّى يكون التصرّف بإذنهم ورضاهم ... حفظاً للقاعدة المسلّمة ( الناس مسلطون على أموالهم ) وعلى أنفسهم.

* * *

8. الحكومة أمانةٌ عند الحاكم

إنّ تشكيل الدولة وانتخاب الحاكم الأعلى ، حقّ اجتماعيّ للاُمّة ولها أن تستوفي هذا الحق متى شاءت وأرادت وهذا يعني أنّ الحكومة ( أمانة ) عند الحاكم تعطيها الاُمّة له ، وعليه أن يحرص على الأمانة غاية الحرص ، ويواظب على أدائها أشدّ المواظبة.

أقول : إنّ هذه الحقيقة تستفاد من بعض الآيات والأحاديث العديدة التي تصف الحكم بأنّه أمانة ، ومنها قول اللّه سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( النساء : 58 - 59 ).

إنّ الخطاب في قوله سبحانه ( يَأْمُرُكُمْ ) موجّه إلى الحكام بقرينة قوله ( وَإِذَا حَكَمْتُم ) وهذه قرينة على أنّ الأمانة المذكورة هي : الحكومة.

ويؤيّد كون المراد من الأمانة هو ( الحكومة ) ما جاء في الآية الثانية من الحثّ على إطاعة اللّه وإطاعة الرسول واولي الأمر ، فمجيء هذه الآية عقيب الآية المتضمنة لكلمة الأمانة ، يؤيّد أنّ المراد بالأمانة المذكورة هو ( الحكومة ) وأنّ الكلام في الآيتين إنمّا هو

ص: 206

حول ( الحكومة ) وما لها وما عليها من الحقوق والواجبات.

ثمّ إنّ الاستدلال بهذه الآية يتوقف على كون المراد من أهل الأمانة هو « الناس » فعندئذ تدل الآية على ، أنّ الحكومة نابعة من جانب الاُمّة ، وإن كانت نابعةً من جانب اللّه بالأصالة ، وهي أمانة بيد الحاكم ، ووديعة في عنقه ، يطلب منه أداؤها. غير أنّ من الممكن أن يكون المقصود من أهل الأمانة هو ( اللّه ) سبحانه وتعالى ، فإن الحكومة له لا غير كما قال في كتابه الكريم : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) ( يوسف : 40 ) فعندئذ لا يتمّ الاستدلال بالآية على المطلوب ، ولكنّ الإجابة عن هذا الاحتمال واضحة ، فإنّ الحكومة كما قلنا في الجزء الأوّل ، حقّ ذاتيّ لله تعالى ، ولا يعني من كونه حقّاً للناس أنّه حقّ أصيل لهم في قبال كونه حقّاً لله سبحانه ، بل المراد أنّه حقّ أعطاه اللّه سبحانه له.

وبعبارة أخرى : ليس المقصود أنّ للشعب سيادةً وحاكميّةً في عرض السيادة والحاكميّة الإلهيّة ، بل هما حقّان من نوعين ، أحدهما حقّ مستقل وذاتيّ ، والآخر حقّ تبعيّ موهوب ، وهما لذلك يجتمعان دونما تضادّ وتباين ، ولا منافاة بين أن يكون أهل الأمانة هو الاُمّة أو اللّه سبحانه.

وممّا يؤيّد القول بأنّ المراد من ( اهلها ) هو الناس ، ما ورد في هذا الصدد من الاحاديث التي يستفاد منها كون ( الحكومة ) أمانة في عنق الحاكم ، أو أنّ الحكّام خزّان الرعيّة ومؤتمنون على الحكومة ، ومسؤولون عنها ، إلى غير ذلك من النصوص التالية :

يقول الإمام عليّ علیه السلام لأحد ولاته : « إنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة وأنت مسترعىً لما فوقك ليس لك أن تفتات في رعيّة » (1).

ويقول علیه السلام أيضاً : « أيّها الناس إنّ أمركم هذا ليس لأحد فيه حقّ إلاّ من أمرتم ، وإنّه ليس لي دونكم إلاّ مفاتيح مالكم معي » (2).

ويقول الإمام علیه السلام أيضاً : « انصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم

ص: 207


1- نهج البلاغة : الرسالة رقم (5).
2- الكامل لابن الأثير 3 : 193.

فإنّكم خزّان الرّعيّة ووكلاء الاُمّة » (1).

ويؤيّد ذلك أيضاً ما روي حول الآية عن الإمام عليّ علیه السلام أنّه قال : « حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل اللّه وأن يؤدّي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوه ، وأن يجيبوه إذا دعوا » (2).

فهذه العبارات صريحة في كون الاُمّة هي صاحبة الأمانة ، التي هي الحكومة والسيادة ، لأنّ الحكام حسب هذه النصوص ليسوا إلاّ حفظةً للسلطة وحراسها ... وخزاناً لها لا أصحابها. ويؤيّد ذلك أيضاً ، أنّ الروايات والأحاديث تضافرت من أهل البيت علیهم السلام حول الآية ، وهي تفسرها بالإمامة التي يجب على كلّ إمام أن يؤدّيها إلى الإمام الذي بعده.

ففي تفسير البرهان في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ ... إلى آخر قوله تعالى ... ) عن زرارة عن الإمام الباقر علیه السلام قال : سألته عن قول اللّه عز وجل : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا ... ) فقال علیه السلام : « أمر اللّه الإمام أن يؤدّي الأمانة إلى الإمام الّذي بعده ليس له أن يزويها عنه ، ألا تسمع قوله : ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ) هي الحكّام يا زرارة ، إنّه خاطب بها الحكّام » (3).

نعم ، إنّ الجمع بين المعنى ( وهو كون المقصود من الأمانة هو الحكومة التي تسلمّها الاُمّة إلى الحاكم ) والمعنى الثاني ( الذي روي عن أهل البيت من أنّ المقصود هو أداء كلّ إمام الإمامة إلى من بعده ) يحتاج إلى تأمّل ودقة تفكير.

ويؤيّد ما ذهبنا إليه ، أنّ المفسر الإسلاميّ الكبير الطبرسيّ فسّر ( الأمانة ) في الآية بأنّ المراد هو ( الفيء وغير الفيء ) الذي يجب إيصاله إلى الاُمّة ، أصحابها

ص: 208


1- نهج البلاغة : الرسالة رقم (515).
2- الأموال لأبي عبيد : 12 ، 388.
3- تفسير الميزان 5 : 385 نقلاً عن البرهان قال العلاّمة الطباطبائيّ : وصدر هذا الحديث مرويّ بطرق كثيرة عنهم علیهم السلام .

الحقيقيين وهو داخل في موضوع الحكومة ، وأعمالها وصلاحياتها ومسؤوليّاتها ويقول : ( ومن جملتها ( أي من جملة الأمانات ) الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات والغنائم وغير ذلك ممّا يتعلّق به حقّ الرعيّة ) (1).

ويؤيّد ذلك أيضاً أنّ الإمام الباقر محمّد بن عليّ علیه السلام قال في ذيل هاتين الآيتين : « آيتان إحداهما لنا ، والأخرى لكم » (2).

وعنى الإمام بالاولى قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ... ) وبالثانية قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) .

9. كتب الإمام الحسن بن عليّ علیه السلام إلى معاوية قبل نشوب الحرب بينهما : « إنّ عليّاً لمّا مضى لسبيله ( رحمة اللّه عليه يوم قبض ويوم منّ اللّه عليه بالإسلام ويوم يبعث حيّا ) ولاّني المسلمون الأمر من بعده ... فادخل فيما دخل فيه النّاس » (3).

وهذه العبارات صريحة في أنّ القاعدة المركوزة في أذهان المسلمين ( لولا التنصيص من اللّه سبحانه على شخص معيّن ) هي انتخاب المسلمين لحاكمهم ، بحيث يجب - بعد انتخابه - دخول المخالف والمعارض فيما دخل في جمهرة الناس ، ولذلك مضى الإمام الحسن علیه السلام يلفت نظر معاوية إليها.

10. ذمّ الإمام الصادق علیه السلام من يجبر الناس على حكمه بالسوط والسيف : ممّا يعني أنّ الشارع المقدس لا يرضى بالحاكم الذي يحمل نفسه على رقاب الناس قهراً ويحكمهم دون رضاهم ، وذلك عندما قال له رجل : إنّه ربّما تكون بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا ؟ [ أي هل فيه بأس ] فقال الإمام علیه السلام : « هذا ليس من ذاك ... إنّما ذاك الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسّوط » (4).

ص: 209


1- مجمع البيان 2 : 63.
2- مجمع البيان 2 : 63.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 12.
4- المستدرك 3 : 187 نقلا عن دعائم الإسلام.

11. قال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام :

« الواجب في حكم اللّه والإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل ، ضالاً كان أو مهتدياً ، مظلوماً كان أو ظالماً ، حلال الدم أو حرام الدّم أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم ، عفيفاً ، عالماً ، ورعاً ، عارفاً بالقضاء والسنّة يجمع أمرهم ، ويحكم بينهم ، ويأخذ للمظلوم من الظالم ، ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم ، ويقيم حجّتهم ويجبي صدقاتهم » (1).

وهو صريح في أنّ على الاُمّة أن تبادر إلى انتخاب حاكمها ( لولا النصّ على أحد طبعاً ).

12. وممّا يؤيّد ما ذكرناه من أنّ القاعدة المركوزة في أذهان الناس في مجال الحاكم كانت هي أن يكون الحاكم منتخب الاُمّة ، أو موضع رضاها على الأقلّ هو ما كتبه رجال من أهل الحكومة إلى الإمام الحسين بن عليّ علیه السلام :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم. سلام عليك فإنّا نحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها ، وغصبها فيئها ، وتآمر عليها بغير رضا منها ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ».

ولأجل ذلك كتب الإمام الحسين علیه السلام إليهم قائلاً : « أن بلغني أنّه قد اجتمع رأي ملئكم ذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم » (2).

فهذه الوجوه الاثنا عشر - عند التدبّر - تعطي للاُمّة ، الحريّة الكاملة في انتخاب حكامّها تحت الضوابط الشرعيّة أو تدلّ - على الأقلّ - على لزوم كون الحكومة مورد رضاها.

ص: 210


1- أصل سليم بن قيس : 182 ، وبحار الأنوار 8 : 555 - 556.
2- الكامل للجزري 3 : 266 - 267.

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل :

قد اتضح من البحث المتقدّم ، أنّ رضا الاُمّة وانتخابها يعدّ منبعاً للسلطة ، وعندئذ ينطرح السؤال التالي :

إذا كانت إرادة الاُمّة منبعاً للسلطة في الحكومة الإسلاميّة وهي بنفسها مصدر للسلطة في الديمقراطيّة الغربيّة أيضاً فما الفرق بين الحكومتين ؟

الجواب :

إنّ المراد بكون الاُمّة ذات سيادة وحقّ في الحكومة الإسلاميّة يختلف عن السيادة الشعبيّة التي تقول بها الأنظمة الديمقراطيّة.

فالاُمّة في ظل الإسلام يجب أن تختار حاكماً متّصفاً بالشروط والصفات المعتبرة في الحاكم الإسلاميّ ، من الفقه والعدل والدراية السياسيّة والمقدرة الإدارية ، وغيرها من الشروط والمواصفات التي سيأتي ذكرها مفصّلاً في صفات الحاكم ... بينما يختلف الأمر عمّا هو عليه في الديمقراطيّة إذ في ظل هذا النظام يحقُّ للشعب أن يختار من يريد سواء أكان صالحاً أم لا ، وسواء أكان متحلّياً بالمؤهّلات والشروط المذكورة أم لا.

كما أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى أن يمشي ويسير وفق النظام الإسلاميّ وليس له أن يحيد عن ذلك قيد شعرة ، بينما يكون الأمر في النظام الديمقراطيّ على غير هذا

ص: 211

النحو ؛ حيث يجب على الحاكم المنتخب أن يسير وفق ما يريده الشعب ويرتضيه ويرتئيه صالحاً كان أو فاسداً ، وحقّاً كان أو باطلاً.

وبذلك يظهر ، أنّه لا جامع ولا تشابه بين النظامين حتّى يرد على الاسلوب الإسلاميّ في ( انتخاب الحاكم من جانب الشعب ) ما يرد على الاسلوب الديمقراطيّ ولأجل ذلك ، نجد أنفسنا في غنىً عن الإجابة على تلكم الإشكالات والاعتراضات والمؤاخذات. نعم لا بأس مع ذلك بالإشارة إلى ما أورد على الديمقراطيّة من اعتراضات ومؤاخذات تتميماً للفائدة.

مؤاخذاتٌ على الديمقراطيّة

إنّ الديمقراطيّة التي يعنى منها حكومة الشعب على الشعب عن طريق انتخاب النوّاب والحكام وذلك على النمط الغربيّ الذي يعتمد على تغليب الأكثريّة وترجيح آرائها ، ينطوي على ثلاثة معايب رئيسيّة :

أوّلاً : إنّ الحاكم المنتخب يكون تابعاً للناس ، وليس تابعاً للمصالح والحقائق ، فإنّ الحاكم الذي يعتمد على آراء الناس وأصواتهم ( لا الضوابط والمؤهّلات والمعايير ) سيحاول دائماً أن يفعل ما يرضيهم ، ويخطب ودّهم ويحقّق ما يشاؤون حقّاً كان أو باطلاً ، وسيحاول مثل هذا الحاكم والنائب أن يكيِّف نفسه وفق أهواء ناخبيه ، لا أن يهديهم ويرشدهم إلى مصالحهم الحقيقيّة ، ويعمل بما يقتضيه الواقع في شأنهم ، فما أكثر النوّاب الذين تجاهلوا نداءات الضمير إرضاءً للناس وإبقاءً على تأييدهم وكسباً لآرائهم وأصواتهم في المراحل التالية والدورات الاخرى. وما أكثر الأشخاص الصالحين الذين أرادوا أن يتّبعوا الحقّ والمصلحة الحقيقيّة لإرضاء الناس فخسروا تأييد الناس ، وخسروا أصواتهم.

ثانياً : إنّ الشرط الأساسيّ لصحّة الانتخاب الشعبيّ ، هو أن يكون الناخبون على درجة من الرشد الفكريّ والوعي والبصيرة حتّى لا يقعوا فريسة العواطف الرخيصة

ص: 212

والحادّة عند اختيار النوّاب أو الحكّام.

فلو توفر مثل هذا الشرط كان الانتخاب انتخاباً صحيحاً ، ومفيداً.

ولكنّ المشكلة هي أنّ الأكثريّة الساحقة والتي هي الملاك في النظام الديمقراطيّ تفقد مثل هذه البصيرة والوعي والرشد الفكريّ ، فإنّ الوعي والتفكير يختصان بطبقة خاصّة دون جمهرة الناس وسوادهم ، فهي وحدها تفعل على بصيرة وبوعي ، وأمّا الأكثرية الساحقة ، فتتّبع في فعلها وتركها الأهواء الشخصيّة والتوجيهات التي يقوم بها اللاعبون خلف الستار من السياسيين ومحترفي السياسة.

فهل يمكن أن ننسى ما يعمله المرشّحون للنيابة أو الرئاسة لكسب هذه الأكثريّة من التوسل بجميع الوسائل الإغرائيّة ، والأجهزة الدعائيّة والإعلاميّة ؟ فهم يستخدمون كل وسيلة رخيصة حتّى الفتيات والراقصات والأفلام الخليعة وإعطاء الوعود الخلاّبة ، لاكتساب المزيد من أصوات الناس ، إذ بهذه الاُمور يمكن الاستحواذ على عواطف أكثرية الجماهير ، واستمالتهم ، تلك الأكثريّة التي تتألف - في الأغلب - من السذّج ، والبسطاء وغير المثقفين ، فكيف يمكن أن تكون هذه الأكثرية ملاكاً لصحّة الانتخاب ومشروعيّته ؟

ثالثاً : إنّ تغليب الأكثريّة ولو بصوت واحد لا يكون ( عدلاً ) مضافاً إلى أنّه لا يجعل ما اختارته الأكثريّة ( حقاً ) لا نقاش فيه.

وإنّما لا يكون عدلاً ، لأنّ تغليب هذه الأكثريّة - حتّى لو حصلت باسلوب صحيح بعيد عن المؤثّرات والإغراءات والاحتيالات - تجاهل لحقّ ما يقارب نصف المجتمع ومصالحه وإجحاف بحقّهم ... وهو إجحاف أدركه الغرب نفسه وتفطّن له كبار مفكّريه ، وحقوقيّيه ، واجتماعيّيه ، ولكنّه لم يجد مفرّاً منه لأنّه لايعرف نهجاً بديلاً عنه ، ولأجل ذلك لا يكون حقاً أيضاً.

هذه بعض معايب الديمقراطيّة وانتخاب الشعب لحكّامه ونوّابه على النهج الشائع في الأنظمة الديمقراطيّة ... وهو قليل من كثير.

ص: 213

وهي معايب واُمور يعاني الغرب من تبعاتها وآلامها أشدّ العناء ، ويتحمّل بسببها أشدّ الأذى. ولذلك يبدو ؛ أنّ الانتخاب الشعبيّ للحاكم لا يكون مثالياً ولا صالحاً.

غير أنّ ما يقرّره النظام الإسلاميّ عار عن هذه المعايب ؛ وخال عن هذه المؤاخذات وذلك لوجوه هي :

أوّلاً : أنّه لا شكّ في أنّ أفضل أنواع الحكومات هو ( الحكومة التنصيصيّة الإلهيّة ) وإنّما الكلام هو فيما إذا لم يمكن التوصّل إلى هذا النوع فإنّه لن يكون سوى طريق واحد هو ، قيام الاُمّة بانتخاب حكامها ، بدلاً من أن يتسلّط على مصيرها ومقدّراتها بالقوّة ، من يستبدّ برأيه ، ويستأثر بفيئها ، ولا يكون للناس في الأمر أي إرادة وكلمة.

ثانياً : انّ هذه الاعتراضات والمؤاخذات إنّما ترد على الانتخاب على النمط الغربيّ ، والذي يجري في المجتمعات والبيئات الغربيّة التي لا تتمتّع بتربية أخلاقيّة ودينيّة رفيعة ، والتي لا تخضع لأيّ شروط أو مواصفات موضوعيّة ومنطقيّة لا في الناخب ولا في المنتخب ، ولا يعتبر سوى المزيد من الآراء والأصوات التي تباع وتشترى ، وتكتسب بالأبواق وأجهزة الإعلام ، وتحت تأثير الدعايات البرّاقة والوعود المنمّقة ، لا ما يجري في البيئة الإسلاميّة وعلى النمط الإسلاميّ ، الذي يشترط فيه للحاكم شروط ومواصفات تجعله رجلاً مثالياً في الأخلاق ، نموذجيّاً في الإدراة ، ويشترط على المنتخب ، أن لا يختار إلاّ من تتوفّر فيه الشرائط المعتبرة في الحاكم المثاليّ (1) ، إذ لولا ذلك لكان عمله من باب الركون إلى الظالم الذي أوعد اللّه عليه بالعذاب الأليم وبالنار إذ قال : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ( هود : 113 ).

فيكون الانتخاب - في ظل النظام الإسلاميّ على العكس من النظام الديمقراطيّ - مسؤوليّةً للناخب والمنتخب ، وليس لعبةً سياسيّة.

ثالثاً : إنّ الأدلّة الإسلاميّة تدلّ على أنّه يجب على الفقيه العادل ، بل على كلّ

ص: 214


1- ففي الحديث : « إنّما الإمام هو الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات اللّه ... إلى آخره » وسوف توافيك تلك الشروط في محلّها في الفصول القادمة من هذا الكتاب.

مسلم ملتزم إذا رأى بدعةً شائعةً ، وحكومةً منكرةً القيام ضدّها ، ورفض شرعيّتها ، وشجب عملها بل والإعلان عن إلغائها ، بحكم ماله من الولاية التي له من جانب اللّه سبحانه كما يقول الإمام الحسين علیه السلام : « أيُّها الناس إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم اللّه ناكثاً لعهد اللّه مخالفاً لسنّة رسول اللّه يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على اللّه أن يدخله مدخله ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله وأنا أحقُّ من غيّر » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها » (2).

وبهذا يأمن المجتمع الإسلاميّ من مخاطر الانتخاب الشعبيّ ، ويسلم من تبعاته وسيئاته.

إنّ افتقاد الانتخاب الشعبيّ على النهج الديمقراطيّ الغربيّ ، الضمانات التي أقامها الإسلام في الانتخاب ، هو الفارق الكبير بين الانتخابين ( الإسلاميّ والغربي ) وهو بالتالي يكون سبباً لفشل الديمقراطيّة الغربيّة بخلاف الإسلام.

إنّ المجتمع الإسلاميّ الذي يرسم القرآن ملامحه في آيات عديدة ويلخِّصها في قوله : ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) ( الفتح : 29 ).

إنّ مجتمعاً كهذا ، من الجدير أن لا ينتخب لإدارة شؤونه إلاّ ( حكومةً ) رشيدةً أمينةً رساليّةً مؤمنةً ، وفيّةً للدين ، ملتزمةً بالإسلام ، ومخلصةً لمصالح الاُمّة وذلك على العكس من النظام الديمقراطيّ.

إنّ الأخذ بالضوابط والمقاييس التي ذكرها واشترطها الإسلام للقادة والزعماء ،

ص: 215


1- الطبري 4 : 304.
2- نهج البلاغة : الخطبة (3).

كفيل أيضاً بأن يزيل جميع الاعتراضات الواردة على الانتخاب الشعبيّ ... ويحقّق أفضل حكومة من نوعها بين الحكومات.

* * *

السؤال الثاني :

إذا كان انتخاب الحاكم الأعلى غير مختص بفريق معيّن من أفراد الاُمّة ، فلماذا يقول الإمام عليّ علیه السلام في بعض رسائله : « وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً » (1) .

الجواب :

إنّ السبب في حصر الإمام عليّ علیه السلام حقّ انتخاب الإمام في المهاجرين والأنصار - بغضِّ النظر عن الملاحظات الجديرة بالاهتمام في هذه الرسالة - هو تعذّّر إجراء الاستفتاء العامّ الشامل ، وعدم إمكان استعلام آراء المسلمين كلّهم في ذلك العهد ، الذي كان يفقد الوسائل الكافية للاتصال بجميع أفراد الاُمّة. وحيث أنّ تأخير الانتخاب للحاكم الأعلى ريثما يتمّ الوقوف على كلّ آراء المسلمين جميعاً ، كان ينطوي على تعريض الاُمّة الإسلاميّة لأخطار جديّة حقيقيّة لا تخفى على كلّ من يعرف الأوضاع في تلك الحقبة من تاريخ الإسلام ، نجد الإمام علیه السلام يختار هذا الاُسلوب ويعلّل ذلك بقوله : « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل ، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها ، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار » (2).

كيف لا وقد مر عليك أيّها القارئ الكريم أنّ الإمام عليّاً علیه السلام صرّح في بعض خطبه بوضوح لا يقبل جدلاً ، أن إرادة الاُمّة الإسلاميّة ، هي مصدر السلطات ، وأنّ الحكومة يجب أن تكون موضع رضا الناس (3).

ص: 216


1- نهج البلاغة : الرسالة رقم (6).
2- نهج البلاغة : الرسالة (173) طبعة عبده.
3- راجع الصفحة 207 - 208 من هذا الجزء.

لقد كان المهاجرون والأنصار - في ذلك العهد - بحكم سبقهم إلى الإيمان بالإسلام بمنزلة وكلاء الاُمّة الإسلاميّة ، فكان ما يختارونه يقرّه الآخرون. ولأجل ذلك ، اعتبر الإمام عليّ علیه السلام ما يختاره شورى المهاجرين والأنصار ومن يتّفقون عليه للحكم ، حجّةً نافذةً على الآخرين.

ولا بأس بأن نذكر في خاتمة هذا الجواب ، أنّ انتخاب الحاكم الأعلى للدولة كما يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب الاُمّة مباشرةً ، كذلك يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب نوّابها للحاكم الأعلى ، ويكون مآل ذلك إلى رأي الاُمّة أيضاً.

ولعلّ ما ذكره الإمام عليّ علیه السلام كان إشارةً إلى هذا الاُسلوب ... وكأنّ المسلمين في ذلك العصر كانوا - لاعتمادهم على المهاجرين والأنصار - يعدّونهم نوّاباً لهم ، وإن لم يصرّحوا بذلك لفظاً.

يقول صاحب المنار في شأن هؤلاء المهاجرين والأنصار : ( وقد كانوا ( أي المهاجرين والأنصار ) في عصر النبيّ صلی اللّه علیه و آله يكونون معه حيث كان ، وكذلك كانوا في المدينة قبل الفتوحات ثمّ تفرّقوا وكانوا يحتاجون إليهم في مبايعة الإمام ( الخليفة ) وفي الشورى وفي السياسة والإدارة والقضاء ... فأمّا المبايعة ، فكانوا يرسلون إلى البعيد من اُمراء الأجناد ، ورؤوس الناس في البلاد من يأخذ بيعتهم ) (1).

ثمّ إنّ استدلال الإمام بشورى المهاجرين والأنصار مع كون إمامته وخلافته منصوصاً عليها من جانب اللّه سبحانه ، إنّما هو من باب الجدل وإفحام الخصم ، وسيأتيك تفصيل ذلك عند البحث عن نظرية « الشورى أساس الحكم ».

السؤال الثالث :

لمّا كان الاتفاق على شخص واحد أمراً مستحيلاً عادةً ، فعندئذ كيف ينتخب الحاكم الأعلى ؟ هل بتغليب الأكثريّة على الأقليّة ، وذلك مناف لأصالة الحريّة الإنسانيّة

ص: 217


1- المنار 5 : 195.

الفرديّة وقاعدة سلطة الإنسان على ماله ونفسه ، ومستلزماً لبخس حقوق الأقليّة.

الجواب :

إذا نظرنا إلى الحياة الإنسانيّة من الزاوية الفرديّة ، وأخذنا الإنسان بمعزل عن المجتمع ، جاز لنا أن نستنكر هذا الترجيح ، ونعتبره نقضاً صريحاً لحريّته الفرديّة وحقّه في الأخذ برأيه وانتخابه واختياره ... إذ لا مبرّر لذلك ، ولا مسوّغ ... فلكلّ إنسان حقّ في إبداء رأيه وتنفيذه ، ولا سلطة لأحد على أحد كما أسلفناه.

ولكنّنا لو نظرنا إلى ( الحياة الإنسانيّة ) من الزاوية الاجتماعيّة ودرسنا الإنسان والفرد وهو ضمن مجتمع متكوّن من أفراد آخرين ، ذوي حقوق ومصالح مماثلة ، فإنّ الحياة والعيش بالكيفيّة الاجتماعيّة حينئذ تقتضي القبول بكلّ لوازمها ، ففي الحياة الاجتماعيّة تضمن المصالح ، والحريّات الفرديّة في إطار المصلحة الاجتماعيّة ، إذ بذلك وحده يمكن التوصّل إلى الاستقرار الاجتماعيّ وتحقيق السعادة الاجتماعيّة العامّة التي يتوقف عليها الاستقرار الفرديّ ، وتتحقق في ظلّها السعادة الفرديّة ولمّا كان الطريق الوحيد إلى حفظ النظام الاجتماعيّ وصيانة مصالح الاُمّة متوقّفة - بعد التشاور والمداولة - على ترجيح إحدى الطائفتين المختلفتين في الرأي على الاُخرى ، فلا مناص من تغليب الأكثريّة على الأقليّة ، لأنّ تغليب الأقليّة على الأكثريّة عند العقلاء ترجيح للمرجوح على الراجح.

من هنا يلزم على الأقليّة القبول برأي الأكثريّة وانتخابها ، والتنازل عن حقّها ورأيها.

وبعبارة اُخرى : إنّ الحياة الاجتماعيّة تشبه شركة مساهمة ، يشترك فيها الأفراد المتعددون بالأسهم ، فكما أنّ على مشتري السهم أن يتّبع في شرائه للسهم ، ومشاركته في تلك الشركة برنامج الشركة المدوّن ، ويكون شراؤه بمثابة الموافقة الضمنيّة على ذلك البرنامج ، فإنّ العيش ضمن الحياة الاجتماعيّة يعتبر إمضاءً لشروط الحياة الاجتماعيّة ، وقبولاً بمستلزماتها وأحكامها إذ لا بقاء للحياة الاجتماعيّة ، ولا قيام لأمرها إلا بهذا

ص: 218

الطريق ، كما لابقاء للشركة المساهمة إلاّ بموافقة أصحاب الأسهم على برنامج الشركة وأهدافها ، والقبول بمتطلباتها فهو باختصار ، أشبه شيء بالشرط في ضمن العقد كما هو المصطلح في الفقه ، والاعتراف بالملزوم اعتراف بلازمه.

* * *

الفرق الواضح بين الترجيحين

يمكن أن ينطرح في ذهن القارئ الكريم ، أنّ ما أخذنا به على الديمقراطيّة الغربيّة جار في المقام ، إذ قلنا هناك بأنّ ترجيح الأكثريّة ولو بصوت واحد بخس وتجاهل لحقّ الأقليّة ، وعندئذ فما الفرق بين الترجيحين الحاكمين في الديمقراطيّة الغربيّة والحكومة الإسلاميّة ؟

غير أنّ القارئ الكريم الذي لمس حقيقة الحكومة الإسلاميّة يقف على الفرق الجوهريّ بين الترجيحين ، فإنّ الأكثريّة في النظام الديمقراطيّ الغربيّ تأخذ بزمام الحكم وتتصرف في مصير المجتمع بأيّ نحو شاءت ، وليس هناك ضابطة غالباً تحدد تصرّفاتها في مقابل الأقليّة ، سواء أكانت في مجال التقنين والتشريع أم في مجال التطبيق والتخطيط ، إذ لا يشترط في المتصرِّف شيء من الشرائط سوى تصويت الأكثريّة له. ولذلك لا رادع هناك من أي بخس وتجاوز لحقوق الأقليّة من جانب الأكثريّة الحاكمة.

أمّا الحكومة الإسلاميّة ، فالأقليّة والأكثريّة كلاهما يتّبعان حكماً وقانوناً واحداً لا يختلفان في ذلك أبداً ، فليس لهما إلاّ الاتّباع لما شرعه الإسلام وجاء به الكتاب والسنة ، وإنمّا الاختلاف في اُسلوب التطبيق والتخطيط ، فليس للحاكم الأخذ بزمام الحكم أن يتجاهل حقوق الأقليّة ، كما أنّه ليس للطرف الآخر الخروج عن دائرة الحقّ والعدل المتمثّلين في الشريعة المقدسة فتبقى هناك مسألة التصدّي لمقام الحكم ولا مناص من ترجيح الأكثريّة على الأقليّة حفظاً لنظام المجتمع وإبقاءً على وحدته وكيانه ، ويتضح ما ذكرناه إذا لاحظنا مواصفات الحاكم وشرائطه في الحكومة الإسلاميّة كما ستوافيك في الفصل القادم.

ص: 219

السؤال الرابع : ولاية الفقيه ومكانتها في الحكومة الإسلاميّة
اشارة

ربّما يتصور البعض ، أنّ القول بولاية الفقيه التي اتّفق على أصلها في الجملة جميع الفقهاء في فقه الإماميّة ، يتنافى مع ما مر تقريره من إثبات السيادة للاُمّة وحقّها في انتخاب حكّامها ونوّابها.

الجواب :

إنّ البحث في ولاية الفقيه ، وتوضيح حقيقتها ودلالتها ، وبيان ما حولها من حقائق ، يحتاج إلى تأليف رسالة ، وقد أغنانا عن ذلك ما كتبه قائد الثورة الإسلاميّة الإمام الخمينيّ قدس سره فنقول باختصار :

إنّ ما ذكرناه في « صيغة الحكومة الإسلاميّة » وتركيبتها هو ما يمكن لكلّ مطالع في الإسلام ، استنباطه من الكتاب والسنّة بجلاء ، غير أنّ هناك في فقه الشيعة الإماميّة « عنصراً خاصّاً » في الحكومة الإسلاميّة هو عنصر « ولاية الفقيه » الذي لا نجد مثيله في سائر المذاهب ، وينبغي للقارئ الكريم أن يتعرّف على هذا العنصر استكمالاً لمعرفته بجميع عناصر الحكومة الإسلاميّة في عامّة المذاهب الفقهيّة.

إنّ الحديث عن ولاية الفقيه يقع في أمرين :

ص: 220

الأوّل - : ما هو معنى ولاية الفقيه وما هي حقيقتها ؟

الثاني - : كيف يمارس الفقيه ولايته هذه ، إلى جانب المؤسّسات الدستوريّة والتشكيلات الحكوميّة العليا التي مرّ ذكرها ، وبشكل يتمشّى مع بقيّة المعايير الإسلاميّة في نظام الحكم الإسلاميّ الذي يعطي للاُمّة الحريّة في إدارة نفسها ضمن الضوابط الإلهيّة الشرعيّة.

وإليك فيما يلي الإجابة على هذين السؤالين.

ولاية الفقيه ليست استصغاراً للاُمّة ولا استبداداً

لقد كثر النقاش أخيراً حول ولاية الفقيه ، فمن متوهّم أنّ نتيجة القول بولاية الفقيه هي اعتبار الاُمّة قاصرةً وعاجزةً عن إدارة أمرها ، فلابدّ لها من وليّ يتولّى اُمورها.

ومن متصوّر بأنّ نتيجتها هي استبداد الفرد بالإدارة والحكم ، ورفض الرأي العامّ ، وهو أمر يتنافى مع ما قرّرناه - حسب المعايير الإسلاميّة - من اختيار الاُمّة الإسلاميّة في تشكيل الحكومة ، نوّاباً ووزراء ورؤساء ، وذلك في نطاق الضوابط الإلهيّة الشرعيّة.

ولكنّ هذه التوهّمات ناشئة عن عدم وضوح ( ولاية الفقيه ) وضوحاً لا يبقي شبهةً ، ولا يترك غموضاً ، فليس إقرار ولاية الفقيه بمعنى جعل الاُمّة الإسلاميّة الرشيدة بمنزلة القصّر ، كما ليس نتيجتها استبداد الفقيه بالإدارة والسلطة والعمل أو الترك كيفما شاء دون مشورة أو رعاية للمصالح والمعايير الإسلاميّة.

إنّ للمجتهد الفقيه العارف بأحكام الإسلام القادر على استنباط قوانينه ثلاثة مناصب وهي التي يعبّر عنها جميعاً بولاية الفقيه وهي :

الأوّل : منصب الإفتاء : فإنّ الأحكام الشرعيّة بأبوابها الأربعة ، من عبادات ومعاملات وإيقاعات ، وسياسات ، لمّا كانت أمراً نظرياً يحتاج إلى التعلّم والتعليم ولا يمكن لكلّ أحد من الناس معرفتها عن مصادرها العلميّة المتقنة - فإنّ ذلك يعوق الإنسان عن مهامّ اُموره الدنيويّة والمعيشيّة - عمد الإسلام إلى إرجاع ( نظام الإفتاء ) إلى

ص: 221

فقيه ، عالم بشرائع دينه ، وهذا هو الذي يطلق عليه في اصطلاح المتشرّعة ب ( المفتي ) ليكون مرجعاً لأخذ الأحكام.

الثاني : القضاء : فإنّ من مقتضى القوى والغرائز النفسانيّة والطبيعيّة التوجّه إلى المنافع ، والتباعد عن المضارّ ، وهو بدوره يوجب نزاعاً على المنافع الذي قد ينجرّ إلى الحروب ، فلدفع هذه المفسدة ترك أمر القضاء إلى الفقيه الجامع للشرائط.

الثالث : الحكومة : فإنّ من أهم مايحتاج إليه البشر في حفظ نواميسه ، ونفوسه واجتماع أمره ؛ وجود قائد بينهم يجب على الجميع إطاعة قوله واتباع فعله ، وهو الذي يعبر عنه في لسان الشرع والمتشرّعة بالحاكم والسائس (1).

وعلى هذه الاُمور الثلاثة تدور رحى حياة المجتمع الإسلاميّ.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ للولاية مرتبةً عليا مختصّةً بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله وأوصيائه الطاهرين وغير قابلة للتفويض إلى أحد ، وهي بين تكوينيّة يعبّر عنها بالولاية التكوينيّة التي بها يتصرف النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الكون إذا اقتضت المصلحة ذلك كما إذا كان في مقام الإعجاز ، وفي ذلك يقول الإمام الخمينيّ : ( إنّ للنبيّ والإمام مقاماً محموداً ودرجةً ساميةً وخلافةً تكوينيّةً تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرّات هذا الكون ) (2).

وبين التشريعيّة التي يشير إليها قوله سبحانه : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب : 6 ) وهي مختصّة بالنبيّ وأوصيائه المعصومين ، فهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم (3).

وأمّا غير المختصّ بهم ، فإنّما هو مقام الافتاء والقضاء ، والولاية ، التي أظهر مصاديقها نظم البلاد والجهاد والدفاع وسدّ الثغور وإجراء الحدود ، وأخذ الزكاة وإقامة

ص: 222


1- اقتباس من دروس الإمام الخمينيّ في علم الاُصول ألقاها في مدينة قم المقدّسة عام ( 1370 ه ) وقد قرّرها الاُستاذ السبحاني ونشرها في كتاب تهذيب الاُصول 3 : 136.
2- الحكومة الإسلاميّة : 52.
3- لاحظ منية الطالب تقريراً لبحث المحقّق النائينيّ : 325.

الجمعة وغيرها.

فالأوّلان من هذه المناصب ( الثلاثة ) ثابتان للفقيه - باتفاق الكلمة - كما سيوافيك بيانه عند بيان السلطات الثلاث.

وأمّا الولاية والحكومة بالمعنى الماضي ، فلا وجه للشك في ثبوتها للفقيه حسب الأدلّة الواردة ولكنّ المراد منها يتلخّص في أمرين :

الأوّل : إذا نهض الفقيه بتشكيل الحكومة وجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوه (1).

إذ كل ما يشترط من المواصفات في الحاكم التي يأتي بيانها ، موجود في الفقيه العادل.

وأمّا الثاني : إذا نهض الناس بتشكيل الحكومة تحت الضوابط الإسلاميّة فللفقيه العادل حينئذ أن يراقب سلوك الحكومة وتصرّفاتها ، فيصحّح مسيرتها إذا انحرفت ويعدّل سلوكها إذا شذّ ... وعندئذ تكون ولاية الفقيه ضمانةً لاستقامة الدولة ومانعاً عن عدولها عن جادّة الحقّ وسنن الدين ، فهو متخصّص عارف بالأحكام والحدود ، وبما أنّه ورع يتّقي اللّه ويخشاه أكثر من سواه كما يقول اللّه سبحانه : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ( فاطر : 28 ) وقد عاش بين أفراد المجتمع فعرف بالصلاح والورع والأمانة ، فولايته تحجز الحكومة عن الخروج عن المعايير الإسلاميّة ... وارتكاب ما يخالف مصالح الإسلام والمسلمين دون أن ينحرف هو عن صراط الحقّ المستقيم.

كيف يمارسُ الفقيه ولايته

أمّا كيف يمارس الفقيه ولايته - وهو الشقّ الثاني - إلى جانب ما أقرّه الإسلام من أختيار للاُمّة في انتخاب حكّامها ، وما أعطاه من الحرية لهم في نطاق المعايير الإسلاميّة ،

ص: 223


1- الحكومة الإسلاميّة للإمام الخمينيّ : 49 ، بل يجب على الفقيه تشكيل الدولة الإسلاميّة إذا لم يكن هناك دولة إسلاميّة.

فهو يتضح بما يلي :

إنّ الفقيه بحكم مسؤوليته اتّجاه الإسلام والمسلمين يتحرّى في جميع الظروف مصالح الاُمّة ، فإذا كانت الحكومة التي إقامتها الاُمّة الإسلاميّة موافقةً للمعايير الإسلاميّة ، ومطابقةً للمصلحة الاجتماعيّة العليا وجب عليه إمضاؤها ، وإقرارها ، وليس له أن يردّها ، ولأجل ذلك لا يترتب على ( ولاية الفقيه ) إلاّ استقرار الحكومة الإسلاميّة الصالحة ، ولا يتغيّر بولايته أي شيء من الأركان والمؤسسات الحكوميّة المذكورة سلفاً ، ولا تتعارض مع ما ذكرناه وأثبتناه من حريّة الاُمّة واختيارها.

ذلك هو مجمل حقيقة ولاية الفقيه ، وهذه هي كيفيّة ممارستها إلى جانب التشكيلات الاُخرى في النظام الإسلاميّ.

وهي كما ترى خير ضمان جوهراً وممارسةً لاستقامة الحكومة في المجتمع الإسلاميّ ، وإبقائها على الخط المستقيم دون أن يستلزم فرض هذه الولاية اعتبار الاُمّة قصراً ، أو يلازم استبداداً كما يشاء البعض وصفها بذلك ، أو يتوهّمونه خطأً وغفلةً عن حقيقة الحال لهذا العنصر العظيم في الفقه الإماميّ على صعيد الحكم.

* * *

كلمة أخيرة :

لقد تبيّن من هذا البحث الواسع حول لون الحكومة الإسلاميّة ، أنّ الحكومة عند حضور الإمام المنصوص عليه من جانب اللّه حكومة إلهيّة محضة ، وأمّا عند عدم إمكان التوصّل إليه فهي مزيج من ( الحاكميّة الإلهيّة والسيادة الشعبيّة ).

فهي إلهيّة : من جهة أنّ التشريع لله سبحانه بالأصالة ، وأنّ على الاُمّة الإسلاميّة أن تراعي جميع الشرائط والضوابط الإسلاميّة في مجال الانتخاب ، وأنّ على الحاكم الإسلاميّ أن يلتزم بتنفيذ الشريعة الإسلاميّة حرفاً بحرف ، فلأجل هذه الجهات تعدُّ إلهيّة ، أو حكومة قانون اللّه على الناس.

وهي شعبيّة : من جهة أنّ انتخاب الحاكم الأعلى وسائر الأجهزة الحكومية العليا

ص: 224

موكول إلى الناس ومشروط برضاهم.

ثم إنّ هناك نظريتين في كيفيّة تشكيل الحكومة الإسلاميّة جنح إليها كثير من أهل السنّة وهما :

1. الشورى أساس الحكم.

2. البيعة أساس الحكم.

ولتحقيق الحال نبحث عن كلتا النظريتين في البحث القادم.

ص: 225

هل الشورى أساس الحكم الإسلاميّ ؟

اشارة

إنّ الظاهر من بعض من كتب حول الحكومة الإسلاميّة أنّ أساس الحكم في الإسلام هو الشورى ، وقد ذهبوا إلى ذلك لأجل أمرين :

الأوّل : أنّهم جعلوه مكان الاستفتاء الشعبيّ ، لأنّه لم يكن من الممكن - في صدر الإسلام - بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله مراجعة كلّ الأفكار واستعلام جميع الآراء في الوطن الإسلاميّ لقلّة وسائل المواصلات ، وفقدان سبل الاتصال المتعارفة اليوم.

الثاني : أنّهم أرادوا بذلك تصحيح الخلافة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأنّ بعض الخلفاء توصّل إلى ذلك بالشورى ، ثمّ عدّ هذا الاُسلوب إحدى الطرق لتعيين الحاكم.

وربّما يؤيّد الأوّل قول الإمام عليّ علیه السلام : « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل ، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها ، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار » (1).

وهو إشارة إلى أنّ عدم إمكان أخذ البيعة بالصورة الواسعة يجوّز أخذها بصورة محدودة.

ولعلّ إلى ذلك نظر الشيخ عبد الكريم الخطيب إذ قال : ( إنّ الذين بايعوا أوّل

ص: 226


1- نهج البلاغة : الخطبة (168) عبده.

خليفة للمسلمين لم يتجاوز أهل المدينة ، وربّما كان بعض أهل مكّة ، وأمّا المسلمون - جميعاً - في الجزيرة العربية فلم يشاركوا في هذه البيعة ، ولم يشهدوها ولم يروا رأيهم ، وإنّما ورد عليهم الخبر بموت النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع الخبر باستخلاف أبي بكر ) (1).

ويؤيّد الثاني ( أي اعتبار الشورى أساساً للحكم تصحيحاً للحكومات التي قامت بعد وفاة النبي ) أنّهم ذكروا - فيما تنعقد به الإمامة والخلافة نفس الأعداد التي تنطبق عليها خلافة أحد الخلفاء ، فلم يكن اعتبار هذه الأعداد والوجوه إلاّ للاعتقاد المسبّق بصحّة خلافة اُولئك الخلفاء.

ولأجل ذلك يقول الماورديّ : الإمامة تنعقد من وجهين :

أحدهما : باختيار أهل العقد والحلّ.

والثاني : بعهد الإمام من قبل.

فأمّا انعقاها باختيار أهل العقد والحلّ ، فقد اختلف الفقهاء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم ، على مذاهب شتّى ، فقالت طائفة لا تنعقد الإمامة إلاّ بجمهور أهل العقد والحلّ من كلّ بلد ليكون الرضا به عامّاً ، والتسليم لإمامته إجماعاً ، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة ، باختيار من حضرها ولم ينتظر لبيعته قدوم غائب عنها.

وقالت طائفة أخرى : أقلُّ ما تنعقد به منهم الإمامة ( خمسة ) يجتمعون على عقدها ، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين :

أحدهما : أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ، ثمّ تابعهم الناس فيها وهم : ( عمر بن الخطاب ) و ( أبو عبيدة الجراح ) و ( أسيد بن حضير ) و ( بشر بن سعد ) و ( سالم مولى أبي حذيفة ).

الثاني : أنّ عمر (رض) جعل الشورى في ستّة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة ، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.

ص: 227


1- الإمامة والخلافة : 241.

وقال آخرون : من علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً ، وشاهدين ، كما يصح عقد النكاح بوليّ وشاهدين.

وقالت طائفة اُخرى : تنعقد بواحد لأنّ العبّاس قال لعليّ (رض) : أمدد يدك اُبايعك فيقول الناس عمّ رسول اللّه بايع ابن عمّه ، فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ ) (1).

وقال القاضي العضديّ - في المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة - من كتابه : ( إنّها تثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع ، وتثبت ببيعة أهل العقد والحلّ ) (2).

ومن المعلوم ، أنّ الاختلاف الواقع في عدد من تنعقد به الشورى يفيد - بوضوح - أنّه لم يكن هناك أي نصّ من الشارع المقدّس على أنّ الإمامة تنعقد بالشورى ، ولذلك اختلفوا فيها على مذاهب وغاب عنهم وجه الصواب.

ثمّ إنّ من مظاهر الاختلاف الواقع في مسألة الشورى أنّ القائلين بها انقسموا - في أثرها - على قسمين :

الأوّل : وهم الأكثريّة ، ذهبوا إلى أنّ انتخاب أهل الشورى كان ملزماً للاُمّة ، فوجب عليها أن تسلِّم لمن اختاروه بهذا الطريق.

الثاني : أنّ انتخاب أهل الشورى لأحد ليس أزيد من ( ترشيح ) له ، وكان للاُمّة هي أن تختاره ، أو لا تختاره فكان الملاك هو رأي الاُمّة (3).

غير أنّ هذا الرأي لا يتفق مع خلافة الخلفاء الذين تسنّموا عرش الخلافة بالشورى ، فقد كان انتخابهم ملزماً يومذاك على رأيهم ، ولم يكن من باقي الاُمّة إلاّ الاتباع والتسليم.

ص: 228


1- الأحكام السلطانيّة للماورديّ : 4.
2- شرح المواقف 3 : 265.
3- راجع الشخصيّة الدوليّة لمحمّد كامل ياقوت : 463.
ما هي أدلّة الأخذ بالشورى ؟

إنّ البحث عن كون الشورى وسيلةً لتعيين الإمام يقع في ظرفين :

الأوّل : بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

الثاني : في زماننا الحاضر ، حيث لا يمكن الوصول إلى الإمام المنصوب من جانب اللّه سبحانه ، بالاسم.

وبما أنّ القائلين بمبدأ الشورى يصرّون على أنّها كانت أساساً للخلافة والحكم بعد الرسول أيضاً ، فإننا سنبحث الموضوع في كلا الموقعين معاً :

حكم الشورى بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله

لقد استدل القائلون بالشورى بآيتين هما :

الاُولى : قوله سبحانه : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ( العمران : 159 ).

فإنّ اللّه سبحانه يأمر نبيّه بأن يشاور من حوله ، وذلك تعليماً للاُمّة بأن تتشاور في مهامّ الاُمور ، ومنها ( الخلافة ).

غير أنّ التأمّل والنظر في مفاد الآية ، يكشف عن أنّ الخطاب فيها موجّه إلى الحاكم الذي استقرّت حكومته ، وتمّت بوجه من الوجوه ، فإنّ اللّه سبحانه يأمره بأن يشاور أفراد الاُمّة ويستضيء بأفكارهم ، وينتفع بمشاورتهم توصّلاً إلى أحسن النتائج كما يقول الإمام عليّ علیه السلام : « من استبدّ برأيه هلك ومن شاور الرجال في اُمورها شاركها في عقولها » (1). فلا ارتباط للآية ومفادها بما نحن فيه.

وبعبارة اُخرى : إنّ الخطاب وإن كان يمكن التعدي عنه إلى سائر أفراد الاُمّة

ص: 229


1- نهج البلاغة : قسم الحكم الرقم (161).

قائلاً بعدم خصوصيّة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الخطاب لكنّه لا يمكن التعدّي عن ذلك المنطوق إلاّ إلى مقدار يشابه منطوق الآية لا أكثر ، فأقصى ما تفيده الآية ، هو أن لا يكون الحاكم الإسلاميّ ، وصاحب السلطة التي تمت سلطته ، مستبدّاً في أعماله بل ينبغي أن يتشاور مع أصحابه وأعوانه في مهامّ الاُمور وجسامها ، وأمّا أن يصحّ تعيين الإمام والخليفة عن طريق الشورى استدلالاً بهذه الآية ، فلا يمكن الانتقال ممّا ذكرناه إلى هذا المورد.

هذا مضافاً إلى أنّ الظاهر من الآية هو أنّ ( الشورى ) لا توجب حكماً للحاكم ولا تلزمه بشيء ، بل هو يقلّب وجوه الرأي ، ويستعرض الأفكار المختلفة ثمّ يأخذ بما هو المفيد في نظره ، وهذا يتحقق في ظرف يكون هناك ( رئيس ) تام الاختيار في استحصال الأفكار ، والعمل بالنافع منها ، كما أنّ استحصال الأفكار هذا لا يتمّ إلاّ أن يكون للمستشير مقاماً وسلطةً وولايةً مفروضة ، ويكون رئيساً مستقرّ الحاكميّة ، وأمّا إذالم يكن ثمة رئيس فلا يمكن أن يتم هذا الأمر ، الذي ندب إليه القرآن وحثّ عليه ، إذ ليس عندئذ هناك رئيس يندب الأفراد ويستعرض أراءهم ثمّ يتأمّل فيها ويأخذ بالنافع منها.

* * *

الثانية : قوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) ( الشورى : 38 ) ، فإنّ إضافة المصدر ( أمر ) إلى الضمير ( هم ) يفيد العموم والشمول لكلّ أمر بما فيه الخلافة والإمامة ، فالمؤمنون - بحسب هذه الآية - يتشاورون في جميع اُمورهم حتّى الخلافة.

ولكن ينبغي البحث في الموضوع الذي تأمر الآية بالمشورة فيه وأنّه ما هو ؟ فنقول : إنّ الآية تأمر بالمشورة في الاُمور المضافة إلى المؤمنين ، فلابدّ أن يحرز أنّ هذا الأمر ( أي تعيين الإمام ) أمر مربوط بهم ، ومضاف إليهم ، فما لم يحرز ذلك لم يجز التمسّك بعموم الآية في مورده.

وبعبارة أخرى : إنّ الآية حثّت على الشورى في اُمورهم وشؤونهم لا فيما هو خارج عن حوزة اُمورهم وشؤونهم ، ولما كان تعيين ( الإمام والخليفة ) من جانبهم مشكوكاً في

ص: 230

كونه من اُمورهم ، إذ لا يدرى هل من شؤونهم وصلاحياتهم ، أم من شؤون اللّه سبحانه فعندئذ لا يجوز التمسّك بالآية في المورد.

وبعبارة ثالثة : هل أنّ الإمامة إمرة وولاية إلهيّة لتحتاج إلى نصب وتعيين إلهيّ ، أو هي إمرة وولاية شعبيّة ليجوز للناس أن يعيّنوا بالشورى من أرادوا للإمامة والخلافة ؟

ومع الترديد والشكّ ، لا يمكن الأخذ بإطلاق الآية المذكورة وتعميم ( أمرهم ) لأمر الإمامة ، لأنّه من باب التمسك بالحكم عند الشكّ في الموضوع ، وهذا نظير ما إذا قال أحد : ( أكرم العلماء ) فشككنا في رجل هل هو عالم أو لا ، فلا يجوز التمسّك بالعامّ في هذا المورد المشكوك والقول بلزوم إكرام الرجل.

التمسّك بكلام عليّ علیه السلام في الشورى

ثمّ إنّ القائلين بمبدأ الشورى يتمسّكون بأحاديث في هذا المقام ، وربّما تمسّكوا بقول الإمام عليّ علیه السلام إذ قال : « إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً » (1).

ثمّ إنّ الشارح الحديديّ ، كان أوّل من احتج بهذه الخطبة على أنّ نظام الحكومة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إنّما هو نظام الشورى وتبعه بعض من تبعه ، من دون رجوع إلى القرائن الحافّة بها ... والحال أنّ الاستدلال بالشورى استدلال جدليّ من باب : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( النحل : 125 ).

وقد نقل نصر بن مزاحم المنقريّ المتوفّى عام (212 ه ) أي 147 عاماً قبل ميلاد ( الشريف الرضيّ جامع نهج البلاغة ) في كتابه القيّم ( وقعة صفّين ) العبارات

ص: 231


1- نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم (6).

الكثيرة التي حذفها الرضي رحمه اللّه من الرسالة كما هو دأبه في أكثر الخطب والكتب (1).

فإنّ الإمام عليّ علیه السلام بدأ رسالته بقوله : « أمّا بعد فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لأنّه بايعني ... ».

ثمّ ختمها بقوله : « وإنّ طلحة والزبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي وكان نقضهما كردِّهما فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقُّ وظهر أمر اللّه وهم كارهون ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ».

ثمّ قال : « وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على كتاب اللّه (2) ، وأمّا تلك الّتي تريدها فخدعة الصبيّ عن اللبن ».

هذا وقد طلب معاوية قبل أن يكتب إليه الإمام هذا الكتاب بأن يسلِّم إليه قتلة عثمان حتّى يقتصّ منهم ثمّ يبايع الإمام عليّاً علیه السلام هو ومن معه ، وهذا هو ما سمّاه الإمام بخدعة الصبي عن اللبن.

وهذه الجمل والعبارات التي تركها الرضيّ في نقل الكتاب تشهد بأنّ الإمام كتب هذه الرسالة من باب الجدل والاستدلال بما هو موضع قبول الخصم.

ثمّ إنّ ملاحظة قول : « إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان » تدلّ أيضاً على أنّ الإمام كان في مقام المجادلة وإفحام الخصم بما هو مسلّم عنده. فالابتداء بتماميّة الخلافة للشيخين بمبايعة المهاجرين والأنصار لهما لأجل إسكات معاوية الذي يعتبر هذه البيعة هي الملاك في خلافة الخليفة. ولولا هذا لما كان لذكر خلافة الشيخين عن طريق البيعة والشورى وجه. ولأجل ذلك نجد الإمام علیه السلام يردف هذه

ص: 232


1- ولد الرضي عام ( 359 ه ) وتوفّي ( 406 ه ).
2- راجع ( وقعة صفّين ) لنصر بن مزاحم ( طبعة مصر ) : 29.

العبارات بقوله : « فإن اجتمعوا على رجل ... » احتجاجاً بمعتقد معاوية.

فهذا الاُسلوب إنّما اتخذه الإمام علیه السلام عملاً بقوله سبحانه : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

وكيف لا ، وللإمام علیه السلام كلمات ساخنة في تخطئة الشورى التي تمّت بها خلافة الخلفاء بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقف عليها كلّ من تصفّح نهج البلاغة ، وسائر ما روي عنه علیه السلام في هذا المجال.

والذي يدلّ على ذلك وأنّ الشورى لم تكن أساساً للخلافة والحكومة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ أصحاب الشورى في السقيفة - لا في غيرها - لم يتمسّكوا بها ، ولا بالآيات والأحاديث الواردة حولها.

إشكالاتٌ أُخرى وملاحظاتٌ أساسيّة :

وهناك ملاحظات أساسيّة أخرى على جعل الشورى منشأً للحكم ، وطريقاً لتعيين الحاكم نشير إلى بعضها :

1. لو كان أساس الحكم ومنشأه هو ( الشورى ) ، لوجب على الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله بيان تفاصيلها وخصوصيّاتها وأسلوبها ، أو خطوطها العريضة على الأقلّ.

فإنّ الإسلام إذا كان قد أرسى نظام الحكم على أساس ( الشورى ) ، وجعله طريقاً لتعيين الحاكم بحيث تكون هي مبدأ الولاية والحاكميّة ، فإنّ من الطبيعيّ بل والضروريّ أن يقوم الإسلام بتوعية الاُمّة ، وإيقافها - بصورة واسعة - على حدود الشورى وتفاصيلها وخطوطها العريضة حتّى لاتتحيّر الاُمّة وتختلف في أمرها ، ولكنّنا رغم هذه الأهميّة القصوى لا نجد لهذه التوعية الضروريّة أي ( أثر ) في الكتاب والسنّة في مجال انتخاب الحاكم.

ولقد بادر بعض الكتاب إلى الإجابة عن هذا الإشكال بأنّ : الإسلام قد تكفّل

ص: 233

إعطاء إشارة عابرة إلى مبدأ الشورى دون تحديد ، موكلاً أمرها وشكلها إلى نظر الاُمّة ، تمشّياً مع الصبغة العامّة التي تتّسم بها الشريعة الإسلاميّة ، وهي صبغة الخلود ، والمرونة ، التي تمكِّن هذه الشريعة من مسايرة كلّ العصور. وبقائها نظاماً خالداً لجميع الأجيال.

وصفوة القول : أنّ خلود الإسلام يقتضي أن يكتفي هذا الدين ببيان جوهر الاُمور دون شكليّاتها ، وكيفيّاتها.

وهذا المطلب صحيح - في حدّ ذاته - وإن كان انطباقه على هذا المورد لا يخلو عن إشكال ، فإنّه وإن كان لا يجب على الشارع إعطاء كلّ التفاصيل والخصوصيّات الراجعة إلى الشورى ، غير أنّ هناك اُموراً ترجع إلى ( جوهر ) الشورى وصميمها ، فلا يصحّ للشارع المقدّس أن يترك بيانها إذ أنّ هناك أسئلةً تطرح نفسها في المقام ، لا يمكن الوقوف على أجوبتها إلاّ عن طريق الشارع وبيانه وهي :

أوّلاً : من هم الذين يجب أن يشتركوا في ( الشورى ) المذكورة ؟ هل هم العلماء وحدهم ، أو السياسيّون وحدهم أو المختلط منهم ؟

ثانياً : من هم الذين يختارون أهل الشورى ؟

ثالثاً : لو اختلف أهل الشورى في شخص فبماذا يكون الترجيح ، هل يكون بملاك الكمّ ، أم بملاك الكيف ؟

إنّ جميع هذه الاُمور تتّصل بجوهر مسألة ( الشورى ) ، فكيف يجوز ترك بيانها ، وتوضيحها ؟ وكيف سكت الإسلام عنها إن كان جعل ( الشورى ) طريقاً إلى تعيين الحاكم ؟

* * *

2. إنّ القوم يعبّرون عن أعضاء الشورى بأهل العقد والحلّ ، ولا يفسّرونه بما يرفع إجماله ، وأنّ المقصود من هو ؟ ولذلك قال الشيخ عبد الكريم الخطيب :

ص: 234

( وليس في القول بأنّ أفراد الاُمّة المسؤولون عنها هم أهل الحلّ والعقد فيها ، ما يفسّر هذا الغموض أو يكشفه فمن هم أهل الحلّ والعقد ، وحلّ ماذا ؟ وعقد ماذا ؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس فيما ينوّبونهم من اُمور ؟ وهل هناك درجة معينة من الفقه والعلم إذا بلغها الإنسان صار من أهل الحلّ والعقد ؟ ما هي تلك الدرجة ؟ وبأيّ ميزان توزن ؟ ومن إليه يرجع الأمر في تقديرها ؟

إنّ كلمة أهل العقد والحلّ لأغمض غموضاً من كلمة « الأفراد المسؤولون » ) (1).

ولأجل غموض نظريّة الشورى برمّتها وعدم ورود نصّ واضح وصريح حولها قال الدكتور طه حسين : ( ولو قد كان للمسلمين هذا النظام المكتوب ( ويعني نظام الشورى ) لعرف المسلمون في أيّام عثمان ما يأتون من ذلك ، وما يدعون دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف ) (2).

ولذلك - أيضاً - يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب ، وهو يشير إلى أنّ قضيّة الشورى كانت مجرّد تجربة وليس قانوناً إسلاميّاً أخذ به ، كما يشير إلى ما في هذه القضية من نواقص وعيوب وما تركته من أثار سيّئة على الفكر الإسلاميّ :

( ينظر بعضهم إليه على أنّه ( أي تعيين الإمام بالشورى ) نواة صالحة لأوّل تجربة وأنّ الأيّام كفيلة بأن تنمّيها ، وتستكمل ما يبدو فيها من نقص ، فلم تكن الأحوال التي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث ، إذ لم يكن من المستطاع - حينذاك - الوقوف على رأي الاُمّة كلّها فرداً فرداً ؛ فيمن يخلف النبيّ صلی اللّه علیه و آله وينظر بعض آخر إلى هذا الاُسلوب بأنّه اُسلوب بدائيّ عالج أهمّ مشكلة في الحياة ، وقد كان لهذا الاُسلوب أثره في تعطيل القوى المفكّرة للبحث عن اُسلوب آخر من أساليب الحكم التي جربتها الاُمم ) (3).

هذا كلّه حول ( الشورى ) ، وكونها صيغة الحكم ومنشأه عقيب النبيّ صلی اللّه علیه و آله مباشرة.

ص: 235


1- (1 و 2) الخلافة والإمامة : 271.
2- (1 و 2) الخلافة والإمامة : 271.
3- الخلافة والإمامة : 272.

أمّا بالنسبة إلى عصرنا هذا ؛ حيث لا تتمكن الاُمّة من الوصول إلى الإمام المنصوب من جانب اللّه سبحانه بالاسم ، فهناك فكرتان تدور حول محور الشورى :

الاُولى : أن تقتصر وظيفة الشورى على الترشيح ، وإيقاف الاُمّة على الشخص المناسب والرجل الصالح لمقام الحكم والولاية ، من دون أن يكون تصميم الشورى وانتخابها ملزماً للناس. وهذا أمر معقول ، ومقبول شرعاً وعرفاً وهو الرأي الذي أشار إليه صاحب كتاب الشخصيّة الدولية - كما سبق -.

الثانية : أن يكون تصميم الشورى أمراً ملزماً للناس ، وقراراً واجب الاتّباع ، فعلى الناس أن يقبلوا بمن عيّنته الشورى ويرتضونه حتماً دون أن يكون لهم رأيهم في الأمر ، وحريّتهم في الاختيار وهذا ممّا لا يدلّ عليه دليل من الكتاب ولا من السنّة ، وقد ذكرنا أنّ شرط صحّة الحكم الإسلاميّ هو أن يكون موضع رضا الشعب والاُمّة.

ص: 236

هل البيعة وسيلة لتعيين الحاكم ؟

اشارة

هل البيعة طريق إلى تعيين الحاكم الإسلاميّ ؟ إنّ الإجابة على هذا السؤال ، والحديث عن البيعة - بصورة واضحة - يقتضي بيان اُمور :

1. ماذا تعني البيعة ؟

البيعة - لغةً - مصدر باع - لأنّ المبايع يجعل حياته وأمواله - بالبيعة - تحت اختيار من يبايع. ويتعهّد المبايع - في المقابل - بأن يسعى في إصلاح حال المبايع ، وتدبير شؤونه بصورة صحيحة وكأنّ المبايع والمبايع يقومان بعملية تجارية إذ يتعهّد كلّ واحد منهما اتّجاه الآخر بعمل شيء للآخر ، أو أن المبايع يريد من وضع يده في يد المبايع أنّه يكون معه في جميع الوقائع الآتية.

وقد أشار إلى بعض ما ذكرناه ابن خلدون في تعريفه البيعة إذ قال :

( اعلم ، أنّ البيعة هي العهد على الطاعة كأنّ المبايع يعاهد أميره على أن يسلّم له النظر في اُموره واُمور المسلمين ويطيعه فيما يكلّفه ، وكانوا إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده تأكيداً فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري ) (1).

ص: 237


1- مقدمة ابن خلدون : 174.
2. البيعة قبل الإسلام :

كانت ( البيعة ) التي هي نوع من معاهدة الرئيس ، من تقاليد العرب قبل الإسلام وسننهم ، ولم يكن الإسلام هو أوّل من ابتكر ذلك ، وحيث كانت المبايعة ممّا تنفع المجتمع وتخدم مصالحه ، فقد أمضاها الدين الإسلاميّ وجعلها من العقود اللازمة ، التي يجب العمل بها ، ويحرّم نقضها.

لقد بايع أهل المدينة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة في العقبة بمنى ، بايعوه مرّتين ففي الاُولى من البيعتين بايعوه على أن لا يشركوا باللّه ، ولا يسرقوا ولا يقترفوا فاحشةً ... و و ... (1).

ولقد خطى النبيّ صلی اللّه علیه و آله في البيعة الثانية خطوةً أكبر حيث أخذ البيعة من أهل المدينة على نصرته ، والدفاع عنه كما يدافعون عن أولادهم وأهليهم (2).

لقد بايع أهل المدينة النبيّ - على عاداتهم قبل الإسلام - حيث كانوا يبايعون زعماءهم.

إنّ البيعة نوع من العهد والمعاهدة ، والهدف من إمضائها في زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يكن لتعيينه للحكم والرئاسة ، بل كان لإعطائه الميثاق على الوفاء ، والسير حسب أوامره ، فالمسلمون الذين بايعوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله في أوّل بيعة ، إنّما بايعوه على أن لا يشركوا باللّه ، وأن يجتنبوا الفواحش ، ولا يسرقوا ، وفي البيعة الثانية عاهدوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله على أن ينصروه ، ويدافعوا عنه كما قلنا ، وفي كلتا الصورتين كانت زعامة النبيّ ورئاسته محقّقة من قبل ، فهم كانوا بعد أن آمنوا بنبوّته ، وقيادته اقتضى إيمانهم أن يسمعوا له ويطيعوا أمره ( فلا يشركوا ولا يزنوا ... ) ويحفظوه وينصروه ، ولكنّهم أظهروا هذا السمع والطاعة وأكّدوهما عن طريق المبايعة معه (3).

ص: 238


1- (1 و 2) سيرة ابن هشام 1 : 1. 438.
2- (1 و 2) سيرة ابن هشام 1 : 1. 438.
3- لاحظ للوقوف على تفصيل هاتين البيعتين ، السيرة النبويّة لابن هشام وصحيح البخاري.

إنّ الموارد التي بايع فيها المسلمون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جميعاً أو فرادى ، لا تنحصر في هذين الموردين ، بل هي أكثر من ذلك ، وفي جميع تلك الموارد يبدو جليّاً أنّ المبايعين كانوا - بعد أن يؤمنوا بنبوّة النبيّ ويعترفوا بقيادته وزعامته - يصبّون ما يلازم ذلك الإيمان ، من الالتزام بأوامر الرسول وإطاعته في قالب ( البيعة ) ، فكانت البيعة صورةً عمليّةً للالتزام النفسيّ بأوامر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد الإقرار بنبوّته والاعتراف المسبق بزعامته.

ولو أمعن القارئ الكريم في تفاصيل الموارد التي بايع فيها المسلمون كلهم أو بعضهم ( النبي ) لوجد ، أنّ البيعة لم تعن الاعتراف بزعامة الرسول ورئاسته فضلاً عن نصبه وتعيينه ، بل كانت لأجل التدليل على ذلك الاعتراف والتأكيد العمليّ على الالتزام بلوازم الإيمان المسبق به صلی اللّه علیه و آله ولذلك نجد النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان يقول : « فإن آمنتم بي فبايعوني على أن تطيعوني ، وتصلُّوا وتزكُّوا » (1).

« وأن تدفعوا عنّي العدوّ حتّى الموت (2) ، ولا تفروا من الحرب » (3).

وصفوة القول : أنّ من يلاحظ هذه المضامين ، يمكن أن يحدس بأنّ الهدف من البيعة لم يكن هو الاعتراف بمنصب المبايع وانتخابه وتعيينه لمقام الحكومة والولاية ، بل هو ميثاق بين شخصين وهي تندرج تحت قوله سبحانه : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ( المائدة : 1 ).

وقوله سبحانه : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) ( الإسراء : 34 ).

فيجب العمل بمفادها ويحرم نقضها ونكثها.

يقول الإمام أمير المؤمنين في الحث على الوفاء بالبيعة : « وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم » (4).

ومن مراجعة خطب الإمام عليّ علیه السلام وكلماته في نهج البلاغة ، يتضح أنّ

ص: 239


1- صحيح البخاري : كتاب الإيمان.
2- مسند أحمد 4 : 15.
3- مسند أحمد 3 : 292.
4- نهج البلاغة : الخطبة (34).

نكث البيعة إنّما هو نقض للميثاق لا سواه ، وأنّ نكث البيعة من الذنوب الكبيرة ، لا أنّه عزل للحاكم ، وإزاحته عن منصب الولاية.

ولو جعل البعض ( البيعة ) إحدى الطرق لتعيين الإمام ، فليس إلاّ لأحد سببين هما :

الأوّل : أنّ البيعة كانت تقليداً من تقاليد العرب قبل الإسلام ، حيث كان رائجاً بينهم إذا مات منهم أمير أو رئيس عمدوا إلى (شخص ) فأقاموه مكان الراحل بالبيعة.

الثاني : أنّ تعيين بعض الخلفاء بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان بهذا الطراز في الظاهر ، وإن كان على غير ذلك في الباطن ، فإنّ الظاهر هو أنّ خلافة أبي بكر تمّت في السقيفة ، وانتهى كلّ شيء هناك ، ثمّ أريد من بقية الناس - بعد السقيفة - أن يبايعوا أبا بكر ، لتعميم نفوذه. فكانت بيعتهم للخليفة بمثابة التأييد والتسليم لما تمّ في السقيفة قبلاً ، وكانت خلافة عثمان قد تمت وتحققت بالشورى فكانت البيعة بعد الشورى تنفيذاً لقرارها. وإمضاءً ، لا اختياراً وانتخاباً شعبياً.

والحاصل ، أنّه ليس هناك دليل تأريخيّ ولا شرعيّ يدلّ على كون مجرّد ( البيعة ) إحدى الطرق لتعيين الخليفة ونصبه ، بغض النظر عن أيّة مواصفات أو ضوابط اُخرى.

ولأجل ذلك ، إذا راجعنا موارد البيعة التي تمّت في زمن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجدنا ، أنّها لم يكن القصد من بيعة المبايعين هو ( تعيين الحاكم ) ، بل كان إمّا إعطاءً لميثاق الوفاء لما يأمر به النبيّ ، أو كان إضهاراً للتأييد المجدد في الحوادث الجلل التي وقعت في حياته صلی اللّه علیه و آله كما حدث في الحديبيّة.

ولو غضضنا الطرف عن كلّ هذا لوجب أن نقول : إنّ البيعة هي إحدى الطرق لتعيين الحاكم والرئيس ، وليس الطريق الوحيد. وفي هذه الصورة تكون ( البيعة ) متّحدةً - من حيث المفهوم - مع ما ذكرناه حول تأسيس الدولة ، ومن ضرورة انبثاقها عن رضا الاُمّة وناشئةً عن إرادتها ، غاية ما في الأمر أنّ البيعة [ التي تتحقّق بصفق اليد ] تشتمل مضافاً إلى رضا الاُمّة ، على ما يقوّي مركز الإمام والقائد والحاكم ، لما فيها من إبراز الولاء

ص: 240

النفسيّ ، وإظهار الطاعة القلبيّة بعمل محسوس.

ثمّ لو كانت ( البيعة ) الطريق الوحيد لانتخاب الحاكم وتعيين القائد ، لوجب أن يرد لها ذكر في أحاديث الرسول صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام ولقد كان الإمام عليّ علیه السلام هو الخليفة الوحيد الذي انتخب للحكم عن طريق البيعة دون بقيّة الخلفاء ، فالاُمّة لم تبايع أيّاً من الخلفاء الأربعة بحقيقة البيعة ، سواه ... اللّهمّ إلاّ في أبي بكر والتي كانت البيعة في مورده بيعةً ناقصةً ، أقتصرت على بعض المسلمين لا عامّتهم (1) ، وكانت بمثابة التسليم للأمر الواقع.

وهناك أحاديث غامضة حول البيعة تحتاج إلى الدراسة والتحقيق فلتراجع المصادر التالية :

بحار الأنوار ( الجزء 2 ) كتاب العلم ( باب 33 ) الأحاديث : 21 و 22 و 23 و 28. وبحار الأنوار ( الجزء 27 ) كتاب الإمامة ( الباب 3 ) الأحاديث : 1 و 4 و ...

ص: 241


1- كما مرّ عليك سابقاً.

ص: 242

الفصل الرابع: صفات الحاكم الإسلاميّ

اشارة

إنّ أهميّة ( القيادة والحكم ) في حياة الاُمّة وخطورتها البالغة وما يترتّب عليها من سعادة وشقاء ، تقتضي اعتبار سلسلة من الشروط والصفات في الحاكم ، والرئيس لولاها لانحرفت القيادة عن طريق الحقّ ، وانتهت بالاُمّة إلى أسوء مصير. ولقد فطن الإسلام إلى ذلك الأمر الخطير والناحية الحسّاسة ، فاشترط وجود صفات معينة في الحاكم والرئيس ... وقد فرض على الاُمّة الإسلاميّة مراعاة هذه الأوصاف والشروط عند انتخاب الحاكم ..

وها نحن نشير فيما يلي إلى بعض هذه الصفات ، مع الإشارة إلى شيء من أدلتها وفلسفتها على نحو الإجمال والاختصار :

1. الإيمان :

وهو الإعتقاد القلبيّ بالإسلام عقيدةً ونظاماً وخلقاً كما في القرآن الكريم والسنّة المطهرة ، ويدلّ على ذلك - مضافاً إلى أنّ الدين الإسلاميّ أفضل المبادئ وخير المناهج ، وأنّ العقيدة باللّه تعالى ، وبشرائعه من مبادئه الأوّليّة فلا يحقّ للكافر بها أن يسود المؤمنين ؛ بحكم العقل ؛ لأنّ ذلك يكون من قبيل تسويد من لا كفاءة له على صاحب

ص: 243

الكفاءة التامّة - قوله سبحانه : ( وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) ( النساء : 141 ).

وأيّ سبيل أقوى من الولاية والحكومة على المؤمنين.

* * *

2. حسن الولاية والقدرة على الإدارة :

إنّ صلاحية الشخص للحكم والإدارة منوطة بقدرته على القيام بلوازم الولاية وأعبائها ، فحسن الولاية والكفاءة الإدارية شرط أساسيّ لاحتلال مقام الحكومة والرئاسة ، إذ التأريخ البشريّ قديماً وحديثاً يشهد بأنّ تصديّ الحكّام غير القادرين على الإدارة وغير الأكّفاء للولاية جرّ على الشعوب والاُمم - وخاصّةً الإسلاميّة - أسوء المآسي ، وأشد الويلات.

إنّ بداهة هذا الشرط وأهميّة هذه الصفة واضحة لكلّ أحد بحيث لا نحتاج إلى إقامة دليل عليها ، فالقيادة توجب بذاتها هذا الشرط وتوفّر مثل هذه الصفة في الحاكم والرئيس حتّى إذا لم يقم على ذلك دليل من خارج.

وإلى أهمية هذه الصفة الحيوية في الحاكم يشير الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إذ يقول : « لا تصلُح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاثُ خصال :

1. ورع يحجزه عن معاصي اللّه.

2. وحلم يملكُ به غضبهُ.

3. وحسنُ الولاية على من يلي حتّى يكون كالوالد ( وفي رواية كالأب ) الرحيم » (1).

بل ويشترط الإسلام أن يكون الحاكم أكفأ من غيره على الإدارة ، وأقدر من غيره

ص: 244


1- الكافي 1 : 407.

على الولاية والقيادة.

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « أيّها الناسُ إنّ أحقَّ الناس بهذا الأمر أقومهم [ وفي رواية أقواهم ] وأعلمهم بأمر اللّه فإن شغب شاغب استُعتب وإن أبى قُوتل » (1).

إنّ أهم ما يشترط في الحاكم في نظر الإسلام هو حسن الولاية على من يلي اُمورهم ، والمقدرة الكافية على قيادتهم ، إذ بذلك يمكن للحاكم والرئيس أن يلمَّ شعث المسلمين ، ويجمع شملهم ، ويدفعهم إلى مدارج الكمال والتقدّم ، ويجعلهم في المقدّمة من الشعوب والاُمم ، وفي القّمة من الحضارة المدنيّة والازدهار ، وحسن الولاية ، هذا هو ما يسمّيه ويقصده السياسيّون اليوم بالنُضج العقليّ والرُشد السياسيّ.

3. التفوّق في الدراية السياسيّة :

على أنّ مجرّد المقدرة وحسن الولاية لا يكفي كما عرفت في منطق الإسلام بل يشترط أن يكون الحاكم الإسلاميّ متفوّقاً على غيره في الدراية السياسيّة فيكون أوسع من غيره في الاطّلاع على مصالح الاُمّة ، وأعرف من غيره باُمورها وحاجاتها ، لكي لايغلب في رأيه ، ولا يُخدع في إدارته ، ولكي يصل المجتمع الإسلاميّ إلى أفضل أنواع القيادة وأدراها ، وأكفأها.

من أجل ذلك يتعين على الحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة أن تبلغ رؤيته السياسيّة والاجتماعيّة درجةً يستطيع معها أن يقود الاُمّة سياسيّاً واجتماعيّاً ويدفع بهم في طريق التقدم جنباً إلى جنب مع الزمن.

وهذا يستلزم أن يكون الحاكم الأعلى للاُمّة مُلماً بالأوضاع السياسيّة وعارفاً بما يجري على الساحة الدوليّة من تطورات سياسيّة لكي يحفظ اُمّته من كلّ ما يمكن أن يتوجّه إليها من أخطار.

يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام في هذا الصدد : « العالمُ بزمانه لا

ص: 245


1- نهج البلاغة : الخطبة (172).

تهجمُ عليه اللوابسُ » (1).

فإنّ من يسوس الاُمّة ويقودها دون بصيرة بالأحوال والأوضاع المحيطة بها يجرّ إليها الويل والانحراف عن جادّة الحقّ كما قال الإمام جعفر الصادق علیه السلام : « العاملُ على غير بصيرة كالسَّائر على غير الطَّريق ، لا تزيده سرعة السير من الطريق إلاّ بُعداً » (2).

إنّ تسليم القيادة الجماعة إلى من لا يعرف شؤون السياسة والإدارة ، ولا يحسن الولاية والإمرة ، يكون كإعطائها إلى الصبيان وهو أمر معلوم العواقب ، واضح المخاطر كما يقول الإمام عليّ علیه السلام : « يأتي على الناس زمان لا يُقرّب فيه إلاّ الماحلُ ( أي الساعي في الناس بالوشاية ) ولا يُظرّف فيه إلاّ الفاجر ».

إلى أن قال علیه السلام : « فعند ذلك يكون السلطانُ بمشورة النساء ، وإمارة الصبيان » (3).

ومن المعلوم أنّ المراد من قوله علیه السلام من إمارة الصبيان هو الإشارة إلى تفويض الاُمور إلى من لا يتمتع بالرشُد السياسيّ ، والخبرة القياديّة ، والبصيرة الإداريّة ، وليس المراد من الصبيّ - في المقام - هو غير البالغ شرعاً وذلك بقرينة أنّ الإمام يتحدث عن زمن تضيع فيه المقاييس الصحيحة للسياسة والاجتماع ، فبدل أن تسلّم فيه القيادة إلى ذوي الفهم والفكر والكفاءة تُسلّم إلى من لا يملك ذلك.

إنّ تأكيد الإسلام على هذا الشرط - بهذه الدرجة الكبيرة من التأكيد - إنّما هو لصيانة الاُمّة الإسلاميّة من التورّط في المشاكل بسبب ضعف القادة والحكام في السياسة أو غفلتهم عن مقتضيات عصرهم ، وجهلهم بمتطلبات زمانهم وضروراته ، فبسبب هذا الضعف والجهل والغفلة يمكن أن تقع الاُمّة الإسلاميّة فريسةً للمؤامرات الأجنبيّة الشرسة ، وتغدو آلةً طيّعةً بأيدي الأعداء ، لتنفيذ أغراضهم ، وتحقيق مقاصدهم ، وهو أعظم ما تصاب به الاُمم والشعوب في حياتها وتاريخها.

ص: 246


1- (1 و 2) الكافي 1 : 1. 43.
2- (1 و 2) الكافي 1 : 1. 43.
3- نهج البلاغة : الحكم رقم (102).

4. العدالة :

إنّ أهمّ ما يجب أنّ يتحلّى به الحاكم الإسلاميّ والرئيس الأعلى للحكومة الإسلاميّة - بعد حسن الولاية - هو أن يكون متصفاً بالعدالة ، بعيداً عن المعاصي والذنوب فأيّ حاكم يمكن أن يؤتمن على مصير الاُمّة ، ومقدّراتها ويكون ملتزماً بالدين ، ومخلصاً لواجباته ووفيّاً لمصالح الاُمّة ، ما لم يتصف بالعدالة التي هي حالة نفسانيّة تمنعه من ارتكاب الذنوب ، وتردعه عن اقتراف المعاصي ، التي منها الخيانة ، والكذب ، والتضليل ، والغلول.

ولعلّ أوضح ما يدلّ على لزوم وجود مثل هذه الصفة في الحاكم ، وحثّ الناس على اعتبارها وملاحظتها فيه عند اختياره وانتخابه هو قوله تعالى : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ) ( هود : 113 ).

وأيّ ركون إلى الظلم أعظم من تسليط الحاكم الفاسق ، والقبول بولايته ، والانصياع لأوامره وتسليم مقدرات الاُمّة إليه ؟

وقال سبحانه : ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف : 28 ).

وفي آية أُخرى يعتبر طاعة الأسياد الفاسدين الفاسقين موجباً للضلال وينقل عن لسان المضلَّلين بهم وقولهم : ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ) ( الأحزاب : 67 ).

وأنت إذا لاحظت الآيات الواردة حول الإطاعة تجد أنّ إطاعة الفاسق أمر محرّم بنص الكتاب فراجع الآيات الواردة بهذا الصدد.

وفي هذا المجال قال الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله : « لا تصلُح الإمامةُ إلاّ لرجل فيه ثلاثُ خصال : ورع يحجزه عن محارم اللّه ... » (1).

ص: 247


1- الكافي 1 : 407.

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدِّماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين :

1. البخيل ، فتكون في أموالهم نهمتهُ

2. ولا الجاهل ، فيُضلَّهم بجهله

3. ولا الجافي ، فيقطعهم بجفائه

4. ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم

5. ولا المُرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ( أي الحدود التي عيّنها اللّه لها ).

6. ولا المُعطّل للسّنّة فيهلك الاُمّة » (1).

وقال علیه السلام أيضاً : « من نصب نفسه للنَّاس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره ، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ، ومعلّم نفسه ومؤدبها أحقّ بالإجلال من معلّم النَّاس ومؤدّبهم » (2).

قال الإمام عليّ علیه السلام : « لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلاّ بإمام عدل » (3).

وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « يوم واحد من سطان عادل خير من مطر أربعين يوماً ، وحدّ يقام في الأرض أزكى من عبادة سنة » (4).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « وعدل السلطان خير من خصب الزَّمان »(5).

وقال الإمام الحسين بن عليّ علیه السلام : « فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين اللّه ، الحابس نفسه على ذات اللّه » (6).

ص: 248


1- نهج البلاغة : الخطبة (127) شرح عبده.
2- نهج البلاغة : الحكم الرقم (73).
3- الكافي 1 : 314.
4- المستدرك 3 : 216.
5- البحار 78 : 10.
6- روضة الواعظين : 206 ، الإرشاد للمفيد : 210.

وقال علیه السلام أيضاً : « إنّما الخليفةُ من سار بكتاب اللّه وسُنّة نبيّه » (1).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « ايّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحد هؤلاء الفُسّاق »(2).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « اتقوا اللّه وأطيعوا إمامكم فإنَّ الرَّعيَّة الصَّالحة تنجو بالإمام العادل ، ألا وإنَّ الرَّعيَّة الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر » (3).

وقال الإمام الكاظم علیه السلام : « طاعة ولاة العدل تمام العزِّ » (4).

وكتب الإمام عليّ علیه السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني عامله على أرديشرخرة : « أمَّا بعد فإنَّ من أعظم الخيانة خيانة الاُمّة ، وأعظم الغشِّ على أهل المصر غشّ الإمام » (5).

وقال علیه السلام أيضاً : « اتقوا الحكومة إنَّما هي للإمام العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين كنبيّ أو وصيِّ نبيّ » (6).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « إيّاكُم أن يُحاكم بعضُكُم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلمُ شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلتُهُ قاضياً فتحاكموا إليه » (7).

وعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « أحبّ النَّاس إلى اللّه يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل وأبغضُ الناس إلى اللّه ، وأبعدهم منهُ مجلساً إمام جائر » (8).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « إنّ المقسطين عند اللّه على منابر من نور عن يمين الرَّحمن وكلتا يديه

ص: 249


1- شرح ابن أبي الحديد 6 : 49.
2- التهذيب 6 : 303.
3- البحار 8 : 482.
4- تحف العقول : 282.
5- البحار 8 : 618.
6- وسائل الشيعة ( كتاب القضاء ) 18 : الباب 3 الطبعة الجديدة نقلاً عن الكافي 7 : 406.
7- الوسائل 18 : أبواب صفات القاضي الباب (1).
8- جامع الاُصول 4 : 55 أخرجه الترمذيّ.

يمين ، الَّذين يعدلون في حُكمهم وأهلهم وما ولوا » (1).

إنّ الحديث الأخير وإن كان حول القضاء والفصل بين الخصومات إلاّ أنّ اعتبار هذه الصفة في مقام القيادة والزعامة العليا يكون أقوى بدليل الأولويّة ، لأنّ مقام الرئاسة العليا والقيادة أكثر خطورةً وأهميّةً من مقام القضاء ، ومسؤوليّة الفصل بين الخصومات ولذلك فهو أكثر حاجة إلى اعتبار وصف العدالة.

أضف إلى ذلك ، أنّ من كان يتصدّى للقضاء - في تلك العهود - كان نفسه يشغل مقام الحكم والإدارة أيضاً ..

ثمّ إذا كان وصف العدالة مشترطاً في إمام الجماعة الذي يؤم جماعةً من المصلّين وهو عمل محدود ومؤقت ، كما نعلم ، فمن الأولى أن يكون مشترطاً في الحاكم الإسلاميّ للاُمّة المتربّع علس مسند القيادة العامّة والآخذ بمقدرات الاُمّة ، والمتصرف في عامّة شؤونها ، والمدبّر لاُمورها في شتى المجالات الحيويّة في خضمِّ الحياة السياسيّة.

* * *

5. الرجولة :

إذا كان الإسلام يشترط أن يكون الوالي والحاكم والقاضي رجلاً فليس لأجل أنّه يريد الحطّ من كرامة المرأة والتقليل من شأوها وشأنها ، أو احتقارها ، إنّما يقوم بهذا العمل مراعاةً للظروف والنواحي الطبيعيّة في المرأة والخصائص التكوينيّة التي تقتضي مثل هذا التفاوت في موضوع الرئاسة العليا ، كما أنّ مبدأ توزيع المسؤوليات الاجتماعيّة وتقسيم الوظائف حسب الإمكانيات يقتضي من جانب آخر إيكال كلّ مسؤوليّة ووظيفة إلى من يمكنه - بحكم طبيعته - القيام بها ، وأدائها.

وحيث إنّ ( المرأة ) انسانة عاطفية أكثر من الرجل ، لذلك ، فهي قد اعفيت في - منطق الإسلام - من المسؤوليّات الشاقة والواجبات الثقيلة ، وأوكل كلّ ذلك إلى

ص: 250


1- جامع الاُصول 4 : 53 أخرجه مسلم.

( العنصر الرجاليّ ) باعتباره قادراً - بحكم خلقته وصلابة تكوينه - على القيام بالأعمال الخشنة والمهمّات الثقيلة العبء ، ولذلك أُنيطت إليه الرئاسة العليا للاُمّة والبلاد لكونها أثقل المسؤوليّات الاجتماعيّة وأشدّها وطأةً ... فيما حظر على المرأة التصدي لها ... وتحمّلها.

فكما أنّ الرجل لا يصلح للاُمور المحتاجة إلى مزيد من العاطفة كالاُمومة والتربية ، فكذلك لا تصلح المرأة للاُمور التي تحتاج إلى مزيد من الصلابة كالقيادة والزعامة.

وهذا أمر أثبتته التجارب ... فقد دلّت على عدم استعداد المرأة لخوض هذا الميدان بنفسها.

إنّ ( المرأة ) حسب نظر القرآن الكريم إنسانة ظريفةُ الإحساس ، لطيفةُ المشاعر ولذلك ، فهي تتناسب حسب حكاية القرآن عنها - مع الزينة والحليّ ، لا مع النواحي الخشنة من الحياة البشريّة ، فليس للمرأة في مقام الجدل والمناقشة منطق قويّ ، وموقف صلب ، لأنّها بحكم طبيعتها ومشاعرها العاطفيّة الطاغية ، ميّالة إلى الزينة ميالة إلى العيش فيها إذ يقول : ( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) ( الزخرف : 18 ).

فالآية تستنكر على المشركين جعلهم البنات لله واختيارهم الذكور ..

يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان : ( قوله تعالى : ( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) ، أي ؛ وجعلوا لله سبحانه من ينشأ في الحلية ، أي يتربى في الزينة ، وهو في المخاصمة والمحاجّة غير مبين لحجّته ، لا يقدر على تقدير دعواه.

وإنّما ذكر هذان الوصفان لأنّ المرأة بالطبع أقوى عاطفةً ، وشفقةً ، وأضعف تعقّلاً بالقياس إلى الرجل ، وهو بالعكس ، ومن أوضح مظاهر قوّة عواطفها ؛ تعلّقها الشديد بالحلية والزينة وضعفها في تقرير الحجّة المبنيّ على قوّة التعقّل ) (1).

إنّ الأدلّة الإسلاميّة ( سنّةً وسيرةً وإجماعاً ) تقتضي بأنّ المرأة لا يجوز لها أن تتصدّى

ص: 251


1- الميزان 18 : 93.

لفصل الخصومات والقضاء وهو شعبة صغيرة من شُعب الإمارة ، وما ذلك إلاّ لعدم قدرتها على الاستقامة والثَّبات أمام المؤثّرات القويّة التي تعترض القضاة غالباً ، وعجزها عن التزام جانب الحقّ بعيداً عن العاطفة ، والتأثير العاطفيّ. فعن عليّ بن أبي طالب علیه السلام عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « يا عليّ ... ليس على النساء ... ولا تولي القضاء » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام في وصية لابنه الحسن علیه السلام كتبها له بحاضرين : « ولا تملكُ المرأةُ ما جاوز نفسها فإنَّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة » (2).

ومن المعلوم ؛ أنّ القضاء هو أحد الاُمور الخارجة عن شؤونها ... الخارجة عن حيطة قدرتها ..

وأمّا السيرة العمليّة فلم يعهد من النبيّ صلی اللّه علیه و آله طيلة حياته أن أعطى امرأة منصب القضاء ، ونصب منهنّ قاضيةً تفصل بين الخصومات (3).

رغم وجود طائفة من النساء ذوات علوم ومحاسن أخلاق.

بل لم يفعل ذلك حتّى الأمويّون والعباسيّون الذين ولُوا أمر الاُمّة الإسلاميّة أكثر من خمسمائة سنة رغم أنّهم ولّوا كثيراً من عبيدهم وغلمانهم وقلّدوهم المناصب الرفيعة (4).

وأمّا إجماع العلماء فهو أوضح من أن يخفى على أحد ، فقد أجمع علماء الإماميّة كلّهم على عدم انعقاد القضاء للمرأة وإن استكملت جميع الشرائط الاُخرى ، ووافقهم على ذلك طائفة من علماء الطوائف الإسلاميّة الاُخرى كالشافعي (5).

قال ابن قُدامة في المغني : ( إنّ المرأة ... لا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ، ولهذا لم يولّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأةً قضاءاً ولا ولاية

ص: 252


1- وسائل الشيعة 18 : 6 ( كتاب القضاء ).
2- نهج البلاغة : الرسائل الرقم (31).
3- تفسير الميزان 5 : 347.
4- راجع كتاب : رسالة بديعة في تفسير آية ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) من الصفحة 70 - 76 وهي رسالة مفصّلة في حكم تصدّي المرأة للقضاء والحكومة من نظر الكتاب والسنّة.
5- راجع كتاب : رسالة بديعة في تفسير آية ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) من الصفحة 70 - 76 وهي رسالة مفصّلة في حكم تصدّي المرأة للقضاء والحكومة من نظر الكتاب والسنّة.

بلد فيما بلغنا ، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً ) (1).

وقال الشيخ الطوسيّ في « الخلاف » : لا يجوز أن تكون امرأة قاضيةً في شيء من الأحكام وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يجوز أن تكون قاضيةً في كلّ ما يجوز أن تكون شاهدةً فيه ، وهو جميع الأحكام إلاّ الحدود والقصاص ، وقال ابن جرير : يجوز أن تكون قاضيةً في كلّ ما يجوز أن يكون الرجل قاضياً فيه ، لأنّها تُعدّ من أهل الاجتهاد.

ثمّ استدل على المنع بقوله : إنّ جواز ذلك يحتاج إلى دليل لأنّ القضاء حكم شرعيّ ، فمن يصلح له يحتاج إلى دليل شرعيّ وروي عن النبيّ أنّه قال : « لا يفلح قوم وليتهم امرأة » (2).

فإذا كان تولّي القضاء محظوراً على المرأة وهو ليس إلاّ شعبةً محدودةً من شعب الزعامة والولاية ، كان حظر تولّي الرئاسة العليا للبلاد والتي يأخذ الرئيس والحاكم الأعلى بموجبها بمقادير الاُمّة ؛ بطريق أولى.

وقد دلّت على حظر تولّي الولاية والحكم على المرأة أحاديث كثيرة منها :

عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنه قال : « لا يفلح قوم وليتهم امرأة » (3).

ورواه الترمذيّ بنحو آخر هو : « لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة » (4).

كما رواه ابن حزم بكيفيّة أُخرى هي : « لا يُفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة » (5).

وذكره ابن الأثير في النهاية « ما أفلح قوم قيّمهم امراة » (6).

ص: 253


1- المغني لابن قدامة 10 : 127.
2- الخلاف ( كتاب آداب القضاء ) 2 : 230 المسألة (6).
3- الخلاف ( كتاب آداب القضاء ) 2 : 230 المسألة (6).
4- أخرجه الترمذيّ كما في جامع الاُصول 4 : 49 والنسائيّ أيضاً في سُننه : 8 ( كتاب آداب القضاء ).
5- الملل والأهواء 4 : 66 ، 67 ، ورواه في كنز العمال 6 : 11 وأسنده إلى البخاريّ وابن ماجة وأحمد بن حنبل ، وفي لفظهم ( لن يُفلح ) بدل ( لا يُفلحُ ).
6- النهاية 4 : 135.

وفي المستند : « لا يصلُح قوم وليتُهُم امرأة » (1).

وعن أبي هريرة عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إذا كان أُمراؤُكُم شراركُم ، وأغنياؤكم بخلاءكم ، واُموركم إلى نسائكم ، فبطن الأرض خير لكم من ظهورها » (2).

وهذا وقد جمع الإمام الباقر محمّد بن عليّ علیه السلام الحظر عن الأمرين ( القضاء والحكومة ) في حديث واحد إذ قال : « ليس على النساء أذان ولا إقامة ».

إلى أن قال : « ولا تولَّى المرأة القضاء ولا تولَّى الإمارة » (3).

إلى غيرها من الأحاديث والروايات المتضافرة مضافاً إلى السيرة العمليّة. بل وروح الشريعة الإسلاميّة المتمثّلة في الحفاظ على شرف المرأة وكرامتها ومكانتها الحقيقية الطبيعيّة ، ومضافاً إلى سعي الشريعة الإسلاميّة للحفاظ على الأخلاق الاجتماعيّة وسلامة أمر الاُمّة بإشاعة جوّ التقوى ؛ وذلك يستلزم بأن تُصان المرأة من الظهور على المسرح السياسيّ في أعلى مستوياته لما في ذلك من أخطار لا تخفى.

ولابدّ في الأخير من الإشارة إلى أمرين هامّين :

الأوّل : أنّ عدم السماح للمرأة بتولّي القضاء والولاية ليس بخساً لحقّها ، أو حطّها من كرامتها أو حرماناً لها من حقّها ، بل رفع لمسؤوليّة ثقيلة جداً عن كاهلها ، ووضعها في الموضع الصحيح لها في تركيبة الحياة الاجتماعيّة المستقيمة السويّة ، وفي الحقيقة إيكال ما هو مناسب لها إليها ، ممّا يكون متناسباً مع تركيبتها العاطفيّة الرقيقة ألا وهو تربية الأولاد وتثقيفهم ، وتعليمهم مالهم وما عليهم من الشؤون والوظائف الاجتماعيّة ، كما لها أن تقوم بما هو دون الولاية من قبيل التصدّي للتعليم والتمريض والخياطة والطبابة وما سواها من الشؤون والأعمال الاجتماعيّة.

يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان : ( وأمّا غيرها ( أي الولاية والقيادة ) من

ص: 254


1- المستند 2 ( كتاب القضاء ) : 519.
2- الترمذيّ في سننه 4 ( كتاب الفتن ) : 529 و 530.
3- الخصال2 : 373 ، البحار 103 : 254 ، الحديث 1.

الجهات كجهات التعلّم والتعليم والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها ممّا لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهنّ السنّة ، والسيرة النبويّة تُمضي كثيراً منها ، والكتاب أيضاً لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقّهنّ ، فإنّ ذلك لازم ما أُعطين من الحريّة والإرادة والعمل في كثير من شؤون الحياة ) (1).

ثمّ في الجوّ الإسلاميّ الذي يوجده الإسلام بتعاليمه ونظامه يتّخذ أعمال المسلم والمسلمة صفة العبادة الشرعيّة ويتحلّى بقداسة لا يماثلها شيء في غير المجتمع الإسلاميّ. ولذلك فإنّ ما أُعطيت المرأة من المسؤوليّة تتّخذ صفة العبادة والقداسة ، وهذا يعني أنّ الإسلام أبدل عملاً بعمل آخر مع الاحتفاظ بالقيمة الشرعيّة ... فإذا أسقط عن المرأة الجهاد مثلاً ، جعل حسن تبعّلها جهاداً كالجهاد في سوح الحرب. فلا فضل لعمل على عمل مادام الهدف واحداً هو تحقيق أمر اللّه وإرادته وإطاعته فيما أراد.

وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان : ( انّ الإسلام لم يهمل أمر هذه الحرمات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل اللّه دون أن يكون قد تداركها ، وجبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا وفضائل فيها مفاخر حقيقية ، كما أنّه جعل حسن التبعّل مثلاً جهاداً للمرأة (2) وهذه الاُمور التي هي مفاخر في نظر الإسلام أوشكت أن لا يكون لها عندنا - في ظرفنا الفاسد - قدر ، لكن الظرف الإسلاميّ الذي يقوّم الاُمور بقيمها الحقيقية ، ويتنافس فيه في الفضائل الإنسانيّة المرضية عند اللّه سبحانه ، وهو يقدّرها حقّ قدرها ، يقدّر لسلوك كلّ إنسان مسلكه الذي ندبه إليه ، وللزومه الطريق الذي خطّ له ؛ من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانيّة ، وتتوازن أعمالها فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال والسماحة بدماء المهج - على ما فيه من الفضل - ، على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجيّة وكذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيويّ ، ولا لقاض يتكئ على مسند القضاء وهما منصبان ليس للمتقلِّد

ص: 255


1- تفسير الميزان 5 : 347.
2- لاحظ نهج البلاغة : الحكم (136) قال الإمام عليّ : « وجهاد المرأة حسن التَّبعّل ».

- بهما في الدنيا - لو عمل فيما عمل ، بالحقّ وجرى فيما جرى على الحقّ - إلاّ تحمّل أثقال الولاية والقضاء ، والتعرّض لمهالك ومخاطر تهدّدهما حيناً بعد حين في حقوق من لا حامي له إلاّ ربّ العالمين ... فأيّ فخر لهؤلاء على من منعه الدين من الورود موردهما ، وخطّ له خطّاً آخر ، وأشار إليه بلزومه وسلوكه ...

وخلاصة القول : أنّه ليس من المستبعد أن يُعظِّم الإسلام اُموراً نستحقرها ، أو يُحقّر اُموراً نستعظمها ونتنافس فيها ... ) (1).

* * *

الثاني : انّنا لا ننكر وجود نساء معدودات تمتَّعن بالقدرة على الإمرة ، وتحلَّين بالمنطق القويّ ، والفكر المتفوّق ... إلاّ أنّ وجود هؤلاء النسوة المعدودات لا يدلّ على قدرة العنصر النسويّ بعمومه على الإدارة والولاية ، والتحلّي بهذه الخصيصة ... وهل يمكن خرق القاعدة العامّة لعدة موارد شاذّة ؟ ونحن نعلم أنّ المقنّين يراعون عند وضع القوانين ، الأكثريّة الساحقة ، فهي الملاك في الخطابات القانونية ... وهي الملاك أيضاً في الخطابات الشرعيّة ... لا الأقليّة النادرة ... والأفراد المعدودون.

* * *

6. العلم بالقانون اجتهاداً أو تقليداً :

لمّا كانت الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون الإلهيّ على الناس لزم أن يكون الحاكم المجري له في مجالات الحكم والإدارة عالماً به ، وإلاّ عادت حكومةً استبداديّةً ينبع القانون فيها من إرادة الحاكم وهواه. وفي هذا المجال يقول الإمام الخمينيّ :

( بما أنّ الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون كان لزاماً على حاكم المسلمين أن يكون عالماً بالقانون - كما ورد في الحديث - وكلّ من يشغل منصباً أو يقوم بوظيفة معينة فإنّه يجب عليه أن يعلم في حدود اختصاصه وبمقدار حاجته ). إلى أن قال : ( انّ الحاكم

ص: 256


1- تفسير الميزان 5 : 351 - 352.

ينبغي أن يتحلّى بالعلم بالقانون وعنده ملكة العدالة مع سلامة الاعتقاد وحسن الأخلاق وهذا ما يقتضيه العقل السليم ، خاصّة ونحن نعرف أنّ الحكومة الإسلاميّة تجسيد عمليّ للقانون وليست ركوب هوى فالجاهل بالقوانين لا أهليّة فيه للحكم ) (1).

ثمّ على القول بأنّ الولاية - عند عدم التمكن من الإمام المعصوم - من شؤون الفقيه العدل ، يلزم أنّ يكون الحاكم هو الفقيه ، بيد أنّه لا يلزم أن يتصدّى الفقيه بنفسه إدارة البلاد ، بل يمكن له أن يُوكل شخصاً آخر - ترتضيه الاُمّة وتختاره - ويكون عارفاً بالقانون عن طريق الاجتهاد ، وتجتمع فيه سائر الصفات والمؤهّلات.

ولأجل ذلك قلنا : اجتهاداً أو تقليداً ويدلّ على ذلك مضافاً إلى ما عرفت قول الإمام الحسين بن عليّ علیه السلام : « مجاري الاُمور والأحكام على أيدي العلماء باللّه والامناء على حلاله وحرامه » (2).

وقوله علیه السلام : « واللّه ما الإمام إلاّ القائم بالقسط ، الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات اللّه » (3).

ومن المعلوم أنّ القيام بالقسط والحكم على طبق الكتاب لا ينفكّ عن العلم بالقانون الإسلاميّ اجتهاداً ، أو تقليداً.

* * *

7. الحريّة :

يختلف نظام الرقِّ في الإسلام عمّا هو عليه في سائر الأنظمة البشريّة ، فإنّ النظم البشريّة ترى جواز استعباد الانسان واسترقاقه لأخيه الإنسان بحجّة أنّه أقلّ ثقافةً أو لأنّه يعيش في بلد متأخّر ، أو لأنّه يجري في عروقه دم وضيع ، أو لأنّه لا ينتمي إلى حزب !!

غير أنّ الإسلام الذي حرّم على الناس التفاضل بهذه الخرافات ، انقذهم من سيادة بعضهم على بعض بتلك الحجج الواهية السخيفة ، ولم يجز لأحد أن يسلب حريّة

ص: 257


1- الحكومة الإسلاميّة : 45 - 46.
2- تحف العقول : 172 ( طبعة بيروت ).
3- روضة الواعظين : 206.

غيره لتلك الحجج والمعاذير فقال القرآن الكريم : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ) ( آل عمران : 64 ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « بعث اللّه محمّداً صلی اللّه علیه و آله ليُخرج عبادهُ من عبادة عباده إلى عبادته ومن عهود عباده إلى عُهوده ، ومن طاعة عباده إلى طاعته ، ومن ولاية عباده إلى ولايته » (1).

وقال علیه السلام أيضاً : « ولا تكُن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حُراً » (2).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « أيّها الناسُ إنّ آدم لم يلد سيّداً ولا أمة. وإنّ الناس كلهم أحرار ولكنَّ اللّه خوّل بعضكم بعضاً » (3).

وقد وجّه الإسلام دعوته الشاملة إلى كلّ اُمم الأرض ، ودعاها إلى التحرّر من العبوديات الباطلة والانضواء تحت لواء واحد هو لواء الإسلام لله تعالى والتسليم لأوامره في جوّ من المساواة الكاملة والوحدة الشاملة يوم لم يسمع العالم عن الاُمميّة الحديثة شيئاً.

منذ ذلك اليوم دعا الإسلام إلى صيانة الحريّات الطبيعيّة المعقولة ، وحارب بشدة من يحاول إغفالها وتجاهلها.

إنّ تحرير الإنسان من وطأة استعباد الآخرين له ممّا جوز القرآن أن تراق من أجله الدماء إذ قال سبحانه : ( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ) ( النساء : 75 ).

ولذلك فإنّ الإسلام لا يُقرّ بالرقّيّة والاسترقاق الذي تقول به الأنظمة البشريّة ، نعم ؛ للإسلام نظام للرقّ بشكل آخر ، وهو موقف يتخذه الإسلام الحنيف كعمل اضطراري لمعالجة حالة شاذّة.

ص: 258


1- الوافي 3 ج 142 : 22.
2- نهج البلاغة : الرسائل ( الرسالة 31 ).
3- روضة الكافي : 69.

فإنّ أعداء الإسلام وأعداء الحريّة إذا هاجموا المسلمين وعرّضوا حياتهم للخطر كان جزاء المعتدين أن يُقتلوا أينما ثُقفوا ما لم تضع الحرب أوزارها (1) ، فإذا وضعت الحرب أوزارها استؤسروا ثمّ وضعوا تحت ولاية حكيمة تعلمهم ما هو جزاء المعتدين على حقوق الآخرين وحرياتهم وتعطي لهم ولأمثالهم درساً عملياً تُفهمهم أنّ الذي يريد أن يستعبد الناس فهو يستعبد جزاءً وفاقاً ، وستظل هذه الولاية ريثما ينشأ نشأةً أُخرى يفهم في ضوئها قيمة الحريّة المخوّلة إليه ، والسبيل الذي يجب أن تصرف فيه فإذا عرف ذلك ردّت إليه حريته ، ويعيش معه في راحة وأمان ... قال اللّه سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) ( النور : 33 ).

وهذه الآية تفيد ؛ أنّ تعريض العبد للحريّة والخروج من حالة الرقيّة أمر مرغوب فيه في الإسلام بشرط أن يُعلم منه الخير ، ولا يكون تحريره مضرّاً بالإسلام والمسلمين.

وبهذا تظهر العلّة في عدم سماح الإسلام للعبيد بأن يتصدّروا مسند القيادة ويسلّم إليهم المجتمع الإسلاميّ زمام إدارتهم وحكومتهم.

فإنّ الذي استُرقّ لسوء ماضيه ولإرادته العدوان على نفوس المسلمين وحرياتهم وأموالهم وأعراضهم ، لا يجوز أن يعطى إليه زمام قيادتهم إذ لا يؤمن على أموال المسلمين وحريّاتهم ونفوسهم وأعراضهم ، وهو الذي سبق له الاعتداء عليها.

وخلاصة القول : نعلم من هذا الموقف الإسلاميّ اتّجاه العبد ؛ بأنّ الإسلام إنّما سلب عنهم الصلاحيّة للقيادة لأنّهم كانوا من الذين يريدون أن يسلبوا حريّة الناس ، فلا يمكن لمن يحمل هذه النزعة الخطيرة ، ولو في أمد من الزمان - أن سيود على المسلمين ، ويُسلَّط على شؤونهم.

* * *

هذا مضافاً إلى أنّ حرمان العبد من الارتفاع إلى مستوى القيادة نوع من النكال

ص: 259


1- سيأتي مفصّل القول في هذا المجال عند البحث عن أحكام الجهاد.

والتبكيت للعبد ، ولكلّ من يريد ما أراد من العدوان والتجاوز على حرمة المسلمين وبلادهم.

ثمّ كيف يصلح العبد للولاية وهو بدوره مولّىً عليه ... فهل يجوز أن يرفع إلى مستوى قيادة الأحرار ؟

يبقى أن يعرف القارئ الكريم أنّ الإسلام كما قلنا لم يعمد الاسترقاق إلاّ للضرورة ؛ إذ لم يكن أمام الإسلام اتّجاه المعتدين بعد السيطرة عليهم إلاّ خمس خيارات :

1. أن يقتلهم جميعاً ويسفك دمائهم عن آخرهم وهي قسوة تتنافى مع روح الإسلام الرحيمة المحبّة للسلام.

2. أن يسجنهم جميعاً وذلك يكلف الدولة تكاليف باهضةً وميزانيةً ضخمةً مضافاً إلى أنّ السجن ممّا يعقّد السجين ، ويزيده اندفاعاً في الشرور والفساد.

3. أن يتركهم ليعودوا إلى بلادهم سالمين ، وهذا رجوع إلى المؤامرة والاحتشاد والعدوان مرّة اُخرى.

4. أن يتركهم ليسرحوا في بلاد الإسلام وهذا يعني تعريضهم لسفك دمائهم على أيدي المسلمين ، انتقاماً منهم.

ولمّا لم يكن اختيار شيء من هذه الطرق اختياراً عقلائيّاً ... يبقى أمام الإسلام طريق خامس وهو :

5. استرقاقهم ، بمعنى جعلهم تحت ولاية المسلمين ليراقبوا بشدة تصرفاتهم ، وليتسنّى لهم من خلال العيش في ظل الحياة الإسلاميّة أن يقفوا على تعاليم الدين وينشأوا نشأةً إسلاميّةً ويكون الإسلام بهذا قد حافظ على حياتهم ، ومنع من سفك دمهم ، لأنّ مالكهم سوف يحرص عليهم أشدّ الحرص ويحافظ على حياتهم أشد المحافظة بخلاف من لا يملكهم ، ولا يرجوا منهم نفعاً.

ص: 260

إنّ الإسلام طلب من تشريع هذا النظام منع المزيد من إراقة دماء المعتدين الغزاة بعد السيطرة عليهم ، ولأنّ توزيعهم على المسلمين وجعلهم تحت ولايتهم أقرب إلى إمكانهم من تلقّي التربية الإسلاميّة وتوفير ظروف التهذيب والتعليم الدينيّ لهم.

* * *

8. طهارة المولد

والمقصود من هذا الشرط هو أن يكون ذا ولادة طيّبة ، فلا يحق لغيره أن يتصدّى لقيادة الاُمّة الإسلاميّة أو يُرشح لها من قبل الآخرين. وللدين في هذا الشرط عدة أهداف ؛ منها أن يسدّ سبيل الزنا والبغاء بأن يعرف الزاني بأنّه سيتحمّل ضياعاً أبدياً يورثه أولاده ، وأفلاذ أكباده ، فلعلّه يرتدع عن هذه المعصية الكبيرة ، هذا مضافاً إلى أنّ الدين يستقبح الزنا ويكرهه فلو جوز ارتفاع ( نتاج ) الزنا إلى مستوى القيادة ، فلازم ذلك استهانة الاُمّة باُحدى حسنيين : إمّا بالأخلاق الإسلاميّة التي أبرزها تجنّب الزنا ، أو بطاعة الرئيس ، إذ من الواضح أنّ الرئيس الواطئ في نظر الناس لن يحظى باحترامهم ، وطاعتهم كالذي يحظى به الرئيس الشريف.

إنّ وليد الزنا تنعقد نطفته في حالة عاصفة من الشهوات الرخيصة ، فتنعكس آثارها السيّئة على نفسيّته وفقاً لسُنّة التأثير ، فيتولّد ابن الزنا بنفسيّة ميالة إلى الشهوات صارخة الأهواء ، وحالة من الانفلات الخلقي التي تنمو معه نمواً خطيراً فيصبح مُلتاث الضمير ، محجوب العقل لا يوقفه دون شهوته ضمير أو عقل أو دين.

وبعبارة اُخرى : إنّ وليد الزنا تنعقد نطفته في حال يحسّ والده أو اُمّه أو كلاهما بأنّهما ينقضان القانون ، ويكسران عهداً من عهود اللّه ، وهو احساس ينتقل عن طريق النطفة إلى الوليد طبقاً لقانون التوارث الطبيعيّ ، فيخرج الطفل المولود من الزنا حاملاً لفكرة نقض العهد واختراق القانون ... أو يكون أقرب من غيره إلى هذه الحالة على الأقلّ ... وإلى هذا أشار حديث منقول عن الإمام الحسن بن عليّ المجتبى في هذا الصدد : « إنَّ الرجل إذا أتى أهلهُ بقلب ساكن وعروق هادئة وبدن غير

ص: 261

مُضطرب استكنت تلك النطفة في الرَّحم فخرج الرَّجل يشبهُ أباه واُمَّهُ » (1).

وهذا الحديث يشير إلى أنّ صفات الوالد أو الاُم تنتقل إلى الطفل بصورة قهريّة وراثيّة إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرّ.

فكيف لا تنعكس الحالة النفسيّة المضطربة للزاني والزانية في الطفل ولا تورث في خلقته اعوجاجاً - ولو قليلاً - يؤهّله للانحراف الأشدّ.

وكيف يمكن أعطاء زمام الحكم والقيادة وهو أعظم مقام وأخطر منصب في حياة الاُمّة الإسلاميّة بيده وهو لا يؤمن عليه من الانحراف والشذوذ.

ولهذا يقول الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام عن ولد الزنا : « إنّه يحنّ إلى الحرام والاستخفاف بالدين وسوء المحضر » (2).

وهو أمر تثبته التحقيقات الاجتماعيّة ، والوقائع العلميّة.

فإذا كان هذا هو شأن ولد الزنا لم يصلح إذن للقيادة ولم يكن فيه خير كما قال الإمام محمّد بن عليّ الباقر علیه السلام : « لا خير في ولد الزنا ولا في بشرته ولا في شعره ولا في لحمه ، ولا في دمه ولا في شيء منه » (3).

وربمّا يحتمل في الحاكم الإسلاميّ شرائط ومؤهّلات اُخرى لم نجد لها دليلاً

ص: 262


1- بحار الأنوار 14 : 379 ( الطبعة القديمة ).
2- سفينة البحار : 560.
3- إنّ ما ذكرناه من حالة ولد الزنا إنّما هو من باب وجود الاستعداد الأكثر ، والأرضيّة المناسبة للانحراف والشذوذ وبالتالي بيان وجود المقتضي للفساد في الطفل المولود من الزنا ، ولذلك لو شبَّ وكبر كان بإمكانه كأيّ إنسان آخر مختار ، أن يحرز نفسه من آثار هذه الحالة ، ويطهّرها من الشوائب العالقة بطبيعته ، فلا يوجب ما ذكرنا فيه من الحالة الناشئة من الزنا جبراً ... وتفصيل البحث موكول إلى محلّه ، وبالتالي إنّ المتولّد من الزنا كالمتولّد من الأبوين المسلولين يكون أكثر استعداداً وقابليةً من غيره للتعرّض إلى السل ولكنّه في إمكانه أن يراجع الطبيب ويقوم بإعمال وقائيّة تمنع من نمو ذلك الاستعداد ، وتمنعه من الابتلاء بداء والديه. وبعبارة أخری: إنّ خبث الولادة بمنزلة المقتضي لانحراف الطفل أيام شبابه وكبره وليست علّة تامّة له.

فأكتفينا بما ذكرناه لك.

أمّا العقل والبلوغ ، فلم نذكرهما بصورة مستقلة لدخولهما تحت العناوين والصفات السابقة قهراً ، كما هما من الاُمور التي لا يختلف فيهما اثنان.

ثم إنّ النصوص الإسلاميّة دلّت على أنّ الحاكم الإسلاميّ يجب أنّ يكون متحلّياً بالأخلاق الإنسانيّة العالية مضافاً إلى توفّر الصفات المذكورة سابقاً فيه ، فلا يكون مثلاً حريصاً على الملك متعطشاً إلى الرئاسة ، لأنّ ذلك يدلّ في الأغلب على رغبة في الاستئثار والتسلّط الذي - يسوّغ للحاكم - بدوره - أن يفعل كلّ شيء لتثبيت سلطته وتبرير استئثاره.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنَّا واللّه لا نولّي هذا العمل أحداً سألهُ ، أو أحداً حرص عليه » (1).

وعندما طلب عبد اللّه بن عباس من الإمام عليّ علیه السلام أن يفوّض إمارة البصرة والكوفة إلى طلحة والزبير اللذين كانا يطلبان الرئاسة والحكومة ، حتّى يحسم بذلك مادة الفساد ، فأجابه علیه السلام بقوله : « ويحك إنّ العراقين بهما الرِّجالُ والأموالُ ، ومتى تملكا رقاب النَّاس يستميلا السفينة بالطَّمع ، ويضربا الضَّعيف بالبلاء ، ويقويا على القوي بالسلطان ، ولو كنت مستعملاً أحداً - لضرّه أو نفعه - لاستعملتُ مُعاوية على الشام.

ولولا ما ظهر لي من حُرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي » (2).

إلى غير ذلك من الأخلاق التي تتطلّبها الولاية.

كما ينبغي أنْ يكون بعيداً في حكمه عن أساليب الطغاة والجبارين ، فلا يتخذ حاجباً مثلاً.

فعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة

ص: 263


1- صحيح مسلم ج 5 كتاب الإمارة ، الحديث 14.
2- الإمامة والسياسة 1 : 40.

والمسكنة إلاّ أغلق اللّه أبواب السماء دونَّ خلّته ، وحاجته ومسكنته » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « من ولاّه اللّه شيئاً من اُمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم احتجب اللّه دون حاجته وخلّته وفقره يوم القيامة » (2).

وهناك كلام مماثل للإمام عليّ علیه السلام في عهده المعروف لمالك الأشتر إذ كتب فيه : « وأمّا بعدُ فلا يطولنَّ احتجابك عن رعيتك ، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيَّة شُعبة من الضيق ، وقلّة علم بالاُمور ، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغَّر عندكم الكبير ويعظِّم الصغير ويقبّح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحقّ بالباطل ، وإنّما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به عن الاُمور ، وليست على الحقِّ سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب » (3).

وقال علیه السلام أيضاً : « أيّما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب اللّه يوم القيامة عن حوائجه وإنّ أخذ هديّة كان غلولاً وإن أخذ لها رشوةً فهو مشرك » (4).

وينبغي أن يكون الحاكم الإسلاميّ أميناً على أموال الاُمّة وناصحاً لهم في حكمه.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة » (5).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « ما من عبد يسترعيه اللّه رعيَّةً يموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيَّته إلاّ حرّم اللّه عليه الجنَّة » (6).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « ما من أمير يلي اُمور المسلمين ثمَّ لا يجهدُ لهم وينصحُ لهم إلاّ لم يدخله معهم الجنَّة » (7).

ص: 264


1- جامع الاُصول 4 : 52 أخرجه الترمذيّ.
2- جامع الاُصول 4 : 52 أخرجه أبو داود.
3- نهج البلاغة : قسم الرسائل ( الرقم 53 ).
4- ثواب الأعمال : 310.
5- صحيح مسلم : 55 كما في جامع الاُصول الجزء (4).
6- جامع الاُصول 4 : 53 نقلاً عن البخاريّ ومسلم.
7- جامع الاُصول 4 : 53 أخرجه مسلم.

وأنْ يكون عطوفاً مع الضعفاء والأيتام. فقد جاء إلى أمير المؤمنين علیه السلام عسل وتين من همدان وحلوان فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى فأمكنهم من رؤوس الأزقاق يلعقونها ، وهو يُقسّمها للناس قدحاً ، قدحاً ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها ؟ فقال : « إنّ الإمام أبو اليتامى ، وإنّما لعَّقتُهم هذا برعاية الآباء » (1).

بل وتبلغ عطوفة الحاكم الإسلاميّ وتتسع وظيفته إلى درجة يجب عليه أداء دين من مات ولم يترك شيئاً ... قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أيّما مؤمن أو مسلم مات وترك ديناً لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك » (2).

وعن أمير المؤمنين في مواساة الحاكم للضعفاء : « إنّ اللّه جعلني إماماً لخلقه ففرض عليَّ التَّقدير في نفسي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس كي يقتدي الفقيرُ بفقري ولا يطغي الغنيّ غناهُ » (3).

ولمّا لبس عاصم بن زياد العباء وترك الملاء وشكاه أخوه الربيع (4) بن زياد إلى أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قد غمَّ أهله وأحزن ولده بذلك ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « عليَّ بعاصم بن زياد » ، فجيء به فلما رآه عبس في وجهه ، فقال له : « أمّا استحييت من أهلك ؟ أما رحمت ولدك ؟ أترى اللّه أحل لك الطيبات وهو يكرهُ أخذك منها ، أنت أهون على اللّه من ذلك ، أوليس اللّه يقول : ( وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ ) ( الرحمن : 10 - 11 ) ، أو ليس اللّه يقولُ : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * [ إلى قوله ] يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ) ( الرحمن : 19 - 22 ) ، فباللّه لابتذال نعم اللّه بالفعال أحبّ إليه من أبتذالها بالمقال ، وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( الضحى : 11 ).

فقال عاصم : يا أمير المؤمنين فعلى مَ اقتصرت في مطعمك على الجشوبة وفي ملبسك على الخشونة ؟ فقال : « ويحك إنّ اللّه عزَّ وجلَّ فرض على أئمّة العدل أن يُقدّروا أنفسهم بضعفة النَّاس ، كيلا يتبيَّغ بالفقير فقره ».

ص: 265


1- الكافي 1 : 406 ، 407 ، 339.
2- الكافي 1 : 406 ، 407 ، 339.
3- الكافي 1 : 406 ، 407 ، 339.
4- وفي نهج البلاغة ، علاء بن زياد.

فألقى عاصم بن زياد العباء ولبس الملاء (1).

وقال الإمام الصادق علیه السلام في التعريف بالإمام : « يحقن اللّه به الدماء ، ويصلح به ذات البين ، ويلمَّ به الشَّعث ويشعب به الصَّدع ، ويكسو به العاري ويشبع به الجائع ويؤمن به الخائف » (2).

وفي العهد الذي كتبه المأمون للرضا علیه السلام : ( وأنظر الاُمّة لنفسه وأنصحهم لله في دينه وعباده من خلايقه في أرضه من عمل بطاعة اللّه وكتابه وسنَّة نبيّه علیه السلام في مدَّة أيّامه وبعدها ، وأجهد رأيه ونظره فيمن يولّيه عهده ويختاره لإمامة المسلمين ورعايتهم بعده وينصبه علماً لهم ومفزعاً في جمع ألفتهم ولم شعثهم وحقن دمائهم والأمن بإذن اللّه من فرقتهم وفساد ذات بينهم واختلافهم ، ورفع نزع الشيطان وكيده عنهم ) (3).

وإنّما استشهدنا بكلامه هذا لأنّ الظاهر أنّ هذه الكلمات كانت موضع القبول من الإمام علیه السلام وقد نقل الأربليّ كلاماً في هذا المقام فراجعه. وصايا تكشف عن مسؤوليّة الحكام :

ولتتميم الفائدة وايقاف القارئ الكريم على مزيد من الصفات التي يليق أن يتحلّى بها الحاكم الإسلاميّ نلقي نظرةً سريعةً على ما كان يوصي به الإمام عليّ علیه السلام الحكّام والولاة ، وما أتينا به هنا إنّما هو قليل من كثير ممّا هو موزع في الكتب الحديثيّة والتاريخيّة.

وعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « أُذكر اللّه الوالي من بعدي على اُمّتي ألاَّ يرحم على جماعة المسلمين فأجلّ كبيرهم ورحم ضعيفهم ووقَّر عالمهم ، ولم يضربهم ، فيذلَّهم ولم يفقرهم فيكفِِّّرهم ولم يغلق بابه دونهم فيأكل قويّهم ضعيفهم ولم يخبزهم في بعوثهم فيقطع نسل

ص: 266


1- الكافي 1 : 410 - 411 ، ونهج البلاغة : الخطبة (204).
2- الكافي 1 : 314.
3- كشف الغمّة 3 لعليّ بن عيسى الأربليّ : 124 ، وبحار الأنوار : 12 في العهد الرضويّ.

أُُمَّتي » (1).

وهذا الحكم وإن كان ورد في حقّ الوالي بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله لكنّه موجّه لطبيعة الوالي ، فهو يشمل جميع الولاة إلى يومنا هذا ، لأنّه من باب تعليق الحكم على الوصف لا الشخص حتّى يختصّ بجماعة دون جماعة.

وفيما كتبه الإمام عليّ علیه السلام لبعض موظّفيه : « آمره بتقوى اللّه في سرائر أمره وخفيَّات عمله حيث لا شاهد غيره ولا وكيل دونه وآمره أنّ لا يعمل بشيء من طاعة اللّه فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسرَّ ومن لم يختلف سرّه وعلانيته وفعله ومقالته فقد أدَّى الأمانة ، وأخلص العبادة وأمره أن لا يجبههم ولا يعضههم ولا يرغب عنهم تفضّلاً بالإمارة عليهم فإنَّهم الإخوان في الدِّين والأعوان على استخراج الحقوق » (2).

وكتب علیه السلام إلى أحد ولاته قائلاً : « من عبد اللّه أمير المؤمنين إلى قثم بن العبّاس سلام عليك ، أمّا بعد ، فأقم على ما في يديك قيام الحازم الصَّليب ، والنَّاصح اللَّبيب ، والتابع لسلطانه ، المطيع لإمامه ، وإيّاك وما يعتذر منه ولاتكن عند النَّعماء بطراً ولا عند البأساء فشلاً » (3).

ص: 267


1- الكافي 1 : 406.
2- نهج البلاغة : الرسائل ( الرقم 26 ).
3- نهج البلاغة : الرسائل ( الرقم 33 ).

ص: 268

الفصل الخامس: أركان الحكومة الإسلاميّة

اشارة

إنّ للحكومة الإسلاميّة - كالحكومات الحيّة العالميّة الاُخرى - أركاناً ثلاثةً هي السلطات الثلاث التي تشكّل تركيبة الدولة الإسلاميّة ويلعب كلّ ركن من هذه الأركان دوراً خاصّاً ومهمّاً في الحكومة ، ولو كانت الحكومات العالميّة تفتخر اليوم بأنّها قد توصّلت إلى اكتشاف هذه السلطات الثلاث ، فإنّ الإسلام قد سبقها إلى إقرارها منذ اللحظات الاُولى من انعقاد السياسة والحكومة الإسلاميّة ، وهذه حقيقة تؤكّدها مراجعة القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.

وممّا لا شك فيه أنّ الحكومة الإسلاميّة لا يمكن أن تقوم ، ولا يمكن أن تؤدّي وظائفها إلاّ بواسطة أجهزة وتشكيلات وسلطات ، وتقسيم المسؤوليّات الإدارية والأعمال الحكوميّة على أفراد ودوائر ، كما كان يفعله النبيّ صلی اللّه علیه و آله طيلة حياته السياسيّة والإداريّة ولكن بصورة بسيطة ، وبأسماء وعناوين اُخرى غير الأسماء والعناوين المعروفة الآن.

والسلطات التي تعتمدها الحكومة الإسلاميّة هي عبارة عن :

1. السلطة التشريعيّة

2. السلطة التنفيذيّة

3. السلطة القضائيّة

وإليك تفصيل هذه السلطات الثلاث.

ص: 269

1

السلطة التشريعيّة

اشارة

ونقصد بهذه السلطة فريق الشورى الذين تنتخب الاُمّة أعضاءه تحت شروط ووفق مواصفات خاصّة (1) وتقع عليهم مهمة التصديق على لوائح الحكومة ومقترحات الوزراء ، بعد تبادل الرأي فيها ودراستها ، لتقديمها بعد ذلك إلى الحكومة للتنفيذ والتطبيق.

وهذه السلطة هي التي يصطلح عليها في السياسة الحديثة بالبرلمان ، والمجلس النيابي ، أو مجلس الشورى.

وبما سنذكره من مهمّة فريق الشورى هذا ، يتبيّن بطلان ما قد يتوهّمه متوهّم من أنّ السلطة التشريعيّة - التي نذكرها هنا ، ونعدّها من أركان الحكومة الإسلاميّة - هي الرائج والمتعارف في الحكومات العالميّة ، من إعداد فرد أو جماعة يقومون بسنّ التشريعات والقوانين التي تحتاج إليها البلاد ، فقد فصّلنا القول في الجزء الأوّل من كتابنا تحت عنوان : ( التوحيد في التقنين والتشريع ) وذكرنا ؛ أنّ التشريع والتقنين محض حقّ لله سبحانه فلا شارع ولا مقنّن سواه ، ولا يحقّ لأحد - كان من كان وبلغ ما بلغ من

ص: 270


1- سوف يوافيك دليل انتخابهم من جانب الاُمّة.

العلم والثقافة والمكانة الفكريّة والاجتماعيّة - أن يشرّع حكماً أو يحلّ حلالاً ، أو يحرّم حراماً ، فكل ذلك موكول إلى اللّه سبحانه ، ومن شأنه خاصّةً ، فتقتصر مهمّة السلطة التشريعيّة المتمثّلة في مجلس الشورى ( أو مجلس النواب حسب المصطلح الحديث ) في التخطيط للبلاد ، عن طريق التشاور وتبادل وجهات النظر ومدارسة المقترحات والآراء ثمّ إبلاغ ما يتم التصديق عليه من البرامج إلى الحكومة ( التي تمثل السلطة التنفيذيّة ) لغرض التنفيذ ، بشرط أنّ يكون كلّ ذلك ضمن إطار القوانين الإسلاميّة في جميع المجلات.

وبعبارة اُخرى : للحكم والقانون ثلاث مراحل :

1. مرحلة التشريع ؛ وهي لله خاصّةً بالأصالة.

2. مرحلة التشخيص ؛ وهي للفقهاء والعدول.

3. مرحلة التخطيط ؛ وهي للمجلس النيابيّ.

والأخير هو الذي يجتمع فيه جماعة من ذوي الاطلاع والاختصاص وممّن يحملون معلومات مختلفةً فيخطّطون لبرامج البلاد حسب الضوابط الإسلاميّة.

وهذا القسم يستفاد من الآيات والروايات الواردة حول الشورى ، وستوافيك عند الكلام عن خصائص الحكومة الإسلاميّة.

يقول الإمام الخمينيّ :

( الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون الإلهيّ ويكمن الفرق بينها وبين الحكومات الدستوريّة منها والجمهوريّة في أنّ ممثّلي الشعب أو ممثّلي الملك هم الذين يقنّنون ويشرّعون ، في حين تنحصر سلطة التشريع باللّه عزَّ وجلّ وليس لأحد أيّاً كان أن يشرّع وليس لأحد أن يحكم بما لم ينزّل اللّه به من سلطان ، ولهذا السبب فقد استبدل الإسلام بالمجلس التشريعيّ مجلساً آخر للتخطيط يعمل على تنظيم سير الوزارات في أعمالها وفي تقديم خدماتها في جميع المجالات ) (1).

ص: 271


1- الحكومة الإسلاميّة للإمام الخمينيّ : 41 - 42.

إنّ أفضل تسمية لهذا المجلس هو ( مجلس الشورى الإسلامي ) لاستناده إلى قاعدتي : القوانين الإسلاميّة ، والشورى بين نواب الشعب ، وبهذا يكون هذا المجلس وطنيّاً حقيقيّاً لأنّه ينبثق من إرادة الشعب بصورة حقيقيّة.

وأمّا الشواهد والأدلّة التي تدلّ على ضرورة وجود مثل هذه السلطة في الحياة الإسلاميّة ، من الكتاب والحديث فهي أكثر من أن تحصى ، فإنّ الآيات القرآنيّة والأحاديث تدلّ بصراحة لا تقبل نقاشاً على أنّه يجب على الاُمّة الإسلاميّة أن تعالج مشاكلها بالمشاورة وتبادل الرأي.

وستوافيك نصوص المشاورة.

انتخاب فريق الشورى :

لمّا كانت تقع على عاتق فريق الشورى مسؤوليّة التشاور في التدابير المهمّة والخطيرة ، ورسم سياسة الدولة والمجتمع ، لذلك ؛ فإنّ أصح الطرق وأفضلها إلى إيجاد هذا الفريق هو انتخابها من جانب الاُمّة ، على أنّ عموميّة حقّ السيادة لجميع أفراد الاُمّة تقتضي أن يشترك جميع أبناء الاُمّة في مثل هذا الانتخاب ، لتكون السلطة التشريعيّة منبثقةً عن إرادة الاُمّة بصورة حقيقيّة ، وموافقةً لرضاها عامّة.

ولا شكّ أنّ الذين يتمتّعون بحقّ الانتخاب هذا لا بدّ أنّ يتّصفوا بالبلوغ في السنّ ، والرشد في الفكر ، لأنّ انتخاب الفرد الأصلح للمجلس الذي يتحمّل مسؤوليّة التصميم والقرار ، يعتمد على وعي المنتخب ورشده وهو أمر لا يتوفّر إلاّ في البالغين سنّاً وعقلاً.

وإنمّا يجب أن يكون فريق الشورى وأعضاء المجلس النيابيّ مختارين ومنتخبين من جانب الاُمّة ، لأنّ قاعدة « سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم » تقتضي أن لا يقيم أحد أو جماعة أنفسهم نوّاباً عن الناس دون أن يكون للناس دور في انتخابهم واختيارهم ، وإن اعتادت اُمّتنا طوال القرون الأخيرة على هذا النمط من النيابة المزعومة ،

ص: 272

وهؤلاء النواب غير المختارين من جانب الاُمّة.

على أنّ الأهمّ من مسألة الانتخاب هو ملاحظة المعايير والمواصفات الإسلاميّة التي يجب توفّرها في الانتخاب والناخب ، فليس للناس في ظل النظام الإسلاميّ أن ينتخبوا نوابهم ومندوبيهم في فريق الشورى دون مراعاة هذه الشروط والمواصفات ، وانتخابهم وفق الاعتبارات التافهة كالروابط العائليّة والعشائريّة ، أو التحالفات السياسيّة أو المعايير القوميّة العنصريّة ، أو تحت تأثير المؤثرات الدعائيّة والاعلاميّة ، أو تأثير التطميع والترغيب المادي.

إنّ أهميّة فريق الشورى ( ومجلس النواب ) ومدى دوره في تعيين مصير البلاد ، والشعب يقتضي أن ينتخب الناس نوّابهم ومندوبيهم إلى هذا المجلس وفق اُسس دقيقة جداً ذكرها الدين في نصوصه ، وحتّم على الاُمّة مراعاتها وعدم التفريط بها ، وأهمها أن يكون النائب صالحاً ، منزّهاً ، طاهراً ، عارفاً بأوضاع البلاد ، ومطلعاً على حاجات الاُمّة ، غير جاهل بما يحيق باُمته من أخطار وأوضاع وغير مرجح مصلحة جماعة على اُخرى.

إنّ على الاُمّة أن تنتخب نوّابها الاُمناء الصادقين ، العارفين بالمصالح العامّة الأوفياء لها ، إذ لو لم يكن على هذا النمط لعرّضوا البلاد لأخطار السياسة الماكرة ولخانوا مصالح الاُمّة ، وكانوا سبباً لفسادها وفساد شؤونها.

فإذا كان استيجار شخص لعمل محدود بسيط يقتضي انتخاب القويّ الأمين كما يقول القرآن الكريم : ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) ( القصص : 26 ).

فمن الأولى ؛ أن يكون المنتخب لمجلس الشورى الذي يتصدّى لأعظم مسؤوليّة في البلاد قويّاً في نفسيّته ، أميناً على الأمانة المعطاة له.

ومن هنا يتحتم على النائب المنتخب المختار من جانب الاُمّة أن لا يخشى أحداً أبداً ، فلا يتلكّأ في الإدلاء برأيه بكلّ قوّة وأمانة ، كما على النائب أيضاً أن يتخذ جانب الحذر في جميع مدّة مسؤوليته النيابيّة ، حتّى لا يقع في شراك اللعب السياسيّة ، ويصير أداةً طيّعةً بأيدي الآخرين ، وعليه أن يرجح المصالح العامّة على المصلحة الشخصيّة.

ص: 273

وبهذا يكون توفرّ صفتي القوّة والأمانة سبباً لأن يجعل من النائب عنصراً فعّالاً وخدوماً لشعبه واُمّته.

وهناك - إلى جانب هذه المواصفات - اُمور ينبغي توفّرها في النائب وعضو فريق الشورى ذكرها الإمام عليّ علیه السلام في عهده التاريخيّ إلى مالك الأشتر - عندما ذكر له صفات مستشاريه - إذ قال : « ولا تدخلنَّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر. ولا جباناً يضعفك عن الاُمور ، ولا حريصاً يزيّن لك الشره بالجَّور » (1).

وهذا أمر ينطبق على المورد الذي نحن بصدده بطريق أولى.

وقال الإمام جعفر الصادق علیه السلام : « فلا تستشر العبد والسفلة في أمرك » (2).

وعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به أن يستشير رجلاً عاقلاً له دين وورع » (3).

وقال الإمام جعفر الصادق علیه السلام : « إنّ المشورة لا تكون إلاّ بحدودها فمن عرفها بحدودها. وإلاّ كانت مضرتها على المستشير أكثر من منفعتها ، فأوّلها أن يكون الذي يشاوره عاقلاً ، والثانية أن يكون حرّاً متديّناً ، والثالثة أن يكون صديقاً مواخياً ، والرابعة أن تطلعه على سرّك فيكون علمه به كعلمك بنفسك ثمَّ يستر ذلك ويكتمه فإنّه إذا كان عاقلاً انتفعت بمشورته وإذا كان حرّاً متديّناً جهد نفسه في النصيحة لك وإذا كان صديقاً مواخياً كتم سرَّك إذا أطلعته على سرّك فكان علمه به كعلمك ؛ تمت المشورة وكملت النصيحة » (4).

وقال علیه السلام أيضاً : « من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرأي سلبه اللّه عزّ وجلّ رأيه » (5).

ثمّ لمّا كان يجب أنّ تنطبق مصوّبات فريق الشورى مع القوانين والمعايير

ص: 274


1- نهج البلاغة : قسم الرسائل ( الرقم 53 ).
2- راجع سفينة البحار 1 : 718 للبحّاثة القمّي رحمه اللّه .
3- راجع سفينة البحار 1 : 718 للبحّاثة القمّي رحمه اللّه .
4- راجع سفينة البحار 1 : 718 .
5- راجع سفينة البحار 1 : 718 .

الإسلاميّة ؛ لذلك يتحتّم أن يكون أعضاء هذا الفريق عارفين بالفقه الإسلاميّ معرفةً كاملةً وإذا لم يكونوا من ذوي الاختصاص والمعرفة الكاملة بالفقه الإسلاميّ ، بل اقتصرت معلوماتهم على البرامج الاقتصاديّة والشؤون السياسيّة - مثلاً - وجب حينئذ أن يكون إلى جانب مجلس الشورى هذا ، جماعة من الفقهاء ليقيّموا مصوّبات مجلس الشورى ويوازنوا بينها وبين معايير الشريعة الإسلاميّة وضوابطها ... ويجب أن يتخذ لذلك قرار خاصّ في الدستور بحيث لا تتصف مصوّبات المجلس النيابيّ بالصفة القانونيّة إلاّ بعد إمضائها من تلك الجماعة من الفقهاء. وهذه الجماعة هي التي نصطلح عليها بمجلس المحافظة على الدستور كما نصّ عليه في الدستور الأساسيّ لجمهورية إيران الإسلاميّة في الأصل الواحد والتسعين.

إنّ السلطة التشريعيّة التي تُعدّ ركناً أساسياً من أركان الحكومة الإسلاميّة إنّما هي بالمعنى الذي قد مرّ عليك ، فليست لها وظيفة سوى التخطيط ... غير أنّ الدولة الإسلاميّة حكومةً وشعباً لا تستغني عن وجود ( جهة ) تتبنّى استخراج الأحكام الشرعيّة في جميع الأجيال والقرون عن مصادرها الشرعيّة ، وهذا ما يقال له مقام الافتاء وبما أنّ لهذه الجهة والمقام دور كبير وحسّاس في الدولة الإسلاميّة ؛ نشرح لك حقيقته وما يترتّب عليه من مسؤوليّات ووظائف.

* * *

المفتي أو فريق الإفتاء :

لا ريب أنّ جميع الأحكام التي يحتاج إليها المجتمع البشريّ قد بيّنها اللّه سبحانه بواسطة الكتاب والسنّة ولذلك فإنّ وظيفة فريق الإفتاء لا تكون سنّ القوانين والتشريعات ، بل استنباط الأحكام للموضوعات المتجدّدة من المصادر الإسلاميّة المذكورة مضافاً إلى : العقل واجماع الفقهاء السابقين.

فليس لفريق الإفتاء إلاّ استخراج الأحكام لما يتجدّد ويحدث للمجتمعات الإسلاميّة من الوقائع ، وعرض ما استنبطوه في صورة القوانين الإسلاميّة الواضحة

ص: 275

المحدّدة على المجتمع الإسلاميّ ، وعلى فريق الشورى تنظيم مصوّباتهم وفق هذه الأحكام والمعايير المبيّنة المحدّدة.

وباختصار تتحدّد وظيفة فريق الإفتاء في أمرين :

أ / بيان الوظائف الفرديّة ليتسنّى لكلّ مسلم تطبيق حياته عليها سواء أكان هناك حكومة إسلاميّة قائمة ، أم لا ، وتكون هذه الوظائف غالباً في مجالات العبادة والأخلاق وقسم من نظم التعامل الفرديّ والعلاقات الخاصّة ، والأحوال الشخصيّة كالنكاح والطلاق والميراث وغيرهما.

ب / بيان الضوابط والمناهج السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة العامّة الإسلاميّة التي تكون نماذج حيّةً يخطّط ( فريق الشورى ) شؤون البلاد في السياسة والاقتصاد والاجتماع وفقها وعلى ضوئها.

وتدلّ على ضرورة وجود هذا الفريق ( أي فريق الإفتاء ) في الحياة الإسلاميّة آيات كثيرة وأحاديث متضافرة نذكر بعضها في ما يأتي :

فريق الإفتاء والنصوص :

وأمّا ما يدلّ على ذلك من القرآن الكريم فقوله تعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ( النحل : 43 ) (1).

وقوله تعالى : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة : 122 ).

وقد جاء في تفسير هذه الآية عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام قوله : « أمرهُم

ص: 276


1- إنّ المراد بأهل الذكر ، وإن كان علماء أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) كما يشهد بذلك سياق الآية وشأن نزولها ، ولكنّ المورد لا يكون مخصّصاً للحكم الكلّي أبداً كما هو واضح ، فالرجوع إلى أهل العلم وذوي الاختصاص لاكتشاف المجهولات أمر فطريّ مركوز في العقول ، ومعترف به لدى العرف. فهو قانون عامّ لا يقتصر على موضوع دون موضوع، ولا جيل دون جيل.

( اللّه ) أن ينفروا إلى رسول اللّه فيتعلّموا ثُمّ يرجعوا إلى قومهم فيُعلِّموهُم » (1).

وأمّا الأحاديث الدالة على ضرورة وجود هذا الفريق ووجوب الرجوع إليه والأخذ بآرائه ، فقد تضافرت الأحاديث عن أئمّة أهل البيت على لزوم الرجوع إلى الفقهاء في الفروع والأحكام والحوادث الواقعة ، وقد جمعها الشيخ الحرّ العامليّ في كتاب الوسائل فراجع كتاب القضاء الأبواب المختلفة منه.

* * *

نقطتان لا بدّ من ذكرهما :

إنّ طرح موضوع فريق الإفتاء يتطلب منّا توضيح نقطتين هامّتين في المقام :

النقطة الاُولى : - إنّ الإسلام لا يتلخّص في مجموعة من الأوراد والأذكار أو القوانين الجامدة البعيدة عن واقع الحياة المتطوّر ، وحاجة المجتمع المتجدّدة ، بل ينطوي الدين الإسلاميّ على برنامج كامل للحياة الإنسانيّة ، ولكلّ العصور والأمكنة ولكلّ أصناف المجتمع ومستوياته.

وهذا يستلزم أن يكون فريق الإفتاء في مواجهة دائمة مع الوقائع المستجدّة والمسائل المستحدثة ... التي تتطلّب الإجابة والحكم المناسب لها وفق الشريعة المقدّسة. ولا شكّ أنّ إعطاء هذا الجواب والحكم يتطلّب الوقوف والمعرفة بالموضوعات المستحدثة ، ولهذا يتحتم على فريق الإفتاء أن يكون على اتّصال دائم بذوي الاختصاص في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة ، للوقوف على أحدث التطوّرات في هذه الأصعدة ، إذ ربما أحتاج الفقهاء إلى من يشرح لهم حقيقة الواقعة المستجدّة ، أو يبيّن ما حدث لموضوع معيّن من التطوّرات وحصل حوله من معلومات يمكن أن يوجب تغييراً في حكمها ، ويدخله تحت عنوان يختلف عن الموضوع الأوّل في الأحكام والتبعات فلطالما شاهدنا نماذج من هذا التبدّل في الموضوع والحكم ، فربَّ موضوع كان يوضع في صنف المحرّمات ، ولكنّ مرور الزمن استوجب ظهور حقيقته ، وتبدّل عنوانه فصار من

ص: 277


1- وسائل الشيعة ج 18 كتاب القضاء : ص 10.

المباحات.

إنّ اتساع وسائل الإعلام وتطور المواصلات الذي استوجب تقارب المجتمعات البشريّة وارتباطها ، أفرزت اليوم مسائل مستجدّة ومشكلات وقضايا لا يمكن حلّها فقهيّاً إلاّ بعد الاتصال بذوي الاختصاص في العلوم الحديثة المختلفة. إذ في هذا الاتّصال ما يوضّح حقيقة هذه المستجدات وحدودها وقيودها ، وهي اُمور دخيلة في نوع الحكم المراد استنباطه لها ، وفي صحة الاستنباط.

فإذا كان الفقيه أو الفقهاء يريدون استنباط حكم شرعيّ لما حدث اليوم من مسائل التأمين على الحياة أو المال أو الضمان الاجتماعيّ وقضايا الشركات السهاميّة التي تقام في الحياة المعاصرة وتحظى بصفة قانونيّة ، ورسميّة - مثلاً - توجّب عليهم أن يعرفوا حقيقة هذه المسائل وابعادها وحدودها وتفاصيلها لكي لا تأتي استنباطاتهم الفقهيّة لها بعيدةً عن روح الشريعة الإسلاميّة ومتنافيةً مع جوهر تعاليمها السمحة الخالدة.

* * *

النقطة الثانية : - إنّ إعطاء مسؤوليّة الإفتاء لفريق ، لا يعني أنّ مقام الإفتاء يجب أن يكون حتماً من حقّ جماعة ، يجتمعون ويتدارسون فيما بينهم جوانب المسألة المستجدّة ، ويستنبطون الحكم الشرعيّ المناسب لها بحيث لا يحقّ لفرد واحد أن يتحمّل هذه المسؤوليّة بمفرده ويتصدّر مقام الإفتاء لوحده ، بل إنّ إعطاء هذا المقام لجماعة دون فرد واحد هو أفضل صيغة لهذا القسم الخطير والحسّاس في تركيبة الحكومة الإسلاميّة. وهو أمر تدل عليه آيات الشورى وأحاديثها التي مرّت عليك التفصيل. فبالمشورة وتبادل الآراء لدى استنباط الأحكام الشرعيّة الفقهيّة يمكن أن نضمن حلاًّ أفضل وأسرع للمشكلات الطارئة ، كما يمكن التخلّص من أكثر الاحتياطات المقيّدة لحريّات الناس والموجبة لعسرهم وحرجهم ، فإنّ قيمة العمل الجماعي القائم على الشورى والتشاور تختلف اختلافاً كبيراً عن العمل الفرديّ إلى درجة نجد أنّ اللجان الاستشاريّة تحتلّ - في عالمنا المعاصر - مكان المشورة الفرديّة ، وتحتلّ هيئة القضاة محلّ القاضي المنفرد

ص: 278

وبالتالي فإنّ النتيجة التي يمكن الحصول عليها من النشاط الجماعيّ تفوق ما يكون فردياً لا يشارك في صنعه الآخرون ، لما في احتكاك الآراء وتبادل الأفكار وتلاحقها واجتماعها من فوائد ، على غرار ما لاجتماع القوى الماديّة وانضمامها إلى بعض وتمركزها في نقطة واحدة من الفوائد والآثار ، ولكنّ ايكال الأمر إلى فريق - مع ذلك - مجرّد اقتراح مطروح للدرس والمناقشة ، ولذلك قلنا في عنوان هذا البحث : المفتي أو فريق الإفتاء.

نعم ، إنّ الطريق الأفضل هو تقديم الأعلم والأخذ بفتواه ، وإيكال مهمّة الإفتاء إليه ريثما يتسنّى تشكيل فريق الإفتاء.

هذا ويمكن أن يتردّد البعض اتّجاه صحّة هذه الصيغة ونعني إيكال الإفتاء إلى فريق من المفتين بدل المفتي الواحد - رغم أنّ هذا الشكل هو أفضل نمط لهذه السلطة - بحجة أنّه لم يسبق له مثيل في ما مضى من الزمن.

ونجيب بأنّ أحاديث الشورى المنقولة سابقاً وفي الفصول القادمة خير دليل على صحّة وأفضليّة هذا النمط ، مضافاً إلى أنّه نقل عن سنن أبي داود أنّه قال الراوي : قلت : يا رسول اللّه ينزل بنا أمر ، ولم ينزل فيه قرآن ، ولم تمض سنّتك ؟ فقال صلی اللّه علیه و آله : « اجمعُوا العالمين من المؤمنين فاجعلوهُ شورى ، ولا تقضوا فيه برأي أحد ( أي واحد ) » (1).

إنّ العمل الاجتهاديّ الجماعيّ أقلّ خطأً ، وأقرب إلى إصابة الواقع ، وأكثر قدرةً على تجاوز المشكلات وهو ما يسعى إلى تحقيقه مبدأ الشورى الذي ابتكره الإسلام وحضّ عليه أشدّ الحضّ ، وأكدّ عليه أشدّ التأكيد.

وهو مع ذلك مجرّد اقتراح مطروح للمناقشة ... والدرس بموضوعيّة وتجرّد لا أكثر.

ثمّ إنّه لا بدّ - في تشكيل فريق الإفتاء - من ملاحظة الظروف والجوانب السياسيّة والاجتماعيّة ، فلا بدّ من المشورة إذن في أصل : تشكيل مثل هذا الفريق ، فقد لا تقتضي بعض الظروف إيكال مهمّة الإفتاء إلى جماعة ، بل لا بدّ من وجود قائد واحد وإرجاع الأمر إليه وحده لما في إطاعته وحده من قوّة لشوكة المسلمين التي قد لا تتوفر في إرجاع

ص: 279


1- السيوطي في الدر المنثور7 : 357.

الأمر إلى جماعة ... بل ربّما يكون إيكال مقام الإفتاء إلى مفت واحد وقائد فقيه منفرد أدعى لعزّة المسلمين ، وارتفاع شأن الدين لما له من شخصيّة نافذة وقوّة ذاتيّة معروفة فيما يكون العكس في فريق الإفتاء حيث تضمحلّ فيه الشخصيّات ، ويفقد الأشخاص أهميّتهم الذاتيّة في ظلّ ذلك المجلس وهو من شأنه ضعف قدرة القيادة الإسلاميّة ، ووهن الزعامة الدينيّة.

وقد يكون من نافلة القول إذا قلنا إنّ الاشتراك في هذا الفريق يتطلّب الاتّصاف بمواصفات خاصّة تؤهّل الفرد للانخراط فيه ، فلا يدخل في هذا الفريق إلاّ المجتهدون ، الواعون المعروفون بالفهم والعلم ، والورع والشجاعة ، والإحاطة بمشكلات العصر وحاجات الاُمّة ... وغير ذلك من الصفات والأخلاق اللازمة.

ص: 280

2

السلطة التنفيذيّة

اشارة

المراد بالسلطة التنفيذيّة في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء ، وما يتبعها من دوائر ومديريّات منتشرة في أنحاء البلاد ، ويكون مهمّتها تنفيذ ما يقرّره مجلس الشورى من تصميمات ، وقرارات ، ومخطّطات في شتّى حقول الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة ، وبالتالي يقع على عاتقها مهمّة إدارة البلاد بصورة مباشرة ، وهذه السطة لا تتحدّد - في عصرنا - بتشكيلات محدّدة كمّاً أو كيفاً بحيث لا تتعدّاها بل تختلف من بلد إلى بلد ، ومن زمن إلى زمن ... فهي تزيد أو تنقص ، وتضاف مديريّة أو تحذف ، أو يدمج بعض في بعض تبعاً للحاجة.

وهيئة الوزراء التي تتصدّر هذه السلطة إمّا أن :

أ - ينتخبها الحاكم الأعلى المنتخب للبلاد رأساً.

ب - أو ينتخبها مجلس الشورى.

ج - أو تنتخبها الاُمّة مباشرةً ، وإن كان هذا نادراً.

وعلى أي تقدير فإنّ الذي لا بدّ منه هو أن تكون السلطة التنفيذيّة - وفي مقدمتها الوزراء موضع رضا الاُمّة ، وذلك يحصل بإحدى الطرق المذكورة ، وإن كان الدارج الآن

ص: 281

هو انتخابها عن طريق الحاكم الأعلى ، مع موافقة مجلس الشورى.

وإنّما يجب أن تكون هذه السلطة موضع رضا الاُمّة لأنّها تتسلّم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم ، وهذا التسلّط والتصرّف يؤول إلى الاستبداد إذا لم يكن منوطاً برضا الناس ، وموافقتهم وإرادتهم.

وهذا هو ما أكّد عليه الدين الإسلاميّ في نظامه السياسيّ ، فقد أشار الإمام عليّ ابن أبي طالب علیه السلام إلى ذلك - في عهده المعروف للأشتر النخعيّ لمّا ولاّه على مصر حيث وصّاه بأن يتحرّى رضا الرعيّة إذ قال : « وليكن أحبّ الاُمور أليك أوسطها في الحقِّ ، وأعمَّها في العدل ، وأجمعها لرضا الرَّعيَّة ، فإنَّ سخط الخاصَّة - يُجحفُ برضا العامّة ، وإنَّ سخط الخاصَّة يُغتفرُ مع رضا العامّة » (1).

هذا والحديث عن السلطة التنفيذيّة يستدعي البحث في ثلاثة اُمور :

أوّلاً : إثبات ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الاجتماعيّة جنباً إلى جنب مع السلطة التشريعيّة ، والحاكم الأعلى للبلاد.

ثانياً : استعراض ما كانت عليه هذه السلطة في ( العهد النبوي ) خاصّةً وما آلت إليه فيما بعد.

ثالثاً : بيان الكيفيّة التي يجب أن تكون عليه الآن.

وإليك بيان هذه الاُمور تدريجياً.

ضرورة السلطة التنفيذيّة :

لا ريب أنّ القوانين الإسلاميّة التي شرّعها اللّه سبحانه للبشريّة وأنزلها عليهم ، وكذا ما يستنبطه الفقهاء والمجتهدون أو تقرّره السلطة التشريعيّة من برامج على ضوء التعاليم الإسلاميّة لم تكن إلاّ لإدارة المجتمع. فلم يكن تشريع كلّ تلك الشرائع ، ولا

ص: 282


1- نهج البلاغة : الرسالة (53).

وضع جميع تلك البرامج عملاً اعتباطيّاً ، بل كانت لأجل التنفيذ والتطبيق ، وتنظيم الحياة الاجتماعيّة وفقها ، فالقانون مهما كان راقياً وصالحاً ليس بكاف وحده في إصلاح المجتمع وإصلاح شؤونه ، بل لا بدّ من إجرائه ، وتنفيذه في الصعيد العمليّ.

إنّ الكتاب والسنّة زاخران بأحكام حقوقيّة ومدنيّة وجزائيّة وسياسيّة كثيرة وواسعة الأطراف والأبعاد وهي غير خافية على كلّ من له أدنى إلمام بهذين المصدرين الإسلاميّين العظيمين.

ففيهما الأمر الصريح والأكيد بقطع يد السارق : ( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة : 38 ) وجلد الزاني والزانية : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ( النور : 2 ).

إلى غير ذلك من القوانين والحدود. ولقد حثّ الشارع الكريم على إجراء هذه الحدود وتنفيذ هذه القوانين ، والتعاليم حثّاً أكيداً لا يترك لمتعلّل عذراً فقد ورد عن الإمام عليّ علیه السلام أنّه قال : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : لن تقدس اُمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقَّه من القوي غير متعتع » (1).

وروى ابن أبي الحديد المعتزليّ أنَّه خرج رجل من أهل الشام في وقعة صفين فنادى بين الصفّين : يا عليّ ابرز أليّ ، فخرج إليه عليّ علیه السلام فقال : إنّ لك يا عليّ لقدماً في الإسلام والهجرة ، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء المسلمين وتأخّر هذه الحروب حتّى ترى رأيك ؟ فقال علیه السلام : « وما هو ؟ » قال : ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق ، ونرجع نحن إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين الشام ؟ فقال عليّ علیه السلام : « قد عرفت ما عرضت إنّ هذه لنصيحة وشفقة ، ولقد أهمَّني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينه ، فلم أجد إلاَّ القتال أو الكفر بما أنزل اللّه على محمّد صلی اللّه علیه و آله .

إنّ اللّه تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة في الأغلال في جهنَّم » (2).

ص: 283


1- نهج البلاغة : الرسالة (53).
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 : 207 - 208.

ولمّا سرقت المرأة المخزوميّة ما سرقت - في عهد النبيّ صلی اللّه علیه و آله - وأراد اُسامة بن زيد الشفاعة في حقّها ، فكلّم النبيّ في أمرها ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أتشفع في حدّ من حدود اللّه » ؟!

ثمّ قام فخطب وقال : « أيّها الناسُ إنَّما هلك الَّذين من قبلكُم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ » (1).

وعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة وحدّ يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً » (2).

وفي حديث مفصّل وقضية مطوّلة قال الإمام عليّ علیه السلام : « اللّهمَّ إنّك قلت لنبيّك فيما أخبرته من دينك : يا محمّد من عطَّل حدَّاً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادَّتي » (3).

وقال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام أيضاً : « لابدَّ للنَّاس من إمام يقوم بأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدوَّ ، ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض أبواب ما فيه صلاحهم ويحذّرهم ما فيه مضارّهم ، إذا كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ويفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد فتمام أمر البقاء والحياة في الطَّعام والشَّراب والمساكن والنكاح من النّساء والحلال الأمر والنَّهي » (4).

وعن الإمام الباقر محمد بن عليّ علیه السلام : « إنّ اللّه تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّةُ - إلى يوم القيامة - إلاَّ أنزله في كتابه ، وبيَّنه لرسوله. وجعل لمن تعدَّى الحدَّ حدَّاً » (5).

وعنه علیه السلام أيضاً أنّه قال : « حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين

ص: 284


1- صحيح مسلم 5 : 114.
2- وسائل الشيعة 18 : 308 ، والخراج : 164.
3- وسائل الشيعة 18 : 308.
4- رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى نقلاً عن تفسير النعمانيّ : 50.
5- وسائل الشيعة 18 : 311.

ليلة وأيّامها » (1).

وعنه علیه السلام أيضاً أنه قال : « لا تبطل حدود اللّه في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم » (2).

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً » (3).

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفر علیه السلام في تفسير قول اللّه عز وجل : ( يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ( الروم : 19 ) : « ليس يحييها بالقطر ، ولكن يبعث اللّه رجالاً فيحيون العدل فتحيا الأرض لأحياء العدل ، لإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً » (4).

إلى غير ذلك من الأحاديث الصريحة التي تحث على إجراء الحدود ، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة الكريمة التي تحثّ بدورها على العمل بأحكام اللّه سبحانه ، دون فرق بين ما تعلّق منها بالفرد أو المجتمع وتندّد بالذين يعلمون الكتاب ، ويعرفون ما فيه من التعاليم والأحكام ولا يعملون بها.

بيد أنّ تنفيذ الأحكام والقوانين المتعلّقة بالمجتمع ، وإجراء الحدود لا يمكن أن يفوّض إلى عامّة الناس وسوادهم فلا يعني ذلك إلاّ شيوع الفوضى ، وضياع الحقوق ، واضطراب الحدود بين الافراط والتفريط ، ولهذا لابدّ من جهاز تنفيذيّ خاصّ يتولّى هذه المهمّة الاجتماعيّة الحساسّة ... ويقوم بهذا الدور الخطير.

ومن العجيب أنّ موضوع الهيئة التنفيذيّة رغم كونه من أبرز ما أشار إليه الإسلام بل وصرّح به في نظام الحكومة الإسلاميّة ؛ قد تعرّض لتجاهل بعض الباحثين حول الإسلام بل وإنكارهم ؛ فقد أخذ بعض المستشرقين - فيما أخذ - على الإسلام فقدانه لجهاز تنفيذيّ ونظام حكوميّ يضمن تنفيذ القوانين ، ويضفي على الإسلام طابع المنهج

ص: 285


1- وسائل الشيعة 18 : 1. 315.
2- وسائل الشيعة 18 : 1. 315.
3- نفس المصدر : 308.
4- نفس المصدر : 308.

الصالح لقيادة البشريّة حتّى في الصعيد السياسيّ فقال ما ملخّصه : « إنّ الإسلام مشتمل على قوانين وسنن رفيعة تتكفّل سعادة المجتمع فرديّاً واجتماعيّاً بيد أنّ ما جاء به الإسلام لا يتجاوز حدود التوصية الاخلاقيّة والإرشاد المعنويّ دون أن يكون لديه ما يضمن تنفيذها من سلطات وأجهزة ، فإنّنا لم نلمس في التعاليم الإسلاميّة الموجودة أي إشارة إلى هيئة تنفيذيّة تقوم بإجراء الأحكام ، وتنفيذ القوانيين ولذلك تعتبر الشريعة الإسلاميّة غير كافية من هذه الناحية ، وعاجزةً عن التطبيق ».

هذا هو خلاصة ماقاله بعض المستشرقين ، ولكن لو رجع صاحب هذه المقالة إلى الكتاب والسنّة ، ولاحظ ما طفحت به الكتب الفقهيّة الإسلاميّة من سياسات اجتماعيّة ، وحقوق مدنيّة ، وتدابير جزائيّة عهد إجراؤها إلى الحاكم الإسلامي ؛ للمس وجود الهيئة التنفيذيّة في النظام الإسلاميّ بجوهره وحقيقته وإن لم يكن بتفصيله المتعارف الآن.

فأيّ تصريح بوجود الجهاز التنفيذيّ أكثر صراحةً من إيكال قسم كبير من القضايا الاجتماعيّة ، والاُمور الجزائيّة إلى ( الحاكم الشرعي ) حيث نجد الكتب الفقهيّة زاخرةً بعبارات : عزّره الحاكم ، أدّبه الحاكم ، نفاه الحاكم ، طلّق عنه الحاكم ، حبسه الحاكم ، خيّره الحاكم (1). وما شابه من الاُمور المخوّلة إلى الحاكم الإسلاميّ ، وهو يوحي بوجود جهاز تنفيذيّ في النظام الإسلاميّ ، لأنّ أكثر تلك المهام هي من صلاحيات السلطة التنفيذيّة المتعارفة الآن.

هذا مضافاً إلى أنّ موضوع ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يؤكّد عليهما الدين الإسلاميّ أشدّ تأكيد يعتبر من أوضح الأدلّة على لزوم مثل هذا الجهاز التنفيذيّ حتّى يمكن القول - بدون مبالغة - أنّ المقصود بالقائمين بهذه الفريضة الكبرى ، والوظيفة العظمى هو ( الهيئة التنفيذيّة ).

ص: 286


1- راجع هذا الجزء : 23 - 30.
الآمرون بالمعروف هم السلطة التنفيذيّة :

إنّ النظر العميق في فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وأحكامهما ومسائلهما ، وشروطهما يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم ( السلطة التنفيذيّة ) التي تقع على عاتقها مهمّة إجراء الأحكام ، وتنفيذها وصيانتها في المجتمع الإسلاميّ. ولابدّ - قبل إثبات هذا الأمر - من تقديم مقدّمة حول هذه الفريضة الإسلاميّة العظمى فنقول : تعتبر وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) أصلاً مبتكراً ، وفريضةً بديعةً جاء بها الإسلام وهي ممّا لم يعهد لها نظير في الأنظمة الوضعيّة البشريّة فقد فرض الدين الإسلاميّ - بموجب هذه الفريضة - على أتباعه أن ينشروا الخير والمعروف بين الناس ، ويزجروا عن الشرّ والمنكر ، ولا يكونوا متفرّجين أو ساكتين اتّجاه ما يجري في المجتمع ويقع من إظهار المنكر أو تضييع للمعروف.

ولقد انطلق الإسلام - في إيجابه لهذه الفريضة العظيمة - من حقيقة اجتماعيّة مسلّمة وهي : أنّ أعضاء المجتمع الواحد الذين يعيشون في بيئة واحدة ، مشتركون في المصير ... فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله ، ولو كان هناك شرّ لشمل الجميع أيضاً ولم يختصّ بمرتكبه. ومن هناك يجب أن تتحدّد تصرّفات الأفراد في هذا المجتمع ، وتتحدّد حريّاتهم بمصالح الاُمّة ، ولا تتخطّاها.

ولقد شبّه الرسول الأكرم وحدة المصير للمجتمع الواحد بأحسن تشبيه حيث مثّل أفراد المجتمع بركاب سفينة في عرض البحر ، إذا تهددها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد ... ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه بحجّة أنّه مكان يختصّ به. ولا يرتبط بالآخرين ، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ... ولا يعود إليه خاصّةً. وهذا هو أفضل تشبيه لاشتراك المجتمع الواحد في المصير ، والمسير (1).

كما أنّه لو أصيب أحد أفراد المجتمع بالوباء لم يجز له أن يتجوّل في البلاد بحجّة

ص: 287


1- راجع روض الجنان للشيخ أبي الفتوح الرازيّ.

أنّه حرّ ؛ لأنّ ذلك يعرّض سلامة الآخرين للخطر ، فلا بدّ أن يتحدّد تجوّله ، تجنيباً للمجتمع من كوارث ذلك المرض.

إنّ هذه الأمثلة وأشباهها توضّح أهميّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ومكانتهما ومدى أثرهما في سلامة المجتمع واستقامته وصلاحه ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظارة عموميّة ، ورقابة صارمة تمنع من تفشّي المنكر وتساعد على نمو الخير ، وازدهاره. وهما إلى جانب ذلك سبب قويّ في بقاء الدين ، واستمرار الرسالة الإلهيّة.

ولقد وردت في التأكيد على هذه المهمّة الخطيرة آيات قرآنيّة كثيرة ، وأحاديث ، تأمر الجميع بالقيام بالدعوة إلى الخير ، وإنكار المنكر ، وهي معلومة وواضحة لكلّ من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلاميّة.

نعم ، ربّما يُتوهّم من بعض الآيات خلاف ذلك ، وهي تلك الآيات التي يتمسّك بها بعض طلاب الراحة والعافية واتّباع الهوس لسدّ باب التبليغ والدعوة ، أو للتخلّص من تحمّل مشكلاتها ، وصعوبتها ، ومن تلك الآيات قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة : 105 ).

وقد رفع المفسّرون النقاب عن وجه هذه الآية وفسّرها الأمين الطبرسيّ في تفسيره مجمع البيان بقوله : « إنّ الآية لا تدل على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يؤخذ بذنوب العاصي » (1).

بيد أنّ لنا توضيحاً آخر لمفاد هذه الآية وهو : أنّ الآية تشير إلى سيرة عقلائيّة وقضيّة عقليّة وهي أنّ على من يريد إصلاح المجتمع أن يبدأ بنفسه ثمّ يتعرّض لإصلاح الآخرين فما لم يصلح المرء نفسه ليس له أن يؤدّب غيره ، وإلى ذلك يشير الإمام عليّ علیه السلام قائلاً : « من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبهُ بسيرته قبل تأديبه بلسانه ، ومعلمُ نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس

ص: 288


1- تفسير مجمع البيان 3 : 254.

ومؤدّبهم » (1).

وبالجملة أنّ الآية ناظرة إلى الاجتماعات الفاسدة الغارقة في الفساد والانحراف ... فإنّ الطريق الوحيد لإصلاحها هو الابتداء بإصلاح الذات وعدم توقّع أي إصلاح للغير قبل ذلك ؛ وأن لا يترك إصلاح نفسه بحجّة أنّ المجتمع فاسد وإليه يشير قوله سبحانه : ( لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ويؤيد ذلك قول النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ».

فقيل : يا رسول ، من الغرباء ؟ فقال : « الَّذين يصلحون إذا أفسد الناس من سنَّتي » (2).

وهذا الحديث يرفع التوهّم حول الآية خصوصاً إذا قرئ قوله صلی اللّه علیه و آله : « يصلحون » بصيغة اللازم ، فإلى هذا المعنى تشير الآية المذكورة. وعلى أي تقدير فالآية لا ترتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تمتّ بهما بصلة.

ولقد كفى في أهميّة هذه الوظيفة أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد بلغا من الأهميّة والأثر حتّى صارا أفضل من الجهاد إذ قال الإمام عليّ علیه السلام : « وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل اللّه عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ كنفثة في بحر لجّيّ » (3).

ووجه هذه الأفضليّة على الجهاد وسائر أعمال البرّ هو أنّ ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بكلا قسميه ( الفرديّ والاجتماعيّ ) كما سيوافيك بيانهما مكافحة داخليّة ، والجهاد كفاح خارجيّ. والاُولى متقدّمة على الثانية ، فلو لم يصلح الداخل لم يصلح الخارج ، وما دام الداخل غير مستعدّ للإصلاح لا يمكن للمسلمين أن يخطوا أيّة خطوة لإصلاح الخارج.

كما ويؤكّد ضرورة إنكار المنكر وحرمة تركه قوله تعالى : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي

ص: 289


1- نهج البلاغة : - الحكم - الرقم (73).
2- جامع الاُصول 10 : 212 ، أخرجه الترمذي.
3- نهج البلاغة : قصار الحكم الرقم (374).

الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء : 140 ).

فهذه الآية تدلّ على أنّ السكوت على المنكر يوجب أن يكون الساكت على الذنب كالمرتكب له ، ولأجل ذلك قال الإمام عليّ علیه السلام : « إنَّما يجمع الناسُ الرِّضى والسَّخطُ وإنَّما عقر ناقة ثمود رجُل واحد فعمَّهُم اللّه بالعذاب لمَّا عمّوهُ بالرِّضى » (1).

ثمّ إنّ الغور في هذه الوظيفة الإسلاميّة ومعرفة شروطها وفروعها وآثارها الحيويّة يستدعي إفراد رسالة مفصّلة خاصّة بذلك.

غير أنّنا نقتصر هنا على ذكر ما يرتبط ببحثنا وهو إثبات وجود ( السلطة التنفيذيّة ) في نظام الحكم الإسلاميّ فنقول : إنّ النظر في مهمّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يتمثّلون - في الحكومة الإسلاميّة - في ( الهيئة التنفيذيّة ) فليست هذه السلطة في حقيقة الأمر إلاّ القائمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صعيدهما الاجتماعيّ العموميّ. والوقوف على هذا المطلب يحتاج إلى التنبيه على أنّ فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) تنقسم إلى وظيفتين :

1. وظيفة فرديّة.

2. وظيفة اجتماعيّة عموميّة.

وهما يختلفان ماهيّةً وشروطاً حسبما نعرف ذلك من الكتاب والسنّة كما سيوافيك بيانه.

أمّا الكتاب فنجده يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارةً على المجتمع ، أي على كلّ فرد فرد من أعضاء الاُمّة الإسلاميّة ، وتارةً على جماعة خاصّة من المجتمع الإسلاميّ وإلى القسم الأوّل ( الفردي ) يشير قوله تعالى : ( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ

ص: 290


1- نهج البلاغة : الخطبة (201).

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة : 71 ).

وقوله تعالى : ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ) ( التوبة : 112 ).

وقوله سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) ( آل عمران : 110 ).

إلى غير ذلك من الآيات ، والخطابات الموجّهة إلى المجتمع بصورة عامّة.

وإلى القسم الثاني تشير الآيات التي تضع هذه الوظيفة على عاتق جماعة خاصّة وتعبّر عنها ... ب ( اُمّة ) ... وفي ذلك قوله سبحانه : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( العمران : 104 ).

ومن المعلوم أنّ الاُمّة عبارة عن جماعة خاصّة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر ، وهي وإن كانت تطلق أحياناً على الفرد الواحد كقوله سبحانه : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( النحل : 120 ) لكنه إطلاق واستعمال غير شائع فلا تحمل الآية عليه. وقد فسّر الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام هذه الآية بقوله : « وسُئل عن الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أواجب هو على الاُمّة جميعاً ؟ فقال : لا ، فقيل لهُ : ولم ؟ قال : إنَّما هُو على القوي المُطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضَّعيف ... والدَّليلُ على ذلك كتاب اللّه عزَّ وجلَّ قوله : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) فهذا خاص غير عام كما قال اللّه عزَّ وجلَّ : ( وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ( الأعراف : 159 ) ولم يقل : على أُمَّة موسى ولا على كُلِّ قومه ، وهم يومئذ اُمم مختلفة والاُمّة واحد فصاعداً كما قال اللّه عزَّ وجلَّ : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ ) » (1).

ص: 291


1- وسائل الشيعة 11 : 400.

وقوله تعالى : ( إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج : 41 ).

فهذه الآية تشير - بوضوح - إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكورين في الآية هو من النوع الذي يحتاج إلى المكنة والقدرة والسلطة ، فالوصف فيه وصف للمؤمنين الذين تمكّنوا من السلطة ... وبالتالي فهو وصف للجهاز الحاكم والسلطة التنفيذيّة ، ولا يمكن إرجاعه إلى عامّة المسلمين لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتوجّبين على الكافة لا يختصّ بظرف المكنة في الأرض ، ولا يتقيد بقيد السلطة ، بل تجب مراتبه قلباً ولساناً في جميع الأحوال بل يمكن أن يقال أيضاً إنّ الدعوة والتبليغ حتى باللسان على قسمين :

قسم يمكن أن يقوم به كلّ مسلم عارف بضروريات الإسلام من واجبها وحرامها.

وقسم لا يمكن أن يقوم به إلاّ فرقة من كلّ طائفة ممّن صرفوا أوقاتهم وأعمارهم في تعلّم الدين بعمقه وتفاصيله وجزئيّاته ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة : 122 ).

وقد سئل الإمام الصادق علیه السلام عن قول رسول اللّه : « اختلافُ أُمّتي رحمة » فقال : « صدقوا في هذا النَّقل » فقلت : إن كان أختلافهم رحمةً فاجتماعهم عذاب قال : « ليس حيثُ تذهب وذهبوا ، إنَّما أراد قولُ اللّه تعالى : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهُم اللّه أن ينفروا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمَّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أرادهم من البلدان لا اختلافهم في الدين ... إنّما الدّينُ واحد » (1).

ص: 292


1- تفسير البرهان 2 : 172 ومعاني الاخبار : 157 وعلل الشرائع 1 : 60 وقد نقلها صاحب الوسائل في 8 : 101 - 102.

وأمّا الأحاديث والأخبارُ الواردة في شأن وظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فهي أيضاً تُقسِّم هذه الفريضة إلى قسمين :

قسم لا يحتاج القيام به الى جهاز خاص وقدرة وتمكّن ، لأنّه لا يتجاوز القلب واللسان والوجه. وقسم يتوقّف القيام به على الجهاز والقوَّة والسّلطة.

وإلى القسم الأوّل يشير ما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام إذ قال : « من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميّت بين الأحياء » (1).

وعنه علیه السلام أيضاً قال : « أمرنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة » (2).

وقال علیه السلام أيضاً : « أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة » (3).

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام إذ قال : « حسبُ المؤمن غيراً ( أي غيرة ) إذا رأى منكر أن يعلم اللّه عزَّ وجلَّ من قلبهُ إنكاره » (4).

وهذا القسم من الأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يشملُ كلّ فرد من أفراد المسلمين ولا يتجاوز القلب والوجه واللسان ويمكن لأيِّ فرد من الأفراد القيام به ؛ إذ لا يحتاج إلى تكلّف مؤنة ، ولا توفّر قوَّة وسلطة وهو بالتالي يعمُّ كلّ مسلم آمراً ومأموراً حاكماً ومحكوماً.

وأمّا القسم الثاني ؛ وهي الأحاديث التي تجعل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر دعامةً لأقامة الفرائض ، وسبيلاً إلى أمن الطرق والمسالك ، وردِّ المظالم ، وردع الظَّالم ، ووسيلةً إلى عمارة الأرض والانتصاف من الأعداء وهي اُمور لا تتحقّق إلاّ بجهاز قادر متمكِّن فهي كالتالي :

قال الإمام محمّد بن علي الباقر علیه السلام : « إنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض والنَّهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء بها

ص: 293


1- وسائل الشيعة 11 : 1. 413.
2- وسائل الشيعة 11 : 1. 413.
3- وسائل الشيعة 11 : 2. 409.
4- وسائل الشيعة 11 : 2. 409.

تأمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض ، وينتصف من الأعداء ، ويستقيم الأمر » (1).

ومن المعلوم أنّ الأمر والنّهي المؤدّيين إلى أمان الطّرق والمسالك وعمارة الأرض والانتصاف من الأعداء للمظلومين لا يتيسّر إلاّ بجهاز تنفيذيّ قويّ ، وسلطة إجرائيّة قادرة تتحمّل عبء الأمر والنّهي على المستوى العموميّ وبواسطة الأجهزة والتشكيلات ، هذا مضافاً إلى أنّ ذكر الأنبياء في الحديث لعلّه يوحي بأنّ الأمر والنهي المذكورين هنا هو ما كان مقروناً بالحاكميّة والسلطة على غرار ما كان للأنبياء علیهم السلام حيث كانوا يمارسون مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - غالباً - من موقع السلطة والحاكميّة والولاية لا من موقع الفرد ومن موضع التبليغ ومجرد الوعظ والإرشاد الفرديّ.

وعن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات ، وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء » (2)(3).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردِّ المظالم ، ومخالفة الظالم وقسمه الفيء وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها » (4).

ومن البين أنّ مخالفة الظالم وردعه وإيقافه عند حدّه ، وتقسيم المال بين المسلمين بصورة عادلة وأخذ الصدقات والموارد الماليّة ، الذي يعني التنظيم الاقتصاديّ على المستوى العام للمجتمع ، لا يتأتّى عن طريق الأمر والنهي الفرديين والمنحصرين في إطار الموعظة بل يحصل ويتحقّق بوجود جهاز تنفيذيّ حاكم وسلطة إجرائيّة تتولّى إدارة دفّة البلاد وفق تعاليم الإسلام ، فإنّ مثل هذا الأمر والنهي يحتاج إلى استعمال القوّة

ص: 294


1- وسائل الشيعة 11 : 1. 398.
2- وسائل الشيعة 11 : 1. 398.
3- وسائل الشيعة 11 : 403 ، وقد ورد مثلها عن الإمام الحسين بن عليّ في تحف العقول : 171 ( طبعة بيروت ).
4- وسائل الشيعة 11 : 403 ، وقد ورد مثلها عن الإمام الحسين بن عليّ في تحف العقول : 171 ( طبعة بيروت ).

لإجراء الحدود والعقوبات وتنفيذ الأحكام الجزائيّة ، وهي اُمور لا يمكن أن تتحقّق إلاّ في ظلّ سلطة وجهاز تنفيذيّ.

من هنا ؛ تكون الوظيفة العموميّة وما يترتّب عليها من الحبس والتأديب والقصاص وما شابه ؛ مقتضية لوجود سلطة تنفيذيّة يعهد إليها الأمر والنهي الاجتماعيين العموميين ، الذين فيهما صلاح عامّة الناس ، واستقامة اُمورهم عامّة ويمكن إستفادة هذا المطلب من كلام للسيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام إذ قالت : « والأمرُ بالمعروف مصلحة للعامَّة » (1).

إذ أي أمر بالمعروف يمكن أن يكون مصلحة للعامّة إذا لم يكن القائم به جهاز ذو قدرة وسلطان يقوم بذلك عن طريق التشكيلات والتنفيذ العام.

كما ويمكن استفادة ذلك أيضاً من كلام الإمام عليّ علیه السلام إذ قال : « ... أخذ اللّه على العُلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم وسغب مظلوم » (2).

فكيف يمكن منع الظالم من ظلمه ، ومنع المستغلّ من الاستئثار بلقمة الفقير ، إلاّ بجهاز وسلطة خاصّة ، فليس العلماء المذكورون في هذا الحديث إلاّ ذلك الجهاز التنفيذيّ القادر على الإجراء.

وكذا يستفاد هذا الأمر من كلام آخر للإمام علیه السلام وهو يتحدّث عن الوالي وماله وما عليه : « اللّهمَّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنردَّ المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطَّلة من حدودك » (3).

ص: 295


1- بلاغات النساء لابن طيفور - المتوفّى عام ( 380 ه ) - ص 12 ، ومعاني الأخبار : 336.
2- نهج البلاغة : الخطبة (3).
3- نهج البلاغة : الخطبة (127) شرح عبده ، وقد ورد نظيره عن الإمام الحسين بن عليّ إذ قال : « اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ، ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك » راجع تحف العقول : 172 ( طبعة بيروت ).

فكيف يمكن أمان المظلومين ، وإقامة الحدود المعطّلة وإظهار الإصلاح العام في البلاد وتطبيق سنن اللّه وأحكامه بلا استثناء إلاّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعتمدين على السلطة والناشئين عن جهاز تنفيذيّ ؟

إذ كيف يمكن قيام الفرد أو الأفراد بكلّ ذلك وهو بحاجة إلى قدرة وتمكّن ونفوذ أمر وسلطان ؟

ويمكن تأييد ضرورة وجود هذه السلطة واختصاص هذا النوع من ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يتجاوز القلب والوجه واللسان ويتعدّاه إلى ( اليد ) وإستعمال القوة والسلطة ؛ بتنديد اللّه بالربانيّين والأحبار الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم المسؤولون عن ذلك لأنّهم كانوا في مقام الإمرة وفي موقع السلطة فقال اللّه تعالى : ( وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة : 62 - 63 ).

وقد أشار الإمام عليّ علیه السلام إلى تفسير هذه بقوله : « أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حينما عملوا من المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك وأنَّهم لمَّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات » (1).

وهكذا تفيد نصوص الكتاب والسنّة وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ أحدهما وظيفة جميع الأفراد والآخر وظيفة سلطة قادرة ..

وبذلك يجمع بين الطائفتين من الآيات والروايات اللتين يضع قسم منها هذه الوظيفة على عاتق الجميع ، وقسم منها على عاتق جماعة خاصّة ؛ فالأوّل راجع إلى الوظيفة الفرديّة منهما ، فهو الذي يجب على الجميع ، والثاني راجع إلى الوظيفة الاجتماعيّة التي تختصّ باُمّة متمكّنة من السلطة.

وممّا يدلّ على هذا إلى جانب تلك النصوص فتاوى الفقهاء - في باب الحدود -

ص: 296


1- وسائل الشيعة 11 : 395.

والتي تضافرت على أنّه لو وجب قتل مسلم قصاصاً لم يجز لأحد أن يقتص منه غير ولي الدم بإذن الحاكم أو الحاكم نفسه ، فلو قتله غيره كان عليه القود ، ولا يتوهّم أنّ من وجب عليه إجراء الحدّ ، يكون مهدور الدم بالنسبة إلى كلّ واحد فإنّه توهّم باطل ... فإنّ من وجب عليه الحد والقصاص على أقسام :

1. إمّا أن يكون مهدور الدم لكلّ أحد كساب النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو الكافر الحربيّ ، فإنّه إذا قتله المسلم أو الذمي لا قود عليهما. ولكنّهما يعزّران لتدخلهما في أمر الحاكم.

2. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى المسلمين كالمرتد الفطريّ ، فإذا قتله المسلم لا قود عليه ، ولو قتله الذميّ فعليه قود ، ومع ذلك فيعزّر المسلم لو قتله للتدخّل المذكور.

3. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من له القصاص ( أي وليّ الدم ) ومن إليه القصاص ( أي الحاكم ) كالقاتل المسلم ظلماً فلا يجوز لغير ولي الدم أو الحاكم قتله (1).

4. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من إليه الحكم ، كاللائط والزاني المحصن.

كما أنّ ممّا يدلّ على وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أنّ الفقهاء ذكروا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شروطاً أربعة هي :

1. أن يكون عارفاً بالمعروف من المنكر.

2. أن يحتمل تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب عليه شيء.

3. أن يكون الفاعل للمنكر مصرّاً على الاستمرار فلو لاحت منه إمارة الامتناع أو قلع عنه ، سقط الإنكار.

4. أن لا يكون في الإنكار مفسدة ، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه ، أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط (2).

ص: 297


1- راجع جواهر الكلام ونظائر هذه المسألة من ص 159 - 198 الجزء 41.
2- شرائع الإسلام : كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن المعلوم ؛ أنّ الشرط الثاني ( احتمال التأثير ) والثالث ( الإصرار على المنكر ) من شروط القسم الفرديّ من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا الاجتماعيّ منهما إذ لا يعتبر في الاجتماعيّ من هذه الفريضة احتمال التأثير ، بل للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة فيقتصّ من القاتل أو الجارح ، ويقطع يد السارق سواء أكان هناك تأثير أم لا.

كما أنّ للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة سواء كرّر المجرم أم لم يكرّر جريمته ومعصيته ، ولأجل هذا يجب التمييز والفصل بين الأمر والنهي الفردي ، والأمر والنهي الاجتماعيّ العموميّ لاختلافهما في الشروط والغايات. ولا شكّ أنّ هذه المغايرة والتمايز يكشف - وبمعونة ما سبق وما يأتي من الأدّلة - عن أنّ القسم الثاني من هذه الفريضة هو من شأن سلطة تنفيذيّة وجهاز حكم وليس من شأن الأفراد.

دفع إشكال حول الأمر والنهي :

ربما يتوهّم أحد أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطويان على مجرّد طلب فعل المعروف وطلب ترك المنكر وهذا ممّا لا يتحقّق في إجراء حدّ القتل أو الرجم على المحكوم بهما ، فكيف يمكن أن نعتبرهما من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟

ولكن هذا الإشكال مدفوع بأنّ الطلب الإنشائي الذي هو من قبيل المفهوم ، وإن لم يكن موجوداً في إجراء حدّ القتل والرجم لكنّه فيه واقعيّة الطلب وحقيقته وأثره ، إذ باجراء هذين الحدّين تنعدم المنكرات واقعاً ، ولو بالنسبة للآخرين ، وهذا نظير قوله سبحانه : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة : 179 ) فإن قتل القاتل وإن كان سلباً لحياته لكنّه إحياء للنفوس الاُخرى. وهو هدف القصاص ، ولأجل ذلك كانت العرب تقول في مورد القصاص « القتل أنفى للقتل ».

وخلاصة القول أنّ الأثر المطلوب من إجراء الحدود وإن كان منفيّاً بالنسبة إلى الجاني نفسه ولكنّه موجود بالنسبة إلى المجتمع.

ص: 298

هذا وممّا يؤكد وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنّ علماء الإسلام ذكروا للمحتسب وهو من يقوم بالأمر والنهي الاجتماعيّين شروطاً لا تعتبر في القسم الفرديّ من هذه الفريضة.

فقد قال ابن الاخوة القرشيّ في كتابه معالم القربة في أحكام الحسبة :

الحسبة من قواعد الاُمور الدينيّة ، وقد كان أئمّة الصدر الأوّل يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي : أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله وإصلاح بين الناس ، قال اللّه تعالى : ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ( النساء : 114 ).

والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعيّة والكشف عن اُمورهم ومصالحهم ( وفي نسخة اُخرى : وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم ومساكنهم وطرقاتهم ) وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ومن شروط المحتسب أن يكون : ( مسلماً ) ( حرّاً ) ( بالغاً ) ( عاقلاً ) ( عدلاً ) ( قادراً ) (1).

ومن المعلوم أنّ ( الحريّة ) و ( البلوغ ) و ( العدالة ) ليست شروطاً في القسم الفرديّ من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فهذا التباين في الشرائط والصلاحيّات يكشف - بوضوح - عن تنوّع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى نوعين مختلفين : فرديّ ، وعموميّ ، والأوّل هو وظيفة كلّ فرد من أفراد المسلمين ، بينما يختصّ الثاني بجهاز وسلطة ويتطلّب وجودها في الحياة الإسلاميّة.

وظيفة المحتسب والسلطة التنفيذيّة :

وممّا يدلّ على اختصاص القسم الاجتماعيّ من وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي

ص: 299


1- معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الاخوة : 7.

عن المنكر ) والمسمّى بالحسبة ، بالسلطة التنفيذيّة ؛ مطالبة الإمام عليّ علیه السلام أحد ولاته على بعض الأمصار بأن يقوم بها - وهو في موقع الحكم - باعتبار أنّ ذلك أحد مسؤوليّاته ووظائفه وهو يتولّى اُمور المسلمين إذ قال : « من الحقّ عليك حفظُ نفسك والاحتسابُ على الرَّعيّة بجهدك فإنّ الّذي يصلُ إليك من ذلك ( أي من جانب اللّه ) أفضلُ من الّذي يصلُ بك ( أي من جانب الناس ) ».

وقد أشار صاحب كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة فروقاً بين المحتسب والمتطوّع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ قال : ( وأمّا ما بين المحتسب المتولّي من السلطان وبين المنكر المتطوّع من عدّة أوجه :

أحدها : أنّ فرضه متعيّن على المحتسب - بحكم الولاية - وفرضه على غيره داخل تحت فرض الكفاية.

الثاني : أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره ، وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.

الثالث : أنّه منصوب للاستعداء إليه في ما يجب إنكاره ، وليس المتطوّع منصوباً للاستعداء.

الرابع : على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.

الخامس : أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعواناً لأنّه عمل هو له منصوب ، وإليه مندوب وليكون له أقهر ، وعليه أقدر ، وليس للمتطوّع أن يتّخذ لذلك أعواناً.

السادس : أنّ له أن يعزّر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود ، وليس للمتطوّع أن يعزّر.

السابع : أن يرتزق على حسبته من بيت المال وليس للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر ... إلى غير ذلك.

فهذه وجوه الفرق بين من يحتسب بولاية السلطان ( أي يقوم بالقسم الاجتماعيّ

ص: 300

من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وبين من يحتسب تطوّعاً ( أي يقوم بالقسم الفرديّ من تلك الوظيفة » (1).

وقد أشار ابن الاخوة في مقدّمة كتابه إلى أنّ الحسبة منصب سياسيّ حكوميّ ، فالمحتسب يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موقع الحكم فقال : « لقد رأيت أن أجمع - في هذا الكتاب - أقاويل العلماء مستنداً به إلى الأحاديث النبويّة ما ينتفع به من استند لمنصب الحسبة وقلّد النظر في مصالح الرّعية وكشف أحوال السوقة ، واُمور المتعيّشين على الوجه المشروع ليكون ذلك عماداً لسياسته وقواماً لرئاسته » (2).

وممّا يدلّ على أنّ القسم الاجتماعيّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ المصطلح عليه في لسان الفقهاء بالحسبة لا يختصّ بمجرّد بيان المحرّمات والواجبات بل يقع على عاتق المحتسبين ما يتعدّى الوعظ والإرشاد إلى إستعمال القوّة والسلطة ، ما ذكره الفقهاء للمحتسبين من وظائف كثيرة تشمل كافّة مناحي الحياة الاجتماعيّة وتقترن - في الأغلب - باستخدام الردع العمليّ والإشراف القاطع والمؤاخذة والعقاب. وإليك نماذج من وظائف المحتسب (3) التي توزّعت اليوم في وزارات ومديريّات مختلفة :

1. الحسبة على الآلات المحرّمة والخمر ، فإذا جاهر رجل بإظهار الخمر أراقه المحتسب ، وأدّبه إن كان ذلك الرجل مسلماً ، أو أدّبه على إظهاره إن كان ذميّاً ... وهكذا بالنسبة إلى الالات المحرّمة ، فإنّ المحتسب يفصلها حتى تعود خشباً ، ويؤدّب صاحبها.

ويمكن أن يدخل هذا في شؤون وزارة الداخليّة.

2. الحسبة على أهل الذمة ومراقبة أحوالهم وتصرّفاتهم ، ومدى التزامهم بعهودهم ، ومراعاتهم لشروطها ، ويدخل هذا في شؤون وصلاحيّات وزارة الداخليّة.

ص: 301


1- معالم القربة في أحكام الحسبة : 11.
2- معالم القربة : 3.
3- لقد وردت كلمة الحسبة في مجمع البحرين هكذا : الحسبة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واختلف في وجوبها عيناً أو كفاية. راجع باب حسب ص 106.

3. الحسبة على أهل الجنائز ، ومراقبة شؤونها من جهة الاُمور الصحيّة والحقوقيّة ويدخل في شؤون وزارة الداخليّة ، ووزارة الصحّة.

4. الإشراف على المعاملات التجاريّة لمنع المعاملات الفاسدة كالبيوع الفاسدة وتعاطي الربا ، والمسلم الفاسد ، والإجارة الفاسدة وهي تدخل في شؤون وزارة العدل.

5. الإشراف على العلاقات الاجتماعيّة والأخلاقيّة ومنع الناس من مواقف الريب ومظانّ التهم ممّا يدخل في شؤون وزارة الداخليّة.

6. مراقبة شؤون النقد ومنع التعامل بالنقود الزائفة ، بعد تحديدها وتعيينها وهو يدخل في شؤون وزارة المال والدوائر التابعة لها.

7. الحسبة على منكرات الأسواق كمنع بعض السوقة من سدّ طرقات المارّة بمتاعهم وما شابه مما يدخل في صلاحيات الدوائر التابعة للاُمور البلديّة. وكمنع الحمّالين من أشياء بنحو يلحق الضرر بالمارّة ، إمّا بتمزيق ثيابهم أو تلويثها.

8. ضبط المكاييل والمقاييس والأوزان المستعملة في الأسواق ، وتعيينها والمنع من التلاعب فيها ممّا يدخل في شؤون البلديّة.

9. مراقبة تجّار الغلاّت للحيلولة دون احتكارها ، أو التلاعب فيها وتعيين أسعارها عند الضرورة ممّا يدخل في صلاحيّات وزارة التجارة والاقتصاد.

10. مراقبة الخبّازين وأصحاب الأفران من الناحية الصحيّة منعاً من إصابة الناس بالأمراض والأوبئة ، وهو يدخل في شؤون وزارة الصحة وكذا مراقبة كلّ باعة الأغذية ، والحلويّات والشرابت لنفس الغرض ... وأيضاً من ناحية الأسعار.

11. ملاحظة القصّابين واللحّامين لمنعهم من فعل ما يوجب التلوث كذبح الحيوانات في الأسواق أو بيع اللحوم الفاسدة ، وتحديد أسعارها وإعطائهم التعليمات الصحيّة وهو يدخل في صلاحيّات وزارتي الصحة والتجارة. والدوائر التابعة لها.

12. مراقبة البزّازين وبيّاع الألبسة وما يتعلّق بهذه المهن من شؤون لمنع أي تلاعب

ص: 302

في هذا المجال ، أو تلاعب في الأسعار والقيم ، وكذا مراقبة الخيّاطين وصنّاع الثياب.

13. مراقبة كلّ المشاغل والمهن وأصحاب الحرف كالصاغة والحدّادين ، والنحاسين ، والصبّاغين ، والبياطرة ، والحمّامات وأصحابها والفصّادين والحجّامين والأطبّاء والمجبّرين والجرّاحين مراقبة شاملة من ناحية الأسعار والمبالغ التي يتقاضونها ، أو شروط العمل ، أو مواصفاته الصحيّة ممّا يدخل بعضها في شؤون وزارة التجارة والاقتصاد ، وبعضها الآخر في شؤون وزارتي الصحّة والداخليّة.

14. مراقبة المساجد والمؤذنيين والوعّاظ والقرّاء ، وعدم السماح لتصدّي هذه المشاغل إلاّ لمن اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة ويكون عالماً بالاُمور والعلوم الشرعيّة ممّا يدخل الآن في نطاق صلاحيّات وزارة الأوقاف.

15. الحسبة على مؤدّبي الصبيان ومعلّمي الأولاد ، ومراقبة شروط الدراسة ومكانها وكيفيتها وما يرتبط بذلك ممّا يدخل في مسؤوليّات وزارة التربية والتعليم.

16. الحسبة على كتّاب الرسائل لمنع تصدّي من لا أهليّة له لذلك لما في هذا الأمر من خطر على أسرار الناس وأعراضهم.

17. القيام ببعض التعزيرات والتأديبات لمن يتخلّف عن القوانين الإسلاميّة المقرّرة.

18. الحسبة على أصحاب السفن والمراكب ومراقبة الطرق ووسائط النقل ممّا يكون من شؤون وزارة الطرق والمواصلات.

19. الحسبة على شؤون العمل والعمّال ومراقبة شؤونهم وحقوقهم وظروف عملهم ممّا يدخل في شؤون ومسؤوليّات وزارة العمل ، والشؤون الاجتماعيّة و ( الضمان الاجتماعي ).

وغير ذلك (1).

ص: 303


1- راجع هذه التفاصيل في كتاب معالم القربة تصفّح كلّ الأبواب.

وللوقوف على وظائف المحتسب باختصار ؛ نذكر لك ما كتبه ابن خلدون في مقدمته : « أمّا الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم باُمور المسلمين يعيّن لذلك من يراه أهلاً له فيتعيّن فرضه عليه ويتّخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزّر ويؤدّب على قدرها ، ويحمل الناس على المصالح العامّة في المدينة ، مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمّالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقّع من ضررها على السابلة والضرب على أيدي المعلّمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلّمين ، ولا يتوقّف حكمه على تنازع واستعداء بل له النظر فيما يصل إلى علمه من ذلك ... بل فيما يتعلّق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين ، وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك ... » (1).

إنّ من يلاحظ هذه المهام الموكلة إلى المحتسب والمحتسبين يرى أنّها نفس الصلاحيّات والمهام التي تقوم بها أجهزة السلطة التنفيذيّة المتمثّلة في الوزارات وما يتبعها من دوائر ومديريّات بتنظيم دقيق وعلى نطاق أوسع ، غاية ما هنالك أنّ الحياة الإسلاميّة في العصور الغابرة والعهود الإسلاميّة الاُولى لم تستلزم التوسّع في الأجهزة والتشكيلات على غرار ما نلاحظ اليوم ، بل اكتفي بالمحتسب أو المحتسبين ولكن التطوّر الحضاريّ ، واتّساع البلاد ، وتزايد الحاجات تطلّبت إحالة تلك المهام والمسؤوليّات والصلاحيّات إلى وزارات وأجهزة ومديريات هذا مضافاً إلى أنّ الإسلام اهتمّ ببيان الخطوط العريضة للحكم والولاية ، واعتنى ببيان جوهر الوظائف ، تاركاً اختيار الظواهر والشكليّات للزمن والحاجة ، ما دامت تتّفق مع ما رسمه من خطوط ووظائف وغايات.

إنّ الإسلام وإن أوكل الكثير من القضايا الاجتماعيّة إلى الحاكم كما مرّ عليك باختصار ؛ ولكن هل يمكن للحاكم ، وهو يواجه كلّ يوم آلاف المشاكل والقضايا أن

ص: 304


1- مقدمة ابن خلدون المتوفّي ( 808 ه ) : 225 - 226.

يقوم بكلّ أعباء الولاية والحكومة لوحده دون معاونين ووزراء ، ودون أجهزة وتشكيلات ... ؟ الجواب لا قطعاً.

هذا ولقد ورد ذكر الوزير والوزراء في عهد الإمام عليّ علیه السلام لمالك الأشتر النخعيّ لمّا ولاّه على مصر حيث قال : « إنّ شرَّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شركهم في الآثام فلا يكونّن لك بطانة فإنّهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة »(1).

وهذا يعني أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى للبلاد أن يتّخذ لنفسه ( وزراء ) يعينونه على إدارة البلاد ، وتنفيذ القوانيين ، وأنّ عليه - وراء ذلك - أن يختار بدقّة وعناية اُولئك الوزراء وأفراد السلطة التنفيذيّة ؛ لما لهم من أثر حسّاس في الأحوال الاجتماعيّة والسياسيّة.

وربمّا عبّر في الإسلام عن الوزير بالكاتب كما جاء في عهد الإمام عليّ علیه السلام لمالك الأشتر ، قال الاُستاذ توفيق الفكيكي في كتابه « الراعي والرعية » : « قال الإمام عليّ : « ثمَّ انظر في حال كتّابك » ، ولم يقل ( كاتبك ) علمنا أنّ معنى الكاتب يراد به الوزير في عرف اليوم فقد جوّز علیه السلام تعدّد الوزراء على قدر الحاجة التي تدعو إليها المصلحة العامّة ويؤكّد هذا ما جاء في آخر كلامه المتقدّم : ( و اجعل لرأس كلّ أمر من أُمورك رأساً منهم لا يقهره كبيره ولا يتشتَّت عليه كثيرها ) » (2).

ثمّ إن السلطة التنفيذيّة اجتمعت في القرآن تحت كلمة ( اُولي الأمر ) وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في عدّة مواضع : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ( النساء : 59 ).

( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) ( النساء : 83 ).

ص: 305


1- نهج البلاغة : الرسالة 53.
2- الراعي والرعيّة : 162 - 163 وهو شرح وتحليل سياسيّ لعهد الإمام عليّ علیه السلام للأشتر النخعيّ.

وغير خفيّ على المتتبّع في الآثار النبويّة أنّ المراد من اُولي الأمر حين نزول الآية هو الذي نصّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله على أسمائهم من أوّلهم إلى آخرهم ، بيد أنّهم كانوا مصاديق كاملة لهذا العنوان وكان الإشارة إليهم من باب أظهر المصاديق فعندما لا تتمكّن الاُمّة الإسلاميّة من هؤلاء المنصوص عليهم تتمثّل هذه القضية الكليّة في ( العدول ) من أئمّة المسلمين الذين يديرون دفّة البلاد.

ثمّ قد سبق القرآن الكريم إلى هذا بصورة ضمنيّة عند حكايته لقول موسى علیه السلام وطلبه من اللّه تعالى إذ قال : ( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) ( طه : 29 - 31 ).

وهو يكشف عن وجود الوزراء للحاكم الأعلى في النظام السياسيّ الإسلاميّ ليشدّوا أزره ، ويعينوه على الإدارة والولاية.

ولقد أقرّ الإسلام وجود السلطة التنفيذيّة وأخذ بها عمليّاً حيث كان النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله يقسّم المسؤوليّات الإداريّة والسياسيّة على الأفراد ، وإن لم يكن هذا التقسيم تحت عنوان إلاستيزار ، واتّخاذ الوزراء ، كما ستعرف.

وخلاصة القول ؛ أنّ القارئ الكريم إذا لاحظ برامج الحكومة الإسلاميّة التي يجب أن يقوم بها النظام الإسلاميّ ، يقف على أنّها لا يمكن تطبيقها بدون أجهزة كاملة ، وسلطة تنفيذيّة في مجالات الاقتصاد والزراعة والماليّة والدفاع والمواصلات وغير ذلك من البرامج وستقف عليها بإذن اللّه سبحانه في فصلها الخاصّ ، وكلّ من يقوم على هذه البرامج يعدّ جزء من السلطة التنفيذيّة.

السلطة التنفيذيّة على عهد النبيّ صلی اللّه علیه و آله

لا شكّ أنّ الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله كان إلى جانب مهامه الرساليّة ، يتولّى القسم الأكبر من إدارة شؤون المسلمين السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ولا شكّ أنّ رقعة البلاد الإسلاميّة - آنذاك - لم تبلغ من السعة والانتشار بحيث تتطلّب إنشاء تشكيلات

ص: 306

تنفيذيّة واسعة الأطراف والأبعاد ، ولذلك لم يكن في ( العهد النبوي ) سلطة باسم السلطة التنفيذيّة ، ولا وزارة ولا وزارات (1) ولا مديريّات مركزيّة ومحليّة على غرار ما يوجد الآن ، بل كان هناك فيما وقفنا عليه من خلال مطالعة ذلك العهد - تقسيم بعض المسؤوليّات الإداريّة والمهامّ السياسيّة على الأفراد القادرين على تحمّلها ، والصالحين للقيام بها ، وهذا هو المهمّ معرفته في هذا المقام ، فإنّ المهمّ هو معرفة كيفيّة إدارة المجتمع على عهد النبيّ صلی اللّه علیه و آله والاطّلاع على ما إذا اتّخذ النبيّ الأكرم وهو أوّل حاكم إسلاميّ أعلى للاُمّة الإسلاميّة من وازروه وعاونوه في مسألة الإدارة ، وتدبير شؤون الاُمّة في مجالات السياسة والعسكريّة والقضاء وما شابه أم لا ، لنرى ما إذا كان يتعيّن على الدولة الإسلاميّة أن تتّخذ مثل هذه السلطة أم لا ، وكيف ؟

إنّ المراجع لتاريخ الحكومة النبويّة يرى بوضوح ؛ أنّ النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان يمارس حكومته على المسلمين من خلال توزيع بعض المسؤوليّات على أفراد صالحين ، وكان ذلك يمثّل التشكيلات الإداريّة في ذلك العهد والتي تعادل الوزارات في هذا العصر ونحن لا ننكر أنّها كانت تشكيلات إداريّة بسيطة ، ولكنّها توسّعت فيما بعد واتّخذت أشكالاً أكثر تنظيماً وسعة باتّساع رقعة البلاد الإسلاميّة ، وتطوّر الحاجات الاجتماعيّة وتشعّبها ، واتّساع نطاقها الذي اقتضى - بدوره - التوسّع في التشكيلات الإداريّة وإحداث الوزارات والدواوين والدوائر والأجهزة التنفيذيّة المتعدّدة.

إنّ من يراجع تاريخ الحكومة النبويّة يجد أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يعيّن الاُمراء العامّين على النواحي ويقيم الولاة على البلاد ويعيّن رجالاً للقضاء ، وآخرين لجباية الصدقات وجلب الزكوات ، وآخرين للكتابة ، وربّما أمّر الرجل على قومه لأنّه أيقظ عيناً وأدرى بفنون الحرب من غيره ، أو خلّف أحداً مكانه عند غيابه ، كما كان يخلّف ابن اُمّ مكتوم في بعض الأحيان عند غيابه عن المدينة (2). وكما خلف عليّاً علیه السلام عند خروجه لغزوة

ص: 307


1- نعم اتّخذ النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليّاً علیه السلام وزيراً لنفسه كما يدلّ عليه حديث بدء الدعوة ، لاحظ الصفحة 83 من هذا الكتاب.
2- الكنى والألقاب ( للقمّي ) 1 : 208.

تبوك (1) وأمّر عتّاب بن أسيد على مكّة وأوكل إليه إقامة المواسم والحجّ للمسلمين عام الفتح.

النبيّ يعيّن الولاة ويحدّد مسؤوليّاتهم

وكان يعيّن الولاة ( الذين هم الآن بمثابة المحافظين ) وكان يرسم لهم منهجهم في الحكم وسياستهم الداخليّة ..

فقد بعث معاذ بن جبل إلى اليمن ووصّاه بما يلي :

« يا معاذ علّمهم كتاب اللّه ، وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة وأنزل النّاس منازلهم خيرهم وشرّهم وأنفذ فيهم أمر اللّه ، ولا تحاش في أمره. ولا ماله أحداً ، فإنّها ليست بولايتك ولا مالك وأدّ إليهم الأمانة في كلّ قليل وكثير ، وعليك بالرفق والعفو في غير ترك للحقّ ، يقول الجاهل قد تركت من حقّ اللّه ، واعتذر إلى أهل عملك من كلّ أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتّى يعذروك ، وأمت أمر الجاهلية إلاّ ما سنّه الإسلام.

وأظهر أمر الإسلام صغيره وكبيره ، وليكن أكثر همّك الصّلاة فإنّها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدّين وذكّر النّاس باللّه واليوم الآخر ، واتبع الموعظة فإنّه أقوى لهم على العمل بمّا يحبُّ اللّه ، ثمّ بثّ فيهم المعلّمين وأعبد اللّه الذّي إليه ترجع ولا تخف في اللّه لومة لائم.

وأوصيك بتقوى اللّه وصدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الخيانة ولين الكلام وبذل السلام وحفظ الجار ورحمة اليتيم وحسن العمل وقصر الأمل وحبّ الآخرة والجزع من الحساب ولزوم الإيمان والفقه في القرآن ، وكظم الغيظ ، وخفض الجناح.

وإيّاك أن تشتم مسلماً ، أو تطيع آثماً ، أو تعصي إماماً عادلاً أو تكذّب صادقاً ، أو

ص: 308


1- سيرة ابن هشام 2 : 520 وبحار الأنوار 21 : 207.

تصدّق كاذباً واذكر ربّك عند كُلّ شجر وحجر واحدث لكلّ ذنب توبةً ، السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية.

يا معاذ لولا أنّني أرى ألاّ نلتقي إلى يوم القيامة لقصّرتُ في الوصيّة ولكنّني أرى أنّنا لا نلتقي أبداً ..

ثمّ أعلم يا معاذ إنّ أحبّكُم إليّ من يلقاني على مثل الحال التّي فارقني عليها » (1).

وبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عمرو بن حزم إلى بني الحارث وجعله والياً عليهم ليفقّههم في الدين ، ويعلّمهم السنُّة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم الصدقات وكتب له كتاباً عهد إليه فيه عهده وأمره فيه بأمره : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، هذا بيان من اللّه ورسوله ، يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقُود ، عهد من محمّد النّبي رسول اللّه لعمرو بن حزم حين بعثهُ إلى اليمن أمرهُ بتقوى اللّه في أمره كُلّه ، فإنّ اللّه مع الّذين اتّقوا ، والّذين هم محسنون.

وأمره أن يأخذ بالحقّ كما أمره اللّه وأن يبشّر النّاس بالخير ، ويأمرهم به ، ويعلّم النّاس القرآن ويفقّههم فيه ، وينهى النّاس فلا يمس القران إنسان إلاّ وهو طاهر ويخبر النّاس بالذي لهم والذي عليهم ويلين للنّاس في الحقّ ويشتدّ عليهم في الظّلم فإنّ اللّه كره الظّلم ونهى عنه ، فقال : ( أَلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ( هود : 18 ) ويبشر النّاس بالجنّة وبعملها وينذر النّاس النّار وعملها ويستألف النّاس حتّى يفقهوا في الدّين ويعلّم النّاس معالم الحجّ وسنّته وفريضته ، وما أمر اللّه به ، والحجّ الأكبر : الحجّ الأكبر والحجّ الأصغر هُو العُمرة ... إلى آخر العهد ... » (2).

ومن هذين العهدين ، ونظائرهما ، يتبيّن لنا أنّ النبيّ كان يعهد بعض السلطات والمسؤوليّات إلى من يراه صالحاً من المسلمين ليقوموا بإدارة بعض أنحاء البلاد ، ويزوّدهم ببرامج وأنظمة للحكم والعمل السياسيّ والإداريّ ، ممّا يكشف عن وجود صورة مصغّرة عن السلطة التنفيذيّة إلى جانب الحاكم الأعلى للبلاد.

وقد كان له صلی اللّه علیه و آله عمّال للبريد ، وله تعليمات خاصّة لهم في هذا الشأن ومن ذلك

ص: 309


1- تحف العقول : 25 - 26.
2- سيرة ابن هشام 4 : 595.

قوله : « إذا أبردتم إليّ بريداً فأبردوه حسن الوجه حسن الاسم » (1).

وقوله لأحد عمّال البريد : « إذا جئت أرضهم فلا تدخل ليلاً حتّى تصبح وتطهّر فأحسن طهورك وصلّ ركعتين وسل اللّه النّجاح والقبول وأستعد لذلك وخذ كتابي بيمينك وادفعه بيمينك في أيمانهم » (2).

وربّما اتّخذ بعض الحراس الليليين ليتتبّعوا أهل الريب ، وقد عدّ من ذلك سعد ابن أبي وقّاص(3) ، وربّما اتّخذ حرساً خاصّاً في بعض الأحيان غير العادية ويذكر أنّ سعد بن معاذ كان حرسه يوم بدر (4).

وقد روي أنّ بعض المسلمين كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتّى ينقلوه حيث يباع الطعام ، قال ابن عبد البرّ : استعمل النبيُّ صلی اللّه علیه و آله سعيد بن سعيد العاص على سوق مكّة (5).

كما كان له كتاب الرسائل الذين كانوا يكتبون للملوك والاُمراء والبوادي وغيرهم وكان له من يقوم بمهمّة الحسبة التي مرّ ذكرها مفصّلاً (6).

وهكذا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يتّخذ المعاونين والمساعدين لإدارة ما يمكن لهم إدارته من الأعمال والمهامّ ... ويوكل إليهم من الصلاحيّات والمسؤوليّات ما تعارف إيكاله الآن إلى الوزارات والمديريّات والإدارات التي تشكّل حقيقة السلطة التنفيذيّة ، وقد كان إيكاله المهامّ للأشخاص مشفوعاً بإعطاء البرامج والتوجيهات الإداريّة المفصّلة التي مرّ عليك ذكر بعضها ، وتجد المزيد منها في كتب السير والتاريخ.

* * * كيفيّة السلطة التنفيذيّة الآن

بعد أن عرفت أيّها القارئ الكريم من البحثين السابقين ؛ أنّ جانباً كثيراً من

ص: 310


1- التراتيب الإداريّة 1 : 247.
2- راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة 294 إلى 428.
3- راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة 294 إلى 428.
4- (2. 5) راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة 294 إلى 428.
5- راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة 294 إلى 428.
6- التراتيب الإداريّة 2 : 285.

النظم الإداريّة والتوجيهات الضروريّة لتنظيم الحياة الاجتماعيّة في مجالات العلاقات والحقوق والتعامل ( كالتبادل التجاريّ مثلما جاء في الكتاب العزيز ضمن آيات أطولها آية الدين التي حثّت على كتابة الدين وتسجيله ) يتطلّب وجود جهاز تنفيذيّ وقد كان هذا الأمر يتم في العهد النبويّ ببساطة ؛ وان استوجب تزايد حجم الاُمور واتسّاع رقعة البلاد ، تطوير الترتيبات اللازمة لذلك ، وتوسيع التشكيلات ، يصبح الجواب على السؤال المطروح وهو ؛ كيف يجب أن تكون السلطة التنفيذيّة في العصور الحاضرة ؟ واضحاً من وجهة نظر الإسلام.

فإنّ ذكر الترتيبات والتشكيلات ليس من مهمّة الدين الإسلاميّ فذلك متروك للزمن المتحوّل ، والحاجات المتطوّرة ، لأنّ تحديدها وتعيينها بصورة لا يجوز تخطّيها لا ينسجم مع خاتميّة الرسالة الإسلاميّة التي نزلت لتكون دين الأبديّة ، ومنهج البشريّة إلى يوم القيامة ، فإنّ مثل هذه الخاصّية في الدين الإسلاميّ تقتضي أن يبيّن الإسلام الجوهر ويترك اختيار الشكل واللباس إلى الزمن والحاجة حتّى يستطيع مسايرة الزمن ويتمشّى مع تقدم الحياة البشريّة وتطوّرها ، إذ ذكر الخصوصيّات والأشكال يفرض على الدين الإسلاميّ جموداً هو منه براء ، ويحصره في زمن خاصّ دون زمن آخر ؛ لأنّ الحاجات البشريّة متجدّدة ومتحوّلة ومتزايدة ولا يمكن الجمود - في رفعها - على نمط خاصّ من التشكيلات والأشكال ، ولهذا نجده يذكر - مثلاً - موضوع تسجيل المعاملات الماليّة التي فيها أجل دون أن يحدّد نوع تنفيذ هذا الأمر وما يلزم من أجهزة ودوائر فيقول في أطول آية قرآنية :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ

ص: 311

ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( البقرة : 282 ).

إنّ هذه الآية ترسم أهمّ الاُسس التي يجب أن يبنى عليها التعامل التجاريّ ، ويكتفي فيها الإسلام بذكر الجوهر تاركاً اختيار الترتيبات الفنيّة ، والتشكيلات الإداريّة التي تقوم بهذه الاُمور إلى الأوضاع البشريّة المتجدّدة.

وعلى ذلك فإنّ ما نجده في الكتب التي أُلّفت حول النظم السياسيّة مثل ما كتبه الباحث العلاّمة الشيخ عبد الحيّ الكتاني في تأليفه القيّم « التراتيب الإداريّة » والدكتور صبحي الصالح في « النظم الإسلاميّة » لا يمثّل إلاّ تصوير ما توصّلت إليه الحكومات السابقة من تشكيلات وأساليب للعمل الإداريّ والحكوميّ ولا تمثّل بعينها وشكلها أمراً إسلاميّاً يجب الأخذ به حتماً دون زيادة أو نقصان ودون تغيير أو تحوير ، تستدعيه الحاجة ويستلزمه الظرف.

ويدلّ على ذلك ؛ أنّ هذه الاُمور في العهد النبويّ كانت تمارس بأساليب بسيطة وبدائيّة ومختصرة كما عرفت ، وتطوّرت فيما بعد في العهود اللاحقة ، ولكنّها كانت على كلّ حال تدلّ على وجود السلطة التنفيذيّة حتّى في العهد النبويّ وإن لم تكن بالتفاصيل والخصوصيّات المتعارفة الآن.

* * *

مواصفات أعضاء السلطة التنفيذيّة
اشارة

يعتبر دور السلطة التنفيذيّة في الدولة دوراً بالغ الخطورة والأهميّة ، لأنّه على عاتقها تقع مهمّة القيام بشؤون الناس ، وإدارة اُمورهم وسدّ حاجاتهم ، وحلّ مشكلاتهم ، فإذا قامت هذه السلطة بواجباتها أفضل قيام استطاعت أن تكتسب رضا الاُمّة ، وتجلب مودّتهم التي يقوم عليها بقاء الدولة ، واستقرار الأمن.

ص: 312

إنّ ضمان استقامة السلطة التنفيذيّة وسلامة سلوكها يتوقّف - بالدرجة الاُولى - على نوع الشروط والمواصفات المعتبرة في أعضاء تلك السلطة فإنّ أكثر المشاكل التي تعانيها أنظمة الحكم في العالم ترجع إلى سوء اختيار أعضاء هذه السلطة ويعود ذلك إلى الخطأ الحاصل في المواصفات والشروط التي تقيم الأنظمة البشريّة اختيار الوزراء والمدراء والمسؤولين ، على أساسها.

ولقد أدرك الإسلام كلّ هذا من قبل فاعتبر لأعضاء السلطة التنفيذيّة شروطاً ومواصفات يضمن توفّرها فيهم ، سلامة هذه السلطة ، واستقامة تصرّفاتها ... وأبرز هذه المواصفات هي :

1. التخصّص

لقد كان الإسلام أوّل من اشترط وجود هذا الشرط في أفراد السلطة التنفيذيّة وهو أمر اشترطه في جميع المناصب الدينيّة والزمنيّة حيث يقول : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ( النحل : 43 ) ، وهو حثّ على إرجاع كل أمر إلى أهله والعارفين به.

ولذلك قال الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله : « إنّ الرّئاسة لا تصلحُ إلاّ لأهلها » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « من عمل على غير علم كان ما يُفسدُ أكثر ممّا يُصلحُ » (2).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیهماالسلام : « العاملُ على غير بصيرة كالسّائر على غير الطّريق لا يُزيدُهُ سُرعة السّير إلاّ بُعداً » (3).

إنّ إيكال الأمر إلى من لا يعرفه ولا يعرف مدخله ومخرجه إضاعة لذلك الأمر وإيذان بسوء العواقب فالعقل لا يسمح بإيكال أمر إلى من لا يعرف القيام به فكيف بالمسؤوليّة الاجتماعيّة وإدارة البلاد ... ولذلك قالوا : الحكمة هي وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ... ومن الحمق وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب.

ص: 313


1- الكافي 1 : 47 و 45 و 44.
2- الكافي 1 : 47 و 45 و 44.
3- الكافي 1 : 47 و 45 و 44.

على أنّ من التخصّص أيضاً معرفة الزمان وأهله وما يقتضيانه من التدبير والحيلة. ولذلك قال الإمام عليّ علیه السلام : « العالمُ بزمانه لا تهجُمُ عليه اللّوابسُ » (1).

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیهماالسلام وهو يصف المسؤول الصالح ، والراعي الناجح : « يعملُ ويخشى ... رجلاً ، داعياً ، مشفقاً مُقبلاً على شأنه ، عارفاً بأهل زمانه مُستوحشاً من أوثق إخوانه ، فشدّ اللّه من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه » (2).

إن قوله « مُقبلاً على شأنه ، عارفاً بأهل زمانه » إشارة إلى شرط التخصّص بجانبيه : معرفة الأمر ، ومعرفة الزمان وأهله.

2. الوثاقة

إنّ أهمّ شرط بعد شرط التخصّص هو : الوثاقة وكون المسؤول الحكوميّ أميناً ومأموناً على إدارته ومسؤوليّته فإنّ أكثر المآسي الاجتماعيّة الناشئة من رجال الحكومات في الأنظمة البشريّة ترجع - في الحقيقة - إلى خيانة هؤلاء الرجال لما أوكل إليهم من مسؤوليّات ومهامّ ، فقاموا بها دون ورع ، وتصرّفوا فيما فوّض إليهم دون تقوى ولأجل ذلك يؤكد القرآن الكريم على تفويض الاُمور إلى الأمناء من الرجال ، المأمونين على أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم إذ يقول عن لسان ابنة شعيب : ( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) ( القصص : 26 ).

فإنّ كانت القوّة والأمانة شرطان ضروريّان في راعي شويهات وأغنام ، كان اشتراطهما في من يراد تسليطه على أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم ضروريّاً بطريق أولى.

3. الزهد والتعفّف

والمراد من الزهد هو أن لا يكون المرء متعلّقاً بالدنيا وحطامها ، وآخذاً بها على وجه

ص: 314


1- اُصول الكافي 1 : 27 و 39.
2- اُصول الكافي 1 : 27 و 39.

الغاية والهدف ... فإنّ من جعل الدنيا وزبارجها غايته وهدفه ، جعلها همّته ، ومن جعلها همّته تجاوز الحدود وضيّع الحقوق ، ونسي رعيّته وضيّع من ولي أمرهم ... فخسرهم ، وضيّع مودّتهم.

إنّ على المسؤول الحكوميّ أن يجعل الزهد نصب عينيه فيأخذ من الدنيا ما يكفيه. ومن كان كذلك لم يمدّ عينيه إلى أموال الناس حبّاً في العاجلة ، وغفلة عن الآجلة ... وكان جديراً بأن يراعي أضعف الناس. . فلا يضيع منهم حقّاً ولا يغفل فاقة وفقراً ولذلك قال الإمام عليّ علیه السلام في كلام له : « إنّ اللّه فرض على أئمّة العدل أن يقدروا معيشتهم على قدر ضعفة الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقرهُ » (1).

ونجده يوبّخ أحد ولاته - وهو عثمان بن حنيف - لأنّه دعي إلى وليمة فأجاب لأنّ ذلك - في نظر الإمام عليّ يعرّض الوالي والمسؤول الحكوميّ لخطر الإنبهار بحطام الدنيا وبريقها وهو أمر فيه ما فيه من العواقب مضافاً إلى تضييع محتمل لحقّ الحاضر : « أمّا بعدُ يا بن حنيف فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان ، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ ، وغنيُّهم مدعوّ ... فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنورعلمه ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك فأعينوني بورع ، واجتهاد وعفّة وسداد ، فواللّه ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادّخرت من غنائمها وفراً ، ولا أعددت لبالي ثوبي طِمراً ولا حزت من أرضها شبراً ، ولا أخذت منه إلاّ كقوتِ أتانٍ دَبِرة ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصة مقرة » (2).

إنّ الزهد الذي يتحلّى به الحاكم والمسؤول الإداريّ هو الذي يمنعه من أن يمدّ عينيه إلى أموال الناس وأشيائهم ... وهو الذي يجعله يحس بآلام الرعيّة وحاجاتها ،

ص: 315


1- نهج البلاغة : الخطبة (207).
2- نهج البلاغة : الخطبة (45).

ونواقصها ... وإنّ أسوأ ما يعاني منه عالمنا اليوم هو جشع الحكّام وحرصهم على الدنيا ، وتعلّقهم الشديد بحطامها ، الذي يسوّغون في سبيله كلّ حرام ويرتكبون كلّ معصية ، ويقترفون كلّ جريمة.

إنّ الزهد هو العامل الفعال الذي يردع عن اقتحام الشبهات فضلاً عن نيل الحرام.

هذه هي أهمّ الشروط والمواصفات المعتبرة في أعضاء السلطة التنفيذيّة ، وهي مواصفات إن توفّرت فيهم سلمت هذه السلطة من الآفات الجسيمة التي تعاني منها أنظمة الحكم ، والحكومات الراهنة. وتتخلّص الشعوب من العناء والعذاب الذي تلقاه على أيدي الحكام والمسؤولين ، بدل أن تنال على أيديهم السعادة والخير والرفاه.

ولا شكّ أنّ هذه المواصفات تتوفّر - في الأغلب - في المسلم المؤمن العارف بدينه ، ولذلك يتعيّن تقديمه على غيره في تفويض المسؤوليّات الحكوميّة إليه.

غير أنّه لا بدّ من التنبيه - بعد ذكر هذه المواصفات - إلى نقطة هامة وهي : أنّ صلاحيّة المسؤول الحكوميّ وحدها لاتكفي في استقامة الاُمور وصلاح الرعيّة وعمارة البلاد وتقدمها ، بل لا بدّ إلى جانب ذلك من أن يتحلى المسؤول بالصفات الأخلاقيّة العليا كالحلم والصبر والأناة ، والعطف والشفقة ... وغير ذلك من نبيل الأخلاق.

بيد أنّ الأهمّ من ذلك كلّه هو ( طاعة الرعيّة للحاكم الصالح ) والانقياد لأوامره ، لأنّ الحاكم غير المطاع لا يمكن أن يقيم أمناً ، أو ينشر عدلاً ، فلا رأي لمن لا يطاع كما قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله وإليك مفصّل الكلام في هذا الأمر :

إطاعة الحاكم الصالح

إنّ نفوذ السلطة التنفيذيّة ، يتقوّم بطاعة الناس لها ... وإلاّ صار وجود السلطة هذه لغواً ، لا فائدة فيه ولا أثر له ولذلك وردت عن النبيّ العظيم صلی اللّه علیه و آله والأئمّة الطاهرين أحاديث كثيرة تحثّ على طاعة الحاكم الصالح ، وصاحب السلطة العادل :

ص: 316

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « طاعة السُّلطان [ أي صاحب السلطة العادل ] واجبة ، ومن ترك طاعة السُّلطان فقد ترك طاعة اللّه عزّ وجلّ » (1).

وقد خطب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذات يوم في مسجد الخيف وقال : « نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

ثلاثة لا يغلُّ عليهنّ قلب امرئ مسلم :

إخلاص العمل لله ..

والنّصيحة لأئمّة المسلمين.

واللّزوم لجماعتهم ... فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم : المسلمون اخوة تتكاتفأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم » (2).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « لا تختانوا ولاتكم ، ولا تغشّوا هداتكم ولا تجهلوا أئمّتكم ، ولا تصدّعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم وعلى هذا فليكن تأسيس اُموركم والزموا هذه الطريقة » (3).

وقال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام في رسالة الحقوق : « فأمّا حقٌّ سائسك بالسلطان فأن تعلم أنّك جعلت له فتنةً وأنّه مبتلى بك بما جعله اللّه له عليك من السُّلطان ، وأن تخلص له في النّصيحة وأن لا تماحكه وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه ... » (4).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « أيّها النّاس إنّ لي عليكم حقّاً ولكم عليّ حقٌّ :

فأمّا حقّكم عليّ فالنّصيحة لكم وتوفير فيئكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا.

ص: 317


1- وسائل الشيعة 11 : 472.
2- الكافي 1 :2. 233 ، 235.
3- الكافي 1 :2. 233 ، 235.
4- مكارم الأخلاق للطبرسيّ : 187.

وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة والنّصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم » (1).

ولمّا سئل الإمام الباقر محمّد بن عليّ علیه السلام : ما حقّ الإمام على الناس ؟ قال : « حقُّه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ».

فقيل : فما حقُّهم عليه ؟ قال : « يقسّم بينهم بالسّويّة ويعدل في الرّعيّة » (2).

وقال الإمام موسى بن جعفر علیه السلام : « إنّ السُّلطان العادل بمنزلة الوالد الرّحيم فأحبُّوا له ما تحبُّون لأنفسكم واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم » (3).

وعن أبي سعيد الخدري ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّ من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سُلطان جائر » (4).

إنّ طاعة الشعب للحكّام الصالحين والإخلاص لهم وإنفاذ أوامرهم يشكّل عاملاً أساسيّاً في نجاح الحكومة الإسلاميّة وموفقيّتها في إدارة البلاد على أحسن وجه.

إنّ السلطة التنفيذيّة في الحكومة الإسلاميّة ليست جهازاً غريباً عن الشعب فليس أعضاؤها جماعة تسلّطت على الناس بالقهر والغلبة بل هم خزّان الرعيّة وخدّامها ... واُمناء الشعب على الحكم والسلطة ... وهذا يجعل طاعة الولاة واجباً مقدّساً مفروضاً على الناس ... يسألون عنه ويعاقبون على تركه وهذا هو سبب نجاح الحكومة الإسلاميّة وعلّة بقائها ، واستمرارها.

هذا وإنّ الأحاديث التي ذكرناها في باب طاعة الرعيّة للولاة ، تدلّ بصورة ضمنيّة على ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الإسلاميّة ولزوم إيجادها أيضاً.

إنّ ما ذكرناه لك من الأحاديث في باب طاعة الحاكم العادل والراعي الصالح

ص: 318


1- نهج البلاغة : الخطبة (33).
2- الكافي 1 : 334.
3- وسائل الشيعة 11 : 472.
4- رواه الترمذيّ 1 : 235 كما في جامع الاُصول ( الطبعة الاُولى ).

والسلطة التنفيذيّة الصالحة ؛ ما هو إلاّ قليل من كثير تجده في المجاميع الحديثيّة كما في أبواب الحجّة من اُصول الكافي ، وأبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وسائل الشيعة ... ورسائل الإمام عليّ وعهوده في نهج البلاغة.

لا طاعة للحاكم الجائر

ثمّ إنّ ها هنا أمراً لابدّ من التنبيه عليه وهو أنّه قد تُنقل أحاديث وروايات تدلّ على وجوب إطاعة مطلق الحاكم والخضوع لمطلق السلطات عادلة كانت أو ظالمة ، صالحة كانت أو جائرة وإليك فيما يأتي بعض هذه الروايات :

1. ما رووه عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « لا تسبُّوا الولاة فإنّهُم إن أحسنُوا كان لهُم الأجر وعليكُمُ الشُّكر وإن أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر ، وإنّما هم نقمة ينتقم اللّه بهم ممّن يشاء فلا تستقبلوا نقمة اللّه بالحميّة واستقبلوها بالاستكانة والتضرُّع » (1).

2. ما رووه عنه صلی اللّه علیه و آله أيضاً أنّه قال : « سيأتيكم ركب مبغوضون يطلبون منكم ما لا يجب عليكم فإذا سألوا ذلك فاعطوهم ولا تسبُّوهم وليدعوا لكم » (2).

3. ما رواه سلمة عن النبيّ لمّا سأل النبيّ قائلاً : يا نبيّ اللّه أرأيت إن قامت علينا اُمراء يسألونا حقّهم ويمنعونا حقّنا فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه ، ثمّ سأله فأعرض عنه ، ثمّ سأله في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « اسمعوا وأطيعوا فإنّما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم » (3).

4. ما رواه ابن مسعود عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّها ستكون بعدي إثرة واُمور تنكرونها » ، قالوا يا رسول اللّه : كيف تأمر من أدرك ذلك منّا ؟

ص: 319


1- النظام السياسيّ في الإسلام : 114 ، نقلاً عن الخراج لأبي يوسف.
2- النظام السياسيّ في الإسلام : 114 ، نقلاً عن سنن أبي داود.
3- رواه مسلم ... ونقله جامع الاُصول 4 : 64.

قال : « تؤدوُّن الحقّ الذّي عليكم ، وتسألون اللّه الذّي لكم » (1).

إنّها إذن دعوة إلى السكوت على الظالم والرضا بما يفعل ؟!!

5. وما رواه عوف عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ قال : « شرار اُمّتكم الذّين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم » ، قلنا يا رسول اللّه أفلا ننابذهم [ عند ذلك ؟ ].

قال : « لا ما أقاموا فيكم الصّلاة ، لا ما أقاموا فيكم الصّلاة ، ألا من ولّي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية اللّه فليكره ما يأتي من معصية اللّه ، ولا ينزعنّ يداً من طاعة » (2).

6. ما روته اُمّ سلمة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون ما تنكرون فمن كره فقد بريء ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضى وتابع ».

قالوا : أفلا نقاتلهم ؟

قال : « لا ما صلُّوا » (3).

وهكذا تبدو من هذه الروايات الدعوة إلى السكوت على فعل الظالم والحاكم الجائر والرضا بأفعاله المخالفة للدين والعدل ، والاكتفاء بالصلاة ... فهو ما دام يصلّي جاز له أن يفعل ما يفعل ، وأن يخالف كتاب اللّه وسنّة نبيّه ... !!!

7. ما رواه ابن عباس عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنّه من خرج من طاعة السلطان شبراً مات ميتةً جاهليّةً » (4).

ولكن هذه الروايات وهذه الدعوة مردودة ومدفوعة بما ورد في الكتاب الكريم من النهي عن المنكر ، والردّ على الظالم ، والضرب على يده وعدم الركون إليه كقوله تعالى : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ( هود : 113 ).

ص: 320


1- جامع الاُصول 4 : 64 ، نقلاً عن مسلم والترمذيّ.
2- جامع الاُصول 4 : 67 ، نقلاً عن مسلم.
3- جامع الاُصول 4 : 68 ، نقلاً عن مسلم وأبي داود والترمذيّ.
4- جامع الاُصول 4 : 69 ، نقلاً عن البخاريّ ومسلم.

وما ورد من الآيات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل اللّه ووصف الحاكم بغير ما أنزل اللّه بالكفر والفسق والظلم (1) ومن المعلوم لزوم مكافحة الكفر والفسق والظلم وهو غير خفيّ على من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة.

كما أنّها مدفوعة بما صح عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله من الروايات الناهية عن التعاون مع الظالم وإعانته ومساعدته ، منها ما ورد عن كعب بن عجرة عن النبيّ أنّه قال : « اسمعُوا سيكُونُ بعدي اُمراءُ فمن دخل عليهم فصدّقهُم بكذبهم وأعانهُم على ظُلمهم فليس منّي ولستُ منهُ وليس بوارد عليّ [ الحوض ] » (2).

وعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « ألا ومن علّق سوطاً بين يدي سُلطان جعل اللّه ذلك السّوط يوم القيامة ثُعباناً من النّار طولُهُ سبعون ذراعاً يُسلّطهُ اللّه عليه في نار جهنّم وبئس المصير » (3).

وعنه صلی اللّه علیه و آله أيضاً أنّه قال : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوانُ الظلمة ومن لاق لهُم دواة ، أو ربط لهُم كيساً ، أو مدّ لهُم مدّة قلم ، فاحشُرُوهُم معهُم » (4).

وعنه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « من خفّ لسُلطان جائر في حاجة كان قرينهُ في النّار » (5).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « ما اقترب عبد من سُلطان جائر إلاّ تباعد من اللّه » (6).

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام أنّه قال : « من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يُعصي اللّه » (7).

ص: 321


1- المائدة : 44 و 45 و 47.
2- جامع الأصول 4 : 75 ، نقلاً عن الترمذيّ والنسائيّ.
3- وسائل الشيعة 12 : 130 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به حديث 10.
4- وسائل الشيعة 12 : 130 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به ، حديث 11.
5- وسائل الشيعة 12 : 130 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به ، حديث 14.
6- وسائل الشيعة 12 : 130 حديث 12.
7- وسائل الشيعة 12 : 134 ، حديث 5.

وعنه علیه السلام أنّه قال : « من سُوّد اسمهُ في ديوان الجبّارين ... حشرهُ اللّه يوم القيامة حيراناً » (1).

وعنه علیه السلام أنّه قال : « من مشى إلى ظالم ليُعينهُ وهو يعلمُ أنّهُ ظالم فقد خرج عن الإسلام » (2).

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام أنّه قال : « ما أحبُّ أنّي عقدت لهم عقدةً أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها لا ولا مدّة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يفرغ اللّه من الحساب » (3).

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته المعصومين ممّا وردت في كتب الحديث ، الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر ، والحاثّة على زجره ودفعه ، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة المتاحة ممّا يدلّ على أنّ الأحاديث التي تحثّ على السكوت عن الحاكم الظالم ، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه والرضا بجوره ممّا أوعزت السلطات الحاكمة به في تلك العصور المظلمة ، فلفّق البعض هذه الروايات والأحاديث ونسبوها إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهو منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسّنة.

ولو لم يكن في المقام إلاّ قول الإمام عليّ علیه السلام في خطبته : « ... وما أخذ اللّه على العُلماء أن لا يُقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ... الخ » (4).

لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

وبما أنّ هذا البحث واضح لكلّ مسلم يحمل بين جنبيه الحريّة ويفكّر في العدل الإسلاميّ طوينا البحث عن بعض ما ورد في هذا المجال.

ص: 322


1- وسائل الشيعة 12 : 134 حديث 6.
2- وسائل الشيعة 12 : 131 حديث 15.
3- وسائل الشيعة 12 : 129 حديث 6.
4- نهج البلاغة : الخطبة 3.

3

السلطة القضائيّة

دور القضاء والسلطة القضائيّة :

يحتلّ القضاء ، وفصل الخصومات بين الناس دوراً عظيماً ، ومكانة حسّاسة في أي مجتمع بشريّ ، لأنّ عليه وعلى كيفيّته تتوقّف سلامة المجتمع ، واستتباب الأمن ، واستقرار العدل ، وصيانة الحقوق والحريّات ، والحرمات وبالتالي يقوم التوازن الاجتماعيّ.

إنّ القضاء مرتبط بالعدالة ، فإن صلح شاعت العدالة وانتعشت ، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم ، وصلح أمر الدولة ، والناس جميعاً. وإن فسد القضاء اختفت العدالة وباختفائها تعم الفوضى وينتشر الفساد ، ولا يأمن الناس على أنفسهم ، فتضيع هيبة الدولة ، ويتقلّص سلطانها ، إنذاراً لها بالنزوال والاندحار.

إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام ، وفي تحويل التنازع والتصارع إلى التوافق والتقارب الذي يحتاج إليه كلّ مجتمع إنسانيّ ينشد السعادة والطمأنينة والأمن.

ص: 323

عوامل التنازع وأسبابه :

لم يزل المجتمع البشريّ - منذ تكوّنه وانضمام فرد إلى فرد آخر - تلازم حياته التشاجر والاختلاف والتنازع بين أفراده ، وقد شهد بذلك التاريخ ، وبرهنت عليه الوقائع المحسوسة ، ثمّ إنّ هذا الاختلاف لا ينشأ - غالباً - إلاّ من أمرين :

1. الحرص الشديد على جلب الأموال والمنافع والحقوق ، الذي يلازم البعد عن المعنويّات والمثل الإنسانيّة ، فإنّ حرص كلّ واحد من أفراد النوع الإنسانيّ على أن يجلب المنافع العاجلة العابرة لنفسه ينسيه الجوانب المعنويّة والمثل النبيلة وذلك بدوره يجرّ إلى التعدّي على مصالح الآخرين وحقوقهم ومنافعهم حيث لا إيمان يردع عن ذلك ، ولا مكارم أخلاق تحدّ من تلك النزعة الجامحة.

2. الاختلاف في تشخيص الحقّ ، فربّما يتنازع فردان لا للحرص الشديد بل للاختلاف في تشخيص ( الحقّ ) فكلّ واحد منهما يعتقد - اعتقاداً جازماً - بأنّ الحقّ هو ما يراه دون غيره.

وربّما يبلغ الطرفان المختلفان المتنازعان - مع ذلك - أقصى درجات التقوى وحسن النية والفضيلة ، ولكن جهلهما بالحقّ دفعهما إلى ذلك الاختلاف والتنازع ، ولا ريب أنّ بقاء الاختلاف في المجتمع يشكّل خطراً كبيراً على أمنه واستقراره وسلامته ؛ إذ قد يؤدي إلى العدوان ، وتأجّج نيران البغضاء والضغينة بين المتخاصمين المختلفين ، وربما اُريقت - في هذا السبيل - دماء كثيرة. واُهدرت أموال طائلة ، وضاعت أغراض شريفة ليس إلاّ لاُمور حقيرة لا تستأهل كل تلك التبعات والعواقب. ومن أجل ذلك حثّ القرآن الكريم على سدّ باب الاختلاف وقطع دابره من الجذور وحثّ المسلمين على الإصلاح بين المتنازعين إذ قال : ( وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( الأنفال : 1 ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام نقلاً عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه كان يقول :

ص: 324

« صلاحُ ذات البين أفضلُ من عامّة الصّلاة والصّيام » (1).

بيد أنّ حلّ الاختلاف يتصوّر بوجوه هي :

إمّا بإخضاع القضيّة لسلاح القوّة ، ومنطق الغلبة الذي عبّر عنه المثل السائر بقوله : ( الحقُ لمن غلب ) ... فيكون الغالب هو المحقّ ... ولكن هذا ممّا لا يقبله ذو وجدان سليم ولا يرضاه عقل ولا دين.

أو بإخضاع القضيّة لعامل الدعاية والتبليغ الكاذب ، وإرغام الطرف الآخر على القبول بما يخالفه انخداعاً وتضليلاً ، ... وهو كذلك أمر يرفضه الدين.

أو يترك الأمر لعامل الزمن ليتجلّى الحقّ بمرور الأيام وتوالي الشهور ومضي السنين والأعوام ... وهو أمر لا تحتمله الحياة الاجتماعيّة التي تتطلّب الحلول العاجلة لمشكلاتها والمعالجة السريعة لآلامها ..

أو يترك الأمر حتّى يتعب المتنازعان فيكفّا عن المطالبة ، أو يخلّي أحدهما الآخر ، ليبطل الحقّ ، ويعود باطلاً ، ويعود الباطل حقّاً. وهو أمر يرفضه الإسلام كذلك إذ يقول الإمام عليّ علیه السلام : « الحقُّ القديم لا يبطله شيء ».

ولقد اتّخذ الإسلام طريقاً خامساً ، وهو الذي ندبت إليه الشرائع السماويّة السابقة وتقتضيه سنّة الحياة وضرورات المجتمع ... ألا وهو حثّ المتنازعين على الرجوع إلى أهل الصلاح والتحاكم إليهم ، والخضوع لقضائهم وحكمهم ... ليرتفع التنازع ... ويعود المتخاصمون اخوة متحابّين ، ويتخلّص المجتمع من أخطار الاختلاف والتنازع. ولأجل مثل هذا الدور كانت السلطة القضائيّة الركن الثالث والأساسيّ من أركان الحكومات قديماً وحديثاً ، وكان لها من الأهميّة والمكانة ما ليس لغيرها من أركان الحكومة.

ولأجل ذلك أيضاً كان للقضاء والسلطة القضائية مكانة مرموقة في النظام

ص: 325


1- نهج البلاغة : - قسم الكتب - 47.

الإسلاميّ لم يسبق لها مثيل في العهود والأنظمة السابقة واللاحقة ؛ حيث سنّ له ولها اُصولاً وقواعد واُسساً وبرامج فريدة في نوعها ، وعظيمة في محتوياتها.

فلقد وضع القرآن الكريما اُسس القضاء وشيّد الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إركانه وبنيانه وبين خلفاؤه المعصومون تفاصيله ، وجزئياته ، وحدوده وأحكامه.

القضاء والحكومة لله خاصّة

ولمّا كان القضاء ملازماً للتصرّف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم احتاج إلى ولاية حقيقيّة وحيث لم تكن الولاية الحقيقيّة إلاّ لله تعالى خاصّة ؛ كان القضاء أحد الحقوق المختصة به سبحانه دون سواه ، فلا ولاية لأحد على أحد في هذه الشؤون ، ولهذا قال سبحانه : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام : 57 ).

وقال : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) ( يوسف : 40 ) (1).

إلى غير ذلك من الآيات التي تحصر حقّ الحكومة ( الشاملة للقضاء وغيره ) باللّه سبحانه وحده لانحصار الولاية الحقيقيّة فيه دون سواه.

وقد عهد اللّه سبحانه بممارسة هذا الحق إلى أنبيائه وأوصيائهم سواء أكانوا أوصياء بالاسم والشخص ، أم بالرسم والوصف.

فالقضاة المنصوبون من ناحية النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو أوصيائهم قضاة منصوبون بالاسم والشخص وأمّا الذين يتعاهدون القضاء - زمن عدم التمكّن من الأوصياء والأئمّة - قضاة منصوبون بالرسم والوصف. كما نرى ذلك من رواية مقبولة لعمر بن حنظلة حيث قال الصادق الإمام جعفر بن محمّد علیه السلام له : « من تحاكم إليهم (2) في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغُوت ، وما يحكُمُ لهُ فإنّما يأخُذُ سُحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً لهُ ،

ص: 326


1- ولم نذكر الآية المشابهة (67) في تلك السورة لأنّها ناظرة إلى معنى تكوينيّ.
2- المراد قضاة الجور.

لأنّهُ أخذهُ بحُكم الطّاغُوت وما أمر اللّه أن يُكفر به. قال اللّه تعالى : ( يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ) ( النساء : 60 ) ».

ولمّا قال : فكيف يصنعان ؟ قال علیه السلام : « ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثناً ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه ، وعلينا ردّ ، والرادّ علينا كالرّادّ على اللّه وهو على حدّ الشّرك باللّه ... الحديث » (1).

وما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام نفسه برواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال أنّه قال : « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه » (2).

هذا وقد كان طبيعياً أن يحكم هؤلاء القضاة العدول ويقضوا ويفصلوا في الخصومات وفق منهج اللّه تعالى وتعاليمه وأحكامه في مجال القضاء ، لا بما تهواه أنفسهم أو ما يشاؤه المتخاصمون المتحاكمون.

ولذلك أنزل اللّه الشرائع والكتب والرسالات على الأنبياء وأمرهم أن يحكموا بين الناس بما فيها من الحقّ والقسط فقال تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ( الحديد : 25 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) ( المائدة : 44 ).

وقال تعالى - وهو يوصي داود نبيّه - أن يحكم بالحق : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ (3) بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنَّ الَّذِينَ

ص: 327


1- وسائل الشيعة 18 : باب 11 من أبواب صفات القاضي / الحديث (1).
2- وسائل الشيعة 18 : باب 1 من أبواب صفات القاضي / الحديث (5) ويقرب منه ما نقل عنه في الباب 11 / الحديث (6).
3- المراد من الحكومة أعمّ من الولاية والقضاء.

يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) ( ص : 26 ).

كما أمر اللّه تعالى المقتفين أثر المسيح أن يحكموا بما في الانجيل إذ قال : ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( المائدة : 47 ).

وبيّن سبحانه أثر الحكم بما في التوراة والانجيل وثمرته بقوله : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) ( المائدة : 66 ).

وقد أمر اللّه سبحانه نبيّه الأكرم محمّد صلی اللّه علیه و آله بالقضاء بالقسط والعدل إذ قال : ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة : 42 ).

وقال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ( المائدة : 48 ).

ولم يكتف سبحانه بذلك بل أمر الاُمّة الإسلاميّة ودعاها إلى أن تقضي بالحق والعدل والقسط إذ قال : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء : 58 ).

وأمرها بأن لا يحملها شنآن قوم على التخلّي عن العدل ، والتقاعس عن إجرائه إذ قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة : 8 ).

بل وأمر المسلمين باتّخاذ جانب العدل ليس في مجالات القضاء وحدها بل في كلّ مجالات الحياة ، حتّى في النطق والكلام إذ قال : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) ( الانعام : 152 ).

وصفوة الكلام أنّ الآيات التي مرّت عليك تثبت - بجلاء ودون إبهام - أنّ

ص: 328

القضاء حقّ خاصّ باللّه سبحانه ، وقد عهد به إلى الأنبياء ، وأوصيائهم ، ومن أقاموه لذلك المنصب ، وجعل كتبه ورسالاته مناهج لهم ، ليحكموا بما فيها ، ويقضوا بين المتنازعين والمتخاصمين على ضوء تعاليمها وأحكامها.

النبيّ صلی اللّه علیه و آله يمارس القضاء

ولقد عهد اللّه بالقضاء إلى النبيّ محمّد صلی اللّه علیه و آله فيما عهد إليه ، كما عرفت ذلك من خلال الآيات التي مرّت عليك آنفاً ، وقد تولّى صلی اللّه علیه و آله بنفسه حلّ الخصومات والحكم بين الناس على ضوء ما أُنزل إليه من القرآن وأحكامه ، بل وعيّن - في زمنه - رجالاً صالحين للقضاء وفصل الخصومات ، قال الإمام عليّ علیه السلام : « بعثني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى اليمن قاضياً ، فقُلتُ يا رسول اللّه : تُرسلُني وأنا حديثُ السّنّ ولا علم لي بالقضاء ؟

فقال : إنّ اللّه سيهدي قلبك ويُثبتُ لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان ، فلاتقضي حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء.

قال : فما زلت قاضياً. ( أو ) ما شككت في قضاء بعد » (1).

كما قد بعث صلی اللّه علیه و آله معاذاً إلى اليمن وقال له : « كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ » ، قال : أقضي بكتاب اللّه ... الى آخر الحديث (2).

وبذلك نعلم أنّ ما كتبه بعض المتأخّرين من أنّه لم يعرف القضاء في العهد النبويّ ولا في عهد الخلفاء ، بل هو شيء جديد أسّسه الأمويون في الشام ، أمّا قبل ذلك فإنّ العرب كانت في خلافاتها ترجع إلى طريقة التحكيم (3) ، فهو إمّا جهل بتاريخ الإسلام ، أو افتراء واضح البطلان يقف عليه كلّ من له أقلّ إلمام بالكتاب والسنّة ، وما

ص: 329


1- جامع الاُصول 1 : 549 ، أخرجه أبو داود والترمذيّ.
2- جامع الاُصول 10 : 551 .
3- النظام السياسيّ : 129 ، نقلاً عن كتاب عبقريّة الإسلام في اُصول الحكم.

ورد فيهما من الآيات والأحاديث في مختلف أبواب القضاء بحيث يصعب لنا نقل فهرستها ، فضلاً عن ذكر نصوصها (1).

ثمّ إنّ نظرة واحدة إلى القرآن الكريم تفنّد هذا الزعم الباطل ... فلاحظ الآيات 40 إلى 60 من سورة المائدة فهي في معرض ذكر الأحكام المتعلّقة بالقضاء والفصل في الخصومات وأحكام القصص والحدود.

كيف يحقّق القضاء أهدافه ؟

إنّ أهمّ أمر في القضاء والسلطة القضائيّة هو أن تحقّق هذه السلطة غرضها وهدفها الأساسيّ في إشاعة العدل وإقامة القسط في المجتمع ، بحيث يحسّ كلّ فرد من أفراد المجتمع بالأمن على نفسه وماله وعرضه في ظلّ ما توفّره السلطة القضائيّة له من عدالة شاملة لا يشوبها ظلم ولا عدوان ولا يتخلّلها حيف ولا تجاوز.

إنّ وصول السلطة القضائيّة إلى هذا الهدف الأساسيّ يتحقّق بأربعة اُمور :

1. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء.

2. استقلاله الماليّ والسياسيّ.

3. رعايته لآداب القضاء.

4. أن تكون لديه برامج حقوقيّة وجزائيّة عادلة للقضاء وفقها ، وهي بأجمعها متوفّرة في النظام الإسلاميّ وإليك تفصيل ذلك :

1. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء

إنّ أهمّ عامل يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الخطير في المجتمع هو

ص: 330


1- وقد جمع أحمد بن حنبل في مسنده قضايا النبيّ 5 : 326 ، ونقل جملة منها الجزريّ في كتابه جامع الاُصول 10 : 565.

صلاحيّة القاضي ، وتوفّر الشروط المؤهّلة للقضاء فيه.

ولقد اشترط الإسلام في القاضي شروطاً وأوصافاً لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء وهذه الصفات هي :

1. البلوغ.

2. العقل.

3. الإيمان.

4. العدالة.

5. طهارة المولد.

6. العلم بالقانون.

7. الذكورة.

8. أن يكون ظابطاً سليم الذاكرة فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه للقضاء (1).

ولقد شدّد الإسلام على خطورة منصب القضاء ، وجسامة مسؤوليّة القاضي ومقامه فقد ورد عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « القضاة ثلاثة : واحد في الجنّة واثنان في النّار ..

فأمّا الذّي في الجنّة فرجل عرف الحقّ وقضى به.

ورجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النّار.

ورجل قضى للنّاس على جهله فهو في النّار » (2).

ورفع إلى أبي عبد اللّه الإمام الصادق علیه السلام قوله : « القضاة أربعة ، ثلاثة في النّار وواحد في الجنّة :

رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النّار.

ص: 331


1- راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحليّ كتاب القضاء في الصفات.
2- جامع الاُصول 10 : 545 نقلاً عن أبي داود.

ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام عن من يتصدّى لمقام القضاء وليس له أهل : « ورجل قمش جهلاً ، موضع في جهال الاُمّة ، غار في أغباش الفتنة ، عمّ بما في عقد الهدنة ، قد سمّاه أشباه النّاس عالماً وليس به ، بكر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر ... جلس بين النّاس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ثمّ قطع به فهو من لبس الشُّبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ » (2).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام مشيراً إلى حراجة موقف القاضي ، وصعوبة إجراء الحق والعدل الذي هو هدف القضاء الإساسيّ : « الحقُّ أوسع الأشياء في التّواصف وأضيقها في التناصف » (3).

إنّ القضاء ليس شيئاً بسيطاً عادياً بل هو أمر مهمّ حتّى في أبسط الأشياء فقد روي أنّ صبيّين تحاكما إلى الإمام الحسن بن عليّ علیه السلام في خطّ كتباه وحكّماه في ذلك ليحكم أي الخطّين أجود فبصر به عليّ علیه السلام فقال : « يا بنيّ انظر كيف تحكم فإنّ هذا حكم ، واللّه سائلك عنه يوم القيامة » (4).

وقد وقع نظير هذه القضية للإمام عليّ علیه السلام نفسه فقد روى الإمام أبو عبد اللّه الصادق علیه السلام أنّ أمير المؤمنين علیه السلام ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم فقال : « أما إنّها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم ، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه » (5).

ص: 332


1- وسائل الشيعة 18 : 11 و 582.
2- نهج البلاغة : الخطبة 2. 216.
3- نهج البلاغة : الخطبة 2. 216.
4- مجمع البيان3 : 64 في تفسير قوله : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ ) .
5- وسائل الشيعة 18 : 11 و 582.

ولذلك قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « لسانُ القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار » (1).

كما لذلك أيضاً اشترط الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام على القاضي شُريح أن لا ينفذ قضاء حتّى يعرضه عليه ... قال الإمام الصادق علیه السلام : « لمّا ولّى أمير المؤمنين علیه السلام شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا يُنفذ القضاء حتّى يعرضهُ عليه » (2).

ومن هنا أكد الإمام عليّ علیه السلام على الأشتر واليه على مصر ، في عهده المعروف ، أن يختار من يريدهم لمنصب القضاء ، اختياراً دقيقاً بقوله : « ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الاُمور ، ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزّلّة ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، وأوقفهم في الشّبهات ، وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرُّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الاُمور ، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم ، ممّن لا يزدهيه إطراء ، ولا يستميله إغراء ، واُولئك قليل ، ثمّ أكثر تعاهد قضائه ... » (3).

ولخطورة مقام القضاء لا يجوز إلاّ للنبيّ أو وصيّه ، كما قال الإمام عليّ علیه السلام لشريح : « يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه ( ما جلسه ) إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ ، أو شقيّ » (4).

وورد عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام قوله : « اتّقوا الحُكومة ( أي القضاء ) إنّما هي للإمام العادل العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيٍّ ( كنبيّ ) أو وصيّ (5). نبيّ » (6).

* * *

2. إستقلال القاضي الماليّ والسياسيّ

إنّ القاضي بما أنّه يتحمّل مسؤوليّة كبيرة وخطيرة لا مشابه لها بين أقرانها من

ص: 333


1- وسائل الشيعة 18 : 1. 6 ، 7.
2- وسائل الشيعة 18 : 1. 6 ، 7.
3- نهج البلاغة : قسم الكتب 53.
4- وسائل الشيعة 18 : 1. 6 ، 7.
5- المراد بالوصيّ هو الأعم من الوصيّ المنصوص عليه بالاسم فيشمل المنصوص عليه بالوصف ، أي الذي جمع صفات القاضي المعتبرة في الإسلام.
6- وسائل الشيعة 18 : 7.

المسؤوليّات والمناصب الاُخرى ، يجب أن يكون مستقلاًّ في عمله غاية الاستقلال ، لكي لا يخضع لما يميل به عن العمل بمسؤوليّته ... ويقتضي ذلك أن يكون مستقلاًّ في اقتصاده عن الآخرين كيلا يقع فريسة الأطماع ، ولقد أدرك الإسلام هذه الناحية الحسّاسة فأمر الحكومة الإسلاميّة بالإغداق على القاضي إغداقاً يقطع طمعه عمّا في أيدي الآخرين ، يقول الإمام عليّ علیه السلام في عهده للأشتر النخعيّ في هذا الصدد : « وافسح لهُ ( أي للقاضي ) في البذل ما يزيل علّته ، وتقلُّ معه حاجته إلى الناس » (1).

ولكنّ هذا الاستقلال لا يكفي إذا لم ينضمّ إليه استقلال القاضي من أي تأثير خارجيّ سياسيّ عليه ، ومن أيّة تدخّلات صادرة عن السلطات الاُخرى في عمله القضائي فإنّ القاضي يجب أن يُترك وشأنه حتّى يستجلّي الحقّ بنفسه دون مؤثرات خارجيّة ولا تدخلات في عمله ... ولذلك قال الإمام عليّ علیه السلام في عهده للأشتر النخعيّ ، في هذا الصدد : « واعطه من المنزلة لديك ملا يطمعُ فيه غيرهُ من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال لهُ عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً » (2).

والمقصود هو أن يكون للقاضي موضعاً غير متأثّر بأحد ليقضي بالحقّ ، ويفصل في الخصومات ، ويصدر الأحكام غير متهيّب ولا متأثّر وهذا هو ما يصطلح عليه السياسيّون اليوم باستقلال السلطة القضائيّة ، وتفكيكها عن بقية السلطات.

ولقد نبّه إلى هذا فقهاؤنا العظام استلهاماً ممّا لديهم من تعاليم الشريعة المقدّسة في هذا المجال ، قال المحقّق النائينيّ ( المتوفّى عام 1355 ه ) :

( إنّ ولاية الحاكم ترجع إلى قسمين : الأوّل الاُمور السياسيّة ، التي ترجع إلى نظم البلاد وانتظام اُمور العباد ، والثاني الإفتاء والقضاء ، وكان هذان المنصبان في عصر النبيّ والأمير علیه السلام بل في عصر الخلفاء الثلاثة لطائفتين وفي كل بلد أو صقع كان الوالي غير القاضي فصنف كان منصوباً لخصوص القضاء والإفتاء وصنف كان منصوباً لإجراء الحدود ونظم البلاد والنظر في مصالح المسلمين ، نعم اتّفق إعطاء كلتا الوظيفتين

ص: 334


1- نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم 53.
2- نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم 53.

لشخص واحد لأهليّته لهما إلاّ أنّ الغالب اختلاف الوالي والقاضي ) (1).

ولقد أعطى الإمام عليّ علیه السلام وهو إمام المسلمين على الإطلاق ، والحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة مثلاً عمليّاً على هذا الاستقلال القضائيّ السياسيّ حيث مكّن القاضيّ - بفضل هذا السلوك الإسلاميّ - من محاكمة حاكم المسلمين وأحد رعاياه في محكمة واحدة ... وذلك في قضيّة اليهودي مع الإمام عليّ علیه السلام :

فقد نقل المؤرّخون أنّه علیه السلام لمّا وجد درعه عند يهودي من عامّة الناس فأقبل به إلى أحد القضاة وهو شريح ليخاصمه ويقاضيه ، ولمّا كان الرجلان أمام القاضي قال عليّ : « إنّها درعي ولم أبع ولم أهب ». فسأل القاضي الرجل اليهوديّ ما تقول ؟ فقال اليهوديّ : ما الدرع إلاّ درعي ، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله : هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك ؟ فضحك عليّ وقال « مالي بيّنة » فقضى شريح بالدرع لليهوديّ ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه ! إلاّ أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول :

إمّا أنا فأشهد أنّ هذا أحكام أنبياء ، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ثمّ قال : الدرع واللّه درعك يا أمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت (2).

* * *

3. رعاية آداب القضاء وكيفيّته

إنّ الإسلام لم يكتف بالتشديد على أهميّة القضاء ، واعتبار صفات معيّنة في القاضي ، بل سنّ للعمل القضائيّ آداباً وسنناً أكّد على القاضي الأخذ بها في قضائه ليسلم من شوائب الظلم والحيف ، ويكون أقرب إلى الإنصاف والحقّ والعدل ، وقد لخّص فقهاؤنا هذه الآداب التي ذكرتها الأحاديث المتواترة ، في كتبهم الفقهيّة نشير إليها.

ص: 335


1- راجع منية الطالب 1 : 325.
2- بحار الأنوار 41 : 56 ، عليّ وحقوق الإنسان : 87 ، 88 لجورج جرداق مع اختلاف يسير.

قال المحقّق في شرائع الإسلام كتاب القضاء :

في الآداب [ أي آداب القضاء ] وهي قسمان مستحبّة ومكروهة ، فالمستحبّة :

1. أن يطلب من أهل ولايته من يسأله عمّا يحتاج إليه في اُمور بلده.

2. أن يسكن عند وصوله في وسط البلد لترد الخصوم عليّه وروداً متساوياً.

3. أن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه.

4. أن يحضر من أهل العلم من يشهد حكمه فإن أخطأ نهوه لأنّ المصيب عندنا واحد ويخاوضهم [ أي يطرح عليهم القضايا ويتبادل معهم الرأي ] فيما يستبهم من المسائل النظريّة لتقع الفتوى مقرّرة ، ولو أخطأ فأتلف لم يضمن وكان على بيت المال.

5. وإذا تعدّى أحد الغريمين سنن الشرع عرّفه خطأه بالرفق.

والآداب المكروهة :

1. أن يتخذ حاجباً وقت القضاء.

2. أن يقضي وهو غضبان.

3. وكذا يكره مع كلّ وصف يساوي الغضب في شغل النفس كالجوع والعطش والغمّ والفرح والوجع ، ومدافعة الأخبثين ، وغلبة النعاس ..

4. أن يستعمل الانقباض [ والتقطيب في الوجه ] المانع من الإعلان عن الحجّة ، وكذا يكره إظهار اللين الذي لا يؤمن معه من جرأة الخصوم.

ثمّ ذكر مسائل من شأنها حصول الدقة في العمل القضائيّ كقوله :

إذا أفتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلاّ شاهدان عدلان ولا يقتنع بالواحد عملاً بالمتّفق عليه.

وإذا اتخذ القاضي كاتباً وجب أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً بصيراً ليؤمن انخداعه ، وإن كان فقيهاً كان حسناً.

ص: 336

ويكره للحاكم أن يعنّت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان القويمة ؛ مثل أن يفرق بينهم لأنّ في ذلك غضّاً منهم ، ويستحب ذلك في وضع الريبة.

ولا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد وهو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة أو يتعقّبه بل يكفّ عنه حتّى ينهي ما عنده.

ويكره أن يضيف القاضي أحد الخصمين دون صاحبه ، لأنّ ذلك يكسب الخصم الضيف شيئاً من القوة.

ثم قال عن الرشوة : الرشوة حرام على آخذها ، ويأثم الدافع إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل ، ولو كان إلى حقّ لم يأثم ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له.

ثمّ ذكر المحقّق الحليّ اُموراً في وظائف القاضي فقال : في وظائف القاضي وهي سبع :

الاُولى : التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات والعدل في الحكم.

الثانية : لا يجوز أن يلقّن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه.

الثالثة : يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمّن من إيحاش الآخر.

الرابعة : إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء ، ويستحبّ ترغيبهما في الصلح ، فإن أبيا حكم بينهما وإن أشكل أخّر الحكم حتّى يتّضح ولا حدّ للتأخير إلاّ الوضوح.

الخامسة : إذا ورد الخصوم [ في المحكمة ] مترتّبين بدأ بالأوّل فالأوّل فإن وردوا جميعاً قيل يقرع بينهم.

السادسة : إذا قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى ، لم تسمع حتّى يجيب عن الدعوى وينهي الحكومة ثمّ يستأنف هو.

ص: 337

السابعة : إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى.

وهناك اُمور ذكرها على صعيد عمل القاضي جديرة بالمطالعة نترك ذكرها رعاية للإختصار.

وما ذكره هذا المحقّق وغيره من الفقهاء في آداب القضاء ووظائف القاضي ؛ خلاصة نصوص صريحة وردت في هذه المجالات عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته وقد اكتفينا بنقل ما ذكره الفقهاء في كتبهم تاركين نقل النصوص ... رعاية للإيجاز لكنّنا تيمّناً نذكر بعض هذه الأحاديث :

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من ابتُلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان » (1).

وقال أمير المؤمنين عليّ علیه السلام لشريح : « لا تُشاور [ أو لا تسار ] أحداً في مجلسك ، وإن غضبت فقم ولا تقضينّ وأنت غضبان » (2).

وقال علیه السلام : « من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النّظر وفي المجلس » (3).

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتّى تسمع من الآخر فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء » (4).

وعن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « الرشا في الحكم هو الكفر باللّه » (5).

إلى غير ذلك من الأحاديث المتواترة على هذا الصعيد.

* * *

4. وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة

إنّ الأمر الرابع الذي يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الحسّاس والخطير في المجتمع هو وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة للقضاء لكي يقضي القاضي

ص: 338


1- وسائل الشيعة 18 : 156 ومثله في جامع الاُصول 10 : 549.
2- الوسائل 18 : أبواب آداب القضاء.
3- الوسائل 18 : أبواب آداب القضاء.
4- الوسائل 18 : أبواب آداب القضاء.
5- الوسائل 18 : أبواب آداب القضاء.

وفقها.

وقد وفّر الإسلام هذه البرامج والقوانين العادلة الصالحة للقاضي وذلك بالتعاليم التي زخر بها الكتاب والسنّة وسيرة الأئمّة الطاهرين ، ودوّنها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة المفصّلة بدقّة وعناية وتفصيل. فإنّ القاضي يجد في هذه المصادر والبرامج أدقّ الحقوق والحدود وأعدلها ، ولو أخذ العالم في مجال القضاء بهذه البرامج والحقوق والحدود لعمّت العدالة كلّ أرجاء الأرض ، ولساد السلام والأمن ولاختفى الظلم والجور والشر.

ولقد أكّد الإسلام على القضاة أن يقضوا على ضوء الكتاب والسنّة ، وحرّم عليهم القضاء وفق أهوائهم وآرائهم الخاصّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى البرامج الكليّة في صعيد العمل القضائيّ.

وأمّا تمييز الحق عن الباطل والمحق عن المبطل والمظلوم عن الظالم ومن له الحقّ ومن عليه ، فقد اعتمد الإسلام في تشخيصه وتمييزه على أوثق السبل وأكثر الوسائل اطمئناناً ، وهو الاستشهاد بالبيّنات والأيمان فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكُم بالبّينات والأيمان » (1).

نعم إنّ الاعتماد على هذا الأصل في إثبات الحقّ لا يمنع عن الاعتماد على غيرهما ممّا يفيد للقاضي علماً عاديّاً ، ولأجل ذلمك قال الفقهاء : ويجوز للقاضي العمل بعلمه.

قال صاحب شرائع الإسلام : « الإمام علیه السلام يقضي بعلمه مطلقاً ، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي حقوق اللّه سبحانه على قولين أصحّهما القضاء » (2).

الشهادة والشهود

ولقد اشترط الإسلام في الشهود شروطاً من شأنها أن تمنعهم من شهادة الزور

ص: 339


1- وسائل الشيعة 18 : أبواب كيفيّة الحكم ، الإيمان جمع اليمين أي الحلف والقسم.
2- شرائع الإسلام في آداب القضاء.

والإدلاء بما هو باطل ... وهذه هي الشروط :

1. البلوغ.

2. كمال العقل.

3. الإيمان.

4. العدالة.

5. إرتفاع التهمة فلا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً لنفسه.

وإليك نبذة عن الأحاديث في أهميّة وخطورة الشهادة وشروط الشاهد ، فقد روي حول أهميّة الشهادة وخطورتها وعظيم مسؤوليّتها أحاديث تفوق الحصر وكلّها تشدّد على أمر الشهادة بالإجماع ، ومن ذلك ما عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إذ قال :

« من كتم شهادةً ، أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر ، وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه.

ومن شهد شهادةً حقّ ليحيي بها حقّ امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه ... » (1).

ثمّ قال أبو جعفر الباقر علیه السلام : « ألا ترى أنّ اللّه عزّ وجلّ يقولُ : ( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) » (2).

وما روي عن الإمام الصادق علیه السلام : « شاهد الزور لا تزولُ قدماهُ حتّى تجبُ لهُ النّارُ » (3).

وما روي عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « من شهد شهادة زُور على أحد من النّاس عُلّق بلسانه مع المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار ، ومن حبس عن أخيه المسلم شيئاً من

ص: 340


1- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
2- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
3- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.

حقّه حرّم اللّه عليه بركة الرزق إلاّ أنّ يتوب » (1).

وحول شروط الشهادة والشاهد جاءت روايات وأحاديث كثيرة مثلما :

عن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام : « لا تشهد بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفّك » (2).

بل واشترط الإسلام أن تكون الشهادة عن يقين وعلم كما يعرف ذلك من الأحاديث الناصّة على ذلك ومنها قوله صلی اللّه علیه و آله وقد سئل عن الشهادة : « هل ترى الشّمس ؟ على مثلها فاشهد أو دع » (3).

وعن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام أيضاً لمّا سئل عمّن لا تقبل شهادته قال : « الظنّين والمتّهم ».

فلما قيل : والفاسق والخائن ؟ قال : « ذلك يدخل في الظّنين » (4).

وقال علیه السلام أيضاً : « لا تجوز شهادة ولد الزّنا » (5).

وقال علیه السلام : « لا تقبل شهادة شارب الخمر ولا شهادة الّلاعب بالشّطرنج والنّرد ولا شهادة المقامر ولا ذي غمز على أخيه ولا السّائل بكفّه لأنّه لا يؤمن على الشهادة وذلك لأنّه إذا أعطي رضي وإن منع سخط » (6).

إلى غير ذلك من الروايات.

لا استئناف ولا تمييز

هذا وحيث أنّ الإسلام يساوي بين جميع أفراد البشر ، ويسوّي بينهم أمام القانون لم يكن في القضاء الإسلاميّ أيّة امتيازات.

ص: 341


1- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
2- وسائل الشيعة 18 : الباب (20) من أبواب الشهادات الحديث (3).
3- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
4- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
5- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
6- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.

فليس في الإسلام محاكم خاصّة بالعسكر ، واُخرى عاديّة ، واُخرى خاصّة بأصحاب الرتب العالية ، والمناصب الرفيعة.

ثمّ بما أنّ الإسلام يشترط في تعيين القضاة شرائط معيّنة لا تتوفّر إلاّ في الصالحين العدول الأتقياء من الرجال ، لا يوجد هناك في القضاء الإسلاميّ استئناف ولا تمييز إذ على القاضي الصالح أن لا يحكم إلاّ بعد أن يحصل على الأدلّة والإثباتات الكافية للحكم فيندر لذلك وقوع الخطأ ... بل قد ينعدم أصلاً ... هذا مع العلم أنّ المبرّر لوجود الاستئناف في المحاكم الراهنة هو كثرة وقوع الخطأ في أحكامها لخلوّها عن الشرائط الدقيقة التي اعتبرها الإسلام.

نعم إذا تبيّن لقاض آخر خطأ القاضي في حكمه جاز له نقضه والحكم بما يقتضيه الحقّ.

قال صاحب الشرائع : « كلّ حكم قضى به الأوّل وبان للثاني فيه خطأ فإنّه ينقضه » (1).

وقال صاحب الجواهر في شرح الشرائع : « إنّ الحكم ينقض في موردين :

الأوّل : إذا خالف الحكم الأوّل دليلاً علميّاً لا مجال للاجتهاد فيه ، أو دليلاً أجتهاديّاً لا مجال للاجتهاد بخلافه إلاّ غفلة أو نحوهما.

الثاني : إذا تراضى الخصمان على تجديد الدعوى وقبول حكم الحاكم الثاني ، ولا ينقض في غير ذلك » (2).

على أنّ ما ذكرناه لا يمثّل إلاّ جوهر القضاء الإسلاميّ ، والخطوط العريضة لهذه السلطة وبرامجها ووظائفها وغاياتها ، أمّا اختيار الترتيبات والأشكال التي تحقّق هذا الجوهر ، وكيفيّة الأجهزة التي تقوم بهذه المهمّة الخطيرة فمتروك لمقتضيات الحاجة والزمن.

ص: 342


1- شرائع الإسلام : كتاب القضاء وآدابه.
2- جواهر الكلام 4 : 79.

الفصل السادس: حول أهمّ خصائص الحكومة الإسلاميّة

اشارة

قد تبيّن ممّا ذكرنا سلفاً لون وصيغة الحكومة الإسلاميّة وتركيبتها ، وأنّها تختلف عن سائر الحكومات الرائجة قديماً وحديثاً من ملوكيّة استبداديّة أو دستوريّة أو ديمقراطيّة ، أو غيرها من أشكال الحكومات التي سبق الإلماع إليها.

ولا شكّ أنّ هذا الاختلاف الجوهريّ يستتبع الاختلاف في الآثار والخصائص والمعطيات ؛ إذ ليس من المعقول أن تختلف الحكومة الإسلاميّة عن سائر الحكومات في الصيغة والجوهر ، ولا تختلف عنها في الآثار والخصائص والمعطيات.

فللحكومة الإسلاميّة مميّزات ذاتيّة تتعلّق بجوهرها ، ووصفيّة تتعلّق بآثارها ومعطياتها.

ولا بدّ من القول بأنّها تمتاز بخصائص يفتقر إليها أي نظام آخر غير نظام الحكم الإسلاميّ.

ولمعرفة هذه الخصائص والمميّزات عقدنا الفصل التالي ، وهي ليست - في الحقيقة - إلاّ بعض الخصائص.

ص: 343

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

اشارة

1

الحكومة الإسلاميّة حكومة عالميّة
اشارة

بينما كان البعض - في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ينادي بإحياء فكرة القوميّة عند الشعوب ، وكان هناك من يعمل لها ويدافع عنها بقوّة تحت أسماء وعناوين مختلفة وتبريرات متنوّعة برزت فجأة فكرة « الاُمميّة العالميّة » وراجت الفكرة القائلة بضرورة تشكيل حكومة عالميّة واحدة تتقوّى وتشتدّ في نظر المفكرين الغربيين كحلّ للتخلّص من المطاحنات والحروب والمذابح التي كان العالم يشهدها باستمرار.

وقد ساعدت نتائج الحربين العالميتين الاُولى والثانية على تأكيد هذه الضرورة ، وترسيخ هذه الفكرة ، فقد أدرك اُولئك المفكّرون ومن تبعهم بأنّ الحدود والفواصل المصطنعة بين الشعوب والاُمم هي السبب الوحيد والعامل الأساسيّ لظهور الحروب والمشاحنات الدامية ، وأن لا مخلص من هذه الحروب والمآسي - حسب نظرهم - إلاّ بزوال تلك الحدود والفواصل وانضواء الجميع تحت راية حكومة واحدة.

إنّ الحرب كانت ولا تزال أمراً جديراً بأن تخشاه البشريّة وتتجنّبه وتتقيه ، ولكن

ص: 344

الحربين الكونيتين الاُولى والثانية زادت من قلق الإنسان وخوفه واستيحاشه وعمّقت لديه النفرة والخشية من الحرب ، لأنّهما كانتا - بحقّ - أشدّ جميع الحروب ضراوة ووحشيّة في تاريخ البشريّة !!! وكانتا سبباً لمقتل ملايين عديدة من البشريّة الأبرياء على أيدي البشر أنفسهم ، وكانتا سبباً لإهدار ملايين الملايين من ثرواته بحيث بلغت الأضرار البشريّة في الحرب العالميّة الاُولى وحدها ما يقارب (9) ملايين قتيل و (22) مليون مُقعد ومعوّق حرب و (10) ملايين من مفقودي الأثر !!!

وأمّا خسائر الحرب العالميّة الثانية فقد كانت - بحكم كونها أشدّ ضراوة ووحشيّة - أضخم من الاُولى بحيث قدر عدد الأرواح التي زهقت بثلاثين مليوناً فيما قاربت الخسائر الماديّة المليارد دولاراً على وجه التقريب !!!

كلّ هذه المذابح الرهيبة والخسائر الجسيمة في الأرواح والمعدّات التي أفرزتها الحرب الاُولى ، سببّت ظهور هيئة دولية باسم « عصبة الاُمم » التي تأسّست في أعقاب تلك الحرب واتّحد فيها 26 دولة ليمنعوا - في ظل هذا الاتحاد والتجمّع - من إراقة المزيد من الدماء ، ويتمكّنوا في ظل هذه المنظمة الدوليّة من حلّ المشكلات العالميّة عن طريق المفاوضات لا الحروب ، وعن طريق المنطق المبرهن لا السلاح المدمّر ، بيد أنّ تأسيس هذه المنظمة حيث كان ناقصاً وفاقداً لبعض الاُمور والشرائط لذلك لم تستطع تجنيب العالم من شرور حرب اُخرى ... فقد تورّطت البشريّة في حرب أكثر دماراً ، وفناء هي الحرب العالميّة الثانية (1) التي أنهكت البشريّة بنيران دباباتها وقنابلها وأسلحتها الفتّاكة المدمّرة وانتهت بمذبحة عظيمة ، ومفجعة ، ورهيبة وإلى تحول سياسيّ وانقلاب فكريّ في كثير من القيم الحضاريّة والمعايير والأفكار السائدة آنذاك.

وفي خلال الحرب الثانية - هذه - تأكّدت فكرة تأسيس منظمة عالميّة ، ومجمع دولي على اُسس أكثر واقعيّة ، وفي إطار أكثر شموليّة فبرزت - إلى الوجود - « هيئة الاُمم المتّحدة » التي وضعت نواتها في ديسمبر عام 1943 واستطاعت منذئذ أن تحول دون

ص: 345


1- يراجع كتاب الحرب العالمية الاُولى والثانية.

وقوع حروب عالميّة خطيرة بين الدول كما حدث في السابق.

وقد شرحت أهداف وغايات هذه المؤسسة العالميّة الكبرى في ما يسمى ب : ميثاق الاُمم المتحدة.

ويعتبر تأسيس هاتين المنظّمتين العالميتين - في الحقيقة - خطوة عمليّة وإيجابيّة في سبيل تحقيق ما تمنّاه الإسلام ونادى به منذ أربعة عشر قرناً مع ما بين الأمرين من الفروق في الوسائل والأساليب والأهداف ، فقد تمنّى الإسلام منذ ذلك الزمن السحيق أن تنسى البشريّة خلافاتها ، وتضرب صفحاً كلّ الحدود والفواصل المصطنعة الموهومة بينها وتتّحد تحت لواء الأخوة والوحدة ، وتنضوي تحت حكومة واحدة تراعي مصالح الجميع وتحفظ كرامة الجميع ، وتصون أمن الجميع بلا تفرقة ولا تمييز ... وحينئذ فلا تكون مطاحنات ولا حروب ولا مشاحنات ولا مآسي ولا ويلات.

لقد توصّل العالم إلى تأسيس منظمة الاُمم المتحدة ويتكهّن المفكّرون الكبار والسياسيّون العالميّون بأن تصبح هذه المنظمة التي هي بمثابة « برلمان عالميّ موحّد » مركزاً لحكومة عالميّة موحّدة ، وأن يتحوّل أصدقاء البشريّة من المناداة بالقوميّة ، والدعوة إليها ، إلى الوحدة العالميّة ، أو بالأحرى إلى الحكومة العالميّة الموحّدة ، التي تحقّق توحيد كلّ شعوب الأرض وتحقّق تساويهم.

ولكن ما هو الطريق الطبيعيّ السليم إلى تحقيق هذه الاُمنيّة المحبّبة ، وهذا الأمل العالميّ المرغوب وهل يمكن أن تصل هيئة الاُمم المتحدة إلى هذا الهدف ، فهو بحث طويل ومفصل لا بدّ من إفراد مجال مستقلّ له بيد أنّ الدلائل والشواهد الراهنة والصراعات الحامية الدامية المبعثرة هنا وهناك والأحداث الأليمة المرّة التي يعاني منها العالم كلّه بل والاختلافات التي تشهدها أروقة هيئة الاُمم المتّحدة نفسها وما تعاني منه هذه المؤسّسة من تنفيذ قراراتها وتطبيق أحكامها يجعلنا نقطع بأنّ هذه الهيئة ليست قادرة على إقرار السلام والأمن والاستقرار في المستوى العالميّ ، فالوقائع تشهد بأنّ العالم يعيش الآن على كفّ عفريت ، وأنّ مبدأ توازن القوى هو الذي يكبح جماح الدول لا

ص: 346

منطق الفكر ومبادئ الاخوة الإنسانيّة ... ومن يدري ماذا سيحلّ بالبشريّة لو اختلّ توازن القوى ... ومن يدري ماذا ستكون أبعاد الانفجار البشع ، ومدى ويلاته ومآسيه ...

إنّ عجز هيئة الاُمم عن تحقيق السلام والاستقرار العالميين دفع ببعض المفكّرين والاجتماعيين إلى طرح فكرة الحكومة العالميّة الواحدة التي يكون العالم بموجبها ذا تشكيلات سياسيّة واحدة ، بأن يكون للمجتمع الدوليّ برمّته :

1. سلطة تشريعيّة واحدة.

2. سلطة تنفيذيّة واحدة.

3. سلطة قضائيّة واحدة.

وقد ذكروا لتبرير هذه الفكرة وتوجيهها بما جاء في بيانهم الذي نشروه في مؤتمرهم بطوكيو عام 1963 م :

( إنّ السلام الدائم والشامل لا يتحقق بتوقيع المواثيق وتبادل الوعود بين القادة السياسيّين فلا بدّ للحصول على السلام الواقعي والدائم والشامل من أن نتوسّل بحكومة عالميّة واحدة تعتمد على برلمان ومحاكم وجيش عالميّ موحّد ، إذ في ظلّ هذه الحكومة العالميّة الموحّدة فقط يمكن أن نحصل على الاستقرار والثبات ).

وتدعو هذه الفكرة بالتفصيل إلى إيجاد وتأسيس الاُمور التالية :

1. برلمان عالمي ؛ يشترك في عضويته جميع الشعوب العالميّة ، ويكون لكلّ واحد منها حقّ الرأي والعضويّة بنسبة عدد نفوسها ، فيكون للشعوب الأكثر أفراداً ، حظاً أكثر من العضويّة والرأي.

2. مجلس أمن يشترك في عضويّته عدد أكثر من الدول والأعضاء ولا يقتصر على الدول الخمس كما هو الحال في مجلس الأمن الفعليّ ، ويتولّى هذا المجلس تنفيذ مقرّرات البرلمان العالميّ المذكور ، ويكون مسؤولاً اتّجاه البرلمان.

3. جيش عالمي ؛ يكون في حقيقته جيش سلام ، ويكون تابعاً لإرادة مجلس الأمن

ص: 347

للقيام بحفظ السلام والاستقرار العالميّين.

4. مكتب عدل دوليّ يتولّى تفسير قوانين البرلمان ومقرّراته وملاحقة التخلّفات والتجاوزات ، بما لديه من محكمة دوليّة وأجهزة مختصّة.

هذه الفكرة وما سواها ممّا يطرحها المفكّرون ، وطلاّب السلام والاستقرار في العالم ، رغم أنّها قد تبشّر بإمكان قيام مثل هذا التكتل العالميّ الواحد والحكومة الواحدة المنشودة إلاّ أنّها محكوم عليها بالفشل - مسبقاً - لأسباب عديدة أهمّها فقدان أصحاب هذه الفكر والاطروحات لحسن النوايا ، والفضائل الأخلاقيّة الإنسانيّة التي يجب توفّرها لدى أمثالهم.

هذا مضافاً إلى عدم وجود عامل أهمّ وهو ما يضمن استقامة هذه الحكومة - لو فرض تحققّها - بحيث لا تتحوّل إلى غطاء لأهداف الدول العظمى التوسعيّة ونواياهم ومطامعهم الاستعماريّة ، وتؤول إلى ما آلت إليه عصبة الاُمم وهيئتها من قبل ، وتصبح أداة طيّعة بيد تلكم الدول لتظليل الدول الصغار وخداعها ... كما هو شأن كلّ المنظمات الفعليّة المنادية بالدفاع عن حقوق الإنسان !!

إنّ فقدان هذه الضمانات هو أهمّ ما سبّب فشل المنظمات القديمة ... ويسبّب فشل المنظمات الاُخرى أيضاً.

إنّ أصحاب هذه المؤسّسات والمنظمات العالميّة ما لم يطهّروا أنفسهم من حبّ الذات وعبادتها وما لم يخلصوا نواياهم من العجب والمكر ، وما لم يؤمنوا بالإنسان وحقوقه بصدق وإخلاص لم تطمئنّ إليهم الشعوب ، ولم يطمئنّ إلى منظماتهم مستضعفوا البشر.

وهكذا الحال بالنسبة إلى أصحاب فكرة الحكومة العالميّة الواحدة والدعاة إليها.

إنّ أصحاب هذه النظريّة ما لم يعشقوا الإنسان بإخلاص وصدق ، وما لم يحبّوا البشريّة حبّاً يلمس شغاف القلوب ، وتمسّ حرارتها عمق الضمير فلن تلق فكرتهم

ص: 348

قبولاً من الشعوب التي طالما جرّبت هذه الدعوات ولم تجد فيها خيراً ولا صدقاً ولا نفعاً ، إذ كيف يمكن القبول بدعوة من لا تتوفّر فيه الصفات الإنسانيّة ولا يكون كما قال الإمام عليّ علیه السلام وهو يكتب إلى واليه على مصر : « ولا تكُن عليهم ( على الرعية ) سبُعاً ضارياً ، تغتنمُ أكلُهم ، فإنّهُم صنفان :

إمّا أخ لك في الدّين

وإمّا نظير لك في الخلق » (1).

إنّ للإسلام - بما هو دين متكامل وشريعة خالدة - نظاماً اجتماعيّاً وسياسيّاً شاملاً يكفل كافّة الاحتياجات البشريّة ولو طبّق كما هو ؛ لعمّ الخير الحياة كلّها ، ولسادت الاخوة كلّ بني آدم بجميع ألوانهم ، وأشكالهم ، وجنسيّاتهم وقوميّاتهم ، وتحقّق ما يسعى إليه المفكّرون المهتمّون بالسلام والاستقرار في العالم من الوحدة والألفة والاجتماع.

إنّ أهمّ دليل يدلّ على أنّ الإسلام يسعى إلى تحقيق هذه الوحدة العالميّة هو أنّه لم يحصر دعوته على جماعة دون جماعة ، وقوميّة دون اُخرى ، بل وجّه نداءه إلى جميع البشريّة منذ البداية للأخذ به وبشرائعه بوصفها أكمل الشرائع وأفضلها إذ قال : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ( سبأ : 28 ).

وقال : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف : 158 ).

وقال : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( التوبة : 33 ).

لقد وسّع النبيّ الكريم صلی اللّه علیه و آله في العام السادس والسابع من الهجرة ، نطاق دعوته المباركة وبدأ دعوته العالميّة بمراسلة ملوك عصره ورؤسائه في الجزيرة العربيّة وخارجها يدعوهم إلى الانضمام إلى دعوته ، والانضواء تحت راية الإسلام الحنيف

ص: 349


1- نهج البلاغة : قسم الرسائل (53).

كافّة (1) ، وإنّ مراجعة واحدة لمجموعة الرسائل والمكاتيب النبويّة وسيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وسيرة أصحابه وما تحقّق من فتوحات على أيدي المسلمين تكشف عن أنّ الإسلام بدأ في صورة دعوة إلى حكومة عالميّة تعيش في ظلّها الشعوب المختلفة جنباً إلى جنب بلا فوارق ولا فواصل ودونما مطاحنات أو مشاحنات ولكن سعي الإسلام هذا كان مبتنياً على اُسس معقولة ومنطلقاً من حقائق يكون التنبيه إليها ضماناً لتحقيق ما أراده الإسلام ، ولم تكن دعوة الإسلام مجرّد ادّعاء ودعوة فارغة لا تقوم على شيء فما هي هذه الاُسس ؟

الاُسس الفكريّة للحكومة العالميّة

إنّ الإسلام يقيم دعوته إلى حكومة عالميّة واحدة على سلسلة من الاُسس والمبادئ الفكريّة الضامنة للوحدة بين شعوب الأرض ، وهي عديدة أهمّها وأبرزها : « المساواة بين جميع أبناء البشر » فالإسلام ينبه البشر إلى أنّهم متساوون في الخلق فكلّهم من آدم وحواء وكلاهما من تراب وهم متساوون في الإنسانيّة والمشاعر البشريّة ومتساوون في المصير فكلّهم راجعون إلى اللّه تعالى وإذا كانوا كذلك فلماذا يختلفون في القوميّة ، ولماذا يتميّز بعضهم على بعض بالعنصر ، أو الأرض ، أو غير ذلك من ألوان التمييز الظالم ودواعيه الوهميّة وإلى هذا يشير قول اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات : 13 ) (2).

وقوله سبحانه : ( إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) ( المائدة : 48 ).

إنّ هاتين الآيتين وماشابههما من الآيات القرآنيّة تعلن بصراحة عن وحدة أبناء

ص: 350


1- راجع كتابي : الوثائق السياسيّة ، ومكاتيب الرسول ، وسيوافيك قسم من هذه الكتب في الجزء الثالث من موسوعتنا هذا ، عند البحث عن كون دعوة الرسول دعوة عالميّة لا إقليميّة.
2- إنّ الملاحظ أنّ القرآن وجّه أكثر دعواته إلى الناس فقال ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ولم يوجهها إلى طائفة خاصّة فلم يقل يا أيّها القريشيّون أو يا أهل مكّة ، أو يا أهل الحجاز أو أيّها البيض أو أيّها العرب.

الإنسان مبدأ ومصيراً ... ووحدتهم أصلاً ونهاية ، وتنهي كلّ ألوان التمييز العنصريّ ، والقوميّ وكلّ دواعيه الخياليّة ، فالإسلام لا يقر الحدود والأجناس والقوميّات والعنصريّات كعوامل واُمور تسوّغ التفريق بين أبناء البشر ، وترفع جماعة وتضع اُخرى.

وبهذا يرسي قواعد حكومة عالميّة واحدة ذات نظام إلهيّ توحيديّ واحد تدار فيها جميع المجتمعات البشريّة بمجموعة واحدة من القوانين الالهيّة المطابقة للفطرة الإنسانيّة والطبيعة البشريّة ، ويخضع العالم برمّته - في ظلالها - لاقتصاد واحد وسياسة واحدة وقضاء واحد ومحكمة واحدة ، ومعتمداً على جيش قويّ واحد ... ويستفيد جميع أبناء البشر من جميع المواهب الالهيّة الطبيعيّة بصورة متساويّة ، لا أن يحتكر بلد صغير جداً موارد طبيعيّة ضخمة وهائلة تكفي لأن يعيش بها عشرات الملايين بل ومئاتها ، بينما يرزح كثير من الناس في البلاد الاُخرى تحت حال يرثى لها من الحرمان والبؤس والفقر المدقع ، ويعانون من الجوع والجهل ، والعري والمرض ويموت منهم كلّ يوم عشرات الآلاف بل مئات الآلاف نتيجة الفقر ، ونقصان المواد الغذائيّة ، وما شابه ذلك.

وبذلك نعرف أنّ الدعوات القائمة - اليوم - باسم القوميّة ، والعنصريّة والطبقيّة ما هي إلاّ خطوات مضادّة لاطروحة الحكومة العالميّة الموحّدة التي سبق الإسلام إلى المناداة بها والدعوة إليها بإصرار.

لقد شجب الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله في خطابه التاريخيّ عند عودته من حجّة الوداع ، كلّ ألوان التمييز والتفرقة بين أبناء البشر وقال : « لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا لأعجميّ على عربيّ إلاّ بالتّقوى » (1).

وقال : « كلّكم من آدم وآدم من تراب » (2).

وقال : « أيّها الناس أنّ اللّه أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتفاخرها بآبائها ألا انّكم من آدم وآدم من طين » (3).

ص: 351


1- تحف العقول : 1. وسيرة ابن هشام 2 : 414.
2- تحف العقول : 1. وسيرة ابن هشام 2 : 414.
3- سيرة ابن هشام 2 : 412.

وقال : « ألا أنّ خير عباد اللّه عبد اتّقاه إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثّل أسنان المشط لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا لأحمر على أسود إلاّ بالتقوى » (1).

وقال : « إنّما الناس رجلان : مؤمن تقيٌّ كريم على اللّه ، أو فاجر شقيٌّ هينٌّ على اللّه ».

وقال : « ألا أنّ العربيّة ليست بأب والد ، ولكنّها لسان ناطق ، فمن قصر به عمله لم يبلغ به حسبه » (2).

وقال : « ليدعنّ رجال فخرهم بأقوام ، إنّما هم فحم من فحم جهنّم. أو ليكوننّ أهون على اللّه من الجعلان التي تدفع بانفها النتن » (3).

وقال عليّ علیه السلام : « أصل الإنسان لبُّه وعقله ودينه ومروّته حيث يجعل نفسه ، والأيام دول والنّاس إلى آدم شرع سواء » (4).

إنّ مثل هذا الموقف الإنسانيّ الصحيح من البشريّة يمكن أن يكون قاعدة فكريّة أساسيّة لتشكيل حكومة عالميّة موحّدة تقضي على كلّ ألوان الصراع والتشاحن ، وتزيل أسباب الحروب الدامية ، وينعم في ظلالها جميع البشريّة بالسعادة والعزّة والاستقرار والثبات ، ويستفيد فيها الجميع من النعم الإلهيّة والمواهب الطبيعيّة على قدم المساواة ، دونما تفضيل أو تمييز ، ودونما إجحاف أو ظلم.

قال عليّ علیه السلام : « أفضل النّاس - أيُّها النّاس - عند اللّه منزلةً وأعظمهم عند اللّه خطراً أطوعهم لأمر اللّه وأعلمهم بطاعة اللّه ، واتبعهم لسنّة رسول اللّه وأحياهم لكتاب اللّه ، فليس لأحد من خلق اللّه عندنا فضل إلاّ بطاعة اللّه وطاعة رسوله واتباع كتابه وسنّة نبيّه ، وهذا كتاب اللّه بين أظهرنا وعهد نبيّه وسيرته فينا لا يجهلها إلاّ جاهل مخالف معاند عن اللّه عزّ وجلّ يقول اللّه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات : 13 ) فمن اتقى اللّه فهو الشريف المكرم المحبُّ كذلك أهل طاعته وطاعة رسوله » (5).

ص: 352


1- الفقيه 2 : 27 باختلاف يسير ، والكافي 2 : 246.
2- سنن أبي داود 2 : 625.
3- سنن أبي داود 2 : 624.
4- أمالي الصدوق : المجلس 42.
5- تحف العقول : 183.

خصائص الحكومة الإسلامية ومميّزاتها

2

الإيمان ملاك تكوّن الاُمّة الإسلاميّة
اشارة

( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ )

( الأنبياء : 92 ).

بماذا تتكون الاُمّة ويتحقّق مفهومها :

إنّ أوّل مسألة تطرح نفسها عند الحديث عن الحكومة الإسلاميّة ، هو السؤال عمّا به تتكوّن الاُمّة الإسلاميّة ، وما يكون ملاكاً لأن يكون الفرد بسببه جزءاً من هذه الاُمّة أو لا يكون ، وبالأحرى ، ما هي العناصر التي تحقّق مفهوم الاُمّة الإسلاميّة وتستحقّ بها إطلاق عنوان الاُمّة عليها ، فإنّ الملاك الذي يجعل الفرد جزءاً من الاُمّة الإسلاميّة أو يخرجه عنها هو الذي يكون موضوعاً للحقوق ، ومناطاً لها وهو الذي يقرّر ما له وما عليه في إطار الاُمّة الإسلاميّة التي ينتمي إليها بسبب ذلك الملاك.

إنّ الملاك الذي يحقّق مفهوم الاُمّة وبموجبه يقوّم كيانها هو الذي يحدّد نوع

ص: 353

العلاقات بين أفراد الاُمّة الواحدة أنفسهم ونوع العلاقات بينهم وبين الخارجين عن إطار هذه الاُمّة : فما هو إذن ذلك الملاك ( الملاك ) الذي يحقّق مفهوم الاُمّة الإسلاميّة ويصنع حقيقتها ويستتبع حقوقاً وواجبات خاصّة ... وما هي الرابطة التي تجعل الفرد جزءاً من هذه الاُمّة أو تخرجه من إطارها ، ويفترض وجودها نمطاً واحداً من المقرّرات ؟

مكوّنات الاُمّة عند الحقوقيّين

إنّ العناصر التي تحقّق مفهوم الاُمّة وتكوّن واقعها الخارجيّ - في نظر الحقوقيّين - وتميّز جماعة عن اُخرى هي عبارة عن وحدة أفراد تلك الجماعة في إحدى هذه الاُمور أو جميعها :

1. الأرض.

2. الدم والعنصر ( أو الجنس والأصل ).

3. اللغة.

4. التاريخ.

5. المصلحة المشتركة (1).

فهذه العناصر كلّها أو بعضها إذا توفّرت لدى جماعة ، كانوا بذلك ( اُمّة ) خاصّة تختلف عن الاُمم الاُخرى ، وقد بنى دعاة القوميّة أساس دعوتهم على هذه الوحدات ، وميّزوا بها شعوبهم عن غيرها.

ولكنّ هذه العناصر ، التي اعتبرها بعض الحقوقيّين ملاكات لتحقيق مفهوم الاُمّة ووجودها ، وإن كان لها بعض التأثير في تمييز جماعة بشريّة عن اُخرى إلاّ أنّها لا يمكن أن تكون صانعة لمفهوم الاُمّة ، وواقعها الخارجيّ. لأنّها عناصر خارجة عن إرادة الإنسان وحدود اختياره. ومن المعلوم أنّ الاجتماع الحاصل عن ملاكات خارجة عن إطار الاختيار والإرادة لا تشكّل اجتماعاً حقيقيّاً يستحقّ صفة الاُمّة.

ص: 354


1- راجع الاُمّة والعوامل المكوّنة لها لمحمّد المبارك.

إنّ هذه العناصر وإن كانت تجمع جماعة من الناس ، فإنّ هناك اُموراً اختياريّة تفرّقهم ، وتبدّل هذا الاجتماع إلى الفرقة فلا تتحقّق - عندئذ - الاُمّة التي تعني وحدة الجماعة على اُسس جامعة لا تقبل تفكّكاً ولا تنالها أيدي التمزيق.

إنّ ( الاُمّة ) هي الجماعة التي يلتقي أفرادها على رابطة جامعة حقيقيّة وهي لا تكوّن إلاّ ما يشترك فيه الأفراد اشتراكاً اختيارياً اراديّاً ، ويكون قادراً على جمعهم حول محور واحد ، ودفعهم في مسير واحد بحيث يحسّ البعض باحساس الآخر ويتألم لتألمّه ، ويطلب للغير ما يطلبه لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه وهذا لا يحصل بالاتّحاد في المولد أو الاشتراك في الدم أو اللغة أو التاريخ وهم لا يشتركون في تلك الرابطة الجامعة الحقيقيّة.

وبتعبير آخر : انّ المجتمع الذي ينطوي على تباين في الاُسس الفكريّة ، واختلاف في الاتجاهات المسلكيّة ، وتنوّع في الآمال والمطاليب كيف يمكن أن يجتمع أفراده في وحدة متماسكة ، وتكون مجموعة بشريّة خاصّة تستحقّ إطلاق صفة الاُمّة عليها ؟

لا شكّ أنّ مثل هذه الاُمّة المختلفة في آرائها ، وأهوائها تؤول - لا محالة - إلى التفرّق ، وينتهي آخر أمرها إلى التفكّك إذ لا جامع حقيقيّ يجمعهم ، ولا رابط واقعي يربط بينهم.

إنّ مجرد الاتحاد والوحدة في الاُمور الخارجة عن الاختيار والإرادة كالملاكات التي ذكرها بعض الحقوقيّين لتكوّن مفهوم الاُمّة مع وجود الاختلاف والتباين في الآراء والأهواء ، وفي النظريّات والعقائد التي يقدسها الأفراد ويعتبرونها أعزّ الأشياء ويضحّون في سبيلها بالغالي والرخيص ، لا يجدي نفعاً في تشكيل الاُمّة الواحدة ، وتكوين الجماعة المتميّزة عن غيرها إلى درجة تستحقّ إطلاق الاُمّة عليها.

لنفترض مواطنين ولدا على أرض واحدة أو يعيشان عليها ، وينتميان إلى عرق واحد ، ويشتركان في اللغة والتاريخ ، ولكنّهما يختلفان في العقيدة والمسلك فيعتقد أحدهما بأصالة الفرد ، ويرى إعطاءه الحريّة المطلقة في كلّ المجالات ، بحجّة أنّ ما هو

ص: 355

الموجود والمؤثّر حقيقة هو الفرد وليس للمجتمع حقيقة وراء الأفراد ... فلا بدّ أن تضمن مصالح الفرد فقط ويجوز للفرد بسبب ذلك أن يفعل ما يريد لتحقيق غاياته الماديّة فيشعل نيران الحروب لكي يبيع على المتحاربين أسلحته ومعداته ، وقع ما وقع من المآسي والويلات !!.

بينما يعتقد المواطن الآخر نقيض هذا الرأي فيرى بحكم اعتقاده بأصالة المجتمع إعطاء الأولويّة للمجتمع ومصالحه ومسائله باعتبار أنّ بقاء الفرد ببقاء المجتمع فلا بدّ أن يخضع الفرد للمجتمع خضوعاً كاملاً ويضحّي بكلّ مصالحه في سبيل مصالح المجتمع ، فلا يأخذ من نتاج يده إلاّ ما يسدّ رمقه ... لينتعش المجتمع ، وتأمن مصالحه.

لنفترض هذين المواطنين المختلفين في الرأي والمسلك ، هل يمكن أن توحّدهم رابطة الدم أو التاريخ أو اللغة أو الميلاد على أرض واحدة ؟

وهل يكمن أن يتكوّن منهما - والحال هذه - اُمّة ذات طابع خاصّ ، ووحدة متميّزة ، وضمير واحد وإحساس واحد وعلاقة واحدة.

إنّ العناصر التي ذكرها الحقوقيّون وإن كان لها تأثير ما في تجميع الأفراد على صعيد واحد ، إلاّ أنّها ما لم تنضم إليها العوامل الإراديّة الاختياريّة لا يؤول توفّرها في جماعة إلى تكوّن الاُمّة بحقيقتها وجوهرها. فإنّ هذه العناصر ما لم تنضمّ إلى عامل الوحدة العقائديّة الاختياريّ ، الذي بإمكانه أن يهدم فقدانه أيّة وحدة ناشئة من الدم أو اللغة أو التاريخ أو الأرض ، لا تحقّق ( الاُمّة ) ولو تحقّقت لا تتجاوز حقيقتها عن اجتماع الأبدان مع التفرّق في الأهواء.

من هنا لا يكون ما جاء في البند الأوّل من وثيقة حقوق الإنسان من أنّ ( ابناء الإنسان إخوة من دون أي تمييز حتّى في الدين ) وجيهاً فكيف يكون رجلان إخوة وبينهما غاية التباعد والتباين في المسلك والفكر ، أم كيف يمكن أن تحصل الاُخوّة والحال هذه ؟

إنّ وحدة الأفراد وتحقيق مفهوم الاُمّة الواحدة رهن بأن يكون الأفراد مختارين في انتخاب ( شركاء ) حياتهم ، ومن يتّحدون معه وهو أمر لا يحصل إلاّ إذا كان بين

ص: 356

الشريكين وحدة الفكر ، فماذا تجدي وحدة الأرض أو اللغة وفي مقدور ( الاختلاف الفكري ) أن ينسف تلك الوحدة الناشئة من الأرض أو اللغة في أي لحظة من اللحظات ؟ ولأجل ذلك نجد القرآن الكريم يقيّم الاخّوة على أساس الإيمان فيصف المؤمنين بالإخوة قائلاً : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات : 10 ).

فاتّحاد الفكر والإيمان وحده هو القادر على جمع الأفراد ، لا وحدة الأرض مع اختلاف الرأي ، ولا وحدة اللغة مع اختلاف العقيدة ولا وحدة الدم مع اختلاف الاتّجاه.

فقد نقل أنّه كان أوّل من طرح فكرة بناء الاُمّة على العناصر والروابط المذكورة الخارجة عن نطاق الاختيار هو « جوبينو » حيث طرح وحدة العنصر أساساً للقوميّة الواحدة وجعل الاتحاد في العنصر مقوّماً من مقوّمات الاُمّة الواحدة ذات الصفة الخاصّة ، ولقد صارت هذه النظريّة أساساً للسياسات الخشنة التي تبنّاها موسوليني وهتلر ، وكانت أبرز عامل لوقوع الحرب العالميّة الاُوّلى التي جرّت على البشريّة أسوء الويلات.

المِلاك الإسلاميّ للاُمّة

ولكنّ الإسلام يجعل العامل المكوّن للاُمّة والذي يترتّب عليه التعامل والتعايش الخاصّ شيئاً آخر هو الوحدة في الإيمان ، فإنّ وحدة الناس في العقيدة والإيمان ( وهو أمر اختياريّ وله كلّ التأثير في الحياة الاجتماعيّة ) هي التي تصلح أن تكون أساس اجتماع الناس واتفاقهم بحيث يصحّ إطلاق وصف الاُمّة عليهم ... كما أنّ عدمها يوجب تفرّقهم وبطلان وصف الاُمّة في شأنهم.

إنّ لفظة الاُمّة تنطوي على وحدة الهدف الذي يقصد ، والغاية التي تؤم (1) ولا ريب أنّ وحدة الأيديولوجيّة والعقيدة هي التي تجعل الجماعة المعتنقة لتلك العقيدة ذات هدف واحد ، وغاية واحدة ومقصد واحد ... ولذلك فهي أجدر من غيرها ( من العناصر

ص: 357


1- خصوصاً إذا جعلنا الاُمّة مأخوذة من أمّ بمعنى قصد.

المذكورة لتكوّن الاُمّة ) على تكوين مفهوم الاُمّة ، وحقيقتها على الصعيد الخارجيّ.

وإلى هذا يشير القرآن ويرى أنّ الملاك الجامع بين أفراد المجتمع ، الصانع منهم اُمّة واحدة ليس هو إلاّ وحدة الإيمان باللّه إذ قال :

أ - ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات : 10 ).

ب - ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) ( الأنبياء : 92 ).

ج - ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) (1) ( المؤمنون : 52 ).

د - ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) ( آل عمران : 110 ).

ه - ( فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) ( التوبة : 11 ).

إنّ الناظر إلى هذه الآيات القرآنية الكريمة يلاحظ أنّ اللّه سبحانه جعل الاُمّة الإسلاميّة موضع خطابه بما هم مؤمنين وجعل ملاك الاخوة والاجتماع هو الإيمان ، ووحدة العقيدة. وقد صرّحت الأحاديث المرويّة عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله بهذا الموضوع في أكثر من موضع ، حتّى أنّ الأمر قد أصبح من أوضح الواضحات فقد ورد عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « أيُّها النّاس إنّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد ، كلّكم لآدم وآدم من تراب إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم وليس لعربيّ على أعجميّ فضل إلاّ بالتقوى » (2).

ص: 358


1- من الجدير بالذكر أنّ الآية 92 من سورة الأنبياء خطاب للمسلمين ، بينما الآية 52 من سورة المؤمنون خطاب للرسل واُممهم ممّا يعني أنّ الملاك الإسلاميّ القرآنيّ المعتبر لتكوّن الاُمّة هو الإيمان ووحدة العقيدة ، لم يكن بالنسبة للاُمّة الإسلاميّة فقط بل كان بالنسبة لاُمم الرسل السابقين على النبيّ الأكرم والاُمّة الإسلاميّة أيضاً وإليك الآية : (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)
2- تحف العقول : 30 من خطبة الوداع.

وقال صلی اللّه علیه و آله أيضاً : « أيّها الناس أنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتفاخرها بآبائها ألا أنّكم من آدم وآدم من طين ، ألا أنّ خير عباد اللّه عبد اتّقاه.

أنّ العربيّة ليست بأب والد ، ولكنّها لسان ناطق ، فمن قصّر به عمله لم يبلغه حسبه » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله في خطبة حجة الوداع : « اسمعوا قولي واعقلوه تعلمنّ أنّ كلّ مسلم أخ للمسلم ، وأنّ المسلمين إخوة » (2).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم » (3).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا وآمن بنبيّنا وشهد شهادتنا دخل في ديننا وأجرينا عليه حكم القرآن وحدود الإسلام ليس لأحد فضل على أحد إلاّ بالتقوى.

ألا إنّ للمتقين عند اللّه أفضل الثواب وأحسن الجزاء والمثاب » (4).

وورد عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قوله : « إنّما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم [ وتوادّهم ] بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسّهر » (5).

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمد علیهماالسلام : « المسلم أخو المسلم وحقُّ

ص: 359


1- الكافي 8 : 246 ، ومشكاة الأنوار للطبرسيّ : 59.
2- الأموال : 268.
3- السيرة النبويّة لابن هشام 4 : 604.
4- بحار الأنوار 15 : 182 ونقل أيضاً هكذا : قال النبي صلی اللّه عليه وآله وسلم : « إن اللّه تعالى جعل الإسلام دينه وجعل كلمة الإخلاص حسنا له فمن استقبل قبلتنا وشهد شهادتنا، وأحل ذبيحتنا فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا » نوادر الراوندي: 21، وبحار الأنوار 68 : 288، وراجع الخراج لأبي يوسف: 141.
5- سفينة البحار 1 : مادة أخ ، ونقله أيضاً البخاريّ ومسلم حيث نقلاه بصيغة مماثلة : « مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى » راجع التاج 5 : 17 ورواه أحمد بن حنبل في 4 : 7.

المسلم على أخيه المسلم أن لا يشبع ويجوع أخوه ولا يروى ويعطش أخوه ، ولا يكتسي ويعرى أخوه فما أعظم حقُّ المسلم على أخيه المسلم » (1).

وقال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « المسلمون [ إخوة ] تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويردُّ عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم » (2).

ولم يقتصر الإسلام على اعتبار الإيمان ملاكاً للانخراط في سلك الاُمّة الإسلاميّة ، بل نفى كلّ ما سوى ذلك من العناصر التي ربّما يتمسّك بها الناس للتفريق بين جماعة واُخرى كاللون أو اللغة أو ما شابه ذلك.

وقد قام النبيّ الأكرم باتخاذ هذا الموقف عمليّاً في عدة قصص ؛ منها قصة جويبر فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة منه له ورقّة عليه فقال له : « يا جُويبر لو تزوجت امرأةً فعففت بها فرجك وأعانتك على دُنياك وآخرتك »

قال جويبر : - يا رسول بأبي أنت واُمّي من يرغب فيّ ، فواللّه ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال فأيّة امرأة ترغب فيّ ؟

فقال صلی اللّه علیه و آله : « يا جويبر إنّ اللّه قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً ، وشرّف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً وأعزّ بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً ، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها فالناس اليوم كلُّهم ، أبيضهم وأسودهم وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم وإنّ آدم خلقه اللّه من طين وإنّ أحبّ النّاس إلى اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة أطوعهم له ، وأتقاهم وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلاّ لمن كان أتقى لله منك وأطوع » ثمّ قال له : « انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنّه من أشرف بني بياضة [ قبيلة من الأنصار ] حسباً فيهم فقل له : إنّي رسول رسول اللّه إليك وهو يقول لك : زوّج جويبراً ابنتك

ص: 360


1- سفينة البحار 1 : مادة أخ.
2- المجازات النبويّة للشريف الرضيّ : 17 ، وأخرجه أبو داود وابن ماجة مع فارق بسيط جداً ووسائل الشيعة 19 : 55.

الذّلفاء ».

فانطلق جويبر برسالة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده ، فاستأذن فأعلم فاذن له فدخل وسلم عليه ثمّ قال : يا زياد بن لبيد انّي رسول رسول اللّه إليك في حاجة لي فأبوح بها أم أسرّها إليك ؟

فقال له زياد : بل بح بها فإنّ ذلك شرف لي وفخر.

فقال له جويبر : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لك : زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقال له زياد : أرسول اللّه أرسلك إليّ بهذا ؟

فقال له : نعم ما كنت لأكذب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فقال له زياد : إنّا لا نزوّج فتياتنا إلاّ أكفّائنا من الأنصار ، فانصرف يا جويبر حتّى ألقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاخبره بعذري ، فانصرف جويبر وهو يقول : واللّه ما بهذا نزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله فسمعت مقالته الذلفاء بنت زياد وهي في خدرها فأرسلت إلى أبيها : ادخل إليّ ، فدخل إليها ، فقال ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبراً ؟

فقال لها : ذكر لي أنّ رسول اللّه أرسله ، وقال : يقول لك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقالت له : واللّه ما كان جويبراً ليكذب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحضرته فابعث الآن رسولاً يرّد عليك جويبراً.

فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً فقال له زياد : يا جويبر مرحباً بك اطمئنّ حتّى أعود إليك.

ثمّ انطق زياد إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال له بأبي أنت واُميّ إنّ جويبراً أتاني برسالتك وقال : إنّ رسول اللّه يقول لك : زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء ، فلم ألن له بالقول ، ورأيت لقاءك ونحن لا نزوّج إلا أكفّاءنا من الأنصار.

فقال له رسول اللّه : « يا زياد ! جويبر مؤمن والمؤمن كفؤ للمؤمنة ، والمسلم كفؤ

ص: 361

للمُسلمة فزوّجهُ يا زياد ولا ترغب عنهُ ».

فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته فقال لها ما سمعه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالت له : إنّك عصيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكفرت فزوّج جويبراً.

فخرج زياد ، فأخذ بيد جويبر ثمّ أخرجه إلى قومه فزوّجه على سنّة اللّه وسنّة رسوله صلی اللّه علیه و آله وضمن صداقه (1).

وروي أنّه جاء قيس بن مطاطيه [ وهو رجل منافق ] إلى حلقة فيها سلمان الفارسيّ وصهيب الروميّ وبلال الحبشيّ فقال : هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هذا ؟

وهو يقصد بالرجل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويقصد من مجموع كلامه أنّ الأوس والخزرج من قومه العرب ينصرونه لأنّه من قومه ... فما الذي يدعو الفارسيّ والروميّ والحبشيّ إلى أن ينصروه.

فقام إليه معاذ بن جبل فأخذ بتلابيبه ثمّ أتى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأخبره بمقالته ، فقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله مغضباً يجرّ رداءه حتّى أتى المسجد ثمّ نودي : أنّ الصلاة جماعة وقال صلی اللّه علیه و آله : « يا أيُّها النّاس إنّ الربّ واحد والأب واحد وإنّ الدين واحد ، وليست العربيّة لأحدكم بأب ، ولا اُمّ ، وإنّما هي اللسان ، فمن تكلّم بالعربيّ فهو عربيٌّ ».

فقام معاذ ، فقال فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول اللّه ؟ قال : « دعهُ إلى النّار » فكان قيس ممّن ارتدّ في الرّدّة فقتل (2).

وقد خطب الإمام عليّ بن أبي طالب وقال : « أيُّها النّاس إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمةً ، وإنّ النّاس كلُّهم أحرار ولكنّ اللّه خوّل بعضكم بعضاً فمن كان له بلاء فصبر في الخير ، فلا يمنُّ به على اللّه عزّ وجلّ.

ألا وقد حضر شيء ونحن مسّووُن فيه بين الأسود والأحمر ».

ص: 362


1- الكافي 5 : 340 - 342 والقصة مفصّلة وجديرة بالمطالعة.
2- تفسير المنار لمحمّد رشيد رضا 11 : 258 - 259.

فقال مروان لطلحة والزبير : ما أراد بهذا غيركما.

قال الراوي فأعطى كلّ واحد ثلاثة دنانير وأعطى رجلاً من الأنصار ثلاثة دنانير ، وجاء - بعد - غلام أسود فأعطاه ثلاثة دنانير فقال الأنصار : يا أمير المؤمنين هذا غلام اعتقته بالأمس ، تجعلنا وايّاه سواء ؟ فقال : « إنّي نظرتُ في كتاب اللّه فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلاً ، إنّي لا أرى في هذا الفيء فضيلةً لبني إسماعيل على غيرهم » (1).

وروي أنّ الإمام موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام مرّ برجل من أهل السواد دميم المنظر فسلّم عليه ، ونزل عنده وحادثه طويلاً ، ثمّ عرض عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له فقيل له : يا ابن رسول اللّه أتنزل إلى هذا ثمّ تسأله عن حوائجه وهو أحوج إليك فقال علیه السلام : « عبد من عبيد اللّه ، وأخ في كتاب اللّه ، وجار في بلاد اللّه يجمعنا وإيّاه خير الآباء آدم علیه السلام وأفضل الأديان الإسلام » (2).

هكذا نجد الإسلام على لسان نبيّه وأئمّته علیهم السلام يجعل الإيمان هو الرابطة الجامعة بين أفراد المسلمين والملاك الوحيد المكوّن للاُمّة الإسلاميّة دون سواه فيما ينفي كلّ ملاك آخر لكونه ملاكاً مزيّفاً وفرقاً غير فارق.

وعن الإمام جعفر الصادق علیه السلام : « لمّا ولي عليٌّ علیه السلام صعد على المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال :

أمّا إنّي واللّه ما أرزأكم من فيئكم هذه درهماً ما قام بي عذق بيثرب فلتصدّقكم أنفسكم ، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم ، قال : فقام إليه عقيل كرّم اللّه وجهه فقال : فتجعلني وأسود في المدينة سواء ، فقال : اجلس ما كان هاهنا أحد يتكلّم غيرك وما فضلك عليه إلاّ بسابقة أو تقوى » (3).

ص: 363


1- الكافي 8 : 69.
2- تحف العقول : 305 ( طبعة بيروت ) و : 413 ( طبعة طهران ).
3- وسائل الشيعة 11 : كتاب الجهاد ( باب 39 ) نقلاً عن الكافي.

ولعل من الجدير هنا أنّ نورد ما ذكره العلاّمة الطباطبائيّ في هذا الصدد تحت عنوان : حدود الدولة الإسلاميّة هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعيّة أو المصطنعة :

( لقد ألغى الإسلام فكرة الإنشعابات القوميّة ، ورفض أن يكون لها أثرها في تكوّن الاُمّة ، تلك الإنشعابات التي عاملها الأصليّ الحياة البدويّة والمعيشة القبائليّة العشائريّة أو اختلاف الوطن ... وهما أمران يجرّان ورائهما الاختلاف في الألسن والألوان ونشوء القبائل ، والشعوب ، ثم صارا سبباً لأن تحوز كلّ جماعة قطعة من الأرض وتخصّصها لنفسها ، وتسمّيها وطناً يألفونه ويذبّون عنه.

وهذا وإن كان أمراً ساقهم إليه الحوائج الطبيعيّة التي يدفعهم الفطرة إلى رفعها غير أنّ فيه خاصّية تنافي ما يستدعيه أصل الفطرة الإنسانيّة ، فإنّ الطبيعة تدعو - بالضرورة - إلى اجتماع القوى المتشتّتة وتألفها وتقوّيها بالتراكم والتوحيد لتنال ما تطلبه من غاياتها الصالحة بوجه أتمّ وأصلح.

والانشعابات بحسب الأوطان ( أو الألوان أو اللغات ) تسوق الاُمّة إلى توحّد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الاُخرى ذات الأوطان الاُخرى فتصير جماعة واحدة منفصلة الجسم والروح عن المجتمعات الاُخرى ، فتنعزل الإنسانيّة عن التوحيد المطلوب والتجمّع المنشود وتصاب بالتفرّق والتشتّت الذي كانت تفرّ منه ، كما ويترتّب على ذلك أن يعامل هذا الجزء البشريّ بقية الأجزاء البشريّة الاُخرى كما يعامل الإنسان سائر الأشياء الكونيّة ، أي على أساس الاستثمار والاستخدام لا على أساس التعاون والتعايش والمعاشرة الإسلاميّة المطلوبة.

وهذا هو السبب في إلغاء الإسلام للإنشعابات القوميّة والتميّزات الأرضيّة وبناء الاجتماع على العقيدة دون الجنسيّة والقوميّة والوطن ونحو ذلك ، حتّى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث فإنّ المدار فيهما على الاشتراك في العقيدة لا في المنزل والوطن مثلاً ) (1).

ص: 364


1- تفسير الميزان 4 : 200 بتصرّف بسيط.

إنّ رابطة الإيمان لا تجمع الأفراد الحاضرين الأحياء فقط ، وتشكّل منهم اُمّة واحدة متعاطفة متحابّة ، بل تجعل المؤمن يشعر بالاخوّة والعلاقة والرابطة حتّى بالنسبة إلى كلّ الذين سبقوه ، وتطهّر قلبه من أيّة ضغينة أو غلّ تجاههم كما يقول القرآن. ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( الحشر : 10 ).

إنّ البحث حول الإشكالات الواردة على العناصر المكوّنة للاُمّة في نظر الحقوقيّين موكول إلى موضع آخر ، ونحن هنا نكتفي ببيان العنصر المعقول الصحيح الذي يبني عليه الإسلام مفهوم الاُمّة ويحقّق وجودها الخارجيّ الحقيقيّ وهو رابطة الإيمان ، ووحدة العقيدة.

إنّ الإيمان هو الملاك الطبيعيّ لتكوّن الاُمّة في نظر الإسلام ، فهو الذي تترتّب عليه الحقوق ، وتبتني عليه علاقات الفرد المؤمن مع الفرد الآخر في الاُمّة الإسلاميّة ، وعلاقات الاُمّة مع غيرها من الطوائف والاُمم الاُخرى.

إنّ التجارب التاريخيّة المسلّمة ، والوقائع المحسوسة أثبتت أنّ رابطة الإيمان أقدر من غيرها على تجميع الأفراد وتكوين الاُمّة الواحدة منهم ، وتوجيههم وجهة واحدة ودفعهم إلى حماية أنفسهم وكيانهم وبثّ روح التعاطف والتراحم والتواصل بينهم ، وإخراجهم اُمّة واحدة متماسكة بينما أثبتت التجارب والوقائع فشل الملاكات والعناصر التي ذكرها الحقوقيّون ، لتكوين مفهوم الاُمّة فضلاً عن تحقيق حقيقتها ووجودها على الصعيد الخارجيّ ، لأنّها عجزت عن إيجاد أيّة وحدة حقيقيّة وأيّ تعاطف حقيقيّ وأيّ تلاحم وتراحم ، وتعاون وتعايش ووئام وانسجام بين الأفراد.

إنّ التجربة الماضية والحاضرة برهنت على عجز ( العامل القومي ) المرتكز على وحدة الأرض أو الدم أو اللغة ، أو التاريخ ، عن إثارة همم الأشخاص وعزائمهم ، ودفعهم إلى أن يفكروا معاً في مسيرهم ومصيرهم ويتعاونوا فيما بينهم كما يتعاون أعضاء العائلة الواحدة ، بينما برهنت التجربة قديماً وحديثاً على أنّ الرابطة العقيديّة في الإسلام

ص: 365

كانت سبباً للتضحيات الجسيمة وتغاضي الأفراد عن مصالحهم بل وحياتهم في سبيل إسعاد الجماعة.

وهذا كلّه يدلّ على أنّ الملاك الوحيد القادر على صنع الاُمّة وتكوينها بحقيقتها وجوهرها هو الإيمان ووحدة العقيدة دون سواه ، بل وإنّ الأدلّة والوثائق الموجودة تدلّ على أنّ « القوميّة » كانت إحدى الأسلحة والوسائل الاستعماريّة لتفتيت وحدة الاُمّة الإسلاميّة وشقّ عصا المسلمين حيث فرّقوا الاُمّة الواحدة إلى قوميّة عربيّة وتركيّة وفارسيّة وكرديّة ، في حين كان العدو الإسرائيليّ يجمع أبناءه وأعضاءه تحت لواء الدين دون أن يفرّق بينهم بالنعرات القوميّة والدعوات الجنسيّة فجمع من أنحاء العالم كلّ من انتمى إلى الدين اليهوديّ دون النظر إلى اختلاف أجناسهم وألوانهم وشكّل بذلك قوّة كبيرة عبّأها ضد العرب ، بينما راح العرب يطرحون القضيّة من وجهة قوميّة فابعدوا المسلمين عن أنفسهم وخسروا بذلك قوّة عظمى في الحرب والمواجهة مع إسرائيل.

هذا بالإضافة إلى أنّ القوميّة أخّرت الاُمّة الإسلاميّة في كلّ المجالات لأنّها قتلت الكفاءات وأهدرت الطاقات في نزاعات جانبيّة وتخلّفت بذلك عن التقدم والرقيّ واللحاق بركب الحضارة (1).

ص: 366


1- راجع كتاب حركات ومذاهب في ميزان الإسلام.

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

3

المساواة أمام القانون
اشارة

المساواة أمام القانون (1)

« النّاسُ أمامُ الحقّ سواء »

( حديث نبوي )

تتميّز الحكومة الإسلاميّة عن غيرها من الحكومات بأنّها لا تفرّق بين من يعيشون تحت رايتها في تطبيق القوانيين عليهم وشملهم بالأحكام الحقوقيّة ، والجزائيّة فلا تفرّق بين الغنيّ والفقير والراعي والرعيّة ، والحضريّ والقرويّ ، بل والبرّ والفاجر ، على العكس من الحكومات الاُخرى التي تعامل رعاياها على أساس من التمييز والتفريق الشديد أو الخفيف.

وتعود هذه الخصيصة في الحكومة الإسلاميّة إلى طبيعة الدين الإسلاميّ أساساً

ص: 367


1- فيما كان هذا المقطع من كتابنا يهيّأ للطباعة ( صبيحة 18 / محرم / 1402 ه ) - الطبعة الاُولى - فجع العالم الإسلاميّ بفقدان علم من أعلام الفقه والفكر هو آية اللّه العلاّمة السيد محمّد حسين الطباطبائيّ قدس سره ذلك الرجل الذي كان ينطوي على كنوز عظيمة من العلم والمعنويّة ، والذي قام - طوال ثمانين سنة من عمره المبارك - بأعظم الخدمات إلى العالم الإسلاميّ حيث أسّس منهج ( تفسير القرآن بالقرآن ) متمثّلاً في تفسير الميزان وأشاع اُسلوب التفكّر الإسلاميّ على أساس التعقّل والكتاب والسنّة. ونحن إذ نعزّي العالم الإسلامي بهذه الفاجعة نهيب بالمسلمين أن يتهموا بما تركه هذا الرجل العظيم من تراث فكري عني.

فإنّ الإسلام يتميّز - عن المبادئ الوضعيّة - بتركيزه الشديد على التسوية بين جميع أفراد البشر ، مهما اختلفت طبقاتهم وأوضاعهم الاجتماعيّة والسياسيّة ، وانتماءاتهم العشائريّة وتعود هذه التسوية الإسلاميّة إلى أمرين أساسيين :

أوّلاً / اعتقاد الإسلام بوحدة بني الإنسان جميعاً ، في المنشأ والعنصر ، فماداموا جميعاً بشراً من آدم وحواء وهما من تراب وطين.

وماداموا يشتركون في المشاعر والأحاسيس والحاجات والآمال والألام فكلّهم عباد اللّه تعالى على السواء وكلّهم مخلوقون له بدون استثناء ، فلماذا التمييز بين راعيهم ورعيّتهم وغنيّهم وفقيرهم ؟

إنّ الاختلاف في المكانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة لا يمكن - في نظر الإسلام - أن يكون عاملاً موجباً لتفضيل بعض على بعض ، وإخضاع بعض للقانون دون آخر.

ثانيا / لأنّ التمييز في الأخذ بالقانون وتطبيقه والخضوع له ، وجعل طائفة من الناس فوق القانون ، واُخرى محكومة به ممّا يوهن موضع القانون ، ويقلّل من مهابته ، فينتفي الغرض المهم منه ، وهو تنظيم سلك المجتمع ، وإصلاح وضعه وتنسيق شؤونه.

إنّ مكانة القانون ومهابته تظلّ محفوظة ومصانة ، ما دام يكون موضع الاعتراف والاحترام من الجميع فلا خارج عنه ، ولا مترفّع عليه ، ولا ناقض لأحكامه. ولو سمح الإسلام لأحد أن يخرج عن القانون ويجعل نفسه فوق أحكامه لعاد نقض القانون فخراً. وفي ذلك ما فيه من ضياع النظام وسقوطه ، وانعدام تأثيره.

ولأجل ذلك مضى الإسلام يكافح - بدون هوادة وبكلّ قوّة - أي نقض للقانون حتّى في أبسط الصور مثل أن يكون لجماعة خاصّة محكمة خاصّة بهم نظراً لمكانتهم الاجتماعيّة والسياسيّة بينما يكون لعامّة الناس محكمة اُخرى لأنّهم الطبقة الدنيا من المجتمع ، وإن كانت الأحكام السائدة في جميع هذه المحاكم المختلفة ، نوعاً واحداً.

إنّ الخضوع والتسليم لهذا الأصل الإسلاميّ في التسوية بين جميع أفراد الاُمّة ، وتطبيق القانون على الجميع بدون استثناء بلغ إلى حدّ أدّى بأن يعتبر الدين الإسلاميّ ،

ص: 368

الانقياد للقانون والتسليم له ، من شرائط تحقّق الإيمان وصدق ادّعائه إذ قال سبحانه :

( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ( النساء : 65 ).

ومن المعلوم أنّ المراد بتسليمهم للنبيّ هو التسليم لأحكامه والقوانين التي جاء بها والشرع الذي صدع به ، وهو يعني عدم التمييز.

ولقد ذمّ اللّه سبحانه شرذمة من الناس يخضعون للقانون ويذعنون له ما دام يحقّق مصالحهم وينسجم مع رغباتهم فإذا وجدوه خلاف ذلك نبذوه وخالفوه وأعرضوا عنه ، يقول القرآن عن هؤلاء : ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) ( النور : 48 - 49 ).

وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ ) ( الحج : 11 ).

ولهذا وصف اللّه سبحانه ( النسيء ) بأنّه زيادة في الكفر وكان النسيء عبارة عن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ... وهو أمر كانت تفعله الجاهليّة فتؤخّر حرمة شهر المحرّم - إذا أهلّ وهم في القتال - إلى شهر صفر ، وقد كان سدنة الكعبة يرتكبون ذلك لقاء ثمن قليل يأخذونه من المعتدين والراغبين في القتال والعدوان في الأشهر الحرم فقال سبحانه : ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( التوبة : 37 ).

كما ذمّ اللّه سبحانه أحبار اليهود على تحريفهم الكتاب جلباً لرضا الناس ولقاء أجر بخس حيث قال سبحانه عنهم : ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) ( النساء : 46 ).

وقال تعالى : ( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ

ص: 369

لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة : 79 ).

وقال تعالى : ( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ ) ( المائدة : 13 ).

ولقد ورد في ذيل قوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ ) عن الإمام الصادق علیه السلام قوله : « إنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشا وبتغيير الأحكام ، عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات وعرفوهم بالتّعصب الشّديد الذّي يفارقون به أديانهم ، وإنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم ، وظلموهم من أجلهم وعرفوهم يقارفون الحرمات » (1).

ولأجل ذلك رفض الإسلام بشدّة أي شفاعة في إجراء الحدود ، فالحدود يجب أن تجرى على الجميع بغض النظر عن مكانة المستحقّ ما دام مستحقّاً فقد وردت في هذا المجال طائفة كبيرة من الأحاديث ، كما عن أبي جعفر الباقر علیه السلام حيث قال : « كان لاُمّ سلمة زوجة النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمة فسرقت من قوم ، فأتي بها إلى النّبيّ صلی اللّه علیه و آله فكلّمته اُمُّ سلمة فيها. فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « يا أُمّ سلمة هذا حد من حدود اللّه لا يُضيعُ ، فقطعها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (2).

وعن الإمام الصادق علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لاُسامة بن زيد : لا يُشفعُ في حدّ » (3).

وعن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام أيضاً قال : « كان أُسامةُ بن زيد يشفعُ في الشيء الذي لا حدّ فيه ، فاتي إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بإنسان قد وجب عليه حدّ فشفع لهُ أُسامةُ ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا تشفع في حدّ » (4).

ولقد جسد النبيّ صلی اللّه علیه و آله هذه التسوية أمام القانون عملياً في قصة سوادة بن قيس.

ص: 370


1- إحتجاج الطبرسيّ ( طبعة النجف ) 2 : 262.
2- وسائل الشيعة 18 :2. 333.
3- وسائل الشيعة 18 :2. 333.
4- وسائل الشيعة 18 :2. 333.

فقد قال سوادة للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في أيام مرضه لمّا صعد المنبر وطلب من الناس أن يطالبوه بما لهم عليه من حقّ إن كان : يا رسول اللّه انّك لمّا اقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني ، فأمره النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يقتص منه ، فقال اكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه فكشف عن بطنه فقال سوادة : أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك ، فأذن له ، فقال أعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه من النار ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « يا سوادة أتعفو أم تقتصّ » فقال سوادة : بل أعفو يا رسول اللّه ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « اللّهمّ اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيّك محمّد » (1).

ولأجل هذا قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « الناس سواسيّة كأسنان المشط » (2).

وأوضح نص في هذا المجال هو قول اللّه تعالى : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) ( المائدة : 45 ) ، فقد جعل اللّه النفس في مقابل النفس دون تمييز يعود إلى الغنى والفقر ... وما شابه ذلك.

وقد اعتبر الإسلام أي تمييز بين الأفراد أمام القانون بحجّة الغنى والفقر ، أو القوة والضعف إيذاناً بالسقوط والهلاك والعذاب حيث نقل المحدثون عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قوله : « أيُّها الناس ... إنّما هلك من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ » (3).

كما أنّ أوضح دليل عملي على هذه المساواة هو ما فعله النبي صلی اللّه علیه و آله في حجّة الوداع ، فإنّه لمّا أبطل ما كان من الربا بين الناس بدأ بعمّه العباس فأبطل ما كان له في ذمّة الناس من الربا قائلاً : « إنّ ربا الجاهليّةُ موضوع وإنّ أوّل ربا أبدأ به ربا العبّاس بن عبد المطلب » (4).

وعندما وضع ماسبق من دماء الجاهلية بدأ بدم عامر بن ربيعة الذي كان من

ص: 371


1- وسائل الشيعة 18 : 156 ، سفينة البحار 1 : 671 ، وقد ذكر ابن الاثير في اُسد الغابة نظير هذه القصّة 2 : 374.
2- من لا يحظره الفقيه 4 : 272.
3- صحيح مسلم 5 : 114.
4- تحف العقول : 29 خطبة حجّة الوداع.

أقرباء النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال : « وإنّ دماء الجاهليّة موضوعة وإنّ أوّل دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن المطلّب » (1).

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق قال : « قال أمير المؤمنين ( الإمام عليّ بن أبي طالب ) علیه السلام لعمر بن الخطاب : ثلاث إن حفظتهنّ وعملت بهنّ كفتك ما سواهنّ ، وإن تركتهنّ لم ينفعك شيء سواهنّ.

قال : وما هنّ يا أبا الحسن ؟

قال علیه السلام : إقامة الحدود على القريب والبعيد والحكم بكتاب اللّه في الرّضا والسّخط والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود.

قال عمر : لعمري لقد أوجزت وأبلغت » (2).

وقد جسّد الإمام عليّ علیه السلام هذه التسوية بين الأفراد عمليّاً وذلك لمّا حدّ النجاشيّ فغضب اليمانية فدخل طارق بن عبد اللّه عليه ، فقال : « يا أمير المؤمنين ما كُنّا نرى أنّ أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيّان في الجزاء حتّى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث فأوغرت صدورنا وشتّت اُمورنا وحملتنا على الجادّة التي كنّا نرى أنّ سبيل من ركبها النار ، فقال علیه السلام : « وإنّها لكبيرة إلاّ على الخاشعين ، يا أخا بني نهد ، وهل هو إلاّ رجل من المُسلمين انتهك حُرمة ما حرّم اللّه فأقمنا عليه حدّاً كان كفّارتهُ ، إنّ اللّه تعالى قال : ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) ».

فلما جنّ الليل همس هو والنجاشيّ إلى معاوية (3).

إلى غير ذلك من النصوص والأمثلة العمليّة على ذلك.

وينشأ هذا الأصل الإسلاميّ العظيم من إهتمام الإسلام الأكيد بالعدالة الذي يعتبر في حقيقته خصيصة برأسها.

ص: 372


1- تحف العقول : 29 خطبة حجّة الوداع.
2- وسائل الشيعة 18 : 156.
3- البحار 41 : 9 و 10.
المساواة من ثمار العدل :

فقد تميّز الإسلام بتركيزه الشديد على أمر العدل ، واهتمّ به أكثر من اهتمامه بأيّ شيء آخر ، حتّى عاد العدل أساس الإسلام وقاعدته الكبرى ، ومطلبه الرئيسيّ فلقد نادى الإسلام بالعدالة ، وطلب إجراءها ، وتنفيذها على الإطلاق بحيث تشمل جميع الأفراد من دون نظر إلى اختلافاتهم العنصريّة والاقليميّة والمذهبيّة.

إنّ الإسلام إذ يعتقد وحدة الناس أباً واُمّاً خاطبهم جميعاً بقوله : أيُّها الناس ، وهو كما نلاحظ خطاب يعمّ كلّ بني الإنسان كافّة وقد بنى على هذا الأصل ما نشده من التسوية بين القويّ والضعيف والغنيّ والفقير ، والشريف والوضيع.

إنّ تعميم العدل - في نظر الإسلام - ضرورة لا مندوحة منها ، وقد اعتبر العدول عن ذلك ناجماً عن اتّباع الهوى كما قال سبحانه : ( فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا ) ( النساء : 135 ).

ورفض أن يكون أي شيء مانعاً من تطبيقه وإجرائه خصوصاً شنآن قوم على ذلك ومعاداتهم بسبب إجراء العدل فقال : ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ ) ( المائدة : 8 ).

وقد اعتبره الإسلام أجمل مطلب يطمح إليه النوع الإنسانيّ إذ قال الصادق علیه السلام : « العدلُ أحلى من العسل » (1).

وذلك لأنّ العدل طريق إلى تحقّق الأمن الاجتماعيّ ، فلولاه لما بقي من الأمن أثر ولا خبر. ولهذا كان أهمّ وظيفة من وظائف النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو إجراء العدل وبسطه في المجتمع إذ قال سبحانه : ( وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) ( الشورى : 15 ).

وراح القرآن الكريم يقارن بين من يعدل وبين من لا يعدل ، ويستنكر التسوية بينهما إظهاراً لأهمّية العدل ، إذ قال : ( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ

ص: 373


1- سفينة البحار 1 : 166.

مُّسْتَقِيمٍ ) ( النحل : 76 ).

ولذلك أمر سبحانه جميع الناس بإجراء العدل وتطبيقه وصيانته قائلاً : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) ( النحل : 90 ) وهو كما نلاحظ أمر مطلق غير مقيّد بزمان أو مكان خاصّ أو أفراد معينّين.

من نتائج العدل

إنّ من أبرز نتائج العدل وثماره هو خروج القابليات إلى كمالها ، ونموّها وتكاملها لأنّ صاحب القابليات والمواهب إذا عرف أنّ جهده لا يضيع ، وأنّه لو أظهر نبوغه وعمل على ابراز قابليّته فاز بالمقام والتقدير دون حيف وجور ، اجتهد في ذلك ، وأعطى من نفسه وراحته ما يحقّق تقدّمه وهذا بعكس ما إذا كان الملاك للتقدير في المجتمع هو العلاقات والخداع ، والدهاء فعندئذ تبقى المواهب والقابليات محبوسة في مواضعها خامدة جامدة.

إنّ التعامل على أساس العدل وموافاة كلّ ذي حقّ حقّه ، وتقديم الضوابط على العلاقات يطمئنّ الناس إلى مصير سعيهم ونتيجة عملهم ويشجّعهم على الخير والاجتهاد فينطلق المحسن في إحسانه ويرتدع المسيء عن إساءته.

ولأجل هذا قال الإمام عليّ علیه السلام في عهده المعروف للأشتر النخعيّ : « ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة » (1).

ويكفي إظهاراً لأهمّية العدل وعظمة دوره في إسعاد المجتمع أنّ اللّه سبحانه جعل إقامة العدل ، الهدف النهائيّ لإرسال الرسل والأنبياء إلى البشريّة وإنزال الكتب عليهم إذ قال : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) ( الحديد : 25 ).

ص: 374


1- نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم 53.
إهتمام الإسلام بالعدل

ولقد بلغ اهتمام الإسلام باجراء العدل أنّه نهى أن يقف المسلم موقف الحياد من الظلم والبغي ومن الظالم والباغي ، وفرض عليه أن يصلح بين طائفتين من المؤمنين اقتتلا ، فرض عليه ذلك صوناً للعدل ومنعاً للظلم فقال : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) .

وإذا بغت إحدى الطائفتين وتجاوزت حدودها ، ولم تخضع للصلح أوجب الإسلام محاربتها ، وإيقافها عند حدّها وإرجاعها إلى جادّة الحقّ والسلام إذ قال : ( فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ ) .

على أن يكون الإصلاح بينهما بالعدل لا بالظلم وإبطال الحقّ وإحياء الباطل ، وسحق المظلوم ودعم الظالم ، وتشجيع المعتدي وتضييع المعتدى عليه : فقال سبحانه : ( فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الحجرات : 9 ).

ولأجل هذه الأهمّية البالغة صارت العدالة من الاُصول التي لا تقبل أي تخصيص.

كما لأجل هذه الأهمّية البالغة نجد الإسلام الذي يدعو إلى السلم والصلح والتعايش السلميّ يجوّز الحرب والقتال دفعاً للظلم وردعاً للظالم ، وقد وعد اللّه سبحانه عليه بالنصر تثبيتاً لموقع العدل ، وإظهاراً للإهتمام به فقال سبحانه : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) ( الحج : 39 ).

واشترط الإسلام أن لا يتجاوز هذا القتال والحرب حدود العدل ، لأنّه لإقامة العدل فكيف يتجاوز حدوده ، ولذلك نهى عن الاعتداء على الطرف الآخر بمزيد من عدوانه واعتدائه إذ قال : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) ( البقرة : 194 ).

إنّ العدل - في النظام الإسلاميّ - يمثّل أساس الأحكام والقوانين ، وميزان

ص: 375

التشريع وقسطاسه المستقيم فلا شيء في النظام الإسلاميّ إلاّ وينطلق من منطلق العدل ، ولا شيء فيه إلاّ ويهدف تحقيق العدالة في الحياة الإجتماعيّة ، ولقد أمر القرآن الكريم عامّة المسلمين أنّ يهتمّوا بإقامة القسط والعدل غاية الاهتمام فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ) ( النساء : 135 ).

ومن الواضح أنّ ( قوّام ) الذي هو صيغة المبالغة من ( قائم ) يوحي بشدّة التأكيد الإلهيّ على مسألة العدل ، وإجرائه فعلى المسلمين - لذلك - أن يبالغوا في تحقيق العدالة حتّى على الأغنياء فلا يحابوهم ولا يداروهم ، ولذا قال اللّه سبحانه في ذيل تلك الآية : ( أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) ( النساء : 135 ).

فإنّ غنى المحكوم يجب أن لا يقف سدّاً في طريق العدل ، وينبغي أن لا يكون سبباً للتخلّي عنه.

فها هو الإمام عليّ علیه السلام يرى أنّ من أهمّ واجبات الحاكم هو إقامة العدل : « وايم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ولأقودنّ الظالم بخزامته حتّى أورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً » (1).

إنّ العدل لا يشكل طريقاً للأمن الإجتماعيّ للاُمّة الإسلاميّة فقط ، بل يمثّل طريقاً طبيعياً لحفظ السلام العالميّ أيضاً ، فإذا أراد العالم أن يأمن الحرب ويتخلّص من التجاوز فما عليه إلاّ إجراء العدل والأخذ به في تعامله وتعايشه ... ولا يمكن ذلك إلاّ بالأخذ بالنظام الإسلاميّ.

أبعاد العدل ومجالاته
اشارة

إنّ للعدل أبعاداً ومجالات كثيرة ومفصّلة ذكرها القرآن الكريم ، نشير إليها هنا باختصار :

ص: 376


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم 132.
1. العدل في مجال الحكم

لقد أكّد الإسلام على الأخذ بالعدل في مجال الحكم ، فاشترط أن يكون الحاكم عادلاً ، وفرض عليه العمل وفق سنن العدالة في كلّ مجالات الحكم والولاية قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء : 58 ). ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج : 41 ).

ومن المعلوم أنّ إقامة المعروف هو أظهر مصاديق العدل كما أنّ النهي عن المنكر أظهر مصاديق ردع الظالم ودفع الظلم.

2. العدل في مجال الأخذ بالقانون

لقد حثّ الإسلام حثّاً أكيداً على إجراء العدل على جميع أفراد المجتمع بدون استثناء فالكلّ أمام القانون سواء من دون فرق بين رئيس ومرؤوس ، وغنيّ وفقير ، وآمر ومأمور. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « النّاس أمام الحقّ [ القانون ] سواء ».

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : « الحقُّ لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه ولا يجري على أحد إلاّ جرى لهُ » (1).

3. العدل في مجال الأقتصاد

فلقد سنّ الإسلام برامجه الاقتصاديّة على اُسس عادلة ، وأوجب على الحاكم بسط العدل في مجالات الاقتصاد بكلّ الوسائل الممكنة ، فمنع من كلّ ألوان الظلم الاقتصاديّ كالربا والاحتكار وإعطاء الامتيازات لبعض دون بعض ، وشرّع لذلك

ص: 377


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم 211 ( طبعة عبده ).

قوانين جزائيّة صارمة تضمن العدالة في هذه المجالات فقال سبحانه : ( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة : 279 ).

والجملة الأخيرة قاعدة كليّة في كلّ المجالات الاقتصاديّة وغيرها.

كما أنّه يرى الحاكم مسؤولاً عن أموال الاُمّة حتّى لا يهضم حقّ أحد ففي هذا المجال يقول الإمام عليّ علیه السلام وهو يقصد من استولوا على أموال بيت المال في عهد عثمان : « واللّه لو وجدته قد تزوّج به النّساء وملك به الأماء لرددته فإنّ في العدل سعةً ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق » (1).

وعن مسؤولية الحاكم اتّجاه العدالة الاقتصاديّة قال لمن أتاه يطلب منه مالاً في غير حقّ ( أيضاً ) : « إنّ هذا المال ليس ليّ ولا لك وإنّما هو فيء للمسلمين ، وجلب أسيافهم فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم ، وإلاّ فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم » (2).

4. العدل في مجال العلاقات الاجتماعيّة

لقد سعى الإسلام غاية السعي إلى إقامة العلاقات الاجتماعيّة على قواعد العدل وأسسه بحيث لا يقع حيف من أحد على أحد في هذه العلاقات والروابط.

ومن هنا سنّ حقوقاً للوالدين والجيران والصغار والنساء والأيتام والمرضى والمقعدين ... الخ (3).

وأخيراً لقد اعتبر الإسلام العدل أفضل وأحسن مآلاً للمجتمع إذ قال : ( وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( الأسراء : 35 ).

وإنّما يكون العدل خيراً وأحسن مآلا لأنّ الظلم إذا اجتمع جزء فجزء أوجب الانفجار والنقمة ، وآل بالبلاد والعباد إلى الفساد والشرّ.

ص: 378


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم 14.
2- نهج البلاغة : الخطبة رقم 227.
3- راجع رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسينّ علیهماالسلام .

إنّ المجتمع المهضوم حقّه الذي يتعرّض للظلم الاقتصادي والسياسيّ لا يمكن أن يطول به الأمر دون أن ينفجر في المآل ويثور في وجه حكّامه.

إنّ الاستبداد والديكتاتوريّة وإن استطاعت أن تكبح جماح الشعوب لفترة من الزمن باستخدام العنف والقوّة والقهر والإرغام ، ولكنّ الظلم والحيف إذا اجتمعا شيئاً فشيئاً تحوّل إلى طوفان جارف ، وانفجار يأتي على كلّ شيء فلا يبقي ولا يذر ... ولهذا كان العدل خيراً وأحسن مآلا ... والظلم بخلافه.

* * *

وخلاصة القول أنّ الإسلام جاء والبشر أجناس متفرّقون يتعادون في الأنساب والألوان ، واللغات والأوطان والأديان والمذاهب والمشارب والشعوب والقبائل والحكومات والسياسات فدعاهم الإسلام إلى الوحدة الإنسانيّة العامّة الجامعة وفرضها عليهم ... فدعا إلى الوحدات التالية :

1. وحدة الاُمّة.

2. وحدة الأجناس البشريّة.

3. وحدة الدين.

4. وحدة التشريع بالمساواة في الحقوق المدنيّة والتأديبيّة.

5. الوحدة بين المؤمنين.

6. وحدة الجنسيّة السياسيّة الدوليّة (1).

وبذلك تكون الدعوة إلى الوحدة في هذه المجالات من خصائص الإسلام والحكومة الإسلاميّة وامتيازاتها.

على أنّ ما ذكرناه من خصائص الحكومة الإسلاميّة إنّما هو مساواة المعتنقين أمام القانون لا مساواتهم في كلّ شيء حتّى في حيازة المناصب ، إذ هي تابعة للقابليّات والمؤهّلات وأهمّية الجهود وقلّتها وشدّتها.

ص: 379


1- تفسير المنار 11 : 255.

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

4

الإسلام بين الماديّة والمعنويّة
اشارة

( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا )

( البقرة : 143 ).

لا شكّ في أنّ الدين الإسلاميّ دعا إلى العبادة والأخذ بتقوى اللّه سبحانه ، إلى جانب الدعوة إلى الاستفادة من النعم الماديّة ، والتمتّع بلذائذ الحياة الدنيا ، وهو بهذا استطاع أن يخلق من الاُمّة الإسلاميّة ، اُمّة ( وسطاً ) حازت الجوانب الماديّة والمعنويّة معاً. فهي ليست كالاُمم ( الماديّة ) التي تعتقد بأصالة اللذة فتلخّص الإنسانيّة والحياة البشريّة في مجرد الاستمتاع بلذائذ الدنيا ونعمها ، ومواهبها ، كما يشاء الأعداء أن يتّهموا الإسلام بذلك.

كما ليست كالاُمم ذات الاتّجاه الروحيّ البحت ، التي لخّصت الحياة الإنسانيّة في الانسياق وراء الجوانب الروحيّة المحضة ناسية وراءها الدنيا وما فيها ، والجسد ومتطلباته ، بل الإنسان الكامل - في ظل النظام الإسلاميّ وبحكم طبيعته المزدوجة من الروح والجسد - هو الذي يتمتع بكلا الجانبين الماديّ والمعنويّ ، فيأخذ من الدنيا زاده ومتاعه ، ويتّجه إلى الآخرة هدفاً ومقصداً فيأخذ من هذا حظّاً ، ومن ذلك حظّاً غير

ص: 380

مهمل جانب الروح ، أوناس جانب الجسد ، ويتجلّى هذا المنطق وهذا المنطلق في موقف القرآن الكريم من الدنيا والآخرة ، فهو يرسم لنا كيف يجب أن يتعامل الإنسان مع كلّ واحد من هذين الجانبين ، ولهذا يتعيّن علينا - قبل أي شيء - أن نلقي نظرة فاحصة على ما ذكره القرآن في هذا الصعيد.

ورغم أنّ هذا البحث حول ( الدنيا والآخرة ) في القرآن يعتبر من أهمّ البحوث وأوسعها لكثرة الآيات الواردة فيه ، إلاّ أنّه ربّما غفل البعض عن موقف القرآن الحقيقيّ في هذه المسألة ، فخرج بتفسيرات وتوجيهات بعيدة عن هدف الإسلام ، وروح تعاليمه الجامعة.

لقد نظر القرآن الكريم في آياته نظرة شاملة جامعة إلى الدنيا والآخرة ، ولكن فريقاً من الناس لم يلاحظ إلاّ الآيات التي تحث على الاستفادة من النعم الدنيويّة فوصف ( الإسلام ) بأنّه دين ماديّ المنزع يسعى لضمان الجانب الماديّ فحسب ، في حين لاحظ فريق آخر تلك الآيات الذامة للدنيا والآخذين بها ، والتي تصفها بأنّها ( متاع قليل ) ولذلك وصف الإسلام بأنّه يخالف الدنيا ، وأنّه دين الآخرة ليس إلاّ ، في حين أنّ النظرة الشاملة لجميع الآيات الواردة حول هذه المسألة تهدينا إلى غير ما ذهب إليه هذا ، أو ذاك الفريق. فهي تقودنا إلى معرفة الموقف القرآني الحقيقيّ اتّجاه الدنيا والآخرة ، واتّجاه الماديّة والمعنويّة.

ولمّا كان هذا البحث بحثاً قرآنياً مفصّلاً ومستقلاً فإنّنا نكتفي هاهنا بعرض المسألة إجمالاً ، ونشير إلى بعض الآيات تاركين تحقيق المطلب إلى موضع آخر.

إنّ الناظر إلى آيات القرآن الكريم حول الدنيا يجدها على طوائف ثلاث :

1. طائفة مادحة للدنيا.

2. طائفة ذامة لها.

3. طائفة حاثّة على الأخذ بالدنيا والآخرة معاً ومشيرة إلى أنّ الدنيا الملهية هي المذمومة دون غيرها.

ص: 381

وبما أنّ الآيات في كلّ طائفة ، كثيرة جداً نكتفي بسرد بعضها :

الآيات المادحة للدنيا

وأمّا الطائفة التي تمدح الحياة الدنيا فهي كثيرة منها ما تأمر بتحصيل المواهب الماديّة والنعم الدنيويّة كقوله سبحانه : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللّهِ ) ( الجمعة : 10 ).

وقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) ( الملك : 15 ).

ومنها ما تصفها بأنّها خير كقوله : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ... ) ( البقرة : 215 ).

ومنها ما تعد الدنيا فضلاً من فضل اللّه سبحانه كقوله تعالى : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ) ( البقرة : 198 ). ( وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ) ( الإسراء : 12 ).

أو تعدّها رحمة وجزاء للمحسنين كقوله تعالى : ( ... نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ ) ( يوسف : 56 ).

ومنها ما نصّت على أنّ الدنيا ومواهبها ونعمها خلقت لعباد اللّه كقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ) ( البقرة : 29 ).

أو أنها زينة لهم ومتاع جميل كقوله : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ( الأعراف : 32 ).

ومنها ما تصفها بكونها حسنة ورحمة كقوله سبحانه : ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا ) ( يونس : 21 ).

وقوله سبحانه : ( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ ) ( الأعراف : 156 ).

ص: 382

وغير ذلك من الآيات التي تمدح الدنيا والنعم الدنيويّة وتحثّ الناس والمؤمنين خاصّة على الأخذ والتمتع بها.

الآيات الذامّة للدنيا

وهي التي تذم الأخذ بالدنيا والتوجّه إليها كقوله سبحانه : ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( الحجر : 88 ).

ومنها ما تصفها بأنّها عرض زائل كقوله سبحانه : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ( النساء : 94 ).

أو تصفها بأنّها متاع الغرور إذ يقول سبحانه : ( وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) ( آل عمران : 185 ).

أو تصرّح بأنّها لا تجتمع مع الآخرة ، فهما على طرفي نقيض كقوله لنساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ) ( الأحزاب : 28 - 29 ).

وكقوله سبحانه : ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) ( الشورى : 20 ).

أو تصفها بأنّها لهو ولعب إذ يقول سبحانه : ( وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( الأنعام : 32 ).

أو تعتبر الأخذ بالدنيا والتوجّه إليها وإلى أنعمها ولذائذها موجباً للإعراض عن الآخرة مثل قوله سبحانه : ( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ... ) ( الإسراء : 83 ).

إلى غير ذلك من الآيات التي تشتمل على ذمّ الدنيا ، وذمّ الآخذين بها.

ص: 383

وأمّا الطائفة الثالثة فهي التي تدعو إلى الأخذ بالدنيا والآخرة معاً كقوله : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) ( القصص : 77 ).

والتي يستفاد منها أنّ أصل الدنيا بما هي ليست مذموماً بل المذموم هو حبّ الدنيا والانخداع بها ، والوقوع في فخاخها ، والفرح بها فرحاً صارفاً عن الآخرة ومن هذه الآيات قوله سبحانه : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ ) ( آل عمران : 14 ).

فقد أصبحت الدنيا وما فيها من متع ونعم مذمومة لأنّها حجبت الإنسان عن الآخرة وأوجبت نسيان طاعة اللّه والابتعاد عن العمل الصالح.

أو كقوله سبحانه : ( كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ) ( القيامة : 20 - 21 ). ( إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً ) ( الإنسان : 27 ).

وقوله تعالى : ( وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ) ( الرعد : 26 ).

وخلاصة القول ، أنّ مقتضى الجمع بين الطائفتين المادحة للدنيا والذامّة لها ، هو ما ذكرته الطائفة الثالثة من أنّ الدنيا ليست في حدّ ذاتها مذمومة بل ما كان منها ملهياً عن الآخرة وصارفاً عن ذكر اللّه وطاعته.

ولذلك وصف اللّه سبحانه الرجال الذين لا تلهيهم الدنيا عن التوجّه إلى الآخرة ، فقال : ( رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ) ( النور - 37 ). ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ ) ( المنافقون : 9 ).

إنّ الدنيا ليست مذمومة في نظر القرآن إلاّ إذا شغلت عن الآخرة ، كما صرّح بذلك القرآن بقوله : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ

ص: 384

وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( التوبة : 24 ).

ولا تكون مذمومة إلاّ إذا أدّى حبّها والتعلّق بها إلى شرائها بالآخرة ، إذ قال سبحانه : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) ( البقرة : 86 ).

ولا تكون مذمومة إلاّ إذا آل الرضا بالدنيا إلى نسيان الآخرة ، كما يقول سبحانه : ( ... أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ) ( التوبة : 38 ).

ولكن إذا كانت الدنيا عوناً على الآخرة فنعمت الدنيا ، عندئذ ، ونعمت العون والوسيلة : ( إِن تُقْرِضُوا اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) ( التغابن : 17 ).

وإلى هذا أشار الحديث النبوي الشريف المشهور « الغنى نعم العون على الآخرة ».

ولهذا حثّ القرآن على الأخذ بالدنيا والآخرة معاً ، ولا يجد بينهما تبايناً لو كان الانتفاع بالدنيا من هذا الباب ، كما في قوله : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) ( القصص : 77 ).

ومن هنا يتبيّن أنّ حاصل الجمع بين الآيات المادحة للدنيا ، والذامّة لها هو أنّ الدنيا محبوبة ومرغوب فيها إذا كانت وسيلة لكسب الآخرة ، والتوصّل إلى المقامات المعنويّة ، ومذمومة ومرغوب عنها إذا كانت هدفاً بنفسها ، وغاية لذاتها.

والكلمة الجامعة في الجمع بين الآيات ما أشار إليه الإمام عليّ علیه السلام في كلامه في صفة الدنيا حيث قال : « ومن أبصر بها بصّرتهُ ومن أبصر إليها أعمتهُ » (1).

فمن جعلها وسيلة للحياة وطريقاً إلى الآخرة كما يتّخذ الإنسان المرآة وسيلة لرؤية

ص: 385


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم 97.

نفسه وتشخيص ما في وجهه من آثار وأشياء بصّرته ، ومن جعلها هدفاً واشتغل بها بما هي مطلوبة بالذات لا مطلوبة للغير فإنّها تعمي عن كلّ خير فيها.

وللإمام عليّ علیه السلام في وصف الدنيا كلمات يتفق مضمونها مع ما ذكرناه فلاحظ من خطبه الكثيرة خصوص الخطبة رقم (204) طبعة عبده.

إنّ الدنيا محبوبة في - نظر الإسلام - إذا كانت وسيلة لعمل الخيرات وبلاغاً إلى الآخرة لأنّها حينئذ ليست إلاّ مطيّة كما صرّح بذلك الحديث النبويّ القائل : « الدُنيا مطيّة المؤمن ».

وتكون مذمومة مبغوضة إذا كانت سبباً لتناسي فعل الخيرات ، وترك المعنويّات وهجرانها ، ومن هنا نكتشف أنّ كلّ طائفة من هاتين الطائفتين : المادحة ، والذامّة ناظرة إلى جهة خاصّة وعنوان خاصّ ، وليست مطلقة.

ومن هنا أيضاً نعرف ، أنّ الإسلام يقيم توازناً فريداً بين الماديّة والمعنويّة ، بين الدنيا والآخرة ، فلا يرجح شيئاً ويترك آخر وهو موقف تفرضه طبيعة الكينونة الإنسانيّة وتتطلّبه حقيقة الفطرة البشريّة.

ولأجل هذا يجب أن تكون الحكومة الإسلاميّة في تركيبها ، ومنهاجها متّصفة بهذا اللون ومتّسمة بهذه الكيفية ، فلا ينصرف همهّا إلى توفير الظروف الماديّة وتتجاهل الجوانب الروحيّة والمعنويّة بل عليها أن تسعى إلى إقامة ذلك التوازن بين الجانبين ، في حياة الاُمّة الإسلاميّة فلا تدع جانباً يطغى على جانب آخر ، ولا تدع شيئاً يأتي على حساب شيء آخر.

إنّ الحكومة الإسلاميّة تتميّز عن سائر الحكومات بأنّ وظيفتها لا تنحصر فقط في توفير الظروف الماديّة للناس ، ولا يقتصر واجبها على تهيئة وسائل الاستفادة المطلقة من أنواع اللذائذ الماديّة كيفما كان ، وبأيّة وسيلة كانت ، بل هي مسؤولة عن العناية بكلا الجانبين على قدم المساواة ، فعليها أن تعتني بالجانب الروحيّ وتعمل جهدها على إصلاحه وإنعاشه كما تعتني بالجانب الماديّ وتهيّء الظروف المعيشيّة الماديّة بأفضل شكل.

ص: 386

إنّ الحكومات غير الإسلاميّة حيث لا تنطلق من أيديولوجيّة جامعة للروح والجسد والمادّة والمعنى ولا ترى لنفسها من وظيفة إلاّ توفير الحاجات الماديّة وتلبية النداءات الجسديّة للناس فقط ، ترى من واجبها أن تهيّء لشعوبها كلّ ما يرضيهم في هذا الجانب فلا تأل جهداً في توفير وسائل الاستمتاع واللذة من دون النظر إلى ماهيتها وآثارها وعواقبها السيّئة. فهي تخصّص الميزانيات الضخمة والأموال الطائلة لبرامج الترفيه ، واللّهو والتسلية ، ولكي تسد هذه النفقات وتوفّر هذه الميزانيات الهائلة تحصل المال من كلّ سبيل حرام كالتجارة بالخمور ، ووضع الضرائب على البغاء ، والفحشاء والقمار ، وغير ذلك من الموارد المحرّمة التي لو عمدت إلى حذفها لأختلت ميزانيّاتها ، وأصيبت بالنقص والشلل والعجز.

ولكن الحكومة الإسلاميّة حيث تنطلق من المنطلق الإسلاميّ الذي يوفّق بين الجانب الماديّ والمعنويّ تسعى جهدها في الاهتمام بالجوانب الروحيّة إلى جانب النواحي الماديّة فلا تضحّي بمعنويات الشعوب واخلاقهم ، وهي لذلك لا تفعل ما تغعله الحكومات الاُخرى من تحصيل مواردها من الطرق والسبل الماديّة المحّرمة فلا تعتمد على عائدات القمار والخمور والبغاء وغير ذلك.

لقد حرّم الإسلام كلّ هذه المكاسب وحرّم ما يحصل منها من أموال ، وحظرها على الاُمّة الإسلاميّة في حين تشكّل هذه المكاسب أهم الموارد الاقتصاديّة للحكومات غير الإسلاميّة ولقد حرّم هذه المكاسب لأخطارها على الجانب المعنويّ والأخلاقيّ للاُمّة ولما لها من تبعات سيّئة في حياتها الروحيّة.

إنّ العناية والاهتمام بالجانب الروحيّ ليست فقط إحدى الوظائف التي تضطلع بها الحكومة الإسلاميّة بل هي أهمّ وظيفة من وظائفها إذ في ظل استقامة هذا الجانب يستقيم الجانب الماديّ ، ويسعد البشر في الحياة الدنيويّة (1) ، ولهذا كان النبيّ يوصي

ص: 387


1- ونعم ما قال القائل : وإنّما الاُمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هُمو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

عمّاله الذين يعهد إليهم إدارة المناطق أن يركّزوا اهتمامهم على تربية الناس وتزكيتهم وتثقيفهم بالثقافة الإسلاميّة ... فها هو صلی اللّه علیه و آله عندما يولّي معاذ بن جبل يوصيه بأن يهتم بتربية الناس وتثقيفهم وتنمية معنوياتهم إذ يقول : « يا معاذُ علّمهم كتاب اللّه وأحسن أدبهُم على الأخلاق الصّالحة ... وأمت أمر الجاهليّة إلاّ ما سنّهُ الإسلامُ ... » (1).

هذا والحديث مفصل.

كما ويكتب لعمرو بن حزم حينما ولاّه نجران بأن يبالغ في تربية الناس إذ يقول : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ... ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) عهد من رسُول اللّه لعمرو بن حزم حين بعثهُ إلى اليمن أمرهُ بتقوى اللّه في أمره كلّه فإنّ اللّه مع الذين اتّقُوا والذين هُم محسنُون ، وأمرهُ أن يأخُذ بالحقّ كما أمره اللّه وأن يبشّر الناس بالخير ويأمُرهُم به ويُعلّمُ الناس القُرآن ، ويفقّههم فيه وينهى الناس فلا يمسُّ القُرآن إلاّ وهُو طاهرُ إنسان ، ويخبرُ الناس بالذي لهم والذي عليهم ، ويلين لهُم في الحقّ [ أي ينشر الحقّ بينهُم وينفذه بأساليب ليّنة تستهويهم ] ويشتدّ عليهُم في الظلم فإنّ اللّه كره الظُلم ونهى عنهُ ، وقال ( أَلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ويُبشّر الناس بالجنة وبعملها ويُنذر الناس النار وعملها ويستألف النّاس حتّى يفقهوا في الدّين ، ويُعلّم النّاس معالم الحجّ وسُننه وفرائضه » (2).

إلى غير ذلك من الوصايا التي كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوصي بها من يولّيهم شؤون البلاد وإدارة المناطق المختلفة ، ويدعوهم فيها إلى الاهتمام بالجوانب الروحيّة والمعنويّة والأخلاقيّة ، إلى جانب اهتمامهم بالجوانب الاقتصاديّة الماديّة.

ص: 388


1- تحف العقول ( طبعة بيروت ) : 27.
2- تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك للسيوطيّ 1 : 157 ، والطبريّ 2 : 388 ، والبداية والنهاية 5 : 76 ، وسيرة ابن هشام 4 : 595 ومصادر اُخرى هذا والحديث مفصّل وفيه تعاليم اقتصاديّة وإداريّة واجتماعيّة مفصّلة.

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

5

الشورى
اشارة

( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ )

( قرآن كريم )

تمتاز الحكومة الإسلاميّة بأنّها تعتمد على مبدأ الشورى في إدارة البلاد ، ومعالجة مشكلاتها بعيداً عن الديكتاتوريّة ، والاستبداد ، والتفرّد بالرأي ، وقد كان الإسلام أوّل من أتى بمدأ الشورى في مجال الحكم في عصر كان العالم يخضع فيه للحكومات الديكتاتوريّة والملكيّات المستبدة ، وقد سمّيت سورة كاملة في القرآن باسم الشورى تعظيماً لهذا المبدأ ، وإيذانا بأهمّيته الإجتماعيّة.

القرآن والشورى :

إنّ القرآن الكريم يصف المجتمع الإسلاميّ بأنّه يعالج أُموره ومشاكله عن طريق التشاور وتبادل الرأي فيقول : ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا

ص: 389

رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) ( الشورى : 37 - 38 ).

إنّ على المجتمع الإسلاميّ طبقاً لهذه الآية أن يعالج مشاكله ، بالشورى وتبادل الرأي وذلك فيما يتعلّق بكيفيّة العيش وطريقة الحياة ... ويخطّط بالتشاور لما يحتاج إليه من برامج لترفيع مستوى الثقافة والتعليم ، وتوسيع نطاق العمران والانتاج الاقتصاديّ وكيفيّة التوزيع وتأسيس الجيش والحرس ، وتنظيم شؤون الدفاع وما سوى ذلك من برامج لمختلف المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة ، وذلك لما في الشورى من نتائج طيبة لا تحصل إلاّ بها.

وتبلغ أهمّية الشورى في الاُمور بحيث يأمر اللّه نبيّه ( المعصوم من السهو والخطأ ) أن يتشاور مع أصحابه في بعض الاُمور ، ويتّخذ الطريق الصحيح ، والرأي الأصوب ، بعد تبادل الرأي والاستماع إلى جميع وجهات النظر حيث يقول : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ) ( آل عمران : 159 ).

ولقد ذكر المؤرّخون نماذج عديدة من مشاورة النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع أصحابه في طائفة من الشؤون العسكريّة كما وقع منه في الخروج إلى بدر حيث جمع أصحابه وقال : « أشيرُوا عليّ أيُّها النّاس » فيظهر أصحابه أراءهم بحريّة كبيرة ، ويختار النبيّ صلی اللّه علیه و آله ما اقترحه الأنصار (1).

الأحاديث والشورى

ولم يرد ذكر الشورى في القرآن فقط ، بل ورد في شأنها ما لا يحصى من الأحاديث نذكر طائفة منها هنا :

قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله « إذا كانت أُمراؤُكُم خيارُكُم وأغنياؤُكُم سُمحاؤُكُم وأمُورُكُم شُورى بينكُم فظهرُ الأرض خير من بطنها » (2).

ص: 390


1- السيرة النبويّة لابن هشام 1 : 615.
2- سنن الترمذيّ كتاب الفتن : 78.

وقال صلی اللّه علیه و آله : « استرشدُوا العاقل ولا تعصوهُ فتندمُوا » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « لا مُظاهرة أوثق من المشاورة ولا عقل كالتّدبير » (2).

ولما سئل النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن الحزم ما هو ؟ قال : « مُشاورةُ ذوي الرأي واتّباعُهُم » (3).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « فلا تكُفّوا عنّ مقالة بحقّ أو مشُورة بعدل » (4).

وقال علیه السلام أيضاً في وصية إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة : « اضمُم آراء الرّجال بعضها إلى بعض ، ثُمّ اختر أقربها من الصواب ، وأبعدها من الارتياب ، قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه ومن استقبل وُجُوه الآراء عرف مواقع الخطأ » (5).

وقال الإمام الباقر محمّد بن عليّ علیه السلام : « من لا يستشيرُ يندم » (6).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « لن يهلُك امرء من مشُورة » (7).

وقال علیه السلام أيضاً : « استشر العاقل من الرّجال الورع ، فإنّهُ لا يأمرُ إلاّ بخير وإيّاك والخلافُ فإنّ مُخالفة الورع العاقل مفسدة في الدّين والدُّنيا ».

وعن الإمام زين العابدين علیه السلام في نصح المستشير قال : « وأمّا حقُّ المستشير فإن حضرك لهُ وجهُ رأيّ جهدت لهُ في النصّيحة وأشرت عليه بما تعلمُ أنّك لو كُنت مكانهُ عملت به وذلك ليكُن منك في رحمة ولين ، فإنّ اللين يُؤنسُ الوحشة ، وإنّ الغلظ يُوحشُ موضع الانس وإن لم يحضرك لهُ رأيٌ وعرفت لهُ من تثق برأيه ، وترضى به لنفسك دللتهُ عليه ، وأرشدتهُ إليه فكُنت لم تأله خيراً ، ولم تدّخر نُصحاً ، ولا حول ولاقوّة إلاّ باللّه.

وأمّا حقّ المشير عليك فلا تتّهمهُ فيما وافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك فإنّما هي الآراءُ وتصرُفُ النّاسُ فيها واختلافهم ، فكُن في رأيه بالخيار إذا اتّهمت رأيهُ ، فأمّا

ص: 391


1- وسائل الشيعة 8 : 224.
2- وسائل الشيعة 8 : باب 9 أبواب أحكام العشرة : 409.
3- وسائل الشيعة 8 : 224.
4- نهج البلاغة : الخطبة رقم 214.
5- وسائل الشيعة 8 : 429، 424.
6- وسائل الشيعة 8 : 429، 424.
7- وسائل الشيعة 8 : 429، 424.

تُهمتهُ فلا تجوز لك إذا كان عندك ممّن يستحقُّ المشاورة ، ولا تدعُ شُكرهُ على ما بدا لك من إشخاص رأيه وحُسن وجه مشورته ، فإذا وافقك حمدت اللّه وقبلت ذلك من أخيك بالشّكر ، والإرصاد بالمُكافأة في مثلها إن فزع إليك ولا قوّة إلاّ باللّه » (1).

وقد جمعت الأحاديث المرتبطة بالشورى الحاثة عليها ، والمشيرة إلى نتائجها الطيّبة ، في أبواب « العشرة » من كتاب وسائل الشيعة للحرّ العامليّ ... وهي كثيرة ... ذكرنا منها هنا غيض من فيض وقليلا من كثير (2).

وقد نقل أهل السنّة أحاديث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حثّ فيها على المشاورة منها قوله : « المُستشارُ مُؤتمن فإذا استُشير فليُشر بما هُو صانع لنفسه ».

وقوله : « إذا استشار أحدكُم أخاهُ فليُشر عليه ».

وقوله : « ما ندم من استشار ».

وقوله : « من استشار أخاهُ فأشار عليه بغير رُشده فقد خانهُ ».

وقوله : « ما يستغني رجُل عن مشُورة ».

وقوله : « من أراد أمراً فشاور فيه وقضى هُدي لأرشد الاُمُور ».

وعندما نزل قوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « أما ، إنّ اللّه ورسُولهُ لغنيّان عنها ولكن جعلها اللّه رحمةً لاُمّتي ، من استشار منهُم لم يعدم رُشداً ، ومن تركها لم يعدم غيّاً » (3).

ثمّ إنّه إذا اختلف أصحاب الشورى في الرأي فبماذا يعالج الأمر ؟ فالمعروف هو أنّه يعالج فيما إذا كانا موافقين للإسلام بتقديم الأكثريّة على الأقليّة ، ولكن ذلك الترجيح يتمّ إذا لم يكن هناك رئيس نافذ منتخب من جانب الاُمّة ، إذ الطريق عند عدم وجود مثل هذا الرئيس ، ينحصر لا محالة في تغليب رأي الأكثريّة على رأي الأقليّة.

ص: 392


1- تحف العقول : 296.
2- وسائل الشيعة 8 : 426.
3- هذه الأحاديث السبعة وغيرها وردت في كتاب الشورى بين النظريّة والتطبيق : 27 - 30.

وأمّا إذا اختارت الاُمّة رئيساً نافذاً كامل الصلاحيات فله أن يتدخّل في الأمر ويأخذ بما هو مطابق للإسلام ، وإذا كان كلاهما مطابقين مع الموازين الإسلاميّة فللرئيس أن يختار ما هو أصلح لحال الاُمّة ، وأنفع لها سواء أيّدته الأكثريّة أو الأقليّة.

ولعلّه إلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( فَإِذَا عَزَمْتَ ) المشير إلى أنّ صاحب القرار الأخير هو الرئيس فهو الذي يعزم ويقصد في مجال الأخذ بالآراء المتضاربة كما في قوله سبحانه : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ( العمران : 159 ).

فإنّ الآية تتضمّن أمرين :

الأوّل : ايصاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالمشاورة مع المسلمين ، والاستماع إلى آرائهم فإنّ المشاورة واحتكاك الرأي بالرأي الآخر يفيد تلاقح الأفكار ، والوصول إلى النتيجة الناضجة ، والرأي الصواب ، كما يفيد احتكاك الأسلاك الكهربائيّة انبثاق النور والحرارة ولذلك يجب على الحاكم الإسلاميّ - على الإطلاق - المشاورة ، وتجنّب الاستبداد والتفرّد بالرأي وإلى هذه الوظيفة الحساسة يشير قوله سبحانه : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) .

الثاني : إنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى بعد المشاورة والاستماع إلى الآراء المختلفة ويقلّب وجوه الرأي ، أن يقيّمها بتعمّق ثم يختار ما هو الأصلح بحال الاُمّة وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( فَإِذَا عَزَمْتَ ( أي بعد التشاور والعزم على الرأي الأصلح ) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ونفّذه ، وأوكل الأمر إليه سبحانه ليمدّك ويعينك في المشاكل.

فالخطاب في ( عزمت ) يدلّ على أنّ صاحب القرار ومن بيده الأمر هو نفس ( النبي ) بعد المشاورة.

وبتعبير آخر : إنّ هذا يكشف عن أنّ وظيفة الاُمّة اتّجاه النبيّ الأكرم هو مجرّد الإدلاء بالرأي وإبداء النظر ، وأمّا القرار النهائيّ فله صلی اللّه علیه و آله ومن شأنه وحده ، ويؤيّد ذلك ما روي عن الإمام عليّ علیه السلام حيث قال لابن عباس في إحدى الوقائع وقد اشار ابن

ص: 393

عباس على الإمام ما لم يوافق رأيه : « لك أن تُشير عليّ وأرى ، فإن عصيتُك فأطعني » (1).

إذن فلرئيس الدولة الأعلى أن يختار عند اختلاف الآراء ما هو أصلح لحال الاُمّة وأقرب إلى الموازين الإسلاميّة ، وإلاّ انحصر الطريق في تغليب الأكثريّة على الأقليّة لما ذكرنا.

وأمّا سيرة الرسول في الشورى فلم يظهر منه أنّه قدّم الأكثريّة على الأقليّة إطلاقاً ، بل الظاهر أنّه بحكم أنّه صلی اللّه علیه و آله كان مفوّضاً إليه الأمر على الإطلاق في التصميم واتّخاذ القرار والاستنتاج كما هو الظاهر من خطابه سبحانه إليه ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) أنّ يقدّم ما هو الحقّ والصلاح أو الأحقّ والأصلح على غيره سواء أوافق نظرية الأكثرين أم خالفها.

هذا وللرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله عدة مشاورات ضبطها التاريخ مبثوثة في طيّات الكتب والمؤلّفات ونحن نجمعها في مكان واحد حتّى تتبيّن كيفيّة استشارته.

إنّ للرسول الأعظم مشاورات خمس حسبما وقفنا عليها وإليك توضيحها :

الاُولى / في غزوة بدر ، قبل أن يواجه العدو ، فاستشار الناس ، وأخبرهم بأمر قريش فقام أبو بكر وقال : يا رسول اللّه إنّها واللّه قريش وعزّها ، واللّه ما ذلّت منذ عزّت ، واللّه ما آمنت منذ كفرت ، واللّه لا تسلّم عزّها أبداً فاتّهب لذلك أهبته وأعدّ لذلك عدّته ، وتكلّم بمثله أيضاً عمر ، ثمّ قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول اللّه : امض لأمر اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيّها : ( فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ( المائدة : 24 ) ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون.

فقال له رسول اللّه خيراً ودعا له بخير ثم قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أشيرُوا عليّ أيُّها النّاسُ » وإنّما يريد رسول اللّه الأنصار وكان يظنّ أنّ الأنصار لا تنصره إلاّ في الدار ، وذلك أنّهم شرطوا له أن يمنعوه ممّا يمنعون منه أنفسهم وأولادهم فقال رسول اللّه : « أشيروا عليّ ».

ص: 394


1- نهج البلاغة : باب الحكم ( الرقم 321 ) وقد مرّ في الصفحة 391 و 392 ما يدلّ على ذلك أيضاً.

فقام سعد بن معاذ وقال : أنا اجيب عن الأنصار كأنّك يا رسول اللّه تريدنا ، قال صلی اللّه علیه و آله : « أجل » ، قال : إنّك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أوحي إليك في غيره وإنّا قد آمنا بك وصدّقناك ... فامض يا نبيّ اللّه ، فو الذي بعثك بالحقّ ، لو استعرضت هذا البحر ، فخضته لخضناه معك ، ما بقي منّا رجل وصل من شئت واقطع من شئت ... إلى آخر ما قاله سعد بهذا المنوال ... فلمّا فرغ سعد قال رسول اللّه : « سيرُوا على بركة اللّه فإنّ اللّه قد وعدني إحدى الطّائفتين ، واللّه لكأنّي أنظُر إلى مصارع القوم » ، قال : وأرانا رسول اللّه مصارعهم يومئذ (1).

وممّا قاله رسول اللّه في ذيل كلامه من أنّ اللّه وعده احدى الطائفتين ، حتّى أراهم مصارع القوم يعلم أنّه قدّم نظرية مندوب الأنصار ، لأنّه وقف على صحّتها عن طريق الوحي.

الثانية / في غزوة اُحد ، وذلك عندما سمع رسول اللّه نزول قريش عند مشارف المدينة ، فشاور الرسول اصحابه في الخروج أو البقاء.

فقال صلی اللّه علیه و آله : « فإن رأيتُم أن تُقيمُوا بالمدينة وتدعُوهُم حيثُ نزلُوا ، فإن أقاموُا ، أقامُوا بشرّ مقام وإن هُم دخلُوا علينا قاتلناهُم فيها » وكان رسول اللّه يكره الخروج ، فقال رجال من المسلمين : يا رسول اللّه أخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنّا جبنّا عنهم وضعفنا ، فقال عبد اللّه بن أُبيّ : يا رسول اللّه أقم بالمدينة لا تخرج إليهم.

فلم يزل الناس برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، الذين كان من أمرهم حبّ لقاء القوم ، حتّى دخل رسول اللّه بيته فلبس لاُمّته ، ثمّ خرج عليهم وقد ندم الناس ، وقالوا استكرهنا رسول اللّه ، قالوا : يا رسول اللّه استكرهناك ولم يكن ذلك لنا.

فقال رسول اللّه : « ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لاُمّتهُ أن يضعها حتّى يُقاتل » (2).

ونقل الواقدي في مغازيه صورة المشاورة بوجه أبسط وقال : وكان رأي رسول اللّه

ص: 395


1- المغازي للواقدي المتوفّى عام (207) 1 : 48 - 49 بتلخيص.
2- سيرة ابن هشام 2 : 63 بتلخيص.

مع رأي ابن اُبيّ وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار.

فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدراً وطلبوا من رسول اللّه الخروج إلى عدوّهم ورغبوا في الشهادة وأحبّوا لقاء العدو : أخرج بنا إلى عدوّنا.

وقال رجال من أهل السنّ والنبه منهم حمزة بن عبد المطلّب ، وسعد بن عبادة ، والنعمان بن مالك من الأوس والخزرج : إنّا نخشى يا رسول اللّه ، أن يظنّ عدونا أنّا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم ، فيكون هذا جرأة ، ورسول اللّه لما يرى من إلحاحهم كاره ، وقد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم يتسامون كأنّهم الفحول.

وقال مالك بن سنان : يا رسول اللّه نحن واللّه بين إحدى الحسنيين ، إمّا أن يظفرنا اللّه بهم ، أو يرزقنا اللّه الشهادة ، وقال حمزة بن عبد المطّلب : والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجادلهم بسيفي خارجاً من المدينة.

وتكلّم آخرون بمثل ما تكلّم به طلاّب الشهادة والخروج.

فلما أبوا إلاّ الخروج ، صلّى رسول اللّه الجمعة بالناس ثمّ وعظ الناس وأمرهم بالجدّ والجهاد (1).

فالناظر فيما نقله الواقديّ حول هذه المشورة يرى تسليم النبيّ للطائفة الثانية لما رأى منهم من الحرص والولع إلى الشهادة ، ورأى أنّ مخالفة هذه الجماعة تميت فيهم روح الحماسة والشجاعة ، ولعلّه يستتبع ردّ فعل سيّء ، فخرج معهم ، وأخبرهم أنّ النصر لهم ما صبروا.

الثالثة / في غزوة الأحزاب ( الخندق ) ، لمّا وقف رسول اللّه على أنّ قريشاً قد وصلوا مع حلفائهم إلى مشارف المدينة ، أمر بحفر الخندق ، وأشار به سلمان الفارسيّ وكان أوّل مشهد شهده مع رسول اللّه ، وهو يومئذ حرّ (2).

وقال الواقدي : وشاور رسول اللّه أصحابه في أمرهم بالجدّ والجهاد ووعدهم

ص: 396


1- المغازي للواقديّ 1 : 210 - 214 وقد أخذنا موضع الحاجة منه.
2- تاريخ الكامل لابن الاثير 2 : 122.

النصر إن هم صبروا وكان رسول اللّه يكثر مشاورتهم في الحرب فقال : « أنبرز لهم من المدينة أم نكون فيها أم نكون قريباً ونجعل ظهورنا إلى هذا الجبل » ، فاختلفوا فقالت طائفة : نكون ممّا يلي بعاث إلى ثنية الوداع إلى الجرف وقال قائل : ندع المدينة خلوفاً ... فقال سلمان يا رسول اللّه إنّا إذ كنّا بأرض فارس وتخوّفنا الخيل خندقنا علينا فهل لك يا رسول اللّه أن نخندق ، فأعجب رأي سلمان المسلمين وذكروا حين دعاهم النبيّ يوم اُحد أن يقيموا ولا يخرجوا فكره المسلمون الخروج وأحبّوا الثبات في المدينة.

ومن المعلوم أنّ تقديم نظريّة سلمان مع أنّه كان واحداً بين المشاورين كان لأجل كونه رأياً رصيناً ونظريّة صائبة ، وكان مصداقاً لقوله تعالى : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) .

الرابعة / في غزوة الخندق أيضاً ، عندما اشتد على الناس البلاء بعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف قائد غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا حتّى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلاّ المراوضة في ذلك ، فلمّا أراد رسول اللّه أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه ، فقال له : يا رسول اللّه أمراً نحبّه فنصنعه ، أم شيئاً أمرك اللّه به أم شيئاً تصنعه لنا ، قال : « بل شيء أصنعهُ لكُم ، واللّهما أصنعُ ذلك لأنّي رأيتُ العرب رمتكُم عن قوس واحدة » فقال له سعد بن معاذ : يا رسول اللّه قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللّه وعبادة الأوثان لا نعبد اللّه ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلاّ قرى أو بيعاً ، أفحين اكرمنا بالإسلام ، وهدانا له وأعزّنا بك وبه نعطيهم أموالنا ؟ ... قال رسول اللّه : « فأنت وذاك » ، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحى ما فيها من الكتاب (1).

الخامسة / ما ورد في غزوة الطائف ما يشبه المشاورة ، وذلك عندما مضى رسول اللّه حتّى نزل قريباً من حصن الطائف ، فضرب عسكره هناك ، فساعة حلّ رسول اللّه

ص: 397


1- المغازي للواقديّ 2 : 444 - 445.

وأصحابه جاءه الحبّاب بن المنذر فقال يا رسول اللّه : إنّا قد دنونا من الحصن فإن كان عن أمرنا سلمنا ، وإن كان عن الرأي فالتأخّر عن حصنهم ... قال : فأَسكت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وينقل الواقدي عن عمرو بن أميّة أنّ رسول اللّه دعا الحباّب بن منذر فقال : « أُنظُر مكاناً مُرتفعاً مُستأخراًعن القوم » فخرج الحبّاب حتّى انتهى إلى موضع مسجد الطائف فجاء إلى النبيّ فأخبره فأمر رسول اللّه أصحابه أن يتحوّلوا (1).

وأنت إذا عطفت النظر على المشورتين الرابعة والخامسة تقف على أنّ قبول النبيّ لقول المشاورين كان من باب الأخذ بالأحقّ والأصلح في مجال العمل وهو حفظ كيان الأنصار وصون دمائهم وأموالهم بعد أن رأى أنّ العرب تألّبت عليهم ، وقصدت رميهم عن قوس واحدة فلمّا تكلّم مع رئيس الأوس سعد بن معاذ ورأى فيهم قوّة قلب ورباطة جأش وإصراراً على المواجهة والتفدية والتضحية انقلب الموضوع فنزل عند رأيهم وطلب منهم على مواصلة الحرب.

كما أنّ النزول عند اقتراح من اقترح تغيير المعسكر لم يكن إلاّ تقديراً لاقتراح المقترح مع كون النزول في المعسكرين سواسية.

فالناظر في تلكم المشاورات يجد أنّ النبيّ لم يكن يقدّم رأياً ويؤخّر اُخرى لأجل الأقليّة والأكثريّة ، بل لإنّه كان يستمع لجميع الأراء والاقتراحات ثم يختار ما هو الأصوب.

ولأجل ذلك نرى أنّه ربما كان يعارض رأي الجماعة ... كما في صلح الحديبيّة فإنّ أكثر الأصحاب ممّن كان يعبأ بقوله ورأيه كانوا يخالفونه في عقد الصلح مع المشركين في الحديبية ومع ذلك كلّه فقد عقد الصلح ، وأمضاه ، راجع تفصيل ذلك كلّه في السير والتواريخ (2).

وأوضح من ذلك قصّة اُسامة بن زيد حيث عقد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اللواء له وفعل

ص: 398


1- المغازي للواقديّ 3 : 925 - 926.
2- سيرة ابن هشام 2 : 316 - 317.

ذلك بيده الشريفة تحريكاً لحميّتهم وإرهافاً لعزيمتهم وقال : « سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهُم الخيل فقد ولّيتك هذا الجيش » ، لكن الصحابة تثاقلت هناك فلم يبرحوا مع ما وعوه ورعوه من النصوص الصحيحة في وجوب إسراعهم ، وطعن قوم منهم في تأمير اُسامة ، كما طعنوا من قبل في تأمير أبيه.

ولكن هذه المخالفة لم تثن عزيمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولم ترده عن رأيه فصعد المنبر فقال : « أيُّها النّاسُ ما مقالةً بلغتني عن بعضكُم في تأميري أُسامة ولئن طعنتُم في تأميري أُسامة لقد طعنتُم في تأميري أباهُ من قبله ، وأيمُ واللّه إن كان لخليقاً بالإمارة وإنّ ابنهُ من بعده لخليق بها » (1).

ولعلّه يؤيّد ما ذكرنا من أنّ قبول النبيّ صلی اللّه علیه و آله لقول المشاورين كان من باب الأخذ بالأحقّ والأصلح في مجال العمل لا الأخذ بالأكثريّة بداعي الأكثريّة ما قاله صاحب المنار : إنّ النبيّ رجّح في أحد رأي الأكثرين مخالفاً لرأيه ورجّح في بدر الرأي الموافق لرأيه ولم يكن هناك أكثريّة ظاهريّة فيجب أن يراعي الإمام ذلك ولا مجال في هذا للتفريق والخلاف (2).

وحصيلة القول : انّ الإمام المفترض طاعته سواء أكان معصوماً أم غيره إذا استشار يجب عليه أن يتحرى الأصلح والأحقّ ولا يخضع للأكثريّة بما هي أكثريّة ولا يوجب رأي الأكثريّة إلزاماً على الإمام أن يختاره ، نعم ربما تقتضي المصلحة الأخذ برأي الأكثريّة كما فعل الرسول في موقف اُحد.

نعم مسألة الاستشارة في الاُمور تختلف عن مسألة انتخاب الحاكم أو النائب الأصلح فإنّه يؤخذ فيه بالأكثريّة حسماً لمادّة النزاع والاختلاف لا أنّ الحلّ منحصر في هذا الاسلوب لا غير بخلاف ما إذا كان هناك حاكم إسلاميّ مفروغ السلطة آخذاً بالزمام تحت الضوابط السالفة ، فعندئذ إذا استشار جماعة ، في مشاكل الاُمور ، وطلب آراءهم ، لم تكن آراء المشيرين ملزمة له وحجّة عليه ، إذا رأى الحقّ في خلافهم.

ص: 399


1- راجع طبقات ابن سعد 2 : 190.
2- المنار 5 : 191.

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

6

ضمان الحريّات المعقولة
اشارة

( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ )

( الأعراف : 157 )

لم تزل الحريّة ( أعزّ ) ما تنشده البشريّة قديماً وحديثاً ، وتبذل من أجلها النفوس والدماء ، ولذلك فالحريّة كلمة مقدّسة تهفو إليها الشعوب والجماعات وخاصّة المستضعفة والمضطهدة منها وتسعى لتحقيقها بكلّ وسيلة ولكنّها قليلاً ما تنالها وتصل إليها رغم ما تبذل من دماء ، وتقدّم من ضحايا في سبيلها.

فلا تزال شعوب وجماعات إلى اليوم ترزح تحت ضغط الاستبداد والديكتاتوريّة وتعيش بين مخالب الاستعباد والاستعمار.

ما هي الحريّة ؟

لقد عرّف الحقوقيّون ( الحريّة ) بتعاريف مختلفة فعرّفها مونتسكيو بأنّ ( الحريّة هي حقّ صنع جميع ما تبيحه القوانين ، فإذا استطاع أحد أن يصنع ما تحرّمه القوانين فقد

ص: 400

الحريّة ( وسلبها ) وذلك لإمكان قيام الآخرين بمثل ما صنع ) (1).

وعرّفها آخرون بأنّ الحريّة تعني أن لا يكون أمام الإنسان أي مانع من التفكّر والعمل الحسن ، وعرّفها آخرون باُمور وتعاريف اُخرى ، ولكنّنا نرى أنّ التعريف الجامع هو : أنّ الحريّة تعني أن يكون الجو الاجتماعيّ بنحو يستطيع فيه كلّ فرد من أفراد المجتمع من إخراج مواهبه وقابليّاته إلى منصّة الظهور دون أن يمنعه مانع ، أو يحجزه حاجز يقف دون ظهور المواهب ، ويمنع من نمو الاستعدادات.

وقد جاء الأنبياء والمرسلون لمثل هذه المهمة الكبرى ، فهم جاؤوا ليرفعوا جميع الموانع والحواجز من بين أيدي البشريّة ، ويخلقوا بيئة حرّة لا مكان فيها للسدود والقيود حتّى يستطيع كلّ فرد أن يصل إلى كماله المنشود ، وينمّي مواهبه وقابليّاته دون مانع.

أقسام الحريّات ومجالاتها
اشارة

تنقسم الحريّة إلى أقسام كثيرة نشير إلى أهمّها وهي :

1. الحريّة الشخصيّة.

2. الحريّة الفكريّة والعقيديّة.

3. الحريّة السياسيّة.

4. الحريّة المدنيّة.

وإليك تفصيل الكلام في هذه الحريّات.

* * *

1. الحريّة الشخصيّة

وتعني أنّه لا سيادة لأحد على أحد بالأصل والفطرة ، فكلّ إنسان حرّ بالذات

ص: 401


1- روح الشرائع 1 : 226 ، طبعة دار المعارف بمصر ترجمة عادل زعيتر ( عام 1953 م ).

وليس بمملوك لأحد أو مستعبد لآخر.

والحريّة بهذا المعنى حقّ طبيعيّ لكلّ إنسان ، لا أنّه أمر خاضع للوضع والجعل ليمكن إعطاؤه أو منعه ، خلاف ما اعتقده بعض الفلاسفة الذين مضوا حيث كانوا يعتقدون بأنّ اللّه خلق الناس صنفين عبيداً وأحراراً. وأنّ السود هُم العبيد الذين زودهُم اللّه بقوة أكبر لخدمة الأحرار وأنّهم محرومون من كلّ ما يتمتّع به الأحرار من امتيازات وحقوق.

وقد اعترف الإسلام بهذه الحريّة لكلّ إنسان ونادى بها ، ودعا إلى احترامها وحمايتها قال الإمام عليّ علیه السلام : « لا تكُن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حُرّاً » (1).

وألغى كلّ الفوارق المزعومة بين الناس وردّ الجميع إلى أصل واحد حيث قال الإمام عليّ علیه السلام : « أيُّها النّاسُ أنّ آدم لم يلد سيّداً ولا أمةً وإنّ النّاس كُلُّهُم أحرار » (2).

وهذا هو أصل نادت به جميع الرسالات الإلهيّة من قبل ، فها هو القرآن الكريم يحدّثنا كيف اعترض موسى علیه السلام على فرعون استعباده لبني إسرائيل لمّا منّ فرعون على موسى بتربيته له ، وعنايته به مذ كان صغيراً وقال : ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا ) ( الشعراء : 18 ) فقال موسى : ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء : 22 ).

وهذا يعني أنّ النعم مهما كانت كبيرة وعظيمة لا تساوي شيئا إذا سلب الإنسان حريّته.

ولأجل ذلك يوبّخ اللّه سبحانه أهل الكتاب على خضوعهم لأحبارهم ورهبانهم واتّخاذهم أربابا وأسياداً من دون اللّه إذ يقول : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( التوبة : 31 ).

ص: 402


1- روضة الكافي : 9.
2- مرّ مصدر هذا الحديث.

لأنّ ذلك يعني تخلّي أهل الكتاب عن حرّيتهم الطبيعيّة ، وإعطاء مصيرهم في التحليل والتحريم والتشريع والتقنين إلى بشر أمثالهم وهو أمر مرفوض في منطق الدين ، الذي يرى بأنّ اللّه خلق الناس أحراراً ، وأراد لهم أن يعيشوا كذلك ولا تكون لأحد على أحد سلطة التشريع إلاّ لله سبحانه.

وقد دعا الإسلام أهل الكتاب إلى نبذ هذه الأرباب والأسياد البشريّة وتحرير الإنسان من كلّ قيد ظالم فقال : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ) ( العمران : 64 ).

ولقد دفع الإسلام اتباعه إلى الدفاع عن حريّتهم ، وزرع فيهم روح العزّة والإباء والاعتلاء إذ قال : ( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون : 8 ).

وقال سبحانه : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( العمران : 139 ).

ورفض أن يذلّ المؤمنون أنفسهم ويتخلّوا عن حريّتهم وعزّتهم فقال عليّ علیه السلام : « إنّ اللّه تبارك وتعالى فوّض إلى المُؤمن كُلّ شيء إلاّ إذلال نفسه » (1).

وقال الإمام الحسين بن عليّ علیه السلام في الرد على من أرادوا له الخضوع ليزيد : « لا اعطينّكُم بيدي إعطاء الذّليل ولا اقرُّ لكُم إقرار العبيد » (2).

بل وليس الإيمان باللّه ورفض الشركاء والأنداد الذي دعا إليه الدين إلاّ الخروج من عبوديّة العباد إلى جوّ الحريّة الكريمة اللائقة بالإنسان المتوفّرة في العبوديّة لله وحده.

فجملة لا إله إلاّ اللّه من أعظم الشعارات التي نادى بها الإسلام لتحرير الإنسان وإخراجه من أيّة عبوديّة وخضوع لأحد إلاّ لله سبحانه.

ص: 403


1- وسائل الشيعة 6 : 424.
2- بلاغة الحسين : 43.

نعم ربّما يتسبّب الإنسان نفسه في عبوديّته إذا تخاذل وخنع ، وتهاون في حفظ شخصيّته ، وترك الآخرين يستعبدونه ويسلبون حريّته ، ويستعلون عليه ويسترقّونه ولم يدافع حقّ الدفاع عن حريّته وكرامته ، قال الإمام عليّ علیه السلام : « الناسُ كُلُّهم أحرار إلاّ من أقرّ على نفسه بالعُبُوديّة » (1).

ولكنّ الإسلام حارب كلّ ألوان الخضوع والتبعيّة لغير اللّه ... ووصف هدفه بأنّه جاء ليضع عن الناس كلّ الأغلال قال سبحانه : ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) ( الأعراف : 157 ).

كما حارب الإسلام بشدّة كلّ ألوان الرقّ الذي كان متعارفاً زمن الجاهليّة ولا زال العالم الحديث يعاني منه قليلاً (2).

ومن حقّ الحريّة الشخصيّة هذه أن يصبح كلّ إنسان آمناً على حريّته فلا يحبس ولا يعتقل إلاّ بقانون صحيح (3).

2. الحريّة الفكريّة والعقيديّة :

وهي من أهمّ أقسام الحريّة ( بعد الحريّة الشخصيّة ) وتعني : بأن يكون لكلّ إنسان الحقّ في اختيار ما يراه من عقيدة ، واعتناق ما يريده من فكرة دون أن يجوز لأحد إجباره على غيره ، وإلى هذا أشار القرآن الكريم إذ قال : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ( البقرة : 256 ).

ص: 404


1- وسائل الشيعة 3 : 243.
2- لقد ذكرنا لك فلسفة الرقّ الذي يعترف به الإسلام أثناء الحرب في الفصل الرابع الصفحة : 257 من هذا الكتاب.
3- ليس للسجون في النظام الإسلاميّ مجال واسع كما هو الحال في الأنظمة الوضعية ، نعم هناك بعض الموارد يضطرّ فيها الحاكم إلى حبس الأفراد وهي نادرة مذكورة في الفقه ، وسنذكر إجمال القول فيها في آخر هذا الفصل.

وقد وصف اللّه سبحانه مهمّة نبيّه محمّد صلی اللّه علیه و آله بأنّها مهمّة التذكير والإرشاد لا القهر والإجبار فقال : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) ( الغاشية : 21 - 22 ).

وستعرف - في الفصول القادمة - مدى تسامح الإسلام مع أصحاب الشرائع الاُخرى وما قرّره للأقلّيات الدينيّة من حريّات وحقوق.

فلأجل هذه الحريّة لا يجوز أن يجبر كافر ( كتابيّ أو غير كتابيّ ) على إعتناق الإسلام ، أو يمنع الوثني إذا أراد أن يعتنق إحدى الشرائع الكتابيّة الاُخرى أو أراد أن ينتقل من وثنيّة إلى وثنيّة اُخرى ، أو يتحوّل يهوديّ إلى النصرانيّة أو نصرانيّ إلى اليهوديّة.

نعم لا يحقّ للمسلم أن يبدّل دينه إلى غير الإسلام لأنّ في ذلك إهانة للدين وجرحاً للعقيدة الإسلاميّة وإضعافاً لموقع المسلمين ولذلك يقتل المرتدّ إذا كان معانداً ، إلاّ إذا كان شاكّاً إشتبه عليه الأمر فوجب رفع شبهته وتبديد شكّه ، فإن عاند - بعد ذلك - قتل ، وتقبل توبة المرتدّ الفطريّ إذا كان إرتداده عن شبهة حصلت له ، واعترضت سبيل اعتقاده.

بيد أنّ الارتداد الجماهيريّ لا يكون سبباً لتطبيق حكم الارتداد ، وهو لا يكون غالباً عن تغيير طبيعيّ وجذريّ في الاعتقاد ، إذ يكون عادة بسبب الجوّ الفكريّ أو الدعاية الكبرى التي ينحرف بسببها الكثيرون ولا يؤمن معها على انحراف عقيدة وتبديل دين.

على أنّ الإسلام لا يترك الناس دون توجيه وارشاد وتبيين الرشد من الغيّ ، ومن هذا الباب ، نفيه لكلّ العوامل والأمور التي تمنع من التفكّر الصحيح.

فقد عمل الإسلام على إزالة كلّ الموانع أمام الرشد الفكريّ السليم التي توجب انحراف العقيدة وتقييد الفكر البشريّ عن النمو والانطلاق وهذه الموانع هي :

1. الإبقاء في الجهل والعمى.

2. التفتيش عن العقائد.

ص: 405

3. نشر الخرافات وتعميمها.

4. إلهاب الغرائز الجنسية والأهواء الفاسدة.

أمّا ابقاء الناس في الجهل والعمى ( وهو الذي يسعى إليه المستعمرون فيمنعون من بثّ الثقافة والعلم بين الشعوب المغلوبة حتّى يبقى النّاس في تأخّر وانحطاط. فها هي الجزائر أيام الاحتلال الفرنسيّ لم يتجاوز المتعلّمون فيها ( 1000 شخص ) ، فقد قابله الإسلام باشاعة الثقافة وتعميم العلم ودعوة الناس إلى اكتساب المعرفة ، كما سنعرف ذلك مفصّلاً في الفصول القادمة.

وأمّا التفتيش عن العقائد وملاحقة كلّ من يخالف اعتقاده عقيدة الجماعة فهو أمر طالما عانت منه البشريّة في ظل بعض الشرائع المحرّفة ، فقد مارست الكنيسة هذا الأمر اتّجاه كلّ المتدينين بغير دينها ، وأقامت محاكم التفتيش هنا وهناك وأحرقت وقتلت جماعات كبيرة من الناس لهذا السبب حتّى أنّ ويل دورانت ذكر في تاريخه : أنّ عدد من قتل حرقاً بين عام 1480 و 1488 بلغ 8800 شخصاً ومن حكم عليه بالأحكام الشاقّة بلغ 96494 (1).

وقدرفض الإسلام هذه الرقابة وهذا التفتيش حيث دعا إلى التفكّر الصحيح للوصول إلى الحقيقة ولهذا عدّه من أفضل العبادات.

قال سبحانه : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( الزمر : 9 ).

وقال سبحانه : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) ( الزمر : 17 - 18 ).

وقال الرسول صلی اللّه علیه و آله في حديث مشهور : « تفكُّرُ ساعة أفضلُ من عبادة سنة ».

كما وأكّد على دور العقل والتعقّل ومن ذلك ما قاله عليّ علیه السلام : « أفضل العبادة إدمانُ التفكُّر » وقال : « ونبّه بالتّفكُّر قلبك » (2).

ص: 406


1- قصة الحضارة : ويل دورانت الجزء 18.
2- راجع الكافي 1 كتاب العقل والجهل : 54 - 55 و 224 ، وسفينة البحار 2 : 382.

وكمثل بسيط نذكر لك قصّة صفوان بن اُميّة الذي كان يعادي النبيّ صلی اللّه علیه و آله فخرج هارباً ، فأمّنه النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأعطاه عمامته التي دخل فيها مكّة كوثيقة للأمان فلمّا اطمأن ورجع حتّى وقف على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إنّ هذا يقول : إنّك قد أمنّتني ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « صدق » قال : فاجعلني فيه بالخيار شهرين.

قال صلی اللّه علیه و آله : « أنت بالخيار فيه أربعة أشهُر » (1).

وهكذا نجد النبيّ صلی اللّه علیه و آله يخيّر هذا المشرك ويمهله أربعة أشهر ليفكّر ويختار الإسلام عن قناعة وقبول.

ولعلّ أوضح دليل في هذا المجال هو قوله سبحانه : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ) ( التوبة : 6 ).

وهنا لا بدّ أن نسجّل أنّ هذه الآيات والمواقف الصريحة في حريّة الاعتقاد تكذّب الاتّهام القائل بأنّ الإسلام انتشر بالسيف ، فالإسلام انتشر بالتبليغ الحسن ، والدعوة الخالصة ورغبة الشعوب فيه.

وهذه هي حقيقة يعترف بها الأجانب قبل الأصدقاء ، فهذا هو غوستاف لوبون في كتاب حضارة العرب يقول :

( انّ القوّة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن فقد ترك العرب المغلوبين على أمرهم أحراراً في أديانهم ولم ينشر الإسلام بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها ، وبالدعوة وحدها اعتنقت الشعوب التي قهرت العرب مؤخّراً كالترك والمغول ، وأدرك الخلفاء السابقون أنّ النظم والأديان ليست ممّا يفرض قسراً فعاملوا أهل كلّ قطر استولوا عليه بلطف عظيم ، فالحقّ أنّ الاُمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب ( المسلمين ) ولا ديناً سمحاً مثل دينهم ) (2).

ص: 407


1- سيرة ابن هشام 2 : 417 - 418.
2- روح الشرائع 2 : 178 - 179 نقله عادل زعيتر في هامشه عليه.

ولتوفّر مثل هذه الحريّة الفكريّة والعقيديّة في ظلّ الإسلام ، نرى أنّ الملاحدة والزنادقة الذين كانوا يحملون عقائد مضادة للإسلام كانوا يعيشون في الأوساط الإسلاميّة في القرون الاُولى أحراراً ودون أن يمسّهم أحد بسوء ... بل وطالما كانوا يناقشون أئمة المسلمين كما نلاحظ ذلك من مناظراتهم واحتجاجاتهم مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله والإمام علي علیه السلام والباقر والصادق علیهماالسلام (1).

أمّا منع كتب الضلال وتحريم اقتنائها وتداولها الذي نجده في الفقه الإسلامي ؛ فهو خاصّ بمن يتضرّر فكريّاً بهذه الكتب ، فإنّ كتب الضلال بمنزلة الدواء الضارّ فكما لا يصحّ السماح لكلّ أحد حتّى الأطفال باقتناء الدواء الضارّ ؛ كذلك لا يجوز لغير العالم الراسخ في عقيدته تناول هذه الكتب تجنيباً للمجتمع من أخطارها وأضرارها.

وأمّا الخرافات المانعة من التفكّر الصحيح ؛ فقد حاربها الإسلام محاربة لا هوادة فيها ، فمن جانب دعا إلى التأمّل والتدبّر والتفكّر الصحيح ومنع من التقليد الأعمى ، ومن جانب آخر منع بشدّة من الاعتقاد بالخرافات واعتناقها ... وكافحها مكافحة قويّة ، فهو ينكر على الوثنيّين عبادتهم للأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع فيقول سبحانه : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) ( الصافات : 95 ).

كما نرى النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوصي معاذاً حينما يبعثه إلى اليمن قائلاً : « وأمت أمر الجاهليّة » (2).

ويقول صلی اللّه علیه و آله في صراحة كاملة : « كُلّ مأثرة في الجاهليّة تحت قدميّ » (3).

ولما قبض ابراهيم ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جرت في موته ثلاث سنن ، أمّا واحدة فإنّه لمّا قبض انكسفت الشمس فقال الناس : إنّما انكسفت الشمس لموت ابن رسول اللّه ، فصعد رسول اللّه المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : « أيُّها الناسُ إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه يجريان بأمره مُطيعان لهُ لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا

ص: 408


1- راجع لمعرفة هذه الاحتجاجات والمناظرات كتاب الاحتجاج وعيون أخبار الرضا علیه السلام .
2- تحف العقول : 2. وسيرة ابن هشام 3 : 412.
3- تحف العقول : 2. وسيرة ابن هشام 3 : 412.

انكسفا أو أحدُهُما صلُّوا ».

ثمّ نزل من المنبر فصلّى بالناس الكسوف فلما سلّم قال : « قُم يا عليّ جهّز ابني » (1).

وأمّا مسألة الغرائز الجنسيّة ، التي تعمد السلطات غير الشرعيّة في الأنظمة الوضعيّة إلى إلهابها وتفجيرها لصرف الناس عن التفكير الجدّي في حياتهم من أجل استعبادهم فقد اتّخذ الإسلام من هذه الغرائز موقفاً معقولاً ومنطقيّاً ...

فإنّ الغرائز الجنسيّة وما شابهها حيث تعتبر من الاُمور الضروريّة لحياة الإنسان وبقائه لم يمكن إلغاءها وحذفها بالمرّة بل وجب تعديلها ووضعها في الموضع الصحيح والاستفادة منها بالقدر اللازم (2).

إنّ الغرائز حسب منطق الإسلام حاجة ضروريّة لبقاء النوع الإنسانيّ فلم ينكرها كما فعلت الكنيسة التي دعت إلى الرهبنة وتجاهل العواطف والغرائز ولكنّ التمادي فيها والإفساح لها أكثر من الحاجة ؛ يفسد العقل والفكر ويهدم الحياة والاستقرار ويعود الإنسان كالأنعام بل أضلّ ، ولذلك عدّ لها الإسلام ووضع لها برامج صحيحة ، وحدود معقولة.

بينما عارض الأهواء الفاسدة والمشتهيات الرخيصة المضلّة ، واعتبر ذلك من قبيل عبادة الهوى فقال : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّهُ عَلَى عِلْمٍ ) ( الجاثية : 23 ).

وقال علي علیه السلام : « إنّ أخوف ما أخافُ عليكُم اتّباعُ الهوى وطُولُ الأمل » (3).

وقال علیه السلام في شجب اتّباع الشهوات الكاذبة : « عبدُ الشّهوة أشدُّ من عبد الرّقّ » (4).

ص: 409


1- بحار الأنوار 22 : 155.
2- راجع أحكام الزواج والأطعمة والأشربة من كتب الفقه الإسلاميّ وكتب الأخلاق والآداب ككتاب مكارم الأخلاق للطبرسيّ.
3- نهج البلاغة : الخطبة 41.
4- غرر الحكم : 498.
3. الحريّة السياسيّة

وهي تعني أنّ لكلّ فرد أن يشغل المناصب الإداريّة ويساهم في الاُمور السياسيّة ولا يمنعه عن ذلك مانع ... وهذا حقّ طبيعيّ لكلّ إنسان فليس لفرد أو جماعة خاصّة أن يستأثر بإدارة البلاد دون اشراك الآخرين في ذلك حسب منطق الإسلام. بينما كان النظام في الشعوب والملل السابقة نظاماً طبقيّاً يقسّم الناس إلى طبقات مختلفة متفاوتة من حيث الحقوق والامتيازات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة ، فكان الحكم والإدارة والسياسة من حقّ الطبقة الخاصّة وكان على بقيّة أفراد الشعب أن يكدحوا ويعملوا ولا يتدخّلوا في الاُمور السياسيّة فلا دور للكفاءات ولا مجال للإسهام السياسيّ مطلقاً.

وقد كان هذا الوضع سائداً قبل الإسلام في اليونان وإيران والهند وغيرها.

وربّما كان بعض الشعوب والاُمم كاليهود تقيّم استحقاق المناصب على أساس الغنى والثروة فكانوا يعطون حقّ الملك والسلطنة لمن كان غنيّاً صاحب ثروة ولهذا لما نصب اللّه تعالى طالوت ملكاً على بني إسرائيل اعترضوا بأنّه فقير متجاهلين المؤهّلات والصفات القياديّة الاُخرى (1) ، إذ قالوا : ( أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ ) فقال اللّه تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ ) ( البقرة : 246 ) ، مشيراً إلى أنّ طالوت يتمتع بالكفاءات القياديّة وهو المهم في أمر القيادة والولاية والسياسة والإدارة.

وإلى هذا الملاك ( ملاك الكفاءة السياسيّة ) يشير النبيّ يوسف علیه السلام لمّا يطالب عزيز مصر بأن يسلّمه خزائن البلاد وأمر الاقتصاد فيقول : ( ... اجْعَلنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ( يوسف : 55 ).

إنّ الإسلام يعتبر الكفاءة واللياقة هو الملاك الأساسيّ للسياسة والإدارة وليس التقسيمات الطبقيّة أو الاعتبارات الماديّة ، وإلى هذا أشار الرسول الأعظم في قوله : « من

ص: 410


1- بحار الأنوار 13 : 435 ، وتاريخ الطبريّ 2 : 547.

استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلمُ أنّ فيهم من هُو أولى بذلك منهُ وأعلمُ بكتاب اللّه وسُنّة نبيّه فقد خان اللّه ورسُولهُ والمسلمين » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « ولا تقبلنّ في استعمال عُمّالك وأُمرائك إلاّ شفاعة الكفاءة والأمانة » (2).

وقد مرّت عليك قصّة عدم استخلاف الإمام عليّ علیه السلام لطلحة والزبير لعدم كفاءتهما (3).

وقد أكّد الإسلام على مسألة الكفاءة في تقلّد المناصب الإداريّة تأكيداً شديداً حتّى نُقل عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قوله : « من ولي من اُمور المُسلمين شيئاً فأمّر عليهم أحداً مُحاباةً فعليه لعنةُ اللّه لا يقبلُ اللّه منهُ صرفاً ولا عدلاً حتّى يُدخلهُ في جهنّم » (4).

ولذلك نجد النبيّ صلی اللّه علیه و آله يستعمل عتاب بن أسيد ( وهو شاب ) على مكّة يوم فتحها ، وفي القوم كبار وشيوخ ليس لشيء إلاّ لكفاءته ، كما استعمله بعد عوده من حصن الطائف وقال صلی اللّه علیه و آله له : « يا عتابُ تدري على من استعملتُك ؟ على أهل اللّه عزّ وجلّ ولو أعلمُ لهُم خيراً منك استعملتُهُ عليهم » (5).

ولمّا اعترض البعض على استعمال عتاب لصغره كتب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى أهل مكّة يقول : « ولا يحتجُّ مُحتجّ منكُم في مُخالفته بصغر سنّه فليس الأكبرُ هُو الأفضلُ بل الأفضلُ هُو الأكبرُ » (6).

هذا وتشمل الحريّة السياسيّة اُموراً كثيرة في المجال السياسي ؛ مثل حقّ النقد في

ص: 411


1- نظام الحكم والإدارة في الإسلام عن سنن البيهقيّ : 302.
2- نظام الحكم والإدارة في الإسلام : 301 - 302.
3- راجع الصفحة 263 من كتابنا هذا.
4- حقوق الإنسان : 72.
5- اُسد الغابة 3 : 358.
6- ناسخ التواريخ حالات النبيّ : 387.

إطار الشرعيّة والصالح العامّ والهدف الصحيح لأنّ في النقد الصحيح ما يساعد على رفع النقائص وتكامل المجتمع وتربيته تربية سليمة ، ولأنّ عدم السماح بالنقد يؤدّي إلى تراكم العيوب والظلامات وينتهي إلى الانفجار ، ويمهّد للثورة والطغيان ، كما ويمهّد السبيل إلى ظهور الديكتاتوريّة والاستبداد فالمثل يقول : الطغاة يتكوّنون صغاراً ( أي شيئاً فشيئاً ) إذا لم يؤخذ على أيديهم ولم يعترض عليهم ولم ينتقد أحد أعمالهم ، ولم يحاسبهم على تصرّفاتهم.

ومن هنا تكون المعارضة والسماح لها بالمناقشة والنقد بالوسائل المشروعة من صالح الدولة والاُمّة وهو أمر كان يتمّ في عهد النبيّ صلی اللّه علیه و آله والخلفاء حيث كان هناك من يعترض وكان القادة الإسلاميّون يجيبون على ذلك بصدر رحب ، وديمقراطيّة عديمة النظير.

وإقرار مبدأ الشورى ليس إلاّ من هذا الباب.

نعم في أثناء الحرب مع الأعداء يجوز للدولة أن تحدّ من نشاط المنتقدين تجنّباً من تسميم الأفكار وإضعاف المعنويّات وبلبلة النفوس ، ومع ذلك لا يمكن إلغاء دورهم بالمرّة لأنّ في وجودهم مبعث اليقظة والتنبّه إلى مواقع العيب ومواطن الخطأ.

نعم يعارض الإسلام بشدّة أعمال التخريب والتجسّس والتلصّص وكلّ ما يخلّ بالأمن والاستقرار ويؤدّي إلى اضطراب الأحوال كبثّ الشائعات الكاذبة وترويج الاتّهامات والشكوك الباطلة (1).

كما ويدخل في هذا الباب حقّ التصويت والانتخاب الذي ذكرناه في الفصول السابقة ، ولا يختلف في ذلك الرجال والنساء.

ويندرج في هذا الباب كذلك ؛ حريّة التعبير ؛ فإنّ النظام الإسلاميّ بخلاف كلّ

ص: 412


1- وردت في ذلك آيات وأحاديث نتركها لضيق المجال منها قوله صلی اللّه علیه و آله : « أيّما رجل اطّلع على قوم في دارهم لينظر إلى عوراتهم ففقأوا عينه أو جرحوه فلا دية عليهم » ( وسائل الشيعة 19 : 50 ) وقوله تعالى : ( وَلا تَجَسَّسُوا ) وما شابه ممّا سيأتي في بحث الاستخبارات.

الأنظمة الوضعيّة السائدة التي تلجم الأفواه وتسكت الأقلام وتفرض نوعا من الحدود والسدود ؛ يفسح للجميع المجال للتعبير عن آرائهم وآلامهم وآمالهم ما دامت في مصلحة الاُمّة ، وضمن إطار القوانين والأخلاق الإسلاميّة ، لأنّ في ذلك تقدّم البلاد وازدهار الحياة ، ولأجل هذا قال الإمام الصادق علیه السلام : « خيرُ إخواني من أهدى إليّ عُيوُبي » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « من استقبل وُجُوه الآراء عرف مواقع الخطأ » (2).

ولأجل هذا يمنع الإسلام من كلّ ألوان التعتيم الإعلاميّ ، واتّخاذ القرارات وراء الكواليس ، وإخفاء الحقائق عن الشعب ، وفرض الرقابة على الأفكار والآراء وإلهاء الناس بالملاهي الجنسيّة بهدف صرفهم عن القضايا المصيريّة ، أو بثّ الخرافات بينهم أو سدّ باب الاعتراض أو السؤال والاستفسار.

فنحن نرى كيف كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يسمح بالاعتراض والاستفسار ويقابل ذلك بالإجابة المقنعة وبيان الحقيقة دون غضب أو استياء.

فعن عبد الرحمن بن عوف أنّه قال - لمّا وجد النبيّ صلی اللّه علیه و آله يبكي في موت ولده إبراهيم ، قلت : أو لم تكن نهيت عن البكاء ؟ فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لا ولكن نهيتُ عن صوتين أحمقين وآخرين : صوت عند مُصيبة ورنّةُ شيطان وصوت عند نغمة لهو ، وهذه رحمة ومن لا يرحمُ لا يُرحم » (3).

وقد مرّ عليك كيف أنّ الإمام عليّ علیه السلام كان يكتب في عهوده إلى ولاته بأن لا يحتجبوا عن الناس وأن يستمعوا إلى آرائهم وشكاواهم ، ويأخذوا بما يجدونه خيراً لهم وللاُمّة تجنّباً من ظهور النقمة الشعبيّة ... فالطغيان.

* * *

ص: 413


1- تحف العقول : 366.
2- صوت العدالة الإنسانيّة 2 : 458.
3- السيرة الحلبيّة 3 : 348.

4. الحريّة المدنيّة وهي تشمل حريّة كلّ إنسان في اختيار المسكن والبلد ، والعمل ، وطريقة حياته الخاصّة والكسب وكيفية تحصيل المال وتملّكه وحريّة الحيازة والاستفادة من المواهب الطبيعيّة ما دام في الإطار الشرعيّ.

فأمّا حريّة المسكن فقد فسح الإسلام المجال لأيّ مسلم أن يعيش في أيّة نقطة يقدر فيها على السكنى وتطيب له الإقامة فيها فعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « البلادُ بلادُ اللّه والعبادُ عبادُ اللّه فحيث ما أصبت خيراً فأقم » (1).

وعن اُولئك الذين بقوا في بلد عانوا فيه الظلم والحيف يقول اللّه تعالى : ( ... أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ... ) ( النساء : 97 ).

وأمّا حريّة العمل فإنّ الإسلام لا يرى جبر أحد على العمل أو إكراهه على شغل خاصّ ...

وإليك ما جاء في نهج البلاغة في هذا الصدد فقد كتب الإمام علي علیه السلام إلى أحد عمّاله يقول : « أمّا بعد فإنّ قوماً من أهل عملك أتوني فذكروا أنّ لهم نهراً قد عفى ودرس وأنّهم إن حفروه واستخرجوه عمرت بلادهم وقووا على كلّ خراجهم وزاد فيء المسلمين قبلهم وسألوني الكتاب إليك لتأخذهم بعمله وتجمعهم لحفره والإنفاق عليه ولست أرى أن أجبر أحداً على عمل يكرهه فادعهم إليك فإن كان الأمر في النّهر على ما وصفوا فمن أحبّ أن يعمل فمره بالعمل والنّهر لمن عمل دون من كرهه وأن يعمروا ويقووا أحبُّ إليّ من أن يضعفوا » (2).

نعم يصحّ الإجبار على العمل حينما يمتنع الإنسان عن إرزاق عائلته والإنفاق عليهم.

ص: 414


1- نهج الفصاحة : 223.
2- صوت العدالة الإنسانيّة 1 : 132.

ثمّ إنّ الإنسان حرّ في العمل والاشتغال إلاّ أن يتعهّد لأحد بنفسه اختياراً فحينئذ لا يكون مخيّراً في الوفاء بالتزامه بل يجب عليه أن يقوم بما تعهّد به.

ثمّ إنّ الكسب مباح بكلّ ألوانه إلاّ أن يكون خلاف القوانين الشرعيّة لإضرارها على الفرد والمجتمع كالاكتساب بالأشياء المحرّمة الممنوعة مثل الخمر وما شابهها.

وأمّا حريّة التملّك والانتفاع بمواهب الطبيعة وحيازتها - على الوجه الشرعيّ - فهي ليست خاصّة بجماعة من الرأسماليّين الكبار وأصحاب الامتيازات والثروات كما هو الحال في النظام الرأسماليّ الغربيّ الظالم ، وليست خاصّة بالحزب وأعضائه وأقطابه كما في النظام الشرقيّ ، بل هي عامّة للجميع على قدم المساواة ... وهذا بحث يتعلق بالاقتصاد الذي سنبحثه في فصل خاصّ.

وصفوة القول : أنّ جميع هذه الحريات المذكورة وتلك التي لم نذكرها ثابتة لكلّ إنسان في النظام الإسلاميّ ، وقد كفلها الإسلام بقوانينه وما اتّّخذه من مواقف ومقرّرات حاسمة وصارمة وقويّة ... بحيث لا مجال فيها للعدوان على حريّة أحد.

نقاط حول السجن

يبقى أن نذكّر القارئ - في مورد الحبس والسجن - بنقاط :

1. إنّ في الإسلام حدّاً وتعزيراً فالمراد من الأوّل العقوبة التي لها تقدير ، كما أنّ المراد من الثاني العقوبة التي ليس لها تقدير ، والأصل في الإسلام هو الحدّ ، وأمّا التعزير فإنّه عقوبة ثانويّة لمرتكبي الجرائم إذا لم يكن هناك حدّ معيّن ، والحبس إنّما يعاقب به إذا لم يكن هناك حدّ شرعيّ معيّن ، فإذن هي عقوبة ثانويّة ومن باب التعزير بخلاف ما في الأنظمة الوضعيّة التي تعتمد على الحبس كعقوبة أصليّة تلجأ إليها في كلّ قضيّة.

2. الحبس الشرعيّ ليس هو السجن في مكان ضيّق وإنّما هو تعويق الشخص ومنعه عن التصرّف بنفسه ( راجع الأحكام السلطانيّة للماوردي ) ولذلك يجب أن يكون بعيداً عن التعذيب والأذى ، قال الإمام عليّ علیه السلام في ابن ملجم بعد جنايته عليه :

ص: 415

« احبسوا هذا الأسير وأطعموه وأحسنوا اساره » (1).

3. إنّ التعزير بالحبس في الشريعة الإسلاميّة ورد في موارد قليلة لا تتجاوز 13 مورداً ، لاحظ وسائل الشيعة 18 : 32 و 35 و 221 و 244 و 386 و 492 و 536 و 549 و 578 وج 19 : 34 و 121.

ص: 416


1- الوسائل 19 : 96.

الفصل السابع: حول أهمّ برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

اشارة

بعد أن اتّضح لك أيّها القارئ لون الحكومة الإسلاميّة وصيغتها وطرف من خصائصها ينطرح هذا السؤال :

ما هي برامج الحكومة الإسلاميّة وما هي وظائفها وما هي سياستها في حقول التربية والتعليم والاجتماع والعلاقات الدوليّة ، والاقتصاد وغيرها ممّا يتحتّم على كلّ حكومة أن يكون لها سياسة ومنهج فيه ؟

من أجل بيان هذا الجانب في بحوث الحكومة الإسلاميّة عقدنا هذا الفصل ففيه سنذكر أهمّ وظائف هذه الحكومة وبرامجها.

وفي الأخير نذكّر القارئ بأنّ ما نبيّنه في هذه المجالات لا يتعدّى بيان الجواهر وأمّا الأشكال والترتيبات الّتي تتمّ بها هذه الوظائف فمتروكة للظروف ومقتضياتها كما أسلفناه غير مرّة.

ص: 417

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

اشارة

1

الحكومة الإسلاميّة ومسؤوليّة التربية والتعليم
مسؤوليّة التربية :

لا شكّ في أنّ التزكية والتربية كانت الهدف الأسمى لأنبياء اللّه ورسله أجمعين فها هو خليل الرحمن النبيّ إبراهيم علیه السلام يطلب من اللّه سبحانه - وهو يرفع قواعد الكعبة الشريفة - أن يبعث في اُمّته من يزكّيهم ويربّيهم إذ قال : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( البقرة : 129 ).

وإنّما اتّخذت التربية والتزكية هذه المكانة في رسالات السماء ومهام الأنبياء لأنّ الإنسان لا يمكنه أن يبلغ أي مبلغ من النضوج العلميّ ، أو التقدمّ الاجتماعيّ من دون أن تتوفّر له التربية الواعية التي تتكفّل بناء شخصيّته.

ولقد تركّزت مساعي الأنبياء على تحقيق هذه المهمّة العظيمة ، وبذلوا في سبيله

ص: 418

أعظم الجهود ، ويدلّ على ذلك ما روي من أنّ اللّه سبحانه خصّ الأنبياء بمكارم الأخلاق (1).

ومن المعلوم أنّ هذا التخصيص يهدف - مضافاً إلى تكميلهم بهذه المكارم - جعلهم اُسوة لاُممهم.

ونخصّ من اُولئك الأنبياء العظام بالذكر نبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله فقد وصفه اللّه سبحانه بأنّه بُعث للتزكية فقال : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة : 151 ).

وقال : ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( آل عمران : 164 ).

وقال : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة : 2 ) (2).

وقد أعلن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله في حديث مشهور عن هذه المهمّة الكبرى التي حمّل بها ، واعتبرها أساس رسالته ، وغاية بعثته إذ قال : « إنّما بُعثتُ لاُتمّم مكارم الأخلاق » (3).

وقال أيضاً : « عليكُم بمكارم الأخلاق فإنّ اللّه بعثني بها » (4).

وقال عليّ علیه السلام : « سمعتُ النبيّ صلی اللّه علیه و آله يقول : بُعثتُ بمكارم الأخلاق ومحاسنها » (5).

ص: 419


1- سفينة البحار 1 : 410.
2- قدّم التعليم في بعض الآيات على التزكية واخّر في البعض الآخر ، لأجل أنّ التعليم بالمعنى الوسيع مقدّم من حيث الحصول والوجود على التزكية التي هي بمعنى التربية الكاملة ولكن حيث أنّ الهدف الأعلى هو التزكية قدّمت التزكية على التعليم في غيرها.
3- سفينة البحار 1 : 410 ، مستدرك الوسائل 2 : 282.
4- كتاب سنن النبيّ للعلاّمة الطباطبائيّ : 23 نقلاً عن أمالي الشيخ.
5- مجمع البيان 10 : 333.

وعن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام قال : « إنّ اللّه تعالى خصّ رسوله بمكارم الأخلاق » (1).

ووصفه الإمام عليّ علیه السلام بذلك إذ قال : « طبيب دوّار بطبّه ، قد أحكم مراهمه ، وأحمى مواسمه يضع من ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي ، وآذان صمّ وألسنة بكم متّبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة » (2).

وهذا يفيد أنّ للإسلام برنامجاً كاملاً لتحقيق هذا المقصد الأعلى والمطلب الأسمى.

الإسلام ومسألة التزكية

يعتقد النظام الإسلاميّ بأنّ الإنسان مفطور على السجايا الأخلاقيّة النبيلة ، وأنّ اُصول التربية موجودة في فطرته بخلق اللّه سبحانه ، وإنّما يكون دور المربّين والاُساتذة هو استخراج هذه السجايا المكنونة في النفس الإنسانيّة وإثارتها وتنميتها ، وهذا أمر أكّدته آيات كثيرة في الكتاب العزيز ، وإليك - فيما يأتي - نماذج من هذه الآيات يقول اللّه سبحانه : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) ( الشمس : 7 - 8 ).

( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) ( البلد : 10 ).

إلى غير ذلك من الآيات التي تشير - بوضوح - إلى هذه الحقيقة ، وتؤكّد بأنّ أصول التربية مزروعة في داخل النفس البشريّة زرعاً ومغروسة غرساً.

وعلى ذلك ، فإنّ دور المربّي ، والمعلّم الأخلاقيّ - في هذا المجال - لا يتعدّى دور الاكتشاف والإنماء والرعاية ، فمثله مثل البستانيّ الذي لا يقوم إلاّ بتهيئة الظروف المساعدة للنبات والزرع من الرعاية والسقي والعناية بالبذرة لتنبت وتكبر وتنمو ، فإنّ المربّي والمعلّم يهيّء الأجواء المساعدة لنمو تلك السجايا والبذور الأخلاقيّة الموجودة في

ص: 420


1- من لا يحضره الفقيه : 458 ، ومعاني الأخبار : 191.
2- نهج البلاغة : الخطبة 104.

داخل النفوس البشريّة ، وإثارتها من مكامنها ، وإلى ذلك يشير قول الإمام عليّ علیه السلام وهو يصف مهمّة الأنبياء : « فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكّروهم منسيّ نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول » (1).

ولأجل ذلك أيضاً أمر اللّه سبحانه نبيّه محمّداً صلی اللّه علیه و آله بأن يذكّر الناس بما خلقوا وفطروا عليه فقال : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ) ( الغاشية : 21 ).

ولقد أشبعنا الكلام - في الجزء الأوّل - عند البحث عن المعرفة الفطريّة ، وقلنا بأنّ الدين ، واُصول فروعه الكليّة مركوزة في النفس البشريّة ، وهو شيء أشار إليه قوله سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( الروم : 30 ).

فما هو المفطور عليه البشر هو الدين بمعناه الوسيع الشامل للعقيدة والأخلاق والقيم والسجايا وقد روى الفريقان عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله قوله : « ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة ثمّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه. ثُمّ قال : ( فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) » (2).

عوامل تكوين الشخصيّة
اشارة

وتتلخّص عوامل تكوين الشخصيّة وأجواء التربية في ثلاث اُمور أساسيّة هي :

1. الوراثة.

2. التعليم.

3. البيئة.

ولقد اهتم الإسلام بهذه الاُمور الثلاثة اهتماماً بالغاً ، ورسم لها برامج ومناهج

ص: 421


1- نهج البلاغة : الخطبة الاُولى.
2- تفسير البرهان 3 : 361 ، التاج الجامع للاُصول 4 : 180.

دقيقة ورصينة ليمكن تكوين الشخصيّة الإنسانيّة المتكاملة والنفسيّة البشريّة الفاضلة ؛ وإليك تفصيل القول في كلّ واحد منها :

1. الوراثة

يرى علماء التربية والنفس للابتداء في تربية النشء مبدءاً معيّنا في عمر الإنسان ، يعتقدون أنّه الوقت المناسب للتهذيب والتربية ... بيد أنّ الإسلام لا يرى ذلك بل يعتقد أنّ العناية بأمر الطفل يجب أن تبدأ منذ اللقاء الأوّل بين والديه ، ومنذ انعقاد نطفته بل وقبل ذلك. لأنّ الإسلام يرى أنّ أكثر ما ينطوي عليه الأبوان من أخلاق وصفات تنتقل - بالوراثة - إلى أبنائهم ، وتؤثّر على شخصيّتهم ، ومسيرهم ومصيرهم ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العلميّة بالكناية البليغة ، والاشارة الحسيّة اللطيفة حيث قال : ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) ( الأعراف : 58 ).

إنّ اللّه سبحانه لم يكن يريد أن يقرّر للناس ما هم عارفونه ، ومطّلعون عليه من ظواهر الطبيعة من أنّ الأرض الطيبة يكون نباتها طيباً ، والخبيثة لا يُخرج منها إلاّ النكد ، بل كان يريد الإشارة إلى الدور الحسّاس الذي يلعبه عامل الوراثة وأخلاق الأبوين في المولود. وإلى ذلك يشير شيخ الأنبياء نوح علیه السلام حيث يدعو اللّه سبحانه أن لا يبقي من قومه الكفرة أحداً في الأرض لأنّهم إن بقوا لا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً إذ قال اللّه عنه : ( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ) ( نوح : 26 - 27 ).

وهي تكشف عن أنّ صلاح الوالدين يهيّء الأرضيّة لصلاح الولد كما أنّ فسادهما يهيّء الأرضيّة لفساده وانحرافه. كما قال الإمام عليّ علیه السلام : « حُسنُ الأخلاق بُرهانُ كرم الأعراق » (1).

ص: 422


1- غرر الحكم : 379.

وإلى هذا الناموس الطبيعيّ ( الوراثة ) أشارت جملة كبيرة من الأحاديث ، والمناهي الواردة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته المعصومين.

فقد نهى الإسلام عن التزوّج بالمرأة الحمقاء تجنّباً لمساوئ هذا الزواج إذ قال النبيّ الكريم صلی اللّه علیه و آله : « إيّاكُم وتزويج الحمقاء فإنّ صُحبتها بلاء ، وولدُها ضياع » (1).

كما نهى صلی اللّه علیه و آله عن تزويج الفاسق : « من زوّج كريمته من فاسق فقد قطع رحمه » (2).

ولتأثير الوراثة على الشخصيّة الإنسانيّة نرى أنّ الإمام عليّ علیه السلام يأمر عامله الأشتر في عهده بالاتّصال بذوي المروءات وأصحاب الأحساب الكريمة حيث يقول : « ثمّ الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسّوابق الحسنة ثمّ أهل النجدة والشّجاعة والسّخاء والسّماحة فإنّهُم جماع من الكرم وشعب من العُرف » (3).

وذلك لما في هذه الناحية من الأثر الطيّب على فكر الإنسان وسلوكه وشخصيّته ونفسيّته.

ونهى عن تزويج الزانية والزاني إذ قال الإمام الصادق علیه السلام : « لا تزوّجوا المرأة المستعلنة بالزّنا ولا تزوّجوا الرجل المستعلن بالزّنا إلاّ أن تعرفوا منهما التّوبة » (4).

ثمّ أشار الإمام الصادق علیه السلام في رواية اُخرى إلى تأثير الزنا في نفسيّة الطفل المتولّد من الزنا بقوله : « ثانيهما : أنّه يحنّ إلى الحرام الّذي خُلق منهُ ، وثالثُها : الاستخفافُ بالدّين ... » (5).

ولعلّه يكون لولد الزنا هذه الحال لأنّ والديه حينما يقومان بالزنا ، يشعران بأنّهما ينقضان القانون ، وهي صفة تنتقل إلى وليدهما - بالوراثة - فيكون الولد المتولّد منهما

ص: 423


1- وسائل الشيعة 14 : 56.
2- الكافي 1 : 54.
3- نهج البلاغة : قسم الكتب ( الكتاب 53 ).
4- مكارم الأخلاق : 104.
5- سفينة البحار 1 : 560. ومن أراد الوقوف علی بقية الروايات في هذا الباب وتأثير الوراثة علی الطفل فليرجع إلی الجزء الرابع عشر من الوسائل من الصفحة 47 إلی الصفحة 57.

مهيّئاً لنقض القانون ، ويسهل ذلك عنده.

ولهذا حثّ الإسلام حثّاً شديداً على اختيار الزوجة الصالحة فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « تخيّروا لنطفكم فإنّ العرق دسّاس » (1).

وقال : « إيّاكم وخضراء الدّمن »

قيل : وما خضراء الدمن ؟

قال : « المرأة الحسناء في منبت سوء » (2).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « طوبى لمن كانت اُمّه عفيفةً » (3).

وقال الحسين بن بشّار الواسطي كتبت إلى أبي الحسن الرضا علیه السلام أنّ لي قرابة قد خطب إليّ وفي خلقه سوء قال : « لا تزوّجه إن كان سيّء الخلق » (4).

وأنت إذا تصفّحت الأحاديث المرويّة في هذا المجال لوجدت أنّ الإسلام اعتبر صلاح الوالدين اللبنة الاُولى في صلاح الولد واستقامته. وقد صار هذا القانون معروفاً بين الناس حتّى عاد شاعرهم يقول :

ينشأ الصغير على ما كان والده

إنّ الاُصول عليها تنبت الشجر

ولابدّ من القول بأنّ ما ذكر حول عامل الوراثة ، وأثره في تكوين شخصيّة الطفل ؛ لا يعني أنّ ما يرتسم في شخصيّة الطفل من أبويه - بالوراثة - لا يتغيّر ولا يخضع للتبدّل والتحوّل بحيث لا يمكن أن تؤثّر فيه عوامل اُخرى تقضي على ما ورثه من كريم السجايا وشريف الأخلاق أو سيّئها ، بل يعني أنّ الوراثة ، وصلاح الأبوين يعتبر عاملاً مقتضياً لصلاح الطفل وأرضيّة مناسبة لتنشئته نشأة صالحة مستقيمة ، ما لم يمنع مانع ، ولم يطرأ طارئ ، كما حدث لولد نوح وغيره ، وكذا العكس.

وهكذا يكون عامل الوراثة وصلاح الوالدين أوّل مدرسة للتربية السليمة ،

ص: 424


1- غرر الحكم : 379.
2- المحجّة البيضاء 2 : 52 ، بحار الأنوار 22 : 54.
3- بحار الأنوار 23 : 79.
4- وسائل الشيعة 14 : 54.

وتكوين الشخصيّة الصالحة. نعم إنّ صلاح الوالدين من حيث الصفات الذاتيّة وحده لا يكفي في نشأة الولد نشأة صالحة ، بل يفرض الإسلام على الأبوين أن يتعاهدا ولدهما بالتربية العمليّة ، والأدب السليم فقال الإمام زين العابدين علیه السلام : « وأمّا حقّ ولدك فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدّنيا بخيره وشرّه وأنّك مسؤول عمّا ولّيته من حسن الأدب ، والدلالة على ربّه عزّ وجلّ والمعونة على طاعته فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه » (1).

وقال الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « الرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم ، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم » (2).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « خير ما ورّث الآباء الأبناء الأدب » (3).

وحيث أنّ الكتب الأخلاقيّة الإسلاميّة قد تكفّلت بالبحث المفصّل والعميق في وظيفة الوالدين ، فقد طوينا الكلام عنها في هذا الباب خاصّة ، وفي مجالات التربية عامّة.

وفي الحقيقة يكون ما ذكرناه هنا دراسة عابرة للإشارة إلى وجود منهج التربية في الحكومة الإسلاميّة ، والتفصيل موكول إلى الكتب المعدّة لذلك ، ويكفي لمعرفة أهميّة التزكية والتهذيب ، ما قاله الإمام الصادق علیه السلام : « أحبّ إخواني من أهدى إليّ عيوبي » (4).

* * *

2. التعليم

2. التعليم (5)

عندما تتكوّن اُسس الشخصيّة وقواعدها في نفسيّة الطفل - بالوراثة - يأتي دور المعلّم ، الذي يمثّل المدرسة التربويّة الثانية بعد مدرسة الأبوين وعامل الوراثة. فعلى

ص: 425


1- وسائل الشيعة 3 : 135 ، ورسالة الحقوق في آخر كتاب مكارم الأخلاق.
2- مجموعة ورّام 1 : 6.
3- غرر الحكم : 393.
4- تحف العقول : 366.
5- سوف يوافيك أنّ الحكومة الإسلاميّة يجب أن تقوم بمسؤوليّة التعليم والتثقيف الصحيح السليم.

يدي المعلّم الصالح والمربّي الطيّب تنمو السجايا والصفات الحسنة ، وتتكامل التربية لدى الطفل ولهذا يكون دور التعليم - في مصير الطفل - دوراً حسّاساً بالغ الخطورة جداً.

ففي هذه الفترة - بالذات - تتّخذ الشخصيّة شكلها الكامل تقريباً ، ومن هنا حرص الدين الإسلاميّ على أن يكون جوّ التعليم جوّاً سليماً طاهراً وصالحاً للغاية ، وذلك لأنّ قلب الطفل أسرع قبولاً لما يلقى فيه ، فهو يتقبّل كلّ شيء من معلّمه ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ ولذلك قال الإمام عليّ لولده الحسن علیهماالسلام : « وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما اُلقي فيها من شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك » (1).

وقال الإمام الصادق علیه السلام لأبي جعفر الأحول حينما بعثه للتبليغ والتعليم : « عليك بالأحداث فإنّهم أسرع إلى كلّ الخير » (2).

إنّ هذه الفترة من أخطر الفترات وأكثرها حسّاسية في حياة الطفل ولذلك قال الإمام الصادق علیه السلام : « بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة » (3).

ولقد كان للتربية الصالحة والتعليم السليم آثاراً جليلة في التاريخ البشريّ فهاهو عمر بن عبد العزيز سليل الشجرة الملعونة على لسان النبيّ صلی اللّه علیه و آله تتغيّر طباعه وتتحوّل سجاياه إذ يتولاّه معلّم صالح بتربية صالحة فينشأ على خلاف ما نشأ عليه آباؤه وأسلافه ويفعل عكس ما يفعلوه.

قال عمر بن عبد العزيز : ( كنت غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود فمرّ بي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان ونحن نلعن عليّاً ، فكره ذلك ودخل المسجد ، فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه وزدي ، فلمّا رآني قام فصلّى وآطال في الصلاة شبه المعرض عنّي حتّى أحسست منه ذلك فلمّا انفتل من صلاته كلح في وجهي.

فقلت له : ما بال الشيخ ؟

ص: 426


1- مستدرك الوسائل 3 : 71.
2- الكافي 6 : 2. 47.
3- الكافي 6 : 2. 47.

فقال لي : يا بنيّ أنت اللاعن عليّاً منذ اليوم ؟!

قلت : نعم.

قال : فمتى علمت أنّ اللّه سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم ؟

فقلت : يا أبت ، وهل كان ( عليّ ) من أهل بدر ؟

فقال : ويحك ! وهل كانت بدر كلّها إلاّ له ؟

فقلت : لا أعود.

فقال : اللّه إنّك لا تعود.

قلت : نعم.

فلم ألعنه بعدها.

ثمّ كنت أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة ، وهو حينئذ أمير ، فكنت أسمع أبي يمرّ في خطبته تهدر شقاشقه حتّى يأتي إلى لعن عليّ علیه السلام فيجمجم ويعرض له من الفهاهة والحصر ما اللّه عالم به ، فكنت أعجب من ذلك.

فقلت له يوماً : يا أبت أنت أفصح الناس وأخطبهم فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك حتّى إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عييّاً ؟

فقال : يا بنيّ أنّ من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتّبعنا منهم أحد. فوقرت كلمته في صدري مع ما كان قاله لي معلّمي أيام صغري فأعطيت اللّه عهداً لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لاُغيرنّه ... فلمّا منّ اللّه عليّ بالخلافة أسقطت ذلك ، وجعلت مكانه ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) وكتبت إلى الافاق فصار سنّة (1).

ص: 427


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 58 المتوفّى (655).
3. البيئة

إنّ للبيئة والمحيط أثراً كبيراً في تربية الشخصيّة البشريّة وتكوينها فالبيئة الصالحة الطاهرة تساعد على النشأة الصالحة ، وعلى العكس تكون البيئة الفاسدة.

ويضرب القرآن الكريم لنا مثلاً عن تأثير البيئة في شخصيّة الإنسان وسلوكه ، ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم إذا ضرب مثلاً على أمر اختار نموذجاً كبيراً ومثلاً بارزاً جدّاً فهو يمثل لمن أثّرت البيئة الفاسدة في سلوكه ومصيره بامرأتي لوط ونوح إذ قال : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) ( التحريم : 10 ).

ولذلك حرص الإسلام على طهارة المجتمع وسعى في تطهيره من كلّ فساد وانحراف ؛ فأكّد مثلاً على اختيار الصديق الصالح لما له من الأثر على شخصيّة صديقه وخلقه وسلوكه قال الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « من أراد اللّه به خيراً رزقه خليلاً صالحاً إن نسي ذكّره وإن ذكر أعانه » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله أيضاً : « اسعد النّاس من خالط كرام النّاس » (2).

وقد ورد عنه صلی اللّه علیه و آله : أيضاً أنّه قال : « المرء على دين خليله وقرينه » (3).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « واحذر صحابة من يفيل رأيه وينكر عمله فإنّ الصّاحب معتبر بصاحبه »(4) .

وقال علیه السلام : « لا تصحب الشّرّير فإنّ طبعك يسرق من طبعه شرّاً وأنت لا تعلم » (5).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « من يصحب صاحب السّوء لا يسلم » (6).

ص: 428


1- (1 و 2) بحار الأنوار 15 : 51.
2- (1 و 2) بحار الأنوار 15 : 51.
3- وسائل الشيعة 4 : 207.
4- غرر الحكم : 723.
5- ابن أبي الحديد 20 الكلمة 147ص 272.
6- مستدرك الوسائل 2 : 65.

وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله :

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فكلّ قرين بالمقارن مُقتدي

إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم *** ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي

ولأجل ذلك قرّر الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والذي من شأنهما تطهير المجتمع ... كما منع من التجاهر بالمعصية لأنّ ذلك يهوّن الذنب ويزيل قبحه ، ويجرّ إلى الانحراف الأخلاقيّ وإلى ذلك أشار الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله بقوله : « إنّ المعصية إذا عمل بها العبدُ سرّاً لم يضرّ إلاّ عاملها فإذا عمل بها علانيةً ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة » (1).

ثمّ انّ الإسلام لم يكتف بتوجيه العناية إلى الاُمور الثلاثة المذكورة ، وتقوية ما فطر عليه الإنسان ، بل جعل له روادع وزواجر اُخرى فأكّد دور :

1. العقل.

2. الأنبياء وأوصيائهم.

واعتبرهما حجّتين ملزمتين ، قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام : « إنّ لله على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة وأمّا الباطنة فالعقول » (2).

وأمّا العقل فقد حثّ الإسلام على إحيائه والاهتمام بنداءاته والأخذ بإرشاداته لأنّه قادر على تمييز الخير عن الشرّ إذ قال الإمام عليّ علیه السلام : « كفاك من عقلك ما أوضح لك سبيل غيّك من رُشدك » (3).

ومنع من كلّ ما يميت العقل ويقضي على نوره ، ويعطل أثره ... فمنع عن شرب الخمر وتعاطيه مثلاً إذ قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ

ص: 429


1- وسائل الشيعة 11 : 407.
2- الكافي 1 : 11.
3- نهج البلاغة : قسم الحكم ( الرقم 421 ).

رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( المائدة : 90 ).

وأمّا الأنبياء علیهم السلام فقد جهزهم سبحانه بكلّ ما يمكّنهم من تربية الناس تربية صالحة من برامج وتعاليم في هذا المجال.

* * *

والجدير بالذكر أنّ الإسلام اتّخذ طريقين حيويين ليجعل تعاليمه أكثر نفوذاً في النفوس وأكثر توفيقاً ونجاحاً في مجال التربية والتزكية وهما :

أوّلاً : إنّه بيّن للناس فلسفة الأحكام والتعاليم وعللها النفسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والصحّية ... ولم يكتف بتقديم النصائح الجافّة ، وذلك ليقف الناس بأنفسهم على المفاسد التي تكمن في المناهي وأضرار المعاصي وإلى هذا يشير ما قاله الإمام عليّ بن موسى الرضا علیه السلام : « إن قال قائل : لم أمر اللّه تعالى العباد ونهاهم ، قيل : لأنّه لا يكون بقاؤهم وصلاحهم إلاّ بالأمر والنّهي والمنع من الفساد والتغاصب » (1).

وكنموذج من هذه العلل نذكر ما قاله الإمام الصادق علیه السلام : « حرّم اللّه الخمر لفعلها وفسادها لأنّ مدمن الخمر تورّثه الإرتعاش وتذهب بنوره ، وتهدم مروّته وتحمله أن يجسر على ارتكاب المحارم وسفك الدّماء ، وركوب الزّنا ولا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه وهو لا يعقل ذلك ولا يزيد شاربها إلاّ كلّ شرّ » (2).

ولذلك علّل القرآن الكريم تحريمه للخمر والميسر بقوله سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) ( المائدة : 91 ).

وقد ألّف علماء الإماميّة رحمهم اللّه كتباً متعدّدة نظّموا فيها ما روي عن النبّي وأئمّة أهل البيت - عليهم الصلاة والسلام - حول فلسفة الأحكام وعللها ونخصّ بالذكر كتاب

ص: 430


1- عيون أخبار الرضا : 101.
2- وسائل الشيعة 17 : كتاب الأطعمة والأشربة : 244.

( علل الشرائع ) تأليف الشيخ الصدوق المتوفّى ( 381 ه ) رحمه اللّه .

ثانياً : إنّه أردف أوامره ونواهيه بالتبشير بالثواب الإلهيّ أو الإنذار والتخويف من العذاب. وبذلك حقّق الإسلام ويحقّق نجاحاً كبيراً في مجال التربية يفقده أي برامج آخر سواه ، ويدلّ عليه أخلاق المسلمين وسلوكهم حاضراً وماضياً خاصّة ، وهي كانت سبب تقدمهم في السابق ، كما يدلّ عليه اعتراف الأجانب والأباعد قبل الأصدقاء والأقارب ، فقد قال بعض الباحثين عن التربية في الإسلام :

( لا يستطيع أحد من المربّين والمؤرّخين أن ينكر أنّ التربية الإسلاميّة هي الأساس المتين لحضارة المسلمين ، والمثل العليا في تلك التربية تتّفق مع الاتّجاهات الحديثة في عالم التربية اليوم ) (1).

ومن هنا يتحتّم على الحكومة الإسلاميّة أن تخطّط لمنهج التربية ، وتوفّر أجواءها الصالحة وتخصّص الميزانيّات اللازمة لها ، وتستخدم في هذا السبيل كلّ الأجهزة المناسبة من وسائل الإعلام والتوجيه والثقافة وعمارة المراكز الدينيّة والعباديّة وما شابه. ومن المعلوم أنّ هذه الوظيفة تندرج في نطاق مسؤوليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بقسمه الاجتماعيّ العامّ الذي سبق أن قلنا انّه من واجب الدولة ووظيفتها ومسؤوليّتها وصلاحيّاتها.

هذا وقد قام علماء الإسلام بتأليف كتب كثيرة في علم الأخلاق. ولهذا نجد الاُمّة الإسلاميّة في غنى عن كلّ كتاب أخلاقيّ مؤلّف على أساس الفكر الغربيّ.

ومن أراد التوسع في هذا الباب فليراجع كتاب « طهارة النفس » أو « تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق » تأليف الإمام أبي عليّ بن محمّد ابن مسكويه المتوفّى عام ( 421 ه ). وقد أثنى عليه المحقّق الخواجا نصير الدين الطوسيّ بقوله :

بنفسي كتاباً حاز كلّ فضيلة *** وصار لتكميل البريّة ضامناً

ص: 431


1- النظام التربويّ في الإسلام : 18.

و « أحياء العلوم » للإمام الغزاليّ المتوفّى عام ( 505 ه ) وهوكتاب فريد في بابه لم يؤلّف مثله وإن كان فيه بعض الهنات و « جامع السعادات » للعلاّمة النراقيّ المتوفّى عام ( 1209 ه ) إلى غير ذلك من المؤلّفات الأخلاقيّة.

وفي الختام نشير إلى نكتة هامّة وهي أنّه يتحتّم على علماء الأخلاق المسلمين إخراج الأخلاق الإسلاميّة في ثوب عصريّ حديث يتمشّى مع الحاجات والمشكلات العصريّة الراهنة في الشباب وغيرهم.

كما يتحتّم عليهم أن يستفيدوا في تهذيب اجتماع المجتمع من جميع الوسائل والأساليب التربويّة والعلوم الحديثة.

مسؤوليّة التعليم

تحتلّ مسألة التعليم بعد التربية مكانة مرموقة وحسّاسة في برامج ومسؤوليّات الحكومة الإسلاميّة ، لا تقل أهمّية عن المسائل الاُخرى.

وبما أنّ البحث في هذا المجال واسع النطاق مترامي الأطراف ، لا يسع لنا التعمّق فيه ، في هذه العجالة من الوقت ، لهذا نكتفي هنا بالإشارة والتلميح إلى بعض الخطوط في هذا المجال ، تاركين تفاصيلها للكتب المفصّلة المخصّصة لبيان هذا الجانب المهمّ من جوانب الإسلام الحنيف.

لقد دعا ( الإسلام ) الاُمّة الإسلاميّة دعوة أكيدة وشديدة إلى تحصيل العلم واكتسابه بكلّ وسيلة ممكنة ، ومهما كلّف ذلك من الثمن ، وتطلّب من الجهد ، قال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام : « لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللّجج » (1).

وينطلق هذا الموقف من اهتمام الإسلام بالعلم والمعرفة ، فللعلم والمعرفة مكانة عظيمة في هذا الدين تتجلّى في خلال ما جاء حولها من الآيات والنصوص الحديثيّة ، وما

ص: 432


1- بحار الأنوار 1 : 185.

جاء حول أهل العلم ورجاله وطلاّبه من التجليل والتبجيل والاحترام والتكريم.

فقد قال سبحانه في كتابه الكريم : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( الزمر : 9 ).

وقال أيضاً : ( يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) ( المجادلة : 11 ).

ويكفي للتدليل على شدّة اهتمام الإسلام بالعلم والعلماء أنّه وردت مادّة ( العلم ) في الكتاب العزيز ما يقارب (779) مرّة (1).

وأيّ أمر أدل على هذا الاهتمام والعناية من افتتاح اللّه سبحانه وحيه لنبيّه محمّد صلی اللّه علیه و آله بذكر العلم والقلم ، فلقد ابتدأت الآيات التي نزلت على النبيّ صلی اللّه علیه و آله في مطلع البعثة الشريفة بالأمر بالقراءة ، وتحدثت عن القلم ، وتعليم الإنسان ما لم يعلم ، إشارة إلى أعظم موهبة إلهيّة بعد نعمة الخلق والإيجاد ، إذ قال تعالى : ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ( سورة العلق : 1 - 5 ).

فهذه الآيات التي نزلت في بدء الدعوة وشروع الرسالة المحمديّة كانت بمثابة الخطب الافتتاحيّة التي يفتتح بها الرؤساء والقادة عهود حكمهم ورئاستهم ويبيّنون فيها منهج سياستهم وأهمّ الخطوط في برنامجهم للمستقبل ، فكما أنّ هذه الخطب بحكم كونها ترسم السياسة المستقبليّة لذلك الرئيس - تأتي مدروسة الألفاظ ، دقيقة المعاني ، محسوبة العبارات وتكون مهمّة غاية الأهمّية لأنّها تعكس أهمّ أغراض الحاكم وأبرز اهتماماته ، يكون افتتاح الوحي الإلهيّ بذكر العلم والقراءة والقلم وهو كناية عن الكتابة دليلا - وأيّ دليل - على العناية القصوى التي يحضى بها ( العلم ) في النظام الإسلاميّ.

وأيضاً يكفي للتدليل على هذه العناية الإسلاميّة القصوى بالعلم أنّ اللّه تعالى أقسم - في كتابه الكريم - بالقلم بقوله سبحانه : ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) ( القلم : 1 ).

ص: 433


1- راجع لذلك : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم مادّة ( علم ).

وهو أمر ذو دلالة قويّة جداً وخاصّة في ذلك العصر الذي كان الاهتمام فيه بالعلم منعدماً أو كاد أن يكون كذلك (1).

على أنّ ما جاء في الأحاديث والأخبار من النصوص المتضمّنة لبيان مكانة العلم والعلماء يضاهي ما جاء في القرآن ...

وأنت - أيّها القارئ الكريم - لو راجعت الموسوعات الحديثيّة ، ترى من كثب كيف اهتمّت الأخبار والروايات بهذا الأمر اهتماماً بالغاً لا تجد له نظيراً بالنسبة إلى سائر الموضوعات ؛ ممّا يعني أنّ ( العلم ) انفرد بهذا المقام في الأحاديث واختصّ به دون غيره وإليك فيما يلي طائفة من هذه الأحاديث :

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فضلُ العلم أحبّ إلى اللّه من فضل العبادة » (2).

وقال أيضاً : « العلمُ رأس الخير كُلّه » (3).

وقال : « قليل من العلم خير من كثير من العبادة » (4).

ويروى أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله دخل ذات يوم إلى المسجد فإذا في المسجد مجلسان : مجلس يتفقّهون ، ومجلس يدعون اللّه ويسألونه فقال :

« كلا المجلسين إلى خير ، أمّا هؤلاء فيدعون اللّه ، وأمّا هؤلاء فيتعلّمون ويفقّهون الجاهل. هؤلاء أفضل ، بالتّعليم أرسلت » ، ثمّ قعد معهم (5).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « العلم أصل كلّ خير » (6).

وقال علیه السلام أيضاً : « العلم وراثة كريمة » (7).

وقال علیه السلام أيضاً : « قيمة كلّ أمرئ ما يحسنه » (8).

ص: 434


1- روى البلاذري في فتوح البلدان : 459 ، إنّ عدد من كان يحسن الكتابة في الأوس والخزرج كان قليلاً ولا يتجاوز (11) شخصاً كما كان عدد من يحسن الكتابة في مكّة قليلاً أيضاً بحيث لا يتجاوز سبعة عشر كما في الصفحة 457 من نفس الكتاب.
2- بحار الأنوار 1 : 167 ، 185 ، 169.
3- بحار الأنوار.
4- بحار الأنوار 1 : 167 ، 185 ، 169.
5- منية المريد : 13.
6- غرر الحكم : 20.
7- بحار الأنوار 1 : 167 ، 185 ، 169.
8- نهج البلاغة : قصار الكلمات ( الكلمة رقم 81 ).

وقال علیه السلام أيضاً : « العلم ضالّة المؤمن » (1).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « العلم أصل كلّ حال سنيّ ومنتهى كلّ منزلة رفيعة » (2).

وقال الإمام الباقر محمّد بن عليّ علیه السلام : « الرّوح عماد الدّين ، والعلم عماد الرّوح ، والبيان عماد العلم » (3).

إلى غير ذلك من مئات الأحاديث والأخبار الدالّة على أهمّية العلم ومكانته العليا وموضعه الأرفع في الدين الإسلاميّ.

ومن هنا أكّد الإسلام على المسلمين أن يكتسبوا العلم ويحصلوا على المعرفة فقد روي عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة » (4).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ألا إنّ اللّه يحبّ بغاة العلم » (5).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « الشّاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل اللّه » (6).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « طلب العلم فريضة على كلّ حال » (7).

وقال : « لست اُحبّ أن أرى الشّابّ منكم إلاّ غادياً في حالين : إمّا عالماً أو متعلّماً فإن لم يفعل فرّط ، فإن فرّط ضيّع ، فإن ضيّع أثم ، وإن أثم سكن النّار والّذي بعث محمّداً بالحقّ » (8).

ص: 435


1- بحار الأنوار 1 : 1. 181.
2- - بحار الأنوار 2 : 31 - 32.
3- بحار الأنوار 1 : 1. 181.
4- البحار 1 : 177 ، وربّما ورد في بعض الأحاديث ذكر المسلم دون المسلمة والمراد به هو الجنس المسلم الشامل للذكر والاُنثى مثل ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) .
5- الكافي 1 : 30.
6- روضة الواعظين : 10.
7- بصائر الدرجات : 3.
8- بحار الأنوار 1 : 170 ، الحديث 22.

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة جدّاً.

وفي الوقت نفسه أوصى العلماء وأهل العلم أن يعلّموا الناس وينشروا الثقافة والعلم والمعرفة بينهم فقد روي عن الإمام عليّ علیه السلام أنّه قال : « إنّ اللّه لم يأخذ على الجّهال عهداً بطلب العلم حتّى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال لأنّ العلم كان قبل الجهل » (1).

وعن الإمام أبي جعفر الباقر علیه السلام أنّه قال : « زكاة العلم أن تعلّمه عباد اللّه » (2).

ولقد روي أنّ الإمام عليّ لمّا كان يفرغ من الجهاد يتفرّغ لتعليم الناس (3).

ولقد اعتبر الإسلام تعليم الأولاد وتثقيفهم حقّاً واجباً من حقوق الأبناء على آبائهم فعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « من حقّ الولد على والده ثلاثة

يحسن اسمه

ويعلّمه الكتابة

ويزوّجه إذا بلغ » (4).

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام أنّه قال : « الغلام يلعب سبع سنين ويتعلّم الكتابة سبع سنين ويتعلّم الحلال والحرام سبع سنين » (5).

وقد كشف الإمام عليّ علیه السلام عن أنّ سنّ الطفولة هو أفضل فرصة لتلقّي العلم وأخذ المعرفة فقال : « وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما القي فيها من شيء قبلته » (6).

ولذلك قال علیه السلام : « علّموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم اللّه به لا تغلب عليهم المرجّئة برأيها » (7).

ص: 436


1- الكافي 1 :1. 33.
2- الكافي 1 :1. 33.
3- مستدرك الوسائل 2 : 417.
4- مكارم الأخلاق : 114.
5- وسائل الشيعة 7 : 194.
6- نهج البلاغة : الخطبة 31.
7- بحار الأنوار 2 : 16.

فلا بدّ إذن من استغلال هذه الظاهرة واغتنام الفرصة وتوجيهها الوجهة الصالحة التي تتّسم بالتوازن وحسن السلوك وحبّ الفضيلة والمعرفة.

ولقد فتح الإسلام باب تحصيل العلوم في وجه الجميع نساء ورجالاً من دون أي قيد أو شرط ، إلاّ شرطاً واحداً هو أن يتمّ هذا التحصيل في جوّ سليم عار من أي فساد أخلاقيّ أو انحراف معنويّ.

وتحقيقاً لهذا الأمر السامي وهو تعميم الثقافة والعلم حظر على المعلّمين أن يأخذوا الاُجرة - على تعليمهم بعض العلوم.

هذا بعد أن رفع مكانة المعلّم ، وكشف عن جليل مقامه ، واعتبر حقّه من أعظم الحقوق.

قال الإمام زين العابدين علیه السلام : « وأمّا حقّ سائسك بالعلم فالتّعظيم له ، والتّوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه والإقبال عليه ، والمعونة له على نفسك فيما لا غنى بك عنه من العلم بأن تفرّغ له عقلك وتحضره فهمك ، وتزكّي له قلبك وتجلي له بصرك بترك اللّذات ، ونقص الشّهوات وأن تعلم أنّك فيما ألقى إليك رسوله إلى من لقيك من أهل الجّهل فلزمك حسن التأدية عنه إليهم ولا تخنه في تأدية رسالته والقيام بها عنه إذا تقلّدتها » (1).

وروي عن الإمام أبي محمّد الحسن العسكريّ علیه السلام أنّه قال : « إنّ رجلاً جاء إلى عليّ بن الحسين برجل يزعم أنّه قاتل أبيه فاعترف فأوجب عليه القصاص ، وسأله أن يعفو عنه ليعظّم اللّه ثوابه فكأنّه لم تطب نفسه بذلك ، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام للمدّعي للدّم الوليّ المستحقّ للقصاص :

إن كنت تذكر لهذا الرّجل عليك فضلاً فهب له هذه الجناية واغفر له هذا الذّنب ».

قال : أُريد القود [ أي القصاص ] فإن أراد لحقه على أن اُصالحه على الدية

ص: 437


1- تحف العقول - رسالة الحقوق ص 260.

صالحته وعفوت عنه ... فقال عليّ بن الحسين علیه السلام : « فماذا حقّه عليك ».

قال : يا ابن رسول اللّه لقّنني توحيد اللّه ونبوّة محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإمامة عليّ والأئمّة علیهم السلام ...

فقال عليّ بن الحسين علیه السلام : « فهذا لا يفي بدم أبيك ؟

بلى واللّه يفي بدماء أهل الأرض كلّهم من الأوّلين والآخرين سوى الأنبياء والأئمّة إن قتلوا ، فإنّه لا يفي بدمائهم شيء إن يقنع منه الدية ».

قال : بلى.

قال عليّ بن الحسين علیه السلام للقاتل : « افتجعل لي ثواب تلقينك له حتّى أبذل لك الدية فتنجو من القتل » ؟.

قال : يا ابن رسول اللّه أنا محتاج إليها وأنت مستغن عنها فإنّ ذنوبي عظيمة وذنبي إلى هذا المقتول أيضاً بيني وبينه لا بيني وبين وليّه هذا.

قال عليّ بن الحسين علیه السلام : « فتستسلم للقتل أحبّ إليك من نزولك عن هذا التّلقين » ؟.

قال : بلى يا ابن رسول اللّه.

فقال عليّ بن الحسين لوليّ المقتول : « يا عبد اللّه قابل بين ذنب هذا إليك وبين تطوّله عليك ، قتل أباك ، حرمه لذّة الدنيا وحرمك التّمتع به فيها على أنّك إن صبرت وسلمت فرفيقك أبوك في الجنان ، ولقّنك الإيمان فأوجب لك به جنّة اللّه الدائمة وأنقذك من عذابه الأليم ، فإحسانه إليك أضعاف جنايته عليك ، فإمّا أن تعفو عنه جزاءً على إحسانه إليك ، لأُحدّثكما بحديث من فضل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خير لك من الدّنيا بما فيها ، وإمّا أن تأبى أن تعفو عنه حتّى أبذل لك الدية لتصالحه عليها ثمّ أخبرته بالحديث دونك فلمّا يفوتك من ذلك الحديث خير من الدّنيا بما فيها لو اعتبرت به ».

فقال الفتى : يا ابن رسول اللّه قد عفوت عنه بلا دية ولا شيء إلاّ ابتغاء وجه اللّه

ص: 438

ولمسألتك في أمره فحدّثنا يا ابن رسول اللّه بالحديث ... الخ ... » (1).

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ معلّم الخيرات يستغفر له دوابّ الأرض وحيتان البحر وكلّ ذي روح في الهواء وجميع أهل السّماء والأرض » (2).

وقال الصادق علیه السلام : « من علّم خيراً فله بمثل أجر من عمل به ».

قلت : فإن علّمه غيره أيجري ذلك ؟

قال علیه السلام : « إن علّمه النّاس كلّهم جرى له ».

قلت : فإن مات ؟ قال : « وإن مات » (3).

وعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « ما تصدّق النّاس بصدقة مثل علم ينشر ».

وعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « من علّم مسلماً مسألةً فقد ملك رقبته » فقيل يا رسول اللّه : أيبيعه ؟ قال : « لا ، ولكن يأمره وينهاه » (4).

ثمّ إنّ التاريخ الإسلاميّ مليء بالنساء العالمات اللواتي حظين بالمقام العلميّ السامي بفضل ما أتاح لهنّ الإسلام من فرصة التعليم واكتساب المعرفة ، وحتّى كان منهنّ المحدثات والراويات عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعن أهل بيته المطهّرين علیهم السلام .

فها هو ابن الأثير يذكر في كتابه طائفة منهنّ روين أحاديث عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله منهنّ :

أسماء بنت يزيد السكن الأنصاريّة ابنة عمّ معاذ بن جبل.

وأسماء بنت يزيد الأنصاريّة من بني عبد الأشهل التي روت رواية شريفة جداً عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد أن سألته عمّا يلحق بالنساء من الأجر والمثوبة من خدمة أزواجهنّ واستحسن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله سؤالها ومنطقها وأدبها.

واُميمة مولاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

واُميمة بنت رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف.

وجويريّة بنت الحارث الخزاعيّة المصطلقيّة.

ص: 439


1- بحار الأنوار 2 :1. 13 ، 17 ، 16 ، 42.
2- بحار الأنوار 2 :1. 13 ، 17 ، 16 ، 42.
3- بحار الأنوار 2 :1. 13 ، 17 ، 16 ، 42.
4- بحار الأنوار 2 :1. 13 ، 17 ، 16 ، 42.

وحواء بنت زيد السكن الأنصاريّة الأشهليّة.

وخولة بنت عبد اللّه الأنصاريّة.

وزينب بنت جحش الأسديّة.

وزينب بنت خباب بن الأرت ( ذكرها البخاريّ في من روى عن النبيّ ).

واُمّ صابر بنت نعيم بن مسعود الأشجعيّ.

وهذه نماذج من الصحابيّات والراويات التي تزخر بأسماءهنّ كتب أسماء الصحابة والرواة.

كما عقد العلاّمة المامقانيّ في كتابه الرجاليّ فصلاً خاصّاً وموسّعاً في ذكر النساء اللواتي لهنّ رواية عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله ويعتبرن من حملة الحديث فعدّ منهنّ نساء بارزات في مجالات العلم والثقافة وذات شخصيّات ومواقف نبيلة ، ومن أراد الوقوف على كامل أسمائهنّ فليراجع الجزء الثالث / الصفحة 69 - 83 من هذا الكتاب.

وها نحن نذكر هنا بعضاً منهنّ على سبيل المثال لا الحصر :

اُمّ أيمن التي شهدت مع الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء بنت النبيّ صلی اللّه علیه و آله في قضيّة فدك.

وأسماء بنت أبي بكر التي سمّاها النبيّ صلی اللّه علیه و آله بذات النطاقين إشارة لموقفها في حصار الشعب.

واُمّ حزام التي كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يكرمها ويزورها في بيتها ، ويقيل عندها ، وأخبرها بأنّها شهيدة.

واُمّ سلمة التي كانت تغزو مع رسول اللّه وروت عنه صلی اللّه علیه و آله أحاديث ، وروى عنها ابنها انس.

واُمّ سلمة التي كانت من المهاجرات إلى الحبشة.

واُمّ كلثوم التي كانت جليلة القدر فصيحة بليغة.

وثويبة مولاة أبي لهب ، وقد وقعت ضمن أسانيد الصدوق في كتاب من لا يحضره

ص: 440

الفقيه في باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم.

وحبابة بنت جعفر الأسديّة التي روت عن أمير المؤمنين علیه السلام وقالت : رأيت أمير المؤمنين في شرطة الخميس ومعه درّة يضرب بها بيّاع الجريّ والمارماهيّ ، والمزماريّ ويقول لهم : « يا بُيّاع مُسوُخ بني إسرائيل ... » إلى آخر الحديث.

وحكيمة بنت الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الجواد علیه السلام .

وحميدة البربريّة اُمّ الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر علیه السلام وهي من الثقات التقيّات ، وكان مولانا الإمام الصادق علیه السلام يرسلها مع اُمّ فروة تقضيان حقوق أهل المدينة.

وزينب بنت أبي سلمة التي كانت من أفقه نساء زمانها ، وكانت كثيرة الخير والصدقة وكانت صنّاع تعمل بيدها وتتصدّق بيدها.

وسعيدة التي وقع اسمها في إسناد الكافي فقد روى في باب النوادر من آخر كتاب النكاح عن سعيدة ... .

وغيرهنّ كثيرات لم نذكر أسماءهنّ اختصاراً وإيجازاً (1).

وقد برزت هذه النسوة وصعدن إلى تلك المرتبة من العلم والفضيلة ، وضاهين الرجال في المقام والمنزلة بفضل الإسلام.

فقد ربّى في حجره مثل هذه النساء العالمات التقيّات ذوات الشخصيّة الرشيدة والمواقف البارزة ، والصفحات البيض ، والتواريخ المشرقة في شتّى مناحي الحياة الإسلاميّة ولولا الإسلام ، وما أولاهن من المنزلة والحظوة لبقيت المرأة تعاني من ما كانت تعانيه من ظلم الجاهليّة وعسفها ، وكبتها وتحقيرها.

فقد كانت المرأة في زمن الجاهليّة محرومة من كلّ مزايا الرجال ، تحتقر كما يحتقر

ص: 441


1- من أراد الوقوف على تفصيل ذكرهنّ وأسمائهنّ فعليه أن يراجع كتاب : أعلام النساء ، بلاغات النساء ، الخيرات الحسان ، والاستيعاب ، والإصابة.

الحيوان ، وتباع وتشترى كما يشترى ويباع المتاع ، حتّى جاء الإسلام وأولاهنّ ما أولاه من الرفعة بعد الضعة ، والشرف بعد المقت والعزّة بعد الإهانة والذّل ، فتخرّج منهنّ الكاتبات والأديبات والعالمات ، والراويات ، وربّات الفكر والرأي ، وذوات الشخصيّة والشأن الكبير.

على أنّ النساء لم يحصلن على حقوقهنّ في التعليم في ظلّ الحكومة والشريعة الإسلاميّة فقط ، بل حصلن على حقوق عادلة في التسوية مع الرجال في اعتناق الدين ، واستحقاق الثواب الاُخرويّ ، والاحترام الدنيويّ ، والميراث ، والزواج وحقوق الزوجيّة ، والطلاق ، والنفقة ، والوصيّة.

وجملة القول ؛ أنّه ما وجد دين ولا شرع ولا قانون في اُمّة من الاُمم أعطى النساء ما أعطاهنّ الإسلام من الحقوق والعناية والكرامة ، في جميع المجالات الإنسانيّة.

هذا ولقد كان الإسلام أوّل من عمل على محو الاُميّة ونشر الثقافة والعلم وتعميمها في أوساط الناس فيما كانت الحكومات المعاصرة لعصر النبوّة المحمديّة - كالأجهزة الحاكمة في إيران - تحظر العلم والثقافة على طبقات الشعب وتحرم اكتسابهما إلاّ على الأُمراء وأبناء الاُمراء ، وطبقة المؤبذين ( وهم رجال الدين الزرادشتي ) (1).

وإنّ أدلّ دليل على سعي الإسلام لمحو الاُميّة قبل أي أحد هو ما فعله النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله مع أسرى بدر حيث جعل فداء بعض الأسرى الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة ، تعليم أولاد المسلمين : القراءة والكتابة.

فقد روى الحلبي في سيرته ذلك قائلاً : ( بعثت قريش في فداء الأسارى وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم ، وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألفين إلى ألف. ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة ليعلّمهم الكتابة فإذا تعلّموا كان ذلك فداء ) (2).

ص: 442


1- الشاهنامة للفردوسيّ 6 : 257 - 260.
2- السيرة الحلبيّة 2 : 204.

على أنّ المنهج الذي اختاره الإسلام هو جعل الإيمان مقروناً بالعلم ، والعلم مقروناً بالإيمان ... فالمكتفي بأحدهما كطائر يحلّق بجناح واحد ... ولذلك نرى أنّ اللّه سبحانه يقرن أحدهما بالآخر في كتابه إذ يقول : ( يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) ( المجادلة : 11 ).

وكقوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ ... ) ( الروم : 56 ).

وممّا يدلّ على ذلك ما نراه - إذا سرنا في البلاد الإسلاميّة - من بناء الجامعات إلى جنب المساجد الذي يشير بوضوح إلى عدم التفكيك بين العلم والإيمان ، وبين الدين والمعرفة في الحوزات الإسلاميّة العلميّة المبثوثة في كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ أو انعقاد الحلقات الدراسيّة في المساجد. ولقد بلغ حثّ الإسلام على اكتساب العلم والمعرفة حدّاً بليغاً حتّى أنّه حرّض على الهجرة في سبيل اكتساب العلم ، عندما حثّ على أن يخرج من كلّ فريق طائفة تسافر إلى المدينة ، ليدركوا حضرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وليتعلّموا منه ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف الإلهيّة المفيدة ثم يرجعوا إلى قومهم ... وهو أمر يدلّ ضمناً على أنّ الإسلام كان ممن أسّس بنيان الحوزات العلميّة والجامعات وهي حقيقة يدلّ عليها قوله سبحانه : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة : 122 ).

فإنّ هذه الآية وإن فسّرت بوجوه غير أنّ الأظهر في تفسير الآية ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام :

قال عبد اللّه بن المؤمن الأنصاريّ قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : إنّ قوماً يروون أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « اختلافُ اُمّتي رحمة » فقال : « صدقُوا » فقال : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال : « ليس حيثُ تذهب وذهبُوا ، إنّما أراد قول اللّه عزّ وجلّ : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين اللّه إنّما الديّن

ص: 443

واحد » (1).

وهذه الآية مضافاً إلى كونها دالّة على وجود مركز أو مراكز علميّة في زمن النبيّ يسافر إليها الأفراد ليتلقّوا فيها العلوم والمعارف اللازمة ؛ تدلّ على وجوب هذا الأمر وجوباً كفائيّاً ، ولقد استمرّ وجود هذه المراكز والحوزات العلميّة في زمن الأئمّة علیهم السلام وفي زمن الإمام الصادق خاصّة.

فقد روى أحمد بن محمّد بن عيسى وقال : خرجت إلى الكوفة في طلب الحديث فلقيت بها الحسن بن عليّ الوشا ، فسألته أن يخرج لي كتاب العلا بن رزين وأبان بن عثمان ، فأخرجهما إليّ فقلت له : أحبّ أن يجيزهما لي فقال : يرحمك اللّه وما عجلتك ، اذهب فاكتبهما واسمع من بعد ذلك ، فقال : لا آمن الحدثان ، فقال : لو علمت هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه فإنّي أدركت في هذا المسجد ( بالكوفة ) تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر ( أي الإمام الصادق علیه السلام ) (2).

وبالتالي فإنّ ما يدلّ على اهتمام الدين الإسلاميّ بانتشار العلوم والأخذ بالمعارف المتنوّعة هو ازدهار العلوم المختلفة بين المسلمين ونبوغهم المطّرد والبارز في شتّى مجالات المعرفة ، وتنوّع الكتب والمصنفات التي خلّفها المسلمون وصنّفها علماؤهم وكتّابهم ، وكانت أساساً لكثير من العلوم الحديثة.

يبقى أن نعرف أنّ الإسلام لا يطرح صيغة خاصّة لمنهج التعليم ، وقد سبق أن قلنا : إنّ خاتمية الدين الإسلاميّ تقتضي أن يبيّن الإسلام الجوهر واللب ، وأمّا الصور والأشكال فمتروكة للأجيال والعصور ، ومقتضياتها فلا مانع من أن يستفيد المسلمون من أي منهج تعليميّ ، وأن يستخدموا أي جهاز يضمن تعميم العلم كالتلفزيون والمذياع شريطة الحفاظ على خلق المجتمع ، وقيمه الإسلاميّة العليا. فإنّ الإسلام يخالف كلّ علم يتنافى مع سعادة البشر ويهدّد استقراره.

ص: 444


1- نور الثقلين 2 : 238.
2- رجال النجاشيّ : 28 وتنقيح المقال للمامقانيّ 1 : 294.

هذا ولعلّك تعجب إذا علمت أنّ تحصيل العلم في الفنون المختلفة من الطبّ والاقتصاد والحقوق السياسيّة والصنائع المتنوّعة فريضة إسلاميّة يجب على الجميع تعلّمه على نحو الواجب الكفائيّ لكي ترتفع حاجة المسلمين إلى غيرهم ، ويأمنوا بذلك من تدخّل الأجانب في شؤونهم ، بل الأعجب من ذلك أنّ التحصيل في بعض الشؤون واجب عينيّ وذلك فيما يتعلّق بمعرفة الأحكام الدينيّة من أحكام العبادات والمعاملات كما حقّق في موضعه (1) ، ولأجل ذلك وجب على الحكومة الإسلاميّة أن تخصّص قسماً كبيراً من ميزانيّتها لتأسيس الجامعات الدينيّة ، والعلميّة وتهيئة ظروف التعليم والتعلّم حتّى يتسنّى لأبناء الاُمّة تحصيل المعرفة في أي مجال مفيد ، وضروريّ لحياة الاُمّة. فإنّ جميع ما سقناه إليك من أدلّة حاثّة على طلب العلم ، وإنّ ما وصل إليه المسلمون القدامى من أزدهار ، وتقدّم عظيم ، في العلوم يستدعيان أن تكون الحكومة الإسلاميّة هي التي تتولّى تهيئة أجواء العلم والتعلّم والتعليم ، وإلاّ فكيف يمكن أن يتحقّق ذلك الازدهار ويتحقّق هذا الهدف العظيم ، والأمر خارج عن نطاق الأفراد بل هو ميسّر للحكومة وإمكانيّاتها ، ولوجوب أن تقتدي هذه الحكومة بسيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله حيث تولّى بنفسه تهيئة أجواء التعليم والتعلّم لأبناء المدينة كما مرّ عليك في قصّة أسرى بدر.

الإسلام والعلوم الطبيعيّة

ثمّ انّه لم يكن تأكيد الإسلام على تحصيل العلم ليختصّ بعلم دون علم وبباب دون آخر ، وإن كان التأكيد على اكتساب الفقه والعلم بأحكام الدين أشدّ ، وأكثر.

فالعلم بأحكام الدين واُصوله وفروعه ، أو العلم بما يجري في الطبيعة من السنن والقوانين وكشف غوامض الحياة ومعضلاتها واختراع ما يكون مفيداً للحياة البشريّة ممّا دعا إليه الإسلام من غير فرق بين علم وعلم. ولذلك أمر سبحانه في الكثير من الآيات القرآنيّة بالتدبّر في الكون والسنن الحاكمة فيه ، كما هو غير خفيّ على من له إلمام بالكتاب

ص: 445


1- راجع فرائد الشيخ الأنصاريّ : 300 - 301.

الكريم.

وتقسيم العلوم إلى دينيّة وغير دينيّة ( أو قديمة وحديثة ) مجرّد اصطلاح وإلاّ فكلّ علم نافع ناجع قد دعا إليه الدين وأمر به الكتاب ، وأخذ به المسلمون ، وما يعدّ علوماً حديثة فلها جذور في القديم وإنّما حدث التطوّر والتكامل حسب مرور الزمان شأن كلّ ظاهرة وعلم.

ولأجل ذلك نرى أنّ المسلمين اهتمّوا - منذ بزوغ الإسلام - بمختلف العلوم والمعارف ، وبرعوا فيها ، وكانوا لكثير منها مكتشفين ، وكان منهم المخترعون ، والمبدعون.

وقد اعترف بذلك كثير من علماء الغرب والشرق ، وأقرّوا للمسلمين به ، وبيّنوا جهود المسلمين في هذا المضمار ، وعدّوهم آباء العلم الحديث في كثير من المجالات والأصعدة.

ونحن هنا نشير إلى طائفة ممّن كان لهم من المسلمين اكتشافات علميّة :

1. جابر بن حيّان ، تلميذ الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام كان من أشهر علماء الكيمياء. هذا وللرازي وأبو ريحان البيرونيّ بحوث شيّقة وهامّة في الكيمياء أيضاً.

2. يعقوب ابن إسحاق الكندي ؛ له 15 كتاباً في معرفة أحوال الجوّ.

3. الحسن بن الهيثم ؛ المتولّد عام 304 ألّف كتباً عديدة في الضوء وخواصّ المرايا المقعّرة والمحدّبة والمنكسرة.

4. محمد بن إبراهيم الفزاري ، والحجاج بن يوسف بن مطر ؛ لهما ولغيرهما من المسلمين جهود علميّة كبرى في الرياضيّات.

5. الخواجا نصير الدين الطوسيّ ، وأبو معشر البلخيّ ، يعود إليهما الكثير من الاختراعات والاكتشافات في علم الهيئة والفلك.

6. محمّد بن زكريّا الرازي ، وأبو عليّ بن سينا ، وابن رشد الأندلسيّ يعود إليهما

ص: 446

الكثير من الأبحاث الطبيّة ، ومسائل العلاجات والأدوية.

7. الكندي والدميريّ والقزوينيّ وابن بطوطة وابن خلدون ؛ ممّن لهم كتب ومؤلّفات واسعة في علم الأحياء ، والجغرافيه ، وغيرهما من العلوم والمعارف ، وغيرهم ممّن لا يمكن إحصاء أسمائهم لكثرتهم وكثرة مؤلّفاتهم.

ويكفي دلالة على تشجيع الإسلام للصناعة ما قاله الإمام الصادق علیه السلام في حديث مفصّل : « كلّ ما يتعلّم العبادُ أو يُعلّمون غيرهُم من صُنوف الصناعات مثل الكتابة والحساب والنّجارة والصّياغة والسّراجة والبناء والحياكة والقُصارة والخياطة وصُنعة صنوف التصاوير ما لم يكُن مثل الرّوحانيّ وأنواع صنوف الآلات التي يحتاجُ إليها العبادُ التي منها منافعهُم وبها قوامُهم وفيها بُلغةُ جميع حوائجهم فحلال فعلهُ ، وتعليمهُ والعملُ به وفيه لنفسه أو لغيره » (1).

ثمّ انّ عناية الإسلام بالكتابة وتقييد العلم بواسطتها يعتبر من أبرز الأدلّة على تبنيّ الإسلام للعلم وحرصه عليه فقد كان الإسلام أوّل من روّج الكتابة وحثّ على تعلّمها ، وكان ذلك الموقف من الكتابة والتدوين هو السبب الرئيسيّ في كتابة المؤلّفات وتأليف الكتب العديدة الذي كان - بدوره - خير وسيلة لأحياء العلم ، والابقاء عليه فقد روي أنّه كتب الشيعة وحدهم ما يقارب (10) آلاف كتاب خلال عهد الإمامين الباقرين خاصّة (2).

ولقد وردت أحاديث كثير في هذا الصدد يضيق المجال بذكرها في هذه العجالة ولكنّنا ندرج هنا بعضها على سبيل المثال :

عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « قيّدُوا العلم بالكتابة » (3).

ص: 447


1- تحف العقول : 246.
2- المراجعات : 337 المراجعة (110).
3- تحف العقول كما في الذريعة 1 : 6 ، المستدرك للحاكم 1 : 106 ، كنز العمال 5 : 277 ، البيان والتبيين 1 : 161.

وعن عبد اللّه بن عمر قال قلت لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أقيّد العلم ؟ قال : « نعم » ، قيل وما تقييده ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : « كتابتُهُ » (1).

وعن أبي بصير قال دخلت على أبي عبد اللّه ( الصادق ) فقال : « ما يمنعُكُم من الكتابة ، إنّكُم لن تحفظُوا حتّى تكتبُوا » (2).

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا مات ابنُ آدم انقطع عملهُ إلاّ من ثلاث :

صدقة جارية ، أو علم ينتفعُ به أو ولد صالح يستغفُر لهُ » (3).

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « المُؤمنُ إذا مات وترك ورقةً واحدةً عليها علم تكُونُ تلك الورقةُ سُتراً فيما بينهُ وبين النّار وأعطاهُ اللّه بكُلّ حرف مكتُوب عليها مدينةً في الجنّة » (4).

وعنه علیه السلام أيضاً أنّه قال : « احتفظُوا بكُتبكُم فسوف تحتاجُون إليها » (5).

وقال علیه السلام : « القلبُ يتّكلُ على الكتابة »(6) .

وقال علیه السلام : « اُكتُب وبُث علمك في إخوانك فإن متّ فأورث كُتُبك بنيك فإنّهُ يأتي على النّاس زمان هرج ما يأنسُون إلاّ بكُتُبهم »(7) .

وعن الإمام الحسن علیه السلام أنّه دعا بنيه وبني أخيه فقال : « إنّكُم صغار قوم ويُوشكُ أن تكُونُوا كبار قوم آخرين فتعلّمُوا العلم فمن لم يستطع منكُم أن يحفظهُ فليكتُبهُ وليضعهُ في بيته » (8).

هذا وللإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام تعاليم لطيفة في مجال الكتابة وتحسين الخطّ ... فقد قال لكاتبه عبيد اللّه بن أبي رافع : « ألق دواتك ، وأطل جلفة (9) قلمك ،

ص: 448


1- راجع الذريعة 1 : 6 ، التاج 1 : 61.
2- مشكاة الأنوار للطبرسيّ : 142 ، وروي في الكافي 1 : 52 بهذه الصورة : « اكتُبُوا فإنّكُم لا تحفظُون حتّى تكتبُوا ».
3- رواه الخمسة إلاّ البخاريّ ، راجع التاج 1 : 66.
4- أوثق الوسائل : المقدّمة.
5- الكافي 1 : 52.
6- الكافي 1 : 52.
7- الكافي 1 : 52.
8- بحار الأنوار 2 : 152.
9- الجلفة ما بين مبراه وسنته.

وفرّج بين السّطُور وقرمط (1) بين الحُرُوف ، فإنّ ذلك أجدرُ بصباحة الخطّ » (2).

كما روي عنه علیه السلام قوله : « الخطّ الحسن يزيد الحقّ وضوحاً » (3).

هكذا حثّ الإسلام على الكتابة حثّا بليغاً ، وأكيداً ، وكفى في ذلك أنّ اللّه تعالى أقسم بالقلم باعتباره وسيلة فعّالة لنقل المعرفة وتدوينها ، وإبقائها.

بحث وتنقيب

ولعلّك تقول : لو حثّ الإسلام مثل هذا الحثّ على الكتابة والتدوين فلماذا نهى الخليفة الثاني عن كتابة الحديث في حين كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يحثّ أصحابه على كتابة ما يسمعونه منه. فقد أخرج صاحب غوالي اللئالي عن عمر بن شعيب عن أبيه وجدّه قال قلت : يا رسول اللّه أكتب كلّ ما أسمع منك ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : « نعم » ، قال : قلت في الرضا والغضب ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : « نعم فإنّي لا أقول في ذلك كلّه إلاّ الحقّ » (4).

وقد أملى صلی اللّه علیه و آله كتباً في الشرائع والأحكام كان قد جهّز بها رسله وعمّاله في الأقطار المفتوحة وقد احتفظ بها المسلمون وأوردها أصحاب السير والمعاجم وأهل الحديث والتفسير في كتبهم وهذه الصحف تعرب قبل كلّ شيء عن عناية الرسول بحفظ علوم الرسالة وذخائر النبوّة وأحكام الدين ودساتيره ليستفيد منها القريب ويرجع إليها النائي.

وقد تواتر عن الفريقين أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قبض وفي قراب سيفه أو ذؤابة سيفه كتاب أو كتابان (5).

ص: 449


1- القرمطة بين الحروف ، المقاربة بينها وتضييق فواصلها.
2- نهج البلاغة : قصار الكلم ( الرقم 315 ).
3- حديث مشهور.
4- راجع الذريعة 1 : 6 ، التاج 1 : 61.
5- صرّح بذلك إمام الحنابلة في مواضع من مسنده راجع المسند 1 : 81 ، 100 ، 119 ، 126 ، 132 ، صحيح مسلم 4 : 217 ، السنن الكبرى 8 : 30.

وقد اعتمد على هذا الكتاب أئمّة أهل الحديث في مختلف الأبواب والأحكام واكثر النقل عنه المحدّث الحرّ العامليّ في جامعه الكبير وينهي إسناده إلى أئمّة أهل البيت (1).

قال ابن عمر : إنّ قريشاً قالت : إنّك تكتب عن رسول اللّه وهو بشر يغضب يعنون به أنّه يقول عند الغضب باطلاً ، فعرضت كلامهم على رسول اللّه قال : « اكتب فإنّي لا أقُولُ إلاّ حقّاً » أو أشار إلى شفتيه وقال : « لا يخرُجُ منهُما إلاّ الحقّ اكتُب »(2).

وقد أملى رسول اللّه كثيراً من الأحكام على ( علي ) فدوّن أمالي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حياته ، واشتهر بكتاب عليّ ، وقد روى عنه البخاريّ في صحيحه في باب كتابة الحديث وباب « إثم من تبرّأ من مواليه ».

وقد أكثر عنه النقل الإمامان الباقر والصادق علیهماالسلام ورآه كثير من أصحابهما كزرارة بن اُعين ومحمد بن مسلم وأبي بصير ونظرائهم.

وأخرج الشيخ أو العباس النجاشي ( المتوفّى عام 450 ) في ترجمة « محمّد بن عذافر » عن عذار الصيرفيّ قال : كنت مع الحكم بن عيينة ، عند أبي جعفر محمّد بن علي الباقر علیه السلام فجعل يسأله وكان أبو جعفر له مكرهاً فاختلفا في شيء ، فقال أبو جعفر : « يا بنيّ قم فأخرج كتاب عليّ » فاخرج كتاباً مدرجاً عظيماً ، ففتح وجعل ينظر حتى أخرج المسألة ، فقال أبو جعفر : « هذا خطّ عليّ وإملاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأقبل على الحكم وقال : « يا أبا محمّد : إذهب وسلمة والمقداد حيث شئتم يميناً وشمالاً ، فواللّه لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرائيل » (3).

والحديث عمّا كتبه عليّ علیه السلام كثير ، وأخرج المشايخ والمحمّدون الثلاثة روايات جمّة عنه ينتهون بإسنادها إلى أئمة الحديث مبثوثة في كتب الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والتجارة والوصايا والطلاق والنكاح

ص: 450


1- راجع وسائل الشيعة كتاب القصاص.
2- مستدرك الحاكم 1 : 4.
3- فهرست النجاشيّ : 255 ( طبعة الهند ).

والأطعمة والأشربة والحدود والقصاص والديات والقضاء والأيمان والصيد والميراث وإحياء الموات (1).

ثمّ إنّ الشيعة في الصدر الأوّل اقتفوا أثر إمامهم في الكتابة والتأليف فاهتمّوا بجمع أحاديث الأحكام والفرائض والقضايا وأخبار المغازي ، وتراجم الرجال وقد جمع أسماءهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ في أوّل رجاله.

ثمّ الذين نشأوا بعد الطبقة الاُولى نهجوا منهاج سلفهم ، حذو القذّة بالقذّة في كلّ قرن وجيل ؛ رغم ما كانت تواجههم من الظروف القاسية والكوارث الداهمة ورغم ما كانوا يعانون من السلطات الغاشمة ...

فإنّ الشيعة رغم كلّ تلك المصاعب ألّفوا كتباً ثمينة جمعوا فيها شذرات الحديث وشوارد السير واُصول الأخلاق ، ونهضوا بهذه المهمّة بعزم راسخ لا يعرف الكلل والملل مثابرين على العمل ، ومعانين في طريق هدفهم كثيراً من الأذى حفاظاً على حياض الشريعة الإسلاميّة وصوناً لكنوزها ، وبثّاً لتعاليم الحنيفيّة البيضاء.

وقد ترجم الشيخ أبو العباس النجاشيّ صاحب الفهرست المعروف في صدر كتابه بعض رجال الشيعة ممّن يعدّون من المؤلّفين في الطبقة الاُولى.

ودونك أسماء عدّة منهم من الذين ذكرهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ بهذا العنوان في أوّل فهرسته :

1. أبو رافع ؛ مولى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصاحب بيت مال أمير المؤمنين عليّ علیه السلام صنف كتاب السنن والأحكام والقضايا.

2. عبيد اللّه بن أبي رافع ؛ كاتب أمير المؤمنين وأوّل من ألّف في الرجال ، ترجم من أصحاب الرسول صلی اللّه علیه و آله من شهد منهم حروب أمير المؤمنين علیه السلام الجمل وصفين.

ص: 451


1- راجع وسائل الشيعة في هذه الكتب وقد جمع العلاّمة الشيخ الأحمديّ في كتابه القيّم « مكاتيب الرسول » 1 : 82 - 88 ما بثّه صاحب الوسائل في جامعه على نسق الكتب الفقهيّة.

3. عليّ بن أبي رافع ؛ كاتب أمير المؤمنين علیه السلام صنف كتاباً في فنون من الفقه : الوضوء والصلاة وسائر الأبواب.

4. ربيعة بن سميع ؛ صنّف كتاب زكاة النعم على ما سمعه عن أمير المؤمنين علیه السلام في صدقات النعم وما يؤخذ من ذلك.

5. أبو صادق سليم بن قيس الهلالي ؛ صاحب أمير المؤمنين ألّف أصله المعروف المطبوع.

6. الأصبغ بن نباتة المجاشعيّ ، من خيار أصحاب أمير المؤمنين ومن شرطة الخميس له كتاب عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر النخعيّ ووصيّته إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة.

7. أبو عبد اللّه سلمان الفارسي ؛ له كتاب ( خبر جاثليق ) وقد أملى الخطبة الطويلة والاحتجاجات.

8. أبو ذرّ الغفاري ؛ له كتاب وصايا النبيّ وشرحه العلاّمة المجلسي وأسماه عين الحياة.

هذا حال الطبقة الاُولى منهم وأمّا الذين أتوا بعدهم فالرواة منهم المعاصرون للأئمّة الهداة في مجموع القرنين منذ قبض الإمام أمير المؤمنين علیه السلام إلى عصر العسكري علیه السلام لم يؤثر عنهم فتور في تدوين العلوم وضبط الحديث ، وجمع قواعد الفقه وتنسيق طبقات الرجال وضمّ حلقات التفسير وإتقان مباني واُسس الكلام إلى غير ذلك.

كلّ ذلك يشهد على مبلغ اهتمامهم بتلقّي أنواع المعارف والعلوم من معادنها في السرّ والعلانية ، وتغنينا عن إفاضة القول وسرد الشواهد ، الفهارس المؤلّفة لكتب الشيعة في القرون الإسلاميّة الغابرة ولا سيّما ما ألّفه العلاّمة المتتبّع المغفور له الشيخ أغا بزرگ الطهرانيّ في أثره الخالد ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) المطبوع في خمسة وعشرين جزء.

ص: 452

وأظنّ أنّ الموضوع لا يحتاج إلى أن نتوسّع فيه أكثر من ذلك ... وهذا كتاب اللّه سبحانه يحثّ في أطول آيات كتابه (1) على كتابة ما يتوصّل بها إلى حفظ عرض دنيويّ زائل ومتاع مندثر ، أفلا يجوز لنا من هذا الحثّ الأكيد استنباط لزوم الاهتمام بما ننال به المقاصد العالية ويفوز الإنسان به بالسعادة الخالدة ؟

حول الحديث الموضوع

وبعد ذلك كله لا اعتبار بما نسبوه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من أنّه قال : « لا تكتبوا عنّي شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنّي غير القرآن فليمحه » (2) أو أنّه لم يأذن بكتابة الحديث على ما رواه الترمذيّ عن أبي سعد قال : استأذنا النبيّ في الكتابة فلم يأذن لنا (3).

وأغرب منه ما رواه الحاكم بسنده عن عائشة قالت : جمع أبي الحديث عن رسول اللّه فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلّب ، قالت فغمّني كثيراً ، فقلت يتقلّب لشكوى أو لشيء بلغه ، فلّما أصبح قال : أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك ! فجئته بها فأحرقها ، وقال خشيت أن أمُوت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدّثني فأكون قد تقلّدت ذلك (4).

وأظنّ أنّ ما اُلصق برسول اللّه من مختلقات الحديث وضعها القائل أو القائلون لأغراض وغايات سياسيّة وأظنّ أنّ الذي دفع الوضّاعين إلى إعزاء ما اختلقوه إلى رسول اللّه أحد أمرين أو كليهما :

إمّا لأنّ المعتمد في كتابة أحاديث الرسول آنذاك كان هو الإمام عليّ علیه السلام دون سائر الصحابة ، وكان ذلك يعدّ فضيلة رابية للإمام ، فحاول أعداؤه ومناوؤه طمسها فاختلقوا ما اختلقوا لكي يصبح عمل الإمام في استقلاله بالتدوين ، أو تبرّزه في هذا الباب عملاً غير مشروع.

ص: 453


1- سورة البقرة 2 : الآية (282) آية الدين.
2- رواه الدارميّ في مقدّمة سننه.
3- صحيح الترمذيّ 2 : 91 ( طبعة الهند ).
4- جمع الجوامع للسيوطيّ 2 : 147.

وإمّا لأنّ تلك الأحاديث فيها الكثير ممّا قاله النبيّ صلی اللّه علیه و آله في فضل عليّ علیه السلام وعظم شأنه ، فلو سوّغت كتابة الأحاديث وأحاط بها الناس علماً وتناقلها المسلمون في شتّى الأقطار ، لأدّت إلى ظهور الإمام علیه السلام على سائر الصحابة ، وكونه الأحقّ في تسنّم منصب الخلافة بعد الرسول وفي ذلك ما فيه من الخطر على من تسنّموا عرشها بغير حقّ وبغير دليل.

فلو كان كتابة الحديث وضبطه في الصحائف والجلود أمراً مرغوباً عنه فلماذا أملى النبيّ بنفسه كتباً في الشرائع والأحكام وجهّز بها رسله وعماله في الأقطار المفتوحة.

ولو كان نهي النبيّ بمرأى ومسمع من أصحابه وأنصاره ، فلماذا استفتى عمر أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذلك فأشاروا عليه أن يكتب فطفق عمر يستخير اللّه شهراً ثمّ أصبح يوماً وقد عزم اللّه له فقال : إنّي كنت اُريد أن أكتب السنن وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب اللّه وإنّي واللّه لا أشوب كتاب اللّه بشيء أبداً ولا اُلبس كتاب اللّه بشيء أبداً (1).

والعذر الذي جاء به الخليفة في كلامه يشبه ما في كلام بعضهم في تفسير نهي النبيّ عن الكتابة من أنّ نهيه صلی اللّه علیه و آله عن كتابة الحديث كان لخوفه صلی اللّه علیه و آله من اختلاط الحديث بالقرآن.

ولا يخفى ما فيه من الخبط والخطأ فإنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه إذ معنى ما ذكره هو إبطال معجزة القرآن وهدم اُصولها من القواعد ، وإنّ معنى ذلك كون بلاغة القرآن والحديث والخطب المرويّة من باب واحد هو باطل ، واللّه سبحانه يقول : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء : 88 ).

وقد حقّق في محلّه أنّ القرآن وحي بلفظه ومعناه ، لا يشبه كلام الإنسان من حيث

ص: 454


1- رواه الكاتب المتتبع المعاصر أبو ريّه عن الحافظ بن عبد ربه والبيهقي في أضواء على السنّة المحمديّة ص 43.

الصياغة والانسجام ، والحديث وحي بمعناه دون لفظه ، فهو من جهة اللفظ والصياغة كلام بشريّ يمكن مباراته.

وهناك عذر آخر لا يقلّ في الوهن والضعف عن الأوّل جاء به بعض المعاصرين قال : يمكن أن تكون حكمة النهي عن كتابة الحديث هو أن لا تكثر أوامر التشريع ، ولا تتّسع أدلّة الأحكام وهو ما كان يتحاشاه صلی اللّه علیه و آله حتّى كان يكره كثرة السؤال ، أو يكون من أحاديث في اُمور خاصّة بوقتها بحيث لا يصح الاستمرار في العمل بها. ونحن لا نعلّق عليها إلاّ شيئاً طفيفاً إذ القارئ الكريم أعرف بحالها ، إذ أي صلة بين كتابة حديث نافع وسنّة متّبعة تتّصل بحياة المسلمين الفرديّة والاجتماعيّة وتحتلّ مكاناً سامياً في استنباط كثير من الأحكام التي كانوا يواجهونها بعد عصر الرسالة عندما توسّعت الحكومة الإسلاميّة وتلوّنت حياتهم بألوان حضارة جديدة ، ولم يكن لهم بها عهد في عصر النبيّ صلی اللّه علیه و آله وبين كثرة السؤال عن أشياء لا تهمّ السائل معرفتها.

على أنّ ما اعتذر به الكاتب في تصحيح النهي عن تدوين السنّة يستدعي النهي عن كتابة القرآن وهما في المقام سواسية ، لأنّ عمق معاني القرآن وغزارة مقاصده تؤدّي بالباحث إلى كثرة التساؤل واتّساع أدلّة الأحكام وتكثر أوامر التشريع ، وبالتالي يستلزم تسلسل الأسئلة.

ولا يتردّد المحقّق الباحث في أنّ ما عزوه إلى النبيّ من مخاريق الأوهام الباطلة التي نحتوها لأغراض سياسيّة ، لتصحيح فعل الخليفة ونهيه عن كتابة الحديث وسنّة النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

وما ارتكبه الخليفة عثرة لا تقال ، فاللّه يعلم كم خسر الإسلام والمسلمون من جرّائها لولا أن تدارك الخسران العظيم عمر بن عبد العزيز فكتب من الشام إلى أبي بكر ابن حزم وهو من كبار المحدّثين بالمدينة : انظر من حديث رسول اللّه فاكتبه ، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء (1).

ص: 455


1- صحيح البخاريّ 1 : 27 كتاب العلم.

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

2

الحكومة الإسلاميّة والحقوق الفرديّة والاجتماعيّة
حاجة المجتمعات إلى الحقوق

بما أنّ الإنسان بطبيعته ذو تطلّعات وحاجات تزداد بتوسّع التمدّن وتقدّم الحضارة ، وبما أنّ الحياة الاجتماعيّة لا تنفكّ عن إقامة العلاقات والروابط بين أبناء البشريّة ، وبما أنّ وصول الأفراد إلى تطلّعاتهم وحاجاتهم لا ينفكّ عن التزاحم والتصادم والاختلاف والتشاجر ، كان لا بدّ من حلّ هذا الاختلاف والتنازع ، ووضع العلاقات الاجتماعيّة في الإطار الصحيح.

وقد كان هذا الحلّ يتمّ - في العصور السابقة - بالقوّة ، وقدرة السلاح وكان المنطق الحاكم هو ( الحقّ لمن غلب ) ، غير أنّ تقدّم البشريّة في مدارج التربية أوجد لديها فكرة التنظيم وحلّ الاختلافات بين أفراد البشر بغير وسيلة القوّة ، والسلاح ، ومن هنا تكوّن ما يسمّى بعلم الحقوق ، فعلم الحقوق عبارة عن الاُصول والقواعد التي تنظّم علاقات الأفراد ، والتي يجب أن تسود المجتمعات حتماً ، ولا يتخلّف عنها أحد أبداً.

ص: 456

وبعبارة اُخرى ؛ إنّ الحقوق عبارة عن ( مجموع القواعد والقوانين المقرّرة لحفظ الأفراد وترقية المجتمع البشريّ ، وعلى ذلك ينطبق علم الحقوق على قسم من الفقه الإسلاميّ ، ويكون شعبة من الفقه ).

ولقد كان الفقه الإسلاميّ القانون الوحيد الحافظ لحقوق الأفراد والجماعات في الشرق الإسلاميّ إلى أوائل القرن الرابع عشر حتّى أن قامت الثورات الشعبية (؟) وأسّست مجالس الاُمّة ، وسنّت القوانين الجديدة ، وتركت القوانين الإسلاميّة جانباً وقد خسر المسلمون ، بالعدول عن القوانين الإسلاميّة إلى تلك القوانين البشريّة المقتبسة من الغرب ، خسر المسلمون - بسبب ذلك - العدل والرحمة ، والإنسانيّة والاستقرار والدقّة.

تقسيمات الحقوق
اشارة

لقد قسّم علماء الحقوق القوانين والحقوق (1) إلى :

أ - داخليّة ؛ تختصّ بالعلاقات المتقابلة بين أفراد الاُمّة الواحدة.

ب - خارجيّة ؛ تختص بالعلاقات المتقابلة بين الاُمم والدول المختلفة.

وكلّ من الداخليّة والخارجيّة ينقسمان إلى خاصّة ، وعامّة ، وإليك فيما يأتي تفصيل هذه التقسيمات إجمالاً :

أ - الحقوق الداخليّة

والعامّة منها تنقسم إلى ثلاث شعب هي :

الاُولى / القانون الأساسيّ الذي يقوم في إطاره كلّ الروابط والعلاقات بين الأفراد ، وتقوم كلّ التشكيلات الحاكمة على حياة الاُمّة ... فهو بمثابة ( الاُسس الكليّة لأي

ص: 457


1- ليس المراد بالحقوق - هنا - هو المعنى الخاصّ له ، بل هو مطلق القوانين ولذلك يكون الحقوق بمعناه الخاصّ المصطلح فقهياً جزءاً من هذا البحث.

نظام ).

الثانية / القوانين المختصّة بالدوائر الحكوميّة وحدود وظائفها ، وما يحدّد علاقات الأفراد ( موظّفين ومراجعين ) بها.

الثالثة / الحقوق والقوانين الجزائيّة التي يتميّز بها المعتدي عن غير المعتدي والمجرم عن غير المجرم ، وتكون مانعة للأفراد عن الأعمال والتصرّفات المخلّة بالنظام.

وأمّا الخاصّة فهي تنقسم أيضاً إلى ثلاث شعب هي :

الاُولى / الحقوق المدنيّة وهي المتعلّقة بالأفراد في إطار العلاقات العائليّة والتي تسمّى الآن بالأحوال الشخصيّة ، كالنكاح والطلاق والميراث وما شابه.

الثانية / القوانين والمسائل المرتبطة بالقضاء التي يستطيع الأفراد بالتوسّل بها أن يستوفوا حقوقهم الضائعة.

الثالثة / القوانين المتعلّقة بالعلاقات والمبادلات التجاريّة.

ب - الحقوق الخارجيّة ( الدوليّة )

والعامّة منها هي التي تبيّن وترسم كيفية علاقات الدول مع الدول ، والحكومات مع الحكومات ، ويندرج في ذلك المعاهدات وغيرها ممّا يدور بين الدول.

والخاصّة ، هي التي ترتبط بعلاقة الدولة أو أفراد الشعب مع أتباع دولة اُخرى.

هذه هي ثمانية أنواع من القوانين والحقوق حسب التقسيم الحديث.

الإسلام والحقوق

لقد حظيت الحقوق - في الفقه الإسلاميّ - بأفضل مكانة في تشريعاته وتعاليمه بل إنّ الحقوق التي رسمها الإسلام وبيّنها على لسان القرآن أو السنّة الشريفة تعتبر من أدقّ ، وأمتن الحقوق ، وأكثرها إنسانيّة ورحمة وعقلانيّة. غير أنّ هناك - مضافاً إلى ذلك - خصائص تمتاز بها الحقوق الإسلاميّة عن الحقوق التي تطرحها القوانين البشريّة

ص: 458

الوضعيّة هي :

أوّلاً : انّ الحقوق والقوانين التي جاء بها الإسلام تستمدّ اُصولها ، وجزئياتها من ( الوحي الإلهيّ ) ، ولذلك فهي لا تقبل التغيير والتبديل ، ولكنّ الحقوق التي طرحتها الأنظمة البشريّة فحيث أنّها تنبع من العلم البشريّ المحدود فهي تتعرّض دائماً للتغيير ... والتطوير لضيق آفاق العقل البشريّ.

ثانياً : أنّ الحقوق في الإسلام حيث تكون تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ونابعة من الملاكات الحقيقيّة فإنّها لا تخضع لأيّ زيادة أو نقصان وأيّ تطوير وتحوير ، لانّها تقوم على أساس الواقع الإنسانيّ الثابت ، والفطرة الحقيقيّة التي لا تتغيّر ، والمصالح والمفاسد الموجودة في أفعال الإنسان وأعماله ، ولكنّ الحقوق التي عرضتها الأنظمة والقوانين الوضعيّة حيث تنبع من الأهواء والميول والرغبات الفرديّة أو الجماعيّة فإنّها كثيراً ما تنالها أيدي التطوير والحذف لما يظهر فيها من عجز وضعف.

نعم إنّ القوانين والحقوق الإسلاميّة وإن كان بعضها يتغيّر شكلاً وإطاراً لكنّها لا تتغيّر جوهراً ومضموناً ، ولقد أشبعنا القول في هذا الأمر في بحث الخاتميّة (1).

ثالثاً : إنّ القوانين الإسلاميّة حيث تكون صادرة من مصدر ربّانيّ وتكون موجّهة إلى مؤمنين معتقدين بشرائعه ووعوده ومواعيده تتمتّع طبعاً وبالذات بخاصّية الانقياد النفسيّ والخضوع الكامل والطاعة التامّة لها.

وحيث تكون القوانين الوضعيّة البشريّة صادرة من الأدمغة البشريّة لا يجد الإنسان أي دافع ذاتيّ إلى التقيّد بها وتطبيق العمل عليها إلاّ بدافع الإكراه وتحت طائلة القانون ، وخوفاً من سلطات الدولة.

ولا يخفى على أي ذي لبّ رجحان الأوّل على الثاني في ميزان الحياة.

ثمّ إنّ اُمّهات هذه التقسيمات الحديثة الثمانية من القوانين والحقوق موجودة

ص: 459


1- راجع هذا البحث في الجزء الثالث من المجموعة القرآنيّة التي تفسير الآيات تفسيراً موضوعياً وفي ضوء القرآن.

بمغزاها في التشريع الإسلاميّ وإن لم تكن تحت العناوين والتسميات الحديثة فالقانون الأساسيّ في الإسلام هو عبارة عن الأحكام والاُصول الكليّة الموجودة في الكتاب والسنّة غير المتغيّرة عبر الزمان والمكان ، والتي يجب أن يقوم عليها كلّ تخطيط وتنظيم لحياة المسلمين في جميع المجالات.

أمّا النظام الإداريّ ( وهو القسم الثاني من الحقوق الداخليّة العامّة ) فتجدها مذكورة بتوسّع وتفصيل في كتب الفقه وقد أخذها فقهاء الإسلام من سيرة النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله وسنّته الشريفة ، وسيرة الإمام عليّ وكلماته علیه السلام وغيرهما في المجال الإداريّ والتدبير الحكوميّ ، ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على الكثير منها في الكتابين التاليين :

1. الراعي والرعيّة للفكيكيّ.

2. نظام الحكم والإدارة في الإسلام للقرشيّ وغيرهما.

وأمّا الحقوق والقوانين الجزائيّة فقد ألّف فيها علماء الإسلام المطوّلات والمختصرات التي تحتوي على تفصيلاتها وجزئيّاتها فلاحظ كتب الحدود والقصاص والديات ... هذا كلّه في مجال الحقوق والقوانين الداخليّة العامّة.

وأمّا الداخليّة الخاصّة الراجعة إلى العلاقات العائليّة والشخصيّة فقد بسط فيها الفقهاء القول تحت عنوان « الأحوال الشخصيّة » والمذكورة - قديماً - تحت عناوين النكاح والطلاق والميراث والوصايا وما شابهها.

وأمّا ما يرجع إلى القضاء فقد بحث عنها الفقهاء تحت عنوان القضاء والشهادات.

وأمّا ما يرجع إلى ( العلاقات التجاريّة ) فقد بيّن الفقهاء أحكامها المفصّلة في كتبهم تحت العناوين التالية : التجارة ، الخيار ، السلف ، المفلس ، الحجر ، الضمان ، الصلح ، العارية ، الوديعة ، الشركة ، المضاربة ، المزارعة ، المساقاة ، الإجارة ، الوكالة ، الوقف ، السبق والرماية.

ص: 460

وأمّا ما يتعلّق بالحقوق والقوانين الدوليّة بعامّتها وخاصّتها فسيوافيك الحديث عنها في بحث خاصّ تحت عنوان : « السياسة الخارجيّة في الحكومة الإسلاميّة ».

إنّ من له أدنى إلمام بالفقه الإسلاميّ يجده غنيّاً عن أي تشريع بشريّ وأيّ قانون وضعيّ.

ولو أنّ المسلمين - اليوم - أخذوا بالتشريع الإسلاميّ كاملاً ، وفرّعوا الفروع ، واجتهدوا على أساسه لوجدوه ووجدوا أنفسهم في غنى عن أي اقتباس من هنا أو هناك ، وللتأكّد من هذه الحقيقة الساطعة لاحظ - أيّها القارئ الكريم - كتاب « تحرير الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة » في تمام الفقه ، لآية اللّه العلاّمة الحليّ المولود عام ( 648 ه ) والمتوفّى عام ( 726 ه ) والذي اقتصر فيه المؤلّف على مجرّد الفتوى ، وترك الاستدلال ولكنّه استوعب الفروع والجزئيّات حتّى أنّه اُحصيت مسائله فبلغت أربعين ألف مسألة ، رتّبها على ترتيب كتب الفقه في أربع قواعد للعبادات والمعاملات والإيقاعات والأحكام (1).

ولهذا فإنّ الحضارة الغربيّة لمّا داهمت المسلمين لم تخلب عقولهم من الناحية الحقوقيّة ، والقانونيّة ، وإن خلبتهم من ناحية التكنولوجيا والصناعة وذلك لما كان يتمتّع به المسلمون من الغنى الفقهيّ بفضل التشريع الإسلاميّ الواسع الأطراف من جانب ، وما كانوا يعانون منه من الفقر في الجانب التكنولوجيّ حيث أنّهم كانوا قد تركوا الغور في العلوم الطبيعيّة منذ زمن طويل ، وإن كان أسلافهم قد بدأوها وأبدعوا فيها ، وأتوا بابتكارات لا سابق لها.

شموليّة الحقوق الإسلاميّة

يبقى أن نعرف أنّ الحقوق التي جاء بها الإسلام لا تقتصر على الاُمور المذكورة في الكتب الفقهيّة ، بل هناك حقوق أخلاقيّة بين الأفراد والأفراد ، بل وبين الإنسان

ص: 461


1- لاحظ كتاب الذريعة 3 : 378.

والحيوان (1) ، والإنسان والأشياء الاُخرى (2) في عالم الطبيعة ، وهي تعكس دقّة الإسلام وعمق نظره ، وسعة اُفقه التشريعيّ ، وشموليّة بعده الفقهيّ وتفوّقه على ما يسمى الآن بميثاق حقوق الإنسان وغيره الرائج في الغرب.

وبهذا يكون الإسلام قد امتاز على القوانين الوضعيّة بميزة اُخرى مضافاً إلى الميزات السابقة المذكورة ، وهي ميزة الشموليّة.

وأنت أيّها القارئ الكريم إذا أردت أن تقف على الحقوق الإسلاميّة بشكل إجماليّ فعليك بمراجعة الكتب والرسائل التالية :

1. رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليّ بن الحسين علیهماالسلام .

2. رسالة الحقوق للشيخ الصدوق المعروفة برسالة مصادقة الإخوان وقد طبعت.

3. الحقوق للعلاّمة السيد صدر الدين المتوفّى بقم عام ( 1373 ه ) أورد فيه اثنين وستّين حقّاً ، وقد طبع.

4. حقوق المؤمنين للشيخ الحسين بن سعيد الأهوازيّ وهو مخطوط.

وهناك مؤلّفات اُخرى لمشايخنا الإماميّة حول الحقوق العامّة والخاصّة وحول الفرق بين الحقّ والحكم وقد طبع بعضها ولا زال أكثرها مخطوطاً.( لاحظ الذريعة 7 : 39 - 47 ).

هذا وحيث أنّ حقوق الأقليّات في المجتمع الإسلاميّ تحظى بأهميّة خاصّة ولها صلة شديدة بالحكومة الإسلاميّة أفردنا لها البحث التالي ، ونحيل البحث عن سائر الحقوق بالتفصيل إلى الكتب المعدّة لها وكذا أفردنا للحقوق الدوليّة فصلاً آخر.

ص: 462


1- لاحظ وسائل الشيعة كتاب الحجّ الجزء الثامن أبواب أحكام الدواب الصفحة 339 - 397 فقد عقد فيها الشيخ الحرّ العامليّ 53 باباً في أحكام الدواب وحقوقها ، وفصّل حقوق الحيوان في كتاب الجواهر 31 : 349 - 398 ، فقد بحث ذلك الفقيه المحقّق الذي كان يعيش في القرن الثالث عشر الهجري حقوق الحيوان على ضوء الإسلام قبل أن يعرف العالم الحديث قضيّة الرفق بالحيوان.
2- وإلى ذلك يشير قول الإمام عليّ علیه السلام في نهج البلاغة : « فإنّكُم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم » الخطبة 162 ( طبعة عبده ).
الأقليّات الدينيّة في الحكومة الإسلاميّة
اشارة

إنّ حكومة تقوم على أساس الإيمان باللّه سبحانه وعلى أساس الشريعة الإلهيّة لا يمكن أن تكون معاملتها وموقفها من الأقليّات الدينيّة إلاّ أفضل موقف ، وأحسن معاملة وأقربها إلى الإنسانيّة والعدل والنصفة والحقّ وإليك ملامح من هذه المعاملة الحسنة العادلة فيما يأتي :

1. الإعتراف بحقوق الأقليّات

إنّ أبرز ما يتجلّى في معاملة الحكومة الإسلاميّة للأقليّات الدينيّة هو الاعتراف بحقوقهم الطبيعيّة في العدل والقسط وغيره ، فها هو القرآن الكريم يبيّن بكلّ صراحة سياسة الإسلام الكليّة بالنسبة إلى حقوق الشعوب غير المسلمة سواء أكانوا أهل الكتاب أم لا إذ يقول : ( لا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الممتحنة : 8 ).

فهذه الآية تفيد أنّ الأقليّات والشعوب غير المسلمة تحظى بالاحترام وتستحقّ العدل والقسط إذا لم تعلن حرباً على المسلمين ، ولم تخرجهم من مساكنهم وأوطانهم ، ولم تتآمر ضدّهم ، فإذن ينبغي أن يشلمها المسلمون بالعدل والإنصاف والبرّ ، وبهذا يسمح النظام الإسلاميّ للأقليّات الدينيّة أن تعيش ضمن المجتمع الإسلاميّ وتستفيد من الحقوق الإنسانيّة في الحياة الآمنة.

نعم إنّ القرآن الكريم ينهى عن المعاشرة السلميّة مع الفرق والجماعات التي تتآمر ضدّ الإسلام ومصالح المسلمين ، إذ يقول : ( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الممتحنة : 9 ).

ص: 463

إنّ سياسة الإسلام العامّة اتّجاه الأقليّات الدينيّة تفهم من هاتين الآيتين جيّداً فالأقليّات الدينيّة - حسب هاتين الآيتين - محترمون في البلاد الإسلاميّة وعلى المسلمون أن يعايشونهم ويعترفوا لهم بحقوقهم في الحياة الآمنة ما لم يتجاوز أبناؤها وأعضاؤها على حقوق الأكثريّة المسلمة ، ولم تتآمر ضدّ الإسلام ، فإذا تآمرت ، وتحالفت مع أعداء الإسلام ومعارضيه وخصومه ، ارتفعت عنهم هذه الحصانة الإسلاميّة وجاز للمسلمين أن يقفوا ضدهم ... ولا يوادّوهم.

ولقد بلغت هذه الحريّة والاحترام إلى درجة لو فعل أهل الذمّة ما هو سائغ في شرعهم وليس بسائغ في الإسلام كشرب الخمر لم يتعرّض لهم ما لم يتجاهروا به ، نعم إن تجاهروا به عمل بهم ما تقتضيه الجناية بموجب الشرع.

وإن فعلوا ما ليس بسائغ في شرعهم (1) كالزنا واللواط ، فالحكم فيه أيضاً كما في المسلم. وإن شاء الحاكم رفعه إلى أهل نحلته ليقيموا الحدّ فيه ، بمقتضى شرعهم كما لو تحاكم إلينا ذميّان كان الحاكم مخيّراً بين الحكم عليهما بحكم الإسلام وبين الإعراض عنهم لقوله سبحانه : ( فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) ( المائدة : 42 ).

2. حسن المعاشرة مع الأقلّيات

إنّ الإسلام يحث المسلمين على الإحسان إلى أهل الكتاب ، وأخذهم بحسن المعاشرة واحترام عقائدهم وإبقائهم على دينهم إذا هم اختاروا ذلك ، قال اللّه تعالى : ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ) ( العنكبوت : 46 ).

وقال الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « من ظلم مُعاهداً وكلّفهُ فوق طاقته فأنا حجيجهُ يوم القيامة » (2).

ص: 464


1- لاحظ في ذلك جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 21 : 31.
2- فتوح البلدان للبلاذريّ : 167 ( طبعة مصر ).

وقال : « من آذى ذميّاً فأنا خصمُه ومن كُنتُ خصمهُ خصمتُهُ يوم القيامة » (1).

وكتب النبي صلی اللّه علیه و آله لأبي الحارث بن علقمة أسقف نجران :

« بسم اللّه الرّحمن الرحّيم. من محمّد النبيّ إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم ، أنّ لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيّتهم وجوار اللّه ورسوله ، لا يغيّر أسقف من أسقفيّته ، ولا راهب من رهبانيّته ولا كاهن من كهانته ، ولا يغيّر حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا شيء ممّا كانوا عليه ما نصحوا وصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين وكتب المغيرة » (2).

وإليك نموذج آخر من هذه العهود :

( بسم اللّه الرحّمن الرّحيم ، وبه العون ، هذا كتاب كتبه محمّد بن عبد اللّه إلى كافّة النّاس أجمعين بشيراً ونذيراً ، ومؤتمناً على وديعة اللّه في خلقه لئلاّ يكون للنّاس على اللّه حجّة بعد الرّسل ، وكان اللّه عزيزاً حكيماً ، كتبه لأهل ملّته ، ولجميع من ينتحل دين النّصرانيّة من مشارق الأرض ومغاربها ، قريبها وبعيدها ، فصيحها وعجميها ، معروفها ومجهولها ، كتاباً جعله لهم عهداً ، ومن نكث العهد الّذي فيه وخالفه إلى غيره ، وتعدّى ما أمره كان لعهد اللّه ناكثاً ، ولميثاقه ناقضاً وبدينه مستهزئ ، وللّعنته مستوجباً ، سلطاناً كان أم غيره من المسلمين المؤمنين ، وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو ردنة أو بيعة فأنا أكون من ورائهم ذابّ عنهم ، من كلّ عدة لهم ، بنفسي وأعواني ، وأهل ملّتي وأتباعي ، كأنّهم رعيّتي ، وأهل ذمّتي وأن أعزل عنهم الأذى في المؤن التي تحمل أهل العهد من القيام بالخراج إلاّ ما طابت به نفوسهم وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك ، ولا يغيّر أسقف من أسقفيّته ، ولا راهب من رهبانيّته ، ولا حبيس من صومعته ، ولا سائح من سياحته ، ولا يهدم بيت من بيوت

ص: 465


1- روح الدين الإسلاميّ : 274.
2- الطبقات الكبرى 1 : 266 ، والبداية والنهاية 5 : 55 ، والوثائق السياسيّة : 115 رقم 95 كما في مكاتيب الرسول 2 : 333.

كنائسهم وبيعهم ، ولا يدخلُ شيء من مال كنائسهم في بناء مسجد ولا في منازل المُسلمين فمن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عهد اللّه ، وخالف رسُولهُ ، ولا يحملُ على الرّهبان والأساقفة ، ولا من يتعبّد جزيةً ولا غرامةً ، وأنا أحفظُ ذمّتهم أينما كانُوا من برّ أو بحر ، في المشرق والمغرب والشّمال والجنُوب. وهُم في ذمّتي وميثاقي وأماني من كُلّ مكرُوه.

وكذلك من ينفرد بالعبادة في الجبال والمواضع المُباركة ، لا يلزمُهُم ما يزرعُوهُ ، لا خراج ولا عُشر ، ولا يُشاطرُونهُ لكونه برسم أفواههم ، ويُعانُوا عند إدراك الغُلّة بإطلاق قدح واحد ، من كلّ أردب برسم أفواههم ، ولا يُلزمُوا بخرُوج في حرب ولا قيام بجزية ولا من أصحاب الخراج ، وذوي الأموال والعقارات والتّجارات ممّا أكثر [ من ] اثني عشر درهم بالحُجّة في كُلّ عام ، ولا يُكلّفُ أحداً منهُم شططاً ، ولا يُجادلُوا إلاّ بالتي هي أحسنُ ، ويُخفضُ لهُم جناحُ الرّحمة ويُكفّ عنهُم أدبُ المكرُوه حيثُما كانُوا وحيثُما حلّوا.

وإن صارت النصّرانيّةُ عند المُسلمين فعليه برضاها ، وتمكينها من الصّلوات في بيعها ، ولا يُحيلُ بينها وبين هوى دينها.

ومن خالف عهد اللّه ، واعتمد بالضدّ من ذلك ، فقد عصى ميثاقهُ ورسُولهُ ويُعانُوا على مرمّة بيعهم ومواضعهم ، ويُكونُ ذلك معونةً لهُم على دينهم ومعا [ وفاء ] لهُم بالعهد ، ولا يُلزمُ أحد منهُم بنقل السّلاح ، بل المُسلمين يذبّون عنهُم ولا يُخالفُوا هذا العهد أبداً إلى حين تقُومُ الساعة وتنقضي الدّنيا.

وشهد بهذا العهد الّذي كتبهُ مُحمّد بنُ عبد اللّه رسُول اللّه صلی اللّه علیه و آله لجميع النّصارى والوفاء بجميع ما شرط لهُم عليه عليّ بنُ أبي طالب و ... ) (1).

إنّ أبرز ما يتجلّى للقارئ في هذا العهد النبويّ للنصارى اُمور :

1. مدى الحريّة العقائديّة المعطاة من جانب الإسلام للأقلّيات الدينيّة.

ص: 466


1- مجموعة الوثائق السياسيّة : 373 ، كما عن أحمد زكي باشا ، رسالة صورة العهد النبويّة الطوريّة عن خطية دار الكتب المصريّة رقم 814 كما في مكاتيب الرسول 2 : 635.

2. سعة الحماية التي تقوم بها الحكومة الإسلاميّة لهذه الأقليّات.

3. سعة الرحمة التي يشمل بها الدين الإسلاميّ الأقليّات.

إلى غير ذلك من النقاط الكليّة والجزئيّة التي يقف عليها المتتبّع بالإمعان في هذه الوثيقة الإسلاميّة التاريخيّة التي تمثّل - في حقيقتها - سياسة الحكومة الإسلاميّة اتّجاه الأقليّات وتصوّر اُسس هذه السياسة وخطوطها العريضة التي لا تجد لها مثيلاً في الحقوق الدوليّة المعاصرة !! وما عليك أيّها القارئ الكريم إلاّ أن تقايس هذه الحريّة المعطاة للأقليّات في مجال العقيدة ، بما جرى على فروة بن عمرو الذي كان عاملاً للروم على من يليهم من العرب ، فلمّا بعث فروة رسولاً بإسلامه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأهدى له بغلة بيضاء طلبه الروم حتّى أخذوه فحبسوه عندهم فلمّا قدموا ليقتلوه أنشأ فروة قائلاً :

بلّغ سراة المسلمين بأنّني

سلم لربّي أعظُمي وبناني (1)

بل وقايسه بما جرى وحلّ بالنصارى على أيدي كنائسهم في محاكم التفتيش في القرون الوسطى ، وما وقع من مجازر شملت آلاف الناس بمن فيهم العلماء والمفكّرون لأجل الاختلاف العقيديّ (2).

وقد ورد مفاد هذه الرسالة والوثيقة في وثائق وكتب اُخرى للنبيّ صلی اللّه علیه و آله اُعطيت لأهل الملل ، والعقائد غير الإسلاميّة رسم النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيها خطوط التعايش السلميّ الذي أشار إليه القرآن الكريم ، الذي يقوم على احترام الحقوق والعقائد للأقلّيّات الدينيّة.

لقد كانت معاملة الرسول الحسنة مع أهل الكتاب وما يسمّى الآن بالأقليّات الدينيّة قدوة للمسلمين دائماً ، فهذا هو الإمام أمير المؤمنين عليّ علیه السلام يوصي واليه بأهل الذمّة فيقول : « ولا تبيعنّ للنّاس في الخراج [ وهو ما يؤخذ من الضرائب على الأراضي العامة ] كُسوة شتاء ، ولا سيفاً ولا دابّةً يعتملُون عليها ولا عبداً ولا تضربنّ أحداً

ص: 467


1- اُسد الغابة 4 : 178.
2- راجع ما كتبه ويل دورانت في قصّة الحضارة.

سوطاً لمكان درهم ، ولا تمُسّنّ مال أحد من النّاس مُصلّ ولا مُعاهد » (1).

كما أنّ الإمام عليّاً علیه السلام لما رأى ذات يوم شيخاً نصرانيّاً يستجدي ويتكفّف فقال : « ما هذا ؟ » قالوا : يا أمير المؤمنين ، نصرانيّ. فقال : « استعملتُمُوهُ حتّى إذا كبر وعجز منعتُمُوهُ. أنفقُوا عليه من بيت المال » (2).

ولقد كانت هذه السيرة مع الأقلّيّات الدينيّة هي سيرة أغلب قادة الإسلام فالتاريخ يحدّثنا : أنّ أحد الخلفاء مرّ على شيخ مضطرب الحال يتكفّف فسأل عنه ، ولمّا تبيّن له أنّه يهوديّ قال له : وما الذي دعاك إلى هذا.

فلمّا قال : إعطاء الجزية والحاجة ، والكبر ، أخذ الخليفة بيده ، وأدخله إلى منزله وسدّ حاجته بمبلغ من المال وأوصى خازن بيت المال وأمره أن يرفق به ويراعي حاله ، وحال من يشابهه وقال : « ليس من النصفة أن نستعمله في شبابه ونتركه في كبره » (3).

على أنّ الإسلام لم يكتف بهذا القدر من الاحترام وحسن المعاشرة والمعاملة ، فلم يقتصر على الأمر باحترام الأحياء من أهل الكتاب ، بل دعا إلى احترام أمواتهم كذلك. يقول جابر بن عبد اللّه : مرّت بنا جنازة ، فقام لها النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقمنا به. فقلنا : يا رسول اللّه : إنّها جنازة يهوديّ. فقال صلی اللّه علیه و آله : « إذا رأيتم الجنازة فقوموا » (4).

وقال : كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسيّة فمرّوا عليهما بجنازة ، فقاما ، فقيل لهما : إنّهما من أهل الأرض ، أي من أهل الذمّة ، فقالا : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله مرّت به جنازة فقام ، فقيل له : إنّها جنازة يهوديّ ، فقال : « أليست نفساً » (5).

ولهذا السبب كان أهل الكتاب في البلاد غير الإسلاميّة يستقبلون المسلمين الفاتحين لتلك البلاد باشتياق كبير ، ويفتحون في وجوههم أبواب مدنهم وحصونهم ، فعندما وصل الجيش الإسلاميّ بقيادة أبي عبيدة بن الجرّاح إلى أرض الأردن ، كتب إليه

ص: 468


1- نهج البلاغة : قسم الكتب رقم 51.
2- وسائل الشيعة 1 : كتاب الجهاد : الباب 19 ح 1.
3- السلام العالميّ والإسلام.
4- البخاريّ 2 : 85.
5- البخاريّ 2 : 85.

مسيحيّوا الأردن كتاباً قالوا فيه :

( أنتم أيها المسلمون أحبّ إلينا من الروم ، وإن كانوا معنا على دين واحد لكنّكم أوفى لنا ، وأرأف وأعدل ، وأبرّ ، إنّهم حكمونا ، وسلبوا منّا بيوتنا وأموالنا ) (1).

وقد كان هذا الكلام كتبه قسّيس أنطاكية الكبير الذي دفعه ظلم الروم وجفوتهم وقسوتهم - رغم نصرانيّتهم - إلى اللجوء إلى أحضان المسلمين ، والاحتماء بالنظام الإسلاميّ العادل الرحيم.

فهو يعترف في موضع آخر من رسالته قائلاً :

( انّ إله الانتقام لمّا رأى شرور الروم الذين لجأوا إلى القوّة فنهبوا كنائسنا وسلبونا ديارنا في كافّة ممتلكاتهم وأنزلوا بنا العقاب في غير رحمة ولا شفقة ، أرسل أبناء إسماعيل ( أي العرب المسلمين ) من بلاد الجنوب ( أي مكّة والمدينة ) لتخليصنا من قبضة الروم ) (2).

ثمّ يكتب مؤلّف « الدعوة إلى الإسلام » قائلاً :

( امّا ولايات الدولة البيزنطيّة التي سرعان ما استولى عليها المسلمون ببسالتهم فقد وجدت أنّها تنعم بحالة من التسامح لم تعرفها طوال قرون كثيرة بسبب ما شاع بينهم من الآراء اليعقوبيّة والنسطوريّة ( المتضاربة فيما بينها ) فقد سمح الإسلام لهم أن يؤدّوا شعائر دينهم دون أن يتعرّض لهم أحد ، اللّهمّ إلاّ إذا استثنينا بعض القيود التي فرضت عليهم منعاً لإثارة أي احتكاك بين أتباع الديانات المتنافسة ) (3).

وقد دفعت مداراة المسلمين وحسن معاشرتهم ومعاملتهم لأهل الكتاب في أن يجدوا أمنهم المطلوب في كنف المسلمين ، ويحسّوا بالطمأنينة في ظلال الحكومة الإسلاميّة والنظام الإسلاميّ حتّى أنّ الأدلّة التاريخيّة والشواهد القطعيّة الكثيرة تشهد على أنّ الكثير من النصارى الذين كانوا يطاردون من قبل الكنيسة الرسميّة في بيزنطية

ص: 469


1- الدعوة إلى الإسلام تأليف السير توماس أرنولد : 53.
2- الدعوة إلى الإسلام تأليف السير توماس أرنولد : 53.
3- الدعوة إلى الإسلام تأليف السير توماس أرنولد : 53.

كانوا يلجأون إلى البلاد الإسلاميّة حصولا على الحماية والأمن والاستقرار ولأجل هذا نجد أنّ أجمل الكنائس والصلوات هي تلك التي بنيت في أرض الإسلام أيّام مجد المسلمين ودولتهم.

وهذا أمر ملحوظ في جميع البلاد الإسلاميّة الحاضرة.

هذا مضافاً إلى أنّ الأقليّات الدينيّة كانت ولا تزال تتمتّع بالحريّة الاقتصاديّة والتجاريّة والمعيشيّة ، دون أن تحسّ بحاجة إلى التحزّب والتمركز والتجمّع لمواجهة أي خطر.

3. احترام الإسلام لحياة الأقليّات
اشارة

إنّ الذي لا يمكن إنكاره أبداً أنّه ليس هناك أي دين ولا أيّة حكومة في العالم كالدين الإسلاميّ والحكومة الإسلاميّة تضمن حريّات الأقليّات ، وتحفظ شرفها وحقوقها الوطنيّة ، فأيّ دين يحترم الأقليّات كهذا الاحترام ، أم أي قانون يقدّرها كما يحترمها النظام الإسلاميّ ، ويقدّرها ويرعى حقوقها.

أجل إنّه الإسلام وحده يكفل العدالة الاجتماعيّة الكاملة الشاملة للمسلمين ، وغير المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وألوانهم ولغاتهم ، وإنّ هذا لمن احدى ميزات الدين الإسلاميّ وخصائصه الإنسانيّة التي ينفرد بها دون غيره ، ويعجز الآخرون عن تحقيقه ، وأدلّ دليل على حسن معاملة الإسلام للأقليّات أنّ الإسلام أمّن على أنفسهم وأموالهم وتعهّد في ذمّته بحمايتهم وحفظهم وأمانهم من كلّ شرّ وسوء ازاء شروط خاصّة لا يصعب تحمّلها عادة في مقابل ما تعهّد الإسلام لهم به. وإليك هذه الشروط :

في شرائط الذمّة

إنّ الشرائط المقوّمة للذمّة ( التي تنتفي الذمّة بانتفاء واحدة منها ) ثلاثة :

الأوّل : أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان مثل العزم على حرب المسلمين ، أو إمداد

ص: 470

المشركين والتواطؤ معهم ضدّ مصالح الإسلام والمسلمين.

الثاني : أن يلتزموا بأن تجري عليهم أحكام المسلمين ... بمعنى وجوب قبولهم لما يحكم به المسلمون من أداء حقّ أو ترك محرّم.

والمراد من الأحكام هي الأحكام الاجتماعيّة والجزائيّة ، كجلدهم إذا زنوا ، وقطع أيديهم إذا سرقوا وما شابه.

الثالث : القبول بدفع الجزية ... .

فهذه الشروط الثلاثة تعتبر من مقوّمات الذمّة ، وأمّا غير ذلك من الشروط فإنّما يجب العمل بها من جانبهم إذا اشترطت في ( عقد الذمّة ) (1).

إنّ في مقدور الأقليّات الدينيّة - بعقد الذمّة - أن تعيش بين المسلمين عيشة حرّة ، ويكون لها ما للمسلمين وعليها ما على المسلمين ، من حقوق اجتماعيّة ، وأمن داخليّ ، وحماية خارجيّة ، وتلك هي وظيفة الحكومة الإسلاميّة أن توفّر ظروف العيش الآمن ، والاحترام المناسب للأقليّات الدينيّة ، والحفاظ على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم ، من دون أي عدوان وتجاوز وحيف ، هذا فيما إذا عمل أهل الكتاب وغيرهم بشرائط الذمّة والهدنة.

إنّ الإسلام يحترم دماء الكتابيّين الذين يعيشون في الذمّة وأعراضهم كما يحترم دماء المسلمين وأعراضهم دون فرق ، وتلك حقيقة لا تجد نظيرها في أي نظام غير النظام الإسلاميّ مهما كان إنسانيّاً ، ولهذا عندما يسمع الإمام عليّ علیه السلام بأنّ جماعة من البغاة أغاروا بأمر معاوية على ( الأنبار ) وهي إحدى مدن العراق ، واعتدوا على أهلها ، وأعراضهم وأموالهم ، نجده ينزعج غاية الانزعاج ويحزن غاية الحزن ، ويمضي في لومهم وشجبهم قائلاً - في أسف ظاهر - : « ولقد بلغني أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والاُخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها ، وقلبها ، وقلائدها ورعاثها ، ما تمنع منه إلاّ بالاسترجاع ، والاسترحام ثمّ انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلم ولا اريق منهم

ص: 471


1- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 21 : 271.

دم » !!

إنّ أعراض المسلمين والذميين عند الإمام عليّ علیه السلام من حيث الاحترام والحرمة بحيث يقول في شأن ذلك في ذيل العبارات السابقة : « فلو أنّ امرأً مُسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملُوماً ، بل كان به عندي جديراً » (1).

إنّ القانون الإسلاميّ يقضي بأن تتكفّل الحكومة الإسلاميّة حماية الأقليّات الدينيّة ، وأعراضهم وأموالهم وكنائسهم ومعابدهم ، بحيث يمكنهم أن يؤدّوا شعائرهم الدينيّة بحريّة وأمان ، وفي الوقت الذي يدعو فيه الإسلام هذه الأقليّات وغيرها إلى اعتناق الإسلام ، لا يسمح بأن تعطّل حريّة الأقليّات في تعليم دينها لأبنائها.

إنّ الذمّيين أحرار - تماماً - من جهة ( القضاء ) فلهم أن يتحاكموا - في منازعاتهم واختلافاتهم الخاصّة - إلى محاكمهم الخاصّة ، أو إلى محاكم المسلمين وقضاتهم ، إن كان النزاع بينهم وبين مسلم ، وأن يدافعوا عن حقوقهم في محاكم المسلمين بمنتهى الحريّة والطمأنينة والحصانة (2).

إنّ للذمّي - حسب نظر الإسلام - أن يشتكي أمام قاضي المسلمين على أكبر شخصيّة إسلاميّة كالخليفة وحاكم البلاد ، أو يدافع عن نفسه إذا اشتكى عليه تلك الشخصيّة ، ويطالبه بالبيّنة لدعواه.

ولا يخفى أنّ هذه الأحكام ليست مجرّد نظريّة قانونيّة لم يعمل بها في تاريخ المسلمين وحياتهم ، بل لها نماذج ومصاديق مطبّقة أكثر من أن تحصى ، منها قضيّة الدعوة التي أقامها الإمام عليّ علیه السلام على رجل يهوديّ في قصّة الدرع التي ، مرّت عليك فيما سبق في هذا الكتاب (3).

انّ تاريخ الإسلام المشرق يبيّن لنا أنّ علاقات المسلمين مع الشعوب والأقليّات

ص: 472


1- نهج البلاغة : الخطبة (26).
2- لاحظ في ذلك الصفحة 464 من كتابنا هذا.
3- راجع الصفحة 335 من كتابنا هذا.

الدينيّة كانت قائمة منذ ظهور الحكومة الإسلاميّة ، وحصول الاستقلال السياسيّ للمسلمين على اُسس التسامح والسلام والمحبّة والمعاشرة الإنسانيّة ، والمعاهدات المتبادلة ، ولهذا كانت تلك الأقليّات الدينيّة تعيش بين المسلمين بحريّة كاملة ، ودون أن يلحقها أي أذى أو سوء ، وتستفيد من حقوقها المُسلمة دون أي عدوان أو نقصان ، وهذا هو الأمر الذي جعلهم يفضّلون حكم الإسلام على غيره.

كما أنّ هذا هو الذي حدى بالكتاب المسيحيّين ومؤرّخيهم أن يعترفوا بفضل الإسلام وحسن سيرة المسليمن بالنسبة إلى أبناء دينهم ، لاحظ في ذلك ما قاله غوستاف لوبون.

وقال روبرتسون في كتابه تاريخ شارلكن : ( إنّ المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الجهاد والتسامح نحو أتباع الأديان الاُخرى الذين غلبوهم وتركوهم أحراراً في إقامة شعائرهم الدينيّة ) (1).

4. الجزية ضريبة عادلة

يبقى أن نعرف أنّ الإسلام فرض على أهل الكتاب - بعد الغلبة عليهم - دفع ضريبة تسمّى بالجزية ، وهي بمنزلة الضريبة التي تؤخذ من المسلمين تحت عناوين مختلفة من الزكاة والخمس وسائر الصدقات لتصرف في شؤون الدولة الإسلاميّة ولأجل ذلك لا تؤخذ الجزية من المعتُوه ولا من المغلُوب على عقله ، ولا الصبيان ولا النساء ، لأنّ الجزية إنّما هي في مقابل الدخل تقريباً. قال الإمام الصادق علیه السلام : « جرت السنّة أن لا تُؤخذ الجزية من المعتُوه ولا من المغلُوب على عقله » (2).

ثمّ إنّ الجزية تقدر بقدر المُكنة والقدرة فقد سئل الإمام الصادق علیه السلام عن حدّ الجزية فقال : « ذلك إلى الإمام يأخذ من كلّ إنسان منهم ما شاء على قدر ماله وما

ص: 473


1- روح الدين الإسلاميّ : 411.
2- الوسائل 11 : 100 ، وراجع تحرير الوسيلة 2 : 498 للإمام الخمينيّ.

يُطيقُ » (1).

كما أنّ الإمام مخيّر في الجزية في أن يضع الجزية على حسب رؤوسهم دون أرضهم أو على أرضهم دون رؤوسهم ... في حين أنّه يأخذ من المسلمين الضرائب المتوجّبة عليهم من أموالهم خاصّة ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على مدى روح السماحة والعطف والعدالة التي يعامل بها الإسلام الأقليّات الاُخرى ، فعن محمّد بن مسلم قال : سألته علیه السلام عن أهل الذمّة ماذا عليهم ما يحقنون به دماءهم وأموالهم ؟ قال : « الخراج ، وإن أُخذ من رُؤوسهُمُ الجزية فلا سبيل على أرضهم وإن أُخذ من أرضهم فلا سبيل على رُؤوسهم » (2).

كما أنّه لا يجوز للحكومة الإسلاميّة أن تأخذ من الأقليّات شيئاً علاوة على الجزية ، فعن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر علیه السلام في أهل الجزية أيؤخذ من أموالهم ومواشيهم سوى الجزية ؟ قال : « لا » (3).

وبالتالي ، إنّ الجزية لم تكن ضريبة شاقّة لو عرفنا مقاديرها فقد جعل الإسلام على غنيّهم ثمانية وأربعين درهماً ، وعلى أوساطهم أربعة وعشرون درهماً ، وعلى فقرائهم إثنا عشر درهما ... يؤخذ منهم كلّ سنة ، راجع لمعرفة ذلك الحديث المروي في هذا الباب (4).

وفي الحقيقة لا تقدير خاصّ للجزية ، ولا حدّ لها بل تقديرها إلى الوالي ، والحكومة الإسلاميّة بحسب ما يراه من المصالح والأزمنة ومقتضيات الحال (5) والمقدار المذكور في الرواية هو مصداق لهذا التقدير.

وبالتالي فإنّ ما تأخذه الدولة الإسلاميّة من الأقليّات باسم الجزية إنّما هو في الحقيقة لتقديم الخدمات إليهم ، وحمايتهم ، لا أنّه أتاوة على نحو ما يفعل الفاتحون عادة.

ص: 474


1- الوسائل 11 : 114 و 115.
2- الوسائل 11 : 114 و 115.
3- الوسائل 11 : 114 و 115.
4- وسائل الشيعة 11 : 116.
5- تحرير الوسيلة للإمام الخمينيّ 2 : 449.

وفي هذا الصدد يقول السيد رشيد رضا : ( إنّ الجزية في الإسلام لم تكن كالضرائب التي يضعها الفاتحون على من يتغلّبون عليهم فضلاً عن المغارم التي يرهقونهم بها ، وإنّما هي جزاء قليل على ما تلتزمه الحكومة الإسلاميّة من الدفاع عن أهل الذمّة ، وإعانة الجند الذي يمنعهم ( أي يحميهم ) ممّن يعتدي عليهم كما يعلم من سيرة أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والشواهد على ذلك كثيرة ) (1).

فهي إذن ضريبة ضئيلة يقابلها تأمين الإسلام لهم الحراسة والحفظ وتوفير ضروريّات الحياة.

وبذلك يبقى الكتابيّ على دينه ويقيم شعائره في حدود المصلحة الإسلاميّة العامّة حسب ما قرّر لها من شروط ، وأحكام.

ص: 475


1- تفسير المنار 11 : 282.

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

3

الحكومة الإسلاميّة والدعوة إلى التنمية الاقتصاديّة
أهميّة الاقتصاد في الحياة البشريّة :

لا شكّ في أنّ الاقتصاد يحتلّ موقعاً حسّاساً وهاماً في الحياة البشريّة ، إذ يدور عليها رحى جوانب كثيرة من هذه الحياة ، ومن هنا اهتمّ الإسلام بالمسائل الاقتصاديّة اهتماماً بالغاً. فوجود الأبواب الكثيرة ، المتعلّقة بالمبادلات الماليّة في الفقه والتشريع الإسلاميّ إلى جانب التوجيهات والإرشادات المرتبطة بهذا الحقل ينبئ عن اهتمام الإسلام الشديد بالاقتصاد ويكشف عن أنّ الدين الإسلاميّ ليس كسائر الأديان تنحصر مسؤوليّته في إعطاء العظات الأخلاقيّة ، وتقديم الوصايا المعنويّة الفرديّة مهملاً أهمّ مسألة في حياة الإنسان وهي القضية الاقتصاديّة.

كيف والعمل من أجل الآخرة يتوقّف على قدرة الجسم ، وسلامة البدن ، وانتعاش الجانب الاقتصاديّ فقد روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « اللّهمّ بارك لنا في الخبز ، ولا تفرّق

ص: 476

بيننا وبينهُ ، فلولا الخُبزُ ما صلّينا ولا صُمنا ولا أدّينا فرائض ربّنا » (1).

وعن الإمام عليّ علیه السلام أنّه قال : « وبالدّنيا تُحرزُ الآخرةُ » (2).

ثمّ لا ريب في أنّ الإنسان مركّب من المادة والروح ، وأنّ لوجوده بعدين : بعداً ماديّاً ، وبعداً معنويّاً ، ولذلك لابد للإسلام كنظام للإنسان ومنهج للحياة أن يعتني بهذا البعد ( المادي ) أيضاً لأنّ تجاهله ما هو إلاّ تجاهل لنصف الإنسان.

وبعبارة اُخرى ، إنّ ( الغنى ) في الجانب المعنويّ - وحده - لا يكفي ، لأنّ الفقر الاقتصاديّ كفقر الدم تماماً ، إذ الاقتصاد عصب الحياة ، ودم يجري في عروق المجتمع ، ويضمن حياته وبقاءه ، فكما أنّ فقر الدم يوجب سلسلة من الأمراض والمضاعفات الخطيرة مثل ضعف السماع والبصر ، وظهور اللكنة في اللسان ، وتعرقل عمليات المخّ ، إلى غير ذلك من العوارض ، وألوان الخلل في وظائف الأعضاء فإنّ للفقر الاقتصاديّ والماديّ ( عوارض ) سيّئة ، وآثار خطيرة على الحياة الفرديّة والاجتماعيّة فهو يوجب ضعفاً في الهيكل الاجتماعيّ وتصدّعاً في تماسكه ، ولذلك يكون الاقتصاد مطروحاً للإنسان منذ أن يولد حتّى يوسّد في لحده ، هذا مضافاً إلى أنّ بقاء الاُصول الأخلاقيّة والتزام الصراحة ، ومناعة الطبع واستقلال الشخصيّة اُمور متفرّعة على الجانب الماديّ ، بمعنى أنّ الإبقاء على هذه الاُمور في غاية الصعوبة على من اضطرب أمر معاشه ، وأصابه الفقر ، واختلّ اقتصاده. فكم من إنسان ابتلي بصفة التملّق وفقدان الشهامة ، والاخلال بالواجب نتيجة الفقر ، واضطراب المعاش ؟ وكم من إنسان اضطّر إلى الكذب والخداع ، والمساومة على العقيدة والدين لهذا السبب ؟ بل وكم من شعب وقع فريسة الاستعمار والتبعيّة نتيجة التدهور الاقتصاديّ والحرمان الماديّ ، والحاجة إلى المساعدات ، فحرم المجد والعظمة ، وفقد الاستقلال ، والحريّة.

ومن هنا لم يكن للاُمم الفقيرة أي نصيب في العزّة والكرامة والمكانة الدوليّة

ص: 477


1- وسائل الشيعة 12 : 17.
2- نهج البلاغة : الخطبة 145.

اللائقة بين شعوب الأرض.

بل وعلى هذا الأساس الاقتصاديّ قامت العلاقات الدوليّة ، والروابط السياسيّة بين الحكومات والشعوب.

الاقتصاد أصل هامّ وليس محوراً

نعم إنّ الفرق بين النظام الإسلاميّ والنظامين الرأسماليّ والاشتراكيّ هو أنّ الاقتصاد في الإسلام يشكّل أصلاً هاماً إلى جانب الاُصول الهامّة الاُخرى - كما ظهر من البيان السابق - لا أنّه الأصل الوحيد الذي تقوم عليه سائر المسائل الأيديولوجيّة ، والأخلاقيّة ، والسياسيّة كما تدّعيه الاشتراكيّة ، أو تذهب إليه الرأسماليّة عمليّاً.

ونعود لنقول إنّ أفضل ما يدلّ على أنّ الاقتصاد في الإسلام يشكّل أحد الاُصول ، الهامّة هو أنّ أكثر الكتب الفقهيّة تتركّز على ذكر القوانين المتعلّقة بالاقتصاد ، وتعقد أبواباً خاصّة كأبواب المكاسب ، والشفعة والإقالة والصلح والمضاربة والمزارعة والمساقاة والإجارة والجعالة والعارية والقسمة ، والدين والرهن والحجر والمفلس والضمان والحوالة ، والهبة والوقف والصدقة ، والصيد والذباحة والغصب وإحياء الموات ، والمشتركات واللقطة والإرث وأحكام الأبنية والأرضين وما شابه ذلك.

هذا مضافاً إلى أنّنا نجد القرآن يقرن ذكر الصلاة بذكر الزكاة كلّما تحدث عن تلك العبادة وقد تكرّر ذلك في القرآن ما يقارب 32 مرّة تقريباً ، ومن المعلوم أنّ الأوّل ينظّم علاقة المخلوق بالخالق ، والثاني ينظّم علاقة الفرد بالمجتمع ؛ واقتران كلّ من الأمرين بالآخر يشهد بأنّ هناك بين المعاش والمعاد صلة وثيقة ، وارتباطاً لا ينفك ّ.

ثمّ لمّا كان الإسلام منهجاً كاملاً وكافلاً لاحتياجات المجتمعات البشريّة ماديّها ومعنويّها ، اقتضى ذلك أن يكون له ( منهج اقتصاديّ واحد ) يخضع له الجميع ، ويكون قادراً على رفع تلك الاحتياجات ، ومتمشّياً مع الحاجات المتجدّدة ، والاكتشافات الحديثة ، ومتمكّناً من إقامة التوازن بين الإنتاج والتوزيع ، وموفّراً لكلّ أعضاء المجتمع

ص: 478

البشريّ جوّاً مناسباً ومطلوباً من الخير والرفاه ؛ لتعيش البشريّة في كنفه في أمان وسلام ورخاء واكتفاء.

إنّ هذا هو ما يتوخّاه النظام الإسلاميّ ويسعى إليه في منهجه الاقتصاديّ.

الدعوة إلى التنمية الإقتصاديّة وإطاراتها
اشارة

إنّ بيان المنهج الاقتصاديّ في الإسلام يستدعي بحثاً مترامي الأطراف ، وهو خارج عن نطاق هذه الدراسة ، غير أنّ الذي له صلة وثيقة بهذا البحث هو معرفة أنّ الإسلام اهتمّ - اهتماماً شديداً - بالجانب الاقتصاديّ في حياة الاُمّة ودعا إلى التنمية الاقتصاديّة في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها.

ولإيقاف القارئ على تلك الدعوة نأتي بإجمال عن ذلك في ضمن عناوين خاصّة ونحيل التفصيل إلى مجال آخر.

1. الإنسان مأمور بعمارة الأرض

إنّ الإنسان - في هذا النظام - مأمور من جانب اللّه سبحانه بعمارة الأرض ، وإصلاحها ، وإحيائها ، دون أن يمنعه مانع عن ذلك إذا ما كان في حدود الدين وشرائعه ، إذ قال سبحانه : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) ( هود : 61 ).

وعن الإمام عليّ علیه السلام في حديث أنّه قال : « إنّ معايش الخلق خمسة : الإمارةُ ، والعمارةُ ، والتّجارةُ ، والإجارةُ والصّدقاتُ [ إلى إن قال ] وأمّا وجه العمارة فقوله تعالى : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) فأعلمنا سبحانه أنّه قد أمرهم بالعمارة ، ليكون ذلك سبباً لمعايشهم بما يخرج من الأرض » (1).

ص: 479


1- وسائل الشيعة 13 : 195.
2. الإنسان مدعو إلى الكدح والعمل
اشارة

لقد دعا الإسلام إلى الكدّ والكدح والعمل دعوة أكيدة ، وحثّ عليها حثّاً بليغاً لا نجد نظيره في أي نظام آخر ، فهو نهى عن الكسل ، كما نهى أن يكون المرء كلاًّ على الآخرين ، يستهلك ولا يعمل ، ويأكل ولا يشتغل وإليك طائفة من الأحاديث المرويّة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام في هذا المجال ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ملعون من ألقى كلّهُ على النّاس » (1).

وقال في وصيّته لعليّ علیه السلام : « إيّاك وخصلتين : الضجرُ والكسلُ ، فإنّك إن ضجرت لم تصبر على حقّ وإن كسلت لم تُؤدّ حقّاً ، يا عليّ من استولى عليه الضجرُ رحلت عنهُ الرّاحةُ » (2).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : « إنّ الأشياء لمّا ازدوجت ازدوج الكسلُ والعجزُ فنجا بينهُما الفقرُ » (3).

وقال الإمام الباقر علیه السلام : « إنّي لأبغضُ الرّجُل ( أو لأبغض للرجل ) أن يكون كسلان عن أمر دُنياهُ ومن كسل عن أمر دُنياهُ فهو عن أمر آخرته أكسلُ » (4).

وقال الإمام الباقر علیه السلام : « إنّي لأجدُني أمقُتُ الرّجُل يتعذّرُ عليه المكاسبُ فيستلقي على قفاه ويقولُ : ( اللّهمّ ارزقني ) ويدع أن ينتشر في الأرض ويلتمس من فضل اللّه ، والذرةُ ( أيّ النّملُ ) تخرُجُ من حجرها تلتمسُ الرّزق » (5).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « لا تكُونُوا كُلُولاً على النّاس » (6).

وقال علیه السلام أيضاً : « لا تكسلُوا في طلب معايشكُم فإنّ آباءنا ، قد كانُوا يركُضُون فيها ، ويطلُبونها » (7).

ص: 480


1- وسائل الشيعة 12 : 1. 37 ، 18 ، 18.
2- الوسائل 11 : 320.
3- وسائل الشيعة 12 : 1. 37 ، 18 ، 18.
4- وسائل الشيعة 12 : 1. 37 ، 18 ، 18.
5- من لا يحضره الفقيه 3 : 95.
6- وسائل الشيعة 12 : 1. 37 ، 18 ، 18.
7- من لا يحضره الفقيه 3 : 95.

وقال علیه السلام : « من كسل عمّا يُصلحُ به أمر معيشته فليس فيه خير لأمر دُنياهُ » (1).

وقال علیه السلام : « ليس منّا من ترك دُنياهُ لآخرته ، ولا آخرته لدُنياهُ » (2).

وقال علیه السلام : « لا تكسل عن معيشتك فتكُون كلاًّ على غيرك ( أو قال : على أهلك ) » (3).

وقال الإمام الكاظم علیه السلام : « إنّ اللّه تعالى ليُبغضُ العبد النوّام ، إنّ اللّه تعالى ليُبغضُ العبد الفارغ ( العاطل ) » (4).

وحثّ على العمل والسعي والاشتغال بكلّ عمل مفيد كالتجارة والزراعة ، والصناعة وما شابهها من الاُمور التي تدرّ على الإنسان بالرزق الحلال وتؤدّي إلى إنعاش الاقتصاد وإليك طائفة من الروايات في هذا المجال :

قال الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « العبادةُ سبعُون جُزءاً أفضلُها طلبُ الحلال » (5).

وقال : « من المُروّة استصلاحُ المال » (6).

وقال : « اتّجرُوا بارك اللّه لكُم » (7).

وقال : « نعم العونُ على تقوى اللّه الغنى » (8).

وروي أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا أقبل من غزوة تبوك استقبله سعد الانصاريّ فصافحه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ثمّ قال له : « ما هذا الذّي أكبت ( أخشن ) يديك ؟! »

قال يا رسول اللّه : أضرب بالمرّ والمسحاة فأنفقه على عيالي ، فقبّل يده رسول اللّه ، وقال : « هذه يد لا تمسّها النّارُ » (9).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « إنّ اللّه تبارك وتعالى يُحبّ المُحترف الأمين » (10).

ص: 481


1- الوسائل 12 : 1. 37 ، 13 ، 5.
2- من لا يحضره الفقيه 3 : 2. 103 ، 102 ، 94 ، 95.
3- الوسائل 12 : 1. 37 ، 13 ، 5.
4- من لا يحضره الفقيه 3 : 2. 103 ، 102 ، 94 ، 95.
5- الوسائل 12 : 1. 37 ، 13 ، 5.
6- من لا يحضره الفقيه 3 : 2. 103 ، 102 ، 94 ، 95.
7- الوسائل 12 : 1. 37 ، 13 ، 5.
8- من لا يحضره الفقيه 3 : 2. 103 ، 102 ، 94 ، 95.
9- اُسد الغابة 2 : 269.
10- من لا يحضره الفقيه 3 : 2. 103 ، 102 ، 94 ، 95.

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « إن اللّه ليُحبُّ الاغتراب في طلب الرّزق » (1).

وقال أيضا : « نعم العون : الدّنيا على الآخرة » (2).

وقال أيضا : « إنّي لأُحبّ أن أرى الرجُل مُتحرّفاً [ أو متبكّراً ] في طلب الرّزق » (3).

وكان الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب يخرج في الهاجرة ( وقت الظهر ) في الحاجة قد كفيها ، يريد أن يراه اللّه يتعب نفسه في طلب الحلال » (4).

وقال الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله : « طلبُ الحلال فريضة على كُلّ مُسلم ومُسلمة » (5).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « كان أمير المُؤمنين يحتطبُ ويستقي ويكنسُ ، وكانت فاطمةُ تُطحنُ وتعجنُ وتخبزُ » (6).

وقال أيضا : « الكادّ على عياله من حلال كالمُجاهد في سبيل اللّه » (7).

وقال أيضا : « إصلاحُ المال من الإيمان » (8).

وعن الفضل بن أبي قرّة قال : دخلنا على أبي عبد اللّه [ الصادق ] وهو يعمل في حائط له فقلنا : جعلنا اللّه فداك دعنا نعمل لك ، أو تعمله الغلمان ، قال : « لا ، دعُوني فإنّي أشتهي أن يراني اللّه عزّ وجلّ أعملُ بيدي وأطلبُ الحلال في أذى نفسي » (9).

وقال : الإمام موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام : « اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً » (10).

وقال : « لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى تكون فيه خصال ثلاث : الفقه في الدّين وحسن التّقدير في المعيشة والصّبر على الرزايا » (11).

ص: 482


1- من لا يحضره الفقيه 3 : 1. 95 ، 95 ، 99.
2- من لا يحضره الفقيه 3 : 1. 95 ، 95 ، 99.
3- من لا يحضره الفقيه 3 : 1. 95 ، 95 ، 99.
4- من لا يحضره الفقيه 3 : 1. 95 ، 95 ، 99.
5- بحار الأنوار 103 : 9.
6- من لا يحضره الفقيه 3 : 104.
7- من لا يحضره الفقيه 3 : 104.
8- من لا يحضره الفقيه 3 : 104.
9- من لا يحضره الفقيه 3 : 94 و 98.
10- من لا يحضره الفقيه 3 : 94 و 98.
11- تحف العقول : 324.

وعن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه قال رأيت أبا الحسن [ الكاظم ] علیه السلام يعمل في أرض له ، وقد استنقعت قدماه في العرق ، فقلت له : جعلت فداك أين الرجال ؟ فقال علیه السلام : « يا عليّ عمل باليد من هو خير منّي ومن أبي في أرضه » فقلت : من هو ؟ فقال : « رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأمير المؤمنين وآبائي علیهم السلام كلّهم قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النّبيّين والمرسلين والصّالحين » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « تعرّضوا للتّجارات فإنّ لكم فيها غنىً عمّا في أيدي النّاس » (2).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « ازرعوا واغرسوا فلا واللّه ما عمل النّاس عملاً أحلّ ولا أطيب منه » (3).

وقال أيضا : « الزّارعون كنوز الأنام يزرعون طيّباً أخرجه اللّه عزّ وجلّ وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً ، وأقربهم منزلةً يدعون المباركين »(4) .

وقال : « الّذي يطلب من فضل اللّه عزّ وجلّ ما يكفّ به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل اللّه » (5).

وعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « طلب الكسب فريضة بعد الفريضة » (6).

ولعلّ أجمع ما ورد حول تشجيع الزراعة والصناعة والعناية بالاقتصاد في الإسلام هو ما كتبه الإمام عليّ علیه السلام في عهده المعروف للأشتر النخعيّ حينما ولاّه على مصر إذ قال : « وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلاّ بهم ، لأنّ النّاس كلّهم عيال على الخراج وأهله.

وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا

ص: 483


1- من لا يحضره الفقيه 3 : 98.
2- وسائل الشيعة 12 :2. 193 - 194.
3- وسائل الشيعة 12 :2. 193 - 194.
4- وسائل الشيعة 12 :2. 193 - 194.
5- الكافي 5 : 88.
6- بحار الأنوار 103 : 17.

يُدركُ إلاّ بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلاّ قليلاً. فإن شكوا ثقلاً أو علّةً أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم ولا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المؤونة عنهم ، فإنّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك ».

ثمّ يقول : « ثمّ استوص بالتجّار وذوي الصّناعات وأوص بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفّق ببدنه ... فإنّهم موادّ المنافع وأسباب المرافق وجلاّبها من المنافع والمطارح في برّك وبحرك وسهلك وجبلك ... وتفقّد امورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك وأعلم - مع ذلك - أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكّماً في البياعات وذلك باب مضرّة للعامّة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فانّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل ، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ، فمن قارف حكرةً بعد نهيك إيّاه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف ».

إلى غير ذلك من الأحاديث والروايات الوافرة التي يضيق بذكرها المجال.

موضع الزهد والتوكّل في الإسلام

ربّما يتوهّم وجود المنافاة بين دعوة الإسلام إلى العمل ونبذ الكسل وما يدلّ على لزوم الزهد والتوكّل على اللّه في الاُمور ، وهذا وهم يقف على بطلانه من له إلمام بالكتاب والسنّة ، فإنّ الزهد الذي ندب إليه الإسلام ، والتوكّل الذي حثّ عليه ليس بمعنى ترك تحصيل الدنيا وترك الاشتغال والعمل ، وإنّما يراد من الزهد عدم التعلّق بالدنيا كما فسّرته الأحاديث الشريفة ومنها قول أمير المؤمنين علیه السلام : « الزّهد في الدّنيا قصر الأمل ، وشكر كلّ نعمة والورع عمّا حرّم اللّه عليك » (1).

ص: 484


1- معاني الأخبار للصدوق : 239 ، ونهج البلاغة : الخطبة رقم 79.

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « ليس الزّهدُ في الدّنيا بإضاعة المال ، ولا بتحريم الحلال بل الزّهدُ في الدّنيا أن لا تكون بما في يدك أوثقُ منك بما في يد اللّه عزّ وجلّ » (1).

وعن الإمام عليّ علیه السلام أنّه قال : « الزّهدُ بين كلمتين من القُرآن : قال اللّه سُبحانهُ : ( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) ومن لم يأس على الماضي ، ولم يفرح بالآتي ، فقد أخذ الزّهد بطرفيه » (2).

وعن الإمام عليّ بن الحسين السجّاد علیه السلام أنّه جاءه رجل فقال له :

فما الزهد قال : « الزّهدُ عشرُ درجات ، فأعلى درجات الزّهد أدنى درجات الرّضا ، ألا وإنّ الزّهد في آية من كتاب اللّه ( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) » (3).

وأمّا التوكّل على اللّه فلا يعني ترك العمل بل يعني أن يتوسّل الإنسان بكلّ الأسباب الظاهريّة لقضاء حوائجه ، ولكي يرفع كلّ نقص في الأسباب الطبيعيّة يستمدّ المدد والعون من اللّه ، ويستعينه على التوفيق.

إنّ الإنسان المتوكّل يعلم أنّه يعيش في عالم الأسباب والمسبّبات وأنّ إرادة اللّه تعلّقت بأن يتوصّل الإنسان إلى مقاصده عن طريق هذه الأسباب ، فيكون التمسّك بهذه الأسباب أخذاً بأمره ، واتّباعاً لقانونه ، ولكن حيث إنّ هذه العلل والأسباب قد تقصر عن اداء المطلوب ، أو ربما لا يتعرّف الإنسان عليها أو على بعضها أو ربّما يعوقه عائق فإنّ اللّه يأمر المسلم بأن يتّكل على قدرة اللّه المطلقة ، ويطلب منه العون والمدد على قضاء حوائجه دون أن يقنط أو ييأس اتّجاه هذه المشاكل ، ويزداد هذا المعنى وضوحاً إذا علمنا بأنّ الحثّ على التوكّل والأمر به جاء في سياق آيات الجهاد والقتال والمرابطة ، والعمل ، والاجتهاد وقد خاطب اللّه - في الأغلب - به المجاهدين ، وإليك طائفة من هذه الآيات ، قال سبحانه : ( إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

ص: 485


1- معاني الأخبار للصدوق : 239.
2- نهج البلاغة : الحكم رقم 439.
3- معاني الأخبار للصدوق : 239.

المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران : 122 ).

وقال : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران : 173 ).

وقال : ( نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ( العنكبوت : 58 - 59 ).

وقال : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ( آل عمران : 159 ).

وخلاصة القول : أنّ التوكّل على اللّه ليس بالمعنى المحرّف الذي ذهب إليه فريق من الناس من أنّه ترك العمل والجهد والسعي ، بل يعني أنّ الإنسان قد يواجه في حياته مشكلات يعجز عن التغلّب عليها وتجاوزها فعليه أن يستمد العون من اللّه تعالى ، وبهذا الطريق يحارب اليأس ، وتزداد روحه قوّة وصموداً ، ويتغلّب على مشكلاته.

وبعبارة اُخرى : إنّ التوكّل هو قسم من التوحيد الأفعالي الذي يعني أن يعتقد المسلم بأنّه لا مؤثّر مستقل في الوجود إلاّ اللّه سبحانه ، وأمّا غيره فليست إلاّ مؤثّرات وعوامل بإذنه ومشيئته سبحانه ، وبهذا لا يكون التوكّل منحصراً في صعاب الاُمور ، بل يعمّ هيّنها وصعبها جميعاً لأنّ معناه - حينئذ - هو أنّ العبد لا يقوم بفعل مهما كان سهلاً أو صعباً إلاّ بحول اللّه وقوّته وإلاّ بعونه وطوله سبحانه وتعالى ، وأنّ جميع الأسباب مؤثّرة بإذنه سبحانه ، ولعلّ الحديث التالي أوضح برهان على ما ذكرناه في معنى التوكّل مضافاً إلى ما سبق من الأحاديث :

عن عليّ بن عبد العزيز قال : قال أبو عبد اللّه [ الصادق علیه السلام ] : « ما فعل عُمرُ بنُ مُسلم » قلت : جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة ، فقال :

« ويحه أما علم أنّ تارك الطّلب لا يستجاب له ».

إنّ قوماً من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا نزلت ( وَمَن يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا : قد كفينا ، فبلغ

ص: 486

ذلك النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأرسل إليهم وقال : « ما حملكم على ما صنعتم ؟ » فقالوا : يا رسول اللّه تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة ، قال : « إنّه من فعل ذلك لم يستجب له ، عليكم بالطّلب » (1).

3. الإسلام يقرّ مبدأ التنافس

إنّ الإسلام لم يكتف بالحثّ على العمل والسعي بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث أقر التنافس السليم لأنّ ذلك يوجب تفتّح المواهب وتحرّك القابليّات الذي من شأنه تقدّم الاقتصاد ، بل وازدهار الحياة ، ولذلك فهو يقرّ كلّ ملكيّة حاصلة عن سبب مشروع كائناً من كان صاحبها ، فلا يؤمم وسائل الإنتاج بصورة مطلقة لأنّ ذلك يقتل الدوافع الذاتيّة لدى الأفراد ، ويقضي على الحوافز الشخصيّة ، ويوجب ذلك شلل الاقتصاد كما هو الحال في الأنظمة الاشتراكيّة ، ولكنّه منعاً من ظهور الرساميل الكبيرة - جدّاً - جعل الإسلام المنابع الطبيعيّة - التي سيوافيك ذكرها في الأنفال - في ملكيّة الدولة الإسلاميّة.

ولا يخفى أنّ الكثير من الرساميل والثروات الضخمة الهائلة جداً تنشأ عادة من استيلاء الأفراد على هذه المنابع واستقلالهم - دون الناس - باستثمارها واستخراجها دون رقيب ، وبلا حساب ، ويكفي أن نعرف أنّ في إيران وحدها (800) نوعاً من المعادن الغنيّة جدّاً ، في حين لا يستثمر سوى عُشر هذه المعادن لا أكثر وهي تشكّل ثروات لا يمكن تحديد عائداتها إطلاقاً ولقد كان استثمار أكثر هذه المعادن في العهد المباد يعود إلى جماعة خاصّة من الرأسماليين الكبار الذين كنزوا من عائداتها ثروات لا تحدّ ولا تعدّ.

إنّ الإسلام بتأميمه للثروات الطبيعيّة وجعلها للعموم منع من ظهور الملكيّات الهائلة.

هذا مضافاً إلى أنّ الدولة الإسلاميّة يجوز لها أن تمنع الأفراد من توظيف الأموال في

ص: 487


1- نور الثقلين 5 : 354 - 355.

الأقسام الضخمة والكبيرة كالصنائع الاُمّ ، وشركات انتاج الطاقة وإسالة المياه ، والمواصلات الجويّة وما شابه ، ممّا يدرّ بالدخل غير المحدود على أصحاب تلك الأموال ، حتّى يمنع من ظهور الفوارق الطبقيّة العميقة الناشئة من حصول أمثال تلك الثروات الهائلة للأفراد.

إنّ الإسلام وإن أقرّ مبدأ التنافس وترك المجال مفتوحاً أمام الساعين والعاملين إلاّ أنّ هذا لم يمنعه من تحديد الملكيّة حتّى لا تطغى ، فقد منع من ظهور الملكيّات الطائلة بالطرق التالية :

أوّلاً : تأميم المصادر الطبيعيّة وجعلها ملكاً للدولة لا للأفراد.

ثانياً : إنّه جوّز وفقا للمصالح العامّة للدولة الإسلاميّة منع الأفراد من توظيف رؤوس الأموال في الصناعات الكبرى ذات العائدات غير المحدودة.

ثالثاً : فرض الضرائب التصاعديّة الدائميّة ، والاستثنائيّة في بعض الأحيان المقتضية لذلك.

رابعاً : تهيئة فرص العمل والتقدّم لجميع الأفراد من الاُمّة بإعطاء المعونات الماليّة لهم ، والسماح للجميع بامتلاك وسائل الإنتاج بصورة مستقلّة أو على نحو الشركة حتّى يتخلّص العامل من استثمار أرباب العمل واستغلالهم له ، وإجباره على القبول باجور زهيدة ، والرضوخ لشروط مجحفة.

4. الحريّة الاقتصاديّة في النظام الإسلاميّ

إنّ إقرار مبدأ التنافس والدعوة إليه يطرح مسألة الحريّة ، إذ بدون الحريّة لا يمكن التنافس ، فهل توجد الحريّات في ظلّ الأنظمة غير الإسلاميّة ؟

إنّ مراجعة سريعة للنظريّة والتطبيق تهدينا إلى أنّه لا توجد أيّة حريّات في النظام الاشتراكيّ إطلاقاً ، وأمّا في النظام الرأسماليّ فلا تعني الحريّة سوى إطلاق العنان لجماعة خاصّة ومن يدور في فلكهم ، في تكديس الثروة كيفما اتّفق والمضي بلا حدود في إشباع

ص: 488

الشهوات والنزوات الحيوانيّة وإن أضرّت بالأخلاق ، وأساءت إلى القيم الإنسانيّة الرفيعة ، بينما تخضع ( الحريّة ) في النظام الإسلاميّ لحدود معقولة إنسانيّة ، لأنّها لا تعني في منطقه إلاّ إفساح المجال للمواهب والقابليّات البشريّة للتكامل ، والانطلاق في دروب التقدّم والرقي ، والاستفادة من مواهب اللّه في الطبيعة دون اعتداء على عقيدة الآخرين وأخلاقهم وأمنهم وراحتهم.

إنّ الإسلام يعتقد بحريّة الإنسان في مسكنه ومعمله ، وفي كلّ مجالات حياته ولكن في إطار الأخلاق والإنسانيّة وقيم الدين ، التي من شأنها توظيف الحريّة في سبيل إسعاد الإنسان.

وقد مرّ مجمل القول في ذلك عند البحث عن خصائص الحكومة الإسلاميّة الخصيصة السادسة.

5. الإنتاج في إطار الإنسانيّة

إنّ كلا المنهجين ( الرأسماليّ والاشتراكي ) لا يعترفان بمانع ولا حاجز في طريق الإنتاج ، فهما يطلبان المزيد منه بالعمل والسعي ويرفضان كلّ قيد وشرط في هذا السبيل إلاّ إذا كان يساعد بدوره على تصعيد الإنتاج ، واستدرار المزيد من الأرباح والعائدات !! بينما يقيم الإسلام بعض الموانع ، ويضع بعض القيود في هذا السبيل ، ويقيّد العمل والإنتاج ببعض الشروط والحدود ، فلا يمكن للناس أن ينتجوا كل ما تهواه نفوسهم حتّى إذا كان يعود على أخلاقهم وعقيدتهم وحياتهم بسوء أو أذى ، فحتّى الأسلحة والوسائل الحربيّة التي يسمح الإسلام بإنتاجها ، إنّما يسمح به لأجل الدفاع عن حوزة الإنسان والإنسانيّة ، ولأجل تحصين البشر من شرّ أنفسهم ، وها هو القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة بقوله : ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ) ( الأنبياء : 80 ).

ص: 489

6. العدالة الاجتماعيّة هو الهدف الأسمى

إنّ العدالة الاجتماعيّة هي الأصل والأساس ، وهي الهدف الأسمى والمطلب الأعلى في الاقتصاد الإسلاميّ ، وهو أصل حاكم على كلّ برامجه ، ومقرّراته وتعاليمه.

إنّ تمركز الثروة عند طبقة خاصّة وتكدّسها عند جماعة معدودة أمر مرفوض في منطق الإسلام رفضاً قاطعاً ، لأنّه يتنافى وأصل العدالة الاجتماعيّة التي يسعى الإسلام إلى إقامتها ونشرها في المجتمع البشريّ ، فيجب على ( الحاكم الإسلاميّ ) أن يخطّط للاقتصاد تخطيطاً يضمن تداول الثروة بين جميع أبناء الاُمّة بصورة عادلة ، ويحول دون تداولها بين الأغنياء خاصّة ... الذي منع عنه القرآن الكريم بقوله : ( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ) ( الحشر : 7 ).

ولأجل ذلك حرّم الإسلام ( الكنز ) (1) كما يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( التوبة : 34 ).

ولتحقيق هذه العدالة الاجتماعيّة المتوخّاة ، يرفض الإسلام أي تمييز واستثناء بين أفراد الاُمّة الإسلاميّة ، ومن هنا لا تختصّ المنابع الطبيعيّة التي سنشرحها في الأنفال والأرض منها خاصّة ، بفئة دون فئة ، أو فرد دون فرد ، أو طبقة دون طبقة ... بل للدولة الإسلاميّة حقّ النظارة وأولويّة الاستفادة منها وصرف عائداتها في مصالح الشعب بلا تمييز ولا استثناء ، أو قيام أفراد الشعب بأنفسهم باستثمار تلك المنابع حسب الضوابط التي تستوجبها المصلحة الراهنة.

7. لا إسراف ولا تبذير

كما أنّ الإسلام خطى خطوة اُخرى في سبيل تحقيق هذه العدالة فنهى عن الإسراف والتبذير لأنّ في ذلك إهدار للطاقات ، وتضييع لحقوق الآخرين ، وهو أمر

ص: 490


1- وللبحث حول حقيقة الكنز وبماذا يتحقّق مجال آخر.

مخالف لأصل العدالة التي يسعى الإسلام إلى إقامتها. يقول اللّه سبحانه : ( وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ) ( الاسراء : 26 - 27 ).

ويقول سبحانه : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( الأعراف : 31 ).

8. الأخلاق عامل أصيل

إنّ جميع المفاهيم الأخلاقية لا معنى لها ولا مبرّر في النظامين الاقتصادييّن ( الرأسماليّ والاشتراكيّ ) إلاّ إذا ساعدت على زيادة الإنتاج وزيادة الاستهلاك وإنجاح الأهداف الاقتصاديّة ، بل إنّ الفكر الاشتراكيّ يعتبر الأخلاق وليدة الظروف الاقتصاديّة ، وبذلك تعتقد بعدم أصالتها في الحياة البشريّة ، ولكن الإسلام يعتبر لهذه المفاهيم أصالة وواقعيّة بصرف النظر عن القضايا الاقتصاديّة وإن كانت ترتبط بها أحياناً.

ولهذا ورد الحثّ عليها حثّاً مطلقاً وأكيداً فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه يحبّ مكارم الأخلاق ويبغض سفسافها » (1).

وعن أبي عبد اللّه الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « عليكم بمكارم الأخلاق فإنّ اللّه عزّ وجلّ يحبّها ، وإيّاكم ومذامّ الأخلاق فإنّ اللّه عزّ وجلّ يبغضها » (2).

فالذي يطلب الدنيا وشهواتها ولذائذها ويضحّي في سبيل ذلك بكلّ القيم والأخلاق فهو إنسان في صورته وحيوان في سيرته كما قال الإمام عليّ علیه السلام : « فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان لا يعرف باب الهدى فيتّبعه ولا باب العمى فيصدّ عنه فذلك ميت الأحياء » (3).

ص: 491


1- سفينة البحار 1 : 411.
2- وسائل الشيعة ( كتاب جهاد النفس ) 11 : 156.
3- نهج البلاغة : الخطبة 83.

هذا مضافاً إلى أنّ الإسلام يعتبر العامل الأخلاقيّ خير وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعيّة التي ينشدها ، ويعزّي أكثر الانحرافات الاقتصاديّة إلى انعدام الأخلاق الفاضلة والسجايا الإنسانيّة.

9. الاقتصاد وسيلة لا هدف

إنّ كلا المنهجين الرأسماليّ والاشتراكيّ يجتهدان لتحقيق أهداف ثلاثة لا شيء وراءها :

1. التخطيط لما يجب إنتاجه من البضائع.

2. التفكير في الكيفيّة التي يجب الإنتاج بها من حيث الوسائل ، والقوى العاملة.

3. التفكير في كيفيّة التوزيع ، والتخطيط لذلك.

إنّ أفضل نظام اقتصاديّ في نظر أصحاب هذين النظامين ، هو الذي يقدر على ضمان هذه الاُمور الثلاثة وإعطاء الاقتراحات المناسبة لذلك بأحسن وجه ، وأمّا ما هو الهدف الأصليّ من تحقيق هذه الأهداف الثلاثة ؟ فلم يفكّر فيه النظامان المذكوران ، ولا أنّهما أجابا عليه.

ويمكن أن يقال : إنّ الإجابة على هذا السؤال ليست من اختصاص النظام الاقتصاديّ ، بل هو من مسؤوليّة العالم الفلسفيّ ، وشؤونه ، بيد أنّنا عندما نراجع العالم الماديّ الذي يستند إليه هذان النظامان لا نجد عنده جواباً كذلك.

من هنا لا بدّ أن نعتبر هذه الأهداف الثلاثة مثلّث الضياع والعبث والحيرة فالذي يلاحظ هذا المثلّث : ( العمل لأجل الأكل ، والأكل لأجل البقاء ، والبقاء لأجل العمل ) لا يرى فيه سوى العبث واللاهدفيّة والضياع.

إنّ مثل هؤلاء مثل سفينة يجهّزها صاحبها بأحسن الوسائل ، ويملأها بأنواع الزاد ، ويحمل الناس فيها ، ثمّ يسافر بها إلى وسط المحيط حيث لا يرى للماء ساحل ، ثمّ

ص: 492

يصير هناك حيران لا يعرف مقصداً ، ولا يطلب هدفاً ، أو يرجع إلى مكانه الأوّل.

إنّ الذاهبين إلى تلخيص الحياة في الهدف الماديّ مثلهم كمثل هذا الربّان لا يهدفُ من رحلته مقصداً ولا يقصد منها غاية وهل أمر ذلك إلاّ في خسار.

أجل ، هذا هو كلّ ما يقصده ويسعى إليه النظامان الاقتصاديّان الرأسماليّة والاشتراكيّة : زيادة في الإنتاج ، وتخطيط للتوزيع ، وتطوير في وسائل الإنتاج ، ولا شيء وراء ذلك ، ولكنّ الإسلام يعالج هذه المسألة معالجة منطقيّة واقعيّة فهو يعتبر الدنيا مقدّمة للآخرة ومزرعة لها ، وأنّ على الإنسان أن لا يحصر اهتمامه في هذه الحياة العابرة ، بل يسعى للآخرة دون أن ينسى نصيبه من الدنيا ، كما قال اللّه تعالى : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) ( القصص : 77 ).

ولابد هنا من الإشارة إلى المواضيع التي تضمّنتها هذه الآية :

إنّ قوله تعالى : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ) يشير إلى أنّ طلب الدنيا يجب أن يكون لأجل الآخرة فتكون الآخرة هي المقصد والغاية ، وحيث أمكن أن يتوهّم من هذا الكلام أنّ الإسلام يدعو إلى الرهبنة وترك الدنيا ، إستدرك اللّه سبحانه ذلك بقوله : ( وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) فأفاد بذلك أنّه لا رهبانيّة في الإسلام.

فعلى المسلم أن يقصد الآخرة ويهدفها ولكن دون أن ينسى نصيبه من الدنيا إذ لا معاد لمن لا معاش له.

وأمّا قوله سبحانه : ( وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ ) فهو إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يعلم بأنّ ما وصل إليه إنّما هو بإحسان اللّه إليه ، فعليه أن يقابل ذلك الإحسان بأداء ما افترض اللّه عليه من حقوق والقيام بما ندبه إليه من واجبات اجتماعيّة.

وقوله سبحانه : ( وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) إشارة إلى كيفيّة الإنفاق والمصرف ، فعلى المسلم أن لا ينفق في باطل ، ولا يسرف ولا يبذّر ولا يعبث ولا يصرف مال اللّه في لهو أو فساد.

ص: 493

10. الإنسان محور وليس آلة

إنّ للإنسان - في الاقتصاد الإسلاميّ - مقاماً رفيعاً ، وشأناً كبيراً ، فهو لم يخلق للإنتاج والاستهلاك ، وهو لم يأت إلى هذه الحياة ليكون مسماراً في معمل أو حيواناً مستهلكاً في زريبة. بل هو كائن مكرّم خلقت الأشياء لأجله ولم يخلق هو لأجلها ولذلك فليس الإنسان عبداً أسيراً بيد الاقتصاد ، وآلة طيّعة بأيدي الاقتصاديّين ليستغلّوه كيفما شاؤوا ، ويستخدموه كيفما أرادوا ، كيف وقد جعله اللّه حرّاً كما قال الإمام عليّ علیه السلام : « لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حرّاً » (1).

وأيّة عبوديّة أشدّ وأوضح من تعلّق الإنسان بالمال ، وفنائه في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك ؟ وهل جاء الإنسان إلى هذه الحياة ليفعل ما تفعله الحيوانات في حظائرها وزرائبها كما يقول الإمام عليّ علیه السلام : « ما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها ، تكترش من أعلافها ، وتلهو عمّا يراد بها ، أو اترك سدىً ، أو أهمل عابثاً ، أو أجرّ حبل الضّلالة أو اعتسف طريق المتاهة » (2).

فذلك لا يتفق مع المكانة التي رشّحه اللّه سبحانه لها ، والمقام الذي ندبه إليه ، وهو مقام الخلافة الإلهيّة في الأرض ، التي صرح بها القرآن الكريم إذ قال : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة : 30 ).

وهو الذي كرّمه اللّه سبحانه ، وفضّله على كثير ممّن خلق إذ قال : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) ( الإسراء : 70 ).

إنّ الإسلام ينظر إلى النوع الإنسانيّ من هذه الزاوية ، وبهذا المنظار ، فإنّ الإنسان - في منطق الإسلام - كائن مكرّم ، ذو مكانة رفيعة فلا تجوز الاستهانة بقيمته ، وتلخيص

ص: 494


1- نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم 31.
2- نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم 45.

حياته ووجوده في الإنتاج والاستهلاك ، وتلبية الغرائز الحيوانيّة وإشباعها.

وإذا نظر الإسلام إلى القضيّة الاقتصاديّة والاُمور المعيشيّة من مسكن وغذاء وغيرهما ، فلأجل أنّ كرامة الإنسان وتكامله يستدعيان ذلك ، وبذلك يكون الاقتصاد في نظر الإسلام وسيلة لا هدفاً ، وطريقاً لا غاية ونهاية.

من هنا لا يصحّ - مطلقاً - أن نتوخّى من الاقتصاد الإسلاميّ ، ما نتوقّعه من الاقتصادين الرأسماليّ والاشتراكيّ فإنّ هذين المنهجين ينظران إلى الإنسان بما أنّه ( منتج ) أو ( مستهلك ) ولا تهمّهما كرامته وشخصيّته ، ومن هنا كان الاقتصاد في هذين المنهجين هدفاً وغاية ، وكان الإنسان فيهما وسيلة وآلة ، فلا اعتناء بشأنه ، ولا اهتمام بكرامته.

ولا تنس ما ذكرناه في أوّل البحث من أنّ الهدف من هذا الفصل هو بيان مسألة دعوة الإسلام إلى التنمية الاقتصاديّة وبيان إطاراتها دون بيان المنهج الاقتصاديّ للإسلام فإنّ لذلك مجالاً آخر.

ص: 495

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

4

الحكومة الإسلاميّة والصحّة الفرديّة والصحّة العامّة
عناية الإسلام بصحّة الأبدان

لم يحصر الإسلام عنايته بالاُمور الاُخرويّة وحدها ، بل عمّم هذه العناية للاُمور الماديّة والدنيويّة أيضًا ، وعلّم المسلم أن يطلب من اللّه سبحانه حسنة الدنيا والآخرة : ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ) ( البقرة : 201).

ومن هنا اهتمّ الإسلام بالجسد اهتمامه بالروح ، وحرص على سلامة الأبدان وتقويتها كما حرص على سلامة الأرواح وتقويتها سواء بسواء ، ولأجل هذا نجد القرآن الكريم إذا ذكر نعمة اللّه على أحد من عباده لم يكتف بذكر النعم المعنويّة كالعلم ، بل ذكر إلى جانب ذلك نعمة القوّة البدنيّة ، والكمال الجسديّ.

فهو عندما يتحدّث عن ( طالوت ) الذي أرسله اللّه لقيادة بني اسرائيل قال في وصفه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ

ص: 496

وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة : 247 ).

وهو عندما يتحدّث عن أبرز صفتين من صفات موسى علیه السلام على لسان ابنة شعيب يذكر أمانته وقوّته الجسمانيّة فيقول : ( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) ( القصص : 26 ).

إنّ صاحب الجسم العليل لا تتاح له الفرصة الكاملة للسير صعداً في مضمار الحياة ، والقيام بواجبه الإنسانيّ كأيّ عضو سليم ، صحيح البدن ، معتدل البنية من أعضاء المجتمع البشريّ وذلك للصّلة الوثيقة بين الروح والجسدفي الكيان الإنسانيّ والتأثير المتقابل بينهما ومن هنا مدح القرآن الكريم الكمال الجسمانيّ والقوّة البدنيّة ، كما مرّ عليك في الآيتين السابقتين ، فإنّ القوّة البدنيّة إذا انضمّت إلى سلامة العقل أنتجت جودة الفكر ، وحسن التدبير ، وسعادة الحياة ولهذا ذكر القرآن بعد مسألة الاصطفاء والاختيار « العلم والقوّة البدنيّة » إيذاناً وإعلاماً بأنّ الاصطفاء والاختيار كان باعتبار القوّة البدنيّة إلى جانب العلم ممّا يعني أنّ للجسم والكمال الجسمانيّ قسط من الثمن ، ومدخليّة في السعادة أو الشقاء سلباً أو إيجاباً.

وانطلاقاً من حرص الإسلام على صحّة الأبدان وسلامتها ، وقوّتها واستقامتها يرفع الدين أي تكليف شاقّ مضرّ بالبدن ، عن الناس ، فرفع اللّه الصيام عن ( المريض ) و ( المسافر ) ، إذ يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( البقرة : 183 - 184 ).

وإنّما رفع الصوم عن المسافر لأنّ السفر بنفسه مضنّة النصب ، وهو من مغيّرات الصحّة فإذا وقع فيه الصيام ازداد التعب والنصب ولهذا أيضاً جوّز القرآن للمحرم المريض أو من به أذى في رأسه أن يحلق رأسه إذا كان إبقاء الشعر يوجب الأذى فقال تعالى : ( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن

ص: 497

رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) ( البقرة : 196 ).

وهو إشارة إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم ، للتخلّص من الأذى الحاصل بسبب إبقاء الشعر ، وانحباس الحرارة في الرأس ، بل يرفع الإسلام كلّ ما يجهد البدن ويتعبه ويضنيه ، ويجر إليه التعب والنصب كما يقول القرآن الكريم : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) ( البقرة : 286 ).

تعاليم القرآن الصحّيّة

وفي هذا السبيل وضع الإسلام سلسلة من التعاليم الصحّية للأبدان من شأنها أن تصون الأبدان من الأمراض ، وتقيها من العلل والأسقام لو روعيت حقّ الرعاية وطبقت حقّ التطبيق وقد جاءت طائفة من هذه التعاليم في القرآن الكريم ، وتكفّلت السنّة المطهّرة ببيان البقيّة ، وها نحن نذكر باختصار ما ذكره القرآن الكريم أوّلا.

لقد حرم القرآن اُموراً ونهى عن اُمور وكره أشياء وأباح اُخرى ، وما حرّم ولا نهى ، وما كره أو أباح إلاّ لحكمة ظاهرة وأثر سيّء أو حسن على سلامة البدن وصحّته ، فحرّم أكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير بقوله : ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة : 173 ).

وإنّما حرّم « الميتة » من الحيوان ( وهي التي تفارقها الحياة من دون ذبح ) لأنّ الموت إن كان عن مرض ، أضرّ بالإنسان حتّى إذا عقّم لحمها من الجراثيم فهي تسبّب المغص في المعدة ، وتسبب النزلات المعويّة ، وعشرات المضاعفات الاُخرى.

وحرّم « الدم » لأنّه أفضل مرتع للجراثيم والميكروبات المسبّبة للأمراض الخطيرة.

وحرّم « لحم الخنزير » لما يحدثه من أمراض خطيرة لما يحمله من دودة خاصّة تنتقل بالأكل إلى بدن الإنسان وتحدث لديه أمراضاً كثيرة قد تؤدّي إلى الموت.

وحرّم - أيضاً - ما يشبه الميتة كالمنخنقة ، والموقوذة ، والمترديّة ، والنطيحة فقال

ص: 498

سبحانه : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ) ( المائدة : 3 ).

لأنّ الاختناق يجعل لحم الحيوان المخنوق أسرع إلى التعفّن والفساد.

ومثل المنخنقة ، الموقوذة ، وهي التي تضرب حتّى تشرف على الموت فتترك حتّى تموت ، والمتردّية وهي التي سقطت من مكان مرتفع فماتت من أثر صدمة الوقوع ، والنطيحة وهي التي ماتت من أثر عراكها مع مثيلاتها من الحيوانات.

وبالجملة فهذه الحالات تجعل بدن الحيوان مرتعاً خصباً لنموّ الجراثيم والميكروبات ، ومعرضاً لسرعة التعفّن والفساد.

ولم يقتصر تحريم الإسلام على هذه الاُمور بل حرّم مطلق الخبائث ، إذ قال اللّه سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ) ( الأعراف : 157 ).

هذا مضافاً إلى أنّه حرّم تناول الخمور ( بل كلّ مسكر (1) كما في الحديث ) بقوله : ( ... إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( المائدة : 90 ).

ص: 499


1- قال الصادقّ علیه السلام : « حرّم اللّه عزّ وجلّ الخمر بعينها وحرّم رسُولُ اللّه المُسكر من كُلّ شراب فأجاز اللّه لهُ ذلك كُلّهُ » الكافي 1 : 266 ، لقد أسلفنا الكلام في الجزء الأوّل : 553 في ماهيّة هذا النوع من التحريم وقلنا : إنّ تحريم رسول اللّه لشيء يمكن أن يكون بأحد معنيين : الأول : أن يكون طلباً ودعاء من رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله وسلم و إجابة من اللّه سبحانه كما يشير بذلك الحديث فأجاز اللّه له ذلك ». الثاني: أن يكون علماً من رسول اللّه بمناطات الأحكام وملاكاتها الواقعية، فعند ذلك يصح للرسول أن يحرم المسكر من كل شراب لعلمه بمناط الحكم في الخمر. كيف ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من أفضل مصاديق من قال فيهم أمير المؤمنين - عليه السلام : « عقلُوا الدين عقل وعاية ورعاية لاعقل سماع ورواية » نهج البلاغة ( طبعة عبده ) الخطبة 234 .

وفعل ذلك وقاية للإنسان من كثير من الأمراض والمضاعفات الناجمة عن المسكرات وتخلّصاً من الآثار والعواقب السيئة التي تتركها الخمرة على الجسم والعقل ، بل وعلى النسل والذريّة.

كما نهى القرآن الكريم عن الشراهة في الأكل ، والإسراف في المطعم والمشرب فقال : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( الأعراف : 31 ).

ومن المعلوم أنّ هذه الآية - على قصرها - تنطوي على أهمّ قانون من قوانين الوقاية الصحيّة ، والحفاظ على سلامة البدن ، فالإنسان إذا أكثر من الأكل اُصيب بعسر الهضم الذي يستوجب أمراضاً عديدة للمعدة مذكورة في محلّها.

وفي هذا السياق نجد الإسلام يفرض الصوم على المسلمين فيقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة : 183 ) ، لما في الصوم من فوائد عظيمة على البدن عرفها العلم الحديث أخيراً ، وأخذ به لعلاج الكثير من الأمراض.

ولم ينته الأمر إلى هذا الحدّ ، بل كشف القرآن للناس عمّا ينفعهم أو يشفيهم من بعض الأسقام فأشار إلى العسل فوصفه بأنّ فيه شفاء للأسقام إذ قال : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( النحل : 68 - 69 ).

كما حثّ على اُمور من شأنها أن توفّر الأجواء الصالحة المناسبة لسلامة البدن في الجانب الفرديّ والاجتماعيّ كالتطهّر والنظافة ، فحثّ على التزام التنظّف وتعاهده حتّى أنّ أوّل تعليم تلقّاه النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله هو : ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) ( المدثر : 4 ).

وقال مادحاً الذين يتطهّرون : ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة : 222 ).

وقال : ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ) ( التوبة : 108 ).

ص: 500

والطهارة المذكورة أعمّ من طهارة النفس والجسد ، وتنظيف الباطن والظاهر.

وينبّه القرآن الكريم إلى دور الماء في النظافة والطهارة فيقول : ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) ( الفرقان : 48 ).

ومن أجل هذا فرض الإسلام الوضوء فدعى إلى التوضّؤ قبل كلّ صلاة ، أي في اليوم خمس مرّات ( مضافاً إلى كونه بنفسه عبادة ) إذ قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة : 6 ).

ودعا إلى الاغتسال والاستحمام عند الجنابة فقال : ( وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ) ( المائدة : 6 ).

أو التيمّم بالتراب الطاهر بدلاً عن الغسل أو الوضوء إذا تعذّر الماء ، أو تعسّر استعماله فقال : ( ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ) ( المائدة : 6 ).

وذلك لأنّ التراب الطاهر يصون الجسم من الميكروبات ، مضافاً إلى أنّ التيمّم بالتراب يتضمّن الخضوع لله سبحانه وهو بنفسه عبادة.

وقد فرض الإسلام هذه الأنواع من الطهارات لأنّها طريق إلى نظافة الجسم وهي بدورها طريق إلى الحفاظ على سلامته ... ولذلك قال القرآن معقّباً على الأمر بالوضوء أو الاغتسال أو التيمّم : ( مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة : 6 ).

وهي إشارة واضحة إلى الهدف من هذه الطهارات.

ومن هذا الباب نهى الإسلام عن مقاربة النساء ( الأزواج ) وهنّ في حالة ( المحيض ) وقاية عن الأمراض الجسمية والمعنويّة الناجمة عن ذلك فيقول : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ

ص: 501

المُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة : 222 ).

وهو أمر أكّده الطبّ الحديث ، وكشف عن أضراره بالنسبة إلى الزوج والزوجة معاً ، فإنّ الدم الفاسد الذي تفرزه المرأة أثناء العادة الشهريّة يحتوي على ميكروبات عديدة وجراثيم متنوّعة لا تلبث أن تصيب الرجل فتحدث له الالتهابات ، كمّا أنّه في زمن المحيض تحتقن أغشية المرأة الداخليّة ، وفي المقاربة الجنسيّة قد يحدث لها التمزّق فتنتشر العدوى من الميكروبات ، وتؤثّر في صحّة المرأة ، وتضّر بها ، وقد تسبّب لها السرطان ، بسبب التمزّق كما يقول العلم الحديث.

كما نهى الإسلام عن ( الزنا ) وقاية من كثير من الأمراض الجنسيّة إذ يقول سبحانه : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) ( الإسراء : 32 ).

فالزنا - مضافاً إلى أنّها توجّه ضربة كبيرة إلى العلاقات الاجتماعيّة السليمة ، والقيم الأخلاقيّة الرفيعة ، تسبّب أمراضاً جنسيّة خطيرة كالزهريّ والقرحة والسيلان للرجل والمرأة كليهما.

هذه هي أهمّ التعاليم الصحيّة التي يشير إليها القرآن الكريم ، وهي توافق في نتائجها ، وفلسفتها ، وعللها ، أحدث ما توصّل إليه العلم الحديث.

الصحّة في السنّة المطهّرة

لقد حفلت السنّة المطهّرة المرويّة عن النبيّ والأئمّة من أهل البيت بطائفة كبيرة جداً من التعاليم الصحيّة سواء في مجال الوقاية ، أو النظافة ، أو العلاج وسواء في مجال الصحّة الفرديّة أو العامّة ، وقد دوّنت هذه التعاليم وجمعت هذه الأحاديث القيّمة في الكتب والمؤلّفات التي ألّفها علماء الإسلام حول الطبّ ، وقوانين الصحّة فجاؤوا في هذا المضمار بما يكشف عن أنّ الإسلام سبق العلم الحديث في وضع برنامج كامل للصحّة لا يعرف له مثيل وإليك فيما يأتي أسماء بعض تلك المؤلّفات الخاصّة بطبّ النبيّ وأهل بيته الطاهرين :

ص: 502

1. طبّ النبيّ : للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد اللّه الأصفهانيّ ، المتوفّى عام ( 430 ه ).

2. طبّ النبيّ : للشيخ الإمام أبي العبّاس المستغفريّ ، ينقل عنه المحقّق الطوسي في آداب المتعلّمين.

3. طبّ النبيّ : لأبي الوزير أحمد الأبهريّ ، وينقل عنه العلاّمة المجلسيّ في كتاب العترة من بحار الأنوار.

4. طبّ أهل البيت : للسيّد أبي محمّد زيد بن عليّ بن الحسين. تلميذ شيخ الطائفة الطوسيّ.

5. طبّ الإمام الصادق : جمعه الطبيب الماهر محمّد بن صادق الرازيّ طبع عام ( 1374 ه ).

6. طبّ الرضا : الموسوم بالرسالة الذهبيّة ، أورد تمامه العلاّمة المجلسيّ في مجلّد السماء والعالم من موسوعته بحار الأنوار.

وأنت إذا راجعت الكتب الحديثيّة للفريقين وبالأخصّ ما ألّفه علماء الشيعة ومؤلّفوهم ، وجدت اهتماماً خاصّاً من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته الطاهرين بسلامة الأبدان وعافيتها.

كما أنّك إذا راجعت الكتب الحديثيّة والفقهيّة الإسلاميّة وجدت فيها أبواباً خاصّة ترتبط بهذا الجانب الحيويّ من الحياة الفرديّة والاجتماعيّة مثل كتاب الأطعمة والأشربة ، وكتاب الزيّ والتجمّل وهما بابان واسعان عقدهما صاحب وسائل الشيعة ، والكافي في كتابيهما ، ومثل كتاب مكارم الأخلاق للطبرسيّ (1) المخصّص لهذا الجانب

ص: 503


1- وهو الشيخ أبو نصر رضي الدين الحسن الطبرسيّ وهو نجل العلاّمة الطبرسيّ صاحب تفسير مجمع البيان وقد طبع مرّة بالحروف في مطبعة بولاق سنة ( 1300 ه ) ومرّة بالحروف في مطبعة الخيريّة سنة ( 1303 ه ) وبهامشه طهارة الأعراق لابن مسكويه ثمّ طبع عدّة مرّات والمؤلّف من أعلام المائة السادسة.

وغير ذلك من الأبواب ، والكتب وإليك بعض الأحاديث المرويّة عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته المكرمين علیهم السلام في مجال الطبّ ، والوقايّة الصحيّة ، وقضايا السلامة الجسديّة ، ونقتصر في ذلك على المهمّات :

قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « المعدة بيت الدّاء والحميّة هي الدّواء ، وعوّد البدن ما اعتاد ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة تفزع إليهم في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإن عدموا كانوا همجاً : فقيه عالم ورع وأمير خيّر مطاع وطبيب بصير ثقة ».

وروي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّ في صحّة البدن فرح الملائكة ومرضاة الرّبّ وتثبيت السّنّة ».

وأنّه قال صلی اللّه علیه و آله : « لا خير في الحياة إلاّ مع الصّحّة ».

وفي مجال العلاج والمداواة قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « تجنّب الدّواء ما احتمل بدنك الدّاء ، فإذا لم يحتمل الدّاء ، فالدّواء ».

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « إمش بدائك ما مشى بك ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « من ظهرت صحّته على سقمه فعالج نفسه بشيء فمات ، أنا إلى اللّه بريء منه ».

وفي رواية اُخرى : « فشرب الدّواء فقد أعان على نفسه ».

وكلّ الأحاديث تشير إلى أنّ على الإنسان أن لا يستعمل الدواء إلاّ للضرورة لأنّ الدواء لا يسكن داء إلاّ ويثير آخر وفي هذا الصدد قال الإمام عليّ علیه السلام : « ليس من دواء إلاّ وهو يهيّجُ داءً ».

ولكنّ المعالجة والمداواة مطلوبة على كلّ حال ، ولهذا يقول الإمام الصادق علیه السلام : « تداوُوا فما أنزل اللّه داءً إلاّ وأنزل معه الدّواء إلاّ السّام ( أي الموت ) ».

ص: 504

ثمّ إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام يشيرون إلى أنّ أهمّ عامل من عوامل المرض هو الأكل غير المعتدل ، والمطعم غير المستقيم قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « ما ملا ابنُ آدم وعاءً شرّاً من بطنه ، وبحسب ابن آدم لُقيمات يُقمن صُلبهُ ، فإن كان لا بُدّ فثُلث لطعامه ، وثُلث لشرابه ، وثُلث لنفسه ».

وقال الإمام عليّ علیه السلام لكميل : « صحّةُ الجسم من قلّة الطّعام وقلّة الماء.

يا كُميلُ لا تُوقرن معدتك طعاماً ودع فيها للماء موضعاً ... ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « لو اقتصد النّاسُ في المطعم لاستقامت أبدانُهُم ».

ثمّ إنّ الوصايا والتعاليم الصحيّة التي بيّنها النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته تنقسم إلى نوعين :

النوع الأوّل : ما يرتبط بالصحّة الفرديّة.

النوع الثاني : ما يرتبط بالصحّة العامّة.

ونحن وإن قسّمنا هذه التعاليم إلى فرديّة واجتماعيّة ، لكن الحقيقة أنّهما متداخلتان ، إذ أنّ استقامة الصحّة الفرديّة تضمن استقامة الصحّة العامّة ، وهكذا بالعكس ، فالتقسيم الموجود ليس تقسيماً حقيقيّاً.

التعاليم الصحيّة الفرديّة

لقد اعتنى الإسلام على لسان النبيّ وأهل بيته المطهّرين بالصحّة الفرديّة عناية بالغة تفوق الوصف فسنّوا اُمواراً وأعمالا من شأنها - إذا روعيت - أن تقي الإنسان كثيراً من الأمراض والأسقام ، وتهيّء جوّاً سليم ورائعاً من الصحّة ، والعافية ، ففي مجال المطعم والمشرب نهى النبيّ عن أكل الطعام الحار فقال صلی اللّه علیه و آله : « برّد الطعام فإنّ الحارّ لا بركة فيه ».

ونهى عن النفخ في الطعام فقال صلی اللّه علیه و آله : « النّفخُ في الطعام يُذهبُ بالبركة ».

ص: 505

ونهى الإمام الصادق علیه السلام عن ترك العشاء فقال : « أصلُ خراب البدن تركُ العشاء ».

ودعا إلى غسل اليدين قبل الطعام فقال : « من غسل يده قبل الطعام وبعده عاش في سعة وعوفي من بلوى في جسده ».

ونهى عن كثرة الأكل فقال : « كثرة الأكل مكروه ».

وقال : « الأكل على الشّبع يورث البرص ».

ودعا الرسول صلی اللّه علیه و آله إلى الافتتاح بالملح والاختتام به عند الطعام فقال : « يا عليّ افتتح بالملح واختتم به فإنّه شفاء من سبعين داءً منها الجنون والجذام والبرص ووجع الحلق ووجع الأمراض ووجع البطن ».

وقال : « افتتحوا بالملح واختتموا به وإلاّ فلا تلوموا إلاّ أنفسكم ».

وحول آداب الشرب وكيفيّته السليمة : يقول الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « لا يشربنّ أحدكم الماء من عروة الإناء فإنّه مجتمع الوسخ ».

وقال : « لا يشرب من عند عروته ( أي عروة الكوز أو الأناء ) ولا من كسر إن كان فيه ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « لا تشربوا الماء من ثلمة الأناء ولا من عروته فإنّ الشيطان يقعد على العروة والثلمة ».

وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « مصّوا الماء مصّاً ولا تعبّوه عبّاً فإنّه يوجد منه الكباد » ( مرض يصيب الكبد ).

وقال الإمام الرضا علیه السلام : « من أراد أن لا تؤذيه معدته فلا يشرب بين طعامه ماءً حتّى يفرغ ، ومن فعل ذلك رطب بدنه وضعفت معدته ولم تأخذ العروق قوّة الطّعام فإنّه يصير في المعدة فحا إذا صبّ الماء على الطعام أوّلاً فأوّلا ».

وفي مجال مضغ الطعام قال الإمام عليّ علیه السلام في وصيّته لابنه الحسن علیه السلام : « ... وجوّد المضغ ».

ص: 506

وفي مجال العناية بالملبس : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من اتّخذ ثوباً فليطهّره » وفي رواية « فلينظّفه » وقال الصادق علیه السلام : « النّظيف من الثّياب يذهب الهمّ والحزن ».

وقال في جواب من سأله هل يجوز أن يكون للمؤمن عشرة ثياب : « نعم ... وثلاثون ... فليس هذا من السّرف ».

وقال : « لبس الخفّ يزيد في قوّة البصر ».

وقال الإمام الباقر علیه السلام : « لبس الخفّ أمان من السّل ».

وفي مجال العناية بالحذاء : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إدمان لبس الخفّ ( أي الحذاء ) أمان من الجذام ، شتاءً وصيفاً ».

وقال : « من اتّخذ نعلاً فليستجدها ».

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « إستجادة الحذاء وقاية للبدن ».

وحول نظافة المسكن وسعته : قال الإمام الصادق علیه السلام : « من سعادة المرء حسن مجلسه وسعة فنائه ، ونظافة متوضّئه ».

وقال علیه السلام : « من الشّقاء المسكن الضيّق ».

وقال علیه السلام : « من سعادة المرء المسلم سعة المنزل ».

وقال علیه السلام : « غسل الإناء ، وكسح الفناء ( أي كنس البيت ) مجلبة للرّزق ».

وقال صلی اللّه علیه و آله : « اكنسوا أفنيتكم ولا تشبّهوا باليهود ».

وقال الإمام علي علیه السلام : « لا تأووا التّراب ( أي القاذورات ) خلف الباب فإنّه مأوى للشّياطين » (1).

وقال علیه السلام : « نظّفوا بيوتكم من حول العنكبوت فإنّ تركه في البيت يورث

ص: 507


1- لقد وردت كلمة ( الشيطان ) في كثير من الروايات الصحيّة ، وحيث إنّ الشيطان كائن يترقّب منه الشرّ ويضرّ بالإنسان فاستعير لفظه في هذه الأحاديث للجراثيم والميكروبات التي تضرّ بالحياة البشريّة ولا يستبعد ذلك بل يلمسه كلّ من له إلمام بالأحاديث الإسلاميّة. كما أنّ إطلاق الجن عليها من باب أنّ الجن في اللغة هو الموجود الذي لا يری بالعين.

الفقر ».

وقال : « لا تبيّتوا القمامة في بيوتكم فأخرجوها نهاراً فإنّها مقعد الشّيطان ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام حول المناديل الوسخة ووجودها في البيت : « لا تأووا منديل اللحم في البيت ، فإنّه مربض الشّيطان ».

وحول تنظيف شعر الرأس وتمشيطه وتسريحه أو استئصاله قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « كثرة تسريح الرأس ... تجلب الرّزق و ... ».

وقال : « مشط الرأس يذهب بالوباء ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « استأصل شعرك يقلّ درنه ، ودوابه ووسخه ، ويجلو بصرك ويستريح بدنك ».

وقال صلی اللّه علیه و آله : « من اتّخذ شعراً فليحسن ولايته أو ليجزّه ».

وحول تقليم الأظفار قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « تقليم الأظفار يمنع الدّاء الأعظم ويدرّ الرّزق ».

وقال : « من أدمن أخذ أظفاره كلّ خميس لم ترمد عينه ».

وقال الإمام الباقر علیه السلام : « إنّ أستر وأخفى ما يسلّط الشّيطان على ابن آدم أن صار يسكن تحت الأظافير ».

وقال : « تقليم الأظفار يوم الجمعة يؤمّن من الجذام والبرص والعمى ».

وقال : « إنّما قصّ الأظفار لأنّها مقيل الشّيطان ومنه يكون النسيان ».

وحول شعر الأبط والشارب الذي يكون موضعاً مناسباً وصالحاً لنموّ الجراثيم قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لا يطوّلنّ أحدكم شعر أبطه فإنّ الشيطان يتّخذه مخبئاً يستتر به ».

وقال : « لا يطوّلنّ أحدكم شاربه فإنّ الشيطان يتّخذه مخبئاً يستتر به ».

وفي مجال العناية بالعين دعا الإسلام إلى التكّحل وغير ذلك فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « الكحل ينبت الشّعر ، ويحفظ الدمعة ويعذب الريق ويجلو البصر ».

وفي مجال العناية بالاسنان دعا إلى تنظيفها باستمرار وذلك بالسواك والمضمضة

ص: 508

فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لولا أن أشققّ على امّتي لأمرتهم بالسّواك ( أي لأوجبته عليهم وجوباً ) ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « في السّواك عشرُ خصال ( أي فوائد ) : مطهرة للفم ، ومرضاة للرّب ، ومُفرحة للملائكة وهو من السّنة ، ويشُدّ اللّثّة ويجلُو البصر ، ويذهبُ بالبلغم ، ويذهبُ بالحُفر ».

وحول الاستحمام وغسل الرأس قال الإمام موسى بن جعفر علیه السلام : « الحمّامُ يوم ويوم لا ، يُكثرُ اللّحم ».

وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « غسلُ الرّأس بالخطميّ في كُلّ جُمعة أمان من البرص والجُنُون والصُداع وطهُور للرّأس من الخزار ( أي القرع ) ».

وحول الختان قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « طهّرُوا أولادكُم اليوم السابع فإنّهُ أطيبُ وأطهرُ وأسرعُ لنبات اللحم ».

وحول عدة اُمور اُخرى من هذا الباب قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله :

« خمس من السُنن في الرّأس وخمس في الجسد.

فأمّا التي في الرّأس فالسّواكُ وأخذُ الشّارب وفرقُ الشعر والمضمضةُ والاستنشاق.

وأمّا التي في الجسد فالختانُ وحلقُ العانة ونتفُ الأبطين وتقليمُ الأظفاروالاستنجاءُ » (1).

هذا هو بعض ما أمكن إيراده من التعاليم والتوصيات في مجال الصحّة الفرديّة ، والسلامة الشخصيّة ، وهي غيض من فيض ، وقليل من كثير ، وإنّما ألمحنا إلى ذلك للإلفات إلى جانب من البرنامج الصحّي في النظام الإسلاميّ وأعرضنا عن الإلمام الكامل بتلك التعاليم رعاية للاختصار.

ص: 509


1- وسنوقّفك على مصادر تلك الأحاديث قريباً.
التعاليم الصحيّة العامّة

للإسلام تعاليم وبرامج صحيّة عامّة توجب مراعاتها حفظ الصحّة العامّة ، وعدم انتقال الأمراض ، وسرايتها ... وهي تعتبر من أفضل وأعظم البرامج الوقائيّة التي عرفها العالم اليوم.

فقد دعا النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى دفن كلّ ما من شأنه أن يلوّث الهواء والجوّ كالأشياء التي تنفصل من الإنسان من الفضلات والزوائد ، فعن عائشة قالت :

( انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان : الشعر والظفر والدم والحيض والمشيمة والسنّ والعلقة ).

ونهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن الفرار من الطاعون إذا جاء في بلد ، وحكمة ذلك أن لا يسري المرض إلى بلد آخر ، فتنتشر العدوى وتتعرّض السلامة العامّة للخطر.

فقال : « إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها ، وإذا نزل وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها » (1).

وقال للوقاية من العدوى أيضا : « لا يورد ممرض على مصحّ ».

وقال : « فرّ من المجذوم فرارك من الأسد ».

ومن هذا الباب نهى الإسلام عن الاشتراك في المنديل ... فقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « كانت لأمير المؤمنين علیه السلام خرقة يمسح بها إذا توضّأ للصّلاة ثمّ يعلّقها على وتد ولا يمسحه غيره ».

ومن هذا الباب أيضا أوجب الإسلام إزالة النجاسة عن المساجد ، كما أوجب دفن الأموات ، ونزح البئر إذا سقط فيها شيء نجس أو مات فيه حيوان ، كما نهى عن تعاطي النجاسات وبيعها وشرائها ومنها الخمر ، قال الرسول صلی اللّه علیه و آله : « لعن اللّه الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ».

ص: 510


1- رواه أصحاب السنن ، وتاريخ الطبريّ 4 : 57 ، طبع دار المعارف شرح حوادث سنة ( 27 ه ).

هذا ولعلّ من أبرز ما يدلّ على عناية الإسلام بالصحّة العامّة هو حثّه البالغ على الزواج لأنّ الزواج لو تحقّق بصورة سليمة تكفّل شطراً كبيراً من سلامة الفرد والجماعة. إذ الزواج علاج طبيعيّ مفيد لكثير من المفاسد الخلقيّة والصحيّة التي تصيب المجتمع كما أنّه علاج ناجع لكثير من الادواء التي قد تصيب الأفراد نتيجة الحيادة العزوبيّة وما تتركه هذه الحالة من الآثار السيّئة على الصحّة.

الزواج والصحّة

لقد أصبحت قضيّة الزواج وبعدها الصحيّ الآن علماً مستقلاً من علوم الصحّة ألّفت حوله الكثير من الدراسات ، فيما كانت هذه المسألة موضع اهتمام الدين الإسلاميّ منذ أربعة عشر قرناً ... حيث أتى فيها باُمور سبق بها جميع الكشوف والتوصيات التي توصّل إليها العلم الحديث مؤخّراً.

فهو مثلاً حرّم الزواج بطائفة من النساء من المحارم إذ قال سبحانه :

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( النساء : 23 ).

وهذا يعني أنّ الإسلام حرّم التزوّج بسبع طوائف من النساء المنتمين إلى الشخص بالنسب وهنّ التي ذكرتهنّ الآية السابقة (1).

وقد توصّل العلم الحديث أخيراً إلى علل هذا التحريم ، كما أنّ الشريعة الإسلاميّة انفردت من بين الشرائع القائمة بجعل الرضاع سبباً من أسباب التحريم ، وذلك لأنّ المرضعة التي ترضع الولد إنّما تغذيه بجزء من جسمها فتدخل أجزاؤها في

ص: 511


1- نعم لا تختصّ الحرمة بمن ذكرن في الآية.

تكوينه ، ويصبح جزءاً منها. فإنّ لبنها خلاصة من دمها منه ينبت لحم الطفل ويقوى عظمه ، وإذا كان الطفل جزءاً منها فهي كالأُمّ النسبيّة محرّمة إلى الأبد (1).

كما أنّ الإسلام نهى عن التزوّج بالحمقاء لما في مثل هذا الزواج من نتاج غير مطلوب قال الإمام علي علیه السلام : « إيّاكُم وتزويج الحمقاء فإنّ صُحبتها بلاء وولدها ضياع ».

كما نهى عن التزوّج بشارب الخمر لنفس السبب ، قال الإمام الصادق علیه السلام : « من زوَّج كريمته من شارب الخمر فقد قطع رحمها ».

ونهى عن مقاربة الزوج في فترة العادة الشهريّة لما أسلفنا ، نهياً تحريميّاً مغلظاً.

ونهى عن مقاربتها في بعض الحالات النفسيّة أو الجسديّة أو الكونيّة الخاصّة نهياً تنزيهيّاً ، لما تجرّه المقاربة في تلك الظروف والحالات والأوقات والأوضاع من آثار سيّئة على صحّة الزوج والزوجة ، وصحّة الولد الناشئ منهما.

وقد وردت تفصيلات هذه الأوقات في وصيّة مطوّلة للنبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله إلى الإمام عليّ تجدها في كتاب مكارم الأخلاق وغيره من الكتب الحديثيّة في هذا المجال.

وقد توصّل العلم الحديث الآن إلى الكثير من علل هذه التوصيات التي سبق الإسلام إلى ذكرها.

هذا ونظراً لأهمّية الزواج من الناحية الصحّية سواء في المجال الفرديّ أو في المجال الاجتماعيّ حثّ النبيّ وأهل بيته المعصومون علیهم السلام على التزوّج ، وترك الحياة العزوبيّة وها نحن نورد هنا طائفة من الأحاديث تتميماً للفائدة :

قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « تزوّجوا ، وزوّجوا الأيم فمن حظّ امرء مسلم انفاق قيمة أيّمة ، وما من شيء أحبّ إلى اللّه من بيت يعمر في الإسلام بالنّكاح ».

وقال : « تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الاُمم غداً في القيامة ».

ص: 512


1- لاحظ أحكام الرضا (عليه السلام) في الكتب الفقهيّة.

وقال : « من أحبّ أن يكون على فطرتي فليستنّ بسنّتي فإنّ من سنّتي النكاح ».

وقال : « ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً لعلّ اللّه يرزقه نسمةً تثقل الأرض بلا إله إلاّ اللّه ».

وقال : « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوّج فإنّه أغض للبصر وأحصن للفرج ».

وقال : « من تزوّج فقد أعطي نصف السّعادة ».

وقال : « إنّ من سنّتي وسنّة الأنبياء من قبلي النّكاح والختان والسّواك والعطر ».

وقال : « ما بني في الإسلام بناء أحبّ إلى اللّه من التزويج ».

وقال : « من تزوّج أحرز نصف دينه فليتّق اللّه في النّصف الآخر ».

وقال : « النّكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي ».

وقال : « أكثر أهل النّار العزّاب ».

وقال : « أراذل موتاكم العزّاب ».

وقال : « من أحبّ أن يلقى اللّه طاهراً مطهّراً فليستعفف بزوجة ».

وقال : « شرار أمّتي عزّابها ».

وقال : « شراركم عزّابكم والعزّاب إخوان الشّياطين ».

وقال : « لو خرج العزّاب من موتاكم إلى الدّنيا لتزوّجوا ».

وقال : « ما للشّيطان سلاح أبلغ في الصّالحين من النّساء إلاّ المتزوّجون اُولئك المطهّرون المبرّؤون ».

وقال عكاف أتيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لي : « يا عكاف : ألك زوجة » قلت : لا ، قال : « وأنت صحيح موسر » قلت : نعم والحمد لله ، قال : « فإنّك إذن من إخوان الشّيطان ، إمّا أن تكون من رهبان النّصارى ، وإمّا أن تصنع كما يصنع المسلمون وإنّ من سنّتنا النّكاح ، شراركم عزّابكم وأراذل موتاكم عزّابكم - إلى أن قال - ويحك يا عكاف تزوّج

ص: 513

تزوّج وإلاّ فإنّك من الخاطئين ».

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « لم يكن أحد من أصحاب رسول اللّه يتزوّج إلاّ قال صلی اللّه علیه و آله : كمل دينه ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « ركعتان يصلّيهما المتزوّج أفضل من سبعين ركعةً يصلّيها العزب ».

ولم يكتف الإسلام بإعطاء هذا القدر من التوصيات المفيدة في مجال الزواج بل حرص على جودة النسل ؛ فنهى الزوجة الحامل عن أكل أشياء أو فعل اُمور حفاظاً على صحّتها وصحّة جنينها ، كما حثّها على تناول مأكولات خاصّة (1) ، تقوية لها ولجنينها ... وهي اُمور كشف الطبّ الحديث عن صحّتهاوعمقها وجدواها.

كما نهى عن إرضاع الطفل بلبن الحمقاء ، قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ اللّبن يعدي » (2).

هذه بعض ما أتى به الإسلام في مجال الزواج ، هذه المسألة الاجتماعيّة المهمّة التي يكون لها دور فعّال في حفظ الصحّة الفرديّة والعامّة مضافاً إلى حفظ العلاقات الاجتماعيّة السليمة ، وتقوية القيم والمثل الأخلاقيّة الإنسانيّة.

إهتمام المسلمين بعلم الطبّ

هذا وقد اقتفى المسلمون أثر النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته الطاهرين في العناية بالصحّة والطبّ فكتبوا الكتب الطبيّة ، وأقاموا المستشفيات بل وكان المسلمون أوّل من أقامها وأقاموا المصحّات ، وشيّدوا المختبرات ، وتخرّج منهم الأطبّاء الحاذقون الذين شاع

ص: 514


1- مثل قوله صلی اللّه علیه و آله « اسقُوا نسائكُم الحوامل اللّبن فإنّها تُزيدُ في عقل الصّبيّ ».
2- جميع الأحاديث والتعاليم الصحيّة المذكورة في هذا الفصل اقتبست من : الكافي 6 : كتاب الأطعمة والأشربة والزي والتجمل، وكتاب مكارم الأخلاق، ونهج البلاغة، وخصال الصدوق، ووسائل الشيعة 8: كتاب العشرة، فراجع الفصول والأبواب المختلفة من تلك الكتب.

صيتهم في الآفاق ولا زالت الكثير من مؤلّفاتهم وتحليلاتهم وكشوفاتهم موضع اهتمام الغربيّين.

وبالتالي نبغ فيهم رجال مثل جابر بن حيّان ، والكندي وابن مسكويه وابن سينا ، والرازيّ وغيرهم ممّن تركوا مؤلّفات كثيرة في مجال الطبّ ، وخرجوا إلى العالم بنظريّات وابتكارات في هذا المجال.

وبإمكان القارئ الكريم أن يتعرّف على هذه الاُمور من المصادر التالية :

1. الطبّ العربي ، مقدمة تدرس مساهمة العرب ( والمراد بهم المسلمون ) في الطبّ ، والعلوم المتّصلة به ، تأليف الدكتور أسعد خير اللّه.

2. الطبّ عند العرب للدكتور أحمد شوكت شطّي طبعة القاهرة مؤسّسة المطبوعات الحديثة.

3. تاريخ الصيدلة والعقاقير في العهد القديم والعهد الوسيط تأليف جورج شحاته قنواتي ، القاهرة دار المعارف عام (1959).

4. ميراث الإسلام تأليف 13 مستشرقاً واُستاذ جامعة.

5. شمس الشرق تطلع على الغرب.

6. فلاسفة الشيعة للعلاّمة الشيخ عبد اللّه نعمة.

7. وراجع كشف الظنون 2 : 86 إلى 88 ، والذريعة 15 : 135 - 144.

العناية بالصحّة وظيفة الحكومة الإسلاميّة

لا شكّ أنّ الحفاظ على الصحّة الفرديّة والصحّة العامّة وتهيئة الأجواء المناسبة لذلك لا يمكن أن يتوفّر إلاّ بأمرين :

أ - التوجيه والتثقيف الصحّي المستمر.

ب - تهيئة الأجواء الصحّية في الوسط الاجتماعيّ من قبيل إقامة المستشفيات

ص: 515

والمصحّات ، وإجراء التلقيح الصحّي للوقاية إذا داهم البلد مرض معد ، وإقامة المختبرات والمؤسّسات للتحقيق في شؤون الطبّ ، وتعاهد أمر التنظيف البلديّ.

ومن المعلوم أنّ كلّ هذه الوظائف الثقيلة لا يمكن القيام بها إلاّ بواسطة الأجهزة المزوّدة بالتخطيط والقانون والمال ... ولهذا فإنّ مسؤوليّة العناية بالصحّة الفرديّة والصحّة العامّة تقع في الدرجة الاُولى على عاتق الحكومة الإسلاميّة استلهاماً من الأحاديث الحاثّة على الصحّة في المجالين ، بل ويمكن القول بأنّ هذه المسألة من أهمّ الواجبات التي تقع على كاهل الحكومة ... إذ الحصول على اُمّة قوّية متحرّكة متقدّمة منتجة مدافعة عن نفسها لا يتيسّر إلاّ بوجود اُمّة سالمة تتمتّع بالصحّة والعافية الكاملة.

إنّ على الحكومة الإسلاميّة أن تهتمّ - بواسطة أجهزتها المختصّة ومؤسسات وزارة الصحّة - بالصحّة العامّة فتراقب نظافة الشوارع والأزقّة ، وتراقب صانعي المأكولات والأطعمة والقصّابين والحمامات والمسابح العامّة لتكون موافقة مع قوانين الصحّة ، وتقيم المستشفيات والمصحّات ، وتقوم بتلقيح الأطفال والكبار ضد الأمراض الداهمة ، وتقوم بتوجيه النّاس إلى وظائفهم الصحّية وتفرض رقابة مشدّدة على الاجتماعات من الناحية الصحّية لتمنع من تسرّب أي مرض يهدّد سلامة الاُمّة ، ولعلّ من أهمّ ما يجب على الحكومة الإسلاميّة هو برنامج الضمان الصحّي لجميع افراد الاُمّة بلا استثناء ، لينشأوا أصحّاء البدن أقوياء البنية ... أخذا بقول الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « المُؤمنُ القويّ خير وأحبّ إلى اللّه من المُؤمن الضّعيف وفي كُلّ خير » (1).

وقد كان هذا هو سيرة المسلمين شعوباً وحكومات منذ الصدر الأوّل للإسلام ويدلّ على ذلك ما أقاموه هنا وهناك من مؤسّسات صحّية ، وشيّدوه من مختبرات علميّة طبيّة ، فقد كانت الحكومات الإسلاميّة الغابرة ترى نفسها ملزمة بإقامة الصحّة ورعايتها في المجتمع الإسلاميّ ، فكان القسم الأكبر من وظائف الصحّة الاجتماعيّة على عاتق المحتسبين ، وفي ذلك كتب ابن الاخوة الذي كان يعيش في القرن السابع الهجريّ حول

ص: 516


1- سنن ابن ماجة : 2 ، كتاب الزهد ، الباب 14 ، الحديث 5 ، رقم التسلسل 4168.

وظائف المحتسب في هذا المجال قائلاً :

( في الحسبة على الفرّانين والخبّازين : ينبغي أن يأمرهم المحتسب بغسل المعاجن وتنظيفها ، ولا يعجن العجّان بقدميه وبركبتيه ولا بمرفقيه ، فربما قطر في العجين شيء من عرق أبطيه أو بدنه ، وأن يعجن ملثّماً لأنّه ربّما عطس أو تكلّم فقطر شيء من بصاقه في العجين.

وقال في الحسبة على الجزّارين ( القصّابين ) : يجب على المحتسب أن يمنعهم من الذبح على أبواب دكاكينهم فإنّهم يلوّثون الطريق بالدم والروث.

وقال في الحسبة على الطبّاخين : يأمرهم بتغطية أوانيهم وحفظها من الذباب وهوامّ الأرض بعد غسلها بالماء الحارّ.

وقال في الحسبة على صانعي الأدوية والعقاقير : ويعتبر عليهم في عقاقير الأقراص والمعاجين قبل عملها بمن ظهرت مخبرته وكثرت تجربته للعقاقير ويكون من أهل الخير والصلاح ، فإنّها إذا اختلّ أمرها أضرّت بالمريض لا محالة (1).

وقال في الحسبة على الأطباء والجرّاحين والمجبّرين : الطبيب هو العارف بتركيب البدن ومزاج الأعضاء والأمراض الحادثة فيها وأسبابها وأعراضها وعلاماتها والأدوية النافعة فيها والاعتياض عمّا لم يوجد منها والوجه في استخراجها وطريق مداواتها بالتساوي بين الأمراض والأدوية في كمّياتها ولا يجوز له الإقدام على علاج يخاطر فيه ولا يتعرّض لما لا علم له فيه ففي الخبر : « من تطبّب ولم يُعلم منهُ طبّ قبل ذلك فهو ضامن » (2).

وينبغي أن يكون لهم مقدم من أهل صناعتهم فقد حكي أنّ ملوك اليونان كانوا يجعلون في كلّ مدينة حكيماً مشهوراً بالحكمة ثمّ يعرضون عليه بقيّة أطبّاء البلد

ص: 517


1- هذه ملاحظة في الطب مهمّة جداً وقد عرفها العالم اليوم ، حيث أسّس جهازاً خاصاً بمراقبة الأدوية والعقاقير قبل إنزالها إلى الأسواق.
2- مجمع البحرين ( مادّة طبب ).

فيمتحنهم فمن وجده مقصّراً في علمه أمره بالاشتغال وقراءة العلم ونهاه عن المداواة (1).

وينبغي إذا دخل الطبيب على المريض أن يسأله عن سبب مرضه وعن ما يجد من الألم ثمّ يرتّب له قانوناً من الأشربة وغيره من العقاقير ثمّ يكتب له نسخة لأولياء المريض بشهادة من حضر معه عند المريض وإذا كان من الغد حضر ونظر إلى قارورته ( أي بوله ) وسأل المريض هل تناقص به المرض أم لا ثمّ يرتّب له ما ينبغي على حسب مقتضى الحال ... وهكذا حتّى يبرأ المريض ، وينبغي للمحتسب أن يأخذ على الأطباء عهداً أن لا يعطوا أحداً دواء مضرّاً ولا يركّبوا له سمّاً ولا يصفوا سمّاً عند أحد من العامّة ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنّة ولا للرجال الذي يقطع النسل وليغضّوا أبصارهم عند المحارم عند دخولهم على المرضى ... ) (2).

ص: 518


1- هذا هو ما عرفه العالم الحديث اليوم وأخذ به حتّى أنّه لا يجيز طبيباً ولا يسمح له بفتح العيادة الطبيّة ومعالجة المرضى إلاّ بعد تقديم اطروحة تشهد على إكتماله في هذا الفن.
2- راجع معالم القربى في أحكام الحسبة من 90 إلى 170 والكتاب برمّته جدير بالمطالعة جدّاً.

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

5

الحكومة الإسلاميّة والسياسة الخارجيّة
الإسلام يرسم قواعد السياسة الخارجيّة :
اشارة

يظنّ بعض الكتّاب الغربيّين ، ومن استقى معلوماته من دراساتهم ومؤلّفاتهم أنّ الغرب هو أوّل من ابتكر ( نظاماً للعلاقات الدوليّة ) ، وأوّل من أسّس ما يسمّى بالسياسة الخارجيّة ، للحكومات والدول ، ولم يكن للعالم - قبل ميلاد الحضارة الغربيّة - أي نظام للسياسة الخارجيّة ، لأنّه لم تكن هناك علاقات وروابط بين الدول ، كما ظنّوا.

بيد أنّ هذا ادّعاء يعرف ضعفه وخطأه كلّ من له أدنى إلمام بالتاريخ البشريّ فقد كان بين الشعوب علاقات وروابط ، ولأجل ذلك فقد كان بينهم قوانين ورسوم وضوابط وحقوق تنظّم علاقاتهم وروابطهم حسبما تقتضيه الظروف ، وتتطلّبه الحاجة ولقد اتّخذت هذه السياسة آخر وأفضل أشكالها بمجيء الإسلام.

ولا نريد - في هذا المقام - أن نستعرض جميع تلك الضوابط الدوليّة ، وخطوط

ص: 519

تلك السياسة الخارجيّة التي سنّها الإسلام فإنّ شرح كلّ ذلك على وجه التفصيل يحتاج إلى دراسة موسّعة وعامّة تتناول بالبحث جميع المعاهدات التي عقدها الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله مع الدول ، والملوك وزعماء القبائل ، وكذا دراسة المعاهدات والمواثيق التي عقدها بعض الحكّام المسلمين بعده صلی اللّه علیه و آله .

غير أنّ الهدف - هنا - هو إشارة خاطفة وتلميح عابر إلى ( اُصول ) هذه السياسة وخطوطها العريضة ، ليعرف الجميع أنّ الحكومة الإسلاميّة يوم قامت كانت جامعة لكلّ البرامج وآلمناهج التي تحتاج إليها أيّة حكومة ، وحاوية لكلّ ما تحتاج إليه الشعوب والاُمم ، في علاقاتها الخارجيّة.

وأمّا ما سيتجدّد من الاُمور والحاجات فيمكن معرفة حلولها ، على ضوء الاُصول والقواعد المقرّرة كما هو الحال في غير هذا الباب فإنّ على الشارع المقدّس بيان الاُصول وعلى علماء الحقوق والفقهاء التفريع ، والاستنتاج.

ونحن نشير في هذا البحث إلى بعض الخطوط الكلّية في السياسة الخارجيّة للحكومة الإسلاميّة :

1. إحترام العهود والمواثيق الدوليّة

إنّ إحترام المواثيق ، والوفاء بالعهود من الاُمور الفطريّة التي طبع عليها البشر وتعلّمها في أوّل مدرسة من مدارس تكوين الشخصيّة ، أعني مدرسة الفطرة ولأجل ذلك نجد الأطفال يعترضون على أوليائهم إذا خالفوا وعودهم ولم يفوا بها ولهذا قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « احبّوا الصّبيان وارحموهم وإذا وعدتّموهم شيئاً فأوفوا لهم » (1).

هذا مضافاً إلى أنّ الاحترام للميثاق والوفاء بالعهد شرط ضروريّ لإستقرار الحياة الاجتماعيّة واستقامتها ، إذ الثقة المتبادلة ركن أساسيّ لهذه الحياة ، ولا تتحقّق هذه الثقة المتبادلة إلاّ بالوفاء بالعهود ، والاحترام المتقابل للمواثيق ، والوعود ، ولهذا أمر اللّه سبحانه

ص: 520


1- بحار الأنوار 16 : 155.

وتعالى بلزوم الوفاء بالعهد وقال : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) ( الإسراء : 34 ).

ويقول عن صفات المؤمنين : ( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) ( المؤمنون : 8 ).

وتبلغ أهميّة ذلك أنّ القرآن كما يمدح الموفين بالعهد ، ويقول : ( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلا يَنقُضُونَ المِيثَاقَ ) ( الرعد : 20 ) ، يذمّ في المقابل الناقضين للعهود ، ويقول عنهم : ( وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) ( الرعد : 25 ).

بل يشبّه الناقض للعهد بالمرأة الناقضة لغزلها ، بعد أن تعبت على صنعه إشارة إلى ما يتركه نقض العهد من اختلال في الحياة الاجتماعيّة فيقول : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ) ( النحل : 91 - 92 ).

وقد تضافرت الأحاديث على التأكيد والإيصاء بهذا الأمر فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليف إذا وعد » (1).

وقال أيضاً : « أقربكم منّي غداً في الموقف أصدقكم في الحديث وأدّاكم للأمانة وأوفاكم بالعهد » (2).

وقال أيضاً : « يجب على المؤمن الوفاء بالمواعيد والصّدق فيها » (3).

إنّ نقض العهد والميثاق خير دليل على فقدان الوازع الدينيّ ، وانعدام الشخصيّة الدينيّة ولهذا قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « لا دين لمن لا عهد لهُ » (4).

إنّ الذي لا يرتاب فيه أحد هو أنّ المشركين واليهود أشدّ الناس عداوة للمؤمنين كما صرّح القرآن بذلك قائلا : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) ( المائدة : 82 ).

ص: 521


1- الكافي 2 : 1. 364.
2- الكافي 2 : 1. 364.
3- المستدرك 2 : 85.
4- بحار الأنوار 16 : 144.

ومع ذلك نجد القرآن الكريم يصرّح بلزوم احترام المواثيق والمعاهدات المعقودة مع المشركين فيقول : ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ) ( التوبة : 3 - 4 ).

نعم أجاز الإسلام قتال المشركين إذا نكثوا ايمانهم وخالفوا عهودهم مع المسلمين ولذلك قال سبحانه : ( وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) ( التوبة : 12 ).

ولأجل أهمّية العهود والمواثيق المعقودة بين المسلمين وغيرهم من الحكومات والأطراف أوصى الإمام عليّ علیه السلام واليه الأشتر باحترام المواثيق إذ كتب في عهده المعروف :

« وإن عقدت بينك وبين عدُوّك عُقدةً أو ألبستهُ منّك ذمّةً فحُط عهدك بالوفاء وارع ذمّتك بالأمانة واجعل نفسك جُنّةً دون ما أعطيت فإنّهُ ليس من فرائض اللّه شيء النّاسُ أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم ، وتشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعُهود » (1).

كما أنّه لمّا تمّ التحكيم - في صفّين - طلب الخوارج من الإمام أن ينقض قرارالتحكيم ولكنّه علیه السلام ردّهم بأشدّ الردّ قائلاً : « ويحكُم أبعد الرّضا والعهد نرجعُ ، أو ليس اللّه يقولُ : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وقال : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) » (2).

ومن نماذج التزام النبيّ صلی اللّه علیه و آله بمواثيقه وتعهّداته ردّ أبي بصير إلى مكّة بعد توقيع ميثاق الحديبيّة حيث التزم - توخّياً للمصلحة - في أحد بنود ذلك الميثاق أن يردّ إلى

ص: 522


1- نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم : 53.
2- وقعة صفّين لابن مزاحم ( طبعة مصر ) : 514 ، وفي الارشاد للشيخ المفيد : 143 - 144 ما يقارب هذا.

المشركين كلّ من فرّ من مكّة إلى المدينة ، واعتنق الإسلام فلمّا قدم النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة أتاه أبو بصير ، وكان ممّن حبس لإسلامه بمكّة فلمّا قدم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتب فيه قريش إليه صلی اللّه علیه و آله يطلبونه منه - حسب ما التزم في صلح الحديبيّة - وأرسلوا من يعيده إلى مكّة ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلُحُ لنا في ديننا الغدر وإنّ اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً فانطلق إلى قومك ».

قال يا رسول اللّه أتردّني إلى المشركين يفتنونني في ديني ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : « يا أبا بصير انطلق فإنّ اللّه تعالى سيجعلُ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً » (1).

وقد فرّج عنه فيما بعد كما وعده الرسول بإذن اللّه وممّا يؤكد أهمّية العهد والميثاق أنّ اللّه سبحانه صرّح بوجوب نصرة المؤمنين القاطنين في مكّة غير المهاجرين إلى المدينة إذا طلبوا النصرة من مسلمي المدينة على المشركين إلاّ إذا طلبوا العون والنصرة على قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق وعهد ، وإلى هذا أشار قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( الأنفال : 72 ).

ويندرج تحت هذا الأصل احترام جميع المعاهدات والمواثيق على اختلاف مقاصدها ، ومحتوياتها ، كالمواثيق التجاريّة والعسكريّة والسياسيّة إذا كانت في صالح المسلمين حدوثاً وبقاء.

2. الإسلام والسلام العالميّ

لا شكّ أنّ لفظة السلام ممّا تلتذّ بسماعها الاذان ، وتهوى إلى حقيقتها الأفئدة والقلوب ، ولذلك تتستّر ورائها الدول الكبرى لتضليل الشعوب.

ص: 523


1- سيرة ابن هشام 2 : 323.

وقد أصبح ( السلام العالمي ) اليوم أكبر مشكلة في المجال الدوليّ حيث تتبارى القوى العظمى في تسليح نفسها بأخطر الأسلحة ، وأفتكها. ولذلك تجري محاولات كبيرة وجهود جبّارة للحفاظ على السلام العالميّ وإقامته ، ومن هذا الباب عقدت مؤتمرات نزع السلاح ، والحدّ من صنع ( الأسلحة النووية ) وانتشارها ، ولكن هل تُرى استطاعت البشريّة أن تحقّق أيّة خطوات إيجابيّة في هذا المجال أو أخفقت ؟ إنّ الوقائع الدامية في أرجاء العالم هي التي تجيب عن هذا السؤال. نعم لقد استطاع الإسلام بما وضع من اُسس وقواعد إنسانيّة أن يحقّق أمل البشريّة في السلام.

ويكفي دلالة على عناية الإسلام بالسلام اشتقاق اسمه من السلم قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) ( البقرة : 208 ).

ثمّ هو يدعو إلى الصلح والمسالمة إذا جنح العدو لذلك ، قال سبحانه : ( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) ( الأنفال : 61 ).

وهو يدعو إلى اقرار السلام حتّى في المحيط العائلي لأنّه مقدّمة لإقرار الصلح في المحيط الاجتماعيّ ، قال : ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) ( النساء : 128 ).

ثمّ هو يعتبر جميع المؤمنين والمؤمنات اخوة فإذا حدث بينهم نزاع أوجب على المسلمين المبادرة إلى المصالحة بين المتنازعين ، فقال : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) ( الحجرات : 10 ).

وإذا ما حدث نزاع واقتتال بين طائفتين من المسلمين أمر باصلاح أمرهم ودعا إلى الضرب على أيدي الباغي منهما فقال : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الحجرات : 9 ).

وقد شاء الإسلام كلّ ذلك وأراده حفاظاً على السلام والتعايش السلميّ ، بحيث يأمل الإسلام في أن تحصل المودّة حتّى بين المؤمنين ومن يعادونهم ويخالفونهم في العقيدة ، قال سبحانه : ( عَسَى اللّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللّهُ

ص: 524

قَدِيرٌ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( المممتحنة : 7 ).

وبالتالي فإنّ الإسلام يدعو إلى اقرار السلام في جميع أرجاء الحياة البشريّة.

وقد سار النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله على هذا النهج الإنسانيّ ، فقد فعل - عند فتح مكّة - ما يكون اُسوة حسنة بعده للحكومات الإسلاميّة حال الفتح فقد أعطى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رايته - يوم فتح مكّة - سعد بن عبادة ، وهو أمام الكتيبة فلمّا مرّ سعد براية النبيّ صلی اللّه علیه و آله على أبي سفيان نادى : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحلّ (1) الحرمة اليوم أذلّ اللّه قريشاً.

فأقبل رسول اللّه حتّى إذا حاذى أبا سفيان ناداه :

يا رسول اللّه أمرت بقتل قومك ، زعم سعد ومن معه حينما مرّ بنا فقال : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحلّ الحرمة اليوم أذلّ اللّه قريشاً وإنّي أنشدك اللّه في قومك ، فأنت أبرّ الناس وأرحم الناس وأوصل الناس.

قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان : ما نأمن سعداً أن يكون منه في قريش صولة ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اليومُ يومُ المرحمة اليومُ أعزّ اللّه فيه قُريشاً ».

[ قال ] : وأرسل رسول اللّه إلى سعد فعزله ، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد (2).

وأقدم دليل على توخّي الإسلام للتعايش السلميّ ، والسعي إليه بكلّ وسيلة ممكنة ما دام الخصم لا يريد العدوان ، تلك الوثيقة المعروفة التي وقّعها الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله مع قريش في ( الحديبيّة ) ، فإنّ فيها مواداً تدلّ على مدى اهتمام الإسلام بقضيّة السلام ، والتعايش السلميّ ومدى سعيه لإقراره ما أمكنه ، فإنّ الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله لمّا أراد أن يكتب وثيقة الصلح بينه وبين أهل مكّة ، دعا صلی اللّه علیه و آله عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقال : « اكتُب بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ».

فقال سهيل : لا أعرف هذا ولكن اكتب : باسمك اللّهمّ.

ص: 525


1- في رواية : تسبى.
2- مغازي الواقديّ 2 : 821 - 822 وأعلام الورى للطبرسيّ : 197.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اكتُب باسمك اللّهُمّ » فكتبها.

ثمّ قال : « اكتُب هذا ما صالح عليه مُحمّد رسولُ اللّه سُهيل بن عمرو ».

فقال سهيل : لو شهدت أنّك رسول اللّه لم اقاتلك ، ولكن اكتب : اسمك واسم أبيك.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن النّاس عشر سنين يأمن فيهنّ النّاس ويكفّ بعضهم عن بعض على أنّه من أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه ، وأنّ بيننا عيبةً مكفوفةً وأنّه لا أسلال ولا أغلال ، وأنّه من أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه » (1).

انظر كيف رضي النبيّ صلی اللّه علیه و آله بحذف لقبه توخّيا للسلام وطلباً للصلح.

وانظر كم بلغت مرونة الإسلام حتّى أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله رضي في عهده أن يعيد الهارب من صفوف الكفّار ، في حين التزم بأن لا يعيدوا إليه من ترك صفوف المسلمين وهرب إلى قريش ، وهو غاية في التنازل بهدف إقرار السلام.

والعجيب أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله عمل بهذا البند من الوثيقة في نفس المجلس تدليلاً على حسن نيّته ، والتزامه بما كتب ، وحرصه على السلام ، فبينا رسول اللّه يكتب هذا الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلمّا رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه ، وأخذ بتلبيبه ثمّ قال : يا محمّد قد لجّت [ تمّت ] القضيّة بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ، قال : « صدقت » ، فجعل يجذبه جذباً شديداً ويجرّه ليردّه إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتننوني في ديني ؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يا أبا جندل ، اصبر واحتسب فإنّ اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صُلحاً ، وأعطيناهُم على ذلك

ص: 526


1- سيرة ابن هشام 4 : 318 ، والكامل للجزريّ 2 : 138 ، وأعلام الورى للطبرسيّ : 97.

وأعطُونا عهد اللّه ، وإنّا لا نغدُر بهم » (1).

وهذا هو نموذج أو نماذج معدودة في هذا المجال وكتب التاريخ والسير والفقه والحديث طافحة بأمثالها.

3. حكم الأسرى

تعتبر مسألة ( الأسرى ) من أهمّ القضايا في النظام السياسيّ الخارجيّ للدول وتعتبر حقوقهم من أبرز ما لفت نظر الحقوقيّين ، واهتمامهم في عالمنا المعاصر حتّى أنّه اتفقت الدول على ميثاق ينصّ على هذه الحقوق هو ( ميثاق جنيف ).

وللأسرى في النظام الإسلاميّ مكانة خاصّة ، وقوانين تضمن حقوقهم ، وكرامتهم ، وتكفل احترامهم وسلامتهم.

إنّ الأسارى على نوعين :

نوع ؛ يؤخذون قبل انقضاء القتال والحرب قائمة ما لم يسلموا ، والإمام مخيّر بين ضرب أعناقهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وتركهم حتّى ينزفوا.

ونوع آخر ؛ وهو ما إذا اُخذوا بعد انقضائها فحينئذ لم يقتلوا وكان الإمام مخيّراً بين المنّ والفداء ، والاسترقاق ، ولا يسقط هذا الحكم لو أسلموا (2) وهذا هو المشهور بين الفقهاء.

ويستفاد ذلك من كتاب اللّه العزيز قال سبحانه : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال : 67 ).

فالآية صريحة في وجوب قتل الأسارى لغاية الاثخان في الأرض والتمكّن فيها

ص: 527


1- سيرة ابن هشام 2 : 318 ، والكامل للجزريّ 2 : 138 ، وأعلام الورى للطبرسيّ : 97.
2- نعم نقل أمين الإسلام في مجمع البيان 5 : 97 ، قولا آخر يلاحظه من أراد الوقوف عليه وهو لا يوافق القول المشهور بين فقهاء الشيعة فهو يخالف المشهور في كلا القسمين فلاحظ.

واستضعاف المشركين ، كما أنّها ناظرة إلى النوع الأوّل من الأسارى كقوله سبحانه : ( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ( الأنفال : 57 ).

فهي نزلت في حقّ الناقضين للعهود وتؤكّد على النبيّ بأنّه إذا صادفتهم في الحرب وظفرت بهم وأدركتهم فنكّل بهم تنكيلاً وأثّر فيهم تأثيراً حتّى تشرّد بهم من بعدهم وتطردهم وتمنعهم من نقض العهد بأن ينظروا فيهم فيعتبروا بهم فلا ينقضوا العهد ويتفرّقوا في البلاد مخافة أن تقابلهم بمثل ما قابلتهم به ، وأن يحلّ بهم ما حلّ بمن قبلهم فالآية ناظرة إلى النوع الأوّل من الأسارى أعني المأخوذين قبل أن تضع الحرب أوزارها ، ويشهد على ذلك قوله تعالى : ( فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ ) ، وقوله سبحانه : ( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) ( محمد : 4 ).

والظاهر أنّ قوله : ( حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) غاية لقوله : ( فَضَرْبَ الرِّقَابِ ) أي القتل والتنكيل لحد وضع الحرب أوزارها ، فيختصّ القتل بالأسرى المأخوذين قبل انقضاء القتال وانتهائه.

وأمّا النوع الآخر أعني المأخوذين بعده فحكمه ما أفاده قوله : ( حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) فالآية تخيّر الحاكم بين إطلاق سراحهم مجّاناً بلا عوض ، وأخذ الفداء بالنفس أو المال.

وأمّا الاسترقاق فقد دلّت عليه الأحاديث الإسلاميّة ، فلاحظ الكتب الفقهيّة.

* * *

بقي هنا أمران :

الأوّل : أنّ قتل الأسارى المأخوذين والحرب قائمة يختص بوضع خاصّ لا بزمان خاصّ ، فالحكم أبديّ إلى يوم القيامة لكنّه حكم على موضوع محدّد وهو ما إذا كان في استبقاء الأسارى قبل الاثخان محذور كما هو الحال في الصدر الأوّل من التاريخ الإسلاميّ ، فإنّ معيشتهم في ذلك العصر وإمكانيّاتهم كانت محدودة بحيث لا يمكن

ص: 528

لهم حفظ الأسرى في أثناء الحرب لقلّة الإمكانيّات وعدم وجود الأماكن المناسبة لحفظهم واستبقائهم (1) فربّما كان في استبقاؤهم مظنّة وقوع الفتنة ، وكان موجباً لبقاء قوّة العدو ، وشوكته ، فلأجل ذلك يأمر الكتاب العزيز بقتلهم لغاية الإثخان والغلبة في الأرض والتمكّن فيها في مقابل العدو.

فكلمة ( حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) وقوله : ( حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ ) توحي بذلك القيد وأنّ الحكم مختصّ بما إذا كان في قتلهم تقوية للمسلمين وإضعاف للعدو.

وأمّا إذا كان المسلمون أقوياء وكان استبقاؤهم أمراً ممكناً ، ولم تكن في قتلهم تقوية لهم وإضعاف للعدو فالآية منصرفة عن ذلك الوضع ، وممّن تنبّه إلى ذلك « الجصّاص » في إحكام القرآن حيث قال :

( وذلك في وقت قلّة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوّهم من المشركين فمتى اُثخن المشركون واُذلّوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء ، فالواجب أن يكون هذا حكماً ثابتاً إذا وجد مثل الحالة التي كان عليها المسلمون في أوّل الإسلام ) (2).

وقال صاحب المنار في فلسفة القتل قبل الإثخان ما يؤيّد هذا الاتّجاه :

( فإذا التقى الجيشان فالواجب علينا بذل الجهد في قتل الأعداء دون أخذهم أسرى لإنّ ذلك يفضي إلى ضعفنا ورجحانهم علينا حتّى إذا أثخنّاهم في المعركة جرحاً وقتلاً وتمّ لنا الرجحان عليهم فعلاً ، رجّحنا الأسر (3) المعبّر عنه بشدّ الوثاق لأنّه يكون حينئذ من الرحمة الاختياريّة ، وجعل الحرب ضرورة تقدّر بقدرها ، ولذلك خيّرنا اللّه تعالى فيه بين المنّ عليهم وإعتاقهم بفكّ وثاقهم وإطلاق حريّتهم. وامّا بفداء أسرانا عند

ص: 529


1- والذي يدلّ على فقدان الأمكنة لحبس الأسارى ما نقله الكتاني عن شفاء الغليل للخفاجيّ أنّه كتب قائلا : « لم يكن في زمن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سجن » ، وأضاف قائلا : « وكان يحبس في المسجد وفي الدهاليز » التراتيب الإداريّة 1 : 297.
2- أحكام القرآن 3 : 391 ، ولاحظ أيضاً الصفحة 72 من ذلك الجزء.
3- الأولى أن يقول : رجّح القرآن الأسر.

قومهم ودولتهم إن كان لنا أسرى عندهم أو بمال نأخذه منهم.

وجملة القول ، أنّ اتّخاذ الأسرى إنّما يحسن ويكون خيراً ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحقّ والعدل ، إمّا في المعركة الواحدة فبإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين ، وإمّا في الحالة العامّة التي تعمّ كلّ معركة وكلّ قتال فبإثخانهم في الأرض بالقوّة العامّة والسلطان الذي يرهب الأعداء ) (1).

والعجب أنّ الدكتور محمّد فتحي عثمان الاُستاذ بكليّة العلوم الاجتماعيّة قد نقل في تأليفه « من اُصول الفكر السياسيّ الإسلاميّ » في الصفحة 206 عن الكاتب الشهير محمّد عبد اللّه درّاز في كتابه « دراسات إسلاميّة في العلاقات الاجتماعيّة الدوليّة » في بحث الإسلام والرقّ ، كلمة صرح فيها ( بأنّنا إذا نظرنا في القرآن لم نجد فيه أثراً لقتل الأسير والاسترقاق ).

أقول : أمّا الاسترقاق فصحيح أنّه لا يوجد في القرآن ولكنّه ورد في الأحاديث الإسلاميّة ، وإن كان الاسترقاق خطوة انتقالية إلى أمر آخر وهو تربيتهم على النهج الإسلاميّ ثمّ تحريرهم.

وأمّا قتل الأسير فيدلّ عليه قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) ( الأنفال : 67 ) وقد عرفت المراد من الآية.

* * *

الأمر الثاني : قد عرفت أنّ الإمام مخيّر في الأسارى المأخوذين بعد وضع الحرب أوزارها بين اُمور منها الاسترقاق ، فلابدّ من بيان النكتة في ذلك.

إنّ الاسترقاق لأجل أنّه ربّما تكون المصلحة المنحصرة فيه إذ ربّما يكون إطلاق سراحهم بلا عوض أو مع العوض سبباً لاجتماعهم مرّة اُخرى وتآمرهم ضدّ الإسلام والمسلمين ، ويكون الحبس أمراً شاقّاً وعسيراً.

ص: 530


1- المنار 10 : 97 - 98.

وأمّا قتلهم بعد وضع الحرب أوزارها فتعدّ ضراوة بسفك الدماء وإسرافاً بلا جهة فيتعيّن الأمر في الاسترقاق بتوزيعهم في بيوت المسلمين وجعلهم تحت ولايتهم حتّى يتربّوا بتربيتهم ويتخلّقوا بأخلاقهم وآدابهم (1).

هذا وتخيّر الإمام أدلّ دليل على مرونة الإسلام حيث ترك للإمام والحاكم المجال ليقوم بما تقتضيه المصلحة.

وقد أكّد الإسلام على احترام الأسرى والعطف عليهم والرحمة بهم وحسن المعاملة معهم ، قال النبي صلی اللّه علیه و آله « استوصُوا بالأسارى خيراً » (2).

ويكفي دلالة عمليّة على ذلك أنّه لمّا افتتح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله القموص [ وهي من قلاع اليهود بخيبر ] أتى رسول اللّه بصفيّة بنت حيّي بن أخطب ، وباُخرى معها فمرّ بها بلال ، وهو الذي جاء بهما ، على قتلى من قتلى يهود فلمّا رأتهم التي مع صفيّة صاحت ، وصكّت وجهها وحثّت التراب على رأسها فلمّا رآها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « اعزُبُوا عنّي هذه الشّيطانة » ، وأمر بصفيّة فحيزت خلفه وألقى عليها رداءه ، فعرف المسلمون أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد اصطفاها لنفسه فقال رسول اللّه لبلال : حين رأى بتلك اليهوديّة ما رأى : « أنزعت منّك الرّحمةُ يا بلالُ حين تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما » (3).

بل وحث على إطعام الأسير وسقيه حيث قال صلی اللّه علیه و آله : « إطعامُ الأسير حقّ على من أسرهُ » (4).

وقد بلغ من عطف الإسلام وإنسانيّته أنّه حرّم المثلة بالقتلى ، فلمّا وقف النبيّ صلی اللّه علیه و آله في اُحد على جسد حمزة بن عبد المطّلب فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده ،

ص: 531


1- راجع في أحكام الأسارى المصادر التالية : الخلاف لشيخ الطائفة الطوسيّ 2 : 46 ، والمختلف للعلاّمة الحليّ 1 : 169 ، وكنز العرفان : 365. وقد أشرنا إلی فلسفة الرق والاسترقاق في الإسلام وأنها حالة استثنائية اقتضتها ظروف الحرب خاصة فلاحظ: 275 - 261 من كتابنا هذا.
2- سيرة ابن هشام 2 : 299 و 236.
3- سيرة ابن هشام 2 : 299 و 236.
4- وسائل الشيعة 11 : 69 وقد مرّت الإشارة إلى هذا الأمر في : 415 من كتابنا هذا.

ومثّل به فجدع أنفه واُذنه ، فحزن حزناً شديداً وقال : « ولئن أظهرني اللّه على قُريش في موطن من المواطن لأُمثّلنّ بثلاثين رجُلاً منهُم ».

فأنزل اللّه سبحانه : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) ( النحل : 126 - 127 ).

فعفا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1).

* * *

4. الحصار الاقتصاديّ ضدّ المعتدين فقط

لا شكّ أنّ للحكومة الإسلاميّة أن تتوسّل بالحصار الاقتصاديّ ، كوسيلة من وسائل الحرب والدفاع ولكن هذا الأمر تابع لهدف عسكريّ فقط بمعنى أنّه يجوز فقط لأجل تحديد الفعاليّات العسكريّة للعدو في اطار الأهداف الاستراتيجيةّ.

إنّ الإسلام يقوم بهذا الأمر ضدّ المعتدين والمهاجمين فحسب ، ولا يسوغ استخدامه ضدّ الأبرياء من الناس.

وهذا هو سيرة النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، وإليك نموذجاً من ذلك :

خرجت خيل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأسّروا ثمامة بن أثال الحنفيّ ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أحسنُوا اُسارهُ » فمكث مدة ثمّ اطلقوا سراحه فأسلم ، ثمّ خرج إلى مكّة معتمراً فأخذته قريش وأرادوا قتله ، فقال قائل منهم : دعوه فإنّكم تحتاجون إلى اليمامة [ وكان من ملوكها ] لطعامكم ، فخلّوه ، ثمّ خرج إلى اليمامة ، فمنعهم أن يحملوا إلى مكّة شيئاً فكتبوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّك تأمر بصلة الرحم ، وإنّك قد قطعت أرحامها فقد قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع. فكتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليه ، أن يخلّي بينهم وبين الحمل (2).

وهكذا منع الرسول من استخدام الحصار الاقتصاديّ ضدّ الأبرياء من الناس ،

ص: 532


1- سيرة ابن هشام 2 : 96 و 639.
2- سيرة ابن هشام 2 : 96 و 639.

وأعطى درساً رائعاً في مقابلة الأعداء.

5. الحدّ من التسلّح

يشهدا العالم اليوم سعياً شديداً من الشرق والغرب لنزع السلاح أو الحدّ من التسلّح ، وهو أمر يتبنّاه كثير من الحقوقيّين والمفكّرين غير أنّهم لم ينجحوا في ذلك اللّهمّ إلاّ في حقّ الشعوب الضعيفة حيث تمكّن الدول العظمى من إبقاء هذه الشعوب في إطارات محدودة من التسلّح فيما مضت هي في تسليح نفسها حتّى قمّة رؤوسها.

ويرجع فشل هؤلاء الحقوقيّين والساعين إلى أنّهم يطلبون أمراً غير عمليّ فالإنسان ينزع بصورة فطريّة إلى السيطرة ، والاستيلاء وهي نزعة تجرّه إلى أن يسلّح نفسه بما يتسنّى له من أسلحة.

ولذلك فإنّ الإسلام يعمد - بدل الدعوة إلى نزع السلاح أو ما شابهه إلى تغيير هدف التسلّح ، ووجهة الكفاح والنضال فهو يحثّ البشريّة على أن تجعل نضالها من أجل العقيدة الإلهيّة وبسط العدالة الاجتماعيّة.

وعندئذ يتغيّر استعمال الأسلحة بتغيّر الأهداف والمقاصد ولا يضير التسلّح ولا يشكّل خطراً على أحد.

وبالجملة إذا كان النضال من أجل عقيدة دينيّة صحيحة وبوحي منها وتوجيه من تعاليمها تحدّد استخدام الوسيلة الحربيّة بصورة قهريّة ، وأحسن الإنسان استعمالها تبعاً لذلك ، ولهذا يتعيّن على المصلحين السعي في هذا المجال لتثمر جهودهم وتتخلّص البشريّة من الرعب الناشئ عن سباق التسلّح إذ في غير هذه الصورة لن تثمر جهودهم ويبقى الحدّ من التسلّح أو عدم استخدامه في تدمير الحياة أملاً بعيد المنال.

6. الحصانة الدبلوماسيّة في الإسلام

كما يمتلك الإسلام نظاماً للقتال والحرب كذلك يمتلك نظاماً رائعاً في حال

ص: 533

السلم والصلح ومن ذلك : النظام الخاصّ بالدبلوماسيّين فإنّ للدبلوماسيّين والسفراء والرسل عند الإسلام احتراماً كبيراً ، وحصانة خاصّة لا نجد لها مثيلا أبداً ، حتّى أنّ للدبلوماسيّ أن يظهر عقيدته المخالفة للدولة الإسلاميّة دون أن يصيبه أذى أو يمسّه من المسلمين ضرر ، ونذكر من باب المثال نموذجاً واحداً يدلّ على ما قلناه : فقد كتب مسيلمة بن حبيب [ الكذّاب ] إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتاباً جاء فيه :

أمّا بعد فإنّي قد أشركت في الأمر معك وأنّ لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشا قوماً يعتدون. فلمّا قدم رسول مسيلمة بهذا الكتاب إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقرأه قال لهما : فما تقولان أنتما ، قالا نقول كما قال ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « أمّا واللّه لولا أنّ الرّسُل لا تُقتلُ لضربتُ أعناقكُما ».

ثمّ كتب صلی اللّه علیه و آله إلى مسيلمة : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من مُحمد رسُول اللّه إلى مُسيلمة الكذّاب السّلامُ على من اتّبع الهُدى أمّا بعدُ فإنّ الأرض لله يُورثُها من يشاءُ من عباده والعاقبةُ للمُتّقين » (1).

انظر كيف عامل الرسول صلی اللّه علیه و آله سفيري مسيلمة ... ولم يعاقبهما على إلحادهما.

وانظر كيف قابل النبيّ مسيلمة ، وقايس بين الكتابين ، فإنّك تجد رائحة الوحي الطيّبة تفوح من كتاب الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وتنبئ عن ذكائه وعقله وحسن درايته وعظيم سياسته وكياسته.

7. التعهّدات المتقابلة ، والمنفردة

إنّ من أهمّ ما يستدعي اهتماماً خاصّاً في السياسة الخارجيّة هي التعهّدات بين الدول وهي على نوعين :

1. التعهّد من جانب واحد.

2. التعهّد من جانبين.

ص: 534


1- سيرة ابن هشام 2 : 639.

أمّا التعهّد من جانب واحد فهو شكل بسيط من التعهّدات ... فإنّ الدولة تلتزم من ناحيتها باُمور اتّجاه دولة اُخرى بصورة ابتدائية ، كأن تعترف بها ، وبأمنها وتتعهّد بعدم العدوان عليها وعدم التعرّض لها ، ونحن نجد - في الإسلام - نماذج من هذا النوع ، فعندما خرج النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى تبوك في ملاحقة الروم ، فانتهى إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة ، فصالح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأعطاه النبيّ كتاباً التزم فيه باُمور وإليك نصّه :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذه أمنة من اللّه ومحمّد النبيّ رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيّارتهم في البرّ والبحر لهم ذمّة اللّه ، وذمّة محمّد النبيّ ، ومن كان معهم من أهل الشّام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثاً فإنّه لا يحول ماله دون نفسه وأنّه طيّب لمن أخذه من النّاس وأنّه لا يحلّ أن يمنعوا ماءً يردونه ولا طريقاً يريدونه من برّ أو بحر » (1).

إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله يتعهّد لتلك الجماعة بأن يحترم أمنهم في كلّ الحالات والأماكن ويعترف لهم بحقّ الحياة والعيش ، ويضمن سلامة تنقّلاتهم من دون أن يأخذ منهم تعهّداً متقابلا.

وأمّا التعهّدات المتقابلة فهي أيضا على قسمين : فتارة يلتزم الطرفان بالاُمور السلبيّة مثل : أن يتعهّدا بأن لا يتعرّض أحدهما للاخر ، وغير ذلك ، وتارة يلتزم الطرفان بالاُمور الإيجابيّة مثل التعهّد بالتبادل التجاريّ والثقافيّ ، ونحن نرى نماذج من كلا النوعين في تاريخ الحياة السياسيّة للإسلام.

ونمثّل للنوع الأوّل بقصّة بني ضمرة.

فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لما بلغ « ودان » وهي غزوة الأبواء يريد قريشاً ، وبني ضمرة بن بكر بن عبد منات بن كنانة فوادعته فيها بنو ضمرة ، وكان الذي وادعه منهم عليه مخشي ابن عمرو الضمري وكان سيّدهم في زمانه ، فلمّا خرج الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إلى بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده فأتاه مخشي بن عمرو الضمري وهو الذي وادعه على بني ضمرة في

ص: 535


1- سيرة ابن هشام 2 : 525.

غزوة ودان فقال : يا محمّد أجئت للقاء قريش على هذا الماء ؟ قال : « نعم يا أخا بني ضمرة وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك (1) ثُمّ جالدناك حتّى يحكُم اللّه بيننا وبينك » (2).

ومن هذا القبيل ما جرى في صلح الحديبيّة الذي مرّ عليك.

ونمثّل للتعهّدات المتقابلة على الاُمور الإيجابيّة بما حصل بين النبيّ صلی اللّه علیه و آله وخزاعة في الحديبيّة ، حيث كان من بنود صلح الحديبيّة مع قريش أنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش وعهدهم دخل فيه ، فدخلت خزاعة في عقد رسول اللّه وعهده ، وهو يمثّل التعاون الدفاعيّ الذي يطلق عليه اليوم بالمعاهدات الدفاعيّة.

ويستفاد من حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ إلغاء المعاهدة كان يتمّ تارة بصورة مباشرة واُخرى بصورة غير مباشرة.

فنرى أنّ قريشاً لمّا عاونت بني كنانة معاونة غير مباشرة بالسلاح عدّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذلك نقضاً وذلك عندما تحقّقت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منها ثأراً ، فخرج نوفل بن معاوية وهو يومئذ قائدهم حتّى بيت خزاعة وهم على الوتير ، ماء لهم ، فأصابوا منهم رجلا وتحاوزوا واقتتلوا ورفدت بني بكر قريش بالسلاح وقاتل معهم قريش من قاتل بالليل مستخفيا حتّى حازوا خزاعة إلى الحرم.

فلمّا تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من العهد والميثاق بما استحلّوا من خزاعة وكان في عقده وعهده وعرف النبيّ بذلك اعتبره نقضاً للعهد وإلغاء للمعاهدة ، فخرج صلی اللّه علیه و آله إلى فتح مكّة ملغياً ما كان بينه وبين قريش من وثيقة الصلح (3).

ص: 536


1- المقصود هو الموداعة التي تمّت في اللقاء الأول لاحظ سيرة ابن هشام 1 : 591.
2- سيرة ابن هشام 2 : 210 و2. 397.
3- سيرة ابن هشام 2 : 210 و2. 397.

كل هذا يكشف عن وجود نظام خاصّ لهذه التعهّدات في السياسة الخارجيّة للإسلام يتجلّى خطوطه في مجموعة المواقف النبويّة وغيرها من مصادر الشريعة.

8. المعاهدة للاستقراض الحربيّ

إنّ للحكومة الإسلاميّة أن تستقرض أو تستعير من الآخرين ما تحتاج إليه من المال أو السلاح في حالات الحرب. والحاجة إلى ذلك ... وهو أمر فعله النبيّ صلی اللّه علیه و آله لما عاهد نصارى نجران ووضع عليهم جزية معيّنة ، وشرط عليهم أن يعيروا ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً إذا كان كيد باليمن ذو مغدرة.

وقد جاء في هذه الوثيقة. « وما هلك ممّا أعاروُا رُسلي من خيل أو ركاب فهُم ضمن حتّى يردّوهُ إليهم ، ولنجران وحاشيتها جوارُ اللّه وذمّةُ مُحمّد النبيّ رسُول اللّه على أنفُسهم وملّتهم وأرضهم وأمُوالهم وغائبهم وشاهدهم الخ » (1).

9. قطع العلاقات السياسيّة

لما كانت إقامة العلاقات الوديّة مع الدول الاُخرى ، وتوقيع المعاهدات معها لأجل مصالح تقتضي ذلك ، وفي مقابل أعمال يجب أن يقوم بها المعاهد ، فإنّ الإخلال بمحتويات هذه المعاهدات ، والقيام بما يخالف هذه المصالح يجوّز - في منطق العقل - قطع العلاقات ... ونقض المواثيق المعقودة وقد فعل الرسول الأكرم ذلك في قصّة الحديبيّة حيث أقدم على نقض الصلح مع قريش ، وفتح مكّة عندما أظهرت قريش سوء نيّتها.

بيد أنّه يجب أن يكون قطع العلاقات تابعاً للمعايير الإنسانيّة ، ولمبرّرات صحيحة ، فإذا اقتضى الأمر قطع العلاقات ونقض المعاهدة وجب على الحكومة الإسلاميّة إعلام الطرف الآخر بذلك وإبلاغه بالقطع ، قال اللّه سبحانه : ( الَّذِينَ

ص: 537


1- راجع فتوح البلدان للبلاذريّ 76.

عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ ) ( الأنفال : 56 - 58 ).

10. الإسلام والبلاد المفتوحة

لقد كان المتعارف في العصور الماضية إذا استولت دولة على بلد ، أن تفعل فيه ما تشاء من القتل والتشريد والاسترقاق والنهب وما شابه ذلك ، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم إذ قال : ( إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) ( النمل : 34 ).

وأدلّ دليل على ما ذكره التاريخ من أعمال الملوك والقادة عند فتحهم للبلاد ، وللمثال نذكر القصّة التالية :

لمّا دخل إسكندر المقدونيّ فارس هدم حصون فارس ، وبيوت النيران وقتل الهرابذة ، وأحرق كتبهم واستعمل على مملكة فارس رجالاً وسار قدماً إلى أرض الهند فقتل ملكها ، وهدم مدنها ، وخرّب بيوت الأصنام وأحرق كتب علومهم ثمّ سار منها إلى الصين (1).

ولا يخفى عليك ما ارتكبه جيش المغول والتتار من الدمار والجرائم عند غزو إيران والعراق وارتكاب ما لا يمكن ذكره في هذا المختصر ، وقد كانوا يفعلون كلّ ذلك استناداً إلى ما كانوا يعتقدونه من حقّ التسخير والفتح للفاتحين.

نعم إنّ الحقوقيّين قرّروا اُموراً لمن يسخّرون البلاد ويفتحونها ولكن من ترى يصغي لهم ويعمل بما قرّروه من قيود وأحكام ، فليس كلّ ما تقرّره المؤسّسات العالميّة من اُمور تجريه الدول وتنفّذه الحكومات ، فهذه منظمة الاُمم المتّحدة لا يتجاوز أحكامها عن

ص: 538


1- الكامل لابن الاثير 2 : 160.

حدود التوصيات والرجاءات ... وهذه إسرائيل قد صدرت بحقّها عشرات القرارات والطلبات من منظمة الاُمم المتّحدة ولكنّها تنفّذ كلّ يوم جرائمها في لبنان وغيرها من الأراضي الإسلاميّة بلا اكتراث واعتناء بالاُمم المتّحدة وقراراتها وطلباتها ونداءاتها المكرّرة.

وها هو الإسلام قد فتح - أيام حكومته - بلاداً ومدناً ، وسيطر على الامبراطوريّتين الكبيرتين ( فارس والروم ) ولكن لم يفعل ما يفعله الفاتحون ، إلاّ بما تقتضيه الضرورة ، ولم يأخذ من المغلوب عليه سوى ( الجزية ) التي وقفت على قدرها وأحكامها السهلة السمحة.

ولأجل ذلك نجد الشعوب المختلفة تستقبل الفتوحات الإسلاميّة برحابة صدر بل وتطالب الحكومات الإسلاميّة تخليصها من حكوماتهم والعيش تحت راية الإسلام وفي ظلّ حكومته العادلة.

وما ذكرناه في سيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في مجال العلاقات الخارجيّة وعهوده يعتبر قدوة ومنهجاً كاملا للحكومة الإسلاميّة في معاملتها مع الدول والشعوب الاُخرى. وقد أشرنا غير مرّة إلى أنّ الواجب على الإسلام هو بيان الاُسس الكليّة والاُصول العامّة وأمّا الأشكال المناسبة لهذه الاُسس فمتروكة للزمن والظروف الطارئة.

ثمّ لمّا كان الإسلام نظاماً للبشريّة كافّة فإنّ هذا النظام لم يرتض لحكومته أن تعيش منغلقة على العالم كجزيرة في وسط بحر بل يدعو إلى أن تقيم هذه الحكومة جسوراً مع المجتمع الدوليّ لتستفيد من خبرات البشر ، كما تفيدها ديناً وأخلاقاً ونظاماً إلهيّاً ضامناً لسعادة البشريّة.

ص: 539

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

6

الحكومة الإسلاميّة والاستخبارات والأمن العامّ
لا تفتيش عن العقائد ، ولا اطّلاع على الأسرار

لا شكّ في أنّ أهمّ ما جاء به الإسلام من اُصول اجتماعيّة هو الحريّة العقائديّة والشخصيّة ، والاحترام الكامل للإنسان وعقائده ، وأفكاره وأسراره ، ولذلك فهو لم يسمح بتفتيش عقائد الأفراد ومنع من محاولة التعرّف على أسرارهم ودخائل حياتهم وإلى ذلك أشار القرآن الكريم بقوله : ( وَلا تَجَسَّسُوا ) ( الحجرات : 12 ).

كما أنّه لم يسمح لأحد - فيما لو اطّلع على دخيلة أحد أو علم بسرّ من أسراره الخاصّة - أن يبوح به للناس ، أو يفضحه على رؤوس العباد وإلى ذلك أشار القرآن الكريم بقوله : ( وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ) ( الحجرات : 12 ) ، فهاتان الجملتان اللتان وردتا في آية واحدة تكشفان عن هذا الأصل الإسلاميّ الذي أشرنا إليه إلاّ وهو الحفاظ على أسرار الآخرين وحرمة الاطّلاع عليها ، وهو أصل دلّت عليه الروايات والنصوص المتضافرة القاطعة في النهي ، والتحريم والتحذير.

ص: 540

فقد ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذمّوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم » (1).

وهو كلام صريح في الأصل المذكور.

ترجيح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة

ولكنّ المتأمّل في تلك النصوص والقرائن الحافّة بها يجد أن هذا النهي والتحريم يختصّان بالأسرار الفرديّة التي لا تمتّ إلى المجتمع بصلة ، ولا ترتبط بمصالح الاُمّة بوشيجة.

فعندما يتعلّق الأمر بالمصالح العامّة لا يمكن التغاضي عن أسرار الفرد ، وقضاياه ، إذ من البديهيّ في تلك الصورة - أن تترجّح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة ، وإلاّ تعرّضت الاُمّة لأخطار تهدّد كيانها ، وتنذر وجودها بالفناء والدمار.

إنّ التشريع الإسلاميّ الذي ينهي بشدّة عن محاولة الاطّلاع على دخائل الناس وأسرارهم الشخصيّة - فيما لو كانت تخصّ بهم - ويحرّم اغتياب الأفراد لا يمنع من التعرّف على الاُمور التي ترتبط بمصلحة الجماعة ، بل يسمح للدولة الإسلاميّة بجمع المعلومات الصحيحة المفيدة لوضعها تحت تصرّف الحاكم الإسلاميّ ، حتّى يتحرّك على ضوئها ، فيتعرّف على المتآمرين ، ويبطل خططهم ومؤامراتهم حفاظاً على مصلحة الاُمّة وإبقاء على وجودها ، وكيانها من كيد الكائدين ومكر الماكرين ، وهذا أمر يؤيّده العقل السليم وتقبله الفطرة ، وتدعو إليه الحكمة ، ويقتضيه التدبير الصحيح ، والسياسة الرشيدة.

الاستخبارات الراهنة مرفوضة

على أنّ من الطبيعيّ أن يتصوّر القارئ الكريم بمجرّد سماعه لكلمة

ص: 541


1- بحار الأنوار 75 : 214 نقلا عن ثواب الأعمال : 216.

( الاستخبارات والأمن العامّ ) تلك الأجهزة الجهنّمية المخيفة التي تعتمد عليها الحكومات الطاغوتيّة الحاضرة في ملاحقة الشعوب ، وقهر إرادتها ، وقمع حركتها.

أقول من الطبيعيّ أن تتداعى في ذهن القارئ هذه الصورة القائمة ، وهذا المعنى الأسود ، لأنّ شعوبنا المظلومة قد اعتادت على مثل هذا التصوّر عن جهاز المخابرات وأعمال التجسّس ، ولكنّ الحقيقة أنّ ما نقصده من جهاز الاستخبارات يختلف تماماً عن هذه الصورة.

فجهاز الاستخبارات - في الحكومة - ليس لقمع الشعوب المظلومة المضطهدة وخنق صرخاتها ، وتحطيم حركاتها العادلة وليس لتحديد نموّ الاُمم ورشدها العقليّ والعلميّ ، وإخضاعها لسياسة معينة حتّى لو كانت خاطئة ، وجائرة ... بل هو لأهداف وطنيّة عادلة نشير إليها فيما يلي :

أهداف الاستخبارات في الحكومة الإسلاميّة
اشارة

إنّ أهداف جهاز الاستخبارات والأمن العامّ - في الحكومة الإسلاميّة - تتلخّص في ثلاثة وظائف واُمور أساسيّة تقتضيها مصلحة الاُمّة وهي :

1 / مراقبة نشاط الموظّفين في الحكومة الإسلاميّة ، ليقوموا بمسؤوليّاتهم الإداريّة المناطة إليهم بأمانة وانضباط.

2 / مراقبة التحرّكات العسكريّة للأعداء بهدف إفشال أي عدوان محتمل وإحباط أي تحرّش في اللحظة المناسبة.

3 / مراقبة تحرّكات ونشاطات الأجانب ورصد تسلّلهم أو نفوذهم في البلاد الإسلاميّة للحيلولة دون قيامهم بأيّة ( مؤامرة ) تسيء إلى أمن البلاد ، من إيجاد الأحزاب الداخليّة ، والسريّة المعادية للاُمّة أو بثّ الشائعات المضرّة بالأمن ، والمخلّة بعزائم الناس ، وإرادة الجماهير ، فإنّ للمخابرات وجهاز الأمن العامّ - في الدولة الإسلاميّة - أن تقوم بعمل تجسّسيّ دقيق في هذه المجالات والأبعاد.

ص: 542

وإليك فيما يلي تفصيل هذه الأقسام الثلاثة وأدلّتها الإسلاميّة :

1. مراقبة الموظّفين

إنّ أوّل ما تهدفه الحكومة الإسلاميّة هو خدمة الاُمّة ، وتنفيذ الأحكام الإسلاميّة بأمانة ودقّة ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بأن يقوم جميع الموظفين - في هذه الحكومة - بواجباتهم ووظائفهم الإداريّة بأمانة وصدق وانضباط ، ولتحقيق هذا الأمر يحاول الإسلام في الدرجة الاُولى أن يختار للمناصب والوظائف الحكومية كلّ أمين صادق من الموظّفين كمّا مرّ عليك سابقاً ولكنّ الدولة الإسلاميّة لا تكتفي بالاختيار الحسن لموظّفيها ، وتتركهم دون مراقبة ونظارة ، بل تنصب من تراقبهم وترصد أعمالهم ليقوموا بمسؤوليّاتهم دون تلكّؤ ويؤدّوا واجباتهم الإداريّة والحكوميّة دون تقصير فها هو الإمام الرضا علیه السلام يقول : « كان رسولُ اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا بعث جيشاً فأمّهُم أمير بعث معهُ من ثُقاته من يتجسّس لهُ خبرهُ » (1).

وفي عهده المعروف لمالك الأشتر يوصي الإمام عليّ مالكاً بإرسال من يراقب عمّاله ، ويرفع إليه عنهم الأخبار والتقارير فيقول : « وابعث العُيون من أهل الصّدق والوفاء عليهم فإنّ تعاهُدك في السرّ لاُمُورهم حدوة لهُم على استعمال الأمانة والرفق بالرّعية. وتحفّظ من الأعوان فإن أحد منهُم بسط يدهُ إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبارُ عُيُونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقُوبة في بدنه وأخذتهُ بما أصاب من عمله ثُمّ نصبتهُ بمقام المذلّة ، ووسمتهُ بالخيانة ، وقلّدتهُ عار التّهمة » (2).

وهكذا يؤكّد الإمام عليّ علیه السلام على ضرورة تعيين جهاز يراقب أعمال الموظّفين وأصحاب المناصب الحكوميّة ، ثمّ يؤكّد عليه أن يختار لهذا الجهاز من يثق بأخباره من الأفراد ثقة مطلقة إلى درجة يكتفي بأخبارهم إذا أخبروا عن خيانة أو تقصير ، وهذا يعني أن يكون أعضاء جهاز ( الاستخبارات ) من الرجال الصالحين إلى درجة يثق الحاكم

ص: 543


1- قرب الاسناد : 148.
2- نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم 53.

الإسلاميّ بأخبارهم.

ومن المعلوم أنّ جهازاً من هذا النوع وأعضاء من هذا القبيل لا يمكن أن يتحوّل إلى جهاز جهنّمي على غرار ما يوجد الآن في البلاد الإسلاميّة في ظلّ الحكومات الطاغوتيّة الراهنة التي تتحكّم في أعراض الناس ودمائهم وأموالهم وتتجاوز على حقوقهم دون أن يجرأ أحد على الاعتراض أو الشكوى.

ويبدو أنّ الإمام عليّاً علیه السلام نفسه كان له عيون ورجال يتجسّسون له على ولاته وعمّاله في مختلف البلاد حيث إنّنا نجده يعاتب بعض ولاته على اُمور غير لائقة بهم - كولاة وحكّام إسلاميّين - صدرت عنهم ، ونرى نموذج ذلك في كتابه إلى عثمان بن حنيف وكان عامله على البصرة ، وقد بلغه أنّه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها فكتب الإمام علیه السلام إليه : « أمّا بعدُ ، يا ابن حُنيف ، فقد بلغني أنّ رجُلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدُبة فأسرعت إليها تُستطابُ لك الألوانُ ، وتُنقلُ إليك الجفانُ ، وما ظننتُ أنّك تُجيبُ إلى طعام قوم عائلُهُم مجفُوّ وغنيّهُم مدعُوّ » (1).

وتفيد كلمة ( بلغني ) أن هناك من كان يبلّغ هذه المعلومات عن الولاة إلى الإمام عليّ ... كيف لا وهو يأمر مالكاً أن يتّخذ مثل هؤلاء النظّار والمفتّشين على عمّاله ، وقد دعا بعض علماء الإسلام إلى ذلك أيضاً ، قال أبو يوسف في كتاب الخراج يوصي حكام زمانه : ( وأنا أرى أن تبعث قوماً من أهل الصلاح والعفاف ممّن يوثق بدينه وأمانته يسألون عن سيرة العمّال وما عملوا به البلاد ... وإذا صحّ عندك من العامل والوالي تعدّ بظلم وعسف وخيانة لك في رعيّتك ... فحرام عليك استعماله ) (2).

وربما كان الإمام عليّ علیه السلام بنفسه يقوم بالسؤال عن أعمال الولاة ، أو يأمر ولاته بأن يراقبوا أعمال الموظّفين من جانبهم.

فقد كتب إلى كعب بن مالك وهو عامله : « أمّا بعدُ فاستخلف على عملك

ص: 544


1- نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم 45.
2- الخراج لأبي يوسف : 128.

وأخرج طائفةً من أصحابك حتّى تمرّ بأرض السّواد كورةً بعد كورةً فتسألهم عن عمالهم وتنظر في سيرتهم » (1).

2. مراقبة تحرّكات العدو العسكريّة

رغم أنّ التكتيكات العسكريّة ، والتمرينات النظاميّة اليوم تختلف عمّا كانت عليه بالأمس اختلافاً شاسعاً ، ولكنّ عامل ( التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة والتعرّف على أسراره ومواقعه النظاميّة ، وفنونه القتاليّة ، ومدى استعداداته ، وحجم قواه ومعدّاته وعدد أفراده وآليّاته ) لا يزال منذ القديم وإلى الآن يحتفظ بأهمّيته القصوى ، ويعتبر - اليوم - من أفضل الأسباب والعلل لنجاح الجيوش أو سقوطها وفشلها.

ولقد كانت هذه المسألة موضع اهتمام المسلمين - قادة وحكومات - منذ القدم غير أنّها اتّخذت صفة العلم والتخصّص في العصور الحاضرة فصار ( فن التجسّس ) علماً يدرّس في الجامعات يتخصّص فيها الأفراد كما يتخصّصون في الفنون الاُخرى إلى درجة صارت القوى العظمى - اليوم - تجعل انتصاراتها ونجاحاتها مرهونة بمدى نجاحها وتفوّقها في ميدان التجسّس على العدو ، فراحت تنفق الأموال الطائلة على جهاز الاستخبارات ، وتدفع بجواسيسها المتمرّسين في شتّى أنحاء العالم ليجمعوا لها الأخبار ، ويرفعوا إليها التقارير ، ويتوسّلوا بكلّ وسيلة ممكنة للحصول على أدقّ المعلومات العسكريّة ونقلها إلى مراكزهم بشتّى الوسائل والحيل.

وربّما تسلّل هؤلاء الجواسيس إلى السلطات في الدول الاُخرى ، إمّا بأنفسهم أو بواسطة من يدسّونهم في تلك الدوائر من رجال أو نساء بمختلف الحيل والسبل والحجج.

وربّما تسابق الجواسيس سباقاً عنيفاً ، ودمويّاً في تحصيل المعلومات ، وأدّى الأمر في بعض الأحيان إلى المخاطرة بالنفس والمغامرة بالحياة كلّ ذلك انطلاقاً من أهمّية

ص: 545


1- الخراج لأبي يوسف : 128.

العمل التجسّسي في حياة وبقاء الشعوب والحكومات.

نماذج من التجسّس العسكريّ في عصر النبيّ
اشارة

لقد استخدم النبيّ صلی اللّه علیه و آله منذ تشكيله للدولة الإسلاميّة نظام التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة حتّى أنّ كثيراً من نجاحاته وانتصاراته العسكريّة والسياسيّة ترجع إلى اهتمامه البالغ بالمعلومات التي كانت ترد إليه من الأعداء عن طريق ( عيونه ) وجواسيسه الذين كان يبثّهم في كلّ مكان ، فيرفعون إليه ما يشاهدونه من تحرّكات العدوّ ، ويخبرونه بأخبارهم وأقوالهم وأفعالهم ، فكان صلی اللّه علیه و آله يباغتهم وهم في عقر دارهم ويفاجئهم وهم نيّام راقدون ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) ( العاديات : 1 - 2 ).

فقد وجّه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّ بن أبي طالب علیه السلام إلى منطقة وقال له : « اكمن النّهار ، وسر اللّيل ولا تُفارقك العينُ ( أي الجاسوس ) ».

فانتهى علیه السلام إلى ما أمره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسار إليهم ، فلمّا كان عند وجه الصبح أغار عليهم ، فأنزل اللّه سبحانه على نبيّه صلی اللّه علیه و آله : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ) (1).

وإليك فيما يأتي نماذج من هذا الأمر :

1. في حرب بدر خرج النبيّ مع أحد أصحابه حتّى وقف على شيخ من العرب ، وهو صلی اللّه علیه و آله يحاول التعرّف على أخبار قريش فسأله صلی اللّه علیه و آله عن قريش وعن محمّد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ : انّه بلغني أنّ محمّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش.

2. بعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليّاً علیه السلام مع بعض الأصحاب إلى ماء بدر يلتمسون

ص: 546


1- نور الثقلين 5 : 652.

الخبر له عليه فأصابوا راوية لقريش فيها غلامان لقريش فأتوا بهما فسألوهما ورسول اللّه قائم يصّلي فقالا : نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلمّا بالغوا في ضربهما قالا : نحن لأبي سفيان فتركوهما ، وركع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسجد سجدتيه وقال : « واللّه إنّهُما لقُريش ، أخبراني عن قُريش » ؟ قالا : هم واللّه وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « كم القُومُ » ؟ قالا : كثير ، قال : « ما عدّتُهُم » ؟ قالا : لا ندري ، قال : « كم ينحرُون كُلّ يوم » ؟ قالا : يوما تسعاً ، ويوما عشراً ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « القومُ فيما بين التسع مئة ، والألف ».

ثمّ قال لهما : « فمن فيهم من أشراف قُريش » ؟ قالا : عتبة بن ربيعة وشيبة بي ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر بن نوفل و ... فأقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الناس فقال : « هذه مكّةُ قد ألقت إليكُم أفلاذ كبدها » (1).

3. كان بسبس بن عمرو ، وعدي بن أبي الزغباء ( الذين اُرسلا من جانب النبيّ للتجسّس على قريش ) قد مضيا حتّى نزلا بدراً فأناخا إلى تل قريب من الماء ثمّ أخذا شناً لهما يستقيان فيه ، ومجديّ بن عمرو الجهنيّ على الماء فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري القوم النازلين على الماء وهما يتلازمان ويتعاركان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها إنّما تأتي العير غداً أو بعد غد ، فاعمل لهم ثمّ اقضيك الذي لك ، قال مجدي : صدقت ثمّ خلص بينهما وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما ثمّ انطلقا حتّى أتيا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاخبراه بما سمعا (2).

هكذا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يستطلع أخبار القوم ويتجسّس عليهم ويبطل مؤامراتهم في اللحظة المناسبة.

وقد أخمد مؤامرة بني سليم وقبيلة قطوان بما حصل عليه من معلومات ساعدته على مباغتتهم وإفشالهم.

ص: 547


1- سيرة ابن هشام 1 : 1. 617.
2- سيرة ابن هشام 1 : 1. 617.

ثمّ إنّنا نلاحظ كيف استفاد عيون الرسول من تقصّي الخبر ، مع الإستفادة الكاملة من قاعدة التستّر والسريّة وهو أمر كان يهتمّ به الرسول في كلّ عمليّاته الاستطلاعيّة ، فها هو عندما يبعث أحد أصحابه للاستطلاع يحيط مهمّته بكامل السريّة والتحوّط وإليك القصّة :

بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عبد اللّه بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب ، مقفله من بدر الاُولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحداً.

فلمّا سار عبد اللّه بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه : « إذا نظرت في كتابي هذا فأمض حتّى تنزل نخلةً بين مكّة والطّائف فترصُد بها قُريشاً وتعلم لنا من أخبارهم ».

فلمّا نظر عبد اللّه بن جحش قال : سمعاً وطاعة (1).

ألا ترى كيف أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله فرض على مبعوثه أن لا يطلع على الكتاب الذي أعطاه خوف أن يتسرّب الخبر إلى الناس فيتسرّب منهم إلى قريش وتفشل خطة الرسول.

4. لقد كانت معركة أحد من المعارك الصعبة التي فقد فيها الرسول الأكرم 70 شخصا من أصحابه بمن فيهم حمزة أسد اللّه وأسد رسوله ولكن لو لم يكن يعرف الرسول - قبل ذلك - أوضاع العدو لفاقت الخسائر ما وقع.

فإنّ قريشا لمّا خرجت وهم ثلاثة آلاف ومعهم عدة وسلاح كثير وقادوا مائتي فرس وكان فيهم سبعمائة دارع وأجمعوا المسير كتب العبّاس بن عبد المطلب كتاباً وختمه واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول اللّه يخبره « أنّ قريشا قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلّوا بك فاصنعه وقد توجّهوا إليك وقادوا مائتي فرس ، وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير واوعبوا من السلاح » فقدم الغفاري إلى المدينة فوجد النبيّ بقباء وهي قرية متّصلة بالمدينة فدفع إليه الكتاب فقرأه

ص: 548


1- سيرة ابن هشام 1 : 601.

عليه اُبيّ بن كعب واستكتم اُبيّاً ما فيه (1).

5. تحالفت قريش واليهود وغطفان في حرب الخندق ضد النبيّ صلی اللّه علیه و آله وصاروا كتلة واحدة على الإسلام والمسلمين ، فاتّخذ النبيّ صلی اللّه علیه و آله سياسة التفرقة بينهم فبعث نعيم ابن مسعود ، الذي قام بدوره بأحسن صورة ، التي تعد فريدة في نوعها وإليك القصّة :

جاء نعيم بن مسعود إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : يا رسول اللّه إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أنت فينا رجُل واحد فخذّل عنّا إن استطعت فإنّ الحرب خُدعة ».

فخرج نعيم حتّى أتى بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهليّة فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إيّاكم ، وخاصّة ما بيني وبينكم ، قالوا : صدقت لست عندنا بمتّهم ، فقال لهم : إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وانّ قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمّد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتّى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمّداً حتّى تناجزوه ، فقالوا له : قد أشرت بالرأي.

ثمّ أتى إلى أبي سفيان ورجال قريش وقال : إنّ اليهود قد ندموا على ما صنعوا مع محمّد وتعهّدوا له بأن يسلّموا إليه رجالاً من قريش ليعفو عنهم ثمّ خرج إلى غطفان وهم عشيرته وحذّرهم وقال لهم مثل ما قال لقريش.

وهكذا ألقى الحيرة والخوف وعدم الثقة بين قريش وغطفان واليهود المتحالفين ضدّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فلمّا اقترب موعد الحرب ضد النبيّ طلبت اليهود من قريش وغطفان رجالاً كرهائن عندهم ، قالت قريش وغطفان : إنّا واللّه لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا

ص: 549


1- مغازي الواقديّ 1 : 203 - 204.

فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ... (1) وهكذا انفرط عقد التحالف القرشيّ اليهوديّ الغطفانيّ بفعل نعيم وتخذيله والدور الذي لعبه كما يلعبه أي جاسوس يعمل لصالح جهة معيّنة ، وينفّذ تكتيك التفرقة بين قوى العدو ببث الشائعات والتخويف.

6. وفي نفس الواقعة ( أي واقعة الخندق ) لمّا انتهى إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما اختلف من أمرهم وما فرّق اللّه من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً. وقال له : يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ولا تحدّثن شيئاً حتّى تأتينا.

يقول : فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود اللّه تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء فقام أبو سفيان وقال : يا معشر قريش ، لينظر امرؤ من جليسه ؟

قال حذيفة : فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت : من أنت ، قال : فلان ابن فلان.

[ وفي شرح المواهب : فضربت بيدي على يد الذي عن يميني فأخذت بيده ، فقلت من أنت ؟ قال معاوية بن أبي سفيان ثمّ ضربت بيدي على يد الذي كان على شمالي فقلت من أنت ؟ قال : عمرو بن العاص ] (2).

ثمّ راح أبو سفيان يتحدّث عن ما لحقهم من الخلاف والبلاء ومقتل عمرو بن ود وقال ارتحلوا فانّي مرتحل.

يقول حذيفة : فواللّه لولا عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقتلته بسهم.

ثمّ رجع إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأخبره بعزم قريش على الانسحاب من هذه المعركة والفرار.

وهذا يكشف عن أنّ هذا النوع من العمل كان ابتكاراً من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعملاً

ص: 550


1- سيرة ابن هشام 2 : 229 ، ومغازي الواقديّ : 480.
2- سيرة ابن هشام 2 : 232 ومغازي الواقديّ : 482.

بديعاً في ذلك العصر ، وهو ينبئ عن نبوغ الرجل الذي اختاره النبيّ وحسن اختياره صلی اللّه علیه و آله وحرصه على العمل الذي كلّف به.

وفي هذا الصدد قال نابليون : إنّ وجود رجل واحد مناسب وذكيّ من الاستخبارات خير من عشرين ألف مقاتل في ميدان الحرب.

7. بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت « سويلم » اليهوديّ ، وكان بيته عند جاسوم ( موضع بالمدينة ) يثبّطون الناس عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غزوة تبوك فبعث إليهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله طلحة بن عبيد اللّه في نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ، ففعل طلحة.

ومن المعلوم أنّ هناك من كان يترصّد الأخبار لرسول اللّه ويبلغها له ، إذ من المعلوم أنّ العمليات التي كان يقوم بها اليهود والمنافقون وهم بمثابة الطابور الخامس ، كانت في غاية السريّة ، فلا بدّ أن يكون هناك من كان يتجسّس عليهم ويسترقّ أخبارهم ويعطيها للنبيّ صلی اللّه علیه و آله .

8. في وقعة خيبر لمّا كان في إحدى الليالي قبضت الدوريّة العسكريّة الإسلاميّة على رجل من يهود خيبر في جوف الليل فأمر به عمر أن يضرب عنقه ، فقال : اذهب بي إلى نبيّكم حتّى اُكلّمه فأمسك عنه وانتهى به إلى باب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فوجده يصلّي فسمع صلی اللّه علیه و آله كلام عمر ، فسلّم وأدخله عليه فدخل باليهوديّ ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لليهودي : « ما وراءُك » ؟ فقال : تؤمنّي يا أبا القاسم ، فقال : « نعم » ، قال : خرجت من حصن النطاة من عند قوم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة. قال فأين يذهبون ؟ قال : إلى الشقّ يجعلون فيه ذراريهم ، ويتهيّأون للقتال في هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب من حصون النطاة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبّابات ودروع وسيوف فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله ( قال رسول اللّه : « إنشاء اللّه » قال اليهوديّ : إنشاء اللّه ) أوقفتك عليه فإنّه لا يعرفه غيري ، واُخرى ، قيل ما هي ، قال : يستخرج المنجنيق ، وينصب على الشقّ ويدخل الرجال تحت الدبّابات فيحفر الحصن فتفتحه من يومك ، وكذا تفعل بحصون

ص: 551

الكتيبة.

ثمّ قال : يا أبا القاسم : احقن دمي ، قال : « أنت آمن » قال : ولي زوجة فهبها لي ، قال : « هي لك ».

ثمّ دعاه صلی اللّه علیه و آله إلى الإسلام فقال : انظرني أيّاماً (1).

9. بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عباد بن بشر في فوارس طليعة فأخذ عيناً من يهود من أشجع فقال : من أنت ، قال : باغ ابتغي أبعرة ضلّت لي ، قال له عباد : ألك علم بخيبر ؟ ، قال : عهدي بها حديث فيم تسألني عنه ، قال : عن اليهود ، قال : نعم.

( ثمّ أخبر عن اليهود بأخبار كاذبة بقصد إرعاب المسلمين ) فعند ذلك رفع عباد ابن بشر السوط فضربه ضربات وقال : ما أنت إلاّ عين لهم ، أصدقني والاّ ضربتُ عنقك. فقال الإعرابي : أتؤمنني على أن أصدقك ، قال عباد : نعم ، فقال الإعرابي : القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود إلى آخر القصة (2).

10. وفي اُحد بعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله عينين له انساً ومؤنساً ابني فضالة ليلة الخميس فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم حتّى نزلوا بالوطاء فأتيا رسول اللّه فأخبراه بمكان قريش وأنّ مع قريش ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس وغير ذلك (3).

11. وفي غزوة الحديبيّة بعث رسول اللّه بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتّى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعيّ فقال : إنّي تركت كعباً وعامراً قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعاً وهم قاتلوك أو مقاتلوك ، وصادّوك عن البيت ، فقال : « روحُوا » إلى آخر القصّة (4).

ص: 552


1- المغازي 2 : 647 - 648 ، السيرة الحلبيّة 3 : 41.
2- المغازي للواقديّ 2 : 640 - 642.
3- المغازي 1 : 206.
4- مجمع البيان 9 : 117.

ولعلّ أوضح نصّ في هذا المجال هو ما وصّى به الإمام عليّ علیه السلام جيشاً بعثه إلى العدو حيث قال : « واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب لئلاّ يأتيكم العدّو من مكان مخافةً أو أمن واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم ، وعيون المقدّمة طلائعهم ... وإيّاكم والتفرّق فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرّماح كفةً [ أي مثل كفة الميزان مستديرة حولكم محيطة بكم ] ولا تذوقوا النوّم إلاّ غراراً أو مضمضةً [ أي ينام ثمّ يستيقظ ثمّ ينام ] » (1).

وهو موقف اتّخذه الإمام عليّ علیه السلام عمليّاً إذ كتب إلى قثم بن العبّاس وهو عامله على مكّة إذ قال : « أمّا بعد فإنّ عيني [ أي رقيبي الذي يأتيني بالأخبار ] بالمغرب [ أي الأقاليم الغربيّة ] كتب إليّ يعلمني أنّه وجّه إلى الموسم أناس من أهل الشّام ، العمي القلوب الصمّ الأسماع ، الكمه الأبصار الّذين يلبسون الحقّ بالباطل ... الخ ».

هذه بعض النماذج من الأعمال التجسّسية التي كان يأمر بها الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله غيره من قادة الإسلام في المجال العسكريّ ، لمعرفة التحركات المعادية للحكومة الإسلاميّة.

كلّ ذلك يؤكّد موقف الإسلام من جهاز الاستخبارات العسكريّة الذي يضمن جمع المعلومات الدقيقة حول العدو ، ويمكّن القيادة والحكومة من اتّخاذ الموقف المناسب.

* * *

3. مراقبة نشاطات الأجانب ونفوذهم

إنّ الوظيفة الثالثة ، وبالأحرى الجانب الأهمّ من عمل الأمن العامّ والاستخبارات هو مراقبة نشاطات الأجانب الأعداء في داخل البلاد الإسلاميّة ورصد تحرّكاتهم ونفوذهم لمنع ظهور الطابور الخامس الذي يرجع إليه السبب الأكبر في سقوط الدول

ص: 553


1- نهج البلاغة : الكتاب 33.

والحكومات ولقد سلك النبيّ صلی اللّه علیه و آله هذا المسلك وتمكّن بذلك أن يمنع من محاولات أعداءه العدائيّة ، ويبطل خططهم في الداخل.

إنّ حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله تبيّن أنّه كان يسعى دوماً إلى أن يدفع العدو إلى الخضوع للحقّ ، ولم يكن يهدف الانتقام والثأر وإراقة الدماء.

ففي المعارك والغزوات التي شارك فيها النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو بعث سريّة لمقابلة العدو كان يهدف بالدرجة الاُولى إلى تفريق جمعهم ، وتشتيت صفّهم لأنّه كان يعلم بأنّه لو ارتفعت الموانع عن طريق الإسلام لاستطاع الدين بمنطقه البيّن ونهجه القويم أن يشقّ طريقه إلى قلوب الناس.

فإذا تفرّق جمع العدو ، ويئس من السيطرة على الإسلام ، وعاد الناس إلى فطرتهم ورشدهم ، استطاع الدين أن يتسرّب إلى قلوبهم ، وجذبهم إلى صفّه ، وهذا هو أمر تدلّ عليه الأحداث التاريخيّة فإنّ كثيراً من الشعوب والأقوام التي هزمت أمام القوّة الإسلاميّة العسكريّة ، عادت إلى رشدها وراحت تفكّر في قبول الدين واعتناق تعاليمه ومفاهيمه.

وقد ظهر هذا الأمر في فتح مكّة بأجلى مظاهره.

لقد كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يعلم أنّه لو فتح مكّة ونزع السلاح من العدو ، وتهيّأت البيئة المساعدة للتفكير والتدبّر فلن يمضي زمان كبير إلاّ ويستقبل الناس بقلوبهم وعقولهم دعوة الإسلام ، ولذلك كان يتحتّم على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن ينتصر على العدو ، ويتغلّب عليه ولكن دون إبادته وتدميره وإفنائه ... ما دام حقن الدماء ممكناً. ولتحقيق هذا الهدف المقدّس ( الغلبة على العدو دون إراقة الدماء ) كان يتعيّن مباغتة الطرف الآخر ومفاجأته قبل أن يفكّر في الدفاع عن نفسه ، وقبل أن يقوم بأيّ عمل مضادّ ، ولا شكّ أنّ هذا الأمر ما كان ليتحقّق إلاّ بأن تبقى جميع أسرار السياسة الإسلاميّة مصونة محفوظة لا يعلم بها الطرف الآخر ، ولا يقع في يده شيء منها فلا يعلم العدو مثلا هل يريد النبيّ صلی اللّه علیه و آله مهاجمتهم أوّلاً ، وعلى فرض عرف العدو ذلك ، فلا يعرف متى وكيف ومن أين ، كلّ ذلك

ص: 554

أسرار يجب أن تبقى مصانة ومحفوظة لا يدري بها العدو ، ولهذا كان يتعيّن على النبيّ أن يلاحظ عملاء العدو في الداخل لكي لا يسرّبوا أي خبر من داخل البلاد إلى العدو ولا يخبروه بخبر يفوّت على النبيّ مقاصده.

ومن هنا اتّخذ النبيّ الاجراءات الفوريّة عندما بلغه أنّ هناك من أفشى خبر سفره وتوجّهه إلى مكّة لفتحها ، فلمّا أجمع الرسول صلی اللّه علیه و آله المسير إلى مكّة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش بخبرهم بعزم الرسول ، ثمّ أعطى الكتاب إلى امرأة فجعلته في شعر رأسها ، فأتى الخبر إلى رسول اللّه من السماء فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوّام فخرجا حتّى أدركاها في موضع بين مكّة والمدينة فأنزلاها من رحلها ، وفتّشا الرحل فلم يجدا شيئاً فقال لها عليّ بن أبي طالب : « إنّي أحلفُ باللّه ما كذب رسولُ اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا كُذّبنا ولتُخرجنّ هذا الكتاب أو لنكشفنّك ».

فلمّا رأت الجدّ منه ، قالت : أعرض ، فأعرض ، فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه. فأتى به إلى رسول اللّه وعاتب النبيّ حاطب بشدّة (1).

وفي ذلك نزلت الآيات الاُول من سورة الممتحنة ابتداء من قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ ... الخ ) ( الممتحنة : 1 ).

وهكذا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يحبط الأعمال التجسّسيّة التي كان يقوم بها العدوّ في عمق بلاده.

وقد ذهب بعض علماء الإسلام إلى ضرورة وجود جهاز يكشف مؤامرات العدو في الداخل.

يقول القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج :

( وينبغي للإمام أن تكون له مسالح ( مخافر حدوديّة ) على المواضع التي تنفذ إلى بلاد أهل الشرك من الطرق فيفتّشون من مرّ بهم من التجّار فمن كان معه سلاح أخذ منه ورد ، ومن كان معه كتب قرئت كتبه فما كان من خبر من أخبار المسلمين قد كتب به

ص: 555


1- سيرة ابن هشام 2 : 399.

أخذ الذي اُصيب معه الكتاب وبعث به إلى الإمام ليرى فيه رأيه ) (1).

حكم المتجسّس لصالح الأجنبيّ

إنّ الإسلام أمر بالتشدّد مع اُولئك النفر من المسلمين الذين يتجسّسون لصالح الأجانب ، ففي الإرشاد للشيخ الأجلّ المفيد :

لمّا بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين علیه السلام وبيعة الناس ابنه الحسن علیه السلام دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الاُمور فعرف ذلك الحسن علیه السلام فأمر باستخراج الحميري من عند لحّام بالكوفة فأخرج وأمر بضرب عنقه وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فاُخرج وضربت عنقه وكتب الحسن علیه السلام إلى معاوية : « أمّا بعدُ فإنّك دسست الرّجال للاحتيال والاغتيال وأصدرت العيُون كأنّك تُحبّ اللقاء وما أوشك ذلك فتُوقعهُ إنشاء اللّه تعالى » (2).

كما أمر بالتشديد مع أهل الذمّة الذين يتجسّسون في الداخل على المسلمين لصالح الأعداء والأجانب ويعتبر ذلك نقضاً للذمّة.

قال المحقّق الحليّ في الشرائع في باب شرائط أهل الذمّة :

( ... أن لا يؤذوا المسلمين كالزنى بنسائهم واللواط بصبيانهم والسرقة لأموالهم وإيواء عين المشركين ( أي جاسوسهم ) والتجسّس لهم فإن فعلوا من ذلك شيئاً وكان تركه مشترطاً في الهدنة كان نقضاً ) (3).

وقال العلامة الحلي في تذكرة الفقهاء في ما يشترط على أهل الذمّة :

ص: 556


1- كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفّى ( 182 ه ) طبعة القاهرة عام (1303).
2- الإرشاد : 192 للمفيد الفقيه المؤرّخ محمّد بن محمّد بن النعمان المتوفّى ( 413 ه ).
3- شرائع الإسلام كتاب الجهاد : 329.

( وأن لا ينقلوا أخبار المسلمين إلى أعدائهم ولا يدلّوا على عوراتهم فمن فعل شيئا من ذلك فقد نقض عهده وأحلّ دمه وماله وبرئت منه ذمّة اللّه ورسوله والمؤمنين ) (1).

وكتب القاضي أبو يوسف في كتابه الخراج يقول :

( سألت عن الجواسيس يوجدون وهم من أهل الذمّة أو أهل الحرب أو من المسلمين فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذمّة ممّن يؤدّي الجزية من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم ، وإن كانوا من الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة وأطل حبسهم حتّى يحدثوا توبة ) (2).

وهكذا يكون من وظائف الحكومة الإسلاميّة تشكيل جهاز قويّ مجهّز بكلّ الوسائل القويّة للتجسّس في الإطارات المذكورة التي مرّ عليك ذكرها.

على أنّ الإسلام - كعادته وكما أسلفنا - تعرّض في هذه المسألة لجوهر الأمر ولم يدخل في تفصيلاته وشكليّاته فإنّ كيفيّة التجسّس ونوع الرموز والأجهزة متروكة للزمن على أن تكون في إطار التقوى والأخلاق وحسب الشروط التي مرّت.

وجملة القول أنّ ما نفهمه من حياة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وسيرته السياسيّة هو الاهتمام الشديد الذي كان يبديه بمسألة الاستخبارات.

فإنّه وإن لم يكن في زمن النبيّ تشكيلات للاستخبارات على غرار ما يوجد الآن في العالم الحديث ولكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان - مضافا إلى اتّخاذ العيون - قد ربّى المسلمين تربية سياسيّة رائعة بحيث أصبح كلّ مسلم يرى نفسه مسؤولا عن الأمن فكانوا يرفعون إليه فوراً كلّ خبر يرتبط بهذا الأمر ، فها هو زيد بن أرقم - وهو غلام يافع - عندما يسمع أحد قادة الطابور الخامس ( عبد اللّه بن اُبي ) في غزوة بني المصطلق وهو يقول : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ويعني بالأعز نفسه وبالأذلّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : أنت واللّه الذليل القليل المبغض ومحمّد في عزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين ..

ص: 557


1- تذكرة الفقهاء 1 : 442.
2- كتاب الخراج : 205 - 206.

ثمّ أسرع إلى النبيّ وأخبره بالأمر (1).

فعلى الحكومة الإسلاميّة أن تربّي المسلمين بهذه التربية ، ليعتبر كلّ واحد منهم نفسه مسؤولاً عن أمن البلاد دفعاً للفساد ، ونهياً عن المنكر ، وإن كان ذلك لا يغني عن تأسيس جهاز مستقلّ لذلك.

وأخيراً نكرّر القول بأنّه يجب أن يكون جهاز الاستخبارات لصالح الإسلام والمسلمين مائة بالمائة ، ولا يكون على غرار ما في الدول المعاصرة ، إذ ليس ذاك إلاّ للحفاظ على عروش الاُمراء والرؤساء والملوك ، ولذلك فهو لا يتجسّس لصالح الاُمّة بل يتجسّس على الاُمّة لإخماد صوتها وإكبات حريّاتها وتحطيم مقاومتها. وإخضاعها للسياسات الاستعماريّة ، والمطامع الأجنبيّة.

ص: 558


1- مجمع البيان 5 : 294.

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

7

الحكومة الإسلاميّة والنظام العسكريّ
قوام الاُمّة رهن بقدرتها العسكريّة

إنّ قوام كلّ اُمّة من الاُمم يرتبط بمدى قدرتها على الدفاع عن وجودها ، وحماية شخصيّتها اتّجاه الأعداء ، فبقدر ما تكون تلك الاُمّة مجهّزة بالعدد والعدّة ، تستطيع أن تدفع عن نفسها أي عدوان وتحافظ على كيانها في سياج من الأمن والدعة والاسقرار ، وبقدر ما تكون ضعيفة في هذه الناحية تكون معرّضة للزوال والاندحار أمام هجمات الأعداء ، ومن هنا أنشأت الجيوش ، واُوجدت العساكر الجرّارة ... وظهرت إلى الوجود الأساطيل البحريّة ، ووسائل الحرب ... .

ولقد صارت هذه الجيوش والعساكر شيئاً فشيئاً وسيلة بأيدي الطغاة والطامعين فغزوا بها البلاد وأغاروا بها على المدن ... فكانت الوقائع الدامية ، والحروب المريعة ، والمجازر الفضيعة التي صبغت التاريخ البشريّ بلون الدم القاني.

ص: 559

الجيش في خدمة الدين والشعب

إنّ الجيش في الحكومة الإسلاميّة ليس كالجيوش في الدول الامبرياليّة الشرقيّة والغربيّة لا يكون الهدف منها إلاّ توسعة النفوذ ، والتجاوز على الحقوق والإغارة على أموال الآخرين وثرواتهم.

كما أنّه ليس كالجيوش في العالم الثالث حيث لا يكون الهدف منها إلاّ الحفاظ على سيطرة السلطات الديكتاتوريّة العميلة هناك وسلب الحريّات ، وقمع المعارضة ، وضرب الانتفاضات الشعبيّة ... وبالتالي حماية المصالح الأجنبيّة ، بل الجيش في الحكومة الإسلاميّة إنّما هو للمحافظة على ثغور البلاد الإسلاميّة ، واستقلال البلاد ... وما فيها من ثروات وشعوب ، وعلى ذلك يتّصف الجيش الإسلاميّ بصفة الحافظ الصائن لا الغازي المهاجم ، المحرّر لا المعتدي ... والصديق في جانب الشعب ، لا القوّة القاهرة له ، العدوة لأبنائه.

ولقد كان هذا الأمر موضع اهتمام الإسلام منذ طلوعه وبزوغه ، فإنّ الدين الذي جاء ليكتسح الظلمات وينقذ البشريّة من براثن الاستعباد والاستثمار كان من الطبيعيّ أن يواجه معارضة ممّن بنوا حياتهم على استعباد الإنسان واستثماره واستغلاله ، ومن هنا كان طبيعيّاً - أيضاً - أن يعدّ الإسلام عدّته لمواجهة أعدائه ومعارضيه الذين راحوا يكيدون له أشدّ الكيد ، ويتربّصون به الدوائر.

إنّ من يلاحظ الحياة الإسلاميّة في الصدر الأوّل وما بعده يجد نشاطاً عسكريّاً فريداً من نوعه ، ومن يلاحظ التعاليم الإسلاميّة ذاتها يجد نظاماً عسكريّاً فريداً أيضاً ، فقد تضمّن القرآن الكريم تعاليم راقية ومتقدّمة جداً في الشؤون العسكريّة وتوجيهات لا سابق لها في الفنون النظاميّة.

ثم إنّ من يلاحظ النصوص الإسلاميّة يجدها تحثّ المسلمين حثّاً بليغاً وأكيداً على تعلم الرماية والتدريب على السلاح ومزاولة التمرينات العسكريّة استعداداً لكل

ص: 560

مواجهة ، وإليك فيما يلي بعض هذه النصوص :

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا سباق إلاّ في خفّ أو حافر أو نصل ( يعني النصال والرمي ) » (1).

وعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ ) ( الأنفال : 60 ) ، قال : « الرّمي » (2).

وعنه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « علّموا أبناءكم الرّمي والسّباحة » (3).

وقال أيضا : « اركبوا وارموا وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا ...

كلّ لهو المؤمن باطل إلاّ في ثلاث في تأديبه للفرس ، ورميه عن القوس ... فإنّهنّ حقّ. ألاّ أنّ اللّه عزّ وجلّ ليدخل بالسّهم الواحد الثلاثة الجنّة : عامل الخشبة والمقوّي به في سبيل اللّه والرّامي به في سبيل اللّه » (4).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « الرّمي سهم من سهام الإسلام » (5).

وهذا يعني أنّ على كافة المسلمين أن يتلقّوا التدريب العسكريّ ويتعرّفوا على فنون الرماية والقتال. ليكونوا على استعداد كامل ودائم لأيّة مواجهة مع الأعداء.

ولقد دفعت الروح القتاليّة والبسالة والتشجيع على التدريب العسكريّ التي بثّها الإسلام في المسلمين إلى أن يتطوّعون بكامل رغبتهم للخدمة العسكريّة ويبادروا إلى الانضواء في الجيش الإسلاميّ كلّما استدعت الحاجة ، واقتضت الظروف.

على أنّ السبب الرئيسيّ في ذلك هو أنّ الإسلام أفاض على الخدمة العسكريّة قدسية يخلو منها جميع الأنظمة البشريّة ... فقد اعتبر الإسلام الإنضواء في الجيش

ص: 561


1- وسائل الشيعة 13 :1. 351 كتاب السبق والرماية - باب استحباب الرمي والمراماة.
2- وسائل الشيعة 13 :1. 351 كتاب السبق والرماية - باب استحباب الرمي والمراماة.
3- مستدرك الوسائل 2 : 517.
4- وسائل الشيعة 11 : 107 باب استعمال تعلّم الرمي بالسهم.
5- وسائل الشيعة 11 : 107 باب استعمال تعلّم الرمي بالسهم.

الإسلاميّ والخدمة العسكريّة والقتال في صفوف هذا الجيش ( جهاداً في سبيل اللّه ).

وينطوي هذا اللفظ على بعد معنويّ رفيع جدّاً حيث يعني الجهد والسعي لحفظ البلاد وإنقاذ المستضعفين وإعلاء كلمة اللّه ... وذلك يكفي لأن تجتذب نحوها القلوب والضمائر. ذلك لأنّ هذا الوصف في الخدمة العسكريّة وهذا الهدف المقدّس يخرج العمل العسكريّ من كونه خدمة للطغاة ، وسعياً من أجل إرضاء رغباتهم كما هو الحال في الجيوش الحاضرة ، التي لم تنشأ في الأغلب إلاّ لحماية الطواغيت ولا تحارب إلاّ لإرضاء شهواتهم ورغباتهم وتحقيق مطامعهم.

من هنا يكفي للحكومة الإسلاميّة أن تعلن عن حاجتها إلى الجنود والمقاتلين لتنهال عليها طلبات الإلتحاق إلى صفوف الجيش من كلّ جانب بهدف أن ينالوا شرف الجهاد تحت لواء الإسلام ، وهم يسمعون كلام اللّه إذ يقول : ( وَفَضَّلَ اللّهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) ( النساء : 95 ).

على أنّ هذا الأمر لا يمنع من أن تتّخذ الحكومة الإسلاميّة جيشاً منظّماً مجهّزاً بأحدث الأسلحة والتكتيات عملاً بقوله سبحانه : ( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) ( الأنفال : 60 ).

بل وللحكومة الإسلاميّة أن تفرض نظام التجنيد الإجباريّ على بعض الناس ضمن شروط خاصّة إذ لا يمكن في مثل هذا العصر الذي تتّخذ فيه الدول الجيوش القويّة المدرّبة والمنظّمة ، أن لا تتّخذ الحكومة الإسلاميّة جيشاً مماثلاً في القوّة والتدريب والنظام والعدّة ، تنيط إليه مسؤولية الدفاع عن الوطن الإسلاميّ والمرابطة على ثغوره والسهر على أمنه الخارجيّ ودرء الأخطار عنه وإن كانت هذه المسؤوليّة قد تعمّ كلّ أفراد الاُمّة دون إستثناء إذا اقتضى الأمر ، وتطلب أن يتطوّع الجميع لحمل السلاح ، والدفاع عن حوزة الإسلام والمسلمين.

وخلاصة القول ؛ أنّ النظام والعمل العسكريّ في الإسلام لا يهدف فتح البلاد

ص: 562

وغزو الشعوب واستعمارها ، واستغلالها ، بل يتركّز في أحد أمرين :

1. الدفاع عن حدود البلاد الإسلاميّة وحماية الاُمّة من غزو الغزاة ، وعدوان الأعداء.

2. تحرير المستضعفين وإنقاذهم من ظلم اُمرائهم وملوكهم ... ليختاروا ما يشاؤون من دين ، ويتّخذوا بإرادتهم ما يريدون. وهذا ما أعلن عنه المسلمين يوم أرادوا فتح إيران وانقاذ أهلها من ظلم ملوكهم ، وحيفهم.

فقد قال مندوب المسلمين لمّا سأله الأمير الايرانيّ رستم عن سبب تحرّكهم العسكريّ نحو إيران ، وسأله عن الدين الذي يحملونه ويبشّرون به :

« هو دين الحقّ وعموده الذي لا يصلح إلاّ به فشهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه ... وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة اللّه ، والناس بنو آدم وحوا ، اخوة لأب واُمّ » (1).

تعاليم إنسانيّة في الحرب

ولذلك نجد للإسلام تعليمات إنسانيّة عظيمة للجنود والمقاتلين تكشف عن أهداف الحروب الإسلاميّة وغاياتها السامية ، فها هو النبيّ صلی اللّه علیه و آله كلّما أراد أن يبعث جيشاً إلى موضع من المواضع وصّاه بوصايا تفوح منها رائحة الرحمة والإنسانيّة ، فعن الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام قال : « كان رسُولُ اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا أراد أن يبعث سريّةً دعاهُم فأجلسهُم بين يديه ثُمّ يقُولُ :

سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملّة رسول اللّه لا تغلوا ولا تمثّلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا صبيّاً ، ولا امرأةً ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطروا إليها

ص: 563


1- الكامل لابن الأثير 1 : 319 وفي رواية اُخرى قال : اللّه جاء بنا وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلی سعتها، ومن جور الأديان إلی عدل الإسلام. راجع الكامل 320:1.

وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتّى يسمع كلام اللّه فإن تبعكم فأخوكم في الدّين ، وإن أبى فأبلغوه مأمنه واستعينوا باللّه » (1).

وقال علیه السلام أيضاً : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان إذا بعث أميراً له على سريّة أمره بتقوى اللّه عزّ وجلّ في خاصّة نفسه ثمّ في أصحابه عامّةً ثمّ يقول :

اغز باسم اللّه وفي سبيل اللّه ، قاتلوا من كفر باللّه ... لا تغدروا ... ولا تغلوا ... ولا تمثّلوا ... ولا تقتلوا وليداً. . ولا متبتّلاً في شاهق ، ولا تحرقوا النّخل ، ولا تغرقوه بالماء ، ولا تقطعوا شجرة مثمرةً ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه ، ولا تعقروا من البهائم يؤكل لحمه إلاّ ما لا بدّ لكم من أكله ، وإذا لقيتم عدوّاً للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث فإن هم أجابوكم فاقبلوا منهم وكفّوا عنهم :

ادعوهم إلى الإسلام فإن دخلوا فيه فاقبلوا منهم وكفّوا عنهم ، وإن أبوا أن يهاجروا واختاروا ديارهم وأبوا أن يدخلوا في ديار الهجرة ، كانوا بمنزلة أعراب المؤمنين يجري عليهم ما يجري على أعراب المؤمنين ولا يجري لهم في الفيء ولا في القسمة شيئاً إلاّ أن يهاجروا [ يجاهدوا ] في سبيل اللّه. فإن أبوا هاتين فادعوهم إلى إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون فإن أعطوا الجزية فاقبل وكفّ عنهم وإن أبوا فاستعن باللّه عزّ وجلّ عليهم وجاهدهم في اللّه حقّ جهاده ... الخ » (2).

وكان عليّ بن أبي طالب علیه السلام إذا بعث سرية ولّي أمرها رجلاً ثمّ قال له : « أُوصيك بتقوى اللّه الّذي لا بدّ لك من لقائه ولا منتهى لك دونه وهو يملك الدّنيا والآخرة وعليك بالّذي بعثت له ، وعليك بالّذي يقرّبك إلى اللّه عزّ وجلّ فإنّ فيما عند اللّه خلفاً من الدّنيا » (3).

إلى غير ذلك من التعليمات والوصايا التي تكشف عن أهداف النظام العسكريّ

ص: 564


1- وسائل الشيعة 11 : 42 - 43.
2- وسائل الشيعة 11 : 45 - 46 ، وتاريخ اليعقوبيّ 2 : 59.
3- الخراج : 16.

في الإسلام.

ولعل من أبرز ما يكشف لنا عن هدف الإسلام من الجهاد والقتال والنشاط العسكريّ هو قوله تعالى : ( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) ( النساء : 75 ).

ولقد اهتمّ الإسلام بالجنود غاية الاهتمام ، وأعطاهم غاية العناية لمالهم من الدور الحسّاس والخطير في الدولة الإسلاميّة.

فها هو الإمام عليّ أمير المؤمنين علیه السلام يوصي الأشتر النخعيّ واليه على مصر بالجنود ويقول في حقّهم ما لم يعرف التاريخ له مثيلاً : « فالجنود بإذن اللّه حصون الرّعيّة وزين الولاة ، وعزّ الدّين وسبل الأمن وليس تقوم الرّعيّة إلاّ بهم ثمّ لا قوام للجنود إلاّ بما يخرج اللّه لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوّهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم ..

وليكن أثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته ، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتّى يكون همّهم همّاً واحداً في جهاد العدوّ فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك ... وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور موّدة الرّعية » (1).

كما أعطى الإمام عليّ تعليماته في النشاط العسكريّ فقال : « فقدّموا الدّارع ، وأخّروا الحاسر وعضّوا على الأضراس فإنّه أنبى للسيوف عن الهام ، والتووا في أطراف الرّماح فإنّه امور للأسنّة وغضّوا للأبصار فإنّه أربط للجأش وأسكن للقلوب وأميتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل ، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلّوها ولا تجعلوها إلاّ بأيدي شجعانكم ... الخ » (2).

ص: 565


1- نهج البلاغة : قسم الرسائل : رقم 53.
2- نهج البلاغة : قسم الخطب : رقم 12 طبعة عبده.

وقال : « تزول الجبال ولا تزل عض على ناجذك أعر اللّه جمجمتك ، تدفي الأرض قدمك أرم ببصرك أقصى القوم وغضّ بصرك وأعلم أنّ النّصر من عند اللّه سبحانه » (1).

وقال : « فإذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الأشراف أو سفاح الجبال ، أو أثناء الأنهار ، كيما يكون لكم رداءاً ودونكم مردّاً ، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين وأجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب ، لئلاّ يأتيكم العدوّ من مكان مخافةً أو أمن. واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم وعيون المقدّمة طلائعهم ، وإيّاكم والتفرّق ، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً ، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرّماح كفّةً ، ولا تذوقوا النّوم إلاّ غراراً أو مضمضةً » (2).

إنّ مثل هذا النظام ومثل هذه التعاليم حول العسكر يقتضي وجود جهاز خاصّ مستقلّ يقوم بشؤون الجند ، ويتكفّل إدارة اُمورهم ، وخاصّة أنّ الحاجة تزداد يوما بعد يوم إلى الجيوش المنظّمة القويّة ، وتزداد متطلّبات الجنود.

إنّ القيام بشؤون الجند من وظائف السلطة التنفيذيّة ... فوزارة الدفاع من هذه السلطة هي التي يجب أن تتولّى هذه الناحية الخطيرة ، وتنظّم الجيش الإسلاميّ بأحسن تنظيم.

وقال علیه السلام لأحد قادة جيشه حينما أنفذه إلى الشام : « اتّق اللّه الذي لا بدّ لك من لقائه ولا منتهى لك دونه ، ولا تقاتلنّ إلاّ من قاتلك وسر البردين [ الغداة والعشي ] وغور بالنّاس ، ورفّه في السير ، ولا تسر أوّل الليل فإنّ اللّه جعله سكناً ، وقدّره مقاماً لا ظعناً ، فأرح فيه بدنك وروّح ظهرك ، فإذا وقفت حين ينبطح السحر ، أو حين ينفجر الفجر فسر على بركة اللّه ، فإذا لقيت العدوّ فقف من أصحابك وسطاً ولا تدن من القوم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب ، ولا تباعد عنهم تباعد من يهاب البأس حتّى يأتيك أمري ، ولا يحملنّكم شن آنهم على قتالهم قبل دعائهم والاعذار إليهم » (3).

ص: 566


1- نهج البلاغة : قسم الخطب : رقم 10.
2- نهج البلاغة : قسم الكتب : رقم 2. 12.
3- نهج البلاغة : قسم الكتب : رقم 2. 12.

وقال علیه السلام لأصحابه عند الحرب : « لا تشتدنّ عليكُم فرة بعدها كرّة ولا جولة بعدها حملة واعطُوا السّيُوف حُقُوقها ، ووطّئُوا للجُنُوب مصارعها ، واذمُرُوا أنفُسكُم على الطّعن الدّعسيّ والضرب الطّلحفي ، واميتُوا الأصوات فإنّهُ أطردُ للفشل. فوالّذي فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة ؛ ما أسلمُوا ولكن استسلمُوا ، وأسرّوا الكُفر ، فلمّا وجدُوا أعواناً عليه أظهرُوهُ » (1).

وقال علیه السلام في تعليم الحرب والمقاتلة : « معاشر المُسلمين : استشعرُوا الخشية وتجلببُوا السّكينة وعضّوا على النّواجذ فإنّهُ أنبى للسيوف عن الهام ، وأكملُوا اللاّمة ، وقلقلُوا السيوف في اغمادها قبل سلّها ، والحظُوُا الخزر ، واطعنُوا الشّزر ، ونافحُوا بالضّبا ، وصلُوا السّيُوف بالخُطا ، واعلمُوا أنّكُم بعين اللّه ، ومع ابن عمّ رسُول اللّه ، فعاودُوا الكرّ ، واستحيُوا من الفرّ ، فإنهُ عار في الأعقاب ، ونار يوم الحساب. وطيبُوا عن أنفُسكُم نفساً ، وامشُوا إلى الموت مشياً سُجُحاً ، وعليكُم بهذا السّواد الأعظم ، والرّواق المُطنّب فاضربُوا ثبجهُ فإنّ الشيطان كامن في كسره ، وقد قدّم للوثبة يداً وأخّر للنّكُوص رجلاً ، فصمداً صمداً حتّى ينجلي لكُم عمُودُ الحقّ وانتُم الأعلون واللّه معكُم ولن يتركُم أعمالكُم » (2).

وجملة القول ؛ إنّ الإسلام أشار إلى أهم الخطوط والاُسس التي يجب أن تقوم عليها بناء العسكريّة الإسلاميّة تاركاً الخصوصيّات والتفاصيل لمقتضيات الزمن.

ص: 567


1- نهج البلاغة قسم الكتب رقم 16.
2- نهج البلاغة قسم الخطب رقم 63.

ص: 568

الفصل الثامن: المنابع الماليّة للحكومة الإسلاميّة

لابدّ للبرامج من منابع ماليّة

اشارة

لقد أوضحت البحوث السابقة صيغة الحكومة الإسلاميّة وأركانها ووظائفها وأهدافها ... وهنا ينطرح هذا السؤال :

كيف تستطيع الحكومة الإسلاميّة تطبيق هذه البرامج والقيام بهذه الوظائف الكبرى وكيف تضمن النفقات اللازمة لذلك ؟

وبتعبير آخر : ما هي المنابع الماليّة التي تعتمد عليها الحكومة الإسلاميّة ... وهل تكتفي بالضرائب المقرّرة المعروفة بالخمس والزكاة في تكوين ميزانيّتها أو أنّ هناك منابع وموارد ماليّة اُخرى تستعين بها هذه الحكومة في سدّ نفقاتها.

فربّما يقال : إنّ الإسلام الذي أغلق في وجه حكومته كلّ السبل غير المشروعة التي تعتمد عليها الحكومات الحاضرة كالضرائب المأخوذة على تجارة الخمور والبغاء والقمار ، وما شابهها فتخسر بذلك واردات كبرى ، كيف يمكنها أن تسدّ نفقاتها الهائلة

ص: 569

من فريضتي الخمس والزكاة ، المحدودتين ؟

غير أنّنا نلفت القارئ الكريم إلى أنّ الحكومة الإسلاميّة لا تقتصر على ( الخمس والزكاة ) الماليتين ، فهما يشكّلان جانباً واحداً من عائداتها ... بل هناك منابع اُخرى نشير إليها باختصار :

1. الأنفال

وهي كلّ أرض ملكت بغير قتال ، وكلّ موات ، ورؤوس الجبال وبطون الأودية ، والآجام والغابات والمعادن (1) ، وميراث من لا وارث له ، وما يغنمه المقاتلون بغير إذن الإمام ، وكافّة المياه العامّة والأحراش الطبيعيّة ، والمراتع التي ليست حريماً لأحد وقطائع الملوك وصفاياهم غير المغصوبة.

فذلك كلّه يكون أمره بيد الحكومة الإسلاميّة باعتبارها الممثّلة الشرعيّة للاُمّة الإسلاميّة التي تعود إليها ملكيّة هذه الأشياء ، فتتصرّف فيها الحكومة الإسلاميّة وتصرف عائداتها في مصالح المسلمين وشؤونهم ، والأصل في ذلك قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( الأنفال : 1 ).

وما لله وللرسول في هذه الآية يصرف في مصالح المسلمين.

ويدلّ على ذلك أيضاً قوله سبحانه : ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ

ص: 570


1- لقد اختلف فقهاء الشيعة الإماميّة في عدّ المعادن من الأنفال فمنهم - كالمفيد وسلار - من عدّها من الأنفال ، تبعاً لما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام في تعربف الأنفال حيث قال : « هي التي خربت ... والمعادن منها » وفي خبر آخر سئل عن الأنفال فقال : « المعادنُ والآجامُ » ومنهم من لم يعدّها من الأنفال - كالمحقّق وغيره - لاحظ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 38 :1. 113. وذهب الإمام الخميني إلى أن المعادن من الأنفال إذا لم تكن لمالك خاص تبعا للأرض أو بالإحياء (تحرير الوسيلة 369:1)، هذا وللمعادن المكشوفة الموجودة في الأراضي المملوكة أحكام خاصة فليرجع إلى الكتب الفقهية (لاحظ تحرير الوسيلة 220:2).

عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الحشر : 6 ).

ويدلّ عليه أيضاً ما ورد عن الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام إذ قال : « الأنفالُ ما لم يُوجفُ عليه بخيل ولا ركاب ، أو قوم صالحُوا ، أو قوم أعطُوا بأيديهم ، وكُلّ أرض خربة وبُطونُ الأودية فهو لرسُول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو للإمام من بعده يضعُهُ حيثُ يشاءُ » (1).

وما ورد عن الإمام الكاظم موسى بن جعفر علیه السلام أنّه قال : « ولهُ [ أي للإمام ] بعد الخُمس الأنفالُ والأنفالُ كُلّ أرض خربة باد أهلُها وكُلّ أرض لم يُوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحُوا صُلحاً وأعطُوا بأيديهم على غير قتال ، ولهُ رُؤُوس الجبال وبُطونُ الأودية والآجام وكُلّ أرض ميتة لاربّ لها ، ولهُ صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب لأنّ الغصب كُلّهُ مردود [ أي على صاحبه الحقيقي ] وهُو وارثُ من لا وارث لهُ » ثمّ قال : « والأنفالُ إلى الوالي » (2).

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الواردة في هذا الشأن.

وتشكّل هذه المصادر الطبيعيّة أضخم ثروة ماليّة خاصّة في مناطق العالم الإسلاميّ ، فيكفي أن نعرف أنّ إيران وحدها تملك (19) مليون هكتار من الغابات الغنيّة بالأخشاب التي قدّرت ب (300) مليون متر مكعّب من الخشب القابل للانتفاع ، هذا مضافاً إلى ما تعطيه أشجار الغابات من الثمار والمواد التصنيعيّة والكيمياويّة التي تشكّل بنفسها أعظم ثروة طبيعيّة وأضخم مورد ماليّ (3).

بل يكفي أن نعلم أنّ العالم الإسلاميّ ينتج ( 66 % ) من مجموع ما ينتجه العالم من الزيت الخام [ النفط ] وحده ، كما أنّ لدينا احتياطيّ ضخم من المعادن كما تنتج ( 70 % ) ممّا ينتجه العالم من المطّاط الطبيعيّ و ( 40 % ) ممّا ينتجه العالم من الجوت الطبيعيّ ،

ص: 571


1- وسائل الشيعة 6 : 1. 365 - 366.
2- وسائل الشيعة 6 : 1. 365 - 366.
3- راجع كتاب الأنفال أو الثروات العامّة.

و ( 56 % ) من زيت النخيل ، ويوجد احتياطيّ عظيم من الحديد والنحاس ... وحتّى اليورانيوم الذي أصبح ثميناً للغاية في هذه الأيام نظراً لإستعماله في انتاج الطاقة النووية فإنّه موجود أيضاً في أقطار إسلاميّة عديدة من أفريقيا (1).

2. الزكاة

وهي ضريبة تجب في تسعة أشياء : الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ، والنقدين وهما الذهب والفضة ، والغلاّت وهي الحنطة والشعير والتمر والزبيب (2) والأدلّة عليها من الكتاب والسنّة ما لا يحصى.

3. الخمس
اشارة

ويجب في سبعة أشياء :

الأوّل : الغنائم المأخوذة من أهل الحرب قهراً بالمقاتلة.

الثاني : المعادن من الفضّة والرصاص والصفر والحديد والياقوت والزبرجد والفيروزج والعقيق والزيبق والكبريت والنفط والقير والسبخ والزاج والزرنيخ والكحل والملح بل والجصّ والنورة وغيرها.

على أنّ المعادن الأرضيّة بما أنّها من الأنفال كما أشرنا إليه متعلّقة كلّها بالحكومة الإسلاميّة أساساً ، ولكن لا يحقّ للحكومة أن تحتكرها أو تهبها لأحد مجانا ، ولا أن تستخرجها بلا ميزان ، وتضع عائداتها في البنوك والمصارف لحساب شخص أو أشخاص معيّنين.

أنّ هذه المعادن تعتبر من الأنفال التي يقول اللّه سبحانه عنها : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ

ص: 572


1- الحل الإسلاميّ ضرورة وفريضة 1 : 30 وأيضاً راجع كتاب اقتصاديّات العالم الإسلاميّ.
2- العروة الوثقى كتاب الزكاة : 390 هذا وللوقوف على آراء سائر المذاهب حول ما تجب فيه الزكاة لاحظ الفقه على المذاهب الأربعة.

الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ ) أي تعود ملكيتها إلى الدولة باعتبارها ممثّلة شرعيّة عن الاُمّة وخليفة عن اللّه والرسول صلی اللّه علیه و آله ولكنّها مختارة في أن تقوم هي بنفسها باستخراجها وصرف عائداتها لصالح الاُمّة ، أو أن تسلّمها إلى شركة أو شخص معيّن للاستخراج ، وذلك حسب الشرائط التي تقوم بها المصلحة.

ثمّ إذا سلّمت الحكومة هذه المعادن إلى شركة ، أو فرد خاصّ ، تبعاً للمصلحة ، فإنّ الشركة المستخرجة أو الفرد المستخرج يملك ما يستخرجه بشرط أن يدفع ( خمسه ) إلى الحكومة الإسلاميّة ، مضافاً إلى ما يدفعه إلى الدولة في مقابل تسليم هذه المعادن إلى تلك الشركة أو ذلك الفرد الخاصّ من قبل الحكومة الإسلاميّة ، نعم إنّ المصالح الفعليّة للاُمّة الإسلاميّة لا تسمح للحكومة الإسلاميّة أن تسلّم معادن البترول والذهب والفضة واليورانيوم ، والألماس وما شابهها إلى فرد أو شركة خاصّة ، بل عليها هي أن تقوم باستخراج هذه المعادن وتصنيعها. وصرف مواردها في المصالح العامّة للاُمّة الإسلاميّة.

يبقى أن نعرف أنّ الانتفاع من هذه المعادن واستخراجها قد يقتضي أحياناً استخدام المستشارين والمتخصّصين الأجانب فهل يجوز للحكومة الإسلاميّة استخدامهم لذلك أو لا ؟

الحقّ أنّ هؤلاء المستشارين الأجانب لمّا كانوا في الأغلب يلعبون دوراً تجسّسيّاً ، أو يسيئون إلى كرامة المسلمين أو يمهّدون لسيادة الاستعمار البغيض على بلاد المسلمين فعلى الحكومة الإسلاميّة أن تستعين بهم بقدر الضرورة مع التحفّظ والتحوّط الكامل منهم ، في حين تدفع مجموعة من خيرة أبنائها لتحصيل العلوم المرتبطة بهذه المجالات والتخصّص في هذه الشؤون تخلّصاً من هذه المشكلة التي دلّت التجارب الكثيرة على أنّها السبب الرئيس في كثير من مشاكل المسلمين.

الثالث : الكنز ، وهو المال المذخور في الأرض أو الجبل أو الجدار.

الرابع : الغوص ، أي ما اُخرج به من الجواهر من البحر مثل اللؤلؤ والمرجان.

الخامس : المال الحلال المخلوط بالحرام على وجه لا يتميّز مع الجهل.

ص: 573

السادس : الأرض التي اشتراها الذمّي من المسلم سواء أكانت أرضاً زراعيّة أم سكنيّة.

السابع : ما يفضل من مؤونة سنة المكتسب ومؤونة عياله من أرباح التجارات والصناعات والمكاسب ، ويدخل في هذا القسم ما يتعلّق بأرباح مصانع انتاج السكر ، والصوف والخيوط والقطن والأدوية والسيارات والمدافئ والخزف والسجاجيد وقطع الخشب ، والأغذية ، والورق ، وغيرها والأصل في ذلك قوله سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ( الأنفال : 41 ).

ولكي نثبت للقارئ الكريم أنّ المال الوارد عن طريق الخمس لا يكون شيئاً يسيراً بل يشكّل مورداً ماليّاً كبيراً للدولة الإسلاميّة لا بدّ أن نثبت للقارئ أنّ فريضة الخمس التي سنّها الإسلام تعمّ غنائم الحرب ، وغيرها ممّا ذكرناها ممّا يشكّل مجموعها قدراً كبيراً ووارداً هائلاً ، ولذلك فنحن مضطرّون لإجراء تحقيق حول عموميّة الخمس للغنائم وغيرها.

تحقيق ضروريّ حول الخمس

إنّنا لا ننكر أنّ لفظة الغنيمة صارت في مصطلح الفقهاء في القرون الأخيرة ، منحصرة فيما يؤخذ من الكفّار والمشركين بالقتال والحرب ، إلاّ أنّ مراجعة واحدة لوضع هذه اللفظة في اللغة ، واستعمالها في الكتاب والسنّة تكشف لنا أنّ هذه اللفظة كانت تطلق في مطلق ما يفوز به الإنسان من منافع وأموال ولو بدون الحرب ، وأنّ ما حصل لها من الحصر في غنائم الحرب ، كان بعد العصر الأوّل للرسالة الإسلاميّة ، وعلى ذلك يكون الخمس متعلّقاً بكلّ ما يكتسبه الإنسان لا بمغانم الحرب فقط وإليك تحقيق المطلب فيما يلي :

الغنيمة في اللغة
اشارة

إنّ ما يظهر من أئمّة اللغة هو أنّ الغنيمة بمادّتها الأوّلية تستعمل في مطلق ما

ص: 574

يحصل عليه الإنسان بيسر وسهولة ، ولو كان بغير حرب وقتال ومدافعة وإليك بعض ما نصّت به أئمّة اللغة وأقطابها.

قال الجوهريّ في صحاحه : ( والمغنم والغنيمة بمعنى [ أي بمعنى واحد ] يقال : غنم القوم غُنماً - بالضمّ - وغنمته تغنيماً إذا نفلته. واغتنمه وتغنّمه عدّه غنيمة ) (1).

وقال ابن فارس في مقاييسه : ( غنم أصل صحيح واحد يدلّ على إفادة شيء لم يملك من قبل ثمّ يختص بما اُخذ من مال المشركين ) (2).

وقال الراغب في مفرداته : ( والغنم ، إصابته والظفر به ثمّ استعمل في كلّ مظفور به من جهة العدى وغيرهم ) (3).

ويشير ابن الأثير إلى المعنى الأصليّ لهذه اللفظة في تفسير بعض الأحاديث ويقول : ( فلان يتغنم الأمر أي يحرص عليه كما يحرص على الغنيمة ، ومنه الحديث : ِ « الصّومُ في الشّتاء غنيمة باردة » سمّاها غنيمة لما فيها من الأجر والثواب ومنه : « الرّهن لمن رهنهُ لهُ غنمهُ وعليه غرمُه » وغنمه : زيادته ونماؤه وفاضل قيمته ) (4).

وقال في لسان العرب مثل ما قاله ابن الأثير (5).

وقال الفيروزآبادي في قاموسه : ( والغُنم - بالضم - الفوز بالشيء لا مشقّة وأغنمه كذا تغنيماً نفله إيّاه ، واغتنمه وتغنّمه عدّه غنيمة ) (6).

وقال الأزهريّ في تهذيبه : ( قال الليث : الغنم الفوز بالشيء فاز به ، والاغتنام انتهاز الغنم ) (7).

وممّا قاله أئمّة اللغة في الغنيمة نعرف أنّ العرب كانت تستعمل هذه اللفظة في كلّ ما يفوز به الإنسان حتّى ولو لم يكن من طريق الحرب والقتال.

ص: 575


1- صحاح اللغة : مادة ( غنم ).
2- مقاييس اللغة : مادة ( غنم ).
3- مفردات الراغب : مادة ( غنم ).
4- غريب مفردات الحديث : مادة ( غنم ).
5- لسان العرب : مادة ( غنم ).
6- قاموس اللغة : مادة ( غنم ).
7- تهذيب اللغة : مادة ( غنم ).

وقد وردت هذه اللفظة بنفس المعنى في الكتاب والسنّة وأفادت مطلق ما يفوز به الإنسان وإليك الشواهد منهما فيما يلي :

الغنيمة في الكتاب والسنّة

لقد استعمل القرآن لفظة المغنم فيما يفوز به الإنسان وإن لم يكن عن طريق القتال بل كان عن طريق العمل العادي الدنيويّ أو الاُخرويّ إذ يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ) ( النساء : 94 ).

والمراد بالمغنائم الكثيرة هو أجر الآخرة بدليل مقابلته لعرض الحياة الدنيا فيعلم أنّ لفظ المغنم لا يختصّ بالاُمور والأشياء التي يحصل عليها الإنسان في هذه الدنيا ، وفي ساحات الحروب فقط بل هي عامّة شاملة لكلّ مكسب وفائدة.

ثمّ إنّه قد وردت هذه اللفظة في الأحاديث واُريد منها مطلق الفائدة الحاصلة للمرء ففي باب « ما يقال عند إخراج الزكاة » من سنن ابن ماجة جاء عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اللّهمّ اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً » (1).

وفي مسند أحمد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « غنيمةُ مجالس الذّكر الجنّة » (2).

وفي وصف شهر رمضان عنه صلی اللّه علیه و آله : « هُو غنم للمُؤمن » (3).

كما جاء في دعاء مشهور : « والغنيمةُ من كُلّ برّ ».

هذا مضافا إلى أنّ الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله طلب في مكاتيبه ورسائله من جماعات مسلمة نائية عن المدينة ، غير مشتركة في القتال تحت راية النبيّ ، أن يدفعوا الخمس ، وإليك طائفة من هذه الرسائل :

ص: 576


1- سنن ابن ماجه : كتاب الزكاة الحديث 1797.
2- مسند أحمد 2 : 330 و 374 و 524.
3- مسند أحمد 2 : 177.
الخمس في رسائل النبيّ وعهوده

1. لمّا قال وفد عبد القيس لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ بيننا وبينك المشركين من مضر ، وإنّا لا نصل إليك إلاّ في أشهر حرم فمرنا بحمل الأمر إن عملنا به دخلنا الجنة ، وندعو إليه من ورائنا » فقال صلی اللّه علیه و آله : « آمرُكُم بأربع وأنهاكُم عن أربع ، آمُرُكُم بالإيمان باللّه ، وهل تدرُون ما الإيمانُ : شهادةُ أن لا إله إلاّ اللّه ، وإقامُ الصّلاة ، وإيتاءُ الزّكاة وتُعطُوا الخُمس من المغنم » (1).

ومن المعلوم أنّ النبيّ لم يطلب من بني عبد القيس أن يدفعوا غنائم الحرب كيف وهم لا يستطيعون الخروج من حيّهم في غير الأشهر الحرم خوفاً من المشركين فيكون قد قصد المغنم بمعناه الحقيقيّ في لغة العرب وهو ما يفوزون به بلا مشقّة فعليهم أن يعطوا خمس ما يربحون.

2. كتب لعمر بن حزم حين بعثه إلى اليمن :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ... هذا ... عهد من النبيّ رسول اللّه لعمرُو بن حزم حين بعثهُ إلى اليمن ، أمرهُ بتقوى اللّه في أمره كُلّّه وأن يأخُذ من المغانم خُمس اللّه وما كُتب على المؤمنين من الصّدقة من العقار عُشرُ ما سقى البعلُ وسقت السّماءُ » (2).

3. كتب إلى شرحبيل بن كلال ونعيم بن كلال وحارث بن كلال رؤساء قبيلة ذي رعين ومعافر وهمدان : « أمّا بعدُ فقد رجع رسُولُكُم وأعطيتُم من المغانم خُمس اللّه » (3).

4. كتب لسعد هذيم من قضاعة وإلى جذام كتاباً واحداً يعلمهم فرائض

ص: 577


1- صحيح البخاريّ 4 : 205 ، باب واللّه خلقكم وما تعملون ، و 1 : 13 و 19 ، 3 : 53 وصحيح مسلم 1 : 35 و 36 باب الأمر بالإيمان ، وسنن النسائيّ 3 : 333 ، ومسند أحمد 3 : 318 ، الأموال : 12 وغيرها.
2- فتوح البلدان 1 : 81 ، وسيرة ابن هشام 4 : 265.
3- تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك 1 : 157.

الصدقة ويأمرهم أن يدفعوا الصدقة والخمس إلى رسوليه (1).

إنّ النبيّ حينما طلب دفع الخمس على أيدي رسوليه لم يطلب خمس غنائم الحرب التي خاضوها مع الكفّار وإنّما قصد ما استحق عليهما من الصدقة وخمس الأرباح :

5. كتب للفجيع ومن تبعه : « من مُحمّد النبيّ للفجيع ومن تبعهُ وأسلم وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة وأطاع اللّه وأعطى من المغانم خُمس اللّه » (2).

6. كتب لجنادة الأزديّ وقومه ومن تبعه : « ما أقامُوا الصّلاة وآتُوا الزّكاة وأطاعُوا اللّه ورسُولهُ وأعطُوا من المغانم خُمس اللّه » (3).

7. كتب لجهينة بن زيد فيما كتب :« وتشربُوا ماءها على أن تُؤدّوا الخُمس » (4).

8. كتب لملوك حمير فيما كتب : « وآتيتُمُ الزكاة من المغانم خُمس اللّه وسهم النبيّ وصفيّه وما كتب اللّه على المُؤمنين من الصّدقة » (5).

9. كتب لبني ثعلبة بن عامر : « من أسلم منهُم وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة وخُمس المغنم وسهم النّبيّ والصفّى » (6).

10. كتب إلى بعض أفخاذ جهينة : « من أسلم منهُم ... وأعطى من الغنائم الخُمس » (7).

ويتبيّن - بجلاء - من هذه الرسائل أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يكن يطلب منهم أن يدفعوا خمس غنائم الحرب التي اشتركوا فيها بل كان يطلب ما استحقّ في أموالهم من خمس وصدقة.

ص: 578


1- طبقات ابن سعد 1 :1. 270.
2- طبقات ابن سعد 1 :1. 270.
3- طبقات ابن سعد 1 :1. 270.
4- الوثائق السياسيّة : 142.
5- فتوح البلدان 1 : 85 ، وسيرة ابن هشام 4 : 258.
6- الإصابة 2 : 189 ، واسد الغابة 3 : 34.
7- سنن أبي داود 2 : 55 الباب (20) وسنن النسائيّ 2 : 179.

ثمّ إنّه كان يطلب منهم الخمس دون أن يشترط - في ذلك - خوض حرب واكتساب الغنائم.

هذا مضافاً إلى أنّ الحاكم الإسلاميّ أو نائبه هما اللذان يليان بعد الفتح قبض جميع غنائم الحرب ، وتقسيمها بالنحو الذي يحب بعد أن يستخرج منها الخمس ، ولا يملك أحد من الغزاة عدا سلب القتيل شيئاً ممّا سلب وإلاّ كان سارقاً مغلاًّ.

فإذا كان إعلان الحرب وإخراج خمس الغنائم على عهد النبيّ من شؤون النبيّ في هذه الاُمّة فماذا يعني طلبه الخمس من الناس وتأكيده في كتاب بعد كتاب وفي عهد بعد عهد. فيتبيّن أنّ ما كان يطلبه لم يكن مرتبطاً بغنائم الحرب.

هذا مضافا إلى أنّه لا يمكن أن يقال : إنّ المراد بالغنيمة في هذه الرسائل هو ما كان يحصل الناس عليه في الجاهليّة عن طريق النهب كيف وقد نهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن النهب والنهبة بشدّة ففي كتاب الفتن باب النهي عن النهبة عنه صلی اللّه علیه و آله : « من انتهب نُهبةً فليس منّا » (1).

وقال : « إنّ النُهبة لا تحلّ » (2).

وفي صحيح البخاري ومسند أحمد عن عبادة بن الصامت : بايعنا النبيّ أن لا ننتهب (3).

وفي سنن أبي داود باب النهي عن النهبى عن رجل من الأنصار قال : خرجنا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأصاب الناس حاجة شديدة وجهدوا وأصابوا غنماً فانتهبوها فإنّ قدورنا لتغلي إذ جاء رسول اللّه يمشي متّكئاً على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه ثمّ جعل يرمل اللحم بالتراب ثمّ قال : « إنّ النُهبة ليست بأحلّ من الميتة » (4).

وعن عبد اللّه بن زيد : ( نهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن النهبى والمثلة ) (5).

ص: 579


1- سنن ابن ماجه :1. 1299.
2- سنن ابن ماجه :1. 1299.
3- صحيح البخاريّ 2 : 48 باب النهبى بغير إذن صاحبه.
4- سنن أبي داود 2 : 12.
5- رواه البخاريّ في الصيد راجع التاج 4 : 334.

إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في كتاب الجهاد.

وقد كانت النهيبة والنهبى عند العرب تساوق الغنيمة والمغنم - في مصطلح يومنا هذا - الذي يستعمل في أخذ مال العدو.

فإذا لم يكن النهب مسموحاً به في الدين ، وإذا لم تكن الحروب التي يقوم بها أحد بغير اذن النبيّ جائزة لم تكن الغنيمة تعني دائماً ما يؤخذ في القتال بل كان معنى الغنيمة الواردة في كتب النبيّ هو ما يفوز به الناس من غير طريق القتال بل من طريق الكسب وما شابهه. ولا محيص حينئذ من أن يقال : إنّ المراد بالخمس الذي كان يطلبه النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو خمس أرباح الكسب والفوائد الحاصلة للإنسان من غير طريق القتال ، أو النهب الممنوع في الدين.

وعلى الجملة : إنّ الغنائم المطلوب في هذه الرسائل النبويّة اداء خمسها إمّا أن يراد ما يستولي عليه أحد من طريق النهب والإغارة ، أو ما يستولي عليه من طريق محاربة بصورة الجهاد أو ما يستولي عليه من طريق الكسب والكدّ.

والأوّل ممنوع بنصّ الأحاديث السابقة فلا معنى أن يطلب النبيّ صلی اللّه علیه و آله خمس النهيبة.

وفي الثاني يكون أمر الغنائم بيد النبيّ مباشرة فهو الذي يأخذ كلّ الغنائم ويضرب لكلّ من الفارس والراجل ما له من الأسهم بعد أن يستخرج الخمس بنفسه من تلك الغنائم ، فلا معنى لأن يطلب النبيّ الخمس من الغزاة. فيكون الثالث هو المتعيّن.

وقد ورد فرض الخمس في غير غنائم الحرب في أحاديث منقولة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ففي سنن البيهقي عن أبي هريرة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ قال : « في الرّكاز الخُمسُ ».

قيل : وما الركاز يا رسول اللّه ؟

فقال : « الذهبُ والفضّةُ الذي خلقهُ اللّه في الأرض يوم خُلقت » (1).

ص: 580


1- سنن البيهقيّ 4 : 152 و 155.

كما ورد عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام ما يدلّ على ذلك ، فقد كتب بعض أصحابنا إلى الإمام الجواد علیه السلام قائلاً : أخبرني عن الخمس أَعَلَى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الصّناع ؟ وكيف ذلك ؟ فكتب علیه السلام بخطّه : « الخمس بعد المؤنة » (1).

وفي هذه الإجابة القصيرة يظهر تأييد الإمام لما ذهب إليه السائل ، ويتضمّن ذكر الكيفية التي يجب أن تراعى في أداء الخمس.

وعن سماعة قال سألت أبا الحسن [ الكاظم ] عن الخمس فقال : « في كلّ ما أفاد النّاس من قليل أو كثير » (2).

وعن أبي عليّ بن راشد [ وهو من وكلاء الإمام الجواد والإمام الهادي ] قال قلت له [ أي للإمام ] أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك ، فقال لي بعضهم : وأيّ شيء حقّه فلم أدر ما أجيبه ؟ فقال : « يجب عليهم الخمس » فقلت : ففي أي شيء ؟ فقال : « في أمتعتهم وصنايعهم ».

قلت : والتاجر عليه ، والصانع بيده ؟ فقال : « إذا أمكنهم بعد مؤنتهم » (3).

إلى غير ذلك من الأحاديث والأخبار المرويّة عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته الطاهرين التي تدلّ على شمول الخمس لكلّ مكسب وفائدة يحصل عليها الإنسان.

هذا ما عند الشيعة وأمّا غيرهم فهم وإن قصروا ضريبة الخمس على مغانم الحرب [ وعلى الركاز وهو المعدن عند بعضهم ] غير أنّ لعروض التجارة عندهم ضريبة الزكاة بشروط وكيفيّة مفصّلة في مذاهبهم ، فقد جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنفية أنّهم قالوا : ( المعدن والركاز بمعنى واحد وهو شرعاً مال وجد تحت الأرض سواء كان معدنا خلقيّاً خلقه اللّه تعالى بدون أن يضعه أحد فيها أو كان كنزاً دفنه الكفّار ولا يسمّى ما يخرج من المعدن والركاز زكاة على الحقيقة لأنّه لا يشترط فيهما ما يشترط في

ص: 581


1- وسائل الشيعة أبواب الخمس 6 : 348 حديث 1.
2- وسائل الشيعة 6 : 2. 349.
3- وسائل الشيعة 6 : 2. 349.

الزكاة. وتنقسم المعادن إلى أقسام ثلاثة : ما ينطبع بالنار ، ومائع ، وما ليس بمنطبع ولا مائع ، فالمنطبع ما كان كالذهب والفضّة والنحاس والرصاص والحديد ، والمائع ما كان كالقار ( الزفت ) والنفط ( البترول - الغاز ) ونحوهما والذي ليس بمنطبع ولا مائع كالنورة والجواهر واليواقيت : فأمّا الذي ينطبع بالنار فيجب فيه إخراج الخمس ومصرفه مصرف خمس الغنيمة المذكور في قوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ ) الآية. وما بقي بعد الخمس يكون للواجد ... ) (1).

وجاء في نفس الكتاب عن الحنابلة أنّهم قالوا : ( ويجب على واجد الركاز أخراج خمسه إلى بيت المال فيصرفه أو نائبه في المصالح العامّة والباقي لواجده ) (2).

هذا ما قاله بعض أصحاب المذاهب الأربعة في الخمس ، أمّا ما جاء عنهم حول الزكاة وما يعود منها إلى الدولة الإسلاميّة ، فنكتفي بما ذكره مؤلّف كتاب الفقه على المذاهب الأربعة في كتاب الزكاة إذ قال :

( الأنواع التي يجب فيها الزكاة خمسة أشياء ... الثالث : عروض التجارة ) (3).

4. زكاة الفطرة

وتسمّى بزكاة الأبدان وهي التي تجب على كلّ مسلم في عيد الفطر ، ومقدارها مذكور في كتب الفقه.

5. الخراج والمقاسمة

وهما ضريبتان مضروبتان على من يعمل في الأراضي التي فتحها المسلمون بالقتال وسبب ذلك أنّ هذه الأراضيّ ملك لعامّة المسلمين فلا بدّ أن تصرف عائداتها في مصالحهم بعد أن يكون للعامل فيها ومحييها حصّة لقاء عمله.

إنّ الخراج عبارة عن الضريبة الماليّة النقديّة على الأرض مثل أن يدفع العامل

ص: 582


1- كتاب الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 1. 495 ، 479.
2- كتاب الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 1. 495 ، 479.
3- كتاب الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 1. 495 ، 479.

عليها عشرة دنانير سنويّاً على كلّ جريب.

والمقاسمة عبارة عن الشركة في حاصلات الأرض الخراجيّة بالكسر المشاع كأن يكون عشر حاصلاتها للدولة.

6. الجزية

وهي الضريبة العادلة المفروضة على أهل الذمّة على رؤوسهم أو أراضيهم إذا قاموا بشرائط الذمّة المقرّرة في موضعها. وقد مرّ الحديث عن ذلك في الفصل السابق.

7. هناك ضرائب ليس لها حدّ معيّن ولا زمان خاصّ ، بل هي موكولة إلى نظر الحاكم الإسلاميّ يفترضها عند الحاجة إليها من عمران للبلاد أو جهاد في سبيل اللّه ، أو سدّ عيلة الفقراء أو غير ذلك ممّا يحتاج إليه قوام العباد والبلاد.

وهذا هو الذكر الحكيم يصرّح بأنّ ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب : 6 ) ، فهو أولى منهم بأموالهم ، يتصرّف فيها كيفما اقتضت المصلحة الملزمة.

وهذا أمير المؤمنين ( عليّ بن أبي طالب ) علیه السلام يقول في عهده إلى مالك الأشتر حين ولاّه على مصر : « وليكُن نظرُك في عمارة الأرض أبلغُ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يُدركُ إلاّ بالعمارة.

ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ... .

فربّما حدث من الاُمور ما إذا عوّلت فيه عليهم من بعد احتملوه طيّبة أنفسهم به فإنّ العمران محتمل ما حملته ، وإنّما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها » (1).

فلو كان للخراج حدّ معيّن غير متجاوز عنه لما كان لقوله علیه السلام : « احتملوه طيّبة أنفسهم » وجه ، فإنّ معناه : أنّهم قبلوا ما طلبته من الناس بطيب خاطر فيعطونك كذلك.

ص: 583


1- نهج البلاغة : قسم الرسائل ( الرسالة 53 ).

أضف إلى ذلك قوله علیه السلام : « فإنّ العمران محتمل ما حملته » فإنّه يدلّ على إنّ الوالي إذا عمّر البلاد وصارت عامرة وخصبة وغارقة في الخيرات والنعم يمكن له أن يفرض الخراج عليه بالمقادير التي يتوخّاها الوالي وتقتضيها المصلحة.

روى محمّد بن مسلم وزرارة بن أعين عن الباقر والصادق علیهماالسلام قالا : « وضع أمير المؤمنين على الخيل العتاق الرّاعية في كلّ فرس في كلّ عام دينارين وجعل على البراذين ديناراً » (1).

وفيما رواه الشيخ الأقدم محمّد بن الحسن الصفّار المتوفّى عام (290) بإسناده عن عليّ بن مهزيار دلالة على أنّ للإمام الصلاحيّة في تخفيف الضرائب الإسلاميّة أو مضاعفتها وتصعيدها وبما أنّ الرواية طويلة يرجى من القارئ الكريم الرجوع إلى المصدر (2).

وهذا وأمثاله من النصوص تدلّ على أنّ هناك قسماً من الضرائب التي ليس لها حدّ معيّن بل هي موكولة إلى نظر الحاكم.

8. موارد ماليّة استثنائيّة

هذه هي اُصول المنابع والموارد الماليّة للحكومة الإسلاميّة ، غير أنّ هناك منابع اُخرى متفرّقة يجوز للدولة الإسلاميّة التصرّف فيها ، وصرفها في مصالح المسلمين العامّة ، وإن كان ذلك أمراً غير واجب ، ولا من وظائف الدولة وهي عبارة عن :

أ / المظالم وهي ما يتعلّق بذمّة الإنسان بتعدّ أو تفريط ، أو إتلاف في مال الغير ولم يعرف صاحبه ، فكما يجوز لمن تكون المظلمة في ذمّته صرفها في مواردها على النحو المقرّر شرعاً كذلك يجوز للحكومة التصرّف فيها ، وصرفها في المصارف المقرّرة لها.

ص: 584


1- الوسائل 4 ( كتاب الزكاة ) : 51 فقوله « فوضع » يدلّ على ما ذكرناه من أنّ الحاكم الإسلاميّ له جعل الضرائب كلّما احتاجت مصلحة البلاد إلى ذلك.
2- الوسائل كتاب الخمس أبواب ما يجب فيه الخمس الباب الثامن الحديث 5.

ب / الكفّارات مثل كفّارة قتل العمد والخطأ ، ومخالفة النذر والعهد ، واليمين فيما يتعلّق بالإطعام والإكساء فيجوز للحكومة أن تتولّى أمرها بدلاً عن صاحب الكفّارة.

ج / اللُقطة ، وهي الضّالة من الأشياء ولم يعرف لها صاحب ، فيجوز للحكومة الإسلاميّة التصرّف فيها حسب الشروط.

د / الأوقاف والوصايا والنذور العامّة والقرابين التي يذبحها الحجّاج في منى في مناسك الحجّ ، فيجوز للحكومة الإسلاميّة التصرّف فيها ، وصرفها في مصالح المسلمين عامّة.

9. توظيف الأموال في المجالات الاقتصاديّة الكبرى

ثمّ إنّ الحكومة الإسلاميّة لا تكتفي بما يحصل لها من هذه الطرق بل يجوز لها أن تباشر القيام بالصناعات الاُمّ ، والتجارة ، والعمل المصرفيّ ، والتأمين ، والشركات الزراعيّة وتوفير الطاقة ، وإدارة شبكات الريّ ، والمواصلات الجويّة والبريّة والبحريّة ، وإدارة الموانئ والخدمات البريديّة والهاتفيّة وما شابه ذلك ... وتأمين قسم كبير من ميزانيّتها هذه الموارد الضخمة.

10. هذه العائدات تكفي لميزانية الدولة الإسلاميّة

وينبغي أن لا نستقلّ ما يرد إلى دخل الدولة من هذه الموارد ونتصوّر أنّها قليلة ، لا يستهان بها بالنسبة إلى ميزانيّة الدولة فيكفي أن نلقي نظرة إلى عائدات الموانئ وحدها لنعرف ما يعود منها إلى الدولة ، من عائدات مدهشة.

إنّ المنابع الضخمة العائدة إلى خزينة الحكومة الإسلاميّة من هذه المنابع والموارد تجعل هذه الحكومة قادرة - تماماً - على تنفيذ برامجها والقيام بمشاريعها الاجتماعيّة والسياسيّة ، وإدارة مصالح الاُمّة الإسلاميّة بأفضل وجه لو تمّ ذلك وفق تخطيط

ص: 585

مدروس ، ينسجم مع خطوط الاقتصاد الإسلاميّ.

فيكفي أن نعرف أنّ فريضة الزكاة وحدها لو أدّاها المسلمون جميعاً لما بقي هناك لمشكلة الفقر أثر وإليك بعض ما ورد في هذا الصدد من أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « إنّ اللّه عزّ وجلّ فرض في مال الأغنياء ما يسعهم ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم إنّهم لم يؤتوا [ أي لم يصبهم الفقر والحرمان والنقص ] من قبل فريضة اللّه عزّ وجلّ ، ولكن اوتوا من منع من منعهم حقّهم لا ممّا فرض اللّه لهم ولو أنّ النّاس أدّوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير » (1).

وقال علیه السلام أيضاً : « إنّما وضعت الزّكاة اختباراً للأغنياء ومعونةً للفقراء ، ولو أنّ النّاس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً ولاستغنى بما فرض اللّه له وإنّ النّاس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلاّ بذنوب الأغنياء وحقيق على اللّه تبارك وتعالى أن يمنع رحمته ممّن منع حقّ اللّه في ماله » (2).

أجل إنّ ما مرّ عليك يكفي لميزانية الحكومة الإسلاميّة خاصّة بعد أن عرفنا ممّا سبق أنّ الدولة الإسلاميّة ليست دولة مكتوفة الأيدي تنتظر ما يرد إليها من الموارد الماليّة المذكورة حتّى يقال انّ الحقوق الماليّة المفروضة لا تكفي لسدّ ميزانيّة الدولة ولذلك فهي عاجزة عن تحقيق أهدافها العليا وغاياتها الواسعة بل الدولة الإسلاميّة ذات شخصيّة حقوقيّة لها أن تقوم بتحصيل عائدات جديدة - مضافاً إلى الضرائب الأساسيّة المقرّرة في الشريعة - بواسطة العمليات التجاريّة الواسعة ، وتقديم الخدمات وهو حقل واسع يدرّ على الدولة أكبر المبالغ وأعظم الثروات ومن هنا أيضاً يتبيّن بطلان ما ادّعاه البعض من أنّ الإسلام والحكومة الإسلاميّة لا يصلحان إلاّ للحياة البدوية البسيطة بحجة أنّه افترض بعض الضرائب على المواشي والأنعام واعتمد عليها في بناء ميزانيّته الماليّة ولذلك فهما لا يصلحان لمسايرة عصر البترول والذرة والمصانع الضخمة والبرامج الاقتصاديّة الهائلة لقلّة مواردها وبساطتها.

ص: 586


1- وسائل الشيعة 6 :1. 6 باب وجوب الزكاة.
2- وسائل الشيعة 6 :1. 6 باب وجوب الزكاة.

فقد تبيّن لك أيّها القارئ الكريم بطلان هذا الزعم ممّا ذكرناه لك مفصّلاً حول المنابع الماليّة الضخمة لهذه الحكومة.

إنّ القول بأنّ الإسلام لا يناسب عصر التقدّم والتطوّر الاقتصاديّ العظيم وعصر البرامج والحاجات الكبرى ادّعاء باطل واضح البطلان فإنّ الإسلام جاء بضرائب دقيقة على أرباح المصانع والمعامل ، بل في كلّ ما استفاده الناس من قليل أو كثير كما مرّ ... فقد جعل على أرباح التجارات وسائر التكسّبات من الصناعات والزراعات والإجارات حتّى الخياطة والكتابة والصيد وحيازة المباحات وغير ذلك من الموارد ضريبة الخمس أي ( 20 % ) وهو يمثّل ثروة عظيمة وخاصّة إذا اُضيفت إلى بقيّة الموارد ، وأضيفت إلى ما يمكن للحكومة الإسلاميّة استفادته من خلال التجارة الواسعة ، والاقتصاديّة المشروعة الكبيرة وتقديم الخدمات العظيمة المكسب ، إذن فلا نقص في ميزانيّة الدولة الإسلاميّة ولا عجز في مواردها.

11. هذه الأموال ملك الدولة لا الحاكم

ثمّ إنّ جميع العائدات الحاصلة من الموارد والضرائب المذكورة هي ملك الحكومة وراجعة إلى الحاكم الإسلاميّ لا لشخصه بل من جهة قيامه مقام الولاية والإمامة ... أي أنّ هذه الأموال يعود أمرها إلى الوالي بما هو ممثّل للاُمّة فعليه أن يحافظ عليها ويصرفها في شؤون الاُمّة ومصالحها.

وتدلّ على ذلك روايات كثيرة متضافرة منها ماورد عن أبي عليّ بن راشد قال : قلت لأبي الحسن الثالث الهادي علیه السلام : إنّا نؤتي بالشيء فيقال هذا كان لأبي جعفر الجواد علیه السلام عندنا فكيف نصنع ؟ فقال علیه السلام : « ما كان لأبي بسبب الإمامة فهو لي ( أي لمقام الإمامة والولاية ) ، وما كان غير ذلك فهوُ ميراث على كتاب اللّه وسُنّة نبيّه » (1).

ص: 587


1- وسائل الشيعة 6 : باب 2 من أبواب الانفال : 374.

وهذا الحديث يفيد بوضوح أنّ الأموال التي ترد إلى الحاكم الإسلاميّ تتنوّع إلى نوعين ، نوع يعطى له لكونه إماماً وحاكماً من أجل أن يصرفه في مصالح الاُمّة ... والنوع الآخر ما يملكه كسائر الناس من أسباب عاديّة.

وقد شدّد الإسلام على الحاكم الإسلاميّ بأن يحرص على الأموال ( العامّة ) ويصرفها في شؤون المسلمين ولا يتصرّف فيها تصرّفاً شخصيّاً كما يتصرّف في أمواله الخاصّة إلاّ بقدر الضرورة.

فليس له أن يتقلّب فيها كما يشاء ويحرم منها أصحابها الشرعيّين وهم الاُمّة الإسلاميّة كما ليس له أن ينفقها على حواشيه وبطانته بلا استحقاق ، فالحاكم أمين الاُمّة وخازن أموالها كما قال عليّ علیه السلام في كتابه إلى عامله : « ليس لك أن تفتات في رعيّة ، ولا تُخاطر إلاّ بوثيقة ، وفي يديك مال من مال اللّه عزّ وجلّ وأنت من خُزّانه » (1).

وفي كتاب له إلى أهل مصر قال : « ولكنّني آسي أن يلي أمر هذه الاُمّة سُفهاؤُها وفُجّارُها فيتّخذُوا مال اللّه دُولاً وعبادهُ خولاً ، والصّالحين حرباً والفاسقين حزباً » (2).

وفي كتاب له إلى عبد اللّه بن العبّاس : « وانظُر إلى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفهُ إلى من قبلك من ذوي العيال المجاعة » (3).

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد

وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

ص: 588


1- نهج البلاغة : قسم الكتب ( الرقم 6 و 2 و 128 ).
2- نهج البلاغة : قسم الكتب ( الرقم 6 و 2 و 128 ).
3- نهج البلاغة : قسم الكتب ( الرقم 6 و 2 و 128 ).

الفهارس

اشارة

1- مصادر الكتاب

2- محتويات الكتاب

ص: 589

ص: 590

فهرس مصادر الكتاب

بعد القرآن الكريم

حرف الألف

1. الإحتجاج : الطبرسى : أبو منصور أحمد بن علي ( من أعلام القرن السادس الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1403 ه.

2. الأحكام السلطانية : الماوردي : علي بن محمد ( م 450 ه ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

3. أحكام القرآن : الجصاص : أحمد بن علي ( م 370 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1406 ه.

4. الإرشاد : المفيد : محمد بن محمد بن النعمان ( 336 - 413 ه ) قم - 1402 ه.

5. ارشاد الساري : القسطلاني : أبو العباس : أحمد بن محمد ( 851 - 923 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

6. اُسد الغابة : ابن الأثير : أبو الحسن : علي بن أبي الكرم ( م 630 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

7. أسنى المطالب : محمد بن محمد الجزري الشافعي ( م 833 ه ) مكتبة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام اصفهان - إيران.

ص: 591

8. الإصابة : العسقلاني : أحمد بن علي بن حجر ( م 852 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1358 ه.

9. أصل سليم بن قيس : سليم بن قيس الهلالي العامري ( م 90 ه ) دار الفنون ، بيروت - 1400 ه.

10. أضواء على السنّة المحمّدية : محمود أبو ريّة ، مطبعة صور الحديثة - 1383 ه.

11. الأعلام : خير الدين الزرگلي ( م 1396 ه ) دار العلم للملايين ، بيروت - 1404 ه.

12. أعلام الورى : الطبرسى : الفضل بن الحسن ( 471 - 548 ه ) طبع إيران.

13. أعيان الشيعة : السيّد محسن الأمين العاملي ( م 1371 ه ) دار التعارف ، بيروت.

14. اقتصاديات العالم الإسلامي.

15. الأمالي : الشيخ الصدوق ( م 381 ه ) المكتبة الإسلامية ، طهران.

16. الإمام علي صوت العدالة الإنسانية : جورج جرداق ، دار الروائع ، بيروت.

17. الإمامة في التشريع الإسلامي : المحقّق المعاصر محمد مهدي الآصفي ، طبع النجف الأشرف - 1383 ه.

18. الإمامة والسياسة : الدينوري : عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة ( م 276 ه ) مطبعة مصطفى محمّد ، مصر.

19. الأموال : الحافظ أبو عبيد : سلام بن القاسم ( م 224 ه ) دار الحداثة ، بيروت - 1408 ه.

حرف الباء

20. بحار الأنوار : محمّد باقر المجلسي ( م 1111 ه ) مؤسسة الوفاء ، بيروت - 1403 ه.

21. البداية وآلنهاية : ابن كثير : الحافظ أبو الفداء ( م 774 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1402 ه.

22. البرهان في تفسير القرآن : البحراني : السيّد هاشم التوبلي ( م 1107 ه ) قم -

ص: 592

1375 ه.

23. بصائر الدرجات : الصفار : محمّد بن الحسن ( م 290 ه ) شركت چاپ كتاب - 1380 ه.

24. بلاغات النساء : ابن طيفور : أحمد بن أبي ظاهر ( م 380 ه ) مكتبة بصيرتي ، قم - إيران.

25. بلاغة الحسين : الموسوي الحائري : مصطفى محسن ، طبع إيران - 1369 ه.

26. البيان والتبيين : أبو عثمان : عمرو بن بحر الجاحظ ( م 255 ه ) دار الفكر للجميع ، بيروت - 1968 م.

حرف التاء

27. التاج : أبو عثمان : عمرو بن بحر الجاحظ ( م 255 ه ) مطبعة تابان - 1349 ه.

28. التاج الجامع للاُصول : الشيخ منصور علي ناصف ، دار الفكر ، بيروت - 1406 ه.

29. تاريخ الإسلام السياسى : الدكتور حسن إبراهيم حسن ( المعاصر ) مصر.

30. تاريخ بغداد : الخطيب البغدادي : أبوبكر : أحمد بن علي ( م 463 ه ) المكتبة السلفية ، المدينة المنوّرة.

31. تاريخ اليعقوبي : أحمد بن أبي يعقوب ( من علماء القرن الثالث الهجري ) المكتبة الحيدرية ، النجف الأشرف.

32. التبيان في تفسير القرآن : الطوسي : محمّد بن الحسن ( م 460 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

33. تحرير الوسيلة : الإمام الخميني ( م 1409 ه ) مؤسسة مطبوعات دار العلم ، قم إيران.

34. تحف العقول : الحرّاني : الحسن بن علي ( من أعلام القرن الرابع الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1394 ه.

35. تذكرة الخواص : سبط ابن الجوزي ( 581 - 654 ه ) مؤسسة أهل البيت ، بيروت - 1401 ه.

ص: 593

36. تذكرة الفقهاء : العلاّمة الحلّي : الحسن بن يوسف ( 602 - 676 ه ) منشورات المكتبة المرتضوية ، إيران.

37. التراتيب الإدارية : الشيخ عبد الحي الكتّاني ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

38. التفسير : ابن كثير : إسماعيل الدمشقي ( م 774 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1403 ه.

39. تفسير الخازن : الشيخ علاء الدين محمد البغدادي ، طبع القاهرة.

40. التفسير الكبير : الفخر الرازي : محمد بن عمر الخطيب ( 544 - 606 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

41. تفسير الطبري : أبو جعفر : محمّد بن جرير ( م 310 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1400 ه.

42. تفسير العياشي : أبو النضر : محمّد بن مسعود ( 320 ه ) المطبعة العلمية ، قم.

43. تفسير القمي : علي بن إبراهيم ( من أعلام القرن الثالث والرابع الهجري ) مطبعة النجف - 1387 ه.

44. تفسير المنار : محمّد رشيد رضا ( م 1354 ه ) دار المنار ، مصر - 1373 ه.

45. تفسير الميزان : العلاّمة الطباطبائي : محمّد حسين ( 1321 - 1402 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1393 ه.

46. تنقيح المقال : عبد اللّه المامقاني ( 1290 - 1351 ه ) النجف الأشرف - 1350 ه.

47. تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك : جلال الدين السيوطي ( م 911 ه ) دار الفكر.

حرف الثاء

48. ثواب الأعمال : الشيخ الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( 381 ه ) مكتبة الصدوق ، طهران.

حرف الجيم

49. جامع الاُصول : ابن الأثير الجزري : المبارك بن محمّد ( 544 - 606 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1403 ه.

ص: 594

50. الجامع الكبير : جلال الدين السيوطي ( 849 - 911 ه ) طبع دمشق.

51. جمع الجوامع : جلال الدين السيوطي ( م 911 ه ).

52. الجمهورية : أفلاطون.

53. الجواهر : الحرّ العاملي ( م 1104 ه )

54. جواهر الكلام : النجفي : محمّد حسن ( م 1266 ه ) دار احياء التراث العربي ، بيروت - 1981 م.

حرف الحاء

55. حركات ومذاهب في ميزان الإسلام.

56. حقوق الإنسان : السيّد ميرزا إبراهيم خان ، طهران - 1331 ه.

57. الحكومة الإسلامية : الإمام الخميني ( م 1409 ه ) المكتبة الإسلامية الكبرى ، طهران.

58. الحل الإسلامي فريضة وضرورة : الدكتور يوسف القرضاوي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت - 1400 ه.

59. حلية الأولياء : أبو نعيم : أحمد بن عبد اللّه الإصبهاني ( م 430 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1387 ه.

حرف الخاء

60. الخصائص : النسائي : أبو عبد الرحمان أحمد ( 215 - 303 ه ) المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف - 1388 ه.

61. الخصال : الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) منشورات جماعة المدرسين ، قم - 1403 ه.

62. الخراج : القاضي أبو يوسف : يعقوب بن إبراهيم ( م 182 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1395 ه.

63. الخلاف : الشيخ الطوسي : محمد بن الحسن ( 385 - 460 ه ) دار الكتب العلمية ، قم - إيران.

ص: 595

64. الخلافة والإمامة : عبد الكريم الخطيب ( 1396 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1395 ه.

حرف الدال

65. دائرة المعارف : فريد وجدي ، مطبعة دائرة معارف القرن العشرين - 1386 ه.

66. الدر المنثور : السيوطي : جلال الدين ( 849 - 911 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1403 ه.

67. الدعوة إلى الإسلام : السير توماس ارنولد.

حرف الذال

68. ذخائر العقبى : المحب الطبري : أحمد بن عبد اللّه ( 615 - 694 ه ) مكتبة القدسي ، القاهرة - 1356 ه.

69. الذريعة : آقا بزرگ الطهراني ( 1293 - 1389 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1402 ه.

حرف الراء

70. الراعي والرعية : توفيق الفكيكي ، مؤسسة نهج البلاغة ، طهران - 1402 ه.

71. الرجال : أبو عمرو الكشي ( من علماء القرن الرابع الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، كربلاء - العراق.

72. رسالة الحقوق : الإمام علي بن الحسين زين العابدين علیهماالسلام المكتبة الرضوية - طهران.

73. روح الشرائع : مونتسكيوبان ، ترجمة عادل زعيتر ، دار التعارف ، مصر - 1953 م.

74. روض الجنان : الشيخ أبو الفتوح الرازي ( حوالي 588 ه ).

75. روضة الواعظين : الفتّال النيسابوري : محمّد بن علي ( من علماء القرن السادس الهجري ) تبريز - 1333 ه.

76. الرياض النضرة : المحب الطبري : أحمد بن عبد اللّه ( 615 - 694 ه ) دار الكتب

ص: 596

العلمية ، بيروت.

حرف الزاي

77. زين الفتى في تفسير هل أتى : أحمد بن محمّد بن علي الشافعي ، مخطوط.

حرف السين

78. سفينة البحار : الشيخ عباس القمي ( 1294 - 1359 ه ) طبعة حجر ، النجف الأشرف.

79. السلام العالمي وآلإسلام : سيد قطب ، مكتبة وهبة ، القاهرة.

80. سنن ابن ماجة : أبو عبد اللّه : محمّد بن يزيد القزويني ( 207 - 275 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1395 ه.

81. سنن أبي داود : أبو داود السجستاني ( م 275 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

82. سنن الدارمي : عبد اللّه بن عبد الرحمان ( 181 - 255 ه ) دار إحياء السنة النبويّة.

83. السنن الكبرى : البيهقي : أبوبكر : أحمد بن الحسين ( م 458 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1406 ه.

84. سنن النبي : العلاّمة الطباطبائي ( م 1402 ه ) المكتبة الإسلامية ، طهران.

85. السياسة : محمد الحسيني الشيرازي ( المعاصر ) مطبعة سيد الشهداء ، قم - 1401 ه.

86. السيرة الحلبية : الحلبي : برهان الدين علي بن إبراهيم ( م 1044 ه ) المكتبة الإسلامية ، بيروت.

87. السيرة الدحلانية على هامش السيرة الحلبية : السيد أحمد زيني دحلان ، المكتبة الإسلامية ، بيروت.

88. السيرة النبوية : ابن هشام : عبد الملك بن أيوب الحميري ( م 213 أو 218 ه ) دار التراث العربي ، بيروت.

ص: 597

حرف الشين

89. الشاهنامة : الفردوسي : أبو القاسم الفردوسي ، طهران - 1376 ه.

90. الشخصية الدولية : محمد كامل ياقوت.

91. شرائع الإسلام : المحقق الحلّي : أبو القاسم : جعفر بن الحسن ( 602 - 676 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1403 ه.

92. نسيم الرياض في شرح الشفاء : القاضي عياض ، دار الفكر ، بيروت.

93. شرح صحيح مسلم : النووي : أبو زكريا : يحيى بن شرف ( 631 - 676 ه ) دار القلم ، بيروت - 1407 ه.

94. شرح المواقف : السيد الشريف الجرجاني ( م 816 ه ) مؤسسة السعادة ، القاهرة - 1325 ه.

95. شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد ( م 655 ه ) دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة - 1378 ه.

96. الشفاء : الشيخ الرئيس ابن سينا ( م 428 ه ) انتشارات بيدار ، إيران.

97. الشورى بين النظرية والتطبيق.

حرف الصاد

98. صحاح اللغة : الجوهري : اسماعيل بن حماد ، دار العلم للملايين ، بيروت - 1404 ه.

99. الصحيح : البخاري : أبو عبد اللّه محمد بن إسماعيل ( م 256 ه ) مكتبة عبد الحميد أحمد حنفي ، مصر - 1314 ه.

100. الصحيح : الترمذي : محمد بن عيسى ( م 279 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

101. الصحيح : مسلم بن الحجاج القشيري ( م 261 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

ص: 598

102. الصحيح : النسائي : أحمد بن شعيب ( م 303 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

103. الصحيفة السجادية : الإمام زين العابدين علي بن الحسين علیهماالسلام ، مؤسسة الإمام المهدي - عج - ، قم - 1411 ه.

حرف الطاء

104. طبقات الحفاظ : جلال الدين السيوطي ( 849 - 911 ه ) دار الكتب العلمية ، بيروت - 1403 ه.

105. الطبقات الكبرى : محمد بن سعد ( م 230 ه ) دار صادر ، بيروت - 1380 ه.

حرف العين

106. عجائب أحكام أمير المؤمنين.

107. العروة الوثقى : السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي ، المكتبة العلمية ، طهران - 1399 ه.

108. علل الشرائع : الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1408 ه.

109. عيون أخبار الرضا علیه السلام : الشيخ الصدوق ( 381 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1404 ه.

حرف الغين

110. غاية المرام : السيد هاشم البحراني ( م 1107 ه ) طبعة حجر ، إيران.

111. الغدير : الأميني : عبد الحسين أحمد النجفي ( 1320 - 1390 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1387 ه.

112. غرر الحكم : عبد الواحد الآمدي التميمي ( من علماء القرن الخامس الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1407 ه.

113. غريب مفردات الحديث : ابن الأثير ( 544 - 606 ه ) دار إحياء الكتب العربية

ص: 599

- 1383 ه.

حرف الفاء

114. فتوح البلدان : البلاذري : أبو الحسن ( م 279 ه ) المكتبة التجارية ، مصر - 1959 م.

115. فرائد السمطين : إبراهيم بن محمد الحمويني ، مطبعة النعمان ، النجف الأشرف.

116. الفرائد : الشيخ الأنصاري ( 1212 - 1281 ه ) طبعة حجر ، إيران.

117. الفَرق بين الفِرَق : البغدادي : عبد القاهر بن طاهر بن محمد ( م 429 ه ) دار المعرفة ، بيروت.

118. الفقه على المذاهب الأربعة : عبد الرحمان الجزيري : دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

119. في ظلال القرآن : سيد قطب ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1386 ه.

حرف القاف

120. قاموس اللغة : الفيروزآبادي : محمد بن يعقوب ( 729 - 816 ه ) القاهرة - 1333 ه.

121. قرب الإسناد : الحميري القمي : عبد اللّه بن جعفر ( من أعلام القرن الثالث الهجري ) مكتبة نينوى الحديثة ، طهران.

122. قصة الحضارة : ويل ديورانت ، دار الجيل ، بيروت - 1408 ه.

123. قضاء أمير المؤمنين : محمّد تقي التستري ، المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف.

حرف الكاف

124. الكافي : الكليني : محمد بن يعقوب ( م 329 ه ) دار الكتب الإسلامية ، طهران - 1388 ه.

125. الكامل في التاريخ : ابن الأثير الجزري : محمد بن محمد ( م 630 ه ) دار الكتاب

ص: 600

العربي ، بيروت.

126. الكشّاف : الزمخشري : محمود بن عمر ( م 538 ه ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة - 1367 ه.

127. كشف الغمة : الأربلي : عليّ بن عيسى ( م 693 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1405 ه.

128. الكنى والألقاب : الشيخ عباس القمي ( 1294 - 1359 ه ) مكتبة الصدر ، طهران - 1397 ه.

129. كنز العرفان : المقداد بن عبد اللّه السيوري ( م 826 ه ) المكتبة المرتضوية ، طهران - 1384 ه.

130. كنز العمال : المتقي الهندي ( م 975 ه ) مؤسسة الرسالة ، بيروت - 1405 ه.

حرف اللام

131. لسان العرب : العلاّمة ابن منظور : محمد بن مكرم ( م 711 ه ) قم - 1405 ه.

132. لمحة فقهية تمهيدية : الشهيد محمد باقر الصدر ( م 1400 ه ) مؤسسة البعثة ، طهران - إيران.

حرف الميم

133. المجازات النبوية : الشريف الرضي ( 359 - 406 ه ) مطبعة الآداب ، بغداد.

134. مجمع البحرين : العلاّمة الطريحي ( م 1085 ه ) المكتبة الرضوية ، طهران.

135. مجمع البيان : الطبرسي : الفضل بن الحسن ( 471 - 548 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1402 ه.

136. مجمع الزوائد : الهيثمي : علي بن أبي بكر ( 735 - 807 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1402 ه.

137. محاضرات في تاريخ الاُمم الإسلامية : محمّد الخضري ، دار إحياء الكتب العربية - 1349 ه.

138. المحجة البيضاء : الفيض الكاشاني ( م 1091 ه ) المكتبة الإسلامية ، طهران.

ص: 601

139. المحكم والمتشابة : السيد المرتضى : علي بن الحسين ( 355 - 436 ه ).

140. المحلّى : ابن حزم الظاهري ( م 456 ه ) دار الآفاق الجديدة ، بيروت.

141. مختصر جامع العلم.

142. المختلف : العلاّمة الحلّي ( 648 - 726 ه ) منشورات مكتبة أمير المؤمنين علیه السلام اصفهان.

143. مرآة العقول : محمد باقر مجلسي ( م 1111 ه ) دار الكتب الإسلامية ، طهران - 1404 ه.

144. المراجعات : السيد عبد الحسين شرف الدين ( 1290 - 1377 ه ) طبع مصر.

145. مروج الذهب : المسعودي : علي بن الحسين ( م 345 ه ) منشورات الجامعة اللبنانية ، بيروت - 1965 م.

146. المستدرك : الحاكم النيسابوري : محمد بن عبد اللّه ( م 405 ه ) دار المعرفة ، بيروت.

147. مستدرك الوسائل : النوري الطبرسي : الحسين بن محمد تقي ( 1254 - 1320 ه ) مؤسسة آل البيت ، قم - 1407 ه.

148. المستند : المحقق النراقي : أحمد بن مهدي ( م 1248 ه ) طبعة حجر.

149. مسند أحمد : أحمد بن حنبل ( م 241 ه ) دار الفكر ، بيروت.

150. مسند الطيالسي : سليمان بن داود الجارود ( م 204 ه ) دار المعرفة ، بيروت.

151. مشكاة الأنوار : أبو الفضل : علي بن الحسن بن الفضل الطبرسي ، النجف الأشرف - 1385 ه.

152. مطالب السؤول : محمد بن طلحة الشافعي ( م 652 ه ) النجف الأشرف.

153. معاني الأخبار : الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1399 ه.

154. معالم القربة في أحكام الحسبة : ابن الاخوة : محمد بن محمد القرشي ، مطبعة دار الفنون ، كيمبرج - 1937 م.

155. المغني : عبد اللّه بن قدامة ( 541 - 620 ه ) مطبعة الإمام ، مصر.

156. المغازي : الواقدي : محمد بن عمر بن واقد ( 130 - 207 ه ) مؤسسة الأعلمي ،

ص: 602

بيروت.

157. المفردات : الراغب الاصفهاني : الحسين بن محمد ( م 502 ه ) مطبعة الميمنية ، القاهرة - 1324 ه.

158. مكاتيب الرسول : علي بن حسين علي الأحمدي ( المعاصر ) المطبعة العلمية ، قم - 1379 ه.

159. مكارم الأخلاق : الطبرسي : أبو نصر : الحسن بن الفضل ( من أعلام القرن السادس الهجري ) منشورات الشريف الرضي ، قم - 1408 ه.

160. الملل والنحل : الشهرستاني : محمد بن عبد الكريم ( 479 - 548 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1402 ه.

161. مناقب آل أبي طالب : ابن شهر آشوب ( 488 - 588 ه ) المطبعة العلمية ، قم - إيران.

162. من لايحضره الفقيه : الشيخ الصدوق ( 381 ه ) دار الكتب الإسلامية ، طهران ، 1390 ه.

163. من الهدي الساري مقدمة فتح الباري : العسقلاني ( 773 - 852 ه ) المطبعة السلفية ، القاهرة.

164. منية المريد : زين الدين العاملي ( 911 - 965 ه ) مجمع الذخائر الإسلامية ، قم - 1402 ه.

165. منية الطالب : الشيخ موسى النجفي الخوانساري ، طبعة حجر ، النجف الأشرف.

166. منية المتملّي في شرح غنية المصلّى : الحلبي.

167. مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام : الاُستاذ عبد اللّه عنان.

168. المواهب اللدنية : أحمد بن محمد القسطلاني ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

حرف النون

169. ناسخ التواريخ : لسان الملك : محمد تقي بن محمد علي ( م 1297 ه ) طبع طهران.

170. النجاة : الشيخ الرئيس ابن سينا ( 428 ه ) مطبعة السعادة ، مصر.

ص: 603

171. النظام التربوي في الإسلام : باقر شريف القرشي ، دار التعارف ، بيروت - 1399 ه.

172. نظام الحكم والإدارة في الإسلام : باقر شريف القرشي.

173. النظام السياسي في الإسلام : المحامي أحمد حسين يعقوب ، قم - 1412 ه.

174. النظم الإسلامية نشأتها وتطورها : الدكتور صبحي الصالح ، دار العلم للملايين ، بيروت - لبنان.

175. النظم السياسية : ثروت بدوي ( المعاصر ) مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة - 1957 م.

176. النهاية : ابن الأثير : محمد بن مبارك الجزري ( م 606 ه ) مؤسسة إسماعيليان ، قم - 1405 ه.

177. نهج البلاغة : جمع الشريف الرضي : محمد بن الحسن ( 359 - 404 ه ) بيروت - 1387 ه.

178. نهج الفصاحة : أبو القاسم پاينده ، المطبعة الإسلامية ، طهران - 1389 ه.

179. نوادر الراوندي : قطب الدين الراوندي ( م 573 ه ) مخطوط.

180. نور الثقلين : العروسي الحويزي : عبد علي بن جمعة ( م 1112 ه ) مطبعة الحكمة ، قم - إيران.

حرف الواو

181. الوثائق السياسية : البروفسور محمد حميد اللّه ، دار النفائس ، بيروت - 1407 ه.

182. الوحي المحمدي : السيد محمد رشيد رضا ( 1354 ه ) طبع مصر.

183. وسائل الشيعة : الحر العاملي : محمد بن الحسن ( 1033 - 1104 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1403 ه.

184. وقعة صفين : نصر بن مزاحم المنقري ( م 212 ه ) دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة - 1365 ه.

ص: 604

فهرس محتويات الكتاب

الموضوع / الصفحة

الفصل الأوّل

بحوث تمهيديّة حول الحكومة

(1) الحكومة حاجة طبيعيّة وضروريّة ... 13

الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله المؤسّس الأوّل للحكومة الإسلاميّة ... 15

نماذج من الوظائف الحكوميّة في الأحاديث ... 23

(2) لماذا يرفض البعض وجود الحكومة ؟ ... 31

ملامح الحكومة الإسلاميّة حسب النصوص ... 34

الحكومات الجائرة ... 44

وظيفة الاُمّة اتّجاه الحكومة ... 46

(3) أنواع الحكومات في العالم ... 48

1. الملوكيّة ... 48

القرآن الكريم والملوكيّة ... 49

ص: 605

مفاسد الحكم الاستبداديّ ... 52

2. الحكومة الأشرافيّة ... 62

3. حكومة الأغنياء ... 63

4. النمطُ الديمقراطيّ ... 63

الفصل الثاني

صيغة الحكومة الإسلامية

(1) صيغة الحكومة الإسلاميّة كيف ؟ ... 67

ما هي صيغة الحكومة الإسلاميّة إِذنْ ؟ ... 68

التنصيص الإلهيّ على الحاكم الأعلى باسمه وشخصه ... 71

ما هي صيغة الحكومة بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 74

المصالح العامّة في الصدر الأوّل وشكل الحكومة ... 76

ماذا كانت تقتضيه المصالح ؟ ... 76

أ - عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة ... 77

إجابةٌ عن سؤال ... 83

ب - الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ ... 86

1. خطر إمبراطوريّة إيران ... 86

2. خطر الروم ... 87

3. خطر المنافقين ... 88

ج - العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد ... 90

ماذا يُراد من الخلافة عن رسول اللّه ؟ ... 101

(2) وفاة النبيّ والفراغات الهائلة ... 102

دراسة الفراغات لماذا ؟ ... 102

ص: 606

1. الفراغ في مجال الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة ... 104

اعتراف الصحابة بالقصور ... 115

بعض ما لا نص فيه من المسائل ... 117

فيمَنْ شرب خمراً ... 118

ما الكَلاَلَة ؟ ... 118

أمرأةٌ ولدت لستّة أشهر ... 119

مسألة العوْل ... 119

فيمن كسر بيض نعامة ... 120

الطلاق في الجاهليّة والإسلام ... 120

معنى الأبّ ... 121

خمسةُ أشخاص أُخذوا في الزنا ... 121

2. الفراغات في مجال تفسير القرآن الكريم وشرح مقاصده ... 122

3. الفراغات في مجال تكميل الاُمّة روحياً وفسياً ... 134

4. الفراغات الحاصل في مجال الرد على الأسئلة والشبهات ... 139

نماذج من الأسئلة العويصة ... 140

5. الفراغ الحاصل في مجال صيانة الدين من التحريف ... 146

نماذجٌ وأرقامٌ عن الأحاديث الموضوعة ... 149

(3) الخلافة عند النبيّ والصحابة والاُُمم السابقة ... 154

1. تصوّر النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله عن القيادة بعده ... 155

2. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ ... 157

أ - استخلاف أبي بكر لعمر ... 157

ب - استخلاف عثمان ... 159

نظرية تفويض الأمر إلى الاُمّة بعد النبيّ ... 161

تحليل لخلافة أبي بكر ... 162

ص: 607

تحليل لخلافة الإمام عليّ ... 166

3. صيغة القيادة والخلافة عند الاُمم السابقة ... 169

الخلافة بالوصاية ... 173

رأي الخُضريّ ومناقشته ... 180

الفصل الثالث

صيغةُ الحكومة الإسلاميّة في العصور الحاضرة ... 183

ماذا كُتب حول الحكومة ؟ ... 183

انتخاب الاُمّة والأدلّة الإسلاميّة ... 188

1. استخلاف اللّه للإنسان ... 188

أبعاد خلافة الإنسان عن اللّه ... 189

آثار الحاكميّة نيابةً عن اللّه ... 192

2. استخلاف داود يستبطن حاكميّته ... 194

3. أداء الأمانة لا يمكن إِلاّ بالحكومة ... 195

الاستخلاف غير التفويض ... 196

4. الوظائف الاجتماعيّة وتشكيل الدولة ... 197

المجتمع في نظر الفلاسفة والحقوقيّين ... 198

5. العقلُ وتشكيل الدولة ... 203

6. سيرة المسلمين بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 204

7. سلطةُ الناس على أموالهم وأنفسهم ... 205

8. الحكومة أمانةٌ عند الحاكم ... 206

أسئلة وأجوبة ... 211

مؤاخذاتٌ على الديمقراطيّة ... 212

ولاية الفقيه ومكانتها في الحكومة الإسلاميّة ... 220

ص: 608

ولاية الفقيه ليست استصغاراً للاُمّة ولا استبداداً ... 221

كيف يمارسُ الفقيه ولايته ... 223

كلمة أخيرة ... 224

هل الشورى أساس الحكم الإسلاميّ ؟ ... 226

ما هي أدلّة الأخذ بالشورى ؟ ... 229

حكم الشورى بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 229

التمسّك بكلام عليّ علیه السلام في الشورى ... 231

إشكالاتٌ أُخرى وملاحظاتٌ أساسيّة ... 233

هل البيعة وسيلة لتعيين الحاكم ؟ ... 237

1. ماذا تعني البيعة ؟ ... 237

2. البيعة قبل الإسلام ... 238

الفصل الرابع

صفات الحاكم الإسلاميّ ... 243

1. الإيمان ... 243

2. حسن الولاية والقدرة على الإدارة ... 244

3. التفوّق في الدراية السياسيّة ... 245

4. العدالة ... 247

5. الرجولة ... 250

6. العلم بالقانون اجتهاداً أو تقليداً ... 256

7. الحريّة ... 257

8. طهارة المولد ... 261

وصايا تكشف عن مسؤوليّة الحكام ... 266

ص: 609

الفصل الخامس

أركان الحكومة الإسلاميّة ... 269

(1) السلطة التشريعيّة ... 270

انتخاب فريق الشورى ... 272

المفتي أو فريق الإفتاء ... 275

فريق الإفتاء والنصوص ... 276

(2) السلطة التنفيذيّة ... 281

ضرورة السلطة التنفيذيّة ... 282

الآمرون بالمعروف هم السلطة التنفيذيّة ... 287

دفع إشكال حول الأمر والنهي ... 298

وظيفة المحتسب والسلطة التنفيذيّة ... 299

السلطة التنفيذيّة على عهد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 306

النبيّ يعيّن الولاة ويحدّد مسؤوليّاتهم ... 308

كيفيّة السلطة التنفيذيّة الآن ... 310

مواصفات أعضاء السلطة التنفيذيّة ... 312

1. التخصّص ... 313

2. الوثاقة ... 314

3. الزهد والتعفّف ... 314

إطاعة الحاكم الصالح ... 316

لا طاعة للحاكم الجائر ... 319

(3) السلطة القضائيّة ... 323

دور القضاء والسلطة القضائيّة ... 323

ص: 610

عوامل التنازع وأسبابه ... 324

القضاء والحكومة لله خاصّة ... 326

النبيّ صلی اللّه علیه و آله يمارس القضاء ... 329

كيف يحقّق القضاء أهدافه ؟ ... 330

1. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء ... 330

2. إستقلال القاضي الماليّ والسياسيّ ... 333

3. رعاية آداب القضاء وكيفيّته ... 335

4. وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة ... 338

الشهادة والشهود ... 339

لا استئناف ولا تمييز ... 341

الفصل السادس

حول أهمّ خصائص الحكومة الإسلاميّة ... 343

(1) الحكومة الإسلاميّة حكومة عالميّة ... 344

الاُسس الفكريّة للحكومة العالميّة ... 350

(2) الإيمان ملاك تكوّن الاُمّة الإسلاميّة ... 353

بماذا تتكون الاُمّة ويتحقّق مفهومها ... 353

مكوّنات الاُمّة عند الحقوقيّين ... 354

المِلاك الإسلاميّ للاُمّة ... 357

(3) المساواة أمام القانون ... 367

المساواة من ثمار العدل ... 373

من نتائج العدل ... 374

إهتمام الإسلام بالعدل ... 375

أبعاد العدل ومجالاته ... 376

ص: 611

1. العدل في مجال الحكم ... 377

2. العدل في مجال الأخذ بالقانون ... 377

3. العدل في مجال الأقتصاد ... 377

4. العدل في مجال العلاقات الاجتماعيّة ... 378

(4) الإسلام بين الماديّة والمعنويّة ... 380

الآيات المادحة للدنيا ... 382

الآيات الذامّة للدنيا ... 383

(5) الشورى ... 389

القرآن والشورى ... 389

الأحاديث والشورى ... 390

(6) ضمان الحريّات المعقولة ... 400

ما هي الحريّة ... 400

أقسام الحريّات ومجالاتها ... 401

1. الحريّة الشخصيّة ... 401

2. الحريّة الفكريّة والعقيديّة ... 404

3. الحريّة السياسيّة ... 410

4. الحريّة المدنيّة ... 414

نقاط حول السجن ... 415

الفصل السابع

حول أهمّ برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها ... 417

(1) الحكومة الإسلاميّة ومسؤوليّة التربية والتعليم ... 418

الإسلام ومسألة التزكية ... 420

عوامل تكوين الشخصيّة ... 421

ص: 612

1. عوامل الوراثة ... 422

2. التعليم ... 425

3. البيئة ... 428

مسؤوليّة التعليم ... 432

الإسلام والعلوم الطبيعيّة ... 445

بحث وتنقيب ... 449

(2) الحكومة الإسلاميّة والحقوق الفرديّة والاجتماعيّة ... 456

تقسيمات الحقوق ... 457

أ - الحقوق الداخليّة ... 457

ب - الحقوق الخارجيّة ( الدوليّة ) ... 458

الإسلام والحقوق ... 458

شموليّة الحقوق الإسلاميّة ... 461

الأقليّات الدينيّة في الحكومة الإسلاميّة ... 463

1. الإعتراف بحقوق الأقليّات ... 463

2. حسن المعاشرة مع الأقلّيات ... 464

3. احترام الإسلام لحياة الأقليّات ... 470

4. الجزية ضريبة عادلة ... 473

(3) الحكومة الإسلاميّة والدعوة إلى التنمية الاقتصاديّة ... 476

أهميّة الاقتصاد في الحياة البشريّة ... 476

الاقتصاد أصل هامّ وليس محوراً ... 478

الدعوة إلى التنمية الإقتصاديّة وإطاراتها ... 479

1. الإنسان مأمور بعمارة الأرض ... 479

2. الإنسان مدعو إلى الكدح والعمل ... 480

موضع الزهد والتوكّل في الإسلام ... 484

ص: 613

3. الإسلام يقرّ مبدأ التنافس ... 487

4. الحريّة الاقتصاديّة في النظام الإسلاميّ ... 488

5. الإنتاج في إطار الإنسانيّة ... 489

6. العدالة الاجتماعيّة هو الهدف الأسمى ... 490

7. لا إسراف ولا تبذير ... 490

8. الأخلاق عامل أصيل ... 491

9. الاقتصاد وسيلة لا هدف ... 492

10. الإنسان محور وليس آلة ... 494

(4) الحكومة الإسلاميّة والصحّة الفرديّة والصحّة العامّة ... 496

تعاليم القرآن الصحّيّة ... 498

الصحّة في السنّة المطهّرة ... 502

التعاليم الصحيّة الفرديّة ... 505

التعاليم الصحيّة العامّة ... 510

الزواج والصحّة ... 511

إهتمام المسلمين بعلم الطبّ ... 514

العناية بالصحّة وظيفة الحكومة الإسلاميّة ... 515

(5) الحكومة الإسلاميّة والسياسة الخارجيّة ... 519

الإسلام يرسم قواعد السياسة الخارجيّة ... 519

1. إحترام العهود والمواثيق الدوليّة ... 520

2. الإسلام والسلام العالميّ ... 523

3. حكم الأسرى ... 527

4. الحصار الاقتصاديّ ضدّ المعتدين فقط ... 532

5. الحدّ من التسلّح ... 533

6. الحصانة الدبلوماسيّة في الإسلام ... 533

ص: 614

7. التعهّدات المتقابلة ، والمنفردة ... 534

8. المعاهدة للاستقراض الحربيّ ... 537

9. قطع العلاقات السياسيّة ... 537

10. الإسلام والبلاد المفتوحة ... 538

(6) الحكومة الإسلاميّة والاستخبارات والأمن العامّ ... 540

لا تفتيش عن العقائد ، ولا اطّلاع على الأسرار ... 540

ترجيح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة ... 541

الاستخبارات الراهنة مرفوضة ... 541

أهداف الاستخبارات في الحكومة الإسلاميّة ... 542

1. مراقبة الموظّفين ... 543

2. مراقبة تحرّّكات العدو العسكريّة ... 545

نماذج من التجسّس العسكريّ في عصر النبيّ ... 546

3. مراقبة نشاطات الأجانب ونفوذهم ... 553

حكم المتجسّس لصالح الأجنبيّ ... 556

(7) الحكومة الإسلاميّة والنظام العسكريّ ... 559

قوام الاُمّة رهن بقدرتها العسكريّة ... 559

الجيش في خدمة الدين والشعب ... 560

تعاليم إنسانيّة في الحرب ... 563

الفصل الثامن

المنابع الماليّة للحكومة الإسلاميّة

لابدّ للبرامج من منابع ماليّة ... 569

1. الأنفال ... 570

2. الزكاة ... 572

ص: 615

3. الخمس ... 572

تحقيق ضروريّ حول الخمس ... 574

الغنيمة في اللغة ... 574

الغنيمة في الكتاب والسنّة ... 576

الخمس في رسائل النبيّ وعهوده ... 577

4. زكاة الفطرة ... 582

5. الخراج والمقاسمة ... 582

6. الجزية ... 583

7. ضرائب ليس لها حد معين ولا زمان خاص ... 583

8. موارد ماليّة استثنائيّة ... 584

9. توظيف الأموال في المجالات الاقتصاديّة الكبرى ... 585

هذه العائدات تكفي لميزانية الدولة الإسلاميّة ... 585

10. هذه الأموال ملك الدولة لا الحاكم ... 587

فهرس مصادر ... 591

فهرس محتويات الكتاب ... 605

وآخر دعوانا أن الحمدلله ربّ العالمين

ص: 616

المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 4

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1413 ه.ق

الصفحات: 543

نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء الثالث

يبحث عن عالمية الرسالة المحمدية وخاتميتها وأمية النبي الأكرم صلی اللّه عليه وآله وسلم، واطلاعه علی الغيب بإذن اللّه سبحانه، وحياته في القرآن

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 2

لقد وافتنا رسائل من الشخصيات البارزة المتبحّرة بعلوم القرآن وتفسيره تشجّعنا على مواصلة العمل ونحن نتقدم إليهم بالشكر وننشر كلماتهم فيما يأتي من الأجزاء مشفوعاً بالتقدير والإكبار.

كلمة قيّمة للمفكّر الإسلامي الكبير والمفسّر القدير العلاّمة السيّد محمد حسين الطباطبائي قدس سره مؤلّف الكتاب القيّم « الميزان في تفسير القرآن ».

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين.

أمّا بعد ، فإنّ الكتاب الذي بين يديك سلسلة بحوث قيّمة في القرآن الكريم وتفسيره على أساس « الوحدات الموضوعية » فيه. ويلاحظ الباحث فيها أنّها تعتمد ، قبل كل شيء على الاستفادة من نفس مفاهيم القرآن الكريم في عرض المواضيع كما يلاحظ الروح الموضوعية الهادفة والاُسلوب الفخم ، والتتبع الدقيق ، والإسهاب في البحث ، والاستيفاء الكامل لكلّ جوانب الموضوع. فأسأل اللّه أن يوفّق مؤلّفنا الموفّق لتنقيح سائر المواضيع في الأجزاء الآتية ، انّه سميع بصير.

محمد حسين الطباطبائي

عام 1393 ه

قم - إيران

ص: 3

اكبار وتقدير لهذه الموسوعة القرآنية من المحقق المتتبع العلامة الكبير الشيخ محمد تقي التستري دام ظله ، صاحب كتاب « قاموس الرجال ».

بسم اللّه الرحمن الرحيم

حضرة العلاّمة فخر الأيام الشيخ جعفر السبحاني دامت بركاته.

وصلني كتابكم الميمون ففتح علينا أبواب البهجة والسرور ، كما وصلني مؤلّفكم القيّم « مفاهيم القرآن » وقد طالعته من أوّله إلى آخره والحق أنّكم بحثتم فيه عن موضوعات كثيرة وعالجتم فيه المسائل الإسلامية معالجة جديدة ، بعيدة عمّا حولها من آراء وأفكار مهجورة فجزاكم اللّه عن الإسلام والدين والعلم خير الجزاء.

والعجب أنّكم رغم نشأتكم فى إيران أخذتم بناصية اللغة العربية كأديب مصري أو بغدادي ، فأتيتم بتعابير عصرية رائجة ، أدام اللّه في تأييدكم وزاد في تسديدكم.

الشيح محمد تقي التستري

ص: 4

التفاتة كريمة وكتاب مبارك من الاُستاذ الفذ سماحة العلاّمة الحجة الشيخ محمد الكرمي دام ظله الوارف نقتطف منه ما يلي :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هزتني طرّة عنوانه لأنّه مبتكر في بابه

كم بت أتململ ساعات طوالاً من الليل ، وآناء كثيرة من أطراف النهار أجول بفكري في غضون الحياة لعلّي أطّلع من بعض منافذها على بصيص أجعله مناراً للخروج من حيرتي لأنّي أعرف للفضيلة مفهوماً ولا أراه بين الناس ، وللدين أهمية عظمى ولا أجدها ظاهرةً بينهم .. نعم قد تقع العين أحياناً على فاضل متزن وكاتب متقن وكتاب متشخّص فيلوح في الآفاق كما تلوح النجمة اللامعة في شاشة الظلام الأدكن ويحصل منها بصيص للدرب يهوّن على سالكه المسير فلا يكون كخابط في ليلة ظلماء.

وفي مثل هذا الوقت المتلوي والظرف الحرج يتحفني صديق لي حميم وهو الاُستاذ جعفر السبحاني بالجزء الأوّل من تفسيره الموضوعي للقرآن الكريم « فهزّتني طرّة عنوانه لأنّه مبتكر في بابه » فانّ كل من كتب في التفسير كتب على طبق تسلسل السور من الفاتحة إلى المعوذة بالترتيب الموجود للمصحف الشريف ، أمّا صديقنا الفاضل فقد حاول خطة اُخرى هي بنظري آصل من الخطط الدارجة وهي إلمامه بجميع ما في

ص: 5

القرآن من أهداف وموضوعات تحدّث القرآن الكريم عنها وإشخاص كل هدف في باب خاص والإفاضة عنه بالآيات التي رمت إليه في أيّة سورة كانت.

... لقد أتحفني صديقي السبحاني بالجزء الأوّل من تفسيره الموضوعي فقرأت مقدّمته لأستجلي من مجملها تفاصيل ما دوّن أو يريد تدوينه ، فوقفت على مجمل مفعم بالمطالب الدقيقة وفتحت الكتاب عفواً فوقعت عيني على عنوان أُمّية النبي في القرآن وسرحتها قصداً لترتع في هذه الجنائن الناظرة والحدائق الغنّاء فكان والحق يقال محقّقاً لمادة المطلب مفتشاً على كلّ مظنة توفي بها على ما يوخّى من بحثه وبعد ذلك مطبقاً لما علّق بنظره مبرهناً عليه طارداً للشبه والإشكالات التي توجّه إليه.

فالسبحاني وإن كان كتب في أبواب شتى وطرق مواضيع عديدة وساعدته الظروف فنشر ما كتب إلاّ أنّه في كتابه هذا إذا وفّق لإتمامه على اُسلوب فأنجز منه يكون قد جاء ببيت قصيده وأسعفه الحظ بمقصوده ولا استكثر عليه ذلك.

لقد أتحفني صديقي الفاضل السبحاني كما ذكرت بالجزء الأوّل من موسوعته فرأيت لزاماً علىّ أن أقدم لجزئه الثاني الجاهز للطبع وأعرب عن الحق الذي تضمّنه كتابه لا عن تذوقي وحده. فجدير بالناشئة المؤمنة أن تطالع هذا الكتاب وتشبع بعض نهمتها منه وجدير بالأُستاذ المؤلّف أن يتابع خطوه في إتمام هذه الموسوعة التي تتقاضى منه جداً وجهداً وزمناً وإذا ماطل هذه الصعوبات وانتصر عليها يكون قد فاز برضى من ربّه وهذه هي الجائزة الموقّرة ... والسلام عليه ورحمة اللّه وبركاته.

محمد الكرمي

21 / ج 1 / 1394 ه

ص: 6

عواطف خالصة يجود بها علينا أخ في اللّه كريم وعلم من أعلام الفكر والدين فضيلة الشيخ حسن طراد العاملي نزيل النجف الأشرف.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

فضيلة العلاّمة الجليل المجاهد الكبير سماحة الشيخ جعفر السبحاني المحترم دام حفظه وتأييده.

تحية حب وإخلاص وتقدير وإجلال.

وبعد : فقد وصلتني هديتك الثمينة التي تفضّلت بها « مفاهيم القرآن ». وقد كان لهذه الهدية الفكرية مدلول رائع ومحتوى مزدوج سام ، فهي تعبّر من جهة فكرية عن فكر عميق ونظر دقيق وسعة اطّلاع وفصاحة بيان وسداد منطق كما تعبّر من جهة روحية عن سموّ خلق ودماثة طبع ورحابة صدر وسماحة نفس ، ولهذا وذلك كان لهذه التحفة السنية بما عبّرت عنه ودلّت عليه أبلغ الأثر في نفسي حيث جعلت لك عندي منزلة سامية ومكانة مرموقة تستوجب التقدير والإجلال ، كما بعثت وكوّنت لك في قلبي حبّاً عميقاً وإخلاصاً وثيقاً يجذبني إليك بسلك الوفاء والولاء وقد كان من نتائج هذا التقدير وذلك الحب مقطوعة شعرية نظّمتها بوحي من إعجابي بفضلك وتقديري

ص: 7

لشخصك وإخلاصي لك وهي :

سر للأمام مؤيّداً بعزيمة *** كالطود لا تثنى ولا تتقهقر

وانشر من الدين الحنيف معارفاً *** غراء تسطع بالرشاد وتزهر

وأكشف دياجير الضلال بساطع *** من نور فكرك بالهدى يتموّر

فالليل لايجلوه إلاّ كوكب *** بشعاعه ظل الدجى يتبخّر

والغي لا يمحوه إلاّ كاتب *** بفنون دستور السما متبحّر

نشر الحقائق في العقول فأشرقت *** وعياً وأضحت بالهدى تتنوّر

ليظل دستور العقيدة مشرقاً *** تزهو بروعة ما حواه الأعصر

وختاماً أشكر هديتك القيّمة وأُقدر أخلاقك السامية وجهادك المثمر البنّاء والسلام عليك وعلى سائر الأعلام المجاهدين في حوزة قم المقدسة.

حسن طراد العاملي نزيل النجف الأشرف

7 / ربيع الآخر / 1394 ه

ص: 8

مقدّمة الطبعة الثالثة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحديث عن التفسير الموضوعي ذو شجون وهو يقابل التفسير الترتيبي الذي يتخذ المفسّر ، القرآن موضوعاً لتفسيره مبتدئاً من سورة الحمد ومنتهياً إلى سورة الناس وربّما لا يرافقه التوفيق لتفسير جميع السور فيكتفي بتفسير البعض.

وأمّا التفسير الموضوعي فيجعل المفسّر الموضوعات الواردة في الكتاب العزيز محوراً للدراسة ويجمع شتيت آياته من السور المختلفة فينظر إلى الكل بنظرة ثاقبة ويخرج بنتيجة واحدة يجعل البعض قرينة للبعض الآخر.

وكان المألوف بين المفسّرين هو النمط الثاني وإن كان النمط الأوّل غير مغفول عنه في بعض صوره ، كالبحث عن الآيات الواردة حول الأحكام الفقهية من الطهارة إلى الديات ، والآيات الواردة حول المثل والأخلاق.

وأوّل من فتح هذا الباب على وجه موجز في غير واحد من المواضيع هو العلاّمة المجلسي قدس سره حيث أصدر في موسوعته عن هذا اللون من التفسير في جميع الأبواب في مجالي العقيدة والشريعة والحوادث الكونية غير أنّه لايخرج في تفسيرها عن إطار ما في التفاسير المعروفة كمجمع البيان للطبرسي وأنوار التنزيل للبيضاوي وغيرهما. وممّا يدعو إلى إكبار عمله أنّه قام بجمع آيات الموضوعات الواردة في القرآن الكريم مع عدم توفّر المعاجم الموجودة في عصرنا هذا ، فإنّها بلا شك خير معين لمن يريد الخوض في هذا المجال.

ص: 9

وقد قمت بحمد اللّه بهذا العبء الفادح حسب المستطاع فجعلت العقيدة هي المحور الأوّل للتفسير مقدماً لها على الأحكام والأخلاق وما يرجع إلى الكون والطبيعة وخلق الإنسان.

والجزء الأوّل يحتوي على مباحث في التوحيد وأقسامه ، والشرك وألوانه ولمّا انتهينا في هذا الجزء إلى التوحيد في الحكومة وأنّه لا حاكم في المجتمع البشري سوى اللّه سبحانه وانّ حكومة غيره لابدّ أن تكون مستمدة من حكومته سبحانه وتعالى. خصّصنا الجزء الثاني من هذا الموسوعة في الحكومة الإسلامية ، وما ورد حولها من الآيات في مواضيع مختلفة.

وكان الأنسب للبحث في الجزء الثالث هو دراسة أسمائه وصفاته ، ثمّ البحث عن النبوّة العامّة إلى أن ننتهي إلى معالم النبوّة الخاصة ولكن كانت الحاجة في المجتمع الإسلامي ماسّة للبحث عن النبوّة الخاصة ركّزنا البحث على مواضيع ترجع إليها واستغرقت تلك البحوث الجزء الثالث والرابع والخامس نعم درسنا صفاته سبحانه في الجزء السادس دراسة معمّقة تليق بها ودرسنا حياة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله في القرآن في الجزء السابع.

وما ذكرنا فهرس موجز لهذه الأجزاء السبعة وأرجو منه سبحانه أن يوفّقني لدراسة المواضيع الباقية من العقائد والمعارف. إنّه قريب مجيب.

وها نحن نعيد طبع الجزء الثالث في حلّة قشيبة وقد مضى على الطبع الأوّل قرابة عشرين سنة وما زال الطلب يصل إلينا ويشجعنا على مداومة العمل. واستيعاب المواضيع الباقية في المعارف الواردة في القرآن الكريم ونرجو اللّه تعالى أن يوفقنا لإكمال هذه الموسوعة التي تهدف إلى التعرّف على الاُصول والعقائد عن طريق الوحي والتنزيل.

قم - مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

جعفر السبحاني

3 شهر رمضان المبارك عام 1413

ص: 10

مقدمة الطبعة الثانية

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القرآن كتاب القرون والأجيال

القرآن معجزة خالدة

لمّا كانت رسالة النبي الكريم محمد صلی اللّه علیه و آله أبدية خالدة إلى يوم القيامة ، لأنّها خاتمة الرسالات ، ونبوّته خاتمة النبوّات .. وكانت النبوّة والرسالة الخالدة بحاجة إلى المعجزة الخالدة لاقناع الأجيال المتلاحقة ، امتازت معجزة الرسول الكريم محمد صلی اللّه علیه و آله عن معاجز غيره من الرسل الكرام بكونها خالدة خلود النبوّة المحمدية ، باقية بقاء الرسالة الإسلامية ، التي هي خاتمة الرسالات والحلقة الأخيرة المتكاملة في سلسلة الشرائع الإلهية.

وهذا أمر يؤيّده العقل ، ويؤكده البرهان. فالأنبياء والرسل السابقون ، رغم أنّهم كانوا أصحاب معاجز كثيرة وعديدة ، لكن تلك المعاجز كانت مؤقتة ، لأنّ رسالتهم كانت منحصرة على عصورهم وأجيالهم أو تمتد إلى عصور بعدهم بقليل ولذلك كانت معاجزهم باقية في الأذهان بقدر طول مدة نبوّتهم ورسالتهم فكانت تختفي بانتهاء مدة

ص: 11

نبوّاتهم علیهم السلام ولم يبق منها إلاّ أخبار وقصص في بطون الكتب ، وطيات التاريخ المدوّن.

أمّا الرسالة التي كلّف بإبلاغها الرسول الخاتم صلی اللّه علیه و آله فإذ لم تكن محدودة بزمن دون آخر ، ولا مقصورة على جيل دون آخر ، فهي الرسالة الخالدة وهي الدعوى الموجهة إلى جميع الأجيال البشرية إلى يوم القيامة ، كان من الضروري والبديهي أن تقترن بمعجزة خالدة ، تشهد على صدق صاحب الدعوة وحامل تلك الرسالة ، في جميع القرون والأعصار ، ولتكون ( حجة ) على جميع الأجيال المخاطبة بها ، والمدعوّة إليها ، لأنّ المعجزة وثيقة إثبات لا يمكن تصديق رسالة ونبوّة بدونها.

وكانت هذه المعجزة الخالدة التي زوّد اللّه تعالى بها خاتم الأنبياء محمداً صلی اللّه علیه و آله هي ( القرآن الكريم ) الذي بقى على مرّ العصور والأزمنة يشهد - بقوّة ووضوح - على صدق النبوّة المحمدية وعلى صلته صلی اللّه علیه و آله باللّه سبحانه وتعالى.

والجدير بالذكر أنّ إعجاز القرآن الكريم لا يقتصر على جهة دون جهة ، بل هو معجزة بمجموعه وفي جهات شتى نشير إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر :

أوجه الإعجاز القرآني

انّ القرآن الكريم معجزة مستمرة وخالدة :

أوّلا / من حيث فصاحته وبلاغته التي أخرست البلغاء والفصحاء ، لا في عصر نزوله خاصة ، بل في جميع الأزمنة والدهور ، وأعجزتهم عن معارضته ، وتحدّتهم في معاقلهم ، وعقر دورهم.

ثانياً / من حيث احتوائه على أفضل القوانين والنظم ، وأرقى التشريعات في جميع المجالات الحيوية ، وإتيانه بما عجز عن الإتيان به أرقى الحضارات البشرية حتى يومنا هذا.

ثالثاً / من حيث إخباره بالاُمور المستقبلية واحتوائه على الاُمور الغيبية ، إذ أخبر

ص: 12

عن وقائع وحوادث مستقبلية تحقّقت بعده حرفاً بحرف.

رابعاً / من حيث سلامته عن التناقض والاختلاف في النظم والاُسلوب ، وفي المعنى والمضمون رغم تدرّجه في النزول على النبي صلی اللّه علیه و آله وتنزّله في ظروف مختلفة متباينة كيفاً وحالاً ، وخلال ثلاث وعشرين سنة محفوفة بالمشاكل الجسيمة ، والتطورات العنيفة.

خامساً / من حيث تناوله الدقيق للوقائع التاريخية الماضية ، حيث قصّها على نحو خال عن شائبة الأساطير والخرافات ، وهو أمر يمكن معرفته بمقارنة القرآن الكريم مع التوراة والإنجيل.

سادساً / من حيث اشتماله على إشارات رائعة عميقة إلى حقائق كثيرة من العلوم الطبيعية التي توصّل إليها العلم الحديث - في هذا العصر - بفضل الجهود الطويلة المضنية ، وبواسطة المختبرات ، والوسائل العلمية والتجارب والاختبارات العديدة.

سابعاً / من حيث قوّة احتجاجه على خصومه ومعارضيه ، وما جاء به من حجج لم يسبق لها نظير في علم المناظرة والاحتجاج وكانت - ولا تزال - أنجح الحجج في إفحام الخصوم وإسكات المجادلين ، والمشكّكين ، بل وهدايتهم في أغلب الأحيان.

ثامناً / من جهة ما جاء به في مجال الأخلاق والتربية الأخلاقية للفرد والمجتمع حيث استقصى الأخلاق الفاضلة وحثّ على التزيّن بها بما توجبه الحكمة من البعث والترغيب ، وأحصى الأخلاق الرذيلة وزجر عن التلوّث بها بما توجبه الحكمة ، ويقتضيه الاصلاح من التخويف والتنفير وسلك في ذلك كلّه طريقة فريدة لها أبلغ الأثر حتى في أشد القلوب قساوة.

تاسعاً / من حيث روحانيته البالغة التي تنفذ إلى الأعماق ، وتأخذ بمجامع القلوب ، وتستميل المشاعر ، فإذا بآياته روح تحيا بها نفوس الخلق ، ونور يضيء الوجود الإنساني كما تضيء الشمس الآفاق ، فتنشط الأحياء ، وتتحرك الطبيعة.

ص: 13

عاشراً / من حيث تناوله لأدق المعارف العقلية ، والقضايا الاعتقادية الرفيعة التي لا تصل إليها أفكار البشر ، ولا تبلغها علومهم ، ممّا يتعلّق باللّه سبحانه وصفاته وأسمائه وأفعاله ، وما أخبر به من عوالم غيبية في الملأ الأعلى ، والنشأة الاُخرى.

إلى غير ذلك من الجهات والوجوه التي يقصر البيان عن الإحاطة بها ، وإحصائها في هذا المختصر.

غير أنّ الجهة الأخيرة من هذه الجهات وهي التي كان يتوجب تناولها بالدراسة الوافية والتحليل الشامل ، وخاصة في عصرنا الحاضر ، قد اُهملت في مؤلّفات المفسّرين غالباً فهم لم يدرسوها بجامعية تليق بالموضوع وتناسب أهميته ، وتعطي حقه من العناية والبحث.

ولعلّ عذرهم في ذلك هو أنّ تفسيرهم للكتاب العزيز كان على وجه التفسير التدريجي للقرآن ، أي التفسير سورة فسورة ، وآية فآية ، ولم يتبادر إلى أذهانهم إنّ هناك نوعاً آخر من التفسير هو التفسير الموضوعي الذي يفسّر الكتاب العزيز حسب المفاهيم والموضوعات ، وهو النمط الذي أشرنا إليه في مقدمة الجزء الأوّل من هذه السلسلة القرآنية.

* * *

لزوم الاهتمام بالمعارف الإلهية

وإنّما ينبغي إعطاء المزيد من الاهتمام بالمعارف الإلهية التي ترتبط باللّه سبحانه ، وأسمائه وصفاته وأفعاله وغير ذلك ممّا تناوله القرآن بالدقة المشهودة ، لأنّ تناول القرآن لهذه المعارف بهذا الشكل يدلّ - بوضوح لا يقبل الجدل - على أنّ النبيّ الاُمّي صلی اللّه علیه و آله لم يأخذ هذه المعارف إلاّ من مستقى ( الوحي ) ، إذ من المستحيل لابن الجزيرة الخالية من أيّة حضارة وثقافة أن يأتي - في كتابه - بما أبهر عقول الفلاسفة والمفكّرين ، في القديم والحديث ، وذلك من لدن نفسه وصنع فكره ، أو يكون قد تلقّاها في مدرسة ، أو اقتبسها من معلّم في أرض لم يعرف أهلها إلاّ الأوهام ، ولم يؤمنوا إلاّ بالخرافة ، فلا ثقافة

ص: 14

ولا مثقّفين ، اللّهمّ إلاّ بضعة أشخاص (1) لم ينالوا من الثقافة إلاّ صبابات هي إلى الجهل أقرب منها إلى العلم والمعرفة.

إنّ القرآن جاء بأُصول وأفكار في مجال المعارف العقلية العليا لم يقف عليها حتى النوابغ من الفلاسفة ، في الشرق والغرب ، إلاّ عن طريق ذلك الكتاب الإلهي وهدايته.

إنّ من الظلم الفضيع إهمال دراسة هذه المعارف العليا بحجة أنّها مسائل غيبية يجب الاعتقاد بها إجمالاً ، وترك دراستها ومناقشتها وتحليلها.

والعجب أنّه روي عن الإمام مالك أنّه جاء إليه رجل فقال : يا أبا عبد اللّه ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) كيف استوى ؟

فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء. ثم قال :

« الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلاّ مبتدعاً ».

فأمر به أن يخرج (2).

ونحن نعتقد أنّه كان على الإمام أن يجيب على سؤال السائل ويهديه إلى مراده سبحانه من هذه الآية بدل رميه بالابتداع وإخراجه من المجلس.

كما أنّ من الظلم أيضاً ما يرتكبه بعض كتّابنا المسلمين المعاصرين ، حيث أخذ يفسّر هذه المعارف العقلية الإلهية بالأُمور المحسوسة ويحاول تطبيقها على الشؤون المادية فصار فعله بذلك من أوضح مصاديق ( تفسير القرآن بالرأي ) الذي تواترت الأحاديث

ص: 15


1- لقد نقل البلاذري في كتابه « فتوح البلدان » أنّ الذين كانوا يعرفون الكتابة في مكة - آنذاك - لا يتجاوزون سبعة عشر شخصاً ، وفي المدينة أحد عشر شخصاً ، وإليك نصّ ما قاله في هذا المجال : «دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلهم يكتب ثم عدهم وذكر أسماءهم وقال: «كان الكتاب بالعربية في الأوس والخزرج قليلين ... فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون، ثم ذكر أسماء هم راجع ص 456 - 459 باب في أمر الخط، فتوح البلدان.
2- مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية ، ج 1 ، ص 443.

الشريفة من الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله على نهيه.

من أجل هذا ، ولكي نسلم من التخبّط والعشوائية في معرفة هذه المعارف والقضايا الاعتقادية يتعيّن علينا أن ندرسها بعناية بالغة على نمط ( التفسير الموضوعي ) من دون فرق بين موضوع وآخر ، حتى نقف - من هذا السبيل - على واحدة من أهم جهات الإعجاز القرآني ، ونكون من المتعمّقين في القرآن ومعارفه. وما روي عن الإمام علي بن الحسين السجاد علیه السلام إذ قال ، لمّا سئل عن التوحيد :

« إنّ اللّه - عزّ وجلّ - علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل اللّه تعالى : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) والآيات من سورة الحديد إلى قوله : ( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) فمن رام وراء ذلك فقد هلك ». (1)

أقول : إنّ ما روي عنه علیه السلام لا يعني أنّ الإمام أراد حصر الآيات الباحثة عن المعارف والقضايا الاعتقادية في هذه الآيات ، بل لمّا كان ما جاء في هذه الآيات في القمّة من تلك المعارف ، أشار إليها الإمام خاصة دون إرادة الحصر.

ولأجل هذا جعلنا وجهة البحث في تفسيرنا منذ أن شرعنا في هذا النمط صوب : ( المعارف الاعتقادية ) على ضوء القرآن ، مبتدئين بالتوحيد وماضين في هذا السبيل إلى ما شاء اللّه ...

* * *

تقديم مباحث النبوّة على الصفات

ولمّا انتهى البحث عن ( التوحيد ) وأقسامه في الجزء الأوّل من كتابنا الذي انتشر باسم « معالم التوحيد في القرآن الكريم » ، وفرغنا من عرض أهم أصل من اُصول الدين الإسلامي ، وانجرّ البحث عن توحيد حاكميته سبحانه إلى توضيح صيغة الحكومة الإسلامية وخصصنا لبيانها جزءاً مستقلاً وانتشر باسم : « معالم الحكومة الإسلامية » كان البحث الضروري والمهم بعد ذلك الفصل هو البحث عن معالم النبوّة مطلقاً ، ونبوّة

ص: 16


1- الكافي ، ج 1 ، باب النسبة ، الحديث 3.

نبيّنا محمد صلی اللّه علیه و آله خاصّة واستعراض ما جاء حولهما من المسائل والمباحث التي يجب الاعتقاد بها حسب نصوص القرآن الكريم وآياته.

نعم كان اللازم بعد البحث عن وجوده سبحانه وتوحيده هو البحث عن سائر صفاته الجمالية من علمه وقدرته وحياته إلى غير ذلك من الصفات الثبوتية ، أو البحث عن صفاته الجلالية من كونه ليس بجسم ، ولا عرض ، إلى غير ذلك من الصفات السلبية (1).

نعم كان اللازم تقديم البحث عن صفاته على بحث النبوّة ، غير أنّه لما كان أهم صفاته هو التوحيد وقد أشبعنا الكلام فيه ضمن فصول ، قدّمنا بحث النبوّة.

وإنّما اخترنا مبحث النبوّة ، بعد استيفاء البحث في توحيد اللّه سبحانه ، لأنّه الأصل الثاني لتحقّق الإسلام ، حيث كان الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله يقبل إسلام من يعترف بالشهادتين : الشهادة بتوحيد اللّه سبحانه ، والشهادة برسالة نبيّه صلی اللّه علیه و آله .

نعم سنقوم ، بعد استيفاء البحث عن النبوّة ، بالبحث عن ( المعاد في يوم القيامة ) لأنّ أي مسلك ودين لا يمكن أن يصطبغ بصبغة الدين الالهي بدون الاعتقاد ب ( المعاد ).

وتدل على انحصار المهم من الاعتقاد في هذه الاُمور والاُصول الثلاثة روايات وأحاديث منها ما عن علي بن أبي طالب عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال :

« لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّي محمد رسول اللّه بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر » (2).

كما روي أنّ رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول اللّه بجارية له سوداء فقال : « يا رسول اللّه علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه ؟ فقال لها رسول اللّه :

ص: 17


1- خصصنا الجزء السادس بالبحث عن أسمائه وصفاته سبحانه كما خصصنا الجزء السابع لبيان دعوة النبىّ الأكرم وحياته في القرآن.
2- أخرجه الترمذي راجع جامع الاُصول ، 1 ، ص 145.

أتشهدين أن لا اله إلاّ اللّه ؟

قالت : نعم.

قال : أتشهدين أنّ محمداً رسول اللّه ؟

قالت : نعم.

قال : أتؤمنين بالبعث بعد الموت ؟

قالت : نعم.

قال رسول اللّه : اعتقها » (1).

مباحث النبوّة

إنّ البحث عن ( النبوّة ) يقع في موردين :

1. النبوّة العامّة.

2. النبوّة الخاصّة.

والمراد من البحث في ( النبوّة العامّة ) هو دراسة ظاهرة « النبوّة » ، ذلك الفيض الإلهي الجاري من جانب اللّه سبحانه إلى البشر بواسطة الأنبياء والرسل من آدم علیه السلام إلى خاتم النبيين صلی اللّه علیه و آله .

وفي مجال النبوّة العامّة لابدّ من البحث في الاُمور التالية التي يتكفل مجموعها شرح هذه الحقيقة الكبرى ، وبيانها :

الأوّل : لزوم بعث الأنبياء إلى البشر.

الثاني : الشرائط العامّة اللازمة في النبي كالعصمة والخلو عن النقص والعيب.

الثالث : كيفية أخذ الأنبياء الأحكام عن اللّه سبحانه ، وما هو الوحي.

الرابع : ما يعرف به النبي الحقيقي ويمتاز عن مدّعي النبوّة كذباً ، ومنتحلها

ص: 18


1- أخرجه صاحب الموطأ راجع ، ج 1 ، ص 145.

زوراً ، ويبحث فيه عمّا يسمّى بدلائل النبوّة التي منها « المعاجز ».

تلك هي عناوين الأبحاث في « النبوّة العامّة » التي تعرّض لها القرآن الكريم في مواضع كثيرة من سوره وآياته.

وإنما يجب البحث عن الموضوع الأوّل ( أعني : لزوم إرسال الرسل وبعث الأنبياء ) دفعاً للمزاعم الواهية المنقولة عن البراهمة والبوذيين الذين أنكروا ضرورة إرسال الرسل بوجوه ذكرها علماء الكلام في مؤلّفاتهم الاعتقادية (1).

وأمّا البحث عن الموضوع الثاني فلأجل توضيح أنّ النبوة لا تعطى إلاّ لمن تتوفّر فيه صفات خاصّة ، ومؤهّلات معيّنة وهو بحث يتطلبه مبحث النبوّة العامّة لمعرفة أهمية مسألة النبوّة ، وأنّه هذا المنصب العظيم لم يعهد إلاّ لمن تتوفّر فيه صفات معيّنة.

ويتناول العنوان الثالث بالبحث لمعرفة أنّ أهميّة النبوّة وامتيازها عن أيّة ظاهرة فكرية بشرية إنّما هي بالوحي ، الذي هو كيفية اتصال الأنبياء باللّه سبحانه ، وهو الأمر الذي يدحض الزعم الباطل القائل بأنّ الأنبياء مجرد نوابغ وأنّ ما يأتي به الأنبياء نظريات بشرية نابعة من صميم أفكارهم.

ويتناول الموضوع الرابع بالدراسة لأنّ معرفة النبىّ الصادق عن المتنبئ الكاذب متوقف على ما يتحقق على يد النبي من معاجز تثبت تأييد اللّه سبحانه له وإن كانت هناك طرق اُخرى لتمييز النبي الحقيقي عن المتنبئ أيضاً وسيوافيك بيانها في محلها.

وهذه العناوين وإن كان البحث عنها مهماً وضرورياً لمعرفة حقيقة النبوّة بصورة عامة لكنّنا نقدم الحديث عن معالم النبوّة الخاصّة - أعني نبوّة الرسول الأعظم محمد صلی اللّه علیه و آله - نظراً لشدة الحاجة إلى ذلك فعلاً ، وسنردف البحث هذا ، بدراسة الفصول ، والمسائل المتعلّقة بالنبوّة العامّة التي ذكرناها عمّا قريب.

ص: 19


1- ذكر بعضها المحقق الطوسي في تجريد الاعتقاد وشرحه تلميذه العلاّمة الحلي في كشف المراد راجع ذلك الكتاب ، ص 275 ، طبعة صيدا.

نعم كان الأولى في البحث عن النبوّة الخاصّة تقديم البحث عن دلائل نبوّة سيدنا محمد صلی اللّه علیه و آله .

غير أنّه لما كتبت في هذا الموضوع مؤلّفات ، ورسائل ، وكان البحث عن إعجاز القرآن بوجوهها العشرة الماضية أحسن دليل على صحة رسالته صلی اللّه علیه و آله وقد استوفى علماؤنا البحث عن ذلك قديماً وحديثاً وجدنا قرّاءنا في غنى عن تكراره.

ولأجل ذلك طرحنا بحوثاً اُخرى ترجع إلى صفات رسالته ونبوّته أو إلى حالاته الخاصة الواردة في الكتاب العزيز ، والتي لم تبحث إلى الآن بصورة مشبعة ومنقّحة.

فلأجل ذلك نبحث في هذا الجزء عن الاُمور التالية :

1. رسالته صلی اللّه علیه و آله عالمية وليست إقليمية ولا قومية وأنّه مبعوث إلى البشر كافة.

2. إنّ رسالته خاتمة الرسالات ونبوّته خاتمة النبوّات ، وكتابه خاتم الكتب.

وهذان البحثان يرجعان إلى البحث عن أوصاف رسالته ، من عموميتها وخصوصيتها.

3. أنّه صلی اللّه علیه و آله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب.

4. أنّه صلی اللّه علیه و آله كان مطّلعاً على الغيب بإذنه سبحانه.

وهذا البحثان يرجعان إلى أوصافه الواردة في القرآن الكريم.

5. بيان أسمائه وصفاته صلی اللّه علیه و آله الواردة في القرآن الكريم.

نسأل اللّه سبحانه أن يوفّقنا لتوضيح هذه المعالم التي نوّه بها سبحانه وذكرها في كتابه العزيز ، وأن يوفّق قرّاءنا للاستفادة من هذه البحوث القرآنية انّه خير معين.

قم المشرفة

10 ربيع الثاني من شهور عام 1402

ص: 20

مقدمة الطبعة الأُولى

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

منهج متكامل في عالم التفسير

اشارة

الإسلام دين اللّه الأبدي الخالد وشريعته الدائمة الباقية مع مرّ العصور والأزمان ، ولابد لهذه الشريعة الباقية من سند قوي يسندها ، ودليل واضح يدل على أنّها حق لا يتسرّب إليه أي شك أو شبهة ، فكان ذلك السند والدليل هو القرآن الكريم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو المعجزة الخالدة التي ستبقى سنداً حياً للشريعة الإسلامية إلى يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين.

لقد كانت المعاجز التي ظهرت على أيدي موسى بن عمران والمسيح بن مريم علیهماالسلام ، معاجز تخص عصرهما ، فلم يشاهد منها شيء في العصور المتأخّرة عنهما ، ذلك لأنّ شريعتيهما كانتا خاصّة بفترة زمنية معيّنة محدودة بحدود مؤقتة ، فكانت معاجزهما كافية لتلك الفترة التي تسري فيها شريعتهما.

أمّا نبوّة نبي الإسلام محمد صلی اللّه علیه و آله التي هي آخر النبوّات ، وشريعته التي هي خاتمة الشرائع ، فلابد لها من معجزة تناسبها ، وتواكب سيرها الزمني لتكون النبراس الذي

ص: 21

يضيء الطريق للجيل المعاصر للرسول والأجيال التي ستأتي بعده إلى ماشاء اللّه تعالى. يمحو صدأ الشكوك عن أذهان كافة البشر ، ويدلّهم دلالة واضحة إلى طريق الحق اللاحب والصراط المستقيم.

القرآن وآفاقه اللامتناهية

لم يمض من نزول القرآن نصف قرن ، إلاّ وقد وضع علماء الإسلام علوماً جمة لفهمه وكشف أسراره ومعانيه ، ولو أمعنا النظر لرأينا أنّ كثيراً من العلوم ، وضعت أوّلياتها لاستيضاح مداليل آيات القرآن وما يمكن أن يستخرج من جملها وعباراتها وذلك كالنحو ، والصرف ، واللغة ، والمعاني ، والبيان ، والبديع ، والقراءة ، والتجويد ، وقصص القرآن ، وشأن نزول الآيات.

مع هذه الجهود الجبارة المبذولة من قبل أعلام العلماء طيلة القرون الأربعة عشر الماضية ، ومئات المؤلفات الكبيرة والصغيرة المدوّنة في سبيل الكشف عن الأسرار الكامنة في الآيات القرآنية.

مع كل هذه المساعي ، لم يصلوا إلى أعماق ما في القرآن من عجائب الأسرار وغرائب الحكم الكامنة فيه.

يسير الانسان حثيثاً في استجلاء معارف القرآن الفكرية وقوانينه الاجتماعية والأخلاقية وسائر تعاليمه العالية. ولكنه لم يزل ، يجد الجديد فيه عندما يتعمق في البحث ، ويرى ما قد غفل عنه الأقدمون ولم يصلوا إليه. كأنه أمام بحر مواج بالحقائق العلمية لا يدرك غوره ، ولا يتوصل إلى أعماقه ، ولا يمكن معرفة ما فيه من الأسرار والعجائب.

كأنّ القرآن الكريم ، هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة ، الواسع الأطراف ، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره ، إلاّ معرفة أنّه لا يزال الانسان في الخطوات الاُولى من التوصل إلى مكامنه الخفية في أغواره. فإنّ كتاب اللّه تعالى كذلك ،

ص: 22

لا يتوصل إلى كل ما فيه من الحقائق والاسرار ، لأنّه منزل من عند اللّه الذي لا تتصور له نهاية ، ولا يمكن تحديده بحدود وأبعاد ، فيجب أن تكون في كتابه لمعة من لمعاته ، ويثبت بنفسه أنّه من عنده ، ويتوفر فيه ما يدل على أنّه كتاب سماوي ليس من صنع البشر ، وهو خالد إلى ما شاء اللّه تعالى.

أنّ نبي الإسلام العظيم صلی اللّه علیه و آله هو أوّل من لفت الأنظار إلى تلكم المزيّة وأنّ هذه المزيّة من أهم خصائصه ، حيث يقول في وصفه له : « له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة » (1).

وبعد النبي يأتي دور أول تلميذ لمدرسته وهو الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ليصف القرآن بقوله : « أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقده ، وبحراً لا يدرك قعره ... - إلى أن قال - : وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المنتزفون وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغضيها الواردون » (2).

وسأل رجل علي بن موسى الرضا علیه السلام فقال : ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلاّ غضاضة ؟ فقال : « إنّ اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة » (3). نرى أن الرضا علیه السلام لا يشير في هذا الحديث إلى موضوع خلود القرآن فقط ، بل يشير أيضاً إلى سر خلوده وبقائه غضاً جديداً لا يتطرق إليه البلى والذبول.

ويجب أن نذكّر القارئ بأنّ النبي وأئمّة أهل البيت علیهم السلام لم يكونوا وحدهم هم الذين لفتوا الأنظار إلى موضوع آفاقه اللامتناهية ، بل عظماء العرب والعارفون منهم

ص: 23


1- الكافي ، كتاب القرآن ، ج 2 ، ص 599.
2- شرح نهج البلاغه لعبده ، ج 2 ، ص 202.
3- البرهان في تفسير القرآن ، ج 1 ، ص 28.

أدركوا هذه الحقيقة في أيام الإسلام الاُولى ، واعترفوا بعجزهم عن الوصول إلى أغوراه ، والتوصل إلى ما فيه من الأسرار والحكم.

هذا الوليد بن المغيرة حكيم العرب وريحانتهم وخطيبهم المنطيق يجلس إلى النبي ليستمع ما كان يتلوه من آيات « سورة غافر » ، وبعد هنيئة ذهب إلى قومه « بني مخزوم » ليقول لهم مصارحاً : ( واللّه لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن ، وأنّ له لحلاوة ، وأنّ عليه لطلاوة ، وأن أعلاه لمثمر ، وأنّ أسفله لمغدق ، وأنّه ليعلوا وما يعلى ) (1).

يمكن اعتبار قول الوليد هذا ، أول تقريظ بشري صدر من انسان واع أدرك بفطرته وذوقه السليم أنّ القرآن ( أعلاه لمثمر ، وأسفله لمغدق ، وأنّه يعلو وما يعلى ).

التفسير في مختلف الاتجاهات

في القرن الثالث الهجري - عندما قطعت العلوم الإسلامية أشواطاً بعيدة ، ووصلت إلى مراحل عالية من النضج والرقي - حدث في علم التفسير تطوّر ملموس ، فإنّه قبل هذه الفترة كان التفسير منحصراً بنقل أحاديث مروية عن النبي صلی اللّه علیه و آله أو آراء بعض الصحابة والتابعين وأحياناً بعض أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام ، أمّا في هذا القرآن وما بعده فقد أدخل كل ذي اختصاص المباحث العائدة إلى موضوع اختصاصه ، في التفسير ، بل ربّما لا يكتب بعضهم إلاّ ما يدخل في إطار العلم الذي أصبح له اليد الطولى فيه.

فأعلام الأدب العربي خصصوا كتبهم التي تتناول القرآن بمباحث الاعراب واللغة والاشتقاق ، كما صنع الزجاج والواحدي مؤلّف كتاب « البسيط » وأبو حيّان مؤلّف كتاب « البحر والنهر ».

وشيوخ البلاغة اهتموا بصورة خاصّة بما يتعلّق بفصاحة القرآن وأسراره البلاغية

ص: 24


1- مجمع البيان ، ج 10 ، ص 387.

التي كانت العرب تدركها بفطرتها السليمة ، وذوقها المرهف ، وحاول هؤلاء الشيوخ إثبات إعجاز القرآن من هذه الزاوية التي تعود إلى اللفظ والتركيب. ومن باب المثال نذكر منهم الزمخشري وكتابه « الكشاف ».

والفلاسفة والمتكلّمون والمتصوفة أطالوا الكلام في الآيات التي توافق اتجاههم الفكري ولم يهتموا اهتماماً كبيراً بالجوانب الاُخرى من المباحث التفسيرية ، بل نرى في كثير من كتاباتهم أنّهم أوّلوا بعض الآيات تأويلات بعيدة لا يحتملها الذوق الخالي عن المسبقات الذهنية الفلسفية والكلامية والصوفية ، وذلك كما صنع الفخر الرازي في كتابه « مفاتيح الغيب » ومحيي الدين ابن العربي في التفسير المنسوب إليه ، وعبد الرزاق الكاشاني في كتابه « تأويل الآيات » وقبلهم اخوان الصفا في رسائلهم المشهورة.

والفقهاء توفروا في تفاسيرهم على آيات الأحكام فأشبعوها بحثاً ودراسة ، ومرّوا على بقية الآيات مروراً سريعاً كما صنع القرطبي في تفسيره ، بل خص جماعة من الفقهاء كتبهم بتفسير آيات الأحكام فقط ولم يتناولوا بقية الآيات أصلا كالجصاص والفاضل المقداد والمقدس الأردبيلي والشيخ أحمد الجزائري.

وجماعة آخرون خدموا القرآن بجمع قصصه وما يتعلّق بأسباب نزول الآيات والقراءات واختلاف القرّاء والقواعد التجويدية ، كالواحدي في كتابه « أسباب النزول » والداني في كتابه « التيسير » والجزري في « المقدمة الجزرية » والسجاوندي في كتابه « الوقوف » وغيرهم.

وقد خطا فريق من المفسّرين خطوات أوسع ، فحاولوا التوفّر على كل هذه الأبحاث ودرجها بصورة مختصرة في تفاسيرهم ، ومن هؤلاء الشيخ الطوسي في « التبيان » والطبرسي في « مجمع البيان » والنيسابوري في « غرائب القرآن » والآلوسي في « روح البيان ».

المنهج الصحيح في التفسير
اشارة

المفسّر الحقيقي هو الذي يتجرّد عن ميوله الخاصّة ، وعقائده الشخصية تجرّداً

ص: 25

كاملاً ويعرض آراءه على الآيات القرآنية لا الآيات على ما يعتقده.

والطريق المفيد لتفسير القرآن ، أن لا يروم المفسّر ، تفسير كتاب اللّه سبحانه وقلبه ممتلئ بآراء وأفكار تخصّه ، ولا يتقدم إليه باحثاً عمّا قد يؤيد آراءه وأفكاره بل أن يتقدم إليه ليكتشف مقاصده ومراميه ، فإنّ العقيدة التي يمتلئ بها الشخص تملك عليه كل تفكيره ، ولا تترك له سبيلا إلى المقاصد التي يستهدفها الكتاب.

إنّ أحسن المناهج المتّبعة في التفسير ، عرض بعض الآيات على بعضها والاستمداد من الأحاديث الإسلامية الصحيحة لاستخراج المعاني والمفاهيم القرآنية استخراجاً صحيحاً. فيجب لاتّباع الطريقة المستقيمة في التفسير مراعاة الشرطين التاليين :

1. تفسير القرآن بالقرآن :

إنّ القرآن الكريم يؤكد بأنّه تبيان لكل شيء حيث يقول : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ( النحل : 89 ) ، فالقرآن حيث يكون موضّحاً لكل شيء كما هو مصرّح في هذه الآية ، فهو موضّح لنفسه أيضاً ، إذ لا معنى لأن يكون القرآن تبياناً لكل شيء ولا يكون تبياناً لنفسه فلابد أن يوضح أيضاً ما يبدو أنّه غامض في نفسه ، ومعنى هذا ، أنّه يمكن استيضاح بعض الآيات لفهم المراد من البعض الآخر.

القرآن كلّه « هدى » و « بيّنة » و « فرقان » و « نور » كما في قوله تعالي ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) ( البقرة : 185 ) وقوله تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) ( النساء : 174 ).

والكتاب الذي يحتوي على هذه المزايا لا محيص من الاعتراف بأنّه يرفع عن نفسه ما يظن فيه من الالتباس والغموض ، ذلك لأنّه لا يمكن أن يكون كتاباً فارقاً بين الحق والباطل ، ونوراً هادياً للبشرية ، وبرهاناً مرشداً إلى ما فيه الصواب ثم يكون في جملة من آياته تعقيد يتيه الانسان في فهمه والتوصل إلى مفاهيمه. وعليه يجب الرجوع إلى الآيات نفسها لفهم ما اُشكل من الآيات الاُخرى التي تشبهها.

ص: 26

قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « إنّ القرآن يصدق بعضه بعضاً ».

وقال منعاً لحشر الآراء والنظريات الشخصية في التفسير وحملها على الآيات حملاً : « من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار » (1).

انّ تفسير القرآن الكريم بعضه ببعض ، وعرض الآيات على ما يشبهها في المنطوق أو الهدف ، هو الطريقة المأثورة عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام فإنّ الدقة في الأحاديث التفسيرية المروية عن الأئمة تثبت بوضوح ما نقول ، وتدل على أنّ هذا المنهج كان المنهج المحبّب إليهم في إيضاح النصوص القرآنية لتلامذة مدرستهم.

إنّ الاحاديث التفسيرية المروية عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام تدلّ دلالة واضحة على أنّهم استعانوا بنفس الآيات وعرض بعضها على بعض ، في تفسيرها وبيان معانيها وإيضاح مداليلها ومفاهيمها ولم يتصدوا في وقت من الأوقات لحمل آرائهم الشخصية على الآيات الكريمة حملاً ، بل استنتجوا من مقارنة الجمل والكلمات والألفاظ الموجودة في بعض الآيات استيضاح آيات اُخرى مشابهة لها في المنطوق أو المفهوم.

يقول علي علیه السلام في كلام له يصف فيه القرآن : « كتاب اللّه تبصرون به وتنطقون به وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف في اللّه ولا يخالف بمصاحبه عن اللّه » (2).

ولا بأس أن نقدم هنا نموذجاً من تفسير القرآن بعضه ببعض ليرى القارئ الكريم كيف يمكن رفع الالتباس عن الآيات بهذه الطريقة :

يقول تعالى في سورة الشعراء - 173 في قوم لوط : ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ المُنذَرِينَ ) أنّ هذه الآية واضحة كل الوضوح من جهة المفهوم ولكن فيها غموض من جهة المصداق ، فإنّ الانسان يتحيّر من المعنى المراد من المطر السوء ، إلاّ أنّ الآية

ص: 27


1- حديث متفق عليه بين الفريقين.
2- نهج البلاغه ، ج 2 ، ص 22 ، الخطبة 129.

74 من سورة الحجر ، تبيّن هذا المعنى عندما تقول : ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ) .

إنّ اتّباع هذه الطريقة يكشف كثيراً من الحقائق الخفية ويلقي أضواء على ما اُبهم من الآيات ، شريطة أن يجعل الإنسان الصبر على البحث ، والدقة الكاملة والتأنّي في إصدار الحكم ، رائداً له.

2. على ضوء الأحاديث الإسلامية الصحيحة :

إنّ بعض الآيات تصرح بأنّ النبي الكريم صلی اللّه علیه و آله هو المبيّن للقرآن والمعلّم لآياته ، فيقول تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل : 44 ) ويقول : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ) ( الجمعة : 2 ).

من هاتين الآيتين نعرف أنّ ما اُبهم من القرآن لمصالح لا نعلمها نحن ، يجب الرجوع للكشف عن غوامضها إلى النبي وأهل بيته الذين هم عدل القرآن بشهادة حديث الثقلين المتفق على روايته عن الرسول صلی اللّه علیه و آله .

ولابد هنا أن نلفت الأنظار إلى أهمية معرفة الأحاديث الصحيحة ، والتمييز بينها وبين الأحاديث غير الصحيحة ، وأنّه لا يمكن الاعتماد على ما نقل عن الصحابة والتابعين في التفسير بصورة مرسلة غير مسندة ، بل يجب التثبت فيها والتأكد من أنّها واجدة لشرائط الحجية التي هي مذكورة في محالها من مباحث علوم الحديث ، وإلاّ فلا يحسن الاستناد إليها في كشف ما اُبهم من القرآن ، بسبب بعد العهد من عصر الوحي أو كون الآيات نزلت مجملة كذلك لمصالح خاصة ليس هنا محل تفصيلها (1).

ولقد أثرت عن أهل البيت علیهم السلام في هذا المجال أحاديث لوحظ في أكثرها جانب التربية والتعليم والمحاولة لتقريب استفادة المعاني والنكات إلى الأذهان ، ( من

ص: 28


1- مثل الآيات التي ذكرت فيها الصلاة والصوم والزكاة والحج و ...

دون حشر رأي خاص فيها وحمله على الذي يستعرضه ) بتدبّر ودقة ، وهذا موضوع يتضح جلياً لمن أمعن النظر في تلك الأحاديث التفسيرية. وهذه الأحاديث لها قيمتها الخاصة وإن لم يصح إسناد بعضها ، لمجانبتها عن التفسير التعبدي ومحاولتها التعليم وإرشاد القارئ إلى كيفية استفادة المعاني من الآية نفسها من دون إستناد إلى شيء آخر.

تأثير الحضارة الغربية في المنهج التفسيري

لقد أثّرت ترجمة الفلسفة اليونانية وعلومها إلى العربية في فهم معاني الآيات والمفاهيم القرآنية تأثيراً بعيد المدى ، فقد ادخلت في التفسير جملة من المسائل الفلسفية والطبيعية التي لا تمت إليه بصلة ، وحملت عليه حملاً لا يمكن تقبّلها لو تجردنا عن الاتجاه الفلسفي اليوناني الوافد.

انّ بعض المفسّرين أوّلوا كثيراً من الآيات حسب المفاهيم الفلسفية الوافدة من المشائيين والاشراقيين وعلى ضوء القواعد البطليموسية في الهيئة القديمة وعلم الفلك ، وللتوفيق بين هذه الآراء والآيات القرآنية والأحاديث التفسيرية ، تشبّثوا بنظريات بعيدة كل البعد عن السياق والمفهوم القرآني ، وكانت محاولتهم فاشلة ، بعد تبدّل النظريات العلمية والمكتشفات التجريبية.

وقد واجه القرآن هذه المشكلة أيضاً بل أعمق منها بكثير عندما وسّعت اُوربا الخطوات إلى المدنية الحاضرة وكانت لها آراء حديثة في النظريات الفلكية والطبيعية والرياضية وغيرها وسخّرت بمكتشفاتها العلمية الجديدة البحار والوديان ، وراحت لتسيطر على ما في أجواء السماء.

وانتقل كثير من هذه النظريات الحديثة إلى الشرق ممزوجاً بشيء من سوء الظن بالنسبة إلى المسائل الدينية والاُصول المذهبية ، ذلك لأنّ اُوربا اتخذت التجربة والحس قاعدة أساسية لعلومها ، وأهملت إهمالاً كليّاً كل ما يتعلّق بما وراء الطبيعة وربّما عملت على إنكارها وإبادتها وإبعادها عن المجادلات العلمية.

ص: 29

انّ وفود هذا النوع من الفكر المزيج بسوء الظن بالمسائل الغيبية والمعارف الإلهية ، دعا البعض إلى الابتعاد عن الدين ، والالحاد فيه ، كما دعا البعض الآخر إلى تأويل الآيات بما يوافق الاتجاه الفكري المعاصر ، وآل بهم الأمر إلى أن يأوّلوا الآيات المصرّحه بمعاجز الأنبياء ، والروح ، والجن ، والبرزخ ، بتأويل يوافق الاُسس المادية والطبيعية (1).

كما أنّ تقدم العلوم الطبيعية في مجالات مختلفة ، دفع بعض الباحثين إلى أن يفرطوا في تأويل الآيات حسب الاُسس الطبيعية والنواميس الكونية ، كأنّ القرآن كتاب في الكيمياء والفيزياء وليس له أهداف اُخرى.

وفي مطاوي بعض الكتب التفسيرية المؤلّفة في هذا القرن ، نرى الاتّجاه العلمي والفكري الغربي بوضوح ، في عرض المسائل القرآنية وتحليلها ، وهي تحاول بكل ما تملك من القوى أن توفق بين المفاهيم القرآنية الاجتماعية والأخلاقية ، وبين النظريات الغربية ، كأنّها كتبت للتوفيق بين المدرسة الإلهية والمدرسة الاُوروبية المعاصرة.

أنّ هذا الفريق من الباحثين جلبتهم العقيدة الدينية بالقرآن الكريم وتقديسه والإذعان به ، وانجرفوا من جهة اُخرى فى تيار المدنية الغربية المبنية على أساس إنكار المقدسات والمعنويات أو إرضاء لميولهم الخاصة نحو هذه المدنية ، عملوا جادين في تأويل الآيات بالطريقة التي ذكرناها.

نزول القرآن نجوماً

لا شك أنّ الآيات القرآنية نزلت تدريجياً ، على قلب الرسول صلی اللّه علیه و آله طيلة ثلاث وعشرين سنة ، ولا نريد في هذا المجال ، الحديث عن علة نزول القرآن هكذا ، لأنّه

ص: 30


1- هذه الظاهرة المادية تبرز بوضوح في تفسير السيد أحمد خان الهندي والطنطاوي وفي « المنار » وتلامذة مدرسته قليلاً.

تحدث هو عن هذا في بعض الآيات (1).

وإنّما الذي يهمّنا الحديث عنه هنا هو : أنّ القرآن لم يكن كتاباً من صنع البشر يتكوّن من أبواب وفصول ويبحث في كل موضوع عن نقطة خاصة ، وإنّما هو كتاب سماوي أنزله اللّه تعالى لإرشاد البشر إلى المبدأ والمعاد والتكامل الروحي والجسمي ، ولا يحتاج مثل هذا الكتاب إلى التنظيم والالتزامات المتبعة في المؤلّفات الاُخرى ولأجل ذلك فله خصائص لا توجد في غيره ونشير إلى بعضها فيما يلي :

1. تنتقل الآيات من موضوع إلى موضوع آخر لمناسبات تستدعي الانتقال إذ ربّما تذكر عدة مواضيع في سورة واحدة ، هدفها الوعظ ، والإرشاد ، وإيقاظ الضمير ، والعطف نحو العقل والحكمة ، فجاءت تلكم المواضيع واحدة بعد اُخرى ، يجمعها ذلك الهدف الخاص ، ولكن يسبق إلى أذهان بعض أنّه لا ربط وثيق بينها ، إلاّ أنّه يجد عند الدقة والتدبّر ، نوعاً خاصاً من الارتباط الذي يسلك عقودها في سلك واحد ووجود هذا القسم من الآيات الكثيرة ، من الوفرة بحيث يغنينا عن التمثيل لها هنا.

2. أهمية توجيه الفكر الإنساني ، وفطرته نحو الهدى والحق من جانب وإيقاظ الضمائر الميتة الكامنة في نفوس مريضة من جانب آخر ، تستدعي تكرار بعض الموضوعات في مناسبات شتى ، والعود إليها بمختلف الأساليب البيانية ، وهذا في تكرار الخطابات من الأهمية بمكان وهو من المحسنات التي لابد منها في الكلام الموجه إلى الناس بشكل عام.

مثلاً أنّنا نرى القرآن الكريم يكرّر في مناسبات شتى موضوع الاعتبار من حياة الاُمم السالفة والملوك والجبابرة والطغاة الماضين كما أنّه يذكر موضوع : ( سِيرُوا فِي الأَرْضِ ) في أكثر من مناسبة واحدة ، وفلسفة هذا التكرار والعود إلى الموضوع مرّة بعد اُخرى هي ما ذكرناه.

ص: 31


1- ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان - 32 ).

3. ربّما يتحدث القرآن الكريم في سورة عن جانب خاص من جوانب قصة أو موضوع متعدد الجوانب ، واسع الأطراف لتعلّق ذاك الجانب الخاص فقط بما يقصده من الكلام دون سائر جزئياتها وتفاصيلها ، ثم يعود في سورة اُخرى إلى تلك القصة أو ذلك الموضوع ليذكرها بتفاصيلها وجزئياتها. وأكثر ما نشاهد هذا في قصص الاُمم الماضية للاعتبار بها ، وهذه طريقة ضرورية لكتاب اُنزل لهداية الناس وانتشالهم من الضلال.

4. يتبع القرآن طريقة التدرّج ، في بيان مفاهيمه العقلية ومعارفه التربوية فيستدل مثلاً على مفهوم من مفاهيمه في بعض السور باستدلال ، ثم يعود إلى استدلال آخر لنفس المفهوم في سورة اُخرى. وبهذا توزع الأدلّة في عدة أمكنة وتذكر حسب المناسبات التي تقتضي ذلك.

مثلاً أنّ موضوع المعاد والرجوع إلى حياة جديدة من المسائل الإسلامية والقرآنية المهمة التي ركّز على إثباتها القرآن ، فاستدل له بأدلّة ستة (1) ولكنّها موزّعة ، لكل واحدة

ص: 32


1- انّ الفكرة تتضح أبعادها ، وتنكشف جوانبها ، إذا تعددت الاستدلالات عليها من طرق شتى ، والمثال على ذلك حديث البعث والمعاد في القرآن الكريم ، فقد استدل القرآن على إمكان وقوعه بطرق ستة ، ونحن نذكرها في المقام على وجه الاجمال ونكتفي في بيان كل طريق ، بآية واحدة ، مع كثرتها في كل باب : 1- الاستدلال بعموم قدرته على كل شيء كما في قوله سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( (الأحقاف - 33) . 2- قياس الاعادة على الابتداء كما في قوله سبحانه: (مَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) الأنبياء - 104). 3- الاستدلال على امكان احياء الموتى، باحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات كما في قوله سبحانه: ﴿وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) (الروم - (19). 4- قياس قدرة الاعادة على قدرة اخراج النار من الشجر الأخضر كما في قوله سبحانه: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (يس: 79 - 80) وسيوافيك في بحث المعاد أنّ للآية معنى آخر ألطف بكثير مما ذكره المفسرون، ورائدنا فيه التدبر في ذيل الآية، وما كشفه العلم الحديث في حقيقة الحرارة الكامنة في الأشجار وحقيقة انطلاقها منها عند الاحتراق. 5- الاستدلال بالوقوع على الامكان فإنّ أدل دليل على امكان الشيء وقوعه ولأجل ذلك نقل سبحانه قصة بقرة بني اسرائيل (البقرة 67-73) ، وحديث عزير (البقرة - 259). 6 - الاستدلال ببعض المنامات الطويلة التي امتدت ثلاثمائة سنين فإن النوم أخو الموت ولا سيما الطويل منه كما أنّ القيام منه يشبه تجدد الحياة وتطورها.

منها في مكانها نكتة خاصة.

* * *

هذه الخصائص القرآنية التي استعرضنا بعضها ، تدفعنا إلى أن نشبّه القرآن الكريم بحديقة غنّاء مليئة بالأزهار الملوّنة ، والورود المنوّعة ، وقد وزعت توزيعاً طبيعياً جميلاً تأخذ بالأبصار ، فهي بالرغم من أنّها موزّعة إلاّ أنّ فيها طرافة وظرافة ، لأنّ كل واحد منها وضع في مكانه اللائق به.

الجمود فى التفسير

انّ استعراض كتب التفسير وملاحظتها بشيء من الإمعان ، يوصلنا إلى حقيقة غير خافية ، وهي : أنّ علماء الإسلام مع شدّة اهتمامهم بالتفسير وفهم الآيات والكشف عن معانيها ، لم تتطور مؤلّفاتهم التفسيرية بالقدر الذي يجب أن تتطور طيلة القرون الأربع عشر الماضية.

فمع غض النظر عن طائفة من التفاسير المهمة المعاصرة ، نرى أنّ التفسير لم يتم ولم يتكامل عند السنّة والشيعة منذ تفسير « الطبري » إلى « المنار » وتفسير « التبيان » إلى « الميزان ».

ومن العوامل التي سبّبت الجمود المذكور ، أنّ التفاسير سارت على وتيرة واحدة في تفسير القرآن سورة فسورة ، ففسّروها من البدء إلى الختم أو فسّروا بعضها على

ص: 33

الترتيب المذكور ، ولم يهتمّوا في كتابة التفسير بالتفسير الموضوعي (1) الذي يقتضي نزول الآيات نجوماً وتوزع الآيات الراجعة إلى أكثر الموضوعات في أمكنة وسور القرآن.

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم

وما ذكرنا حول نزول القرآن التدريجي وألمعنا إلى ما فيه من الخصائص يقتضي أن يفسر القرآن أيضاً حسب الموضوع إلى جانب تفسيره على ترتيب السور ، فتجمع آيات كل موضوع في مكان وتفسر مجموعتها لئلاّ تتشتت الجوانب المختلفة.

مثلاً المفسر الذي يحاول التعمّق في الحديث عن السماء والأرض على ضوء القرآن الكريم ، أو يريد أن يبحث بحثاً مستوفى عن المعاد ، أو يستعرض قصص بني إسرائيل ، أو يحكم في أفعال الإنسان من جهة الجبر والاختيار ، أو يكشف عن المعارف الإسلامية المتعلّقة بأفعال اللّه تعالى من قبيل الإرادة والهداية والضلال والقضاء والقدر ... لابد أن يتبع الطريقة الموضوعية التي ذكرناها ليتمكن من جمع أطراف الموضوع جمعاً كاملاً شاملاً.

من جملة الأسباب التي دعت إلى ظهور عقائد مختلفة بين المسلمين ، وتشبّث كل صاحب عقيدة بطائفة من الآيات ، أنّهم وجهوا اهتمامهم إلى آيات خاصة لتركيز معتقداتهم ، وأهملوا الآيات التي تكشف لهم آفاقاً اُخرى ، وتوضح لهم النقاط التي زلّوا فيها ، ولو أنّهم كانوا يلاحظون في كل مسألة من المسائل العقائدية الآيات بمجموعها لدرأوا عن أنفسهم الوقوع في هذه المهاوي السحيقة.

ومن باب المثال نذكر بهذا الصدد أصحاب مذهب الجبر في أفعال الانسان أو مذهب التفويض فيها فإنّهم ابتلوا بما ذكرناه وخبطوا خبط عشواء في فهم المقاصد الإلهية وتفسيرها.

ص: 34


1- نريد من « التفسير الموضوعي » تفسير القرآن على حسب الموضوعات التي وردت فيه وبحث القرآن في مواضع مختلفة مقابل تفسيره على حسب السور والآيات.

أجل يمكن القول بأنّ العلاّمة المجلسي هو أوّل من استعمل إجمالاً هذه الطريقة ( التفسير حسب الموضوع ) ، فإنّه في كتابه « بحار الأنوار » جمع الآيات المربوطة بكل موضوع في أوّل الأبواب ، وفسّرها تفسيراً سريعاً بلا استنتاج منه. وهذه الخطوة القصيرة خطوة جليلة في عالم التفسير نأسف على أنّ المفسرين بعده لم يسيروا على ضوئها ، ولا يمكن تفسير القرآن بالقرآن ، والاستفادة الكاملة منه وتلقّي مفاهيمه العالية الصحيحة إلاّ بالمنهج المذكور.

أوّليات الطريقة الموضوعية في التفسير

لا شك أنّ الطريقة الموضوعية فى التفسير التي نتحدث عنها في هذا المجال طريقة ، لم ينهجها علماء التفسير حتى الآن ، كما قلناه وعليه نعتقد أنّ فيها كثيراً من الصعوبات التي تعترض سيرها ، فإنّ تنظيم الآيات وتقسيمها حسب الموضوعات أمر لا يتم بعمل فردي ، بل لابد من لجنة تتولّى هذا العمل ، ويجب أن يكون أعضاء اللجنة اُناساً علماء لهم الخبرة الطويلة ، والاختصاص في الفروع العلمية المختلفة. وممارسة طويلة في الآيات القرآنية وفهم معانيها واستنباط مقاصدها ودرك مفاهيمها العالية.

ونقترح أن تتبع هذه اللجنة الإرشادات التالية :

1. تقرأ الآيات واحدة واحدة بدقة وإمعان لافرازها موضوعياً ، ثم يهيّأ فهرس دقيق للموضوعات الواردة في القرآن والمبحوث عنها في آياتها ليعلم بصورة مؤكدة عدد ما جاء فيها من المباحث المختلفة ، وما ورد في كل واحد منها ، من الآيات.

2. تهيّأ بطاقات خاصة بكل موضوع ، لتكتب فيها آياته. والأحسن في هذا أن تصور هذه البطاقات في عدة نسخ ، لتوضع في متناول أيدي الباحثين والمحقّقين ليقرأوها ثم يبدوا ملاحظاتهم وانتقاداتهم ، وبعد المداولة في شأنها من قبل العلماء ، تطبع بصورة نشرات حسب الحروف الهجائية وتوزّع في إطار واسع ليطّلع عليها المعنيون في

ص: 35

الأقطار.

3. وبعد أن تنتهي اللجنة من فهرسة الآيات كما ذكرناه ، يدعى كبار الشخصيات الإسلامية العلمية ليتولّى كل واحد منهم ، موضوعاً حسب اختصاصه ، فتقدم اللجنة لهم الموضوعات التي تم فهرستها ، ليختار هو الموضوع الذي جمعت آياته في البطاقات الخاصة به ، ويكتب حولها ما يرى من البحوث والدراسات.

والنتيجة الحاصلة من هذه الجهود المشتركة المبذولة من قبل كبار علماء الإسلام أنّه تكتب للقرآن الكريم دائرة معارف كبيرة ملؤها التحقيق والبحث العلمي لتبرز ما فيه من الحقائق التي لا زالت خفية حتى الآن.

انّ هذا العمل الجبار ( بالاضافة إلى ما يحتاج من ميزانية ضخمة ) رهن لجنة مركزية تكون حلقة وصل بين علماء الإسلام القاطنين في أقطار نائية بعيدة الأطراف فإنّه لا يتم عمل كبير كهذا العمل إلاّ باللجنة المركزية ، فهي التي تنتخب الأعضاء الذين يقومون بفهرسة الآيات ، وهي التي تصوّر البطاقات وتعرضها على الباحثين والناقدين وبعد التنسيق الدقيق تنشرها في نشرات متسلسلة ، وهي التي تتصل بالشخصيات العلمية لكتابة التفسير كما ذكرناه.

انّ هذا الاقتراح ربّما يكون كبيراً وغير قابل التنفيذ في رأي البعض ، إلاّ أنّه بسيط عند ذوي الهمم العالية والعاملين في حقول العلم والثقافة ، فقد قامت جمعيات دينية قبل هذا بأعمال مشابهة ، لكتبهم المنسوبة إلى السماء ، وكان جهدهم من الطرافة بحيث أظهر كتبهم المحرّفة بحلل زاهية تأخذ بالأبصار وتثير إعجاب القارئين لها.

ونحن نأمل أن يتصدى مراجع الدين وكبار العلماء لتحقيق هذه الاُمنية ، فيتداولوا بينهم الأمر لإزالة العوائق عن الطريق وتيسير المقدّمات الأوّلية وتعيين نقطة الانطلاق لهذا المشروع الديني العلمي.

ص: 36

منهجنا في هذا الكتاب

بعد أن أمضى مؤلف هذا الكتاب خمس عشرة (1) سنة في دراسة القرآن الكريم دراسة مستوعبة وكتابة تفاسير لبعض السور ، أجمع عزمه على كتابة نماذج من التفسير الموضوعي المقترح ، ليعبّد الطريق للمحققين الذين يحلو لهم السير في هذا السبيل ومن الطبيعي أنّ مثل هذا العمل الإسلامي الكبير خارج عن نطاق شخص واحد ، ويحتاج إلى ذوي الاختصاص من العلماء كما ذكر سابقاً ، ولكن بدأ به من زاوية ، كان المؤلف قد أشبعها بحثاً ودراسة وهيّأ موادها من ذي قبل.

انّه فكّر في نفسه ، ربّما لا يتحقق هذا الأمل الجديد ، أو لا يسعفه الأجل في أن يرى انجازه كما يتصوره ويود إنجازه ، فعزم على أن يخطو خطوة نحوه ورائده « الميسور لا يسقط بالمعسور » وعند ما يهيّئ اللّه تعالى جماعة من محققي الإسلام لهذا المشروع ، يمكنهم اعتبار هذا الكتاب جزءاً من دائرة معارف القرآن بعد سد ما يرون فيه من النقص الذي هو من لوازم عمل الفرد.

لقد اخترنا من بين الموضوعات الكثيرة التى ترجع إلى النبىّ الأكرم هذه المواضيع :

1. الإسلام شريعة عالمية لا إقليمية.

2. الخاتمية في الذكر الحكيم وأنّ الرسول الأعظم هو خاتم الأنبياء.

3. النبي الاُمّي في القرآن المجيد.

4. علم الغيب في الكتاب العزيز.

5. أسماء النبي وصفاته في القرآن العزيز.

ص: 37


1- بدأ المؤلف بالبحث عن خصوص هذا النمط من التفسير منذ عام 1388 ه بعد ما صرف شطراً من عمره في تفسيره على النمط الآخر أعني تفسير القرآن على حسب السور.

ولما خرج هذا الجزء إلى البياض ، عرضته على الاُستاذ العلاّمة ، المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي مؤلف الكتاب القيّم « الميزان في تفسير القرآن » وغيره من الآثار الخالدة ، فقدّره واستحسنه وشجعني على مواصلة العمل ، وتفضل بكلمة (1) سجلتها في صدر الكتاب لتبقى ذكرى خالدة من عواطفه الكريمة المبذولة لأحد تلامذة مدرسته وللاُستاذ - روحي فداه - منّي تحية عبقة وتمنيات خالصة.

وفي الختام لو ترتب ثواب على عملي الضئيل فإنّما أهديه :

إلى من أنا مدين له في كل شيء حتى في هذه الدراسات التي بين يديك.

إلى أوّل من فتح قلبي على أشعة نور القرآن وأرشد عقلي إلى الاهتداء بهداه.

إلى سيدي الوالد آية اللّه الشيخ محمد حسين السبحاني (2) تغمده اللّه برحمته واللّه ولي التوفيق ...

قم - إيران

جعفر السبحاني

20 جمادى الآخر 1393 ه

ص: 38


1- وقد أتتنا كتب ورسائل من الشخصيات العلمية بعد انتشار هذا الجزء لأوّل مرة نشرنا بعضها في مقدّمة الجزء الثاني وقد وافاك بعضها في أول هذا الجزء من هذه الطبعة.
2- لبّى دعوة ربّه ضحوة يوم الحادي عشر من شهر شوال عام 1392 ه ، سعيداً نقي الصحيفة ودفن في مقبرة العلماء بقم بعد أن شيّع جنازته الزكية حشد من العلماء وشيوخ الحوزه العلمية وقد حك على صخرة قبره هذان البيتان : انّ الذي صنع الجميل مخلّد *** لا سيما في العلم والعرفان فإذا انقضت أيام مدة عمره *** فجميل صنع المرء عمر ثان تجد ترجمته الضافية في مقدمة كتابه « نخبة الأزهار » بقلم العلاّمة الحجة السيد أحمد الأشكوري دام ظله ، رحم اللّه الماضين من علمائنا العاملين ووفقنا للاهتداء بهداهم والسير على ضوء تعاليمهم. واللّه خير موفق ومعين.

الفصل الأوّل: عالمية الإسلام على ضوء القرآن الكريم

اشارة

الحديث عن دعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله متعددة الجوانب ، واسع الأبعاد ، بعيد الأغوار ، وبالرغم من سعة مجالات القول ، وجوانب البحث فيها ، فانّنا نحاول بهذه النظرة الثاقبة الفاحصة ، أن نتحدث عن ناحية خاصة لدعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله وأنّها دعوة عالمية لا إقليمية ، وهي من أبرز الخطوط التي يستهدفها القرآن بشأن دعوته ورسالته.

نحن في رحاب القرآن الكريم ، نسمع نداءه العالمي ، وإن فصلتنا عنه حقب بعيدة من الزمان ، ونعي صراحته ومجاهرته : بأنّ الإسلام عقيدة لا ينفرد بها شعب أو مجتمع بعينه ، ولا يختص ببلد ، أو بلاد معينة ، بل هو دين ذو قوانين تسري على الأفراد على اختلافهم : في العنصر ، والوطن ، واللسان ، ولا يفترض لنفوذه حاجزاً بين بني الانسان ، ولا يعترف بأية فواصل وتحديدات جنسية ، أو اقليمية.

فهذا تاريخ دعوته ، وسيرته في نشر دينه ، نتطلّع إليه بشوق ولهفة ، حيث يبدد الدياجير من أمام أبصارنا ، وبصيرتنا ، ويقرّب لنا الواقع دونما تكلّف ، أو اصطناع.

ص: 39

كانت دعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله في بدء أمرها تدور بين أهله وعشيرته ، ممتثلاً لما أمره اللّه سبحانه بذلك ، بقوله : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء - 214 ) ، والسر في ذلك أنّ النفوذ في الآل والعشيرة ألزم وأسهل من الأجانب والأباعد.

مضى رسول اللّه في دعوته السرية ثلاث سنين ، وهو ينذر طيلة تلك المدة قومه وعشيرته ، ويؤمي إلى عموم دعوته تارة ، ويجاهر بذلك اُخرى ، ويستنتج أنّ دعوته وشريعته عالمية ، سوف تعم العالم كله ، ولا تحبس بإطار خاص.

قال صلی اللّه علیه و آله في خطاب ألقاه في داره ، حينما وفد إليه أعمامه وأخواله ومن كانت له به صلة :

« واللّه الذي لا إله إلاّ هو ، أنّي رسول اللّه إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة (1) واللّه لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ، وأنّها الجنّة أبداً ، والنار أبداً » (2).

ثم إنّه كان ينتهز الفرص ، التي تسنح له للاجهار بدعوته ، إلى أن أمره تعالى بأن يصدع بما اُمر به ، وأن ينادي الناس عامّة باتباع دينه وشريعته ، امتثالاً لما أمره سبحانه به ، بقوله :

( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ) ( الحجر - 94 ).

فصعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الصفا وهو يهتف ويقول : واصباحاه ! فاجتمع الناس حوله ، فقال : إن أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم ، أكنتم تكذّبوني ؟ قالوا : ما جرّبنا عليك كذباً ، فقال : يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار ، فإنّي لا اُغني عنكم من اللّه شيئاً ، انّي لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد ، إنّما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو ، فانطلق يريد أهله فخشى أن

ص: 40


1- أليس هذا تصريحاً بعمومية رسالته في بدء دعوته.
2- الكامل لابن الأثير ، ج 2 ، ص 41.

يسبقوه إلى أهله ، فجعل يقول : يا صباحاه يا صباحاه اوتيتم اوتيتم (1).

هكذا بدأت الدعوة الإسلامية ، وهو صلی اللّه علیه و آله يخطو خطوات قصيرة ، يجابه ضوضاء الالحاد بحكمه وعظاته حتى دخل في الإسلام بعض الشخصيات البارزة ممن كانت لهم مكانة مرموقة بين الناس ، وانجذبت إليه قلوب كثير من الشبان وأصبحت أفئدتهم تهوى إليه ، غير أنّ الجو المفعم بالاحن والضغائن عرقل خطا دعوته ، وتفاقمت جرائم قريش نحوه ، فأجمعوا أمرهم على أن يخنقوا نداءه ، بإنهاء حياته وإطفاء نوره ، حيث اجتمع سادتهم في دار الندوة ، وأجمعوا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً ، ويسلّموا له سيفاً صارماً ، وأوصوا هؤلاء الشباب بأن يضربوه ضربة رجل واحد ، حتى يموت ، فيستريحوا منه ، وبذلك يتفرّق دمه في القبائل جميعاً ، ولا يقدر بنو هاشم ، على حربهم.

ولكنّ اللّه ردّ كيدهم ، وصدّهم عن ذلك ، وخيّب حيلتهم ، وأخبر الرسول صلی اللّه علیه و آله عن المكيدة الداهمة ، فغادر مكة متوجهاً إلى « يثرب » حتى دخلها ، فاجتمع حوله رجال من الأوس والخزرج ، وبايعوه ، ووعدوه بالنصر ، والمؤازرة والحراسة.

والرسول صلی اللّه علیه و آله وإن غادر مكة ، وترك قومه ، إلاّ أنّ قومه لم يتركوه ، بل أجّجوا نار الشحناء عليه ، ودارت بينهم وبين الرسول حروب دامية ، وحملات طاحنة ، وبذلت قريش آخر ما في وسعها ، ورمت كل ما في كنانتها ، وبالغت في تقويض الإسلام ، وهدم بنائه ، إلى أن دخل العام السادس ، من الهجرة ، فتعاهد الفريقان في أرض الحديبية على هدنة تدوم عشر سنوات ، بشروط خاصة.

هذا الصلح الذي تصالح به المسلمون في الحديبية ، انقلب الى فتح مبين للإسلام ، فانتهز الرسول صلی اللّه علیه و آله الفرصة لنشر دعوته في البلاد البعيدة ، فبعث سفراءه وفي أيدي كل واحد كتاب خاص إلى قيصر الروم ، وكسرى فارس ، وعظيم القبط ، وملك الحبشة ، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام ، وهوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة ،

ص: 41


1- السيرة الحلبية ، ج 1 ، ص 321 المقصود : هوجمتم من قبل العدو.

بل إلى رؤساء العرب ، وشيوخ القبائل ، والاساقفة ، والمرازبة ، والعمال ، يدعوهم إلى دين الإسلام ، الذي هو دين السلام ، ورسالته من اللّه وما اُنزل إليه من ربّه.

وهذه المكاتيب أول دليل على أنّ رسالته ، عالمية لا تحدد بحد ، بل تجعل الأرض كلها مجالاً لإقامة هذا الدين ، ودونك نماذج ممّا ورد في تلكم الرسائل :

1. كتب إلى كسرى ملك فارس :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من محمد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس : سلام على من اتبع الهدى ... أدعوك بدعاية اللّه فإنّي أنا رسول اللّه إلى الناس كافة ، لاُنذر من كان حيّاً ، ويحق القول على الكافرين ، أسلم تسلم ، فإن أبيت فعليك إثم المجوس » (1).

2. وكتب صلی اللّه علیه و آله إلى قيصر ملك الروم :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم ، إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتبع الهدى ، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، يؤتك اللّه أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الاريسيين » (2).

وما ذكرناه نماذج من رسائله ، وكتاباته الابلاغية ، وفيه وفي غيره مصارحة شديدة بأنّه رسول اللّه إلى العرب والعجم ، وإلى الناس كلهم ، من غير فرق بين اللون والجنس ، والعنصر والوطن ، ويمتد شعاع رسالته بامتداد الحضارة ، ووجود الانسان ، وأنّه صلی اللّه علیه و آله يكافح كل مبدأ يضاد دينه ، وكل رساله تغاير رسالته ، وقد جرى الرسول صلی اللّه علیه و آله عليه طيلة حياته الرسالية ، حتى التحق بالرفيق الأعلى.

يقول السير توماس ارنولد : « انّ هذه الكتب قد بدت في نظر من اُرسلت إليهم ضرباً من الخرق ، فقد برهنت الأيام على أنّها لم تكن صادرة عن حماسة جوفاء وتدل هذه الكتب دلالة أكثر وضوحاً وأشد صراحة على ما تردد ذكره في القرآن من مطالبة الناس جميعاً بقبول الإسلام ».

ص: 42


1- تاريخ الطبري ، ج 2 ، ص 295 ، تاريخ اليعقوبي ، ج 2 ، ص 61 وغيرهما.
2- السيره الحلبية ، ج 2 ، ص 275 ، مسند أحمد ، ج 1 ، ص 263 وغيرهما.

فقد قال اللّه تعالى في سورة ص 87 - 88 : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) .

وفي سورة يس 69 - 70 : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) .

وفي سورة الفرقان 1 : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) .

وقال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) سورة سبأ : 28.

وقال سبحانه : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) . سورة الأعراف 158.

وقال سبحانه : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) . سورة آل عمران : 85.

وقال سبحانه : ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) . سورة النساء : 125.

وقال سبحانه : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) . التوبة : 29 - 33 (1).

ص: 43


1- الدعوة إلى الإسلام ، ص 34.

تأثير تلكم الكتب :

وممّا يدل على أنّ هذه الكتب لم تصدر عن حماسة جوفاء ، أنّه قد كان لها أثر بديع في أكثر هذه الأوساط ، إذ تجاوبت معها شعور كثير منهم ، فنبهتهم من رقدتهم ، وانهضتهم من كبوتهم ، فأصبحوا متفكّرين من ملبّ لدعوته ، وخاضع لرسالته ، ومؤمن بما أتاه ، إلى معظّم لرسله ، ومجيز لهم ، ومكبّر إيّاه بإرسال التحف الثمينة ، ودونك صورة مصغّرة ممّا أثارته تلكم الكتب في هذه البيئات ، وقد روى أصحاب السير والتاريخ أُموراً كثيرة يطول بنا المقام بذكرها :

قال قيصر لأخيه - حين أمره برمي الكتاب - : أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر ، وقال لأبي سفيان : إن كان ما تقول حقّاً فإنّه نبي ، ليبلغنّ ملكه ما تحتي قدمي.

وخرج ضغاطر أسقف الروم بعد قراءة الكتاب ، إلى الكنيسة وقال في حشد من الناس : يا معشر الروم أنّه قد جاءنا كتاب أحمد ، يدعونا إلى اللّه وأنّي أشهد أن لا إلهَ إلاّ اللّه وأنّ أحمد رسول اللّه.

وقال المقوقس : إنّي قد نظرت في أمر هذا النبي ، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم أجده ساحراً ضالاّ ، ولا كاهناً كذّاباً.

وكتب فروة عامل قيصر بعمان إلى رسول اللّه كتاباً ، أظهر فيه إسلامه ، فلمّا اطّلع عليه قيصر أخذه واستتابه ، فأبى فأمر بقتله ، فقال حينما يقتل :

بلّغ سراة المسلمين بأنّني *** سلم لربّي أعظمي وبناني

وكتب هوذة بن علي ملك اليمامة إلى رسول اللّه : ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله.

ولبّي المنذر بن ساوى ملك البحرين دعوة الرسول وأظهر إسلامه.

وأجابه ملوك حمير ، وأساقفة نجران ، ولبّاه عمّال كسرى باليمن ، واقيال

ص: 44

حضرموت ، وملك ايلة ويهود مقنا بالإسلام ، أو بإعطاء الجزية.

وكتب النجاشي ملك الحبشة ، كتابه المعروف ، وأظهر إسلامه إلى درجة صلّى عليه النّبي صلی اللّه علیه و آله عندما بلغه موته (1).

هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير ، من تأثير دعوته العالمية ورسالته العامّة.

نعم قد شذ منهم كسرى - ومن لف لفه - وهو ذلك الملك الذي ورث السلطة والحكم عن أجداده من آل ساسان ، فأبى أن يكون تابعاً للعرب ، وخشى من هذا الدين على شخصه وملكه.

ولأجل ذلك لا تعجب إذا ثارت ثائرة كسرى ، فمزّق كتاب الرسول ، وأرسل إلى باذان ، عامله باليمن ، وكتب إليه : « ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين فليأتياني به » (2).

هذه صورة اجمالية من بدء دعوته إلى ختامها ، أتينا بها بصورة مصغّرة ، ليقف القارئ على أنّ دعوته لم تكن مقصورة على بلد خاص ، أو شعب خاص بل كانت عالمية غير محدودة ، وأنّ مرماه كان هو القضاء على جميع النزعات الاقليمية والمحلية والأديان السالفة وتذويبها في اطار رسالته العالمية الواسعة النطاق ، وأنّه صلی اللّه علیه و آله كان يصرّح بذلك في بدء دعوته ، وأثنائها ... ومختتم أمره.

النصوص القرآنية في عالمية رسالته :

هلم معنا نتلو عليك نصوص القرآن الدالّة على أنّ رسالته ، رسالة عالمية وأنّ دعوته لا تختص بإقليم خاص ، أو اُمّة معيّنة ، وإنّ مرماه هو إصلاح المجتمع البشري على وجه الاطلاق ، ويمكن الاستدلال على ذلك بوجوه :

ص: 45


1- راجع لمعرفة نصوص ما دار بينهم وبين الرسول صلی اللّه علیه و آله إلى كتاب « مكاتيب الرسول ».
2- الكامل ، ج 2 ، ص 81 ، السيرة الحلبية ، ج 3 ، ص 278 ، إلى غير ذلك.

الأوّل : انّ كثيراً من الآيات تصرّح بأنّ رسالته عالمية ، وأنّه رسول اللّه إلى الناس جميعاً ، وأنّ اللّه أرسله رحمة للعالمين ، وأنّه بشير ونذير للناس كافة ، وأنّه ينذر بقرآنه كل من بلغه كتابه وهتافه ، من غير فرق بين شخص وشخص ، أو عنصر وآخر ، ودونك بعض النصوص من هذا القسم :

1. ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف - 158 ).

2. ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ( سبأ - 28 ).

3. ( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ) ( النساء / 79 ).

4. ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء - 107 ).

5. ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان - 1 ).

6. ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ... ) ( الأنعام - 19 ).

- أي كل من بلغه القرآن ، ووصلت إليه هدايته في أقطار الأرض -.

7. ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( الصف - 9 ).

8. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ ... ) ( النساء - 170 ).

9. ( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) ( إبراهيم - 1 ).

10. ( هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران - 138 ).

وهذه الآيات ونظائرها ممّا لم ننقلها ، صريحة في أنّ هتاف النبي صلی اللّه علیه و آله لا يختص باُمّة دون اُمّة ، وأنّه بعث إلى الناس كافة مبشّراً ومنذراً لهم جميعاً.

الثاني : انّ القرآن كثيراً ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء ، وهذا دليل

ص: 46

واضح على أنّ هتافاته وتوجيهاته تعم الناس كافة ، ودونك نماذج من هذا القسم.

1. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة - 21 ).

2. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) ( البقرة - 168 ) إلى غير ذلك ...

فترى أنّه يخاطب الناس ، ويقول : يا أيّها الناس ... تصريحاً منه على أنّ رسالته السماوية إلى الناس كلهم ، لا إلى صنف خاص منهم.

فلو كان الإسلام ديناً اقليمياً ، ورسالته طائفية ، فلماذا تأتي هتافاته بلفظ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ؟!.

فقد تكرر هذا النداء في الكتاب ست عشرة مرة.

بل لماذا يخاطب أهل الكتاب ويناديهم بقوله ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ) ؟ فقد ورد هذا الخطاب في الذكر الحكيم اثنتي عشرة مرة.

وربّما يستدل في المقام بالخطابات الواردة في القرآن موجهة إلى بني آدم لكن الاستدلال بها لا يخلو من الاشكال ، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن ختم الدين والرسالة (1).

الثالث : انّ القرآن ربّما يأخذ العنوان العام موضوعاً لكثير من أحكامه ، من غير تقييد بلون ، أو عنصر ، أو شعب أرض خاصة ، وهذا يكشف عن أنّه بعث إلى إصلاح المجتمع البشري في مشارق الأرض ومغاربها ، وأنّ الرسالة التي اُلقيت على عاتقه لا تحدد بحد ، ودونك نماذج من هذا القسم :

1. ( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ( آل عمران - 97 ).

فقد أوجب حج البيت على الناس إذا استطاعوا إليه ، عرباً كانوا ، أم غير عرب ،

ص: 47


1- لاحظ الفصل الثاني - في هذا الكتاب - ص 113.

فلم يقل : لله على الاُمّة العربية - مثلاً - حج بيته.

2. ( وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ( الحج - 25 ).

3. ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( لقمان - 6 ). فالجملة الخبرية بمعنى الانشاء وتحريم الاشتراء ولذا استدل الفقهاء بها على حرمة كسب المغنيّات تبعاً للسنّة (1).

فذم سبحانه كل من اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل اللّه كائناً من كان إلى غير ذلك من الآيات.

الرابع : يقضي صريح القرآن بأنّ هدايته لا تختص بمجتمع خاص ، بل تعم كل من تظلّه السماء ، وتقلّه الأرض. ودونك بعضها :

1. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) ( النساء : 174 ).

2. ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ ... ) ( البقرة - 185 ).

3. ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الزمر : 27 ).

4. ( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) ( إبراهيم - 1 ).

أليست هذه الآيات صريحة في أنّ القرآن نور وهدى للناس كلّهم ، لا للعرب خاصة ، ومع ذلك كيف يمكن أن نحمل رسالته على أنّها مختصة باُمّة دون اُمّة ؟! هذا ونجد سبحانه يقول : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الجمعة : 3 ) وما المراد من ال : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ) - أي من المؤمنين - ؟ أليس المراد كل من جاء بعد

ص: 48


1- راجع المكاسب ، ص 38 ، للشيخ الأعظم الأنصاري.

الصحابة إلى يوم القيامة من العرب والعجم ؟ (1) فالآية دالة على عمومية الرسالة مضافاً إلى خاتميتها.

هذه جوانب تلقي ضوءاً على البحث ، وتهدف إلى أمر واحد : وهو أنّ رسالته ذات نزعة عالمية ، غير محدودة بحد ، فلا يحدها قطر ، ولا يقيّدها شيء آخر من ألوان التحديد والتقييد ، نعم مبدأ البرهان في كل واحد منها يختلف مع ما في الآخر - كما يظهر ذلك بالإمعان والتدبّر - (2).

البرهان على عمومية رسالته بوجه آخر :

وهناك لون آخر من البحث يتصل اتصالاً وثيقاً بطبيعة الإسلام ، وبفكرته الكلية ، عن الكون والحياة والإنسان ، ونظرته الوسيعة الثاقبة في التقنين والتشريع وإن شئت فاجعله خامس الوجوه.

بيانه : أنّ الحقائق الراهنة التي جاء بها الصادع بالحق ، في مختلف الأبواب والفصول ، لا تستهدف سوى تبنّي الواقع ، ولا تأخذ غيره دعامة ، ولا تخضع لشرط من الشرائط الزمانية إلاّ لنفس الأمر.

وإن شئت فقل : إنّ الإسلام لا يعتمد في أحكامه وتشريعاته وما يرجع إلى الانسان في معاشه ومعاده ، إلاّ على مقتضى الفطرة التي فطر عليها كلّ بني الإنسان والسائدة في كافة أفراده ، في عامة أقطار الأرض جميعاً ، وإذا كان الحكم والتشريع موضوعاً على طبق الفطرة الانسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد ، فلا وجه

ص: 49


1- مجمع البيان ، ج 5 ، ص 284.
2- هذه الوجوه الأربعة تختلف في طريق البرهنة على المطلب ، فقد استدل في الوجه الأوّل بتصريح القرآن على عموم رسالته ، واعتمد في الثانية على شمولية هتافات القرآن وعمومية خطاباته في الفروع والاُصول ، وفي ثالثها على أنّ القرآن كثيراً ما يتخذ العنوان العام لموضوع أحكامه ، وفي رابعها على نص القرآن بأنّ هدايته وانذاره لا يختص بشعب خاص.

لاختصاصه بإقليم دون إقليم ، أو بشعب دون شعب. (1)

ولا يجد الباحث - مهما اُوتي من مقدرة علمية كبيرة - في ما جاء به نبي الإسلام صلی اللّه علیه و آله ، على سعة نطاقه ، وبحثه في شتى الجهات ، ومختلف النقاط أىّ طابع إقليمي ، أو صبغة طائفية ، وتلك آية واضحة على أنّ دعوته دعوة عالمية لا تتحيز إلى فئة معيّنة ، ولا تنجرف إلى طائفة خاصة.

هذا هو الإسلام وتعاليمه القيّمة ومعارفه الاعتقادية ، وسننه التشريعية فأمعن فيها النظرة مرة بعد اُخرى ، فهل تجد فيه ما يشير إلى كونه ديناً إقليماً خاص ، أو شريعة لفئة محدودة ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم وأمارات ، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على خصوصيات بيئية ، أو ظروف محلية ، بحيث لو انقلبت تلكم الخصوصيات إلى غيرها ، أصبحت السنن والطقوس المعتمد عليها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، وصار النافع منها ضاراً ، فهل تجد أيّها الباحث في ما جاء به الإسلام شيئاً من تلكم الامارات.

هلم معي نحاسب بعض ما جاء به الإسلام في مجالات العلم والعمل ، ونضعها على طاولة الحساب ، فنكون على بصيرة كاملة في هذا الموضوع : فقبل كل شيء ، لاحظ كتاب اللّه العزيز ، ومعجزة الإسلام الخالدة ، فقد انبثق نوره منذ أربعة عشر قرناً ، حين كانت البشرية تسبح في ظلام دامس مخيف ، ضاعت فيه كرامة الانسان وحريته ، وساد العداء والتنازع بين الناس ، وكان نظام الغاب وحده ، مفزعاً للناس وملجأ إليهم.

وفي تلك الظروف جاء القرآن نوراً يستضيء به العالم ، ويعيد للانسان كرامته ومكانته وحريته ، مؤسّساً لمجتمع قائم على أساس وطيد من العدالة الاجتماعية ، سواء في ذلك انسان الجزيرة العربية أم غيرها.

هلم معي نستعرض تعاليمه ، فهل نرى آية من آياته الباهرة ، أو قانوناً من قوانينه ، أو حكمة من حكمه ومعارفه ، أو سننه من سنة ، أو فريضة من فرائضه تنفع في

ص: 50


1- سوف نرجع إليه في ختام البحث ، ونجعله دليلاً مستقلاً على عمومية رسالته.

مجتمع دون آخر ؟ تفيد في إقليم دون إقليم ؟ تبلغ بمجتمع خاص إلى قمّة الرقي والحضارة ، وتسف بجماعة اُخرى إلى هوة الضلال والجهل ؟!

ليت شعري ماذا يريد القائل من كلمته القارصة ، أو فريته الشانئة ؟ : « الإسلام دين طائفي ، أو مبدأ إصلاح إقليمي ، لا يصلح لعامة المجتمعات ، ولا يصلح لعامة القارات ، ولا تسعد به الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها ».

ليت شعري ماذا يريد منها ؟ أيريد معارفه العليا في باب الصانع وصفاته ، وما جاء في ذلك الباب من الحقائق الغيبية ، والكنوز العلمية ، التي لم تحم حولها فكرة انسان قبله ، ولم توجد في زبر الاوّلين مثلها ، أو شبهها.

فلو أراد ذلك ، فتلك فرية بيّنة ، إذ الإسلام قد أتى بفلسفة صحيحة وعرفان رصين وتوحيد خالص ، فيه دواء المجتمع البشري في الأقطار كلها.

ترى ويرى كل من له إلمام بالإسلام أنّه كافح كل لون من ألوان الشرك ، كافح عبدة الأصنام والأجرام السماوية ، كافح كل تعلّق بغيره سبحانه ، وتخضع لشيء دون الخالق ، وأنقذ المجتمع البشري من مخالب الشرك ، ومصائد الضلال ، ونهاه عن عبادة حجر لا يعقل أو شجر لا يفهم ، أو حيوان لا يدفع عن نفسه ، أو انسان محتاج مثله ، أو غيرها من الأرباب الكاذبة ، فأعاد للانسان كرامته وحريته ومكانته المرموقة سواء في ذلك انسان الجزيرة أم غيره.

أيحسب هذا القائل أنّ ذلك التوحيد ، وهذا العرفان مختصان بقوم دون قوم كيف ؟ فإذا كان النبي لا يستهدف سوى الواقع ولا يتبنّى غيره ، وبعبارة صحيحة : إذا كان لا يوحى إليه سوى الحقيقة المجردة عن شوب كذب ، فلا وجه لأن يختص باُمّة دون اُمّة.

ودونك سورة الحديد والآيات التي وقعت في صدرها ، فاقرأها بإمعان وتدبّر فهل يعلق الشك بضميرك الحر ، بأنّها تعاليم ومعارف تختص بمنطقة خاصة ولا تصلح للتطبيق في مناطق اُخرى ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في العقائد والمعارف.

أم يريد أنّ أحكام الإسلام وتشريعاته في العبادات والمعاملات والأخلاق

ص: 51

وغيرها ، قوانين إقليمية ، لا تصلح إلاّ لظروف خاصة ، ولا تفيد إلاّ في شبه الجزيرة العربية ، ولا يسعد بها إلاّ انسانها ، دون اناس المناطق الاُخرى ، إلاّ أنّ تلك فرية بيّنة ليست فيها مسحة من الحق أو لمسة من الصدق ، فهذه فروعه ودساتيره وفرائضه لا تجد فيها أثراً للطائفية أو أمارة للإقليمية.

ضع يدك على النظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام في أبواب النكاح والزواج ، وأحكام الأولاد والنشوز والطلاق والفرائض ، وإصلاح حال اليتامى وإنفاذ الوصايا ، والإصلاح بين الناس ، وأداء الأمانة ، وحسن السلوك معهم ، والتعاون والاحسان ، إلى غير ذلك ممّا يجده الباحث في النظام الاجتماعي للإسلام.

ضع يدك على النظام الأخلاقي الذي فاق به الإسلام ، كافة الأنظمة الخلقية التي كانت قبله ، أو تأسّست بعده ، فأمر بالصدق وأداء الأمانة ، والصبر والثبات وحسن الظن بالناس ، والعفو والغفران والقرى والضيافة ، والتواضع ، والشكر والتوكل ، والاخلاق في العمل إلى غير ذلك ممّا أمر به ، أو ما نهى عنه كالبخل والاختيال ، والبهتان والغضب ، والاثرة ، والحسد ، والغش والبغي والخمر والميسر ، والجبن والغيبة والكذب ، والاستكبار والرياء ، والعجب والتنابز بالألقاب والانتحار والغدر و ... .

ضع يدك على نظامه السياسي في باب الحكم والسياسة ، وما أتى به في اصلاح نظام الحرب ، ودفع مفاسدها ، وقصرها على مافيه من الخير للبشر ، وايثار السلم على الحرب ، وعلى الأنظمة والقوانين التي جاء بها في أبواب العقود والمعاملات ، فأوجب حفظ المال عن الضياع والاقتصاد فيه وجعل فيه حقوقاً مفروضة ومندوبة ، وأحلّ البيع وحرّم الربا ، ونهى عن الغش والتطفيف ، إلى غير ذلك ممّا يجده المتعمّق في كتب الفقه والأحكام.

قل لي بربّك هل تجد في هذه الأنظمة ، أو في ثنايا هذه الأبواب والأحكام حكماً أو أحكاماً فيها تفكير طائفي أو نزعة اقليمية ؟ وإن كنت في ريب فاقرأ الآيات التالية ومئات نظائرها ، تجدها دواء المجتمع الانساني في الأقطار كلها :

ص: 52

1. ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل - 90 ). أليست هذه القوانين عماد الاصلاح ، وسناد الفلاح في عامة القارات ؟

2. هلاّ كان منه قوله سبحانه ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء - 58 ).

وقد ندد اللّه باليهود لتجويزهم خيانة الاُميين ، يعني العرب المشركين ومن ليس في دينهم ، وقال : ( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران - 75 ).

وليس هذا إلاّ لأنّ دينهم على زعمهم كان طائفياً ، فالحرام عندهم هو خيانة يهودي ليهودي مثله لا غير ، وأمّا الإسلام فلمّا كان ديناً عالمياً غير مختص بطائفة دون اُخرى ، فحرّم الخيانة مطلقاً على المسلم والكافر ، وذلك آية كونه عالمياً لا طائفياً ولا إقليمياً.

3. أو ليس منه قوله سبحانه : ( وَلْتَكُن منكُمْ اُمّة يَدعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المنكرِ ) ( آل عمران - 104 ).

وقد عرضنا هذه الآيات على سبيل التنويه ، فليس معنى هذا ، أنّ ما جاء به الإسلام في طريق إصلاح المجتمع ، محصور في هذا النطاق ، فإنّ في كثير من الآيات التي لم نأت بها تنويهاً بمختلف الأخلاق الفاضلة الإنسانية ، والشخصية والاجتماعية من صدق ، وعدل ، وبر ، وأمانة ، وصلة رحم ، ولين جانب ، ووفاء عهد ، ووعد ، ورحمة للضعيف ، ومساعدة للمحتاج ، ونصرة للمظلوم ، وصبر ، ودعوة إلى الخير ، وتواص بالحق ، وعدم اللجاج فيه ، والانفاق لله ، والدعوة إلى اللّه بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ، والتعاون على البر والتقوى ، والرغبة في السلم.

كما احتوت آيات كثيرة تنديداً بمختلف الأخلاق السيئة والخصال المذمومة من

ص: 53

كذب ، وظلم ، وبغي ، واثم ، وقتل نفس ، وارتكاب فاحشة ، وانتهاك عرض وافك وزور ، وعربدة سكر ، وإسراف وتبذير ، وخيانة ونكث غدر ، وخديعة ، وقطع رحم ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وجبن ، وشح وأمر بمنكر وغلظة قلب ، وفظاظة خلق ، ورياء ومكابرة وانتقام باغ ، وتناقض بين القول والعمل وغرور ، وصد عن الحق ، إلى غير ذلك من مساوئ الأخلاق ومحاسنها التي تجد نصوصها مبثوثة في القرآن الكريم. وتسهل عليك مراجعتها والاهتداء والتدبّر في معانيها إذا لا حظت كتاب « تفصيل آيات القرآن الكريم » (1) ، « والمعجم المفهرس » (2) وغيرهما من الكتب والمعاجم.

هذا وقد عاشت الاُمّة الإسلامية بل الانسانية جمعاء (3) في ظل هذه الدساتير ونظائرها الوافرة في أجيال متتابعة ، وفي حقب من الزمان والمكان ، فلو كانت مختصة بإقليم خاص ، لأدّت إلى التناحر والاندحار في الأقاليم الاُخر ، لا إلى الرقي والحضارة (4). الدعوة إلى الفطرة ، أساس الأحكام الإسلامية :

لقد بنى الإسلام أحكامه وتوجيهه في العلم والعمل على الفطرة الإنسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد ، فدعا إلى التوحيد المطلق ، وقرّر مبادئ العدالة والحرية والمواساة والاخاء بين الناس كافة والديمقراطية الحقة ، ونشر العلم والحضارة

ص: 54


1- تأليف المسيو جول لابوم ، وقد وضع كتاباً باللغة الفرنسية ، جمع فيه آيات القرآن بحسب معانيها ، ووضع كلا منها في باب أو أبواب خاصة ، حسب ما فهم منها ، ولكنّه أخطأ في كثير من معانيها ، فإنّه اكتفى في ترتيبه وتنسيقه بما فهمه من ظواهر الآيات حسب اللغة العربية وقواعدها ، من دون أن يرجع إلى أسباب النزول ، وسنّة النبي وسيرته والأئمّة من بعده.
2- تأليف محمد فؤاد عبد الباقي المصري.
3- اعترف به المستشرق غوستاف لوبون في آخر كتابه.
4- نعم كل اُمّة ركنت إلى الدعة والراحة ، وحنت إلى تقليد عادات الأجانب في معترك الحياة ، ونسيت مكانتها ورسالتها وقوانينها وأخذت بغيرها ، رجعت إلى ورائها القهقرى وعلى هذا الأساس تعيش الاُمّة الإسلامية في هذا العصر في أنحاء العالم ، فتراها متفرقة الكلمة ممزّقة ، تأكلها حثالات الأرض.

وقضى على الرذائل والمنكرات ، والشهوات الجامحة ، والتقاليد البالية ، والخرافات الكاذبة ، والرهبانية المبتدعة ، وأمر بالفضائل والصدق في القول والوفاء بالعهد ، والاجتناب عن العزوبة بنكاح الحرائر إلى غير ذلك من الوف الأحكام والتشريعات التي أشرنا إلى كثير منها وتعتبر بمجموعها دعائم الاصلاح في العالم كله ، ولا تنازع الفطرة بل تطابقها ولا تتخلّف عنها قدر شعرة.

فإذا كانت الفطرة الإنسانية واحدة في الجميع ، وكانت الأحكام الإسلامية مبنية عليها في جانب التشريع ، فلا وجه لأن تختص بقوم دون قوم ، وهذا بحث لطيف سوف نرجع إليه إن شاء اللّه عند البحث عن كون نبي الإسلام خاتم النبيين ، ودينه خاتم الأديان وبه نجيب على الاشكال الدارج على ألسنة بعض المستهترين ممّن لا يؤمن بصريح القرآن في مسألة الخاتمية ويقول : « انّ النصوص الشرعية في الكتاب والسنّة محدودة ، وحوادث الناس ومقاصدهم متجددة ومتغيّرة ولا يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث المتجددة الطارئة » فارتقب حتى يأتيك الجواب والبيان.

الإسلام يكافح المبادئ الرجعية :

وأدل دليل على أنّ الإسلام رسالة عالمية ، أنّه يكافح النزعات الاقليمية والطائفية ولا يفرق بين اللون والجنس والعنصر ولا يفضّل أحداً إلاّ بالتقوى ، ويزيّف كل مقياس سواه ويقول : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات - 13 ).

كفى له فخراً أنّه أوّل من حارب العصبية والنعرات الطائفية ودعا إلى الاخوة الانسانية ، والزمالة البشرية ، والانضواء تحت لواء واحد وهو لواء التوحيد المطلق.

أجل حارب العصبية ، والنعرات الطائفية في ظل وحدات ثمان ، وهو أوّل من أسّسها وأشاد بنيانها ، أعني : وحدة الاُمّة ، وحدة الجنس البشري ، وحدة الدين ، وحدة التشريع ، وحدة الاخوة الروحية ، وحدة الجنسية الدولية ، وحدة القضاء ، بل وحدة اللغة

ص: 55

الدينية (1).

وقد بلغت بها الاُمّة الإسلامية في العصور السالفة المزدهرة ، الذروة من المجد والعظمة ، فأصبحت ساسة البلاد وحكّام العباد.

أو ليس الرسول صلی اللّه علیه و آله وهو قائل تلكم الكلم الدرية التالية ، القاضية على كل نعرة طائفية ، والانتماء إلى فئة خاصة والاتجاه إلى نجاح شعب خاص ، فكيف ترمى شريعته بالطائفية وانقاذ جماعة معينة دون غيرها ؟

1. قال صلی اللّه علیه و آله : « أيّها الناس أنّ اللّه أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها ألا بآبائها أنّكم من آدم وآدم من طين ، ألا أنّ خير عباد اللّه ، عبد إتقاه » (2).

2. « ألا أنّ العربية ليست بأب والد ، ولكنّها لسان ناطق ، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه » (3).

3. « انّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا ، مثل أسنان المشط ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لأحمر على أسود إلاّ بالتقوى » (4).

4. « إنّما الناس رجلان : مؤمن تقي ، كريم على اللّه; وفاجر شقي ، هيّن على اللّه » (5).

وللدكتور حسن إبراهيم حسن هنا كلمة قيّمة ، يقول :

« ينكر بعض المؤرخين أنّ الإسلام قد قصد به مؤسسه في بادئ الأمر أن يكون ديناً عالمياً برغم هذه الآيات البيّنات ومن بينهم « وليم ميور » إذ يقول :

« إنّ فكرة عموم الرسالة جاءت فيما بعد ، وأنّ هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها ، لم يفكر فيها محمد نفسه ، وعلى فرض أنّه فكّر فيها ،

ص: 56


1- كل ذلك دليل على عالمية تشريعه ، وسعة نطاق رسالته ، ويجد الباحث في الذكر الحكيم والأحاديث الإسلامية دلائل واضحة على كل واحدة من هذه الوحدات ، فلا نقوم بذكرها لئلاّ يطول بنا المقام وقد بحثنا عنها في الجزء الثاني.
2- راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات : روضة الكافي ، ص 2. سيرة ابن هشام ج 2 ، ص 412 ، بحار الأنوار ، ج 21 ، ص 105 ، والشرح الحديدي ، ج 17 ، ص 281 ، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.
3- راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات : روضة الكافي ، ص 2. سيرة ابن هشام ج 2 ، ص 412 ، بحار الأنوار ، ج 21 ، ص 105 ، والشرح الحديدي ، ج 17 ، ص 281 ، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.
4- راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات : روضة الكافي ، ص 2. سيرة ابن هشام ج 2 ، ص 412 ، بحار الأنوار ، ج 21 ، ص 105 ، والشرح الحديدي ، ج 17 ، ص 281 ، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.
5- راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات : روضة الكافي ، ص 2. سيرة ابن هشام ج 2 ، ص 412 ، بحار الأنوار ، ج 21 ، ص 105 ، والشرح الحديدي ، ج 17 ، ص 281 ، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.

كان تفكيره تفكيراً غامضاً ، فإنّ عالمه الّذي كان يفكّر فيه إنّما كان بلاد العرب كما أنّ هذا الدين الجديد لم يهيأ إلاّ لها ، وأنّ محمداً لم يوجّه دعوته منذ بعث إلى أن مات إلاّ للعرب دون غيرهم ، وهكذا نرى أنّ نواة عالمية الإسلام قد غرست ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك فاّنما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج ».

وكذلك شك « كيتاني » في أن يكون النبي قد تخطّى بفكره حدود الجزيرة العربية ليدعو اُمم العالم في ذلك الوقت إلى هذا الدين.

ومن الغريب أن يشك « وليم ميور » في صحة دعوى عموم الرسالة ، وأن يبني شكه هذا على أنّ محمداً ما كان يعرف غير الجزيرة ، وأنّها كانت عالمه الذي لم يفكّر في سواه ، وأنّ هذا الدين لم يهيأ إلاّ لتلك البلاد ، وأنّ محمداً منذ بعث إلى أن مات لم يوجّه دعوته إلاّ للعرب دون غيرهم ، فهل خفيت على ذلك المؤرّخ صلة قريش بدول ذلك العهد ، وما أتاحته لها التجارة من دراية وخبرة بشؤون هذه الاُمم وأحوالهم ، وأنّ محمداً بوجه خاص قد سافر غير مرة للتجارة إلى بلاد الشام ، فقد سافر وهو صبي مع عمه « أبي طالب » في تجاراته حتى إذا بلغ خديجة ما بلغها عن خبرته وأمانته ، ألقت بمالها بين يديه ، فكان من مهارته وحذقه ما جعلها تعرض عليه الزواج منها ، ثم ظل يشتغل بالتجارة حتى بعث ، فبعد ذلك يمكن أن يقال عن محمد أنّه كان لا يعرف غير بلاد العرب وهو رجل عصامي لم يكسب مركزه الممتاز في مكّة قبيل البعثة إلاّ من ذكاء عقله وكفاية مواهبه.

هل يستبعد على محمد الذي خرج من مكة ناجياً بنفسه ونفس صاحبه أن يتخطفها الناس لائذاً بأهل المدينة الذين آووه ونصروه ، ثم صبر وصابر حتى عاد إلى مكة بعد ثماني سنين وهو السيد الآمر فيها وفي الجزيرة ، تحوم حول شخصه مائة ألف من القلوب أو تزيد ، ومن ورائهم كثيرون من أرجاء الجزيرة العربية يدينون له بالطاعة يقدم عليه رؤساؤها وأكابرها هل يبعد على هذا الرجل أن يرنو بناظره إلى ما وراء الجزيرة ليبسط عليه سلطانه ، إن كان من محبي السلطة والحكم أو ليفيض عليها من

ص: 57

الذي غمر الجزيرة وملأها عدلاً وأمناً ودعة وحبّاً ؟

لو قيل أنّ الاسكندر المقدوني كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالم القديم كلّه وتجعله يلتف حول هذا الشاب الإغريقي لصدقنا ، ولو قيل أنّ « نابليون » كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالمين القديم والجديد ، ليجلس على عرشها الفتي لصدقنا.

أمّا إذا قيل أنّ محمد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله فكّر في أن يدعو خلق اللّه المتاخمين لجزيرة العرب والمتّصلين بقريش - اتصالاً تعيش عليه قريش وينبني على أساسه كلّ شيء في البنية القرشية - فذلك أمر يعز على البحث النزيه والعقل الحر ( بزعم « وليم ميور » ) أن يقبله إلاّ أن يكون تفكير ذلك النبي في هذا الأمر تفكيراً على نحو غامض.

وأمّا القول بأنّ ذلك الدين لم يهيأ إلاّ لبلاد العرب ، فإنّ ذلك لم يمنع محمداً من التفكير في تعميم دينه ، لأنّ هذا التفكير سواء أتحقق أم لم يتحقق ، إنّما يعتمد على اعتقاده أن دينه صالح لذلك ، وقد ثبت من القرآن أنّه كان يعتقد أنّ الإسلام قد هيّئ لكلّ حالة ، وأنّ القرآن قد تكفّل بتبيان كلّ شيء ، إذ يقول اللّه تعالى لرسوله في غير آية : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) ( سورة النحل - 89 ).

ويؤيد دعوى عموم الرسالة للجنس البشري قول محمد صلی اللّه علیه و آله أنّ بلالاً أوّل ثمار الحبشة ، وأنّ صهيباً أوّل ثمار الروم ، وكذلك ما قاله عن سلمان الذي كان أوّل من أسلم من الفرس ، فكان عبداً نصرانياً بالمدينة اعتنق هذا الدين الجديد في السنة الاُولى من الهجرة ، وهكذا صرّح الرسول في وضوح وجلاء ، أنّ الإسلام ليس مقصوراً على الجنس العربي قبل أن يدور بخلد العرب أي شيء يتعلّق بحياة الفتح والغزو بزمن طويل ، ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم في تلك الآيات البينات » (1).

ص: 58


1- تاريخ الإسلام السياسي - الطبعة الخامسة - ج 1 ، ص 167 - 170 ، وذكر في المقام بعض الآيات التي تدل على عمومية رسالته.

نظرة في الآيات المشعرة بعدم العمومية

اشارة

قد عرفت ما هو الحق في المقام بأنّ القرآن الكريم والسنّة النبوية ، وسيرتها تدل بوضوح على عمومية رسالته لكل من في الأرض جميعاً.

غير أنّ هناك آيات ربّما يستشم منها عدم عمومية رسالته ، وقد وقعت هذه الآيات سنداً للخصم ، فنحن نذكر تلك الآيات ونوضح المقصود منها. 1. آيات الانذار :

انّ بعض الآيات في هذا الصدد توجه انذار النبي صلی اللّه علیه و آله إلى قومه وربّما تشعر باختصاص الرسالة ودونك هذه الآيات :

1. ( وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( القصص - 46 ).

2. ( بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( السجدة - 3 ).

3. ( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) ( يس - 6 ).

4. ( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا ) ( مريم - 97 ).

ص: 59

فهذه الآيات ونظائرها تخص انذار النبي صلی اللّه علیه و آله بقوم خاص ، وبذلك تضيق دائرة الدعوة.

الجواب :

انّ الإجابة على الاستدلال بهذه الآيات سهلة بعد الوقوف على ما ذكرنا من الآيات المصرحّة بعمومية الرسالة.

لأنّها أوّلاً : لا تخرج من حد الاشعار الضعيف الذي لا يعتمد عليه في مقابل الآيات المصرّحة بأشد التصريح بعمومية الدعوة.

وثانياً : انّ هناك آيات بهذا الصدد تصرّح بعمومية الانذار ، ففي سورة يس التي ورد فيها : ( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قوله سبحانه : ( لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( يس - 70 ).

فهذه الآية تشعر بأنّ دائرة الانذار تشمل كلّ حي يعقل ويخاطب به وهو يعم كلّ مستعد للهداية سواء أكان من قومه وممن يعيش في الجزيرة العربية أم لا.

وقال سبحانه أيضاً : ( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا ) ( الكهف - 4 ).

وهم يعم اُمّة الكليم والمسيح الذين قالوا : اتّخذ اللّه ولداً.

فاليهود قالوا بأنّ اللّه اتّخذ عزيراً ولداً.

والنصارى قالوا : بأنّ اللّه اتّخذ المسيح ولداً.

وبذلك يظهر أنّ كلّ ما ورد في هذا الصدد من آيات الانذار لا يدل على التخصيص بل هو خطاب بمقتضى المقام.

فقد تقتضي البلاغة توجيه الكلام إلى قسم خاص كما تقتضي المصلحة في مقام آخر توجيه الكلام لكلّ من بعث لانذاره فلاحظ الآيات التالية حيث يقول سبحانه :

( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ) ( الأنبياء - 45 ).

ص: 60

بينما يخص الانذار بالمخاطبين في هذه الآية يعمّم الانذار لكلّ الناس في آية اُخرى ويقول : ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) ( يونس - 2 ). 2. عد بعض أهل الكتاب من الصالحين :

انّ القرآن الكريم يعد بعض أهل الكتاب من الصالحين حيث يقول :

( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ( آل عمران : 113 - 114 ).

فلو كانت رسالة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله عالمية يجب أن يرجع إلى شريعتها كلّ من يعيش تحت السماء من أصحاب الشرائع السماوية فعندئذ كيف يعد بعض من لم يرجع إليها من الصالحين ويصفهم بالأوصاف المذكورة في هاتين الآيتين ؟

الجواب :

انّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الرجوع إلى سياق الآيات فانّه سبحانه لمّا وصف أهل الكتاب بأنّ أكثرهم الفاسقون وقال :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) .

وقال : ( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) .

وقال في حق اليهود :

( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ... ) ( آل عمران : الآيات110 ، 111 ، 112 ).

أراد سبحانه أن لا يبخس حق الأقلّية الصالحة منهم ، تمشّياً مع الحقيقة ، ووفاء للحق. وقال :

( لَيْسُوا سَوَاءً ... ) .

ص: 61

أي ليس الجميع - من أهل الكتاب - على وتيرة واحدة ، وأنّه يوجد بينهم من يستقيم على دينه ، ويثبت على أمر اللّه ، ويتلوا آيات اللّه فهم الذين يعدّون من الصالحين أي الذين صلحت نفوسهم فاستقامت أحوالهم وحسنت أعمالهم.

ومن المعلوم أنّ توصيف ثلة قليلة بالصلاح إنّما هو في مقابل الأكثرية الموصوفة بالفسق والطغيان وقتل الأنبياء والاعتداء.

وهذا التحسين النسبي لا يدل على إقرار شريعتهم وعدم نسخه بالإسلام وأنّهم لو عملوا بشريعتهم لكانوا من الناجحين.

ويدل على ذلك أنّه سبحانه يصرّح في الآية 110 بلزوم إيمان أهل الكتاب بما آمن به المسلمون ويقول :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ) .

وعلى ذلك يتّضح مساق الآية وهدفها.

إجابة اُخرى :

غير أنّ المفسرين فسّروا الآية على وجه آخر وقالوا : لما أسلم عبد اللّه بن سلام وجماعة قالت أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلاّ شرارنا فأنزل اللّه : ( لَيْسُوا سَوَاءً ... - إلى قوله - مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

روي ذلك عن ابن عباس وقتادة وابن جريح.

وقيل انّها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم (1).

غير أنّ هذا التفسير لا يلائم ظاهر الآية فالظاهر أنّ الموصوفين بالصلاح من أهل الكتاب حين نزول الآية كما هو ظاهر قوله : ( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) ولو كان المراد هو المؤمنون المسلمون لما عبّر عنهم بهذا العنوان ولا ينافي ما ذكرنا توصيفهم

ص: 62


1- مجمع البيان ج 4 ص 488 ، راجع الدر المنثور ج 2 ص 64 و 65.

بأنّهم يتلون آيات اللّه آناء الليل إذ عندهم من المناجات والأدعية له الشيء الكثير لا سيّما في زبور داود.

3. تخصيص الانذار باُمّ القرى ومن حولها :

وهناك بعض الآيات تخص الانذار باُمّ القرى ومن حولها حيث يقول :

( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) ( الأنعام - 92 ).

وقال سبحانه :

( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) ( الشورى - 7 ).

فهاتان الآيتان يستظهر منهما اختصاص نطاق رسالته في إطار أُمّ القرى ومن حولها.

وأُمّ القرى أمّا علم من اعلام مكّة أو كلّي اطلق عليها في هذه الآية.

وعلى أي تقدير فتشعر باختصاص الرسالة بما ذكر فيها.

الجواب :

غير خفي على القارئ النابه أنّ ما ادّعاه من الظهور ضعيف جداً ، ولو سلم فلا يتجاوز حد الاشعار الابتدائي (1) ولا يعتنى به اتّجاه الحجّج الدامغة الدالّة على سعة نطاق رسالته وعدم محدوديتها بشيء من الحدود والقيود ، كما وافاك بيانها.

ص: 63


1- بل ذيل نفس الآية دليل على عموم رسالته ، حيث أنّه سبحانه قال : ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) وظاهره أنّ كل من يؤمن بالآخرة من العرب والعجم يؤمن بهذا الكتاب ، وإنّه منزّل من ربّهم : مصدّق لما تقدمه من الكتب ، فلو كانت دعوته اقليمية أو طائفية لما كان لإيمان من ليس من تلك الطائفة أو لا يعيش في الجزيرة العربية معنى صحيح.

نحن نسأله لماذا نسي أو تناسى قوله سبحانه في نفس هذه السورة ( الأنعام ) الدالّ على عمومية رسالته ، وأن ّ اللّه سبحانه أمره أن ينذر بكتابه كلّ من بلغه هتافه في أقطار الأرض وأرجاء العالم. وقال سبحانه : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام - 19 ).

وصريح هذه الآية أنّه صلی اللّه علیه و آله أمرلينذر بقرآنه كلّ من بلغه ووصل إليه هتافه ، عربياً كان أو أعجمياً ، شرقياً كان أم غربياً ، فلماذا أخذ الكاتب بالإشعار الضعيف وترك التصريح على خلافه مع كونهما في سورة واحدة ؟!

فلو أنّه كتب ما كتب بدافع التحقيق والبخوع للحقائق ، فلماذا فتح بصره وألقى أسدالاً على بصيرته فاعتمد على الاشعار ورفض التصريح.

ومن المتحتمل أنّه رأى الآيتين ، لكنّه حسب أنّ اللّه تعالى نقض كلامه الوارد في ابتداء السورة بختامها وهو سبحانه يقول : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء - 82 ).

نحن لا نميط الستر عن نواياه وضمائره وهو قد وقف على هذه الآية وغيرها مما سردناه من الآيات الدالّة على عالمية رسالته ، لكن الظاهر أنّه لا يستهدف بذلك إلاّ تعكير الصفو وبث بذور الشك في قلوب السذّج والبسطاء من الاُمّة الإسلامية لغاية هو أعرف بها وإن كان لا يفوتنا عرفانها.

والحق أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يكن في دعوته وانذاره بدعاً من الرسل ، فقد مشى في ابلاغه على سنن من قبله من المرسلين ، فالمسيح كان رسول اللّه ، إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني إسرائيل (1) ، ومع ذلك كلّه فقد بدأ هتافه بكونه رسولاً إلى بني إسرائيل مع أنّه رسول

ص: 64


1- نعم لم يثبت كون المسيح مبعوثاً إلى الناس أجمع ، كما سيوافيك بيانه في هذا البحث بل كان مبعوثاً إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني اسرائيل ، لما ثبت من بعثه علیه السلام رسلاً من حوارييه وتلاميذه إلى الاُمم التي لا تمت إلى بني اسرائيل بصلة ، وهو دليل على أوسعية نطاق رسالته من بني اسرائيل.

إليهم وإلى غيرهم وقال : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... ) ( الصف - 6 ).

فخصّ خطابه ورسالته ببني إسرائيل مع كونه رسول اللّه إلى غيرهم أيضاً ولا ضير في ذلك لأنّ كونه رسولاً إليهم لا ينافي كونه رسولاً إلى غيرهم فإنّ اثبات الحكم لموضوع لا يلازم نفيه عن غيره.

وقد ضارعه نبي الإسلام ، فهو مع كونه رسول اللّه إلى الناس جميعاً ، ومع أنّه أمره اللّه أن ينذر بقرآنه قومه وكلّ من بلغه كتابه في مشارق الأرض ومغاربها (1) أمره اللّه سبحانه أن يقول : ( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام - 92 ، الشورى - 7 ) فإنّ كونه مبعوثاً لانذار الاُمّة العربية القاطنة في عاصمتها مكة ومناطقها التابعة لها ، لا ينافي كونه مبعوثاً إلى غيرها أيضاً ومنذراً بكتابه سواها.

وقد حذى الرسول حذو القرآن في خطاباته الشخصية في اندية الانذار والابلاغ ، فقال صلی اللّه علیه و آله حينما وفدت إلى داره عشيرته وأقربوه : « انّي رسول اللّه إليكم خاصة وإلى الناس عامّة » وهو في الوقت نفسه حينما صعد على الصفا خص قريشاً بالخطاب وقال : « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار ».

وقد وافيناكم بتلك الدرية في صدر البحث (2).

هذه سيرة الرسول وسيرة من قبله ، من اُولي العزم من الرسل ، فهم يقتفون في توجيهاتهم ودعواتهم مقتضى الحال ، مراعين في ذلك شرائط البلاغة ، وإلقاء الكلام على وفق الحكمة ، فربّما دعت المصلحة إلى توجيه الكلام إلى مجتمع خاص ، كما أنّه ربّما اقتضت توجيهه إلى الناس عامة من دون أي تنافر وتناكر في التوجيهين.

وإن شئت قلت : انّه صلی اللّه علیه و آله بُعث إلى عشيرته والعرب والناس جميعاً على سبيل « تعدد المطلوب » كما قال : « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار » وقال : « انّي رسول

ص: 65


1- الأنعام - 119.
2- أنظر ص 135 من كتابنا هذا.

اللّه إليكم خاصة وإلى الناس عامة » وكانت كلّ واحدة من هذه الطوائف الثلاثة صالحة لأن يبعث إليهم رسول خاص. وعلى ذلك فله أن يصرّح حسب مقتضيات المقام بأحد الأغراض التي اُرسل لأجلها ويسكت عن الآخرين بلا استنكار.

ويشير إلى ذلك قوله صلی اللّه علیه و آله : « بعثت إلى الناس كافة ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب ، فإن لم يستجيبوا لي ، فإلى قريش ، فإن لم يستجيبوا لي ، فإلى بني هاشم ، فإن لم يستجيبوا لي ، فإلي وحدي » (1).

وقال الإمام الصادق علیه السلام :

« انّ اللّه تبارك وتعالى أعطى محمداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى علیهم السلام : التوحيد والاخلاص وخلع الانداد والفطرة الحنيفية السمحة ولا رهبانية ولا سياحة إلى أن قال : ونصره بالرعب وجعل له الأرض مسجداً وطهوراً وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والانس » (2).

ونظير ذلك لو بعثت انساناً لينجز لك اُموراً مختلفة ، وكان كلّ واحد منها صالحاً لأن يبعث لانجازه شخص خاص ، فعند ذلك يصح لك أن تقول : بعثته ليعمل كذا وتذكر أحد الاُمور التي بعث لأجلها وتسكت عن ذكر الباقي كما يصح للمبعوث أن يقول : بعثت لأفعل كذا ويذكر أحد الأهداف التي بعث لتحقيقها من دون أن يذكر الأمرين الآخرين وهكذا ...

على أنّ الآية التي استدل بها القائل على ضيق نطاق رسالته ، مكية ، وردت في سورتي الأنعام والشورى المكيتين ، ولم تكن الظروف في مكة تبيح له الاجهار غالباً بنفس رسالته ، فضلاً عن الاجهار بعالميتها ، فلا عتب عليه لو خص خطابه بجمع دون جمع. مع سعة نطاقها في نفس الأمر ، إذا اقتضت المصلحة ذلك لأنّ المرمى الأهم في هذه البيئة ، الاجهار بنفس الرسالة لا كمّها ولا كيفها وإن كان يصلح أن يصرّح في بعض

ص: 66


1- الطبقات الكبرى ج 1 ص 192.
2- الكافي ج 2 ص 17 وسيوافيك بعض الروايات عند البحث عن « الخاتمية في الأحاديث ».

الأوقات بعالمية رسالته إذا كان الظرف في مكة صالحاً. كما في قوله سبحانه : ( وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) ( القلم - 52 ) والآية مكية بلا كلام. وكما في قوله : ( لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام - 19 ) والسورة مكية ، وإن شئت قلت : انّ الظروف في مكة كانت مختلفة متلوّنة ، ولم تكن حياة الرسول رخاءاً وشدة على نسق واحد ، فتارة كانت بيئة مكة قاسية عنيفة لا تسمح بالجهر بنفس رسالته ، فضلاً عن المصارحة بكيفها وكمّها ، والمسلمون من جانب - اضطهاد قريش لهم - كانوا يعيشون في حالة عصيبة واُخرى كانت الأزمة قليلة مخففة بحلول أشهر الحج أو طروء حوادث تمنع العصابة المشركة المجرمة وتكفّهم عن إيذاء المسلمين.

وعند ذاك كان يفسح المجال أمام النبي وأصحابه بأن يبلغوا الدعوة وفق الظروف وحسب المقتضيات شدة وضعفاً ، فنراه في مواقفه بمكة يصرّح بجانب من جوانب الدعوة على صعيد خاص كقوله : يا معشر قريش انقذوا أنفسكم ... واُخرى ينادي بعموم دعوته مما يستفاد من أنّه بعث إلى الناس كافة ولأجل ذلك نواجه في سورة واحدة لونين من طريقة الدعوة ، فنرى أنّها في صدرها تأخذ بجميع جوانب دعوته وتصرّح بعموم دعوته وعالمية رسالته ، وأنّه صلی اللّه علیه و آله اُمر من جانبه سبحانه أن ينذر بقرآنه قريشاً وكلّ من بلغه كتابه وانذاره حيث قال : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) وفي الوقت نفسه نرى في خلال السورة ، لوناً خاصاً من الدعوة حيث تخصّها بمن في اُمّ القرى ومن حولها ويقول : ( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) فيعلم من ذلك أنّه صلی اللّه علیه و آله كان يوجّه دعوته حسب ما تقتضيه المصلحة تبعاً للأحوال المختلفة وتبدل الظروف الزمانية والمكانية من دون توهّم تناقض في طريق الدعوة ولونها.

جواب آخر عن الشبهة :

جاء بعض المعاصرين من الأجلاّء ، في تعاليقه القيّمة على كتاب « الابطال » بجواب آخر (1) مبني على أمرين :

ص: 67


1- ترى اجمال هذا الجواب في مجمع البيان ج 3 ، ص 334 ، و ج 5 ، ص 22 والمفردات للراغب مادة « اُم ».

الأوّل : انّ المراد من « القرى » في قوله تعالى : ( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) ما يعم المدن الواسعة ، وقد أطلق لفظ القرية في القرآن على المدينة أيضاً كقوله تعالى : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) ( يوسف - 82 ) والقرية التي اقترح أبناء يعقوب على أبيهم أن يسألها ، هي مدينة « مصر » وقد كانت يوم ذاك مدينة كبيرة ، ذات أبواب متفرّقة ، لقوله سبحانه : ( يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ) ( يوسف - 67 ).

الثاني : قد استفاضت الروايات من مهبط الوحي والتنزيل على أنّ اللّه سبحانه دحى الأرض يوم دحاها ، من تحت مكة ، والمراد من الدحو من تحتها أنّ أرض مكة هي أوّل قطعة من الأرض اخرجت من الماء ، بعد ما كانت الأرض بعامة أجزائها مغمورة بالماء ، ثم برز سائر اجزائها ، عن تحت الماء تدريجاً ، وبذلك صارت مكة اُمّاً لسائر البلاد ، وأصلاً لسائر القرى ومركزاً تكوينياً للأرض.

قال : إذا كان إطلاق اُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة ، فيصير المراد من « أُمّ القرى » ، أي أُمّ البلاد الموجودة في العالم ومركزها التكويني كما يصير المراد من ( وَمَنْ حَوْلَهَا ) عامة من يعيش في نواحي الأرض وسائر أقطارها كلّها وإليه ذهب حبر الاُمّة عبد اللّه بن عباس ، وفسّره الإمام الطبرسي بقوله : « من سائر الناس وقرى الأرض كلّها » (1) فتصير الآية من الأدلّة الدالّة على عالمية رسالته.

وفي هذا الجواب مجال للنظر والبحث :

أمّا أوّلاً : فلأنّ أُمّ القرى ليست علماً لمكة ، بل كلّياً اُطلق عليها في هذه الآية بما أنّها إحدى مصاديقه ، كيف وقد قال سبحانه مبيّناً لسنّته في الاُمم الماضية جميعاً : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص - 59 ) أي حتى يبعث في أُمّ تلك القرى رسولاً يبلّغ رسالات اللّه عليهم. وهذه سنّة اللّه تعالى في ابادة الاُمم الطاغية مطلقاً ، غير مختصة بالاُمّة العائشة بمكة ومن حولها.

ص: 68


1- مجمع البيان ج 5 ص 22.

وهذا إمام اللغة ابن فارس ، يقول في مقاييسه : « أُمّ القرى ، مكة ، وكلّ مدينة هي أُمّ ما حولها من القرى ».

قال ابن فندق في تاريخه : إذا تركّزت اُمور منطقة خاصة في محل ، يقال له باعتبار القرى والقصبات التابعة له ، أُمّ القرى ، ثم أتى بأمثلة وقال : فصنعاء أُمّ القرى في اليمن ، « وبغداد » أُمّ القرى في العراق ، بعد ما كانت « البصرة » يوماً أُمّ القرى ومرو أُمّ القرى في خراسان وهكذا ... (1).

فهذا التركيب ( أُمّ القُرى ومن حولها ) ليس من مصطلحات القرآن واختصاصاته بل كان دارجاً في عصر الرسالة وقبله وبعده ، وقد نزل القرآن بلسان النبي الذي هو لسان قومه وليس له في هذا التركيب اصطلاح خاص ، بل هو والعرف في ذلك سواسية ، فلا يصلح أن يحمل على غير ما هو المتفاهم عندهم. فإذا قيل : ( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) وقامت القرينة على أنّ المراد من أُمّ القرى مكة ، فلا يراد منه وممّا عطف عليه إلاّ ما يراد في نظائرها ، فإذا قيل : هذا إمام البصرة أو سائسها ومن حولها ، فلا يراد إلاّ نفوذ حكمه في نفس البصرة والمناطق التابعة لها ، حكماً وسياسة واقتصاداً ، أو غيرها من وشائج الارتباط ودوافع التبعية ، لا أنّه إمام الأرض شرقاً وغرباً ، وهكذا إذا قيل : بعث نبي الإسلام لينذر مكة ومن حولها ، لا يراد منه إلاّ أنّه بعث لينذر من يعيش في مكة والمناطق التابعة لها عرفاً ، سياسة وحكماً أو اقتصاداً وتجارة ، أو غيرها من القرى القريبة المتاخمة لها ، القائمة عند حدودها والمناطق التابعة لها في العلاقات الاجتماعية لا أنّه بعث لينذر أهل العالم كلّه ، فإنّ إرادة هذا المعنى من هذا التركيب غير معهود ، لو لم يكن مستهجناً.

وأمّا ثانياً : فلأنّ ما ذكره من حديث دحو الأرض إلى آخره ، صحيح ، غير أنّ إطلاق أُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة التكوينية يحتاج إلى دليل ، ودون اثباته خرط القتاد ، والعرب الجاهليون كانوا يطلقون أُمّ القرى ، على مكة ، من غير أن يكون لهم علم

ص: 69


1- تاريخ بيهق ج ص 22 بتعريب منّا.

ولا عهد بهذه المعارف ، وليس إطلاقها عليها من خصائص القرآن ، بل هو يتبع في ذلك لما هو الدارج ، والحق في الجواب ما أوضحناه.

4. كلّ نبي مبعوث بلسان قومه

جرت سنّة اللّه على بعث رسله بلسان قومهم ، وهذا هو الأصل لو كان الرسول مبعوثاً إلى خصوص إنقاذ قومه.

أمّا إذا كان مبعوثاً إلى اُمّة أوسع من قومه ، وكان كلّ قوم يتكلّمون بلسانهم الخاص فعند ذلك لا حاجة إلى نزول كتابه بجميع الألسنة ، لأنّ الترجمة تنوب عن ذلك مع ما في نزوله بلسانين أو أزيد من التطويل ، وامكان تطرّق التحريف والتبديل والتنازع والاختلاف. فبقي أن ينزل بلسان واحد. وأولى الألسنة لسان قوم النبي ولغتهم لأنّهم أقرب إليه ، ولا معنى لرفض هدايتهم والتوجّه إلى غيرهم.

على أنّ إيمان قومه به ، وخضوعهم له ، ربّما يثير رغبة الآخرين بالإيمان به كما أنّ إعراض قومه جيمعاً عن دعوته ورغبتهم عنه ، تثير روح الشك والترديد في قلوب البعداء عنه ، قائلين بأنّه لو كان في دعوته خير لما أعرض عنه قومه.

على أنّ في إرسال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بلسان قومه نكتة اُخرى وهو أنّ قومه صلی اللّه علیه و آله كانوا يملكون نفسيّة خاصة وهو عدم رضوخهم واستجابتهم بسهولة لعادات غيرهم وألسنتهم.

فلو أنزل اللّه سبحانه كتابه إليهم بغير لسانهم لما آمنوا به كما قال سبحانه : ( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) ( الشعراء : 198 - 199 ) فلأجل ذلك بعثه اللّه سبحانه بلسان قومه حتى يسد باب العذيرة عليهم.

ولأجل هذه المهمة الاجتماعية يجب على الرسول صرف همّته أوّلاً في هداية قومه وانقاذهم حتى يتسنّى له هداية الآخرين ، وهذه سنّة متبعة في الاُمور العادية ، فضلاً عن المبادئ العامّة.

ص: 70

وإلى ذلك تهدف الآية التالية : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم - 4 ) ومفاد الآية أنّه سبحانه لم يجر في بعث رسله مجرى الاعجاز وخرق العادة ، ولا فوّض إلى رسله من الهداية والضلال شيئاً ، بل أرسلهم بلسانهم العادي الذي يتحاورون به كل يوم مع أقوامهم ليبيّنوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم إلاّ بيان ما اُمروا به وأمّا الغاية من بعثهم ، أعني الاهتداء فهو بيد اللّه سبحانه ، لا يشاركه في ذلك رسول ولا غيره.

وعلى ذلك فليست في الآية دلالة ولا إشعار بلزوم اتحاد لغة الرسول مع لغة من اُرسل إليهم ، حتى يلزم منهم اختصاص دعوته صلی اللّه علیه و آله بقومه. إذ الآية تصرّح بلزوم موافقة لغة الرسول مع لسان قومه ، لا اتّحاد لغته مع لسان كل من اُرسل إليهم ، كما هو أساس الشبهة ، ومن الممكن المتحقق أن يكون المرسل إليه أوسع من قومه كما هو الحال في ثلّة جليلة من الرسل ، فقد دعا إبراهيم عرب الحجاز إلى الحج ، والوفود إلى زيارة بيته ، وأمر سبحانه كليمه بدعوة فرعون إلى الإيمان به ، ودعا نبيّنا اُمّتي اليهود والنصارى إلى الإيمان برسالته ، فآمن منهم من آمن. وبقي منهم من بقي.

مغالطة اُخرى حول الآية

نرى بعض من فسّر الآية بأنّ مفادها : « أنّ كلّ رسول من اللّه يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم » ، جاء بمغالطة شوهاء في مفاد الآية ، وقال : إذا كان معنى الآية ما ذكر فهو ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا ، من لا يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم ليس رسولاً منه سبحانه. فلو فرضنا أنّ نبيّنا صلی اللّه علیه و آله كان مبعوثاً إلى العالمين كلّهم مع اختلافهم في اللسان ، يلزم منه كونه غير مبعوث من اللّه سبحانه أصلاً.

وعلى الجملة : تنتج عالمية رسالته ، وسعة نطاق دينه ، كونه غير مرسل من جانبه عزّ وجلّ.

ومنشأ هذه المغالطة ما تخيّله المغالط من مفاد الآية ، إذ ليس مفادها ما تصوّره من

ص: 71

أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم حتى يصح ما بني عليه ، بل مفاده : أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان قومه ، وفي الوقت نفسه يمكن أن يكون مبعوثاً إلى أزيد من قومه (1) أو إلى قومه فقط.

نعم تنعكس الآية إلى قولنا : من لا يوافق لسانه ، لسان قومه ليس رسولاً من اللّه سبحانه ، وهو صحيح ، وأمّا نبي الإسلام فالمفروض أنّ لسان كتابه ولغة دعوته موافقة مع لسان قومه.

وعلى أي تقدير فالمراد من القوم هم الذين عاش فيهم الرسول وخالطهم ولا يختص بالذين هو منهم نسباً ، والشاهد على ذلك أنّه سبحانه صرّح بمهاجرة لوط من « كلدة » وهم سريانيو اللسان ، إلى المؤتفكات وأهلها عبرانيون ، وفي الوقت نفسه سمّاهم قومه ، وأرسله إليهم ، ثم أنجاه وأهله إلاّ امرأته (2).

ص: 72


1- هذا أحد الاحتمالات في اُولي العزم ، أعني من اُرسل إلى أزيد من اُمّة ، راجع الميزان ج 12 ص 13 وسوف نحقق معنى هذه الكلمة على ضوء ما ورد في الذكر الحكيم في فصول هذا الكتاب.
2- الميزان ج 12 ص 13.

هل كانت نبوّة نوح والكليم والمسيح عالمية ؟

اشارة

قد اتضح من هذا البحث الضافي أنّ رسالة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله رسالة عالمية ، فهو مبعوث إلى شرق الأرض وغربها.

غير أنّه اكمالاً للبحث نبحث عن نبوّة ورسالة الأنبياء الثلاثة ، فهل كانت نبواتهم ورسالاتهم عالمية أم كانت تقتصر على أقوامهم ، أو المناطق التي ظهروا فيها ؟

ونبحث في المقام عما يفيده القرآن في هذا الموضوع مع غض النظر عمّا يوجد في التوراة والانجيل وما يدعيه علما ء اليهود والنصارى لأنّ البحث في المقام قرآني ينظر إلى الموضوع من زاوية خاصة ، فيقع الكلام في مقامات :

الأوّل : في عمومية نبوّة نوح وعدمها.

الثاني : في عمومية نبوّة الكليم وعدمها.

الثالث : في عمومية نبوّة المسيح وعدمها.

ويتضح ممّا ذكرنا حال رسالة الخليل علیه السلام أيضاً.

وليكن القارئ الكريم على ذكر من نكتة ، وهي أنّ ما سنذكره من الآيات ونستدل بها لا يعدو عن كونها اشعارات واستظهارات ولا يمكن أن يستدل بكلّ واحدة منها على المقصود ، نعم يمكن اعتبار مجموعها دليلاً مفيداً للاطمئنان.

ص: 73

على أنّ تلك الاشعارات إنّما تتم إذا لم يكن هناك دليل صريح على خلافها وإلاّ فتكون النسبة بين تلك الاشعارات وما يدل على خلافها من قبيل نسبة الأصل إلى الدليل الاجتهادي الحاكم بالاشتغال.

فيرتفع الأصل بموضوعه عند وجود الدليل الاجتهادي.

هل رسالة نوح كانت مختصّة بقومه ؟

يمكن استظهار الاختصاص من قوله سبحانه : ( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ) ( نوح - 1 ) ، فهو يشعر باختصاص رسالته بقومه (1).

وأمّا صيرورة رسالته بعد الطوفان عالمية ، لانحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك الناس ، فإنّما هو لأمر عارض لا يضر بخصوصية رسالته.

أضف إلى ذلك أنّ قدر المسلم هو أنّ الطوفان لم يكن عالمياً بل خاصاً بمنطقة من الأرض التي كان يعيش فيها قومه ، ويؤيد ذلك أنّه لا وجه لتعذيب غيرهم واهلاكهم بتكذيب قومه خاصة.

فانّ الظاهر من القرآن هو أنّ التعذيب كان لتكذيب قومه ، قال سبحانه : ( وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) ( هود : 36 - 37 ) أضف إلى ذلك أنّ عمومية الرسالة تتطلب وجود امكانيات تمكن الرسول من إيصال نداء رسالته وصوت دعوته إلى جميع أنحاء العالم ، وذلك لم يكن متوفراً في عهد نوح ، كما سيوافيك بيانه مفصّلاً.

تحقيق وتنقيب :

انّ العلاّمة الطباطبائي ( رضوان اللّه عليه ) قد طرح مسألة عمومية نبوّة نوح

ص: 74


1- لاحظ الآيات 25 - 48 من سورة هود ، ترى فيها اشعارات كثيرة باختصاص رسالته بقومه.

علیه السلام في الجزء العاشر من تفسيره القيم « الميزان » فقال :

المعروف عند الشيعة عموم رسالته علیه السلام وأمّا أهل السنّة فمنهم من قال بعموم رسالته مستنداً إلى ظاهر الآيات الناطقة لشمول الطوفان لأهل الأرض كلّهم كقوله سبحانه : ( رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) ( نوح - 26 ) ، وقوله تعالى : ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ) ( هود - 43 ) وقوله : ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) ( الصافات - 77 ).

وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة : أنّ نوحاً أوّل رسول أرسله اللّه إلى أهل الأرض ، ولازم ذلك كونه مبعوثاً إليهم كافة.

ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبي : « وكان كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ».

وأجابوا عن الآيات بأنّها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي التي كان يسكنها نوح وقومه ، وهي وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون : ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) ( يونس - 78 ).

فمعنى الآية الاُولى : لا تذر على هذه الأرض من كافري قومي ديّاراً ، وكذا المراد بالثانية : « لا عاصم اليوم لقومي من أمر اللّه » وكذا المراد بالثالثة : « وجعلنا ذريته هم الباقين » من قومه.

ثم انّه - قدّس اللّه سرّه - أفاد أنّه لم يستوفوا حق الكلام في هذا البحث ... ثم اختار هو عمومية نبوّته ورسالته بتقديم مقدمة حاصلها :

أنّ الواجب في عناية اللّه أن يهدي الانسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حد ما يهدي سائر الأنواع إليه ، ولا يكفي في هدايته ما جهز به الإنسان من العقل البشري ، بل لابد من طريق آخر لهدايته وسوقه إلى قمة الكمال وهو تعليم الإنسان شريعة الحق ، ومنهج الكمال والسعادة ، وهو طريق الوحي ، وهو نوع تكليم إلهي يعلم الانسان ما يفوز بالعمل به ، والاعتقاد به في حياته الدنيوية والاخروية فطريق النبوّة ممّا لا

ص: 75

مناص منه في تربية النوع البشري بالنظر إلى العناية الإلهية.

وإن شئت قلت : الواجب في عناية اللّه تزويد المجتمع الانساني بشريعة يأخذ بها في حياته الاجتماعية دون أن يخص بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية له بهم ، ولازمه أن يكون أوّل شريعة نزلت على البشر شريعة عامّة ، وقد أخبر اللّه سبحانه أنّ شريعة نوح هي أوّل شريعة نزلت على المجتمع البشري قال سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى - 13 ) ، ومقام الامتنان يقتضي بأنّ الشرائع الإلهية المنزلة على البشر عبارة عمّا جاء ذكرها في هذه الآية ، وأوّل ما نزلت من الشرائع هي شريعة نوح ، ولو لم تكن عامة للبشر ، بل كانت خاصة بقومه لكان هناك أمّا نبي آخر ، وشريعة اُخرى لغير قوم نوح والحال أنّه لم يذكر في هذه الآية ولا في موضع آخر من كلامه سبحانه.

وأمّا اهمال سائر الناس غير قومه في زمنه وبعده إلى حين (1).

ملاحظات في كلام العلاّمة الطباطبائي

وفيما ذكره قدس سره ملاحظات نلفت نظر القارئ الكريم إليها :

أمّا أوّلاً : فإنّ ما ذكره من أنّه يجب في عناية اللّه تكميل الأنواع وأنّ الشريعة الإلهية تكمل النوع الانساني ، وأنّ التشريع تكميل للتكوين ممّا لا كلام فيه ، غير أنّ الكلام هو في قابلية سائر العناصر البشرية الاُخرى المعاصرة لنوح ، الساكنة في مناطق اُخرى لتلقي الشريعة وأخذها والعمل بها ، فإنّه من المحتمل أن لا تكون تلك العناصر والأفراد لبداوتها وبساطة شعورها وحياتها أهلاً لارسال الشريعة إليهم وعدم بلوغهم بعد إلى حد يستأهلون معه للتعليم الإلهي ، فإنّه من البديهي أنّ البلوغ الجسماني وحده لا يكفي في تلقي الشريعة والعمل بها ، بل يجب أن يكون معه مقدرة فكرية واستعداد نفسي يؤهّله لاستقبال الشريعة ، والدخول في مدرسة الوحي الإلهي. فمثل بعض المجتمعات قبل أن

ص: 76


1- الميزان ج 10 ص 271 - 272.

تصل إلى هذه المرتبة مثل الطفل الناشئ لا يستأهل ولم يصبح صالحاً للدخول في المدرسة وتلقي التربية المدرسية.

وثانياً : فإنّ ما استفاده رحمه اللّه من الآية ب « أنّ شريعة نوح أوّل شريعة نزلت إلى البشر » اشعار كسائر الاشعارات فمن المحتمل أن تكون هناك شريعة اُخرى نزلت قبل نوح ولكن لم تذكر لعدم بلوغها إلى مرتبة الشرائع المذكورة في هذه الآية.

وأمّا ثالثاً : انّ من الممكن أن يكون هناك شريعة في عرض شريعة نوح تختص بقوم آخر لكنّه لم يذكرها القرآن ، كيف لا وأنّ القرآن صرّح بأنّه لم يستوعب قصص جميع الأنبياء حيث قال : ( مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) ( غافر - 78 ) وقال سبحانه : ( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ( النساء - 164 ).

وفي الختام أنّ ما ذكرناه حول دعوة نوح كمثل ما نذكره حول الكليم والمسيح مجرد نظرية منبعثة من التدبّر في آيات الذكر الحكيم فمن المحتمل أن لا تكون صائبة ، والعصمة لله سبحانه ولرسوله والأئمّة الهداة.

ثم إنّه دام ظله رتب على مختاره في تعميم رسالة نوح أنّ الطوفان كان عاماً لجميع الأرض حيث قال : تبين الجواب عن السؤال : هل الطوفان كان عاماً لجميع الأرض فإنّ عموم دعوته يقضي بعموم العذاب.

ثم أيّده بما جاء في كلامه تعالى أنّه أمر نوحاً أن يحمل من كلّ زوجين اثنين ابقاء على الأنواع الحيوانية فلو كان الطوفان خاصاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق - كما قيل - لم تكن هناك أية حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين (1).

وقد تبيّن ممّا ذكرناه من اختصاص دعوة نوح وعدم عموميتها عدم صحة ما اعتمدت عليه النظرية.

ص: 77


1- الميزان ج 10 ص 272 - 273.

وأمّا ما استشهد به فيمكن أن يكون للحفاظ على الحيوانات في منطقته إذ كان من العسير انتقال الحيوانات التي تعيش في مناطق اُخرى إلى قومه ، واللّه سبحانه هو العالم.

هل كانت نبوّة الكليم عالمية ؟

إنّ تنقيح الموضوع يتوقّف على البحث في مقامين :

الأوّل : في عموم دعوته إلى التوحيد.

الثاني : في عموم شريعته وشمول أحكامه.

ونعني من عموم دعوته في مسألة التوحيد أنّه كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل وغيرهم ، في دعوتهم جميعاً إلى توحيده سبحانه وكسر كلّ صنم ووثن.

كما أنّه نعني من عموم شريعته شمول كلّ ما جاء به موسى في التوراة من الفروع والأحكام لبني إسرائيل وغيرهم (1) وعموم دعوته إلى التوحيد لا يلازم عموم شريعته ، دون العكس (2) ولأجل ذلك جعلنا البحث في مقامين ، فنقول :

المقام الأوّل : في عموم دعوته في أصل التوحيد ورفض الأوثان والأصنام كلّها.

الظاهر من الآيات الواردة حول دعوة الكليم ، أنّه كان مبعوثاً إلى خصوص بني إسرائيل مثل قوله سبحانه :

( وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ) ( البقرة - 92 ).

وقوله سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ ) ( الصف - 5 ).

ص: 78


1- وللفرق بين المقامين يعبّر عن الأوّل بعموم الدعوة والنبوّة وعن الثاني بعموم الشريعة والرسالة فلاحظ.
2- لامكان انحصار دعوته بالنسبة إلى قوم في الاُصول ولا يمكن العكس إذ لا تصح الدعوة إلى الفروع منفكة عن الدعوة إلى الاُصول.

وهذه الآيات الكثيرة تشعر باختصاص دعوته بقوم موسى وإنّما قلنا « تشعر » لوضوح أنّ ارساله إلى قومه ، لا يدل على عدم إرساله إلى غيرهم ، فإنّ شعيباً كان مرسلاً من جانبه سبحانه إلى أهل مدين كما يدل عليه قوله تعالى : ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) ( الأعراف - 85 ).

وفي الوقت نفسه كان مبعوثاً إلى أصحاب الايكة كما يدل عليه قوله سبحانه : ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ) ( الشعراء 176 - 177 ).

ولأجل ذلك قلنا انّ ما نستدل به لا يعدو عن كونه استظهارات واشعارات إذا توفرت تفيد الاطمئنان ولو كان هناك دليل صريح على عموم دعوته ونبوّته ، لسقطت هذه الاستظهارات عن الاعتبار.

موقف دعوة الكليم من القبطيين

يمكن أن يقال : بأنّ دعوة موسى في مسألة التوحيد ، كانت تعم بني اسرائيل والقبطيين.

وتستفاد عمومية دعوته إليهم أيضاً من بعض الآيات مثل قوله سبحانه : ( حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الاعراف - 105 ).

وقوله سبحانه : ( قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الأعراف - 134 ).

وقوله سبحانه : ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ... فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى ) ( طه : 43 و 44 - 47 ).

وقوله سبحانه : ( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا

ص: 79

بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء : 16 - 17 ).

وقوله سبحانه حكاية عن فرعون : ( قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) ( الشعراء - 27 ).

وقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الزخرف - 46 ).

وقوله سبحانه : ( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً ) ( المزمل 15 - 16 ).

وقوله سبحانه : ( وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) ( الذاريات - 38 ).

وهذه الآيات وما يشابهها تفيد أنّ دعوته إلى عبادة اللّه والانخلاع عن عبادة الأوثان كانت تعم بني اسرائيل والقبطيين ولأجل ذلك ضرب مع رئيسهم فرعون موعداً لا يخلفه هو ولا ذاك ، فاتفقا على أن يكون موعدهم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فلما ألقى موسى ما ألقى وتلقف ما صنعوا من الكيد والسحر ، القي السحرة ساجدين قائلين بأنّهم آمنوا بربّ موسى وهارون (1).

هذا كلّه يفيد بوضوح شمول دعوته للقبطيين أيضاً وأنّه كان مأموراً من اللّه بدعوة فرعون وملائه إلى الايمان باللّه سبحانه وترك عبادة البشر والاستعلاء على عباد اللّه واستضعافهم ، ويؤيده أنّه لمّا أدركه الغرق قال فرعون : ( آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ ) ( يونس - 90 ) ولم يك ينفع إيمانه ذلك الوقت ولأجله خاطبه سبحانه بقوله : ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) ( يونس - 91 ).

ومع ذلك كلّه ففي النفس من شمول دعوته - حتى بهذا المعنى للقبطيين ، شيء.

أمّا أوّلاً : فلأنّه يحتمل أنّه كان نبيّاً ورسولاً إلى اُمّة بني اسرائيل فقط ليخلصهم

ص: 80


1- راجع سورة طه الآيات 42 - 70.

وينجيهم من فرعون وأعوانه ، غير أنّ انجائهم من أيديهم لمّا كان متوقفاً على اثبات نبوّته وأنّه مأمور من جانب اللّه سبحانه ، أخذ يحاور فرعون ويرضيه بانجاء بني اسرائيل ، ولو كان إنجاؤهم غير موقوف على هذه المحاورات لما تحمّل هذه المشاق ويؤيده أنّه سبحانه بعدما قال :

( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) ( القصص - 4 ) عقبها بقوله : ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص - 5 ).

وظاهره يفيد أنّ الغاية من بعث موسى إلى فرعون هو اطلاق سراح المستضعفين من بني اسرائيل في الأرض.

وإن شئت قلت : أنّ محاورته مع فرعون وقيامه ضده وضد ملائه وعرض بيّناته واحتجاجاته عليهم ، كانت مقدمة لانقاذ بني إسرائيل وإرجاعهم إلى الأرض المقدسة ولو كان المطلوب حاصلاً بلا مشاجرة ونزاع معهم لما نهض بين يديه محتجاً بآياته وبيّناته ؟

وثانياً : انّه كلّما حاور مع فرعون واحتج عليه بأنّه رسول ربّ العالمين عقب كلامه بقوله : فارسل معي بني اسرائيل حيث قال سبحانه : ( قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الأعراف - 105 ) وقال سبحانه : ( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ) ( طه - 47 ).

والظاهر من الآيتين أنّ الهدف الأقصى من بعث موسى هو انقاذ بني اسرائيل غير أنّه لما كان متوقّفاً على المحاورة مع فرعون واثبات أنّه رسول من اللّه سبحانه كلمه بأنّي رسول ربّك ويقرب ذلك أنّه سبحانه لما آخذ آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات وأوقع عليهم الرجز جعلوا جزاء موسى - إذا استجيبت دعوته - أنّهم يؤمنون به ويرسلون معه بني اسرائيل كما حكى اللّه سبحانه عنهم : ( قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ

ص: 81

بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الاعراف - 134 ).

وعلى ذلك فالمراد من إيمانهم بموسى ، إيمانهم بأنّه مبعوث من اللّه سبحانه لهداية بني اسرائيل وانقاذهم من العذاب ، لا إيمانهم بأنّه نبي بعث إلى القبطيين وبني اسرائيل جميعاً كما هو المدّعى.

ولقائل أن يقول : إنّه إذا لم يكن مبعوثاً إلى فرعون وملائه فلماذا أمر اللّه سبحانه موسى وأخاه هارون بقوله : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) ( طه - 44 ) وقوله : ( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ) ( النازعات : 17 - 19 ).

وتمكن الاجابة عنه بأنّ الذهاب إليه وتذكيره وتحذيره لأجل أن يعلم فرعون بأنّ موسى مبعوث من جانبه سبحانه لإنقاذ قومه حتى يرسل معه بني اسرائيل ، كما يفيده ذيل الآيات : ( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ) ، لاحظ سورة طه الآيات 43 - 47 ، خصوصاً بالنظر إلى ما فرع على قوله : ( إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) ، قوله : ( فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) .

ويؤيد ذلك أيضاً أنّه لمّا لم ينجح النبي موسى في انقاذ قومه من سلطان فرعون وعساكره ، أراد سبحانه أن ينجيهم بأسباب غير عادية كما قال سبحانه : ( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) ( طه - 77 ).

وقوله : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ ) ( الأعراف - 138 ).

وقوله سبحانه : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ) ( يونس - 90 ).

وقوله سبحانه : ( فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ

ص: 82

جُندٌ مُّغْرَقُونَ ) ( الدخان23 - 24 ).

وذلك يدلّ على أنّ الغاية من الرسالة هو انقاذ بني اسرائيل فقط لا ارشاد فرعون وملائه.

ثالثاً : انّ قوله سبحانه : ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ (1) رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ المُعْتَدِينَ * ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ) ( يونس 74 - 75 ).

يفيد أنّ رسالة الأنبياء الذين تتراوح دعوتهم بين نوح وموسى بشهادة قوله : ( بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ ( أي نوح ) رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ ) كانت مختصة بقومهم حتى إبراهيم كما أنّ دعوة موسى كانت مختصة بقومه لا تعدوهم إلى فرعون أيضاً وملائه وعلى ذلك تصير دعوة كلّ من نوح وإبراهيم وموسى غير عالمية لا تتعدى دعوة موسى بني اسرائيل أو القبطيين.

موقف دعوة الكليم من غير القبطيين

الظاهر أنّه لم تكن دعوته شاملة لغيرهم لو فرضنا شمولها لهم ويشعر بذلك أنّهم لما نجّاهم سبحانه من فرعون وجاوز بهم البحر فرأوا في ذلك الجانب ، من ضفة البحر قوماً يعكفون على أصنام فطلب منه قومه أن يجعل لهم الهاً كما لهم آلهة فرد عليهم موسى بأنّكم قوم تجهلون (2) ولم يتعرض موسى لعبدة الأصنام (3) لا بالنقد والرد ولا بالمنع ولم يكن خضوعهم للأصنام أقل ضرراً من عبادة قوم فرعون له وإنّما تعرض لعمل فرعون دون عمل هذه الجماعة لأجل أنّ انقاذ بني اسرائيل من مخالب فرعون وقومه كان متوقفاً على المحاورة معه والاحتجاج عليه بأنّه رسول ربّ العالمين ، دون المقام ، فانّ العاكفين

ص: 83


1- والضمير في قوله « من بعده » يرجع إلى نوح.
2- راجع الآية 138 من سورة الأعراف.
3- بحكم سكوت القرآن عن ذلك وإن كان السكوت لا يكون دليلاً على عدم التعرض لكنه مشعر بذلك.

على الأصنام في ضفة البحر لم يكونوا مزاحمين لموسى وقومه ولذلك تركهم وشأنهم ، ولم ينكر عليهم بحكم سكوت القرآن وعدم اظهار أي ردة فعل بالنسبة إليهم. وهذا يؤيد ما استظهرناه من عدم عمومية دعوته للقبطيين أيضاً.

نعم ما نذكره من السكوت اشعار بالمدّعى لا أنّه دليل قطعي.

ويؤيد خصوصية الدعوة أنّه لم يعهد منه بعد انجاء قومه من فرعون ، أنّه دعا أقواماً آخرين ، بل لما عبر موسى بهم البحر وهلك فرعون ، أمرهم اللّه بدخول الأرض المقدسة ، فلمّا نزلوا على نهر الأردن خافوا من الدخول فيها كما حكى اللّه سبحانه عن موسى قائلاً : ( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) ( المائدة : 21 - 22 ).

فأوحى اللّه إليه أنّهم يتيهون في الأرض أربعين سنة فبقوا في التيه أربعين سنة وكان ينزل عليهم المن والسلوى ومات النقباء غير يوشع بن نون ومات أكثرهم ونشأ ذراريهم وتوفّي موسى وهارون في التيه ، توفّي هارون قبل موسى بسنة وقد فتحها يوشع بعد موت موسى ، وقيل فتحها موسى وكان يوشع في مقدمته (1).

ولم يرد في القرآن شيء يستشم منه أنّه دعا الاُمم الاُخرى طول حياته في التيه ، بل كان يعاشر قومه فقط ويرشدهم حسب استعدادهم وامكاناتهم.

أضف إلى ذلك فقدان الامكانيات وضعف المواصلات في تلكم الأيام ، فتشريع نبوّة عامة تشمل العالم أجمع مع فقدان الامكانيات اللازمة وقلّة الترابط بين الاُمم أمر غير مفيد.

مضافاً إلى أنّ تشريع النبوّة على صعيد عالمي فرع التهيّؤ في روح المجتمع الانساني لقبولها ، فانّ الناس كانوا عصابات وأقواماً متنافرة يتعصّب كل منهم تجاه الآخر

ص: 84


1- مجمع البيان ج 2 ص 179.

ولا ينزل واحد منهم على حكم الآخر ولا لنبي من قوم آخر ، فالطريق الأصلح لهذا هو بعث الأنبياء في داخل الاُمم كما قال سبحانه : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ( النحل - 36 ) (1).

أضف إلى ذلك أنّ الاُمم اليهودية يخصون نبوّة موسى بأنفسهم ولذا لا ترى منهم التبليغ والتبشير في مجتمعات العالم (2).

ومع هذه الوجوه كيف يمكن القول بعمومية دعوته وعالميتها في عصره إلى أن يبعث اللّه نبياً مثله.

وترشدك إلى ما ذكرناه ، قصة موسى مع من آتاه اللّه الرحمة وعلّمه من لدنه علماً وقال سبحانه : ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) ( الكهف 65 - 66 ) (3).

ووصفه بما ورد في الآية من الأوصاف يدل على كونه ولياً من أوليائه بل نبياً مثله - ومع ذلك - كيف تكون نبوّة موسى عالمية مع عدم شمول نبوّتها لمصاحبه ولا لاُمّته إذا فرضنا للمصاحب اُمّة وليس من البعيد أن يكون ذلك المصاحب العائش في زمن موسى مثل لوط المعاصر لإبراهيم وكلّ مبعوث إلى اُمّة دون اُمّة ، وتعاصر النبيين يكشف عن ضيق نطاق نبوّتهم وعدم شمول احدى النبوّتين ، بما تشمله الاُخرى.

قال سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ

ص: 85


1- نعم ذابت هذه التعصّبات القومية في المجتمع الانساني إلى حد استعد مزاج الانسانية لبعث نبي عالمي وكمل استعدادهم لقبول النداء العالمي ولأجل ذلك لم يمض ربع قرن إلاّ وقد ضرب الإسلام بجرانه في شرق الأرض وغربها.
2- وإن كان قول اليهود وفعلهم ليسا بحجة فإنّهم خصّوا اللّه سبحانه بأنّه اله شعبهم فما ظنّك بهم في رسالة موسى علیه السلام .
3- واحتمال أنّه كان من اُمّة موسى ولكن اللّه جعل عنده علماً خاصاً لم يؤته موسى فصار موسى مأموراً بالتعلّم منه ، رجم بالغيب وموجب لزيادة الفرع على الأصل واعلمية بعض الاُمّة من نبيّها مع أنّ سياق الآيات لا يناسب ذلك الاحتمال.

الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) ( العنكبوت 31 - 32 ).

المقام الثاني في عموم شريعته:

المقام الثاني في عموم شريعته (1) :

هل كانت الشريعة التي أتى بها موسى في الألواح التي يصفها اللّه سبحانه بقوله : ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ( الأعراف - 145 ).

مختصة بقومه أم تعم غيرهم ؟ ظاهر بعض الآيات ، يفيد كون كتابه حجة على الناس كلهم حيث وصفه بكونه ، هدى ونوراً للناس وقال : ( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدىً لِّلنَّاسِ ) ( الأنعام - 91 ).

وقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ) ( الأنبياء - 48 ).

فإذن هو ضياء وذكر للمتقين سواء أكانوا من بني إسرائيل أم غيرهم وقوله سبحانه : ( قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الاحقاف - 30 ).

فإنّ وزان الآية ، وزان قوله سبحانه : ( فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ) ( الجن 1 - 2 ).

فإنّ وصف الجن للقرآن بأنّه نزل من بعد كتاب موسى مع كون القرآن ومن جاء به مبعوثين إلى الانس والجن ، يشعر بكون كتاب موسى مثله أيضاً نزلا إلى كلّ من الفريقين ، فكيف تجتمع خصوصية رسالته مع كون كتابه دليلاً وحجة على الكلّ ؟

ص: 86


1- البحث عن عموم شريعته ، فرع ثبوت سعة دعوته في مسألة عبادة اللّه وخلع عبادة الأوثان وقد عرفت عدم ثبوتها ، فالبحث عن عموم شريعته مبني على ثبوت عموم دعوته في جانب الاُصول.

ويمكن الاجابة عن الاستدلال بهذه الآيات أوّلاً : بأنّ كون الكتاب نوراً وهدى للناس ، لا يفيد تعميم شريعة موسى وأحكامه لغير بني اسرائيل ، إذ من الممكن أن يستفيد الغير مما ورد في ذلك الكتاب من عظات وحكم وإن لم يكن تابعاً لأحكام ذلك الكتاب. فنحن المسلمون ، نستفيد في هذا اليوم مما في التوراة والانجيل من المواعظ ولسنا تابعين لشريعة من انزلا إليه.

فبذلك يظهر الجواب عن الاستدلال بقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ) ( الأنبياء - 48 ).

وثانياً : انّ الظاهر من بعض الآيات اختصاص كتاب موسى بقومه مثل قوله تعالى : ( وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الإسراء - 2 ) وقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) ( غافر - 53 ).

فلو كان كتابه حجة على الناس كلّهم لورثه الناس كلّهم دون بني اسرائيل وحدهم (1).

وقوله : ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ) ( المائدة - 32 ).

وقد كتبه سبحانه عليهم في التوراة.

وقوله : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) ( الجاثية - 16 ).

وإن أردت أن تتوسع في البحث فلاحظ الآيات التالية فانّها تخص بني إسرائيل

ص: 87


1- نعم يمكن أن يقال : انّ تخصيص بني اسرائيل بأنّهم الوارثون لكتاب موسى لأجل أنّ بني اسرائيل وأنبياءهم ، هم القائمون بأمر الكتاب وحفظه دون سائر الناس ، فلأجل ذلك خصهم بالميراث ، وإن كانت الشريعة عامة. وهذا نظير قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (فاطر – 32) فورت الكتاب العباد المصطفون وإن كانت الشريعة عامة، على أنه يحتمل أن يكون المراد بالكتاب، هو الوعد الذي وعده اللّه لإبراهيم وموسى بأن يدخلهم الأرض التي كتبها اللّه لهم.

بأنّهم هم الذين اُوتوا الكتاب ، فإنّ كونهم ممّن اُوتوا الكتاب وإن كان لا يعارض كون غيرهم كذلك ، إلاّ أنّ تكرار توصيفهم بأنّهم ، هم الذين اُوتوا الكتاب يوجب ظهورها في نفيه عن غيرهم (1) مثل : قوله سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) ( البقرة - 121 ).

وقوله سبحانه : ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) ( البقرة - 144 ).

وقوله سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ) ( الأنعام - 20 ).

وقوله سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ) ( القصص - 52 ).

وقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالحَقِّ ) ( الأنعام - 114 ).

وقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) ( الرعد - 36 ).

وقوله سبحانه : ( فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) ( العنكبوت - 47 ).

وقوله سبحانه حكاية عن المشركين بأنّه نزل الكتاب على الطائفتين المسيحية واليهودية ولم ينزل علينا : ( أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ) ( الأنعام 156 - 157 ).

فبهذه الآيات وما تقدمها يمكن تفسير ما تقدمها من الآيات المفيدة المشعرة بكون التوراة نازلة إلى الناس كلّهم بحمل ما دلّ على سعة التشريع ، على الاستغراق

ص: 88


1- اللّهمّ إلاّ أن يحمل التأكيد بأنّهم هم الذين اُوتوا الكتاب على كون الكتاب نزل على بني اسرائيل وليس معناه أنّه لا يجوز لغيرهم العمل به.

العرفي ، دون العقلي ، فيراد من قوله سبحانه : نوراً وهدى للناس ، أو ضياء وذكراً للمتقين ، الكتلة المتماسكة من بني اسرائيل.

نعم ، يمكن أن يقال بعكس ذلك ، فيقال : انّ تخصيص بني اسرائيل بالذكر لأجل أنّ التوراة كانت هدى لبني إسرائيل قبل أن تكون لغيرهم بشهادة بعث موسى فيهم وتولّده ونشوئه بينهم ولأجل ذلك خص اللّه ذلك القوم بالذكر وقال : ( وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الإسراء - 2 ).

ولمّا مات وترك بينهم ذلك الكتاب الكريم ، كانت تلك الطائفة أولى بميراث نبيّهم ولأجل ذلك قال : ( وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) ( غافر - 53 ).

ولكن يؤيد الحمل الأول ، أعني كون الاستغراق عرفياً لا عقلياً ، قوله سبحانه : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ ) ( المائدة - 45 ) وقد كتب اللّه لهم هذا الحكم في التوراة وتقييد الكتابة بلفظ ( عليهم ) يؤيد كون الكتاب نازلاً لهدايتهم خاصة.

ويؤيد الحمل الثاني قوله سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) ( المائدة - 44 ).

فظاهر الآية أنّ التوراة كانت محكمة بعد موسى عبر القرون يحكم بها النبيون فالآية تفيد سعة نطاق كتابه وشريعته.

ومع ذلك كلّه فالامعان في الآية لا يفيد إلاّ كون الكتاب حجة لبني اسرائيل ومحكماً عليهم والأنبياء الذين كانوا يحكمون به كانوا من بني اسرائيل لا من غيرهم ولقد بعثوا لهدايتهم وذلك لأنّ اللّه يقول : ( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) ( لا لغيرهم ) الذي هو المطلوب.

هذا ما بلغ إليه فهمنا القاصر من التدبّر في آيات الذكر الحكيم ولما كانت في المقام أسئلة حول المختار عقدنا لها الفصل التالي.

ص: 89

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل :

ربّما يستدل على كون دعوة نوح والخليل والكليم والمسيح عالمية بقوله سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى - 13 ) ويستند في كيفية الاستدلال إلى ما أفاده العلاّمة الطباطبائي حيث قال :

يستفاد من الآية اُمور :

أحدها : انّ السياق بما أنّه يفيد الامتنان وخاصة بالنظر إلى ذيل الآية ، والآية التالية يعطي أنّ الشريعة المحمدية جامعة للشرائع الماضية ولا ينافيه قوله تعالى : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ( المائدة - 48 ) لأنّ كون الشريعة شريعة خاصة لا ينافي جامعيتها.

الثاني : انّ الشرائع الإلهية المنتسبة إلى الوحي إنّما هي شريعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلی اللّه علیه و آله إذ لو كان هناك غيرها لذكر قضاء لحق الجامعية المذكورة.

ولازم ذلك أوّلاً : انّ لا شريعة قبل نوح علیه السلام بمعنى القوانين الحاكمة في المجتمع الانساني الرافعة للاختلافات الاجتماعية ، وقد تقدم نبذة من الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ ) ( البقرة - 213 ).

وثانياً : انّ الأنبياء المبعوثين بعد نوح كانوا على شريعته إلى بعثة إبراهيم وبعدها على شريعة إبراهيم إلى بعثة موسى وهكذا.

ص: 90

الثالث : انّ الأنبياء أصحاب الشرائع واُولي العزم هم هؤلاء الخمسة المذكورين في الآية إذ لو كان معهم غيرهم لذكر فهؤلاء سادة الأنبياء ويدل على تقدمهم أيضاً قوله : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) ( الأحزاب - 7 ) (1).

الجواب :

انّ ما ذكره ( رضوان اللّه عليه ) وإن كان صحيحاً لكنّه لا يدل على عمومية نبوّة هؤلاء الأربعة ومنشأ الاشتباه ( في الاستدلال بالآية وأضرابها على عمومية الدعوة ) هو الخلط بين عمومية دعوتهم وتداول شريعتهم بعدهم ، فقد جرت سنّة اللّه على بعث أنبياء غير صاحبي شريعة في المناطق التي بعث فيها نفس أصحاب الشرائع وهؤلاء المبعوثون كانوا يحملون النبوّة والوحي ، ويتشرّفون بالبيّنات والمعجزات من دون أن تكون لهم شريعة مستقلة ، بل كانوا تابعين لإحدى الشرائع الأربع المتقدمة أو المتعاصرة وناشرين لها ، وكانت نبوّتهم مختصة بقومهم ومنطقتهم غير أنّ ظهور كل واحد منهم من منطقة من المناطق ، كان دليلاً على انتهاء نبوّة النبي صاحب الشريعة عند بعث النبي اللاحق ، بل كان دليلاً على عدم سعتها من بدء الأمر ، كما إذا كان النبي المروّج معاصراً للنبي صاحب الشريعة مثل لوط بالنسبة لإبراهيم علیه السلام .

وهذا ، هو القرآن يحكي عن أنبياء مروّجين معاصرين لصاحب الشريعة أو تالين له ، آخذين بشريعته.

فقد بعث اللّه هوداً إلى عاد بشريعة مثل شريعة نوح التي كانت بسيطة غاية البساطة ، كما بعث صالحاً إلى ثمود ، بمثل ما بعث به هوداً.

وقد بعث اللّه لوطاً إلى قومه ، دون أن تكون له شريعة بل كان يتبع شريعة إبراهيم وكانا يعيشان في عصر واحد ، كما بعث شعيباً إلى أصحاب مدين والايكة ، فأهلك

ص: 91


1- الميزان ج 18 ص 28.

مدين بصيحة جبرئيل ، والايكة بعذاب يوم الظلة ولم تكن له شريعة مستقلة ، بل كان يتّبع شريعة الخليل ويروّجها وينشرها.

وقد بعث اللّه يونس إلى مائة ألف أو يزيدون وكان يعمل بشريعة موسى ، وهكذا حكم سائر الأنبياء المبعوثين في الآونة بعد الآونة ، في ثنايا أزمنة أصحاب الشرائع.

فهؤلاء الأنبياء المروّجون لم يكونوا من علماء الاُمّة حتى يكونوا مشمولين لدعوة أصحاب الشرائع ، بل كانوا ذوي دعوة وارشاد ، ووحي واعجاز ، خارجين عن دعوة من تقدمهم ، داعين إلى أنفسهم ونبوّتهم وإن كانوا آخذين بشريعته وكانت الاُمّة التي بعث هؤلاء إليهم مكلّفة بتلبية نداء هذا النبي الجديد ، والاقتداء بهداه والاتباع لقوله وفعله وهذا دليل على انقطاع نبوّة النبي السالف ورسالته أو عدم سعته من أوّل الأمر كما إذا كانا متعاصرين مثل لوط وإبراهيم.

نعم ، لم تكن هذه الجماعة كنفس أصحاب الشرائع أيضاً ، أنبياء عالميين بعثوا لهداية من في الشرق والغرب ، بل كانوا أنبياء محليين (1) مبعوثين إلى أقوامهم ومناطقهم المستعدة للبعث كنفس أصحاب الشرائع.

فثبت بذلك أنّ نبوّة مثل موسى كانت محدودة بأمرين :

الأوّل : انّ نبوّته كانت اقليمية لا عالمية.

الثاني : انّ نبوّته كانت منقطعة ، ببعث نبي بعده ، وإن لم يكن صاحب شريعة ، بل مروّجاً وتابعاً لشريعته ، وبقاء الشريعة ، غير عمومية النبوّة.

نعم ، النبوّة بمعنى الصفات الحاصلة للنبي مثل علمه ، لا ترتفع بموته ، لبقاء روحه المقدسة ونفسه الكريمة ، والنبوّة بهذا المعنى لا ترتفع إلى الأبد ، بل المراد ما تستتبعه هذه الصفات من كونه قائداً رسمياً من جانب اللّه سبحانه ، يجب على الناس الانتماء والانتساب إليه ، بحيث يعد الانسان من تابعيه واقعاً ، وهذا المعنى أمر قابل

ص: 92


1- سيوافيك توضيحه عند الاجابة عن السؤال الثاني.

للارتفاع بعد ظهور النبي اللاحق وإن كانت الشريعة باقية.

على أنّ الظاهر من بعض الآيات ، تخصيص كلّ نبي لاحق وإن كان تابعاً لشريعة من قبله ، بشيء من الحكم ، لم يكن موجوداً في شريعة من قبله ، فلم يكن وزانهم وزان العلماء بحيث لا يزيدون ولا ينقصون ، بل كان لهم بعض الخصائص من الأحكام والتعاليم ، كما يفيده قوله سبحانه :

( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران - 84 ).

فظهور الآية في استقلالهم بالنبوّة واختصاص كلّ واحد بشيء من الوحي ، ممّا لا ينكر ؟

نعم كون شريعة نوح محدودة ببعث إبراهيم أو كون شريعة الأخير محدودة ببعث موسى علیهم السلام لا ينافي كون الاُمّة المحمدية مأمورة باتباع ملّة إبراهيم لا لأجل بقاء نبوّته أو شريعته بل لأجل وحدة الشريعتين في الجوهر والاُصول التي أهمّها التوحيد ورفض الأوثان والأصنام ، قال سبحانه : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران - 68 ).

وقوله : ( فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران - 95 ).

إلى غير ذلك ممّا ورد من الأمر بالاتباع لملّة إبراهيم ، وهذا لا يدل على بقاء الشريعة ، بل لما كان إبراهيم ، هو البطل الوحيد في كسر شوكة الأصنام وتحطيم انوف المشركين وعبدة الأوثان وقد بعث النبي الأعظم محمد صلی اللّه علیه و آله بنفس ما بعث به إبراهيم ، أمر سبحانه بالاتباع لملّته وطريقته قال : ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ) ( الحج - 78 ).

ولأجل هذه الملاحظة ، يقول يوسف لصاحبيه في السجن : ( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) ( يوسف - 38 ).

ص: 93

وما هذا إلاّ بقاء جوهر الدين في الشرائع السماوية كلّها فالاُمّة المسلمة كانت خليلية إلى أن صارت موسوية ، فعيسوية فمحمدية على المعنى الذي عرفته.

السؤال الثاني :

لو كانت نبوّة موسى والمسيح اقليمية فماذا يعني الحديث التالي ، وإلى ماذا يشير :

« إنّما سمّي اُولوا العزم ، لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع وذلك أنّ كل نبي كان بعد نوح ، كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه ، إلى زمن إبراهيم الخليل وكلّ نبي كان في أيام إبراهيم الخليل وبعده ، كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى علیهاالسلام وكلّ نبي كان في زمن موسى وبعده ، كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن عيسى علیهاالسلام وكلّ نبي كان في أيام عيسى وبعده ، كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبينا محمد صلی اللّه علیه و آله ، فهؤلاء الخمسة اُولوا العزم وهم أفضل الأنبياء والرسل وشريعة محمد صلی اللّه علیه و آله لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده » (1).

الجواب المستفاد من الحديث أمران :

الأوّل : الحديث يدلّ بصراحة على وجود أنبياء في زمن هؤلاء الأربعة وهذا أقوى شاهد على عدم كون نبوّتهم عالمية ، إذ لا وجه لبعث نبيين إلى اُمّة واحدة ولم يثبت الاشتراك في النبوّة إلاّ في موسى لقوله سبحانه : ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ( طه - 32 ).

وقوله سبحانه : ( فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ) ( القصص - 34 ).

الثاني : إنّ الأنبياء المبعوثين في زمنهم أو بعدهم ، كانوا متمسكين بشرائع هؤلاء الأربعة وكانت شريعتهم متداولة بينهم.

والثابت تداول شريعتهم في المناطق التي بعث فيها هؤلاء ولعلّ تداول شريعتهم بين الاُمم السالفة ، من دون تبديل ، صار سبباً لتوهّم كون نبوّتهم عالمية لا اقليمية. ولكنّه لم يثبت تداول شريعتهم بين اُمم الأرض جميعاً وإنّما القدر المتيقّن تداولها في

ص: 94


1- بحار الأنوار ج 15 ص 145 ، ورواه الكافي في باب الشرائع ج 2 ص 17 بأدنى اختلاف.

الشرق الأوسط وما ضاهاه لا أقطار الأرض جميعاً ، نعم دلّت الآيات القرآنية على أنّه لم تخل أرض معمورة من نبي أو نذير قال سبحانه : ( وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) ( فاطر - 24 ).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ( النحل - 36 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) ( الرعد - 7 ).

وهذه الآيات وما يشابهها تدل على شمول فيض النبوّة لأقطار الأرض واُممها وأنّه لم تخل اُمّة من تلك النعمة الإلهية ويؤيد ذلك ما عن أمير المؤمنين : اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة ، أمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً لئلاّ تبطل حجج اللّه وبيّناته (1).

وعند ذلك يتوجّه السؤال التالي :

السؤال الثالث :

لو كانت نبوّة هؤلاء الأربعة اقليمية وشريعتهم متداولة في الشرق الأوسط ، فمن الذي بعثه اللّه إلى هؤلاء الاُمم المبعثرة في أقطار الأرض وأرجائها ومن هم حجج اللّه وبيّناته بين ظهرانيهم ؟

الجواب : انّ القرآن لم يقصص قصص الأنبياء عامة ولم يأت بأسمائهم جميعاً والمذكور منهم لا يتجاوز عن ستة وعشرين نفراً ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) ( غافر - 78 ).

وقال سبحانه : ( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ( النساء - 164 ).

ص: 95


1- نهج البلاغة قسم الحكم الرقم 147.

ولم تحصل لنا الإحاطة بكل من بعثه اللّه إلى الاُمم ، وقيّضهم لهداية الناس.

وقد روى الفريقان عن النبي أنّ عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً وقد جاء في التواريخ والأدعية قسم كبير من أسماء الأنبياء لا نعرف عن أحوالهم إلاّ شيئاً يسيراً فلعلّه كانت هناك جماعة كبيرة وعظيمة من الأنبياء مبعوثين إلى هداية الناس ودعوتهم إلى اللّه من دون أن نسمع لهم ذكراً أو نعرف لهم حالاً وقد سأل السائل صادق الاُمّة وإمامها وقال : فاخبرني عن المجوس أفبعث اللّه إليهم نبياً فانّي أجد لهم كتباً محكمة ومواعظ بليغة وأمثالاً شافية يقرّون بالثواب والعقاب ولهم شرائع يعملون بها ؟

قال علیهاالسلام : ما من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير وقد بعث إليهم نبياً بكتاب من عند اللّه فأنكروه ومجدوا كتابه (1).

فلو كانت نبوّة المجوس بعد موسى وقبل المسيح لما أمكن أن تكون نبوّة موسى عالمية.

ص: 96


1- الاحتجاج ج 2 ص 91.

هل كانت نبوّة المسيح عالمية ؟

اشارة

بعد أن أسفر وجه الحقيقة من ثنايا البحث وظهر أنّ الحق هو أنّ نبوّة موسى كانت لقوم خاص ، وإن كانت شريعته متداولة بين المبعوثين من بعده من الذين بعثوا في الأقوام التي بعث فيها نفس الكليم فلنشرع في تحقيق حال نبوّة المسيح سعة وضيقاً فنقول :

ظاهر بعض الآيات يفيد أنّ رسالته كانت لقوم خاص أيضاً وأنّه كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل خاصة قال سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ( الصف - 6 ).

وقال سبحانه : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) ( الزخرف - 57 ) ( إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الزخرف - 59 ) ( وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَطِيعُونِ ) ( الزخرف - 63 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ ) ( المائدة - 44 ) ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ( المائدة - 46 ).

ص: 97

فانّ تقفية النبيين الذين كانت نبوّتهم لقوم خاص قطعاً بعيسى بن مريم وكونه مصدقاً للتوارة المختصة ببني اسرائيل تشعر بكون نبوّته مثلهم أيضاً ، وقال سبحانه : ( وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ( المائدة - 72 ).

وقال سبحانه : ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) ( آل عمران - 49 ).

وقال سبحانه : ( لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ) ( المائدة - 70 ) ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ( المائدة - 72 ).

ولا يخفى على القارئ ما فيها من الدلالة على كونه مبعوثاً إلى بني إسرائيل حيث جعل محور الكلام في الآيتين ، المرسلين إلى بني إسرائيل وقال : ( وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً ) ثم حكم بكفر من قال بأنّ اللّه هو المسيح بن مريم مشعراً بذلك بأنّ المسيح كان من المبعوثين إليهم وهم الذين ألبسوه لباس الالوهية وجعلوه إلهاً.

أضف إلى ذلك أنّ المسيح جعل محور الخطاب قوم بني إسرائيل وقال : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ( المائدة - 72 ).

نعم ظاهر بعض الآيات يفيد عمومية نبوّته ودعوته كما في قوله تعالى : ( وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ) ( آل عمران - 3 - 4 ) ويعالج الاختلاف بما عالجنا به ما ورد في حق الكليم والتوراة ، بأنّ الاستغراق في قوله : ( لِلنَّاسِ ) عرفي لا عقلي ويراد من قومه : الكثيرون.

وقال العلاّمة في شرح التجريد : ذهب قوم من النصارى إلى أنّ محمداً صلی اللّه علیه و آله مبعوث إلى العرب خاصة (1).

ص: 98


1- كشف المراد ص 283 ط قم.

فهذا إقرار منهم على عدم عمومية رسالة المسيح.

وقال الطبرسي (1) في تفسير قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم ... ) .

أي اذكر إذ قال عيسى بن مريم لقومه الذين بعث إليهم.

وقال العلاّمة في تهذيبه عند البحث عن تعبّد النبي ، قبل بعثته بدينه لا بدين من قبله من الرسل : الأقرب انّه علیه السلام قبل النبوّة لم يكن متعبّداً بشرع أحد وإلاّ لاشتهر ولافتخر به أربابها ونمنع عموم دعوة من سبقه علیه السلام (2).

وقد عدّ العلامة ذلك من خصائص بعثته إلى الناس كافة (3).

وها هنا سؤال : وهو أنّه إن كانت نبوّة المسيح مختصة ببني إسرائيل فلماذا جعل النبي نصارى العرب من أهل الذمة مثل يهود العرب وعامل النصارى واليهود معاملة واحدة مع أنّه ثبت أنّ الكليم كان مبعوثاً إلى خصوص بني اسرائيل ؟ والاجابة عن هذا السؤال سهلة : لأنّ من المحتمل جداً أنّ الرسول كان مأموراً بالحكم على كل متمسّك بالكتاب السماوي احتراماً للعنوان ، لا لكون الكتاب نازلاً فيه كما هو الحال في اتباع المجوس ، فعامل الرسول مع المتمسّكين بدين « زرادشت » معاملة المتمسّك بدين المجوس مع أنّ أهل الكتاب هو الثاني دون الأوّل.

ويؤيد كون رسالة المسيح علیه السلام لقوم خاص اُمور :

1. إنّ أجداد النبي واُسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربية ، كانوا على دين إبراهيم ولم ينقل أحد من أهل السير تهوّدهم أو تنصّرهم.

قال الزرقاني : إنّ العرب من عهد إبراهيم كانوا على دينه ولم يكفر أحد منهم إلى

ص: 99


1- مجمع البيان ج 5 ص 279 طبع صيدا.
2- تهذيب الاُصول إلى علم الاُصول ص 56 الطبع الحجري.
3- التذكرة ج 2 اوائل كتاب النكاح والمطبوع منها غير مرقم.

أن جاء عمرو بن لحي فهو أوّل من عبد الأصنام وغيّر دين إبراهيم وكان قريباً من كنانة جد النبي (1).

2. يظهر مما أنشأه عبد المطلب في قصة أصحاب الفيل أنّه وقومه كانوا متحرّزين من النصارى على وجه الاطلاق حيث أنّه بعد ما رجع من عند « قائد الجيش » « إبرهة » آيساً من إنصرافه عن هدم الكعبة ، أخذ بحلقة الباب قائلاً :

لا يغلبنّ صليبهم ومحا

لهم عدواً محالك (2)

3. ما رواه الحافظ البخاري : عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « اُعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد قبلي ... واُعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة » (3) وفي بعض ألفاظ الحديث : « وكان كلّ نبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى كل أحمر وأسود ».

وقال الشيخ منصور علي ناصف في كتابه القيّم « التاج الجامع للاُصول » روي عن جابر عن النبي قال : « اُعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد من قبل ، نصرت بالرعب مسيرت شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً واُعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة » ، رواه الخمسة إلاّ أبا داود (4).

4. روى الكليني عن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام : انّ اللّه تبارك وتعالى أعطى محمداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والإنس (5).

فقد ظهر من هذا البحث الحديثي ، أنّه لم تكن نبوّة الكليم والمسيح فضلاً عمّن كان قبلهم من إبراهيم ونوح تعم العالم كلّه ، بل كانت دعوتهم اقليمية أو لقوم خاص

ص: 100


1- سيرة ابن هشام ج 1 ص 79.
2- بحار الأنوار ج 15 ص 145 نقلاً عن مناقب آل أبي طالب.
3- صحيح البخاري في مختلف كتبه ، التيمم الباب الأوّل ، الغسل الباب 36 الصلاة الباب 54.
4- يعنى رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة راجع ج 1 ص 30.
5- الكافي ج 2 باب الشرائع ص 17 طبعة دار الكتب الإسلامية.

ليس غير وأمّا الدعوة العالمية فتختص بالنبي الخاتم كما أوضحناه (1).

فان قلت : إنّ آدم قد بعث إلى الناس كافة كما أنّ نوحاً كان مبعوثاً إلى أهل الأرض كافة بعد الطوفان لأنّه لم يبق معه إلاّ من آمن به ، وعليه فينتقض الحصر في الحديث المتفق عليه بين الفريقين.

قلت : الحديث منصرف عن بدء الخلقة وعن النبي الذي لم يكن على أديم الأرض إلاّ نفسه وولده ، أمّا نوح فقد تضافرت الآيات أنّه كان مبعوثاً إلى قومه كقوله سبحانه : ( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ) ( نوح - 1 ).

وأمّا صيرورة رسالته عالمية بعد الطوفان ، لانحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك الناس ، فإنّما هو لأمر عارض لا يضر بخصوصية رسالته.

أضف إلى ذلك أنّ القدر المسلم هو أنّ الطوفان لم يكن عالمياً ، بل كان خاصاً بمنطقة من الأرض التي كان يعيش فيها قومه ويؤيد ذلك أنّه إذا كان مبعوثاً إلى قومه خاصة لم يكن وجه لتعذيب غيرهم وإهلاكهم بتكذيب قومه إذا لم تصلهم دعوته كما هو الظاهر (2).

هيهنا سؤال :

إذا كانت نبوّة كلّ واحد من هؤلاء الأربعة اقليمية أو مختصة بقوم خاص ، فما معنى « اُولوا العزم من الرسل » الذي وصف اللّه به عدة من الرسل ؟ فإنّ المشهور أنّ المقصود منهم من كانت رسالته عالمية موجهة إلى الناس كافة.

ولأجل الاجابة على هذا السؤال عقدنا البحث التالي.

ص: 101


1- راجع صفحات 37 - 56 من هذا الكتاب.
2- وقد وقفت على حقيقة الحال عند البحث عن حقيقة نبوّة نوح علیه السلام .

ما المراد باُولي العزم من الرسل

اشارة

لقد وصف اللّه بعض رسله أو كلهم بكونهم (1) اُولي العزم من الرسل حيث قال : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ) ( الاحقاف - 35 ).

فأمر نبيّه بالصبر والوقوف في وجه العدو كوقوفهم في وجه معانديهم ومخالفيهم وعندئذ يجب أن نتعرف على ما هو المراد من توصيفهم به وقبل كل شيء نأتي بنصوص أهل اللغة في معنى العزم :

1. يظهر من ابن فارس في مقاييسه أنّ لهذا اللفظ معنى واحداً وهو القطع ضد الوصل وإليه يرجع معناه الآخر وهو العزم وكأنّه يقطع التحيّر والشك قال : « عزم » له أصل واحد صحيح يدل على الصريمة والقطع يقال : عزمت أعزم عزماً - إلى أن قال - قال الخليل : العزم ما عقد عليه القلب من أمر أنت فاعله أي متيقّنه ويقال : ما لفلان عزيمة أي ما يعزم عليه كأنّه لا يمكنه أن يصرم الأمر بل يختلط فيه ويتردد ومن قولهم : عزمت على الجنى وذلك أن تقرأ عليه من عزائم القرآن وهي الآيات التي يرجى قطع الآفة عن المؤوف واعتزم السائر إذا سلك القصد قاطعاً له والرجل يعتزم الطريق : يمضي

ص: 102


1- الترديد مبني على كون لفظة « من » تبعيضية أو بيانية وإن كان الظاهر هو الأوّل.

فيه لا ينثني.

واُولوا العزم من الرسل الذين قطعوا العلائق (1) بينهم وبين من لم يؤمن من الذين بعثوا إليهم كنوح علیه السلام إذ قال : ( لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) وكمحمّد صلی اللّه علیه و آله إذ تبرّأ من الكافر وبرّأه اللّه تعالى منهم وأمره بقتالهم في براءة من اللّه ورسوله (2).

2. وفسّره الراغب بالقصد وعقد القلب ، من غير إشارة إلى أصله الذي اخذ منه هذا المعنى وقال : العزم والعزيمة عقد القلب على امضاء الأمر قال : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ، ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ ) ، ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) ، ( إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ، ( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) أي محافظة على ما اُمر به وعزيمة على القيام ، والعزيمة تعويذ كأنّه تصوّر أنّك قد عقدت بها من الشيطان أن يمضي ارادته فيك وجمعها العزائم.

3. وفسّره الفيروز آبادي بقوله : عزم على الأمر أراد فعله وقطع عليه ، أو جدّ في الأمر - إلى أن قال - : واُولوا العزم من الرسل الذين عزموا على أمر اللّه فيما عهد إليهم ، ونقل عن الزمخشري : اُولوا الجد والثبات والصبر.

والمحصّل من هذه النقول أنّ المعنى الأصيل لهذا اللفظ هو القطع ضد الوصل ، ثم يستعمل لأجل المناسبة في عقد القلب والثبات والصبر.

أمّا القرآن فالظاهر أنّه لم يستعمل فيه إلاّ بمعنى عقد القلب مثل قوله :

( فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ ) ( محمد - 21 ).

( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ( آل عمران - 159 ).

( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) ( البقرة - 227 ).

( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ ) ( البقرة - 235 ).

ص: 103


1- هذا التفسير لم يعهد من المفسرين.
2- المقاييس ج 4 ص 308.

( وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ( آل عمران - 186 ).

أي أنّ الصبر والتقى من الاُمور التي بان رشدها ويجب أن يعزم وينعقد القلب عليها وعقد القلب عليها يستلزم الصبر ويتوقف على الثبات في معارك الحياة ، فالصبر لازم العزم.

ومثله قوله سبحانه : ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ( لقمان - 17 ).

وقوله سبحانه : ( وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ( الشورى - 43 ).

والتدبر في الآيتين الأخيرتين يعطي أن العزم ليس مرادفاً للصبر والثبات وإن فسّره به الزمخشري في كشافه حيث قال في تفسيره : « اُولوا العزم أي اُولوا الجد والثبات والصبر » (1).

وذلك لأنّ اسم الإشارة في آية سورة لقمان امّا راجع إلى خصوص الصبر كما هو مقتضى الأقربية أو إلى كل ما أوصى به لقمان من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما أصابه وعلى أي تقدير لا يصح أن يفسّر العزم بالصبر والثبات إذ يصير معنى الآية حينئذ : أنّ الصبر وحده أو هو مع غيره من عزم الاُمور.

وبذلك يظهر الحال في آية سورة الشورى فلاحظ.

وقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) ( طه - 115 ).

والمقصود لم نجد له عزماً حافظاً على عهده الذي عاهدناه.

نعم العزم على الشيء والمحافظة على عقد القلب في طول الحياة لا ينفك عن الثبات والجد والوقوف في وجه المشاكل.

هذا معنى العزم في القرآن وبذلك يظهر معنى العزم في الآية التي نحن بصدد

ص: 104


1- الكشاف ج 3 ص 126.

رفع الستر عن وجهها أعني قوله سبحانه : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) . فانّه بمعنى أصحاب العزائم والقصود المؤكدة التي لا تنفصم أصلاً وتدعو إلى العمل والسعي في سبيل اللّه سبحانه. من هم اُولي العزم من الرسل ؟

يجد القارئ الكريم حول الآية وجوهاً ومعاني حملت على الآية والآية لا تحتملها ودونك تلك الوجوه :

الوجه الأوّل :

1. هم الذين بعثوا إلى شرق الأرض وغربها جنّها وانّسها (1).

هذا المعنى أحد الوجوه التي تفسّر بها الآية وعلى هذا يجب عدّ رسالة كلّ من قام الاجماع على كونه من الرسل اُولي العزم أو عدّ منهم في الأخبار الصحاح رسالة عالمية لا اقليمية وبما أنّ موسى والمسيح قامت الضرورة على كونهم من اُولي العزم يجب أن يكون رسالتهم عالمية حسب هذا القول.

وقد عرفت ضعف هذا القول في البحث الماضي وأنّ الآيات تفيد كون رسالة الكليم والمسيح مختصة بقومهما وبالمناطق التي بعثا فيها فضلاً عن كون رسالة نوح والخليل علیهماالسلام عالمية.

وعلى ذلك فهذا الاحتمال في تفسير الآية لا يمكن الركون إليه فلنبحث عن المحتملات الاُخر حول الموضوع.

الوجه الثاني :

أن يراد من اُولي العزم كل الرسل ولم يبعث اللّه رسولاً إلاّ كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال وعقل وعلى هذا فلفظة « من » في قوله : ( مِنَ الرُّسُلِ ) تبيين لا تبعيض كما يقال :

ص: 105


1- حق اليقين لشبر ص 111 ناقلاً عن كامل الزيارت.

كسيته من الخز ، وكأنّه قيل اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم ، ووصفهم بالعزم لأجل صبرهم وثباتهم (1).

ويؤيد ذلك قوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) ( الأحزاب - 7 ).

فإنّ اضافة الميثاق إلى النبيين دليل على أنّ الميثاق المأخوذ منهم بوصف كونهم من النبيين غير الميثاق المأخود منهم بوصف كونهم من بني آدم الذي يشير إلى ذلك الميثاق قوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ) ( الأعراف - 172 ).

فالآية الاُولى تدل على أخذ الميثاق من النبيين عامة وأخذ الميثاق وإن كان لا يدل على العزم الراسخ لكن سكوت القرآن عن نقضهم لهذا الميثاق وبما هم أنبياء معصومون من كل عصيان ، يشعر أو يدل على قيامهم بالميثاق الغليظ الذي يتوقف على العزم الراسخ والإرادة القوية التي تستتبع الصبر والثبات.

وأمّا تخصيص الخمسة بالذكر فهو لعظمة شأنهم ورفعة مكانهم لكونهم أصحاب الشرائع والكتب لا لانحصار ذاك الوصف فيهم ، كما يمكن أن يتوهم فقد خصّ اللّه سبحانه هؤلاء الخمسة بالذكر في مورد آخر وقال : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى - 13 ).

وقد أشار سبحانه إلى أخذ الميثاق من الأنبياء جميعاً في قوله :

( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا ) ( آل عمران - 81 ) (2).

ص: 106


1- مجمع البيان ج 5 ص 94.
2- وقد بسّط الطبرسي الكلام في تفسير الآية فراجع ج 1 ص 468.

وهذه الآية تحتمل معنيين :

الأوّل : أنّه سبحانه أخذ الميثاق من النبيين ولم يذكر متعلّق الميثاق عندئذ وقوله : ( لَمَا آتَيْتُكُم ) ليس متعلّقاً لأخذ الميثاق منهم ، لكون اللام مفتوحة توطئة للقسم وقوله لتؤمنن جواب له ، وعند ذلك يحتمل أن يكون الميثاق المأخوذ منهم هو وحدة الكلمة في الدين وعدم الاختلاف فيه وإليه تؤمى آية سورة الشورى أعني قوله : ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا ) ( الشورى - 13 ).

الثاني : انّه سبحانه أخذ الميثاق من الاُمم على أنبيائهم على تصديقهم والاقتداء بهم وعلى ذلك تخرج عمّا نحن بصدد البحث عنه والمعنى الأوّل أظهر.

الوجه الثالث :

أن يكون « من » للتبعيض ويراد من « اُولوا العزم » بعض الأنبياء ، قيل هم نوح صبر على أذى قومه وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم على النار وذبح الولد ، وإسحاق على الذبح ، ويعقوب على فقدان الولد وذهاب البصر ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضر ، وموسى إذ قال له قومه : ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) وداود يبكي على زلته أربعين سنة وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنّها معبرة فاعبروها ولا تعمروها ، وقال اللّه تعالى في آدم : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) ، وفي يونس : ( وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) (1).

وهذا القول أقرب الأقوال لولا أنّ فيه مسحة إسرائيلية حيث عد إسحاق ذبيحاً مع أنّ الذبيح هو إسماعيل ولكنّه لا يضر بأصل المعنى ويؤيده كما اُشير إليه نفي العزم عن آدم بعد ما عهد إليه ونسي ما عهد ، والنسيان كناية عن الترك اُطلق السبب واُريد المسبّب لأنّ الشيء إذا نسي ترك ، والمراد من العهد هو النهي عن أكل الشجرة بمثل قوله : ( وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) ( الأعراف - 19 ).

ص: 107


1- مجمع البيان ج 5 ص 194 - واحتمله الفخر راجع ج 7 ص 468.

وعلى ذلك فالعزم أمّا بمعنى القصد الجازم كما هو الحق أو الصبر والثبات ويؤيده ما رواه القمي في تفسير الآية حيث قال : وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، ومعنى اُولوا العزم : أنّهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار باللّه وأقروا بكل نبي كان قبلهم وبعدهم وعزموا على الصبر مع التكذيب لهم والأذى (1).

ولا يرد على هذه الرواية ما أوردناه على السابقة ، نعم انحصاره في الخمسة المذكورة في الرواية يحتاج إلى دليل قاطع.

ومع ذلك فهذا القول أقرب الأقوال لكن بتصرف فيه وهو أنّ جعل « اُولوا العزم » من الرسل حيث قال : اُولوا العزم من الرسل يدل على أنّ عزمهم القوي كان في تبليغ رسالتهم ونشرها بين الناس ، لا مجرد إبتلائهم بالشدائد والبلايا ولو في غير طريق نشر الدين ، فابتلاء يعقوب ويوسف وأيوب وغيرهم لا يجعلهم داخلاً في « اُولوا العزم من الرسل » بما هم رسل ذووا رسالة من اللّه سبحانه إلى عباده.

ويؤيده أنّ الآية بصدد تحريض النبي على تحمل المشاق في طريق دعوته ورسالته ، والقرآن يصف نوحاً وإبراهيم وموسى بكونهم ذوي عزائم قوية في سبيل الدعوة وتبليغ الدين ولعلّ ههنا من يصفه القرآن بهذا الوصف أو هو كذلك وإن لم يصفه القرآن ولكنّا غير واقفين عليه.

الوجه الرابع :

من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدمه وهم خمسة اوّلهم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد صلی اللّه علیه و آله روي عن ابن عباس وقتادة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه علیهماالسلام قال : وهم سادة النبيين وعليهم دارت رحى المرسلين(2).

ص: 108


1- تفسير القمي ج 2 ص 300.
2- مجمع البيان ج 5 ص 194.

غير أنّه لم يثبت نسخ كلّ شريعة لاحقة لما تقدمها.

فذا هو عيسى بن مريم يبيّن الغاية من بعثته بقوله : ( قَدْ جِئْتُكُم بِالحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) ( الزخرف - 63 ).

فإنّ معنى ذلك أنّ المسيح جاء مبيّناً لا ناسخاً لما تقدمه من الشرائع.

الوجه الخامس :

هم الذين اُمروا بالجهاد والقتال وجاهدوا في الدين. نقل عن السدي والكلبي (1).

وهذا لوجه ينطبق مع بعض المعاني المتقدمة خصوصاً الثالث.

الوجه السادس :

إنّ العزم بمعنى الوجوب والحتم واُولوا العزم من الرسل هم الذين شرعوا التشريع وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها وخصهم القائل بأربعة أعني نوحاً وهوداً وإبراهيم ومحمداً صلی اللّه علیه و آله (2).

وهذا المعنى مبني على كون العزم بمعنى الحكم والشريعة مقابل الرخصة وهو الذي يؤيده بعض الروايات المروية عن أهل البيت علیهم السلام وقد روي في العيون عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال : « إنّما سمّي اُولوا العزم اُولي العزم لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع وذلك أنّ كلّ نبي كان بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل » (3).

الوجه السابع :

المقصود هم الرسل الثمانية المذكورون في قوله سبحانه : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا

ص: 109


1- مجمع البيان ج 5 ص 194.
2- العيون ج 12 الباب 32 ص 80 ونور الثقلين ج 5 ص 22.
3- مجمع البيان ج 5 ص 194.

إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) ( الأنعام : 83 - 84 ).

والدليل على ذلك قوله سبحانه : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) ( الأنعام - 90 ).

وهذا المعنى من أبعد الأقوال عن الحق لأنّه سبحانه لم يخص الاهتداء بالثمانية إلاّ وقد أشار إلى آبائهم بقوله : ( وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الأنعام - 87 ).

ثم قال سبحانه : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) .

فيجب أن يكون الكل اُولي العزم.

وهناك أقوال اُخر يرجع إلى الاختلاف في عددهم بين كونه تسعة أو سبعة أو ستة أو خمسة أو أربعة وقد ضربنا عن ذكرها صفحاً.

وعرفت أنّ الحق هو الوجه الثالث بالتصرف الذي عرفته فيه وأوضحنا أنّ هذه اللفظة ليس علماً لعدة معيّنة بل هي وصف يشير إلى الجماعة الذين صبروا في طريق رسالاتهم وتبليغ دين اللّه سبحانه ، وقد عرفت أنّ القرآن يصف ثلاثة من الرسل بهذا العنوان وهم عبارة عن نوح والخليل والكليم ولعلّ هناك من صبر في هذا الطريق ، وعرفه القرآن ولم نقف عليه ، عصمك اللّه وإيّانا من الزلل في القول والعمل وجعلنا من أصحاب العزائم القوية في نشر الحق.

شبهة واهية في المقام :

ذهب بعض المعترضين من لا إلمام له بحقيقة التعاليم الإسلامية ولا معرفة له باُصول الدين المحمدي وفروعه إلى انكار عالمية الإسلام ، تمسّكاً بالأمر التالي وهو :

انّ الإسلام جاء بضرائب على الابل والبقر والغنم بمقادير دقيقة في غاية الدقة لأنّ الجزيرة العربية كانت يوم ذاك تكثر فيها الجمال والمواشي دون غيرها من البلاد

ص: 110

والقارات وذلك آية كونه ديناً اقليمياً لا عالمياً ، بل آية على أنّ تخطيطاته الاقتصادية ، وقوانينه في الضرائب وغيرها تناسب عصر الجمال والمواشي ، لا عصر الصاروخ والطائرة ، والمعامل الكبرى ، والمصانع الضخمة ، والأعمال التجارية الهائلة.

قلت : هذه شبهة يتمسّك بها تارة على نفي كون الإسلام ديناً عالمياً ، واُخرى على نفي كونه ديناً أبدياً وخاتماً لرسالات السماء بحجّة أنّ ما جاء به الإسلام من تشريع في مجال الضرائب ناقص لا يفي بالحاجات المتجددة في العصور المتطورة والحضارات المتقدمة ، والنفقات المتزايدة.

وقد أجبنا عن هذه الشبهة مفصّلاً في الجزء الثاني من هذه الموسوعة عند البحث عن ( المنابع المالية للحكومة الإسلامية ) فلاحظ تجد فيها ما يقطع جذور الشبهة من أساسها.

ص: 111

ص: 112

الفصل الثاني: الخاتمية في الذكر الحكيم

اشارة

اتفقت الاُمّة الإسلامية عن بكرة أبيها على أنّ نبيّهم محمداً خاتم النبيين ، وأنّ دينه خاتم الأديان ، وكتابه خاتم الكتب والصحف ، فهو صلی اللّه علیه و آله آخر السفراء الالهيين ، أوصد به باب الرسالة والنبوّة ، وختمت به رسالة السماء إلى الأرض.

لقد اتفق المسلمون كافة على أنّ دين نبيّهم ، دين اللّه الأبدي ، وكتابه ، كتاب اللّه الخالد ، ودستوره الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقد أنهى اللّه إليه كلّ تشريع وأودع فيه اُصول كلّ رقي ، وأناط به كلّ سعادة ورخاء ، فاكتملت بدينه وكتابه الشرائع السماوية التي هي رسالة السماء إلى الأرض.

توضيحه : أنّ الشريعة الحقة الالهية التي أنزلها اللّه إلى أوّل سفرائه لا تفترق جوهراً عمّا أنزله على آخرهم ، بل كانت الشريعة السماوية في بدء أمرها كنواة قابلة للنمو والنشوء ، فأخذت تنمو وتستكمل عبر القرون والأجيال ، حسب تطور الزمان وتكامل

ص: 113

الاُمم ، وتسرب الحصافة إلى عقولهم ، وتسلل الحضارة إلى حياتهم.

ويفصح عمّا ذكرنا قوله سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ... ) ( الشورى - 13 ) فقد وصّى نبيّنا محمداً بما وصّى به نوحاً ، من توحيده سبحانه وتنزيهه عن الشرك ، والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، والتنديد بالجرائم الخلقية ، والقضاء على أسبابها ، إلى غير ذلك ممّا تجده في صحف الأوّلين والآخرين.

وتتجلى تلك الحقيقة الناصعة ، أي وحدة الشرائع السماوية ، جوهراً من مختلف الآيات في شتى المواضع ، قال سبحانه : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) ( آل عمران - 19 ) وظاهر الآية يعطي أنّ الدين عند اللّه - لم يزل ولن يزال - هو الإسلام في طول القرون والأجيال ، ويعاضدها قوله تعالى : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) ( آل عمران - 85 ).

وقد نبّه سبحانه في مورد آخر على خطأ اليهود والنصارى في رمي - بطل التوحيد - إبراهيم باليهودية والنصرانية ، وقال : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران - 67 ).

نعم المراد من الإسلام في الآيتين هو التسليم لله والامتثال لأوامره ونواهيه لا المعنى العلمي منه ، الذي يقابل اليهودية والنصرانية.

وقد سئل علي علیه السلام عن حقيقة الإسلام ، فقال : « لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين » (1) ففسّر الإسلام بالتسليم له سبحانه ، وحقيقة التسليم هنا هو إرجاع الأمر والنهي إليه سبحانه ، فالواجب ما أمر به والحرام ما نهى عنه ، لا ما أمر به الأحبار والرهبان ، أو نهوا عنه ، ولا يتحقق التسليم إلاّ برفض تحكيم الرجال في الشريعة ، ورد آراء الناس والأحبار والرهبان في الحلال والحرام.

فحقيقة الشرائع السماوية في جميع الأدوار والأجيال كانت أمراً واحداً وهو

ص: 114


1- نهج البلاغة : المختار من الحكم 125.

التسليم لله في فرائضه وعزائمه وحده.

ولأجل ذلك كتب الرسول إلى قيصر عندما دعاه إلى الإسلام ، قوله سبحانه : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (1).

وقد أمر سبحانه في آية اُخرى رسوله بدعوة معشر اليهود أو الناس جميعاً إلى اتباع ملّة إبراهيم ، قال سبحانه : ( فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران - 95 ).

وصرّح سبحانه بأنّ كلّ نبي جاء عقب نبي آخر ، كان يصرّح بأنّه مصدّق بوجود ذلك النبي المتقدم عليه وكتابه ودينه ، فالمسيح مصدّق لما بين يديه من التوراة ومحمّد صلی اللّه علیه و آله مصدّق لما بين يديه من الكتب وكتابه مهيمن عليه ، كما قال سبحانه : ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ، ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) ( المائدة : 46 ، 48 ).

وهذه النصوص كلّها تعبّر عن وحدة اُصول الشرائع وجذورها ولبابها.

وعلى هذه فرسالة السماء إلى الأرض ، رسالة واحدة في الحقيقة مقولة بالتشكيك ، متكاملة عبر القرون ، جاءت بها الرسل طوال الأجيال ، وكلّهم يحملون إلى المجتمع البشري رسالة واحدة لتصعد بهم إلى مدارج الكمال ، وتهديهم إلى معالم الهداية ومكارم الأخلاق.

نعم كان البشر في أوّليات حياتهم يعيشون في غاية البساطة والسذاجة ، فما كانت لهم دولة تسوسهم ، ولا مجتمع يخدمهم ولا ذرائع تربطهم ، وكانت أواصر الوحدة ووشائج الارتباط بينهم ضعيفة جداً ، فلأجل ذاك القصور في العقل ، وقلة التقدم ، وضعف الرقي ، كانت تعاليم أنبيائهم ، والأحكام المشروعة لهم ، طفيفة في غاية البساطة ، فلما أخذت الانسانية بالتقدم والرقي ، وكثرت المسائل يوماً فيوماً ، اتسع نطاق الشريعة

ص: 115


1- السيرة الحلبية ج 2 ص 275 ، مسند أحمد ج 1 ص 262.

واكتملت الأحكام تلو هذه الأحوال والتطورات.

فهذه الشرائع ( مع اختلافها في بعض الفروع والأحكام نظراً إلى الأحوال الاُممية والشؤون الجغرافية ) لا تختلف في اُصولها ولبابها ، بل كلها تهدف إلى أمر واحد ، وتسوق المجتمع إلى هدف مفرد ، والاختلاف إنّما هو في الشريعة والمنهاج لا في المقاصد والغايات كما قال سبحانه : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ) ( المائدة - 48 ) (1).

وقال سبحانه : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( الجاثية - 18 ).

وخلاصة القول : إنّ السنن مختلفة ، للتوراة شريعة ، وللانجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ولكن الدين هو الاُصول والعقائد والأحكام التي تساير الفطرة الإنسانية ولا تخالفها ، واحد.

وهاتان الآيتان لا تهدفان إلى اختلاف الشرائع في جميع موادها ، ومواردها اختلافاً كلّياً بحيث يكون من النسبة بينها نسبة التباين ، كيف وهو سبحانه يأمر نبيّه بالاقتداء بهدى أنبيائه السالفين ويقول : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) ( الأنعام - 90 ).

وتخصيص الاقتداء بالتبعية لسننهم وسيرتهم في دعوة أقوامهم إلى الدين والصبر على أذاهم كما في قوله سبحانه : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) ( الأحقاف - 35 ) تخصيص بلا وجه.

فالقول باختلاف الشرائع وتباينها في جميع الموارد لا يرتضيه القرآن والقول باتحاد الشرائع باطل بالضرورة قال سبحانه : ( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا

ص: 116


1- أي جعلنا لكل من موسى وعيسى ومحمد صلی اللّه علیه و آله أو لكل من اُمم التوراة والانجيل والقرآن شريعة وطريقاً خاصاً إلى ما هو الهدف الأقصى من بعث الرسل ومنهاجاً واضحاً ، والاختلاف بين الكتب والشرائع جزئي لا كلي ، والنسخ في بعض الأحكام لا في جميعها.

يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ ) ( الحج - 67 ).

والقول الوسط هو الأوسط ، والشريعة الكاملة السمحة الصالحة لكلّ زمان وكلّ مكان هي الشريعة التي جاء بها الإسلام ونبيّه الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

ثم إنّه سبحانه يصرح بحكمة اختلاف الشرائع وتعددها بقوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) ( المائدة - 48 ).

فإنّ الشريعة الواحدة إنّما تصلح لاُمّة مخلوقة على استعداد واحد ، وحالة واحدة كسائر أنواع الخلق التي يقف استعدادها عند حد معين كالطير والنمل والنحل ، وأمّا النوع الممتاز كالانسان الذي يرتقي في اطوار الحياة بالتدريج وعلى سنّة الارتقاء فلا تصلح له شريعة واحدة في كل طور من أطوار حياته ، فشدة أحكام الانجيل في الزهد وترك الدنيا والخضوع لكل حاكم وكل معتد لا يمكن أن يؤخذ به في هذا العصر ، ومثله ما في التوراة من أحكام شديدة كما لا يخفى.

نعم جاءت الرسل تترى ، وتواصلت حلقات النبوّة في الأدوار الماضية إلى أن بعث اللّه آخر سفرائه ، فأتم به نعمته وأكمل به دينه ، فأصبح المجتمع البشري في ظل دينه الكامل وكتابه الجامع ، غنياً عن تواصل الرسالة وتعاقب النبوّة ، وأصبح البشر غير محتاجين إلى ارسال أي رسول بعده ، إذ جاء الرسول بأكمل الشرائع وأتقنها وأجمعها للحقوق وبكل ما يحتاج إليه البشر في أدوار حياتهم وأنواع تطوّراتهم وفي الوقت نفسه فيها مرونة تتمشى مع جميع الأزمنة والأجيال ، من دون أن تمس جوهر الرسالة الأصلي بتحوير وتحريف.

ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية.

النصوص القرآنية الدالّة على ختم النبوّة :

اشارة

لقد نص القرآن الكريم على ذلك تنصيصاً لا يقبل الشك والترديد ، ولا يرتاب فيه من له أدنى إلمام باللغة العربية ، وذلك في مواضع :

ص: 117

النص الأوّل : قوله سبحانه :

( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) ( الأحزاب - 40 ).

توضيحه : تبنّى رسول اللّه زيداً قبل عصر الرسالة ، وكان العرب ينزّلون الادعياء منزلة الأبناء في أحكام الزواج والميراث ، فأراد اللّه سبحانه أن ينسخ تلك السنّة الجاهلية ، فأمر رسوله أن يتزوّج زينب زوجة زيد بعد مفارقته لها ، فلمّا تزوّجها رسول اللّه ، أوجد ذلك الزواج ضجة بين المنافقين والمتوغلين في النزعات الجاهلية ، والمنساقين وراءها ، فرد اللّه سبحانه مزاعمهم وطعنهم بقوله : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ) من الذين لم يلدهم ومنهم زيد ولكنّه ( رَسُولَ اللّهِ ) وهو لا يترك ما أمره اللّه به ( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وآخرهم ختمت به النبوّة فلا نبي بعده ولا شريعة سوى شريعته ، فنبوّته أبدية وشريعته باقية إلى يوم الدين.

الخاتم وما يراد منه :

الخاتم ( سواء كان بفتح التاء كما عليه « عاصم » أم بكسرها ، كما عليه الباقون وعلى الفتح سواء أقلنا أنّه فعل كضارب بمعنى ختمهم ، أم اسم بمعنى آخرهم ، أو بمعنى ما يختم به أي المختوم به باب النبوّة ، كما يختم بالطابع ) لا يفهم منه في المقام إلاّ معنى واحد وهو أنّه قد ختم به باب النبوّة وأوصد بوجوده ودينه وكتابه باب الرسالة فلا نبي بعده أصلاً.

وقد أصفقت على هذا كتب اللغة والتفسير والتاريخ طيلة أربعة عشر قرناً ولم يختلف فيه اثنان ، ولم ينبس أحد ببنت شفة على خلافه ، فهذه معاجم اللغة وكتب التفسير المؤلفة في العهود الإسلامية السابقة ، بيد أساطين اللغة وفطاحلها وأئمّة التفسير وأبطاله ، ضع يدك على أي واحد منها ، تجدها متضافرة على ما قلناه وسوف ننقل بعض نصوصهم.

ص: 118

والأولى أن نرجع قبل كل شيء إلى نفس القرآن وموارد استعمال هذه المادة فيه ، حتى نستعين بالقرآن الكريم نفسه ، في رفع الابهام :

1. ( يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ) ( المطففين - 25 ) أي من الشراب الخالص الذي لا غش فيه ، تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك ، أو مختوم بابه بشي مثل الشمع وغيره ، وذلك آية خلوصه.

2. ( خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ ) ( المطففين - 26 ) مقطعه رائحة مسك إذا شرب.

3. ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَإِ اللّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ) ( الشوري - 24 ).

4. ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ ) ( يس - 65 ) أي طبع على أفواههم فتوصّد أفواههم وتتكلم أيديهم.

5. ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) ( الجاثية - 23 ).

6. ( خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) ( البقرة - 7 ).

7. ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ) ( الأنعام - 46 ).

فإذا انتهى الكافر من كفره إلى حالة يعلم اللّه أنّه لا يؤمن ، يطبع اللّه على قلبه كما يطبع على الشيء بالشمع والطين فيصير قلبه كالمختوم عليه ، لا يدخله شيء ، ولا يخرج منه شيء ، فلا يدخله الإيمان ولا يخرج منه الكفر.

فالختم على الشيء ، بمعنى الطبع عليه كناية عن ختم أمره ، فالختم على القلب يلازم انتهاء أمره وامتلاءه بالكفر والالحاد فلم يبق فيه موضع لنور الحق وكلماته ، كما أنّ ختم الورقة وطبعها بالطابع علامة أنّ الكاتب بلغ ما أراد من كتابته فيها ، وانتهى غرضه

ص: 119

ومقصده.

والختم على النبوّة عبارة عن أنّه أوصد باب النبوّة وطبع على بابها ، فهو مقفل إلى يوم القيامة ، لا يفتح في وجه أحد.

وعلى أي تقدير فالناظر في هذه الآيات لا يتلقّى من تلك المادة إلاّ معنى واحداً وهو الانتهاء ، أو ما يلازمه من الطبع على الشيء.

وقد أوضحه إمام اللغة ابن فارس في معجمه وقال : « الختم » له أصل واحد وهو البلوغ آخر الشيء ، يقال ختمت العمل ، وختم القارئ السورة ، فأمّا الختم وهو الطبع على الشيء ، فذلك من هذا الباب أيضاً ، لأنّ الطبع على الشيء لا يكون إلاّ بعد بلوغ آخره في الإحراز ، والخاتم مشتق من الختم ، لأنّه به يختم ، ويقال : الخاتم بالكسر ، والخاتام والخيتام.

والنبي صلی اللّه علیه و آله خاتم الأنبياء لأنّه آخرهم ، وختام كل مشروب ، آخره ، قال اللّه تعالى : ( خِتَامُهُ مِسْكٌ ) ، أي أنّ آخر ما يجدونه عند شربهم إياه رائحة المسك.

وقال أبو البقاء العكبري : الخاتم بفتح التاء على معنى المصدر ، أو هو فعل مثل قاتل بمعنى ختمهم ، وقال الآخرون : اسم بمعنى آخرهم ، وقيل : هو بمعنى المختوم به النبيون ، كما يختم بالطابع ويقرأ بكسرها ، بمعنى آخرهم (1).

وقال الجوهري في صحاحه : ختمه ويختمه ختماً وختاماً ، طبع على قلبه : جعله لا يفهم شيئاً ولا يخرج منه شيء ، وختم الشيء : بلغ آخره ، والختام ككتاب : الطين يختم به على الشيء ، والخاتم ما يوضع على الطينة ، وحلي للاصبع ...

قال الفيروز آبادي في قاموسه : ختمت الشيء ختماً فهو مختوم ومختم ، شدّد للمبالغة ، وختم اللّه له بخير منه ، وختمت القرآن : بلغت آخره ، واختتمت الشيء : نقيض افتتحته ، وإلخاتم بكسر التاء وفتحها ، والخيتام والخاتام : كلّها بمعنى واحد ،

ص: 120


1- التبيان في اعراب القرآن ج 2 ص 100.

والجمع الخواتيم ، وتختمت : إذا ألبسته ، وخاتمة الشيء : آخره.

ومحمد صلی اللّه علیه و آله خاتم الأنبياء.

والختام ، الطين الذي يختم به ، وقوله تعالى : ( خِتَامُهُ مِسْكٌ ) أي آخره ، لأنّ آخر ما يجدونه رائحة المسك.

قال ابن منظور في لسان العرب : ختام القوم ، أقصاهم ، ختام القوم وخاتمهم آخرهم ، محمد صلی اللّه علیه و آله خاتم الأنبياء ، والخاتم من أسماء النبي صلی اللّه علیه و آله ففي التنزيل : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، أي آخرهم ، وقد قرأوا « خاتم » بالفتح ، ومن أسمائه « العاقب » أيضاً ومعناه آخر الأنبياء.

قال أبو محمد الدميري في منظومته :

والخاتم الفاعل قل بالكسر *** وما به يختم ، فتحاً يجري (1)

وقال البيضاوي : وخاتم النبيين آخرهم الذي ختمهم ، أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح.

وفي تفسير الجلالين : وفي قراءة بفتح التاء ، كآلة الختم ، أي به ختموا.

وقال الراغب في مفرداته : يطلق الختم على البلوغ إلى آخر الشيء ، نحو ختمت القرآن ، أي انتهيت إلى آخره ، وخاتم النبيين ، لانّه ختم النبوّة أي تممها بمجيئه.

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة والنصوص الدالة على تظافر اللغة والتفسير على معنى واحد ، ولباب هذه النصوص : أنّ لمادة هذه الكلمة معنى واحداً وهو الانتهاء والوصول إلى آخره ، وأمّا الخاتم المشتق منها فعلى الكسر بمعنى الآخر ، وعلى الفتح أمّا فعل كضارب ، أو اسم بمعنى ما به يختم.

وأمّا اطلاقه على الحلية التي تزيّن بها الاصبع ، فلأجل أنّ الدارج في عهد الرسالة طبع الكتاب بالخاتم ، فكانت خواتيمهم طوابعهم ، لا أنّه وضع لها ابتداء.

ص: 121


1- التيسير في علوم التفسير ص 90.

ويدل على ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته : انّ رسول اللّه أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام ، وكتب إليهم كتاباً ، فقيل يا رسول اللّه أنّ الملوك لا يقرؤن كتاباً إلاّ مختوماً ، فاتخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يومئذ خاتماً من فضة - فصّه منه - نقشه ثلاثة أسطر : محمد رسول اللّه ، وختم به الكتب (1).

قال ابن خلدون في مقدمته عند البحث عن شارات الملوك : أمّا الخاتم فهو من الخطط السلطانيةوالوظائف الملوكية ، والختم على الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده ، وقد ثبت في الصحيحين ، أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أراد أن يكتب إلى قيصر ، فقيل له : إنّ العجم لا يقبلون الكتاب ، إلاّ أن يكون مختوماً ، فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه : محمد رسول اللّه.

قال البخاري : جعل ثلاث كلمات في ثلاثة أسطر وختم به وقال : لا ينقش أحد مثله ، قال : وتختم به أبو بكر وعمر وعثمان ، ثم سقط من يد عثمان في بئر اريس ...

وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه :

وذلك أنّ الخاتم يطلق على الآلة التي تجعل في الاصبع ومنه تختم : إذا لبسه ، ومنه ختمت الأمر : إذا بلغته ، وختمت القرآن ، ومنه خاتم النبيين ، وخاتم الأمر ، ويطلق على السد الذي يسد به الأواني والدنان ، ويقال : ختام ، وقد غلط من فسّر هذا بالنهاية والتمام ، قال : آخر ما يجدونه في شرابهم ريح المسك ، وليس المعنى عليه وإنّما هو من الختام الذي هو السداد ، لأنّ الخمر يجعل لها في الدن سداد الطين أو القار ، يحفظها ويطيب عرفها وذوقها فبولغ في وصف خمر الجنة بأنّ سدادها من المسك وهو أطيب عرفاً وذوقاً من القار والطين المعهودين في الدنيا ..

وأنّ الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثم غمس في دواة من الطين أو المداد ، ووضع على صفح القرطاس بقى أكثر الكلمات في ذلك الصفح ، وكذلك إذا طبع به على جسم ليّن كالشمع فإنّه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسماً فيه ... إلى أن قال :

ص: 122


1- الطبقات الكبرى ج 1 ص 258.

ويكون هذا من معنى النهاية والتمام بمعنى صحة ذلك المكتوب ونفوذه كأنّ الكتاب إنّما يتم العمل به بهذه العلامات ، وهو من دونها ملغى ليس بتمام ، ومن هذا خاتم القاضي الذي يبعث به للخصوم أي علامته وخطه الذي ينفذ بهما أحكامه ومنه خاتم السلطان أو الخليفة ، أي علامته ... إلى آخر ما أفاده.

كل ما ذكره ذلك الفيلسوف الخبير بأسرار التاريخ ، شواهد على ما ذكرنا فراجع بقية كلامه (1). تشكيكان حول دلالة الآية على كون نبي الإسلام خاتماً :

البهائية حزب سياسي ، لها طابع المذهب ، قد اختلقها الميرزا حسين علي النوري المتوفّى عام 1309 ه ق في عكا ، ويليهم في العقيدة والغاية « القاديانية » ومؤسسها « غلام أحمد القادياني » ينسب إلى إحدى قرى البنجاب ( قاديان ) ، كان في الرعيل الأوّل من فضلاء البنجاب وعلمائهم ، لكنّه ادّعى عام 1892 أنّه المجدد للقرن الرابع عشر الهجري ، وفق الحديث النبوي : « سيأتي على رأس كل مائة سنة رجل يجدد لها دينها » ، قال : أنا المبعوث لهذا القرن ، فاتبعوني لعلّكم تفلحون ، فأطاعته عدة من الخواص والعوام زرافات ووحداناً ، ولما أحس بروح التبعية فيهم ، ادّعى أنّه المهدي والمسيح الموعود ، ثم ادّعى لنفسه النبوّة وأنّه نبي كمثل أنبياء بني اسرائيل الذين كانوا معه ، وأنّه نبي الاُمّة الإسلامية بغير مصحف ، وعند ذلك هجم الناس عليه ليقتلوه ، لولا تدخل الحكومة الانكليزية ، وبقي على ما ادّعى إلى أن اخترمته المنية عام 1908 ولم يستخلف أحداً ، فحدث بينهم خلاف عظيم ، فمالت فئة من أتباعه إلى ابنه « بشير الدين أحمد » وتبعت فئة قليلة منهم « الأمير محمد علي » الذي شد أزر غلام أحمد من ابتداء الأمر ، وقرروا أن يجعلوا لهم جميعة اُخرى ، ويجتنبوا اتباع ابن غلام أحمد ، وجعلوا مركزهم في « لاهور » عاصمة البنجاب ، واشتهروا باسم الأحمدية اللاهورية ، ومحمد علي هو مترجم

ص: 123


1- مقدمة ابن خلدون ج 1 ص 220.

القرآن بالانكليزية.

وبين الطائفتين اختلاف في الاُصول والفروع ، فالأحمدية منهم مؤمنة بأنّ النبي خاتم الأنبياء ولا يؤمنون بنبوّة غلام أحمد ولا يكفّرون المسلمين مهما كانت عقائدهم ، وهو واتباعه يصلّون خلف كل مسلم ، بشرط أن لا يكفّرهم ، وأمّا القاديانية منهم ، فهم يعتقدون أنّ غلام أحمد كان نبياً بلا كتاب سماوي ، كأنبياء بني اسرائيل ، ويؤوّلون آية : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) تأويلاً يتوافق على زعم الطائفة المضلة - على ما سيأتي.

نعم تشترك الفئتان في الاعتقاد بحرمة الجهاد ، لأنّ مسيحهما قد بعث وجاء لنشر السلام العام والمحبة ، ولزوم الخضوع والطاعة لمن تسلّط ، والكد والكدح في اكتساب الأموال والنقود ، وأنّ الوحي مستمر إلى الأبد ، إلى غير ذلك من المخازي لتضليل بسطاء الاُمّة عن الإسلام ، وعند التحقيق يظهر أنّ الاستعمار خلق « البابية والقاديانية » لإيجاد التشكيك بين عوام الشيعة والسنّة ، وكلا الاخوين « حية بطن واد » (1).

ولما أرادت الفرقة الضالّة المضلّة البهائية أن تعرّف زعيمها وقائدها ، رسولاً من اللّه إلى الناس ، كسائر المرسلين ، من موسى والمسيح ومحمد صلی اللّه علیه و آله حاولت لتدعيم مدعاها أن تشكك في دلالة الآية على ما اتفق عليه المسلمون منذ نزولها إلى الآن ، وقد جاءت في ذلك بتشكيكين لا يقصران عن شبه السوفسطائية في بداهة الاُمور ودونك بيانهما مع دحضهما بأوضح الوجوه :

التشكيك الأوّل :

خلاصة هذا الوجه ترجع إلى التصرف في معنى « الخاتم » كما أنّ التشكيك الثاني

ص: 124


1- وقد تحدثت مجلة العرفان عن الأحمدية والقاديانية في عدة من أعدادها ، فراجع المجلد الثامن عشر في مقال تحت عنوان : « الإسلام في الهند » والمجلد التاسع عشر ص 94 والعشرين ص 233 و 352 و 489 وفيها مقالات بأقلام جماعة من الباحثين تشرح لنا هوية هذه الفئة.

يرجع إلى التصرف في معنى « النبيين ».

بيانه أنّ قوله سبحانه : ( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) لا يدل على انتهاء النبوّة بوجوده صلی اللّه علیه و آله لاحتمال كون المراد من « الخاتم » الحلية التي تزين بها الاصبع وعندئذ يصير الهدف من اطلاق « الخاتم » عليه صلی اللّه علیه و آله واستعارته له هو تشبيه نبي الإسلام بالخاتم في الزينة وأنّه صلی اللّه علیه و آله بلغ من الكمال مبلغاً حتى صار زينة الأنبياء ، فهو بين تلك العصابة كالخاتم في يد لابسه.

وهنا احتمال آخر تسقط معه أيضاً دلالة الآية على ما يرتأيه المسلمون من اختتام النبوّة به صلی اللّه علیه و آله وهو جواز أن يكون المراد من خاتم النبيين أنّه مصدق للنبيين وما اُنزل إليهم من الصحف والكتب ، كما قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) ( المائدة - 48 ) وقد تقدمت تصاريح التاريخ على أنّ الدارج في عصر الرسالة هو طبع الكتاب وتصديق ما فيه بالخاتم ، فيصير اطلاق الخاتم عليه صلی اللّه علیه و آله واستعارته له ، لأجل أنّه صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين ومصدقهم كالخاتم الذي هو مصدق لمضامين الكتب والصحف ، فأين الدلالة على انسداد باب النبوّة (1).

الجواب :

انّ هذا التشكيك بمعزل عن التحقيق ، بل لا يستحق أن يطلق عليه اسم التشكيك والشبهة ، ولا يعرج عليه أي عربي أصيل ، وأي عارف باللغة العربية ، بل أي شخص له أدنى إلمام بها ولا يتردد في مخيلة أي ابن انثى ، إذا كان ذا فكر سليم وذوق مستقيم ، ولا يجود احتماله في كلمات القدامى والمتأخّرين.

إذ لم تعهد استعارة الخاتم في مصطلح العرف للشخص ، لغاية الزينة والتصديق على وجه المجاز ، أو استعماله فيهما على وجه الحقيقة منذ عصر الرسالة إلى يومنا هذا.

وقد عرفت المعنى الحقيقي لتلك الكلمة ، ولم تكن الزينة أو التصديق أحد

ص: 125


1- الخاتمية ص 23.

معانيه ، وأمّا استعماله فيهما مجازاً ، فيتوقف على حصول أمرين :

الأوّل : أن يكون الاستعمال متعارفاً ودارجاً بين أهل اللسان ، أو يكون ممّا يستحسنه الطبع والذوق ، وكلاهما منتفيان (1).

الثاني : وجود قرينة مقالية أو حالية صارفة عن المعنى الحقيقي ، وإلا فيحمل على المعنى الموضوع له ، وهي أيضاً منتفية.

ولما كانت هذه الشبهة أشبه شيء بحديث خرافة ، وشبه السوفسطائية لم يلتفت إليه أحد من مناوئي الإسلام ، حتى مؤسس الفرقة الضالّة وزعيمها الأكبر ، بل فسّر هو نفسه في بعض كتبه (2) ( خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) على خلاف ما ذكر في الشبهة ، وقال : « والصلاة والسلام على سيد العالم ، ومربي الاُمم ، الذي به انتهت الرسالة والنبوّة وعلى آله وأصحابه دائماً سرمداً ... ».

وصرّح بذلك في « ايقانه » (3) وفسره بالختم والانتهاء ، نعم أتى بعد ذلك بتأويلات باردة يشمئز منها الطبع ، وإنّما اوّل ما اوّل ليمهد الطريق لدعوى نبوّته وسفارته من اللّه سبحانه.

هلم معي نسأل مبدع الشبهة عن أنّه لماذا خص سبحانه « الخاتم » بالاستعارة ، مع أنّ التاج والاكليل ، أولى وأبلغ في بيان المقصود ( الزينة ) ؟

هلم نسأله عن أنّه لو صح ما أراد ( من أنّ المراد أنّه صلی اللّه علیه و آله مصدق النبيين ) ولن يصح ، ولو صحت الأحلام ، فلماذا عدل سبحانه عن أوضح التعابير وأفصحها ، ولم يقل « مصدق النبيين » كما عبّر به في غير واحد من السور (4) عندما أراد توصيف النبي بكونه

ص: 126


1- ولأجل ذلك لا تجد في الآداب العربية ولا الفارسية ولا غيرها من اللغات استعارة الخاتم للزينة والتصديق.
2- اشراقات ص 292.
3- ايقان ص 136.
4- سورة البقرة : 41 و 91 و 97 - آل عمران : 3 وغيرهما.

مصدقاً لمن تقدم عليه وأتى في المقام بتعبير غير مألوف ولا مأنوس.

نحن نسأله : انّ تصديق من مضى من النبيين ، ليس صفة خاصة له صلی اللّه علیه و آله فانّ المسيح كان أيضاً مصدقاً للماضين منهم ، وما معهم من الكتب والصحف ، كما حكى عنه سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ( الصف - 6 ) ، وعند ذاك فلماذا عرّفه سبحانه بوصف مشترك بين الأنبياء جميعاً.

ماذا يجينا المبدع إذا سألناه ، وقلنا له : إنّ تشبيه الرسول الأعظم بالخاتم في التصديق وليد الأحلام الباطلة ، وشتان بينه صلی اللّه علیه و آله وبين الخاتم ، حتى في نفس وجه الشبه الذي اختلقه المبدع ، فانّ الخاتم ليس هو نفسه مصدقاً ، وإنّما هو آلة التصديق وما يصدق به ، وإنّما المصدق انّما هو كاتب الصحيفة ، وهذا بخلاف النبي صلی اللّه علیه و آله فإنّه هو المصدق نفسه.

لا أدري ماذا يجيب المشكك عن هذه الأسئلة ؟

نعم اختلقت هذا التشكيك بعض الأقلام المستأجرة ، لتأييد أقاويل تلك الفئة وتسويل أباطيلهم ، والكاتب أعرف ببطلانها ، وقد عرفته الاُمّة ، وعرفت نواياه ، وما تخلّق به من روحيات ونفسيات.

التشكيك الثاني :

إنّ منصب النبوّة غير الرسالة ، وما هو المختوم إنّما هو الأوّل دون الثاني فباب النبوّة وإن كان مختوماً بنص الآية ، لكن باب الرسالة مفتوح على مصراعيه في وجه الاُمّة ، ولم يوصد ولن يوصد أبداً.

واجلاء الحق في هذا المقام يتوقف على الوقوف على ما هو المقصود من النبي والرسول في الكتاب العزيز ، وقد عقدنا لبيان الفرق بين النبي والرسول فصلاً خاصاً (1)

ص: 127


1- سيوافيك هذا الفصل في الجزء الرابع من هذه الموسوعة.

وأوضحنا فيه حال هذا التشكيك وجعلناه في مدحرة البطلان وأقمنا الدليل على أنّ ختم النبوّة يلازم ختم الرسالة.

وخلاصة ما قلناه هناك : إنّ النبي حسب ما يظهر من آيات الذكر الحكيم وكلمات اعلام اللغة ، هو الانسان الموحى إليه من اللّه باحدى الطرق المعروفة ، وأمّا الرسول فهو الانسان (1) القائم بالسفارة من اللّه بابلاغ قول أو تنفيذ عمل وإن شئت قلت : النبوّة منصب معنوي يستدعي الاتصال بالغيب باحدى الطرق المألوفة ، والرسالة سفارة للمرسل ( بالفتح ) من جانبه سبحانه لتنفيذ ما تحمله منه في الخارج أو ابلاغه إلى المرسل إليهم.

وبعبارة ثالثة : النبوّة تحمل الأنباء من اللّه والرسالة تنفيذ ما تحمله من الانباء بالتبشير والانذار والتبليغ وإلتنفيذ.

ولأجل ذلك يقترن لفظ الوحي بلفظ « النبيين » ويقول سبحانه : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) ( النساء - 163 ).

ولو اقترن لفظ الوحي بالرسول في آية اُخرى ، فلمناسبة اُخرى اقتضت العدول فيه كما أنّه يقترن في القرآن إلزام الانسان بتبليغ كلام عنه سبحانه أو تنفيذ عمل في الخارج بلفظ « الرسول » ويقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) ( المائدة - 67 ).

وقال سبحانه : ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ) ( مريم - 19 ).

وعلى ذلك فالنبي أمّا صيغة لازم بمعنى صاحب النبأ ومتحمله ، أو صيغة متعد بمعنى المخبر عنه سبحانه ، والرسول هو الموظّف لتحقيق ما تحمله النبي من جانب اللّه سبحانه عن طريق الوحي.

فلو فرض أنّه أوصد باب النبوّة وختم نزول الوحي إلى أي انسان كما يصرح به

ص: 128


1- المقصود هو الرسول المصطلح فلا ينافي اطلاقه على الملك والشخص العادي في القرآن الكريم.

لفظ « خاتم النبيين » فعند ذاك يختم باب الرسالة الالهية أيضاً بلا ريب ، لأنّ الرسالة لا تهدف سوى تنفيذ ما يتحمله النبي من جانب اللّه عن طريق الوحي فإذا انقطع الوحي والاتصال بالمبدأ الاولى والاطلاع على ماعنده ، لا يبقى موضوع للرسالة أبداً ، فإذا كان محمد صلی اللّه علیه و آله خاتماً للنبيين أي مختوماً به الوحي والاتصال فهو خاتم الرسل والمرسلين طبعاً ، لأنّ رسالة الانسان من جانب اللّه سبحانه ، عبارة عن بيان أو تنفيذ ما أخذه عن طريق الوحي ، فلا تستقيم رسالة أي انسان من جانبه سبحانه إذا انقطع الوحي والاتصال به تعالى ولا يقدر أن يقول أي ابن اُنثى بالرسالة من ناحيته سبحانه إذا كانت النبوّة موصدة باعترافه.

هذا خلاصة ما قلناه هناك وسيوافيك تفصيله بدلائله وشواهده من الكتاب والسنّة وكلمات اعلام اللغة.

التنصيص الثاني على الخاتمية :

التنصيص الثاني (1) على الخاتمية :

هلم معي نقرأ النصوص الباقية الدالة على كون نبيّنا خاتم الرسل ، وانّ رسالته خاتمة الرسالات حتى يتضح الحق بأجلى مظاهره ، فمن النصوص قوله سبحانه :

ص: 129


1- الهدف الأسمى من الاستدلال بهذه الآية وما تليها ، هو نفي قسم خاص من أقسام النبوّة ، أي النبوّة التشريعية الناسخة ، فهذه الآية وأمثالها تكذّب كل من ادّعى لنفسه منصب النبوّة التشريعية ، وادّعى أنّه نبي كموسى وعيسى ومحمد ، وانّ له كتاباً وشريعة ناسخة لما قبلها من الكتب والشرائع ، إذ لا يعقل أن يكون لمجتمع واحد كتابان مختلفا الأهداف والأغراض ، أو نذيران متعددا الغايات. فلا يصح أن يكون الفرقان والقرآن نذيراً لهم، وفي الوقت نفسه يكون كتاب آخر، يخالفه في المضمون نذيراً لهم أيضاً، وقس على ذلك سائر ما يرد عليك من الآيات. نعم هذه الآية ونظائرها لا تفي بنفي النبوة التبليغية المحضة، أو التشريعية غير الناسخة، بأن تكون النسبة بين الشريعتين نسبة الأقل إلى الأكثر، أو المجمل إلى المفصل، والدليل الوحيد في القرآن، على انسداد أبواب النبوّاة على اطلاقها، هي الآية المتقدمة، وما سيوافيك من الأحاديث المتواترة، الدالة على اغلاق باب النبوة على وجه الأمة بعامة أنواعها واقسامها فلاحظ.

( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان - 1 ).

وصريح النص أنّ الغاية من تنزيل الفرقان على عبده ( رسولنا ) كون القرآن نذيراً للعالمين ، أي الخلائق كلها من بدء نزوله إلى يوم يبعثون.

قال « الراغب » في مفرداته : العالم اسم للفلك وما يحويه من الجواهر والأعراض وهو في الأصل اسم لما يعلم به ، كالطابع والخاتم ، لما يطبع به وما يختم به ، وجعل بناءه على هذه الصفة ، لكونه كالآلة والعالم آلة ، في الدلالة لصانعه ، وأمّا جمعه فلأن كل نوع من هذه قد يسمى عالماً ، فيقال عالم الانسان وعالم الماء ، وعالم النار ، وأمّا جمعه على السلامة فلكون الناس من جملتهم والانسان إذا شارك غيره في اللفظ غلب عليه حكمه ، وقيل إنّما جمع هذا الجمع لأنّه عنى به أصناف الخلائق من الملائكة والجن والناس دون غيرها وروي هذا عن ابن عباس وقال جعفر بن محمد عنى به الناس ، وجعل كل واحد عالماً (1).

وقال : العالم عالمان : الكبير وهو الفلك بما فيه والصغير لأنّه مخلوق على هيئة العالم (2).

قال الزمخشري : العالم اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وقيل كل ما علم به الخالق من الأجسام والأعراض ، وجمع ليشمل كل جنس مما سمّي به ، وأمّا جمعه بالواو والنون مع كونه اسماً غير صفة وإنّما يجمع بها صفات العقلاء ، أو ما في حكمها من الأعلام ، فلأجل معنى الوصفية فيه وهي الدلالة على معنى العلم (3).

ص: 130


1- هذا هو الحق الذي لا مرية فيه ، ويشهد له ما نقله سبحانه ، عن قوم لوط في خطابهم له ، عند نزول ضيوفه : ( قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللّهَ وَلا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ) ( الحجر : 68 - 70 ) أي قالوا في جوابه : أوليس كنا قد نهيناك عن أن تستضيف أحداً من الناس ، ولا معنى لأن ينهوه عن الأجرام السماوية ، أو الجن والملائكة. ونظيره قوله سبحانه - حكاية عن لوط في الرد علی قومه: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) (الشعراء - 165) فالمراد من العالمين فيه هو الناس بلا ريب.
2- المفردات للراغب ص 349.
3- الكشاف ج 1 ص 6.

وعلى أي تقدير سواء أكان المراد من العالمين في الآيات الآخر جميع المخلوقات التي يحويها الفلك من الجواهر والأعراض ، أم كان المراد الإنس والجن ، فالمراد منه في الآية بقرينة كونه « نذيراً » خصوص الانسان أو مطلق من يعقل ، فالآية صريحة في أنّ انذاره لا يختص بناس دون ناس ، أو بزمان دون زمان ، فهو على اطلاقه يعطي كونه نذيراً للاُمّة البشرية بلا قيد ولا حد.

ولقائل أن يعترض ويقول : ربّما يطلق « العالمون » ويراد منه الجم الغفير من الناس كما في قوله سبحانه في تفضيل بني اسرائيل : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( البقرة - 47 ) ويقال رأيت عالماً من الناس يراد به الكثرة وعند ذاك لا تكون الآية صريحة فيما نرتئيه.

والجواب : انّ المتبادر من العالمين في مصطلح العرف والقرآن هو المعنى العام وهو عبارة أمّا عن الخلائق عامة كما عليه قوله سبحانه : ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ) ( الشعراء 23 - 24 ).

وغيره من الآيات الكثيرة التي استعملت فيها كلمة « العالمين » في الخلق كلّه ، أو نوع ما يعقل من الملائكة والإنس والجن وعليه قوله تعالى : ( وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( البقرة - 251 ).

وقوله سبحانه : ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ ) ( آل عمران - 108 ) ، أو خصوص الإنس وعليه قوله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) ( آل عمران - 96 ).

وقوله سبحانه : ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ) ( الشعراء - 165 ).

وقوله سبحانه : ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ) ( الأعراف - 80 ، وقريب منها ما في العنكبوت - 28 ).

وعلى ما ذكرنا فلا يسوغ أن يحمل هذ اللفظ على غير هذه المعاني ، إلاّ بقرينة صارفة عن ظاهره وهي غير موجودة في المقام.

ص: 131

وأمّا قوله سبحانه : ( وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) فليس ظاهراً فيما فسره صاحب الكشاف ، من الجم الغفير ، ولأجل ذلك فسّره حبر الاُمّة بأهل عالمي زمانهم كلهم ، لا بالجم الغفير ، كما فسّر به قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران - 42 ).

وعلى أي حال سواء أفسّرناه بالجم الغفير أم خصصناه بأهل عالمي زمانهم فإنّما هو لقرينة صارفة عن ظاهره ، حيث دل القرآن على أنّ الاُمّة الإسلامية أفضل الاُمم ، لقوله سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) ( آل عمران - 110 ).

ونظير تلك الآية ما دل على اصطفاء مريم على نساء العالمين ، كما قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران - 42 ) فالمراد منه هو نساء عالمي أهل زمانها ، لما اُثر عن النبي وآله من عدم فضلها على ابنته فاطمة علیهاالسلام .

أخرج ابن سعد ، عن مسروق ، عن عائشة في حديث : انّ النبي صلی اللّه علیه و آله أسر إلى فاطمة عند مرضه وقال : أما ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الاُمّة ، أو نساء العالمين (1).

ورواه أبو نعيم الاصفهاني أيضاً بهذه العبارة (2).

وأخرج مسلم والترمذي والبخاري في صحاحهم عن عائشة ، قالت : إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قال لفاطمة في اُخريات أيامه : ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الاُمّة (3).

روى الحديث بألفاظه المختلفة العلاّمة المجلسي في بحاره ، فراجع (4).

ولولا هذه المأثورات عمّن نزل عليه القرآن لكان الواجب الأخذ بظاهرها والحكم

ص: 132


1- الطبقات الكبرى ج 8 ص 27 ، حلية الأولياء ج 2 ص 40.
2- الطبقات الكبرى ج 8 ص 27 ، حلية الأولياء ج 2 ص 40.
3- التاج الجامع للاُصول ج 3 ص 314.
4- بحار الأنوار ج 43 ص 36.

بتفضيلها ( مريم ) على نساء العالمين جميعاً.

على أنّه يمكن الأخذ باطلاق قوله سبحانه : ( وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) والقول بتفضيلهم على الناس كلّهم بتقريب أنّ ملاك فضلهم على غيرهم ، تخصيصهم بأشياء من بين الاُمم إذ انزل عليهم المنّ والسلوى ، وبعث فيهم رسلاً ، وأنزل عليهم الكتب ونجّاهم من فرعون وملائه إلى غير ذلك مما خص به تلك الاُمّة من بين الناس ولا يلزم منه تفضيل واحد منهم على غيرهم (1).

وعلى أي تقدير فالمتبع هو ظاهر الآية ما لم يدل دليل على خلافه ، وليست في المقام قرينة تصرف قوله سبحانه : ( لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) عن ظاهره وصريحه.

النص الثالث من القرآن على الخاتمية :

ومن النصوص قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ( فصّلت 41 - 42 ).

والمقصود من « الذكر » هو القرآن ، لقوله سبحانه : ( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران - 58 ).

وقوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) ( النحل - 44 ).

والضمير في « لا يأتيه » يرجع إلى « الذكر » ومفاد الآية أنّ الباطل لا يتطرّق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من أي جهة من الجهات ، فلا يأتيه البطل بأي صورة متصورة ، ودونك صوره :

1. لا يأتيه الباطل : لا ينقص منه شيء ولا يزيد فيه شيء.

ص: 133


1- مجمع البيان ج 1 ص 102.

2. لا يأتيه الباطل : لا يأتيه كتاب يبطله وينسخه بأن يجعله سدى ، فهو حق ثابت لا يبدل ولا يغير ولا يترك.

3. لا يأتيه الباطل : لا يتطرق في اخباره عمّا مضى ولا في اخباره عمّا يجيء ، الباطل ، فكلّها تطابق الواقع.

وعلى أي تقدير فمحصل الآية بحكم الاطلاق المستفاد من قوله سبحانه : « لا يأتيه » أنّ القرآن حق لا يدخله الباطل إلى يوم القيامة.

ويؤيد ذلك قوله سبحانه : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر - 9 ) أي نحفظه عن تطرق أي بطلان إليه إلى يوم البعث ، كما هو أيضاً مقتضى اطلاقه.

والحق المطلق الذي لا يدانيه الباطل أبداً ، والمحفوظ عن تسلل البطلان إليه إلى يوم القيامة كما هو ظاهر الآيتين ، يمتنع أن يكون حجّة محدودة ، بل يكون متبعاً لا إلى غاية خاصة وأمد محدود ، لأنّ خاصية الحق المطلق والمصون عن تطرق البطلان مطلقاً هو كونه حجة لا إلى حد خاص واللّه سبحانه عهد : ( لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ) ( الانفال - 8 ).

فإذا كان القرآن حقاً مطلقاً مصوناً عن تسلل البطلان إليه ، ومتبعاً للناس إلى يوم القيامة ، يجب عند ذلك ، دوام رسالته وثبات نبوّته وخاتمية شريعته.

وإن شئت قلت : إنّ الشريعة الجديدة إمّا أن تكون عين الشريعة الإسلامية الحقة المحقة التي لا يقارنها ولا يدانيها الباطل أو غيرها ، فعلى الأوّل لا حاجة إلى الثانية ، وعلى الثاني فامّا أن تكون الثانية حقّة كالاُولى ، فيلزم كون المتناقضين حقاً ، أو يكون الاُولى حقّة دون الاُخرى ، فهذا هو المطلوب.

والرسول صلی اللّه علیه و آله لم يزل يبيّن شريعته ، بالكتاب الحق الذي لا يدانيه الباطل وبسنّته المحكمة التي لا تصدر عنه إلاّ بإيحاء منه سبحانه ، كما قال : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) ( النجم : 3 - 5 ) وعلى أي تقدير فالآية

ص: 134

صريحة في نفي أي تشريع بعد القرآن ، وشريعة غير الإسلام فتدل بالملازمة على عدم النبوّة التشريعية بعد نبوّته صلی اللّه علیه و آله .

النص الرابع من القرآن على خاتمية الرسول صلی اللّه علیه و آله :

ومن النصوص قوله تعالى : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام - 19 ) وفسره أمين الإسلام الطبرسي بقوله : أي لا خوف به من بلغه القرآن إلى يوم القيامة ، ولذا قال النبي صلی اللّه علیه و آله : من بلغه أنّي أدعو إلى أن لا إله إلاّ اللّه فقد بلغه ، أي بلغته الحجة وقامت عليه ، حتى قيل من بلغه القرآن ، فكإنّما رأى محمداً صلی اللّه علیه و آله وسمع منه وحيث ما يأتي القرآن ، فهو داع ونذير (1).

قوله سبحانه : ( وَمَن بَلَغَ ) معطوف على الضمير المنصوب في قوله : ( لأُنذِرَكُم ) لا على الفاعل المستتر.

وقد وافاك توضيح مفاد الآية والتوفيق بينها وبين قوله سبحانه : ( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) عند البحث عن كون رسالة الرسول عالمية (2).

النص الخامس على الخاتمية :

ومن النصوص قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( سبأ - 28 ).

المتبادر من الآية ، كون ( كَافَّةً ) حالاً من الناس قدمت على ذيها ، وتقدير الآية : « وما أرسلناك إلاّ للناس كافة بشيراً ونذيراً ».

ويحتمل كونها حالاً من الضمير المنصوب في « أرسلناك » ومفاد الآية : وما أرسلناك إلاّ أن تكفّهم وتردعهم. ولكنّه ضعيف جداً ، إذ لا حاجة عندئذ إلى لفظ

ص: 135


1- مجمع البيان ج 3 ص 282.
2- راجع ص 63 - 70 من كتابنا هذا.

« كافة » بعد تذييل الجملة بقوله : ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) إذ لا معنى للكف والردع إلاّ تخويفهم عن عذابه وعقابه حتى يرتدعوا بالتأمل فيما أوعد اللّه في كتابه العزيز ولسان نبيّه صلی اللّه علیه و آله على مقترفي الجرائم ، وليس ذلك إلاّ نفس الانذار الوارد في الآية :

أضف إليه أنّه لم يستعمل لفظ « كافّة » في القرآن إلاّ بمعنى عامة كقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) ( البقرة - 208 ).

وقوله عز وجل : ( وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) ( التوبة - 36 ).

وقوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ) ( التوبة - 122 ).

وكل ذلك يؤيد كون ( كَافَّةً ) بمعنى عامة حالا من الناس ، والآية مع كونها دليلاً على كون رسالته عالمية ، دليل على كونه مبعوثاً إلى كافة الناس إلى يوم يبعثون (1).

النص السادس على الخاتمية :

ثم إنّه سبحانه جعل نبيّه صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين ، وكتابه خاتم الكتب ، وجعله مهيمناً على جميع الكتب النازلة من قبل.

قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) ( المائدة - 48 ).

والمهيمن هو الرقيب الشهيد وقد فسّر باُمور اُخرى يقرب بعضها من بعض فهو

ص: 136


1- ويؤيد ذلك ما رواه ابن سعد في « طبقاته الكبرى » عن خالد بن معدان قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : بعثت إلى الناس كافة ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم ، فإن لم يستجيبوا لي فإليّ وحدي. ونقل عن أبي هريرة، أنّ النبي صلی اللّه عليه وآله وسلم قال: أرسلت إلی الناس كافة، وبي ختم النبييون (الطبقات الكبری ج1 ص 192) وكل ذلك دليل علی أنّ الصحابة لم يفهموا من الآيظ إلا ما استظهرناه.

مراقب أمين يشهد على الكتب النازلة قبله بالصحة في مورد ، والبا لتحريف في مورد آخر. ولو أراد أهل الكتب الوصول إلى الحق الواضح لرجعوا إلى ذلك الكتاب ، لأنّهم لم يؤتوا علم كتابهم كلّه ، بل : ( أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ ) ( آل عمران - 23 ) وأنّهم : ( ... نَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) (1) ، وكانوا : ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) (2).

وفسره العلاّمة الطباطبائي بوجه آخر وقال :

هيمنة الشيء على الشيء كون الشيء ذا سلطة على الشيء في حفظه ومراقبته وأنواع التصرف فيه ، وهذا حال القرآن الذي وصفه اللّه تعالى بأنّه تبيان كلّ شيء بالنسبة إلى ما بين يديه من الكتب السماوية ، يحفظ منها الاُصول الثابتة غير المتغيرة ، وينسخ منها ما ينبغي أن ينسخ من الفروع التي يمكن أن يتطرق إليه التغير والتبدل ممّا يناسب حال الانسان بحسب سلوكه صراط التكامل بمرور الزمان ، قال تعالى : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) ( الإسراء - 9 ).

وقال : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) ( البقرة - 106 ).

فهذه الجملة أعني قوله : ( وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) متممة لقوله : ( مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ) تتميم ايضاح ، إذ لولاها لأمكن أن يتوهّم من تصديق القرآن للتوراة والانجيل أنّه يصدق ما فيهما من الشرائع والأحكام ، تصديق إبقاء من غير تغيير وتبديل لكن توصيفه بالهيمنة يبيّن أنّ تصديقه لهما تصديق إنّهما شرائع حقّة من عند اللّه ، وانّ لله أن يتصرف فيها ما يشاء بالنسخ والتكميل كما يشير إليه قوله سبحانه في ذيل الآية : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) (3).

اشارات قرآنية إلى الخاتمية :

ثم إنّ في الكتاب الحكيم آيات تشير إلى خاتمية الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وخاتمية كتابه

ص: 137


1- لاحظ الآية 13 من المائدة.
2- لاحظ الآية 13 من المائدة.
3- الميزان ج 5 ص 378 - 379.

ويقف على تلك الإشارات كل من أمعن النظر في مضامينها ونذكر في المقام بعض الآيات :

1. ( أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ( الأنعام 114 - 115 ).

ودلالة قوله سبحانه : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) على إيصاد باب الوحي وانقطاعه إلى يوم القيامة وتمامية الشرائع النازلة من اللّه سبحانه طوال قرون إلى سفرائه ، واضحة بعد الوقوف على معنى الكلمة في القرآن.

إن « الكلمة » في القرآن قد استعملت في معان أو في مصاديق مختلفة بمعنى واحد جامع واسع ، حتى استعملت في العين الخارجي.

قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) ( آل عمران - 45 ) كما استعملت في القضاء والوعد القطعي قال سبحانه : ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ( هود - 119 ) إلى غير ذلك.

لكن المراد منها في الآية هو الدعوة الإسلامية أو القرآن الكريم ، وما فيه من شرائع وأحكام ، والشاهد عليه الآية المتقدمة حيث قال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالحَقِّ ) فالمراد من قوله : ( أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ ) هو القرآن النازل على العالمين ، ثم يقول : بأنّ الذين آتيناهم الكتاب من قبل كاليهود والنصارى إذا تخلصوا عن الهوى ، يعلمون أنّ القرآن وحي إلهي كالتوراة والأنجيل وأنّه منزل من اللّه سبحانه بالحق ، فلا يصح لأي منصف أن يتردد في كونه نازلاً منه إلى هداية الناس.

ثم يقول في الآية التالية : ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ) بظهور الدعوى المحمدية ، ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب وصارت مستقرة في محلها بعد ما كانت تسير دهراً

ص: 138

طويلاً في مدارج التدرج بنبوّة بعد نبوّة وشريعة بعد شريعة (1).

وهذه الكلمة الالهية أعني الدعوة الالهية المستوحاة في القرآن الكريم صدق لا يشوبه كذب وما فيه من الأحكام من الأمر والنهي ، عدل لا يخالطه ظلم ولأجل تلك التمامية لا تتبدل كلماته وأحكامه من بعد (2).

وأمّا ما احتمله صاحب المنار من أنّ المراد من الكلمة ما وعد اللّه به نبيّه من نصره وخذلان مستهزئيه مستشهداً بقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) ( الصافات : 171 - 173 ) وما في معناه من الآيات ، فممّا لا يلائم سياق الآيات ولا يناسب قوله : ( صِدْقًا وَعَدْلاً ) ولا قوله : ( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) إلاّ بالتكلّف الذي ارتكبه صاحب المنار (3).

* * *

هذا حال الخاتمية في الذكر الحكيم وقد عرفت أنّه ناطق بايصاد باب النبوّة والرسالة ، وخاتميتهما ، وقد وردت في المقام أحاديث متواترة عن النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله وآله الطاهرين فلأجل ايقاف القارئ على تلكم الكلم الرية عقدنا الفصل التالي :

ص: 139


1- الميزان ج 7 ص 328 ، مجمع البيان ج 2 ص 354.
2- وقد استعملت الكلمات في القرآن الكريم في الشرائع الالهية قال سبحانه واصفاً مريم : ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ) ( التحريم - 12 ).
3- المنار ج 8 ص 12.

الخاتمية في الأحاديث الإسلامية

اشارة

لقد حصحص الحق بما أوردناه من النصوص القرآنية وانكشف الشك عن محيا اليقين ، فلم تبق لمجادل شبهة ، في أنّ الرسول صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين والمرسلين ودينه خاتم الأديان وكتابه خاتم الكتب وقد وردت عن النبي والأئمّة من بعده نصوص في المقام تؤكد المطلب فلا بأس بالتعرض لها ، وتوضيح بعضها ، إذ لم نجدها مجتمعة في باب أو كتاب.

تنصيص الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله على الخاتمية

1. خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من المدينة إلى غزوة تبوك وخرج الناس معه فقال له علي علیه السلام : أخرج معك ؟ فقال صلی اللّه علیه و آله : لا ، فبكى علي ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبي بعدي ، أو ليس بعدي نبي ، أو لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي » (1).

وهذا الحديث صحيح متفق عليه بين الاُمّة ، لم يشك أحد في صحة سنده ولا سنح في خاطر كاتب أن يناقش في ثبوته.

ص: 140


1- سمّي حديث المنزلة ، لأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله نزّل فيه نفسه منزلة موسى ، ونزّل علياً مكان هارون.

وحسبك أنّه أخرجه البخاري في صحيحه في غزوة تبوك (1) ومسلم في صحيحه في باب فضائل علي علیه السلام (2) وابن ماجة في سننه في باب فضائل أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله (3) والحاكم في مستدركه في مناقب علي علیه السلام (4) وإمام الحنابلة في مسنده بطرق كثيرة (5).

قال « ابن عبد البر » في استيعابه : هذا من أثبت الآثار وأصحها ، رواه عن النبي سعد بن أبي وقاص ، قال طرق حديث سعد كثيرة جداً ، ذكرها ابن خيثمة وغيره ورواه ابن عباس وأبو سعيد الخدري واُمّ سلمة وأسماء بنت عميس وجابر بن عبد اللّه ، وجماعة يطول ذكرهم (6). ورواه من أعلام الطائفة ، صدوق الاُمّة في أماليه ومعانيه (7) وشيخ الطائفة في أماليه (8) والعلاّمة الكراجكي في كنزه (9) وقطب الدين الراوندي في خرائجه (10) وابن شهر آشوب في مناقبه (11) ، وقال : وصنف أحمد بن محمد بن سعيد كتاباً في طرقه قد تلقّته الاُمّة بالقبول اجماعاً ، والكاتب الاربلي في كشف الغمة (12) ، وقد جمع العلامة المجلسي طرق الحديث من الفريقين في جامعه (13).

وفيما ذكرنا من المصادر غنى وكفاية ، لا حاجة إلى الاستقصاء ، فإن كل من

ص: 141


1- صحيح البخاري ، الجزء الثالث ص 58.
2- صحيح مسلم ، الجزء الثاني ص 323 - 324.
3- سنن ابن ماجة ، الجزء الأوّل ص 28.
4- مستدرك الحاكم ، الجزء الثالث ص 109 وفي مواضع اُخر.
5- مسند ابن حنبل ، الجزء الأوّل ص 331 والجزء الثاني ص 369 و 437 ، والمغازلي في مناقبه ص 237 - 238 والخوارزمي في مناقبه ص 76.
6- راجع الاستيعاب في ترجمة علي علیه السلام .
7- أمالي الصدوق ص 29 ، ومعاني الأخبار ص 74 وقد بسط الكلام في دلالة الحديث.
8- أخرجه في أماليه في مواضع مختلفة ، راجع ص 28 و 31 و 159 و 164 و 193 و 218 و 331.
9- كنز الفوائد ص 282.
10- الخرائج والجرائح ص 75.
11- مناقب ابن شهر آشوب ج 1 ص 522.
12- كشف الغمة ص 44.
13- بحار الأنوار ج 37 ، الباب 53 ص 254 - 289.

تعرض لغزوة تبوك ، أو عقد باباً لفضائل مولانا أمير المؤمنين علیه السلام أثبته في كتابه.

ووضوح دلالة الرواية أغنانا عن البحث حولها.

2. عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبل كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلاّ موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال : فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (1).

صورة اُخرى للرواية :

عن جابر عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأتمها وأكملها إلاّ موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون لولا موضع هذه اللبنة ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء (2).

3. انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : لي خمسة أسماء ، أنا محمد وأحمد ، أنا الماحي يمحو اللّه بي الكفر ، وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي (3).

4. قال عرباض بن سارية : سمعت النبي صلی اللّه علیه و آله يقول : إنّي عبد اللّه وخاتم النبيين وانّ آدم لمنجدل في طينة وساُخبركم من ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي.

وفي صورة اُخرى قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : إنّي عبد اللّه وخاتم النبيين. فذكر مثله وزاد في أنّ اُمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رأت حين وضعته نوراً أضاءت منه قصور الشام (4).

5. وفي حديث الشفاعة : فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى اشفع لنا إلى ربّك

ص: 142


1- صحيح البخاري 4 / 226 ، مسند أحمد 2 / 398 و 412 وراجع الدر المنثور 5 / 204.
2- التاج 3 / 22 عن البخاري ومسلم والترمذي.
3- الطبقات الكبرى 1 / 65 - مسند أحمد 4 / 81 و 84 - صحيح مسلم 8 / 89.
4- الطبقات الكبرى 1 / 96 - مسند أحمد 4 / 127 و 128 - ينابيع المودة ص 10 الميزان 19 / 295 مع اختلاف يسير.

فليقض بيننا ، فيقول : إنّي لست هناكم ائتوا محمداً صلی اللّه علیه و آله فانّه خاتم النبيين (1).

6. وجاء في حديث الشفاعة : قال صلی اللّه علیه و آله : فيأتوني فيقولون : يا محمد أنت رسول اللّه وخاتم الأنبياء غفر اللّه لك ذنبك ما تقدم منه وما تأخر فاشفع لنا ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه (2).

7. عن أبي هريرة أنّه قال : قال صلی اللّه علیه و آله : اُرسلت إلى الناس كافة وبي ختم النبيون (3).

8. في حديث : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّي خاتم ألف نبي وأكثر (4).

9. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ الرسالة والنبوّة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي ، قال : فشق ذلك على الناس ، فقال : لكن المبشّرات ، فقالوا : يا رسول اللّه وما المبشّرات ؟ قال : رؤيا المسلم وهي جزء من أجزاء النبوّة (5).

10. عن جابر بن عبد اللّه : أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قال : أنا قائد المرسلين ولا فخر ، وأنا خاتم النبيين ولا فخر ، وأنا أوّل شافع ومشفع ولا فخر (6).

11. عن قتادة أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قال : كنت أوّل الناس في الخلق وآخرهم في البعث (7).

12. عن النبي صلی اللّه علیه و آله : يا علي أخصمك بالنبوّة فلا نبوّة بعدي وتخصم الناس بسبع ولا يجاحدك فيه أحد من قريش : أنت أوّلهم إيماناً باللّه ... (8).

13. استأذن العباس بن عبد المطلب النبي صلی اللّه علیه و آله في الهجرة ، فقال له : يا عم أقم

ص: 143


1- مسند أحمد 3 / 248 وراجع صحيح البخاري 6 / 106.
2- صحيح البخاري 6 / 106 - مسند أحمد 2 / 436.
3- الطبقات الكبرى ج 1 ص 128 مسند أحمد ج 2 ص 412.
4- مسند أحمد 3 / 79.
5- سنن الترمذي 3 / 364.
6- سنن الدارمي 1 / 27 ، المطبوع بدمشق عام 1349.
7- الطبقات الكبرى 1 / 96 - ينابيع المودة ص 17 وفيه : أوّل الأنبياء في الخلق.
8- حلية الأولياء 1 / 66.

مكانك الذي أنت به فإنّ اللّه تعالى يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة ثم هاجر إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وشهد معه فتح مكة وانقطعت الهجرة ... (1).

14. انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إنّما أخاف على اُمّتى الأئمّة المضلّين فإذا وضع السيف في اُمّتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة. ولا تقوم الساعة حتى تلتحق قبائل من اُمّتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من اُمّتي الأوثان ، وأنّه يكون في اُمّتي ثلاثون كذّابون كلّهم يزعم أنّه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ، ولا تزال طائفة من اُمّتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك (2).

15. وعنه صلی اللّه علیه و آله : فضّلت بست : اُعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، واُحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، واُرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون (3).

16. عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : في اُمّتي كذّابون دجّالون سبعة وعشرون منهم أربعة نسوة وانّي خاتم النبيين لا نبي بعدي (4).

17. سأل جابر النبي صلی اللّه علیه و آله عن أوّل شيء خلقه اللّه قال : هو نور نبيّك يا جابر خلقه اللّه ثم خلق فيه كل خير وخلق بعده كل شيء ... ثم أخرجني إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلين وخاتم النبيين ومبعوثاً إلى كافة الناس أجمعين ورحمة للعالمين (5).

18. عن جابر بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ... وجعل اسمي في القرآن محمداً فأنا محمود في جميع القيامة في فصل القضاء لا يشفع أحد غيري. وسمّاني في القيامة حاشراً يحشر الناس على قدمي. وسمّاني الموقف اوقف الناس بين يدي اللّه جل جلاله. وسمّاني العاقب أنا عقب النبيين ليس بعدي رسول وجعلني رسول الرحمة (6).

ص: 144


1- اُسد الغابة 3 / 110.
2- جامع الاُصول 10 / 410.
3- جامع الصغير 2 / 126.
4- الدر المنثور 5 / 204.
5- ينابيع المودة ص 14 - 15.
6- علل الشرائع 1 / 122 - الخصال 2 / 425 - معاني الأخبار 51 - بحار الأنوار 16 / 63.

19. عن أبي جعفر علیه السلام قال في حديث : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : أيها الناس أنّه لا نبي بعدي ولا سنّة بعد سنّتي فمن ادّعى ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه ومن تبعه فانّه في النار. أيها الناس احيوا القصاص واحيوا الحق لصاحب الحق ولا تفرّقوا واسلموا وسلّموا كتب اللّه : ( لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (1).

قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا سنّة بعد سنّتي » يبطل كل شريعة سوى شريعته إلى يوم القيامة.

ورواه الكاتب الأربلي في كتابه بصورة اُخرى. قال : قال صلی اللّه علیه و آله في مرض موته والمسلمون مجتمعون حوله : « أيها الناس انّه لا نبي بعدي ، ولا سنّة بعد سنّتي ، فمن ادّعى ذلك فدعواه وباغيه في النار. أيها الناس احيوا القصاص واحيوا الحق لصاحب الحق ولا تفرقوا واسلموا وسلّموا كتب اللّه : ( لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) » (2).

20. عن أبي اُمامة عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : أيها الناس انّه لا نبي بعدي ولا اُمّة بعدكم ألاّ فأعبدوا ربّكم ... (3).

21. عن علي علیهاالسلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنا خاتم النبيين وعلي خاتم الوصيين (4).

22. عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه خطب في أوسط أيام التشريق فقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ حرّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا وبلدكم هذا إلى يوم تلقونه ألاّ فليبلغ شاهدكم غائبكم لا نبي بعدي ولا اُمّة بعدكم ثم رفع يديه حتى أنّه ليرى بياض ابطيه ثم قال : اللّهمّ اشهد انّي قد بلّغت (5).

ص: 145


1- الفقيه 4 / 163 - وسائل الشيعة 18 / 555.
2- كشف الغمة ج 1 ص 21 - البحار ج 22 ص 531.
3- الخصال 1 / 322 - وسائل الشيعة 1 / 15.
4- عيون أخبار الرضا 2 / 47.
5- الخصال 2 / 487 وفي طبعة اُخرى ص 84.

23. عن أبي اُمامة قال : كنّا ذات يوم عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جلوساً فجاءنا علي بن أبي طالب علیه السلام واتفق من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قيام فلمّا رأى علياً جلس فقال يا ابن أبي طالب : أتعلم لم جلست ؟ قال : اللّهمّ لا ، فقال صلی اللّه علیه و آله : ختمت أنا النبيين وختمت أنت الوصيين ... (1).

24. عن أبي جعفر محمد بن علي علیهماالسلام أنّه قال حج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من المدينة - وساق قصة غدير خم وخطبة النبي فيها - وقال : بي واللّه بشّر الأوّلون من النبيين والمرسلين وأنا خاتم النبيين والمرسلين والحجة على جميع المخلوقين من أهل السموات والأرضين فمن شك في هذا فهو كافر كفر الجاهلية الاُولى ومن شك في قولي هذا فقد شك في الكل ، والشاك في ذلك فهو في النار (2).

25. عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث : انّ اللّه تعالى أوحى إليّ أن اتخذ علياً أخاً كما أنّ موسى اتخذ هارون أخاً واتخذ ولده ولداً فقط طهرتهم كما طهرت ولد هارون إلاّ أنّي ختمت بك النبيين فلا نبي بعدك فهم الأئمّة الهادية ... (3).

26. عن علي بن هلال عن أبيه قال : دخلت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو في الحالة التي قبض فيها فإذا فاطمة عند رأسه فبكت حتى ارتفع صوتها فرفع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليها رأسه وقال : ... نحن أهل بيت قد أعطانا اللّه عزّ وجلّ سبع خصال لم يعط أحداً قبلنا ولا يعطي أحداً بعدنا أنا خاتم النبيين وأكرم النبيين على اللّه عزّ وجلّ ... (4).

27. عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : أنا الأوّل والآخر (5).

قال الأربلي في كشف الغمة في ذيل هذا الحديث : لأنّه أوّل في النبوّة وآخر في البعثة.

28. عن أنس في حديث طويل : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : أنا خاتم الأنبياء

ص: 146


1- تفسير الفرات ص 87 - أمالي الطوسي ص 305 مع تفاوت يسير.
2- الاحتجاج ص 37 - مستدرك الوسائل 3 / 247.
3- الاحتجاج : 68.
4- كشف الغمة 3 / 369.
5- كشف الغمة 1 / 17.

وأنت يا علي خاتم الأولياء (1).

29. روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أدعية أيام شهر رمضان : اللّهمّ اجعلني فيه محباً لأوليائك ومعادياً لأعدائك مستنّاً بسنّة خاتم أنبيائك يا عاصم قلوب النبيين (2).

30. عن علي بن إبراهيم بن هاشم في حديث : انّ اليهود أتوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالوا يا محمد إلى ما تدعو ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّي رسول اللّه ... واخبركم عالم منكم جاء كم من الشام فقال : تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور لنبي يبعث في هذه الهجرة مخرجه مكة ومهاجره هاهنا وهو آخر الأنبياء وأفضلهم يركب الحمار ... (3).

31. عن أبي ذر الغفاري رضی اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنا خاتم الأنبياء وأنت يا علي خاتم الأوصياء ... (4).

32. روى السيد ابن طاووس في اقباله متن الصحيفة التي ورثها الخلف عن السلف من الأنبياء وفيها : ... أكمل بمحمد صلی اللّه علیه و آله وبما أرسله به من بلاغ وحكمة ديني واختم به أنبيائي ورسلي فعلى محمد واُمّته تقوم الساعة (5).

33. عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال : قال جدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام إلى يوم القيامة ألا وقد بيّنهما اللّه عزّ وجلّ في الكتاب وبيّنتهما لكم في سنّتي وسيرتي » (6).

34. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي

ص: 147


1- نور الثقلين 4 / 284.
2- زاد المعاد ص 174 دعاء اليوم الخامس والعشرين.
3- اثبات الهداة ج 1 ص 374 وراجع ج 1 ص 387.
4- احقاق الحق ج 4 ص 120.
5- اقبال السيد ابن طاووس ص 734 طبعة تبريز وص 509 طبعة طهران.
6- كنز الفوائد ص 164 وسائل الشيعة ج 18 ص 124.

خلفه نبي ، وأنّه لا نبي بعدي وسيكون بعدي خلفاء (1).

تنصيص الإمام أمير المؤمنين علیه السلام على الخاتمية

هذا أمير المؤمنين باب علم النبي صلی اللّه علیه و آله وموضع سره فقد نص في غير واحد من خطبه على كون الرسول الأكرم خاتماً لمن سبق وكتابه خاتماً للتشريع ودونك نصوصه الناصعة ونصوص أولاده الطاهرين :

35. قال علي علیه السلام : إلى أن بعث اللّه محمداً صلی اللّه علیه و آله لانجاز عدّته وإتمام نبوّته مأخوذاً على النبيين ميثاقه مشهورة سماته كريماً ميلاده ... (2).

36. وعنه علیه السلام : اجعل شريف صلواتك ونامي بركاتك على محمد صلی اللّه علیه و آله عبدك ورسولك الخاتم لما سبق والفاتح لما انغلق المعلن الحق بالحق ... (3).

قوله : « الفاتح لما انغلق » يريد لما كانت أبواب القلوب قد انغلقت بأقفال الضلال عن طوارق الهداية ، فافتتحها بآيات نبوّته ، فأعلن الحق ، وأظهره بالحجة والبرهان.

وأمّا ما رواه الشيخ والسيد في زيارة مولانا أمير المؤمنين : « السلام على رسول اللّه ، أمين اللّه على وحيه ، وعزائم أمره ، الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل والمهيمن على ذلك كلّه ورحمة اللّه وبركاته » فالمراد منه : الفاتح لما استقبل من أبواب الهداية والبركات المعنوية ، فهو صلی اللّه علیه و آله وإن ختم ما سبق من أبواب الهداية ، فلا يمكن الاهتداء بتوراة موسى ولا بانجيل المسيح ، إلاّ أنّه فتح أمام البشر أبواباً للهداية بقرآنه ، وسنّته وعمله وتقريره وأوصيائه.

37. وعنه علیه السلام : أيها الناس خذوها من خاتم النبيين صلی اللّه علیه و آله انّه يموت من

ص: 148


1- أخرجه البخاري ومسلم راجع جامع الاُصول ج 4 ص 40.
2- نهج البلاغة الخطبة الاُولى.
3- نهج البلاغة الخطبة 69.

مات منّا وليس بميت ... (1).

38. وعنه علیه السلام : اختار آدم علیه السلام خيرة من خلقه ... فأهبطه بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله وليقيم الحجة به على عباده ولم تخلهم بعد أن قبضه ممّا يؤكد عليهم حجّة ربوبيته ويصل بينهم وبين معرفته بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحملي ودائع رسالاته قرناً فقرناً حتى تمّت بنبينا محمد صلی اللّه علیه و آله حجّته وبلغ المقطع عذره ونذره ... (2).

39. وعنه علیه السلام : أرسله على حين فترة من الرسل وتنازع من الألسن فقفى به الرسل وختم به الوحي ... (3).

40. وعنه علیه السلام : أمين وحيه وخاتم رسله وبشير رحمته ونذير نقمته ... (4).

41. وعنه علیه السلام : ثم إنّ هذا الإسلام دين اللّه الذي اصطفاه لنفسه واصطنعه على عينه واصفاه خيرة خلقه وأقام دعائمه على محبّته أذل الأديان بعزته ، ووضع الملل برفعه وأهان أعدائه بكرامته ، وخذل محاديه بنصره وهدم أركان الضلالة بركنه ، وسقى من عطش من حياضه ، وأتاق الحياض لمواتحه.

ثم جعله لا إنفصام لعروته ، ولا فك لحلقته ، ولا إنهدام لأساسه ، ولا زوال لدعائمه ، ولا انقلاع لشجرته ، ولا انقطاع لمدته ، ولا عفاء لشرائعه ، ولا جذ لفروعه ، ولا ضنك لطرقه ، ولا وعوثة لسهولته ، ولا سواد لوضحه ، ولا عوج لإنتصابه ، ولا عصل في عوده ، ولا وعث لفجه ، ولا انطفاء لمصابيحه ، ولا مرارة لحلاوته.

وقال علیه السلام وهو يصف القرآن :

ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقده ، وبحراً لا يدرك قعره ، ومنهاجاً لا يضل نهجه ، وشعاعاً لا يظلم ضوءه ، وفرقاناً لا يخمد برهانه ،

ص: 149


1- نهج البلاغة الخطبة 83.
2- نهج البلاغة الخطبة 87.
3- نهج البلاغة الخطبة 129.
4- نهج البلاغة الخطبة 168.

وتبياناً لا تهدم أركانه ، وشفاءاً لا تخشى أسقامه ، وعزّاً لا تهزم أنصاره وحقّاً لا تخذل أعوانه ، فهو معدن الإيمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المنتزفون وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السائرون ، وآكام لا يجوز عنها القاصدون (1).

42. ومن كلام له علیه السلام وهو يلي غسل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتجهيزه :

بأبي أنت واُمّي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء خصصت حتى صرت مسلياً عمّن سواك ، وعمت حتى صار الناس فيك سواء ... (2).

43. وقال علیه السلام في خطبة الوسيلة : فقال وقد حشده المهاجرون والأنصار وانغصت بهم المحافل : أيها الناس إنّ علياً منّي كهارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ... (3).

44. ومن خطبة له علیه السلام : الحمد اللّه علا فاستعلى ودنا فتعالى وارتفع فوق كل منظر وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وحجّة اللّه على العالمين ... (4).

45. وقال علیه السلام ذات يوم على منبر الكوفة : أنا سيد الوصيين ... أنا وارث علم الأوّلين وحجة اللّه على العالمين بعد الأنبياء ومحمد بن عبد اللّه خاتم النبيين ... (5).

46. وفي بعض دعائه علیه السلام : وربّ الملائكة أجمعين وربّ محمد صلی اللّه علیه و آله خاتم

ص: 150


1- نهج البلاغة الخطبة 193.
2- نهج البلاغة الخطبة 230 ومجالس المفيد ص 527 والبحار ج 22 ص 527.
3- الكافي 8 / 26.
4- الكافي 8 / 67 - نهج السعادة الخطبة 1 / 188.
5- غاية المرام ص 47. أمالي الصدوق ص 17.

النبيين والمرسلين وربّ الخلق أجمعين (1).

47. وعنه علیه السلام في بعض خطبه : أيها الناس عليكم بالطاعة والمعرفة لمن لا تعذرون بجهالته فإنّ العلم الذي هبط به آدم علیه السلام وجميع ما فضّلت به النبييون إلى محمد خاتم النبيين في عترة محمد صلی اللّه علیه و آله ... (2).

48. وفي بعض احتجاجاته : أمّا رسول اللّه فخاتم النبيين ليس بعده نبي ولا رسول وختم برسول اللّه الأنبياء إلى يوم القيامة (3).

49. وقال علیه السلام في بعض خطبه : وأشهد أن ّمحمداً رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين وحجّة اللّه على العالمين (4).

50. عن الأصبغ بن نباته قال : إنّ أمير المؤمنين علیه السلام خطب ذات يوم فحمد اللّه وإثنى عليه وصلّى على النبي صلی اللّه علیه و آله ثم قال : أيها الناس اسمعوا مقالتي ... ومنّا خاتم النبيين وفينا قادة الإسلام واُمناء الكتاب ... (5).

51. وعنه علیه السلام : ختم محمد ألف نبي وانّي ختمت ألف وصي وانّي كلّفت ما لم يكلّفوا (6).

52. عن جابر بن عبد اللّه في حديث : فخرّ علي علیه السلام ساجداً ثم قال : الحمد لله الذي أنعم عليّ بالإسلام وعلّمني القرآن وحبّبني إلى خير البرية وخاتم النبيين وسيد المرسلين إحساناً منه وفضلاً منه عليّ ... (7).

53. وعنه علیه السلام في حديث : فخررت ساجداً لله تعالى وحمدته على ما أنعم به

ص: 151


1- الصحيفة العلوية دعاء اليوم السادس والعشرين.
2- كشف اليقين ص 24 - تفسير القمي ص 343 - غاية المرام ص 358 - نهج السعادة الخطب 3 / 18 نقلاً عن غيبة النعماني وارشاد المفيد ومسترشد الطبري.
3- كتاب سليم بن قيس ص 97 - الاحتجاج 1 / 220 الطبع الحديث.
4- الوافي ج 14 ص 11.
5- كشف الغمة 1 / 506.
6- نور الثقلين 4 / 284.
7- غاية المرام ص 127.

عليّ من الإسلام والقرآن وحبّبني إلى خاتم النبيين وسيد المرسلين (1).

تنصيص فاطمة الزهراء علیهاالسلام على الخاتمية :

54. عن أسماء بنت عميس قالت حدثتني فاطمة علیهاالسلام لما حملت بالحسن وولدته جاء النبي صلی اللّه علیه و آله ... ثم هبط جبرئيل فقال : يا محمد العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول : علي منك بمنزلة هارون من موسى ولا نبي بعدك سم ابنك هذا باسم ابن هارون ... (2).

55. عن فاطمة الزهراء علیهاالسلام في بعض دعواتها : اللّهمّ صلّي على محمد وآل محمد صلاة يشهد بها الأوّلون مع الأبرار وسيد المتقين وخاتم النبيين وقائد الخير ومفتاح الرحمة (3).

تنصيص السبط المجتبى علیه السلام على الخاتمية :

56. عن الحسن علیه السلام في بعض خطبه : أنا ابن نبي اللّه ... أنا ابن خاتم النبيين وسيد المرسلين (4).

57. عن سليم بن قيس قال : قام الحسن بن علي بن أبي طالب علیه السلام على المنبر حين اجتمع مع معاوية وأصحابه فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس انّ معاوية زعم انّي رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي أهلاً وكذب معاوية ... وقد ترك الاُمّة علياً علیه السلام وقد سمعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعلي علیه السلام : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير النبوّة فلا نبي بعدي ... (5).

58. عن الحسن بن علي بن أبي طالب علیه السلام قال : جاء نفر إلى رسول

ص: 152


1- غاية المرام ص 552.
2- عيون أخبار الرضا 2 / 25.
3- مقباس المصابيح ص 113.
4- مقتل الخوارزمي 1 / 126.
5- مكاتيب الأئمة 2 / 24.

اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : يا محمد إنّك الذي تزعم أنّك رسول اللّه وأنّك الذي يوحى إليك كما أوحى اللّه إلى موسى بن عمران فسكت النبي ساعة ثم قال : نعم أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا خاتم النبيين وإمام المتقين ورسول ربّ العالمين ... (1).

تنصيص الإمام سيد الشهداء علیه السلام على الخاتمية

59. في حديث الأعمش عن الحسين بن علي علیهماالسلام قال : فأخبرني يا رسول اللّه هل يكون بعدك نبي ؟ فقال لا أنا خاتم النبيين لكن يكون بعدي أئمّة قوّامون بالقسط بعدد نقباء بني اسرائيل ... (2).

60. وفي دعائه ليوم عرفة : الحمد لله حمداً يعادل حمد ملائكته المقرّبين وأنبيائه المرسلين وصلّى اللّه على خيرته محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين المخلصين.

وقوله : وربّ محمد خاتم النبيين وآله المنتجبين ومنزل التوراة والانجيل والزبور والقرآن الكريم (3).

61. وقال أيضاً في ذلك الدعاء : اللّهمّ صلّ على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين (4). 62. وفي بعض أشعاره :

أبي علي وجدي خاتم الرسل

والمرتضون لدين اللّه من قبلي (5)

تنصيص الإمام زين العابدين علیه السلام على الخاتمية

63. قال في بعض دعواته : فختم بنا على من ذرع وجعلنا شهداء على من

ص: 153


1- البرهان 2 / 41.
2- المناقب للمازندراني 2 / 300 - اثبات الهداة 2 / 544.
3- الاقبال ص 342 - 343.
4- الاقبال ص 343.
5- كشف الغمة 2 / 213 - بحار الأنوار 78 / 125 وفي طبع الكمباني 18 / 150.

جهد (1).

64. وقال : اللّهمّ صلّ على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين واعذنا وأهالينا واخواننا وجميع المؤمنين والمؤمنات ممّا استعذنا منه (2).

65. وقال : اللّهمّ صلّ على محمد خاتم النبيين وتمام عدة المرسلين (3).

66. وقال : اللّهمّ لك الحمد أن خلقت فسوّيت وقدرت وقضيت وأمت وأحييت ... فصلّ على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين (4).

67. وقال : واجمع بيني وبين المصطفى وآله خيرتك من خلقك وخاتم النبيين محمد ... (5).

تنصيص الإمام أبي جعفر الباقر علیه السلام على الخاتمية

68. عن أبي جعفر علیه السلام في حديث : لقد ختم اللّه بكتابكم الكتب وختم بنبيّكم الأنبياء (6).

69. وعنه علیه السلام في حديث آخر : ثم إنّ اللّه عزّ وجلّ أرسل عيسى بن مريم إلى بني اسرائيل خاصة فكانت نبوّته ببيت المقدس وكان من بعده الحواريون اثنى عشر فلم يزل الإيمان يستسر في بقية أهله منذ رفع اللّه عيسى وأرسل اللّه تبارك وتعالى محمداً إلى الجن والانس عامة وكان خاتم الأنبياء وكان من بعده الاثنا عشر أوصياء (7).

70. وعنه علیه السلام في دعاء أيام شهر رمضان : اللّهمّ ربّ الفجر وليال عشر ... وربّ خاتم النبيين صلواتك عليه ... (8).

ص: 154


1- الصحيفة السجادية الدعاء 12.
2- الصحيفة السجادية الدعاء 17.
3- ملحقات الصحيفة السجادية دعاء يوم الثلاثاء.
4- ملحقات الصحيفة السجادية دعاء يوم الأربعاء.
5- مصباح المتهجد ص 408 دعاء أبي حمزة الثمالي.
6- الكافي 1 / 177 - الوافي ج 2 ص 19.
7- اكمال الدين ص 127.
8- الاقبال ص 91.

71. وعنه في زيارة الحسين في عاشوراء : السلام عليك يا مولاي يا أبا عبد اللّه يا ابن خاتم النبيين ويا بن سيد الوصيين ويا بن سيدة نساء العالمين (1).

تنصيص الإمام الصادق علیه السلام على الخاتمية

72. عن الصادق في حديث : فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتى جاء محمد صلی اللّه علیه و آله فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ... (2).

73. عن زرارة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الحلال والحرام فقال : حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجيء غيره (3).

74. قال علیه السلام : بعث أنبياءه ورسله ونبيه محمداً فأفضل الدين معرفة الرسل وولايتهم وأخبرك أنّ اللّه أحلّ حلالاً وحرّم حراماً إلى يوم القيامة (4).

75. عن أبي عبد اللّه علیه السلام : انّ بعض قريش قال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم ؟ فقال : إنّي كنت أوّل من آمن بربي ... (5).

76. قال له علیه السلام قائل : علّمني دعاءً ؟ ، فقال : أين أنت من دعاء الالحاح ، فقال له الطالب : وما دعاء الالحاح ؟ فقال له : تقول : اللّهمّ ربّ السموات السبع وما فيهن وربّ الأرضين السبع وما فيهن وربّ العرش العظيم وربّ محمد خاتم النبيين أسألك باسمك ... (6).

77. وقال علیه السلام في كيفية زيارة الحسين علیه السلام في حديث : ثم امش وقصر خطاك حتى تستقبل القبر واجعل القبلة بين كتفيك واستقبل بوجهك وجهه وقل : السلام عليك من اللّه والسلام على محمد أمين اللّه على رسله وعزائم أمره الخاتم لما

ص: 155


1- هدية الزائرين ص 135 - 137.
2- الكافي 2 / 17 - المحاسن ص 193.
3- الكافي 1 / 57.
4- البحار ج 24 ص 288.
5- الكافي 2 / 10.
6- قرب الاسناد ص 4 - 5.

سبق والفاتح لما استقبل ... اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمد صاحب ميثاقك وخاتم رسلك وسيد عبادك ... (1).

78. عن إسماعيل بن جابر قال : سمعت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق علیه السلام يقول : إنّ اللّه تبارك وتعالى بعث محمداً فختم به الأنبياء فلا نبي بعده وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده أحل فيه حلالاً وحرّم حراماً ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ... (2).

79. وعنه علیه السلام : إذا أردت زيارة قبر أمير المؤمنين فتوضّأ واغتسل وامش على هيئتك وقل ... السلام من اللّه والتسليم على محمد أمين اللّه على رسالته وعزائم أمره ومعدن الوحي والتنزيل الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل (3).

80. عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : يستحب أن يصلّي على النبي صلی اللّه علیه و آله بعد العصر يوم الجمعة بهذه الصلاة : اللّهمّ انّ محمداً صلی اللّه علیه و آله كما وصفته في كتابك ... وأنّه رسولك وخاتم النبيين وجاء بالحق من عندك وصدق المرسلين (4).

81. وقال في تلك الصلاة أيضاً : اللّهمّ واجعل صلاتك وغفرانك ... وصلوات ملائكتك ورسلك وأنبيائك ... على محمد بن عبد اللّه سيد المرسلين وخاتم النبيين وإمام المتقين ... (5).

82. وعنه علیه السلام في زيارة الحسين المشهورة بوارث : السلام عليك يا خاتم النبيين السلام عليك يا سيد المرسلين (6).

83. عن أيوب بن الحر قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : إنّ اللّه ختم بنبيّكم النبيين فلا نبي بعده أبداً وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبداً وأنزل فيه

ص: 156


1- كامل الزيارات ص 230 - 231.
2- تفسير النعماني ص 3 - الميزان 3 / 81 نقلاً منه.
3- تهذيب الأحكام 7 / 25 - فرحة الغري ص 33.
4- مصباح المتجهد ص 271 - 272.
5- مصباح المتجهد ص 272.
6- مصباح المتجهد ص 500.

تبيان كل شيء ... (1).

84. عن الصادق علیه السلام : إذا زرت جانب النجف فزر عظام آدم وبدن نوح وجسم علي بن أبي طالب علیه السلام فإنّك زائر الآباء الأوّلين ومحمد صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين وعلياً سيد الوصيين وانّ زائره يفتح له أبواب السماء فلا تكن على الخير نوماً (2).

85. عن الصادق علیه السلام : من قال عند غروب الشمس في كل يوم : يا من ختم النبوّة بمحمد صلی اللّه علیه و آله اختم لي في يومي هذا بخير وسنّتي بخير وعمري بخير ... (3).

86. عن الصادق علیه السلام : كان علي يرى مع رسول اللّه قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت قال : وقال له صلی اللّه علیه و آله : لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوّة فإن لا تكن نبيّاً فإنّك وصي نبي ووارثه بل أنت سيّد الأوصياء وإمام الاتقياء (4).

87. وروي عنه علیه السلام في كيفية تشهّد الصلاة : فإذا جلست في الرابعة قلت : بسم اللّه وباللّه ... السلام على محمد بن عبد اللّه خاتم النبيين لا نبي بعده والسلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ثم تسلّم (5).

88. قال أبو عبد اللّه علیه السلام : إنّ تبّعاً قال للأوس والخزرج : كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبي أمّا أنا لو أدركته لخرجت معه وكتب كتاباً إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وعنوان الكتاب : إلى محمد بن عبد اللّه خاتم النبيين ورسول ربّ العالمين من تبّع الأوّل (6).

89. روى عاصم بن حميد قال : قال أبو عبد اللّه علیهاالسلام : إذا حضر أحدكم الحاجة فليصم ... ويقول - وذكر دعاءاً طويلاً نذكر منه موضع الحاجة - : اللّهمّ إنّي

ص: 157


1- الوافي الجزء الثاني من ج 1 ص 144.
2- مزار ابن المشهدي مخطوط ص 14 - تحفة الزائر ص 61.
3- فلاح السائل ص 202 - بحار الأنوار 86 / 267.
4- الشرح الحديدي على نهج البلاغة 13 / 210 - غاية المرام ص 47.
5- وسائل الشيعة 4 / 989 - 990.
6- اثبات الهداة 1 / 401.

أتقرّب إليك بنبيّك ورسولك وحبيبك خاتم النبيين وسيد المرسلين وإمام المتقين (1).

90. عن الفضيل قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لم يبعث اللّه عزّ وجلّ من العرب إلاّ خمسة أنبياء هوداً وصالحاً وإسماعيل وشعيباً ومحمداً خاتم النبيين (2).

91. وعنه علیه السلام في زيارة أمير المؤمنين علیه السلام : السلام من اللّه على رسول اللّه محمد بن عبد اللّه خاتم النبيين وإمام المتقين ... الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل ... (3).

92. وعنه علیه السلام في زيارته التي زار بها أمير المؤمنين علیه السلام في مولد النبي صلی اللّه علیه و آله : السلام عليك يا من بات على فراش خاتم الأنبياء ووقّاه بنفسه عند مبارزة الأعداء وفي نسخة ( شر الأعداء ) (4).

93. وعنه علیه السلام أيضاً فيها : السلام عليك يا وارث علم النبيين ومستودع علم الأوّلين والآخرين وصاحب لواء الحمد وساقي أوليائه من حوض خاتم النبيين السلام عليك يا يعسوب الدين وقائد الغر المحجّلين ووالد الأئمّة المرضيين ورحمة اللّه وبركاته (5).

94. وعنه علیه السلام في دعائه بعد زيارة أمير المؤمنين : أسألك بحق محمد خاتم النبيين وعلي أمير المؤمنين ... (6).

95. وروى بريد عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه في تفسير قوله عزّ وجلّ : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) قولهما : « لقد ختم اللّه بكتابكم الكتب وختم بنبيّكم الأنبياء » (7).

ص: 158


1- اثبات الهداة 2 / 472.
2- البحار 11 / 42 نقلاً عن قصص الأنبياء.
3- البحار 100 / 336.
4- بحار الأنوار 100 / 374 - زاد المعاد ص 343.
5- بحار الأنوار 100 / 375 - زاد المعاد ص 345.
6- تحفة الزائر ص 100.
7- الكافي ج 15 ص 177 ومضى ما يقرب منه في الحديث رقم 84.
تنصيص الإمام موسى بن جعفر علیهماالسلام على الخاتمية

96. عن علي بن رئاب عن العبد الصالح علیه السلام قال : ادع بهذا الدعاء في شهر رمضان مستقبل دخول السنة ... اللّهمّ ربّ السموات السبع والأرضين السبع وما فيهنّ وما بينهنّ ... وربّ محمد صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته سيد المرسلين وخاتم النبيين ... (1).

97. عن إبراهيم بن أبي البلاد قال : قال لي أبو الحسن علیه السلام : ... فكتب لي وأنا قاعد بخطه وقرأه عليّ : إذا وقفت على قبره ( رسول اللّه ) صلی اللّه علیه و آله فقل : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ... وأشهد أنّك خاتم النبيين ... (2).

98. عن موسى بن جعفر علیه السلام : انّ رجلاً سأل أبا عبد اللّه علیه السلام ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلاّ غضاضة ؟ قال : لأنّ اللّه لم ينزله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة (3) ودلالته على الخاتمية واضحة.

تنصيص الإمام علي بن موسى الرضا علیهماالسلام على الخاتمية

99. خطب الرضا علیه السلام هذه الخطبة : الحمد لله حمد في الكتاب نفسه وافتتح بالحمد كتابه ... وصلّى اللّه على محمد خاتم النبوّة وخير البرية وعلى آله آل الرحمة وشجرة النعمة ... (4).

100. وقال علیه السلام في حديث وصف الإمامة والإمام : فهي في ولد علي علیه السلام خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد صلی اللّه علیه و آله ... (5).

101. وعنه عن آبائه عن علي علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا علي ما

ص: 159


1- الكافي 4 / 72 - الفقيه 2 / 103.
2- كامل الزيارات ص 17.
3- عيون أخبار الرضا 2 / 87.
4- الكافي 5 / 373.
5- عيون أخبار الرضا 1 / 218.

سألت ربّي شيئاً إلاّ سألت لك مثله غير أنّه قال : لا نبوّة بعدك أنت خاتم النبيين وعلي خاتم الوصيين (1).

ابهام وايضاح :

اشارة

كون علي علیه السلام خاتم الوصيين لا ينافي كون الحسن والحسين والأئمّة من بعده أوصياء أيضاً ، فإنّ الوصاية عن الأنبياء قد ختمت بعلي ، فلا وصي نبي بعد علي علیه السلام وأمّا الأئمّة من بعده فهم أوصياء وصيّه ، أو أوصياء وصي وصيّه ، لا أوصياء النبي نفسه ، كما لا يخفى.

ويمكن أن يقال هنا وصاية واحدة متعلقة بعلي وأولاده علیهم السلام فوصاية الحسن والحسين والأئمّة من بعده بنفس الوصاية المتعلقة بأبيهم أمير المؤمنين ، فكون علي خاتم الأوصياء ، كناية عن كون الوصاية المتعلقة به وبأولاده قد ختم بها باب الوصاية السماوية وبذلك يسقط استدلال الفرقة الضالة بهذا الحديث على نفي كون « خاتم » بمعنى « آخر » قائلة بأنّه لو كان « الخاتم » بمعنى « الآخر » لزم سلب الولاية عن الأئمّة الآخرين ، وقد عرفت منّا فقه الحديث وليس استدلالهم بهذا إلاّ كتمسّك الغريق بالطحلب.

102. عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال : إنّما سمّي اُولوا العزم اُولي العزم لأنّهم كانوا أصحاب الشرائع والعزائم وذلك أنّ كل نبي بعد نوح علیه السلام كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل علیه السلام ، وكل نبي كان في أيام إبراهيم وبعده كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى ، وكل نبي كان في زمن موسى وبعده كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى أيام عيسى ، وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبيّنا محمد صلی اللّه علیه و آله فهؤلاء الخمسة اُولوا العزم فهم أفضل الأنبياء والرسل وشريعة محمد صلی اللّه علیه و آله

ص: 160


1- عيون أخبار الرضا 2 / 73.

لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده إلى يوم القيامة ، فمن ادعى بعده نبوّة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه (1) وقد نقلنا الحديث بطوله لما فيه من الفوائد.

103. عن الفضل بن شاذان قال : سأل المأمون علي بن موسى الرضا علیه السلام أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار فكتب علیه السلام له : أنّ محض الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ... وأنّ محمداً عبده ورسوله وأمينه وصفيّه وصفوته من خلقه وسيد المرسلين وخاتم النبيين وأفضل العالمين لا نبي بعده ولا تبديل لملّته ولا تغيير لشريعته وأنّ جميع ما جاء به محمد بن عبد اللّه هو الحق المبين والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل اللّه وأنبيائه وحججه والتصديق بكتابه الصادق العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وأنّه المهيمن على الكتب كلّها وأنّه حق من فاتحته إلى خاتمته ... (2).

104. وعنه علیه السلام في حديث : حتى انتهت رسالته إلى محمد المصطفى صلی اللّه علیه و آله فختم به النبيين وفي نسخة ( المرسلين ) وقفى به على آثار المرسلين وبعثه رحمة للعالمين ... (3).

105. صورة ما كان على ظهر العهد الذي عهده المأمون إليه بخطه علیه السلام : الحمد لله الفعّال لما يشاء ... وصلواته على نبيّه محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين أقول وأنا علي بن موسى بن جعفر ... (4).

106. روى الصدوق مسنداً عن علي بن موسى الرضا علیه السلام عن أبيه عن آبائه عن فاطمة بنت النبي صلی اللّه علیه و آله لما حملت بالحسن وولدته ... ثم هبط جبرئيل فقال : يا محمد العلي الأعلى يقرئك السلام ، ويقول : علي منك بمنزلة هارون من موسى ولا نبي

ص: 161


1- عيون أخبار الرضا 2 / 80.
2- عيون أخبار الرضا 2 / 121 - 122.
3- عيون أخبار الرضا 2 / 154.
4- المناقب للمازندراني 4 / 364 - كشف الغمة 3 / 177.

بعدك ، سم ابنك باسم ولد هارون ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله وما اسم ابن هارون ؟ قال شبّر ، قال النبي صلی اللّه علیه و آله : لساني عربي ، قال جبرئيل : سمّه الحسن (1).

تنصيص الإمام أبي محمد الجواد علیه السلام على الخاتمية

107. جاء في بعض دعواته : بسم اللّه قوي الشأن عظيم البرهان شديد السلطان ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن أشهد أنّ نوحاً رسول اللّه وانّ إبراهيم خليل اللّه وانّ موسى كليم اللّه ونجيّه وأنّ عيسى ابن مريم روح اللّه وكلمته صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين وأنّ محمداً صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين لا نبي بعده (2).

تنصيص الإمام الهادي علیه السلام على الخاتمية

108. عن عبد العظيم الحسني قال : دخلت على سيدي علي بن محمد علیهماالسلام فلمّا أبصرني قال لي : مرحباً يا أبا القاسم أنت وليّنا حقاً قال : فقلت له : يا بن رسول اللّه انّي اُريد أن أعرض عليك ديني ... أنّي أقول : إنّ اللّه واحد ليس كمثله شيء ... وأنّ محمداً صلی اللّه علیه و آله عبده ورسوله خاتم النبيين ولا نبي بعده إلى يوم القيامة وأنّ شريعته خاتمة الشرائع فلا شريعة بعدها إلى يوم القيامة ... (3).

109. عن علي بن محمد الهادي علیهماالسلام في زيارته التي زار بها علياً علیه السلام في يوم الغدير في السنة التي أشخصه المعتصم ... السلام على محمد رسول اللّه خاتم النبيين وسيّد المرسلين وصفوة ربّ العالمين ... والخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل ... (4).

ص: 162


1- عيون أخبار الرضا ج 2 ب 1 ص 25.
2- مهج الدعوات ص 40 - بحار الأنوار 94 / 359.
3- اكمال الدين ص 214 الطبع الحجري.
4- بحار الأنوار 100 / 360.
تنصيص الإمام العسكري علیه السلام على الخاتمية

110. عن الإمام العسكري علیه السلام قال : لقد رامت الفجرة ليلة العقبة قتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على العقبة ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب فما قدروا مغالبة ربّهم ، حملهم على ذلك حسدهم لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في علي علیه السلام لمّا فخم من أمره وعظم من شأنه من ذلك أنّه لما خرج من المدينة وقد كان خلفه عليها ... قال أكثر المنافقين ملّه وسأمه وكره صحبته ، فتبعه علي علیه السلام حتى لحقه ... فقال له : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ... (1).

تنصيص الحجّة القائم علیه السلام على الخاتمية

111. قال علیه السلام في الصلوات المروية عنه التي خرجت إلى أبي الحسن الضراب الاصبهاني بمكة : بسم اللّه الرحمن الرحيم اللّهمّ صلّ على محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وحجة ربّ العالمين ... (2).

112. وفي دعائه الذي قرأه في شهر رجب في مسجد السهلة : يا أسمع السامعين ويا أبصر المبصرين ويا أنظر الناظرين ويا أسرع الحاسبين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الراحمين صلّ على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطاهرين الأخيار ... (3).

113. وفي جوابه لكتاب أحمد بن اسحاق : بسم اللّه الرحمن الرحيم أتاني كتابك أبقاك اللّه ... ثمّ بعث محمداً صلی اللّه علیه و آله رحمة للعالمين وتمّم به نعمته وختم به أنبياءه وأرسله إلى الناس كافة وأظهر من صدقه ما أظهر وبيّن من آياته وعلاماته ما بيّن ثم قبضه اللّه إليه حميداً فقيداً سعيداً ... (4).

114. وفي الزيارة الخارجة من الناحية إلى أحد الأبواب الأربعة : السلام على آدم

ص: 163


1- غاية المرام 151.
2- مصباح المتهجد ص 284.
3- الاقبال ص 645.
4- مكاتيب الأئمة 2 / 276.

صفوة اللّه من خليقته ... السلام على ابن خاتم الأنبياء السلام على ابن سيد الأوصياء (1).

وفيها أيضاً : اللّهمّ إنّي أتوسّل إليك يا أسرع الحاسبين ويا أكرم الأكرمين ويا أحكم الحاكمين بمحمد خاتم النبيين ورسولك إلى العالمين أجمعين ... (2).

روايات اُخرى

115. في رواية قال آدم : لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه فعلمت أنّه ليس أحد أعظم قدراً عندك ممّن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى اللّه إليه : وعزّتي وجلالي أنّه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه لما خلقتك (3).

116. وفي دعاء السمات : وصلّى اللّه على سيدنا محمد خاتم النبيين وعترته الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً (4).

117. قال اللّه تعالى لآدم علیه السلام : أنت يا آدم أوّل الأنبياء والرسل وابنك محمد خاتم الأنبياء والرسل ... (5).

118. ومما أوحى اللّه إلى آدم : من ولدك إبراهيم أجري على يده عمارة بيتي تعمّره الاُمم حتى ينتهي إلى نبي يقال له خاتم النبيين أجعله من سكانه وولاته (6).

119. في التوراة عن اللّه تبارك وتعالى : إنّي باعث في الاُمّيين من ولد إسماعيل رسولاً انزل عليه كتابي وأبعثه بالشريعة القيّمة إلى جميع خلقي ، اُوتيه حكمتي ، وأيّدته بملائكتي وجنودي ... اُكمل بمحمد صلی اللّه علیه و آله وبما أرسله به من بلاغ وحكمة ديني وأختم به أنبيائي ورسلي فعلى محمد صلی اللّه علیه و آله واُمّته تقوم الساعة (7).

ص: 164


1- بحار الأنوار 101 / 318 - الصحيفة الهادية والتحفة المهدية ص 203.
2- بحار الأنوار 101 / 323 - الصحيفة الهادية والتحفة المهدية ص 217.
3- ينابيع المودة ص 17 - 18.
4- بحار الأنوار 90 / 101.
5- اثبات الهداة 1 / 318.
6- اثبات الهداة 1 / 400.
7- الاقبال ص 509.

120. وفي حديث بحيراء الراهب : أنت سيد ولد آدم وسيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين ... (1).

121. وجاء في دعاء يوم الخميس : وصلّى اللّه على محمد خاتم النبيين وآله الطيبين والأخيار الأبرار الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (2).

122. وجاء في تسبيح يوم الخميس : وصلّى اللّه على رسوله محمد خاتم النبيين وآله أجمعين (3).

123. وفي دعاء يوم الجمعة : اللّهم صلّ على محمد وآل محمد نبي الرحمة وقائد الخير وإمام الهدى والداعي إلى سبيل الإسلام ورسولك يا ربّ العالمين وخاتم النبيين وسيد المرسلين (4).

124. وفي دعاء أيام شهر رجب : يا أسمع السامعين وأبصر الناظرين وأسرع الحاسبين يا ذا القوّة المتين صلّ على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته (5).

125. وفي دعاء ليلة النصف من شعبان : وصلّى اللّه على محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى أهل بيته الصادقين وعترته الناطقين (6).

126. عن ابن عباس أنّه قال : أوّل المرسلين آدم وآخرهم محمد صلی اللّه علیه و آله وكانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين نبي. المرسل ( الرسل ) منهم ثلاثمائة وخمسة ، وخمسة منهم اُولوا العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، وخمسة منهم العرب هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلی اللّه علیه و آله (7).

127. قال الطبرسي رحمه اللّه : وإذا أراد الرجوع إلى بيته فليقل حين يدخل بسم اللّه وباللّه أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ثم

ص: 165


1- اثبات الهداة 1 / 345.
2- مصباح المتهجد ص 34.
3- مصباح المتهجد ص 341.
4- مصباح المتهجد ص 345.
5- مصباح المتهجد ص 558.
6- مصباح المتهجد ص 586.
7- الاختصاص ص 264 - بحار الأنوار 11 / 43.

يسلّم على أهله إن كان في البيت أحد فإن لم يكن في البيت أحد فليقل بعد الشهادتين السلام على محمد بن عبد اللّه خاتم النبيين السلام على الأئمّة الهادين المهديين السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين (1).

128. وفي زيارة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : السلام عليك يا خاتم النبيين أشهد أنّك قد بلغت الرسالة ... (2).

129. وأيضاً في زيارته صلی اللّه علیه و آله : السلام عليك يا نجيب اللّه السلام عليك يا خاتم النبيين السلام عليك يا سيد المرسلين (3).

130. وأيضاً في زيارته صلی اللّه علیه و آله : السلام عليك يا حجة اللّه على الأوّلين والآخرين السابق في طاعة ربّ العالمين والمهيمن على رسله والخاتم لأنبيائه والشاهد على خلقه والشفيع إليه (4).

131. وأيضاً في زيارته صلی اللّه علیه و آله : أوّل النبيين ميثاقاً وآخرهم مبعثاً الذي غمسه في بحر الفضيلة ... (5).

132. في زيارة إبراهيم ابن رسول اللّه : السلام على محمد بن عبد اللّه سيد الأنبياء وخاتم الرسل ... (6).

133. وفي زيارة عاشوراء : السلام عليك ياوارث آدم صفوة اللّه ... وسبط خاتم المرسلين (7).

134. وفي زيارة الحسين علیه السلام في أوّل شهر رجب : السلام عليك يابن

ص: 166


1- مكارم الأخلاق 188.
2- بحار الأنوار 100 / 161.
3- بحار الأنوار 100 / 183 - زاد المعاد ص 334.
4- بحار الأنوار 100 / 184 - زاد المعاد ص 335.
5- بحار الأنوار 100 / 185 - زاد المعاد ص 337.
6- بحار الأنوار 100 / 217 - هدية الزائرين ص 262 نقلاً عن المفيد وابن طاووس والشهيد.
7- بحار الأنوار 101 / 313.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله السلام عليك يا بن خاتم النبيين (1).

135. روي في الاختصاص ، عن ابن عباس أنّه قال : أوّل المرسلين آدم وآخرهم محمد صلی اللّه علیه و آله وكانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي ، المرسل منهم ثلاثمائة ، خمسة منهم اُولوا العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، وخمسة من العرب هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلی اللّه علیه و آله (2).

هذه جملة ما وقفت عليه من آثار النبوّة والمأثورات عن أئمة أهل البيت (3) ولعلّ ما لم أظفر به أكثر ممّا ظفرت به ، كل ذلك يؤيد ما هو المنصوص في القرآن الحكيم ، وأنّ اللّه أوصد باب النبوّة ورسالة السماء إلى الأرض ، ببعث نبيّه وآخر سفرائه محمد صلی اللّه علیه و آله فليس بعده نبي ولا شريعة ولا كتاب ولا ... هذا وقد أغناهم تصريح الكتاب بالموضوع عن افاضة القول فيه ، كما هو شأن كلّ موضوع فيه نص في القرآن الكريم.

شبهات حول الخاتمية :

لقد حصحص الحق مما سردناه من الأدلّة والدلائل الناصعة ، على خاتمية الرسول فلم يبق مقول لقائل ولا مصول لصائل ، وما سردناه من الأدلّة يفيد القطع واليقين بالخاتمية للرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله لكل من آمن بقرآنه وسنّته القطعية ، والاجماع المسلم بين الاُمّة المدعم بالضرورة والبداهة بين المسلمين.

غير أنّ شرذمة قليلة ممّن أصابهم مس من الالحاد والمادية ، أخذوا يلقون حبالاً وعصياً في سبيل الضعفاء من المسلمين ، يخدعون بها الهمج الرعاع والبسطاء من الناس فجاءوا بشكوك وشبهات لفّقوها من هنا وهناك لا تقل عن شبهات السوفسطائية تّجاه

ص: 167


1- بحار الأنوار 101 / 336.
2- الاختصاص وبحار الأنوار ج 11 ص 43.
3- لا يخفى على القارئ الكريم ما عانيته من الجهود في جمع تلكم الأحاديث المأثورة عن النبي وآله من مصادرها المختلفة.

البديهة.

وقد اتخذت تلك الشرذمة الضئيلة انكار الخاتمية اداة للفتنة وسبيل إلى هدم الإسلام ، وإضلال المؤمنين بها وتمهيداً لأهدافهم وأغراضهم الرجعية. تلك الشبهات توقفنا على مبلغ علمهم بالكتاب والسنّة ومدى إلمامهم بالأدب العربي وتوقفنا على أنّه لا هدف لهم في اختلاق هذه الشكوك ، إلاّ خدمة الاستعمار وتفريق الكلمة وهدم الصفوف الإسلامية ، وقد عرفتهم الاُمّة الإسلامية ، وعرفت نواياهم وضمائرهم كما عرفت قيمة شبهاتهم التي تتضاءل عند كل من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة وتجعلها في معرض البطلان.

ولإسكات ما أحدثته هده الشبهات من جلبة وتركاض وصخب وهياج ولإماطة اللثام عن حقائق ناصعة ، خفيت على من اختلقها. عقدنا هذا الفصل حتى يتجلى للقارئ الحق بأجلى مظاهره ولا يبقى للأفّاكين المتخرصين مجال للبحث والتشكيك.

لقد حسب هؤلاء المغترّون أنّ ما لفّقوه من الأوهام سينطلي على عقول أبناء الأجيال الصاعدة ، ويتقبّلونه بصدر رحب ، إلاّ أنّه خفى عنهم ، أنّ الوعي الذي تمتعت به هذه الأجيال أخذ يرد عليهم خرافتهم الباطلة ، وأنّ المستقبل الكشّاف سيكشف عن سوأتهم.

ومن جهة اُخرى أنّ بعض هذه الأوهام التي جمعوها وطلوها ربّما يخيّل للبسطاء من الناس أنّها مسائل مستحدثة ، أو دلائل جديدة إلاّ أنّها ليست إلاّ نسائج قديمة أكل عليها الدهر وشرب ، وذكرت في كتب التفسير والحديث بشكل أسئلة اُجيبت عليها بأجوبة مقنعة ناجعة ... ولكنّهم من أجل ايقاع السذج والبسطاء في حبائلهم أخذوا بالأسئلة ، وتركوا أجوبتها.

وها نحن نقف تّجاه هذه الشبهات وقفة ، نجعلها في مدحرة البطلان ونقطع الطريق على هذه العصابات المجرمة وإن طال بنا الكلام ، واتسع مقامنا مع القرّاء الكرام.

ص: 168

الفصل الثالث: شبهات حول الخاتمية

اشارة

لما حاول الاستعمار الغاشم الاستيلاء على الشرق الأوسط ومناطقه الخصبة وربوعه المعمورة ومعادنه الغالية وما يسيل تحت أراضيه من الذهب الأسود ( البترول ) إلى غير ذلك من الثروات الطائلة ، قام بكل ما يملك من حول وقوة بشن الغارات عليه بصورة استفزازية مزرية.

نعم للاستعمار أساليب وتخطيطات وألوان مختلفة ، تختلف حسب طبائع الأجيال والأمكنة والتخطيط الأصيل له والحجر الإساسي الذي ترتكز عليه مخططات المستعمرين هو أصل « فرّق تسد » فاُولئك هم وليدوا ذلك الأصل ، وهم المبتدعون له ( على وجه غير دائر ) فالتفريق بين قطاعات الشعب في المبدأ والعقيدة عامل هدام يبدد قوى الشعب ، وسيل كاسح جارف ، يخرب كل حاجز دون نواياهم ، ويزعزع كل سد دون أهدافهم ، فلا شيء أضر بحال الشعب وأنفع للعدو من إشاعة القلق والفوضى في المجتمع واختلاف الكلمة والتشتت في التوجيه والدعوة بين أفراده ، فهي ضربة قاضية

ص: 169

تنصبّ على وجوده وتحول دون اتحاد أبنائه وتضامنهم ووقوفهم صفاً واحداً في وجه العدو وجرائمه المخزية وأعماله الاجرامية.

فها هي ذي بلادنا « إيران » كان يضرب المثل منذ زمن بعيد ، باتحاد شعبها وتضامن أبنائها وقد اعتنق الإسلام كثير منهم في عهد الخلافة ، وتفيأوا في ظلاله قروناً متطاولة ، غير أنّ الاستعمار الغادر لم يرض باتحادهم وإتفاق كلمتهم ، فطفق يديف السم في الدسم ، يفرق كلمتهم في المبدأ والعقيدة ، ببعث رجال التبشير والإنذار وإختلاق احزاب سياسية ، مطبوعة بطابع الدين ، ومصبوغة بصبغة المذهب ، وليس فيها شيء يمت إلى الدين بصلة ولا مرمى لهم في ذلك ، إلاّ تضليل عقيدة الشعب وتدمير أخلاقه وتحطيم كرامته حتى يعود مرتداً متحلّلاً ، فاقد الكرامة ، مسلوب الإرادة ، لا يلتزم بمبدأ ولا يؤمن بدين ، ولا يعرف هدفاً يسعى إليه ، سوى الاستهتار التام.

وعند ذلك يسهل للعدو تعكير الصفو وتمزيق الوحدة وضرب الشعب بعضه ببعض وتهون له الإغارة على الثروات الطائلة في أيديهم وما احتوته أراضيهم من معادن ومنابع.

هذا القلق الديني والفوضى المذهبية ، اللذين نشاهدهما في الشرق الأوسط بل والعالم الإسلامي إنّما هما وليدا هذا الاستعمار الغاشم ، وليدا تكتيكه الأصيل ( فرّق تسد ) وقد فتح هذا الاختلاف في وجه الشعب أبواباً من الأزمات الكثيرة في نواحي مختلفة.

ضع يدك على هذه الفرق المنحوتة ، والدعوات السياسية المتولدة في القرن الأخير ، واقرأ اُصولها وفروعها ، وتأمّل في غاياتها المتوخّاة منها وطالع صحائف من حياة مؤسسيها ومبتكريها ، تجدهم عمد الاستعمار وأذنابه ، فمن شيخية إلى بابية ، ومن أزلية إلى بهائية ، ومن قاديانية إلى أحمدية وكلّها وليدة الاستعمار الغاشم ، وليدة رجال العيث والفساد ، وليدة الأفّاكين الذين عرفتهم الاُمّة ، وعرفت نواياهم وسرائرهم وأهدافهم.

فدونك البهائية من هذه الفرق السياسية وقد اختلقها زعيمها « الميرزا حسين علي المازندراني » في إيران ، لتراه يدعو تارة إلى الوهية نفسه ويقول : « إنّي أنا اللّه لا إله إلاّ أنا ،

ص: 170

كما قال النقطة الاولى من قبل بعينه يقوله ، من يأتي من بعد » (1) ويدعو إلى نبوّته ورسالته تارة اُخرى ، وأنّه نبي كسائر الأنبياء ، وأنّ باب النبوّة مفتوح إلى يوم القيامة ، لم يوصد بعد نبي الإسلام ، ثم إنّ لهؤلاء الأقوام كُتّاباً مستأجرين استأجرهم الاستعمار لنصرة هذا الحزب المختلق بإسم الدين وطابع المذهب ، وقد جاءوا بشبهات تافهة في مسألة الخاتمية ، فدونك هذه الشبهات مع أجوبتها :

الشبهة الاُولى :

اشارة

كيف يدّعي المسلمون انغلاق باب النبوّة والرسالة مع أنّ صريح كتابهم قاض بانفتاح بابه إلى يوم القيامة ، وذلك قوله سبحانه :

( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( الأعراف - 35 ).

قال : فهذا الخطاب الوارد في القرآن الكريم ، النازل على قلب سيد المرسلين ينبئ عن مجيء الرسل بعد نبي الإسلام ، ويدل بظاهر قوله : ( يَأْتِيَنَّكُمْ ) الذي هو بصيغة المضارع ، على أنّ باب النبوّة لم يوصد وأنّه مفتوح بعد ، ومعه كيف يدعي المسلمون أنّ محمداً صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين وآخرهم وكتابهم يشهد على خلافه (2).

الجواب عن الشبهة :

هذه الشبهة الواهية حصلت من الجمود على نفس الآية والغض عمّا تقدمها من الآيات فإنّك إذا لاحظت سياقها تذعن بأنّها ليست إنشاء خطاب في ظرف نزول القرآن بل حكاية لخطاب خاطب به سبحانه بني آدم في بدء الخلقة ، ولقد حكاه في القرآن بعد لأي من الدهر ، فكما أنّه سبحانه يحكي فيه الخطابات الدائرة بين رسله

ص: 171


1- بديع ص 154.
2- الفرائد ص 314 ط مصر 1315 ه.

وجبابرة عصورهم من فرعون وقارون من دون انشاء خطاب في زمن الرسول ، فهكذا يحكي في هذه الآية وما تقدمها ، الخطابات الصادرة منه سبحانه في بدء الخلقة ، وإن كنت في ريب مما ذكرناه ، فلاحظ الآيات الواردة في سياقها ودونك إجمالها.

ابتدأ سبحانه بقصة آدم في سورة الأعراف ، من الآية الحادية عشرة وختمها بما استنتج منها من العبر في الآية السابعة والثلاثين ، ودونك اجمال القصة ونتائجها بنقل الآيات.

( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) ( الأعراف - 11 - 25 ).

وعند ذلك ناسب أن يستنتج سبحانه من تلك القصة ويخاطب أبناء آدم بخطابات أربعة ، هادفة إلى لزوم طاعة اللّه سبحانه والتجافي عمّا يأمر به الشيطان ،

ص: 172

وإنّ لهم في قصة أبيهم واُمّهم لعبرة واضحة فقال سبحانه :

1. ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ( الأعراف - 26 ).

2. ( يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف - 27 ).

3. ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( الأعراف - 31 ).

ولا تجعل قوله سبحانه في ثنايا الخطابات الأربعة : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... ) دليلاً على كونها انشاء خطاب في عصر القرآن للمسلمين بقرينة ذكر المسجد ، لأنّه مردود بوجهين :

الأوّل : لوجود المسجد في الاُمم السابقة وعدم اختصاصه بعصر الرسالة كما يشهد عليه قوله سبحانه : ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ) ( الكهف - 21 ).

الثاني : إنّ المراد من المسجد ليس البناء الخاص الدارج في البلاد الإسلامية بل هو كناية عن حالة الصلاة والعبادة التي أمر اللّه بها عباده في الاُمم جمعاء على اختلافها في الأجزاء والشرائط والصور ، كما يشهد عليه قوله سبحانه : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) ( مريم : 54 - 55 ).

وقوله سبحانه حاكياً عن المسيح : ( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) ( مريم - 31 ).

وعليه فالمراد أمّا خذوا ثيابكم التي تتزينون بها للصلاة وألبسوا أجودها في حال

ص: 173

العبادة ، أو خذوا ما تسترون به عوراتكم حالها ، وعلى أي تقدير فهذا الحكم لا يختص بالاُمّة الإسلامية بل يعم الاُمم جمعاء.

4. ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( الأعراف - 35 ) ثم إنّه سبحانه في الآية السادسة والثلاثين والسابعة والثلاثين توعّد من كذّب بآياته واستكبر عنها ومن افترى على اللّه كذباً ، وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) .

وبعد ذلك ختم القصة مع ما استنتج منها لابناء آدم من عظات وعبر.

وأنت إذا احطت خبراً بهذه الآيات ، صدرها وذيلها وهدفها ومرماها ، لوقفت على أنّ الخطاب الأخير الحاكي عن بعث الرسل إلى بني آدم ليس انشاء خطاب في عهد الرسالة حتى ينافي صريح قوله الآخر : ( وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) بل هي حكاية لاحدى الخطابات التي ألقاها اللّه في بدء الخلقة ، عندما أخرج الشيطان أبانا من الجنة وأهبطه إلى الأرض ، وتعلقت مشيئته سبحانه بأن يستقر هو وأبناؤه في الأرض إلى حين ، فخاطب سبحانه أبناء آدم بلسان النصح وقال : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ... ) فصدّق الخبر الخبر وجاءت الرسل تترى ، مبشّرين ومنذرين ، تالين على بني آدم آيات اللّه.

وممّا يؤيد ما ذكرنا ( أنّ قوله سبحانه : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ ... ) حكاية للخطاب الذي ألقاه سبحانه في بدء الخلقة ، لا انشاء خطاب في عهد القرآن ) إنّ اللّه سبحانه حيث ما يذكر في موضع آخر من القرآن قصّة آدم على وجه التفصيل ، يذيّلها بمضمون هذه الآية وما بعدها من الآيتين (1) كما في سورتي البقرة وطه ، فإنّ

ص: 174


1- الآية السادسة والثلاثون والسابعة والثلاثون.

مضمونهما موجود في ذيل القصة ، وإنّما الاختلاف في اللفظ والعبارة ، دون اللب والمعنى.

ودونك ما في سورة البقرة ، ترى أنّ اللّه سبحانه بعد ما ذكر قصة آدم ، وإنّ الشيطان أزلّهما ، يكرّر مضمون هذه الآية وما بعدهما من الآيتين حيث يقول : ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ *.وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( البقرة : 38 - 39 ).

فهاتان الآياتان في سورة البقرة ، يتحد مضمونهما مع مضمون ما ورد في سورة الأعراف غير أنّهما جاءتا في سورة الأعراف بلفظ « يا بني آدم » دون ما في سورة البقرة وهذا يؤيد أو يدل على أنّ الوارد في سورة الأعراف ليس إنشاء لخطاب في عهد الرسالة ، بل حكاية لخطاب سبق منه سبحانه في بدء الخلقة.

ونظير ذلك ما ورد في سورة طه ، حيث يقول فيها سبحانه : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) ( طه : 121 - 122 ).

( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) ( طه - 123 ).

( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) ( طه - 124 ).

فهاتان الآياتان تتحدان مع ما وردتا في سورة الأعراف معنى ومضموناً ، وإن اختلفتا معهما لفظاً وعبارة ، وبذلك يظهر صدق ما أوضحناه من كون الآيتين في سورة الأعراف قد وردتا حكاية عن خطاب الهي صدر منه بعد خروج آدم من الجنة ، لا خطاب ابتدائي صدر منه سبحانه إلى المسلمين.

ومما يشهد على أنّها من الخطابات الواردة في بدء الخلقة ، أنّه سبحانه يؤاخذ

ص: 175

الخليقة كلها يوم القيامة بنفس هذا الخطاب ويقول : ( يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) ( الأنعام - 130 ).

فإذا نظرت إلى مضمون الآية ، ترى أنّ مادة الإحتجاج فيها هو عين ما ورد في سورة الأعراف وهذا دليل على أنّ الخطاب في هذه السورة من الخطابات الواردة في بدء الخلقة واللّه تعالى حكاها في القرآن للنبي الأكرم واُمّته ، فلاحظ.

دحض الشبهة بوجه آخر :

قد جمعنا وبعض البهائيين مجلس في سالف الأيام (1) في مدينة عبادان وسألني عن هذه الآية ودلالتها على مجيء الرسل بعد نبي الإسلام وأنّها تدل على أنّ باب النبوّة لم يوصد ، وكان في المجلس بعض الأعلام.

فقلت : إنّ لفظة « إمّا » مركبة من « إن » و « ما » الزائدة ، وكأنّه سبحانه قال : إن يأتينّكم ... وهو فعل الشرط ، والجزاء قوله : فمن اتقى ، ولكنّها مجردان عن الدلالة على الزمان ( الحال والاستقبال ) ، لأنّ الآية سيقت لبيان أصل الملازمة بين الشرط والجزاء ، غير مقيّد بزمان دون زمان ، بمعنى أنّ سنّة اللّه جرت على انقاذ من أطاع رسله ، واتقى محارمه ، وأصلح حاله ، وانّ من كان حاله كذا ، فلا خوف عليه ولا حزن ، وهذه عادة اللّه في الاُمم السالفة والحاضرة والمستقبلة.

وليس الخطاب مقيداً بزمان الحال حتى لا يعم الخطاب الاُمم السالفة ، ويختص بالاُمّة الحاضرة والتالية لها ويدل بالدلالة الالتزامية على مجيء الرسل في مستقبل الأيام بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، بل هو بيان لحكم قطعي جرت مشيئة اللّه عليه ، على وجه الاطلاق ، غير مقيّد بزمان.

وإن شئت قلت : إنّ الهدف من الآية ليس الإخبار عن مجيء الرسل بعد رسول

ص: 176


1- عام 1379 ه ق.

اللّه صلی اللّه علیه و آله وإلاّ لكان اللازم أن يخرجها عن صورة الشرط ، ويلقيها على وجه الإخبار بل الهدف والذي سيق لأجله الكلام ، هو بيان الملازمة ، وأنّ السنّة جرت عليها في الأدوار كلّها ، من دون أن يكون بصدد الإخبار عن وقوع الشرط في زمان.

وهذا كقول المعلم لتلاميذه : لا صلة ولا قرابة بيني وبين أحد منكم ، من جد في درسه واتقن كتابته وخرج عن عهدة التكاليف الواجبة عليه فهو الناجح ، يعني بذلك أنّ السنّة الجارية في المدرسة والكليات والجامعات هي هذه من غير فرق بين هذا الصف والصف الآخر ، وهذه المدرسة والمدرسة الاُخرى ، وهذا الزمان أو غيره من الأجيال السالفة والتالية.

وأدل دليل على أنّ الآية ليست بصدد الإخبار عن مجيء رسل آخرين غير رسول اللّه هو استعمال كلمة « إن » الدالة على الشك والترديد في وقوع تاليها ، دون « إذا » الدالة على القطع واليقين ، فلو كان الهدف الإخبار عن مجيئهم لكان له الإخبار عن ذلك بكلمة تدلّ على القطع والجزم ، لأنّ الرسل ومجيئهم من مهمات الاُمور وعظائمها ، فلا يصح الإخبار عنه بهذه الجملة الدالة على الشك والترديد ، إلاّ إذا سيقت الآية لبيان الملازمة فقط ، لا الإخبار عن وقوع الشرط ولذلك ترى أنّه سبحانه يأتي في معرض الدلالة على الاُمور القطعية بعبارة مؤكدة كما في قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ) ( سبأ - 3 ).

وقوله سبحانه : ( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا ) ( النمل - 37 ).

وحصيلة البحث أنَّ الآية بصدد بيان أنّ الفلاح والرشاد لمن يقتدي بهدى نبيّه ويقتفي أثره ولا يتخطى الخطوط التي يرسمها له رسوله في معاشه ومعاده سواء أكان الرسول رسول الإسلام أم غيره ، وليست ناظرة إلى بيان مجيء الرسل بعد عصر نزول الآية كما هو مرمى المستدل.

ونظير المقام قوله : ( مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ

ص: 177

وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللّهَ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ) ( الأحزاب : 38 - 39 ).

فإنّ قوله : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ ) وإن كان بصيغة المضارع ، إلاّ أنّه مجرد عن الدلالة على الحال والاستقبال ، بدليل أنّه صفة لقوله سبحانه : ( الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ) فلو كانت الدلالة على الزمان مقصودة لوجب أن يقال : الذين بلغوا رسالات اللّه ، تطبيقاً للوصف على الموصوف ، ولما كان المقصود قيام الرسل الذين خلوا من قبل بنفس أمر التبليغ من غير دلالة على زمان القيام واستمراره ، صح توصيفه بالمضارع.

نقل كلام عن العلمين :

ثم إنّي وقفت بعد فترة من الزمان على سؤال وجّهه بعض الأجلّة (1) إلى العلمين الشيخ محمد جواد البلاغي (2) والسيد هبة الدين الشهرستاني (3) يسألهما عن تلك الشبهة الضئيلة ، وقد وافاه الجواب منهما ، وبعث السائل السؤال والجواب إلى مجلة العرفان (4) فنشرهما مدير المجلة على صفحاتها (5) فراقنا نقل الجوابين على وجه الاجمال ، لكون مضمونهما قريباً مما ذكرناه.

قال العلاّمة البلاغي : لابد من بيان أمرين :

الأوّل : إنّ تلك الطائفة لا يعرفون اللغة العربية وخواصها ، فإنّ الفعل المضارع غير مختص في المحاورات بالاستقبال ، بل يؤتى به منسلخاً عن خصوصيات الزمان للدلالة على الدوام والثبات كقولهم : زيد يكرم الضيف ، ويفك العاني ومن ذلك قول

ص: 178


1- العلامة الچرندابي المغفور له كان آية في التتبع ، وله أشواط بعيدة وخدمات ومواقف مشكورة.
2- كان علماً من أعلام الاُمّة وفطاحلها ، قد أفنى عمره في الذب عن حريم التوحيد والرسالة ، توفّي عام 1352.
3- نادرة الزمان ونابغة العراق ، توفّي في 25 من شهر شوال عام 1386.
4- مجلة علمية أدبية سياسية شيعية ، تصدر في مدينة صيدا ، من لبنان الجنوبي ، أسّسها الشيخ أحمد عارف الزين عام 1327 وهي لم تزل تصدر إلى الآن.
5- المجلد السادس والثلاثون ص 767 - 771.

اليشكري في المعلّقة :

يدهدون الرؤوس كما تدهدى *** مزاورة بأبطحها الكرينا

وقوله أيضاً :

علينا البيض واليلب اليماني *** وأسباب يقمن وينحنينا

وقوله سبحانه :

( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ) ( سبأ - 3 ).

الثاني : إنّ الجملة الشرطية كثيراً ما تجيء غير ناظرة إلى الزمان ، بل لمجرد ملازمة الجزاء للشرط وترتبه عليه في أي زمان وقع الشرط ، بمعنى أنّه لابد من وقوعه عند وقوع الشرط في أي زمان ، ومنه قول القائل :

من يفعل الحسنات اللّه يشكرها *** والشر بالشر عند اللّه سيان

ومن قوله سبحانه :

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( الزلزلة 7 - 8 ).

ومنه قول زهير في معلّقته :

ومن لم يصانع في اُمور كثيرة *** يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم

ومثله قوله الآخر :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم

إذا تقرر هذا : فلا خفاء في أنّ حاصل الآية : أنّه مهما آتى بني آدم رسل ، يعني رسل حق ، يأتون بآيات اللّه ووحيه ويقصّونها في التبليغ ، فمن اتقى حسب ما جاء في الآيات ولم يعص اللّه بالمخالفة به وأصلح وجعل أعماله صالحة ، فلا خوف عليهم ولا يحزنون.

ص: 179

فجيء بالشرط بصيغة المضارع ، للدلالة على ثبوت الاتيان بتكرره ، بحسب الحكمة ، وأنّ الجزاء لازم لهذا الشرط ، دون نظر إلى الزمان الخاص ، والواقعة الخاصة ، وليس نظره إلى خصوص الزمان الماضي ولا خصوص المستقبل. لكن القرآن الكريم بين أنّ هذا الشرط لا يقع في المستقبل وذلك بقوله سبحانه : ( وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، فكان هذا البيان من المحكمات التي هي اُم الكتاب.

قال العلامة الشهرستاني : « إما » لفظة مركبة من « إن » الشرطية ، و « ما » الكافة عن العمل ، وعليه كفت المضارع عن الجزم ، وقرنته بنون التأكيد الثقيلة وجردته عن الدلالة على زمان خاص بالحال والاستقبال ، كما أنّ الصيغ التالية لها ( فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ ) ، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا ) تجردت أجمع عن الدلالة الخاصة بالماضي والمفهوم من المجموع قضية طبيعية عامة السير في الاُمم ، وهي توجه رسل الهداية إلى أقوام البشر لغاية الوعظ والانذار بآيات اللّه وبيّناته.

وإن شئت قلت : انّ الغاية في الآية عبرة الانسان بتاريخ الانسان ، حتى يترك اغتراره بالحال الحاضر ، وهذا لا يكون إلاّ من درس تاريخ السلف ، ولا معنى للعبر بالمستقبل. نعم المعتبرون هم الجيل الحاضر والمستقبل ، ولكن المعتبر به حال السلف والحوادث النافعة ، وأمّا مادة الوعظ ، أي المعتبر به ، هي القصص الماضية ( دون سواها ) ورسلها ورسالاتها وعواقب أمرها ومعرفة مصير المتقين ومصير المكذّبين.

فبأي لفظة من الآية يستدل هؤلاء على صحة الرسالة من بعد محمد المصطفى صلی اللّه علیه و آله ! أبلفظ « يأتينّكم » وقد تبيّن أنّها تجردت عن اختصاصها بالحال والاستقبال ، كما تجردت لفظة أتقى وأصلح ، عن الاختصاص بالماضي.

أم يستدلون بلفظة « الرسل » وقد تبيّن أنّهم وقصصهم وآياتهم ذكرت في الآية ، لغاية الموعظة والعبرة ، ومثله لابد وأن يكون من الجيل الماضي إذ لا معنى للعبرة من المستقبل.

أم بلفظة « يا بني آدم » وانّه خطاب للجيل الحاضر أو المستقبل ، نعم انّ

ص: 180

اختصاص الخطاب والوعظ بهؤلاء شيء ، وجواز تكرار الرسالة بعد عصر القرآن شيء آخر ، يحتاج اثباته إلى دليل غير هذه الآية ، فإنّ أقصى ما في هذه ، هو وعظ الجيل الإسلامي بقصص المرسلين ، ولا بد أن يكون المتعظ به قبلهم ، كما أنّ القرآن يعظ الجيل الإسلامي ، بقصة موسى وفرعون ، ولا تحدث نفس صاحبهما بأنّ ذلك المتعظ به ، يجب أن يتكرر في المستقبل.

الشبهة الثانية :
اشارة

استدلت الفرقة التعيسة « البهائية » على عدم اختتام الرسالة ، وعدم انتهائها بآية ثانية ، وتقوّلت بأنّها تدلّ على خلاف ما هو المنصوص في غير موضع من الذكر الحكيم ، ودونك الآية :

( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) ( غافر - 15 ).

قال المستدل في فرائده : إنّ قوله سبحانه : ( يُلْقِي الرُّوحَ ) بصيغة المضارع ينبئ عن عدم اختتام الرسالة ، وأنّ الروح ينزل بأمره على من يشاء من عباده في الأجيال المستقبلة (1).

الجواب :

توضيحه يحتاج إلى بيان أمرين :

1. الظاهر من « الروح » هو الوحي (2) فاستعير له الروح ، لأنّه به تحيا القلوب وفيه حياة المجتمع ، ويوضح ذلك قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا

ص: 181


1- الفرائد ص 313 وص 126 من الطبعة الحجرية.
2- وقريب منه تفسيره بالقرآن أو كل كتاب أنزله سبحانه أو جبرئيل أو النبوّة ، وما اخترناه هو الأولى ، فتدبر.

كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) ( الشورى - 52 ) ومنه يعلم أنّ المحتمل أن يكون الروح المسؤول عنه في القرآن الكريم هو حقيقة الوحي حيث قال سبحانه : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الإسراء - 85 ).

2. يوم التلاق : إنّما هو يوم لقاء اللّه ، يوم يلتقي فيه العبد والمعبود ، وأهل الأرض والسماء ، كما يوضحه ما بعد الآية : ( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر - 16 ).

والمراد من قوله : ( لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) أي ليحكم في ذلك اليوم بين عباده فينتصف المظلوم من ظالمه ، ويجزي المحسن والمسيء ، أو لينذر عباده سبحانه عن عذاب ذلك اليوم.

إذا عرفت الأمرين ، فالجواب عن الاستدلال بها واضح جداً بعد ما عرفت عند البحث عن الشبهة الاُولى من أنّ الفعل في تلك المواضع مجرد عن الزمان ، والهدف إنّما هو بيان نسبة الفعل إلى الفاعل واتصافه بها ، بلا نظر إلى زمان النسبة ، سواء أكان الماضي ، أم الحال أم المستقبل ، كما في قوله :

من يفعل الحسنات لله يشكرها

والشر بالشر عند اللّه سيان

وعلى هذا ، فسيقت الآية لبيان كونه سبحانه مالكاً على الإطلاق ، لا ينازعه في ملكه ولا يناضله في مشيئته واختياره أحد ، والوحي أحد الأشياء التي أمرها بيده ، يختص به من يؤثره على عباده ويختاره منهم ، وليس لأحد أن يعترض عليه ويقول : ( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان - 32 ). أو يطعن ويقول : ( لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف - 31 ) فإذا كان هدف الآية بيان هذا الأمر ، وانّ الوحي بكمّه وكيفه ومن ينزل عليه موكول إليه سبحانه ، فلا يتفاوت في ابلاغ هذا الغرض ، التعبير بالماضي ، أو المضارع ، فسواء أقال : « القى الروح » أم قال : ( يُلْقِي الرُّوحَ ) فهما في افهام المقصود سواسية فلا يدلاّن على زمان الاتصاف ، والمقصد الأسنى ،

ص: 182

اتصافه سبحانه بالاختيار التام في انزال الوحي على أي فرد من عباده ، من دون دلالة على زمان الاتصاف.

ودونك مثالاً عرفياً يقرّب المقصود.

فلو نصب الملك المستبد ( والملوكية خاصتها الاستبداد ) أحد ولده ولياً للعهد وجلعه وارثاً للعرش والاكليل ، وشاغلاً لمنصة الملوكية بعده ، فإذا اعترض عليه أحد وزراءه بأنّ ولده الآخر كان أحق بهذا المنصب ، فيجيب الملك بقوله : إنّ الامر بيدنا ، نقدم من نشاء ، ونؤخر من نشاء ، نرفع من نشاء ونضع من نشاء ...

فليس لك عند ذلك أن تستظهر من عبارته ، وتتهمه بأنّه قد أخبر حتماً عن نصب فرد آخر في المستقبل ، متمسكاً بأنّه قال : « نقدم » بصيغة المضارع ولم يقل : « قدمت ».

لا ، ليس لك ولا لغيرك هذا ، لأنّ المفهوم في هذه المواضع إنّما هو بيان أصل الإتصاف ، أي إتصاف الفاعل ( الملك ) بالفعل ( تقديم من تعلّقت إرادته بتقديمه ) لا بيان زمان الإتصاف واستمراره في الجيل الآتي ، فلاحظ.

فلو تنازلنا عن كلّ ما قلناه حول هذه الآية وما قبلها وفرضنا أنّ ما نسجوه من الأوهام حقيقة راهنة فنقول : إنّ ما ذكروه كلّه لا يتجاوز حدّ الاشعار فهل يجوز في ميزان العقل والانصاف ترك ما سردناه من البراهين الدامغة والنصوص الناصعة والضرورة والبداهة بين المسلمين عامة ، الدالّة على كون النبي الأعظم خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات ، لأجل هذه الاُمور الواهية التي لا يستحق أن يطلق عليها اسم الدلالة.

قال الشيخ المفيد : إنّ العقل لم يمنع من بعثة نبي بعد نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، ونسخ شرعه كما نسخ ما قبله من شرائع الأنبياء وإنّما منع ذلك الاجماع ، والعلم بأنّه خلاف دين النبي صلی اللّه علیه و آله من جهة اليقين وما يقارب الاضطرار (1).

ص: 183


1- أوائل المقالات ص 39.

قال الفاضل المقداد في أثره القيّم (1) أنّه صلی اللّه علیه و آله مبعوث إلى كافة الخلق والدليل على ذلك إخباره صلی اللّه علیه و آله بذلك المعلوم تواتراً مع ثبوت نبوّته المستلزمة لإتصافه بصفات النبوّة التي من جملتها العصمة المانعة من الكذب ، إلى أن قال : ... يلزم من عموم نبوّته كونه خاتم الأنبياء وإلاّ لم تكن عامة للخلق ، ولقوله تعالى : ( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وقوله صلی اللّه علیه و آله : لا نبي بعدي.

الشبهة الثالثة :
اشارة

وقد تمسكت هذه الفرقة بظاهر آيتين اُخريين :

الاُولى : قوله سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ( يونس - 47 ).

الثانية : قوله سبحانه : ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( يونس - 49 ).

تقرير هذه الشبهة أنّ اللّه حدد حياة الاُمم بحد خاص ، والاُمّة الإسلامية إحدى هذه الاُمم ، فلها أجل خاص ، ومدة محدودة ، ومعه كيف يدعي المسلمون دوام دينهم وبقاءه إلى يوم القيامة ؟

وروي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه سئل عن أجل الاُمّة الإسلامية ، فأجاب صلی اللّه علیه و آله بقوله : إن صلحت اُمّتي فلها يوم ، وإن فسدت فلها نصف يوم (2).

الجواب :

لا أدري ماذا يريد القائل من الاستدلال بهاتين الآيتين : أمّا الآية الاُولى ، أعني قوله سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ) فصريح الآية هو أنّ اللّه سبحانه يبعث إلى كل اُمّة ،

ص: 184


1- اللوامع الالهية في المباحث الكلامية ص 225.
2- الفرائد ص 17 الطبعة الحجرية.

مثل اُمّة نوح وعيسى وموسى ، رسولاً يدعوهم إلى دين الحق ويهديهم إلى صراطه ، وأمّا أمد رسالة الرسول وكميتها ، فالآية غير ناظرة إليه ، لا صريحاً ولا تلويحاً لا مفهوماً ولا منطوقاً ولا مانع من أن يكون إحدى هذه الرسالات غير محدودة بحد خاص ، ويكون صاحبها خاتم الرسل ودينه خاتم الأديان ، وقد دلّ القرآن على أنّ نبي الإسلام هو ذاك ، كما تقدمت دلائله.

ونظير ذلك قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) ( النحل - 36 ).

أتجد من نفسك أنّ الآية تشير إلى تحديد الشريعة بعد الإسلام ، لا ، لا تجده من نفسك ، ولا يجد ذلك أيضاً كل متحرر عن قيد العصبية.

وأمّا الآية الثانية ، فكشف الغطاء عن محيا الحق ، يحتاج إلى توضيح وتحقيق معنى « الاُمّة » الواردة في الكتاب والسنّة ، فنقول :

قال الراغب : الاُمّة ، كل جماعة يجمعهم أمر ما : أمّا دين ، أو مكان ، أو زمان ، وهذا الجامع ربّما يكون اختيارياً وقد يكون تسخيرياً (1).

هذه الحقيقة التي كشف عنها الراغب ، هو الظاهر من الكتاب والسنّة وموارد الاستعمال وصرّح بها الجهابذة من اللغويين ، ودونك توضيح ما أفاده الراغب :

الجامع الديني ، كما في قوله سبحانه : ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) ( البقرة - 128 ) وقوله سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ) ( آل عمران - 110 ).

الجامع الزماني كقوله سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ

ص: 185


1- المفردات للراغب ص 23 مادة « اُم » وكان الأولى أن يضيف إلى هذه الجوامع لفظ « أو غيره » إذ لا ينحصر الجامع بهذه الثلاثة وليس المقصود أنّ هذه الجوامع داخلة في مفهموم « الاُمّة » حتى يقال : أنّ توصيف الاُمّة في الآية بكونها « مسلمة » دليل على خروجها عن مفهوم الآية ، بل المراد أنّ هذه الجوامع تكون مصححة ، لاطلاقها على الجماعة.

سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف - 34 ) وفسّرها المفسرون بلازم المعنى وقالوا : بعد حين ، أي بعد انقضاء أهل عصر ، كأنّه يجمعهم زمان واحد في مستوى الحياة ، ومثله قوله سبحانه : ( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ( هود - 8 ) وفسره في الكشاف بلازم المعنى ، وقال : إلى جماعة من الاوقات.

الجامع المكاني : نحو قوله سبحانه : ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) ( القصص - 23 ) أي وجد حول البئر جماعة يسقون مواشيهم ، فالجهة الجامعة لعدّهم اُمّة واحدة ، إنّما هي اجتماعهم في مكان واحد ، أو غيرها من الجهات التي يمكن أن تجمع شمل الأفراد والآحاد.

الجامع العنصري والوشيجة العنصرية ، والرابطة القومية كما في قوله سبحانه : ( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ) ( الأعراف - 160 ).

وقوله : ( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ) ( الأعراف - 168 ) فبنوا إسرائيل كلهم أغصان شجرة واحدة ، يجمعهم ترابط قومي ووشيجة عنصرية ، إلاّ أنّه كلّما ازدادت الشجرة نموّاً ورشداً إزدادت أغصاناً وأفناناً ، فعد كلّ غصن مع ما له من الفروع ، أصلاً برأسه وهم مع كونهم اُمماً اُمّة واحدة أيضاً يربطهم الجامع العنصري.

القرآن يتوسّع في استعمال الاُمّة :

إنّ القرآن يتوسّع في استعمال الكلمة فيطلقها على الفرد ، إذا كان ذا شأن وعظمة تنزيلاً له منزلة الجماعة كقوله سبحانه : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا ) ( النحل - 120 ) أي قائماً مقام جماعة في عبادة اللّه ، نحو قولهم فلان في نفسه قبيلة ، وروى أنّه يحشر « زيد بن عمرو » اُمّة وحده.

بل يتوسّع ويستعمله في صنوف من الدواب ، إذا كانت تجمعهم جهة خاصة ،

ص: 186

كقوله سبحانه : ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ) ( الأنعام - 38 ).

فعدّ اللّه كل صنف من الدواب والطيور اُمماً ، لما بينها من المشاكلة والمشابهة حيث الخلق والخلق ، فهي بين ناسجة كالعنكبوت ، وبانية كالسرفة ، ومدخرة كالنمل ومعتمدة على قوت وقتها كالعصفور والحمام ، إلى غير ذلك من الطبائع التي يخصص بها كل نوع (1).

ويمكن أن يقال : إنّ ما ألمحنا إليه من موارد الاستعمال للفظ « الاُمّة » ليست معاني مختلفة ، حتى يتصور أنّ اللفظ وضع عليها بأوضاع متعددة ، بل كلها مصاديق لمعنى وسيع وضع عليه اللفظ ( الاُمّة ) وهو كل اجتماع من الانسان وغيره من الحيوان ، يجمعهم أمر ما من الزمان والمكان والدين والعنصر وغيرها.

الاُمّة : الطريقة والدين :

نعم للاُمّة معنى آخر اُستعملت فيه ، في الكتاب والسنّة ، وهو الطريقة والدين ، كقوله سبحانه : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) ( الزخرف - 22 ) وقوله سبحانه : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) ( الزخرف - 23 ).

قال الجوهري في صحاحه : الاُمّة ، الطريقة والدين ، يقال لا اُمّة له ، أي لا دين ونحلة ، قال الشاعر :

وهل يستوي ذو اُمّة وكفور ...

وقال الفيروز آبادي : الاُمة - بالكسر - الحالة والشرعة والدين ويضم.

هذه هي الاُمة ومعناها وقد عرفت أنّه لم يستعمل في الكتاب إلاّ في هذين المعنيين ( الجماعة والدين ) وقد ذكروا لها معاني اُخرى يمكن ارجاعها إلى ما ذكرناه.

ص: 187


1- المفردات للراغب ص 23.
فلنرجع إلى مفاد الاُمّة :

إذا عرفت ما ذكرناه : فلنرجع إلى مفاد الاُمّة فنقول قوله سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ... ) يحتمل في بادئ الأمر أن يراد منها الطريقة أو الجماعة ، ولكن الأوّل مدفوع بما في ذيله : ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ... ) إذ يجب حينئذ أن يقول : فإذا جاء أجلها بإفراد الضمير ، لو صح إطلاق الأجل على الدين والشريعة (1) فلا مناص من حمل الآية على المعنى الثاني : أعني الجماعة ، التي يربطهم في الحياة أمر ما ، والمراد أنّ كل كتلة من الناس إذا طويت صحيفة حياتهم وانتهت مدة عيشهم لا يمهلون بعد شيئاً ، فلا يستقدمون ولا يستأخرون بل يتوفّاهم ملك الموت الذي وكل بهم ، فلا إمهال ولا تأخير ، فالآية ناظرة إلى بيان أمر تكويني جرت عليه مشيئته سبحانه وهو أنّ حياة الاُمم في أديم الأرض محدود إلى أجل لا يمهلون بعده وليس فيها أي نظر إلى توقيت الشرائع وتحديدها وتتابع الرسل ونزول الكتب.

وأمّا حملها على خصوص الاُمّة الدينية أي الاُمّة التي يجمعها دين واحد فيحتاج إلى الدليل والقرينة (2) وقد عرفت أنّ الاُمّة عبارة عن الجماعة التي يجمعهم أمر ما ، سواء أكان ذلك الجامع زماناً أو مكاناً أو اتحاداً في الشغل والمهنة أو ديناً ، أو عنصراً ، إلى غير ذلك من عشرات الوحدات الجامعة بين المتشتتين من الناس.

وقد تكرر مضمون الآية في الذكر الحكيم بصور مختلفة كلها تهدف إلى ما ذكرناه ، وأوضحناه ، ودونك بعضها :

( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (3) * مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا

ص: 188


1- سيوافيك أنّه لم يستعمل الأجل في القرآن في أمد الأديان.
2- وعلى فرض شمول الآية للاُمة الدينية بعمومها ، فمن أين وقف المستدل على أنّه جاءأجلهم ولماذا لا يمتد إلى يوم القيامة كما سيوافيك بيانه تحت عنوان « سؤال من المستدل ».
3- أي مكتوب معلوم كتب فيه أجلها.

يَسْتَأْخِرُونَ ) ( الحجر 4 - 5 ) ، وقوله سبحانه : ( ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) ( المؤمنون 42 - 43 ).

وقريب منه قوله سبحانه : ( فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المنافقون : 10 - 11 ) ، وقوله سبحانه : ( يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( نوح - 4 ).

نظرة في موارد استعمال الأجل في القرآن :

ويؤيد ذلك أنّه لم يستعمل « الأجل » في الذكر الحكيم في أجل الشرائع ، وانتهاء أمدها ، بل قصر استعماله على موارد اُخرى ، لبيان آجال الديون ، والعقود كقوله تعالى : ( إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) ( البقرة - 282 ).

وقوله سبحانه : ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) ( البقرة - 235 ).

أو بيان انتهاء استعداد الاشياء للبقاء كقوله سبحانه : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) ( الأنعام - 2 ) وقوله سبحانه : ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) ( الرعد - 2 ).

وأمّا قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد - 38 ) فيحتمل وجوهاً :

1. إنّ لكل وقت حكماً خاصاً مكتوباً معيناً ، كتب وفرض في ذلك الأجل ، دون غيره لأنّ الفرائض تختلف حسب اختلاف الأوضاع والأحوال ، فلكل وقت حكم يكتب ويفرض على العباد حسب مقتضيات المصالح.

2. ما فسر به أمين الإسلام وهو قريب ممّا ذكرناه آنفاً ، وقال إنّ لكل وقت كتاباً خاصاً ، فللتوراة وقت وللانجيل وقت وكذلك القرآن ، فالفرق بينه وبين ما ذكرناه هو

ص: 189

أنّه حمل الكتاب على الكتاب المصطلح ، ونحن حملنا على الحتم والفرض.

3. انّ المراد منه : انّ لكل أجل مقدر كتاب أثبت فيه ، فللاجال كلّها كتاب كتب فيه.

4. انّ لكل أمر قضاه اللّه كتاب كتب فيه ، وأبعد الوجوه هو الأخير ، إذ هو تفسير بالأعم ، وهو سبحانه يقول : ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ولم يقل لكل أمر كتاب وأقرب الوجوه هو الأوّل بقرينة قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد - 38 ) فلقد كانوا يقترحون على النبي صلی اللّه علیه و آله بعض الآيات ، فأجابهم سبحانه بأنّ لكل وقت حكماً خاصاً ، كتبه اللّه لذلك الوقت ، ولا يجري إلاّ فيه.

وعلى أي وجه من الوجوه الأربعة ، فلا تدل الآية على أنّ لكل دين أجلاً وأمداً ، إلاّ على الوجه الثاني ، ودلالته عليه إنّما هي بالالتزام لا بالمطابقة لأنّه إذا كان لكل وقت كتاباً خاصاً مثل التوراة والإنجيل يدل بالملازمة على أنّ لكل وقت شريعة وديناً.

وأمّا على ما فسّرنا الآية به فمآله إلى أنّ لكل وقت حكماً ، والحكم ليس نفس الدين والشريعة ، بل جزء منه وتكون الآية دالّة على رد من زعم امتناع وقوع النسخ في الشريعة الواحدة.

وأمّا على المعنى الثالث والرابع ، فعدم دلالته على أنّ لكل دين أجلاً ، واضح لا يحتاج إلى البيان.

سؤال من المستدل :

وفي الختام نسأل المستدل هب أنّ الآية بصدد بيان آجال الشرائع وتحديدها وأنّ لكل دين واُمّة دينية أجلاً ، ولكنّه من أين وقف على أنّ الإسلام قد انتهى أمده وجاء أجله ، وأنّه لا يمتد إلى يوم القيامة ، إذ لنا أن نقول : إنّ أمد الإسلام ينتهي بانتهاء نوع الانسان ، في أديم الأرض وقيام القيامة ، وحضور الساعة ، فلو دلّت الآية على أنّ لدين الإسلام أو الاُمّة الإسلامية أجلاً قطعياً فنستكشف ببركة الآيات الدالّة على اختتام النبوّة

ص: 190

والرسالة عن امتداد تلك الرسالة إلى اليوم الذي تنطوي فيه صحيفة حياة الانسان في هذه السيارة ، وأنّ أجله وأجلها واحد.

الاكذوبة التي نسبها إلى رسول اللّه :

هلم نسأله ، عن مصدر الاكذوبة التي نسبها الكاتب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : أنّه بعد ما نزلت آية : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) طفق أصحابه يسألونه عن أجل الاُمّة الإسلامية ، فأجابه بقوله : إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن لم تصلح فلها نصف يوم (1).

فقد أعتمد الكاتب في نقله على نقل الشعراني ، وليس في لفظه ما يدل على سؤال أصحابه صلی اللّه علیه و آله عن أجل الاُمّة الإسلامية بعد نزول الآية ، وإنّما هو اكذوبة نحتها الكاتب ونسبها إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

نعم تفسير اليوم بألف عام ، كما نقله الشعراني عن تقي الدين رجم بالغيب إذ كما يمكن تفسيره بألف مستند إلى قوله سبحانه : ( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( الحج - 47 ) يمكن تفسيره بخمسين ألف سنة ، استناداً إلى قوله سبحانه : ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج - 4 ).

وأمّا ما رواه العلاّمة المجلسي ، مسنداً عن كعب الأحبار ، على نحو يشعر بكون تفسير اليوم بألف عام ، من الحديث ، فمما لا يقام له وزن ، فإنّ كعب الأحبار وضّاع

ص: 191


1- الفرائد صفحة 17 الطبعة الحجرية.
2- ودونك نص الشعراني في كتابه اليواقيت والجوهر التي ألّفها عام 955 ه قال في بيان أنّ جميع أشراط الساعة حق : انّه لابد أن يقع كلّها قبل قيام الساعة وذلك كخروج المهدي ( عج ) ثمّ الدجال ، ثمّ نزول عيسى ، وخروج الدابة و ... حتى لو لم يبق من الدنيا إلاّ مقدار يوم واحد ، فوقع ذلك كلّه ، قال الشيخ تقي الدين بن أبي المنصور في عقيدته : وكل ذلك تقع في المائة الأخيرة ( هذا تخرص من الرجل وتنبؤ منه ، أعاذنا اللّه منه ) من اليوم الذي وعد به رسول اللّه بقوله في اُمّته : إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن فسدت فلها نصف يوم ، يعني من أيام الرب المشار إليه بقوله تعالى : ( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) لاحظ اليواقيت ج 2 ص 160 ونقل عن بعض العارفين أنّ أوّل الألف محسوب من وفاة علي بن أبي طالب.

كذّاب مدلس ، لم تخرج اليهودية من قلبه ، تزيا بزي الإسلام فأدخل الإسرائيليات والقصص الخرافية ، في أحاديث المسلمين فلا يقام لحديثه وزن ولا قيمة ، فلنضرب عنه صفحاً.

أضف إليه أنّ الرجل لم يسنده إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله ولا إلى الولي ، فكيف يكون حجّة ؟

ثم إننا نسأل صاحب الفرائد (1) ومن مشى مشيه ، ونقول : إنّ رسول اللّه قال ( بزعمكم ) : إن صلحت اُمّتي فلها يوم ... فهل صلحت الاُمّة الإسلامية في هذه القرون العشرة ومشت سبل الصلاح والسلام ، وازدهر فيهم العدل والإحسان ، أو شاع فيهم الجور والطغيان والقتل الذريع وسفك الدماء وحبس أبرياء الاُمّة واعتقالهم ونهب أموالهم ... وعند ذاك يلزم انتهاء أمد الإسلام بإنقراض خمسمائة عام ، التي هي نصف يوم ، من اليوم الربّاني ، لأنّه لم تصلح الاُمّة بعد لحوق الرسول بالرفيق الأعلى ولكن الكاتب لا يرضى به لأنّه لا يوافق ما يدعيه ويرتئيه.

وأعجب من ذلك أنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني ( ألف عام ) العام الذي تمّت فيه غيبة ولي اللّه الأعظم ، الحجة بن الحسن العسكري ( عجل اللّه فرجه ) لا عام بعثة الرسول صلی اللّه علیه و آله أو هجرته أو وفاته ، أو سنة صدور الحديث. أو ما كانت الاُمّة العائشة في هذين القرنين ونصف من الاُمّة الإسلامية ؟! ( سله أنا لا أدري ولا المنجّم يدري ) أظنّك أيها القارئ الكريم لا يفوتك سر هذا الجعل ، وإنّه لماذا جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني ، عام غيبة الولي ، أعني عام 260 من الهجرة النبوية ، ذلك العام الذي غاب فيه خاتم الأوصياء عن الأبصار إلى الوقت الذي لا يعلمه إلاّ هو سبحانه ، فقد عمد بذلك إلى أن ينطبق مبدأ خروج الباب (2) على اختتام ألف عام (3).

فقد خرج « الباب » وادّعى ما ادّعى ، مفتتح عام 1260 من الهجرة النبوية.

ص: 192


1- أبو الفصل الجرفادقاني.
2- المراد منه « علي محمد » الشيرازي الملقّب بالباب ، عند الفرق الضالّة البابية والازلية والبهائية.
3- فالرجل قد وضع فكرة معينة ، ثمّ أراد تصيّد الأدلّة لاثباتها ، ولكن الباحث المخلص يتجرّد عن كلّ هوى وميل شخصي ، ويتابع النصوص ومفادها ، فما أدت إليه بعد التمحيص ، تكون هي النتيجة التي ينبغي عليه اعتبارها حقيقة راهنة.
الشبهة الرابعة :

استدل صاحب « الفرائد » بآية رابعة ، زعم دلالتها على عدم انقطاع الوحي والرسالة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهي قوله سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور - 25 ).

قال : إنّ صيغة « يوفيهم » تبشّر عن دين حق يوفيه سبحانه على من يشاء من عباده في الأجيال الآتية بعد الإسلام ، وليس لك أن تحمله على الإسلام وتفسّره به ، لأنّه قد أكمل نظامه وتمت اُصوله وفروعه عام حجة الوداع بنص الذكر الحكيم ، كما قال سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة - 3 ) وهو سبحانه يخبر في هذه الآية عن وقوع الأمر ( توفية الدين الحق ) في الجيل الآتي (1). الجواب :

هذا مبلغ علم الرجل ومقياس عرفانه بالكتاب وغوره في الأدب العربي وقد كان في وسع الرجل أن يرجع إلى أحد التفاسير ، أو إلى ابطال العلم وفطاحل الاُمّة وكانت بيئة مصر (2) تجمع بينه وبين فطاحلها وأعلامها العارفين ، هذا هو أمين الإسلام الطبرسي ، فسّره في مجمعه بقوله : يتم اللّه لهم جزائهم الحق ، فالدين بمعنى الجزاء (3) ، وقال الزمخشري : الحق ، صفة الدين وهو الجزاء (4) لا الطريقة والشريعة.

ص: 193


1- الفرائد صفحة 122 الطبعة الحجرية.
2- فقد ألّف « الفرائد » بمصر ، أيام اقامته هناك ، وفرغ منه عام 1315.
3- مجمع البيان ج 7 ص 134.
4- الكشاف ج 3 ص 223.

وليت الكاتب ، أمعن النظر في الظرف ( يوم ) الوارد في الآية المتقدمة أعني قوله سبحانه : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم ... ) ففي أي يوم تشهد ألسنة المجرمين وأيديهم على أعمالهم الإجرامية ، فهل هذا اليوم إلاّ يوم البعث ؟ ففي ذلك اليوم يوفيهم اللّه جزاء الطغاة العصاة المفترين الكذّابين المبدعين ، الجزاء الحق الذي يستحقّونه بأعمالهم. ففي يوم واحد تشهد ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ، ويوفي اللّه دينه الحق والجزاء الذي يستحقّونه.

على أنّ سياق الآية يوضح المقصود ، فإنّ الآية وردت في الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، فعاتبهم بالآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد ، والعتاب البليغ ، والزجر العنيف ، لإستعظام ما ركبوا من ذلك ، وما أقدموا عليه ، إذ قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور : 23 - 25 ).

ترى أنّه سبحانه حكم على هؤلاء العصاة اللاعبين باعراض الناس وحرماتهم بأحكام ثلاثة :

1. اللعن عليهم في الدينا والآخرة.

2. شهادة أعضائهم على أعمالهم الإجرامية.

3. توفية جزائهم الحق في ذلك اليوم.

ومع ذلك كيف عمي بصر الرجل وبصيرته ، وأرخى قلمه ولسانه ، وفسّر الآية برأيه الباطل ؟!

الشبهة الخامسة :
اشارة

قد عرفت ما لدى الكاتب ومن لفّ لفه من شبهات تافهة ، أو تأويلات كاذبة اختلقوها لاغواء السذّج من الناس. هلم معي نقرأ آخر شبهة للقوم ، وهي الاستدلال

ص: 194

بالآية التالية : ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( السجدة - 5 ).

فقد فسّر صاحب الفرائد (1) تدبير الأمر بانزال الشريعة من السماء إلى الأرض وجعل عروجه في يوم كان مقداره ألف سنة ، بإندراس الشريعة تدريجاً طول هذه المدة بابتعاد الناس عن الدين ، ورفضه في مراحل الحياة ، وصيرورة القلوب مظلمة بالمعاصي ، مدلهمّة بالخطايا ، مريضة بشيوع الفساد والفوضى ، فيبعث اللّه عند ذلك رجلاً آخر يجدد الشريعة ويؤسّسها ويذهب بظلمات القلوب ، وعلى هذا فلا تدوم الشريعة أي شريعة كانت إلاّ يوماً ربّانياً ، وهو ألف سنة ممّا تعدون (2).

الجواب :

ما ذكره بصورة الشبهة ، لا يصح إلاّ بعد تسليم اُمور ، لم يسلم واحد منها :

1. إنّ التدبير عبارة عن نزول الوحي وبلوغ الشريعة إلى النبي.

2. إنّ الأمر في الآية هو الشريعة والطريقة.

3. العروج هو انتهاء أمد الرسالة وانقضاء استعداد بقاء الشريعة واندراسها بشيوع الفساد والمعصية بين الاُمّة.

وليس أي واحد منها صحيحاً ولا قابلاً للقبول :

أمّا الأوّل : فلأنّ التدبير في اللغة والكتاب عبارة عن الإدارة على وجه تستوجبه المصلحة ، وتقتضيه الحكمة وأين ذاك عن نزول الشريعة من السماء إلى الأرض ، باحدى

ص: 195


1- الفرائد الطبعة الحجرية.
2- ثمّ إنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني عام غيبة ولي اللّه الأعظم المهدي ( عج ) عن الأبصار حتى يطابق مختتمه مفتتح عام ظهور الباب ، هذا مصداق واضح للتفسير بالرأي ، وكأنّه قد قرر النتيجة أوّلاً ثمّ راح يتفحّص عن دليل يوصل إليها فلم يجد دليلاً ، إلاّ بتحريف كلام اللّه وتأويله السخيف.

الطرق المقررة في محلها.

وإن شئت قلت : التدبير هو التفكير في عاقبة الاُمور ودبرها ، كما قال سبحانه : ( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) ( النازعات - 5 ) أي الملائكة الموكلة بتدبير الاُمور.

وقوله سبحانه : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( محمد - 24 ).

وقوله سبحانه : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( ص - 29 ) إلى غير ذلك.

أو ليس تفسير التدبير بالنزول عند ذاك يكون تفسيراً بالرأي الذي نهى عنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأوعد عليه النار وقال : من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار (1).

وأمّا الثاني : فلأنّ الأمر في القرآن لم يستعمل بمعنى الشريعة والأحكام الالهية من واجب وحرام ومكروه ومستحب ومباح ، وسائر الأحكام الوضعية الجارية في العقود والايقاعات والسياسات.

هؤلاء هم أصحاب المعاجم وأعلام اللغة ، لا تجد أحداً منهم فسر الأمر بالشريعة بل تدور معانية بين الشأن والشيء والتكليف.

سؤال : إذا اعترفتم بأنّ التكليف من معانيها ، كما يقال أمرته : إذا كلّفته ، فيصح تفسيره بالشريعة ، إذ الشريعة عبارة عن تكاليف يوجهها الشارع إلى عباده ؟

الجواب : انّ حمل الأمر في الآية على الأمر والتكليف التشريعي خلاف مساق آيات السورة ، بل خلاف صريح سائر الآيات الواردة في هذا المضمار فلحاظ السياق يدفعنا إلى أن نحمل الأمر على التكويني الذي هو عبارة عن إرادته الفعلية ومشيئتة التكوينية الجارية في صحيفة الكون والوجود ، فإنّ كل ما يسيطر على العالم ، من نظام وسنن وقوانين ، كلّها بأمر تكويني وإرادة فعلية منه سبحانه كما يصرح به قوله سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ

ص: 196


1- حديث متفق عليه ورواه الفريقان بصور مختلفة.

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( يس : 82 - 83 ).

حصيلة البحث :

انّ هنا قرائن ثلاث لابد من البحث عنها ، كي نقرّب إلى الأذهان كيفية حمل لفظ الأمر على الأمر التكويني ، أعني النظم والسنن الجارية في دائرة الكون والقوانين المكتوبة على جبين الدهر ودونك هذه الشواهد :

1. لفظ التدبير ، فقد عرفت أنّه عبارة عن الإدارة على وجه تقتضيه المصلحة والحكمة ، فهو سبحانه يدبر الخلق بعامة أجزائه من السماء إلى الأرض ، على وجه تقتضيه المصلحة ، فسبحان الذي خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها ،. ودبرها على وفق الحكمة ، فلا السماء تسقط على الأرض ، ولا الأرض تنخسف بنا ، ولا الشمس تظللنا دائماً ولا الظلمة تحيط بنا سرمداً ، إلى غير ذلك من سنن ونظم ...

2. سياق ما تقدمها من الآيات ، فإنّ محور البحث في سابقها ، هو خلق السماوات والأرض واستوائه سبحانه على العرش ، ودونك الآية المتقدمة عليها :

( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) ( السجدة - 4 ). « يدبر الأمر » من السماء إلى الأرض ... أفلا تفهم من تقارن الآيتين أنّ اللام في الأمر إشارة إلى أمر الخلقة ، وأنّ اللّه سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما في أيام وأدوار مخصوصة ولم يكتف سبحانه بأصل الخلقة ، بل استوى على عرش ملكه فدبّر أمرها على وجه توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة ، وأنّه سبحانه يدبّر أمر الخلق ، أي خلق تتصور وينفذه على وجهه ، حتى أنّه سبحانه توخياً للتوضيح شبّه المقام الربوبي الذي ينزل منه التدبير ، ويصدر منه الحكم بعرش الملك البشري الذي يجلس الملك عليه فيصدر منه أوامره لتدبير اُمور الملك ، غير أنّ أوامره طلبات عرفية اعتبارية ، ولكن أوامره سبحانه ، أوامر تكوينية ، لا يقوم بوجهها شيء ، فما قال له كن ، فيكون ، بلا تراخ ولا تمرّد.

ص: 197

3. الآيات المنزّلة في هذا المضمار ، فإنّ هذه الآية ليست فريدة في بابها فقد ورد في هذا المضمون ( أي تدبير أمر الخليقة ) آيات اُخرى كلها تهدف إلى ما أوضحناه ، وهو أنّ تدبير الخلق بعد إيجاده من شؤونه سبحانه ، من دون نظر إلى الشرائع وتجديدها ، ودونك الآيات :

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ( يونس - 3 ).

وقوله سبحانه : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ ) ( يونس - 31 ).

وقوله سبحانه : ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) ( الرعد - 2 ).

نعم هذه الآيات ساكتة عن عروج الأمر وصعوده في المقدار الذي صرحت به هذه الآية ، ولا يوجب ذلك فرقاً جوهرياً بين أهدافها ومراميها.

ومن ذلك تقف على أنّ الأمر في قوله سبحانه : ( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( الأعراف - 54 ) هو أمر الخليقة ، أي هو الذي خلق الأشياء كلّها ، وهو الذي صرفها على حسب إرادته فيها ، فما عن بعض أعلام العرفان والفلسفة من تسمية المادي والماديات بعالم الخلق ، والمجردات والابداعيات بعالم الأمر ، استناداً إلى هذه الآية ضعيف جداً ، وإن كان تقسيم الموجود إلى المجرد والمادي ، صحيحاً لا ريب فيه.

وأمّا الثالثة : فلأنّ تفسير العروج بإندراس الشريعة ونسخها باطل جداً ، لأنّ العروج عبارة عن ذهاب في صعود كقوله سبحانه : ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) ( المعارج - 4 ) وجعله كناية عن انتهاء أمد الشريعة وبطلانها واندراسها من الكنايات البعيدة التي يجب تنزيه القرآن عنها ، إذ لا معنى لعروج الشريعة المنسوخة إليه سبحانه

ص: 198

إذ لا يفهم من نسخها إنّها تعرج إلى السماء ، بل كل ما يستفاد ، إنّها تعطل عن العمل بها والسير عليها ، لا إنّها تعرج إليه سبحانه.

أضف إليه أنّه لو كان مراد المولى سبحانه ، هو الإخبار عن تجديد كل شريعة بعد ألف عام ، لاقتضى ذلك أن يعبّر عن مقصوده بعبارة واضحة يقف عليها كل من له إلمام باللغة العربية ، ولماذا جاء بكلام لم يفهم منه مراده سبحانه إلاّ بعد حقب وأجيال إلى أن وصلت النوبة لكاتب مستأجر فكشف الغطاء عن مراده سبحانه وقد خفى على الاُمّة جميعاً ، وفيها نوابغ العربية وفطاحلها ، حتى تفرّد هو بهذا الكشف ؟!

مشكلة المفتتح والمختتم :

بقيت في المقام مشكلة ، وهي ابتداء تلك المدة واختتامها ، وقد حار فيها فاختار أنّ مبدأها هو عام غيبة الإمام المنتظر ، حتى يتطابق ختم ذلك اليوم الذي مقداره ألف سنة مع ظهور الباب (1) ولما رأى أنّ ذلك تفسيراً منه بالرأي ، اعتذر عن ذلك بأنّ الإسلام لم يكتمل إلاّ عام غيبة الإمام ، حيث حوّل الأمر إلى الفقهاء.

وأنت خبير بأنّ ما اعتذر به يتناقض مع صريح القرآن القاضي باكمال الدين بلحوق النبي بالرفيق الأعلى ، فقال سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة - 3 ).

ولو قال إنّ الآية ناظرة إلى الاكتمال من جانب الاُصول وتدعيم مبادئ الإسلام واُسسه بنصب الولي ، وأمّا الإكتمال من جانب الفروع فقد امتد بعد لحوق النبي صلی اللّه علیه و آله بالرفيق الأعلى ، إلى عشرات السنين من عهود الأئمّة وأعصارها إلى غيبة وليّه ، فينتقض كلامه من جانب آخر ، فإنّه فسّر عروج الأمر بالنسخ التدريجي للشريعة ، وجعل النسخ عبارة عن ترك العمل بها واندارسها في مراحل الحياة ، وعلى ذلك يجب أن يكون مبدأ

ص: 199


1- فقد اتفقت غيبة الإمام عام 260 ، وادّعى الباب ما ادّعى ، بعد مضي ألف سنة من ذلك حيث كان خروجه سنة 1260.

النسخ التدريجي عام فوت الرسول صلی اللّه علیه و آله فإنّ العصور التي جاءت من بعده صلی اللّه علیه و آله لم تكن عصوراً ازدهر فيها الإسلام بل كانت عهد الجور والعدوان ، حيث تآمرت قريش على تداول الخلافة في قبائلها واشرأبت إلى ذلك اطماعها ، فتصافقوا على تجاهل النص ، وأجمعوا على صرف الخلافة من أوّل يومها عن وليّها المنصوص عليه إلى غير ذلك من الملمّات والنوازل.

ولو كان ظهور العيث والفساد في المجتمع الإسلامي ورفض الشريعة في مراحل الحياة ، ملازمة للنسخ التدريجي للشريعة ، فليكن عهد يزيد الخمور والفجور من هذه العهود التي أخذت تعربد بلسان قائله :

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل

أفلا تعجب من الكاتب ، أنّه جعل تلك العهود المظلمة التي امتدت عشرات السنين وكانت وبالاً على الإسلام من العصور الزاهرة ، مع أنّه أخرج عهود القسط والعدل الموعود بخروج الإمام الثاني عشر ( التي ترفرف فيها أعلام القسط والعدل وتخفق رايات الحق والهداية في كل صقع ) من الأصقاع التي ينمو فيها الإسلام ، ويزدهر. كبرت كلمة تخرج من أفواههم.

وأمّا البحث عن هدف الآية وأنّه سبحانه ماذا يريد من قوله : ( يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) فله منّا بحث آخر ، وسوف نعطي حقه عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم ، فإنّ اليوم الذي يعادل ألف سنة من الآيام الاخروية.

الشبهة السادسة :
اشارة

الشبهة السادسة (1) :

* ينص القرآن على أنّ الإسلام شريعة عالمية ، وأبدية وأنّ بالإسلام أقفل باب الشرائع ، ونسخ جميعها.

ص: 200


1- هذه الشبهة لها صلة بعالمية الإسلام وصلة بخاتميته ولأجل ذلك جعلناها آخر الشبهات وفصّلنا الكلام فيها بما لا يدع لمشكك شك.

* وينص أيضاً على أنّ المؤمنين باللّه واليوم الآخر من جميع أهل الشرائع سينالون ثواب اللّه ، وأنّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

* فماذا يعني ذلك ؟

هل ذلك اعتراف من الإسلام بشريعة تلك الشرائع ، والسماح لها بالاستمرار إلى جانبه أو لا ؟

إذا كان الإسلام آخر شريعة في مسلسل الشرائع السماوية ، وكانت رسالته خاتمة الرسالات ، وناسخة الأديان ، فلماذا يعتبر القرآن كل من يؤمن باللّه ، ويعمل صالحاً من أصحاب الديانات المسيحية أو اليهودية أو غيرهما مأجوراً عند اللّه ، وآمناً من عذابه ؟!

ألا يعني بهذا أنّ جميع الشرائع السماوية لا تزال تحتفظ بشرعيتها ، إلى جانب الإسلام ، وأنّ أتباعها ناجون شأنهم شأن من اعترف بالإسلام وصار تحت لوائه تماماً ، وكأنّ شريعة جديدة لم تأت وكأنّ أمراً ما لم يقع ؟ (1).

قبل اعطاء الإجابة الصحيحة على هذا السؤال يتحتم علينا أوّلاً أن نستعرض سريعاً ما يذكر في هذا الشأن من الآيات وهي ثلاث :

1. ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة - 62 ).

2. ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( المائدة - 69 ).

3. ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( الحج - 17 ).

قد يقفز إلى الذهن في النظرة الاُولى أنّ القرآن يكرّس شرعية الشرائع المذكورة

ص: 201


1- قد شاع هذا النظر من جانب بعض المستشرقين.

ويعترف بحقها في أمان من عذاب اللّه ، وفي منجى من مؤاخذته ، بشرط أن يكونوا مؤمنين باللّه وباليوم الآخر ، وأن يقدموا على ربّهم بعمل صالح ويكون نتيجة ذلك أنّ فكرة نسخ الإسلام للشرائع ادعاء فارغ لا أساس له ولا واقع ما دام الإسلام يعتبر أنّ كل الطرق تؤدي إلى اللّه ، وانّه ليس من الضروري على أصحاب الشرائع الاُخرى أن يعتزلوا شرائعهم ، وينضمّوا إلى صفوف الإسلام والمسلمين.

هذا هو ما نسمعه بين الحين والآخر من بعض الأفواه.

غير أنّه يجب أن نعرف أوّلاً : أنّ الأساس السليم في تفسير آية ما ، ليس هو أن نتجاهل أخواتها من الآيات أوّلاً ، وملابسات النزول ثانياً ، ومقتضى السياق القرآني ثالثاً ، لأنّنا في هذه الحالة سنقع في تخبط عريض لا أوّل له ولا آخر.

ثم إنّ علينا - قبل كل شيء - أن نلاحظ سيرة الرسول صلی اللّه علیه و آله مع أصحاب الشرائع هل كان يأمرهم بالاعتزال عن دياناتهم ، والانضمام إلى صفوف المسلمين أو لا ؟ فإذا كان الجواب في المقام ايجابياً لكان ذلك الأمر قرينة على أنّ المقصود من الآيات المذكورة غير ما يتبادر منها في بدء الأمر.

وبعبارة واضحة : إذا كان الإسلام يعترف بشرعية الشرائع وحقها في الاستمرار والبقاء حتى بعد ظهور الإسلام ، فإنّ معنى ذلك هو أنّ الإسلام ينسف بنفسه مقوّمات وجوده ويعطل من ناحية اُخرى كل الاُسس الوجيهة التي قامت عليها دعوة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله قادة العالم آنذاك إلى شريعته ضمن رسائله ومكاتيبه المشهورة ، ويفند بالتالي دعوى الرسول صلی اللّه علیه و آله بأنّه ( آخر الأنبياء وخاتم المرسلين ) وأنّ رسالته خاتمة الرسالات !!!

إنّ الرسائل الهامة التي وجهها الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إلى قادة وملوك زمانه وأيضاً جهاده المرير وجهاد المسلمين ضد أهل الكتاب سواء في عهده أو بعد ذلك ، مضافاً إلى مجموع ما وصل إلينا من تصريحات قادة الإسلام لدليل صارخ على أنّ الإسلام أعلن بظهوره ( نهاية ) عهد الشرائع بأسرها و ( بداية ) عهد جديد لا شريعة له سوى ( الإسلام ) ولا نبي له سوى ( محمد ) صلی اللّه علیه و آله .

ص: 202

الحديث يبيّن هدف الآية :

إنّ مفاد الآيات المذكورة ليس - في الواقع - سوى تقرير لحقيقة ثابتة ، وهي التي تتجلى - بوضوح - من خلال الآيات السابقة لهذه الآية من سورة البقرة.

فالآيات إنّما تتحدث عن مصير الماضين من اتباع الشرائع في عهود الأنبياء السابقين قبل ظهور الإسلام ممّن آمن منهم باللّه واليوم الآخر وعمل صالحاً.

فالقرآن يخبرنا بأنّ هؤلاء ناجون بسبب إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح والتزامهم بتعاليم شرائعهم دون من حاد عن طر يق الإيمان ولم يأت بعمل صالح وانحرف عن جادة التوحيد الخالص ، وهم الفرقة التي عبدت العجل مرة (1) وبلغ بها الوقاحة أن طلبت من موسى أن يريها اللّه (2) ذلك الطلب الوقح الذي صار سبباً لأن يحل غضب اللّه على بني اسرائيل.

لقد أراد اللّه هنا أن يزيل الغموض أو الاشتباه حول مصير الفريق المؤمن من أهل الكتاب حتى لا يختلط أمرهم بأمر ذلك الفريق الكافر المعاند فأخبر بأنّ من آمن من أهل الكتاب باللّه عن اخلاص ، وآمن باليوم الآخر عن صدق وعمل صالحاً ، فإنّه لا خوف عليهم يوم القيامة ولا حزن ولا عقاب ، بل جنّة وثواب ورضوان من اللّه.

في هذه الصورة يمكن اعتبار الآية مرتبطة بذلك الفريق المؤمن من أهل الكتاب الذين كانوا يعيشون في العصور الماضية السابقة على الإسلام دون أن يكون لها أي ارتباط بعصر الرسالة الإسلامية وما بعده.

ونأتي بشأن نزول هذه الآية ليلقي ضوء أكثر على هذا الموضوع ، ويؤيّده تأييداً كاملاً.

فهذا هو الطبري ينقل عن السدّي قوله : نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان

ص: 203


1- راجع البقرة الآيات : 51 ، 54 ، 92 ، 93 ، والنساء : 153 ، والأعراف : 152.
2- راجع البقرة : 55.

الفارسي حيث ذكر أصحابه للنبي صلی اللّه علیه و آله فقال له نبي اللّه : هم من أهل النار ، فأنزل اللّه هذه الآية : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا ... ) (1).

في هذه الصورة لا تجد أي ارتباط للآية بزعم اُولئك الذين يدعون أنّ هذه الآية لا تعني سوى ( الوفاق الإسلامي المسيحي اليهودي ) ويزعمون أنّ الإسلام يقرّر في هذه الآيات ( أمان ) المعتنقين لغير الإسلام من عذاب اللّه وعقابه.

هذا مضافاً إلى أنّنا لا نرى أي علاقة بين الآية الثالثة ( وهي الآية 17 من سورة الحج ) وبين ما يزعم هؤلاء .. حيث أنّ مفاد هذه الآية لا يعني سوى الإخبار بأنّ اللّه هو الحاكم بين الطوائف المختلفة ، يوم القيامة فهو الذي ينتقم من طائفة وينتصر لطائفة اُخرى ، وليس يعني ذلك مطلقاً أنّ أصحاب الشرائع الاُخرى على حق ، وأنّهم ناجون يوم الحساب !

جواب آخر :

ولنا - هنا - إجابة ثانية على السؤال المطروح ، ولكن قبل أن ندخل في صميم هذه الاجابة نرى من الضروري أن نشير إلى بعض هذه الاُمور :

فكرة الشعب المختار :

التاريخ يحدثنا أنّ اليهود والنصارى كانوا كثيراً ما يستعلون على المسلمين بل العالم بادعاء فكرة ( الشعب المختار ) ، فكل واحدة من هاتين الطائفتين : اليهود والنصارى ، كانت تدّعي أنّها أرقى أنواع البشر !!

وكانت اليهود خاصة أكثر تمسكاً بهذا الزعم ، حتى أنّهم كانوا يدّعون أنّهم ( شعب اللّه المختار ).

ص: 204


1- تفسير الطبري ج 1 ص 256 ، والحديث طويل وقد أخذنا موضع الحاجة منه ، والظاهر أنّه منقول بالمعنى وفي بعض عباراته خلل.

وقد ذكر القرآن في إحدى آياته هذا الزعم الباطل ، وذكر أنّ النصارى هم أيضاً يدّعون هذا الإدّعاء الفارغ عندما يقول :

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ) ( المائدة - 18 ).

والقرآن جاء يفنّد هذا الزعم بكل قوّة عندما يقول : ( فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ) وقد بلغت أنانية اليهود ، واستعلائهم الزائف حداً بالغاً ، وكأنّهم قد أخذوا على اللّه عهداً بأن يستخلصهم ، ويختارهم حيث قالوا :

( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ) ( البقرة - 80 ).

ولكن القرآن نسف بقوة هذا الزعم حيث قال في شكل إستفهام انكاري :

( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة - 80 ).

هكذا نستكشف من خلال هذه المزاعم وردودها أنّ اليهود كانوا يعدّون أنفسهم صفوة البشرية ونخبة الشعوب وكانوا يحاولون بمثل هذه المزاعم فرض كيانهم على العالم كأرقى نوع بشري انتخبه اللّه على سائر البشر ، حتى كأنّهم أبناء اللّه المدلّلون.

2. الأسماء لا تنقذ انساناً :

إنّ اليهود والنصارى كما كانوا يحاولون الاستعلاء الباطل عن طريق بث ( فكرة الشعب المختار ) كانوا من ناحية ثانية يعتبرون الأسماء ، أو الانتساب إلى اليهودية والمسيحية سبباً آخر من أسباب التفوّق في الدنيا ، والنجاة في الآخرة والفوز بالثواب الجزيل.

فقد كان في تصورهم أنّ الجنّة هي نصيب كل من ينتسب إلى بني اسرائيل أو يسمّى مسيحياً ليس إلاّ ، وكأنّه بإمكان الأسماء أو الانتساب أن تصبح يوماً ما سبيلاً إلى

ص: 205

الهداية ، أو مفاتيح للجنّة !!

ولكن هذا الزعم - على رغم سخافته - اُمنية لهم كسائر أمانيهم كما يحدثنا القرآن :

( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ) ( البقرة - 111 ).

غير أنّ القرآن كان بالمرصاد لهذه الدعاوي الباطلة أيضاً ، عندما ذكر بأنّ الوسيلة الوحيدة لامتلاك الجنّة العريضة هي : ( الإيمان الصادق ) و ( العمل الصالح ) وليست الأسماء ، أو مجرد الانتساب إلى عقيدة سماوية مهما كانت. فقال :

( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة : 111 - 112 ).

ولا شك أنّه واضح جداً أنّ جملة ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ ) إنّما تعني الإيمان الخالص والتسليم الصادق لله ، وجملة ( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) إنّما تعني العمل وفق ذلك الإيمان أي العمل بالشريعة التي يؤمن الشخص بها ، وكلتا الجملتين تدلاّن على أنّ السبيل الوحيد إلى النجاة في يوم القيامة إنّما هو : الإيمان والعمل ، وليس اسم اليهودي أو النصراني فليست المسألة مسألة أسماء وإنّما هي مسألة إيمان صادق ، وعمل صالح.

3. ليست الهداية في اعتناق اليهودية والمسيحية :

يشير القرآن - أيضاً - إلى دعوى اُخرى لهم باطلة كأخواتها ، فارغة كمثيلاتها وهي قولهم بأنّ الهدى الحقيقي إنّما هو في اعتناق اليهودية أو المسيحية !!

( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ) ( البقرة - 135 ).

ولكنّ القرآن يرد - أيضاً - هذا الزعم الواهي بقوله :

( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( البقرة - 135 ).

فالهدى الحقيقي هو في الاقتداء بملّة إبراهيم واعتناق مذهبه في التوحيد الخالص من كل شائبة.

ص: 206

وفي آيات اُخرى في القرآن نجد كيف أنّ اليهود والنصارى حاولوا اضفاء طابع اليهودية والمسيحية على إبراهيم ، ليحصلوا بذلك على دعم جديد لمعتقداتهم ويضفوا الشرعية على مسلكهم ، غير أنّ القرآن مضى يفنّد - بكل قاطعية وعنف - هذه الاكذوبة بقوله :

( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران - 67 ).

نستخلص من كل هذه الآيات كيف أنّ اليهود والمسيحيين والقدامى منهم خاصة كانوا يحاولون - بهذه الأفكار الواهية - التفوّق على البشر ، والتمرّد على تعاليم اللّه ، والتخلص بصورة خاصة من الإنضواء تحت لواء الإسلام ، مرة بافتعال اكذوبة ( الشعب المختار ) الذي لا ينبغي أن يخضع لأي تكليف ، ومرة اُخرى بافتعال خرافة ( الأسماء والانتساب ) وادعاء النجاة بسبب ذلك والحصول على مغفرة اللّه وجنّته وثوابه. ومرة ثالثة بتخصيص ( الهداية ) وحصرها في الانتساب إلى إحدى الطائفتين بينما نجد أنّه كلّما مرّ القرآن على ذكر هذه المزاعم الخرافية أعلن بكل صراحة وتأكيد : أنّه لا فرق بين انسان وانسان إلاّ بتقوى اللّه فإنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم ..

وأمّا النجاة والجنّة فمن نصيب من يؤمن باللّه ، ويعمل بأوامره دونما نقصان لا غير ، وهو بهذا يقصد تفنيد مزاعم اليهود والنصارى الجوفاء.

بهذا البحث حول الآيات الثلاث ( المذكورة في مطلع البحث ) نكتشف بطلان الرأي القائل بأنّ الإسلام أقر - في هذه الآيات - مبدأ ( الوفاق الإسلامي المسيحي واليهودي ) تمهيداً لإنكار عالمية الرسالة الإسلامية ، بينما نجد أنّ غاية ما يتوخّاه القرآن - في هذه الآيات - إنّما هو فقط نسف وإبطال اليهود والنصارى وليعلن مكانه بأنّ النجاة إنّما هي بالإيمان الصادق والعمل الصالح.

فلا استعلاء ، ولا تفوّق لطائفة على غيرها من البشر مطلقاً ، كما أنّ هذا التشبّث الفارغ بالأسماء والدعاوي ليس إلاّ من نتائج العناد والاستكبار عن الحق.

ص: 207

فليست الأسماء ، ولا الانتساب هي التي تنجي أحداً في العالم الآخر ، وإنّما هو الإيمان والعمل الصالح ، وهذا الباب مفتوح على وجه كل انسان يهودياً كان أو نصرانياً مجوسياً أو غيرهم.

ويوضح المراد من هذه الآية قوله سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) ( المائدة - 65 ).

فتصرّح الآية بانفتاح هذا الباب بمصراعيه في وجه البشر كافة من غير فرق بين جماعة دون جماعة حتى أنّ أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون لقبلنا إيمانهم وكفّرنا عنهم سيئاتهم.

هذا هو كل ما كان يريد القرآن بيانه من خلال هذه الآيات ، وليس أي شيء آخر.

إذن فلا دلالة لهذه الآيات الثلاثة على إقرار الإسلام لشرعية الشرائع بعد ظهوره .. وإنّما تدل على أنّ القرآن يحاول بها إبطال بعض المزاعم.

يبقى أن تعرف أنّ هنا آيات اُخرى تؤيد بصراحة ما ذهبنا إليه من انحصار النجاة في الإيمان والعمل ، وذلك كسورة ( والعصر ) :

( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) ( العصر : 1 - 3 ).

كما أنّ تكرار كلمة ( الإيمان ) في الآيات الثلاث تأكيداً آخر لما قلناه حيث قال في مطلع الآيات : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) ثم قال : ( ... مَنْ آمَنَ بِاللّهِ ) وهو يقصد بمن ( آمنوا ) الاُولى ، الذين اعتنقوا الإسلام في الظاهر ، دون أن يتسرب الإيمان إلى قلوبهم ، وينعكس على تصرفاتهم ، ويقصد بمن ( آمن ) الثانية الإيمان الصادق المقرون بالعمل.

وبعبارة اُخرى : انّ المراد من قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) هم المسلمون لوقوعه في مقابل اليهود والنصارى ، ويشهد على ذلك قوله سبحانه : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً

ص: 208

لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ) ( المائدة : 82 ) فقد جعل لفظ « آمنوا » في مقابل اليهود.

وحينئذ فالمراد من قوله : ( آمَنُوا ) في صدر الآية هو من أظهر الإيمان باللّه ورسالة رسوله محمد صلی اللّه علیه و آله كما أنّ المراد من قوله : ( مَن يُؤْمِنُ ) هو الإيمان الحقيقي الراسخ في القلب.

ونظيره قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ) ( النساء - 136 ).

ثمّ إنّي بعد ما كتبت هذا وقفت على ما كتبه الكاتب الإسلامي أبو الأعلى المودودي حول الآية ، وكان متقارباً لما قلناه ، وحررناه ، ولأجل اتمام الفائدة نأتي بإجمال ما كتبه :

والحقيقة انّ هذا التحريف قد اسدى إلى روح الضلالة خدمة كان قد عجز عن مثلها أكابر أئمّة الضلال والكفر على بعد نظرهم ، ومكرهم في التضليل ، إذ هو يزوّد - في جانب - غير المسلمين بدليل من القرآن نفسه على عدم احتياجهم إلى قبول الحق ، ويأخذ - في جانب آخر - بيد المنافقين والدخلاء على الجماعة الإسلامية من الذين يتلملمون دائماً للتنصل من قيود الإسلام وحدوده حتى ينالوا الرخصة بلسان القرآن نفسه في ازالة الحاجز القائم بين الكفر والإسلام ، ويزلزل - في الجانب الثالث - إيمان المؤمنين المتّبعين للقرآن والسنّة في داخل الجماعة الإسلامية حتى ليساورهم الشك بأنّ الانسان ما دام من الممكن له أن يستحق النجاة ولو بانكار القرآن والسنّة النبوية وبغير حاجة إلى الإيمان بكتاب ولا برسالة ، فمن العبث أن يتقيّد بحدود الإسلام إذ لا فرق - البتة - بين كونه مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً أو صابئياً أو هندوكياً أو غيره.

ثم شرع الكاتب في تفسير جمل الآية وقال :

إنّ المراد ب : ( الَّذِينَ آمَنُوا ) هم طائفة أهل الإسلام وإنّ المراد من : ( مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) اُولئك الذين هم متصفون في حقيقة الأمر بصفة الإيمان الصحيح الكامل.

والمراد من : ( وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى ... ) اُولئك الذين يعدون من طوائف

ص: 209

اليهود والنصارى ، وليس المراد بهم ، اُولئك الذين اختاروا عقيدة اليهود ، وانتهجوا نهجهم في حقيقة الأمر ، أو الذين يعتقدون النصرانية في واقع الأمر حسب ما ذكر في جملة : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) .

ثمّ أفاد في رفع الستار عن هدف الآية ، وقال :

إنّ التصورات الطائفية التي كانت شائعة في عهد نزول القرآن هي بعينها شائعة في العصر الحاضر أيضاً.

فلهذا لا يصعب علينا أن ندرك أنّ القرآن إنّما يفرّق في هذه الآية بين الذين هم مؤمنون لمجرد انتسابهم إلى طائفة أهل الإيمان وبين الذين هم مؤمنون واقعيون متصفون بصفة الإيمان ، ومتمثّلون لحقيقته في الواقع.

فكما أنّنا نشاهد في هذا الزمان أنّ الدنيا تميّز بين الأفراد من وجهة الطائفية فيقال لرجل : مؤمن ، أو مسلم ، لمجرد أنّه من جماعة المسلمين على حسب انقسام أفراد البشرية بين مختلف الجماعات بصرف النظر عمّا إذا كان هو مسلماً في واقع الأمر أم لا ، ويقال لفرد من اليهود والنصارى والبوذيين : يهودي أو نصراني أو بوذي ، باعتبار انتسابه إلى ديانة من تلك الديانات وبصرف النظر عمّا إذا كان مؤمناً بمبادئ طائفته في واقع الأمر أم لا ، كذلك كان النوع البشري في عهد نزول القرآن موزّعاً بين عدد من الطوائف على حسب الظواهر بدون اعتبار الواقع ، فكان يميّز بين مختلف الأشخاص والجماعات باعتبار أنّ فلاناً من جماعة محمد صلی اللّه علیه و آله وفلاناً من طائفة اليهود ، وفلان من طائفة النصارى وهلمّ جرا.

ومن هنا كان المنافقون يعدّون من جماعة المسلمين - الذين آمنوا - مع أنّهم لم يكونوا مسلمين في حقيقة الأمر.

والحقيقة انّ اللّه سبحانه وتعالى يريد بهذا الجزء من الآية أن يفنّد الفكرة السائدة عند الناس عامة وهي أنّ الناس سيحشرون في الآخرة بموجب التصنيف الطائفي ، وباعتبار أنسابهم وأسمائهم الصورية في الدنيا ، فيعتقد اليهودي أنّ النجاة خالصة لمن

ص: 210

هو معدود في طائفة اليهود دون سائر الناس ، ويظن النصراني أنّ الدخول في النصرانية دخول في أهل الحق ، وكل من هو خارج عن هذه الدائرة يكون على الباطل ، وكذلك قد بدأ المسلمون يظنون أنّ من هو داخل في جماعتهم على اعتبار اسمه واسرته ومولده فهو مسلم وله الشرف والفضيلة على كل من ليس بداخل في جماعتهم بموجب تلك الاعتبارات.

فتفنيداً لهذه الفكرة الخاطئة يقول سبحانه وتعالى إنّ الفرق الحقيقي بين الانسان والانسان ليس على حسب الطائفية الظاهرية ، بل الذي عليه المدار هو الإيمان والعمل الصالح ، وليس كل من تسمّى بأسماء المسلمين مع خلوّه من الإيمان وابتعاده عن العمل الصالح بالمؤمن في واقع الأمر ، ولن يكون في عاقبته مثل المؤمنين الحقيقيين ، وكذلك ليس كل من ينتسب إلى اليهودية والنصرانية أو الصابئة يهودياً أو نصرانياً أو صابئاً إذا كان متجرداً من هذه الصفات. فكما أنّ الاعتداد في جماعة المسلمين لا يغني عن الانسان شيئاً كذلك اعتباره من اليهود وإلنصارى والصابئيين لا يرجع عليه بالفائدة في الآخرة.

ثمّ إنّه بعد ما ذكر بعض ما قدمنا من الآيات من مزاعم اليهود والنصارى من كون الجنّة مختصة بهم ، أو أنّ النار لا تمسّهم إلاّ أياماً معدودة ، أو أنّهم أبناء اللّه واحباؤه ، قال إنّ كل هذه الآيات إنّما تكشف عن حقيقة بعينها هي أنّ اللّه عزّ وجلّ ليست عليه دالّة لطائفة في الأرض ، ولا أنّ طائفة خاصة مستأثرة بالنجاة عنده ، فليس من حق أحد من الناس أن يعامل بصفة خاصة بناء على أنّه ولد في اُمّة معيّنة أو ينتمي إلى جماعة خاصة ، بل الجميع من حيث هم أفراد الجنس البشري ، لا فرق بينهم البتة في نظر اللّه ، لأنّ الاعتبار الحقيقي عند اللّه ما هو الانتسابات أو القوميات ، بل هو للمبادئ والحقائق فإن آمنتم بصدق قلوبكم وعملتم الصالحات نلتم جزاءً حسناً عند اللّه ، وإن بقيتم على غير شيء من الإيمان والعمل الصالح فلا شيء ينقذكم من العقاب والعذاب الأليم ، ولو إلى أي طائفة أو جنس كنتم تنتسبون ، واللّه تعالى قد صرّح بهذه الحقيقة في موضع آخر من كتابه حيث يقول - مخاطباً المسلمين - : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ

ص: 211

مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) ( النساء 123 - 124 ) (1).

وأنت إذا لاحظت ما ذكره المؤلّف وما قد حررناه من قبل تجد الجوابين متوافقي المضمون ، متشاكلي المعنى.

وإذا وقفت على هدف الآية ومرماه فلندخل في صميم الإجابة الثانية حتى نثبت أنّها لا تمتّ بصلة إلى مدّعى القائل ، إذ الآية تسوقنا إلى أنّ الاعتبار في النجاة هي ( الحقائق والمسمّيات والمعاني ) دون الصور والأسماء والقشور.

وأمّا ما هو حقيقة الإيمان باللّه وما هو شرطه ، وما المقصود في العمل الصالح وكيف يتقبل.

فالآية ساكتة عن بيانها ومنصرفة عن توضيحها ، وإنّما تطلب هذه الشروط والقيود من سائر الآيات ولأجل ذلك يجب أن ينضم إلى الآية سائر ما ورد من الآيات الورادة في باب الإيمان باللّه والإتيان بالعمل الصالح حتى نقف على مرمى القرآن.

فنقول : ليس معنى الإيمان باللّه أن يقر الانسان بوجود اللّه ، ويعترف بوحدانيته بل المراد هو التسليم لله ، كما في قوله سبحانه :

( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة - 112 ).

وقد دلّت الآيات القرآنية على أنّ الإيمان باللّه لا ينفك عن الإيمان بأنبيائه ورسله حيث قال سبحانه :

( قُولُوا آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ

ص: 212


1- الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة طبعة دار القلم ص 190 - 196 وهو من أنفع كتب المؤلّف غير أنّه يعتمد في المسائل الفقهية على رأي كلّ صحابي أو تابعي ، وينقل آراء أصحاب المذاهب الأربعة ولا ينقل رأي واحد من أئمة أهل البيت غير الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام .

وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( البقرة - 136 ).

كما دلّت على أنّ الإيمان بأنبيائه ورسله لا تنفك عن الإيمان بنبّيه الخاتم حيث قال سبحانه : ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ) ( البقرة - 137 ).

والقرآن يعترف بأنّ تكفير نبي واحد تكفير بجميع الأنبياء بل تكفير باللّه سبحانه كما قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) ( النساء : 150 - 151 ).

كيف وقد عدّ الإيمان بنبيّه الخاتم من أركان الإيمان وقال :

( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ) ( النور - 62 ).

وقال تعالى : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحجرات - 15 ).

وليس المراد من الإيمان بالرسول هو الاعتراف بعظمة الرسل وجلالة مكانتهم بل المراد هو الطاعة العملية حيث قال سبحانه :

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( النساء - 64 ).

وقال سبحانه :

( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) ( النساء - 115 ).

وقال سبحانه :

( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا ) ( الأحزاب - 36 ).

ص: 213

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في شأن الأنبياء وخصوص شأن الرسول الأكرم.

وعلى ذلك فالإيمان باللّه الذي تعتبره الآية وسيلة للنجاة لا ينفك عن الإيمان برسله وكتبه ، وعن الإيمان برسوله الخاتم ، ولا ينفك الإيمان بهم وبه عن الإيمان بطاعته ، وامتثال أوامره والانزجار عن نواهيه ، ولا يتم ذلك إلاّ بالعمل بالقرآن وشريعته وأوامره وزواجره ، سننه وفرائضه وليس يراد من المسلم إلاّ ذاك ، ولا تخالف بين الآية وغيرها من الآيات في الهدف والمرمى.

نعم كل من أراد أن يستخرج من الآية ما هو كفاية رسوخ اليهودي في يهوديته والنصراني في نصرانيته .. فقد غضّ بصره عن سائر الآيات شأن كل من يختار مذهباً أوّلاً ثمّ يرجع إلى القرآن حتى يجد له دليلاً ثانياً.

إنّ اللّه يأمر نبيّه أن يعلن ويقول :

( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( الأنعام - 153 ).

وعندئذ لا يمكن له أن يعترف بصحة الطرق المختلفة الاُخرى وأنّها أيضاً طرق مستقيمة.

خاتمة المطاف :

بقيت هنا كلمة وهي أنّه ربّما يستدل (1) على الخاتمية بمثل قوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) ( سبأ - 28 ).

وقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف - 158 ) والاُولى الاستدلال بها على عالمية الرسالة الإسلامية لا خاتميتها.

وما ربّما يقال : بأنّ الناس ربّما يطلق ويراد منه جماعة من الناس مثل قوله سبحانه

ص: 214


1- اللوامع الالهية ص 225.

في قصة موسى وفرعون : ( وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ ) ( الشعراء - 39 ).

وقوله سبحانه : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ) ( الفتح - 20 ).

والمقصود من الناس هم المشركون خاصة وعلى ذلك فليست هذه الآية ونظائرها دالة على سعة رسالته فضلاً عن خاتميتها.

والجواب عن الشبهة واضح وذلك لأنّ استعمال كلمة ( الناس ) في الجماعة الخاصة في الآيات المتقدمة إنّما هو لوجود القرائن الحافة بالكلام ولولاها لما صح استعمال الكلمة التي وضعت للعموم في جماعة خاصة.

هذه شبهات الخاتمية التي اختلقها القوم ولم تكن إلاّ شبهات سوفسطائية أو أشواكاً في طريق الحقيقة ، وبقيت شبهات ضئيلة اُخرى للقوم ، أرى التعرّض لها ضياعاً للوقت الثمين.

أجل هناك أسئلة حول الخاتمية جديرة بالبحث والتحليل ، فلا بد من التعرض لها وما يمكن أن يجاب به حولها ، ولأجل ذلك عقدنا الفصل التالي وهو من الفصول المفيدة جداً.

ص: 215

ص: 216

الفصل الرابع: أسئلة حول الخاتمية

اشارة

أنّ من شيم العصر الإلحادي الحاضر ، كثرة السؤال والتشكيك في كل شيء ، خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد ، والمعارف الغيبية أي المسائل الراجعة إلى ما وراء الطبيعة ، ولم تسلم مسألة خاتمية الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله من هذه التشكيكات ، فقد كثر السؤال وطال الحوار والنقاش حولها ، ونحن نذكر تلكم الأسئلة الدارجة في الأذهان والأفهام ونعترف بأنّ بعضها أو كثيراً منها جدير بالبحث والتمحيص أكثر ، مما بحثنا عنه.

السؤال الأول :

اشارة

وحاصله : هب أنّه ختمت النبوّة التشريعية ، فلماذا ختمت التبليغية منها ؟

توضيحه : أنّ النبي إذا بعث بشريعة جديدة وجاء بكتاب جديد ، فالنبوّة تشريعية وأمّا إذا بعث لغاية الدعوة والإرشاد إلى أحكام وقوانين سنّها اللّه سبحانه على لسان نبيه المتقدم ، فالنبوّة تبليغية.

ص: 217

والقسم الأوّل من الرسل ، قد أنحصر في خمسة ، ذكرت أسماؤهم في القرآن والنصوص المأثورة ، أمّا الأكثرية منهم ، فكانوا من القسم الثاني وقد بعثوا لترويج الدين النازل على أحد هؤلاء فكانت نبوّتهم تبليغية (1).

حينئذ فقد يسأل سائل ويقول : هب أنّ نبي الإسلام جاء بأكمل الشرائع وأتمها وأجمعها للصلاح وجاء بكل ما يحتاج إليه الإنسان ، في معاشه ومعاده ، إلى يوم القيامة ولم يبق لمصلح رأي ولمفكّر نظر ، في اُصول الإصلاح واُسسه ، لأنّ نبينا صلی اللّه علیه و آله قد أتى بصحيح الرأي وأتقنه وأصلحه في كافة شؤون الحياة ومجالاتها ولأجل ذلك الإكتمال اُوصد باب النبوّة التشريعية.

ولكن لماذا اُوصد باب النبوّة التبليغية التي منحها اللّه للاُمم السالفة فإنّ الشريعة مهما بلغت من الكمال والتمام لا تستغني عمّن يقوم بنشرها وجلائها وتجديدها ، لكي لا تندرس ويتم إبلاغها من السلف إلى الخلف بأسلوب صحيح ، فلماذا أوصد اللّه هذا الباب بعد ما كان مفتوحاً في وجه الاُمم الماضية ، ولماذا منح اللّه سبحانه هذه النعمة على السالف من الاُمم وبعث فيهم أنبياء مبلغين ومنذرين وحرم الخلف الصالح من الاُمم منها ؟.

الجواب :

أنّ انفتاح باب النبوّة التبليغية في وجه الاُمم السالفة وإيصاده بعد نبي الإسلام ليس معناه أنّ الاُمم السالفة استحقت هذ النعمة المعنوية ، لفضيلة تفردت بها ، دون الخلف الصالح من الاُمم ، أو أنّ الاُمّة الإسلامية حرّمت لكونّها أقل شأناً وأهون مكانة من الاُمم الخالية - كلا - بل الوجه أنّ الاُمم السالفة كانت محتاجة إليها دون الاُمّة الإسلامية ، فهي في غنى عن أي نبي مبلغ يروج شريعة نبي الإسلام.

وذلك أنّ المجتمعات تتتفاوت إدراكاً ورشداً ، فربّ مجتمع يكون في تخلقه كالفرد

ص: 218


1- الكلمة الدارجة لمعنى التبليغ في البيئات العربية هي كلمة « التبشير » ولكن كلمة « التبليغ » أولى وأليق بهذا المعنى ، فهي مقتبسة من القرآن ، ومدلولها اللغوي منطبق على المقصود كل الانطباق.

القاصر ، لا يقدر على أن يحتفظ بالتراث الذي وصل إليه ، بل يضيعه كالطفل الذي يمزق كتابه ودفتره غير شاعر بقيمته.

وربّ مجتمع بلغ من القيم الفكريّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة ، شأواً بعيداً يحتفظ معه بتراثه الديني الواصل إليه ، بل يستثمره استثماراً جيداً فهو عند ذاك غني عن كل مروج يروج دينه ، أو مبلغ يذكر منسيه أو مرب يرشده إلى القيم الأخلاقية ، أو معلم يعلمه معالم دينه ويوضح له ما أشكل من كتابه ، إلى غير ذلك من الشؤون ، فأفراد الاُمّة السالفة كانوا كالقصر ، غير بالغين في العقلية الاجتماعية فما كانوا يعرفون قيمة التراث المعنوي الذي وصل إليهم ، بل كانوا يلعبون به لعب الصبي بكتابه بتحريفهم له وتأويله بما يتوافق مع أهوائهم ومشاربهم ، ولذا كان يحل بالشريعة ، إندراس بعد مضي القرون والأجيال ويستولي عليها الصدأ بعد حقبة من الزمان.

لهذا ولذلك كان على المولى سبحانه أن يبعث فيهم نبياً ، جيلاً بعد جيل ، ليذكرهم بدينهم الذي إرتضاه اللّه لهم ، ويجدد شريعة من قبله ويروج قوله وفعله ويزيل ما علق بها من شوائب بسبب أهواء الناس وتحريفاتهم. وأمّا المجتمع البشري بعد بعثة الرسول صلی اللّه علیه و آله ولحوقه بالرفيق الأعلى ، فقد بلغ من المعرفة والإدراك والتفتح العقلي والرشد الاجتماعي شأواً يتمكن معه من حفظ تراث نبيه وصيانة كتابه عن طوارق التحريف والضياع ، حتى بلغت عنايته بكتابه الديني إلى تصنيف أنواع التآليف في أحكامه وتفسيره وبلاغته ومفرداته وإعرابه وقرائته فإزدهرت تحت راية القرآن ضروب من العلوم والفنون.

فلأجل ذلك الرشد الفكري في المجتمع البشري ، جعلت وظيفة التبليغ والإنذار ، على كاهل نفس الاُمّة حتى تبوأت وظيفة الرسل من التربية والتبليغ ، واستغنت عن بعث نبي مجدد على طول الزمان يبلغ رسالة من قبله.

فإذا قدرت الاُمّة على حفظ ما ورثته عن نبيها ، ونشره بين الناس في الآفاق ، ومحو كل مطمع فيه وهدم كل خرافة تحدثها يد التحريف ، استغنت طبعاً عن قائم بهذا الأمر

ص: 219

سوى نفسها.

لقد ظهرت طلائع هذا التفويض من أوّل سورة نزلت على النبي صلی اللّه علیه و آله حيث خاطبه اللّه سبحانه ، في اليوم الذي بعثه رسولاً إلى الناس وهادياً لهم بقوله : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ( العلق : 1 - 5 ).

وهذا الخطاب يؤذن بأن دينه ، دين التلاوة والقرائة ، دين العلم والتعليم ، دين القلم والتحرير ، وأنّ هذا الدين سوف يربي اُمة مفكرة ، متحضرة ، عالمة بقيمة التراث الذي يصل إليها ، قادرة على حفظ هذا الدين في ضوء العلم والفكر ، مستعدة لنشر تعاليمه في أقطار العالم وأرجاء الدنيا ، بأساليب صحيحة.

وقد بلغت عناية الإسلام بالقلم والكتابة ، إلى حد أن أقسم سبحانه : ( وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) وأنزل سورة باسمه ، تمجيداً له وحثاً للاُمة على تقديره والعناية به ، ليكون رائداً للتقدم والحضارة والمعرفة ، ويصير أحسن ذريعة إلى حفظ التراث بلا حاجة إلى مبلغ سماوي.

ثم أنّه سبحانه ، صرح بهذا التفويض أي تفويض أمر التبليغ إلى نفس الاُمّة في غير موضع من كتابه ، منها قوله سبحانه : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة - 122 ).

ومنها قوله سبحانه : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) ( آل عمران - 104 ).

ومنها قوله سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) ( آل عمران - 110 ).

وفي السنن والأحاديث تصاريح بذلك ، نكتفي بما يلي :

قال الباقر علیهاالسلام : « أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ، ومنهاج الصلحاء ، وفريضة بها تقام الفرائض ، وتأمن المذاهب ، وتحل المكاسب وترد

ص: 220

المظالم ، وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر » (1).

ولعل في قوله علیه السلام : « سبيل الأنبياء » إشارة إلى أنّ هذا الأمر موكول إلى الاُمّة بعد انقطاع الوحي وإيصاد باب النبوّة.

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا ظهرت البدع ، فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه » (2).

ثمّ أنّ هناك جواباً آخر ، ربّما يكون ملائماً لاُصول الشيعة الإمامية في مسئلة الإمامة والخلافة ولأجل إيقاف القارئ الكريم عليه نأتي به إجمالاً ولا يعلم إلاّ بالوقوف على معنى الإمامة لدى الشيعة ودور أهل البيت في إكمال الدين.

دور أهل البيت في إكمال الدين وختم الرسالة :

أنّ للشيعة الإمامية نظراً خاصاً في كيفية استغناء الاُمّة الإسلامية عن ضرورة استمرارية النبوّة وتواصلها بعد لحوق النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله بالرفيق الأعلى ، وعمدة ذلك هو ثبوت نظرية الإمامة التي تتبناها الشيعة الإمامية في باب الولاية الإلهية والخلافة بعد رسول اللّه.

فالإمامة عندهم عبارة عن الولاية الإلهية العامة على الخلق فيما يختص بشؤونهم الدينية والدنيوية وهي مستمرة بعد قبض النبي الأعظم ، لم يوصد بابها بل أنّه مفتوح إلى أن يشاء اللّه إيصاده ، وإنّما الذي ختم بالنبي الأعظم هو باب النبوّة التي هي تحمل النبأ عن اللّه سبحانه ، وباب الرسالة التي هي تنفيذ ما تحمله النبي عن اللّه سبحانه بين الاُمة (3).

هذه الولاية الالهية غير النبوّة والرسالة وإن كانت تجامعهما تارة وتفارقهما اُخرى

ص: 221


1- وسائل الشيعة كتاب الأمر بالمعروف الباب الأوّل الحديث 6.
2- وسائل الشيعة كتاب الأمر بالمعروف الباب الأربعون الحديث 1.
3- سيوافيك توضيح الفرق بين النبوّة والرسالة في الجزء الرابع من كتابنا هذا.

فقد تمثلت المناصب الثلاثة في شخص إبراهيم.

إذ كان علیه السلام يمثل منصب الإمامة ، كما كان يمثل منصبي النبوّة والرسالة ولقد حباه اللّه سبحانه منصب الإمامة ، بعد ما منحت له النبوّة وأرسله رسولاً ويدل على ذلك قوله سبحانه : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ( البقرة - 124 ) (1).

والأئمّة الاثنا عشر لدى الإمامية يمثلون منصب الإمامة ، من دون أن يكونوا أنبياء أو رسلاً ، فهم أئمّة الدين ، وأولياء اللّه بين الاُمّة ، ولهم رئاسة إلهية عامة ، دينية ودنيوية على وجه يوجب على الاُمّة الانقياد لهم وهم حجج اللّه على عباده يهتدى بهم إليه سبحانه ولا تبقى الأرض بغير إمام حجة لله على عباده (2).

والباعث على انفتاح باب الولاية الإلهية في وجه الاُمّة ، بعد ختم النبوّة والرسالة وإيصاد بابها بالتحاق الرسول الكريم بالرفيق الأعلى اُمور نشير إلى واحد منها (3).

لا يختلف اثنان من المسلمين بانقطاع وحي السماء عن وجه الأرض بموت النبي وقبضه كما لا يختلفان في أنّ النبي قام بمهمة التشريع والتبليغ وتثقيف الاُمّة الإسلامية بالثقافة الدينية وبث العقيدة الدينية فيهم وحفظ الشريعة عن شبهات المنكرين وإرجاف المرجفين بأحسن الوجوه وأكملها وقال سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة - 3 ) غير أنّه صلی اللّه علیه و آله كان يراعي في نشر الأحكام حاجة الناس ومقتضيات الظروف فكانت هناك اُمور مستجدة

ص: 222


1- روى ثقة الإسلام الكليني عن جابر عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال سمعته يقول : أن اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً ، واتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً ، واتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً ، واتخذه خليلاً قبل أن يتخذه إماماً ، فلما جمع له هذه الأشياء وقبض قال له يا إبراهيم إني جاعلك للناس إماماً فمن عظمها في عين إبراهيم قال يا ربّ ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ( الكافي باب طبقات الأنبياء والرسل ج 1 ص 175 ).
2- هكذا وصف الإمام باقر العلوم ، راجع الكافي باب « إنّ الأرض لا تخلو من حجة » ج 1 ص 178.
3- قد أوضحنا تلك الاُمور في الجزء الثاني من هذه الموسوعة فلاحظ بحث : صيغة الحكومة الإسلامية بعد النبي صلی اللّه علیه و آله .

ومسائل مستحدثة ، لم تكن معهودة في زمن الرسول ولم يأت بها نص في الكتاب الكريم وسنّته الثابتة ، ولم يتسن للنبي الإشادة بها أمّا لتأخر ظروفها أو لعدم تهيأ النفوس لها أو لغير ذلك من العلل.

وقد ظهرت بوادر هذا الأمر عندما اتسع نطاق الإسلام وضرب بجرانه خارج الجزيرة العربية وطفق المسلمون يخوضون في غمار معارك طاحنة وحروب دامية ، يفتحون البلاد ويخالطون الاُمم ففوجئوا بمسائل مستجدة لم يعرفوا لها حلاً في الكتاب الكريم ولا في سنّة نبيهم مع أنّ اللّه سبحانه كان قد أخبر في كتابه عن اكمال الدين واتمام النعمة وبناء على هذا فإننا نستكشف أنّ النبي إيفاء لغرض التشريع استودع معارفه عند من يقوم مقامه ويكون له من الصلاحيات ما تخوله للقيام بمثل هذا الأمر الخطير.

وإلى ذلك يشير باقر العلوم بقوله مخاطباً لهشام بن عبد الملك بن مروان : إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما اللّه على نبيه صلی اللّه علیه و آله في قوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) والأرض لا تخلو ممّن يكمل هذه الاُمور التي يقصر غيرنا عنها (1).

ثمّ أنّ الكتاب الكريم الذي هو أحد الثقلين فيه محكم ومتشابه وعامّ وخاصّ ومطلق ومقيد ومنسوخ وناسخ ، يجب على الاُمّة عرفانها ، إذ الجهل بها يوجد اتجاهات مذهبية متضاربة. غير أنّ تفسير المتشابه من دون الاستناد إلى ركن وثيق يورث اختلافاً عنيفاً بين المسلمين ، وتفسير المعضل وتفصيل المجمل وتشخيص المنسوخ عن ناسخه يحتاج إلى احاطة كاملة بمفاهيم الكتاب وتشريعاته جليلها ودقيقها وهو ليس إلاّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ومن يتلو تلوه.

فلأجل رفع هذه المحاذير يجب عليه سبحانه حفاظاً على وحدة الاُمّة وصيانتها عن الشرود في متاهات الضلال أن يشفع كتابه بميزان آخر ، وهاد يدعم أمره ، ومعلم يوضح لهم أسراره ، ليرجع إليه المسلمون حتى يكتمل به غرض التشريع ويرتفع

ص: 223


1- (1 بحار الأنوار ج 46 ص 307.

التضارب والخلاف في الشؤون الدينية.

وإلى ذلك يشير قوله صلی اللّه علیه و آله : أني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وأهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض (1) ، وقال صلی اللّه علیه و آله : أني أوشك أن اُدعى فاُجيب وأني تارك فيكن الثقلين كتاب اللّه عزّ وجلّ وعترتي ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، وأنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما (2).

وهذا هو الإمام الصادق علیه السلام يعرف الإمام ومكانته العظيمة بقوله : أنّ الأرض لا تخلو وفيها إمام ، كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإن نقصوا شيئاً أتمّه لهم (3).

وأبلغ تعبير عن حقيقة الإمامة عند الشيعة ما روي عن الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا في حديث طويل وفيها : أنّ الإمامة منزلة الأنبياء وأرث الأوصياء أنّ الإمامة خلافة اللّه وخلافة الرسول ، الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين ، أنّ الإمامة أساس الإسلام النامي وفرعه السامي.

الإمام يحل حلال اللّه ويحرم حرام اللّه ، ويقيم حدود اللّه ويذب عن دين اللّه ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة (4).

ص: 224


1- أخرجه الحاكم في مستدركه ج 3 ص 148 ، وقال هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
2- مسند أحمد ج 3 ص 17 و 26 وللحديث صور كثيرة كلها تنص على وجوب التمسك بأهل بيته وعترته صلی اللّه علیه و آله وطرقها عن بضع وعشرين صحابياً متضافرة ، وقد صدع بها رسول اللّه في مواقف له شتى : يوم غدير خم ، يوم عرفة في حجة الوداع ، بعد انصرافه من الطائف ، على منبره في المدينة ، وفي حجرته في اُخريات أيامه. وقد أنهى إسناده العلامة الجليل السيد مير حامد حسين في بعض أجزاء كتابه الكبير «العبقات» وطبع في ستة أجزاء بإيران وفاح أريجه بين لابتي العالم وقد اغرق نزعاً في التحقيق ، ولم يبق في القوس منزعاً، وقد أغنانا كتابه عن الافاضة والبحث.
3- الكافي ج 1 ص 178.
4- الكافي ج 1 ص 200.

وبذلك تعرف وجه غنى الاُمّة الإسلامية بعد النبي عن أي نبي مروّج وأية نبوّة تبليغية ، ويتضح أنّ الإسلام في تخطيطه المبدئي ، قد فرض أنّه ( بعد إنتهاء وظيفة النبي الأعظم وقطعه أشواطاً بعيدة في الجهات المختلفة المتقدمة ) يتكفّل القيادة المعصومة من بعده من يقوم مقامه بنصه سبحانه وتعيينه ، وله من الشرائط ما للنبي سوى ما يختص به على ما تبيّن في محله حتى تنتهي هذه العملية إلى مراحلها النهائية المفروضة.

ولا يضير الإسلام في شيء أن تكون الاُمّة قد انحرفت عن الخط المفروض لها من قبل اللّه سبحانه ، وتجاوزت عن كل الضمانات التي وضعها لتنفيذ مخطّطه الالهي.

وفي الختام نقول : إنّ التاريخ ليشهد بأنّه ما من إمام من أئمّة الشيعة الاثنى عشرية إلاّ وقد قام بأعباء مهمة الإمامة خير قيام ، وأنّ حياة كلّ منهم كانت مشحونة بالعمل المتواصل في سبيل إيصال مفاهيم الإسلام الصحيحة إلى الاُمّة ولقد عانوا في ذلك من المشاق ولاقوا من الأهوال ما لاقاه النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

فعند ذاك استغنت الاُمّة الإنسانية بشكل عام والمسلمون بشكل خاص ، بتعاليمهم الدائرة حول نطاق رسالة جدهم السماوية ، عن استمرارية كلتا النبوّتين ، وبصورة خاصة التبليغية منها.

ص: 225

السؤال الثاني

اشارة

« لماذا حرم الخلف من الاُمم ، من المكاشفة الغيبية ، والاتصال بالملأ الأعلى ، واستطلاع ما هنالك من معارف وحقائق » ؟

يقول السائل : إنّ النبوّة منصب معنوي ورقي روحي ، تقدر معه النفس على الاتصال بالملأ الأعلى ، والاطلاع على ما هنالك من معارف عقلية ، والتحدث مع الوحي الالهي ، إلى غير ذلك من الفيوضات المعنوية ، ولكن هذا الباب قد اُوصد بعد إكمال الشريعة الإسلامية وختم النبوّة.

هب أنّ الشريعة الإسلامية ، هي أكمل الشرائع ، وأنّ الخلف من الاُمم قادر على حفظ تراثه الديني ، ولأجل ذلك اُوصد باب النبوّة التشريعية والتبليغية ولكن لماذا انقطعت الفتوحات الباطنية والمحادثة مع ملائكته سبحانه ، أو القاء الحقائق في روع الانسان ، إلى غير ذلك من الفيوضات السماوية ، فهذه الاُمور كلّها من لوازم النبوّة ، فلا يعقل انفتاحها مع إيصاد بابها ...

ثم إنّه لماذا كان باب هذا الفيض مفتوحاً في وجه الاُمم السالفة ، وحرم منها الخلف الصالح بعد النبي ؟ هل كانت الاُمم السالفة اُولى وأجدر بهذه النعمة ؟ وهل الاُمّة المتأخرة عنهم أقل جدارة بها واستحقاقاً لها ؟!

ص: 226

الجواب :

ليس الإطلاع على ما احتجب عن عامة الناس من الحقائق ، من لوازم النبوّة ، حتى ينسد بابه بانسداد بابها ، ولا الخلف محروم من الفيض الذي كان مفتوحاً في وجه الاُمم السالفة ، فإنّ الولاية الالهية التي تلازم تلكم الفتوحات الباطنية ، ليست من خصائص النبوّة وتوابعها ، حتى تنقطع بانقطاعها ، بل هي كرامة إلهية يرزقها سبحانه ، المخلصين من عباده ، المتحلّين بفضائل الأخلاق المتطهرين عن درك الشرك ولوث المعاصي ، إلى غير ذلك من صفات كريمة.

والنبوّة باب خاص من الولاية تستتبع تحمل الوحي التشريعي أو التبليغي فيوصد بابه بإيصاد بابها ، وأمّا سائر الفتوحات الباطنية من المكاشفات والمشاهدات الروحية والايحاءات الملكوتية ، فلم يوصد بابها قط.

وللتوضيح نحن نتساءل : ماذا أراد السائل من إيصاد باب الاتصال ، بختم باب النبوّة ؟

فإن أراد الاتصال باللّه ومعرفة أسمائه وصفاته والوقوف على ما هنالك من معارف عن طريق البرهنة والاستدلال والتدبر في آياته الآفاقية ، فهذا الطريق مفتوح إلى يوم القيامة في وجه من أراد الإطلاع على حقائق الكون ودقائقه ، وما وراء الحس من عوالم ودقائق.

وقد قال سبحانه : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ... ) ( فصلت - 53 ) (1).

ص: 227


1- نعم ربّما تفسر الآية بوجه آخر تسقط معه دلالتها على ما نرتئيه وهو أنّ المراد ما يسّر اللّه عزّ وجلّ لرسوله والمسلمين من بعده في آفاق الدنيا وارجاء العالم من الفتوح التي لم يتيسّر أمثالها لأحد من الجبابرة والأكاسرة ، وتغلب قليلهم على كثير من أعدائهم ، وتسليط ضعافهم على أقويائهم ، ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة وبسط دولته في أقاصيها. فهذه الاُمور الخارقة للعادة يقوى معها اليقين ويزداد بها الإيمان ، ويتبين أنّ دين الإسلام هو الدين الحق الذي لا يحيد عنه إلاّ مكابر ... راجع الكشاف ج 3 ص 75 وما حققناه حول الآية في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة ص 173.

وقال سبحانه : ( وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( الذاريات : 20 - 21 ).

ولو أراد معرفة ربّه وأسمائه وصفاته ، وعظمته وكبريائه ، وما هناك من مقامات ودرجات ، بلا توسيط برهان ، أو تسبيب دليل ، بل مشاهدة بعين قلبه وبصر روحه ، وبعبارة أوجز : شهود الحقائق العلوية ، وانكشاف ما وراء الحس والطبيعة ، من العوالم الروحية ، والمشاعر الإلهية ، ومعرفة ما يجري عليه قلمه تعالى في قضائه وقدره والاتصال بجنوده وملائكته واستماع كلامهم ووحيهم وصوتهم إلى غير ذلك من الاُمور ، فهذا مقام خطير ، يحصل للعرفاء الشامخين المخلصين من عباده ، المطهرين من اللوث والدنس ، المتحررين عن قيود الطبيعة ، الحابسين أنفسهم في ذات اللّه ، الحاكمين بالكتاب ، العاملين بسننه وسنن نبيّه حسب اخلاصهم وعرفانهم ، حسب استعدادهم وقابليتهم ، حسب ما لهم من المقدرة والطاقة ، لتحمل عجائب الحقائق الغيبية ، ومشاهدة جلال اللّه وجماله وكبريائه وعظمته ، وما لأوليائه من مقامات ودرجات ، وما لأعدائه من نار ولهيب ودركات.

ثمّ إنّ لأهل السلوك والعرفان كلاماً في المقام ، لا يخلو عن فائدة ، وخلاصته :

أنّ اليقين الحقيقي النوراني المنزّه عن ظلمات الأوهام والشكوك ، لا يحصل من مجرد أعمال الفكر والاستدلال ، بل يتوقف حصوله على الرياضة والمجاهدة وصقل النفس وتصفيتها عن كدورات ذمائم الأخلاق ، وإزالة الصدأ عنها ، ليحصل لها التجرد التام ، والسر أنّ النفس بمنزلة المرآة تنعكس على صفحتها الصور المتعلّقة بالموجودات الخارجية ، ولا ريب في أنّ انعكاس الصور من ذواتها على المرآة ، يتوقف على تمامية شكلها وصفاء جوهرها ، وحصول ما يتمكن انعكاسه عليها وإرتفاع الحائل بينهما ، والظفر بالجهة التي فيها الصور المطلوبة ، كذلك يجب في انعكاس حقائق الأشياء من العقل على النفس ، تحقق اُمور :

1. عدم نقصان جوهرها ، بأن لا تكون كنفس الصبي التي لا تتجلىّ لها

ص: 228

المعلومات ، لنقصانها.

2. صفاؤها عن كدورات ظلمة الطبيعة ، وخبائث المعاصي ، وهو بمنزلة الصيقل عن الخبث والصدأ.

3. توجّهها التام وانصراف فكرها إلى المطلوب ، بأن لا يكون غارقاً في الاُمور الدنيوية ، وهو بمنزلة المحاذاة.

4. تخليتها عن التعصب والتقليد ، وهو بمنزلة إرتفاع الحجب.

5. التوصل إلى المطلوب بتأليف مقدمات ، مناسبة للوصول إليه على الترتيب المخصوص والشرائط المقررة ، وهو بمنزلة العثور على الجهة التي فيها الصورة.

ولولا هذه الأسباب المانعة للنفوس عن افاضة الحقائق اليقينية إليها ، لكانت عالمة بجميع الأشياء المرتسمة في العوالم الروحانية.

إذ كل نفس لكونها أمراً ربّانياً وجوهراً ملكوتياً بحسب الفطرة ، صالحة لمعرفة الحقائق ، فحرمان النفس عن معرفة حقائق الموجودات إنّما هو لأحد الموانع.

وقد أشار سيد الرسل إلى أنّ كدورات المعاصي وصدأها مانعة عن ذلك بقوله صلی اللّه علیه و آله لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم ، لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض.

فلو ارتفعت عن النفس ، حجب السيئات والتعصب ، وحاذت شطر الحق الأوّل لتجلّت لها صورة عالم الملك والشهادة بأسرها ، إذ هو متناه يمكن لها الإحاطة به ، وصورة عالمي الملكوت وإلجبروت ، بقدر ما يتمكّن منه ، بحسب مرتبته (1).

فالعارف الشامخ في عالم المعرفة ، إذا اتصف بما ذكرناه : « صار سمع اللّه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاه أجابه ، وإن سأله أعطاه » (2).

ص: 229


1- جامع السعادات ج 1 ص 125 - 126 ولاحظ مقدمة ابن خلدون.
2- وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة أبواب اعداد الفرائض ونوافلها - الباب 17 الحديث 6.

فالفتوحات الباطنية من المكاشفات والمشاهدات الروحية والالقاءات في الروع ، غير مسدودة بنص الكتاب العزيز :

1. قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ) ( الأنفال - 29 ) أي يجعل في قولبكم نوراً تفرّقون به بين الحق والباطل وتميّزون به بين الصحيح والزائف ، لا بالبرهنة والاستدلال ، بل بالشهود والمكاشفة.

2. وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الحديد - 28 ).

إنّ صاحب الكشّاف ومن لفّ لفّه وإن فسره بقوله : « ويجعل لكم يوم القيامة نوراً تمشون به » إلاّ أنّ الظاهر خلافه ، وأنّ المراد النور الذي يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته ، في معاشه ومعاده ، في دينه ودنياه ، وهذا النور الذي يحيط به ويضيء قلبه ، نتيجة إيمانه وتقاه ويوضّحه قوله سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) ( الأنعام - 122 ).

3. وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ( العنكبوت - 69 ).

4. وقال تعالى : ( وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( البقرة - 282 ).

فإنّ عطف الجملة الثانية على الاُولى يحكي عن صلة بين التقي وتعليمه سبحانه.

5. وقال سبحانه : ( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ ) ( التكاثر : 5 - 6 ).

فإنّ الظاهر أنّ المراد رؤيتها قبل يوم القيامة ، رؤية البصيرة ، وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام - 75 ).

وهذه الرؤية القلبية غير محققة قبل يوم القيامة لمن الهاه التكاثر بل ممتنعة في حقه لامتناع اليقين عليهم.

ص: 230

والمراد من قوله : ( ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ) هو مشاهدتها يوم القيامة بقرينة قوله سبحانه بعد ذلك : ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) فالمراد بالرؤية الاُولى رؤيتها قبل يوم القيامة ، وبالثانية رؤيتها يوم القيامة (1).

6. وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) ( محمد - 17 ) فلو أنّ الانسان جعل نفسه في مسير الهداية ، وطلبها من اللّه سبحانه زاده تعالى هدى وآتاه تقواه.

7. وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) ( الكهف - 13 ) والآية تبيّن حال أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم ، وتغرّبوا لحفظ إيمانهم ودينهم فزاد اللّه من هداه في حقهم وربط على قلوبهم كما يقول سبحانه :

8. ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) ( الكهف - 14 ).

والقرآن يصرح بانفتاح باب الهجرة إلى اللّه ورسوله ، والهجرة كما تشمل الهجرة الظاهرية تشمل الهجرة المعنوية ، التي هي عبارة عن السير في مدارج الكمال والإنابة إليه سبحانه.

9. يقول سبحانه : ( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّهِ ) ( النساء - 100 ) ، وإلى الهجرة المعنوية ( هجرة النفوس عن السيئات إلى الطاعات ) يشير النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله إذ يقول :

« من كانت هجرته إلى اللّه ورسوله ، فهجرته إلى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته إلى مال يصيبه فهجرته إلى ما هاجر إليه » (2) فحمل الآية والرواية على خصوص الهجرة الظاهرية والخروج عن الأوطان والتغرّب لحفظ الإيمان هو أحد أبعاد الآية ، فهناك بعد آخر ، وهو حملها على مهاجرة النفوس من الظلمة إلى النور ، ومن الضلال إلى الهداية ،

ص: 231


1- الميزان ج 20 ص 496 - 497.
2- صحيح البخاري ج 1 كتاب الإيمان الباب 42 ص 16.

ويؤيده قوله سبحانه :

10. ( فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) ( آل عمران - 195 ). فالمراد من المهاجرة هو الهجرة المعنوية حتى تصح مقابلتها مع قوله سبحانه : ( وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ ) إلى غير ذلك من الآيات والروايات.

نعم كثرت في القرون الأخيرة عناية طوائف من صوفية أهل السنّة بمسألة الإمامة والإمام ومنهم « النجانية » وقد كتب عنهم العقاد في كتابه « بين الكتب والناس » ومنهم « السنوسية » وقد أفاض فيهم القول البستاني في دائرة معارفه غير أنّ في بعض ما ذكروه خداعاً وضلالاً ، وللبحث عن ما يدّعونه من الكشف والعرفان مجال آخر لا يسعه المقام.

انّ الناظر في نهج البلاغة يجد في كلام الإمام علي علیه السلام تصريحات وإشارات على فتح هذا الباب وعدم إيصاده فالإمام علیه السلام يقول :

« قد أحيى عقله ، وأمات نفسه ، حتى دق جليله ، ولطف غليظه ، وبرق له لامع ، كثير البرق ، فأبان له الطريق ، وسلك به السبيل ، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه ، في قرار الأمن والراحة » (1) ، ويقول :

« هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين » (2).

فهذه الكلمات العلوية تبيّن جلياً أنّ القلب يمكن أن يصبح محلاً للإشعاع الإلهي على مدار الزمان وفي زمن الخاتمية.

وقد روى الفريقان عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله أنّه قال من أخلص لله أربعين صباحاً ، فجّر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه ، على لسانه (3).

ص: 232


1- نهج البلاغة الخطبة 215.
2- نهج البلاغة قصار الكلم الرقم 147.
3- سفينة البحار ، مادة « خلص » نقله عن عدة الداعي لابن فهد الحلي.

وقوله صلی اللّه علیه و آله : « لولا تمريج في قلوبكم وتكثير في كلامكم ، لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع » (1).

وقال الصادق علیه السلام : « ما أخلص عبد الإيمان باللّه أربعين يوماً ، إلاّ زهّده اللّه في الدنيا ، وبصره داءها ودواءها ، وأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه » (2).

وهناك كلمة طيبة عن الإمام أمير المؤمنين ، تعرب عن رأي الإسلام في المقام ، قال علیه السلام :

« إنّ اللّه تعالى جعل الذكر جلاء للقلوب ، تسمع به بعد الوقرة ، وتبصر به بعد العشوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح لله ، عزت آلاؤه ، في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات (3) ، عباد ناجاهم في فكرهم وكلمهم في ذات عقولهم » (4).

فهو علیه السلام يصرح بأنّ الذاكرين من عباده قد بلغ بهم المقام إلى درجة يناجيهم اللّه في سرائر ضمائرهم ، ويكلمهم من طريق عقولهم ، فهل يوجد مقام أرفع من هذا ، أو درجة أشرف من تلك.

وقريب من ذلك ما رواه الديلمي في إرشاده في خطابات له سبحانه لنبيّه في ليلة المعراج بلفظ « يا أحمد ! فمن عمل برضائي الزمه ثلاث خصال ، أعرفه : شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين ، فإذا أحبّني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي ، ولا اُخفي عليه خاصّة خلقي ، واُناجيه في ظلم الليل ونور النهار ، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم ، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، واُعرفه السرّ الذي سترته عن خلقي ، وألبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق كلهم ، ويمشي على الأرض مغفوراً له ، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً ، ولا اُخفي عليه شيئاً

ص: 233


1- حديث مشهور.
2- سفينة البحار ، مادة « ربع ».
3- التخصيص بعد التعميم فلا يضر بالمطلوب لو كان المراد منه الفترة بين المسيح وبعثة الرسول صلی اللّه علیه و آله .
4- نهج البلاغة ، الخطبة 217.

من جنّة ولا نار ، واُعرّفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة. وما اُحاسب به الأغنياء والفقراء والجهال والعلماء ... - إلى أن قال : - يا أحمد ! اجعل همّك هماً واحداً ، واجعل لسانك لساناً واحداً ، واجعل بدنك حياً لا يغفل أبداً ، من غفل عنّي لا اُبالي بأي واد هلك » (1).

وهذه الرواية توقفنا على أنّ المعرفة الحقيقية ، التي تحيى بها نفوسنا ، لا تستوفى بالسير الفكري ، ولا يقف السالك في سبيل الحق على هذه الاُمور ، إلاّ بتهذيب النفوس وتطهير القلوب والانقطاع إلى الربّ عن كل شيء ، حتى يرفع دونه كل حجاب مضروب ، وكل غشاء مسدول ، فيعرف ربّه وأسماءه ، وصفاته حق المعرفة ، ويشاهده بعين القلب ويسمع كلامه وكلام ملائكته ، ويرى عظمته وسرادقات كبريائه.

فهذه الفتوحات الباطنية بمراتبها ، ميسّرة في وجه الاُمّة ، لم توصد قط.

الاسفار المعنوية الأربعة :

ثم إنّ للسالك من العرفاء والأولياء أسفاراً ، وهي على ما اعتبرها أهل الشهود أربعة.

أحدها : السفر من الخلق إلى الحق.

ثانيها : السفر من الحق إلى الحق بالحق.

ثالثها : السفر من الحق إلى الخلق بالحق.

رابعها : السفر من الخلق إلى الخلق بالحق.

فبعض هذه الأسفار وقطع منازلها وإن كان يختص بأنبيائه ورسله ، إلاّ أنّ السفر الأوّل والثاني ، لا يختصان بهم ، بل يتيسّران لكل سالك الهي ، لا يقصد إلاّ الاناخة في ساحة ربّه ، والنزول على طاعته ، بلا استثناء ، ودونك توضيح ذينك السفرين : ففي السفر الأوّل ، أعني السفر من الخلق إلى الحق ، ترفع الحجب المظلمة ، بين السالك وربّه ،

ص: 234


1- إرشاد القلوب للديلمي ص 329.

فيشاهد جمال الحق ويفني ذاته فيه ، ولأجل ذلك يسمى مقام الفناء. وعندما ينتهي السفر الأوّل يأخذ السالك في السفر الثاني ، وهو السفر من الحق إلى الحق بالحق وإنّما يكون بالحق لأنّه صار ولياً ، وصار وجوده وجوداً حقّانياً ، فيأخذ السلوك من موقف الذات إلى الكمالات واحداً بعد واحد حتى يشاهد جميع كمالاته فيعلم جميع أسمائه كلّها إلاّ ما استأثر به عنده ، فتصير ولايته تامة ، ويفني ذاته وأفعاله وصفاته في ذات الحق وصفاته وأفعاله ، فبه يسمع ، وبه يبصر وبه يمشي وبه يبطش ، وحينئذ تتم دائرة الولاية.

ولعمري لولا خوف الإطالة ، والخروج عمّا هو الهدف الأسمى للرسالة ، لشرحت للقارئ الكريم ، تلكم الاسفار والمواطن واحداً بعد واحد ، وكفانا ما حبرته يراعة العرفاء الشامخين في هذا الباب (1).

وفي الاُمّة الإسلامية رجالاً مخلصون ، لا يدرك شأوهم ولا يشق غبارهم ، اُولئك أولياء اللّه في أرضه وخلفاؤه في خلقه ، تغبطهم النبوّة ، كما قال الرسول صلی اللّه علیه و آله : إنّ لله عباداً ليسوا بأنبياء ، تغبطهم النبوّة (2).

هب أنّ النبوّة قد اُوصد بابها ، إلاّ أنّ باب الفيض المعنوي ، من جانب الإمام الحي علیه السلام بعد مفتوح لم يوصد (3).

ص: 235


1- راجع تعاليق الأسفار الأربعة ج 1 ص 13 - 18 للحكيم السبزواري.
2- حكاه صدر المتألّهين في مفاتيح الغيب ، وقال : هذا الحديث ممّا رواه المعتبرون من أهل الحديث ، من طريقة غيرنا ، نعم لم أقف عليه مسنداً حتى اُحقق حاله.
3- وقد دلّت البراهين الكلامية على أنّ الأرض لا تخلو عن حجّة ، وأنّه لا بد للناس في كل دورة وكورة من إمام معصوم يهدي إلى الرشد - وقد تفرّدت به الشيعة عن سائر فرق الإسلام. وقال أمير المؤمنين: اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم اللّه بحجة: أما ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج اللّه وبيناته وكم ذا وأين أولئك؟ أولئك - واللّه - الأقلون عدداً والأعظمون عند اللّه قدراً، يحفظ اللّه بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعونها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقه بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء اللّه في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم (نهج البلاغة باب الحكم رقم 147).

وقد حقق في أبحاث الولاية الالهية أنّ وجه الأرض والمجتمع الانساني لا يخلو أبداً من انسان كامل ذي يقين ، مكشوف له عالم الملكوت ، وله ولاية على الناس في أعمالهم ، يهديهم إلى الحق ويوصلهم إلى المطلوب بأمر من اللّه سبحانه ، كما هو شأن الإمام في كل عصر ودور ، لقوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة - 24 ).

فهذا الفيض الالهي والعرفان المعنوي ، لم يزل يجري علي المجتمع البشري بأمر منه سبحانه ، وينزل عليهم من طريق الإمام ، ليهديهم سبيل الحق ويرشدهم إلى مدارج الكمال ، حسب استعداداتهم وقابلياتهم.

قال سيدنا الاُستاذ قدس سره : إنّه سبحانه كلّما تعرض لمعنى الإمامة تعرض معها للهداية ، تعرض التفسير قال تعالى في قصة إبراهيم : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ( الأنبياء - 72 - 73 ).

وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة - 24 ).

فوصفهم بالهداية وصف تعريف ، ثمّ قيد هذا الوصف بالأمر فبيّن أنّ الإمامة ليست مطلق الهداية بل هي الهداية التي تقع بأمر اللّه ، فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه ، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم وهدايتهم ، إيصالهم إلى الكمال بأمر اللّه دون مجرد اراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى اللّه سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة (1).

فهذا الباب من الفتوحات الغيبية والفيوض الالهية مفتوح ، في وجه الاُمّة لم يوصد أبداً.

ص: 236


1- الميزان ج 1 ص 274 - 275.
مثل الفضيلة والأخلاق

قد كان لأمير المؤمنين صفوة من الأصحاب يستدر بهم الغمام ، ويندر مثالهم في الدهر كزيد وصعصعة ابني صوحان واُويس القرني والأصبغ بن نباتة ، ورشيد الهجري ، وميثم التمار ، وكميل بن زياد ، وأشباههم ، وكان هؤلاء مثلاً للفضيلة وكرم الاخلاص وخزنة للعلم والاسرار ، منحهم أمير المؤمنين من سابغ علمه واستأمنهم على غامض أسراره ممّا لا يقوى على احتماله غير أمثالهم فجمعوا العلم ، سرّه وجهره ، والفضائل ، نفسية وخلقية ، ذاتية وكسبية ، والعبادة قولاً وعملاً وجارحة وجانحة ، فاكتسبوا من أمير المؤمنين جميع الفعال والخصال وأخذوا عنه أسرار العلم وعلم الأسرار ، حتى زكت بهم النفوس وكادوا أن يزاحموا الملائكة المقرّبين في صفوفهم ، وغبطهم الملأ الأعلى على ما اتصفوا به من كمال الذات والصفات ، فصاروا أهلاً ، لأن يأتمنهم الإمام على نفائس الأسرار وأسرار النفائس فكادوا أن يكونوا بعد التصفية ملائكة مجردة عن النقائص ، لا يعرفون الرذيلة ولا تعرفهم.

فهذا ميثم ، عظيم من حواري علي ، وولي من أوليائه وأحد خريجي مدرسته العالية ، الذين نهجوا في السير على هداه واتبعوه قائداً وقدوة في أمره ونهيه فصار مستودع أسراره وحقل علومه وخاصة حواريه.

كان رسول اللّه يخلو بعلي يناجيه ، وكانت اُم سلمة زوج النبي صلی اللّه علیه و آله تلك البرة الطاهرة ، تلتقط من المناجات درراً ثمينة ، فممّا التقطته منها ، وصاياه لأبي الحسن علیه السلام في ميثم ، فدخل ميثم على اُمّ سلمة وهو يريد الحج ، فقالت له : طالما سمعت رسول اللّه يذكرك في جوف الليل ويوصي بك علياً.

وكان ميثم يصحب الإمام أحياناً إلى الأماكن الخالية وعند خروجه في الليل إلى الصحراء ، فيستمع منه الأدعية والمناجاة ، وكثيراً ما يجلس إليه الإمام في السوق وأفواج الناس ذاهبة وآيبة ، ينظرون الإمام وهو في دكان « ميثم » يسامره ويحادثه ويلقي إليه

ص: 237

دروسه ويميره من العرفان الالهي ، فعلّمه علم المنايا والبلايا ، أي علم الآجال وعلم الحوادث والوقائع التي يبتلى بها الناس ، حتى أخبره أنّه سيصلب على باب عمرو بن حريث.

لم يكن ميثم فريداً من بين أصحاب الإمام وحوارييه ، وإن كان أحد عظمائهم إذ أنّه قد أودع هذا العلم عند من كان يأتمنه عليه من أفذاذ أصحابه الآخرين ، نظراء رشيد الهجري واُويس القرني ، وعمار بن ياسر وعمرو بن الحمق الخزاعي وكميل بن زياد ومن يشابههم في الإيمان الشامخ.

ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغاية ، لنقلنا كثير ممّا دار بينهم من المحادثات حول البلايا والمنايا.

فهذا ميثم نفسه ، وقد قيد على خشبة الصلب يقول للناس رافعاً صوته ، أيها الناس من أراد أن يسمع الحديث المكنون عن علي بن أبي طالب علیه السلام قبل أن اُقتل فواللّه لأخبرنّكم بعلم ما يكون إلى أن تقوم الساعة ، وما يكون من الفتن (1).

لم يكن علي علیه السلام نسيج وحده في تربية هؤلاء العظماء الذين صقلت نفوسهم وتجلّت لهم صور ما في الكون من الحقائق والموجودات ، بل سبقه سيد الرسل فأدّب أناساً ، نهجوا في السير على هداه ، واتبعوه في أمره ونهيه ، وساروا في الطريق الذي رسمه لهم ، فكانوا مثلاً أعلى للفضيلة وكرم الأخلاق وخزنة للعلم والأسرار ، فشاهدوا الخليقة وما فيها من حقائق غامضة ، ورأوا ملكوت السماوات والأرض ، وعاينوا الحقائق العلوية والعوالم الروحية ، من قبل أن يخرجوا من الدنيا.

روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : استقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حارثة ابن مالك بن النعمان الأنصاري ، فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك ؟ فقال : يا رسول اللّه مؤمن حقاً ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة قولك ؟ فقال :

ص: 238


1- راجع في ترجمة ميثم ، كتب الرجال ، ولا سيما « قاموس الرجال » ج 9 ص 164 - 171 وما دبجته براعة الاُستاذ المغفور له الشيخ محمد حسين المظفر حول حياة ميثم.

يا رسول اللّه ! عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري كأنّي أنظر إلى عرش ربّ - ي وقد وضع للحساب ، وكأنيّ أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنّة وكأنيّ أسمع عواء أهل النار في النار ، فقال له رسول اللّه : عبد نوّر اللّه قلبه ، أبصرت فاثبت ، فقال : يا رسول اللّه اُدع اللّه لي أن يرزقني الشهادة معك ، فقال : اللّهمّ أرزق حارثة الشهادة ، فلم يلبث إلاّ أياماً حتى بعث رسول اللّه سرية فبعثه فيها فقاتل ، فقتل تسعة أو ثمانية ثم قتل (1).

أخرج الكليني عن إسحاق بن عمار ، قال سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلّى بالناس الصبح ، فنظر إلى شاب في المسجد فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كيف أصبحت يا فلان ؟ قال : أصبحت يارسول اللّه موقناً ، فعجب رسول اللّه من قوله وقال : إنّ لكل يقين حقيقة ، فما حقيقة يقينك ؟ فقال : إنّ يقيني يا رسول اللّه هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري ، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب ، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم ، وكأنيّ أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون ، وعلى الأرائك متّكئون ، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون مصطرخون ، وكأنّي الآن أسمع زفير النار ، يدور في مسامعي فقال رسول اللّه لأصحابه : هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالإيمان (2).

هذا هو الإيمان المحض والعبودية الخالصة بل أنّه لشأن لا يتوصل إليه بالحس والعلم.

فكم في الاُمّة الإسلامية من ذوي الرتب العلوية ، رجال وأبدال شملتهم العناية الالهية ، فجردوا أنفسهم عن أبدانهم ، حينما أرادوا ، فعاينوا الحقائق واطلعوا على الأسرار.

وقد تضافرت الأحاديث على أنّ في الاُمّة الإسلامية مثل الاُمم السابقة رجالاً مخلصين محدّثين ( بالفتح ) يطلعون على المغيبات باحدى الطرق التي ألمحت إليها

ص: 239


1- الكافي ج 2 ص 54.
2- الكافي ج 2 ص 53.

الروايات.

والمحدث على ما تشرحه الأحاديث من تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤية صورة ، أو يلهم له ويلقى في روعه شيء من العلم على وجه الالهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره.

روى البخاري عن النبي صلی اللّه علیه و آله لقد كان في من كان قبلكم من بني اسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء (1).

روى شيخ الطائفة باسناده عن أبي عبد اللّه قال كان علي علیه السلام محدثاً وكان سلمان محدثاً ، قال : قلت فما آية المحدث ؟ قال : يأتيه ملك فينكت في قلبه ومنّا من يخاطب (2).

قال صدر المتألهين في الفاتحة الحادية عشرة :

« اعلم أنّ الوحي إذا اُريد به تعليم اللّه عباده ، فهو لا ينقطع أبداً ، وإنّما انقطع الوحي الخاصّ بالرسول والنبي من نزول الملك على اُذنه وقلبه » (3).

نعم ليس كل من رمى أصاب الغرض ، وليست الحقائق رمية للنبال ، وإنّما يصل إليها الأمثل فالأمثل ، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية والفتوحات الباطنية إلاّ النزر القليل ممّن خلص روحه وصفا قلبه ، كما كان كذلك في الاُمم السابقة أيضاً.

* * *

ص: 240


1- صحيح البخاري ج 2 ص 149.
2- أمالي الطوسي ص 260.
3- مفاتيح الغيب ص 12.

السؤال الثالث

اشارة

« لا تجد في الكون المادي أمراً خالداً باقياً عبر الأجيال ، والدهور ، أوليس التحول ناموساً عاماً في الفلسفة ؟ وهل في العالم المادي أصل ثابت وموجود خالد ، فكيف يكون الإسلام أمراً ثابتاً » ؟

توضيحه :

أنّ الإسلام قد أعلن بصوت عال أنّه دين اللّه الخالد إلى يوم القيامة ، وأنّه لا شريعة ولا دين ولا كتاب سماوي بعده ، وأنّ قوانينه وتشريعاته غير متغيّرة عبر الأجيال والقرون ، وأنّ حلال محمد صلی اللّه علیه و آله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

وعند ذلك يعترض السائل ويقول : إنّ الكون بعامة أجزائه ، بسمائه وأرضه ، وما تحتويانه ، متغيّر متبدّل ليس له أيّ إستقرار وأنّ الحركة والتبدل والتغيّر في الكون ناموس عام في الفلسفة الالهية والمادية ، وليس لنا في عالم المادة أصل ثابت أبداً ، سوى قولنا : « ليس لنا أصل ثابت » ، ومع هذا الأصل الفلسفي ، كيف يدعي الإسلام بقاءه وثباته ودوامه وصونه عن طوارق التغير والتبدل ؟

الجواب :

قد خلط السائل بين الموجودات المادية والنواميس الحاكمة عليها فانّ المتغير إنّما هو الأوّل ، دون الثاني ، فإنّ السماء وما فيها من الشموس والأقمار والنجوم متغيّرات والأرض سهلها وجبلها والبحر وما تنطوي عليه من عظائم الموجودات لا تستقر على

ص: 241

حالة واحدة ، بل تتقلب من صورة إلى اُخرى ومن حالة إلى ثانية ، والمادة الخارجية غير منفكة عن الفعل والإنفعال في الأحوال كلّها.

هذه هي المادة ، وأمّا النواميس السائدة عليها في نفس الأمر فهي ثابتة أبدية ولا تتغيّر ولا يصيبها التبدّل ولا تقع في مجالات الحركة والتحوّل ، مثلاً المعادلات الرياضية وقانون الجاذبية والثقل النوعي في الموجودات وإنكسار الضوء وأحكام العدسيات وسرعة النور وغيرها من القوانين الفيزياوية ، ثابتة غير متغيرة سائدة في كل الظروف والأزمنة.

على أنّ الإسلام السائد على المجتمع البشري طوال القرون والأجيال ، والباقي إلى مدى الدهور والزمان ، إنّما هو قوانين سماوية ونواميس إلهية شرّعت لإصلاح المجتمع وإسعاده وليس أمراً مادياً أو ظاهرة من ظواهره حتى يعمّه حكم المادة من الحركة والتحوّل والتبدّل ، بل قوانين سماوية سنّها اللّه سبحانه لعباده ، ليبلغهم إلى مدارج الكمال ومعارج العز ...

ثم إنّه ماذا يريد القائل من قوله : « ليس لنا أصل ثابت » فهل هي نظرية ثابتة ، وفكرة باقية مدى الدهور والأيام وأمر غير متغيّر ، أولا ؟ فلو قال بالأوّل ، فقد جاء بأصل ثابت ، وأمر غير متغيّر ، وبالنتيجة يكون قد نقض قاعدته ، وأصله الذي ركن إليه.

وإن قال بالثاني صار الإشكال أعظم إذ يلزم من عدم ثباته ثبات سائر الاُصول ودوامها ، إذ المفروض أنّ قوله : « ليس لنا علم ثابت » ليس حكماً ثابتاً فليزم من عدم صدقه ، صدق نقيضه ، كما هو شأن المتناقضين.

وبذلك يؤاخذ كل من نفى العلم الصحيح المطلق الصادق في جميع الأدوار والشرائط ، لأنّ قولهم هذا ( ليس عندنا علم صحيح مطلقاً ) قد اُلقي بصورة أنّه صحيح مطلق وأنّه صادق على وجه الاطلاق ، ولو قال بأنّه قد اُلقي على الوجه الصحيح النسبي يصير الفساد أكثر لأنّه يستلزم أن يكون غير هذا القول صحيحاً مطلقاً إذ المفروض أنّ سلب الإطلاق عن غيره إنّما هو بالسلب النسبي لا السلب المطلق ولازم

ص: 242

ذلك اتصاف سائر الاُصول بالصحة الاطلاقية (1).

وربّما يستدل على لزوم تطور المجتمع ب « حتمية التاريخ » ويقال : حتمية التاريخ لها دور كبير في الفلسفة المادية وقد اعتمد عليها فطاحل الماديين وغيرهم وفرعوا عليها فروعاً واستنتجوا منهامسائل كثيرة ، وملخّص ما يريدون من هذا الأصل :

انّ ما يحدث في تاريخ الاُمم من صعود وتدهور ، ومن صلح وسلام ، وحرب وكفاح ، واختراع ، واكتشاف ، وظهور انقلابات وثورات ، وتقدم في الانتاج والاقتصاد.

وعلى الجملة ما شاهده تاريخ الاُمم ، أم ما نشاهده في الحضارة العصرية من حوادث وطوارئ وتطور في ألوان الحياة وأشكالها كلّها ، رهين عوامل في نفس المجتمع توجب وجودها ضرورة اجتماعية ، ولا يمكن التحرز عنها أبداً ، ويساق المجتمع إليها عنفاً وجبراً بلا إرادة واختيار.

وهذه العوامل الخلافة ، لألوان الحياة وأشكالها وحوادثها وطوارئها ، لا تدوم على حالة واحدة ، بل تتبدل ويخلفها غيرها ، وهكذا ...

فإذا كان العيش الاجتماعي متطوراً ، كسائر الظواهر الطبيعية ، تطوراً ضرورياً حتمياً ، خارجاً عن إرادة المجتمع واختياره ، فكيف يخضع المجتمع المتحول المتطور ، لتشريع لا يتحول ولا يتبدل ؟

الجواب :

وزان حتمية التاريخ عند الماديين ، وزان القضاء والقدر عند الجبرية ، فكما أنّ هؤلاء يلقون كل حادث وطارئ وكل خير وشر يقع في المجتمع ، على عاتق القضاء والقدر ، ويريحون أنفسهم عن أية مسؤولية ، كذلك يفعل الماديون ، إذ يلقون كل حادث وطارئ وكل خير وشر في المجتمع ، على عاتق الحتمية التاريخية ، ويريحون أنفسهم عن أية مسؤولية.

ص: 243


1- لاحظ اُصول الفلسفة ج 1 ص 212 - تعريب المؤلّف.

لكن هذا الأصل إنّما يصح في بعض الموارد وليس أصلاً كلياً ، صادقاً في عامة نواحي الحياة ، حتى يعود المجتمع البشري آلة صماء مسلوب الإرادة والاختيار ولا عمل له إلاّ تحقيق ما تفرضه تلكم العوامل.

ونلاحظ ثانياً أنّ حتمية التاريخ لا صلة لها بتطور الاجتماع ، وأنّ استنتاج الأمر الثاني من الأمر الأوّل غير صحيح جداً ، بل تطوره وثباته تابع لتطور عامل الاجتماع وثباته ، فإن كان العامل المحرك للحياة الاجتماعية ثابتاً كان هو ثابتاً ، وإن كان ذلك العامل متطوراً ، كان متطوراً.

توضيحه : أنّ العامل المحرك للحياة ، قد يكون عاملاً فطرياً فيكون ثابتاً وباقياً وحاكماً ، ما دام الانسان موجوداً أو أفراده باقية متسلسلة ، وعندئذ فمقتضى هذا العامل وأثره يبقى في المجتمع ثابتاً لا يتغير ، ولا مجال فيه لتحوّل ولا تغير.

مثلاً ، الميل الجنسي أمر فطري في الانسان ، له أثر حتمي ودور عظيم في العيش الاجتماعي ومقتضاه في المجتمع هو الزواج ، وبما أنّه عامل فطري في الإنسان ، فلأثره الخلود في المجتمع البشري.

ودونك مثالاً آخر :

التدين والتوجه إلى ما وراء الطبيعة ، أمر فطري في الناس ، وطالما تجمعت الأسباب القاهرة من عنف الجبابرة ، وفتك الطغاة على أنّ تصرّف بني الانسان عن التدين فما استطاعت انتزاعه ، فالحياة الدينية التي هي جزء من الحياة الاجتماعية موجودة دائماً ، لأنّ لها عاملاً فطرياً لا يزول.

ونحن نعترف بأنّ للعوامل الداخلية التي تستمد من طبيعة المجتمع ، تأثيراً حتمياً في تاريخ الحياة الاجتماعية للانسان لا يختلف ، وهي أثر محتوم لها ، غير أنّ جعل حتمية التاريخ مساوية لتطوّر المجتمع وتحوّله في كل زمان غير صحيح أبداً. بل هناك مسألتان :

1. تطور الاجتماع وتبدله في كل زمان.

ص: 244

2. حتمية التاريخ.

وليست الاُولى من نتائج الثانية ، ومن ثمراتها ، بل الاُولى تابعة في الثبات والتحول لعاملها وعلّتها ، فإن كان عامل الحياة فطرياً ثابتاً ، فأثره حتمي ثابت في العيش الاجتماعي ، وإن كان العامل المحرّك ، أمراً متغيراً طارئاً غير فطري فأثره المحتوم في المجتمع يتغير ويتطور تبعاً لتغيره وتطوره.

مثلاً : استخدام الطبيعة والاستفادة منها في سبيل الحياة ، أمر فطري للبشر لكن التوصل إلى المقصود والاستفادة منه بأدوات خاصة ، كالسهم والنصل والبعير ، ليس أمراً فطرياً ، بل هي تتطور وتتطور معه صور الاجتماع وأوضاعه.

فالانسان الذي كان يركب الدواب في قطع المسافات وتأمين المواصلات أخذ في هذا القرن ، يقطع المسافات ويؤمن مواصلاته بالسيارة والطائرة.

اذن فالقول بتبدل الأشكال والأوضاع الاجتماعية ، استناداً إلى حتمية التاريخ باطل جداً ، وإنّما التبدل وعدمه متوقف على العامل المؤثّر فيه ، فإن كان العامل ثابتاً يثبّت الوضع الاجتماعي المستند إليه ، وإن كان متبدّلاً يتبدل (1).

* * *

ص: 245


1- عن مقال للعلامة الشريف الشهيد مرتضى المطهري.

السؤال الرابع

لزوم اختلاف القوانين والمقتضيات باختلاف ألوان الحياة :

إنّ التطور الاجتماعي يستلزم تطوراً في قوانين الاجتماع ، والقانون الموضوع في ظرف خاصّ ، ربّما يكون مضراً أو غير مفيد أصلاً في ظرف آخر ، ومقتضيات الزمان ( القوانين ) تختلف باختلاف المجتمعات وألوان الحياة ، فما صح الأمس لا يصح اليوم ، وما يصح اليوم ، لا يصح غداً.

توضيحه :

أنّ الهدف من تشريع القوانين والأنظمة الخارجية ، في المجتمع البشري ليس إلاّ تأمين الحياة الاجتماعية له ، وصونها عن التصادم والجدال وحفظها عن الهلاك والبوار.

فالنظام التشريعي ليس أمراً مطلوباً بالذات ، بل هو ذريعة لتأمين الحياة وحفظها عن التحطم.

وعلى هذا ، قد يعترض بأنّ الحياة الاجتماعية ، لو استمرت على وتيرة واحدة لساغ لأي قانون تشريعي كان سائداً في الأزمنة الغابرة ، أن يسود في جميع الظروف والأجواء ، وأمّا إذا لم تكن على وتيرة واحدة بل كانت الحياة في المجتمع الانساني منذ لجأ الانسان إلى الحضارة والعيش الاجتماعي ، متحوّلة ومتغيّرة ، فكيف يصح لقانون موضوع في ظرف أن يطبق في ظرف مباين له.

مثلاً : إذا تأمّل في الدور الذي كانت وسائل النقل فيه منحصرة في الجمال وغيرها

ص: 246

من المواشي ، وكانت الثروات الطبيعية فيه لا تكاد تستغل باستثناء شيء قليل فيها ، وكانت أدوات الحروب الطاحنة فيه ، لا تتجاوز السيف والسهم ، فلا يرتاب في أنّ الحياة الاجتماعية في ذلك الدور ، لا تلتقي مع الدور الذي بلغت فيه حضارة الانسان حدّاً ، سخّر معه الأرض والفضاء ووضع أرض القمر تحت قدميه ، واستخدم الكهرباء والبخار ، وأخذ يقطع المسافات البعيدة بالسيارة والطائرة والصاروخ ، ويواجه العدو في جبهات الحرب بالقنابل الذريّة والهيدروجينية ، إلى غير ذلك من الآلات القاتلة ، فكيف يمكن لقانون واحد ، وضع لتأمين الحياة في مجتمع خاص ، أن يسود في الدورين ؟ وهل القوانين الاجتماعية إلاّ « رد فعل » للأوضاع الاجتماعية المتطورة ، إذ كلّما تغيرت الأوضاع الاجتماعية وتطورت ، فلابد وأن يتبعها « رد فعل » في التغير والتبدل.

الجواب :

انّ للانسان مع قطع النظر عمّا يحيط به من شروط العيش المختلفة ، روحيات وغرائز خاصة تلازمه ، ولا تنفك عنه ، إذ هي في الحقيقة مشخّصات تكوينية له ، بها يتميز عن سائر الحيوانات وتلازم وجوده في كل عصر ولا تنفك عنه بمرور الزمان.

فهاتيك الغرائز الثابتة والروحيات الخالدة ، لا تستغني عن قانون ينظم اتجاهاتها ، وتشريع ينظمها ، وحكم يصونها عن الافراط والتفريط ، فإذا كان القانون مطابقاً لمقتضى فطرته وصالحاً لتعديلها ومقتضياً لصلاحها ومقاوماً لفسادها ، لزم خلوده بخلودها ، وثبوته بثبوتها.

والسائل قد قصّر النظر على ما يحيط به من شروط العيش المختلفة المتبدّلة وذهل عن أنّ للانسان خلقاً وروحيات وغرائز ، قد فطر عليها ، لا تنفك عنه ما دام انساناً ، وكل واحد منها يقتضي حكماً يناسبه ولايباينه ، بل يلائمه ، ويدوم بدوامه ويثبت بثبوته عبر الأجيال والقرون.

ودونك نماذج من هذه الاُمور ليتبين لك بأنّ التطور لا يعم جميع نواحي الحياة ، وأنّ الثابت منها يقتضي حكماً ثابتاً لا متطوراً :

ص: 247

1. إنّ الانسان بما هو موجود اجتماعي ، يحتاج لحفظ حياته وبقاء نسله إلى العيش الاجتماعي والحياة العائلية ، وهذان الأمران من اُسس حياة الانسان ، لا تفتأ تقوم عليهما في جملة ما تقوم عليه منذ بدء حياته.

وعلى هذا ، فإذا كان التشريع الموضوع لتنظيم المجتمع مبنياً على العدالة ، حافظاً لحقوق أفراده ، خالياً عن الظلم والجور والاعتساف ، وبعبارة اُخرى موضوعاً على ملاكات واقعية ، ضامناً لمصلحة الاجتماع وصائناً له عن الفساد والانهيار ، لزم بقاؤه ودوامه ، ما دام مرتكزاً على العدل والانصاف.

2. إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر طبيعي محسوس ، فهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً ، على رغم كل الدعايات السخيفة الكاذبة ، التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما ، ولأجل ذلك ، اختلفت أحكام كل منهما عن الآخر ، اختلافاً يقتضيه طبع كل منها ، فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً لطبعهما ، ظل ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان ، لثبات الموضوع ، المقتضى ثبات محموله ، حسب الاصطلاح المنطقي.

3. الروابط العائلية ، كرابطة الولد بالوالدين ، والأخ بأخيه ، هي روابط طبيعية ، لوجود الوحدة الروحية ، والوحدة النسبية بينهم ، فالأحكام المتفرقة المنسقة ، لهذه الروابط من التوارث ولزوم التكريم ، ثابتة لا تتغير بتغير الزمان.

4. التشريع الإسلامي حريص جداً على صيانة الأخلاق وحفظها من الضياع والانحلال ، ومما لا شك فيه ، أنّ الخمر والميسر والاباحة الجنسية .. ضربة قاضية على الأخلاق ، وقد عالج الإسلام تلك الناحية من حياة الإنسان بتحريمها ، وإجراء الحدود على مقترفيها ، فالأحكام المتعلقة بها ، من الأحكام الثابتة مدى الدهور والأجيال ، لأنّ ضررها ثابت لا يتغير بتغير الزمان ، فالخمر يزيل العقل والميسر ينبت العداوة في المجتمع والاباحية الجنسية تفسد النسل والحرث دائماً ما دامت السماوات والأرض ، فتتبعها أحكامها في الثبات والدوام.

هذا وأمثاله من الموضوعات الثابتة في حياة الانسان الاجتماعي قد حددها

ص: 248

ونظمها الإسلام بقوانين ثابتة تطابق فطرته وتكفل للمجتمع تنسيق الروابط الاجتماعية والاقتصادية على أحسن نسق وحفظ حقوق الأفراد وتنظيم الروابط العائلية.

وحصيلة البحث : أنّ تطور الحياة الاجتماعية في بعض نواحيها لا يوجب أن يتغير النظام السائد على غرار الفطرة ، ولا أن تتغير الأحكام الموضوعة على طبق ملاكات واقعية ، من مصالح ومفاسد كامنة في موضوعاتها ، فلو تغير لون الحياة في وسائل الركوب ، ومعدات التكتيك الحربي و ... مثلاً ، فإنّ ذلك لا يقتضي أن تنسخ حرمة الظلم ووجوب العدل ولزوم أداء الأمانات ودفع الغرامات والوفاء بالعهود والإيمان و ...

فإذا كان التشريع على غرار الفطرة الانسانية ، وكان النظام السائد حافظاً لحقوق المجتمع وموضوعاً على ملاكات في نفس الأمر ، تلازم الموضوع في جميع الأجيال ، فذلك التشريع والنظام يحتل مكان التشريع الدائم.

المقررات المتطوّرة في الإسلام :

إنّ للانسان مع هذه الصفات والمشخّصات الذاتية ، ظروف عيش اُخرى زمانية ومكانية ، لا تزال تتغير ، ويتغير معها وضع الانسان ، من حال إلى حال ، فمثل هذه الظروف الطارئة تتغير أحكامها بتغيرها.

وفي الفقه الإسلامي ، يطلق على الأحكام المتعلقة بهذه الظروف عنوان « المقررات » كما يطلق على الأحكام المتعلقة بالظروف الثابتة ، عنوان « القوانين ».

وهذه المقررات ليست بمعزل عن القوانين الكلية الإسلامية ، ولا تكون اعتباطاً وفوضى بل تجري في ضوء القوانين الكلية الثابتة ، بحيث لا تناقضها ولا تعطّلها ، وإن شئت قلت : إنّ هنا أحكاماً وخطوطاً عريضة تمثل القاعدة المركزية في التشريع الإسلامي وهي مصونة عن التحوّل والتبدل ، مهما اختلفت الأوضاع وتباينت الملابسات.

وهناك أحكام متفرّعة على تلكم الخطوط ، مستخرجة منها ، بإمعان ودراية

ص: 249

خاصة ، يستنبطها الباحث الإسلامي باستفراغ وسعة على ضوء هذه الخطوط العريضة ، بشرط أن لا يصادمها ، وهذا القسم من الأحكام يتجدد بتجدد العهود وتباين الظروف وتعدد الملابسات واختلاف الشرائط.

فمن قواعد الدين الإسلامي ما هو خالد وثابت وهو ما يمس الفطرة الإنسانية وله صلة بالكون والطبيعة ، وما هو متغير ومتبدل ، وهو الذي لا يمس واقع العلاقات الاجتماعية والشؤون البشرية ، ولا يتجاوز حدود الظواهر الاجتماعية وقد منحه هذا التطور ، أسباب الخلود والبقاء والمسايرة مع عامة الحضارات ، بشرط أن لا يصطدم التحوّل على أي أساس مع اُسسه ولا يتجاوز حداً من حدوده.

فالحكم الكلي الذي يعالج القضايا البشرية على غرار الفطرة ، وصعيدها الكوني ، ثابت وخالد في كل العصور والأزمنة ، وإن تطورت الأوضاع الاجتماعية والسياسية واختلفت حاجات الناس فإنّ الأنظمة الإسلامية والدساتير الشرعية ، تساير الفطرة الإنسانية الثابتة ، وتوالي الطبيعة الكونية ، ولا تتخلف عنهما قدر شعرة فإذا كان التشريع معبّراً عن الكون الثابت ، ومبتنياً عليه ، فيخلد بخلوده ويدوم بدوامه.

أجل أنّ تقلّب الأحوال وتحوّل الأوضاع الاجتماعية يتطلب تحوّلاً في السنن والأنظمة ، وتبدّلاً في الأحكام والقوانين ، غير أنّه لا يتطلب تحولاً فيما يمس واقع الانسانية السائدة في جميع الأحوال ومختلف الأوضاع ، كما لا يتطلب تحوّلاً في القوانين الكونية التي أصبحت تدبّر الكون باُصوله الثابتة فلا تتغير النسب الرياضية ولا النتائج الهندسية وإن تطورت الأوضاع وتبدلت الحضارات.

وإنّما المتغير هو المظاهر والقشور ، والشكل التطبيقي لهاتيك الأحكام في مختلف الأوضاع وتطور الاجتماع ، والمتأثّر بالأوضاع هو القسم الثاني لا الأوّل ، ولا ضير فيه فإنّ الدين الإسلامي إنّما يستعرض القضايا التي تمس واقع البشرية ، والمسائل التي لها صلة بالكون والطبيعة ويترك التطبيق بعد لنفس المكلف حسب ظروفه وأحواله.

وبذلك تقف على أنّ التطور والتحوّل ، فيما كتب له التغير والتبدل جزء جوهري

ص: 250

للدين ، عنصر داخل في بناء التشريع الإسلامي كما أنّ الثبات والدوام فيما فرض له ذلك ، أحد عناصر الدين ومن أجزاء ذاك البناء التشريعي السامي فتجريده من أي واحد من عنصريه يوجب انحلال المركب وفناء الدين ، وتأخره عن مسايرة المواكب الحضارية.

قال سيدنا الاُستاذ ( رضوان اللّه عليه ) : هناك أحكام شرعية ثابتة لا يعرض عليها التغيير والاختلاف ، ولا يمكن أن تتأثر باختلاف البيئة والمحيط بشكل من الأشكال.

وهناك لون آخر من المقررات الاجتماعية التي تجري باشراف من هيئة الولاية العامة ، تختلف باختلاف الظروف وتتأثر باختلاف البيئات والأزمنة.

ولتوضيح الأمر نستعير شاهداً من الظواهر الاجتماعية التي نعيشها في حياتنا الخاصة.

لنفترض أنّ مواطناً يرأس عائلة صغيرة ، ويدير اُمور العائلة الداخلية في حدود مقررات البلاد العامة. فيأمر بعض أفراد العائلة بالقيام بهذا الشأن من شؤون البيت ، ويأمر آخرين منهم بشأن آخر من شؤون العائلة ويحدد اختيارات كل واحد منهم في البيت في حدود مصلحة العائلة ويأمر بالانقطاع عن العمل يوماً أو يومين للاستجمام ويأمر بالاستمرار في العمل في حدود ما تقتضيه مصلحة العائلة ، وحسب ظروف البيت الخاصة ...

وفي الوقت الذي يملك هذا الشخص كل هذه الصلاحيات الواسعة في الإدارة والسلطة لا يسمح له أن يخرج عن دائرة مقرّرات البلاد العامة في شأن من الشؤون أو يتجاوز حدود النظام العام بشكل من الأشكال.

وممّا تقدم يتضح أنّ المقرارات المرعية في محيط هذه العائلة على نوعين :

نوع يتسم بطابع الثبات والبقاء.

ونوع يتعرض للاختلاف والتغيير حسب ما تقتضيه مصلحة البيت.

والنسبة ذاتها قائمة بين الشريعة الإسلامية ، التي يطبعها طابع من الثبات

ص: 251

والبقاء ، والمقررات التي تختلف باختلاف الظروف والمصالح الاجتماعية والتي تدور في فلك الشريعة من غير أن تتجاوزها بحال من الأحوال (1).

ودونك نماذج من هذا القسم ، أي من الأحكام المتطورة المتغيرة بتغيّر الزمان :

1. في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية : يجب على الدولة الإسلامية أن تراعي مصالح الإسلام والمسلمين ، فهذا أصل ثابت وقاعدة عامة ، وأمّا كيفية تلك الرعاية ، فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية ، فتارة تقتضي المصلحة السلام والمهادنة والصلح مع العدو ، واُخرى تقتضي ضد ذلك.

وهكذا تختلف المقررات والأحكام الخاصة في هذا المجال ، باختلاف الظروف ولكنّها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي هو رعاية مصالح المسلمين ، كقوله سبحانه :

( وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) ( النساء - 141 ).

وقوله سبحانه : ( لا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) .

( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الممتحنة 8 - 9 ).

2. العلاقات الدولية التجارية : فقد تقتضي المصلحة عقد اتفاقيات اقتصادية وإنشاء شركات تجارية أو مؤسسات صناعية ، مشتركة بين المسلمين وغيرهم ، وقد تقتضي المصلحة غير ذلك. ومن هذا الباب حكم الإمام المغفور له ، الفقيد المجدد ، السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران وانكلترا ، إذ كانت مجحفة بحقوق الاُمّة المسلمة الإيرانية لأنّها خوّلت لانكلترا حق احتكار التنباك الإيراني.

ص: 252


1- نظرية السياسة والحكم في الإسلام ص 37 - 39.

3. الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من الأعداء ، قانون ثابت لا يتغير ، فالمقصد الأسنى لمشرع الإسلام ، إنّما هو صيانة سيادته عن خطر أعدائه وأضرارهم ولأجل ذلك أوجب عليهم تحصيل قوّة ضاربة ضد الأعداء ، واعداد جيش عارم جرار تجاه الأعداء كما يقول سبحانه : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ) ( الأنفال - 60 ) فهذا هو الأصل الثابت في الإسلام الذي يؤيده العقل والفطرة أمّا كيفية الدفاع وتكتيكه ونوع السلاح ، أو لزوم الخدمة العسكرية وعدمه ، فكلّها موكولة إلى مقتضيات الزمان ، تتغير بتغيره ، ولكن في إطار القوانين العامة فليس هناك في الإسلام أصل ثابت ، حتى مسألة لزوم التجنيد العمومي ، الذي أصبح من الاُمور الأصلية في غالب البلاد.

وما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب ، أو وضع كتاب خاص ، لأحكام السبق والرماية ، وغيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الأزمنة الغابرة ونقل أحاديث في ذلك الباب ، عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وأئمّة الإسلام ، فليست أحكامها أصلية ثابتة في الإسلام ، دعا إليها الشارع بصورة أساسية ثابتة ، بل كانت هي نوع تطبيق لذلك الحكم الغرض منه ، تحصيل القوّة الكافية ، تّجاه العدو في تلكم العصور وأمّا الأحكام التي ينبغي أن تطبق في العصر الحاضر ، فانّه تفرضها مقتضيات العصر نفسه (1).

فعلى الحاكم الإسلامي تقوية جيشه وقواته المسلحة بالطرق التي يقدر معها على صيانة الإسلام ومعتنقيه عن الخطر ويصد كل مؤامرة عليه من جانب الأعداء حسب

ص: 253


1- قال المحقق في الشرائع ص 152 وفائدة السبق والرماية : بعث النفس على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال وهي معاملة صحيحة. وقال الشهيد الثاني في المسالك في شرح عبارة المحقق : لا خلاف بين المسلمين في شرعية هذا العقد ، بل أمر به النبي في عدة مواطن لما فيه من الفائدة المذكورة وهي من أهم الفوائد الدينية لما يحصل بها من غلبة العدد في الجهاد لأعداء اللّه تعالى ، الذي هو أعظم أركان الإسلام ولهذه الفائدة يخرج عن اللّهو واللعب المنهى عن المعاملة عليهما. فإذا كانت الغاية من تشريعهما الاستعداد للقتال والتدرب للجهاد، فلا يفرق عندئذ بين الدراج في زمن النبي صلی اللّه عليه وآله وسلم وغيره أخذاً بالملاك المتيقن.

إمكانيات الوقت.

والمقنّن الذي يتوخّى ثبات قانونه ودوامه وسيادة نظامه الذي جاء به ، لا يجب عليه التعرض إلى تفاصيل الاُمور وجزئياتها ، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليات والاُصول ليساير قانونه جميع الأزمنة بأشكالها وصورها المختلفة ، ولو سلك غير هذا السبيل لصار حظه من البقاء قليلاً جداً.

4. نشر العلم والثقافة ، واستكمال المعارف التي تضمن سيادة المجتمع مادياً ومعنوياً يعتبر من الفرائض الإسلامية ، أمّا تحقيق ذلك وتعيين نوعه ونوع وسائله فلا يتحدد بحد خاص ، بل يوكل إلى نظر الحاكم الإسلامي ، واللجان المقررة لذلك من جانبه حسب الامكانيات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة.

وبالجملة : فقد ألزم الإسلام ، رعاة المسلمين ، وولاة الأمر نشر العلم بين أبناء الانسان واجتثاث مادة الجهل من بينهم ومكافحة أي لون من الاُمّية ، وأمّا نوع العلم وخصوصياته ، فكل ذلك موكول إلى نظر الحاكم الإسلامي وهو أعلم بحوائج عصره.

فرب ، علم لم يكن لازماً ، لعدم الحاجة إليه ، في العصور السابقة ، ولكنّه أصبح اليوم في الرعيل الأوّل من العلوم اللازمة التي فيها صلاح المجتمع كالاقتصاد والسياسة.

5. حفظ النظام وتأمين السبل والطرق ، وتنظيم الاُمور الداخلية ورفع مستوى الاقتصاد و ... من الضروريات ، فيتبع فيه وأمثاله مقتضيات الظروف وليس فيه للإسلام حكم خاص يتبع ، بل الذي يتوخّاه الإسلام هو الوصول إلى هذه الغايات ، وتحقيقها بالوسائل الممكنة ، دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل وإنّما ذلك متروك إلى امكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر ، وكلّها في ضوء القوانين العامة.

6. قد جاء الإسلام بأصل ثابت في مجال الأموال وهو قوله سبحانه : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) وقد فرّع الفقهاء على هذا الأصل شرطاً في صحة عقد البيع أو المعاملة فقالوا : يشترط في صحة المعاملة وجود فائدة مشروعة وإلاّ فلا تصح المعاملة ومن هنا حرّموا بيع ( الدم ) وشراءه.

ص: 254

إلاّ أنّ تحريم بيع الدم أو شراءه ليس حكماً ثابتاً في الإسلام بل التحريم كان في الزمان السابق صورة إجرائية لما افادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل وكان بيع الدم في ذلك الزمان مصداقاً له فالحكم يدور مدار وجود الفائدة ( التي تخرج المعاملة عن أن تكون أكل المال بالباطل ) وعدم تحقق الفائدة ، فلو ترتبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شراءه فسوف يتبدل حكم الحرمة إلى الحلية ، والحكم الثابت هنا هو قوله تعالى : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) .

وفي هذا المضمار ورد أنّ علياً علیه السلام سئل عن قول الرسول صلی اللّه علیه و آله : « غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود » ؟ فقال علیه السلام : « إنّما قال صلی اللّه علیه و آله ذلك والدين قلّ ، فأمّا الآن فقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار » (1).

وفي الختام نأتي بما أفاده الشيخ الرئيس ابن سينا في هذا المقام في الشفاء قال :

ويجب أن يفوض كثير من الأحوال خصوصاً في المعاملات إلى الاجتهاد فإنّ للأوقات أحكاماً لا يمكن أن تنضبط وأمّا ضبط المدينة بعد ذلك بمعرفة ترتيب الحفظة ومعرفة الدخل والخرج واعداد اهب الأسلحة والحقوق والثغور وغير ذلك فينبغي أن يكون ذلك إلى السائس من حيث هو خليفة ولا تفرض فيها أحكام جزئية فإنّ في فرضها فساداً لأنّها تتغيّر مع تغيّر الأوقات وفرض الكليات فيها مع تمام الاحتراز غير ممكن فيجب أن يجعل ذلك إلى أهل المشورة (2).

وفي الختام نعطف نظر القارئ إلى نكتة ، وهي : أنّ عنوان « مقتضى الزمان » و « حتمية التاريخ » وغيرهما من العناوين صار رمزاً ، لكل من أراد أن يتحرّر من القيم الأخلاقية ، ويعيش متحلّلاً من كل قيد وحدّ ، خالعاً كل عذار ، والكثير من أفراد الانسان في العصر الحاضر ، حينما رأوا ، الاباحة الجنسية واختلاط الرجال والنساء ، واتخاذ الملاهي على أنواعها وشرب المسكر واللعب بالميسر واقتراف المعاصي واخذ الربا مما راج

ص: 255


1- نهج البلاغة الحكم رقم 16.
2- الشفاء قسم الالهيات ص 566.

في البيئات الغربية بلا استنكار وقد حرّمها الشرع ورفضتها قوانين الأخلاق الصحيحة ، والفطرة السليمة ، لم يجدوا مبرّراً لاقترافها والانصياع التام لشهواته الجامحة إلاّ بأن يتمسكوا باحدى هذه العناوين ، وليست الغاية من هذه القالة عنده ، إلاّ اقتراف السيئات والانغمار في الشهوات.

كما أنّ هذه العناوين قد صارت ملجأ لكل من أراد هدم الثقافة الشرقية الأصيلة وتحويرها ، وسوق الشرق إلى الإنصياع لتوجيهات الغرب وتناسي كل ما كان له من كرامة قديمة وقطع صلته بها.

ترى المنادين باستعمال الحروف اللاتينية بدل الحروف الشرقية الإسلامية يتمسكون باعذار ، ويستدلون باُمور منها : كون ذلك من مقتضيات الزمان ، ونتيجة يحتمها التاريخ ، غير أنّ الباحث الحر ، يرى للقديم كرامته الموروثة وللحديث نضارته الموجودة ، فيأخذ منها كل ما يليق بالأخذ ويصلح للاقتفاء فلا يعقد حلفاً مع كل قديم حتى الخرافات ولا يكب على كل حديث وإن أضر به وبكرامته وشرفه.

فعلى كل من يريد أن يحافظ على كرامة الانسان وكيانه وقيمه الأخلاقية ، أن يتوخّى الأصلح من مقتضيات الزمان ويصلحه على ضوء العقل والفطرة ، لا أن يطبق عمله عليه ، فليس مقتضى العصر وحياً اُوحي إلى المجتمع ، مصوناً عن الخطأ أو نقياً عن الاشتباه.

على أنّ هؤلاء المتشدّقين بأمثال هذه العبارات ، تقليداً للغرب والحضارة الغربية بلا تأمّل ولا روية ، قد عزب عنهم أنّ « هذه الحتمية » و « اقتفاء مقتضى الزمان » التي ينادون بها ، غير معترف بها عند أعيان القوم ، ومفكري المجتمعات ، بل أكابرهم فيها ، فكم نبّه علماء وحذر مفكرون من أبناء الغرب ، من عواقب السير على منهج هذه الحضارة ، واستخفّوا خطتها وتنبّأوا بانهيارها ونادوا بوجوب نقض اُسسها (1).

ص: 256


1- نذكر على سبيل المثال منهم ، العلامة « الكسيس كارل » فارجع إلى ما حرره في كتابه « الانسان ذلك المجهول ».

ولأجل أن يقف القارئ الكريم على موقف الإسلام فيما يرجع إلى التطور الزمني نتوقف في المقام قليلاً ونقول :

الإسلام والتطوّر الزمني :

لا نجد بين الشرائع السماوية شريعة قد تدخلت في جميع شؤون الناس كالإسلام ، حيث لم يكتف في مقرراته وتعاليمه على تعريف الناس بالأذكار والأوراد التي تربطهم بالخالق أو على ابداء النصائح الأخلاقية لهم فحسب ، بل أنّه بين كافة ما يهم المجتمع من حقوق ووظائف فردية واجتماعية ، ووضع الخطوط العريضة لكل قضايا الانسان في هذه الحياة ، وقد اعترف بهذه الحقيقة كثير من المفكرين والكتاب غير المسلمين الذين كتبوا عن الإسلام ووصفوا قوانين الإسلام بأنّها أرقى القوانين التي تعالج قضايا الانسان ، وذلك حيث أنّها تمتلك مادة حيويه ومرونة تخوّلها أن تعيش خالدة لكل الظروف.

ومن ذلك ما قاله المفكر الانجليزي ( برناردشو ) : أنا أحترم دين محمد لأنّه دين حر ولأنّه الدين الوحيد الذي يقبل الانطباق مع الصور المختلفة في الحياة ، وأضاف يقول : وأنا أتنبّأ بأنّ دين الإسلام سوف تعتنقه اُوربا.

وقال الدكتور شبلي شميل ، الكاتب المادي المعروف في مقال له تحت عنوان « القرآن والاعمار » نشره في الجزء الثاني من كتابه ( فلسفة النشوء والارتقاء ) الذي قرر فيه فرضية « دارون » مع شرح « بخنر » الالماني لها ، وردّ فيه على بعض الغربيين الذين زعموا أنّ الإسلام هو سبب تأخّر المسلمين قال : إنّ انحراف المسلمين عن تعاليم دينهم هو سبب انحطاطهم ، وأنّ الذين يزعمون بأنّ الإسلام هو المسؤول عن تأخر المسلمين وانحطاطهم أمّا جاهلون بحقيقة الإسلام ، أو أنّهم يريدون بهذا أن يمهّدوا الطريق لاستعمار الغرب للشرق الإسلامي.

ولأجل ذلك نواجه اليوم كثيراً من الشباب يتساءل عن مدى انطباق قوانين

ص: 257

الإسلام على التطورات الزمنية المختلفة وقدرته على قيادة الانسانية إلى السعادة والرفاه ؟

بين الجمود والجهل :

القرآن الكريم يصف الانسان بأنّه ظلوم جهول ، وصدق اللّه العظيم ، فمن الناس من يريد التحرّر من قيود الانسانية ، والتجاوز عن كل الضوابط الأخلاقية بحجة رفض كل ما هو قديم وقبول كل ما هو جديد في حياة البشر ، ويعيش إباحياً لأنّ تطور الزمن يقضي بذلك ، فهذا هو الانسان الظلوم.

ومنهم من يمشي على عكس الأوّل ، يحب كل ما هو قديم ويشجب كل ما هو جديد وينسب ذلك إلى الإسلام ، فيظن أنّ الإسلام جاء لابقاء القديم على قدمه ، دون أن يفرق في ذلك بين الوسائل والأهداف والقشور واللباب ، ولذلك فهو يتقيد بالكتابة بأقلام القصب أو الاستحمام في الخزائن ، أو الأكل باليد ، أو الاستفادة من المصابيح القديمة وما شاكل ذلك ، وهذا هو الانسان الجهول.

فالظلوم لطغيانه يهدّم أساس الشريعة ويمحق تعاليمها ، والجهول يعرّض الدين بغير ما هو عليه من التطور والمرونة فينفر الناس عنه ، فهما بين افراط وتفريط.

النسخ غير المرونة :

إنّ بعض الكتّاب الذين يتظاهرون بالإسلام يفسرون تطور الإسلام الزمني بما يؤدي إلى محق أحكام الإسلام والقضاء عليها فاُولئك يزعمون أنّ التعاليم الإسلامية تدخل تحت اُطر ثلاثة :

اُولاها : اطار الاُصول العقائدية كالتوحيد والنبوّة والمعاد.

ثانيها : اطار الأحكام العبادية كالصلاة والصوم وما شاكل.

وثالثها : اطار القوانين التي ترتبط بشؤون الحياة.

فيزعمون أنّ الثابت من تعاليم الدين ليس إلاّ ما يدخل تحت اطار الأوّل والثاني

ص: 258

فقط ، وأمّا ما يرتبط بالاطار الثالث من القوانين الاجتماعية فليست من صميم الدين وبالامكان تغييرها واحلال ما تقتضيه مقتضيات الزمان مكانها في هذه المجالات.

أقول : إنّ القائل بهذه المقالة ممّن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ويريد حصر الإسلام في المسجد ، لتخلو الساحة الاجتماعية لغيره لكي يلعبوا ما يشاؤون ، ويستوردوا القوانين الاجتماعية من هنا وهناك ويملأوا بها الفراغ وتكون النتيجة أنّ مصائر المسلمين يتحكم فيها أعداؤهم ويضعون لهم خطوط المسيرة.

إنّنا نرى القرآن الكريم يشبه المسلمين بالزرع الذي من خواصّه النمو والحياة يقول سبحانه : ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) ( الفتح - 29 ).

فقوانين الإسلام بما هي مشتملة على المادة الحيوية وبما هي ذات مرونة تنطبق مع كل الظروف والحضارات الانسانية ولا تحتاج إلى تغييرها واقامة غيرها مكانها ولأجل هذه الخصيصة أصبح المسلمون بفضل الإسلام ذوى نمو وارتقاء في مجالات الحياة.

* * *

ص: 259

السؤال الخامس

ادعاء النقص في التشريع الإسلامي :

« كلّما تكاملت نواحي الحضارة ، وتشابكت وتعددت ألوانها ، واجه المجتمع أوضاعاً وأحداثاً جديدة ، وطرحت عليه مشاكل طارئة ، لا عهد للأزمنة السابقة بها ، إذ لم تتعرض تشريعاتها ، لأي هذه الأوضاع والأحداث والمشاكل بحكم من الأحكام إذن فحاجة المجتمع إلى قوانين وتشريعات جديدة ، لا تزال تتزايد كل يوم ، تبعاً لذلك ».

توضيح السؤال :

لا يرتاب ذو مسكة في أنّه كلّما توسّع نطاق الحضارة وبلغ البشر من التمدن ما بلغ ، احتاج في تنظيم حياته إلى قوانين جديدة ، وتشريعات خاصة ، أزيد ممّا كان محتاجاً إليها في الظروف الغابرة ، وبما أنّ الحضارة الإنسانية ، ما زالت تتوسّع وتتكامل ، ولا تقف عند حد ، فما زال الانسان تبعاً لذلك ، تتوسّع حاجته إلى قوانين وتشريعات جديدة ، متكاملة فكيف يمكن أن تعالج القوانين المحدودة الموضوعات الكثيرة ، غير المحدودة ؟! (1).

ص: 260


1- الفرق بين هذا السؤال وما سبق من السؤال الرابع واضح ، إذ الرابع يرجع إلى لزوم اختلاف القوانين والمقتضيات ، حسب اختلاف اشكال الحياة في الاجتماع ، وتبدلها من دون نظر إلى طروء حوادث لم يكن منها أثر في العهود السابقة ، وهذا الوجه يرجع إلى اثبات وجود النقص في ناحية التشريع الإسلامي ، وعدم إيفائه بالحوادث الجديدة والوقائع الطارئة التي يوجبها تكامل الحضارة وتشعّباتها وتعددها ، ولم يكن لها أثر في زمن الرسالة ودور نزول القرآن.

ويلاحظ بأنّ الإسلام ، هو الذي يواجه وحده ، بهذا الاشكال من بين سائر الشرائع ، إذ ليس الإسلام عبارة عن تعاليم منحصرة في عدة أحكام عبادية وأخلاقية تؤدّى بصورة فردية ، بين الانسان وربّه ، أو بينه وبين نفسه ، دون أن يتدخل في تحديد المناهج الاجتماعية والعلاقات الانسانية والمدنية ، وليس منحصراً في هذه المقررات البسيطة ، حتى لا يكون وافياً في جميع الأزمنة ، بالغاية التي يهدف إليها وإنّما هو نظام تشريعي كامل ، قد تدخل في شؤون المجتمع كافة ، فهو ذو قوانين مدنية وقضائية وسياسية واجتماعية وعسكرية وعائلية ، كفيلة باغناء البشرية ، عن كل تشريع سوى تشريعه ، وعن كل اصلاح غير اصلاحه ، فهذه القوانين المحدودة كيف تغني المجتمع البشري عن ممارسة التشريع في الحوادث والموضوعات التي لم يكن بها عهد زمن نزول القرآن وبعثة الرسول ؟

وفي هذه النقطة ، تفترق المسيحية عن الإسلام ، إذ هي لا تتجاوز في تشريعها نطاق الأخلاق الفردية والتعبّد لله ، بصلاة وصوم ، في وقت معين ، أمّا مناهج الحياة الاجتماعية وتنظيمها وتنسيق معاملاتها ، ذلك ما يقرّه المجتمع نفسه ، ويفوّضونه إلى السلطات الحاكمة.

ولكن الإسلام يتعرض لكل شأن من شؤون الحياة ، ويقنّن ويشرّع لكل أمر من اُمور المجتمع ، المدنية والمعاشية ، بالاضافة إلى تشريعاته وقوانيه الأخلاقية ، والعبادية الفردية ، ويسد باب التشريع في ذلك على غيره ، فالسلطة التشريعية بيده وحده ، وعلى المجتمع أن يختار السلطة التنفيذية والسلطة القضائية فقط ، ضمن ما يشرعه الإسلام.

وملخص السؤال ، انّ المجتمع الإنساني ، يواجه أوضاعاً وأحداثاً جديدة تطرح عليه مشاكل لاعهد للأزمنة السابقة بها ، فلا نجد في التشريع الإسلامي لهذه الأوضاع والأحداث حكماً من الأحكام ، إذن فحاجة المجتمع إلى قوانين وتشريعات جديدة لا تزال تتزايد كل يوم تبعاً لذلك ، وبما أنّ نصوص الشريعة من الكتاب والسنّة محدودة ، وحوداث المجتمع غير محدودة ، فكيف يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث الطارئة غير المتناهية ؟

ص: 261

الجواب :

انّ خلود التشريع وبقاءه في جميع الأجيال ومسايرته للحضارات الانسانية ، واستغناءه عن كل تشريع سواه ، يتوقف على وجود أمرين فيه :

الأوّل : أن يكون التشريع ذا مادة حيوية خلاقة للتفاصيل بحيث يقدر معها علماء الاُمّة والاخصائيون منهم على استنباط كل حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كل عصر من الأعصار.

الثاني : أن ينظر إلى الكون والاجتماع بسعة وانطلاق ، مع مرونة خاصة تماشي جميع الأزمنة والأجيال ، وتساير الحضارات الانسانية المتعاقبة.

وقد أحرز التشريع الإسلامي كلا الأمرين :

أمّا الأمر الأوّل ، فقد أحرزه بتنفيذ اُمور :

الأوّل : الاعتراف بحجية العقل في مجالات خاصة :

انّ من سمات التشريع الإسلامي التي بها يمتاز عن سائر التشريعات ، ادخال العقل في دائرة التشريع ، والاعتراف بحجيته في الموارد التي يصلح له التدخل والقضاء فيها ، فالعقل أحد الحجج الشرعية وفي مصاف المصادر الاُخر للتشريع وأنّه يكشف عن الحكم الشرعي ويبيّن وجهة نظر الشارع في مورده ، وأنّ من الممتنع أن يحكم العقل بشيء ولا يحكم الشرع على وفاقه أو يحكم بخلافه ، فالملازمة بين العقل والشرع حتمية.

ولا يهمنا البحث في أنّ ما يدركه العقل في مورد هل هو نفس الحكم الشرعي ومن صميم التشريع الإسلامي أو أنّه يكشف عن نظر الشارع إذا توفرت فيه الشروط التي اعتبرها الشارع في حجية ادراكاته.

وإنّما المهم أن نقف على أنّ العقل احتل محلاًّ خاصاً في التشريع الإسلامي وانّ كل ما يحكم به العقل فكأنّه ينطق على لسان الشرع كالكتاب والسنّة ، فعند ذاك اعتمد

ص: 262

عليه في تبليغ الأحكام إلى الناس كما اعتمد على القرآن والسنّة.

وقد فتح هذا الاعتراف للإسلام بقاء وخلوداً ، وجعله صالحاً للانطباق مع عامة الحضارات الانسانية ، وغدا التشريع الإسلامي في ضوئه ذا سعة وانطلاق وشمول لما يتجدد من الأحداث ولما يطرأ من الأوضاع الاجتماعية الجديدة.

هذا بخلاف ما إذا اعتبرناه عنصراً غريباً في صعيد التشريع وعزلناه عن الحكم ورفضنا كل ما يدركه من الأحكام العقلية المحضة ، فإنّه يؤدي إلى تجميد المخطط القانوني وعدم صلاحيته للحكم والتطبيق في البيئات والظروف الاجتماعية المختلفة.

نعم ليس معنى الاعتراف بحجية العقل ، أنّه يطلق سراحه في جميع المجالات حتى يتاح له ( بما اُوتي من امكانات ووسائل محدودة ) أن يتسرّع في الحكم في مصالح الفرد والمجتمع وشكل العلاقات والروابط الاجتماعية والعبادات والأحكام التوقيفية.

بل فسح له الحكم في مجالات خاصة إذا توفرت فيه الشرائط التي تصونه عن الاشتباه والخطأ واقترن بالضمانات الكافية التي تحفظه عن الزلل ، وسوف نشير إلى هذه الشرائط والضمانات ، وستوافيك نماذج من الأحكام العقلية في هذا البحث.

فالقارئ الكريم إذا لاحظ كتاب اللّه العزيز وسنّة نبيّه صلی اللّه علیه و آله وعترته علیهم السلام يرى فيهما الحث البالغ الأكيد على التدبّر والتفكّر والتعقّل لما يعسر على الانسان الاحاطة والاحصاء ولنكتف بذكر بعض ما اثر في المقام.

قال الإمام الطاهر موسى بن جعفر علیه السلام لتلميذه هشام :

إنّ اللّه تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال : ( ... فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبَابِ ) ( الزمر 17 - 18 ).

يا هشام : إنّ اللّه تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيين بالبيان ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة فقال : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ

ص: 263

وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ( البقرة - 164 ).

يا هشام : ثم وعظ أهل العقل ورغّبهم في الآخرة فقال : ( وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( الأنعام - 32 ).

يا هشام : إنّ العقل مع العلم فقال : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ) ( العنكبوت - 43 ).

ثم ذم الذين لا يعقلون فقال : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( البقرة - 170 ).

يا هشام ثم ذكر اُولي الألباب بأحسن الذكر وحلالهم بأحسن الحلية فقال : ( يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَلْبَابِ ) ( البقرة - 269 ).

يا هشام : إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) يعني : عقل.

وقال ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ ) ( لقمان - 12 ) قال : الفهم والعقل.

يا هشام : ما بعث اللّه أنبياءه ورسله إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن اللّه فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة وأعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلاً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام : إنّ لله على الناس حجّتين : حجة ظاهرة وحجة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة وأمّا الباطنة فالعقول (1).

وقال الصادق : حجة اللّه على العباد ، النبي ، والحجة في ما بين العباد وبين اللّه ،

ص: 264


1- الكافي ج 1 ص 13 - 16 ولم ننقله بطوله وإنّما اقتبسنا مقتطفات منه.

العقل.

هذا الحديث وما قبله وغيرهما يعرب عن نظر الإسلام السامي في الأحكام التي يستقل بها العقل بشرط أن يتجرّد عن الرواسب المنحرفة والغرائز الحيوانية والعواطف الانسانية ويحكم حكماً باتاً عقلانياً محضاً غير منبعث عن هذه الجوانب ويحترز عن بعض الأساليب التي منع الشارع عن أعمالها في طريق استنباط الحكم الشرعي كالاقيسة والاستحسانات.

نعم لا يخلص الحكم العقلي من الزلل والخطأ إلاّ بعد ملاحظة اُمور :

1. قصور الفكر الانساني وعجزه عن الاحاطة بمسائل الكون والنفس والاجتماع وضعف المدارك الحسية التي تربط الانسان بالواقع الاجتماعي والنفسي والكون الذي يعيشه.

2. تأثّر الفكر الانساني بالجانب الانفعالي والحيواني من النفس كالغرائز النفسية والدوافع الحيوانية المستقرة في النفس التي لا تتخلّص منها النفس والفكر إلاّ بعد جهد شاق.

3. انطباع الفكر بالرواسب اللاشعورية والأعراف والتقاليد التي يرثها الانسان من البيئة الاجتماعية والتي تنتقل في المجتمع مع الأجيال من دون أن تفقد تأثيرها الخاص واطارها الاجتماعي الذي يسبغ عليها جانباً قدسياً في المجتمع.

وقد حاول الإسلام أن يحقق الضمانات الكافية التي تعصم الفكر من هذه الوجوه الثلاثة في مجال الحكم والتشريع.

كما حاول الإسلام من جانب أن يفسح المجال للعقل في الحكم ليحفظ الدستور ويصلح للحكم والتطبيق في البيئات والظروف المختلفة.

ومن جانب آخر حاول الإسلام أن يحفظ العقل ممّا يمكن أن يحفظ به إلى المستويات الحيوانية واللاشعورية أو ممّا تقصر عنه امكاناته العلمية (1).

ص: 265


1- لاحظ المدخل إلى دراسة التشريع الإسلامي ص 107 - 108.

قال العلاّمة الحجة الشيخ محمد حسين الاصفهاني : إنّ القضايا المشهورة على أقسام :

منها ما فيه مصلحة عامة : كالعدل حسن ، والجور قبيح ، وعبّر عنها بالتأديبات الصلاحية.

منها : ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة كالحكم بقبح كشف العورة لانبعاثه عن الحياء وهو خلق فاضل.

منها : ما ينبعث عن رقة أو حمية أو أنفة أو غير ذلك واستلزام الحسن والقبح عقلاً للحكم الشرعي بالمعنى المتقدم في ما كان منشأه المصالح العمومية واضح لأنّ الشارع يرعى المصالح العمومية وكذا ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة لأنّ المفروض أنّها ملكات فاضلة ، والمفروض انبعاث الحكم بالحسن والقبح عنها وأمّا ما ينبعث عن انفعالات طبيعية من رقة أو حمية أو أنفة أو غير ذلك فلا موجب لاشتراك الشارع مع العقلاء.

ولذا ترى الشارع ربّما يحكم لحكمة ومصلحة خاصة بما لا يلائم الرقة البشرية كالحكم بجلد الزاني والزانية غير ذات البعل مع كمال التراضي (1).

وللشيخ الرئيس في اشارته كلام يوقفنا على أقسام الادراكات العقلية فراجع الاشارات وشرحها للحكيم الطوسي (2).

فإذا توفرت في الحكم العقلي هذه الشرائط وكان حكمه منبعثاً عن الجانب العقلي المحض ، غير متأثر عن الجوانب اللاشعورية ، والغرائز الحيوانية والعواطف الانسانية ، وتجنب عن الأساليب الممنوعة وحكم من صميم التدبّر والتفكّر بحكم بات ، يصير حجة بين اللّه وعبده ، وحينئد يجب السير والسلوك على مقتضى حكمه وتنفيذ ما يقضي به تأسيساً أو تحديداً لاطلاق حكم شرعي أو تخصيصاً لعمومه ويصير عند ذاك أحد

ص: 266


1- نهاية الدراية ج 2 ص 130.
2- الاشارات ج 1 ص 220 ط طهران.

الأدلة التي يستنبط منها ، الحكم الشرعي ويدور عليها رحى الاستنباط ، ويعد قريناً للكتاب والسنّة ، والاجماع ولا ينفك عن قرنائه وأعداله.

والباحث النابه ، يجد الملازمة بين العقل والشرع ، أحد القواعد المسلمة عند المحققين ، من علماء الإسلام ، الذين يعتنى بقولهم ، فقد صرحوا بأنّ كل ما حكم به العقل ، حكم به الشرع ، وكل ما حكم به الشرع حكم به العقل.

إنّ للعقل دوراً كبيراً في استنباط كثير من الأحكام التي يصلح للعقل القضاء فيها ويقدر على ادراك ملاك الحكم ومناطه نظير الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، ووجوب الشيء وحرمة ضده أو عدمهما ، وجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه وصحة العبادة والمعاملة وفسادهما ، واجزاء الأوامر الاضطرارية والظاهرية والأحكام المتفرعة على تنجيز العلم الاجمالي وما يستقل به العقل عند اليأس عن الأدلّة السمعية فيحكم بالبراءة أو الاشتغال أو التخيير ، حسب ما اقتضاه المقام. بل له دور واسع في باب المعاملات وغيرها.

فهذه الملازمات وغيرها ، من الأحكام العقلية ، مصادر لاستنباط كثير من الأحكام واستكشاف ما هو المرضي لدى الشارع ، يستريح إليه الفقيه في تأسيس الحكم الشرعي أو تحديده ، وفي تشخيص الوظيفة العملية عند اليأس عن العثور على الأدلّة السمعية وبذلك يسد الفراغ المتوهم في التشريع الإسلامي.

كل ذلك يرشدنا إلى أنّ التشريع الإسلامي ، يتبنى الواقع ولا يحيد عن متطلبات الحياة ، وأنّه ليس لتعاليمه طابع الرمز والتعبد السماوي وأنّ للإسلام علاقة واقعية بالعقل ، لا تجد مثلها في الشرائع الاُخرى ، بل لا يسوغ لغيره أن يدخل العقل في مصادر تشريعه ، ويعده أحد الأدلّة.

الثاني : إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد :

إنّ الأحكام الشرعية عند العدلية من المسلمين ، الذين يمثلون الطبقة العليا

ص: 267

منهم ، تابعة لمصالح ومفاسد في متعلقاتها ، فلا واجب إلاّ لمصلحة في فعله ، ولا حرام إلاّ لمفسدة في اقترافه ، وقد تحقق عندهم إنّ للتشريع الإسلامي نظاماً لا تعتريه الفوضى وهذا الأصل ، وإن خالف فيه بعض الاُمّة ، غير أنّ نظرهم محجوج بكتاب اللّه وسنّة نبيه ونصوص خلفائه علیهم السلام ترى أنّه سبحانه يعلّل حرمة الخمر والميسر بقوله :

( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) ( المائدة - 91 ).

ويستدل على وجوب الصلاة بقوله سبحانه : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ ) ( العنكبوت - 45 ) إلى غير ذلك من الفرائض والمناهي التي صرح أو اُشير إلى ملاكات تشريعهما في الذكر الحكيم.

وقد قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا علیه السلام : « إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلاّ لما فيه المنفعة والصلاح ، ولم يحرّم إلاّ ما فيه الضرر والتلف والفساد » (1).

وقال علیه السلام في الدم : « إنّه يسيء الخلق ويورث القسوة للقلب ، وقلة الرأفة والرحمة ولا يؤمن أن يقتل ولده ووالده » (2).

وهذا باقر الاُمّة وإمامها يقول : « إنّ مدمن الخمر كعابد وثن ، ويورثه الارتعاش ، ويهدم مروته ويحمله على التجسّر على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا » (3).

وغيرها من النصوص المتضافرة عن أئمّة الدين (4).

فإذا كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في الموضوع ، فالغاية المتوخّاة من تشريعها ، إنّما هو الوصول إليها ، أو التحرّز عنها ، وبما أنّ المصالح والمفاسد ليست على

ص: 268


1- مستدرك الوسائل ج 3 ص 71.
2- بحار الأنوار ج 62 : ص 165 ، الحديث 3.
3- المصدر نفسه ص 164 ، الحديث 2.
4- راجع علل الشرائع للشيخ الصدوق فقد أورد فيه ما أثر عن النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمة علیهم السلام في بيان علل التشريع وفلسفته.

وزان واحد ، بل ربّ واجب يسوغ في طريق احرازه ، اقتراف بعض المحارم ، لاشتماله على مصلحة كبيرة لا يجوز تركها أصلاً ، وربّ حرام ذي مفسدة كبيرة ، لا يجوز اقترافه ، وإن استلزم ترك الواجب أو الواجبات.

ولأجل ذلك قد عقد الفقهاء باباً خاصاً ، لتزاحم الأحكام وتصادمها في بعض الموارد ، فيقدمون « الأهم على المهم » والأكثر مصلحة على الأقل منها ، والأعظم مفسدة على الأحقر منها ، وهكذا ... ويتوصّلون في تمييز الأهم عن المهم ، بالطرق والامارات التي تورث الاطمئنان ، وباب التزاحم في علم الاُصول غير التعارض فيه ، ولكلّ أحكام.

وقد أعان فتح هذا الباب على حل كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربما يتوهم الجاهل أنّها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة ، وأنّها من المعضلات التي لا تنحل أبداً ، ولنأت على ذلك بمثال ، وهو :

أنّه قد أصبح تشريح بدن الانسان في المختبرات من الضروريات الحيوية التي يتوقف عليه نظام الطب الحديث ، فلا يتسنّى تعلم الطب إلاّ بالتشريح والإطلاع على خفايا الأمراض والأدوية.

غير أنّ هذه المصلحة تصادمها ، مصلحة احترام المؤمن حيّه وميّته ، إلى حد أوجب الشارع ، الاسراع في تغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن ، ولا يجوز نبش قبره إذا دفن ، ولا يجوز التمثيل به وتقطيع أعضائه ، بل هو من المحرمات الكبيرة التي لم يجوز الشارع حتى بالنسبة إلى الكلب العقور ، غير أنّ عناية الشارع بالصحة العامة وتقدم العلوم جعلته يسوغ اقتراف هذا العمل لتلك الغاية ، مقدماً بدن الكافر على المسلم ، والمسلم غير المعروف على المعروف منه ، وهكذا ...

الثالث : التشريع الإسلامي ذو مادة حيوية

إنّ التشريع الإسلامي في مختلف الأبواب ، مشتمل على اُصول وقواعد عامة ، تفي باستنباط آلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري ، على امتداد القرون

ص: 269

والأجيال ، وهذه الثروة العلمية ، التي اختصت بها الاُمّة الإسلامية من بين سائر الاُمم ، أغنت الشريعة الإسلامية عن التمسّك بكل تشريع سواها.

وقد تضافرت الروايات على أنّ جميع ما يحتاج الناس إليه قد جاءت فيه آية محكمة أو سنّة متّبعة.

أخرج الكليني باسناده عن عمر بن قيس عن أبي جعفر علیه السلام قال سمعته يقول : إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكل شيء حداً ، وجعل عليه دليلاً يدل عليه ، وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً.

روي باسناده عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال سمعته يقول : ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة.

اُخرج عن سماعة عن أبي الحسن موسى علیه السلام قال : قلت له : أكلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه ، أو تقولون فيه ؟ قال : بل كلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيه (1).

وهذا العلاّمة الحلي ، أحد فقهاء الإمامة في القرن الثامن ، قد ألّف عشرات الكتب في الفقه واُصوله ، منها « تحرير الأحكام الشرعية » وقد حوى من الأحكام والقوانين ما يربو على أربعين ألف مسألة ، استنبطها من هذه الاُصول الواردة في القرآن والسنّة النبوية ، والأحاديث المأثورة عن أئمّة الدين ، رتبها على ترتيب كتب الفقه في أربع قواعد : العبادات ، والمعاملات ، والايقاعات ، والأحكام (2).

وجاء من بعده من الفقهاء والمجتهدين ، فبحثوا عن موضوعات وأحكام ، لم تكن لعصره بها صلة ، فاستخرجوا ما لها من الحكم الشرعي ، من تلكم الاُصول والقواعد بوضوح وانطلاق ، ولم يجدوا التشريع الإسلامي عاجزاً في هذه المجالات.

ص: 270


1- راجع الكافي « باب الرد إلى الكتاب والسنّة » ج 1 ص 59 - 62 ، تجد فيه أحاديث تصرح بما ذكر ، والمراد منها اُصول الأحكام وجذورها لا فروعها وجزئياتها.
2- راجع الذريعة ج 4 ص 378.

وهذا « صاحب الجواهر » ذلك الفقيه الأعظم ، من فقهاء القرن الثالث عشر الإسلامي ، قد جاء في مشروعه الوحيد « جواهر الكلام » بأضعاف ما جاء به العلامة الحلي ، فإنّ الباحث عندما يقف أمام هذا الكتاب الثمين وينظر في مباحثه ، يرى أمامه بحراً يزخر بالدرر التي تحار في حصرها النهى والخواطر وتنبهر لها عيون البصائر ، فلقد حوى من الفروع والقوانين ، ما يعسر عدها.

ولأجل ذلك استعارت منا الاُمم الغربية كثيراً من قوانينه ، ( بعكس ما نحن عليه الآن من تبعيّتنا للقوانين الأجنبية ) وليس ذلك إلاّ لأجل كون الفقه الإسلامي ذا مادة حيوية ، وقواعد متموّجة ، تستطيع أن تواجه الأحداث الطارئة طيلة القرون.

يوم كان الإسلام يبسط ظله على أكثر من نصف المعمورة ، حيناً من الدهر وإنّ الاُمّة الإسلامية ، كانت تتألّف من شعوب مسلمة مختلفة الألوان ، لكلّ بيئة خواصها في العادات والتقاليد ، وما يقع فيها من وقائع وأحداث ، كان التشريع الإسلامي بقواعده واُصوله الوافرة ، وافياً لاستخراج أحكامها ، من دون أن تمدّ يدها إلى المساعدات الأجنبية.

الرابع : تشريع الاجتهاد

وهو بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية عن مصادرها المعينة ، وهو رمز خلود الدين وبقاء قوانينه ، لأنّه يحفظ غضاضة الدين وطراوته ، ويجدده ويصونه عن الإندراس ، ويغني المسلمين عن موائد الأجانب ، باعطائه كل موضوع ما يقتضيه من حكم.

« أما لزوم فتح هذا الباب في أعصارنا هذه فلا يحتاج إلى البرهنة والدليل إذ نحن في زمن تتوال فيه المخترعات والصناعات ، وتجعلنا هذه المجالات أمام أحد اُمور :

أمّا بذل الوسع في استنباط أحكام الموضوعات الحديثة ، من الاُصول والقواعد الإسلامية.

أو اتباع المبادئ الاوربية ، من غير نظر إلى مقاصد الشريعة ، وأمّا الوقوف من غير

ص: 271

اعطاء حكم » (1).

« وليس الاجتهاد من البدع المحدثة ، فإنّه كان مفتوحاً في زمن النبوّة وبين أصحابه صلی اللّه علیه و آله فضلاً عن غيرهم ، وفضلاً عن سائر الأزمنة التي بعده ، نعم غايته إنّ الاجتهاد يومئذ ، كان خفيف المؤونة جداً ، لقرب العهد ، وتوفّر القرائن ، وامكان السؤال المفيد للعلم القاطع ، ثم كلّما بعد العهد من زمن الرسالة وكثرت الآراء والأحاديث والروايات ، ربّما قد دخل فيها الدس والوضع ، وتوفرت دواعي الكذب على النبي ، أخذ الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي ، يصعب ويحتاج إلى مزيد من المؤونة واستفراغ الوسع » (2).

ويرشدك إلى وجوده في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله قول الرسول لأمير المؤمنين علیه السلام عندما بعثه إلى اليمن : قال علي علیه السلام : بعثني رسول اللّه إلى اليمن ، قلت يا رسول اللّه تبعثني وأنا شاب ، أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء ؟ قال : فضرب بيده في صدري وقال : « اللّهمّ أهد قلبه وثبّت لسانه » فو الذي نفسي بيده ما شككت في قضاء بين اثنين (3).

وقال النبي صلی اللّه علیه و آله لمعاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن : بم تقضي ؟ قال : بما في كتاب اللّه ، قال فإن لم تجد ؟ قال : بما في سنّة رسول اللّه ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : اجتهد رأيي ، ولا آلو جهداً ، فسر النبي صلی اللّه علیه و آله وقال : الحمد لله الذي وفّق رسول رسوله بما يرضي رسوله (4).

ص: 272


1- رسالة الإسلام ، السنة الثالثة ، العدد الثاني ، عن مقال « أحمد أمين المصري ».
2- أصل الشيعة واُصولها ، ص 119 طبعة بيروت.
3- أعلام الورى ص 137 ، والبحار ج 21 ص 361 ، وشتان بين علمه واجتهاده علیه السلام وعلم الآخرين واجتهادهم.
4- الطبقات الكبرى ج 2 ص 347 والاستيعاب ، لابن عبد البر ، في ترجمة « معاذ » واللفظ للثاني. أقول: لو صح الحديث يكون المراد منه باعتبار وروده في أمر القضاء، هو فصل الخصومة في الأموال والنفوس، بما يعدها العقلاء عدلاً وأنصافاً وهذا المراد من قوله: اجتهد رأيي. وعندئذ لا يكون الحديث دليلاً على صحة مطلق الرأي حتى المستند إلى القياس والاستحسان واشباههما التي لا قيمة لها عندنا في عالم الاستنباط.

« وبطبيعة الحال ، أنّ الصحابي قد يسمع من النبي صلی اللّه علیه و آله في واقعة ، حكماً ويسمع الآخر في مثلها خلافه ، وتكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير الحكمين وغفل أحدهما عن الخصوصية أو التفت إليها وغفل عن نقلها مع الحديث فيحصل التعارض في الأحاديث ظاهراً ، ولا تنافي واقعاً ، ولهذه الأسباب وأضعاف أمثالها ، احتاج حتى نفس الصحابة الذين فازوا بشرف الحضور ، في معرفة الأحكام إلى الاجتهاد ، والنظر في الحديث وضم بعضه إلى بعض والالتفات إلى القرائن الحالية ، فقد يكون للكلام ظاهر ، ومراد النبي خلافه اعتماداً على قرينة في المقام ، والحديث نقل ، والقرينة لم تنقل ».

« وكل واحد من الصحابة ، ممن كان من أهل الرأي والرواية ، تارة يروي نفس ألفاظ الحديث ، للسامع من بعيد أو قريب ، فهو في هذا الحال راو ومحدّث وتارة يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية أو الروايات ، بحسب نظره فهو في هذا الحال ، مفت وصاحب رأي » (1).

ولم يزل هذا الباب مفتوحاً عند الشيعة ، من زمن صاحب الرسالة إلى يومنا هذا ، وقد تخرج منهم الآلاف من المجتهدين والفقهاء ، قد أحيوا الشريعة وأنقذوها من الانطماس ، وأغنوا بذلك الاُمّة الإسلامية في كل مصر وعصر ، عن التطلع إلى موائد الغربيين ، وألّفوا مختصرات ومتطوّلات ، لا يحصيها إلاّ اللّه سبحانه.

وقد اقتدى الشيعة في فتح هذا الباب على مصراعيه في وجه الاُمّة بأئمّة دينهم وخلفاء رسولهم ، الذين حثوا شيعتهم بأقوالهم وأفعالهم ، على التفقّه في الدين والاجتهاد فيه ، وأنّه « من لم يتفقّه ، فهو اعرابي » وأرشدوهم إلى كيفية استخراج الفروع المتشابكة ، من الآيات والاُصول المتلقاة عنهم ، بالتدبر في الآيات والاُصول المتلقاة عنهم ، وأمروا أصحابهم بالتفريع (2) وقد بلغت عنايتهم بذلك ما جعلهم ينصبون بعض من يعبأ بقوله ورأيه في منصب الافتاء ، إلى غير ذلك.

ص: 273


1- أصل الشيعة ص 118.
2- ستوافيك روائع نصوصهم في هذا المضمار.

والاجتهاد كما عرّفناك هو بذل الجهد في استنباط الأحكام عن أدلّتها الشرعية فلا يحتج به إلاّ إذا بنيت أحكامه على أساس الكتاب والسنّة ، وما يرجع إليها فهو مقيد من هذه الجهة وإن كان متحرراً من سوى ذلك ، فلا يتقيد بمذهب ولا برأي ، بل هو فوق المذاهب.

غير أنّ أئمّة أهل السنّة ، قد أقفلوا باب الاجتهاد ، إلاّ الاجتهاد في مذهب خاص ، كمذهب أبي حنيفة والشافعي ، وبما أنّ الفتاوى المنقولة عنهم ، مختلفة أخذ علماء كل مذهب يبذلون جهدهم لتشخيص ما هو رأي كل إمام في هذا الباب.

ولا أدري لماذا اقفل هذا الباب المفتوح من زمن الرسول ، وإن تفلسف في بيان وجهه ، بعض الكتّاب من متأخّريهم ، وقال : ولم يكن مجرد اغلاق باب الاجتهاد باجتماع بعض العلماء واصدار قرار منهم ، وإنّما كان حالة نفسية واجتماعية ذلك أنّهم رأوا غزو التتار لبغداد وعسفهم بالمسلمين ، فخافوا على الإسلام ورأوا أنّ أقصى ما يصبون إليه ، هو أن يصلوا إلى الاحتفاظ بتراث الأئمّة مما وضعوه واستنبطوه (1).

ولا يكاد يخفى على القارئ الكريم ما في اعتذاره من الاشكال.

ولقد صدع بالحق الدكتور « حامد حفني داود » اُستاذ الأدب العربي بكلية الألسن في القاهرة في ما قدمه على كتاب عقائد الإمامية (2) وقال :

إنّ الصورة المتوارثة عن جهابذة أهل السنّة أنّ الأجتهاد اُقفل بابه بأئمّة الفقه الأربعة : أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وابن حنبل.

هذا إذا عنينا الاجتهاد المطلق أمّا ما حاوله الفقهاء بعد هؤلاء من اجتهاد لا يعدو أن يكون اجتهاداً في المذهب أو اجتهاداً جزئياً في الفروع ، وأنّ هذا ونحوه لا يكاد يتجاوز عند أهل السنّة القرن الرابع بحال من الأحوال ، أمّا ما جاء عن الغزالي في القرن الخامس ، وأبي طاهر السلفي في القرن السادس ، وعز الدين بن عبد اللّه السلام وابن

ص: 274


1- رسالة الإسلام : العدد الثالث ، من السنة الثالثة عن مقال لأحمد أمين المصري.
2- للعلاّمة المغفور له الشيخ محمد رضا المظفر راجع ص 17 - 18 من المقدمة.

دقيق العيد في القرن السابع ، وتقي الدين السبكي ، وابن تيمية في القرن الثامن والعلاّمة جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر السيوطي في القرن التاسع ... فإنّ هذا ونحوه لا يتجاوز - في نظر المنهج العلمي الحديث - باب الفتوى ولا يدخل في شيء من الاجتهاد ، وهو القدر الذي أوضحناه في كتابنا « تاريخ التشريع الإسلامي في مصر ».

أمّا علماء الشيعة الإمامية فإنّهم يبيحون لأنفسهم الاجتهاد في جميع صوره التي حدّثناك عنها ، ويصرّون عليه كل الاصرار ولا يقفلون بابه دون علمائهم في أي قرن من القرون حتى يومنا هذا.

وأكثر من ذلك تراهم يفترضون بل يشترطون وجود « المجتهد المعاصر » بين ظهرانيهم ، ويوجبون على الشيعة اتباعه رأساً دون من مات من المجتهدين مادام هذا المجتهد المعاصر استمد مقوّمات اجتهاده - اُصولها وفروعها - من المجتهدين ، وورثها عن الأئمّة كابراً عن كابر.

وليس هذا غاية ما يلفت نظري أو يستهوي فؤادي في قولهم بالاجتهاد.

وإنّما الجميل والجديد في هذه المسألة أنّ الاجتهاد على هذا النحو الذي تقرأه عنهم يساير سنن الحياة وتطوّرها ، ويجعل النصوص الشرعية حية متحركة نامية متطورة ، تتمشى مع نواميس الزمان والمكان ، فلا تجمد ذلك الجمود الذي يباعد بين الدين والدنيا ، أو بين العقيدة والحياة الذي نشاهده في أكثر المذاهب التي تخالفهم. ولعل ما نلاحظه من كثرة عارمة في مؤلفات الإمامية وتضخّم مطّرد في مكتبة التشيّع راجع - في نظرنا - إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه ».

هذا هو الاجتهاد ، وهذا دوره في خلود الدين وصلوحه للظروف والبيئات ولم يكن اغلاقه إلاّ جهلاً بأهميته أو ابتغاء للفتنة ، أو تزلفاً إلى أبناء الدنيا ، أو جبناً عن النطق بالصواب ، وعلى أي تقدير فقد تنبّه بعض الجدد (1) من أهل النظر بلزوم فتحه وإنمائه ، وأنّ الاجتهاد أحد مصادر الشريعة التي تسع كل تطور تشريعي ، قال في مقال

ص: 275


1- الاُستاذ علي علي منصور المصري مستشار مجلس الدولة لمحكمة القضاء الاداري.

له حول الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية بمصر وإثبات ما عليه القواعد الشرعية من سموّ وشمول ودقة وأحكام مع اتسامها دائماً بالجدة ، وملائمة أحكامها لكل حضارة ولكل بيئة ولكل زمان : « النصوص الشرعية للأحكام التي وردت في الكتاب والسنّة قليلة إذا ما قيست بمواد القانون في أي شريعة وضعية ، إذ الآيات القرآنية التي تضمّنت اُصول الأحكام على ما أحصاها ابن قيم الجوزية لا تعدو مائة وعشرين آية من نيف وستة آلاف آية ، أمّا الأحاديث فخمسمائة من أربعة آلاف حديث ، ولقد أراد اللّه بذلك أن يهيأ للناس فرصة الاجتهاد في الفروع دون الاُصول ، فجعل النصوص الأصلية لقواعد الشريعة عامة ، دون التعمّق في التفاصيل ليتسع لها عقل من نزل فيهم القرآن وليترك للقوى الانسانية التي أودعها مخلوقاته ، فرصة العمل والتفكير والتدبير واستنباط الأحكام فيما لا نص فيه من كتاب أو سنّة ، لما يجد ويعرض لهم في حياتهم من مشاكل وأقضية تختلف باختلاف الزمان والمكان ، وهذا هو الاجتهاد وهو أحد مصادر الشريعة المحمدية.

ومشروعية هذا المصدر ثابتة من حديث معاذ بن جبل إذ أنّه لمّا بعثه الرسول صلی اللّه علیه و آله إلى اليمن قال له : بم تقض يا معاذ؟ قال : بكتاب اللّه ، قال الرسول صلی اللّه علیه و آله فإن لم تجد ؟ قال : فبسنّة رسول اللّه ، قال : وإن لم تجد ؟ قال : اجتهد برأيي ، فأقره على ذلك » (1) وما كان يمكن أن ينزل الكتاب والسنّة على غير هذا الاجمال والتعميم ، لأنّ هذه الشريعة إنّما نزلت لكل زمان وكل مكان : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) .

ولو أنّ صاحب الشريعة عني بالتفاصيل والجزئيات لوجب أن يقدر ما سيكون عليه العالم من نظم مختلفة واختراعات مستحدثة في جميع الأمكنة والأزمنة فيضع لها ولما تفرّع عنها ، من التفاصيل ، ولو أنّه فعل ذلك لما اتسع وقت الرسالة لهذا كلّه ، بل لأعرض الناس عن هذه الدعوة لتعقدها ، ولأنّها تضمّنت أحكاماً عن جزئيات ومخترعات لا تقع تحت حسهم ، ويصعب عليهم تصورها ، لأنّها لم تعرف في زمانهم ، ولنضرب لذلك مثلاً

ص: 276


1- قد مر المراد من الحديث فلاحظ.

فقد نزلت في القرآن آية تضمّنت الحكم العام لآداب التلاوة وجرت على نسق مختصر : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) وحدث بعد نزولها بنيف وألف وثلثمائة عام أن اخترع المذياع ( الراديو والتلفزيون ) ، ولما بدأ باذاعة آيات الذكر الحكيم به ، بدأ التسائل عن حكم الشرع والدين في ذلك أحلال هو أم حرام ؟ وهل تصح اذاعته في منتدى ترتكب فيه الآثام والموبقات وتدار كؤوس الخمر ؟

لا بدع في أنّ حكم هذه الجزئية لم يرد بنص صريح في الكتاب ، وانّ ذلك ترك للاجتهاد على هدى الحكم العام الوارد بالآية الشريفة ، لا بدع في ذلك ، إذ لو اُريد للشريعة أن تتضمّن الأحكام المفصلة لجميع الفروع والجزئيات لوجب أوّلاً افهام الذين نزل عليهم الدين وقت الرسالة ما هو الراديو وما هو التلفزيون ، ولو حاول الرسول ذلك وقال لهم : إنّ مخترعات البشر باذن اللّه ستجيء للعالم بعد ألف وثلثمائة عام بآلة يستطيع بها الانسان أن يسمع ويرى صورة المحدث وهو على بعد آلاف الفراسخ والأميال ، لما صدّقوه لعدم امكانهم تصوره ولجادلوه فأكثروا جداله في كنه تلك الآلة ، ولما لزمتهم حجته في أنّ الذي يقوله ليس من عنده وإنّما هو من عند اللّه لأنّ الحجة لا تلزمها صفة الاقناع إلاّ متى دخلت مناط العقل ، أمّا إذا كانت فوق إدراك المرسل إليهم فهي داحضة ...

والاجتهاد هو الباب الذي دخلت منه إلى حضيرة الشريعة الإسلامية كل الحضارات بما فيها من مشاكل قانونية ومالية واجتماعية فوسعها جميعاً وبسط عليها من محكم آياته وسديد قواعده ما أصاب المحجة ، فكان للشريعة الإسلامية في ذلك تراث ضخم تسامي على كل الشرائع وأحاط بكل صغيرة وكبيرة من اُمور الدين والدنيا ...

أفبعد ذلك يصح في الأفهام أن تتهم الشريعة الإسلامية بالقصور ، أو بأنّها نزلت لعرب الجزيرة لتعالج اُمورهم في حقبة من الزمان انقضى عهدها ، أو أنّها تضيق عن أن تجد الحلول لمشاكل الحضارات الحديثة ، إرجعوا إليها وإلى تراثها الضخم تجدوا أنّها عالجت الجليل والخطير والصغير والكبير من اُمور الدين والدنيا فيها ذكر ما مضى ،

ص: 277

وفيها ذكر الحاضر ، وفيها ذكر المستقبل وسيظل العلم الحديث يكشف عمّا فيها من كنوز وستترى المشاكل على العالم جيل بعد جيل ، ويضطرب العالم في محاولة الحلول لها دون جدوى إلاّ إذا رجع إلى أحكام هذا الدين وهذه الشريعة المحكمة السمحة ، حيث الدواء الشافي والعلاج الحاسم لكل ما يجيب العالم في حاضره وفي مستقبله (1).

وممّا يؤيد لزوم انفتاح باب الاجتهاد إلى يوم القيامة هو ما ذكره المقريزي في خططه حيث قال ما هذا ملخّصه :

انّه لم يكن كل واحد من أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله متمكناً من دوام الحضور عنده صلی اللّه علیه و آله لأخذ الأحكام عنه ، بل كان في مدة حياته يحضره بعضهم دون بعض وفي وقت دون وقت ، وكان يسمع جواب النبي صلی اللّه علیه و آله عن كل مسألة يسأل عنها بعض الأصحاب ويفوت عن الآخرين فلمّا تفرق الأصحاب بعد وفاته صلی اللّه علیه و آله في البلدان تفرقت الأحكام المروية عنه صلی اللّه علیه و آله فيها ، فيروى في كل بلدة منها جملة ، ويروى عنه في غير تلك البلدة جملة اُخرى حيث أنّه قد حضر المدني من الأحكام ما لم يحضره المصري ، وحضر المصري ما لم يحضره الشامي ، وحضر الشامي ما لم يحضره البصري ، وحضر البصري ما لم يحضره الكوفي إلى غير ذلك ، وكان كل منهم يجتهد فيما لم يحضره من الأحكام.

ولعدم تساوي هؤلاء المجتهدين في العلوم والإدراكات وسائر القوى والملكات تختلف طبعاً الآراء والاجتهادات ، فمجرد تفاوت أشخاص الصحابة تسبب اختلاف فتواهم ثم تزايد ذلك الاختلاف بعد عصر الصحابة.

ثم قال : ثم بعد الصحابة تبع التابعون فتاوى الصحابة فكانوا لا يتعدون عنها غالباً ، ولما مضى عصر الصحابة والتابعين صار الأمر إلى فقهاء الأمصار أبي حنيفة والسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة ، وابن جريح بمكة ، ومالك وابن الماجشون بالمدينة ، وعثمان التيمي ( الظاهر عثمان بن مسلم البطي ) وسوار بالبصرة ، والأوزاعي بالشام والليث بن سعد بمصر فكان هؤلاء الفقهاء يأخذون من التابعين وتابعيهم أو يجتهدون.

ص: 278


1- مجلة رسالة الإسلام لجماعة دار التقريب العدد الأوّل من السنة الخامسة.

وذكر المقريزي في الجزء الرابع من الخطط ما هذا ملخّصه :

انّه تولّى القاضي أبو يوسف القضاء من قبل هارون الرشيد بعد سنة 170 إلى أن صار قاضي القضاة فكان لا يولّي القضاء إلاّ من أراده ، ولمّا كان هو من أخص تلاميذ أبي حنيفة فكان لم ينصب للقضاء ببلاد خراسان والشام والعراق وغيرها إلاّ من كان مقلّداً لأبي حنيفة ، فهو الذي تسبب في نشر مذهب الحنفية في البلاد.

وفي آوان انتشار مذهب الحنفية في المشرق نشر مذهب مالك في افريقية المغرب ، بسبب زياد بن عبد الرحمان ، فإنّه أوّل من حمل مذهب مالك إليها ، وأوّل من حمل مذهب مالك إلى مصر سنة 160 هو عبد الرحمان بن القاسم.

قال : ونشر مذهب محمد بن ادريس الشافعي في مصر بعد قدومه إليها سنة 198 وكان المذهب في مصر لمالك والشافعي إلى أن أتى القائد « جوهر » بجيوش مولاه « المعز لدين اللّه أبي تميم معد » الخليفة الفاطمي ، إلى مصر سنة 358 فشاع بها مذهب الشيعة حتى لم يبق بها مذهب سواه ( أي سوى مذهب الشيعة ).

ثمّ إنّ المقريزي بين بدء انحصار المذاهب في أربعة فقال :

فاستمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 665 حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة وعودي من تمذهب بغيرها ، وانكر عليه ولم يول قاض ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها ، والعمل على هذا إلى اليوم (1).

وهذه الكلمة الأخيرة « وتحريم ما عداها » تكشف عن أعظم المصائب على الإسلام حيث أنّه قد مضى الإسلام ما يقرب من سبعة قرون ومات فيها على دين الإسلام ما لا يحصى عددهم إلاّ ربّهم ولم يسمع أحد من أهل القرنين الأوّلين اسم المذاهب أبداً ثم فيما بعد القرنين كان المسلمون بالنسبة إلى الأحكام الفرعية في غاية من

ص: 279


1- راجع الخطط المقريزية ج 2 ص 333 و 334 و 344.

السعة والحرية ، كان يقلد عاميهم من اعتمد عليه من المجتهدين وكان المجتهدون يستنبطون الأحكام عن الكتاب والسنّة على موازينهم المقررة عندهم في العمل بالسنّة النبوية ، فأي شيء أوجب في هذا التاريخ على عامة المسلمين : « العامي المقلد والفقيه المجتهد » أن لا يخرج أحد في الأحكام الشرعية عن حد تقليد الأئمّة الأربعة ، وبأي دليل شرعي صار اتباع أحد المذاهب الأربعة واجباً مخيراً ، والرجوع إلى ما ورائها حراماً معيّناً مع علمنا بأحوال جميع المذاهب من بدئها وكيفية نشرها وتأثير العوامل في تقدم بعضها على غيرها ، بالقهر والغلبة من الدولة والحكومة كما أفصح عن بعض ذلك ما ذكره ابن الفوطي في الحوادث الجامعة ، ص 216 في وقائع سنة 645 يعني قبل انقراض بني العباس باحدى عشرة سنة في أيام المستعصم الذي قتله هولاكو ، سنة 656 فلاحظ ذلك الكتاب (1).

وفي الختام نلفت نظر القارئ الكريم لمعرفة قضية الاجتهاد وتطورة وعلل إيصاد بابه لدى بعض المسلمين إلى المصادر التالية :

1. المواعظ والاعتبار في الخطط والآثار : تأليف الشيخ تقي أبو العباس المعروف بالمقريزي المولود في بعلبك عام 766 والمتوفّى بالقاهرة عام 845.

2. تاريخ اليعقوبي المعروف بابن واضح وقد طبع عام 1358.

3. الحوادث الجامعة في المائة السابعة لكمال الدين عبد الرزاق بن المروزي الفوطي البغدادي المتوفّي سنة 723.

4. الانصاف في بيان سبب الاختلاف.

5. عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد : ألّفهما ولي اللّه الدهلوي المولود سنة 1114 والمتوفّى 1180.

6. الاقليد لأدلّة الاجتهاد والتقليد.

ص: 280


1- راجع تاريخ حصر الاجتهاد لشيخنا العلامة الطهراني ص 104.

7. الطريقة المثلى في الاشارة إلى ترك التقليد : ألّفهما صديق حسن خان القنوجي البخاري المتوفّى سنة 1307 ، وطبعا بالاستانة عام 1295.

8. حصول المأمول من علم الاُصول : له أيضاً طبع في الجوائب سنة 1296.

9. مقالة صاحب السعادة أحمد تيمور باشا ابن إسماعيل بن محمد المولود في القاهرة سنة 1288 وهي تحت عنوان نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة ، طبعت مستقلة في القاهرة سنة 1344.

10. ما كتبه محمد فريد وجدي في دائرة معارفه في مادتي « جهد وذهب » وما كتبه يعد أبسط ما كتب في الموضوع.

11. أعلام الموقعين عن ربّ العالمين : للحافظ ابن القيم.

12. تاريخ حصر الاجتهاد : لشيخنا العلاّمة الطهراني المتوفّى يوم الجمعة 13 ذي الحجة عام 1389.

إلى غير ذلك من المؤلفات ، وقد أشار إلى غير ما ذكرنا صديق حسن خان في كتابه حصول المأمول في علم الاُصول ص 198.

الحقيقة بنت البحث :

كلمة موجزة ومثل سائر ، يهدف إلى أوضح الحقائق وأنصعها ويفيد أنّ الوقوف على الحقيقة وإماطة الستر عن وجهها وليد النقاش العلمي ووليد المحادثة وهذا مما لا يرتاب فيه أحد ويدركه كل من له حظ من الفكر والنظر.

وفي الحقيقة إنّ التقاء أفكار ذوي الآراء كالتقاء الأسلاك الكهربائية ، فكما أنّ الأشعة الكهربائية ، تتفجر من اتصالها سلباً وإيجاباً ، فكذلك نور الحقيقة يشع أمامنا بتبادل الفكرتين وتعارضهما بالنفي والإيجاب.

إذ طالما يتخيل للانسان أنّه صائب في فكره ونظره ، فإذا عرضه للبحث والنقاش

ص: 281

وتوارد عليه النفي والاثبات ربّما ظهر وهنه وضعفه.

نعم يجب على الباحث عن الحقيقة أن يعرض آراءه وأفكاره للجو الهادئ المتحرر عن التعصب لفئة غابرة ، أو فكرة حاضرة ، الشاخص أمام كل رأي فارغ عن الدليل والبرهنة ، فالاجتهاد بهذا النحو رمز كشف الحقيقة ، رمز خلود الإسلام وبقائه ، رمز كونه غضاً طرياً في كل عصر وجيل.

نعم ربّما يجد الناشئ الجديد في نفسه حرجاً عند وقوفه على اختلاف أصحاب الآراء والمذاهب في اُصول الإسلام وفروعه ، ويتخيله حاجزاً يعرقل خطاه عن الوصول إلى الواقع ، ويتمنّى رفع الخلاف الفكري في المسائل من رأس بتأسيس مؤتمرات علمية من ذوي الأفكار.

بل ربّما نسمع من بعض الشباب سؤالاً يوجهه إلى الهيئات العلمية الإسلامية ويقول كان في وسع النبي صلی اللّه علیه و آله أن يجمع اُصول الإسلام وفروعه وكل ما يرجع إليه في كتاب ، ويتركه بين الاُمّة حتى يسد بذلك باب التقوّل من بعده على المتقوّلين ، فلماذا لم يفعل ذلك ؟!

لكنّه رأي غير ناضج ، إذ لو جمعها النبي في كتاب وسلمه إلى الاُمّة ، لاستولى الركود الفكري والتدهور العقلي على عقلية الاُمّة ، وانحسر كثير من المفاهيم والقيم الإسلامية عن ذهنيتها ، وأوجب ضياع العلم وتطرق التحريف إلى اُصوله وفروعه حتى إلى الكتاب الذي كتب فيه كل صغير وكبير.

فلم تقم للإسلام دعامة ، ولا حفظ كيانه ونظامه ، إلاّ على ضوء هذه البحوث العلمية والنقاشات الدارجة بين العلماء ، ورد صاحب فكر على ذي فكر آخر بلا محاباة.

وقد حكى شيخنا العلاّمة المتضلّع شيخ الشريعة الاصفهاني (1) في مقدمة

ص: 282


1- فقيه متضلّع ، اُصولي بارع ، خبير باسرار الحديث والتفسير فهو ممن يضن بهم الدهر إلاّ في فترات يسيرة ، كان رحمه اللّه آية في الذكاء والحفظ ، أثنى عليه كل من أدركه وقرأ عليه ، توفّي عام 1339 هجرية قمرية في النجف الأشرف ودفن في الصحن الحيدري.

كتابه (1) عن بعض الأعلام كلاماً يعرب عمّا قلناه ، قال : إنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الاُمّة التي أعظم اللّه بها عليهم النعمة ، حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابين ، المؤدية إلى تحريف ما فيها ، وإندارس تينك الملتين ، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخول إلاّ بيّنوه ، ولفاعل فيه تحريف ، إلاّ قوّموه ، حتى اتضحت الآراء وانعدمت الأهواء ودامت الشريعة البيضاء على ملئ الآفاق بأضوائها وشفاء القلوب بها من أدوائها ، مأمونة عن التحريف ، ومصونة عن التصحيف.

شبهة حول الاجتهاد الدارج في عصرنا :

ربّما يختلج في اذهان بعض القصر من الناس عدم مشروعية الاجتهاد الدارج في أعصارنا هذه مستدلاً بأنّ الفقه في هذه الأعصار أخذ لنفسه صورة فنية ، وجاء على طراز سائر العلوم العقلية الفكرية بعدما كان في أعصار المتقدمين من العلوم البسيطة المبنية على سماع الأحكام من النبي والأئمّة وبثّها بين الناس من دون أن يجتهد الراوي في تشخيص حكم اللّه ويرجّح دليلاً على الآخر ، أو يقيده أو يخصّص واحداً بالآخر ، إلى غير ذلك من الاُصول الدارجة في زماننا.

الجواب عن الشبهة :

إنّ ذلك أشبه شيء بالشبهة ويمكن الجواب عنه بوجهين :

الأوّل : أنّ الاجتهاد بالمعنى الوسيع وأعمال النظر في الروايات ، والتدقيق في دلالتها ، وترجيح بعضها على بعض ، كان موجوداً في أعصارهم ، دارجاً بين أصحابهم فإنّ الاجتهاد وإن توسع نطاقه في أعصارنا وبلغ مبلغاًعظيماً ، إلاّ أنّ أصل الاجتهاد بالمعنى الجامع بين عامة مراتبه كان دارجاً في تلك الأعصار وأنّ الأئمّة أرجعوا شيعتهم إلى فقهاء أعصارهم ، وكانت سيرة الناس الرجوع إليهم من دون تزلزل وتردد ، أمّا ما يدل

ص: 283


1- ابانة المختار ، مخطوط نحتفظ بنسخة منه.

على وجود الاجتهاد بهذا المعنى في أعصارهم فعدة روايات هي :

1. ما رواه ابن ادريس في « مستطرقات السرائر » نقلاً عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : إنّما علينا أن نلقي إليكم الاُصول وعليكم أن تفرّعوا (1).

2. ما روى عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا علیه السلام : « قال علينا القاء الاُصول وعليكم التفريع » (2) فإنّ التفريع الذي هو استخراج الفروع عن الاُصول الكلية الملقاة ، وتطبيقها على مواردها وصغرياتها ، إنّما هو شأن المجتهد وما هو إلاّ الاجتهاد ، نعم التفريع والاجتهاد يتفاوت صعوبة كما يتفاوت نطاقه حسب مرور الزمان ، فإذا قال علیه السلام : لا تنقض اليقين بالشك ، أو روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله : لا ضرر ولا ضرار ، كان على المخاطبين وعلى علماء الأعصار المستقبلة استفراغ الوسع في تشخيص صغرياتها وما يصلح أن يكون مصداقاً له أو لا يصلح ، فهذا هو ما نسميه الاجتهاد.

3. ما رواه الصدوق في معاني الأخبار عن داود بن فرقد ، قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا إنّ الحكمة لتصرف على وجوه ولو شاء انسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب (3).

فإنّ عرفان معاني الكلام ليس إلاّ تشخيص ما هو الأظهر بين المحتملات ، بالفحص عن القرائن الحافّة بالكلام وبعرض أخبارهم على الكتاب والسنّة إلى غير ذلك ممّا يتضح به المراد ، ويتعيّن ما هو المفاد ، وليس هذا إلاّ الاجتهاد.

4. ما رواه الصدوق في عيونه بإسناده عن الرضا علیه السلام قال : من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم ، ثم قال : إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ومتشابهاً كمتشابه القرآن فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا (4) فإنّ رد المتشابه إلى محكمه يجعل أحدهما قرينة على الآخر ، لا يتحقق

ص: 284


1- وسائل الشيعة ج 18 : ص1. 42 ، كتاب القضاء الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 51 و 52.
2- وسائل الشيعة ج 18 : ص1. 42 ، كتاب القضاء الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 51 و 52.
3- الوسائل ج 18 كتاب القضاء الباب التاسع من أبواب صفات القاضي الحديث 27 و 22.
4- الوسائل ج 18 كتاب القضاء الباب التاسع من أبواب صفات القاضي الحديث 27 و 22.

بدون الاجتهاد.

5. الروايات الواردة في تعليم أصحابهم كيفية استفادة الأحكام والفروع عن الذكر الحكيم ، مثل قول الإمام الباقر علیه السلام بعد ما سأله زرارة بقوله : ألاّ تخبرني من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك وقال : يا زرارة قاله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ونزل به الكتاب عن اللّه عزّ وجلّ قال : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل ، ثم قال : ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ ) فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين ، ثم فصل بين الكلام فقال : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) فعرفنا حين قال : ( بِرُءُوسِكُمْ ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال : ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ثم فسّر ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فضيّعوه (1).

6. ما في رواية عبد الأعلى مولى آل سام بعد ما سأل الإمام عن حكم المسح على المرارة. قال : هذا واشباهه يعرف من كتاب اللّه عزّ وجلّ قال اللّه تعالى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ( الحج - 78 ) امسح على المرارة ، فقد أوضح على السائل كيفية الاستنباط ، ورد الفروع على اُصولها (2) ونظير ما تقدم بل أقوى منه ما في مرسلة (3) يونس الطويلة الواردة في أحكام الحائض والمستحاضة ، فإنّ فيها موارد ترشدنا إلى طريق الاجتهاد إلى غير ذلك من الروايات المرشدة إلى دلالة الكتاب وكيفية الاستدلال ، وهي منبثّة في طيات أبواب الفقه فراجع :

7. قول الباقر علیه السلام لزرارة ومحمد بن مسلم حيث سألا أبا جعفر الباقر علیه السلام وقالا له : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي ؟ فقال : إنّ اللّه عزّ

ص: 285


1- الوسائل ج 1 أبواب الوضوء الباب 23 الحديث 1.
2- الوسائل ج 1 أبواب الوضوء الباب 39 الحديث 5.
3- وسائل الشيعة ج 2 أبواب الحائض الباب 3 الحديث 4.

وجلّ يقول : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) ( النساء - 101 ).

فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر ، قالا قلنا : إنّما قال اللّه عزّ وجلّ : ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ) ولم يقل : « افعلوا » فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر ؟ فقال علیه السلام : أوليس قد قال اللّه عزّ وجلّ : ( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) ( البقرة - 158 ).

ألاّ ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض لأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيه وكذلك التقصير شيء صنعه النبي وذكره اللّه في كتابه (1).

8. مقبولة عمر بن حنظلة ورواه المشايخ العظام في جوامعهم وتلقاها الأصحاب بالقبول ، بل عليها المدار في كتاب القضاء وهي تصرح بوجود الاجتهاد بالمعنى الدارج في زماننا في عصر الصادق علیه السلام ودونك متنها : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحل ذلك ؟ قال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً لأنّه أخذ بحكم الطاغوت - إلى أن قال : - قلت : كيف يصنعان ؟ قال : ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي جعلته عليكم حاكماً ومن ردّه فإنّما بحكم اللّه استخف ، وعلينا قد رد والراد علينا كالراد على اللّه وهو على حد الشرك باللّه ، قلت : فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.

قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه ؟ قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع

ص: 286


1- الوسائل ج 5 : ص 538 ، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر ، الحديث2.

عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، إلى آخر ما أفاده وفيه إرشاد إلى كيفية استنباط الحكم عن الكتاب والسنّة ، وعلاج الخبرين المتعارضين بعرضهما عليهما (1).

9. روى العباس بن هلال عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال : ذكر أنّ ابن أبي ليلى وابن شبرمة دخلا المسجد الحرام فأتيا محمد بن علي علیه السلام فقال لهما : بما تقضيان ؟ فقالا : بكتاب اللّه والسنّة ، قال : فما لم تجداه في الكتاب والسنّة؟ قالا : نجتهد رأينا ، قال علیه السلام : رأيكما أنتما ؟

فما تقولان في امرأة وجاريتها كانتا ترضعان صبيين في بيت وسقط عليهما فماتتا وسلم الصبيان ؟ قالا : القافة ، قال : القافة يتجهم منه لهما ، قالا : فاخبرنا ؟ قال : لا !!

قال ابن داود : مولى له جعلت فداك بلغني أنّ أمير المؤمنين علياً علیه السلام قال : ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه وألقوا سهاهم إلاّ خرج السهم الأصوب فسكت (2).

10. روى الصيقل عن أبي عبد اللّه علیه السلام قلت : رجل طلّق امرأته طلاقاً لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره فتزوّجها رجل متعة أتحل للأوّل ؟ قال علیه السلام : لا ، لأن اللّه تعالى يقول : ( فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا ... ) ( البقرة - 230 ) والمتعة ليس فيها طلاق (3).

11. روى الحسن بن الجهم قال : قال لي أبو الحسن الرضا علیه السلام : يا أبا محمد ما تقول في رجل يتزوّج نصرانية على مسلمة ؟ قلت : جعلت فداك ، وما قولي بين يديك ؟ قال : لتقولنّ فإنّ ذلك تعلم به قولي ، قلت : لا يجوز تزويج نصرانية على مسلمة ولا على غير مسلمة ، قال : ولِمَ ؟ قلت : لقول اللّه : ( وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ) ( البقرة - 221 ) قال : فما تقول هذه الآية :

ص: 287


1- الوسائل كتاب القضاء ج 18 الباب التاسع من أبواب صفات القاضي الحديث 1.
2- التهذيب ج 9 باب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ص 359.
3- الوافي ج 3 أبواب النكاح باب تحليل المطلّقة لزوجها ص 47.

( وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) ؟ ( المائدة - 5 ) قلت فقوله : ( وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ ) نسخت هذه الآية فتبسّم علیه السلام ثم سكت (1).

12. بل يظهر من كثير من الروايات وجود الاجتهاد بين أصحاب الأئمّة ونورد من تلكم الروايات حديثاً واحداً.

روى حسن بن محمد بن سماعة قال : سمعت جعفر بن سماعة وسئل عن امرأة طلقت على غير السنّة : ألي أن أتزوّجها ؟ فقال : نعم ، فقلت : أليس تعلم أنّ علي بن أبي حمزة ، روى : « إيّاكم والمطلّقات ثلاثاً على غير السنّة فإنّهنّ ذوات الأزواج » ؟ فقال : يا بني رواية علي بن أبي حمزة أوسع على الناس ، قلت : وأي شيء روى علي بن أبي حمزة ؟ قال : روى عن أبي الحسن أنّه قال : الزموهم من ذلك ما ألزموا به أنفسهم ، وتزوّجوهنّ فأنّه لا بأس بذلك (2).

فقد اجتهد جعفر بن سماعة حيث قدم الخبر الثاني على الأوّل باحدى ملاكات التقديم.

وقد ألّف في هذا المضمار العلاّمة الحجة السيد عبد الرسول الشيرازي رسالة ممتعة وطبع قسم منها في بعض المجلاّت نسأل اللّه أن يوفّقه لنشر الجميع.

الخامس : حقوق الحاكم الإسلامي :

من الأسباب الباعثة على بقاء الدين وكونه ذا مادة حيوية صالحة لحل المشاكل والمعضلات الطارئة ، كون الحاكم الإسلامي بعد النبي ممثلاً لقيادته الحكيمة في اُمور الدين والدنيا ، التي من شأنها أن توجّه المجتمع البشري إلى أرقى المستويات الحضارية الصحيحة ، فقد منح مثل هذا الحاكم بنص الشريعة الإسلامية كافة الصلاحيات

ص: 288


1- الوافي ج 3 ص 26 باب نكاح الذمية المشركة.
2- الوافي ج 2 كتاب الطلاق ص 161 باب أنّ المخالف يقع طلاقه.

المؤدية إلى حق التصرف المطلق في كل ما يراه ذا مصلحة للاُمّة ، لأنّه يتمتع بمثل ما يتمتع به النبي والإمام من النفوذ المطلق ، إلاّ ما يعد من خصائصهما.

وإلى ذلك يشير شيخ الاُمّة الميرزا النائيني في أثره الخالد « تنبيه الاُمّة وتنزيه الملة » ويقول : « فوّض إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يراه لازماً من المقررات لمصلحة الجماعة وسد احتياجاتها ، في اطار القوانين الإسلامية » (1).

مثلاً إذا رأى الحاكم ، أنّ المصلحة تقتضي فتح طريق أو شارع ، فقد فوض إليه ذلك الأمر ، فله أن يقرر وينفذ ما يحقق هذه الغاية ، في ضوء العدل والانصاف كاجبار أصحاب الأراضي التي يمر بها الطريق على بيع أراضيهم ووضع ضريبة على صنف خاص من الشعب ، أو كلّه لتأمين هذه الغاية.

وله أن يقرر ما يراه مناسباً لتنظيم السير ، متوخياً في ذلك سلامة النفوس وسهولة الذهاب والاياب ، كل ذلك في إطار القوانين العامة الإسلامية.

وهذه الحقوق كانت ثابتة في الدرجة الاُولى ، للنبي الأعظم ، لقوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب - 6 ) وبعده لخلفائه المعصومين ، أئمّة الدين ، وفوضت من بعدهم ، إلى علماء الاُمّة وفقهائهم الذين اُلقيت على كواهلهم اُمور تدبير حياة الاُمّة ، وصيانة الشريعة ، بالأدلّة القطعية المقررة في محلها.

إنّ الحاكم الإسلامي إذا نجح في تأسيس حكومة إسلامية في قطر من أقطار الإسلام أو في مناطقه كلّها وتوفرت فيه الشرائط والصلاحيات اللازمة وأخص بالذكر العلم الوسيع والعدل ، يجب على المسلمين اطاعته ، وله من الحقوق والمناصب والولاية ، ما للنبي الأكرم من اعداد القوات العسكرية ودعمها بالتجنيد وتعيين الولاة وأخذ

ص: 289


1- تنبيه الاُمّة وتنزيه الملة ص 97 ولا ينافي ما ذكره شيخ الاُمّة المحقق النائيني مع ما حققناه في الجزء الأول من كون التقنين والتشريع مختصاً باللّه سبحانه ، فإنّ ما يضعه الحاكم الإسلامي ، أو مجلس الشورى إنّما هو من قبيل التخطيط ، وتطبيق الكليات على مواردها لا من قبيل التشريع والتأسيس.

الضرائب وصرفها في محالها إلى غير ذلك ...

وليس معنى ذلك أنّ الفقهاء والحكّام الإسلاميين مثل النبي والأئمّة في جميع الشؤون والمقامات حتى في الفضائل النفسانية والدرجات المعنوية فإنّ ذلك رأي تافه لا يركن إليه ، إذ إنّ البحث إنّما هو في الوظائف المخوّلة إلى الحاكم الإسلامي والموضوعة على عاتقه لا في المقامات المعنوية والفضائل النفسانية ، فإنّهم صلوات اللّه عليهم في هذا المضمار في درجة لا يدرك شأوهم ولا يشق لهم غبار حسب روائع نصوصهم وكلماتهم.

وليست السلطة مفخرة للحاكم يعلو بها على سائر المحكومين بل هي من وجهة النظر الإسلامية مسؤولية اجتماعية كبرى أمام اللّه سبحانه أوّلاً ، وأمام المسلمين ثانياً ، والجهة الجامعة ما بين الحاكم والإمام في إدارة دفة الحكم وسياسة العباد ليس لها أي ارتباط بالمثل الخلقية والصفات النفسانية (1).

وهذه الوجوه التي مرت عليك بالاجمال أوجبت خلود الشريعة ، وبقاءها وصلاحها لإدارة المجتمع في الأعصار كلّها ، مع اختلافها في الحضارة والتقدم.

الأمر الثاني مرونة أحكامه :

من الأسباب الدافعة إلى صلوح الإسلام للبقاء والخلود ، مرونة أحكامه التي تمكّنه من أن يماشي جميع الأزمنة والحضارات ، وقد تمثّلت هذه المرونة باُمور :

1. الإسلام دين جامع والاُمّة الإسلامية اُمة وسط :

إنّ من الأسباب التي أوجبت خلود الدين الإسلامي ، وأعطته الصلاحية للبقاء مع اختلاف الظروف وتعاقب الأجيال ، كونه ديناً جامعاً بين الدعوة إلى المادة والدعوة

ص: 290


1- ولاية الفقيه للاُستاذ الأكبر الإمام الخميني - قدّس اللّه سرّه - ص 63 - 66 وقد أشبعنا الكلام حول حقوق الحاكم الإسلامي في الجزء السابق فلاحظ.

إلى الروح ، ديناً وسطاً بين الماديّة البحتة والروحية المحضة ، فقد آلف بتعاليمه القيمة بينهما ، موالفة تفي بحق كل منهما ، بحيث يتيح للانسان أن يأخذ قسطه من كل منهما بقدر ما تقتضيه المصلحة.

وذلك أنّ المسيحية غالت في التوجه إلى الناحية الروحية ، حتى كادت أن تجعل كل مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبرى ، فدعت إلى الرهبانية والتعزّب وترك ملاذ الحياة والانعزال عن المجتمع ، والعيش في الأديرة وقلل الجبال ، وتحمل الظلم والرفق مع المعتدين ، كما غالت اليهودية في الانكباب على المادة حتى نسيت كل قيمة روحية ، وجعلت الحصول على المادة بأي وسيلة كانت ، المقصد الأسنى ، ودعت إلى القومية الغاشمة والطائفية الممقوتة.

وهذه المبادئ سواء أصحت عن الكليم والمسيح علیه السلام أم لم تصح ( ولن تصح إلاّ أن يكون لاصلاح انغمار الشعب الاسرائيلي في ملاذ الحياة يوم ذاك وانجائهم عن التوغل في الماديات وسحبهم إلى المعنويات بشدة وعنف ) وإن شئت قلت : « كانت تعاليمه اصلاحاً مؤقتاً لاسراف اليهود وغلوهم في عبادة المال حتى أفسد أخلاقهم وآثروا دنياهم على دينهم والغلو يقاوم موقتاً بضده » (1). لا تتماشى مع الحضارات الانسانية التقدمية ولا تسعدها في معترك الحياة ، ولا تتلائم مع حكم العقل ولا الفطرة السليمة.

لكن الإسلام جاء لينظر إلى واقع الانسان ، بما هو كائن ، لا غنى له عن المادة ، ولا عن الحياة الروحية ، فأولاهما عنايته ، فدعا إلى المادة والالتذاذ بها بشكل لا يؤثر معه على الحياة الروحية ، كما دعا إلى الحياة الروحية بشكل لا يصادم فطرته وطبيعته.

وحصيلة البحث : أنّه لم يعطل الفطرة في تشريعه وتقنينه ، بل جعلها مقياساً لحكمه بالوجوب والتحريم ، فإذا كان الحكم مطابقاً لطبع من شرعت له الأحكام حافظاً لكيانه ، لا يتعارض مع ما يحتاج إليه جسمه وروحه ، كان ماضياً ونافذاً حسب بقاء الفطرة ودوامها.

ص: 291


1- الوحي المحمدي ص 153.

وأمّا تفصيل الآيات التي تمثل رأي الإسلام في الدعوة إلى الدين والدنيا ، إلى الروح والجسم ، إلى المادة والمعنى ، فليرجع فيه إلى الكتب المعدة لبيان ذلك.

ونختم البحث بكلمة عن أمير المؤمنين علیه السلام حيث قال : للمؤمن ثلاث ساعات ، ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يرم فيها معاشه ، وساعة يخلي بينه وبين نفسه ولذاتها (1).

فقد قرن بين عبادة اللّه وطلب الرزق وترفيه النفس ، بحيث جعل الجميع في مستوى واحد ، فندب إلى عبادة اللّه ، كما ندب إلى طلب المعاش ، وتوخي اللذة بحكم واحد بلا مفاضلة.

فلو كان أداء الصلاة والصوم والقيام بالحج وظيفة دينية ، فشق الطريق لطلب الرزق والمعاش ، والقيام بالنزهة بين الرياض أو سباحة في البحر والعمل الرياضي البدني ، وظيفة دينية للمؤمن ، كما نص الإمام علیه السلام .

وهذا من الاُسس التي تنسجم مع الإسلام وتحول بينه وبين التصادم مع الحضارات المتواصلة ، إلى عصرنا هذا ، فإذا كان المنهج ، منهجاً متوسّطاً بين المادية والروحية ، مطابقاً لفطرة الانسان انقادت له مقاليد الحضارات الانسانية الصاعدة وارتفع التصادم.

2. النظر إلى المعاني ، لا المظاهر :

إنّ الإسلام ينظر إلى المعاني والحقائق ، لا المظاهر والقشور ، ولذلك لا تجد في الإسلام مظهراً خاصاً من مظاهر الحياة ، له من القداسة ما يمنع تغييره ، ويوجب حفظه إلى الأبد بشكله الخاص ، ولأجل ذلك لا يقع التصادم بين تعاليمه مع التقدم العلمي الهائل في مظاهره ، وأشكاله الخارجية.

توضيحه : أنّه لا شك أنّه كان في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله هندسة خاصة للمساكن

ص: 292


1- نهج البلاغة باب الحكم ، رقم 390.

والبيوت ، وشكل خاص في المأكل والملبس ، ونمط خاص لبث العلم والتربية ... غير أنّ الذي كان يهم الإسلام - في جميع الأزمنة - لم يكن تخطيط الحياة البشرية على تلك الأشكال والأنماط بل كان الحقيقة والجوهر من كل ذلك ، فإنّ الذي يبتغيه الدين الإسلامي هو وجود المسكن وتوفر الملبس وإشاعة العلم والتربية ، وكون الغذاء حلالاً طيباً طاهراً.

وأمّا الكيفية والشكل والصورة فلا يهم الدين ولا يحدد شيئاً في مجاله ، فليكن البيت بأيّة هندسة كانت ، ولتصنع الملابس بأي شكل كان ، وليطبخ الناس طعامهم على النحو الذي يريدون ، وليشاع العلم بأيّة وسيلة كانت فليس كل ذلك مهماً ومطروحاً للدين.

وهذا هو سر خاتمية الدين الإسلامي وهذا هو سر خلوده ، وتمشّيه مع تطور الحياة ، وتقدم الحضارات.

والذي يوقفك على ذلك أنّ بيع الدم وشراءه كان من المعاملات المحرّمة ومصداقاً لقوله سبحانه :

( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) ( البقرة - 188 ).

وذلك لعدم وجود منفعة محلّلة للدم ولذلك قال الشيخ الأعظم الأنصاري في مكاسبه ( ص 41 ) :

« تحرم المعاوضة على الدم بلا خلاف » بل عن النهاية وشرح القواعد لفخر الدين والتنقيح : « الاجماع عليه ، وتدل عليه الأخبار ».

بيد أنّ تقدم العلوم والحضارة أوجد للدم منفعة محلّلة كبيرة ، فعليها تقوم « العملية الجراحية » ومداوة الجرحى عن طريق الحقن الدموية.

ولهذا عادت المعاملة بالدم - في هذا العصر - معاملة صحيحة ، لا بأس بصحّتها وجوازها ... وليس هذا من قبيل منسوخية الحكم بل لتبدّل الحكم بتبدّل موضوعه كتبدل الخمر إلى الخل.

ص: 293

وقس على ذلك سائر الاُمور فللإسلام خاصية الاهتمام باللب والجوهر في عامة المجالات وهذا أحد العناصر التي تجعله يساير عامة الحضارات الإنسانية إلى قيام يوم الدين.

3. الأحكام التي لها دور التحديد :

من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين وانطباقه على جميع الحضارات الانسانية تشريعه للقوانين الخاصة التي لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته وقد اصطلح عليها الفقهاء ، بالأدلّة الحاكمة ، لأجل حكومتها وتقدمها على كلّ حكم ثبت لموضوع بما هو هو. فهذه القوانين الحاكمة ، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي بها كل حضارة انسانية ، مثلاً : قوله سبحانه :

( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ( الحج - 78 ) حاكم على كل تشريع استلزم العمل به حرجاً ، لا يتحمل عادة ، للمكلف ، فهو مرفوع ، في الظروف الحرجية ، ومثلاً قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار » فكل حكم استتبع العمل به ضرراً شديداً ، فهو مرفوع في تلك الشرائط ، وقس عليهما غيرهما من القوانين الحاكمة.

نعم تشخيص الحاكم عن المحكوم ، وما يرجع إلى العمل بالحاكم من الشرائط ، يحتاج إلى الدقة والامعان والتفقّه والاجتهاد ، ومن رأينا أنّ الموضوع يحتاج إلى التبسط أكثر من هذا ، فالى مجال آخر أيها القارئ الكريم.

خاتمة المطاف :

إنّ بعض الكتّاب من الجدد طرح سؤالاً في المقام وجاء بجواب مبهم أوجد قلقاً واستياء في الأوساط العلمية ونحن ننقله بتعريب منّا :

السؤال : إنّكم تذهبون إلى ضرورة التكامل حتى في وجود الشخص النبي وأثبتم أنّ كل موجود يحتاج إلى السير التكاملي ، إذن لماذا كان النبي محمد يقول : أنا خاتم

ص: 294

النبيين ؟

الجواب : لقد أجاب على قسم من هذا الفيلسوف الإسلامي الكبير « محمد اقبال » وأضيف أنا الجواب على بقيته ، وهو ما أذهب إليه وأنا مسؤول عنه ، فأقول : عندما يقول النبي : « أنا خاتم الأنبياء » لا يريد أن يقول : « إنّ التشريعات التي أتيت بها تكفي البشرية إلى الأبد » بل الخاتمية تريد أن تقول : كان الانسان يحتاج حتى الآن - لاستمرار حياته إلى الهداية بما وراء ما يستمده من عقله وما توحيه تربيته البشرية ، والآن في هذا العصر ( القرن السابع الميلادي ) وبعد أن أوجدت المدنية اليونانية وحضارة روما والتمدّن الإسلامي ، وبعد أن اُنزل القرآن والإنجيل والتوراة ، بلغت التربية المذهبية إلى الحد الذي كان لابد منه. وبعد هذا العصر - وعلى ضوء هذا القسم من التربية - بإمكان الانسان أن يحيى ويتكامل من دون حاجة إلى وحي ونبوّة جديدة وعلى هذا ختمت النبوّة فشقّوا الطريق بأنفسكم.

ولم يظهر لنا ماذا قصد من هذا الجواب وإليك بعض احتمالاته :

1. أن يقصد من قوله : « لا يريد أن يقول انّ التشريعات التي أتيت بها تكفي البشرية إلى الأبد » ما أوضحناه عند البحث عن السؤال الخامس ، من أنّه يجب على علماء الاُمّة وفقهائهم عندما يحدث شيء من المشكلات والأزمات في جميع مجالات الحياة من الحوادث التي لم تكن معهودة في عصر صاحب الرسالة ، استفراغ الوسع في استنباط أحكامها على ضوء الكتاب والسنّة واطار سائر المصادر الشرعية ، فلو أراد هذا فهو حق لا إشكال فيه غير أنّ تلك النظرية لا تختص به ولا بالفيلسوف الإسلامي « محمد اقبال » حتى يكون هو المسؤول فيما ذهب إليه واختار ، بل كل مسلم يؤمن بأنّ الإسلام شريعة اللّه الخالدة الدائمة الكاملة الوافية بحل جميع اُمور الحياة ومشاكلها من اُصولها إلى فروعها.

2. أن يكون المقصود منه الاعلام بختم النبوّة والرسالة دون ختم التشريع فهو مفتوح لم يوصد بعد ، فعلى الاُمّة أن تشرّع من القوانين حسب ما تحتاج إليه عبر الزمان.

ص: 295

غير أنّ تلك فكرة عليها مسحة مسيحية محجوجة بما دلّت الضرورة والأدلّة على أنّ التشريع من حقوق اللّه سبحانه على عباده لم يفوّضه لأحد من أفراد الاُمّة.

3. أن يكون المقصود أنّ هنا أحكاماً ثابتة ومقررات متغيّرة ، حسب مقتضيات الزمان ومصالح الوقت ، فلو أراد ذلك فقد أوضحنا حاله عند البحث عن السؤال الرابع فلاحظ.

* * *

هذه هي الخاتمية ، ودلائلها المشرقة ، وشبهاتها الضئيلة ، وأسئلتها الهامة ، وأجوبتها الرصينة عرضناها للبحث والتنقيب ، ولم يكن رائدنا إلاّ تبنّي الحقيقة وكشف الغطاء عن وجهها ، متحررين من كل رأي سابق لا دليل عليه.

ص: 296

الفصل الخامس: النبي الاُمّي في الذكر الحكيم

اشارة

لم يختلف اثنان من الاُمّة الإسلامية في أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة قبل بزوغ دعوته لمصلحة صرّح اللّه بها في الكتاب العزيز وسوف يوافيك بيانها. وصحائف حياته البيضاء أوضح دليل على ذلك ، وقد أجمع أهل السير والتاريخ على أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يدخل مدرسة ولم يحضر على أحد للدراسة وتعلّم الكتابة ، بل هو منذ نعومة أظفاره ، يوم كان في أحضان جده وعمّه إلى أن بلغ الأربعين ، لم يحم حول هذه الاُمور وقد تواترت على ذلك كلمات العلماء الأبرار والفطاحل من أئمّة الإسلام ، وقد اقتفوا في ذلك أثر كتاب اللّه العزيز ودونك نصوصه من مواضع مختلفة.

النص الأوّل قوله سبحانه :

( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت - 48 ) سبحان اللّه ما أصرح كلامه وأوضح دلالته.

ص: 297

هل تجد من نفسك ريباً في أنّه بصدد نفي تلاوة أي كتاب عن نبيّه الأكرم قبل نزول الوحي عليه ، وكتابة أي صحيفة عنه ، أوليس من القواعد الدارجة بين أئمّة الأدب ، أنّ النكرة في سياق النفي تفيد انتفاء الحكم عن كل أفرادها وتعطي شمول السلب كقوله سبحانه : ( وَمَن يُهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ) ( الحج - 18 ) وقد قال سبحانه : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) فأدخل النفي على النكرة وجعلها في سياقه ، فإذن المراد من التلاوة المنفية تلاوة مطلق الكتاب كما أنّ المراد من الخط المنفى عنه تسطير أي كتاب وترسيم أي صحيفة تقع في ذهن السامع ، فالضمير المتصل بالفعل ( لاتخطه ) عائد إلى ( كتاب ) وكأنّه جل شأنه قال وما كنت تخط كتاباً. وقد وافاك أنّ مثل هذا الكلام لوقوع النكرة في سياق النفي يفيد عموم النفي فاللّه سبحانه نفى عن نبيه ، مطلق التلاوة والكتابة قبل بعثته.

ثم إنّه عزّ اسمه ، علّل سلب هذا الأمر عن نبيّه بمصلحة أولى وألزم ، وهي نفي ريب المبطلين وشك المشككين ، إذ لو كان الرسول صلی اللّه علیه و آله في برهة من عمره تالياً للكتب ، وممارساً للصحف ، لساغ للبسطاء من اُمّته والمعاندين منهم أن يرتابوا في رسالته وقرآنه ، ويلوكوا في أشداقهم بأنّ ما جاء به من الصحف والزبر والسور والآيات ، إنّما تلقّاها من الصحف الدينية وقد صاغها وسبكها في قوالب فصيحة ، تهتز منها النفوس وترتاح إليها القلوب ، فليست لما يدّعيه من نزول الوحي على قلبه ، مسحة حق أو لمسة صدق.

وقد حكى سبحانه هذه الفرية الشائنة عن بعض المشركين فقال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان : 4 - 5 ) فاللّه سبحانه لقلع جذور الشك عن قلوب السذج من الاُمّة ، والمبطلين منهم ، صرفه عن تعلّم الكتابة حتى يصبح لنبيّه أن يتلو على رؤوس الاشهاد قوله سبحانه : ( قُل لَّوْ شَاءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس - 16 ).

ص: 298

يعني يا معشر العرب : أنتم تحيطون خبراً بتاريخ حياتي فإنّي تربيّت بين ظهرانيكم ولبثت فيكم عمراً يناهز الأربعين ، فهل رأيتموني أتلو كتاباً أو اخط صحيفة ، فكيف ترمونني بالافك الشائن : بأنّه أساطير الأوّلين اكتتبتها ، ثم افتريتها على اللّه ، وأعانني على ذلك قوم آخرون.

فلو لم يكن النبي اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة بل كان قارئاً وكاتباً وممارساً لهما على رؤوس الأشهاد ، لما أمكن له أن يتحدى الاُمّة العربية وفي مقدمتهم صناديد قريش بقوله : ( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان - 6 ). فلأجل تحقيق هذه المصلحة المهمة ، نشأ النبي في أحضان قومه وشب وترعرع إلى أن ناهز الأربعين وهو اُمّي لا يحسن القراءة والكتابة ، ولو كان وقتئذ قارئاً وكاتباً وهم اُمّيون لراجت شبهتهم في أنّ ما جاء به نتيجة اطلاع ودرس وأثر نظر في الكتب.

وجاء المفسرون في المقام بكلمات درية وجمل موضحة للمراد فقال أمين الإسلام في تفسير الآية : « اللام » في قوله : ( إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) للقسم وفي الكلام حذف ، تقديره : ولو خططته بيمينك أو تلوت قبله كتاباً إذاً واللّه لارتابوا ، والمعنى لو كنت تقرأ كتاباً أو تكتبه لوجد المبطلون طريقاً إلى إيجاد الشك في أمرك والقاء الريبة لضعفة الناس في نبوّتك ولقالوا : إنّما تقرأ علينا ما جمعته من كتب الأوّلين فلما ساويتهم في المولد والمنشأ ثمّ أتيت بما عجزوا عنه وجب أن يعلموا أنّه من عند اللّه تعالى وليس من عندك ، إذ لم تجر العادة أن ينشأ الانسان بين قوم يشاهدون أحواله من صغره إلى كبره ، ويرونه في سفره وحضره ، لا يتعلّم شيئاً من غيره ، ثم يأتي من عنده بشيء يعجز الكل عنه وعن بعضه ويقرأ عليهم أقاصيص الأوّلين (1).

* * *

ص: 299


1- مجمع البيان ج 4 ص 287.

نظريات شاذة للدكتور الهندي

ثم إنّ الدكتور عبد اللطيف الهندي المعاصر - في مقال خاص له حول اُمّية النبي الأعظم - رأياً شاذاً وقد ألقى مقاله هذا باللغة الانكيلزية في المؤتمر الإسلامي المنعقد في حيدر آباد عام (1964) فخرق الاجماع المسلّم بين طوائف المسلمين على أنّه صلی اللّه علیه و آله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب ، وخالف الرأي العام وقال إنّه صلی اللّه علیه و آله لم يكن اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة بل كان يقرأ ويكتب في حداثة سنّه إلى اُخريات أيّامه (1) ولما رأى أنّ تلك النظرية تخالف النص الصريح في القرآن الكريم جاء يتأوّل ظاهر الآية تأويلاً بارداً وقال ما هذا حاصله :

المراد من الكتاب في قوله : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) إنّما هو الكتب السماوية نظائر التوراة والانجيل النازلة بغير اللغة العربية فلم يكن النبي عارفاً بتلكم اللغات ولا قادراً على تلاوتها وهو غير القول بأنّه صلی اللّه علیه و آله لم يكن قارئاً ولا كاتباً حتى باللغة العربية التي هي لسان قومه وبيته.

ولا أدري ماذا حمل الكاتب على هذا التأويل إذ لو كان المراد نفي معرفته بهذه الكتب المعينة ، لما صح له أن يقول : ( مِن كِتَابٍ ) بل كان عليه أن يقول : ما كنت تتلو من قبله الكتاب أو الكتب مشيراً باللام إلى الكتاب أو الكتب المعهودة وقد أتى باللام فيما قصد نفي العرفان بالكتب السماوية عنه فقال تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الشورى - 52 ).

وقال عزّ شأنه : ( وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ ) ( العنكبوت - 47 ).

ص: 300


1- وقد تأثر في نظره عن رجال الكنيسة والتبشير ، قال الحداد في كتابه - القرآن والكتاب - ص 410 محمد لم يكن اُمّياً بل تاجراً دولياً ومثقفاً ومطّلعاً وبحاثة دينياً ...

ترى أنّه سبحانه عندما رام أن يشير إلى هذه الكتب المعهودة عرفها باللام إشارة إلى معهوديتها.

أضف إليه أنّ الهدف الأسمى للآية من نفي التلاوة والكتابة عنه صلی اللّه علیه و آله هو قلع جذور الريب والشك من قلوب المبطلين ، ولا يتحصل ذلك إلاّ بكونه اُمّياً غير قارئ ولاكاتب قط ، ولا يحسن القراءة والكتابة أصلاً. ولو صح ما يرتئيه الدكتور لما نهضت الآية إلى رفع آثار الشك وغبار الريب بل كان باب اكتساب الشك في أمره صلی اللّه علیه و آله والقاء الريب في قلوب ضعفاء الناس بنبوّته مفتوحاً بمصراعيه. إذ كان للجاحد المبطل أن يقول انّه صلی اللّه علیه و آله بمزاولته صحف والكتب العربية ، وقف على أحوال الماضين وأقاصيص الأوّلين ، فأودع نتائج أفكاره وما استحصل عليه منها بعد سبره لغورها ، في هذه الصحائف وفي ضمنها من هذه السور والآيات التي افتراها على اللّه ، وقد رماه بهذه الفرية الشائنة رؤوس الكفر والعناد فيما حكاه عزّ وجلّ : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان - 5 ).

وفي نفس الآية دليل بارز على أنّ الهدف منها هو نفي مطلق التلاوة والكتابة عنه صلی اللّه علیه و آله حيث عطف على الجملة الأولى : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) قوله : ( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) .

بيانه : لو كان المراد من الآية سلب القدرة عن النبي صلی اللّه علیه و آله في خصوص ما يتعلّق بتلاوة الكتب الدينية النازلة باللغة العبرانية أو غيرها من اللغات غير الدارجة في الجزيرة العربية ، لكان له تعالى أن يقتصر عل الجملة الاُولى ، ولا يردفها بقوله : ( وَلا تَخُطُّهُ ) لوضوح الملازمة بين السلبين. فإذا كان الرجل لا يقدر على قراءة كتاب اُلّف بلغة خاصة ، فهو لا يقدر على خطها وترسيمها بتاتاً ، فعلى ذلك لماذا جيئ بالمعطوف مع امكان الاستغناء عنه بما تقدم عليها.

ولكن لو كان الغرض هو التنبيه على اُمّية النبي بأوضح العبارات ، والاجهار بها بأصح الأساليب ، وأنّه صلی اللّه علیه و آله قبل بعثته لم يكن قارئاً ولا كاتباً بتاتاً ، بل كان بعيد عن ذلك

ص: 301

كل البعد ، لصح عطفها على ما تقدم عليها ، لأنّ العرف إذا حاول توصيف الرجل بالاُمّية يقول في حقه : إنّه لا يعرف القراءة والكتابة ، أو أنّه ليست بينه وبين التلاوة والكتابة أية صلة ، ولا يقتصر على نفي الاُولى بل يردفها بنفي الاُخرى أيضاً ، توضيحاً للمراد. واللّه سبحانه لمّا أراد التركيز على اُمّية النبي وأنّه طيلة عمره كان بعيداً عن مجالات العلم والدراسة ، أتى بما هو الدارج في لسان العرب ، إذا أرادوا توصيف الشخص بالاُمّية.

والشاهد على ما ذكرنا : أنّك لو ألقيت هذه الآية على أي عربي عريق في لغته ولسانه ، يقضي بأنّ المقصد الأسنى منها نفي معرفته صلی اللّه علیه و آله بالتلاوة والكتابة على الاطلاق. نعم الآية خاصة بما قبل البعثة ، لا تعم ما بعدها ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية فانتظر.

وربما يقال (1) : إنّ الآية تنفي مطلق التلاوة والكتابة ولكنّه لا يدل على نفي احسانهما عنه : قلت : سيوافيك جوابه عند البحث عن وضع النبي صلی اللّه علیه و آله بعد البعثة.

النص الثاني من القرآن على كونه اُمّياً :

يدل على ذلك قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .

( فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( الأعراف : 157 - 158 ).

قد وصف سبحانه نبيّه في هذه الآية بخصال عشر وهي : أنّه رسول ، نبي ، اُمّي ،

ص: 302


1- نقله الشيخ الطوسي في تبيانه راجع ج 8 ص 216 ط بيروت.

مكتوب اسمه في التوراة والانجيل ، ومنعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، يحل لهم الطيبات ، يحرّم عليهم الخبائث ، يضع عنهم الإصر ، ويرفع عنهم الأغلال.

وهذه الصفات التي تضمّنتها الآية في حق النبي الأكرم واضحة حتى الوصف الذي هو موضوع البحث ( الاُمّي ) إذ الاُمّي حسب تنصيص الكتاب المبين هو من لا يقدر على القراءة ولا يحسن الكتابة كما يقول سبحانه : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) ( البقرة - 78 ).

قوله سبحانه : ( لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) توضيح لقوله اُمّيون أي منهم اُمّة منقطعون عن كتابهم لا يعلمون منه إلاّ أوهاماً وظنوناً يتلوها عليهم علماؤهم ، الذين يحرفون كتاب اللّه وكلماته عن مواضعها ، ويحسب هؤلاء السذّج أنّه الكتاب المنزل إليهم من ربّهم. ولذلك قال سبحانه في الآية التالية : ( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة - 79 ).

فلو كانوا عارفين بالكتاب قادرين على قراءته وتلاوته لما اغتروا بعمل المحرّفين ، ولميّزوا الصحيح من الزائف غير أنّ اُمّيتهم وجهلهم به حالت بينهم وبين اُمنيتهم.

قال الرازي : إنّه تعالى وصف محمداً في هذه الآية بصفات تسع (1) إلى أن قال : الصفة الثالثة كونه اُمّياً ، قال الزجّاج : معنى الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب ، قال عليه الصلاة والسلام : إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب (2) فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون ، والنبي كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّياً (3).

ص: 303


1- لا ، بل عشر ، كما عرفت.
2- إيعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه ج 1 ص 327 عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا أو هكذا ، مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.
3- مفاتيح الغيب ج 4 ص 309.

وقال البيضاوي : الاُمّي لا يكتب ولا يقرأ ، وصفه به تنبيهاً على أنّ كمال علمه مع حاله هذا ، إحدى معجزاته (1).

هذا وقد أصفقت على ما ذكرنا من المعنى للاُمّية معاجم اللغة المؤلّفة في العصور الزاهرة بأيدي الخبراء الأساطين وفي مقدّمهم : أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفّى عام 395 صاحب « مقاييس اللغة » (2) وغيرها من الكتب الممتعة ودونك كلامه :

« اُم » له أصل واحد يتفرع منه أربعة أبواب وهي الأصل ، والمرجع والجماعة والدين ، قال الخليل : كل شيء تضم إليه ما سواه مما يليه ، فإنّ العرب تسمّي ذلك اُمّاً ومن ذلك اُم الرأس : وهو الدماغ ، اُم التنائف : أشدها وأبعدها ، اُم القرى : مكة وكل مدينة هي اُم ما حولها من القرى ، واُم القرآن : فاتحة الكتاب واُم الكتاب ما في اللوح المحفوظ ، واُم الرمح : لواؤه وما لف عليه ، وتقول العرب للمرأة التي ينزل عليها : اُم مثوى ، واُم كلبة : الحمى ، واُم النجوم : السماء ، واُم النجوم : المجرّه ... إلى أن عد كثيراً من هذه التراكيب فقال : الاُمّي في اللغة : المنسوب إلى ما عليه جبلة الناس لا يكتب ، فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه (3).

ومحصل كلامه أنّه ليس للاُم إلاّ مادة واحدة وهي الأصل لغيرها ومنه يتفرع غيرها فاُم الانسان اُم لأنّها أصله وعرقه وهكذا ...

وهذا الزمخشري إمام اللغة والبلاغة فسر قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) بأنّهم لا يحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة

ص: 304


1- أنوار التنزيل وأسرار التأويل ج 3 ص 230 مع شرحه لاسماعيل القنوي.
2- بلغ ابن فارس الغاية في الحذق باللغة ، وكنه أسرارها وفهم اُصولها ، وقد حاول في تأليف هذا المعجم أن يوحّد المعاني المتعددة المفهومة من لفظ واحد وذلك بارجاعها إلى أصل واحد تفرّعت عنه تلك المعاني في الاستعمال - وقد إنفرد من بين اللغويين بهذا التأليف ولم يسبقه إلى مثله أحد ، ولم يخلفه غيره.
3- المقاييس ج 1 ص 21 - 28 والكشاف ج 1 ص 224.

ويتحققوا ما فيها (1).

وقال أمين الإسلام في مجمع البيان : ذكروا للاُمّي معاني :

أوّلها : أنّه الذي لا يكتب ولا يقرأ.

ثانيها : أنّه منسوب للاُمّة والمعنى أنّه على جبلة الاُمّة قبل استفادة الكتاب.

ثالثها : أنّه منسوب إلى الاُم والمعنى أنّه على ما ولدته اُمّه قبل تعلم الكتابة.

قلت : هذه المعاني متقاربة تهدف إلى مفهوم واحد. وإنّما الاختلاف في انتسابه إلى الاُم أو الاُمّة وقد جمع ابن فارس في كلامه كلا الاحتمالين.

هذه نصوص بعض أئمّة اللغة وأساطين التفسير ، إذا شئت فلاحظ كلمات الباقين منهم.

الآراء الشاذة في تفسير الاُمي :

ربّما يجد القارئ في طيات بعض التفاسير معاني اُخر للاُمّي لا تتفق مع ما أصفقت عليه أئمّة اللغة والتفسير فلا بأس بذكرها ودحضها :

1. الاُمي منسوب إلى اُم القرى وهي علم من أعلام مكة كما يدل عليه قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الشورى - 7 ) وعلى ذلك فالمراد من الاُمي أنّه مكي.

وفيه مواقع للنظر والنقد :

أوّلاً : إنّ اُم القرى ليست من أعلام مكة - وإن كان يطلق عليها - غير أنّ الإطلاق لا يدل على كونه من أعلامها ، بل هو موضوع على معنى كلي وهي إحدى مصاديقه ولا تنس ما ذكره ابن فارس بقوله : « كل مدينة هي اُم ما حولها من القرى » فيعلم من ذلك

ص: 305


1- المقاييس ج 1 ص 21 - 28 والكشاف ج 1 ص 224.

أنّ اُم القرى مفهوم كلي يصح اطلاقه على أية بلدة تتصل بها قرى كثيرة بالتبعية ، وهذه القرى تعمتد عليها في اُمور حياتها ، ويعاضد ما ذكرناه ( كون اُم القرى كلياً ) قوله عزّ وجلّ : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص - 59 ) فالآية ( بحكم رجوع الضمير في اُمها إلى القرى ) صريحة في أنّها ليست علماً لموضع خاص ، لأنّ مشيئته تعم الاُمم في هذا الأمر ( أهلاك الاُمم وإبادتهم بعد انذارهم ببعث الرسل ) ولا تختص باُمّة دون اُخرى ، أو نقطة دون نقطة ، وعلى هذا ، فمفاد الآية أنّ اللّه سبحانه يمهل أهل القرى من دون فرق بين قرية وقرية ، حتى يبعث في مركزها الذي هو مركز الثقل بالنسبة إليها ، والمجتمع لأكثر الناس ، وملتقى أفكارهم ، رسولاً يبشرّهم وينذرهم ، فإذا ضربوا عنه صفحاً وهجروا مناهجه ، يبيدهم ويهلكهم بألوان العذاب وهذه مشيئة اللّه وعادته في الاُمم السالفة البائدة جميعاً ، مكية كانت أم غيرها.

وثناياً : لو صح كونه من أعلام مكة فالصحيح عند النسبة إليها هو القروي لا الاُمّي ، هذا ابن مالك يقول في ألفيته :

وانسب لصدر جملة وصدر ما *** ركب مزجا ولثان تتما

اضافة مبدوة بابن وأب *** أو ما له التعريف بالثاني وجب

فيما سوى هذا انسبن للأول *** مالم يخف للبس كعبد الأشهل

قال ابن عقيل في شرحه : إذا نسب إلى الإسم المركب فإن كان مركباً تركيب جملة أو تركيب مزج ، حذف عجزه واُلحق صدره ياء النسب فتقول في تأبّط شراً : تأبطي ، وفي بعلبك : بعلي ، وإن كان مركب إضافة ، فإن كان صدره ابناً أو أباً أو كان معروفاً بعجزه ، حذف صدره واُلحق عجزه ياء النسبة ، فنقول في ابن الزبير : زبيري ، وفي أبي بكر : بكري ، وفي غلام زيد : زيدي ، وإن لم يكن كذلك ... (1).

والاقتصار على الابن والأب من باب المثال والحكم يعم الاُم والابنة والأخ

ص: 306


1- شرح ابن عقيل ج 2 ، ص 391.

والاُخت ، لاشتراك الجميع معهما في المناط والملاك - وهو كونها مركبة تركيب اضافة وحصول الالتباس لو اُلحقت بصدرها.

وثالثاً : إنّ اللّه وصف نبيّه في الآية بصفات تناسب موضوع النبوّة ، فلو كان الاُمّي فيها بالمعنى الذي أوضحناه ، لتلاءم الكلام ، وتكون تلك الصفة هادفة إلى آية نبوّته وبرهان رسالته ، لأنّه مع كونه اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب ، أتى بشريعة كافلة لسعادة الناس وسيادتهم وجاء بكتاب فيه هدى ونور ، وتضمن من الحقائق والمعارف ما لا يقف عليه حتى الأوحدي من الناس فضلاً عمّن لم يقرأ ولم يكتب ، وهذا برهان رسالته ودليل صلته باللّه وكونه مبعوثاً ومؤيداً منه تعالى.

ولو كان المراد منه ما زعمه القائل من كونه مكياً وأنّه وليد ذلك البلد ، لكان الاتيان به في ثنايا تلك الأوصاف والخصال اقحاماً بلا وجه واقتضاباً بلا جهة.

وإن شئت قلت : لو كان المراد من الاُمي ما ذكرناه لكان فيه إشارة إلى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله مع كونه باقياً على الحالة التي ولد عليها ، قد أتى بكتاب عجز الناس عن تحدّيه ، وكلّ البلغاء عن معارضته ، وخرس الفصحاء لديه ، مضافاً إلى ما فيه من المعارف الالهية والحقائق العلمية والدساتير والقوانين الاجتماعية والاقتصادية في شؤون الحياة الانسانية ومسائلها المعقدة ، وهذا دليل على صدق دعوته ، وأنّه مبعوث من عنده تعالى ، وهذه النكتة تفوتنا إذا فسرناه بأنّه مكي ووليد الحرم والبلد الأمين إذ ليس في كونه مكياً أي امتياز حتى ينوّه به.

وإلى ما ذكرنا يشير قوله عزّ وجلّ : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة - 2 ).

فإنّ توصيف النبي صلی اللّه علیه و آله بأنّه منهم ( أي من الاُمّيين ) للاشارة إلى أنّه مع كونه اُمّياً مثلهم يعلّمهم الكتاب والحكمة ، وما ذلك إلاّ لكونه مؤيداً منه تعالى بروح تعاضده وموجهاً بتوجيهه لارتقاء تلكم المدارج ، فالآية من قبيل اتيان الشيء ببيّنته وبرهانه.

ص: 307

نعم ورد في بعض المأثورات حول تفسير الاُمّي انتسابه إلى اُم القرى ، وسوف نرجع إلى هذه الروايات بالإيراد والمناقشة في اسنادها ومضامينها.

الرأي الثاني :

2. ما اختاره الدكتور عبد اللطيف الهندي في مقاله المومى إليه فقال : الاُمّي من لم يعرف المتون العتيقة السامية ، ولم ينتحل إلى ملّة أو كتاب من الكتب السماوية والشاهد عليه أنّ اللّه جعل الاُمّي في الكتاب العزيز ، مقابل أهل الكتاب فيستظهر منه أنّ المراد منه هي الاُمّة العربية الجاهلة بما في زبر الأوّلين من التوراة والانجيل غير منتحلة إلى دين أو ملة لا من لا يقدر على التلاوة والكتابة.

أقول : ما ذكره الدكتور زلّة وعثرة لا تستقال فإنّ اطلاق الاُمّيين على العرب المشركين ليس « بسبب جهلهم بالمتون السامية ، وإن كانوا عارفين بلسان قومهم قادرين على تلاوته وكتابته » كما حسبه الدكتور ، بل بسبب جهلهم بقراءة لغتهم وكتابتها لأنّ الثقافة العربية بمعنى قراءة اللغة العربية وكتابتها ، كانت متدهورة في العصر الجاهلي وكانت الاُمّية هي السائدة ولا يسودهم في تلكم الظروف شيء غيرها وكانت القدرة على القراءة والكتابة محصورة في ثلّة قليلة لا يتجاوز أفرادها عدد الأصابع.

فهذا الإمام البلاذري أتى « في فتوح بلدانه » بأسماء الذين كانوا عارفين بالقراءة والكتابة في العهد الجاهلي فما تجاوزت عدتهم عن سبعة عشر رجلاً في « مكة » وعن أحد عشر نفراً في « يثرب » وقال : اجتمع ثلاثة نفر من طي ب « بقة » وهم مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة ، وعامر بن جدرة فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية ، فتعلّمه منهم قوم من أهل الأنبار ثم تعلّمه أهل الحيرة من أهل الأنبار وكان بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي ، ثم السكوني صاحب دومة الجندل ، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين وكان نصرانياً فتعلم « بشر » الخط العربي من أهل الحيرة ثمّ أتى مكة في بعض شأنه فرآه سفيان بن اُمية بن عبد شمس وأبو قيس بن عبد

ص: 308

مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يعلّمهما الخط فعلّمهما الهجاء ، ثمّ أراهما الخط فكتبا ، ثمّ إنّ بشراً وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلّم الخط منهم وفارقهم بشر ، ومضى إلى ديار مضر ، فتعلّم الخط منه عمرو بن زرارة بن أعدس فسمّي عمرو الكاتب ، ثمّ أتى بشر الشام فتعلّم الخط منه ناس هناك وتعلّم الخط من الثلاثة الطائيين أيضاً رجل من طابخة كلب ، فعلّمه رجل من أهل وادي القرى فأتى الوادي يتردد فأقام بها وعلّم الخط قوماً من أهلها - إلى أن قال : - فدخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب ، عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالبو ... (1).

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته ، أنّ عهد قريش بالكتابة والخط العربي لم يكن بعيداً بل كان حديثاً وقريباً بعهد الرسول فقد تعرفوا عليها قبيل ظهور الإسلام حيث قال في الفصل الذي عقده لبيان أنّ الخط والكتابة من عداد الصنايع الانساية :

كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الأحكام والاتقان والجودة في دولة التبابعة ، لما بلغت من الحضارة والترف وهو المسمّى بالخط الحميري وانتقل منها إلى الحيرة لما كان فيها دولة آل المنذر بسبأ التبابعة إلى أن قال : ومن الحيرة لقّنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر ، يقال إنّ الذي تعلّم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن اُمية ويقال حرب بن اُمية وأخذها من أسلم بن سدرة وهو قول ممكن وأقرب ممن ذهب إلى أنّهم تعلّموها من أياد أهل العراق وهو بعيد ، لأنّ اياداً وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة ، والخط من الصنايع الحضرية فالقول بأن أهل الحجاز إنّما لقنوها من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير ، هو الأليق من الأقوال (2).

فإذا كان هذا مبدأ تعرفهم بالكتابة والقراءة وكان هذا مقياس ثقافتهم وتعرفهم عليها في المنطقتين ( مكة والمدينة ) فما ظنك بهم في المناطق الاُخرى ، نعم كانت الربوع

ص: 309


1- فتوح البلدان ص 457.
2- مقدمة ابن خلدون ص 418 ، طبع بيروت ، الطبعة الرابعة.

المختصة باليهود والنصارى ، تزدحم بأحبارهم وحفّاظ كتبهم ، فكانت القراءة والكتابة رائجتين بينهم ، لمسيس حاجتهم إلى معرفة كتابهم وما فيه من الطقوس والسنن.

فإذا ألممت أيها الباحث ولو إلمامة عابرة بروح ذلك العصر ، ووقفت على ما كان يسود في تلكم الظروف والبيئات ، لقضيت بأنّ المراد من الاُمّي حتى في ما استعمل عند أهل الكتاب هو العاجز عن القراءة والكتابة بقول مطلق كقوله سبحانه : ( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ ) ( آل عمران - 20 ) ويوضح ما ذكرناه قوله سبحانه : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) ( البقرة - 78 ) (1) فالآية بحكم رجوع الضمير ( وَمِنْهُمْ ) إلى اليهود ، تقسم اليهود إلى طائفتين ، طائفة يعلمون الكتاب ، واُخرى طائفة اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً بل تتخيله أمانياً فقد أطلق الاُمّي في هذه الآية على بعض أهل الكتاب بملاك جهله بكتابه ، قراءة وكتابة ، ولكن الجهل بالكتاب الذي نزل بلسانه ولسان قومه يلازم الجهل بسائر اللغات طبعاً.

فهذا الكتابي بما أنّه لا يحسن القراءة والكتابة قط ، اُمّي كالعربي الاُمّي بلا تفاوت.

وقصارى ما يمكن أن يقال : إنّه ليس للاُمّي إلاّ مفهوم واحد وضع له وضعاً واحداً ، غير أنّ مفهومه يختلف حسب اختلاف الظروف والبيئات ، حسب اختلاف الاضافات والنسب ، فالاُمّي في أجواء الكتابيين عبارة عمّن لا يعرف لغة كتابه فلو قيل : ذلك الكتابي اُمّي فالمقصود منه بقرينة لفظ « الكتابي » كونه اُمّياً بالنسبة إلى كتابه الذي ينتحل إليه ، كما أنّ الاُمّي في البيئات العربية عبارة عمّن لا يحسن العربية قراءة وكتابة وهكذا ...

وبناء على ذلك فالاُمّيون في قوله سبحانه : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ ) عبارة عن الطائفة الجاهلة بالمتون السامية من أهل الكتاب ، لا يحسنون تلاوتها

ص: 310


1- هذه الآية بما أنّها تقسّم أهل الكتاب والمنتحلين إليه إلى طائفتين اُمّية وغير اُمّية ، تبطل ما ادعاه الدكتور من أنّ الاُمّي عبارة عن من لم ينتحل إلى الدين ولم ينسب إلى ملّة.

ولا كتابتها ، إلاّ أنّ ذلك الاطلاق لا يثبت كون الاُمّي موضوعاً على من لا يعرف اللغة السامية كما حسبه الدكتور. بل لمّا كان محور البحث في الآية أهل الكتاب وانقسامهم إلى طائفة عالمة بما في كتابهم ، وطائفة جاهلة به ، اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً ، صار ذلك كالقرينة على أنّ المقصود من الاُمّيين فيها ، هي الطائفة الجاهلة بالمتون السامية واللغة التي اُنزلت بها كتبهم.

وهذا الوجه لا يشمل « الاُمّي » في غير هذه الآية ولا على الموارد العارية عن هذه القرينة ولا يثبت كونه موضوعاً لمن يكون جاهلاً بالمتون السامية ، كما ادعاه القائل.

إذا وقفت على ما ذكرناه وقوف المستشف للحقيقة ، لأذعنت أنّه ليس للاُمّي إلاّ مفاد واحد وهو الباقي على الحالة التي ولد عليها. ولو اطلق في مورد أو موارد على من لا يعرف المتون السامية ، فلأجل قرينة دلّت عليه ، فهو من باب تطبيق الكلي على فرده الخاص لا أنّه موضوع على ذلك الخاص.

بحث وتنقيب :

لقد بان الحق بأجلى مظاهره بحيث لم تبق لمجادل شبهة في دلالة الذكر الحكيم على أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب قبل أن يختاره اللّه تعالى للتبشير والانذار ، وظهر ما هو الحق الصراح في معنى الاُمّي الذي وصف اللّه به نبيّه الأكرم ، نعم روي عن بعض أئمّة أهل البيت في تفسير الاُمّي ما يتراءى منه خلاف ما أوضحناه وحققناه ودونك ما روي عنهم في هذا الباب (1).

1. أخرج الصدوق في علل الشرائع ومعاني الأخبار عن أبيه عن سعد (2) عن ابن

ص: 311


1- سوف نرجع في آخر البحث إلى تحقيق القول في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت وغيرهم في المقام والغرض هنا عرض ما يرجع إلى خصوص تفسير لفظ الاُمّي فقط.
2- سعد بن عبد اللّه القمي ترجمه شيخ الطائفة في باب أصحاب العسكري علیه السلام .

عيسى (1) عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضا علیه السلام فقلت : يا بن رسول اللّه لم سمّي النبي الاُمّي ؟ فقال : ما يقول الناس ؟ قلت : يزعمون أنّه سمّي الاُمّي لأنّه لا يحسن أن يكتب ، فقال : كذبوا عليهم لعنة اللّه في ذلك ، واللّه يقول في محكم كتابه : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن ، واللّه لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو قال : بثلاثة وسبعين لساناً وإنّما سمّي الاُمّي لأنّه كان من أهل مكة ، ومكة من اُمّهات القرى وذلك قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام - 92 ) (2).

وأخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار المتوفّى عام 290 في بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي مثله.

ونقله الشيخ المفيد معلّم الاُمّة في « اختصاصه » بهذا السند أيضاً.

والحديث على كل تقدير ينتهي إلى محمد البرقي وهو مختلف فيه جداً لاستناده إلى المراسيل والضعاف ، وهو يروي عن جعفر بن محمد الصوفي الذي أهمله أصحاب المعاجم فالحديث ساقط عن الحجية.

أضف إليه ما في متنه من الشذوذ ، وفيه جهات من النظر :

أوّلاً : قوله إنّ النبي يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً ، يعطي أنّه صلی اللّه علیه و آله كان مشغولاً بقراءتها والكتابة بها في عامة حياته أو رسالته فقط ، وحمله على الإمكان والتعليق وأنّه صلی اللّه علیه و آله كان قادراً عليهما باثنين وسبعين لساناً لو شاء وأراد ، ولكنّه لم يشأ ويقرأ ولم يكتب بها أصلاً ، خلاف الظاهر ، وعلى ما استظهرناه فالرواية تخالف ماهو المتواتر من حياة النبي صلی اللّه علیه و آله .

ص: 312


1- أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ، ثقة جليل.
2- علل الشرائع ص 53 ، ومعاني الأخبار ص 20.

إذ لو كان النبي صلی اللّه علیه و آله على النحو الذي تصفه الرواية لذاع ذكره وطار صيته بهذا الوصف ولا يكاد يخفى على الناس أمره. على أنّه صلی اللّه علیه و آله في البيئة العربية الاُمية كان في منتأى عن سماع الألسنة أو رؤية أصحابها فلم يكن في موطنه ولا دار هجرته من يعرفها أو يتكلم بها فكيف يتكلم بهذه اللغات ، وهو لا يجد من يشافهه بها ، ولم تكن تحضره صحيفة أو صحائف كتبت بغير اللغة العربية.

ثانياً : إنّ تفسير الاُمّي بكونه منسوباً إلى اُمّ القرى ، يخالف ما اتفقت عليه أئمّة الأدب ، وجهابذة اللغة ، وأعلام التفسير بل يخالف القرآن الكريم حيث فسّر سبحانه بغير ذلك وقال : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) فلا يصح الركون في هذه المسألة إلى حديث ينتهي إلى من اختلف في وثاقته ، إلى من أهمله علماء الرجال في كتبهم.

ولسنا من الفئة التي تعرض القرآن والحديث الصحيح على القواعد العربية المدوّنة بعد أجيال من نزول القرآن ونشر الحديث ، بيد علماء الأدب ، فإنّ تلك الفئة ضالّة مضلّة مستحقة للرد والطعن. إذ الصحيح عرض القواعد على القرآن والحديث دون العكس ، فإنّ المقياس الوحيد لتمييز الصحيح عن غيره ، إنّما هو كلام أهل اللسان والأساليب الدارجة بينهم ، لا القواعد المدوّنة إذا لم ترجع إلى مصدر وثيق.

وعلى هذا فلو وجدنا القاعدة الأدبية المصطادة من تتبع بعض الموارد ومن كلام العرب ، مخالفة للقرآن الكريم أو الحديث الثابت عنهم ، أو الكلام الصادر عن عربي صميم ، وجب علينا هدم القاعدة ، ورميها بالخطأ والغلط ، لا تأويل الذكر الحكيم والحديث الصحيح ، والكلام المنقول عن أهل اللسان إذ القرآن سواء أقلنا إنّه كلام إلهي اُوحي إلى نبيّنا الأكرم أم قلنا إنّه من منشآته ومبدعاته ( وأجل النبي عن هذه الفرية الشائنة ) كلام صحيح ، صادر أمّا عن اللّه سبحانه أو عن عربي صميم شب وترعرع بين الاُمّة العربية وقضى عمره وحياته بين ظهرانيهم.

وعلى أي تقدير فهو الحجة في تدوين القاعدة وتأسيسها دون العكس ومثله الآثار المنقولة عنه صلی اللّه علیه و آله .

ص: 313

ونحن مع هذا الاعتراف الصريح لا نقر بما جاء في الحديث حول تفسير الاُمي وأنّه منسوب إلى اُم القرى ولا نرمي أئمّة الأدب بالخطأ والاشتباه ، إذ الحديث قاصر سنداً وينتهي إلى من اختلفت فيه كلمة أهل الجرح والتعديل ، إلى من لم تتضح حاله ووثاقته ، ولو ثبت صدوره عن أئمّة أهل البيت ، لهدمنا القاعدة النحوية في باب النسب وأخذنا بما فيه.

ثالثاً : إنّ الحديث لا ينسجم مع مضمون ما سيوافيك من الحديثين (1) ، فإنّ مفادهما هو كون النبي يقرأ ولا يكتب أصلاً ، وهذا يثبت له القراءة والكتابة باثنين وسبعين لساناً ، فلا مناص في مقام الترجيح عن الأخذ بهما وطرح ذاك ، لقوة اسنادهما وصحتهما على ما عرفت.

2. أخرج الصدوق في معاني الأخبار عن ابن الوليد عن سعد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفر علیه السلام قال : قلت : إنّ الناس يزعمون أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يكتب ولم يقرأ ؟ فقال : كذبوا لعنهم اللّه أنّى يكون ذلك وقال اللّه عزّ وجلّ : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ، فيكون يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ أو يكتب به ؟ قال : قلت : فلم سمّي النبي الاُمي ؟ قال : نسب إلى مكة وذلك قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) فاُم القرى مكة فقيل اُمّي لذلك (2).

ونقله صاحب البصائر عن عبد اللّه بن محمد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفر (3).

ص: 314


1- راجع البحث الآتي تحت عنوان « عرض وتحقيق » والمقصود من الصحيحين ما رواه هشام بن سالم ، والحسن الصيقل عن الصادق علیه السلام .
2- علل الشرائع ص 542.
3- بصائر الدرجات ص 62 ، بحار الأنوار ج 16 ص 133.

ويؤسفنا أنّ الحديث مع ما في متنه من العلات ، غير موصول السند إلى الإمام ، فالرواية مرفوعة وهو نوع من المرسل الذي لا يعتمد عليه.

وفي هذا المقال يلمس القارئ حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق الدينية ألا وهي مغزى كون النبي لا يحسن القراءة والكتابة قبل أن يختاره اللّه تعالى للتبشير والانذار.

نعم بقي الكلام في أمره صلی اللّه علیه و آله بعد البعثة ولأجل ذلك عقدنا لتحقيقه الفصل التالي :

ص: 315

أمر النبي صلی اللّه علیه و آله بعد بزوغ دعوته

اشارة

قد اهتدينا بهدى القرآن وساقتنا الأدلّة إلى القول بأنّه صلی اللّه علیه و آله كان قبل البعثة اُمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يسجل التاريخ له صلی اللّه علیه و آله في ذلك العهد قراءة لوح أو كتباة صحيفة ، ولم يكن ذلك اختلافاً تواطأ عليه المسلمون لهدف خاص كما حسبه الدكتور في مقاله (1) بل كان تقريراً للواقع وقد قابلنا التفكير السطحي الخاطئ بالرد والنقد.

غير أنّنا طلباً لوضوح الحقيقة ، واكمالاً للبحث ، نردف المقال بالبحث عن وضع النبي صلی اللّه علیه و آله بعد بزوغ دعوته وبعثته إلى الناس ، وأنّه هل بقي على ما كان عليه من الاُمية ، لنفس المصلحة التي اُوجبت اُميته قبل أن يبعث إلى هداية الناس ، أو لم يبق عليه ، بل كشف الحجاب عن ضميره الحي وعقله الواعي ، وقلبه الواسع ، عندما بزغت دعوته وبعث رسولاً إلى الناس ولا يمكن القضاء البات إلاّ بعد الوقوف على ما ذكره الفطاحل من رواة الحديث وأعلام التفسير.

وقد اختار ثلة جليلة من المحققين القول الثاني أنّ تمكن النبي صلی اللّه علیه و آله باذنه سبحانه

ص: 316


1- زعم الدكتور في مقاله أنّ اُمية النبي صلی اللّه علیه و آله فكرة حديثة بين المسلمين ، لصيانة القرآن عن التحريف وحفظه عن حدوث الزيادة والنقيصة عليه من جانب النبي صلی اللّه علیه و آله فإنّ الاُمي يعكس كل ما اُلقي عليه بلا تغيير وتحريف ، ولا يقدر على تحويره بخلاف غيره ، فانظر ما أجرأ هذا الرجل على تحريف الكلم عن مواضعه.

من القراءة والكتابة بعد ما نزل عليه الوحي واستدلوا على ذلك بوجوه لا تخلو من مناقشات واشكلات ، ونحن نذكر تلكم الوجوه ، ثمّ نردفها بما هو المختار عندنا :

1. الوجوه التي اعتمد عليها شيخنا المفيد :

هذا هو الشيخ المفيد استدل بأدلة ووجوه اعتقد أنّها الحجج الكافية لاثبات ما يرتئيه من أنّ النبي كان عارفاً بالقراءة والكتابة بعد بعثته ودونك ما أفاده برمّته :

1. إنّ اللّه تعالى لما جعل نبيّه صلی اللّه علیه و آله جامعاً لخصال الكمال كلها ، وخلال المناقب بأسرها لم تنقصه منزلة بتمامها ، ليصح له الكمال ، ويجتمع فيه الفضل والكتابة فضيلة من منحها فضل ، ومن حرمها نقص.

2. إنّ اللّه تعالى جعل النبي صلی اللّه علیه و آله حاكماً بين الخلق في جميع ما اختلفوا فيه ، فلا بد أن يعلمه الحكم في ذلك ، وقد ثبت أنّ اُمور الخلق قد يتعلق أكثرها بالكتابة فتثبت بها الحقوق ، وتبرأ بها الذمم ، وتقوم بها البيّنات ، وتحفظ بها الديون ، وتحاط بها الأنساب ، وأنّها فضل تشرف المتحلّي به على العاطل منه ، وإذا صح أنّ اللّه جلّ اسمه قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة ، محسناً لها.

3. إنّ النبي لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته ، ولو جاز أن يحوجه اللّه في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه ، وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمة باعثه ، فثبت أنّه صلی اللّه علیه و آله كان يحسن الكتابة.

4. إنّ اللّه سبحانه يقول : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( سورة الجمعة - 2 ) ومحال أن يعلمهم الكتاب وهو لا يحسنه ، كما يستحيل يعلمهم الكتاب والحكمة وهو لا يعرفهما ، ولا معنى لقول من قال : إنّ الكتاب هو القرآن خاصة ، إذ اللفظ عام والعموم لا ينصرف عنه إلاّ بدليل ، لا سيما على قول المعتزلة وأكثر

ص: 317

أصحاب الحديث.

5. يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( سورة العنكبوت - 48 ) فنفى عنه احسان الكتابة وخطه قبل النبوّة خاصة ، فأوجب احسانه بذلك لها بعد النبوّة ، ولولا أنّ ذلك كذلك لما كان لتخصيصه النفي معنى يعقل ، ولو كان حاله صلی اللّه علیه و آله في فقد العلم بالكتابة بعد النبوّة ، كحاله قبلها لوجب إذا أراد نفي ذلك عنه أن ينفيه بلفظ يفيده ، لا يتضمن خلافه فيقول له : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذ ذاك ولا في الحال ، أو يقول : لست تحسن الكتابة ولا يتأتى منك على كل حال ، كما أنّه لما أعدمه قول الشعر ومنعه منه نفاه بلفظ يعم الأوقات فقال اللّه تعالى : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ) ( يس - 69 ) وإذا كان الأمر على ما بيّناه ثبت أنّه صلی اللّه علیه و آله كان يحسن الكتابة بعد أن نبّأه اللّه تعالى ما وصفناه ، وهذا مذهب جماعة من الإمامية ويخالف فيه باقيهم وسائر أهل المذاهب والفرق يدفعونه وينكرونه (1).

وفي ما ذكره رحمه اللّه مناقشات نشير إليها :

أوّلاً : انّ الكتابة وإن كانت من الكمالات « ومن منحها له سبحانه فضل ومن حرمها نقص » غير أنّ ذلك يعد للعاديين الذين ينحصر طريق اكتسابهم للمعارف بها وحدها ، وأمّا من لا يحتاج إليها بل له طريق آخر لدرك الحقائق واكتساب المعارف كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّنا صلی اللّه علیه و آله فلا يعد التمكن من الكتابة والقراءة فضيلة له حتى يكون عدمهما نقصاً في حقه ، كيف وهو صلی اللّه علیه و آله قد عرف الواجب جلّ اسمه وصفاته وأفعاله ووقف على حقائق الكون ودقائقه عن طريق الوحي الذي هو أوثق وأسدّ الطرق الممكنة ، لا يخطأ ولا يشتبه وعند ذاك لا حاجة له إلى هذه الطرق العادية غير المصونة عن الخطأ والاشتباه.

أضف إليه لو فرضنا أنّ بقاء النبي على ما كان عليه من الاُمية كان يرفع الشك

ص: 318


1- أوائل المقالات ص 111 - 113 ط تبريز.

عن قلوب السذج من الناس ويؤكد ايمانهم واذعانهم بنبوّته وبما جاء به من الشريعة والكتاب وجب على المولى سبحانه ابقاءه على ما كان عليه من الصفات والنعوت ، طلباً للغاية التي بعثه لأجل احرازها وتحققها ، فإذا كان هو الملاك في اُمّيته قبل بزوغ دعوته فليكن هو الملاك في بقائه عليها فلا وجه لعد أحدهما نقصاً في حقه صلی اللّه علیه و آله دون الآخر.

ثانياً : إنّ ما ذكره « انّ الكتابة فضل تشرف المتحلي به على العاطل منه وإذا صح أنّ اللّه قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة محسناً لها » صحيح جداً وقد فضّل اللّه سبحانه نبيّنا على جميع الأنبياء والرسل ومنحه من الفضائل ما لم يمنحه لغيره غير أنّه لما كانت هناك مصلحة أولى وأهم كما صرح اللّه بها سبحانه في كتابه وهي طرد الريب عن القلوب الضعيفة ، صرفه اللّه سبحانه عن تعلّم القراءة والكتابة طيلة عمره ، ولم يمكنه منها طلباً لهذه الغاية المهمة وترك المهم توخّياً للأهم لا يعد نقصاً لو لم يعد كمالاً.

وإلى ذلك يشير الفاضل القنوي في تعليقه على « أنوار التنزيل » بقوله : ولذلك صارت الاُمية شرفاً وفخراً في شأنه صلی اللّه علیه و آله وصفة نقص في حق غيره.

وبذلك نجيب عن ما أفاده رحمه اللّه :

« لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته ، ولو جاز أن يحوجه اللّه في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمته » لأنّه إذا جاز احتياج النبي الأعظم في مورد خاص إلى بعض رعيته توخياً لبعض المصالح المهمة ، لا يستلزم جواز احتياجه في الموارد الخالية عنها فإنّ الأوّل لا يعد نقصاً عند العقلاء ولأجل ذلك يرجّحون الأهم على المهم عند التزاحم ، بخلاف الثاني.

ثالثاً : إنّ قوله سبحانه : ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) لا يدل على ما رامه أمّا إذا قلنا إنّ المراد من الكتاب هو القرآن كما هو الظاهر المتبادر إلى الذهن فإنّ تلاوة الآية

ص: 319

لا تفتقر إلى معرفة الكتابة إذا تلقى التالي محفوظاته من وحي أو تلقين ، ومن الناس من يتعلّم القرآن من الصدور لا السطور ويتلوه كما حفظ بدون توقف على معرفة الخط ، وأمّا إذا قلنا إنّ المقصود منه الكتابة وإن كان بعيداً جداً فليس معناه تعليم النبي صلی اللّه علیه و آله لقومه الكتابة مباشرة إذ لم يعهد ولم ير بأسانيد صحيحة أنّه صلی اللّه علیه و آله جلس مع أفراد اُمّته يعلّمهم نقوش الحروف الهجائية وتراكيبها الأبجدية قطعاً ، وإنّما المراد أنّه قام بأمر تعليم الاُمّة مهمة الكتابة ، فقد تواتر عنه صلی اللّه علیه و آله اتّخاذه الأسرى يشترط عليهم أن يعلّموا أهل مدينته الخط والكتابة (1) فكان الأسير إذا علّم الكتابة عشرة من المسلمين أطلق النبي سراحه مكافأة لعمله وبهذه الوسيلة البسيطة عمّم في اتباعه صناعة الخط وأخرجهم من ظلمة الاُمّية وأصبح مقر الاسراء مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة ما يحتاجون إليه من علوم ذلك العهد.

وأمّا ما تمسك به من مفهوم الآية وأنّ لفظة : ( مِن قَبْلِهِ ) يفهم منها أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد الوحي إليه فيوافيك نقده في البحث التالي :

ثم إنّ للعلاّمة الشهرستاني كلمة قيمة في المقام يجري مجرى الجواب عن ما ذكره المفيد فلاحظه (2).

2. الاستدلال بمفهوم الآية :

نقل شيخ الطائفة استدلال القوم على اُمّية النبي الأعظم بقوله سبحانه : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت - 48 ) ثم اعترض عليهم بما هذا ملخصه :

ص: 320


1- قال الاُستاذ عمر أبو النصر في كتابه « العرب ص 23 » : وكان فداء الأسرى الذين يعرفون القراءة والكتابة تلقين عشرة من صبيان المدينة الكتابة ، وكذلك أصبح مقر الأسرى مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة.
2- راجع مجلة المرشد البغدادية لسنتها الرابعة ص 327 - 428 ما أفاده العلامة الحجة السيد هبة الدين الشهرستاني على ما نقله عنها العلامة المتتبع الجرندابي في تعاليقه على أوائل المقالات.

« إنّ الآية لا تدل على أنّ النبي كان اُمياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه ... ».

« ولو دلّت الآية على أنّه لم يكن يحسن الكتابة قبل الايحاء إليه ، لدلّت بالمفهوم على أنّه كان يحسنها بعد الايحاء إليه ، حتى يكون فرقاً بين الحالتين ولا يكون الاتيان بالقيد - قبله - لغواً » (1).

وفي ما أفاده مواقع للنظر :

أوّلاً : ففرق واضح بين من يحسن الكتابة ويتركها ، ومن لا يحسنها أصلاً ، فانّ من يحسن الكتابة ، لا يتركها دائماً ، بل يتركها مؤقتاً بسبب ظروف تلم به ولا يصح الاستدلال بتركه مؤقتاً ، على أنّه لا يحسنها ولا يستكشف حاله منه ، وأمّا من لم يكتب منذ نعومة أظفاره إلى أن بلغ الأربعين بل ناهز الخمسين كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، فيعد ذلك دليلاً عند العرف على أنّه لا يحسنها أصلاً وبتاتاً.

فالآية حسب ما يفهم منها عرفاً ، تدل على أنّه صلی اللّه علیه و آله كان اُمياً لا يقدر على الكتابة ، وقوله سبحانه : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) بالنظر إلى ذيله وهو رفع الشك عن قلوب المبطلين ، كناية عن كونه صلی اللّه علیه و آله كان اُمّياً لا يحسن شيئاً من القراءة ، لا أنّه كان عارفاً بها ولكنّه تركها لمصلحة أو غيرها.

وثانياً : إنّ استفادة المفهوم من الآية ودلالة القيد - من قبله - عليه مشكلة جداً وإن قلنا بدلالته على المفهوم في مقام آخر ، وذلك أنّ دلالة القيد عليه إنّما هي إذا كان بقاء الحكم وعدمه عند ارتفاع القيد سواسية ، فعند ذلك يستدل بأخذ القيد في موضوع الحكم على دخله في الغرض وفي الحكم المذكور في القضية ويكون مرجعه إلى ارتفاع الحكم السابق بارتفاع القيد كما إذا قيل : أكل زيد قبل طلوع الشمس ، وأمّا إذا كان بقاء

ص: 321


1- التبيان ج 8 ص 216 ط لبنان ويظهر من الآلوسي في تفسيره الاعتماد على هذا الوجه.

الحكم عند ارتفاع القيد أولى في نظر السامع كما في المقام فلا يستنبط منه المفهوم فإنّ من بقى على اُميته حتى ناهز الأربعين بل الخمسين أولى بأن يبقى على تلك الحالة في ما بقي من عمره ، فإنّ الرجل إذا لم يحصل على ملكة الكتابة إلى أن ورد في العقد الخامس من عمره لا يحتمل في حقه عادة أن يعود إلى تحصيلها بعد هذه المراحل الطويلة ، وعلى ذلك فلا يمكن الاستدلال على رفع الحكم المستفاد من قوله : ( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ ) وقوله : ( وَلا تَخُطُّهُ ) عند ارتفاع القيد ، أي لا يدل على أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد بعثته كما هو المقصود.

خلاصة القول : إنّ الآية غير دالة على وضع النبي صلی اللّه علیه و آله بعد بزوغ دعوته ولا يدل على شيء من الطرفين والتمسك بمفهوم القيد : ( مِن قَبْلِهِ ) إنّما يصح إذا سيق الكلام لأجل افادته والإيماء إلى اختلاف حاله في المقامين وأمّا إذا سيق الكلام لغير هذه الغاية فلا يدل على ما استظهره من المفهوم ، فانّ الغاية من الإتيان بالقيد هو الاستدلال باُمّيته قبل نزول الوحي عليه ، على صدق مقاله ودعوته فإنّ الاُمّي إذا أتى بكتاب أخرس بفصاحته فرسان البلاغة وقادة الخطابة وسادات القوافي وملوك البيان بل أدهش بقوانينه اساطين القوانين والنظام ، يعد كتابه هذا بهذه الأوصاف والنعوت آية على كونه وحياً إلهياً خارجاً عن طوق القدرة البشرية ، وأمّا أنّه هل بقي على الاُمّية بعد ما صار نبيّاً يوحى إليه أو لا ؟ فخارج عن هدف هذه الآية وليست له صلة بمرماها ومقصدها وعلى ذلك نظائر في اللغة والعرف.

ولقد أحسن المرتضى ، فلم يجعل الآية دليلاً على تغيّر حاله بعد بعثته ، وسلك مسلكاً متوسطاً غير ما سلكه استاذه الشيخ المفيد وما قصده تلميذه شيخ الطائفة الطوسي ودونك نقل كلامه :

هذه الآية : ( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) تدل على أنّ النبي ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فالذي نعتقده في ذلك ، التجويز لكونه عالماً بالقراءة والكتابة ، والتجويز لكونه غير عالم بهما من غير قطع بأحد الأمرين وظاهر الآية يقتضي

ص: 322

أنّ النفي قد تعلق بما قبل النبوّة دون ما بعدها ، ولأنّ التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوّة (1) لأنّ المبطلين إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فلا تعلق له بالريبة والتهمة فيجوز أن يكون تعلّمها من جبرئيل بعد النبوّة (2).

وكلامه هذا يعرب عن توقفه في المسألة كما هو صريح قوله : « من غير قطع بأحد الأمرين » وما ذكره « ظاهر الآية يقتضي أنّ النفي قد تعلق بما قبل النبوّة دون ما بعدها » صحيح لو أراد بذلك نفي دلالة الآية على أحد الأمرين وأمّا لو أراد به دلالتها على كونه قارئاً وكاتباً بعد فموهون بما أوضحناه عند البحث عن كلام تلميذه الجليل شيخ الطائفة رحمه اللّه ، مع أنّه بعيد عن ظاهر كلامه.

وأمّا ما أفاده من « إنّ المبطلون إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فلا تعلّق له بالريبة والتهمة » غير ثابت ولا ظاهر بل يمكن أن يتطرق الشك إلى نبوّته لو كان يحسنها بعد النبوّة إذا تظاهربها في مرآى ومسمع من الناس ، فلاحظ التعليقة السابقة.

3. الاستدلال بقوله سبحانه : ( يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً )

استدل الدكتور عبد اللطيف الهندي بقوله سبحانه : ( رَسُولٌ مِّنَ اللّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ) ( البينة : 2 - 3 ) قال : « إنّه يدل على تحقق التلاوة منه صلی اللّه علیه و آله أيام رسالته وفي رحاب دعوته ».

لكنّه لا يدل على ما رامه فإنّ التلاوة كما تصدق على التلاوة عن الكتاب ، تصدق

ص: 323


1- اختصاص التعليل بما قبل النبوّة غير ظاهر بل لو تظاهر النبي بالقراءة والكتابة بعد نبوته ، فهو وإن كان يعد معجزة ومفخرة له عند من خلصت نيته ، وطهر قلبه ، لكنّه يوجب تسلل الشك إلى اُمّيته قبل نبوته عند المبطلين والمشككين فيضلّون ويضلّون ، وينشرون الأوهام والأراجيف حول دعوته ورسالته ، نعم لو كان عارفاً بها غير متظاهر لصح اختصاص التعليل بما قبل النبوّة.
2- مجمع البيان ج 8 ص 287 ، مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 161.

على التلاوة عن ظهر القلب ، ويؤيده أنّه لم يرو عن النبي صلی اللّه علیه و آله في أيام رسالته أنّه تلا القرآن عن غير ظهر قلبه ، أضف إلى ذلك ما ذكره المفسرون في « صحف مطهرة » من الاحتمالات التي تخرجها عن محيط هذه الصحف المادية التي يرومها المستدل ومن شاء الاحاطة بها فليرجع إلى التفاسير.

ونظير ذلك قوله سبحانه : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ) ( الأعلى : 7 - 8 ) إذ معناه : سنقرأ عليك القرآن فلا تنساه ونجعلك قارئاً باذن منه فلا تنسى ما تتلقاه من أمين الوحي ، إلاّ بمشيئة منه فإنّ الاقراء والانساء كليهما بيده سبحانه ، فلا يدل إلاّ على تلاوة القرآن وقراءته عن ظهر القلب فقط كما كان هو دأب النبي في تلاوة كل ما اُوحي إليه ، وهو غير ما يرومه الدكتور وأمثاله.

قال الزمخشري : بشّر اللّه تعالى باعطاء آية بيّنة وهي أن يقرأ عليه جبرئيل ما يقرأ عليه من الوحي وهو اُمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه.

وأمّا الاستثناء فلا يدل على تحقق الانساء منه سبحانه بالنسبة إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله بل هو للتنبيه على أنّ الأمر كله بيده ، وإن منحت كرامة الحفظ إليه صلی اللّه علیه و آله فليس بمعنى تفويض الأمر إليه وخروجه عن يد اللّه سبحانه ، بل الأمر في كلا الحالين بيده ، فاللّه الذي جعله قارئاً لا ينسى ، قادر على أن يصيره ناسياً لا يحفظ شيئاً ، ولا يخطر على روعه شيء ، فوزان الاستثناء في هذه الآية وزان الاستثناء في قوله سبحانه : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ( هود - 108 ).

فلا يدل على تحقق المشيئة في المستقبل منه سبحانه حتى ينافي خلود المؤمنين في الجنة.

4. الاستدلال بقوله سبحانه : ( اكْتَتَبَهَا )

استدل بعض الأعلام بقوله سبحانه : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان - 5 ) وفسّره في الكشّاف بقوله : اكتتبها : اكتتبها لنفسه

ص: 324

وأخذها كما تقول : استكب الماء واصطبه : إذا سكبه وصبّه لنفسه وأخذه (1) وكأنّه يريد أن يفهم أنّ زيادة التاء في « اكتتبها » للدلالة على أنّ كتابته كانت لنفسه بخلاف المجرد عنها كقولنا « كتب فلان » فإنّه أعم من أن يكون ذلك لنفسه أو لغيره.

وقال الشيخ الطوسي : اكتتبها هو وانتسخها فهي تملى عليه حتى ينسخها (2) وجه الاستدلال ، أنّ المشركين قالوا : إنّ القرآن أساطير كتبها محمد لا من تلقاء نفسه بل بالإملاء عليه من غير ، فقولهم : يكتب الأساطير بإملاء الغير عليه ، صريح في أنّه بعد الايحاء إليه كان كاتباً يكتب القرآن ، وبما أنّ الكتابة صفة كمال لا ينسبها إليه خصومه كذباً وافتراء فلا بد أن تكون ثابتة له في تلك الحال (3).

ولكن ما أقامه من الدليل موهون جداً فإنّ الكتابة وإن كانت صفة كمال إلاّ أنّ شهادة الخصم إنّما تدل على اتصافه بها إذا كانت الشهادة صادرة عن خلوص وصفاء وأمّا إذا جعلها ذريعة لإنكار نبوّته ، فلا يعد رميه بها دليلاً على صدق النسبة فإنّ القوم لما عجزوا عن الوقيعة في قرآنه ولم يتمكنوا من معارضته ومباراته دخلوا من باب آخر ، حتى يفتحوا بذلك باب الريب على نبوّته وكتابه وقالوا إنّ هنا من يملي عليه القرآن بكرة وأصيلاً ، وهو يكتب ما يملى عليه ولا هدف لهم من تلك الفرية إلاّ التشكيك في نبوّته ونزول الوحي عليه ولولا ذلك لما وصفوه بها ولا بغيرها من الصفات ، فإنّ التوصيف ، بأدنى مراتب الكمال ، يخالف ما يرمون إليه من انتقاصة.

على أنّ هنا في لفظة « اكتتبها » احتمالاً آخر وهو أنّه أمر بالكتابة والاستنساخ ، احتمله الرازي بل اختاره وقال : معنى « اكتتب » ههنا ، أنّه أمر أن يكتب له كما يقال : « احتجم » و « افتصد » إذا أمر بذلك (4).

إلى هنا تم ما وقفنا عليه من الأدلّة القرآنية التي أقامها القائلون على أنّ النبي كان قارئاً وكاتباً بعد نزول الوحي عليه ، وقد عرفناك وهن الجميع ، ووقفت على ما فيها من

ص: 325


1- الكشاف ج 2 ص 400.
2- التبيان ج 7 ص 472.
3- تفسير الآيات المتشابهات ص 47 - 48.
4- مفاتيح الغيب ج 6 ص 353.

المناقشات.

نعم هناك وجوه عقلية واستحسانات ، اعتمد عليها بعض من اختار هذا النظر ، ونحن نأتي بها.

5. الاستدلال بالأولوية :

استدل بها المجلسي وقال إنّه صلی اللّه علیه و آله كان قادراً على التلاوة والكتابة بالاعجاز وكيف لا يعلم من كان عالماً بعلوم الأوّلين والآخرين ، انّ هذه النقوش موضوعة لهذه الحروف ، ومن كان قادراً باذن اللّه على شق القمر وأكبر منه ، كيف لا يقدر على نقش الحروف والكلمات على الصحائف والألواح واللّه تعالى يعلم (1).

وما ذكره لا يخرج عن حدود الاستحسان إذ من الممكن أن لا يمكنه اللّه من القراءة والكتابة لمصلحة هو أعلم بها ، أو لأجل رفع الريب والشك عن جانب نبوّته كما هو غير بعيد حتى بالنسبة إلى ما بعد النبوّة ، إذا تظاهر بالقراءة والكتابة.

6. التجارة تتوقّف على الكتابة :

قال بعض من عاصرناه : « إنّ المشركين رموه بالكذب والسحر والجنون والفرية ولم ينسبوه إلى الاُمية مع كونها صفة نقص لا سيما للتجار ذوي رحلة الشتاء والصيف ، فإذا لم يعيبوه بالاُمّية كان ذلك دليلاً على أنّه كان بعد النبوّة قارئاً وكاتباً » (2).

ونناقش ما أفاده :

أوّلاً : إنّ عدم رميه صلی اللّه علیه و آله بالاُمّية ، فلعدم كونها عيباً عندهم ، كيف والقوم كانوا جماعة اُمّية وكانت تلك الصفة هي السائدة عليهم ، وكان الرامي بها والمرمى إليها في هذا الوصف سواسية.

ص: 326


1- بحار الأنوار ج 16 ص 136.
2- تفسير الآيات المتشابهات ص 50.

ثانياً : إنّ التجارة وإن كانت تتوقف على القراءة والكتابة في الأوساط المدنية غير أنّ الدارج في البيئات البعيدة عن الحضارات كان غير ذلك ، خصوصاً قريش الذين كانت لهم رحلة الشتاء والصيف ، فكانوا يبيعون أو يشترون ، ويرجعون ، من دون أن يبقى لهم أو عليهم شيء.

هذا ما لدى القائلين من الأدلّة على كونه صلی اللّه علیه و آله قارئاً وكاتباً بعد بزوغ نبوّته ، هلم معي ندرس بعض ما وقفنا لهم في المقام من كلمات تؤكد من نقلناه عنهم.

قال الشيخ : « إنّ الحاكم يجب أن يكون عالماً بالكتابة والنبي عليه وآله السلام كان يحسن الكتابة بعد النبوّة وإنّما لم يحسنها قبل البعثة » (1).

وتبعه ابن ادريس الحلي في باب سماع البيّنات من كتاب القضاء وجاء بعين ما نقلناه عن الشيخ (2).

واختاره العلامة الحلي في كتاب النكاح عن تذكرته عند البحث عن مختصات النبي الأكرم حيث قال : كان يحرم عليه الخط والشعر تأكيداً لحجته وبياناً لمعجزته قال اللّه تعالى : ( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) وقال تعالى : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ) ( يس - 69 ).

وقد اختلف في أنّه هل كان يحسنها أو لا : وأصح قولي الشافعي الثاني وإنّما يتجه التحريم عل الأول (3) أي على القول بأنّه كان يحسن الكتابة إذ على فرض عدم عرفانه بها ، فالتحريم يكون لغواً وتحصيلاً للحاصل.

غير أنّ دلالة الآية على حرمة الكتابة عليه ، مبني على كون « لا » في قوله : ( وَلا تَخُطُّهُ ) ناهية وهو خلاف الظاهر ، خصوصاً بملاحظة سياق الآية أي قوله تعالى : ( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) فإنّه جملة خبرية وهو يقتضي أن تكون الجملة التالية لها أيضاً خبرية لا انشائية.

ص: 327


1- المبسوط : كتاب القضاء ج 8 ص 120.
2- السرائر : باب سماع البيّنات من كتاب القضاء وهو غير مرقم.
3- تذكرة الفقهاء ج 2 ص 566 الطبعة الجديدة المرقمة.

وقد اقتفى في ذلك قول الشيخ في مبسوطه حيث قال : « وقد خصّ اللّه نبيّه محمداً بأشياء وميّزه بها عن خلقه أربعة : واجب ، ومحظور ، ومباح ، وكراهة - إلى أن قال : - وأمّا المحظورات فحظرت عليه الكتابة وقول الشعر وتعليم الشعر » (1).

اُمّية النبي في الأحاديث :

لقد بان الحق وظهرت الحقيقة من هذا البحث الضافي حول هذه الآيات ، فلم نجد آية تدل على أنّه صلی اللّه علیه و آله بعد بزوغ دعوته ، صار قارئاً أو كاتباً.

نعم وردت أحاديث وروايات ، رواها الفريقان ، ربّما يركن إلى بعضها ، ويستدل به على تمكنه من القراءة والكتابة بعد بعثته ، بإعجاز منه سبحانه ، وإن كان الكل لا يخلو من اشكال ونحن نورد هنا تلكم الأحاديث :

منها : حديث بدء الوحي

ررى أصحاب السير والتفسير :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يجاور في حراء من كل سنة شهراً حتى إذا كان الشهر الذي بعثه اللّه سبحانه فيه خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى حراء حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه اللّه فيها برسالته ، جاءه جبرئيل بأمر اللّه ، ولنترك وصف ذلك إلى ما ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقوله :

« فجاءني جبرئيل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ ؟ قلت : ما أقرأ ؟ فغتني به (2) حتى ظننت أنّه الموت ، ثمّ أرسلني فقال : اقرأ ؟ قال : قلت : ما أقرأ ؟ قال : فغتني

ص: 328


1- راجع المبسوط أوائل كتاب النكاح ج 4 ص 152 - 153.
2- كذا في جامع الاُصول والطبري والغت : حبس النفس ، وفي صحيح البخاري والمواهب « غطني » وهي بمعنى الغت أيضاً.

به حتى ظننت أنّه الموت ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ؟ قال : قلت : ماذا أقرأ ؟ ما أقول ذلك إلاّ افتداءاً منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي فقال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) قال : فقرأتها ثمّ انتهى ، فانصرف ، وهببت من نومي ، فكأنّما كتبت في قلبي ، قال : فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوت من السماء يقول : يا محمد أنت رسول اللّه وأنا جبرئيل ، قال : فرفعت رأسي إلى السماء انظر فإذا بجبرئيل في صورة رجل صف قدميه في افق السماء يقول : يا محمد أنت رسول اللّه وأنا جبرئيل ».

ويظهر من البخاري من صحيحه أنّ جبرئيل نزل بسورة العلق حينما كان النبي صلی اللّه علیه و آله يقضاً لا نائماً ، وأنّه تحمّل بدء الوحي في حال اليقظة حيث قال : فجاءه الملك فقال : اقرأ ؟ ما أنا بقارئ (1) قال : فأخذني فغطني حتى بلغ منّي الجهد ، ثمّ أرسلني فقال : اقرأ ؟ قلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ؟ فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ، ثمّ أرسلني فقال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ) .

كلمة حول سند الحديث :

إنّ سند الحديث ينتهي إلى أشخاص ثلاثة يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله ودونك أسمائهم.

1. عبيد بن عمير بن قتادة الليثي ، أخرج الحديث عنه ابن هشام في سيرته ج 1 ص 235 ، والطبري في تفسيره ج 30 ص 162 ، وتاريخه ج 2 ص 300 ، وقد ترجم الرجل ابن الاثير في اُسد الغابة ج 3ص 353 ، وقال ذكر البخاري أنّه رأى النبي وذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي ، وهو معدود في كبار التابعين يروي عن عمر وغيره من

ص: 329


1- وهذا شاهد على أنّ الملك لم يرد أن يلقنه الآيات ليتابعه في القراءة فإنّ ذلك أمر مقدور للقارئ والاُمّي ، ولو أراد هذا كان المناسب أن يقول ماذا أقرأ ، بل أراد أن يقرأه النبي بنفسه بلا متابعة.

الصحابة.

2. عبد اللّه بن شداد ، أخرج الحديث عنه الطبري في تفسيره ج 30 ص 162 وفي تاريخه ج 2ص 299. ترجمه ابن الأثير في اُسد الغابة ج 4 ص 183. وقال ولد على عهد النبي روى عن أبيه وعن عمر وعلي.

وعلى ذين السندين فالحديث مرسل غير موصول السند إلى النبي الأكرم إذ من البعيد أن يرويا الحديث عن النبي صلی اللّه علیه و آله نفسه.

3. عائشة اُمّ المؤمنين ، أخرج البخاري عنها الحديث في صحيحه ج 1ص 3 وج 3 ص 173 في تفسير سورة العلق والطبري في تفسيره ج 30 ص 161. وعلى ذلك فقد تفردت هي بنقل هذا الحديث ، ومن البعيد جداً أن لا يحدث النبي هذا الحديث بغيرها ، مع اشتياق غيرها إلى سماع أمثال هذه الأحاديث عنه صلی اللّه علیه و آله . وعند ذلك يشكل الاستدلال بالحديث جداً.

نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكري كما في البحار ج 18 ص 206 لكن كون التفسير من الإمام فيه كل الشك والريب ونقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه ج 1ص 40 - 44 ، والمجلسي في بحاره ج 18 ص 196.

توضيح مفاد الرواية :

إنّنا مهما جهلنا بشيء من الأشياء ، فلا يمكن أن نجهل بأنّ النبوّة منصب الهي لا يتحمله إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس ، ولا يقوم بأعبائها إلاّ من عمر قلبه بالإيمان ، وزود بالخلوص والصفاء وغمره الطهر والقداسة ، واُعطي مقدرة روحية عظيمة لا يتهيب حين ما يتمثل له رسول ربّه وأمين وحيه ، ولا تأخذه الضراعة والخوف عند سماع كلامه ووحيه ، وتلك المقدرة لا تفاض من اللّه على عبد إلاّ بعد معدّات ومقدّمات :

منها : شموخ أصلاب آبائه وطهارة أرحام اُمّهاته ، حتى ينتقل من صلب شامخ إلى صلب آخر مثله ، ومن رحم طيبة إلى اُخرى مثلها.

ص: 330

منها : البخوع للعبادة ، والعكوف على المجاهدات النفسانية والرياضات التي لا تنازع الفطرة ، بل تعدل الميول والغرائز وتهديها سبيل الرشاد والسلام.

منها : التفكير في آثار صنعه وعجائب خلقه وبدائع كونه بتعمّق وتدبّر حتى يهديه التفكير في جمال الطبيعة إلى معرفة بارئها معرفة تامة تليق بحال نبيّه.

منها : أن يكون في رعاية أكبر ملك يهديه إلى طرق المكارم ومحاسن الأخلاق كما أشار إليه مولانا أمير المؤمنين في الخطبة القاصعة : « لقد قرن به صلی اللّه علیه و آله من لدن ان كان فطيماً ، أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر اُمّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوّة ، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت : يا رسول اللّه ما هذه الرنّة ؟ فقال : هذا الشيطان آيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير ، وأنّك لعلى خير » (1).

هذا البيان الضافي من أمير الإسلام والبيان علیه السلام يؤمي إلى كثير مما ذكرناه من المقدمات ، ويرسم لنا صورة اجمالية من حياة النبي صلی اللّه علیه و آله الأكرم قبل بعثته وأنّه صلی اللّه علیه و آله منذ نعومة أظفاره ، ومنذ أن فطم من الرضاع ، وقع تحت كفالة أكبر ملك يسلك به طريق المكارم ، ويرشده إلى معالم الهداية ومدارج الكمال ، ويصونه طيلة حياته من طفولته إلى شبابه وإلى كهولته من كل سوء.

هذا البيان يفيدنا بأنّ نفس أي انسان لا تستعد لقبول الوحي إلاّ بعد اقتحام عقبات وطي مراحل ، وأنّ الملك الأكبر لم يزل يواصل نبي الإسلام ليله ونهاره حتى استعدت نفسه لقبول الوحي ، وتمثّل أمينه بين يديه ، والقاء كلام ربّه إليه ووعيه له منه ، بانطباعه في لوح نفسه ، وإذا اقتحم تلكم العقبات وتحققت تلكم المقدمات والمعدات

ص: 331


1- نهج البلاغة الخطبة القاصعة ص 374 طبع عبده.

وتم الاستعداد ، ارتقت نفسه إلى ذلك الحد الأسمى فانحسرت عن قلبه الأغطية وارتفعت عنه الحجب ، حيث أخذ يعاين الأشياء على ما هي عليه ، ويقف على الحقائق على النحو الذي يليق به ويقدر على تلاوة ما لم يكن قادراً عليها.

وقد تحققت تلك الغاية وبلغت نفسه الشريفة إلى ذلك الحد في الشهر الذي اختاره اللّه تعالى فيه رسولاً إلى الناس ، فجاءه أمين الوحي بلوح برزخي يحتوي على آيات من القرآن الكريم فعرضه على النبي صلی اللّه علیه و آله وطلبه منه أن يقرأه فأبى وتجافى عن قراءته قائلاً بأنّه اُمّي لا يقرأ ولا يكتب ، وأنّه ماقرأ وما كتب طيلة عمره فغطه الأمين ثلاث مرات فإذا به يقرأ.

نحن لا نعلم كنه هذا الغط ولا نستطيع إدراكه ، وليس هو إلاّ أثراً مادّياً لأمر معنوي كاماطة الستر عن روحه وقلبه ، وهذا أمر طبيعي في مثل هذا الموقف العظيم الجليل الذي تنوء به أجسام وأرواح البشر ، فإنّ لكل عمل روحي ولا سيما لمثل كشف الغطاء أثراً خاصاً في أبداننا ، والأثر البارز المادي لكشف الغطاء عن قلب النبي ونفسه ، هو الغط الذي أحسّه في ذلك الحين ، وإلاّ فالغط المادي لا مدخلية له في القدرة على القراءة والتلاوة.

هكذا كانت هذه اللحظة الحاسمة من حياته صلی اللّه علیه و آله منعطفاً رائعاً إلى مرحلة جديدة ، فكشف عنه الغطاء آن الغط ، فقدر على قراءة ما لم يقدر عليه فعرف الحروف والنقوش ، بل الحقائق فصار أكمل إنسان يطأ الأرض بقدميه ، ويعيش في اديمها ويتظلّل بسمائها.

وهذا البيان منضمّاً إلى ما سمعته من حديث بدء الوحي يدفعنا إلى القول بأنّه صلی اللّه علیه و آله قد انقلبت حاله بعد البعثة بإعجاز من اللّه سبحانه واقدار منه تعالى. غير أنّ ما ذكرنا مبني على صحة الحديث واتصال سنده إلى النبي ولكنّك عرفت أنّ الحديث مقطوع غير موصول بالنبي الأكرم فلاحظ.

ص: 332

منها : حديث المطالبة بالقلم والدواة :

أخرجه أصحاب الصحاح والسنن ونقلها أهل السير والأخبار كافة ويكفيك ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال : لما حضر رسول اللّه وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب قال النبي صلی اللّه علیه و آله : هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده ، فقال عمر : إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلی اللّه علیه و آله قال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : قوموا ، فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزية ما حال بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم (1).

أخذ المستدل بظاهر الحديث وقال : النبي صلی اللّه علیه و آله طلب أن يكتب كتاباً ، وظاهره كون الكاتب نفسه لا غير ، لكنّه نسى أو تناسى أنّ في الإسناد مجازاً وأنّه من باب كتب الأمير ، أو كتب الملك وليس معناه أنّه كتب بنفسه ، بل السيرة على أنّ الملك أو الأمير يمليان والكاتب يكتب وينفّذانه بخاتمهما ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يملي والكاتب يكتب ولا يكتب بيده ، وهكذا كانت سيرة الخلفاء من بعده ، ما كانوا يكتبون إلاّ في مواقف خاصة.

منها قصة الحديبية :

ملخّصه : لما اعتمر النبي صلی اللّه علیه و آله في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا الكتاب ، هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قالوا : لا نقر بهذا ، لو نعلم أنّك رسول لله ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد اللّه ، فقال : أنا رسول اللّه وأنا محمد بن عبد اللّه ، ثمّ قال لعلي علیه السلام :

ص: 333


1- صحيح البخاري ج 2 ص 22 كتاب العلم ، وأخرجه مسلم في آخر الوصايا في صحيحه ج 2 ص 14 ، وأحمد في مسنده ج 1 ص 325 وغيرهم من أعلام الاُمّة.

امح رسول اللّه ، قال علي : لا واللّه لا أمحوك أبداً ، فأخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يدخل مكة السلاح إلاّ السيف في القراب الخ (1).

وقد تمسك بظاهر الرواية « أبو الوليد الباجي » فادّعى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كتب بيده بعد أن لم يكن يكتب ، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة وانّ الذي قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم :

برئت ممّن شرى دنيا بآخرة *** وقال إنّ رسول اللّه قد كتبا

فجمعهم الأمير فاستظهر « الباجي » عليهم بما لديه من المعرفة وقال للأمير : هذا لا ينافي القرآن بل يؤخذ من مفهوم القرآن ، لأنّه قيد النفي بما قبل ورود القرآن ، فقال : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) وبعد أن تحققت اُمنيته وتقررت بذلك معجزته ، وأمن الارتياب في ذلك ، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فتكون معجزة اُخرى.

وذكر « ابن دحية » أنّ جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك منهم شيخه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة من طريق مجاهد ، عن عون بن عبد اللّه ، قال : ما مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى كتب وقرأ ، قال مجاهد : فذكرته للشعبي فقال : صدق قد سمعت من يذكر ذلك (2).

الجواب عن الاستدلال بالرواية :

إنّ ما رواه البخاري وغيره ممّن جنح إليه على خلاف ما يرتئيه المستدل أدل ، فإنّ

ص: 334


1- صحيح البخاري ج 5 باب عمرة القضاء ص 141 ، الكامل ج 2 ص 138 ، مسند أحمد ج 4 ص 298 ولفظه هكذا : فكتب مكان رسول اللّه ، هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه ألاّ يدخل مكة السلاح إلاّ في القراب.
2- فتح الباري ج 9 ص 44 وأضاف الباجي بأنّ في معرفة الكتاب بعد اُمّيته صلی اللّه علیه و آله معجزة اُخرى لكونها من غير تعليم ، لاحظ مناهل العرفان ج 1 ص 358.

قوله : « وأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب » أصدق شاهد على اُميته.

أضف إلى ذلك ما ورد في بعض الروايات من قول النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله لعلي : « أرني إيّاها » أو قوله : « فضع يدي عليها » فهو شاهد صدق على بقائه على ما كان عليه من الاُمّية.

ولأعلام الحديث والتاريخ كلمات ضافية حول الرواية تميط الستر عن وجه الحقيقة ، فلنأت بما وقفنا عليه.

1. قال ابن حجر : إنّ النكتة في قوله : « فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب » هو بيان قوله : « أرني إيّاها » فإنّه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي علیه السلام من محوها ، إلاّ لكونه لا يحسن الكتابة.

على أنّ قوله بعد ذلك « فكتب » فيه حذف تقدير ، أي فمحاها لعلي فكتب وبهذا جزم ابن التين وأطلق « كتب » بمعنى أمر بالكتابة ، وهو كثير كقوله : كتب إلى قيصر وكتب إلى كسرى.

وعلى تقدير حمله على ظاهره فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة ، أن يصير عالماً بالكتابة ويخرج عن كونه اُمّياً فإنّ كثيراً ممّن لا يحسن الكتابة ، يعرف تصوير بعض الكلمات ، ويحسن وضعها بيده وخصوصاً الأسماء ولا يخرج بذلك عن كونه اُمّياً.

واحتمل أن يكون المراد : جرت يده بالكتابة حينئذ وهو لا يحسنها فخرج الكتاب على وفق المراد ، فيكون معجزة اُخرى في ذلك الوقت خاصة ، ولا يخرج بذلك عن كونه اُمّياً وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمّة الاُصول من الأشاعرة وتبعه « ابن الجوزي » وتعقب ذلك السهيلي وغيره بأنّ هذا وإن كان ممكناً ويكون آية اُخرى لكنّه يناقض كونه اُمّياً لا يكتب وهي الآية التي قامت بها الحجة وأفحم الجاحد وان حسمت الشبهة ، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة ، وقال السهيلي والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضاً ، والحق أنّ معنى قوله فكتب : أي أمر علياً

ص: 335

أن يكتب (1).

2. قال الحلبي : تمسك بعضهم بظاهر الحديث وقال : إنّ النبي كتب بيده يوم الحديبية معجزة له ، مع أنّه لا يقرأ ولا يكتب وجرى على ذلك أبو الوليد الباجي المالكي فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه وقالوا : هذا مخالف للقرآن.

- إلى أن قال - : والجمهور على أنّ الروايات التي فيها « أنّه أخذ الكتاب بيده فكتب » محمول على المجاز أي أمر أن يكتب الكاتب (2).

أقول : إنّ لفظة « بيده » ليست في نسخ صحيح البخاري ونص على ذلك الحلبي أيضاً وقوله : « ليس يحسن أن يكتب » الوارد في صحيحه وغيره من المصادر الأصلية (3) دال على ما نرتئيه في هذا المقال.

نعم رواه البخاري في كتاب الصلح بصورة اُخرى قال : « فلمّا كتبوا الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقالوا : لا نقرّ بها فلو نعلم أنّك رسول اللّه ما منعناك - إلى أن قال - : ثم قال لعلي : امح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : لا واللّه لا أمحوك أبداً ، فأخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكتاب فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه لا يدخل مكة سلاح إلاّ في القراب » (4).

إنّ تلك الواقعة قد رويت بصورتين اُخريين ، رواهما أعلام السير والتاريخ.

الاُولى : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر علياً أن يمحو لفظ « رسول اللّه » فامتنع علي من محوه فقال رسول اللّه : أرنيه ، فأراه علي ، فمحاه بيده الشريفة ، ثم أمر علياً أن يكتب ودونك لفظ الرواية : أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علياً أن يكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

ص: 336


1- فتح الباري ج 9 ص 45.
2- السيرة الحلبية ج 3 ص 24 وسيرة زينى دحلان في هامش السيرة ج 2 ص 214 ولكن اللفظ للأخير.
3- راجع الأموال ص 158 ونقله عن المجلسي في بحاره ج 20 ص 371.
4- صحيح البخاري ج 3 ص 185 فحذف قوله وليس يحسن يكتب.

سهيل بن عمرو ، فقال : فعلى مَ نقاتل ؟ اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال : أنا رسول اللّه وأنا محمد بن عبد اللّه ، فأمر بمحوها فعند ذلك كثر الضجيج واللغط وأشاروا إلى السيوف فقال علي علیه السلام ما أنا بالذي أمحوه ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ستدعى إلى هذا وأنت مضطهد مقهور (1) إلى أن قال : وضج المسلمون وارتفعت الأصوات وجعلوا يقولون لا نعطي هذه الدنية ، وجعل رسول اللّه يخفضهم ويومي بيده إليهم أن اسكتوا ثمّ قال : أرنيه ، فأراه علي علیه السلام فمحاه بيده الشريفة ثمّ أمر علياً أن يكتبه.

نعم يظهر من البخاري أنّ النبي محاه من دون أن يريه علي علیه السلام وربّما يستدل به على تمكّنه من القراءة ، فروى في كتاب الصلح : لما صالح رسول اللّه أهل الحديبية - إلى أن قال : - فقال لعلي : أمحه ، فقال علي : ما أنا بالذي أمحاه ، فمحاه رسول اللّه بيده وصالحهم على أن يدخل ... (2).

ويحتمل أنّه تركه للاختصار ، اعتماداً على ما نقله في كتاب « الجزية والموادعة مع أهل الحرب » وقد نقل القصة فيه عن « البراء » هكذا ... فقالوا : لو علمنا أنّك رسول اللّه لم نمنعك ولبايعناك ولكن اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه - إلى أن قال : - فقال لعلي : امح رسول اللّه ، فقال علي : لا أمحاه أبداً ، قال : فأرنيه؟ قال : فأراه إيّاه ، فمحاه النبي صلی اللّه علیه و آله بيده (3).

ومع هذا التصريح لا يعبأ بما نقله من دون هذه الزيادة.

ص: 337


1- هذا من أعلام النبوّة فلاقى علي أمير المؤمنين يوم صفين عندما رضوا بالحكمين ما لاقاه رسول اللّه في هذا اليوم ، روى أهل السير والتاريخ أنّ علياً أمر لكاتبه أن يكتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك ولكن أكتب : هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : صدق اللّه وصدق رسوله أخبرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك ثم كتب الكتاب ، راجع السيرة الحلبية ج 3 ص 23.
2- صحيح البخاري كتاب الصلح ج 3 ص 184.
3- صحيح البخاري كتاب الجزية ج 4 ص 104.

وروى الشيخ الأكبر المفيد أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لعلي : فضع يدي عليها ، فمحاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيده وقال لأمير المؤمنين علیه السلام ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض ثم تمم أمير المؤمنين علیه السلام الكتاب (1).

وفي اعلام الورى : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : امحها يا علي ، فقال له : يا رسول اللّه إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة. قال : فضع يدي عليها فمحاها رسول اللّه بيده وقال لعلي : ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض (2).

روى أمين الإسلام الطبرسي القصة بطولها وقال : ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله امح رسول اللّه ، فقال : يا رسول اللّه إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة ، فأخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فمحاه ، ثم قال : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه (3).

وعلى هذه الصورة من الرواية : أنّ رسول اللّه نفسه محا لفظة رسول اللّه ، لكن علياً كتب الكتاب بأمره دون رسول اللّه.

الثانية : وهي تشترك مع الاُولى في التصريح بأنّ الكتاب كتبه علي علیه السلام من بدئه إلى ختمه بأمر رسول اللّه واملاء منه وتفترق عنها بأنّه ليس فيها عن محو لفظة رسول اللّه عين ولا أثر.

خلاصتها : أنّه عندما أحسّ الهدوء وانخفضت الأصوات بإيماء منه صلی اللّه علیه و آله أمر رسول اللّه علياً أن يكتب هذا ما صالح أو قاضى عليه محمد بن عبد اللّه ... فكتب على حسب ما املاه عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ودونك نقل ما رواه الطبري في تاريخه.

قال سهيل : لو شهدت أنّك رسول اللّه لم اقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، قال : فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله

ص: 338


1- السيرة الحلبية ج 3 ص 24 وسيرة زيني دحلان ج 2 ص 212 ، والارشاد ص 6 واللفظ للأخير.
2- اعلام الورى ص 106.
3- مجمع البيان ج 9 ص 118 راجع تفسير القمي ص 634.

وسهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب (1) وقريب منه ما رواه البخاري نفسه في موضع آخر (2) واليعقوبي في تاريخه (3) والواقدي في مغازيه (4) وابن هشام في سيرته (5) وغيرهم من أساطين التاريخ والحديث (6) ويقرب منه ما رواه الكليني في روضته حيث قال : قال رسول اللّه لعلي : اكتب : هذا ما قاضى رسول اللّه وسهيل بن عمرو ، فقال سهيل : فعلى مَ نقاتلك يا محمد ؟ فقال صلی اللّه علیه و آله : أنا رسول اللّه وأنا محمد بن عبد اللّه ، فقال له الناس أنت رسول اللّه ، قال : اكتب فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه ، فقال له الناس : أنت رسول اللّه (7).

فبعد هذا الاتفاق والاصفاق من أعلام التاريخ والحديث والتفسير على أنّ الكتاب كتبه علي باملاء من النبي صلی اللّه علیه و آله من أوّله إلى آخره فهل يصح الركون إلى ما تفرد به البخاري وأحمد واعتمد عليهما الجزري في كامله ، مع أنّ البخاري نقض ما نقله في باب « عمرة القضاء » في كتاب الصلح على ما عرّفناك.

على أنّ التضارب الصريح الذي نشاهده في نقل البخاري في المقام يمنع النفس عن الركون إليه ، فقد اضطرب نقله وكلامه من وجوه :

1. تراه أنّه نقل القصة في موضع هكذا « أخذ رسول اللّه الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد اللّه » (8) ، وفي الوقت نفسه ساقها في موضع آخر من كتابه بنفس اللفظ السابق ، ولكنه حذف قوله : « وليس يحسن يكتب » (9).

2. تراه أنّه يصرح بأنّ النبي أمحا لقبه بإراءة علي علیه السلام حيث يقول : فقال لعلي : امحه ، فقال علي علیه السلام لا أمحاه أبداً ، قال : فأرينه ؟ قال : فأراه إيّاه فمحاه النبي بيده (10).

ص: 339


1- تاريخ الطبري ج 2 ص 281.
2- صحيح البخاري كتاب الصلح ج 3 ص 195.
3- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 45.
4- المغازي ج 2 ص 610.
5- السيرة ج 2 ص 317.
6- راجع صحيح مسلم ج 5 ص 174.
7- روضة الكافي ص 326.
8- صحيح البخاري ج 5 ص 141.
9- نفس المصدر ج 3 ص 185.
10- صحيح البخاري ج 4 ص 104.

ومع ذلك تراه ينقل امحاء النبي ، من دون أن يشير بأنّه كان بإراءة من علي حيث قال : « فقال لعلي : امح رسول اللّه ، فقال : ما أنا بالذي امحاه ، فمحاه رسول اللّه بيده » (1).

3. يظهر منه في موضع أنّ علياً هو الذي كتب اسم النبي بعد امحائه ما امحاه حيث قال : « فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : واللّه إنّي لرسول اللّه وإن كذّبتموني ، اكتب محمد بن عبد اللّه » (2).

منها كتاب النبي إلى العذار :

روى البخاري عن العذار بن خالد قال كتب لي النبي صلی اللّه علیه و آله : هذا ما اشترى محمد رسول اللّه من العذار بن خالد بيع المسلم المسلم لا داء ولا خبيئة ولا غائلة (3).

ودلالته على أنّه صلی اللّه علیه و آله ، كتب الكتاب بنفسه ضعيفة ، لا يمكن الركون إليه في هذه المسألة إذ كثيراً ما يسند الفعل إلى الاُمراء والملوك ويراد منه التسبيب لا المباشرة.

كما أنّ الاستدلال على بقاء النبي على ما كانت عليه قبل الدعوة بقوله في الحديث المروي : إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب ، ليس بسديد إذ يكفي في صدق مضمونه كون أكثر من بعث إليه اُمّيون لا يكتبون ولا يحسنون.

فذلكة البحث :

ما سردناه لك من الأحاديث في هذه الصحائف ، قد رواه الجمهور في صحاحهم ، وقد وافاك عدم دلالة كثير منها على ما نرتئيه ، غير حديث بدء الوحي ولو صح سنده واعتمدنا على ما تفردت بنقله « عائشة » فإنّما يدل على أنّه سبحانه مكّن عبده من قراءة اللوح الذي كان بيد أمين الوحي ، ولم يكن ذاك اللوح ، لوحاً مادياً

ص: 340


1- المصدر السابق ج 3 ص 185.
2- راجع المصدر السابق ج 3 ص 195.
3- صحيح البخاري ج 3 ص 7.

وصحيفة جسمانية بل كان لوحاً برزخياً ، ومن قدر على قراءة نقوش ذاك اللوح وحروفه وجمله يقدر على قراءة ما كتب في الألواح والصحائف المادية ، ولكنّك قد وقفت على إرسال الرواية وأنّ الحديث غير موصول بالنبي صلی اللّه علیه و آله إلاّ من ناحيتها.

بقيت في المقام روايات ضعاف ومراسيل ، نقله بعض المتأخرين ، ولا يمكن الاستدلال بها في مثل هذه المسألة ، ودونك ما نقلوه :

قال القاضي الحافظ أبو الفضل بن عياض بن موسى بن عياض : انّه صلی اللّه علیه و آله كان لا يكتب ، ولكنّه اُوتي علم كل شيء حتى قد وردت آثار بمعرفته بالخط وحسن تصويرها ، كقوله لا تمدوا بسم اللّه الرحمن الرحيم (1) رواه ابن شعبان (2) من طريق ابن عباس ، وقوله في الحديث الآخر الذي يروى عن معاوية أنّه كان يكتب بين يديه صلی اللّه علیه و آله فقال له : الق الدواة (3) وحرف القلم (4) وأقم الباء (5) وفرق السين (6) إلى آخر ما نقله ... (7) والمظنون أنّ الحديث من ولائد النزعات الباطلة تزلّفاً للاُمويين.

عرض وتحقيق :

لا بأس بإكمال البحث بما وصل إلينا من الروايات من أئمّة أهل البيت مع ترجمة رجال اسنادها وتوضيح مضامينها على وجه الاجمال وقد نقل المجلسي منها كثيراً في بحاره في الباب السادس من الجزء السادس عشر المختص بحياة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله (8).

ص: 341


1- قال القارئ في شرحه : أي مد سينه من غير تبيّن روى الدارمي عن زيد بن السن إذا كتبت فبيّن السين.
2- هو أبو إسحاق العصري المالكي له ترجمة في الميزان مات سنة خمسة وستين وثلاثمائة.
3- أمر من الاق الدواة إذا جعل لها ليقة وأصلح لها مدادها.
4- أي اجعل شقه الأيمن أزيد من الطرف الآخر قليلاً لأنّه أسرع في الكتابة وأبدع في اللطافة.
5- أي طولها.
6- أسنانها.
7- راجع فتح الباري ج 9 ص 44 ، شرح الشفاء ج 1 ص 726 - 727.
8- بحار الأنوار ج 16 ص 131 - 135.

1. أخرج الصدوق في علل الشرائع عن ابن الوليد عن سعد (1) عن ابن عيسى (2) عن الحسين بن سعيد ومحمد البرقي عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : كان النبي يقرأ الكتاب ولا يكتب (3).

والحديث صحيح رجاله كلهم ثقاة بالاتفاق ولكنّه ظاهر ، أو محمول على عهد الرسالة لما عرفت من تنصيص الكتاب العزيز على كونه اُمّياً قبل البعثة.

2. أخرج الصدوق في علله عن أبيه عن سعد (4) عن عيسى عن البزنطي عن أبان عن الحسن الصيقل قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : كان مما منّ اللّه على نبيّه صلی اللّه علیه و آله أنّه كان اُمّياً لا يكتب ولا يقرأ الكتاب (5) والسند صحيح إلى البزنطي ، نعم اختلفت كلماتهم في أبان ورمَوْه بالناووسية والنسبة غير محققة ، والرجل من أصحاب الاجماع ، والحسن الصيقل مهمل في كتب الرجال لم يوصف بالوثاقة ولم يرد فيه طعن ، والحديث وإن لم يكن صحيحاً لكنّه يعتبر خصوصاً لنقل « أبان » الذي هو أحد أصحاب الاجماع عنه ، والحديث نظير ما تقدم عليه في الحمل والظهور بل أظهر من سابقه في كونه راجعاً إلى أيام نبوّته وعهد رسالته صلی اللّه علیه و آله بقرينة قوله : « كان ممّا منّ اللّه عزّ وجلّ به على نبيّه ».

3. أخرج الصدوق في علل الشرائع عن أبيه عن سعد عن معاوية بن الحكيم عن البزنطي عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : كان ممّا منّ اللّه عزّ وجلّ على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه كان يقرأ ولا يكتب ، فلما توجه أبو سفيان إلى « اُحد » كتب العباس إلى النبي فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة فقرأه ، ولم يخبر أصحابه وأمرهم أن يدخلوا المدينة ، فلما دخلوا المدينة أخبرهم (6) والخبر صحيح إلى البزنطي وهو

ص: 342


1- المراد سعد بن عبد اللّه.
2- أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي.
3- علل الشرائع ص 53.
4- قد أوضحنا المراد منه ومن بعده في الحديث المتقدم.
5- علل الشرائع ص 53 ومعاني الأخبار ص 20.
6- علل الشرائع ص 53.

من أصحاب الاجماع ورجاله كلهم ثقاة غير أنّ في آخره إجمالاً واهمالاً ، يلحقه بالمراسيل نعم لا بأس بمضمونه فهو يؤيد ما قدمناه من الصحيحين ، وأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يقرأ أحياناً في عهد الرسالة لكن نقله زيني دحلان في سيرته بصورة اُخرى ودونك نصه : كتب العباس للنبي صلی اللّه علیه و آله وأخبره بجمعهم وخروجهم وراودوه على الخروج معهم فأبى واعتذر بما لحقه يوم بدر ولم يساعدهم بشيء من المال فجاء كتابه للنبي وهو بقبا وكان العباس أرسل الكتاب مع رجل من بني غفار استأجره وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل ذلك ، فلما جاء الكتاب فك ختمه ودفعه لاُبي بن كعب فقرأه عليه فاستكتم اُبياً ثم نزل صلی اللّه علیه و آله على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس (1).

4. أخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار عن الحسن بن علي عن أحمد بن هلال عن خلف بن حماد عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : إنّ النبي كان يقرأ ويكتب ويقرأ ما لم يكتب (2) ويكفي في ضعف الحديث أنّه مروي عن أحمد بن هلال الذي خرج التوقيع عن الناحية المقدسة في لعنه ونقل الصدوق عن شيخه ابن الوليد عن سعد أنّه قال : ما سمعنا ورأينا بمتشيّع رجع عن تشيّعه إلى النصب إلاّ أحمد بن هلال.

أضف إليه أنّه مخالف لما قدمناه من الصحيحين من أنّه صلی اللّه علیه و آله كان يقرأ ولا يكتب(3).

فاتضح أنّ ما يصح من هذه المأثورات إنّما هو الحديث الأوّل والثاني ويؤيدهما الثالث وهي بمجموعها تهدف إلى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يقرأ ولا يكتب أيام رسالته ورحاب دعوته ولا ضير في الالتزام به خصوصاً إذا كان غير متظاهر بالقراءة ، مكتفياً بقدر الضرورة ، ويؤيدها حديث بدء الرسالة.

ص: 343


1- سيرة زيني دحلان على هامش السيرة الحلبية ج 2 ص 24.
2- بصائر الدرجات ص 62.
3- راجع الحديث الأوّل والثاني.

5. أخرج الكليني في كتاب الحجة باسناده عن الحسن بن العباس الحريش عن أبي جعفر الثاني علیه السلام عن أبي عبد اللّه قال :

كان علي علیه السلام كثيراً ما يقول : ما اجتمع التيمي والعدوي عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو يقرأ : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ) بتخشّع وبكاء فيقولان : ما أشد رقّتك لهذه السورة ؟ فيقول رسول اللّه لما رأت عيني ووعى قلبي ، ولما يرى قلب هذا من بعدي فيقولان : وما الذي رأيت وما الذي يرى ؟ قال : فيكتب لهما في التراب : ( تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) قال : ثمّ يقول : هل بقى شيء بعد قوله عزّ وجلّ : ( كُلِّ أَمْرٍ ) فيقولان : لا ، فيقول : هل تعلمان من المنزل إليه بذلك ؟ فيقولان : أنت يا رسول اللّه ، فيقول : نعم ، فيقول : هل تكون ليلة القدر من بعدي ؟ فيقولان : نعم ، قال : فيقول : فهل ينزل ذلك الأمر فيها ؟ فيقولان : نعم ، قال : فيقول : إلى من ؟ فيقولان : لا ندري ، فيأخذ برأسي ويقول : إن لم تدريا فادريا هو هذا من بعدي ، قال : فإن كانا ليعرفان تلك الليلة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من شدة ما يداخلهما من الرعب (1).

وجه الدلالة : أنّ قوله علیه السلام : « فيكتب لهما في التراب » بصيغة المعلوم دال على أنّ النبي كان يكتب هذه الآيات في التراب.

ويؤسفنا أنّ الحديث ضعيف للغاية.

لأجل الحسن بن العباس بن الحريش ، قال النجاشي : « أبو علي روى عن أبي جعفر الثاني ضعيف جداً له كتاب « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وهو كتاب ردئ الحديث ، مضطرب الألفاظ (2).

وقال الغضائري : « أبو محمد ضعيف جداً يروي عن أبي جعفر الثاني فضل « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وله كتاب مصنف فاسد الألفاظ ، تشهد مخائله على أنّه موضوع وهذا الرجل لا يلتفت إليه ولا يكتب من حديثه ».

ص: 344


1- الكافي كتاب الحجة باب « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وتفسيرها ص 249 طبع مكتبة الصدوق.
2- فهرست النجاشي ص 45 ط الهند.

قال المحقق التستري : « إن أردت أن تقف على صحة ما قاله النجاشي والغضائري في حق الرجل فراجع باب « فضل إنّا أنزلناه » من الكافي تجد صحة كلامهما فترى أنّه روى في ذاك الباب تسعة أخبار بسند واحد كلها عن الحسن بن عباس بن الحريش عن الجواد علیه السلام فلفظها فاسد ومعناها كاسد وهكذا راجع تفسير القمي في أول سورة محمد صلی اللّه علیه و آله (1).

ثم نقل بعض أحاديثه ، ونقده نقداً نزيهاً.

حصيلة الكلام في اُمّية النبي صلی اللّه علیه و آله :

قد أصبحت اُمّية النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله قبل أن يختاره اللّه لإبلاغ رسالته أمراً واضحاً كوضوح شمس الضحى ، لا يشك فيها ذو مسكة ومن له أدنى إلمام بتاريخ الجزيرة وحياة الاُمّة العربية ، العائشة فيها وأمّا حديثها بعد البعثة فالامعان في ما نقلناه من حديث بدء الرسالة والصحيحين المرويين عن الإمام الصادق علیه السلام يعطي أنّه كان يقرأ ولا يكتب ، فلو جاز الركون في مثل المقام إلى هذه النقول المروية بصورة الآحاد من الأخبار ، فنحكم بمفادها ، وإلاّ فالحكم ببقائه على ما كان عليه من الاُمّية قبل البعثة أوثق وأسد ، ويؤيد الأخير ما نقلناه في قصة الحديبية في بعض صورها التي عرفناك ، والتعليل الوارد في الآية الكريمة أعني قوله سبحانه : ( إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) خصوصاً لو كان مراد القائل تظاهره صلی اللّه علیه و آله بصناعة القراءة والكتابة على أظهر الناس ، ورؤوس الأشهاد ، فإنّه يجر الشك إلى ما قبل الرسالة كما لا يخفى.

نحن وقساوسة الغرب والمستغربة :

بالرغم من شهادة تاريخ الحجاز في الدور الجاهلي ، ومحيطه البدوي على اُمّية النبي وعشيرته وأقربائه ، نجد مغالطات وتشكيكات أثارتها قساوسة الغرب حول

ص: 345


1- قاموس الرجال ج 3 ص 182 - 183 ، راجع تنقيح المقال ج 1 ص 286.

اُمّيته صلی اللّه علیه و آله وتبعهم بعض المستغربة في الشرق ، الذين يتطفّلون على موائد الغربيين في كل شيء ، حتى فيما يرجع إلى الإسلام والمسلمين ، والشرق والشرقي ، غير واقفين على نواياهم وما تكنه صدورهم وضمائرهم ، من القضاء على الإسلام والمسلمين ، والحقد والعداء للنبي الأعظم ورسالته ، وما يستهدفون من بث هذه التشكيكات والمغالطات ، التي لها طابع التحقيق ، حول الرسول الأكرم واُمّيته.

وفي الوقت نفسه ، لا مصدر لهم في انكار اُمّيته إلاّ مراسيل عن مجاهيل ، أو انتحالات أعداء الدين ، نظراء ابن أبي العوجاء و ... كل ذلك لبثّ الريب في قلوب البسطاء من المسلمين بالنسبة إلى رسالته ، ودينه ، وكتابه ، حتى يتخذوا ذلك ذريعة لانكار رسالته الالهية واتصاله بالعوالم الروحية حتى يصوّروا لهم ، أنّ النبي كان قارئاً وكاتباً وأنّ ما جاء به من المعارف والأحكام هي انتاج عبقريته الفذة وشخصيته اللامعة ، وسبره في الكتب وغوره فيها ، شأن كل باحث متتبع.

غير أنّ جهلهم أو تجاهلهم الحقيقة ودعاياتهم الواسعة لا يؤثر شيئاً في قلوب المثقفين من الاُمّة ، كيف وقد تسالمت عليها الاُمّة منذ ألف وقرون لم ينبس أحد ببنت شفة على خلافه ، حتى جعل صاحب المنار وغيره « اُمّية » النبي أحد وجوه اعجاز القرآن وقالوا : إنّ الضمير في قوله سبحانه : ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) يعود إلى - المبلغ - بكسر اللام أي الرسول نفسه لا إلى القرآن ، وقال في تفسير الآية : « فإن خفي عليكم الحق بذاته فهذه آية من أظهر آياته ، وهي عجزكم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن ، من رجل اُمّي مثل الذي جاءكم به ، وهو عبدنا ورسولنا محمد وإن عجزتم عن الاتيان بسورة من مثله ، تساوي سورة في هدايتها وتضارعها في اسلوبها وبلاغتها ، وأنتم فرسان البلاغة وعصركم أرقى عصور الفصاحة فاعلموا ما جاء به ، بعد أربعين سنة فأعجزكم بعد سبقكم لم يكن إلاّ بوحي إلهي وامداد سماوي » (1).

وما ذكره من رجوع الضمير إلى النبي وإن كان خلاف ظاهر الآية ، خصوصاً في

ص: 346


1- المنار ج 1 ص 191.

قوله سبحانه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء - 88 ) وفي قوله سبحانه : ( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) ( هود - 13 ) إلاّ أنّه أحد وجوه اعجازه.

قال العلاّمة الشهرستاني : « إنّ من وجوه اعجاز القرآن والاعجاب به صدوره من مثل محمد الاُمّي ربيب البادية ، البعيد عن حضاير الفنون ، البعيد عن حواضر الحكماء ومحاضر العلماء - إلى أن أوضح مقاله بمثال - وقال : الشعب الواثق بأنّ سفيره لا يقرأ ولا يكتب ولا يخون ، ولا يكذب ولم يعهد منه الشعر ففي وضع راهن كهذا لو يفاجئهم سفيرهم بكتاب فذ في الكتابة والإنشاء والإملاء ... وادعى أنّه مرسل به من ناحية السلطان ... فإنّ الشعب ضروري ايمانه واذعانه له ، وعدم اتهامه بأنّه المباشر لهذه الفرية ».

ص: 347

ص: 348

الفصل السادس: علم الغيب في الكتاب العزيز

اشارة

أظنّك أيّها القارئ الكريم في غنى عن بيان معنى « الغيب » ومفاده ، لغةً وعرفاً ، فإنّ للغيب « أصلاً صحيحاً يدل على تستر الشيء عن العيون ، ثم يقاس من ذلك الغيب ما غاب ، ممّا لا يعلمه إلاّ اللّه ».

« ويقال : غابت الشمس تغيب غيبة وغيوباً وغيباً. وغاب الرجل عن بلده. وأغابت المرأة فهي مغيبة ، إذا غاب بعلها ، ووقعنا في غيبة وغيابة أي هبطة من الأرض يغاب فيها. قال اللّه تعالى في قصة يوسف علیه السلام : ( وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الجُبِّ ) والغابة : الاجمة والجمع غابات وغاب ، وسمّيت لأنّه يغاب فيها » (1).

وقال الراغب : « الغيب مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين يقال : غاب عن كذا ، قال تعالى : ( أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) واستعمل في كل غائب عن

ص: 349


1- مقاييس اللغة ج 4 ص 403.

الحاسة ، وعما يغيب عن علم الانسان بمعنى الغائب قال تعالء : ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ويقال : للشيء غيب وغائب باعتباره بالناس لا باللّه تعالى فإنّه لا يغيب عنه شيء كما لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وقوله : ( عَالمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) أي ما يغيب عنكم وما تشهدونه والغيب في : ( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداية العقول وإنّما يعلم بخبر الأنبياء علیهم السلام (1).

توضيحه : أنّ الغيب يقابل الشهود ، فما غاب عن حواسّنا وخرج عن حدودها ، فهو غيب ، سواء أكان أمراً مادياً ، قابلاً للإدارك بالحواس ، كالحوادث الواقعة في غابر الزمان ، والمتكوّنة حالياً ، الغائبة عن حواس المخبر ، أو بعد لاي من الدهر ، أم كان مما يمتنع إدراكه بالحس أو وقوعه في أفقه ، كذاته تعالى ، وحقيقة البعث والنشور ، والحساب ، ونفخ الصور ، والميزان ، وملائكة اللّه ، وجنته وناره ، ولقائه ، وحقيقة الحياة ، في النشأة الاُخرى ، والوحي والنبوّة إلى آخر ما يجب الإيمان به وتصديقه ، كما يدل عليه قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ... وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) ( البقرة : 3 - 4 ).

وقد أوضحه بعض الأعلام بقوله :

الغيب : في العرف العربي اسم لمعنى يقابل الحضور وضد الشهود ، كما في القرآن : ( عَالمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) وفي الحديث النبوي : « ألا فليبلغن الشاهد الغائب » وفي كلام الإمام علي علیه السلام : « شهود كالغيب ».

والشهود : كناية عن اتصال الحواس بالحاضر لديها وهو المراد من الحضور أيضاً فالغيب كالغائب ، ما لا يتصل به الحس ، وبه سمّي المسافر غائباً ، وخلافه حاضراً ، فالنبأ الغيبي ، بناء على ما عرفت ، هو النبأ الذي لا يتصل بالمحسوس لديك فعلاً ، وإن

ص: 350


1- مفردات الراغب ص 366 - 367.

كان أصله محسوساً من قبل ، ثم غاب كالمسافر أو بالعكس كالمولود الذي كان في غيابة الرحم ، محجوباً عن الحواس ثمّ ولد بعد ، فصار محسوساً بين الناس.

وربّ اُمم دوّخت الأقيال والأجيال في سالف الدهر ، كجرهم وأياد ، ثمّ بادت ، وهم اليوم غيب ، وأنباؤهم الخطيرة تعد في زوايا التاريخ من الغيوب ، وربّ جراثيم الأمراض كانت محجوبة ، أو لا تزال محجوبة عن الحواس ، ثمّ في مستقبل الأجيال تقوى الآلات على استكشافها ، فتصير محسوسة مشهودة ، وربّ طعام يقصر عن شمّه حسّ الانسان والحيوان ، إلاّ النمل الذي فاق حسّه على غيره ، فيهتدي إليه ولا يغيب عنها ، أو كحبة خردل لا تغيب عن الغراب ، لحدة بصره ، بينما هي غائبة عن غيره ، أو صوت متحرك في دياجير الظلام لا يغيب عن احساس الفرس ، لقوّة سمعه بينما يغيب عن غيره ... (1).

وهذا البيان الضافي يوقفنا على أنّ الغيب على قسمين : مطلق واضافي ، فالمطلق منه ما لا يقع في اُفق الحس أبداً ويمتنع إدراكه بالآلات والأدوات المادية كذاته سبحانه وصفاته وغيرهما ممّا عدّدناه ، والاضافي ما يتفاوت بحسب الظروف والاشخاص ، فربما يكون غيباً في ظرف ، فجرثومة السل كانت غيباً في غابر الزمان ، قبل أن يقف عليها مكتشفوها ، ويروها تحت المجهر إلى أن عادت أمراً محسوساً في هذه الظروف التي كثرت فيها الأدوات العلمية ، وسهل الوقوف على صغار الموجودات التي لا يدركها الطرف مجرداً عن الآلات الحديثة ...

وإلى ذلك يشير العلامة الطباطبائي بقوله : الأشياء المجهولة ، أي غير الواقعة تحت الحواس ، غيب ، ومن الحري أن نسمّيها عندئذ غيباً نسبياً ، لأنّ هذا الوصف الطارئ عليها ، وصف نسبي يختلف بالنسب والاضافات ، كما أنّ ما في الدار مثلاً ، من الشهادة بالنسبة إلى من فيها ، ومن قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها ، وكذا الأضواء والأكوان المحسوسة بحاسّة البصر ، من الشهادة بالنسبة إلى البصر ، ومن الغيب

ص: 351


1- المعجزة الخالدة ص 71 - 72.

بالنسبة إلى حاسّة السمع ، والمسموعات التي ينالها السمع ، شهادة بالنسبة إليه ، وغيب بالنسبة إلى البصر ، ومحسوساتهما جميعاً من الشهادة بالنسبة إلى الانسان الذي يملكهما في بدنه ومن الغيب بالنسبة إلى غيره من الاناسي (1).

وبذلك يصح لنا أن نصطلح ونعبّر عن الغيب البحت (2) ب « الغيب عن العالم المادي » وعن الغيب النسبي ب « الغيب في العالم ».

بما أنّ الغيب البحت ، لا يخرج عن تحت الخباء ، فلا يتفاوت حاله بحسب الظروف والأحوال ، فالواجب على الانسان ، الإيمان به ، إذا قام الدليل على وجوده لامتناع شهودها ، والتعرف على حقيقتها ما لم يخرق الانسان الحجب المادية ، ولم يلق الستار عن مشاعره ، حتى يتعرّف عليها كتعرّفه على المحسوسات ولا يحصل ذلك إلاّ بالموت ، والتحلل من الجسد ، والتحرر من المادة حتى يصدق عليه قوله سبحانه :

( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ( ق : 21 - 22 ).

أنواع المغيبات في القرآن :

اشارة

إنّ المغيبات الواردة في القرآن لا تزيد اُصولها على أقسام ثلاثة :

الأوّل :

الخبر عن اللّه سبحانه وأسمائه وصفاته ، والخبر عن الروحانيات وملائكته وتدبيره العوالم الأرضية ، والسماوية ، وشؤون الاحياء بعد الموت في البرزخ وحالة الأرواح قبل المعاد وبعده من نعيم أو جحيم ، والقرآن يموج بهذه المعاني الغيبية المطلقة التي لا

ص: 352


1- الميزان ج 7 ص 128.
2- ما أسميناه غيباً بحتاً فإنّما هو مجرد اصطلاح ليحصل الفرق بين القسمين وإلاّ فإنّما هو غيب بحت بالنسبة إلى العالم المادي ، وأمّا بالنسبة إلى نفسه أو ما يسانخه من الموجودات أو الواجب سبحانه فليس غيباً أصلاً.

يتعرف عليها الحس ولا تقع في اُفقه في هذا الظرف.

الثاني :

الإخبار عن اُمم قد خلت من قبل وطويت حياتها ، فأصبحوا ممّا لا يرى حتى مساكنهم ومواطنهم ، من دون أن يرجع إلى كتب السير والتاريخ والكهنة والربانيين أو يطالع كتاباً أو باباً خاصاً في هذا الموضوع. ومثله الخبر عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره ، والاشعار بملاحم وفتن وأحداث في مستقبل الزمن ، كإخبار القرآن عن إنّ ابا لهب وامرأته يموتان كافرين ، في قوله تعالى : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) ( المسد : 1 - 5 ) ، وإخباره عن غلبة الروم ، بعد بضع سنين في قوله سبحانه : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ... ) ( الروم : 1 - 4 ).

وتلحق بذلك الاُمور التي قيل اختص علمه بها سبحانه ، كوقت الساعة : والمستور في ظلمات الارحام ، ... الواردة في قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان - 34 ).

وسوف نرجع إلى البحث عن هذه الآية وتقف على نظرنا فيها.

الثالث :

الإخبار عن بعض الموجودات أو النواميس السائدة في الكون ، وقد كان مغيباً عند نزول الوحي عن ادراك الحواس المجردة عن الأدوات المخترعة في هذا الزمان ، كإخباره سبحانه عن زوجية الأشياء عامة بقوله : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( الذاريات - 49 ) ووجود الدابة في السماوات بقوله : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ

ص: 353

قَدِيرٌ ) ( الشوري - 29 ).

إلى غير ذلك من إخباراته عن الحقائق العلمية والنواميس المطردة في الكون.

ثمّ إنّ الزرقاني أرجع اُصول أنباء الغيب الواردة في القرآن إلى اُمور ثلاثة على وجه يقرب ممّا ذكرناه ، قال : من ذلك قصص عن الماضي البعيد ، المتغلغل في أحشاء القدم ، وقصص عن الحاضر الذي لا سبيل لمحمد إلى رؤيته ومعرفته فضلاً عن التحدث به وقصص عن المستقبل الغامض الذي انقطعت دونه الأسباب وقصرت عن إدراكه الفراسة والألمعية والذكاء - إلى أن قال : - أمّا غيوب الماضي فكثيرة تتمثّل في تلك القصص الرائعة التي يفيض بها التنزيل ولم يكن لمحمد إليها من سبيل كقصة نوح ، وموسى ، ومريم ، وأمّا غيب الحاضر فنريد به ما يتصل باللّه تعالى والملائكة والجن والجنّة والنار ونحو ذلك ممّا لم يكن للرسول صلی اللّه علیه و آله سبيل إلى رؤيته ولا العلم به ، فضلاً عن أن يتحدث عنه على هذا الوجه الواضح.

ومن غيب الحاضر أو الماضي ما جاء في طي القرآن من حقائق ومنافع ومبادئ لم يكشف عنها إلاّ العلم الحديث ، وأمّا غيب المستقبل فهو تنبّأ بحوادث وقعت كما أخبر ... (1).

نعم أرجع العلاّمة الشهرستاني أنواع المغيبات إلى ثمانية أقسام (2) ويرجع اُصولها إلى الوجوه الثلاثة التي أوضحناها.

ثمّ إنّ هذا التقسيم ، إنّما هو بالنسبة إلى البشر المحدود ، الذي تغيب الأشياء عنه ، وأمّا بالنسبة إليه سبحانه فالأشياء كلّها حاضرة لديه ، بأعيانها الخارجية فالماضي والحال والمستقبل عنده سواسية : ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ) ( يونس : 61 ) فهو المحيط بكل ما دق وجل ، ولا يشذ عن محيط علمه خبر خطير ولا صغير ... إلاّ يعلم من خلق ، وهو اللطيف الخبير.

ص: 354


1- مناهل العرفان ج 2 ص 263 - 264.
2- المعجزة الخالدة ص 72.
الإخبار عن الغيب أحد وجوه إعجازه :

ثمّ إنّ المغيبات التي أشرنا إليها إجمالاً ، دلّت قبل كلّ شيء على كون القرآن كتاباً سماوياً ، أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه ، فإنّ الإخبار عن المغيبات الكونية ، والنواميس السائدة في الوجود ، أو الإخبار عن الاُمم البائدة على النحو الذي ذكرناه أو الإخبار عن شؤون البشر في مستقبل أدواره ، والإيماء إلى الملاحم والفتن ، والتي لا يدل عليها ولا يرشد إليها الحس ، أمر خارج عن طوق البشر ، فلا مصدر لها إلاّ كونها وحياً أو إلهاماً ، من خالقه إلى مخلوقه ورسوله الذي ارتضاه فهو عالم الغيب والشهادة فلا يطلع على غيبه أحداً إلاّ من ارتضاه من رسول ، فمستند النبي في مثل هذه المغيبات هو اللّه علام الغيوب.

وقد عرفت أنّ الإخبار عن الغيب بأقسامه الثلاثة كثير في القرآن المجيد ، وأنّ استقصاء الموضوع بعامّة نواحيه ، يحوج الباحث إلى تأليف مفرد. وقد قام عدة من الفضلاء في عصرنا بجمع الآيات التي أخبرت عن النواميس السائدة على الكون من أسرار الخلقة ونواميس الطبيعة ، مما كانت مختفية في عصر نزول القرآن ، ولم يكن سبيل إلى استكشافها إلاّ من طريق الوحي ففسرّوها وأوضحوا مداليلها (1) وبذلك أغنونا عن أفاضة القول في هذا القسم من الغيب ، وأمّا غير هذا القسم من أقسام المغيبات التي جاءت في القرآن فمجمل القول فيه :

إنّ المتفحّص في ما أخبر القرآن به من أحوال الاُمم والحوادث الماضية ، يجد من نفسه أنّ المصدر الوحيد لبيان تلك الحوادث هو الوحي الالهي ليس غير وأنّ النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله لم يتلقها من مثقفي عصره ولا من الكتب الدارجة في عهده ، التي تنسب إلى الوحي وتعزى إلى الأنبياء ، إذ لو فرضنا أنّه أخذ ما أتى به من القصص من أحبار اليهود وأساقفة النصارى وقسيسيهم وكهنة العرب والكتب الدينية الرائجة من التوراة

ص: 355


1- راجع كتاب العلوم الطبيعية والقرآن ، والقرآن والعلوم الحديثة وغيرهما.

والانجيل ، لوجب أن تنعكس على كتابه ظلال مصادر علمه ، ومآخذ نقله ، ونحن نرى مخالفة القرآن لكتب العهدين في جميع النواحي عامة وفي ناحية القصص خاصة.

إنّ القرآن اشترك في بعض القصص مع التوراة الرائجة التي اتفق اليهود والنصارى على أنّها كتاب اللّه المنزل على رسوله « موسى » علیه السلام فأوردت التوراة الدارجة تلك القصص مملوءة بالخرافات وجاء في بيانها بجمل تشابه كلام المبتلى بالهذيان.

غير أنّ القرآن الكريم لما كان كلام اللّه القدوس ، ووحيه ، قد نقل كثيراً من قصص الاُمم وتواريخها ، بأبلغ العبارات وأحسنها ، وأنصع الجمل وأسدّها نزيهة عمّا يمس كرامة اللّه سبحانه وكرامة أنبيائه ورسله ، ولو صح ما ذكر من اختلاق النبي الأكرم للقرآن من جانب نفسه يجب أن يتأثر بمصادر نقلها ، وامتنع حسب العادة أن لا يذكر شيئاً من محتوياتها مع ما فيها من القعقعة التاريخية ، والناقل لقصص العهدين يستحيل أن لا ينعكس على أفكاره وكلامه ، ما يجده فيهما.

يجب على علماء المسلمين ولاسيما الاخصائيين منهم في علم السير والتاريخ القيام بتأليف موسوعة كبيرة (1) تتضمن عرض ما جاء في العهدين من القصص والحوادث على ما جاء في القرآن ثمّ القضاء الصحيح بين النقلين حتى يتبيّن أنّ ما يحتوي عليه القرآن من سمّو المعارف ورصانة التعليم ، لا يمكن أن يعزى إلاّ إلى الوحي السماوي ، وأنّ ما تشتمل عليه كتب العهدين من قصص الخرافة وأباطيل الأحاديث لا تلتئم مع البرهان ، ولا تتمشّى مع المنطق الصحيح ، وأنّ هذه الكتب قد دست وزورت

ص: 356


1- نعم ، قد قام لفيف من الفطاحل الأعلام فألّفوا في هذا المضمار كتباً ورسائل تسد جوع القارئ بعض السد فعالجوا بعض النواحي من هذه الاطروحة شكر اللّه مساعيهم ، فراجع إلى « الهدى إلى دين المصطفى » و « الرحلة المدرسية » للعلامة الحجة البلاغي و « نفحات الاعجاز » و « البيان في تفسير القرآن » لآية اللّه الخوئي و « الميزان في تفسير القرآن » ج 3 تأليف المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي ، ثمّ حكّم عقلك ووجدانك هل ترى أنّ النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله أخذ معارف كتابه واقتبس معارف قرآنه وقصصه من هذه الكتب.

وتطرّق إليها التحريف بيد اُناس لا خلاق لهم من الدين ولا الشرف الانساني.

بقي من أقسام الغيب الوارد في الكتاب العزيز أمران :

1. ما يرجع إلى الإخبار عن اللّه سبحانه وأسمائه وصفاته والعوالم الروحية وغيرها التي يموج بها القرآن ، فقد خصصنا لبيان هذه المعارف القسم الأوّل من كتابنا هذا فشرحنا لك هذه المعارف وما فيها من سمو ورصانة واحداً بعد واحد حسب الترتيب الذي وقفت عليه في مقدمة الكتاب.

2. ما يرجع إلى الخبر عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره وما يلم به من ملاحم وفتن ، فهذا هو الذي نبحث عنه في المقام على وجه الاختصار فنقول :

إنّ القرآن قد أخبر عن الحوادث التي كان التكهّن والفراسة يقتضيان خلافه من حيث النظر إلى الحال الحاضر وطغيان الشرك وضعف الدعوة الإسلامية ، وما يجري من النكال والتشريد ، والجفاء على ملبيها ، مع أنّه صار صادقاً في جميع ما اخبر به ولم يخالف الواقع في شيء منها ، ولا شك أنّه لم يكن له طريق في الإخبار بهذه المغيبات إلاّ الوحي ، هب أنّه تكهّن أو تفرّس في بعض إخباراته - وأجل نبي العظمة عن هذه الفرية الشائنة ، فهل يمكن القول بأنّه تفرس في جميع ما اخبر به ، وأنّه تنبأ معتمداً على علائم وإمارات كانت ترشده إليها ، مع أنّ المفروض أنّ الأحوال الحاضرة في بعض إخباراته كانت تقتضي خلاف ما اخبر به كما سيوافيك بيانه ، ونحن نأتي في المقام بكثير من الآيات التي تتضمن الإخبار عن الحوادث المستقبلية التي تحققت بعد إخبارها في زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله أو بعد لحوقه بالرفيق الأعلى بيسير ، وأمّا الاستقصاء في ذلك فلنتركه إلى من أراد الغور أكثر من ذلك.

نقول : هناك مغيبات عن ملاحم أحداث وفتن اخبر بها القرآن وظهر صدقها في عصر الرسول صلی اللّه علیه و آله أو بعده بقليل ، فهذه الأخبار تدل قبل كل شيء على صحة نبوّته وأنّ القرآن منزّل من عنده سبحانه ، ولا يمكن حملها على ما يحدث بالمصادفة أو القرائن أحياناً من أقوال الكهنة أو العرّافين والمنجمين فإنّ كذب هؤلاء أكثر من صدقهم

ص: 357

والناس لا يحصون عليهم أقوالهم ، ولا يبحثون عن حيلهم وتلبيساتهم ، وإنّما يذكرون بعض ذلك إذا اقتضته الحال ، كتشنيع أبي تمام على المنجمين في زعمهم أنّ عمورية لا تفتح إلاّ عند نضج التين والعنب في قصيدته المعروفة التي مطلعها :

السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب

إلى أن يقول :

سبعون ألفاً كآساد الشرى نضجت *** جلودهم قبل نضج التين والعنب

على أنّ دأب المنجمين هو أن يعبّروا عمّا يتوقعون من أحداث المستقبل بآرائهم وبقرائن الأحوال وأخبار الصحف الدورية ، برموز وكنايات واشارات يفسرون بها الوقائع بأهوائهم ، وأمّا ما يعرفه الفلكيون بالحساب كالخسوف والكسوف ومطالع الكواكب ومغاربها فليس من التنجيم المحرم ولا من علم الغيب في شيء (1).

ص: 358


1- راجع المنار ج 1 ص 204 - 205.

مغيبات القرآن وأخباره الغيبية

1. تنبؤ القرآن بعجز البشر عن معارضته بمثله :

لقد تحدى القرآن في مواضع عديدة من آيات سوره تحدّياً يثير روح المنافسة على أشدها في نفوس من يتحداهم ، وتحققت نبوءة القرآن ولا تزال متحققة حيث انقرضت طبقة المخاطبين ومضت أجيال من عرب وأعجام ، وكلهم اعترفوا بالعجز عن المعارضة مع كثرة من تتطاول أعناقهم إلى هدم بناء الدين ، وإبطال معجزة الإسلام الخالدة.

إنّ المتأخرين من الناقدين لا يعييهم في العادة أن يستدركوا على السابقين إمّا نقصاً يعالجوه بالكمال أو كمالاً يعالجونه بما هو أكمل منه ، وإذا فرضنا أنّ واحداً قد عجز عن هذا ، فمن البعيد أن تعجز عنه جماعة ، وإذا عجزت جماعة فمن البعيد أن تعجز اُمّة ، وإذا عجزت اُمّة ، فمن البعيد أن يعجز جيل ، وإذا عجز جيل فمن البعيد أن تعجز أجيال ، فكيف يصدر إذن مثل هذا التحدّي عن رجل يعرف ما يقول فضلاً عن رجل عظيم ، فضلاً عن محمد أفضل المرسلين؟ وهل يمكن أن يفسر هذا التحدّي الجريء الطويل العريض ، إلاّ بأنّه استمداد من وحي السماء واستناد إلى من يملك السمع والأبصار ، وحديث عن من بيده ملكوت كل شيء ، وهو يجير ولا يجار عليه (1).

ص: 359


1- مناهل العرفان ج 2 ص 268.

وقد نص بذلك التحدّي في موارد من آيات سوره.

منها قوله سبحانه :

( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة : 23 - 24 ).

أخبر القرآن في بداية أمر النبي بمكة عن عجز البشر عن مباراة القرآن ومعارضته إلى يوم القيامة ، وأنّ الناس لا يسعهم الاتيان بمثل هذا القرآن ، مهما تظاهروا وتناصروا وحتى اليوم تنقضي على هذا التحدي والتنبؤ قرون وهو صادق في وعده وعهده وسيبقى التحدّي قائماً مادام القرآن ، ويستمر عجز البشر عن مجابهة هذا التحدي.

قال الطبرسي : « ولن » في قوله : ( وَلَن تَفْعَلُوا ) تنفي على التأبيد في المستقبل وفيه دلالة على صحة نبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله لأنّه يتضمن الإخبار عن حالهم في مستقبل الأوقات بأنّهم لا يأتون بمثله ، فوافق المخبر عنه الخبر (1).

ويليها في التنبؤ بعجز البشر والجن عن معارضة القرآن ، قوله سبحانه :

( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء - 88 ).

وقد بلغ في تحدّيه إلى أن اكتفى من المتحدّي بإتيان عشر سور مثله ، بل سورة واحدة من سوره.

قال سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم

ص: 360


1- مجمع البيان ج 1 ص 63.

مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( هود - 13 ).

وقال سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( يونس - 38 ).

ترى في هذه الآيات من التنبّؤ الواثق بعجز الانس والجن عن معارضة القرآن ولكن المستقبل كما يقال « غيب » لا يملكه النبي ولا الوصي ولا أي شخص سواهما غير أنّ النبي صار صادقاً في تنبّؤه هذا ، ولا يزال صادقاً في الحال فعلى أي مصدر اعتمد هو في هذا التحدي الطويل العريض ، غير الإيحاء إليه الذي لم يزل يصدر عنه في اخباره وتشريعه ؟

2. التنبّؤ بانتصار الرومان على الفرس :

قال سبحانه : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( الروم : 1 - 6 ).

وقد وقع ما أخبرت به الآية بأقل من عشر سنين ، فغلب الروم ودخل جيشهم مملكة الفرس باجماع من أهل التاريخ ، ودونك اجماله : انّ دولة الرومان وهي مسيحية كانت قد انهزمت أمام دولة الفرس وهي وثنية بعد حروب طاحنة بينهما سنة 614 م فاغتمّ المسلمون بسبب أنّها هزيمة لدولة متديّنة أمام دولة وثنية ، وفرح المشركون وقالوا للمسلمين بشماتة : إنّ الروم يشهدون أنّهم أهل كتاب ، وقد غلبهم المجوس ، وأنتم تزعمون أنّكم ستغلبوننا بالكتاب الذي اُنزل عليكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم.

فنزلت الآية الكريمة يبشّر اللّه فيها المسلمين : بأنّ هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار للمسلمين في بضع سنين ، أي في مدة تتراوح بين ثلاث سنوات وتسع ، ولم يك مظنوناً وقت هذه البشارة ، انّ الروم تنتصر على الفرس في مثل هذه المدة الوجيزة بل كانت المقدمات والأسباب تأبى ذلك عليها ، لأنّ الحروب الطاحنة انهكتها حتى غزيت في عقر دارها ، كما يدل عليه النص الكريم : ( فِي أَدْنَى الأَرْضِ ) ولأنّ دولة الفرس كانت

ص: 361

قوية منيعة وزادها الظفر الأخير قوة ومنعة ، ولكن اللّه تعالى أنجز وعده وتحققت نبوءة القرآن سنة 622 م الموافقة للسنة الثانية من الهجرة.

واحتمل « الزرقاني » أنّ الآية الثانية حملت نبوءة اُخرى وهي البشارة بأنّ المسلمين سيفرحون بنصر عزيز في الوقت الذي ينصر فيه الروم ، وقد صدق اللّه وعده في هذه كما صدقه في تلك ، وكان ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى واقعاً في الظرف الذي ظفر الرومان ، وهكذا تحققت النبوءتان في وقت واحد ، مع تقطع الأسباب في انتصار الروم ، كما علمت ، ومع تقطع الأسباب أيضاً في انتصار المسلمين على المشركين على عهد هذه البشارة ، لأنّهم كانوا أيامئذ في مكة في قلة وذلة يضطهدهم المشركون ولا يرقبون فيهم وإلاًّ ولا ذمة ولكن على رغم هذا الاستبعاد أو هذه الاستحالة العادية ، نزلت الآيات كما ترى تؤكد البشارتين وتسوقهما في موكب من التأكيدات البالغة التي تنأى بهما عن التكهنات والتخرصات (1).

غير أنّ من المحتمل أن يكون فرح المؤمنين لأجل انتصار الرومان على الفرس تفؤلاً بذلك حيث كان التدين باللّه سبحانه وشرائعه السماوية يجمعهما في أمر واحد لا لأجل انتصار المسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى.

نعم الآية محتملة لكل من الوجهين وإن أصر الكاتب على استفادة المعنى الأوّل منها.

3. اخباره عن صيانة النبي عن أذى الناس :

قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( المائدة - 67 ).

أصفقت صحاح السنّة (2) ، وأحاديث الشيعة المتواترة (3) على أنّ الآية نزلت يوم

ص: 362


1- مناهل العرفان ج 2 ص 266.
2- راجع الغدير ج 1 ص 194 - 217.
3- راجع غاية المرام ص 335.

الغدير ، حينما أمره سبحانه أن ينصب علياً علیه السلام إماماً للناس ، وكان النبي على حذر من الناس في تنصيب علي للخلافة ، فأخبره اللّه سبحانه بأنّه سيعصمه من أذى الناس وشرّهم ، ولا يصلون إليه بقتل ولا يتمكنون من اغتيال شخصه الشريف وتحققت نبوءة القرآن وصدّق الخبر الخبر.

ولو فرضنا صحاح القوم ولم نعتقد بما أثبته المتواتر من الروايات ، وقلنا إنّ المراد من الناس هم المشركون وأعداء الإسلام ، الذين أضمروا في أنفسهم عداء لقائده ، فالآية متضمنة للتنبّؤ بالغيب أيضاً ، إذ لم يتمكن أحد من أعداء الإسلام أن يقتله ، مع كثرة عددهم ووفرة استعدادهم ، وكانوا يتربصون به الدوائر ، ويتحيّنون به الفرص ، للايقاع به والقضاء عليه ، وعلى دعوته وهو أضعف منهم استعداداً وأقل جنوداً ، فمن الذي يملك هذا الوعد إذن ، إلاّ اللّه الذي يغلِب ولا يغلَب.

وقال سبحانه : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) ( الحجر : 94 - 96 ) أخبر سبحانه عن أنّه يكفيه عن أذى المستهزئين ومؤامراتهم ، وقد كفاه اللّه أشرف كفاية لم تكن تتعلق بها الآمال بحسب العادة ، وقد بان للمشركين وعلموا ما في قوله سبحانه في آخر الآية : ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) .

روى البزاز والطبراني عن أنس بن مالك أنّها نزلت عند مرور النبي صلی اللّه علیه و آله على أناس بمكة فجعلوا يغمزون في قفاه ، ويقولون هذا الذي يزعم أنّه نبي ومعه جبرئيل (1) فأخبرت الآية عن ظهور دعوة النبي ، وانتصاره على أعدائه ، وخذلانه للمشركين الذين ناووه واستهزأوا بنبوّته واستخفّوا بأمره ، وكان هذا الإخبار في زمان لم يخطر فيه على بال أحد من الناس ، اندحار قريش ، وانكسار شوكتهم وظهور النبي عليهم.

قال الطبرسي : أي كفيناك شر المستهزئين واستهزاءهم بأن أهلكناهم وكانوا

ص: 363


1- لباب العقول ص 133.

خمسة نفر من قريش أو ستة ثم ذكر أسماءهم وكيفية هلاكهم (1).

قال سبحانه : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ) ( النساء - 113 ) والمراد من الإضرار هو القتل فاللّه سبحانه حافظه وناصره.

4. تنبّوءات حول المنافقين والمخلّفين من الأعراب :

تجد في سورة التوبة والفتح والحشر نماذج من هذا القسم ، يقول سبحانه : ( فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ ) ( التوبة - 83 ).

فأخبر عن قعودهم ، وعدم خروجهم مع النبي ، فقوله سبحانه : ( فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا ) معناه لن يكون لكم شرف صحبة الإيمان ، بالخروج معي إلى الجهاد في سبيل اللّه ، ولا إلى غيره من النسك أبداً ما بقيت : ( وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ) من الأعداء لا بالخروج والسفر إليهم ، ولا بغير ذلك.

ويتلوه ما جاء فيه من التنبّؤ بما يحلف به المنافقون كقوله سبحانه : ( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ( التوبة - 42 ).

فأخبر عن حلفهم في المستقبل القريب ، وعن كذبهم في حلفهم هذا. قال : الطبرسي وفي هذه دلالة على على صحة نبوّة نبيّنا إذ أخبر أنّهم سيحلفون قبل وقوعه فحلفوا وكان خبره على ما أخبر به (2).

ومثله قوله سبحانه : ( سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ

ص: 364


1- مجمع البيان ج 3 ص 346.
2- مجمع البيان ج 3 ص 33.

فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( التوبة - 95 ) وفي هذه السورة شيء كثير من هذا الضرب من التنبّؤ ، فتدبّر في آياتها ومضامينها تجدها مملوءة من الإخبارات الغيبية ، وقد نزلت في حق المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك.

ونظير تلكم الآيات ما ورد في سورة الفتح من التنبّؤ حول الأعراب الذين تخلّفوا عن النبي في الخروج إلى الحديبية ودونك بعض الآيات : ( سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) ( الفتح - 11 ).

وقوله سبحانه : ( سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الفتح - 15 ).

وفي هاتين الآيتين إخبارات غيبية عن كثير مما تفوّه به المخلفون وعن ما يضمرون في أنفسهم ، وما يصيبهم في المستقبل ، يظهر ذلك لكل من أمعن النظر في مفاد الآيتين ودونك تفسيرهما :

لمّا أراد النبي المسير إلى مكة عام « الحديبية » معتمراً وكان في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، استنفر من حول المدينة من القبائل إلى الخروج معه ، وهم « غفار » و « أسلم » و « مزينة » و « جهينة » و « أشجع » و « الدئل » ، حذراً من قريش أن يتعرضوا له بحرب أو بصد وهو أحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنّه لا يريد حرباً ، فتثاقل عنه كثير من الأعراب ، فتخلّفوا عنه ، واعتلوا بالشغل ، فأخبر سبحانه عن العذيرة التي سوف يتشبّثون بها ، عند رجوع النبي وأصحابه عن الحديبية بقوله : ( شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ) كما أخبر عن أنّهم سوف يطلبون من النبي أن يستغفر لهم والحال أنّهم كاذبون في معذرتهم التي تمسّكوا بها ، وفي ما يطلبون من النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله من الاستغفار لهم ، وهم لا يبالون استغفر لهم النبي أم لم يستغفر.

ثمّ أخبر سبحانه عن أنّ النبي بعد منصرفه عن الحديبية بالصلح ، سوف يتوجّه

ص: 365

إلى « خيبر » ويأخذ من أهلها مغانم ، وأنّ هؤلاء المتخلّفين يطلبون من النبي أن يتبعوه حتى يشاركوا المسلمين في ما يأخدون من المغانم ، وأنّ النبي يجيبهم بأنّكم : ( لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ ) ولأجل ذلك خص النبي مغانم « خيبر » لمن شهد الحديبية.

ويظهر من قوله سبحانه : ( كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ ) أنّ اللّه سبحانه كان قد أخبر نبيّه عن تخلفهم في الحديبية ، أيضاً كما أخبره عن تخلّفهم في غزوة خيبر.

ونظير ما سبق قوله سبحانه : ( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( الفتح - 16 ).

فأخبر المتخلّفين عن غزوة الحديبية بأنّهم سيدعون إلى معركة عنيفة تدور بينهم وبين قوم اُولي بأس شديد ، فدعاهم النبي بعد سنتين إلى المقاتلة مع قبائل هوازن وحنين وثقيف ، وكانوا أقواماً ذوي نجدة وشدة حسب ما نقرأه في السير والتاريخ ، ثم أخبر سبحانه عن أنّهم يأخذون مغانم كثيرة بقوله : ( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) ( الفتح : 19 - 20 ).

فقد أخذوا بعد غنائم خيبر التي أشار إليها بقوله : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) غنائم كثيرة في محاربة قبائل حنين وهوازن.

ثمّ إنّه أخبر عمّا أضمره المنافقون وأسرّوه من الكفر والعصيان وأنهم ليعدون وعداً ثم يخالفونه قال سبحانه :

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) ( الحشر : 11 - 12 ).

ص: 366

وحاصل الآيات : أنّه سبحانه يخاطب النبي ويقول : ألم تر يا محمد إلى الذين نافقوا فأبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان يقولون لأخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب يعني يهود بني النضير لئن اخرجتم من دياركم وبلادكم لنخرجن معكم مساعدين لكم ولا نطيع في قتالكم وفي مخاصمتكم أحداً أبداً أي محمداً وأصحابه ، بل وعدوهم النصر بقولهم : وإن قوتلتم لننصرنكم ، ثم كذبهما اللّه في ذلك بقوله : ( وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) فإنّه لو خرج أهل الكتاب لا يخرج المنافقون معهم ، ولئن قوتلوا لا ينصرهم هؤلاء المنافقون ، ولئن نصروهم ليولنّ الأدبار وينهزمون.

وقد نقل المفسرون أنّ الآية نزلت قبل إخراج بني النضير واُخرجوا بعد ذلك فلم يخرج معهم منافق ولم ينصرونهم (1).

وقال سبحانه في بني النضير من اليهود ومن مال إليهم من المنافقين : ( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ) ( الحشر - 14 ).

أخبر سبحانه عن أحوال المنافقين مخاطباً للمؤمنين ، بأنّهم لا يقاتلونكم إلاّ في قرى محصّنة لا يبرزون لحربكم وإنّما يقاتلونكم متحصّنين بالقرى أو من وراء جدر يرمونكم من ورائها بالنبل والحجر بأسهم بينهم شديد ، فعداوة بعضهم لبعض شديدة فليسوا بمتّفقي القلوب تحسبهم جميعاً متجمعين في الظاهر وقلوبهم شتى ، خذلهم اللّه باختلاف كلمتهم ذلك بأنّهم قوم لا يعقلون.

والآية تنطبق كل الانطباق على بني النضير ، فلاحظ سيرة ابن هشام ج 2 ص 191.

5. الإخبار عن القضاء على العدو قبل المعركة :

قال سبحانه : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ

ص: 367


1- مجمع البيان ج 5 ص 263.

الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * ... إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) ( الأنفال : 7 - 12 ).

الآية نزلت في وقعة « بدر » ، وقد وعد اللّه فيها المؤمنين بالنصر على عدوهم ويقطع دابرهم ، والمؤمنون على ما هم عليه من قلة العدد والعدة ، حتى أنّ الفارس فيهم كان المقداد أو هو والزبير بن العوام ، والكافرون هم الكثيرون الشديدون في القوة ، وقد وصفتهم الآية بأنّهم ذو شوكة ، وأنّ المؤمنين اشفقوا من قتالهم ، ولكن اللّه يريد أن يحق الحق بكلماته ، وقد وفى للمؤمنين بوعده ، فنصرهم على أعدائهم وقطع دابر الكافرين.

« قال رسول اللّه سيروا على بركة اللّه فإنّ اللّه عزّ وجلّ قد وعدني ( إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ) ولن يخلف اللّه وعده ، واللّه لكأنّي أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة ابن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان ، وأمر رسول اللّه بالرحيل وخرج إلى بدر » (1).

فأخبر سبحانه بقوله : ( وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) عن هزيمة المشركين وقتل أعوانهم واستئصال شأفتهم ومحق قوّتهم ، فإنّ دابر القوم آخرهم الذي يأتي في دبرهم ويكون من ورائهم ، ولن يصل إليه الهلاك إلاّ بهلاك من قبله من الجيش ، وهكذا كان الظفر ببدر فاتحة الظفر لما بعدها إلى أن قطع اللّه دابر المشركين بفتح مكة (2).

وليس تنبّؤ القرآن بالقضاء على مشركي قريش في معركة بدر منحصرة بهذه الآية بل تنبّأ بذلك في آية اُخرى وهي قوله سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ

ص: 368


1- مجمع البيان ج 4 ص 522.
2- المنار ج 9 ص 601 ، والناظر الدقيق المتأمّل في مفاد هذه الآيات السبع يجد فيها تنبّؤات كثيرة تحقّقت كلّها في غزوة بدر ، فاقرأ سيرة النبي الأكرم ولاحظ مفاد هذه الآيات.

الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) ( القمر : 44 - 45 ) فأخبر عن انهزام جمع الكفار وتفرّقهم وقمع شوكتهم ، وقد وقع هذا في يوم « بدر » أيضاً حين ضرب أبا جهل فرسه وتقدم نحو الصف الأوّل قائلاً : نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه ، فأباده اللّه وجمعه وأنار الحق ورفع مناره ، وأعلى كلمته فانهزم الكافرون وظفر المسلمون عليهم حينما لم يكن يتوهّم أحد بأنّ ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً ليس لهم عدة يظفرون فيها بجمع كبير تام العدة وافر العدد ، وكيف يستفحل أمر اُولئك النفر القليل على هذا العدد الكثير ، حتى تذهب شوكته كرماد اشتدت به الريح (1).

6. التنبّؤ بصيانة القرآن عن التحريف :

تنبّأ القرآن بأنّه سيبقى مصوناً عن التحريف بعامة معانيه ، فمع أنّ القرآن بل التاريخ يقصّان علينا تحريف الكثير من كتب اللّه ووحي السماء ، ومع أنّ المستقبل مليء بشتيت الحوادث المرة والليالي حبالى مثقلات ، جاء القرآن يخبر بوضوح بأنّ الأيدي الجائرة لا تتمكن من التلاعب به حيث قال : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر - 9 ) والمراد من « الذكر » بقرينة قوله سبحانه : ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر - 6 ) هو القرآن لا النبي كما احتمله بعضهم ، وبما أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لم يكن من الذين يطلبون المجد عن طريق الأحلام المكذوبة والآمال المعسولة ويسيرون على الخيال ، فلا مناص من أن تكون صادرة عن وحي سماوي ، معبّرة عن رأي من يملك الأرض والسماء والماضي والمستقبل.

نعم نوقش في دلالة الآية على صيانة القرآن عن التحريف بوجوه زائفة لا قيمة لها في ميزان الانصاف (2).

ص: 369


1- البيان ص 52 - 53.
2- راجع في الوقوف على تلكم الشبهات وأجوبتها ، تفسير البيان ص 144 - 146.
7. الاخبار عن نجاح الإسلام والرسول :

قال سبحانه : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( التوبة : 32 - 33 ويقرب منهما ما ورد في سورة الصف 8 - 9 ، باختلاف يسير ) فأظهره على الدين كلّه أعزّ اظهار ، اُرغمت به آناف المشركين ، وقبض ولحق بالرفيق الأعلى ، ولم يبق في الجزيرة العربية وثن ولا وثني ، ولأعلام التفسير حول الآية كلمات تفسر الآية بغير ما ذكرناه.

قال صاحب المنار بعد ما حقّق وفصل أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يصلح لأن يكون عالمياً ، ويظهر على الدين كلّه ، وأنّه صح عن النبي صلی اللّه علیه و آله : « أنّ اللّه زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك اُمتي ما زوى لي منها » ، قال : ومن العلماء من يقول إنّ بعض البشارات هذه لا يتم إلاّ في آخر الزمان عند ظهور المهدي وما يتلوه من نزول عيسى بن مريم علیه السلام من السماء وإقامته لدين الإسلام (1).

وفسّر الطبرسي « الظهور » بالغلبة بالحجة والقهر معاً ، وقال أي ليظهر دين الإسلام على جميع الأديان بالحجة والغلبة والقهر لها حتى لا يبقى على وجه الأرض دين إلاّ مغلوباً ، ولا يغلب أحد الإسلام بالحجة وأهل الإسلام يغلبون أهل سائر الأديان بالحجة ، وأمّا الظهور بالغلبة فهو أنّ كل طائفة من المسلمين قد غلبوا على ناحية من نواحي أهل الشرك ولحقهم قهر من جهتهم.

وقيل : أراد عند نزول عيسى بن مريم فانّه لا يبقى أهل دين إلاّ أسلم أو أدّى الجزية ، وقال أبو جعفر علیه السلام إنّ ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمد فلا يبقى أحد إلاّ أقرّ بمحمد صلی اللّه علیه و آله ، وقال المقداد بن الأسود سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلاّ أدخله اللّه كلمة الإسلام أمّا بعزّ عزيز وأمّا

ص: 370


1- المنار ج 10 ص 460.

بذل ذليل ... (1).

وقال في موضع آخر : وفي هذه دلالة على صحّة نبوّة نبيّنا محمد صلی اللّه علیه و آله لأنّه سبحانه قد أشهر دينه على جميع الأديان بالاستعلاء والقهر واعلاء الشأن كما وعده ذلك في حال الضعف وقلّة الأعوان. روى عباية : أنّه سمع أمير المؤمنين يقول : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) أظهر بعد ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : كلا ، فوالذي نفسي بيده حتى لا تبقى قرية إلاّ وينادى فيها شهادة أن لا إله إلاّ اللّه بكرة وعشياً (2).

نعم يمكن أن يقال : المراد من الظهور معناه الجامع العام أي الظهور والغلبة أعم من الغلبة بالبرهان والحجة والغلبة بالقدرة والسيطرة ، ثم الظهور أعم من الظهور على الشرك والوثنية السائدة في الجزيرة العربية يوم نزول الآية ، والظهور على الشرائع كلها ، في مشارق الأرض ومغاربها ، فللظهور مراتب ودرجات تحقق بعضها في عصر الرسول والبعض الآخر بعده صلی اللّه علیه و آله والدرجة العليا منها إنّما تتحقق بظهور المهدي من آل محمد « عجل اللّه تعالى فرجه ».

على أنّ هنا آيات تنبّأت بمستقبل الإسلام ونجاحه نجاحاً باهراً مثل قوله سبحانه : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) ( الرعد - 17 ).

فتنبّأ بأنّ الإسلام سيخلد ويبقى ، وأنّ الباطل والوثنية سيذهب جفاء ، أخبر بذلك في الوقت الذي كان فيه المسلمون في مكة مضطهدين مستضعفين يخافون أن يتخطّفهم الناس ، وقريب منه قوله سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ) ( إبراهيم : 24 - 25 ) فالمراد من الكلمة الطيبة ، هي كلمة التوحيد وما يتفرّع عنها من أحكام وفروع ، فالاعتقاد باللّه سبحانه ووحدانيته هو

ص: 371


1- مجمع البيان ج 3 ص 24.
2- مجمع البيان ج 5 ص 280.

الأصل الثابت والمحفوظ من كل تغير وزوال ، ومن طروء أي بطلان عليه ، وتتفرّع عنها أحكام ونسك وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيى بها الانسان ، ويعمّر بها المجتمع ، وتعطي اُكلها وثمارها التي هي عبارة عن صلاح المجتمع الانساني وتكامله كل حين.

فالآية تشير إلى أنّ العقائد الحقّة وما يتفرع عنها من الأحكام ، كشجرة طيبة فكما هي تضرب عروقها في الأرض وتعلوا أغصانها إلى السماء ، ويتظلّل بها الناس ، ويستفيد من ثمارها القريب والبعيد ، فهكذا الدين الحق والكلمة الطيبة التي هي كلمة التوحيد والإسلام ، سوف تستقر في قلوب الناس ، وتضرب عروقها في ضمائرهم وقلوبهم ، وترفع أغصانها في مظاهر حياتهم ، يتظلّل بها العرب والعجم ويستفيد من آثارها الداني والقاصي ، وبها يستقر السلام العام وتأمن سعادة الناس ، وبها يتكامل المجتمع البشري في مراحل الحياة ومظاهرها ، فتبقى دائمة على مرّ الليالي والأيام.

فهذه الآية تنبّئ عن مستقبل الإسلام ونجاحه نجاحاً باهراً في وقت لم يكن من بواسم الآمال ما يلقى ضوءً على نجاح هذا الدين ، ولم يكن عند النبي من العوامل ما يجعله يثق بهذا النجاح ، وليس النبي بشهادة تاريخ حياته ورجاحة عقله واتزانه ودقته ، من الذين يلقون القول على عواهنه غير متريّثين بما يقولون بل كان يثبت في كلامه ، ويتحرّى في مقاله حتى اشتهر بالصدق والأمانة ، ومع ذلك فقد أخبر بلغة الواثق فيما يقول ، عن نجاح دينه في المستقبل وأنّه سوف يضرب بجرانه خارج مكة بل خارج الجزيرة العربية إلى أقاصي الدنيا.

وأعطف على ذلك تنبّؤ القرآن بكل وعود تدل على نجاح الرسل والمؤمنين في ميادين الحياة ومعارك التنازع ، كقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) ( الصافات : 171 - 173 ) وقوله سبحانه : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر - 51 ) وقوله سبحانه : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ

ص: 372

دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( النور - 55 ) (1).

فهذه الوعود المؤكدة الكريمة وإن وردت بصورة عامة ، لكنّها تعم النبي الأكرم والذين آمنوا به ، فقد نصر النبي وجنده وغلبهم على مخالفيهم وأعدائهم ، ومكّن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في أرضه واستخلفهم فيها ، وبدل خوفهم أمناً حتى استطاعوا أن يعبدوه آمنين غير خائفين إلى يومنا هذا.

« إنّ الإسلام لقى من ضروب العنت مراراً وتكراراً في أزمان متطاولة وعهود مختلفة ، ما كان بعضه كافياً في محوه وزواله ولكنّه على رغم أنف هذه الأعاصير العاتية بقي ثابتاً ، يسامي الجبال ، شامخاً يطاول السماء ، على حين انّ سجّلات التاريخ لا تزال تحفظ بين طياتها ، ما يشيب الوليد من ألوان الاضطهاد والأذى الذي أصاب الرسول وأتباعه في مكة والمدينة وقد رمتهم العرب بقوس واحدة ، عندما نزلوا المدينة وكانوا لا يبيتون إلاّ بالسلاح ولا يصبحون إلاّ فيه ، وقد وعدهم بالنصر والغلبة وهم يضطهدون ، وما أعجل تحقق هذا الوعد الإلهي ، رغم هذه الأحوال المنافية في العادة لما وعد ، فدالت الدولة لهم واستخلفهم في أقطار الأرض وأورثهم ملك كسرى وقيصر ، ومكّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وأبدلهم بعد خوفهم آمناً ، يا لها نبوءة تأبى عادة أن يتحدّث بها إلاّ من يملك تحقيقها ويخرق إن شاء عادات الكون ونواميسه من أجلها ، ( إِن تَنصُرُوا اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) ( وَلَيَنصُرَنَّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) » (2).

كيف وهو لم يكتف بهذا بل تنبّأ في الوقت الذي لم يكن فيه من بواسم الآمال ، ما يوجب اطمئنانه بنجاحه ونجاح دينه وبأنّه سيعود إلى معاده وموطنه في حين أنّ المسلمين كانوا بمكة في أذى وغلبة من أهلها ، وكان هو بالجحفة أثناء هجرته إلى المدينة

ص: 373


1- راجع ما أسلفاه حول الآيات المتقدمة من عمومية المعنى وأوسعيته وكونه ذا مراتب فلا ينافي تأويلها بخروج الإمام المنتظر.
2- مناهل العرفان ج 2 ص 270 - 271 بتصرف.

وقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( القصص - 85 ) فأخبر عن رجوعه إلى معاده من غير شرط ولا استثناء وجاء المخبر مطابقاً للخبر (1).

وانّك لتجد في سبرك الذكر الحكيم آيات اُخرى غير ما ذكرناه تبشر بنجاح الإسلام والمسلمين ، وتعبّر عن غلبتهم على أعدائهم ، وهذه الآيات الكثيرة الواردة في هذا القسم من المغيبات ، قد تحققت كلها ولم تتخلّف منها واحدة ولو تخلّفت منها واحدة لزمرت وطبّلة على تلك السقطة أعداؤه وطفقوا يرقصون فرحاً بالخلاف الذي وجدوه في كتابه الذي به تحدّاهم فهدم كيانهم وسفه أحلامهم.

ولا بأس بذكر بعض ما يناسب المقام من الآيات التي تنبّأت بانتصار الرسول والمسلمين على أعدائهم وأنّهم سوف يدخلون مكة بل يفتحونها.

قال سبحانه : ( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح - 27 ) ، روى أصحاب السير والتاريخ : « إنّ اللّه تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية ، انّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ، وأنّهم سوف يدخلون مكة ، فلمّا خرجوا من المدينة وبلغوا الحديبية ، خرج منها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في عدد من أصحابه حتى إذا كان بذي الحليفة بعث النبي صلی اللّه علیه و آله عيناً ، وجاء فأخبره بأنّ كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش طليعة ، وبعد محادثات جرت بين المسلمين وقريش اصطلحوا على أن يضعوا الحرب عشر سنين وأن يرجع رسول اللّه ومن معه من أصحابه في عامه هذا فلا يدخل مكة إلاّ من العام القابل ، فيقيم بها ثلاثاً ومعه سلاح الراكب والسيوف في القرب ، ولا يدخلها بغيره ، فلمّا أنصرف رسول اللّه ومن معه من أصحابه ، قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام ، فأنزل اللّه هذه الآية وأخبر أنّه أرى رسوله الصدق في منامه ، لا

ص: 374


1- مجمع البيان ج 4 ص 269.

الباطل وأنّهم يدخلونه وأقسم على ذلك وقال : ( لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ ) أي العام القابل وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة ولعلّ التقييد بالمشيئة لعلمه سبحانه بأنّ منهم من يموت قبل السنة أو يمرض فلا يدخلها ، فأدخل الاستثناء لأنّ لا يقع في الخبر خلف (1).

ونختم هذا القسم بتنبّؤين :

1. تنبّؤ القرآن بانتصاره على أعدائه من قريش وفتحه عاصمة الوثنيين ودخول الناس في دين الإسلام فوجاً بعد فوج ، قال سبحانه : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) ( النصر : 1 - 4 ) فأظفره اللّه على أعدائه وفتح مكة ودخل الناس في دين الإسلام زمرة بعد زمرة ، ولأجل ذلك النصر العظيم أمره سبحانه بتنزيه اللّه عمّا لا يليق به ، وليست هذه هي المرة الوحيدة التي تنبّأ فيها القرآن الكريم بفتح مكة ، بل تنبّأ بفتح مكة مرة اُخرى وهو قوله سبحانه : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) ( الفتح - 1 ) فقد روي أنّ المسلمين رجعوا عن غزوة الحديبية وقد حيل بينهم وبين نسكهم فهم بين الحزن والكآبة إذ أنزل اللّه عزّ وجلّ : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) فأدرك الرسول السرور والفرح ، ما شاء اللّه ، ففتحت مكة بعد عامين من نزول السورة ، ومعنى قوله : ( إِنَّا فَتَحْنَا ) إنّا قضينا لك بالفتح.

وقال سبحانه : ( وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ) ( الصف - 13 ) والمراد من « فتح قريب » أمّا فتح مكة أو فتح بلاد الفرس والروم (2).

2. تنبّؤ القرآن بأنّه لا يضر ارتداد من ارتد ممّن آمن به فانّ اللّه يأتي بقوم رحماء على المؤمنين أشدّاء على الكافرين ، يجاهدون في سبيل اللّه لاعلاء كلمة اللّه وإعزاز دينه ، حيث قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ

ص: 375


1- سيرة ابن هشام ج 2 ، ص 308 - 322 ، مجمع البيان ج 5 ص 126.
2- مجمع البيان ج 5 ص 108 - 109 و 282.

يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( المائدة - 54 ).

وروي أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله سئل عن هذه الآية ، فضرب بيده على عاتق سلمان فقال : هذا وذووه ... ثم قال : لو كان الدين معلّقاً في الثريّا لتناوله رجال من أبناء فارس ، ونقلت في هدف الآية أقوال اُخر (1).

8. التنبّؤ بأحداث جزئية :

ومن غرائب التنبّؤات الإخبار عن أحداث جزئية ، تحققت بعد الإخبار كما أخبر ، فأخبر بأنّ أبا لهب وامرأته يموتان على الكفر ، ولا يحظيان بسعادة الإسلام الذي يكفّر عنهما آثام الشرك ويحط أوزارهما ، فماتا على الكفر ، كما أخبر به اخباراً حتمياً وذلك في قوله سبحانه :

( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) ( المسد : 1 - 5 ) ، فأخبر بأنّه يدخل ناراً عنيفة الاشتعال تلتهب عليه ، وهي نار جهنم وجاء المخبر كما أخبر.

كما أخبر عن الوليد بن المغيرة ومصير أمره وعاقبة حياته ، وأنّه يموت على الكفر ، وأنّه سبحانه يدخله في عذاب لا راحة فيه ، وذلك عندما اتهم النبي بأنّه ساحر ، فأنزل اللّه سبحانه فيه الآيات التالية : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) ( المدثر : 11 - 30 ).

ص: 376


1- مجمع البيان ج 2 ص 208.

روي أنّ قريشاً اجتمعت في دار الندوة فقال الوليد لهم أنّكم ذووا أحساب وذووا أحلام ، وأنّ العرب يأتوكم ، فتنطلقون من عندكم على أمر مختلف ، فاجمعوا أمركم على شيء واحد ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا : إنّه شاعر ، فعبس وقال : قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر ، فقالوا : إنّه كاهن ، قال : إذا تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكهنة ، قالوا : إنّه لمجنون ، فقال : إذا تأتونه فلا تجدونه مجنوناً ، قالوا : إنّه ساحر ، قال : وما الساحر ؟ فقالوا : بشر يحبب بين المتباغضين ويبغض بين المتحابين ، قال : فهو ساحر ، فخرجوا فكان لا يلاقي أحد منهم النبي إلاّ قال : يا ساحر يا ساحر ، واشتد ذلك فأنزل إليه هذه الآيات (1).

وهذا التنبّؤ صدر عنه صلی اللّه علیه و آله في مكة وكان في وسع الرجل أن يقلب حاله ويصلح باله ولكنّه بقي على ما كان عليه من كفره وعدائه للنبي والإسلام.

وقد تنبأ القرآن به بصورة اُخرى وهو أنّه سنجعل له علامة على أنفه يعرف بها ، حيث قال سبحانه : ( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ ) ( القلم : 10 - 16 ) وقد حضر الرجل في معركة بدر الكبرى فخطم أنفه بالسيف ، وبقي أثر هذه الضربة سمة وعلامة له كما هو أحد الوجوه في تفسير قوله : ( سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ ) (2).

ولا ينحصر تنبّؤ القرآن بعدم إيمان عمّه أو الوليد بل تنبأ في آية اُخرى عن عدم إيمان ثلة كبيرة من الكافرين فقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة : 6 ).

وقال سبحانه : ( وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( يس - 10 ). وليس المراد عموم الكافرين لبطلانه بالضرورة لدخول كثير منهم في الإسلام بل

ص: 377


1- مجمع البيان ج 1 ص 387.
2- الكشاف ج 4 ص 258.

المراد هم الذين كانوا يظاهرون بعدوانه.

قال الطبرسي : تدل الآية على أنّه يجوز أن يخاطب اللّه تعالى بالعام والمراد به الخاص لأنّا نعلم أنّ في الكفّار من آمن وانتفع بالانذار (1).

ومثله تنبّؤ القرآن بأنّ عدو النبي صلی اللّه علیه و آله ( العاص بن وائل السهمي هو الأبتر ) وأنّ اللّه سبحانه سيرزق نبيّه ذرية كثيرة حتى يصير نسبه أكثر من كل نسب ، قال سبحانه : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ) (2). قال في تفسير الفخر : إنّ هذه السورة إنّما نزلت رداً على من عابه علیه السلام بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مر الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ثم العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني اُمية في الدنيا أحد يعبأ به ، ثم أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا علیهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم.

كل ذلك دليل على أنّه لا مصدر لهذه التنبّؤات والإخبارات الغيبية إلاّ اللّه سبحانه علاّم الغيوب.

9. تنبّؤ القرآن في مكّة بما سيصيب كفّار قريش :

تنبّأ القرآن بالمستقبل الأسود الذي كان ينتظر قريشاً ، وذلك عندما دعا النبي على قومه لما كذبوه بقوله : اللّهمّ اجعلها عليهم سنيناً كسني يوسف ، فأجدبت الأرض فأصابت قريشاً المجاعة ، وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان ، وأكلوا الميتة والعظام ، ثمّ جاءوا إلى النبي وقالوا : يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم ، وقومك قد هلكوا فسأل اللّه تعالى لهم بالخصب والسعة ، فكشف عنهم ثم عادوا إلى الكفر (3) وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :

ص: 378


1- مجمع البيان ج 1 ص 43.
2- لاحظ مجمع البيان ج 5 ص 540 ومفاتيح الغيب ج 8 ص 498.
3- مجمع البيان ج 5 ص 63 ، البرهان ، ج 4 ، ص 160.

( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ ) ( الدخان : 10 - 16 ).

فقد تنبّأ في هذه الآيات السبع عن عدة مغيبات هي :

1. الإخبار عن القحط الذي يقع بهم ، وشدة الجوع الذي يغشاهم ، إلى حد يتصوّر الرجل السماء كالدخان ، لما به من شدة الجوع ، حيث قال سبحانه : ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ) .

2. الإخبار بابتهالهم وتضرّعهم إلى اللّه سبحانه ، عندما تلم بهم هذه الأزمة ، ويحل بهم الجوع والغلاء ، قال سبحانه : ( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ) .

3. الإخبار برفع العذاب وكشفه عنهم قليلاً ، قال سبحانه : ( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً ) .

4. الإخبار بعودهم إلى ما كانوا عليه من الكفر والإنكار ، قال سبحانه : ( إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ) .

5. الإخبار بأنّ اللّه سينتقم منهم يوم البطشة الكبرى ، وهو يوم بدر الكبرى حيث انتقم منهم وقتل من صناديد قريش ، سبعون رجلاً وأسر منهم مثله وفرّ الآخرون.

وهذه الكثرة الوافرة من الأنباء الغيبية لم تتخلّف واحدة منها ، بل تحققت كما أخبر بها ، ولو لم يتحقق لنقل لتوفر الدواعي على نقله وتواتره.

نعم قيل إنّ الدخان الوارد في الآية من أشراط الساعة (1) ، وهو بعد لم يأت وإنّما يأتي قبل يوم الساعة ، وتكون الأرض كلّها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص ، ويستمر ذلك أربعين يوماً. ولا يخفى أنّ المعنى الأوّل أظهر وأنسب لقوله سبحانه : ( أَنَّى لَهُمُ

ص: 379


1- مجمع البيان ج 5 ص 62.

الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) إذ لو كان الدخان الوارد في الآية من أشراط الساعة ، لغشي الناس جميعاً ، ولم يختص بكفار قريش وعند ذاك لا يصح لوم الجميع بقوله : ( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) فإنّ كثيراً من المحشورين في يوم القيامة ، ليسوا من اُمّة نبيّنا « محمد » ولم يتولّوا عنه ولم يتّهموه بأنّه معلّم مجنون.

ثمّ إنّ القرآن كما تنبّأ في مكة بما يصيب كفار قريش لم يزل يتنبّأ أيضاً بعدما هبط النبي في المدينة وأخذ يتنبّأ بما سيصيب الكفار من المشركين واليهود ويخبر عن مؤامراتهم ضد الإسلام فقال :

( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ ) ( آل عمران - 12 ) فالآية أمّا نازلة في حق اليهود أو في مشركي مكة ، وعلى كلّ حال فالآية صادقة في حق كلتا الطائفتين (1) وسيوافيك بيانها.

ومثل الآية قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) ( الأنفال - 36 ) ، والآية تخبر عن مؤامرة المشركين وانفاق أموالهم في معصية اللّه ، ثم ينكشف لهم من ذلك الانفاق ما يكون حسرة عليهم من حيث إنّهم لا ينتفعون بذلك الانفاق ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بل يكون وبالاً عليهم ثم يغلبون في الحرب ، فقد روى أنّها نزلت في أبي سفيان بن حرب الذي استأجر يوم أُحد ألفين من الأحابيش يقاتل بهم النبي ، سوى من استأجرهم من العرب.

وروي أيضاً غير ذلك (2).

ص: 380


1- مجمع البيان ج 1 ص 413.
2- مجمع البيان ج 2 ص 541.
10 - التنبّؤ حول اليهود والنصارى :

من عجائب التنبؤات القرآنية وغرائبها ، تحدّيه اليهود بأبسط الأشياء وأسهلها ومطالبته إيّاهم بما هو ميسور لهم في كلّ وقت وحين ، وفي متناول قدرتهم ، ودائرة استطاعتهم في كل زمان ، ومع ذلك عجزوا عن تكذيبه وانصرفوا عن مخالفته ، وهذا يدل قبل كلّ شيء على أنّ القرآن كلام من بيده القلوب والضمائر.

قال سبحانه : ( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة : 94 - 96 ).

لما زعم اليهود أنّهم الشعب المختار عند اللّه ، وأنّ الدار الآخرة خالصة لهم كما تحكي عنه الآية ويدل عليه أيضاً قوله سبحانه : ( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ) ( البقرة - 80 ).

عرض عليهم سبحانه ، رداً على مقالهم ( انّ نعيم الآخرة وقف على الشعب المختار ، وانّ الدار الآخرة خالصة لهم ) أن يتمنّوا الموت جناناً ولساناً وعملاً ، فإنّ الانسان بفطرته إذا خيّر بين العيش الخالص عن التعب والألم ، والعيش الممزوج بألوان العذب والكد ، يختار الأوّل ، ولا ريب أنّ عيش الآخرة هو العيش الخالص عن شائبة التعب ، فلو أنّهم يزعمون أنّهم صادقون في ما يقولون بألسنتهم من أنّ لهم الدار الآخرة ، وأنّهم الاُمّة المختارة من بين شعوب الناس بالحياة الدنيا ، يجب أن لا يكونوا أحرص الناس على الحياة الدنيا ، بل يلزم عليهم تمنّي الموت تمنّياً صادقاً ، تظهر آثاره في حياتهم وتقلبهم بين الناس.

غير أنّ التاريخ والحس يقضيان بخلاف ما يدّعونه ، وأنّهم أحرص الناس على

ص: 381

الحياة وكل واحد منهم يودّ لو يعمّر ألف سنة ، وما تمنى ولن يتمنّى أحد منهم الموت أبداً تمنّياً تلوح منه آثار الصدق ، لا أقول إنّهم ما تمنّوا تلفّظاً ولقلقة باللسان ، بل تمنّياً من صميم الروح ، تظهر آثاره على الجوارح والأفعال ، ولذلك قال سبحانه :

( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ( الجمعة : 6 - 7 ).

نعم إنّ الزرقاني فسّر الآية على وجه يشمل التمنّي باللسان وقال : « ولقد كان بمقدور اليهود في العادة أن يقولوا ولو بألسنتهم نحن نتمنّى الموت كي تنهض حجّتهم على محمد ويسكتوه ، لكنّهم صرفوا فلم يقولوا ولم يستطع أحد أن يقول : إنّي أتمنّى الموت » (1) ، غير أنّ ما ذكره خلاف ظاهر الآية فإنّ التمنّي حالة نفسانية للنفس ، واللفظ الدال عليه معبر عمّا في الضمير ، ولا يطلب القرآن منهم التمنّي الكاذب ولا يدعوهم إليه بل التمنّي الصادق الكاشف عن الإرادة الجدية والطلب الحقيقي له ، مع ظهور آثاره في حياة المتمنّي وسلوكه ...

ثمّ إنّ القرآن تنبّأ بانهزام اليهود في مضمار الحرب والنضال مع النبي والمسلمين قال سبحانه :

( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ ) ( آل عمران - 12 ).

قال الطبرسي : روى محمد بن يسار عن رجاله : لما أصاب رسول اللّه قريشاً ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال : يا معشر اليهود احذروا من اللّه مثلما نزل بقريش يوم بدر ، واسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، وقد عرفتم أنّي نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم ، فقالت اليهود : يا محمد لا يغرّنك أنّك لقيت قوماً اغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، إنّا واللّه لو قاتلناك لعرفت إنّا نحن الناس فأنزل اللّه هذه

ص: 382


1- مناهل العرفان ج 2 ص 276.

الآية (1) ، ولقد صدق الخبر ، الخبر ، فغلب النبي على من في الجزيرة من اليهود فضلاً عن خصوص القانطين منهم في المدينة.

ثمّ إنّ في القرآن تنبّؤات بالمستقبل المظلم الأسود الذي لم يزل يواكب بعضها اليهود طيلة أربعة عشر قرناً من نزول القرآن إلى يومنا هذا ، لم ينخرم أي واحد منها أبداً ، وذلك قوله سبحانه : ( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ) ( آل عمران : 111 - 112 ).

وفي هاتين الآيتين تنبّؤات :

1. إنّ هذا الشعب الماكر اللئيم ، لا يمكنه القيام بحرب مواجهة ومقابلة الند للند ، وإنّما يقع ضررهم على المسلمين عن طريق الغدر والمكر.

2. ولو قاتلوا المسلمين لولّوهم الأدبار.

3. ضرب عليهم الذل كضرب السكة على الدينار والخيمة على الانسان ، نعم كتب عليهم الذل والهوان إلاّ إذا تمسّكوا بحبل من اللّه ودخلوا في عهد منه أو عهد من الناس يستعينون بهم ويستظلّون بظلالهم.

4. ضربت عليهم المسكنة وهي زي الفقر والخوف منه ، وفيهم من يملك آلاف الآلاف وليس فيه غنى النفس ، فهم أشد الشعوب خوفاً من الفقر ، وأشدها طمعاً وشرها في جمع الدنيا ، لا يعرفون القناعة وإن غرقوا في المال ، ولا يتورّعون عن الجري وراء الدنايا ، بأحط الوسائل.

5. حلول غضب اللّه عليهم كما يعطيه قوله : ( وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ ) .

والمراد من الضمير المتصل من قوله : ( لَن يَضُرُّوكُمْ ) وإن كان هو أهل الكتاب ،

ص: 383


1- مجمع البيان ج 1 ص 413.

الوارد في الآية المتقدمة ، غير أنّ المقصود منه هم اليهود بلا كلام لما في ذيل الآية التالية من تعليل ضرب الذل والمسكنة عليهم بقتلهم الأنبياء وهو من فعل اليهود.

ويؤيده قوله سبحانه ، في شأن اليهود : ( اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ) ( البقرة - 61 ) وبذلك يظهر أنّ ما يقال من عمومية الآية ، لمطلق أهل الكتاب ، أخذاً بمفاد الضمير المتصل ، الراجع إلى أهل الكتاب ، المذكور في الآية السابقة ، ليس بسديد.

وقد تنبأ سبحانه بقوله : ( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ) بما جرى بين المسلمين وطوائف من اليهود من « بني النضير وقريضة وقينقاع » فحاربوا المسلمين ولم يثبتوا بل استسلموا ، وهو تنبّؤ صادق شهد به التاريخ الصحيح ، بل يمكن أن يكون تنبّأ بعامة ما جرى بينه وبين اليهود أيام حياته صلی اللّه علیه و آله فهو قد طهّر الجزيرة العربية من هذه العناصر الماكرة ، أعداء اللّه وأعداء الانسانية في مدة قليلة ولم ينصروا بعد قط.

والمراد من الاستثناء في قوله سبحانه : ( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ) هو الضرر اليسير الذي ليس فيه كبير تأثير من سب باللسان وخوض في النبي ، وقد تحقق المخبر به كما أخبر في تطهير أرض المدينة وما حولها من الطوائف الثلاث الذي اسميناهم ، فلم ينالوا من المسلمين إلاّ سبّاً باللسان أو ضرراً قليلاً كما هو الحال في غزوة خيبر على ما هو مسطور في السير والتاريخ ، ومفاد الآية راجع إلى عصر الرسالة فقط كما أوضحنا ، ويفيده التدبر في الآية وفي الضمائر الواردة فيها من قوله : ( لَن يَضُرُّوكُمْ ... ) (1).

وأما الآية الثانية المتضمّنة لضرب الذلة والمسكنة عليهم فربّما يحتمل اختصاص مفادها بعصر الرسالة غير أنّه محجوج بأمرين :

ص: 384


1- قال الطبرسي ففي هذه الآية دلالة على صحة نبوّة نبينا صلی اللّه علیه و آله لوقوع مخبره على وفق خبره لأنّ يهود المدينة من بني قريضة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر الذين حاربوا النبي والمسلمين لم يثبتوا لهم قط وانهزموا ( مجمع البيان ج 1 ص 488 ).

الأوّل : إنّ المتبادر من قوله سبحانه : ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ) في كلتا الآيتين هو العموم والشمول وكأنّه يريد أن يقول : عجنت طينتهم بالذل والهوان والمسكنة ولا تنفك عن تلكم الطائفة في أي جيل وزمان.

الثاني : انّه سبحانه علّل ضرب الهوان والذل والمسكنة عليهم بأمرين : أحدهما : الكفر بآيات اللّه وهو مشترك بين الجميع. وثانيهما : وهو يرجع إلى أسلافهم وأجدادهم ، من قتل الأنبياء ولكن اليهود المعاصرين لعصر الرسالة لما رضوا بفعالهم وعملهم الشنيع ، صاروا مثلهم « فإنّ من رضي بفعل قوم فهو منهم » فأسند سبحانه الفعل إليهم أيضاً ، فضرب الذلة على جميعهم من أوّلهم إلى آخرهم. ولو كان هذا هو الملاك لضرب الذل على يهود عهد الرسالة فهو بعينه موجود في الباقين بعده إلى زماننا هذا ، ولا وجه لاختصاص الذل والمسكنة ببعضهم دون بعض ، إذ ليس الهوان أو المسكنة ، إلاّ جزاءً ونكالاً من اللّه سبحانه بالنسبة إلى هذه الطائفة ، فهم بين مقترف لأشد المعاصي وأهولها ، وبين راض بما ارتكبه قومه من الجنايات الموبقة ، فكل من الطائفتين يعاقب ويؤخذ بجزاء عمله كما قال سبحانه : ( لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ( آل عمران : 181 - 182 ).

وقد أثبتت القرون والأجيال صدق ما تنبّأ به القرآن من لدن نزوله إلى عصرنا ، ولكي نتحقق من ذلك لا بد من الرجوع إلى التاريخ : « فها هو « بخت نصر » دخل أورشليم وقاد أكثر أهلها أسرى وكان ذلك عام 587 ق.م وفي سنة 302 ق.م أثقل ملوك سوريا كواهل اليهود بالضرائب واضطهدوهم.

وأمّا إضطهادهم بعد الإسلام فكثير ، فقد أجلى النبي « بني قينقاع » « وبني النضير » وقتل « بني قريظة » لما تآمروا عليه كما هاجمتهم جميع الاُمم المسيحية فلم يجدوا ملجأ إلاّ الأندلس حيث أحاطهم اُمراء الإسلام بعطف خاص ، لكن عندما احتل النصارى الأندلس أخذوا بتشريد اليهود وطردهم وإجبارهم على مغادرة البلاد الإسبانية ، وقد

ص: 385

وقع كثير منهم في أيدي القراصنة الذي انتشروا حول الشواطئ فجرّدوهم من أموالهم واتخذوهم عبيداً ارقّاء.

هذا ما عدا الذين ماتوا جوعاً أو اُصيبوا بالطاعون فأهلكهم ثم لجأ ثمانون ألفاً إلى البرتغال ارتكاناً إلى وعد ملكها ، لكن القساوسة الأسبانيين أثاروا الرأي العام في تلك البلاد ضدهم ، وعمدوا إلى اقناع ملك البرتغال بعدم إيوائهم ، فأصدر أمراً يقضي بابعاد جميع اليهود البالغين ، أمّا الأولاد الذين لا تتجاوز سنهم أربعة عشر عاماً فقد انتزعوا من أحضان اُمّهاتهم لكي يربوا وينشأوا على مبادئ الدين المسيحي.

ولم يقتصر الغربيون على طرد اليهود من أسبانيا والبرتغال فقط بل طردوا وشردوا من انجلترا ، فرنسا ، بلجيكا ، هولندا ، ايطاليا ، ألمانيا ، روسيا و ... » (1).

أي ذل وهوان أوضح من هذا الذي صادفوه طيلة القرون الغابرة إلى يومنا هذا ، كل ذلك مضافاً إلى تنفّر الناس عن كل يهودي ماكر ، وإسرائيلي لئيم ، وابتعادهم عنهم في حلّهم وترحالهم ، لما هم عليه من الغدر والمكر والشره والطمع وعدم اندماجهم مع غيرهم وعدم وفائهم للذين استضافوهم وآزروهم ، لما يظنون أنّهم شعب يمتاز على الشعوب التي يعيشون بينها ، وأنّهم يحق لهم اغتصاب حقوق الغير أخذاً بتعاليم التلمود حيث يعبّر عن املاك غير اليهود ب « أنّه كالمال المتروك الذي يحق لليهودي أن يملكه ».

هذا وذاك أوجب بأن يعلن القرآن منذ أربعة عشر قرناً بأنّه سبحانه يبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة حيث قال سبحانه : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأعراف - 167 ).

فقضى اللّه سبحانه أنّه ليسلّطنّ على بني اسرائيل إلى يوم القيامة من يذيقهم أشد العذاب ، جزاء لهم على أعمالهم ونكالاً بهم ، فكما هو سبحانه سريع الصفح عن ذنب التائب ، فهو أيضاً سريع العقاب.

ص: 386


1- راجع لمعرفة تفصيل ذلك كتاب « اليهود في القرآن » 94 - 96.
إجابة عن سؤال

إلى هنا يكون قد تبيّن صحة تنبّؤ القرآن حول اليهود ، وأنّه ما تخلف طيلة أربعة عشر قرناً ، قدر شعرة غير أنّ هنا سؤالاً ، يوجهه الشباب حول الآية وهو أنّه كيف وصفهم اللّه بضرب الذل والهوان عليه مع أنّه استقرّت لهم السيادة في الأراضي المحتلة فجمعوا من العدة والعدد ما أوجب نجاحهم في هذه المعارك الرهيبة لا سيما في نكسة الخامس من حزيران ، وتمكن الاجابة عن هذا السؤال بوجوه :

الجواب الأوّل :

إنّ مشيئة اللّه سبحانه في خلقه وعباده تجري على وفق القوانين والسنّن الكونية ولا تختلف باختلاف الاُمم ، فالعارف بفن السباحة - مثلاً - يعوم ويصل إلى شاطئ الأمان والجاهل بها يرسب ويكون عرضة للهلاك ، ومن زرع حصد ومن لم يزرع لم يحصد ، والإيمان لا ينبت قمحاً والكفر لا ينبت شوكاً في هذه الحياة ، وكذلك من أعدّ العدّة لعدوّه واحتاط له ، ظفر به وإن كان ملحداً ، إذا لم يكن الآخر على حذر واستعداد ، ومن تقاعس وأهمل خسر ، وإن كان من الأولياء والصديقين ، قال تعالى مخاطباً أصحاب الرسول صلی اللّه علیه و آله بالآية 46 من الآنفال : ( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) وقال الإمام علي علیه السلام : « إنّ هؤلاء - يشير إلى أصحاب معاوية - قد انتصروا باجماعهم على باطلهم وخذلتم - الخطاب لأصحابه - بتفرّقكم عن حقّكم » ، إذن الحق لا ينتصر لمجرد أنّه حق ، والباطل لا يخذل لمجرد انّه باطل ، بل هناك سنن في هذه الحياة تسير المجتمع ، وتتحكّم به ، واللّه سبحانه لا يسقطها ولا يعطّل سيرها ، تماماً كما هو شأنه في سنن الطبيعة ، انّ اللّه سبحانه قد خلق الحياة وجعل لها قوانين تحكمها ، وتأبى هذه القوانين أن تمطر السماء نصراً على غير العاملين له.

وعليه فلا عجب أن تغتال الصهيونية جزءً من أرضنا بمعونة الاستعمار مادمنا في

ص: 387

غفلة عنها وعن مقاصد أعوانها منقسمين إلى دويلات لا جامع بينها إلاّ لفظ العرب والعربية (1).

إنّ للسعادة والشقاء والحضارة والتقدّم والتدهور والانحطاط ، قوانين وسنن لا تنفك عنها آثارها ومسبباتها ومن دق باباً ولج ولج ، من غير فرق بين اُمّة واُمّة أو طائفة دون اُخرى ، انّ نكسة الخامس من حزيران والاحتلال الصهيوني للأراضي المقدسة الإسلامية ، كان نتيجة عمل طويل واعداد متواصل من قبل اليهودية العالمية التي تلاقت أهدافها مع مصالح الاستعمار في الشرق الأوسط من جانب ، ومع الفساد السياسي الاجتماعي الشامل الذي كان المسلمون يعيشون فيه من جانب آخر ، فالعدوّ تمسّك بأقوى وسائل القهر والغلبة ، وأعد نفسه للتقابل مع المسلمين في معارك صعبة قرابة قرن ، وتحمّل في طريقه جهوداً وبذل من نفسه وماله الكثير ، وأمّا المسلمون ففي القرن الذي كان العدوّ يجمع العدة والعدد ، ويتجهّز بالعلم والصنعة وتربية الخبراء ومهرة الفن ، كانوا يعيشون في فرقة ونفاق ، يضطهد بعضهم بعضاً ، مضافاً إلى ما يعانون من ميوعة وخيانة وإنحلال في الأخلاق ، والمشي على المخططات التي رسمها لهم الأعداء المصبوغة بطابع الود والاحسان.

وعلى ذلك فلا غرو في أن يحتل العدو الغاشم جزءً كبيراً من أرضنا ويترصد لأخذ جزء آخر ، وإذن الظهور والغلبة لهم والنكسة للعرب جاءت على وفق القوانين والسنن التي تحكم على الحياة.

إذا عرفت ما ذكر ، فالجواب عن السؤال واضح بعد الإمعان في الآية التالية : ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ) ( آل عمران - 112 ).

ترى أنّه سبحانه حكم بضرب الذل والهوان عليهم ثمّ استثنى عنه بقوله : ( إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ) وفي الوقت نفسه حكم بضرب المسكنة عليهم بلا

ص: 388


1- من هنا وهناك ص 42 - 43.

استثناء.

وبعبارة اُخرى : ترى أنّه سبحانه استثنى من احاطة الذل والهوان صورتين : إذا تمسّكوا بحبل من اللّه ، وإذا تمسّكوا بحبل من الناس ، وبهذين السببين يمكن أن يدفعوا عن أنفسهم الذل والهوان ، والمراد من الحبل هو العهد (1) فلو دخلوا في عهد اللّه وهو الإسلام ودفعوا الجزية وعملوا بشرائط الذمة وتركوا الغدر والحيلة مع المسلمين فسيعود لهم العز كسائر الذمّيين ، ويعاملون بالمساواة ، وتصان دماؤهم وأعراضهم وأموالهم ، ويذاد عنهم كما يذاد عن غيرهم ، ولو تمسّكوا بحبل من الناس واستعانوا باحدى الاُمم ممّن له منعة وقدرة يتيسر لهم بواسطتها أن يطردوا عن أنفسهم الذل والهوان ، ويستحصلوا على العز والقدرة ما داموا كذلك.

ولا شك أنّ اُمّة اليهود ما احتلت أرضاً ، وما كسبت سلطاناً ، وما أدركت عزّاً إلاّ بحبل من الناس ومساعدة من الاُمم الكبرى ممّن توافقت أهدافهم العالمية مع مصالح العدو الطريد (2).

« إنّ إسرائيل ليست سوى قاعدة عسكرية مزودة بكافة الأسلحة الحديثة ، اقامتها الولايات المتحدة ، لحماية مصالحها في بلاد العرب ، وأهمّها شركات البترول التي يحتاج بقاؤها والاحتفاظ بها ، إلى نصف مليون جندي امريكي لولا وجود اسرائيل ... فليس من المعقول أن تكون للولايات المتحدة شركات احتكارية في بلد من البلدان ولا يكون إلى جانبها قاعدة حربية أو حلف عسكري يحميها من الثورات والحركات الوطنية ، وقد وجدت في إسرائيل غنى عن القواعد والأحلاف » (3).

أضف إلى ذلك أنّ إسرائيل وإن اُسّست باسم الدين وصبغت بالصبغة الشريعة

ص: 389


1- سمّي حبلاً لأنّه يعقد به الأمان كما يعقد الشيء بالحبل.
2- قال الطبرسي في تفسير قوله : ( إِلاَّ بِحَبْلٍ ) أي بعهد من اللّه وحبل من الناس أي وعهد من الناس على وجه الذمة وغيرها من وجوه الأمان ، مجمع البيان ج 1 ص 488.
3- من هنا وهناك ص 99.

إلاّ أنّ كثيراً منهم لا يمتون إلى الدين بشيء ، ولا صلة بينهم وبين دين اليهود ، فحكومتهم حكومة ذات نزعة عنصرية طائفية ، مدفوعة بكونهم من أولاد إسرائيل واخلافهم سواء أكانوا مؤمنين بدينه أم كافرين به ، ملتزمين بأحكام التوراة أم لا ، وما تنبّأ به القرآن إنّما هو راجع إلى اليهود الذين آمنوا بشريعة اسرائيل وما بعده إلى موسى والتزموا باُصول دينهم وفروعه ، ووقفوا في وجه سائر الشرائع ، متنسّكين بشريعة ، وليست اسرائيل ومن يعيش في أرضها ، يمثلون هؤلاء ، فهي دولة مادية صبغة باسم الدين وطابعه كما هو واضح لمن لاحظ كتبهم وجرائدهم ومجلاّتهم ، وعلى كل حال فخذلان بني اسرائيل التي يحتّمها القرآن إنّما تكون حتمية فيما لو وقفوا تجاه المسلمين بما هم يدينون بدين اليهود ، لا بما أنّهم يتعصّبون إلى يهوديتهم تعصّباً عنصرياً أعمى من غير تدين.

الجواب الثاني :

ربّما يجاب عن الإشكال بوجه آخر وهو أنّ المراد من ضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم ، والدليل على ذلك قوله : ( أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ) فإنّ ظاهر معناه أينما وجدهم المؤمنون أي تسلطوا عليهم ، وهو يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية فيؤول معنى الآية إلى أنّهم أذلاّء ، بحسب حكم الشرع الإسلامي إلاّ أن يدخلوا تحت الذمّة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء (1).

غير أنّ هذا الجواب لا يلائم ظهور الآية فإنّ القضاء التشريعي بذلتهم لا يختص بتلكم الطائفة بل يعم أهل الكتاب جميعاً ، وقد أوضحنا أنّ الآية مختصة باليهود.

الجواب الثالث :

إنّ القرآن وإن تنبّأ بضرب الذلّة والمسكنة على اليهود ، غير أنّه تنبّأ أيضاً بعود القدرة والمنعة إليهم في فترة من الزمن ، مرتين فيفسدون في الأرض ، إلى أن يقيّض اللّه

ص: 390


1- الميزان ج 3 ص 384.

رجالاً اُولي بأس شديد ، ينتقم منهم ، ودونك الآيات في سورة الإسراء :

( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) .

( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ) .

( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) .

( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) .

( عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) ( الإسراء : 4 - 8 ).

فإنّ الآيات تعرب عن افساد الطائفة المذكورة في الأرض مرتين وانتقام اللّه سبحانه منها بعد كل فساد تقوم به ، ويدل على الفساد الأوّل قوله سبحانه : ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا ) وعلى الفساد الثاني قوله عزّ وجلّ : ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ) .

أمّا الانتقام الأول فيدل عليه قوله سبحانه : ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ ) .

أمّا الانتقام الثاني فيدل عليه قوله تعالى : ( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) (1).

ثمّ إنّ المفسرين مالوا يميناً وشمالاً في تفسير هذه الآيات ولم يأتوا بأمر مقنع تطمئن إليه النفس ودونك بعض ما ذكروه من الوجوه :

1. المراد من الفساد الأوّل قتل يحيى بن زكريا ، ومن الانتقام غلبة بخت نصر مع

ص: 391


1- الضمائر كلّها ترجع إلى « عباد اُولي بأس شديد » المحاربين لليهود.

النبطيين على بني اسرائيل ، والمراد من الفساد الثاني غلبة بني اسرائيل على النبطيين مرة ثانية ولم يذكروا المراد من الانتقام الثاني.

2. الفساد الأوّل هو قتل زكريا والثاني هو قتل يحيى بن زكريا ، والانتقام الأوّل تسلّط « سابور » ذي الاكتاف ، والانتقام الثاني هجوم « بخت نصر » على اليهود.

3. المراد من الفساد الأوّل قتل زكريا وغيره من الأنبياء وبالانتقام الأوّل تسلّط « بخت نصر » على اليهود ، والمراد من الفساد الثاني طغيان اليهود بعد اخذ استقلالهم على يد كوروش ، ومن الانتقام الثاني ما وقع بيد « انطياخوس » ملك الروم (1).

وهذه الوجوه وأضرابها مما يحصل من تركيب بعضها مع بعض لا يمكن الركون إليها فإنّها منقولة عن اناس كانوا يأخذون ما يقولونه عن أحبار اليهود وعلمائهم فهي قصص اسرائيلية يجب تنزيه القرآن عنها.

أضف إلى ذلك أنّ لفظي : ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا ) يعرب عن مكانة المنتقمين عند اللّه وأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه وهم عباد ممدوحون له ، وهل يمكن عد نظراء بخت نصر ، ذلك الكافر السفّاك الأثيم الذي اقترف من الجرائم ما لا يعد ولا يحصى ، أو سابور ذي الاكتاف ذلك الرجل القاسي المجرم الذي فعل مع العرب ما فعل ، أو انطياخوس واضرابه ، من العباد الممدوحين وأنّهم كانوا مبعوثين من جانبه سبحانه.

ويليه في الضعف ما يقال انّ المراد من الفساد الأوّل قتلهم أشعيا النبي ، والانتقام الأوّل تسلط جالوت على بني اسرائيل ، ومن الفساد الثاني هو غلبة بني اسرائيل على جالوت.

أو ما يقال من أنّ المراد من أحد الانتقامين ما جرى بيد ادولف هتلر من الاُمور القاسية ، كما اختاره سيد قطب في ظلال القرآن.

إذ كيف يمكن أن يقال أنّ جالوت وعملاق ألمانيا أو غيرهم من الجبابرة كانوا

ص: 392


1- تفسير الطبري ج 15 ص 38 ، ومجلة الهادي العدد الثاني.

مبعوثين من جانبه سبحانه ، فقد حارب جالوت داود ومن معه من صالحي بني اسرائيل وكما حارب طالوت الذي بعثه اللّه ملكاً ، وأمّا عملاق ألمانيا فحدث عن جرائمه ولا حرج.

وما يقال إنّه لما كان تسلّط بخت نصر وقهره لهم جزاء لهم على أعمالهم السيئة فأسنده سبحانه لنفسه وقال : بعثنا عليكم عباداً لنا (1) توجيه لا تركن إليه النفس ، ونضيف إلى ما ذكر أنّ كل هذه الوجوه لا تلائم ظاهر الآية لاستلزامها التفكيك بين مراجع الضمائر إذ الظاهر أنّ الضمائر الغائبة في : ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ) وفي : ( لِيَسُوءُوا ) و : ( لِيَدْخُلُوا ) و : ( دَخَلُوا ) و : ( لِيُتَبِّرُوا ) يرجع إلى من وصفهم اللّه بقوله ثم : ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) ولازم ذلك اتحاد الفئة التي تحارب اليهود في المرة الاُولى مع الفئة المتغلبة عليهم في المرة الثانية ، وإن هناك حربين تقعان بين اليهود وجماعة خاصة ، لا أنّ كل واحد من الحربين تقع مع جماعة غير الجماعة الاُخرى.

وهذا الأمر غير موجود في الوجوه التي ذكروها إذ لم يقع أي إشتباك مجدد بين اليهود وبخت نصر ، أو بينهم وبين سابور ، ولم تصدر كرّة منهم عليهم مجدداً ، أضف إلى ذلك أنّ ظاهر قوله سبحانه وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة أنّ المحاربين لليهود يدخلون المسجد مرتين ويتسلّطون على المسجد الأقصى كما يستفاد من تعريفه باللام ، مرة بعد مرة ، مع أنّ بخت نصر وسابور لم يتسلّطا على المسجد أكثر من مرة ، وما دخلوه أكثر منها.

وعلى الجملة : انّ هذه الوجوه لا تلائم ظاهر الآية ويحتمل أن تكون الآيات مشيرة إلى الأحداث الجارية في الأراضي المحتلة ، ويعلم اللّه سبحانه أنّ أي واحد من الوعدين تحقق ، وأنّ الوضع الحاضر يمثل أيّاً منهما ولا شك أنّهم مزوّدون بالأموال والبنين مضافاً إلى دعم الدول العالمية الكبرى لهم ، وبعد ذلك كلّه فما ذكرناه إنّما هو أحد الآراء

ص: 393


1- الميزان ج 1 ص 40.

المذكورة حول الآية ، ولسنا حاكمين بواحد من هذه الوجوه ، واللّه سبحانه هو العالم.

وعلى أي حال فالتوفيق سهل بين ضرب الذلّة والهوان عليهم ، وبين ما ترى فيهم من القوة والمنعة ، والأوّل من هذه الوجوه هو الأولى.

ختامه مسك :

فلنختم البحث بتنبّؤات وردت في آية واحدة وهي قوله سبحانه : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) .

1. ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) .

2. ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ ) .

3. ( وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) ( المائدة - 64 ).

ودونك بيانها على وجه الاجمال.

1. الظاهر أنّ الضمير في « بينهم » راجع إلى اليهود المذكورين في صدر الآية وما في المنار (1) من رجوعه إلى اليهود والنصارى المذكور في الآية الحادية والخمسين بعيد جداً بل كان الأولى له عندئذ أن يقول انّه راجع إلى أهل الكتاب الوارد ذكرهم في الآية التاسعة والخمسين ، أي قوله : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ ... ) فالآية حاكية عن تضارب اليهود بعضهم ببعض واختلافهم في المذاهب إلى يوم القيامة ، ويفسره قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ

ص: 394


1- ج 6 ص 457 ، ولو رجع الضمير إلى الاُمتين فلا مانع أيضاً أن يكون المراد تضارب بعض الفرق من كل اُمة مع الاُخرى كتضارب اليهود بعضهم ببعض وتضارب الفرقة الكاثوليكية مع البروتستانت ، أو النسطورية والملكانية واليعقوبية من اُمّة المسيح بعضهم مع بعض.

مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الجاثية : 16 - 17 ).

والفرق بين العداوة والبغضاء أنّ الاُولى عبارة عن البغض الذي يظهر أثره في الخارج ، وأمّا البغضاء فهو مطلق المنافرة وإن لم يستعقب شيئاً من العمل.

هذا إذا قلنا برجوع الضمير إلى اليهود فقط ، وأمّا إذا قلنا بمقالة المنار من رجوعه إلى اليهود والنصارى فالعداوة بينهم غير منقطعة ، وأوضحه صاحب المنار بقوله : « العدواة على أشدها في بلاد روسيا على أقلها في انكلترا وفرنسا والمانيا واليهود أغنى أهلها والمديرون لأرحية أعظم الأعمال المالية فيها ، وهم على مكانتهم هذه مبغوضون في جماهير النصارى ، فكم اُلّفت كتب في فرنسا وغيرها في التحريض عليهم ، قال : « قد أخبرني ألماني من المستشرقين أنّهم لا يعدون اليهودي من بلاده منهم بل يقولون هذه يهودي وهذا ألماني » (1).

نعم تنبّأ القرآن في آية اُخرى باغراء اللّه سبحانه العداوة والبغضاء بين النصارى إلى يوم القيامة قال سبحانه : ( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة - 14 ) والعداوة بين فرق النصارى أشد وأوضح لمن زاولهم وطالع كتبهم.

وفي الوقت نفسه فإنّ الآيتان تنبئان عن بقاء دينهم إلى يوم القيامة وهو تنبّؤ آخر تضمّنته الآيتان ، فلاحظ.

2. قوله سبحانه : ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ ... ) فالحرب ضد السلم وهو أعم من القتال والقتال يصدق بالاخلال بالأمن والنهب والسلب وتهييج الفتن والاغراء بالقتال ، وقد أغرى اليهود المشركين بالنبي والمؤمنين وهم الذين حزّبوا الأحزاب على

ص: 395


1- المنار ج 6 ص 457.

رسول اللّه ، حتى قدموا على قريش مكة وقالوا : إنّا سنكون معكم عليه ، حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر يهود ، إنّكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أديننا خير أم دينه ؟قالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه (1).

بل منهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم ومنهم من كان يقطع الطريق على المؤمنين ويأوي أعداءهم ويساعدهم ككعب الأشراف.

ويمكن أن تكون الآية ناظرة إلى الأعمال الإجرامية التي كانوا يرتكبونها قبل الميلاد وبعده ثم ضد المسلمين.

والمراد من الاطفاء خذلانهم في كل ما يكيدون لرسوله وللمؤمنين ، امّا بخيبتهم في ما يسعون إليه من الاغراء والتحريض ، وامّا بنصر اللّه رسوله والمؤمنين وعلى أي تقدير ، المراد خيبة مساعيهم في الحروب التي يوجهونها على دين اللّه ورسوله والمؤمنين ، بما هم متدينون ومؤمنون باللّه وآياته ، وأمّا الحروب والنيران التي يوقدونها لا لمحق الدين بل لأغراض سياسية ، أو تغلب جنسي ، فهي خارجة عن مساق الآية.

قال الطبرسي : وفي هذا دلالة ومعجزة لأنّ اللّه أخبر فوافق خبره المخبر عنه ، فقد كانت اليهود أشد أهل الحجاز بأساً وأمنعهم داراً حتى أنّ قريشاً كانت تعتضد بهم والأوس والخزرج تستبق إلى محالفتهم وتتكثر بنصرتهم ، فأباد اللّه خضراءهم واستأصل شأفتهم واجتث أصلهم ، فأجلى النبي بني النضير وبني قينقاع وقتل بني قريظة وشرّد أهل خيبر وغلب على فدك ، ودان له أهل وادي القرى فمحى اللّه آثارهم صاغرين (2).

3. قوله سبحانه : ( وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا ) فليس الهدف من تقلبهم في البلاد ، السعي وراء صالح الأعمال والأخلاق ، أو اصلاح شؤون الاجتماع ، بل لا

ص: 396


1- سيرة ابن هشام ج 1 ، ص 54 و 55 و 214.
2- مجمع البيان ج 2 ص 221.

يستهدفون إلاّ منع خروج المسلمين من الاُمية إلى العلم ، ومن الوثنية إلى التوحيد ، وهم يحسدونهم في ذلك حباً في دوام امتيازهم عليهم.

وقد قرر القرآن هذه الحقيقة منذ أربعة عشر قرناً غير أنّا نحسها في يومنا هذا بوضوح ، فإنّ من مخططاتهم تقويض الأخلاق عند الغير ، لأضعافه والسيطرة عليه ، وهل الإباحية والخلاعة إلاّ أحد مخططاتهم التي تتجلى في الأفلام السينمائية والمرابع والحانات وحتى في الساحات العامة.

وفسره سبحانه في آية اُخرى وقال : ( وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( المائدة - 62 ).

ملاحظة :

هذه هي الأخبار الغيبية الواردة في القرآن ولم نعرضها على وجه التفصيل والاستقصاء ، وإنّما جئنا بها على وجه الاجمال وفي ما ذكرناه غنى وكفاية.

قل لي بربّك هل انخرم واحد من تلكم الأخبار أو تخلّف ، أو كلّها غيب تحققت في المستقبل ، كما أنّ ما سألوا عنه حول أصحاب الكهف وذي القرنين والروح غيب أما تحقق في الماضي أو جار فيه ، وفي الحال كما في السؤال عن الروح وقد أجابهم عن ما سألوه ولم يكن عنده شيء يستند إليه سوى الوحي ، ولم يكذّبوه فيما حدثهم.

وكل واحد من هذه الانباء معجزة كبرى ولو عددت كل ما ورد في الكتاب من الانباء الغيبية على أقسامها ، تبين لك عدد تلكم المعجزات ، ويزيدك اعجاباً بها إذا وقفت على أنّ المتحدث بها اُمّي ربيب البادية لم يحضر على أحد في شيء من تلكم الأخبار والمغيبات.

ويزيدك اعجاباً أكثر أنّ انجيل « متى » تنبّأ بأمر واحد حول المسيح وهو أنّه يبقى مدفوناً في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال ، ولكن ما برح انجيل « متى » أن كذّب في

ص: 397

أواخره هذا الإخبار فوافق الأناجيل الثلاثة الاُخر على أنّ المسيح في مساء ليلة السبت طلب بعض الناس جثته من بيلاطس فأنزلها عن الصليب وكفّنها ودفنها ، وقبل الفجر من يوم الأحد قام المسيح من الموت ، وخرج من قبره ، وعلى ذلك لا يكون المسيح بقي في القبر إلاّ ليلة السبت ونهاره وليلة الأحد ، وذلك نهار وليلتان (1).

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى ) .

ص: 398


1- مقدمة آلاء الرحمن للعلامة البلاغي.

الفصل السابع: اختصاص العلم بالغيب باللّه سبحانه

اشارة

لقد ورد لفظ الغيب في الذكر الحكيم ، مع بعض مشتقاته أربعاً وخمسين مرة ، وقد عرفت بما أسلفناه ما هو المراد من الغيب ، غير أنّا نريد في المقام أن نتحدث عن ناحية اُخرى لها تعلّق به ، وهي أنّه هل الغيب مختص باللّه سبحانه لا يعدو غيره أو غير مختص به ويتصف به سواه ؟!

والقول الفصل في المقام هو أنّ العلم بالغيب على ضربين :

أحدهما : ما هو مختص باللّه سبحانه لا يشاركه فيه غيره ، ولا يتجاوز إلى سواه ، وأنّ ما جاء في الذكر الحكيم من الاشارة إلى علم الغيب ، لا يراد منه إلاّ هذا ، فقوله سبحانه : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) ( النمل - 65 ) لا يراد منه إلاّ هذا المعنى المختص به تعالى كسائر أوصافه ونعوته.

ثانيهما : ما يتصف به غيره سبحانه من ملائكته ورسله ومن يظهره على غيبه ، وهذا لا يصح اطلاقه على اللّه سبحانه ، وهذا الانقسام كما يجري في علم الغيب كذلك

ص: 399

يجري في سائر نعوته وصفاته من قدرته وحياته و ... فما يجري منها على الواجب سبحانه لا يمكن تشريك الغير فيه ، ولا يصح اطلاقه عليه ، وما يجري على من سواه لا يصح اطلاقه عليه سبحانه ، ولا يطلق إلاّ على غيره من المخلوقين ، فلنذكر ما يدل على اختصاص العلم بالغيب بالمعنى الأول والذي يمكننا استفادته منه وجوه :

1. قصره على اللّه سبحانه في بعض الآيات :

فمن الآيات الدالّة على الحصر به قوله سبحانه : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ) ( الانعام - 59 ) وقوله تعالى : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) ( النمل - 65 ).

وأمّا قوله سبحانه : ( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ ) ( يونس - 20 ).

وقوله تعالى : ( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) ( النحل - 77 ) وقوله سبحانه : ( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) ( هود - 123 ) ، فلا يدل على مانحن بصدده.

إذ المقصود من قوله : ( إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ ) هي الآيات الباهرات والمعجزات التي يستدل بها على نبوّة المدعي وصلته به سبحانه ، وذلك ظاهر لمن أمعن النظر في سياق الآيات. وأمّا قوله سبحانه : ( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) فالمراد منه : أنّ الحكومة المطلقة في السماوات والأرض غيبهما وشهادتهما ، باطنهما وظاهرهما ، لله سبحانه ، وأنّه تعالى يملك غيب السماوات والأرض ملكاً لا حدود له ، وله أن يتصرّف فيه كيف يشاء كما يملك شهادتهما ، وكيف لا وغيب الشيء لا يفارق شهادته وهو موجود ثابت معه ، وله الخلق والأمر ؟!

ويؤيده ذيل الآية ، وهو قوله : ( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) والمعنى أنّ الساعة الموجودة ، ليست بأمر محال حتى لا تتعلّق بها قدرة ، بل هي من غيب

ص: 400

السماوات والأرض ، وحقيقتهما المستورة عن الافهام ، في هذا الزمان ، فهي مما استقر عليه ملكه تعالى ، وله أن يتصرف فيه بالاخفاء تارة وبالاظهار اُخرى ، وليست بصعبة عليه تعالى ، فإنّما أمرها كلمح البصر أو أقرب من ذلك لأنّ اللّه على كل شيء قدير.

ومن ذلك يظهر المقصود من قوله سبحانه : ( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) فإنّ الآيتين متقاربتان في المعنى والمقصد ، ومفاد صدر الآية : يعني كونه سبحانه مالكاً لغيب السماوات ، علّة لذيلها أعني قوله سبحانه : ( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) ورجوع الكل إليه ، من غيب السماوات والأرض ، ومن يملك غيبهما قادر على إرجاع الاُمور إليه.

ونظيره قوله سبحانه : ( قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( الكهف - 26 ) والمعنى إذا كان سبحانه مالكاً لغيب السماوات والأرض بحقيقة معنى الملك ، وله كمال البصر والسمع ، فهو أعلم بما لبثوا !!.

2. ما يستفاد منه الحصر بمعونة القرائن :

وهناك آيات يستفاد منها الحصر بمعونة القرائن وهي كثيرة مثل قوله في بدء الخليقة عند تفنيد مزعم الملائكة : ( أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ( البقرة - 33 ) فالآية بصدد تنزيهه سبحانه عن الجهل وترفيعه على من سواه بصفة تختص به سبحانه ولا يشاركه فيها غيره ، وقوله سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( فاطر - 38 ) وقوله سبحانه : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة - 109 ) والصيغة في المقام للتكثير لا للمبالغة نظير قوله سبحانه : ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ( آل عمران - 182 ) والمراد من اللفظين في كلا الموردين هو الانتساب إلى المبدأ أعني الغيب والظلم فيؤول المعنى إلى أنّه المنسوب إلى علم الغيب فقط دون غيره ، أو أنّه لا صلة بينه وبين الظلم.

ص: 401

كقول امرؤ القيس :

وليس بذي رمح فيطعنني به *** وليس بذي سيف وليس بنبال

أي وليس بصاحب نبل ، ولا صلة ونسبة بينه وبين النبل أبداً.

وقد ورد توصيفه سبحانه بهذا اللفظ في الذكر الحكيم أربع مرات (1) ووزان هذا القسم من الآيات ، وزان قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام - 73 ) وقوله : ( ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) ( التوبة - 94 ) وقوله : ( وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة - 105 ) إلى غير ذلك مما يبلغ توصيفه في الذكر بهذا النحو عشر مرات (2) ، فإنّ الظاهر من هذا التوصيف بهذه الكثرة هو اختصاصه سبحانه بالعلم بالغيب والشهادة ، على نحو لا يشاركه غيره.

3. سلب العلم بالغيب عن غيره :

اشارة

هذا القسم من الآيات يدل بالملازمة العرفية على اختصاصه به سبحانه ، مثل قوله سبحانه : ( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف - 188 ) ، ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) ( هود - 31 ) (3).

ومن هذه الوجوه الثلاثة يستفاد اختصاص العلم بالغيب به سبحانه وأنّه لا يشاركه فيه غيره ، غير أنّ اختصاصه به سبحانه على الوجه اللائق بساحته لا ينافي إمكان إطلاع الغير على الغيب باذن منه سبحانه.

ص: 402


1- المائدة 109 و 116 ، التوبة 78 ، سبأ 48.
2- الأنعام 73 ، التوبة 94 ، و 105 ، الرعد 9 ، المؤمنون 92 ، السجدة 6 ، الزمر 46 ، الحشر 22 ، الجمعة 8 ، التغابن 18.
3- سيوافيك توضيح مفاد الآية وما يماثلها التي تسلب العلم بالغيب عن النبي صلی اللّه علیه و آله عن قريب فانتظر.

توضيحه : أنّ ما يجري على اللّه سبحانه من صفات ونعوت تختلف عمّا يجري على غيره سبحانه لا بمعنى أنّ للعلم معنيين مختلفين بأحدهما يجري على الواجب وبالمعنى الآخر يجري على الممكن ، فإنّ ذلك باطل بالضرورة إذ ليس للعلم ولا لسائر أوصافه في اللغة والعرف إلاّ معنى واحداً وهو في العلم انكشاف المعلوم لدى العالم بطريق من الطرق ، وكذا الحياة والقدرة والسمع والبصر بل المراد اختلاف المحمول عند الجري على الواجب والممكن من جانب آخر. وهو الاختلاف في كيفية الجري والاتصاف ، فإنّ العلم : منه واجب ، ومنه ممكن منه ذاتي ومنه اكتسابي ، منه مطلق ومرسل عن القيود ، ومنه مقيّد محدود ، منه ما هو عين الذات بلا تعدد بين الوصف والموصوف ، ومنه زائد على الذات وعارض عليه ، وهكذا واللائق من هذه الأقسام بساحته تعالى هو القسم الأوّل.

كما أنّ الصحيح عند الحمل على الموجود الممكن هو الثاني لما تحقق وثبت بالبراهين العلمية أنّ علمه سبحانه مطلقاً بذاته أو غيره ، ذاتي له لا عرضي ، مطلق لا مقيّد. مرسل لا محدود.

وعلى ذلك - فعلمه سبحانه بكل شيء ، عين ذاته ، لا عارض عليه ، فالذات هو نفس العلم والعلم هو عين الذات بلا تعدد ولا اثنينية بين الذات وعلمه ونظير المقام اطلاق علمه ، فعلمه سبحانه مطلق عن القيود ، مرسل عن الحدود ، فلا يحدده كيف ولا يقيّده أين ، مجرد عن الامكان وأحكامه ، منزّه عن التجزئة والمقدار وآثاره إلى غير ذلك من أحكام الممكنات ولوازمها.

فهذه الآيات الدالة على اختصاص العلم بالغيب به سبحانه لا تهدف إلاّ إلى ما يناسب ساحته وهو العلم الواجب الذاتي المرسل المطلق عن الحدود ، الذي لا يشاركه غيره ، لا ما يمكن أن ينعت به الممكن ويتصف به غير الواجب واتصاف الغير بالعلم الامكاني الكسبي منه سبحانه ، المحدود بالزمان والمكان وغيرها من الحدود ، الزائد على ذات الموصوف ، والعارض عليه ، لا يعد نقضاً للحصر ، بل لا يستلزم استثناء عن الحكم

ص: 403

استثناء حقيقياً متصلاً ولا يستلزم مشاركة الواجب والممكن في هذا الوصف ، كاتصاف سائر الموجودات بالحياة والقدرة ، والسمع والبصر وغيرهما من الصفات الثبوتية.

فالغيب المختص به سبحانه إنّما هو هذا النوع من العلم الذي لا يشاركه فيه شيء ، بل يمتنع أن يشاركه فيه أحد لاستلزامه الشرك وتعدد الواجب.

وعليه يحمل كل ما دلّ على أنّ علم الغيب مختص به سبحانه ، فالعلم بالغيب الذي هو عين ذاته سبحانه الذي لا يحده شيء ، ولا يقيده قيد ، مخصوص به تعالى ، لا يشاركه في هذا العلم أحد من خلقه ، بل العلم بالشهادة على هذا الوجه أيضاً مختص به ، كما قال سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام - 73 ) إلى غير ذلك ممّا يلمح إلى انحصار كلا العلمين فيه سبحانه.

وهذه قرينة واضحة على أنّ المقصود من الآيات الدالة على اختصاص علم الغيب به سبحانه ، هو ما يليق بساحة الواجب الذي لا يشاركه فيه أحد ، وإلاّ فالعلم بالشهادة على غير الوجه الذاتي ، وغير المطلق المرسل عن القيود ، بأن يكون محدوداً ومقيداً وعرضياً ، فغير مختص به ، بل يوجد عند كل من أعطى له الإدراك والشعور ، وقدرة الاتصال بالخارج ، فما دل على انحصار كلا العلمين ( العلم بالغيب والشهادة ) فيه سبحانه إنّما يراد منه ما يليق بساحته عزّ وجلّ.

هل يمكن للانسان الاطلاع على الغيب :

إنّ في وسع المولى سبحانه أن يظهر على غيبه من شاء من عباده ويطلعه على ما حدث وغبر ، أو يحدث ويتحقق من ملاحم وأحداث وفتن أو غيرها ، في حين أو أحايين ويوقفه على ما لم يره ولم يشهده ، وليس في ذلك أي تصادم مع اختصاصه باللّه ، فهو يعلم الغيب بالأصالة ، وغيره بتعلّم منه ومن طريق التبعية.

قال الشيخ الرئيس في اشاراته ما هذا لفظه : « التجربة والقياس متطابقان على أنّ للنفس الانسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما ، في حالة المنام ، فلا مانع من أن يقع مثل

ص: 404

ذلك النيل في حال اليقظة إلاّ ما كان إلى زواله سبيل ، ولارتفاعه إمكان ، أمّا التجربة فالتسامح والتعارف يشهدان به ، وليس أحد من الناس إلاّ وقد جرب ذلك في نفسه ، تجارب ألهمته التصديق اللّهمّ إلاّ أن يكون أحدهم فاسد المزاج ، نائم قوي التخيل والتذكر ، وأمّا القياس فاستبصر فيه من تنبيهات » ثم ذكر بعض التنبيهات لاثبات ما ارتآه (1).

وقد صرّح بذلك في آيات :

الاُولى : قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) ( الجن : 26 - 28 ) فمعناه أن الغيب كلّه مختص به ، لا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول فيظهر رسوله على ما شاء من الغيب ، فهذه الآية إذا انضمت إلى قوله سبحانه : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) ( النمل - 65 ) يتضح أنّ الهدف من الآية ، اختصاصه به على وجه الأصالة والذاتية ، واطلاع الغير بتعليم منه سبحانه وليس ابطالاً له بل استثناء منه يشبه الاستثناء المنقطع ، فإنّ علمه بالأشياء بالأصالة وعلم غيره بالتبعية ، والعلم التبعي الاستنادي ، لم يكن داخلاً فيه ، حتى يحتاج إلى اخراجه إلاّ بضرب من التأويل ، لتشابه بين العلمين من بعض الجهات وإن افترقا من جهات شتى ، فصح أن يقال : إنّ العلم بالغيب مختص به سبحانه وفي الوقت نفسه يظهر على غيبه بعض عباده من دون أن يمس كرامة اختصاصه به.

ونظير المقام قوله سبحانه : ( اللّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ( الزمر - 42 ) فهو ظاهر في أنّ التوفّي منحصر في اللّه سبحانه مع أنّه سبحانه أسنده إلى ملك الموت في مورد وإلى رسله في مورد آخر ، وقال : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) ( السجدة - 11 ) فالتوفّي وأخذ الأرواح والنفوس ، من فعل اللّه سبحانه على وجه

ص: 405


1- راجع الاشارات والتنبيهات النمط العاشر ج 3 ص 399.

الأصالة ومن فعل غيره على وجه التسبيب والتبعية ، ومع ذلك لا ينافي اختصاصه به سبحانه على الاطلاق لاختلاف الفعلين من جهة وتشابههما من جهة اُخرى.

نعم ما يظهره على رسوله من الغيب لما كان في مظنة التغيير لم يكتف بنفس الاظهار والاعلام بل عين له رصداً وحفظة يحفظون ما يلقى إليه ، وإلى ذلك أشار سبحانه بقوله : ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) .

ولما كان علم الرسول بالغيب محاطاً بعلمه سبحانه قال : ( وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ) أي ما لدى الأنبياء والخلائق وهم لا يحيطون إلاّ بما يطلعهم اللّه عليه فقد : ( وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) .

ثمّ إنّه وإن خصص العام في هذه الآية بالرسول حيث قال : ( إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) إلاّ أنّه لا يأبى عن ورود مخصص آخر عليه فإنّه سبحانه كما أظهر غيبه على رسله ، أظهره على أنبيائه الآخرين حيث قال سبحانه : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) ( النساء - 163 ) والوحي أحد مصاديق الغيب على ما عرفناك.

هذا إذا قلنا باختلاف الرسول والنبي في المصداق وأنّ بين اللفظين حسب المصداق عموم مطلق أو عموم من وجه ، أمّا إذا قلنا باختلافهما في المفهوم وتساويهما في المصداق كما هو غير بعيد ، فلا يلزم تخصيص آخر.

ومن هنا يظهر الحال في علم خلفاء الرسول بالغيب فإنّهم علیهم السلام لما جعلوا مصدر علمهم بالغيب ، التعلّم من ذي علم وهو الرسول والوراثة منه (1) لا يلزم عندئذ تخصيص آخر على الآية ، غير أنّ كون مصدر علمهم منحصراً فيها لا يخلو من غموض لما سيوافيك من كونهم علیهم السلام محدثين - بالفتح - فانتظر.

وربّما يقال : انّ المراد من الغيب في قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) ( الجن - 26 - 27 ) وهكذا في نظائره ممّا استدل به على جواز تعرّف النبي صلی اللّه علیه و آله على الغيب ، هو الوحي القرآني الذي نزل على قلب

ص: 406


1- وقد عقد الكليني في اُصوله باباً لذلك فراجع ج 1 ص 223.

النبي صلی اللّه علیه و آله ، وهذا ممّا لا خلاف فيه ، وإنّما الخلاف في تعرّفهم على الغيب ، من غير هذا الطريق ، وممّا يدل على ما استظهر ، قوله سبحانه في عدة مواضع من القرآن : ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) فلاحظ ( آل عمران - 44 ، ويوسف - 102 ، وهود - 49 ).

والاجابة عنه سهلة بعد الوقوف على معنى الغيب في اللغة والعرف ومصطلح القرآن في غير هذه المواضع ويتضح الجواب بملاحظة اُمور :

1. أنّ الغيب يطلق في اللغة على الأمر الغائب عن الحس في مقابل الشهود الذي يطلق على المعنى المحسوس بأحد الحواس ، وإذا اُطلق على الوحي كلمة الغيب فإنّما هو بسبب خفاءه عن حواسنا كالحوادث الغائبة عن حواسنا الواقعة في هذا الكون وعندئذ فما هو المبرر لتخصيص كلمة الغيب بالوحي فقط.

إنّ القرآن الكريم يجعل أحد علائم المتقين في كتابه هو ( الإيمان بالغيب ) حيث يقول : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) فهل يسوغ المعترض لنفسه تفسير الغيب في الآية بالوحي فحسب ؟ في حين أنّ الغيب هنا يحمل معنى واسعاً يكون الإيمان بالقيامة والوعد والوعيد أحد مصاديقه أيضاً ، التي يؤمن بها المتقون رغم عدم إدراكهم لها بالحواس ، أضف إلى ذلك أنّ الغيب في اللغة بمعنى الأمر الغائب عن الحس مقابل ( الشهادة ) ، ومن هنا يقول القرآن في وصفه سبحانه : ( عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) وليس المراد منه خصوص الوحي قطعاً ، واطلاق الغيب على الوحي ، ليس لأنّ الوحي هو معناه ، بل لأنّ الوحي هو من بعض مصاديقه باعتبار عدم ادراكنا له بالحس أيضاً ، فهذا الاشتباه من قبيل اشتباه المصداق بالمفهوم في مصطلح العلماء ، وقد تصور المعترض أنّ الغيب بمعنى الوحي فقط بينما ليس الوحي إلاّ أحد مصاديق الغيب حسبما عرفنا الآن ، وقد ورد لفظ الغيب في القرآن الكريم أربعاً وخمسين مرّة ولم يقصد فيه إلاّ الاُمور الغائبة عن الحس أيضاً حتى الآيات التي استدل بها المعترض على ما يقوله من تفسير الغيب بالوحي فقط.

إنّ هذه الآيات تشير إلى قصص مريم ويوسف ونوح التي لم تكن معروفة عند

ص: 407

الناس بشكلها الصحيح ، فبيّنها القرآن لهم بالشكل المطلوب الصحيح ، وفي الواقع كان الوحي هنا أحد طرق معرفة الغيب ، لا أنّ الغيب موضوع للوحي خاصة ، ولعلك لا تعثر في القرآن كلّه على موضع واحد اُطلق فيه لفظ الغيب واُريد منه الوحي فقط وإليك بعض النماذج :

( إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( البقرة - 33 ) ، ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ) ( الأنعام - 59 ) ، ( أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المُهِينِ ) ( سبأ - 14 ) (1).

2. إنّ كلمة ( الغيب ) في قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ) ( الجن - 26 ) بمعنى الاُمور الغائبة عن الحس كما قدمناه وليست بمعنى الوحي كالقرآن مثلاً ، وذلك لأنّ الآية السابقة (2) قد عرضت موضوع اطّلاع النبي صلی اللّه علیه و آله على موعد القيامة وكانت الآية قد نفت - بلسان النبي صلی اللّه علیه و آله - مثل هذا الاطّلاع عنه صلی اللّه علیه و آله ، وحين يأتي بعد هذا النفي المباشر قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ) .

يكون موضوع القيامة داخلاً في اطار كلمة ( الغيب ) المستعملة في الآية أيضاً وتكون الآية الأخيرة بمثابة تعليل لما تقدم في الآية السابقة من نفي العلم بموعد القيامة عن النبي صلی اللّه علیه و آله بجعلها من علم الغيب المختص باللّه سبحانه ولا يمكننا بعد ذلك تفسير ( الغيب ) في الآية بخصوص الوحي ، لأنّ سياق الآية يمنع من إخراج العلم بموعد القيامة عن مورد الآية. وإذا كان العلم بموعد القيامة ممّا تتضمنه الآية أيضاً حسب السياق ، لا يمكننا استثناء سائر المواضيع الغيبية من هذه الآية ، وحينئذ يكون معنى الآية كما يلي :

( أنّ اللّه عَالِمُ الْغَيْبِ - كل من غاب عن الحس من وحي وغيره - فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) . وتكون الآية دليلاً واضحاً على اطّلاع

ص: 408


1- راجع المعجم المفهرس.
2- تقول الآية السابقة : ( حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا * قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ ... ) .

النبي صلی اللّه علیه و آله على الغيب من وحي وغيره بأمر من اللّه تعالى.

3. إنّ المفسرين فسّروا الغيب في الآية المبحوث عنها من ( سورة الجن ) بالاُمور الغائبة عن الحس ، وأيدوا بها اطّلاع الأنبياء على هذه الاُمور ، ويعلل طائفة من هؤلاء المفسرين كالطبرسي والقرطبي وصاحب ( روح البيان ) اطّلاع الأنبياء على الغيب بأنّ ذلك دليل متمّم على صدق رسالتهم ، ومعجزة لهم ، حيث إنّ علمهم بالغيب سبب لوثوق الناس بهم ، ودليل على ارتباطهم بالسماء. وبعد هذا هل يمكن تخطئة جميع هؤلاء المفسرين وتصحيح ما قاله المعترض فقط ؟!

إنّنا راجعنا التفاسير التالية فوجدناها جميعاً تفسر ( الغيب ) بكل أمر غاب عن الحس مطلقاً ولم يفسر أحد منهم الغيب بالوحي خاصة وإليك أسماء التفاسير التي راجعناها مع أرقام الصفحات والمجلدات : تفسير التبيان للشيخ الطوسي 10 / 158 ، ومجمع البيان للطبرسي 10 / 374 ، تفسير ابن كثير 4 / 433 ، تفسير القاضي البيضاوي ص 445 الطبعة الحجرية ، تفسير جوامع الجوامع للطبرسي ص 514 ، الكشاف 4 / 633 ، زاد المسير لابن الجوزي 7 / 385 ، تفسير القرطبي 10 / 6819 ، تفسير الجلالين ص 766 ، الطنطاوي 24 / 281 ، المراغي 29 / 106 تفسير گازر 10 / 191 ، في ظلال القرآن 29 / 162 ، تفسير القمي ص 700 ، الصافي 2 / 753 ، تفسير شبر ص 1164 ، مقتنيات الدرر 11 / 273 ، منهج الصادقين 10 / 4 ، روح البيان 10 / 201.

الثانية : قوله سبحانه : ( مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران - 179 ) فهو بظاهره يفيد أنّ اللّه سبحانه لا يظهر على غيبه أحداً من الناس ليعلم ما في قلوب الآخرين ، ويميز المؤمن من المنافق ، ولكن يختار من يشاء من رسله فيوقفه على الغيب ويطلعه عليه.

ولا يتوهّم أنّ المقصود من الغيب هو الوحي القرآني فإنّه لا يناسب مفاد الآية إذ

ص: 409

المقصود من ( الخَبِيثَ ) هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، كما أنّ المقصود من ( الطَّيِّبِ ) هم المؤمنون الحقيقيون.

إنّ اللّه تعالى يلفت أنظار الاُمّة في مطلع هذه الآية بأنّه تعالى سوف لا يدع الاُمّة بهذا الشكل المختلط من المؤمنين والمنافقين بل أنّه تعالى سيميز بين الفريقين بأحد الطريقين التاليين :

1. فرض الامتحان والابتلاء عليهم جميعاً وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان فيعرف المؤمن من المنافق.

2. عن طريق علم الغيب وذلك بأن يطلع نبيه على شؤون المؤمنين والمنافقين والفوارق بينهما ، ولكن هذا الطريق مختص بالنبي والأنبياء فقط ، وليس كل الأنبياء ، بل اُولئك الذين يجتبيهم اللّه من أنبيائه ورسله. ولقد أشار الى هذه الحقيقة بقوله : ( مَا كَانَ اللّهُ ) . ويتضح من ذلك كلّه أنّ ليس المقصود من الغيب في هذه الآية هو الوحي المصطلح ، بل معناه الاطّلاع على المواضيع الخارجية مثل تمييز المنافق من المؤمن ، لأنّه لو كان المراد منه الوحي المصطلح ما كان هناك داع لتخصيصه بطائفة من الرسل ، في حين أنّ جميع الأنبياء ينزل عليهم مثل هذا الوحي.

أضف إلى ذلك أنّ الهدف من اطّلاع الأنبياء على الغيب هنا ، حسبما يدل عليه السياق هو تمييز المؤمن من المنافق ، ولا يكون هذا إلاّ بأن يطّلع النبي صلی اللّه علیه و آله على كل شؤون المنافقين ويعرف كل فرد منهم ، والقرآن وإن بين بعض صفات المنافقين على وجه العموم ، ولكنّه لم يعرفهم بشكل تفصيلي يؤدي إلى التمييز بينهم وبين المؤمنين ، والدليل على أنّ المقصود من الآية هو معرفة المنافقين تفصيلياً هو ما يرويه التاريخ من أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله عرف جميع المنافقين يوم تبوك وعرّفهم لحذيفة (1) أيضاً. ولقد تحقق مفهوم هذه الآية : ( حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) بمعرفة النبي صلی اللّه علیه و آله للمنافقين ، عن طريق تحقق

ص: 410


1- لاحظ المصادر التالية : تاريخ بغداد ج 1 ص 161 ، اُسد الغابة ج 1 ص 319 ، الاستيعاب ج 1 ص 277 ، الدرجات الرفيعة ص 284 وغيرها وقد عرف حذيفة بأنّه صاحب سر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

محتوى هذه الآية.

إنّ من يمعن النظر في الآية يذعن بأنّه ليس المقصود من « الغيب » فيها وحي السماء بل المقصود هو : معرفة الخبيث ( المنافق ) من الطيب ( المؤمن ) الحقيقي ، ومثل هذه المعرفة التفصيلية لا تحصل عن طريق الاُمور الكلية والعامة ، بل لا بد من طريق آخر يعرّفهم النبي ثم يعرّفهم للآخرين.

الثالثة : قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ) ( التكوير : 23 - 24 ) ، المراد من « الغيب » هو الوحي النازل عليه والمعنى أنّه لا يبخل بشيء مما يوحى إليه ، فلا يكتمه ولا يحبسه ولا يغيره ، بل يبلّغ الناس على النحو الذي اُمر بابلاغه فتدل الآية على اطّلاعه على الغيب.

الرابعة : قوله سبحانه : ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) وقد تكررت الآية في الذكر الحكيم فراجع آل عمران - 44 ، يوسف - 102 ، وقال سبحانه : ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ) ( هود - 49 ) وعلى أي تقدير فتدل هذه الآيات الأربعة على أنّه سبحانه يظهر غيبه على رسوله ويطلعه عليه ، وعلى الأنباء الغيبية مما لم يكن يعلمه لا هو ولا قومه.

وقد استدل في بعض الروايات على اطّلاع النبي والأئمة على الغيب بقوله سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) ( الدخان : 3 - 5 ) ، وبقوله سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... ) ( القدر : 1 - 5 ).

ونقلها الكليني في اُصوله (1) عن الحسن بن العباس بن الحريش وقد عرفت حال الرجل وأنّه لا يلتفت إليه ولا يكتب حديثه وأنّه ... (2).

ص: 411


1- الكافي ج 1 ص 245 - 249.
2- راجع ما أسلفناه ص 342 - 343 من كتابنا هذا ، وجامع الرواة ج 1 ص 205 وقاموس الرجال ج 3 ص 182 - 183.

نعم استدل بعض الأكابر (1) على عموم علم النبي والأئمة من أهل بيته لكل غابر وحادث بل على فعلية علومهم بكل شيء بقوله سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ( الأحزاب - 33 ) ، وبقوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران - 33 ).

حيث قال : « إنّ عموم إذهاب الرجس والتطهير والاصطفاء ، الظاهري والباطني والتنزيه عن شوائب الكدر ، وظلمات الجهل والسهو دال على كلّ من المطلوبين من عموم علمهم وفعليته » لكن في دلالة الآيتين على المطلوب خفاءً.

أمّا الاُولى : فإنّ دلالتها على اعتصام أهل البيت بالعصمة الالهية في غاية الظهور على ما هو مقرر في محله ، وأمّا دلالتها على سعة علمهم وفعليته ففيه خفاء تام ، فإنّ الرجس هو الشيء القذر يقال : رجل رجس ، ورجال أرجاس ، والقذارة أمر وجودي توجب تنفر النفس من الشيء المتلبس بها وهي إمّا بحسب ظاهر الشيء كما في الخنزير كقوله سبحانه : ( إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) ( الأنعام - 145 ) ، أو بحسب باطنه وهي القذارة المعنوية كالشرك والكفر ومساوئ الأخلاق والخمر والميسر بما لهما من الآثار الموبقة ، قال سبحانه : ( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) ( التوبة - 125 ) ، وقال عزّ وجلّ : ( وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) ( الأنعام - 125 ) ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( المائدة - 90 ). والمتفحص في موارد استعماله يذعن بأنّه أمر وجودي في الشيء إمّا بحسب ظاهره مما يدركه الناس أو باطنه مما يجب أن ينبه عليه من جانب العقل أو الشرع ، والغاية من إذهاب الرجس عنهم هو إزالة كل صفة خبيثة في النفس ، تدعو إلى الاعتقاد الباطل أو العمل السيء في مقابل العصمة الالهية ، التي هي هيئة

ص: 412


1- السيد عبد الحسين النجفي الشيرازي.

علمية نفسانية ، تصون الانسان عن الزلل في الرأي والقول والعمل.

أمّا الجهل بالشيء مطلقاً خصوصاً الجهل بالفتن وملاحم أحداث وكل ما يجري في الكون من نوازل أو ملمات أو ما يحكم فيه من نواميس وقوانين فليس أمراً وجودياً أو هيئة في النفس ، يورث التنفّر والتجنب ، حتى يدل إذهاب الرجس على إذهابه فلو جهل الانسان بنواميس الكون والقوانين السائدة في الأفلاك لا يعد جهله هذا رجساً ، أترى من نفسك أن جهل الفقيه بالمعادلات الجبرية والقوانين الطبية رجس ، أو جهل الأديب بفنون الصنايع رجس ؟

وأمّا عد الإلحاد والشرك من الرجس ، فليس لأجل كون الملحد والمشرك جاهلاً باللّه سبحانه وصفاته بل لأجل تعلق قلبه بأمر باطل لا يعدو كونه أمراً وجودياً وإن كان يجتمع مع الجهل أيضاً (1).

وأمّا الآية الثانية : فلأنّ المراد من الاصطفاء هو أخذ صفوة الشيء وتخليصه ممّا يكدر ، فالمناسب له ، هو اصطفاؤهم من الزلل في الرأي والقول والعمل الذي هو عبارة عن العصمة الالهية وهي الجهة الجامعة الوحيدة بين المصطفين أعني آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ، فإنّ المراد من آل إبراهيم هم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسماعيل والطاهرون من ذريتهما ، كما أنّ المراد من آل عمران هي مريم وابنها المسيح أو هما وزوجة عمران بقرينة ذكر قصة امرأة عمران ومريم ابنته بعد الآيتين. وعلى أي تقدير فالمراد اصطفاؤهم من كدر الشرك وقذارة الذنوب وتطهيرهم من مساوئ الأعمال وقبائحها ويؤيد ذلك قوله سبحانه : ( وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران - 42 ).

نعم إنّ اللّه سبحانه وإن اصطفى آدم بتعليمه الأسماء حين قال سبحانه : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) ( البقرة - 31 ) لكنّه اصطفاه باُمور اُخرى أيضاً فهو أوّل خليقة وطأ الأرض من النوع الانساني قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ

ص: 413


1- راجع المفردات للراغب ص 188 والميزان ج 16 ص 330.

فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة - 30 ) ، وأول من اجتباه بقبول توبته قال سبحانه : ( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) ( طه - 122 ) إلى غير ذلك من خصائص ومناقب ، كما أنّه اصطفى نوحاً بجعله أوّل الخمسة من اُولي العزم أصحاب العزائم القوية والشريعة لقوله سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) ( الشورى - 13 ) إلى غير ذلك ، واصطفى إبراهيم وآله باُمور وخصال يجدها المتفحص في سيرتهم المذكورة في القرآن.

لكن الجهة الجامعة المشتركة بين الجميع في الآية ، التي يمكن أن يكون الاصطفاء لأجلها ليست إلاّ العصمة الالهية ، أعني التطهير من الذنوب وكدر الشرك أو هي مع النبوّة في غير مريم ، لا ما يختص بكل واحد منهم من صفات وخصال كتعليم الأسماء لآدم مثلاً حتى تكون الآية ناظرة إلى اصطفاء المذكورين في الآية بتعليمهم كل شيء واطلاعهم على كل أمر ، ويدل بالنتيجة على اطلاع النبي وآله على الغيب.

القرآن يدل على تحقق التنبّؤ من الأنبياء والصالحين :

ما مر عليك من الآيات تدل بصورة كلية على أنّ رجال الوحي يمكنهم الاطّلاع على الغيب والتطلع على ما ليس بمشهود لغيرهم ، هلم معي نتدبر في الآيات التي تدل على تحقق التنبّؤ عنهم في مواقف شتى.

ولنقدم كلمة ، وهي : أنّ كل ما أتى به الرسول صلی اللّه علیه و آله من اُصول وفروع وقصص و ... كلّها أنباء غيبية أظهره اللّه عليها قال سبحانه في شأن النبي الأعظم : ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) ( هود - 49 ) فأي غيب أعلى وأجلى ممّا أظهر نبيه عليه من القرآن المبين الذي يعد بنفسه نبأً غيبياً ويحتوي من الإخبار بالمغيبات الوافرة ما لا يعد ولا يحصى ، فكل ما جاء به في مجالات مختلفة ، غيب بلفظه ومعناه أطلعه اللّه عليه وأوحاه إليه بصورته ومادته ، إذ المفروض أنّ القرآن معجز بلفظه ومعناه والمعجزات احدى المغيبات.

وعلى كل تقدير أنّ القرآن يدل بفضل نصوصه على أخبار غيبية ، تنبّأت بها ثلّة

ص: 414

جليلة من عباده المخلصين من انبيائه ورسله وخيار عباده وان اللّه أظهر من علمه المكنون ما كان خفياً ، على بعض رسله وانبيائه وثلّة من أوليائه ودونك ما وقفنا عليه عند التدبر في الذكر الحكيم.

1. النبي آدم علیه السلام والاطلاع على الغيب :

قال سبحانه : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ( البقرة : 31 - 33 ).

والنظر الدقيق في هذه الآيات الثلاث يقودنا إلى أنّه سبحانه أطلع نبيه آدم علیه السلام على جملة من الحقائق كان يغيب علمها عن الملائكة وقد أخبر آدم - بأمر من اللّه - الملائكة عن هذه الحقائق التي عبر عنها القرآن بالأسماء ، وليس المراد من الأسماء في الآية : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) أسماء الأشياء فقط فإنّ معرفة الأسماء لا تعد فضيلة لآدم علیه السلام .

وإنّما المقصود منها مسمّياتها - أي حقائق الأشياء - وعلى هذا علمه سبحانه أسرار الخليقة فاطّلع على خواص الأشياء وآثارها فصارت نتيجة تعليم الأسماء لآدم علیه السلام هو نصب الحقائق الكونية بين يديه وإخباره عن واقع الحياة (1). والاتيان بضمير الجمع المذكر العاقل في قوله تعالى : ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ ) دون الاتيان بضمير المفرد المؤنث يدل على ما قلناه فلو كان الهدف تعليم نفس الأسماء لآدم علیه السلام فحسب لكان ضمير المفرد المؤنث جديراً بالمقام. وهذه الآيات الكريمة دلّت على وجود علم الغيب الفعلي عند آدم علیه السلام وذلك لأنّ الاطّلاع على الغيب

ص: 415


1- قد نقل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان ج 1 ص 76 طبع صيدا ، أقوال المفسرين حول المراد من الأسماء واختار ما ذكرناه.

والإخبار عن شؤون البشر في المستقبل ، والايحاء إلى الملاحم والفتن ليس بأعلى من الوقوف على حقائق المسمّيات التي كلت دون إدراكها ملائكة اللّه سبحانه حتى أنبأهم وأطلعهم عليها.

2. تنبّؤ نوح علیه السلام :

قال سبحانه : ( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ) ( نوح : 26 - 27 ).

لقد سار شيخ الأنبياء نوح علیه السلام باُمته سيراً سجحاً وتحمّل في سبيل دعوته المحن والكوارث ، وجابه ضوضاء الشرك بالحكمة والموعظة الحسنة حتى يئس من إيمانهم ، فدعا ربّه بإهلاكهم وإبادتهم مخبراً عن مآل قومه ومن يرثهم وذلك كما تقدم في الآية ، أوليس هذا إخباراً عن عواقب اُمورهم وأخلافهم ، وأنّه لن يؤمن أحد منهم ولا من أخلافهم ؟

ولعل المعترض يقول : إنّ نوحاً بعد أن قضى ردحاً مديداً من الزمن مع قومه ، رأى أنّ البيئة الاجتماعية أصبحت منحرفة إلى درجة لا تسمح مطلقاً بمقتضى علمه العادي أن يوجد فيها فرداً صالح وهذا أمر متصور. أو أنّه وقف على مآل أمر قومه ، بعد إخباره سبحانه بذلك كما قال : ( وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ( هود - 36 ).

أقول : هب أنّه فهم مآل قومه من القرائن أو من اخباره سبحانه لكنّه من أين وقف على أحوال خلفهم وإن من يرثهم لا يكون إلاّ فاجراً كفاراً ؟ وليس ذلك إلاّ بتعليم من اللّه واظهاره على نبيه باحدى الطرق.

3. إبراهيم علیه السلام وملكوت السماوات والأرض :

إنّ القرآن يصف إبراهيم بصفات كثيرة ويشرح أمره في بدء الدعوة ويقول :

ص: 416

( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام - 75 ).

فالملكوت هو الملك كالطاغوت والجبروت وإن كان آكد بالنسبة إلى الملك كما أنّ الطاغوت والجبروت آكد بالنسبة إلى الطغيان والجبر والجبران.

والمراد من اراءة ملكوت السماوات والأرض لإبراهيم هو توجيه نفسه الشريفة إلى مشاهدة الأشياء من جهة استناد وجودها إليه استناداً لا يقبل الشرك بحيث عاد إبراهيم بعد تلك الاراءة فحكم أنّ ليس في صفحة الوجود ربّ غيره سبحانه يتولى تدبير النظام وإدارة الاُمور حتى صار من الموقنين.

وهذه الاراءة لا تقل عن علم الغيب بما هو خارج عن إطار الحس لو لم يكن أشرف منه.

وللبحث حول قصة إبراهيم ودلائله الباهرة في إبطال ربوبية الأجرام السماوية والأرضية مجال آخر قدمنا بعضه في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة (1).

4. اطّلاع لوط علیه السلام على الغيب :

هذا هو لوط أحد الأنبياء ، المعاصر لإبراهيم فقد اطّلع على مسير قومه وهلاكهم في وقت الصبح عن طريق جنود ربّه ورسله قال سبحانه :

( قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) ( هود - 81 ).

فلو أخبر هذا النبي الكريم بطانته الصالحين بأنّ قومه سيهلكون في الصبح وأنّ موعدهم هو ذاك الوقت ، يصح أن يقال : إنّه مخبر عن الغيب وعالم به وإن كان علمه

ص: 417


1- لاحظ الجزء الأول ص 132 - 143.

محدوداً ومتناهياً ، مكتسباً غير ذاتي.

5. تنبّؤ يعقوب علیه السلام :

قال سبحانه : ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ للإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( يوسف : 4 - 6 ).

تدل الآيات على أنّ يعقوب علیه السلام فسر رؤيا ولده يوسف ، مخبراً عن حقيقة مستورة من خلال تلكم الرؤيا وكانت تلك الحقيقة وصول ولده يوسف إلى المقام الشامخ في الدنيا ، والاطلاع على الواقع من خلال الرؤيا وهو لون من الاطّلاع على الغيب ، خص تعالى بعض عباده بهذا الفضل.

لمّا طلب اخوة يوسف من أبيهم يعقوب أن يرسل يوسف حتى يرتع ويلعب معهم ، أجابهم يعقوب بقوله : ( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) ( يوسف - 13 ) ، أفليس قوله : ( وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ ) تنبّؤً بفكرتهم الشيطانية في حق يوسف كيف وقد حكاه سبحانه عنهم بقوله : ( يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) ( يوسف - 17 ).

ثمّ أنّ يعقوب لمّا سمع تقولهم في حق أخيهم عاد يكذّبهم بقوله : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) ( يوسف - 18 ) قائلاً : بأنّ يوسف حي يرزق ولم يأكله الذئب أوليس هذا إخباراً عن ما وراء الحس ؟

ولا غرو في ذلك فإنّ اللّه يصف نبيه يعقوب بقوله : ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( يوسف - 68 ).

ولأجل تلك المكانة لما أخبر الاخوة بأنّ ابنه ( أخا يوسف ) سرق ، كذّبهم أو كذّب

ص: 418

الخبر بأنّه : ( سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ) ( يوسف - 83 ).

ولمّا اعترض أولاده على بكائه بقولهم : ( تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ ) أجابهم بقوله : ( قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) ( يوسف : 85 - 87 ).

هذه تنبّؤات نبي اللّه يعقوب فيعرب عن صدق قوله سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ) كما يدل على صدق قوله : ( وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .

أفبعد هذه التنبّؤات يصح لقائل أن ينفي علمه بالغيب بتاتاً.

أضف إلى ذلك قوله : ( عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) ( يوسف - 83 ).

مخبراً عن حياة يوسف وأخيه وأنّه وأخاه سوف يأتي اللّه بهما.

وهكذا قوله سبحانه :

( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ ) ( يوسف : 93 - 94 ).

فلو لم يك يعقوب علیه السلام عالماً بمصير يوسف ولم يدر عما بلغ إليه ولده من جلال وعظمة ، ولم يك مطلعاً على تعرف الاخوة على أخيهم ورجوعهم بخبره السار ، كيف يقول : ( إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) أليس هذا علماً بالغيب وهبه اللّه لنبيه المبتلى يعقوب ؟

6. تنبّؤ يوسف علیه السلام :

قال سبحانه : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ

ص: 419

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) ( يوسف - 101 ).

والآية تصرح بأنّ اللّه سبحانه علم نبيه يوسف علیه السلام تفسير الرؤيا وتأويلها وذلك قسم من علم الغيب.

وقال سبحانه : ( وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ * ... يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) ( يوسف : 36 - 41 ) وتحقق الأمر الذي أخبر عنه يوسف علیه السلام فنجى أحدهما وأصبح ساقي البلاط بينما اُعدم الثاني ومن الوضوح بمكان أنّ هذا اللون من التفسير للرؤيا هو قسم من الغيب الذي نطق به يوسف علیه السلام .

وقال سبحانه : ( وَقَالَ المَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ ... * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) ( يوسف : 43 - 49 ).

وفي هذه القصة يخبر يوسف علیه السلام عن ثلاثة اُمور غيبية وذلك ضمن تفسيره لرؤيا الملك وهذه الاُمور هي : 1. ينعمون بسبع سنوات مليئة بالبركات والخيرات ويتحسن وضعهم الزراعي. 2. يصابون بعدها بسبع سنوات جدب حيث تغلق عنهم أبواب الرحمة. 3. وفي الخامسة عشر من هذه السنين تعود إليهم النعم والخيرات من جديد وتفتح عليهم أبواب الرحمة.

ص: 420

7. صالح علیه السلام والتنبّؤ بالغيب :

قال سبحانه : ( وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) ( هود : 64 - 65 ).

أخبر نبي اللّه صالح علیه السلام بمصير قومه السيء إذا مسوا الناقة بسوء ، تلك الناقة التي كانت تمثل معجزته حين دعاهم إلى اللّه وإلى التصديق بنبوته ، وهكذا يتحقق ما أخبر به هذا النبي عن مصير قومه بعد أن عقروا الناقة فيأتيهم البلاء بعد ثلاثة أيام فقط كما قال تعالى : ( وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ) ( الذاريات : 43 - 44 ) وأي غيب أعظم من هذا يا ترى ؟

8. اطّلاع سليمان علیه السلام بالغيب :

قال سبحانه : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المُبِينُ ) ( النمل - 16 ) وهل معرفة داود وسليمان منطق الطير إلاّ قسماً من الغيب ؟

وقال سبحانه : ( حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ) ( النمل : 18 - 19 ).

ألا يعد اطّلاع سليمان على لسان النمل من علم الغيب ؟ ثمّ ألا يكون هذا خرقاً للعادة البشرية ؟

وقال سبحانه : ( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * ... فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) ( النمل : 20 - 22 ).

ص: 421

وهل الاطّلاع على لسان الهدهد إلاّ اطّلاع على الغيب ؟

9. المسيح علیه السلام والتنبّؤ بالغيب :

قال سبحانه : ( وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) ( آل عمران - 49 ).

طفق المسيح علیه السلام ينبئ قومه - بإذنه سبحانه - بأسرارهم وما كانوا يدّخرون في الصيف لشتائهم بمقداره ولونه وحقيقته. وكان ذلك إحدى معجزاته.

وكذا قوله :

( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ( الصف - 6 ).

أليس في إخبار عيسى علیه السلام وتبشيره بقدوم النبي محمد صلی اللّه علیه و آله بعد ستمائة عام إخباراً عن الغيب ؟

ونظيره ما ورد في العهدين حول نبينا الأعظم صلی اللّه علیه و آله من ذكر أسمائه وصفاته وما يحل به وبأولاده واُمته وغلبة دينه على جميع الشرائع ، فإنّ تلكم البشارات الواردة فيها مع تحقق مضمونها تعتبر دليلاً على أنّ المبشرين بها كانوا يعلمون الغيب وهم إمّا أنبياء الاُمم السالفة أو أوصياؤهم.

10. انباء النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله بالغيب :

قال سبحانه : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الخَبِيرُ ) ( التحريم - 3 ).

قال الطبرسي : إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أسرّ إلى حفصة حديثاً ، أمرها باخفائه لكن حفصة أخبرت غيرها به ، فأفشت سره صلی اللّه علیه و آله وأطلع اللّه نبيه على ما جرى من افشاء سره فعرّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حفصة ببعض ما ذكرت وأفشت ، وأعرض عن بعض ما ذكرت فلم يخبر

ص: 422

بجميع ما أخبرت به ، فسألته عن أنّه كيف اطّلع على اخبارها وافشائها سره فقال : نبّأني العليم الخبير بسرائر الصدور (1) ، وهو يدل على أنّ اللّه أطلع نبيه على الغيب عن طريق القرآن.

هذه الآيات التي مرّت حتى الآن ذكرت لنا بعض المواضع التي أخبر فيها أنبياء اللّه عن الغيب ، مثل آدم ونوح وإبراهيم ويعقوب ويوسف وصالح وداود وسليمان وعيسى وخاتم الأنبياء محمد صلی اللّه علیه و آله . وهناك آيات قرآنية اُخرى دلّت على أنّ أشخاصاً غير الأنبياء أيضاً أخبروا عن الغيب ، ويتضح من هذا أنّ موضوع الاطّلاع على الغيب لا ينحصر بطبقة الأنبياء بل هو فضل اللّه يخص به من يشاء من عباده الصالحين وإليك الآن بعض هذه الآيات :

11. اطّلاع مريم علیهاالسلام على الغيب :

قال سبحانه : ( إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( آل عمران : 45 - 46 ).

وهل يدخل ادراك مريم بانّها سترزق ولداً رغم عدم تزوجها ثم علمها باسمه وخصائص شخصيته إلاّ في قائمة الاُمور الغيبية ؟

12. الغيب وامرأة إبراهيم :

قال سبحانه : ( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ ... * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) ( هود : 69 - 73 )

ص: 423


1- مجمع البيان ج 1 ص 316.

أمّا تعرّفت زوجة إبراهيم بأنّ اللّه سبحانه وتعالى سيرزقها ولداً عند كبر سنها عن طريق الغيب ؟ إنّ مثل هذه المواضيع التي ينحصر معرفتها عن طريق الملائكة يعرفها أناس ليسوا بأنبياء وهل نستطيع أن نفسر معرفتهم لها عن غير طريق الغيب ؟

13. الغيب واُم موسى :

قال سبحانه : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ) ( القصص - 7 ). ويظهر من هذه الآية أنّ اُم موسى عرفت عن طريق الغيب مستقبل ولدها وأنّ اللّه تعالى سيحفظه إلى أن يعيده إليها سالماً ، فنحن هنا لا نجد أي فرق بين اطلاعها على الغيب أو اطلاع أحد من الأنبياء والأوصياء عليه.

14. الغيب وصاحب موسى :

هذا صاحب موسى الذي آتاه اللّه رحمة وعلماً من عنده ، قد أحاط بما لم يحط به موسى علیه السلام فخرق السفينة ، علماً منه بأنّ وراء السفينة ملكاً يأخذ كل سفينة غصباً ، فخرقها حتى لا يرغب فيها ، وقتل غلاماً كان أبواه مؤمنين فخشى أن يرهقهما طغياناً وكفراً وأقام جداراً يريد أن ينقض لعلمه بأنّ تحته كنزاً لغلامين يتيمين وكان أبوهما صالحاً ، فأراد ستره وصيانته عن أعين الناس حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ، ثم أسند علمه وعمله هذا إلى اللّه تعالى وقال : ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) ( الكهف : 60 - 82 ).

فدلّ هذا على أنّ اللّه تعالى هو الذي أخبره عن هذه الأسرار الغيبية. والنظرة الموضوعية في هذه الأدلة الكافية من القرآن الكريم لا تدع للباحث مجالاً للشك أو التردد في هذه المسألة.

والحقيقة التي نصل إليها بعد كل هذا : أنّه لا يمكن لمن آمن بالقرآن أن ينفي

ص: 424

( علم الغيب ) عن البشر لأنّ القرآن أثبت - كما رأينا - هذا العلم للأنبياء ولغيرهم من بعض الصالحين ، وأمّا الآيات القرآنية التي دلّت بظاهرها على اختصاص علم الغيب باللّه ونفيه عن البشر فقد أوضحنا المقصود منه ، فلاحظ.

ولا بأس ختاماً للبحث أن نذكر بعض الآيات الاُخرى التي استدل بها علماؤنا الإمامية في هذا المجال وإن كان للمناقشة مجال في بعضها :

15. النبي شهيد على الاُمّة :

إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله شهيد على الاُمّة بنص القرآن العظيم والشهادة على الشيء فرع العلم به وذلك في قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) ( البقرة - 143 ) وقوله سبحانه : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) ( النساء - 41 ).

وليس المراد من الشهادة في الآيتين وغيرهما الشهادة على صور الأعمال والأفعال حتى يكتفي فيه بالحواس العادية والقوى الكامنة في البدن بل الشهادة على حقائق الأعمال والمعاني القلبية من الكفر والإيمان والإخلاص والرياء وغيرها وهي مما لا تكفيه الحواس العادية بل يحتاج إلى احساس آخر وراء الاحساس العادي.

16. المؤمنون شهداء على المنافقين :

ما دل على أنّ اللّه ورسوله بل المؤمنون يرون عمل المنافقين وذلك في قوله سبحانه : ( يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة - 94 ).

ونظير قوله سبحانه : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة - 105 ).

ص: 425

لكن في دلالة الآيتين على تعرّف النبي والمؤمنين على الغيب تأملاً لأنّ المتبادر في بادئ النظر من رؤية الأعمال هو شهودها بأنفسها أو شهودها بآثارها ونتائجها والآية الأولى تهدف إلى أنّ العبرة بالعمل لا بالاعتذار عن التقصير وهو لا يخفى بعد على اللّه ورسوله ، والمتبادر من الآية الثانية هو ذاك أيضاً لأنّه عطف على قوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) أي أعملوا لدنياكم وآخرتكم وهو لا يخفى على اللّه ولا على رسوله ولا على الناس وهو ممّا تكفي فيه الحواس الظاهرية ولا يتوقف على العلم بالغيب.

ورؤية الأعمال بهذا المعنى وإن كانت لا تختص بالمؤمنين بل تعم الناس جميعاً غير أنّه لمّا كان البحث والحوار في الآية دائراً بين المؤمنين والمنافقين خص اللّه سبحانه المؤمنين بالذكر وأعرض عن غيرهم.

نعم ربّما يستظهر أنّ المراد من رؤية عملهم هو الوقوف على حقائق الأعمال ومقاصدهم من أعمالهم وهو مما لا يمكن الاطّلاع عليها من طريق الآثار والنتائج بل يتوقف على ادراك غيبي وعند ذاك يكون المراد من المؤمنين شهداء الأعمال لا كلّهم.

حصيلة البحث :

ليس هناك أي مانع من أن يعلم اللّه أحد أوليائه بشيء من غيبه المكتوم وسره المخفي مما كتمه على غيره وستره عنه.

نعم لا يجب على كل من اطلع على الغيب ، اعلام الناس به أو العمل به فلا يستلزم العلم بالشيء ، العمل به أو إخباره الناس بذلك فإنّ هناك مراحل ثلاث مرحلة الاطّلاع ، مرحلة العمل ، ومرحلة الاعلام ، ولكلّ مقتضيات وشرائط وموانع تجب رعايتها نظير القاضي إذ ليس له إلاّ الحكم على وفق ما سمع واقيمت عنده البينة لا على وفق ما علم.

وسيوافيك توضيح هذا الأمر عند الأجابة عن التساؤلات الموجودة حول علم الغيب.

ص: 426

ما هو مفاد الآيات النافية لعلم الغيب عن النبي صلی اللّه علیه و آله ؟

اشارة

ثم إنّ هناك آيات تسلب بصراحة العلم بالغيب عن النبي صلی اللّه علیه و آله فما مفادها وكيف يجتمع مفادها مع الآيات المثبتة وإليك الآيات :

1. ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ( الأحقاف - 9 ).

2. ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ) ( الأنعام - 50 ).

3. ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( هود - 31 ).

4. ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف - 188 ).

5. ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا

ص: 427

تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة - 101 ).

6. ( فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ) ( الأنبياء - 109 ).

7. ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة - 109 ).

8. ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ( ص : 69 - 70 ).

فما مفاد هذه الآيات النافية لعلم الغيب عن النبي صلی اللّه علیه و آله بصراحة إزاء ما دلّت آيات اُخرى على وجود علم الغيب عند الأنبياء ، بل عند بعض الصالحين أيضاً وكيف تفسر هذه الآيات ؟

الجواب :

إنّ الوقوف على مفاد هذه الآيات النافية سهل بعد الوقوف على ما ذكرناه من أنّ علم الغيب الثابت للنبي ، غير الثابت لله سبحانه ، وقد أشبعنا الكلام في هذه المسألة في الجزء الأوّل وقلنا : بأنّ القرآن بينما يثبت فعلاً لله سبحانه على وجه الحصر في مورد ، يثبته لغيره أيضاً ، فمثلا عندما يقول : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) على وجه الحصر نافياً طلب العون من غيره سبحانه ، يأمر بالإستعانة بالصبر والصلاة وهما غيره سبحانه حيث يقول : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) ( البقرة - 45 ).

فعندما يقول : ( اللّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ( الزمر - 42 ) ويجعل التوفيّ فعلاً مختص باللّه سبحانه ، يثبته لغيره كالملائكة حيث يقول : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ) ( النحل - 32 ).

إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي بينما ينسب فيه الفعل إليه سبحانه على وجه الحصر ، ينسب إلى غيره أيضاً ، والحل في الجميع واحد وهو أنّ اللائق بساحته الأقدس

ص: 428

والمنسوب إليه سبحانه ، غير الثابت لغيره ، فالثابت هو الفعل الاستقلالي غير المتكئ على أحد ، إلاّ ذاته سبحانه ، والمنفي عن عباده هو ذاك الفعل الاستقلالي أو الثابت لهم هو الفعل التبعي القائم باللّه سبحانه ، وبالوقوف على ما ذكرناه ينفتح عليك باب من أبواب معرفة الذكر الحكيم ، وقد أوعزنا إلى ذلك الأمر في هذه الموسوعة غير مرّة (1).

ولأجل إيضاح مفاد هذه الآيات النافية ، نبحث عن كل واحدة بحثاً مستقلاً ، ليتضح الحق بأجلى مظاهره فنقول :

أمّا الآية الاُولى فهي مكونة من أربع فقرات ، ولمعرفة دلالة الآية بصورة صحيحة لابد من معرفة دلالة كل فقرة من هذه الفقرات الأربع المكوّنة للآية بشكل كامل وهذه الفقرات هي :

1. ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ ) .

2. ( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) .

3. ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) .

4. ( وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) .

تشير الفقرة الاُولى إلى خطأ المشركين في ظنهم بأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله يجب أن يستثنى من سائر البشر العاديين ، ولا يشابههم في عادتهم من أكل وشرب ونوم وما شاكل ذلك ، وكانوا يقولون لو كان محمد نبياً حقاً لما كان مثل الناس يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، فلا يمكن أن يكون نبياً - حسب زعمهم - إلاّ أن يتنزّه من تلكم الصفات الموجودة في البشر عادة ، وقد أشار القرآن إلى زعمهم بقوله : ( مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ ) ( الفرقان - 7 ).

وقد كشف القرآن عن خطأهم في هذه الفقرة من الآية حيث قال : ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ ) ومعناها أنّ هذا النبي الجديد لا يختلف عن الأنبياء السابقين في هذه

ص: 429


1- لاحظ الجزء الأوّل ص 362 - 364.

الصفات البشرية من أكل الطعام ومشي في الأسواق ، وهذه الصفات ليست أمراً جديداً في هذا النبي بل أنّها صفات دائمة لكل نبي بعثه اللّه تعالى.

كما كشف في سورة الفرقان أيضاً وقال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ ) ( الفرقان - 20 ).

ويفهم من هاتين الآيتين أنّ المشركين كانوا يتوقعون من النبي صلی اللّه علیه و آله اُموراً هي فوق طبيعة البشر ، حيث زعموا عدم اجتماع النبوّة مع أكل الطعام والمشي في الأسواق.

بل كانوا معتقدين بلزوم وجود قدرة غير متناهية عند النبي المبعوث يختلف بها عن غيره من البشر ، وبذلك انتظروا من النبي صلی اللّه علیه و آله أن يعلم الغيب ذاتياً دون ارتباط باللّه تعالى ، يعلمه وكأنّ الأمر قد فوّض إليه.

إنّ اللّه تبارك وتعالى خاطب نبيّه مبطلاً هذا الزعم بقوله : ( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) أي قل لهم يا محمد إنّني بشر ولا يستطيع أحد من البشر أن يتنبّأ بمصيره أو مصائر الآخرين دون إلهام من اللّه تعالى. فالآية الكريمة اذن تنفي ذلك اللون من علم الغيب الذي يتصوره بشكل ذاتي ، وبصورة تفويض مطلق من غير ارتباط باللّه تعالى ، وهو الأمر الذي طلبه المشركون ، وهو لا يصطدم - أبداً - بما أثبتناه نحن من وجود علم الغيب عند الأنبياء بتعليم من اللّه.

ولأجل نقد هذه المزعمة يقول في الفقرة الثالثة : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) وقد وقفت على أنّ الوحي أحد الطرق التي يطلع اللّه بها أنبياءه على الاُمور الغائبة عن الحس والأشياء الخفية.

ولو كانت الآية الكريمة تريد نفي ( علم الغيب ) عن النبي صلی اللّه علیه و آله اطلاقاً استقلالاً وتبعاً ذاتياً واكتسابياً لكانت الآية مناقضة لنفسها ، حيث أثبتت قسماً من الغيب للنبي وهو الغيب الذي يأتي عن طريق الوحي وذلك في الفقرة الثالثة ، ولو كانت الفقرة الثالثة من الآية قد جاءت عن طريقة الاستثناء لأمكننا تصديقه بأنّها جاءت على وجه الاستثناء ، ولكنّها لم تأت على طريقة الاستثناء كما هو واضح.

ص: 430

فقد اتضح مما ذكرناه أنّ الفقرة الثانية من الآية لا تنفي عن النبي إلاّ علم الغيب بشكله الذاتي بينما أثبتت الفقرة الثالثة منها للنبي صلی اللّه علیه و آله علم الغيب عن طريق الوحي بشكله التبعي ، والفقرة الرابعة من الآية توضح ما وصلنا إليه أيضاً حيث تقول : ( وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ومعناها : أنّ ما ترتقبونه منّي من علم غيب ذاتي ليس إلاّ عبثاً ، إنّما أنا نبي نذير اُخبركم عمّا أطلع عليه عن طريق الوحي فقط ، ولا أعرف شيئاً دون تعليم اللّه تعالى.

أمّا الآية الثانية أعني قوله سبحانه : ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) ( الأنعام - 50 ) فبالنظر إلى ما ذكرناه من التصورات الخاطئة التي حملها المشركون في أذهانهم عن الأنبياء ، يتضح مفهوم هذه الآية أيضاً ، إذ أنّهم ترقبوا من النبي صلی اللّه علیه و آله أن يعلم الغيب من عند نفسه ودون سابق ارتباط باللّه ، ولكن الآية ترد عليهم هذا الارتقاب غير الصحيح بقولها : ( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) أي لا أعلم الغيب إلاّ من اللّه ، والفقرة الأخيرة من الآية تدل على ذلك : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) أي انّي عن طريق الوحي أطلع على الغيب.

أمّا الآية الثالثة أعني قوله سبحانه : ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) ( هود - 31 ).

فغنية عن التوضيح إذ أنّها لا تختلف عن الآية الثانية لفظاً ومفاداً.

أمّا الآية الرابعة أعني قوله سبحانه : ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف - 188 ).

فيتضح مفهومها بملاحظة ما قدمناه حول الآية الاُولى حيث أنّها تبطل ما يحمله المشركون في أذهانهم اتّجاه النبي صلی اللّه علیه و آله من تصورات خاطئة من قبيل أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله يجب أن يحظى بقدرة فائقة وسلطة عريضة في هذا الكون دون اتصال باللّه تعالى ، فيجلب - استناداً لهذه القدرة الفائقة - كل خير إلى نفسه ويبعد كل شر مرتقب عنه ، ثم يخبر عن

ص: 431

الغيب أيضاً.

فيأمر اللّه تعالى نبيّه أن ينفي عن نفسه أيّة قدرة أو علم دون الإرتباط باللّه تعالى والاستمداد منه ، وذلك تفنيداً لمزاعم المشركين الباطلة.

وتأتي جملة : ( إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ ) في الآية الكريمة دليلاً آخر على أنّ الآية ليست في مقام نفي القدرة والعلم عن النبي صلی اللّه علیه و آله بصورة مطلقة ، بل أنّها نفت عنه صلی اللّه علیه و آله ذلك اللون من العلم والقدرة اللّذين يتصور أنّ النبي واجد لهما استقلالاً وبصورة التفويض ، ولأجل ذلك فالآية لم تنف عن النبي صلی اللّه علیه و آله العلم والقدرة اللّذين يقتبسهما من اللّه ، بل أثبتت ذلك له حسب الاستثناء الوارد في قوله تعالى : ( إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ ) .

وبالتالي يتضح لنا مفهوم الفقرة الاُخرى من الآية وهي قوله : ( لَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) الخ.

ومعناها : لو كنت أعلم الغيب دون إلهام من اللّه تعالى لحصلت على الخير الكثير ودفعت عن نفسي الشر الكثير ، ولكن لا أستطيع ذلك لأنّ علم الغيب ليس وصفاً ذاتياً لي ، بل هو فيض من اللّه ، يعطيني ذلك حين يشاء ، وفي جانب قدرة التصرف في هذا الكون أحظى بمقدار ما يشاء.

أما الآية الخامسة أعني قوله سبحانه : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة - 101 ).

فالآية الكريمة وإن كانت تدلّ - بحكم كلمة ( لا تَعْلَمُهُمْ ) - على وجود منافقين في المدينة لا يعرفهم النبي صلی اللّه علیه و آله ، وهو لا يتفق مع ما يدعى له صلی اللّه علیه و آله من علم الغيب ؟ إلاّ أنّ الآية لا تدل على أكثر من نفي العلم عن النبي بالنسبة للمنافقين في ظرف نزول الآية فقط ، ولا يعني هذا نفي العلم عن النبي صلی اللّه علیه و آله تجاه المنافقين في كل الظروف والأحوال ، ولا شك في أنّ اللّه تعالى أخفى عن نبيّه بعض الحوادث عند وقوعها ، وكان منها وضع المنافقين المؤسف في المدينة لما يحمل في طياته من ألم عميق للنبي صلی اللّه علیه و آله .

ص: 432

ولكن هذا الأمر يختلف من أن نقول : إنّ اللّه أخفى عن نبيّه أحوال المنافقين حتى آخر عمره.

وثانياً : في الوقت الذي يخاطب اللّه نبيّه بقوله : ( لا تَعْلَمُهُمْ ) في مورد المنافقين ، يخاطبه في موضع آخر بقوله : ( وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) ( محمد - 30 ) فهذه الآية الثانية تعرفنا امكان معرفة النبي للمنافقين عن طريق أقوالهم.

وثالثاً : لم يكن المنافقون مجهولين للنبي صلی اللّه علیه و آله دائماً كيف وقد عرفهم القرآن بذكر الأوصاف المختلفة لهم كما في الآية التالية : ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) ( المنافقون - 4 ).

لقد وصفوا في هذه الآية بالأوصاف التالية :

1. اعطوا بسطة في الجسم.

2. يمثّلون في ظاهرهم الحق والدين.

3. إنّهم كالخشب المسندة التي اُسندت إلى جدار (1).

وهناك آيات اُخرى تعرف المنافقين في نفس هذه السورة ( المنافقون ) وهي ظاهرة لمن نظر إليها بدقة بل كشف النقاب عن المنافقين وعرفهم بصورة واضحة في صورة التوبة بقوله سبحانه : ( وَلا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة - 54 ) وهكذا سائر الآيات الواردة في هذه السورة.

ورابعاً : إنّ اللّه يأمر نبيّه بمحاربة الكفّار والمنافقين وعدم اتباع أقوالهم كما في قوله :

ص: 433


1- والمقصود من هذا التشبيه : أنّ آيات القرآن وكلمات النبي صلی اللّه علیه و آله الحكيمة لم تؤثر فيهم الأثر الحسن المطلوب ، ولم يظهر منهم أي رد فعل ايجابي تجاه تلكم الأقوال الهادية ، فهم كالخشب المسندة أجسام لا روح فيها.

1. ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ) ( التوبة - 73 ).

2. ( وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ) ( الأحزاب - 48 ).

فهل يمكن أن يأمر اللّه نبيّه محمداً صلی اللّه علیه و آله بجهاد المنافقين والغلظة عليهم ثمّ لا يعرّفهم له طيلة عمره صلی اللّه علیه و آله ؟ إنّ هذه الآيات تدل - على سبيل الملازمة - على أنّ كتمان أمر بعض المنافقين عن النبي صلی اللّه علیه و آله لم يك بصورة دائمية وإنّما كان حكماً مؤقتاً.

ويخاطب اللّه نبيّه أيضاً بقوله : ( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ) ( التوبة - 84 ) والآية نازلة في حق المنافقين انّ هذه الآيات وغيرها تحكي لنا معرفة النبي صلی اللّه علیه و آله بالمنافقين ، ولم يكن النبي وحده الذي يعرف المنافقين بل كان قد أودع أسماءهم وأوصافهم عند ( حذيفة ) (1) الصحابي الشهير. ومن هنا كان الخليفة الثاني لا يصلّي على أحد يشك في نفاقه إلاّ أن يسأل حذيفة عنه ، وهذا أمر مذكور في سيرة النبي صلی اللّه علیه و آله وتاريخ الخلفاء والصحابة من بعده.

أمّا الآية السادسة أعني قوله سبحانه : ( فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ) ( الأنبياء - 109 ).

فالجواب عن الاستدلال بها واضح إذ البحث في أصل ثبوت علم الغيب للنبي والإمام لا في المقدار الذي يتحمّله صدر النبي أو الإمام من علم الغيب.

وإذا كان النبي صلی اللّه علیه و آله قد نفى في موضوع ما عن نفسه علم الغيب فإنّ ذلك لا يتنافى أبداً مع ما نحن فيه من اثبات علم الغيب له ، وهناك نقطة جديرة بالذكر في هذه

ص: 434


1- راجع أسد الغابة 1 / 391 وسائر الكتب التي تترجم الصحابة ونص كلام ( اُسد الغابة ) كما يلي : « وحذيفة صاحب سر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المنافقين لم يعلمهم أحداً إلاّ حذيفة أعلمهم له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسأله عمر : أفي عمّالي أحد من المنافقين ؟ قال : نعم ، أحد ، قال : من هو؟ قال : لا أذكره ، قال حذيفة : فعزله كأنّما دل عليه ، كان ( عمر بن الخطاب ) إذا مات ميت يسأل عن حذيفة فإن حضر الصلاة عليه صلّى عليه وإن لم يحضر حذيفة الصلاة عليه لم يحضره عمر.

الآية وهي :

انّ النبي صلی اللّه علیه و آله حين ينفي عن نفسه علم الغيب هنا فهو ينفيه عن موضوع يختص علمه باللّه تعالى وذلك هو يوم القيامة ، ووقت تحقق الوعد والوعيد اللّذين أنذر بهما عباده.

وسيوافيك أنّ العلم بالساعة وبموعد القيامة من الموضع أو المواضيع التي خص اللّه به نفسه ولم يطلع عليها أحداً ، والآيات القرآنية في هذا الموضوع صريحة إلى حد لا يمكن تصوّر خلافها ، ولا مانع أن يخبر اللّه نبيّه عمّا مضى ويأتي من الحوادث ولكنّه يخص علم الساعة لنفسه ، وإليكم بعض الآيات القرآنية التي صرحت بأنّ علم الساعة من مختصاته تعالى :

1. ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ) ( الأعراف - 187 ).

2. ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ) ( طه - 15 ).

3. ( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ( لقمان - 34 ).

4. ( يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ) ( الأحزاب - 63 ).

5. ( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ( فصلت - 47 ).

6. ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( الزخرف - 85 ).

دلّت هذه الآيات بصورة واضحة على أنّ علم الساعة ممّا استأثر اللّه بعلمها لحكمة يعلمها سبحانه وعدم اطلاع النبي على وقت الساعة لا يستلزم أبداً عدم اطلاعه على اُمور اُخرى ولكلّ الأشياء.

ولقد ورد هذا المعنى أيضاً في آية اُخرى من سورة الجن ، قال سبحانه : ( حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا * قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا

ص: 435

تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) ( الجن : 24 - 27 ).

إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله - في هذه الآيات كما نرى - ينفي عن نفسه العلم بموعد القيامة لأنّ العلم بذلك من مختصاته سبحانه كما تصرح هذه الآيات.

وأمّا الآية السابعة أعني قوله : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة - 109 ) فقد استدل بها على نفي علم الغيب عن الأنبياء لأنّهم ينفون عن أنفسهم أي شكل من أشكال الغيب ويصفون اللّه بأنّه : ( علاّم الغيوب ) ولكن الاجابة عن الاستدلال واضحة بعد معرفة موارد استعمال « لا » النافية للجنس ، فإنّها وإن كانت لنفي الجنس ولكنّها تأتي على وجهين :

1. نفي الجنس حقيقة وبصورة واقعية مثل قولنا : « لا إله إلاّ اللّه » وقوله سبحانه : ( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام - 59 ) وقولنا : لا رجل في الدار ، حين لا يوجد رجل في الدار صغيراً كان أم كبيراً ، صحيحاً أم سقيماً.

2. نفي الجنس على سبيل التجوز فتقول : « لا أحد هنا » حين يطرق الباب طارق فيسأل هل يوجد أحد هنا ؟ فرغم وجود شيخ كبير ، أو انسان لا طاقة له على الحركة في الدار ، ولكنّك تنفي وجود أحد في الدار مجازاً لأنّ ذلك الشيخ الكبير أو المريض لا يفيدان السائل بشيء ، فاعتبرت وجودهما كالعدم بالنسبة إلى السائل فنفيت الجنس مجازاً. ومن هذا القبيل كلمات الإمام أمير المؤمنين علیه السلام التي خاطب بها أصحابه المتخاذلين ، والذين كانوا يجعلون من الحر والبرد وسيلة للتقاعس عن ساحة الحرب والجلوس عن مجاهدة البغاة معاوية وأمثاله ، حيث قال : يا أشباه الرجال ولا رجال (1).

ونظير قوله علیه السلام : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد ». والآية الكريمة من هذا القبيل ، فإنّ الأنبياء حين ما يقيسون علمهم المحدود الاكتسابي إلى علم اللّه تعالى اللامحدود واللامتناهي والذاتي ، يرون ضآلة ما عندهم من العلم تجاه ما عند اللّه

ص: 436


1- نهج البلاغة الخطبة 26 طبع عبده.

تعالى ، حتى العلم المحدود الموجود عندهم الذي هو مظهر من مظاهر فيضه تعالى عليهم ، وعند ذاك ينفون عن أنفسهم العلم أمام المولى خضوعاً وتسليماً ويقولون : ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ويدل على ما ذكرناه من التفسير وجوه :

1. إنّ الآيات الورادة في موضوع شهادة النبي والشهداء الآخرين تصرح بأنّ الأنبياء سوف يدعون في الآخرة لأداء الشهادة قال سبحانه : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) ( الزمر - 69 ) وهل يمكن أن يشهد الأنبياء والشهداء الآخرون في المحكمة الإلهية العادلة دون علمهم بشيء من أحوال المشهود عليهم. إنّ آيات الشهادة في القرآن وخاصة قوله سبحانه : ( وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) ( النساء - 41 ) وقوله سبحانه : ( وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر - 51 ) تدفعنا إلى أنّ المراد من قوله سبحانه : ( لا عِلْمَ لَنَا ) عن لسان الأنبياء يوم القيامة هو ما قدمناه من التفسير.

2. إنّ سلب العلم عن الأنبياء لأحوال اُممهم على وجه الاطلاق يتنافى مع ما يحكيه اللّه تعالى عن لسان نبيّه يوم القيامة وذلك عند تجمع الأنبياء وقيام المحكمة الالهية العادلة في قوله تعالى : ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) ( الفرقان - 30 ) وسياق الآيات الاُخر مثل قوله سبحانه : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ) ( الفرقان - 27 ) يوضح أنّ شكوى النبي صلی اللّه علیه و آله على قومه تكون يوم القيامة.

3. كيف يمكن نسبة عدم العلم إلى الأنبياء يوم القيامة بصورة كلية وهم الذين يعرفون المحسنين والمسيئين على الأعراف بسيماهم كما يقول القرآن : ( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ) ( الأعراف - 46 ). ثمّ إنّ نبياً ينزل عليه الوحي فيخبره عن غدر الوليد (1) وخيانته في قضية مشهورة ، أو تنزل عليه آيات قرآنية في كشف حقيقة أبي لهب ، أقول إنّ نبيّاً بهذه المنزلة هل يمكن أن يقول يوم القيامة : ( لا عِلْمَ لَنَا ) على سبيل الحقيقة ؟ دون قصد أهداف اُخرى من هذا الكلام وهو الخضوع أمام عظمة المولى جل شأنه.

ص: 437


1- الحجرات - 6 ولاحظ ما ورد حولها من الأخبار في التفاسير.

إنّ هذه الوجوه تشير إلى الحقيقة التي قدمناها الآن وهي : أنّ الهدف من هذا النفي في قوله تعالى : ( لا عِلْمَ لَنَا ) ليس إلاّ التأدّب أمام المولى واستعمال كل أسلوب يدل على الخضوع التام أمام علم اللّه اللامتناهي ، وليس المراد به نفي العلم عن الأنبياء على سبيل الحقيقة والواقع.

4. يصرح القرآن بتوجيه السؤال يوم القيامة إلى كل من الأنبياء والاُمم فيقول : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ ) ( الأعراف - 6 ). ودلّت آيات اُخرى من القرآن على علم المجرمين والعاصين بأحوالهم الماضية في الدنيا وما تجره في ذلك اليوم إليهم من آلام ، حيث يبدون أسفهم على ما قدموا وتكون كلمة ( ليت ولعل ) طوع ألسنتهم يقول تعالى : ( يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ) ( الفرقان - 27 ) ( يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً ) ( الفرقان - 28 ) ( فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) ( السجدة - 12 ).

ترى كم يملك نصيباً من الصحة القول : بأنّ الاُمّة تعلم يومذاك عن مرارة أوضاعها وسوء مصائرها فتطرق برؤوسها متمنية العودة إلى الحياة الدنيا لتستأنف العمل في حين ينفي الأنبياء - الذين عاصروا اُممهم فترات طويلة من الزمن - عن أنفسهم يوم القيامة أي لون من ألوان العلم على سبيل الحقيقة ؟

وبالنظر إلى كل ما قدمناه يتضح مفهوم الآية ونعلم جيداً أنّها لا تختلف أبداً عن الآيات التي تثبت علم الغيب للنبي صلی اللّه علیه و آله .

وأمّا الآية الثامنة أعني قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ( ص : 69 - 70 ) المراد من الخصومة في الآية هي خصومة الملائكة في موضوع خلق الانسان ، وقد جاءت واضحة في سورة البقرة ضمن الآية ( 30 - 33 ).

ويؤكد كون المراد من الخصومة ذلك ، قوله سبحانه بعد الآيتين : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ

ص: 438

سَاجِدِينَ ) ( ص : 71 - 72 ) هذا وأنّ التعرف على مفاد الآية يتوقّف على الاطلاع على موارد استعمال لفظة ( ما كان ) في القرآن الكريم وكيفية استعمالها قال سبحانه :

1. ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة - 143 ).

2. ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي ) ( آل عمران - 79 ).

3. ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( آل عمران - 145 ).

4. ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) ( الأنفال - 67 ).

5. ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللّهِ ) ( التوبة - 17 ).

6. ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ ) ( يونس - 37 ).

7. ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( الرعد - 38 ).

إنّ التعمّق في هذه الآيات ونظائرها يعطي أنّ الهدف من هذا النفي هو نفي الاقتضاء الذاتي لمضمون الجملة ، ومعناه أنّ الموضوع لا يقتضي مثل هذا الأمر ذاتياً ، ولكن مثل هذا النفي ينقسم إلى قسمين :

1. النفي الأبدي حيث لا يحتمل التغيير والخلاف في موضوعه أبداً مثل قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) فليس من شأن اللّه تضييع جزاء الأعمال لأنّ تضييع جزاء الأعمال لون من ألوان الظلم وتخلف عن الوعد ، وهو منزّه عنهما.

2. النفي غير الأبدي : وهو ما يمكن تغيير موضوعه أو مضمونه في ظل عنوان آخر كما في الآية التالية : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( الرعد - 38 ).

والهدف من هذه الآية هو : أنّ أي رسول من قبل اللّه لا يملك القدرة على الاتيان بمعجزة ، ولكن عدم تمكن الرسول من نفسه لا يعني عدم تمكنه على الاتيان بالمعجزة على الاطلاق فإنّ ذلك ممكن له في ظلال قدرة اللّه تعالى.

إذا وقفت على ما ذكرناه يتضح لك مفهوم الآية المبحوث عنها ، أنّها تقول : ما

ص: 439

كان لي من علم من جانب نفسي وذاتي بالخصومة التي وقعت بالملأ الأعلى. وهذا العلم الذاتي ليس من شأن البشر.

ولكن هذا لا يدل على عدم العلم على الاطلاق ليشمل عدم علمه عن طريق الوحي أيضاً أو في المستقبل مثلاً ، وأحسن دليل على هذا الموضوع هو الآية التالية لها حيث تقول : ( إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) فتدل الآية على أن ترقب علم الغيب الذاتي من النبي صلی اللّه علیه و آله عبث ، إنّما هو نذير ، لا يوجد عند نظير مثله ما يتوقعون ولا يمكنه الاطلاع على الغيب بغير إيحاء منه سبحانه ولكنه لا يمنع من اطلاعه عليه عن طريق الكسب كما تقدم ، وكونه نذيراً لا يمنع أن يطلعه اللّه على بعض الاُمور الغيبية التي تعزز هدفه ، وتؤيده في الطريق ، حيث يتمكن بواسطة بث الاُمور الغيبية للناس إدخال خوف اللّه إلى قلوبهم فيكون نذيراً حقاً.

وإذا كان النبي صلی اللّه علیه و آله قد نفى عن نفسه في هذا الموضع العلم بخصومة الملأ الأعلى ، نجده صلی اللّه علیه و آله في مواضع اُخرى من القرآن يذكر هذه الخصومة بصورة تفصيلية ، ألا يدل ذلك النفي وهذا الاثبات على ما قلناه من أنّ هدف النفي في الموضع الأوّل هو نفي العلم الاستقلالي عن نفسه لا التبعي ؟

ص: 440

تساؤلات حول علم النبي بالغيب

السؤال الأول :

إنّ علمه سبحانه بالأشياء وإن كان مطلقاً ومرسلاً غير محدود وذاتياً له غير مفاض ، على ما دلّت عليه البراهين الكلامية والفلسفية إلاّ أنّ ذلك لا يصحح حمل الآيات على هذه المعاني البعيدة عن مستوى الافهام ، وكون علمه سبحانه عين ذاته وعلم غيره زائداً عليها أمر معلوم من الخارج ، ولا يكون مثل هذا العلم كقرينة على تفسير ما دلّ على اختصاص العلم بالغيب له سبحانه ، فكيف تحمل هذه الآيات على العلم الذاتي ، المحيط بكل شيء ، المرسل عن كل شيء ؟!

الجواب : انّ من لاحظ سياق الآيات والقرائن الحافة بها ، وسبر التاريخ والحديث يقف على أنّ المتبادر من « العلم بالغيب » في عصر الرسالة وبعده كان هو العلم الذاتي لا العرضي ولأجل ذلك كان الأئمة من أهل البيت مع ما اُخبروا من المغيبات ما لا يحصى يتحاشون عن توصيفهم بأنّهم عالمون بالغيب ناسبين علومهم ومعارفهم وما يخبرون به من ملاحم وأحداث وفتن ، إلى التعلّم من ذي علم (1) والوراثة من الرسول (2) ويصف هشام بن الحكم الإمام الصادق وهو من أكابر أصحابه ، بأنّه يخبرنا بأخبار

ص: 441


1- نهج البلاغة خطبة 124 وسيوافيك لفظ الإمام.
2- كما في الحديث عن الإمام الطاهر موسى الكاظم علیه السلام وسيوافيك لفظه.

السماء وراثة عن أب وجد ، وهذا أقوى دليل على أنّ المتبادر في عصر الرسالة وبعده ، من العلم بالغيب هو القسم اللائق بساحته سبحانه.

وكون العلم اكتسابياً أو غير اكتسابي ليس من المفاهيم الغامضة التي لا ينقدح في الافهام الوسطى فضلاً عن العليا ، فإنّ الانسان العارف باللّه ، مهما تنازل وبعد عن المعارف ، يقف على أنّ هنا موجوداً غنياً من جميع الذات والغنى نفسه وذاته فوجوده وعلمه وقدرته وحياته ثابت له من دون استناد إلى غيرها ، وانّ هنا موجوداً فقيراً ومخلوقاً لغيره يعتمد في كل كمال وجمال إلى خالقه وبارئه ولا نعني من الذاتي والاكتسابي غير هذا.

وإلى ما ذكرنا يشير شيخ الاُمّة الشيخ المفيد رحمه اللّه بقوله :

« إنّ الأئمة من آل محمد صلی اللّه علیه و آله قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد ، يعرفون ما يكون قبل كونه ، وليس بواجب في صفاته ولا شرطاً في إمامتهم وإنّما أكرمهم اللّه تعالى وأعلمهم إياه للطف في طاعتهم والتمسك بإمامتهم وليس ذلك بواجب عقلاً ولكنه وجب لهم من جهة السماع ، فأمّا اطلاق القول عليهم بأنّهم « يعلمون الغيب » ، فهو منكر بيّن الفساد ، لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقه من علم الأشياء بنفسه ، لا بعلم مستفاد وهذا لا يكون إلاّ لله عزّ وجلّ وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلاّ من شذ عنهم من المفوضة ومن انتمى إليهم من الغلاة » (1).

فالتوفيق بين قوله : « اطلاق القول عليهم بأنّهم يعلمون الغيب بيّن الفساد » وقوله علیه السلام : « بأنّهم يعلمون ما في الضمائر » لا يحصل إلاّ بما ذكرنا ، بل هو صريح كلامه لمن أمعن فيه النظر.

قال رشيد الدين محمد بن شهر آشوب (2) : النبي والإمام يجب أن يعلما علوم

ص: 442


1- أوائل المقالات ص 38.
2- أحد أقطاب التفسير والحديث في القرن السادس توفّي عام 588 ، وله المناقب وأسباب نزول القرآن ، ومتشابهات القرآن كما صرح به في معالمه.

الدين والشريعة ولا يجب أن يعلما الغيب وما كان وما يكون لأنّ ذلك يؤدي إلى أنّهما مشاركان للقديم تعالى في جميع معلوماته التي لا تتناهى وإنّما يجب أن يكونا عالمين لأنفسهما (1) ، وقد ثبت أنّهما عالمان بعلم محدث ، والعلم لا يتعلّق على التفصيل إلاّ بمعلوم واحد. ولو علما ما لا يتناهى لوجب أن يعلما وجود ما لا يتناهى من المعلومات وذلك محال ، ويجوز أن يعلما الغائبات والكائنات الماضيات أو المستقبلات باعلام اللّه تعالى لهما شيئاً منها (2).

فإنّ الظاهر من كلامه أنّ الشرك إنّما يلزم من أمرين : « الأوّل » القول بعدم تناهي علومهم ، « الثاني » كون علومهم مستندة إلى أنفسهما لا باعلام منه سبحانه والمنفي في كلامه هو العلم الذاتي غير المتناهي ، أما المتناهي المستند إلى اللّه عزّ وجلّ فهو ثابت لهم.

السؤال الثاني :

لو كان النبي عالماً بالغيب بعلم مستفاد ومفاض منه سبحانه لما مسّه السوء والشر مع أنّه كان يمسّه السوء بنص منه سبحانه حيث قال : ( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) ( الأعراف - 188 ) فإنّ الانسان إذا وقف على أنّ في ركوب أمر خطراً على نفسه وماله ، أو أنّ في هذا الغذاء سمّاً لاجتنب عنهما وتركهما بتاتاً سواء أوقف عليها من جانب نفسه أم باطلاع غيره فمس السوء وفوت الخير ، دليلان على عدم اطلاعه على الغيب لا من جانب نفسه ولا من ناحية غيره مطلقاً.

الجواب من وجوه : الجواب الأوّل :

إنّ السؤال موجه إذا قلنا بسعة علم النبي صلی اللّه علیه و آله بعامة الحوادث القادمة مع تفاصيلها وجزئياتها ، وأنّ علمه صلی اللّه علیه و آله بغابر الاُمور وقادمها غير محدود بشيء من التحديد ،

ص: 443


1- كذا في النسخة والصحيح لا لأنفسهما كما هو واضح لمن أمعن النظر.
2- متشابهات القرآن ومختلفه ج 1 ص 211.

غير كونه علماً إمكانياً مفاضاً ومستفاداً منه سبحانه ، فعند ذاك يتوجه السؤال ويقال :

بأنّه لو كان النبي عالماً بما سيقع من الحوادث كلّها ، يجب أن لا يمسّه السوء أبداً ويحترز من كل شر ، قبل إصابته وأمّا إذا حددناه بشيء من التحديد وقلنا إنّ علمه بالحوادث ليس بهذه المثابة كما يدل عليه قوله علیه السلام : « إنّ لله علمين : علم مخزون لا يعلمه إلاّ هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه » (1) ، وقوله علیه السلام : « لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة » فقلت أيّة آية؟ قال : « قول اللّه : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) » (2) فالسؤال غير وجيه جداً لأنّه إذا كان علمه بالحوادث المستقبلة ، محدوداً بشيء من هذه الحدود ، لا ينافيه مس السوء وعدم استكثار الخير في بعض الأحايين ، لإمكان أن يكون المورد من العلم المكنون الذي لم يطلع عليه أحد ، أو من الاُمور التي تحقق فيها البداء بمعناه الصحيح الذي نصّت عليه الأحاديث.

روى معمر بن خلاد قال : سأل أبا الحسن علیه السلام رجل من أهل فارس فقال له : أتعلمون الغيب ؟ فقال : قال أبو جعفر : يبسط لنا العلم فنعلم ، ويقبض عنّا فلا نعلم ، فقال : سرّ اللّه عزّ وجلّ أسرّه إلى جبرئيل ، وأسرّه جبرئيل إلى محمد وأسرّه محمد إلى من شاء اللّه (3) ، وبهذا المضمون روايات وأحاديث ، واختاره لفيف من مشايخ الإمامية (4).

نعم هذا الجواب ربّما لا يلائم ما دلّت عليه بعض الأحاديث التي نقلها الكليني في كافيه وعقد له باباً ب « أنّهم علیهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون وأنّه لا يخفى عليهم شيء ».

ص: 444


1- الكافي ج 1 ص 147 وتضافرت الروايات بهذا المضمون وقد جمعها العلامة المجلسي في بحاره في الباب الثاني من كتاب توحيده فراجع ج 2 ص 47 - 92.
2- بحار الأنوار ج 4 باب البداء والنسخ ص 118 ، الحديث 52.
3- الكافي ج 1 ص 256.
4- كالشيخ الصدوق وأمين الإسلام الطبرسي وغيرهما ممّن لا يقولون بعموم علمهم بكل شيء.

غير أنّ ابداء الرأي القاطع في سعة علومهم واطلاعهم على المغيبات يحتاج إلى امعان النظر في أحاديث الباب كلّها فإنّها ليست على صعيد واحد بل تختلف مضامينها وبما أنّ الاسهاب يوجب الخروج عن الهدف من هذا الفصل فنرجئ البحث عنه إلى مقام آخر.

الجواب الثاني :

لو كان علمهم علیهم السلام بالمغيبات علماً بالفعل بحضورها لديهم تفصيلاً بدقائقها وتفاصيلها فلا يجتمع ذاك مع مفاد الآية ، وأمّا إذا قلنا بأنّ علمهم بالغيب على حسب مشيئتهم بحيث لو شاؤوا علموا ، ولو لم يشاؤوا لم يعلموا (1) فينقطع الإشكال من أصله فإنّ مثلهم بالنسبة إلى الحوادث القادمة علیهم السلام كمثل الذي اُلقي عليه سؤال وبيده كتاب ، فيه جوابه لو رجع إليه علم ، وإذا لم يرجع إليه لم يعلم ، أو مثل الفقيه الذي له ملكة الاجتهاد ، واستنباط الأحكام عن أدلّتها ، أو الطبيب البارع الذي له قدرة التشخيص والعلاج ، أو العالم الرياضي القادر على حل المعادلات الجبرية فإنّهم إذا شاؤوا علموا وأجابوا عن السؤال ، ورفعوا الستار عن مجهولهم بالرجوع إلى ملكاتهم العلمية ، فلا ينافي عدم استحضارهم جواب السؤال ، مع امكان اطلاعهم عليه إذا شاؤوا ، وعلى ذلك فكل ما أصابهم شر وكل ما فاتهم خير فيمكن أن يكون ممّا لم يشاؤوا أن يعلموه.

قال العلاّمة الطباطبائي : « قد ورد في بعض الأخبار ، وسياق التفسير لسائرها أنّهم علیهم السلام إذا شاؤوا علموا ، وإذا لم يشاؤوا لم يعلموا ، ويتحصل منه أنّ لهم بحسب مقام نورانيتهم علماً بالفعل بكل شيء ، وأمّا بحسب الوجود العنصري الدنيوي فهم إذا شاؤوا علموا ، بفضل الاتصال بمقام النورانية باذن اللّه ، وأمّا إذا لم يشاؤوا لم يعلموا.

ص: 445


1- وقد عقد الكليني باباً خاصاً لأحاديثه ، غير أنّ ما رواه في هذا الباب ضعيف السند لاحظ الكافي ج 1 ص 258.

وعلى هذا يحمل ما ورد في بعض القصص والسير المأثورة عنهم ممّا ظاهره أنّهم ما كانوا على علم بما كان يستقبلهم من الحوادث فلا تغفل » (1).

الجواب الثالث :

ما تفضل به سيدنا العلاّمة الطباطبائي ( رضوان اللّه عليه ) عندما عرضنا عليه هذا السؤال ، فألّف في جوابه رسالة موجزة في ثمان صفحات على القطع الصغير باستدعاء منّا ، ونحن نقتطف منه مايلي بتصرّف يسير :

لما كان علمهم علیهم السلام هذا بالحوادث علماً بها بما أنّها واجبة التحقق ، ضرورية الوقوع ، لا تقبل بداء ، ولا تحتمل تخلفاً ، كما في الأخبار ، فلا تأثير لهذا العلم الذي هذا شأنه في فعل الانسان ، وتوضيحه يكون ببيان اُمور :

1. انّ من المقرر عقلاً ، وقد صدقه الكتاب والسنّة ، أنّ كل ظاهرة وحادثة تحتاج في تحققها إلى علّة ، ثمّ إنّ العلّة التي يتوقّف عليها وجود الشيء ، تنقسم إلى ناقصة وتامة ، والتامة منها ما يتوقف عليه وجود الشيء ، بحيث يجب وجوده بوجودها ، وعدمه بعدمها ، والناقصة منها ، وإن كان يتوقف عليه وجود الشيء أيضاً ، ويجب عدمه بعدمها ، إلاّ أنّه لا يجب وجود الشيء بوجودها.

2. إنّ الحادثة لا تتحقق إلاّ وهي موجبة بإيجاب علّتها التامة ومحتمة بحتمية منها ، وكذا الكلام في علتها حتى ينتهي إلى الواجب بالذات تبارك وتعالى. فالعالم مؤلّف من سلسلة من الحوادث ، كل حلقة من حلقاتها واجبة الوجود ، بعلّة تسبقها وإن كانت ممكنة بالقياس إلى أحد أجزاء علّتها العرضية أو أحد عللها الطولية.

3. هذه الوجوبات المترتبة ، الواقعة في سلسلة الحوادث هي نظام القضاء الحتمي الذي ينسبه اللّه سبحانه إلى نفسه ويقول : ( لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً ) ( الأنفال - 42 ) ، وقال : ( وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ) ( مريم - 21 ).

ص: 446


1- عن رسالة خطية له رحمه اللّه نحتفظ بنسخة منها.

4. إنّ للعلم أثراً في انتخاب أحد الأمرين من الفعل والترك وجلب النفع ودفع الضرر ، فالانسان الفاعل بالعلم والإرادة ، إنّما يقصد ما علم أنّه يفيده ، ويهرب ممّا علم أنّه يضره ، فللعلم تأثير في انتخاب أحد الفعلين وفي فعل شيء أو تركه.

5. علم الانسان بالخير والنفع وكذا علمه بالشر والضرر في الحوادث المستقبلة إنّما يؤثّر إذا تعلّق بأمر ممكن غير مقضي ، وذلك مثل أن يعلم الانسان أنّه لو حضر مكاناً كذا ، في ساعة كذا ، من يوم كذا ، قتل قطعاً ، فلهذا العلم تأثير خاص في ترك الحضور في المكان المعين ، تحرّزاً من القتل ، وأمّا إذا تعلّق العلم بالضرر مثلاً من جهة كونه ضروري الوقوع واجب التحقق ، كما إذا علم أنّه في مكان كذا ، ساعة كذا ، من يوم كذا ، مقتول لا محالة بحيث لا ينفع في دفع القتل عنه عمل ، ولا تحول دونه حيلة ، فإنّ مثل هذا العلم ، لا يؤثر في الانسان شيئاً ولا يبعثه إلى نوع من التحرز والالتقاء لفرض علمه بأنّه لا ينفع فيه شيء من العمل فهذا الانسان مع علمه بالضرر المستقبل ، يجري في العمل مجرى الجاهل بالضرر.

إذا علمت ذلك ثمّ راجعت الأخبار الناصة على أنّ الذي علمهم اللّه تعالى من العلم بالحوادث التي لا بداء فيه ولا تخلف ، ظهر لك اندفاع ما أورد على القول بعلمهم بعامة الحوادث ، من أنّه لو كان لهم علم بذلك لاحترزوا مما وقعوا فيه من الشر ، كالشهادة قتلاً بالسيف أو بالسم ، لحرمة إلقاء النفس في التهلكة.

وجه الاندفاع أنّ علمهم بالحوادث علم بها من جهة ضرورتها كما هو صريح نفي البداء عن علمهم (1) والعلم الذي هذا شأنه لا أثر له في فعل الانسان ببعثه إلى نوع من التحرز ، وإذا كان الشر بحيث لا يقبل الدفع بوجه من الوجوه ، فالابتلاء به وقوع في التهلكة لا القاء فيها ، قال تعالى : ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ

ص: 447


1- يشير رحمه اللّه إلى ما روي عن أبي جعفر علیه السلام : العلم علمان فعلم مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، وعلم علّمه ملائكته ورسله فما علّمه ملائكته ورسله ، فإنّه سيكون لا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء الكافي باب البداء ج 1 ص 148.

الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) ( آل عمران - 154 ).

ولما كان ما ذكره في مقام الاجابة موجزاً كمال الايجاز أوضحنا ما أفاده بأمرين :

1. ما سمعناه منه رضوان اللّه عليه شفاهاً.

2. ما حرّره بقلمه حول السؤال في رسالة فارسية فها نحن نقدم ما سمعناه منه شفاهاً ثم نتبعه بما جاء في رسالته الخاصة.

أمّا الأوّل فنقول :

إنّ علم النبي بالمغيبات لو كان من عند نفسه يجب أن يكون مستنداً إلى امارات وقرائن تثير في نفسه القطع والعلم بأنّه لو شرب هذا السم يهلك قطعاً فالعلم في هذا القسم يتعلق بقضية شرطية ، بحيث لو تحقق الشرط لتحقق الجزاء ، فإذا وقف الانسان على علم هذا شأنه ، لاحترز عن اقترافه بحكم الغريزة الانسانية وليدفع عن نفسه السوء والشر ، فأصبح خلوّاً من كلّ مكروه.

وإن شئت قلت إنّ العلم في هذا النوع يتعلّق بالحوادث من جهة امكانها لا من جهة ضرورتها ، كما مثل به رحمه اللّه : « من أنّه لو حضر مكاناً كذا ، في ساعة كذا من يوم كذا لقتل » وعند ذاك يختار ترك الحضور أخذاً بواحد من طرفي الامكان وهو الذي فيه نجاته ونجاحه.

وأمّا إذا كان علمه صلی اللّه علیه و آله مفاضاً ومستفاداً من جانبه سبحانه فبما أنّ ما علمهم اللّه لا بداء فيه ولا تخلف ، وهو ممّا يتحقق قطعاً فلا محالة يسير النبي حسب ما أوحى اللّه إليه ولا يقدر أن يتخلّف عنه قدر شعرة فيصيبه من الخير والشر ما قضي عليه بضرورة وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) من عند نفسي ( لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ ) واخترت أنفع الاُمور وأصلحها ( وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) واحترزت عن اقتراف المضار ، بحكم الغريزة الانسانية التي تدعو إلى صيانة النفس عما يضرّها ويؤذيها ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى ) فأسير ، حسب ما اُوحي إليّ ، وهو ليس خبراً

ص: 448

يقبل الكذب أو الخطأ ، بل هو خبر قطعي الثبوت فيصيبني من الخير والشر ما قضى وقدر (1).

وعلى ذلك ، لا يكون ، مس السوء دليلاً على عدم علمه بالغيب ، فإنّه لا أثر للعلم وعدمه في هذا النوع في الاجتناب والاتقاء.

غير أنّ القارئ الكريم بعد ما أمعن النظر في هذا الجواب يجب عليه أن يلاحظ أمرين :

1. أنّ العلم العادي كما يمكن أن يتعلق بالقضية من ناحية امكانها - فيصح فعل الشيء وتركه - كذلك يمكن أن يتعلق بها من جهة ضرورتها ، كأن ينكشف له بأحد الأسباب بأنّه يموت في وقت كذا ، ويهلك في زمن كذا فلا ينحصر العلم غير المفاض على قسم واحد ولعله رحمه اللّه يلتزم بذلك.

2. إنّ القول بأنّ علمهم بالحوادث ممّا لا بداء فيه ولا تخلف ، وإن دلّت عليه بعض الأحاديث ولكن يظهر من كثير منها وقوع البداء في ما وصل إليهم علمه أيضاً.

ثم إنّ الاستاذ عمل رسالة خاصة باللغة الفارسية قد أوضح فيها ما قصده من الجواب ونحن نقتطف منها ما يمس بالمقام :

1. إنّ علم الإمام الخاص ليس له أثر في أعماله ولا يرتبط بتكاليفه الخاصة لأنّ كل شيء تعلّق به القضاء الحتمي ، وكان ضروري الوقوع لا يتعلق به الأمر والنهي ولا الإرادة والقصد من تلك الجهة ، نعم يكون هذا الشيء الذي تعلق به القضاء الحتم مورداً لرضا العبد بهذا القضاء الالهي وذلك كما قال الحسين علیه السلام في اللحظات الأخيرة من حياته وهو صريع على الأرض ، مضمّخ بالدم : « رضى بقضائك وتسليماً لأمرك لا معبود سواك » وكما قال علیه السلام حين أراد الخروج من مكة : « رضا اللّه رضانا أهل البيت الخ ».

2. من الممكن أن يتصور البعض بأنّ العلم القطعي بالحوادث التي لا تقبل

ص: 449


1- ما أوضحناه به كلامه ، سمعناه منه شفاهاً.

التغيير والتبديل يستلزم القول بالجبر في الأفعال ، فلو فرض أنّ الإمام علیه السلام علم أنّ شخصاً معيناً سيقتله في ظرف معين ، بحيث لا يقبل هذا الحدث التغيير أبداً ، فلازم هذا الفرض أن لا يكون للقاتل اختياراً على تر ك القتل ، فهو إذن مجبور على قتل هذا الإمام ، فلا تكليف ولا عقاب حينئذ على هذا القاتل ، ولكن هذا التصور باطل لما يلي :

أ. إنّ هذا الإشكال في الواقع ليس إلاّ إشكالاً على شمول القضاء الالهي لأفعال الانسان الاختيارية أيضاً ، وليس هو إشكالاً على علم الإمام بالغيب ، ولأجل ذلك الإشكال منع المعتزلة شمول القضاء الالهي للأفعال الاختيارية للانسان زاعمين أنّ الانسان هو الذي يخلق أفعاله استقلالاً وبالتالي فهو خالق لأفعاله واللّه تعالى خالق بقية الأشياء ، في حين نجد النص القرآني والأخبار المتواترة عن النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل البيت تعتبر كل الموجودات وكل الحوادث الكونية بلا استثناء مشمولة لقضاء اللّه وقدره ، كما أنّ هذا الأمر ثابت من طريق العمل أيضاً ، وإن كنّا لا نستطيع بحثه في هذا المقال المختصر لسعة أطرافه.

والذي نستطيع أن نقوله بإجمال هو : أنّه لا يوجد شيء في هذا الكون إلاّ بمشيئة اللّه تعالى وإذنه ، وحتى أفعال الانسان الاختيارية تعلّقت بها المشيئة على أن تصدر بإرادة نفس الانسان واختياره ، فمثلاً : انّ اللّه أراد أن يصدر فعل معين من انسان مخصوص ولكنّه تعالى أراد في نفس الوقت صدور هذا الفعل المعيّن من الانسان المخصوص باختيار من الانسان وإرادة ، ومن البديهي أنّ هذا الفعل المعيّن مع وصفه الخاص ضروري الوقوع ، رغم أنّه اختياري للانسان لأنّه لو لم يكن اختيارياً لتخلفت إرادته تعالى عن مرادها : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .

ب. ومع غض النظر عمّا تقدم الآن فإنّ اللّه تعالى - كما نعلم جميعاً - خلق لوحاً محفوظاً أثبت فيه جميع الحوادث الماضية والقادمة للعالم ولا مجال للتغيير فيه أبداً ، فإذا كان علم اللّه تعالى السابق بهذه الحوادث كما أثبتها اللوح المحفوظ لا تستلزم أن يكون الانسان مجبوراً في أفعاله ، فكيف يكون علم الإمام السابق ببعض هذه الحوادث أو

ص: 450

بجميعها مستلزماً لأن يكون الانسان مجبوراً في أفعاله الاختيارية والتي منها عملية قتل الإمام المعينة مثلاً ؟

3. بعض الأعمال التي تصدر من الإمام وهي موافقة للأسباب الظاهرية لا يمكن أن نعتبرها دليلاً على جهل الإمام بالواقع وفقدانه لموهبة العلم التي أثبتناها له كأن يقال :

لو كان الحسين علیه السلام يعلم حقاً مستقبل أمره فلماذا بعث مسلماً إلى الكوفة رسولاً عنه ؟

ولماذا أرسل مع الصيداوي كتاباً إلى أهل الكوفة ؟ ولماذا خرج من مكة متوجهاً نحو الكوفة ؟ ولماذا ألقى بنفسه في التهلكة ؟ واللّه تعالى يقول : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ولماذا ؟ والخ.

وتتضح الاجابة عن كل علائم الاستفهام هذه بالحقيقة التي ذكرناها قبل لحظات وهي : أنّ الإمام لم يعمل في هذه المواضع ونظائرها إلاّ بالعلم الذي يحصل لديه بالوسائل العادية وعن طريق الأدلة والشواهد الظاهرية ، فلم يبذل أي جهد لدفع الخطر الواقعي المعلوم عن نفسه لأنّه علم أنّ أي جهد من هذا القبيل هو عبث لأنّ القضاء الحتمي قد تعلق بهذا الأمر كما يقول تعالى في سورة آل عمران في شأن اولئك الذين قالوا في حق أصحابهم يوم اُحد : ( لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ) ( آل عمران - 156 ) يقول اللّه في حقهم : ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) ( آل عمران - 154 ).

القسم الثاني من علم الإمام - العلم العادي :

إنّ النبي أو الإمام من العترة الطاهرة ليسوا إلاّ بشراً حسب نص القرآن الكريم والأعمال التي تصدر من الإمام هي كالأعمال التي تصدر من غيره من الناس تستند إلى اختياره وعلى أساس علمه العادي ، أنّ الإمام كغيره يميّز الخير والشر ، ومدى النفع والضرر في الأعمال عن طريق الأسباب الطبيعية والوسائل العادية ثم تحدث عنده إرادة

ص: 451

العمل الذي يراه صالحاً ونافعاً ، ثم يسعى للقيام به وتحقيقه ، فحين تكون العوامل الخارجية مساعدة ، ومنسجمة مع بعضها يستطيع تحقيق الأمر الذي يريده ، وبغير ذلك يخفق في تحقيق الهدف الذي يريده ( وقد مرّ أنّ وقوف الإمام على جميع الحوادث الجزئية ما مضى منها وما يأتي باذن اللّه لا تؤثّر في مجرى أعماله الاختيارية ) أنّ الإمام كسائر الناس العاديين عند اللّه وهو مثلهم مكلّف بالتكاليف الدينية من قبل اللّه تعالى ونظراً لمنصبه القيادي الذي اُعطى من قبل اللّه يجب عليه أن يعمل بتكاليفه المقررة عليه من قبل اللّه كإمام ، وفقاً للموازين العادية للبشر ، ويبذل كل ما في وسعه لإحياء كلمة الحق واقامة منهج الدين والعدل.

الجواب الرابع :

إنّ الأنبياء والأئمة مع تميّزهم عن الغير بشخصياتهم الربّانية وقوّة الولاية التي منحت لهم ( ذلك أنّ شطراً من شخصياتهم قائمة على المواهب الالهية والشطر الآخر حصل نتيجة الجهود التي بذلوها للقرب من المولى تعالى ) أنّهم مع ذلك كانوا يعملون وفقاً لعلومهم العادية حيث يواجهون حوادث الحياة المختلفة ، على صعيد شخصي ، أو على صعيد اجتماعي كمسائل القضاء والحكم بين الناس مثلاً ، أنّهم مع علمهم الكامل بالحوادث الجزئية في ظلال موهبة الولاية ، ومعرفتهم بعلل الحوادث وتفاصيلها لارتباطهم بما وراء الطبيعة ، أقول : إنّهم مع ذلك لم يستفيدوا من علومهم تلك في قضاياهم الشخصية ولا في الاُمور التي ترتبط بالمجتمع وذلك لمصالح وحكم خاصة.

وبتعبير آخر : لم يحل النبي والإمام مشاكلهما الحياتية عن طريق الانتفاع من سلاح الغيب ، ولم يقطعا دابر الحوادث المرّة بالقضاء على عللها التي اطلعوا عليها عن طريق الغيب ، كذلك ولم يحلاّ خلافات الناس وخصوماتهم بالعلم الغيبي ، لقد اُخبر النبي صلی اللّه علیه و آله وهو في المسجد عن شدة مرض ابنه العزيز إبراهيم فعاد إلى البيت ليحتضن

ص: 452

ولده العزيز ويحدق في وجهه النظر قائلاً : تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون (1).

كان النبي صلی اللّه علیه و آله يملك ثلاثة ألوان من سلاح الغيب في كل أدوار رسالته وكان يتمكن بواسطتها من تغيير الوضع كيفما يريد ، عند مواجهته للمصاعب ، وعند حدوث اللحظات الخطيرة ولكنّه لم يستعمل هذا السلاح في أغلب الأوقات ، وكانت ألوان السلاح الغيبي متمثلة في الاُمور التالية : 1. المعجزة. 2. استجابة دعائه. 3. علم الغيب.

كان النبي الكريم صلی اللّه علیه و آله يتمكن عن طريق الاعجاز والولاية التكوينية التي ملكها من قبل اللّه تعالى أن يهب السلامة والعافية لولده العزيز إبراهيم ( وذلك كالولاية التكوينية التي ملكها عيسى علیه السلام وكان بها يحي الميت ويبرئ الأكمه والأبرص ) وكان يستطيع أيضاً ببركة دعائه المستجاب الذي منح له من قبل اللّه تعالى أن يدعو اللّه ويغيّر حالة ولده ، وينقذه من الموت ، وكان يقدر كذلك - عن طريق معرفته بالغيب - أن يمنع من عوامل المرض قبل أن تتسرب إلى جسم ولده العزيز لئلاّ يبتلى ولده بالمرض ، أو يختار لولده الأدوية الناجعة لتخليصه من المرض وذلك عن طريق اطلاعه على الغيب. كان يتمكن صلی اللّه علیه و آله على هذا ومثله ولكنّه رغم ذاك لم يستفد من هذه الأسلحة الغيبية التي كانت في يده لدفع الأضرار المرتقبة عنه وعن اسرته ولم يخط إلاّ في ظل المجاري الطبيعية للحياة ، ذلك لأنّ هذه الأسلحة ، أو الأسباب الغيبية إنّما اُعطيت للنبي صلی اللّه علیه و آله ليستفيد منها في اثبات رسالته وولايته الالهية حين يقتضي الأمر ذلك ، وإمّا الاستفادة منها في غير ذلك المجال فغير مأذون.

ومن المحتمل أن يكون أحد الأسباب التي تمنع النبي أو الإمام من الانتفاع من هذه السبل لجلب الخير أو لدفع الشر هو : أنّ استعمال هذه الأسباب الغيبية يقضي على الآثار العملية لدعوتهم ، لأنّه لا شك أنّ حياة القادة بما تحمل في طياتها من صبر وتحمّل

ص: 453


1- راجع بحار الأنوار ج 22 ص 157 والسيرة الحلبية ج 3.

للمشاق ، واستقامة وفداء في ساحة الجهاد ، منار ساطع لأتباعهم.

فإذا افترضنا أنّ النبي أو الإمام يدفع عن نفسه وعن اسرته الأخطار في معترك الحوادث بواسطة الإعجاز أو الدعوة المستجابة أو معرفته بما وراء الطبيعة ، فيهب السلامة لولده - مثلاً - عن طريق الإعجاز أو يستفيد من دعائه المستجاب أو معرفته الغيبية لاعادة السلامة إلى ولده ، فإنّه حينئذ لا يستطيع أن يمنح الآخرين من أتباعه النصح على تحمل المصائب والتسليم لقضاء اللّه تعالى ، ولو أنّه استفاد من هذه الأسباب الغيبية في ساحة الجهاد في سبيل اللّه فحصّن نفسه عن وصول سهام العدو إليه وأبعد كل خطر مرتقب عن نفسه وعن أهل بيته المقرّبين بواسطة تلكم الأسباب فحينذاك لا يمكنه أن يدعو الناس إلى تحمل الألم والعناء في سبيل اللّه لأنّهم - حتماً - سيعرضون عليه قائلين : إنّ الشخص الذي يدعونا إلى هذه المناهج الخلاّقة والمبدعة يجب أن يكون نفسه مثالاً رائعاً لهذه المناهج الرائعة. انّ الشخص الذي لا مفهوم عنده للألم والعناء ، ولا تمسّه الكوارث طيلة حياته لا يستطيع أن يكون قدوة الاُمم ومنار الحياة للآخرين.

ولهذا - ولجهات اُخرى ليس هنا مجال عرضها - نجد أنّ الشخصيات الالهية كغيرهم يبذلون شتى الوسائل الطبيعية ، ويسعون جاهدين لدفع الأخطار والمصائب عن أنفسهم ، عند ما يواجهونها ، وقد يخفقون في سعيهم بسبب عدم وجود الوسائل الطبيعية بالقدر المطلوب. إنّنا حين نرى عدم الاختلاف بين سلوك المعصومين في الحياة وسلوك الناس العاديين ، أي أنّهم كانوا حين يمرضون يستعملون الدواء للعلاج ولاعادة السلامة كالآخرين ، ويستعملون كل الوسائل الطبيعية والعلوم العادية في القضايا الاجتماعية وفي ساحة الجهاد كغيرهم ، ويعينون أشخاصاً لنقل مختلف الأخبار إليهم وإلى غير ذلك. كل ذلك لأنّ الأسباب الغيبية ما كان يجوز لهم استعمالها إلاّ في مواضع خاصة.

وهناك شواهد تؤيّد ما قلناه ، فقد روي أنّ عبيد اللّه بن أبي رافع كان مديراً لبيت المال أيام الإمام أمير المؤمنين علیه السلام وحين أرسل الإمام علیه السلام ( أبا موسى

ص: 454

الأشعري ) إلى دومة الجندل للحكم في ق - ضية الحكمين يوم صفّين أوصاه الإمام علیه السلام قائلاً : « احكم بكتاب اللّه ولا تجاوزه » ، فلمّا أدبر قال علیه السلام : « وكأنّي به وقد خدع ». يقول ابن أبي رافع : قلت للإمام علیه السلام : فلمَ توجهه وأنت تعلم أنّه مخدوع ؟ فأجابه الإمام علیه السلام قائلاً : يا بني لو عمل اللّه في خلقه بعلمه ما احتج عليهم بالرسل (1) أنّه تعالى كان يعلم أنّ طائفة من الناس يستوي عندهم بعث الأنبياء وعدم بعثهم ، أنّهم لا يؤمنون سواء أأرسل إليهم رسول أم لا ومع ذلك فقد أرسل إليهم أنبياء. انّ الإمام علیه السلام حين يشير في جوابه هذا إلى علم اللّه غير القابل للخطأ كأنّه يبيّن هذه النقطة وهي : على أن أعمل في الحياة بمقتضى العلل والعوامل الطبيعية ، ولست أعمل وفقاً لما أعلمه من الغيب.

وهكذا نرى الأئمّة علیهم السلام في الأحاديث المنقولة عنهم يؤكدون على أنّ طريق قضائهم وحكمهم بين الناس هي الأسباب العادية كالشهادة واليمين لا علومهم الغيبية وذلك كما يروي الإمام الصادق علیه السلام عن الرسول صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » ، وأمّا ما ورد في بعض الروايات من جواز أن يحكم الإمام بعلمه في مجال اجراء الحدود فالمقصود منه هو العلم الذي يحصل عليه من الطرق العادية والأسباب الظاهرية كأن يرى الإمام بعينه شخصاً يشرب الخمر ، لا حظوا الرواية التالية : « الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب خمراً أن يقيم عليه الحد ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره لأنّه أمين اللّه في خلقه » (2) هذه الرواية تدلّ على أنّ المقصود من عمل الإمام بعلمه هو علمه العادي والطبيعي كما دلّت عليه لفظة « نظر » في الرواية. وإذا لاحظنا أيضاً المسائل القضائية التي وقعت في عصر الإمام أمير المؤمنين لرأينا بوضوح أنّ الإمام علیه السلام لم يحكم بين الناس استناداً إلى علمه الخاص عن القضية أبداً بل

ص: 455


1- المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 261.
2- وسائل الشيعة ج 18 ص 344 ، نعم للإمام أن يحكم بعلمه العادي في الحقوق الالهية فقط ويقيم الحد على مرتكب الجريمة ، ولا يجوز له العمل بعلمه في حقوق الناس كأن يرى شخصاً يسرق من آخر والمسألة معنونة في الفقه فراجع الجواهر.

كان يسعى سعياً حثيثاً معداً بعض المقدّمات التي تجعل الخصمين المدّعي والمنكر يعترفان بالواقع أمامه ثم يقضي بينهما.

ويقول السيد الطباطبائي في ( ملحقات العروة الوثقى ) حين يقول : يجوز للقاضي أن يعمل بعلمه في حل دعاوى المتخاصمين نقصد بذلك العلم الحاصل عن الطرق العادية لا العلم الحاصل عن طريق الرمل والجفر وغيرهما (1).

ولكن الذي يستفاد من الروايات أنّ الإمام المهدي ( عج ) هو الذي يحكم بين الناس بعلمه حين ظهوره فقط وذلك كما حكم نبي اللّه داود علیه السلام ويقول الإمام الباقر علیه السلام في هذا الصدد : « إذا قام قائم آل محمد حكم بحكم داود علیه السلام لا يسأل عن بيّنة » (2).

هذا وقد طال بنا الوقوف في المقام وذلك لقلع جذور الشبهة عن أذهان الشباب ، وإن كان أعداء آل البيت يبثّون كل يوم جذور الشك ولكن نور المعرفة لا يفتأ متبلجاً ، والحقائق الراهنة لا تزال متأرجة وسحب الشبه وإن أطلّت على الاُمّة ردحاً من الزمن ، لكنّها تكتسح بشمس المعرفة.

أراها وإن طالت علينا فإنّها *** سحابة صيف عن قليل تقشع

نعم قام لفيف من علمائنا بتأليف كتب ثمينة حول علم النبي والإمام سدوا بها الفراغ بعض السد ودونك ما وقفنا عليه :

1. المعارف السلمانية بمراتب الخلفاء الرحمانية ، طبع بإيران على الحجر عام 1313 هجرية قمرية للعلاّمة السيّد عبد الحسين النجفي الشيرازي ( قدّس اللّه سرّه ) له ترجمة ضافية في طبقات أعلام الشيعة ج 3 ص 1048.

2. الالهام في علم الإمام ، للعلاّمة الشيخ محمد علي الحائري السنقري طبع في

ص: 456


1- ملحقات العروة ج 2 ص 31.
2- وسائل الشيعة ج 18 ص 168.

النجف عام 1370.

3. علم الإمام ، للعلاّمة الحجة المغفور له الشيخ محمد الحسين المظفر طبع بالنجف 1380 ه أضف إلى ذلك ما أفاده العلامة المجلسي في بحاره في غير موضع من مباحث الإمامة ، شكر اللّه مساعيهم.

4. رسالة فارسية في علم الإمام ، صنّفها المفكّر الإسلامي السيد محمد حسين الطباطبائي وانتشر سنة 1391 ه وله رسالة عربية صغيرة في هذا الموضوع أيضاً مخطوطة نحتفظ منها بنسخة.

السؤال الثالث : مشكلة المشاركة مع اللّه :

تمسك بهذه الشبهة في سلب العلم بالغيب من غيره سبحانه « عبد اللّه القصيمي » فقال رداً على عقيدة الشيعة في علم الأئمّة بالغيب : « فالأئمّة يشاركون اللّه في هذه الصفة صفة علم الغيب وعلم ما كان وما سيكون ، وأنّه لا يخفى عليهم شيء والمسلمون كلهم يعلمون أنّ الأنبياء والمرسلين أنفسهم لم يكونوا يشاركون اللّه في هذه الصفة والنصوص في الكتاب والسنّة وعن الأئمّة في أنّه لا يعلم الغيب إلاّ اللّه متواترة لا يستطاع حصرها في كتاب ، وهذا غني عن الإدلاء بشواهده ، ومن المؤسف المخجل لعمر اللّه أن يزعموا أنّ الأئمّة يعلمون الغيب » (1).

الجواب :

هذه شبهة تافهة لا تستحق الرد والبحث ، وكتابه هذا مملوء بالسب والطعن لأعلام الشيعة بما ينزه اليراع عن نقله ونحن نمرّ عليه مرّ الكرام وخفي عليه أنّ بين العلمين بوناً شاسعاً فإنّ اللّه سبحانه عالم بالغيب بذاته ، وغيره مطلع عليه باظهار منه

ص: 457


1- الصراع بين الإسلام والوثنية ج 1 اُنظر المقدمة.

وأي تجانس بين العرضي والذاتي والمحدود وغير المحدود وأي صلة بين الأصيل في علمه ، المرسل في إدراكه وبين المتدلي في ذاته وعلمه ، الفقير في كلّ شأن من شؤونه حتى في علمه هذا فلو استلزم ذلك شركاً لزم أن يكون توصيف الممكن بالحياة والقدرة والسمع والبصر مما يجري على اللّه سبحانه أيضاً شركاً.

السؤال الرابع :

إنّ ما تقدم من الآيات لا تدل على أكثر من اطلاع النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله على الغيب ، فما الدليل على اطلاع غيره على الغيب ؟

الجواب :

انّ هناك روايات متضافرة تدلّ على أنّ لأئمّة أهل البيت علیهم السلام حظاً وافراً في هذا المجال ، ويدل على ذلك :

أوّلاً : الأخبار الغيبية التي وردت في نهج البلاغة وسيوافيك بعضها في هذه الصحائف وهي تدل بوضوح على معرفة علي علیه السلام واطلاعه على الغيب.

ثانياً : الأخبار الغيبية الواردة عن أئمّة أهل البيت التي ملأت كتب علمائنا الأبرار فهذا هو الشيخ الحرّ العاملي أتى في كتابه القيم « إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات » كثيراً من الأخبار الغيبية المروية عن الأئمّة علیهم السلام ، ودونك احصاء ما نقله عن الحسن السبط المجتبى وغيره من الأئمّة حتى ينتهي إلى الإمام الثاني عشر فقد نقل عن الحسن بن علي المجتبى علیه السلام أزيد من عشرة أحاديث ومثله عن الإمام السبط الحسين علیه السلام ، ونقل عن الإمام سيد الساجدين عشرين حديثاً وعن الإمام الباقر علیه السلام خمسين حديثاً ، وعن الإمام الصادق علیه السلام مائة وخمسين حديثاً ، وعن الإمام الكاظم علیه السلام ثمانين حديثاً ، وعن الإمام الرضا علیه السلام مائة وثلاثين حديثاً ، وعن الإمام الجواد علیه السلام أزيد من ثلاثين حديثاً ، وعن الإمام الهادي

ص: 458

علیه السلام قرابة خمسين حديثاً ، وعن الإمام الحسن العسكري علیه السلام أزيد من ثمانين حديثاً ، وعن الإمام القائم علیه السلام أزيد من مائة حديث.

نعم لقد تكرر مضمون بعض الروايات ومع ذلك فإنّ الباقي يشكل مجموعة كبيرة من الإخبارات الغيبية التي فيها الكفاية لمن تأمّل.

ثالثاً : إنّ الروايات تضافرت عنهم علیهم السلام بأنّ الأئمّة ورثوا علم النبي صلی اللّه علیه و آله وجميع الأنبياء والأوصياء الذين سبقوهم (1).

وأنت إذا لاحظت كتاب الحجة من الكافي في مختلف أبوابها تقف على أنّ الأئمّة علیهم السلام وقفوا على علوم غيبية لم يعرفها غيرهم فلاحظ الأبواب التالية :

1. انّ الأئمّة شهداء اللّه على خلقه.

2. انّ الأئمّة قد اُوتوا العلم واُثبت في صدورهم.

3. انّ الأئمّة اصطفاهم اللّه من عباده وأورثهم كتابه.

4. انّ الأئمّة معدن العلم وشجرة النبوّة.

5. انّ الأئمّة ورثة العلم يرث بعضهم بعضاً العلم.

6. انّ الأئمّة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم إلى غير ذلك من الأبواب التي وردت فيها كيفية علومهم وكميتها.

فعلى القارئ الكريم أن يرجع إلى هذه الأبواب.

السؤال الخامس :

لا شك أنّ النبي الأعظم والأئمّة من أهل البيت ، قد تنبّأوا بكثير من المغيبات التي كانت الفراسة والتكهن تقتضيان خلافها ، غير انّا نراهم في بعض المقامات يتحاشون عن نسبة العلم بالغيب إليهم ، فما وجه ذلك ؟

ص: 459


1- لاحظ الكافي ج 1 ص 223 - 226.
الجواب :

انّ الناظر في هذه الروايات يقف على أنّ المتبادر من العلم بالغيب في تلك العصور كان هو العلم الاستقلالي الذاتي الذي يختص باللّه سبحانه ، فهم علیهم السلام لصيانة شيعتهم عن الغلو والشرك ، أو لدفع أعدائهم ، صرّحوا بأنّ ما يخبرون عنه من الفتن وملاحم أحداث ليس بعلم غيب بل وراثة من رسول اللّه أو تعلّم من ذي علم إلى غير ذلك ممّا لا ينافي ما أثبتناه من تحقق اطلاعهم على الغيب بعلم مفاض واعلام منه سبحانه ، ودونك ما وقفنا عليه من تلكم الروايات :

1. هذا أمير المؤمنين ، قد أماط الستر عن المسألة ، وعن علمه وعلم الأئمّة من بعده بالغيب ، وقد أخبر عن ملاحم (1) تحدث بالبصرة ، فاعترض بعض أصحابه وقال : « لقد اُعيطت يا أمير المؤمنين علم الغيب » ؟ فضحك علیه السلام وقال للرجل - وكان كلبياً - : « يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب وإنّما هو تعلّم من ذي علم ، وإنّما علم الغيب علم الساعة ، وما عدده اللّه بقوله : ( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... ) الآية.

فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر واُنثى وقبيح وجميل ، وسخي وبخيل ، وشقي وسعيد ، ومن يكون في النار حطباً ، أو في الجنان للنبيين مرافقاً ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ اللّه ، وما سوى ذلك ، فعلم علّمه اللّه تعالى نبيّه ، فعلّمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي » (2).

وهذا البيان من مولانا أمير المؤمنين علیه السلام لا يدع لقائل شبهة ، ويعطي أنّ العلم بالمغيبات ، إذا كان على وجه التعلّم من الغير ليس هو علم الغيب الذي لا يعلمه إلاّ اللّه بل ليس علماً بالغيب وإنّما هو إظهار من الغير.

2. هذا الإمام الطاهر موسى الكاظم علیه السلام قد كشف النقاب عن وجه الحقيقة حينما سأله يحيى بن عبد اللّه بن الحسن عن علمه بالغيب وقال : « جعلت فداك

ص: 460


1- سوف يوافيك لفظه.
2- نهج البلاغة الخطبة 124.

انّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب » ؟ فقال : « سبحان اللّه ، ضع يدك على رأسي ، فواللّه ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلاّ قامت ، ثم قال : لا واللّه ، ما هي إلاّ وراثة عن رسول اللّه » (1).

3. ما روي عن الإمام الصادق : أنّه خرج وهو مغضب فلمّا أخذ مجلسه قال : يا عجباً لأقوام يزعمون أنّا نعلم الغيب ، ما يعلم الغيب إلاّ اللّه عزّ وجلّ ، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت منّي ، فما علمت في أي بيوت الدار » (2) ، فهذه الرواية محمولة ومفسرة بما أوضحناه ، وما سيوافيك من الأحاديث فالمقصود نفي العلم الاصالي القائم بذاتهم غير المستند إلى غيرهم ، وأمّا أنّه علیه السلام همّ بضرب جاريته فهربت فما علم مكانها ، فيوجّه بوجوه :

أ. ما أسلفناه من كون علومهم على حسب مشيئتم وإنّهم إذا شاؤوا علموا.

ب. ما وافاك من أنّ هنا مراحل ثلاثة ، مرحلة الاطلاع ، مرحلة العمل ، مرحلة الإعلام ولكلّ منها ، مقتضيات وشرائط وموانع ، وأنّه لا يستلزم العلم بالشيء العمل به ، فلعلّه علیه السلام أراد أن يطلع على مكانها من الطرق العادية لا غيرها.

أضف إلى ذلك أنّ ذيل الرواية تفصح عمّا ذكرناه بوضوح ، ويعطي للإمام منزلة عظيمة ومكانة أرقى ممّن كان عنده علم من الكتاب ودونك لفظه : « قال سدير فلمّا أن قام من مجلسه وصار في منزله دخلت أنا وأبو بصير وميسر وقلنا له : جعلنا فداك سمعناك وأنت تقول كذا وكذا في أمر جاريتك ، ونحن نعلم أنّك تعلم علماً كثيراً ولا ننسبك إلى علم الغيب ؟ قال : فقال : يا سدير ألم تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى ، قال : فهل وجدت فيما قرأت من كتاب اللّه عزّ وجلّ : ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) ؟ ( النمل - 40 ).

ص: 461


1- رجال الكشي ص 352 - 353 ط الأعلمي ، ورواه شيخنا المفيد في أماليه في المجلس الثالث ص 114 بأدنى تفاوت.
2- الكافي ج 1 ص 257.

قال : قلت : جعلت فداك قد قرأته ، قال : فهل عرفت الرجل ؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب ؟ قال : قلت : اخبرني به ؟ قال : قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر فما يكون ذلك من علم الكتاب ؟ قال : قلت : جعلت فداك ما أقل هذا ، فقال : يا سدير ما أكثر هذا ، أن ينسبه اللّه عزّ وجلّ إلى العلم الذي أخبرك به يا سدير فهل وجدت فيما قرأت من كتاب اللّه عزّ وجلّ أيضاً : ( قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ؟ ( الرعد - 43 ).

قال : قلت : قد قرأته جعلت فداك ، قال : أفمن عنده علم الكتاب كلّه أفهم ، أم من عنده علم الكتاب بعضه ؟ قلت : لا ، بل من عنده علم الكتاب كلّه ، قال : فأوما بيده إلى صدره وقال : علم الكتاب واللّه كلّه عندنا ، علم الكتاب واللّه كلّه عندنا.

ج. أن يكون صدر الرواية وارداً على وجه التقية من النصاب والمخالفين لهم ولشيعتهم ، كما أنّهم ببغضهم وحسدهم على أمير المؤمنين ، إذا سمعوا ما لا يحتملونه ربّما اعترضوا بالسؤال عنه ، فيصدّهم بقوله : « إنّما هو تعلّم من ذي علم » كما نقلناه عن علي علیه السلام عند اخباره عن الفتن والملاحم في البصرة ، فإنّ طريق علمهم بالحوادث وغيرها ليس منحصراً بالوراثة ، كما هو ظاهر لمن راجع الأحاديث الواردة في باب علومهم ، وإنّما الوراثة أحد هذه الطرق ، غير أنّ إسناد علمهم عند الاخبار بما لا تحتمله عامّة الناس إليها كان يصدهم عن الاعتراض عليه.

ثمّ إنّ العلاّمة الشيخ محمد الحسين المظفر ، أجاب عن حادثة الجارية وإنكاره علیه السلام على من يقول بأنّهم يعلمون الغيب بوجهين : ثانيها ما قدمناه أخيراً قال : « إنّهم علیهم السلام أعلم الناس بالناس وأعرفهم بضعف عقولهم ، وعدم تحملهم فلو إنّهم كانوا يتظاهرون دوماً ، بما منحوا من ذلك العلم ، لأعتقد بهم أهل الضعف بأنّهم أرباب أو غير ذلك ممّا يؤوّل إلى الشرك ، ولقد اعتقد بهم ذلك ، كثير من الناس ، من البدء حتى اليوم ، على أنّهم كانوا ينفون عنهم تلك المقدرة وذلك العلم أحياناً ولم يكونوا بأهل السلطة ليقيموا أود الناس بالتأديب بعد الوعظ والزجر كما سبق لأمير المؤمنين

ص: 462

علیه السلام مع بعض أصحابه ».

وقال : « بل كانوا غرضاً لفراعنة أيامهم ، وهدفاً لنبالهم ولم يكونوا بذلك المظهر عندهم ، فلو تظاهروا بتلك الخلة ، كيف ترى يحمل الحسد اُولئك الطواغيت ، على الفتك بهم وهم المحسودون على ما آتاهم اللّه من فضله وأي حائل يحجز عمّا يريدونه بهم وبأوليائهم ، وأنّهم لم يطلعوا أعدائهم ولا سواد أوليائهم على جميع ما رزقوا من ذلك الفضل ، وقد لاقوا من المصائب والنوائب والحوادث والكوارث والوقائع والفجائع ، ما تشيخ منه شم الجبال وتشيب من هوله الرضّع ، ولو لم يكونوا رزقوا ذلك الجلد والصبر على قدر ما رزقوا من الفضل ، لما استطاع أن يحمل - ما تحمّلوه - بشر وهل مات أحد منهم حتف أنفه ، دون أن يتجرع غصص السم النقيع ، أو يصافح حدود الصوارم ويعتنق قدود الرماح ، هذا فوق ما يرونه من الهتك للحرمات وتسيير العقائل والسب والسلب والغصب للحقوق والتلاعب بالدين ، وتضييع أحكام الشريعة.

نعم لا يظهر بتلك المنح الالهية جميعها إلاّ الإمام المنتظر عجل اللّه فرجه ، لأنّه لا يخشى ذلك التسرّب إلى ضعاف البصائر ، لو صارح بما وهب من الفضل لقدرته على الردع والتأديب ، ولا يخاف حسد حاسد أو سطوة ظالم ، وهو صاحب السلطة والسيف » (1).

4. ما رواه الكشي عن عنبسة بن مصعب قال : قال لي أبو عبد اللّه علیه السلام : أي شيء سمعت من أبي خطاب ؟ قال : سمعته يقول : إنّك وضعت يدك على صدرك وقلت له عه ولا تنس. وأنّك تعلم الغيب و ... ، قال علیه السلام : واللّه ما مس شيء من جسدي إلاّ يده ، وأمّا قوله : إنّي قلت أعلم الغيب فواللّه الذي لا إله إلاّ هو ما أعلم الغيب فلا آجرني اللّه في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنت قلت له (2).

5. ما أخبره صائب البصائر عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه : جعلت فداك أي شيء هو العلم عندكم ؟ قال : ما يحدث بالليل والنهار ، الأمر بعد الأمر ، والشيء بعد

ص: 463


1- علم الإمام ص 48 - 49.
2- رجال الكشي ص 188.

الشيء إلى يوم القيامة (1) والحديث بصدد نفي العلم القديم عنهم علیهم السلام .

6. ما نقله صاحب البصائر باسناده عن ضريس قال : كنت مع أبي بصير عند أبي جعفر علیه السلام فقال له أبو بصير : بما يعلم عالمكم ، جعلت فداك ؟ قال : يا أبا محمد إنّ عالمنا لا يعلم الغيب ولو وكّل اللّه عالمنا إلى نفسه كان كبعضكم ولكن يحدث إليه ساعة بعد ساعة (2) وظهور الحديث فيما نرتئيه أغنانا عن البحث حوله.

7. ما خرج عن صاحب الزمان علیه السلام ردّاً على الغلاة من التوقيع جواباً لكتاب إليه على يدي محمد بن علي بن هلال الكرخي : يا محمد بن علي ، تعالى اللّه عزّ وجلّ عمّا يصفونه سبحانه وبحمده لسنا نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته بل لا يعلم الغيب غيره ، كما قال في محكم كتابه تبارك وتعالى : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) إلى أن قال : ... أشهدك وأشهد كلّ من سمع كتابي هذا أنّي برئ إلى اللّه وإلى رسوله ممّن يقول : إنّا نعلم أو نشارك اللّه في ملكه أو علينا محلاً سوى المحل الذي نصّبه اللّه وخلقنا له (3).

وفي التوقيع قرائن كثيرة تدل على أنّ المقصود من نفي علم الغيب هو العلم الاصالي الموجب لكونهم شركاء لله في علمه وملكه وقد أكد في التوقيع بأنّهم وجميع الأنبياء والمرسلين كلّهم عبيد لله عزّ وجلّ فراجع إلى غير ذلك ممّا يمكن أن يقف عليه المتتبع الخبير.

خاتمة المطاف :

قد سبق منّا في أوليات الفصل السابق (4) أنّ كلّ ما غاب عن الحس والشهود فهو غيب لا يقف عليه أحد إلاّ بإذن خاص من اللّه عزّ وجلّ وهو لا يظهره على أحد

ص: 464


1- بصائر الدرجات ص 94 ونقله المجلسي في بحاره ج 26 ص 60.
2- بصائر الدرجات ص 94 ، راجع البحار ج 26 ص 61.
3- الاحتجاج ج 2 ص 288 ط النجف.
4- راجع ص 347 - 350 من هذا الجزء.

إلاّ من إرتضاه قال سبحانه : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ ) ( البقرة - 255 ).

غير أنّ الغيب الذي يتوقف على اذنه ومشيئته الخاصة ، هو التعرّف عليه من دون أن يتوسل بعلل وأسباب عادية كما هو الحال في علم الرسول وخلفائه ، وأمّا الاطلاع على الغيب بطرقه العادية وأسبابه الطبيعية ، كاخبار المنجّم عن خسوف القمر في ليلة مقمرة ، وكسوف الشمس في يوم معيّن ، بالاعتماد على الجداول العلمية والمحاسبات الرياضية ، فهو وإن كان علماً بالغيب وتعرّفاً على ما هو غائب عن حس العامة غير أنّه ليس علماً بالغيب في مصطلح القرآن والاخبار.

وإن أبيت إلاّ دخوله في علم الغيب في مصطلح الذكر الحكيم فنقول : إنّ الاطلاع على الغيب بأسبابه العادية من المغيبات التي أذن اللّه لكل أحد أن يطلع عليها إذا طرقها من أبوابها ونظر إليها في ضوء العلم والتجربة.

فقد أذن لكل من تداول علم النجوم ومارس الطب والطبابة أن يعرف وقت التربيع والخسوف والكسوف وأوضاع الكواكب وأحوالها بفضل الجداول والقوانين الرياضية ، وأن يقف على مستقبل المريض وحالاته بل واوان موته ، كما أذن لكل من درس علم الفلاحة ومارسها ، أن يعرف الشجرة ونتاجها ، والوردة وآوان تفتحها والتربة ومدى صلاحها ، وقابليتها للزراعة إلى غير ذلك ممّا يدور في حقله ، فالتنبّؤ بهذه الاُمور الغائبة ونظائرها يتحقق في ظل دراسات ومسبقات علمية ، ولا يعد ذلك آية ومعجزة ودليلاً على صلة المخبر باللّه والعوالم الغيبية بل إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على نبوغه وتوغّله في فنّه الذي تخصص فيه.

ثمّ إنّ الرسول إذ كان ممّن ارتضاه اللّه سبحانه للتعرف على الغيب والاطلاع عليه ، فللّه سبحانه أن يظهره على غيبه عن طريق كتابه وقرآنه ، وقد وقفت على نماذج من ذلك ، كما أنّ له أن يوقفه عليه بغير هذا الطريق بقذف في روعه وتحديث من ملائكته أو غير ذلك من الطرق الغيبية فلا نرى عند ذاك فرقاً بين أن يتنبّأ بفضل كتابه المنزّل عليه

ص: 465

أو بطريق آخر ، فالتنبّؤ في كلا الموردين آية معجزة ودليل على صلته باللّه سبحانه غير أنّ القرآن وحي بلفظه ومعناه ، وغيره وحي بمعناه دون لفظه وكلاهما حق لا ينطق بهما النبي إلاّ عن وحي يوحى.

وقد شغلت بال المحدّثين تلك التنبّؤات التي صدرت عن النبي عن طريق غير الوحي القرآني فعقدوا لبيانها باباً أو أبواباً ، بل ألّفوا حولها كتباً ورسالات (1).

ونحن نذكر هنا بالرغم على ما تثيره العناصر المعاندة لأهل البيت والعادية عليهم من انكار تعرّفهم على الغيب واطلاعهم عليه ، معشار ما وقفنا عليه في صحاح القوم ومسانيدهم وكتب الحديث والتاريخ حتى يلمس القارئ خلاله ما هو الحق في المقام.

تنبّؤات نبوية :

1. تنبّأ الرسول بغلبة المسلمين على كسرى وفتح كنوزه واستقرار السلام العام في مناطقهم وبيئاتهم. قال عدي بن حاتم : بينا أنا عند النبي إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ، ثمّ أتاه آخر فشكا قطع السبيل ، فقال يا عدي : هل رأيت الحيرة ؟ قلت : لم أرها وقد اُنبئت عنها ، قال : فإن طالت بك الحياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلاّ اللّه ... ولئن طالت بك حياة لنفتحن كنوز كسرى ، قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : نعم ، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملئ كفّه من ذهب أو فضة فلا يجد من يقبله ... قال عدي : رأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلاّ اللّه ، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ، رواه البخاري (2).

ص: 466


1- أجمع كتاب اُلّف في هذا الموضوع لدى الشيعة ما ألّفه المحدث السيد هاشم البحراني وأسماه مدينة المعاجز ، وهو مجلد كبير طبع بإيران ويليه ما ألّفه المحدّث الحر العاملي وأسماه ب « اثبات الهداة بالبيّنات والمعجزات » وقد طبع في مجلدات سبع وقد مرّ الايعاز إلى ما ورد فيه من الأخبار الغيبية.
2- راجع التاج ج 3 ص 256.

2. قد شكا خباب بن الارت إلى النبي وكان هو متوسّد بردة له في ظل الكعبة فقال له : ألا تستنصر لنا ألا تدعو اللّه لنا ؟ فقال النبي - مشيراً إلى ألوان التعذيب التي كانت تحل بالمؤمنين في الاُمم السالفة - : « واللّه ليتمنّ اللّه هذا الأمر حتى يسير المراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ اللّه أو الذئب على غنمه ولكنّكم تستعجلون » رواه البخاري وأبو داود في الجهاد وبهذا المضمون أحاديث كثيرة (1).

3. تنبّأ النبي بالمستقبل المظلم الذي يواجهه الخويصرة رئيس الخوارج والمارقين وهو الذي قال لرسول اللّه : « اعدل » فقال رسول اللّه : ويلك من يعدل إن لم أعدل ؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول اللّه أتأذن لي فيه أضرب عنقه ؟ قال : دعه فإنّ له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء (2) وللحديث صور اُخرى نقلها في التاج (3).

4. وقد تنبّأ صلی اللّه علیه و آله بكذّاب ثقيف وقتال الروم وفتح القسطنطينية وغيره من علامات خروج المهدي وقد جمعها صاحب التاج في كتاب الفتن ، فراجع الجزء الخامس ص 296 - 326 تجد فيها من التنبّؤات ما لا يحصى.

5. تنبّأ رسول اللّه بقتل علي بسيف أشقى الأوّلين والآخرين وهو يبكي ، فقال علي : يا رسول اللّه ما يبكيك ؟ فقال : يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر كأنّي بك وأنت تصلّي لربّك وقد انبعث أشقى الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ثمود فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك (4) وهو أخبر في كلامه هذا عن عدة مغيبات من أنّ علياً لا يموت بحتف أنفه ، بل يقتل في شهر رمضان ، في حال الصلاة ، بالسيف ،

ص: 467


1- راجع التاج الجزء الثالث ص 257.
2- المصدر نفسه ج 5 ص 286 كتاب الفتن.
3- المصدر نفسه ج 5 ص 295.
4- عيون أخبار الرضا ج 1 ص 297 ، تاريخ بغداد ج 1 ص 135 الكامل للمبردج 2ص 132 ، نهج البلاغة ، عبده ، الخطبة 151.

ويصيب السيف بقرنه ، وتخضب منها لحيته ، وانّ قاتله شقيق عاقر ثمود في الشقاء.

6. أخبر في غزوة تبوك عن موت أبي ذر وحده بفلات من الأرض وذلك عندما أبطأ على أبي بذر بعيره فتركه وأخذ متاعه على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه ماشياً ونزل رسول اللّه في بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول اللّه أنّ هذا الرجل يمشي على الطريق وحده ، فقال : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كن أبا ذر ، فلمّا تأمله القوم قالوا : يا رسول اللّه هو واللّه أبو ذر ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : رحم اللّه أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده.

ولما سير عثمان أبا ذر إلى الربذة مات هناك ، ولم يكن معه إلاّ امرأته وغلامه ، فأوصاهما أن اغسلاني وكفّناني ثمّ ضعاني على قارعة الطريق ، فأوّل ركب يمر بكم فقولوا هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه ، فأعينونا على دفنه ، وقبل عبد اللّه بن مسعود في رهط من أهل العراق وقام إليهم الغلام فأخبرهم بما أمر ، فاستهل عبد اللّه بن مسعود يبكي ويقول صدق رسول اللّه تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، ثمّ نزل هو وأصحابه فواروه ، ثمّ حدثهم عبد اللّه بن مسعود حديثه وما قال رسول اللّه في مسيره إلى تبوك (1).

7. وقد خاطب صلی اللّه علیه و آله عائشة بقوله : يا حميراء كأنّي بك تنبحك كلاب الحوأب تقاتلين علياً وأنت ظالمة ، يا حميراء إيّاك أن تكوني أنت (2).

8. كان رسول اللّه يحث أصحابه على نصرة أمير المؤمنين في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين وقال أمير المؤمنين : أمرني رسول اللّه بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين (3).

9. تنبّأ النبي بما يجري على الاُمّة من بني اُميّة وقال كما قال أبو ذر لعثمان : سمعت رسول اللّه يقول : إذا كملت بنو اُميّة ثلاثين رجلاً اتخذوا بلاد اللّه دولاً ، وعباد اللّه

ص: 468


1- سيرة ابن هشام ج 2 ص 523.
2- العقد الفريد ج 2 ص 283 ، مستدرك الحاكم ج 3 ص 194.
3- تاريخ الخطيب ج 8 ص 340 وغيره.

خولاً ، ودين اللّه دغلاً ، فارتجّ الخليفة بسماعه فبعث إلى علي بن أبي طالب فأتاه فقال : يا أبا الحسن أسمعت رسول اللّه يقول ما حكاه أبو ذر وقص عليه الخبر ، فقال علي : نعم (1).

يحدثنا التاريخ عن سيرة الخليفة في الغنائم والأموال وعن اقتناء جماعة من أصحاب الفتن والثورات من آل العاص وبني اُميّة ضياعاً عامرة ودوراً فخمة وقصوراً شاهقة ، وثروة طائلة وأسس الخليفة حكومة اُموية قاهرة في الحواضر الإسلامية وسلّطهم على رقاب الناس وأدلى الأمر ، في المراكز الحساسة إلى أغلمة بني اُمية وشبابهم وأشياخهم وذلّل لهم السبل وكسح عن مسيرهم العراقيل إلى غير ذلك من أحداث موبقة جرت الويلات على الاُمّة الإسلامية في أمصارها إلى أن قتل من جرائها.

وإلى ذلك يشير النبي بقوله : سيكون اُمراء بعدي يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون (2).

10. ما أخبر به عمار إذ دخل عليه وقد أثقلوه باللبن فقال : يا رسول اللّه قتلوني يحملون علي ما لا يحملون بقوله : ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلوك إنّما تقتلك الفئة الباغية ، وأنّ آخر رزقك من الدنيا صاع من لبن أو مذقة من لبن ، وقد طلب عمار شربة فاُتي بشربة لبن ، فقال : انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : آخر شربة تشربها في الدنيا شربة لبن وشربها ثمّ قاتل حتى قتل (3).

11. تنبّأ النبي بقتال الزبير مع أمير المؤمنين وقد برز علي ، قبل وقوع الحرب يوم الجمل وأراد أن يستفيئه إلى طاعته ، وقال ليبرز إليَّ الزبير فبرز إليه مدججاً ، فقيل لعائشة : قد برز الزبير إلى علي علیه السلام فصاحت : وازبيراه ، فقيل لها : لا بأس عليه منه ، أنّه حاسر والزبير دارع ، فقال له علي - بعد كلام دار بينه وبين الزبير - : ناشدتك اللّه أتذكر يوماً مررت بي ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله متّكئ على يدك وهو جاء من بني عمرو بن

ص: 469


1- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 162 ط النجف وغيره من المصادر الوافرة.
2- مسند أحمد ج 1 ص 456.
3- سيرة ابن هشام ج 1 ص 497 ، اُسد الغابة ج 4 ص 46.

عوف فسلّم علي وضحك في وجهي فضحكت إليه لم ازده على ذلك فقلت : لا يترك ابن أبي طالب يا رسول اللّه زهوه ، فقال لك : مه أنّه ليس بذي زهو أما أنّك ستقاتله وأنت له ظالم. فاسترجع الزبير وقال : لقد كان ذلك ولكن الدهر أنسانيه ... (1).

12. تنبّأ النبي بقتال علي علیه السلام على تأويل القرآن ، روى أبو سعيد قال : كنّا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانقطعت نعله فتخلّف علي يخصفها فمشى قليلاً ثمّ قال : « إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله » فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر وقال أبو بكر : يعني علياً ، فأتيناه فبشرناه فلم يرجع به رأسه كأنّه قد سمعه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

13. أخبر النبي بقتل كسرى وأنّ اللّه سلّط ابنه « شيرويه » عليه ، فقتله في شهر كذا وليلة كذا ، وذلك عندما كتب كسرى إلى « باذان » وهو باليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به ، فبعث باذان « بابويه » وكان كاتباً حاسباً ورجلاً آخر من الفرس فأعلما النبي بما قدما له ، فقال لهما رسول اللّه : أرجعا حتى تأتيان غداً ، فلمّا أتيا تنبّأ بقتل كسرى وأمر بهما أن يقولا لباذان : « ديني وسلطاني سيبلغ ملك كسرى وينتهي منتهى الخف والحافر » (3).

14. تنبّأ النبي بأنّه لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة وقد روى حصين عن أبيه جابر بن سمرة قال : دخلت مع أبي على النبي سمعته يقول : أنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، قال ثمّ تكلم بكلام خفي علي ، فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلّهم من قريش (4).

هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير ممّا يقف عليه المتتبع في مسانيد الحديث

ص: 470


1- مستدرك الحاكم ج 3 ص 366.
2- مستدرك الحاكم ج 3 ص 23.
3- الطبقات الكبرى ج 1 ص 260 ، تاريخ الكامل ج 2 ص 146 ، السيرة الحلبية ج 3 ص 278.
4- صحيح مسلم ج 2 ص 191 ، ورواه غيره بصور متقاربة.

وصحاحه وجوامع التاريخ أتينا بها ، ليكون القارئ على بصيرة من الأمر ولا يصغي لدعوة العناصر المعاندة من رماة القول على عواهنه.

وأنت أيّها القارئ الكريم إذا درست حقيقة النبوّة وما أكرم اللّه سبحانه به أنبيائه من نفسيات وملكات كالعصمة والقداسة الروحية والنزاهة النفسية ، والعلم الذي لا يضلّون معه في شيء ، إلى كثير من كرائم وفضائل ، حتى جعلهم أكمل البشر خلقاً وخُلقاً ، وأصدقهم قولاً وأحاطهم بالرعاية ، وشملهم بالعناية ، كما قال سبحانه مخاطباً نبيّه الأكرم : ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) ( الطور - 48 ) ، لوقفت أنّ التنبّؤ بالغيب والاخبار عن غابر الحوادث وطارئها ليس أمراً عجيباً في جنب ما منح اللّه لهم من عظائم المواهب ، وكرائم الفضائل.

فعند ذاك فلا غرو فيما اخبروا عن غابر الاُمور وطارئها مما نقلناه وما لم ننقله فإنّ النبوّة منصب إلهي خطير لا يستحقه إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس وأفضلهم وأجمعهم للكمالات وأعلمهم بالحقائق والاُمور ، ممّن شملته العناية الالهية وتعلّم منه ما لم يكن يعلمه هو ولا قومه كما قال : ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) ( آل عمران - 48 ).

وقال سبحانه : ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا ) ( هود - 49 ) ، وقال سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ) ( يوسف - 68 ) ، وقال : ( أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) ( يوسف - 96 ) ، فعند ذاك فلا عجب إذا أخبروا بغابر الاُمور وطارئها ، أو بكل ما كان وما يكون من الحوادث باذن من اللّه سبحانه ف ( أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) .

تنبّؤات علوية :

هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صنو النبي ، وباب علمه ووارثه ، قد تنبّأ بملاحم أحداث وفتن في حياته وأيام امارته أخذها من منهلها العذب ونميرها الصافي ،

ص: 471

فصدق الخبر الخبر ، فتحقق بعضها بعد مئات السنين ، ولم يكن تنبّؤ الوصي عن تكهّن وتخرّص ولا عن فراسة ومحاسبات عادية ، وشتّان بين تخرّص متخرّص ، أو كهانة متكهّن ، أو تفرّس متفرّس ، وما تنبّأ به الوصي على صهوات المنابر في الحواضر الإسلامية وميادين الحروب الطاحنة وأندية الوعظ والتبليغ معلناً بأنّ ما ذكره وراثة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعلم وصل إليه منه ، ودونك نماذج ممّا وقفنا عليه :

قام خطيباً في البصرة مخاطباً أهلها الناكثين عندما وضعت الحرب أوزارها وقال :

1. كأنيّ بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث اللّه عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها (1).

وقد وقع المخبر به ، فإنّ البصرة غرقت مرتين في أيام القادر باللّه ، ومرّة في أيام القائم بأمر اللّه ، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلاّ مسجدها الجامع ، بارزاً بعضه كجؤجؤ الطائر ، حسب ما أخبر به أمير المؤمنين علیه السلام فقد جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس ، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام ، وخربت دورها ، وغرق كل ما في ضمنها ، وهلك كثير من أهلها (2).

2. قوله : وكأنيّ وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل ، يثيرون الأرض بأقدامهم ، كأنّها أقدام النعام (3).

3. قوله : وكأنيّ أراها قوماً كأنّ وجوههم المجان المطرقة ، يلبسون السرق والديباج ، يعتقبون الخيل العتاق ، ويكون هناك استحرار قتل ، حتى يعيش المجروح على المقتول ، ويكون المفلت ، أقل من المأسور (4).

ص: 472


1- نهج البلاغة ، الخطبة 12.
2- الشرح الحديدي ج 1 ص 253.
3- نهج البلاغة الخطبة 124 ، قال الشريف الرضي : يومي بذلك إلى صاحب الزنج ، وقد ذكر أخباره الطبري في تاريخه ج 3 ص 1743 طبع أوربا ، والمسعودي في مروج الذهب ج 4 ص 194 ، ونقله الشارح المعتزلي في شرح النهج ج 8 ص 126 - 214.
4- نهج البلاغة الخطبة 124.

يومي به إلى فتنة التتار وجيشه العرمرم الذي أعدّه رئيسها لغزو المسلمين وهدم بلادهم ونهب أموالهم وقتل صغيرهم وكبيرهم ، وقد ذكر ابن الاثير ، هذه الحادثة المؤلمة في تاريخه ( في حوادث سنة 617 وما بعدها ج 9 ص 329 - 387 ).

وقال في أوّلها : ولقد بقيت عدّة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة ، استعظاماً لها ، كارهاً لذكرها ، فأنا أقدم إليه رجلاً واُخّر اُخرى ، فمن الذي يسهل عليه ، أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ؟ من ذا الذي يهون عليه ذكره ، فياليت اُمّي لم تلدني ، ويا ليتني مت قبل هذا ، وكنت نسياً منسياً ، إلاّ أنّه حثّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها ، وأنا متوقف ، ثمّ رأيت أنّ ترك ذلك لا يجدي نفعاً.

وقد نقل الشارح الحديدي ج 8 ص 218 - 241 اجمال هذه الملحمة أيضاً ، فراجع.

4. ومثل إخباره عمّا يجري بعد وفاته على الاُمّة وتعرفهم على شخصيته البارزة بعد ما كانت مجهولة كقوله : « غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري وتعرفونني بعد خلو مكاني وقيام غيري مقامي » (1).

5. ومثل إخباره عن ملك بني اُمية وزوال أمرهم عند تفاقم فسادهم في الأرض حيث قال : « أقسم ثمّ أقسم لتنخمنها (2) اُمية من بعدي كما تلفظ النخامة ثمّ لا تذوقها ولا تطعم بطعمها أبداً ماكر الجديدان » (3).

6. وقوله مخبراً عن تسلّط معاوية على العراق والزامه الناس بسب علي علیه السلام والبراءة منه كما يقول : « أمّا أنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ; ولن تقتلوه ألا وإنّه سيأمركم بسبّي

ص: 473


1- نهج البلاغة طبعة عبده الخطبة 145.
2- نخم - كفرح - أخرج النخامة من صدره فألقاها ، والنخامة - بالضم - ما يلف - ظه الصدر أو الدماغ من المواد المخاطية.
3- نهج البلاغة طبعة عبده الخطبة 153.

والبرائة منّي ، أمّا السب فسبّوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة ، وأمّا البراءة فلا تتبرّأوا منّي فإنّي ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة » (1).

قال الشارح الحديدي : وكثيراً من الناس يذهب إلى أنّه علیه السلام عنى زياداً وكثير منهم يقول : أنّه عنى الحجاج وقال قوم : أنّه عنى المغيرة بن شعبة ، والأشبه عندي : معاوية لأنّه كان موصوفاً بالنهم وكثرة الأكل وكان بطيناً يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه - إلى أن قال - : وتظافرت الأخبار بأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعى على معاوية لما بعث إليه يستدعيه فوجده يأكل ثم بعث فوجده يأكل فقال اللّهمّ لا تشبع بطنه وقال الشاعر :

وصاحب لي بطنه كالهاوية *** كأن في أحشائه معاوية (2)

7. ما يومى إلى سلطة الحجاج : لو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبه ، إذاً لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أعمالكم ، وتندمون على أنفسكم - إلى أن قال : - أما واللّه ليسلّطنّ عليكم غلام ثقيف الذيال الميال ، يأكل خضركم ويذيب شحمتكم إيه أبا وذحة (3).

8. تنبّأ بما ستلقى الاُمّة من مروان وولده بقوله - لما اُخذ مروان أسيراً يوم الجمل - : « أما أنّ له امرة كلعقة الكلب أنفه (4) ، وهو أبو الأكبش الأربعة وستلقي الاُمّة منه ومن ولده يوماً أحمر » (5) وفسّروا الأكبش الأربعة بولد عبد الملك بن مروان وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام الذين سوّدوا تاريخ الخلافة بل تاريخ الانسانية بجناياتهم الموبقة

ص: 474


1- نهج البلاغة طبعة عبده الخطبة 56.
2- الشرح الحديدي ج 4 ص 54 - 55.
3- نهج البلاغة الخطبة 112 : الوذح ما يتعلق بذنب الشاة من البعار فيجف ، والمراد هنا الخنفساء وقد لسعت يد الحجاج فورمت يده وأخذته حمى من اللسعة فأهلكته ، ولا يخفى أنّ في هذا الكلام القصير تنبّؤات.
4- تصوير عن قصر مدتها ، وكانت تسعة أشهر ، وهذا تنبّؤ آخر.
5- نهج البلاغة ط عبده ص 70.

وخزاياتهم المهلكة.

9. هذا « عرفة » الأزدي وهو من أصحاب النبي و « الصفة » وقد دعا له النبي أن يبارك له في صفقته يقول : دخلني شك في شأن علي علیه السلام فخرجت معه على شاطئ الفرات ، فعدل عن الطريق ووقف ووقفنا حوله ، فقال - مشيراً بيده - : « هذا موضع رواحلهم ، ومناخ ركابهم ، ومهراق دمائهم بأبي من لا ناصر له في الأرض ولا في السماء إلاّ اللّه » ، فلمّا قتل الحسين ، خرجت حتى أتيت المكان الذي قتلوا فيه ، فإذا هو الحال ما أخطأ شيئاً ، قال : فاستغفرت اللّه مما كان من الشك وعلمت أنّ علياً علیه السلام كان على حق لم يقدم إلاّ بما عهد إليه منه (1).

10. ما تنبأ به علیه السلام عندما عزم على حرب الخوارج ، قيل له : انّ القوم قد عبروا جسر النهروان ، قال : مصارعهم دون النطفة واللّه لا يفلت منهم عشرة ولا يهلك منكم عشرة.

قال الرضي : يعني بالنطفة ماء النهر وهي أفصح كناية عن الماء وقال الشارح الحديدي : هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة لاشتهاره ونقل الناس كافة له وهو من معجزاته وأخباره المفصلة عن الغيوب.

والاخبار على قسمين :

أحدهما : الأخبار المجملة ولا اعجاز فيها : نحو أن يقول الرجل لأصحابه : انّكم ستنتصرون على هذه الفئة التي تلقونها غداً ، فإن نصر ، جعل ذلك حجة له عند أصحابه وسماها معجزة ، وإن لم ينصره قال : تغيّرت نيّاتكم وشككتم في قولي ، فمنعكم اللّه نصره ونحو ذلك من القول ، ولأنّه قد جرت العادة على أنّ الملوك والرؤساء يعدّون أصحابهم بالظفر والنصر ، ويمنّونهم الدول ، فلا يدل وقوع ما يقع من ذلك على إخبار عن غيب يتضمّن اعجازاً.

والقسم الثاني : في الأخبار المفصلة عن الغيوب ، مثل هذا الخبر فإنّه لا يحتمل

ص: 475


1- اُسد الغابة ج 4 ص 169.

التلبيس ، لتقييده بالعدد المعيّن في أصحابه وفي الخوارج ووقوع الأمر بعد الحرب بموجبه ، من غير زيادة ولا نقصان وذلك أمر إلهي عرفه من جهة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعرفه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من جهة اللّه سبحانه ، والقوّة البشرية تقصر عن ادراك مثل هذا ، ولقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره.

وبمقتضى ما شاهد الناس من معجزاته ، وأحواله المنافية لقوى البشر غلا فيه من غلا ، حتى نسب إلى أنّ الجوهر الإلهي حلّ في بدنه كما قالت النصارى في عيسى علیه السلام وقد أخبره النبي صلی اللّه علیه و آله بذلك فقال : « يهلك فيك رجلان محبّ غال ومبغض قال ».

وقال له تارة اُخرى : « والذي نفسي بيده لولا أنّي أشفق أن تقول طوائف من اُمّتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم ، لقلت اليوم فيك مقالاً لا تمرّ بملأ من الناس إلاّ اخذوا التراب من تحت قدميك للبركة » (1).

ثمّ قال : وإعلم انّا ننكر أن يكون في نوع البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب ولكن كل ذلك مستند إلى البارئ سبحانه باقداره وتمكينه وتهيئة أسبابه ، فإن كان المخبر عن الغيوب ممن يدّعي النبوّة ، لم يجز أن يكون ذلك إلاّ بإذن اللّه سبحانه وتمكينه ، وأن يريد به تعالى استدلال المكلّفين على صدق مدّعى النبوّة.

وأمّا إذا لم يكن المخبر عن الغيوب مدّعياً للنبوّة ، نظر في حاله ، فإن كان ذلك من الصالحين الأتقياء نسب ذلك إلى أنّه كرامة أظهرها اللّه تعالى على يده أبانة له وتمييزاً عن غيره ، كما في حقّ علي علیه السلام وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون ساحراً أو كاهناً ، أو نحو ذلك.

وبالجملة فصاحب هذه الخاصية أفضل وأشرف ممّن لا يكون فيه من حيث اختصاصه بها فإن كان للانسان العاري منها مزية اُخرى يختص بها توازيها أو تزيد عليها ، فنرجع إلى التمثيل والترجيح بينهما ، وإلاّ فالمختص بهذه الخاصية أرجح وأعظم

ص: 476


1- الشرح الحديدي ج 5 ص 4.

من الخالي منها على جميع الأحوال (1).

11. لما قتل الخوارج وقيل له : يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم فأجابهم :

كلاّ واللّه ، إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء (2) كلّما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصاً (3) سلاّبين.

قوله علیه السلام : « كلّما نجم منهم قرن قطع » استعارة حسنة ، يريد : كلّما ظهر منهم قوم استؤصلوا ، فعبّر عن ذلك بلفظة « قرن » كما يقطع قرن الشاة إذا نجم ، وقد صح إخباره علیه السلام عنهم انّهم لم يهلكوا بأجمعهم في وقعة النهروان وأنّها دعوة سيدعو إليها قوم لم يخلقوا بعد ، وهكذا وقع وصحّ إخباره علیه السلام أيضاً أنّه سيكون آخرهم لصوصاً سلاّبين ، فإنّ دعوة الخوارج اضمحلّت ورجالها فنيت حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطّاع طرق متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض.

وممّن انتهى أمره منهم إلى ذلك الوليد بن طريف الشيباني في أيام الرشيد بن المهدي فأشخص إليه يزيد بن مزيد الشيباني فقتله وحمل رأسه إلى الرشيد.

ثم خرج في أيام المتوكل ، ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة فقطع الطريق وأخاف السبيل ، وتسمّى بالخلافة ، فحاربه أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي.

وقد خرجت بعد هذين جماعة من الخوارج ، وكلّهم بمعزل عن طرائق سلفهم وإنّما وكدهم وقصدهم إخافة السبيل والفساد في الأرض واكتساب الأموال من غير حلّها (4).

12. وقد أماط الإمام الستر عن وجه الحقيقة وعن كمية علمه وكيفيته في بعض خطبه وأقسم فيه باللّه الذي نفسه بيده ، أنّهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم وبين

ص: 477


1- المصدر نفسه ص 12 - 13.
2- قرارات النساء كناية عن الأرحام.
3- نهج البلاغة الخطبة 59.
4- الشرح الحديدي ج 5 ص 73 - 77.

القيامة إلاّ أخبرهم به وأنّه ما صح من طائفة من الناس ، يهتدي بها مائة وتضل بها مائة إلاّ وهو مخبر لهم إن سألوه برعاتها وقائدها وسائقها ومواضع نزول ركابها وخيولها ومن يقتل منها قتلاً ، ومن يموت منها موتاً ، حيث قال بعد أنّ فرغ من قتال الخوارج :

« أيّها الناس فإنّي فقأت عين الفتنة ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها ، واشتد كلبها.

فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي نفسي بيده ، لا تسألونني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة ، إلاّ أنبأتكم (1) بناعقها وقائدها ، وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحط رحالها ، ومن يقتل من أهلها قتلاً ومن يموت منهم موتاً.

ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الاُمور ، وحوازب الخطوب ، لأطرق كثير من السائلين ، وفشل كثير من المسؤولين ، وذلك إذا قلصت حربكم ، وشمرت عن ساق ، وكانت الدنيا عليكم ضيقاً تستطيلون أيام البلاء عليكم ، حتى يفتح اللّه لبقية الأبرار منكم.

انّ الفتن إذا أقبلت شبهت ، وإذا أدبرت نبهت ، ينكرن مقبلات ، ويعرفن مدبرات ، يحمن حول الرياح ، يصبن بلداً ، ويخطئن بلداً.

ألا وأنّ أخوف الفتن عندي عليكم ، فتنة بني اُمية ، فإنّها فتنة عمياء مظلمة ! عمت خطتها ، وخصت بليتها ، وأصاب البلاء من أبصر فيها ، وأخطأ البلاء من عمى عنها.

وأيم اللّه لتجدن بني اُمية لكم أرباب سوء بعدي ، كالناب الضروس ، تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع درها ، لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم ، إلاّ نافعاً لهم ، أو غير ضائر بهم.

ولا يزال بلاؤهم عنكم ، حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد

ص: 478


1- مخطوطة النهج : « نبّأتكم ».

من ربّه ، والصاحب من مستصحبه ، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية ، وقطعاً جاهلية ، ليس فيها منها منار هدى ولا علم يرى.

نحن أهل البيت منها بمنجاة ولسنا فيها بدعاة ، ثم يفرجها اللّه عنكم كتفريج الأديم ، بمن يسومهم خسفاً ، ويسوقهم عنفاً ، ويسقيهم بكأس مصبرة لا يعطيهم إلاّ السيف ، ولا يحلسهم إلاّ الخوف ، فعند ذاك تود قريش بالدنيا وما فيها لو يرونني مقاماً واحداً ، ولو قدر جزر جزور ، لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه ، فلا يعطوننيه » (1).

قال ابن أبي الحديد : ولقد امتحنّا اخباره فوجدناها موافقة ، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة ، كاخباره عن الضربة التي يضرب بها في رأسه فتخضب لحيته ، واخباره عن قتل الحسين ابنه علیه السلام ، وما قاله في كربلاء حيث مرّ بها ، واخباره بملك معاوية الأمر من بعده واخباره عن الحجاج ، وعن يوسف بن عمر ، وما أخبره به من أمر الخوارج بالنهروان ، وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم ، وصلب من يصلب ، وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، وإخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لمّا شخص علیه السلام إلى البصرة لحرب أهلها ، وإخباره عن عبد اللّه بن الزبير وقوله فيه : « خب ضب يروم أمراً ولا يدركه ، ينصب حبالة الدين لإصطياد الدنيا وهو بعد مصلوب قريش ».

وكاخباره عن هلاك البصرة بالغرق وهلاكها تارة اُخرى بالزنج وهو الذي صحفه قوم فقالوا : بالريح ، وكاخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببني رزيق ، ( بتقديم المهملة ) وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية ،

ص: 479


1- نهج البلاغة الخطبة 89 ، قال الشارح الحديدي : وهذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السير ، وهي متداولة مستفيضة ، خطب بها علي علیه السلام بعد انقضاء أمر النهروان وفيها ألفاظ لم يوردها الرضي من ذلك قوله : « سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّي ميّت عن قريب أو مقتول ، بل قتلاً ، ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه بدم » وضرب بيده إلى لحيته. لاحظ نهج البلاغة ج 7 ص 57.

وكاخباره عن الأئمّة الذين ظهروا من ولده بطبرستان كالناصر والداعي وغيرهما في قوله علیه السلام : « وإنّ لآل محمد بالطالقان لكنزاً سيظهره اللّه إذا شاء دعاؤه حق يقوم باذن اللّه فيدعوا إلى دين اللّه ».

وكاخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة وقوله : « إنّه يقتل عند احجار الزيت » وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباب حمزة (1) : « يقتل بعد أن يظهر ويقهر بعد أن يقهر » وقوله أيضاً : يأتيه سهم غرب (2) يكون فيه منيته فيا بؤساً للرامي شلّت يده ووهن عضده » واخباره عن قتلى « وج » وقوله فيهم : « هم خير أهل الأرض ».

وكاخباره عن المملكة العلوية بالغرب ، وتصريحه بذكر كتامة ، وهم الذين نصروا أبا عبد اللّه الداعي المعلم ، وكقوله وهو يشير إلى أبي عبد اللّه المهدي : وهو أوّلهم ثمّ يظهر صاحب القيروان الغض البض ، ذو النسب المحض ، المنتجب من سلالة ذي البداء ، المسجى بالرداء ، وكان عبيد اللّه المهدي أبيض مترفاً مشرباً بحمرة رخص البدن ، تار (3) الأطراف ، وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد علیهماالسلام وهو المسجّى بالرداء لأنّ أباه أبا عبد اللّه جعفر أسجاه برداءه لما مات ، وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدوه ليعلموا موته وتزول عنهم الشبهة في أمره.

وكاخباره عن بني بويه وقوله فيهم : « ويخرج من ديلمان بنو الصياد » اشارة إليهم وكان أبوهم صياد السمك ، يصيد منه بيده ما يتقوّت هو وعياله بثمنه ، فاخرج اللّه تعالى من ولده لصلبه ملوكاً ثلاثة ، ونشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم ، وكقوله علیه السلام فيهم : « ثمّ يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء ويخلعوا الخلفاء » فقال له قائل : فكم مدته يا أمير المؤمنين ؟ فقال : « مائة أو تزيد قليلاً » وكقوله فيهم : والمترف ابن

ص: 480


1- كذا في النسخة وكتب الينا المحقق الشيخ محمد تقي التستري أن الصحيح : « بباخمرى ».
2- سهم غرب ، أي لا يدرى راميه.
3- التار : الممتلئ جسمه وعظمه ريا.

الأجدم يقتله ابن عمه على دجلة وهو إشارة إلى عز الدولة بختيار بن معز الدولة أبي الحسين ، وكان معز الدولة أقطع اليد ، قطعت يده للنكوص في الحرب ، وكان ابنه عز الدولة بختيار ، مترفاً صاحب لهو وشرب ، وقتله عضد الدولة فنّاخسرو ، ابن عمه ، بقصر الجص على دجلة في الحرب ، وسلبه ملكه ، فأمّا خلعهم للخلفاء فإنّ معز الدولة خلع المستكفي ورتب عوضه المطيع ، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة ، خلع الطائع ورتب عوضه القادر ، وكانت مدة ملكهم كما أخبر به علیه السلام .

وكاخباره علیه السلام لعبد اللّه بن العباس رحمه اللّه تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده فإنّ علي بن عبد اللّه لما ولد ، أخرجه أبوه « عبد اللّه » إلى علي علیه السلام فأخذه وتفل في فيه وحنكه بتمرة ، قد لاكها ، ودفعه إليه وقال : خذ إليك أبا الأملاك ، هكذا الرواية الصحيحة وهي التي ذكرها أبو العباس المبرد في كتاب « الكامل » (1) وليست الرواية التي يذكر فيها العدد بصحيحة ولا منقولة من كتاب معتمد عليه.

وكم له من الاخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى ، ممّا لو أردنا استقصاءه لكرّسنا له كراريس كثيرة ، وكتب السير تشتمل عليها مشروحة (2).

13. قوله علیه السلام في خطبة تسمّى القاصعة ... ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوّة ، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلی اللّه علیه و آله فقلت : يا رسول اللّه ما هذه الرنّة ؟! فقال : هذا الشيطان آيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير (3).

قال الشارح الحديدي : روي عن جعفر بن محمد الصادق علیه السلام قال كان

ص: 481


1- الكامل 2 : 217.
2- شرح النهج ج 7 ص 48 - 50.
3- نهج البلاغة طبعة عبده ج 2 ص 182 - 183.

علي علیه السلام يرى مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت وقال له صلی اللّه علیه و آله : « لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوّة فإن لا تكن نبيّاً فإنّك وصي نبي ووارثه بل أنت سيد الأوصياء وإمام الاتقياء » (1).

ولا دليل على حمل قوله : « انّك تسمع ما أسمع » على سماع خصوص رنّة الشيطان بل هو ظاهر في العموم حسب ما يظهر من الإمام الصادق علیه السلام .

14. مثل اخباره عن فتنة صاحب الزنج وهو علي بن محمد بن عبد الرحيم من بني عبد القيس حيث جمع الزنوج الذين كانوا يسكنون السباخ في نواحي البصرة وخرج بهم على المهتدي العباسي في سنة خمسة وخمسين ومائتين واستفحل أمره وانتشر أصحابه في أطراف البلاد للسلب والنهب إلى أن قتله الموفق أخو الخليفة المعتمد سنة سبعين ومائتين.

« فتن كقطع الليل المظلم ، ولا تقوم لها قائمة ، ولا ترد لها راية ، تأتيكم مزمومة مرحولة يحفزها قائدها ويجدها راكبها أهلها قوم شديد كلبهم قليل سلبهم يجاهدهم في سبيل اللّه قوم أذلّة عند المتكبرين ، في الأرض مجهولين وفي السماء معروفون ، فويل لك يا بصرة ، عند ذلك من جيش من نقم اللّه لا رهج له ولا حس وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر والجوع الأغبر » (2).

قال الشارح الحديدي فسّر قوم هذا الكلام بوقعة صاحب الزنج ، وهو بعيد لأنّ جيشه كان ذا حس ورهج ولأنّه أنذر البصرة بهذا الجيش ألا تراه قال : « فويل لك يا بصرة » ولم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتن شديدة على الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين علیه السلام (3).

ص: 482


1- الشرح الحديدي ج 13 ص 210.
2- نهج البلاغة طبعة عبده الخطبة 98.
3- شرح النهج ج 7 ص 104.

هذه أربعة عشر خبراً غيبياً من روائع نصوص الإمام تدل على وقوفه على ما غاب عن الحس بإذن من اللّه سبحانه. وقد نقل الشارح الحديدي كثيراً من أخباره الغيبية في أجزاء كتابه ، وقد نقلنا بعضها في ما تقدم فلاحظ بعضها في الجزء الثاني من شرحه ص 286 - 295 ترى فيه أخباراً غيبية كثيرة كيف وقد روي عنه علیه السلام إخبارات غيبية مبثوثة في كتب الحديث والتاريخ بحيث لو جمعها جامع لخرج بسفر جليل وضخم وفيما نقلناه كفاية للقارئ الكريم.

عثرة لا تقال :

هذا هو الحق الذي أحق أن يتبع ، وقد صدقه كتاب اللّه العزيز وأيّدته النصوص المستفيضة وأطبقت عليه الأعلام في العصور المختلفة.

غير أنّ هذه المسألة قد أثارت في عصرنا قلقاً واضطراباً في الأوساط الدينية فحامت حولها الشبهات ، واكتنفتها أجواء تثير السخط والاستياء ، من اُناس ابتلوا بعقدة النقص أو جنون العظمة ، مع أنّ كتاب اللّه بين ظهرانيهم والنصوص المتضافرة بين أيديهم ، فلو رجعوا إلى ذينك المصدرين ، بقلب سليم وفكر مستقيم لعرفوا الحق واتبعوه ، والحق أحق أن يتبع.

وقد وقفت بعدما كتبت هذا الفصل على « كتيب » لبعض من يضمر لأئمّة أهل البيت حقداً وعداءاً ، ويحارب كل فضيلة تثبتها النصوص لهم ، ويمتلئ صدره بالتعصب المقيت وقد أعاد فيه ما ذكره ابن تيمية ونظراؤه من الذين أكل عليهم الدهر وشرب حيث أنكر علم النبي وأوصياؤه بالغيب على وجه الاطلاق وعزاه إلى جمهور الإمامية وفطاحلهم ، قائلاً بأنّ فكرة علمهم بالغيب ، اسطورة حدثت في الآونة الأخيرة بيد الغلاة. واستشهد على ذلك بما ذكره أمين الإسلام في كتابه ، حيث قال في تفسير قوله سبحانه : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ )

ص: 483

( المائدة - 109 ) ما هذا لفظه :

وذكر الحاكم أبو سعيد في تفسيره : انّها تدل على بطلان قول الإمامية : إنّ الأئمّة يعلمون الغيب وأقول : إنّ هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم ، فإنّا لا نعلم أحداً منهم بل أحداً من أهل الإسلام يصف أحداً من الناس بعلم الغيب ومن وصف مخلوقاً بذلك فقد فارق الدين ، والشيعة الإمامية براء من هذا القول ومن نسبهم إلى ذلك فاللّه ما بينه وبينهم (1).

غير أنّه عزب عن هذا المسكين أنّ ما ذكره « أمين الإسلام » لا يمثّل رأي الشيعة الإمامية في الموضوع ، وإنّما هو رأي واحد منهم ولا يمثّل رأي الجميع ولا يؤخذ الجمع بفعل الواحد ورأيه.

أضف إلى ذلك : أنّ ما ذكره أمين الإسلام لا يهدف إلاّ إلى ما ذكرناه ، وانّ الممنوع توصيفهم باطلاعهم على الغيب على غرار علمه سبحانه ، بشهادة قوله : « ومن وصف مخلوقاً بذلك فقد فارق الدين » إذ أي صلة بين مفارقة الدين والقول بأنّ اللّه سبحانه أظهر غيبه لأحد أوليائه ، واطلع هو على الغيب من تلك الناحية وتعرف بتعليم منه سبحانه.

ولو رجع الكاتب إلى موضع آخر من كتابه ولم يقصر نظره على موضع واحد منه ، لوقف على مغزى ما رامه فإنّه قدّس اللّه سرّه قد حقّق المسألة في موضع آخر من كتابه.

قال في تفسير قوله سبحانه : ( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( هود - 123 ) ما هذا لفظه : وجدت بعض المشايخ ممّن يتّسم بالعدوان والتشنيع قد ظلم الشيعة الإمامية في هذا الموضع من تفسيره فقال : « هذا يدلّ على أنّ اللّه سبحانه يختص بعلم الغيب خلافاً لما تقول الرافضة : إنّ الأئمّة يعلمون الغيب » ولا شك أنّه عنى بذلك من يقول بإمامة

ص: 484


1- مجمع البيان ج 2 ص 261 ط صيدا.

الاثنى عشر ويدين بأنّهم أفضل الانام بعد النبي صلی اللّه علیه و آله فإنّ هذا دأبه وديدنه فيهم ، يشنع في مواضع كثيرة من كتابه عليهم ، وينسب الفضائح والقبائح إليهم ، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق ، فإنّما يستحق الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات لا بعلم مستفاد ، وهذه صفة القديم سبحانه ، العالم لذاته لا يشاركه فيها أحد من المخلوقين ومن اعتقد أنّ غير اللّه سبحانه يشاركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملّة الإسلام.

فأمّا ما نقل عن أمير المؤمنين علیه السلام ورواه عنه الخاص والعام من الأخبار بالغائبات في خطب الملاحم وغيرها مثل قوله وهو يومي به إلى صاحب الزنج ، كأنّي يا أحنف وقد سار بالجيش الذي ليس له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النعام.

وقوله يشير إلى مروان أمّا أنّ له امرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة وستلقي الاُمّة منه ومن ولده موتاً أحمر ، وما نقل من هذا الفن عن أئمّة الهدى علیهم السلام من أولاده مثل ما قاله أبو عبد اللّه علیه السلام لعبد اللّه بن الحسن وقد اجتمع هو وجماعة من العلوية والعباسية ليبايعوا ابنه محمداً ، واللّه ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنّها لهم وأشار إلى العباسيين وأنّ ابنيك لمقتولان ، ثمّ نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال له : أرأيت صاحب الرداء الأصفر ؟ - يعني أبا جعفر المنصور - قال : نعم ، فقال : إنّا واللّه نجده يقتله. فكان كما قال.

ومثل قول الرضا علیه السلام : بورك قبر طوس وقبران ببغداد ، فقيل له : قد عرفنا واحداً فما الآخر ؟ قال : ستعرفونه ، ثمّ قال : قبري وقبر هارون هكذا - وضم أصبعيه - (1) وقوله في القصة المشهورة لأبي حبيب النباحي وقد ناوله قبضة من التمر لو زادك رسول

ص: 485


1- نظير قوله لموسى بن مهران في مسجد المدينة عندما كان هارون يخطب : أترونني وإياه ندفن في بيت واحد ، عيون أخبار الرضا ج 2 ص 226.

اللّه صلی اللّه علیه و آله لزدناك ، وقوله من حديث علي بن أحمد الوشاء حين قدم مرو من الكوفة : « معك حلّة في السفط الفلاني دفعتها إليك ابنتك وقالت اشتر لي بثمنها فيروزجاً » والحديث مشهور إلى غير ذلك ممّا روي عنهم علیهم السلام . فإنّ ذلك متلقّى عن النبي صلی اللّه علیه و آله ممّا أطلعه اللّه عليه ، فلا معنى لنسبة من روي عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنّه يعتقد كونهم عالمين بالغيب ، وهل هذا إلاّ سب قبيح وتضليل لهم بل تكفير لا يرتضيه من هو بالمذاهب خبير واللّه يحكم بينه وبينهم وإليه المصير (1).

هل استأثر اللّه بعلم هذه الاُمور ؟

قد اشتهر بين المفسّرين أنّ هناك اُمور خمسة استأثر اللّه بعلمها وحده ، لا يجليها لغيره واستندوا في ذلك إلى قوله تعالى :

( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان - 34 ) ويؤيده ما روي من اختصاص العلم بهذه الاُمور الخمسة باللّه تعالى وأنّ غيره لا يطلع عليها أبداً وقد جرت مشيئة اللّه على كتمان العلم بهذه الاُمور عن خلقه.

ولقائل أن يقول : لا محيص عن صحة ما ذكروه في الأربعة التالية : علم الساعة ، العلم بما في الأرحام ، العلم بما يكسبه الانسان في مستقبل أيامه ، وعلمه بالأرض التي يموت فيها الانسان ، وأمّا اختصاص العلم بوقت نزول الغيث به سبحانه فلا تفيده الآية إذ أنّه تعالى يقول : ( وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ) ، ولم يقل : وعنده علم نزول الغيث.

ويدفع بأنّ العلم بوقت نزول الغيث لو لم يكن مثل الأربعة الباقية لكان الاتيان

ص: 486


1- مجمع البيان ج 3 ص 205 وقوله للمأمون عندما ذاكره بقوله : ندخل بغداد إن شاء اللّه فنعمل كذا وكذا ، فقال له الرضا : تدخل أنت بغداد يا أمير المؤمنين ، ثم سأله أحد أصحابه عن ذلك ، فقال : ( وما أنا وبغداد ؟! لا أرى بغداد ولا تراني ) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 225.

به عندئذ اقتضاباً بلا جهة وعطفاً بلا مناسبة فلأي وجه أورده في هذه الآية في عداد الاُمور التي سلّمنا اختصاص علمها به سبحانه وليس هو منها ، فلأجل الالتزام بوجود المناسبة بين المتعاطفات لا مفر من القول باختصاص علمه به سبحانه أيضاً.

دفع شبهة :

ربّما يتخيل بل يقال : كيف استأثر اللّه بعلم هذه الاُمور ، والنشرات الجوية ، لدائرة الأنواء الجوية تعيّن أوقات نزول الغيث والوفر والاختبارات الطبية تبين وضع الجنين وأنّه ذكر أو اُنثى ، ولكنّها مدفوعة بما يلي :

1. إنّ اللّه سبحانه واقف على وضع الجنين من بدء تكونه في رحم اُمّه ، حينما يكون خليّة فيها ، ليس لها من الصور المعتورة عليه شيء ، إلى أن تضعه اُمّه ، فهو سبحانه يعلم حين ما هو خليّة في رحمها ، أنّه ذكر أو اُنثى ، وليس ذلك مقدوراً للبشر وإن أطل بنظره عليها بأشعة قوية كهربائية أو باختبارات طبية ، فالعلم بذكورة الجنين أو اُنوثته ، من بدء وجوده إلى ختامه ، مخصوص به سبحانه ، ولا يشاركه في هذا الحد الوسيع أحد من البشر.

2. إنّ تخصيص قوله سبحانه : ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ ) بأحد الوصفين المذكورين ( الذكورة والانوثة ) مخالف لاطلاق كلامه ، فإنّ الظاهر منه أنّه سبحانه يعلم جميع حالات ما في الأرحام ، وأنّه ذكر أو اُنثى ، قبيح أو جميل ، سخي أو بخيل ، شجاع أو جبان ، سعيد أو شقي ، مرافق النبيين في الجنان أو حطب لنار جهنّم إلى غير ذلك من الصفات والروحيات التي لا يتمكّن البشر من الوقوف عليها عندما كان صاحب الصفات جنيناً في رحم اُمّه ، وهذا التعميم وشمول الآية للصفات الظاهرية والباطنية صريح كلام الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة (1).

ص: 487


1- راجع نهج البلاغة الخطبة 126.

وأمّا النشرات الجوية التي تصدرها دائرة الأنواء الجوية الدارجة في الحضارة الفعلية ، فهي أنباء ظنية على اُصول وتجارب واستطلاع على أوضاع تكتسبها دائرة الأنواء الجوية من مختلف البلدان قريبها وبعيدها - ومع ذلك - فلا تخرج عن دائرة الحدس والظن ، وليست مصونة عن الخطأ كما هو الشاهد لكل من يصغي إليها ثمّ يرجع إلى فسيح الكون ويطبّقها عليه.

توضيحه : أنّ لكل من الاُمم عبر الأجيال والقرون ، تجارب في هذا الباب كانوا يستكشفون بها على سبيل الظن والتخرّص ، مواقع نزول المطر والثلج ، حتى أنّ القرويين والبدو ، كانوا يستطيعون التنبّؤ بحالة الطقس المقبلة من صحو أو مطر ، وما أشبه ذلك من بعض الظواهر الجوية كإتجاه الريح مثلاً. بل كانوا يستكشفون بغير ذلك من نزول الكلب من سطح البيت إلى داخله وقد حكي أنّ نصير الدين الطوسي ( ذلك الفلكي العظيم ) نزل في بعض أسفاره على طحان له طاحونة خارج بعض البلاد فلمّا دخل المنزل صعد السطح لحرارة الهواء ، فقال له صاحب البيت : أنزل ونم في داخل البيت لأجل نزول المطر فنظر « نصير الدين » إلى الأوضاع الفلكية ، فلم ير شيئاً يورث الظن بنزول المطر ، فقال له الطحّان : أنّ لي كلباً ينزل في كل ليلة يحس بأنّ المطر سينزل فيها إلى البيت ، فلم يقبل ذلك منه المحقّق ، وبات فوق السطح فأدركه المطر أثناء الليل وتعجّب المحقق الطوسي (1).

نعم الأدوات الحديثة لتعيين درجة الحرارة في الجو وارتباط مختلف البلدان بعضها ببعض ، بواسطة أجهزة البرق السلكية واللاسلكية ، وتبادل المعلومات فيما بينها عن الحالة الجوية ساعة فساعة ، هذه الأدوات احتلّت مكان التجارب السالفة وساعد على امكان التنبّؤ بتقلّبات الطقس بالاستنتاج والتخمين.

ومع ذلك فإنّ استنتاجات دائرة الأنواء الجوية لا تكون صائبة دائماً فكثيراً ما

ص: 488


1- مكاسب الشيخ الأنصاري ص 25.

تخطئ في تخمينها ، ولا تخبر عما تخبر إلاّ بالظن والترديد ، بل على نحو الاجمال في جانب والاهمال في جانب آخر ، ولاتستطيع أن تحدد وقت نزول المطر ومحال نزوله دقيقاً ، وأنّه في أي ساعة أو على أي مكان من الأرض العظيمة ينزل.

وأعجب منه أنّه إذا شوهد منها التخلف حتى في مجمل ما أخبرته تراها تتمسّك باعذار كاشفة عن قصور باعها وعدم احاطتها بما في الجو الفسيح ، من الأحوال والأوضاع.

وأمّا الاختبارات الطبّية ، فاعطف نظرك إلى بعض ما ذكره بعض الاخصائيين في المقام لتقف على أنّ تحديد نوع المولود يرجع في جوهره إلى الصدفة ، أو إلى الاحتمالات التي يعجز العلم عن التنبّؤ بها قال (1) :

توجد في كل فرد غدتان تناسليتان وتختلف الغدد الذكرية عن الغدد الاُنثوية في مكانها التشريحي بالجسم ، وفي وظائفها الأوّلية والثانوية وفي تأثيرها على شخصية الفرد. وتؤثر هذه الغدد ، بهرموناتها المختلفة في التفرقة بين الذكر والاُنثى ، ولهذه الفروق الجنسية أثر قوي في سرعة النمو ، وفي تباين اختلاف مظاهره.

هذا وتنشأ الاختلافات الجنسية منذ اللحظة الاُولى التي تتكوّن فيها البويضة المخصبة أي عندما تلتقي الصبغيات الذكرية بالصبغيات الاُنثوية في نواة البويضة وتتميز البويضة بأنّها تحتوي على صبغة خاصة بالجنس ، توجد دائماً بصورة واحدة نرمز لها بالرمز (س) ويتميّز الحي المنوي بوجود صبغى خاص بالجنس يوجد أحياناً ، بصورة تماثل صورة الصبغة الاُنثوية ولذلك يرمز لها بالرمز (س) أيضاً ويوجد أحياناً بصورة اُخرى يرمز لها بالرمز (ص) فإذا احتوت البويضة المخصبة على الصبغيين ( س س ) كان الجنين اُنثى. وإذا احتوت على الصبغيين ( س ص ) كان الجنين ذكراً ، وهكذا يتحدد الجنس منذ اللحظة الاُولى في تكوين البويضة المخصبة وبذلك يسيطر الحي المنوي على

ص: 489


1- الاُسس النفسية للنمو تأليف الدكتور فؤاد البهي مدرّس علم النفس بجامعة عين الشمس.

نوع الجنس ، أي أنّ الجنس ذكراً كان أم اُنثى يرجع في جوهره إلى الرجل لا إلى المرأة وإذا عرفنا أنّ عدد الحيوانات المنوية الذكرية في كل نطفة يربو على 000/000/200 حي ذكري عرفنا بعد ذلك أنّ تحديد نوع المولود يرجع في جوهره إلى الصدفة أو الاحتمالات التي يعجز العلم عن التنبّؤ بها.

نظرنا في الموضوع :

إلى هنا جرينا على مسلك المفسّرين في تفسير الآية ودفعنا عنهم ما اُشكل عليهم وقد أرسلوه إرسال المسلّمات وأيّدوها بروايات سوف نوضّح حالها ، ومدى صحتها ، غير أنّ هنا احتمالاً آخر ، ربّما يكون أقرب إلى ظاهر الآية ممّا ذكروه ودونك بيانه :

انّ لسان الآية في بيان علمه سبحانه بهذه الأشياء الخمسة ، ليس على نسق واحد بل على وجوه ثلاثة :

1. لسان الحصر : وهذا يختص بالعلم بوقت الساعة من الاُمور الخمسة ، فتراه يقول : ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) بتقديم الظرف على المبتدأ وهو يفيد الحصر ولا تجد هذا السياق من الكلام في الأربعة الباقية ، ولأجل ذلك تراه غير أسلوب الكلام عندما أراد أن يبيّن تعلّق علمه بغير الساعة وقال : ( وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَ ... ) .

وعلى هذا لا بأس بما ذكروه في هذا القسم ، فإنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ العلم بوقت الساعة مختص به سبحانه لا يعدو غيره.

وتؤيّده آيات اُخر ، وردت في هذا المضمار قال سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ) ( الأعراف - 187 ) وقال : ( يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ ) ( الأحزاب - 63 ) وقال تعالى : ( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ) ( فصلت : 47 ) ترى أنّه سبحانه في هذه الآية الأخيرة عندما أنهى غرضه عن

ص: 490

رد علم الساعة إليه ، غيّر اُسلوب كلامه من الحصر ، إلى اُسلوب لا يفيد سوى علمه بهذه الاُمور ، وأنّه لا تخرج ثمرة من أوعيتها وغلفها ، ولا تحمل اُنثى ، ولا تضع اُنثى ، إلاّ في الوقت الذي يعلم سبحانه أنّه تخرج منها أو تحمل وتضع فيه.

ونظيره قوله سبحانه : ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( الزخرف - 85 ) وقوله : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا ) ( النازعات : 42 - 44 ) وقد فسّر الطبرسي قوله : ( فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ) بقوله : أي لست في شيء من علمها وذكراها.

ولأجل اختصاص علمه باللّه سبحانه ، لما سئل عن وقت الساعة وتعيين تاريخها أعرض سبحانه عنه ، وأخذ ببيان علائمها وأشراطها كما في قوله سبحانه : ( يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ ) ( القيامة : 6 - 10 ).

فإذا أمعنا النظر في هذه الآيات وما فيها من السياق الواحد المفيد للحصر والقصر ، لا نشك في صحة ما ذكره المفسّرون في جريان مشيئته سبحانه على كتمان العلم بوقتها عن غيره ولعلّ هنا من يفرّق بين قوله : ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) وقوله : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) حيث حملنا الثاني على العلم الأزلي الذاتي ، وقلنا إنّ المختص باللّه سبحانه ، هو هذا القسم دون العلم المستفاد المفاض منه ، سبحانه إلى عباده ، وأنّ الآية لا تشمل ما كان من العلم اكتسابياً ، وعلى فرض عمومه لكلا القسمين ، يمكن تخصيصها بما دلّ على اطلاع الرسول على الغيب نظير قوله سبحانه : ( فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) ( الجن : 26 - 27 ).

وأمّا قوله سبحانه : ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) فلأنّ تضافر الآيات على حصر خصوص العلم بالساعة به سبحانه والتصريح به في كل مورد تحدث عنه ، باسلوب يغاير اسلوب ما عداه كما عرفت فيما تقدم من الآيات ، ربّما يؤكد نظر المفسرين من أنّه

ص: 491

ممّا استأثر بعلمه لنفسه ، نعم امكان اطلاع النبي على وقتها بمكان من الامكان إلاّ أنّ البحث في وقوعه لا في امكانه (1).

هذا كله راجع إلى صدر الآية وهو القسم الأوّل من سياقها وإليك بيان الثاني والثالث منه.

الثاني : اثبات علمه بوقت نزول الغيث وما في الأرحام من دون قصر العلم بهما عليه سبحانه.

الثالث : التصريح بجهل البشر بما يكسب غداً وبالأرض التي فيها تموت ولكن استفادة الاستئثار من هذين القسمين ، لا يخلو من غموض وخفاء بل لا يدل عليه فإنّ أقصى ما يستفاد منها عدم اطلاع البشر عليها من عند نفسه ، وهذا لا ينافي اطلاعه عليها بتعليم من اللّه سبحانه كسائر الاُمور الغيبية ، وتخصيص هذه الموارد بالذكر مع كون الجميع كذلك ، للحث على علم الواجب سبحانه بجلائل الاُمور ودقائقها وجهل البشر بما يهمّه ولا يدل على جريان مشيئة اللّه على كتمانها عن كل بشر وعدم اعلامها لأحد.

بل يمكن أن يقال : إنّ نفي العلم عن الانسان بهذه الاُمور الأربعة كما لا ينافي امكان اطلاعه عليها بإذن اللّه واعلامه ، فهكذا لا ينافي امكان وقوف البشر عليها في ظل النواميس الكونية التي تم اكتشافها ، والأدوات العلمية التي تم اختراعها ، فإنّ مثل هذا العلم خارج عن مرمى الآية على احتمال قوي ، بل هي ناظرة إلى أنّ البشر ، بما هو هو من غير أن يستعين بشيء لا يتمكن من الوقوف على هذه الاُمور. وهذا لا ينافي امكان اطلاعه عليها بتعليمه سبحانه أو باتصاله بعوالم روحية أو باستخدام وسائل وأدوات

ص: 492


1- ومع ذلك كلّه فيمكن أن يقال : إنّه لو لم يكن هنا سوى قوله سبحانه : ( وعنده علم الساعة ) لم يصح لنا الحكم البات بأنّه ممّا استأثر بعلمه لنفسه ، وإنّما يصح الحكم بعد ملاحظة ما ورد في المقام من الآيات التي عرفتها فلاحظ.

تورث الظن أو العلم بأوضاعها.

انّ الطبيب ربّما يحدس أو يخبر على سبيل القطع عن حال مريضه ، وأنّ الموت سوف ينشب أظفاره في وقت كذا ، ويصيب في اخباره هذا ، فكما أنّ هذا النحو من العلم لاستناده إلى الامارات والعلائم والأدوات الطبية ، المورثة للظن أو العلم ، خارج عن مفاد الآية ، فهكذا ما يستند إليه الانسان في كشف المغيبات من الوسائل والاختبارات.

ولأجل ذلك نرى النبي والخلفاء من بعده ، تنبّأوا بمستقبل أحوالهم ، وما يحل بهم من نعمة ونقمة وعن زمان موتهم ومكانه.

وقد رأينا بعض المخلصين من عباده ، تنبّأوا بزمان موتهم ومكانه ، وما يحل بهم من أزمة وأزمات ونقل ذلك أيضاً عن كثير من الصلحاء ، فكيف يمكن القول بأنّه سبحانه استأثر بهذه الاُمور ، أو ما أخبر يوسف عما يكسبه صاحباه غداً فقال : ( أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ ) ( يوسف - 41 ) وأي فرق بين العلم بما يكسبه الانسان نفسه وما يكسبه الغير.

وما ربّما يقال : من تخصيص ظاهر الآية بما ثبت من تنبؤ بعض المعصومين بما يحل بهم ومكان موتهم وزمانه لا طائل تحته ، فإنّ لازم هذا التخصيص هو طرح تلكم الروايات لا تخصيصها لأنّه عندئذ ينتقض الاختصاص ولا يصدق الاستئثار أبداً فإنّ الاستئثار يتوقف على كتمان العلم بها عن كل أحد إلى يوم القيامة.

أضف إلى ذلك : أنّ من الممكن القريب أن تصبح الوسائل العلمية دقيقة فنطلع على مواقع نزول المطر ونعرف الجنين أهو ذكر أو اُنثى.

عرض وتحليل :

اعتمد المشهور في تفسير الآية على روايات لم يصح أكثرها ولم تثبت صحة اسنادها ودونك بيان ما وقفنا عليه :

ص: 493

1. روى الصدوق في خصاله عن ابن الوليد ، عن الصفار ، عن ابن هاشم ، عن عبد الرحمان بن حماد ، عن إبراهيم بن عبد الحميد بن أبي اُسامة ، عن أبي عبد اللّه قال : قال لي أبي : ألا أخبرك بخمسة لم يطلع اللّه عليها أحداً من خلقه ؟ قلت : بلى ، قال : « إنّ اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث ... » (1).

ورجال الحديث كلّهم ثقات غير عبد الرحمان بن حماد وعبد الحميد فإنّ الأوّل مهمل لم يتضح حاله بوثاقة أو ضعف ، وأمّا عبد الحميد بن أبي اُسامة فإنّه مختلف فيه وإن رجّح شيخنا العلاّمة التستري في قاموسه وثاقته.

2. روى صاحب البصائر عن أحمد بن محمد عن محمد بن سنان عن أبي الجارود عن الأصبغ بن نباتة قال سمعت أمير المؤمنين يقول : إنّ لله علمين علم استأثر به في غيبه فلم يطّلع عليه نبيّاً من أنبيائه ولا ملكاً من ملائكته وذلك قول اللّه تعالى : ( إنّ اللّه عنده علم الساعة ... ) (2) والحديث ضعيف الاسناد لأجل « محمد بن سنان » فقد ضعّفه كثير من علماء الرجال وأمّا أبو الجارود فهو زيدي.

3. ما رواه القمي في تفسيره (3) مرسلاً عن الصادق ومضمونه قريب ممّا رواه الصدوق في خصاله.

وأمّا ما رواه الحافظ جلال الدين السيوطي في الدر المنثور عن عكرمة أنّ رجلاً جاء إلى النبي صلی اللّه علیه و آله فقال : يا محمد متى قيام الساعة ؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب ؟ وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد ؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غداً ؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت ؟فنزلت الآية (4) فلا ينطبق على ظاهر الآية

ص: 494


1- الخصال ص 290 طبع مكتبة الصدوق.
2- بصائر الدرجات ص 31.
3- تفسير علي بن إبراهيم القمي ص 510 وقد جمع أحاديث الباب العلامة المجلسي في بحاره راجع ج 26 ص 101 - 103.
4- الدر المنثور ج 5 ص 169.

فإنّ المتبادر من قوله : ( ويعلم ما في الأرحام ) هو العلم بخصوصية الجنين لا العلم بوقت ولادته كما هو ظاهر الحديث مضافاً إلى ما في سنده من الضعف الظاهر لانحراف عكرمة عن أمير المؤمنين ، وأخذه الحديث من اُناس لا خلاق لهم من الدين.

هذه الأحاديث لا يصح الاعتماد عليها إلاّ على ما نقله الرضي في نهج البلاغة عن الإمام علیه السلام من أنّ علم الغيب علم الساعة ، وما ذكره اللّه سبحانه بقوله : ( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... ) فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ اللّه (1).

وهو مما يجب تأويله وتوجيهه على وجه لا ينافي ما تواتر من الروايات من تنبؤ المخلصين بزمان موتهم ومكانه ، وما يلم بهم من خير وشر خصوصاً إذا وقفنا على أنّ الإمام ألقى كلامه هذا تجاه النواصب والمخالفين الذين سمعوا من الإمام في البصرة من الأسرار ما لا يتحملون ، فاعترضوا عليه بأنّه تنبؤ بالغيب ، فأجابهم وصد اعتراضهم بأنّه ليس بعلم الغيب ، بل تعلم من ذي علم ، وإنّما الغيب هو الساعة ، وما عدده سبحانه ... ».

وبما أنّ الكلام ورد في مقام اسكات الخصم يمكن تأويله باحدى الوجوه التي ذكرها العلامة المجلسي في بحاره (2).

وأوضحها : أن يكون العلم الحتمي بها مختصاً به تعالى وكل ما أخبر اللّه به من ذلك كان محتملاً للبداء والغرض من تخصيص هذه الموارد بالذكر مع أنّ الجميع كذلك لأجل الحث على جهل البشر بما يهمّه ، واللّه سبحانه هو العالم بحقائق كتابه.

وإليك نص عبارته :

الأوّل : أن يكون المراد أنّ تلك الاُمور لا يعلمها على التعيين والخصوص إلاّ اللّه تعالى فإنّهم إذا اخبروا بموت شخص في اليوم الفلاني فيمكن أن لا يعلموا خصوص

ص: 495


1- قد أسلفنا لفظ الحديث فراجع صفحة 458 من كتابنا.
2- بحار الأنوار ج 26 ص 103 - 104.

الدقيقة التي تفارق الروح الجسد فيها مثلاً ، ويحتمل أن يكون ملك الموت أيضاً لا يعلم ذلك.

الثاني : انّ العلم الحتمي بها مختصاً به تعالى ، وكل ما اخبر اللّه به من ذلك كان محتملاً للبداء.

الثالث : أن يكون المراد عدم علم غيره تعالى بها إلاّ من قبله فيكون كسائر الغيوب ويكون التخصيص بها لظهور الأمر فيها أو لغيره.

الرابع : ما أومأنا إليه سابقاً وهو أنّ اللّه تعالى لم يطلع على تلك الاُمور كلية أحداً من الخلق على وجه لا بداء فيه ، بل يرسل علمها على وجه الحتم في زمان قريب من حصولها كليلة القدر أو أقرب من ذلك ، وهذا وجه قريب تدل عليه الأخبار الكثيرة إذ لابد من علم ملك الموت بخصوص الوقت كما ورد في الأخبار ، وكذا ملائكة السحاب والمطر بوقت نزول المطر ، وكذا المدبرات من الملائكة بأوقات وقوع الحوادث.

ص: 496

الفصل الثامن: سيرة النبي الأعظم وصفاته وأسماؤه في القرآن الكريم

اشارة

بالرغم من أنّ جوانب حياة النبي صلی اللّه علیه و آله واسعة المدى ، فسيحة الأرجاء ، متعددة الجهات ، مختلفة النواحي ، فقد عني المسلمون منذ فجر الإسلام وانبثاق الدعوى الالهية في ربوع العالم ، بضبط ما يرجع إلى حياته صلی اللّه علیه و آله ممّا دق وجل من قول ولفظ ، وفعل وعمل ، وما في تاريخه من نوادر وطرائف ونقاط ، فما صدر منه كلام إلاّ نقلوه ، أو فعل إلاّ ضبطوه ، أو سنّة إلاّ سجلوها ، وقد بلغوا الغاية في ذلك حتى دوّنوا حياة أصحابه وتابعيه وما ينسب إليه وإليهم بأدنى مناسبة. فترى في غضون المعاجم والسير كثيراً ممّا يرجع إليه صلی اللّه علیه و آله من الاُمور التي قلّما تخطر على بال بشر أن يصفها أو يسجلها كتوصيف نعله ، وسواكه ، ومشطه ، ومكحلته ، ومرآته ، وقدحه ، وسيوفه ، ودروعه ، وتروسه ، ورماحه ، وسوطه ، ورايته ، ومغفره ، وأعلام خيوله ، وابله ، وبغلته ، وحماره ، ومنايحه من الغنم ، ومواليه وحجر أزواجه ، وفسطاطه ، وقصعته ، وقعبه ، وعمامته ، وخاتمه ، وأصناف لباسه ، وطولها ، وعرضها ، وشعره ، وشيبه ، وكيفية خضابه ، ونومه ، ومأكله والطعام الذي يعجبه ،

ص: 497

حتى سجلوا الأبار التي شرب منها ، والخمرة التي كان يصلّي عليها ، إلى غير ذلك من نوادر الاُمور التي لا يهتم بذكرها وضبطها بالنسبة إلى البشر العاديين.

كل ذلك دليل على شدة ما كان يتمتع به النبي من ود وحب عريق ، إلى حد قيض همة ثلة جليلة من فطاحل المسلمين وأكابرهم لضبط وتسجيل كل ما يرجع إليه كبيراً أو صغيراً شرعياً أو عرفياً (1).

فألّفوا في كل ناحية من نواحي حياته كتباً زاخرة ورسائل طافحة أو عقدوا لها فصولاً في كتب السير والتاريخ ، ولقد زخرت المكتبة الإسلامية بأثار هذا النشاط بل زخرت مكتبات اُخرى في لغات واُمم اُخرى بكتب ورسائل في هذا المضمار إلى حد يقف العقل أمامها حائراً مشدوهاً يخالجه مزيج من الاعجاب والمهابة.

والعجب أنّ الركب بعد سائر لم يقف ، ولم يفتر ، وهذه الكتب مع كثرتها لم تشبع نهمتهم ، وما قضت وطرهم في تحليل حياة النبي ، حتى انّنا نرى الأكابر من العلماء في كل عصر وجيل إلى عصرنا هذا ، يكتبون كتباً زاخرة في حياة النبي ويؤلّفون رسائل طافحة بالتحقيق والتحليل ، حتى يغنوا بذلك الناشئ الجديد عن أساطين التاريخ وأفانين الرواية ورسائل المستشرقين ويقدمون له ما يسد جوعته ويجعل المسلم الحر يرتشف من المنهل العذب.

وعلى ضوء هذه الكتب والجهود الجبارة التي تحمّلها لفيف من علماء المسلمين بل فئة كبيرة منهم ، لم يتركوا في حياة النبي مبهمة إلاّ كشفوا أستارها ورفعوا النقاب عن وجهها ، أو جانباً مجهولاً إلاّ حدّدوه وعيّنوه بأدق وجه وأنصع بيان.

عناية القرآن ببيان صفات النبي صلی اللّه علیه و آله :

ولم تكن عناية القرآن ببيان نواح من حياة النبي الجليلة وشؤونه الدقيقة بأقل من

ص: 498


1- راجع الطبقات الكبرى ج 1 ص 360 وتاريخ الطبري ج 1 ص 417 - 428 وبحار الأنوار ج 16 ص 82 - 229 وغير ذلك من المجاميع التاريخية والحديثية.

عناية المسلمين ضبطاً وتسجيلاً ، فإنّ القارئ يجد في مختلف السور والآيات ، صوراً واضحة رائعة من صفات النبي وفضائل أخلاقه وكرائم نعوته إلى حد يقف الانسان على روحياته ونفسياته ومختلف أقواله وأفعاله ، ويقدر مع التدبر التام فيما نزل في حقه من الآيات على الاحاطة بمراحل حياته منذ بعث بل منذ نعومة أظفاره إلى أن فارقها إلى الرفيق الأعلى ، ولعلنا نرجع إلى ذلك في مستقبل الأيام (1).

فالرجوع إلى نفس القرآن واستخراج سيرة النبي وصفاته ونفسياته وأفعاله من خلال آياته الكريمة ، أوثق وأسد الطرق لدراسة شخصية النبي الأعظم ، فالتدبر في هذا القسم من الآيات ، يعطي لنا صورة واضحة عن حياة النبي وشخصيته الفذة ، وعبقريته النادرة ، وما أودعه اللّه فيها من مواهب وقوى خلقية ونفسية وعقلية ، بلغت الذروة والروعة والعظمة ، ويغنينا عن المبالغات التي يعمد إليها بعض فرق المسلمين من غير سند وثيق.

إنّ تلكم الآيات تصلح أن تكون رداً حاسماً وقوياً على الموقف المنكر الذي يقفه المغرضون من المبشرين والمستشرقين من أخلاق النبي وفضائله ، إذ يتجاهلون أو يغفلون عن ما في القرآن من نصوص ، ويتمسكون دونها بالروايات التي ربّما تكون مخترعة أو مدسوسة ومزوّرة ، فينسبون إلى ساحة النبي الأكرم ما هو بري منه ، في حين أنّ في القرآن من الآيات ما فيه كل المقنع لمن لم يختم اللّه على قلبه بما كان عليه من الرحمة والصدق والبساطة والتجرد والزهد والاستغراق في اللّه والتحلّي بالمثل العليا واعطاءه القدوة الحسنى لذلك كله.

فقد أشار سبحانه إلى مكانته المرموقة ولزوم توقيره وتكريمه ، وأنّه لا يصلح دعاؤه كدعاء بعضنا بعضاً بقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ

ص: 499


1- وقد وقفنا بعد ما كتبنا هذا الفصل على ما ألفه « محمد عزة دروزة » في هذا المضمار وأسماه « سيرة الرسول » وهي صورة مقتبسة من القرآن الكريم وذكر في مقدمة الكتاب ، الحوافز التي دفعته إلى تأليف كتابه وقد طبع في مطبعة الاستقامة بالقاهرة في جزءين وقد راجعنا هذا الكتاب بعض المراجعة عند تقديم هذا الفصل إلى الطبع.

النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) ( الحجرات : 2 ) وبقوله سبحانه : ( لاَّ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ) ( النور - 63 ) ، وإلى حرمة التسرّع في ابداء الرأي والبدء في العمل بقوله عزّ وجلّ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( الحجرات - 1 ).

وإلى تأثّره وغمّه وهمّه وحزنه من عدم استجابة قومه لدعوته واهتدائهم بهداه بقوله سبحانه : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا ) ( الكهف - 6 ) ، وبقوله : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( الشعراء - 3 ) ، وإلى تحمسه وثباته في المعارك الطاحنة وما فيه من شجاعة وثبات جنان في مواقف الشدة وميادين الكفاح ، وإلى موقفه أمام العدو حين ما دارت الدائرة على المسلمين وانهزموا وتفرّق كثير من أعيانهم وأبطالهم ، ووقف النبي وثبت في ميدان المعركة ، ومعه من لا يتجاوز عدد الأصابع بقوله سبحانه : ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران - 153 ).

فكان النبي قطب الرحى في هذا الموقف العصيب إذ ثبت ثبات الجبال ، رابط الجأش ، مطمئن النفس ، فصار اسوة حسنة للمؤمنين.

وإلى أنّه بلغ من الكمال إلى حد ، صار إماماً وقدوة للمؤمنين يتأسون به في قيمه الروحيه ومثله العليا بقوله : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيرًا ) ( الأحزاب - 21 ).

وإلى أنّه قد رزق الكوثر والخير الكثير من كل جوانب الحياة ومظاهرها فرزقه اللّه من بنت واحدة ، ما ملأ الخافقين بقوله : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) ( الكوثر - 1 ) وغيرها من الخيرات التي لا تعد ولا تحصى فلمّا رماه خصمه بأنّه الابتر ، فرمى شانئه بأنّه أولى بذلك لا نبي العظمة.

ص: 500

وقد بلغ من العظمة موقفاً إلى أنّ اللّه وملائكته يصلّون عليه ، فأمر اللّه سبحانه المؤمنين أن يصلّوا عليه ويسلّموا تسليماً وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ( الأحزاب - 56 ).

روى الشافعي عن أبي هريرة أنّه قال لرسول اللّه كيف نصلّي عليك ؟ قال : « تقولون : اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ثمّ تسلمون عليّ » (1).

قال ابن حجر صح عن كعب بن عجرة قال : لما نزلت هذه الآية قلنا : يا رسول اللّه قد عرفنا كيف نسلّم عليك فكيف نصلّي عليك ؟ قال : قولوا اللّهم صلّ على محمد وآل محمد - إلى أن قال - وروي عنه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، فقالوا : وما الصلاة البتراء ؟ قال : تقولون : اللّهمّ صلّ على محمد وتمسكون ، بل قولوا : اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمد صلی اللّه علیه و آله (2).

وقد نسب الزرقاني هذين البيتين إلى الإمام الشافعي :

يا آل بيت رسول اللّه حبّكم *** فرض من اللّه في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم *** من لم يصلّ عليكم لا صلاة له (3)

وإلى أنّه وصل إلى الذروة من عظمة الخلق وقوة الروح وصفاء النفس ورجاحة العقل بقوله : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ( القلم - 4 ).

غير أنّ من المحتمل أن يكون « الخلق » بمعنى الدين ، أي أنّك على دين عظيم كما عليه قوله سبحانه : ( إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ ) ( الشعراء - 137 ) فالمقصود اكبار الدين الذي بعث النبي لبيانه وابلاغه ، ويؤيده قوله سبحانه بعده : ( فَسَتُبْصِرُ

ص: 501


1- مسند الشافعي ج 2 ص 97.
2- الصواعق ص 144.
3- شرح المواهب ص 7.

وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ المَفْتُونُ ) أي فسترى يا محمد ويرون الذين رموك بالجنون ( بِأَييِّكُمُ المَفْتُونُ ) أي أيكم المجنون الذي فتن بالجنون أأنت أم هم ، وحيث إنّك على دين عظيم يؤيدك اللّه وينصرك عليهم (1).

وإلى دماثة خلقه وحسن معاشرته ورأفته وعطفه على أعدائه ، وتنزهه عن فظاظة الخلق ، وغلظة القلب بقول سبحانه : ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) ( آل عمران - 159 ).

وإلى ما رزق من قلب نقي وسريرة طيّبة ورغبة شديدة في خير المؤمنين وعظم ثقته بحسن نياتهم بقوله : ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ) ( التوبة - 61 ).

وإلى حيائه وصبره على ما يؤذي نفسه من أصحابه وتجنّبه من كسر قلوبهم وجرح عواطفهم بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ ) ( الأحزاب - 53 ).

وإلى ما فطر من رحمة ورأفة وبر وحرص شديد على مصلحة قومه وشعوره بما يلم بهم من آلام وما ينالهم من مشاق ، وما يلقي من جهد وعنت في سبيل ازالة آلامهم وتخفيف ما يشق عليهم ، واشتياقه إلى ارشاد الناس وهدايتهم واشفاقه ورأفته بالمؤمنين وعطفه عليهم بقوله : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة - 128 ).

وإلى غزارة علمه بقوله سبحانه : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) ( النساء - 113 ).

وإلى طهارة روحه وأهل بيته من الرجس ودرن الشرك والمعاصي بقوله سبحانه :

ص: 502


1- راجع مجمع البيان ج 5 ص 233.

( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ( الأحزاب - 33 ).

وإلى عكوفه على عبادة ربّه وتهجّده في الليل وسهره في طريق طاعة اللّه بقوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) ( المزمل - 20 ).

وإلى أنّه رسول اللّه إلى الناس كافة وخاتم النبيين وأنّ اللّه سبحانه حافظ لدينه وكتابه إلى يوم القيامة بقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( سبأ - 28 ) ، وبقوله : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) ( الأحزاب - 40 ) ، وبقوله : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر - 9 ).

وإلى أنّه مصدق لما بين يديه من الكتب بقوله : ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ) ( البقرة - 101 ).

وإلى صبره في طريق هداية الاُمّة بقوله : ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) ( النحل - 127 ).

وإلى أجره عند اللّه سبحانه بقوله : ( وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ) (القلم - 3).

وإلى قربه منه سبحانه ، وتأثير استغفاره في حق الاُمّة ، وأنّهم لو طلبوا منه أن يستغفر لهم ، لوجدوا اللّه تواباً وغافراً لذنوبهم بقوله سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) ( النساء - 64 ).

إلى أن عاد القرآن فأشار إلى عظمة قدره وجلالة شأنه بتوصيفه بأنّه : رسول نبي اُمّي ، مكتوب اسمه في التوراة والانجيل ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم الاصر ، ويرفع عنهم الاغلال حيث قال سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ

ص: 503

الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( الأعراف - 157 ).

كما وصفه بأنّه صلی اللّه علیه و آله ، شاهد ، مبشر ، نذير ، داع إلى اللّه ، سراج منير ، ورحمة للعالمين ، وأنّه أحد الأمانين في الأرض ، وأنّه سبحانه لا يعذّب الناس وهو فيهم تجد كل هاتيك الصفات والثناء في الآيات التالية :

( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ) ( الأحزاب : 45 - 46 ).

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء - 107 ).

( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ( الأنفال - 33 ).

وفي الوقت نفسه لا يقتصر القرآن على بيان روحياته ونفسياته فقط بل يطري النبي ويصفه كوصف محب متجلد فيوجه نظره السامي إلى تسمية أعضائه الظاهرة المهمة.

فيصف بصره بقوله : ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) ( النجم - 17 ).

ووجهه بقوله : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) ( البقرة - 144 ).

وقلبه بقوله : ( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( البقرة - 97 ).

وفؤاده بقوله : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) ( النجم - 11 ).

وصدره بقوله : ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ) ( الانشراح : 1 - 3 ).

وصوته بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ

ص: 504

النَّبِيِّ ) ( الحجرات - 2 ).

إلى أن يعود القرآن فيحلف بعمره ويقول : ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( الحجر - 72 ).

ويصف سيره وعروجه في الليل إلى المسجد الأقصى ومنه إلى السموات العلى بقوله : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) ( الإسراء - 1 ) (1).

ويبين نهاية سيره وأنّه قد بلغ إلى سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى قال سبحانه : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) ( النجم : 13 - 18 ).

ويصف أوليات حياته وأنّه لم يزل محروساً بعين اللّه سبحانه ومشمولاً لعنايته ، قال سبحانه : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( الضحى : 1 - 11 ).

كما يصف شرح صدره لتحمل عبء النبوّة ، ورفع الوزر الذي انقض صدره فقال : ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب ) ( الشرح : 1 - 8 ).

ويشير إلى نزول الوحي عليه وأنّ معلّمه شديد القوى إذ قال سبحانه : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ) ( النجم : 1 - 7 )

ص: 505


1- راجع في قصة المعراج إلى سورة النجم الآية السادسة إلى الثامنة عشر.

وقال سبحانه : ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) ( آل عمران - 44 ).

وإلى براءته من كل ما يلصق به من تهمة ، فقال سبحانه : ( فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ * الجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) ( التكوير : 15 - 25 ).

وإلى لزوم الاستجابة لدعوته وإنّ فيها حياتهم ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) ( الأنفال - 24 ) وقال سبحانه : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( آل عمران - 31 ).

أسماؤه في القرآن :

إنّ القرآن يتفنّن في توصيف النبي وذكره بل في تسميته والايماء إليه ، فتارة يشير إليه بإحدى الصفات العامة الشاملة لكل انسان كما في قوله : ( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) ( النجم - 10 ) غير أنّ في إضافة العبد إلى نفسه الماعاً إلى تكريمه وتقربّه منه سبحانه : واُخرى يخاطبه بالألقاب الخاصة بأنبيائه ورسله ويقول : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ) ( الأنفال - 65 ) ، ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) ( المائدة - 67 ) (1).

وثالثة يخصّه باسميه اللذين كان يدعى بهما في الإسلام أعني محمداً وأحمد ، أمّا الأوّل فقد جاء في مواضع أربعة من القرآن :

1. ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ

ص: 506


1- نعم جاء في بعض الوثائق التاريخية والمجاميع الحديثية أنّ أسماءه صلی اللّه علیه و آله يس ، طه ، ن ، غير أنّه لم يحقق ذلك إذ من المحتمل جداً أن تكون من الحروف المقطعة كما عليه أعلام التفسير.

النَّبِيِّينَ ) ( الأحزاب - 40 ).

2. ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) ( آل عمران - 144 ).

3. ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) ( محمد - 2 ).

4. ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) ( الفتح - 29 ).

وأما الثاني فقد جاء في موضع واحد حيث يقول سبحانه : ( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ( الصف - 6 ).

وليس الرسول صلی اللّه علیه و آله بدعاً من بين الرسل في كونه ذا اسمين فقد سبقه في ذلك ثلّة من الأنبياء كيوشع بن نون وهو ذو الكفل في القرآن ويعقوب بن إسحاق وهو إسرائيل ويونس وهو ذو النون وعيسى وهو المسيح (1) وعلى ذلك فلا إشكال في أن يكون للرسول الأعظم إسمان : محمد وأحمد ، ويظهر من الروايات المتظافرة أنّ اسمه في السماء أحمد ، فقد جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومما سأله أنّه لم سمّيت محمداً وأحمد وأبا القاسم وبشيراً ونذيراً وداعياً ؟ فقال النبي : « أمّا محمد فإنّي محمود في الأرض ، وأمّا أحمد فإنّي محمود في السماء » (2) .

ولعلّ المراد من السماء عالم الوحي ويطابق مضمونه ما تعطيه آية الصف من تبشير المسيح بمجي نبي اسمه أحمد. وروى أهل السير والتاريخ عن الباقر علیه السلام : انّ « آمنة » اُم النبي اُمرت في المنام وهي حامل برسول اللّه أن تسميه أحمد وسماه جده محمداً بالهام من اللّه تفاؤلاً بأن يكثر حمد الخلق له لكثرة خصاله الحميدة التي يحمد عليها ، وإلى ذلك يشير أبو طالب بقوله :

وشقّ له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد

ص: 507


1- سأل الشامي أمير المؤمنين علیه السلام عن ستة من الأنبياء لهم أسمان فأجاب بما ذكرناه وأضاف الخضر وهو حلقيا ومحمد صلی اللّه علیه و آله وهو أحمد صلوات اللّه عليهم. عيون أخبار الرضا ص 1. بحار الأنوار ج 16 ص 90.
2- أمالي الصدوق : ص 112 ، علل الشرائع ص 53 ، معاني الأخبار ص 19 ، بحار الأنوار ج 16ص 94.

وفي الخصائص الصغرى : « أحمد » ولم يسم به أحد قبله (1) فإنّ العرب كانوا مأنوسين بلفظ « محمد » لأنّه سمّي به في زمن النبي وقد عد بعضهم من سمّي بمحمد ستة عشر ونظمهم بقوله :

انّ الذين سمّوا باسم محمد *** من قبل خير الخلق ضعف ثمان

وأمّا أحمد فلم يسم به أحد قبله بل منع اللّه بحكمته أن يتسمّى به أحد غيره ولا يدعى به مدعو قبله منذ خلقت الدنيا وفي خلال حياته الشريفة حتى لا يدخل لبس أو شك على ضعيف القلب ، وأوّل من سمّي بأحمد في الإسلام ولد جعفر بن أبي طالب (2). وكذلك محمداً أيضاً لم يسم به أحد قبل وجوده صلی اللّه علیه و آله وميلاده ولم يتحقق ذلك إلاّ بعد أن شاع أنّ نبياً يبعث في الحجاز اسمه محمد وقد قرب زمنه فسمّى بعضهم حينئذ أبناءهم بذلك وحمى اللّه تعالى هؤلاء من أن يدعي أحد النبوّة أو يدعيها أحد له أو يظهر عليه شيء من سماتها إلى أن تحققت دعوة النبي (3).

لا ريب أنّ أحمداً أحد أسمائه المعروفة ولا يتردد في تسميته بهذا الأسم من له أدنى تتبع في سيرته وتاريخ حياته ، وما قيل في حقه من المدائح في الإسلام وقبله يوضح أنّه كان يدعى بهذا الإسم منذ نعومة أظفاره.

وهذا أبو طالب شيخ الأباطح حامي النبي وكفيله يذكره في أشعاره بهذا الاسم ويسمّيه به ومثله حسان به ثابت شاعر الرسول في عهد الرسالة ، ومادحه وغيرهما من الشعراء المخضرمين ، تراهم أصفقوا على تسميته بأحمد من دون تردد ولا ريب ، كل ذلك يدل على أنّ البيت الذي ولد ونشأ فيه النبي صلی اللّه علیه و آله قد أسماه بهذا ، والبيئة التي شب وترعرع فيها ، كان تعرفه به.

ص: 508


1- السيرة الحلبية ج 1 ص 93.
2- كتب إلينا المحقق التستري في ملاحظاته على الكتاب أنّه لم يجد بأحمد بل كانوا مسمين ب « عون » و « عبد اللّه » و « محمد ».
3- المصدر نفسه ص 95 - 97 بتلخيص منّا.

شبهة تافهة اختلقها رجال الكنيسة :

إنّ الغرب بعد أن تم غزوه لبلاد الشرق واحتلّها بالحديد والنار ، طفق يغزو الأفكار ويبث الشبهات وقد بعث رجال التبشير إلى هذه البلاد لتحريف أفكار شباب الإسلام منه ثمّ توجيههم إلى المسيحية أوّلاً واللادينية ثانياً ، حتى يسهل اصطيادهم وسحق حقوقهم ونهب منابعهم وأموالهم ، ومن الشبهات التافهة التي نشرها بعض رجال الكنيسة في بلادنا قولهم :

إنّ المسيح بشّر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد غير أنّه لا ينطبق على نبي الإسلام فإن إسمه « محمد » بنص القرآن الكريم واتفاق المسلمين وغيرهم ، والذي بشّر به المسيح إنّما هو أحمد ، وحينئذ فإنّ ما بشّر به هو غير ذاك ، ونحن نتربص بفارغ الصبر مجيء نبي آخر اسمه أحمد ، يكون خاتم الأنبياء والمرسلين.

وتلك شبهة لا تحتاج إلى الجواب ، ولا غرو من مبدعها فإنّ من يعمد إلى تغيير الشرائع بالتحريف ، لا يتعفف عن تحويل الأسماء عن مسمياتها إلى غيرها مما يرشده إليه هواه ، إذ من الضروري أنّ أحمد أحد أسماء نبيّنا صلی اللّه علیه و آله وكانت الحجاز والحرم والبيت ومن يعيش فيها ، تعرفه بهذا الاسم كما كانت تعرفه باسمه الآخر.

أضف إلى ذلك أنّه لما نزل قوله سبحانه : ( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) لم يعترض على النبي أحد من المسيحيين ولا من غيرهم ، بل لم ينبس أحد ببنت شفة ، بأنّ من بشّر بمجيئه المسيح إنّما هو أحمد ، وأي صلة بينك وبين هذه البشارة ، بل سكتوا عنه وتلقّوه أمراً مسلماً وهذا دليل على أنّه صلی اللّه علیه و آله كان معروفاً بهذا الاسم يوم ذاك بل منذ ولادته ونعومة أظفاره (1).

ودونك نماذج مما وقفت عليه من شعر عمّه وغيره ممن ذكروا النبي في أشعارهم

ص: 509


1- والأوهن من تلك الشبهة ما حسبه بعض المغفلين من أنّ الآية اخبار عن نبوّة غلام أحمد القادياني ذلك المتنبئ المشعوذ الذي خدم الاستعمار البريطاني عند احتلال الهند.

بهذا الاسم وسمّوه به ، ونكتفي من الكثير بالقليل ، حذراً من الاطالة :

قال أبو طالب رحمة اللّه عليه :

ألا أنّ خير الناس نفساً ووالداً *** إذا عدّ سادات البرية أحمد (1)

وقال :

إن يكن ما أتى به أحمد اليوم *** سناء وكان في الحشر ديناً (2)

وقال :

وقوله (3) لأحمد أنت امرء *** خلوف الحديث (4) ضعيف النسب

وإن كان (5) أحمد قد جاءهم *** بحق ولم يأتهم بالكذب (6)

وقال :

تنالون أحمد أو تصطلوا *** ظباة الرماح وحد القضيب (7)

وقال :

أرادوا قتل أحمد ظالموه *** وليس بقتلهم فيهم زعيم (8)

وقال :

فلسنا وبيت اللّه نسلم أحمدا *** لعزاء من عض الزمان ولا كرب (9)

ص: 510


1- ديون أبي طالب ص 13.
2- المصدر نفسه ص 19.
3- وفي مجمع البيان : وقالوا.
4- وفي المجمع : اللسان.
5- وفي المجمع : « إلاّ أن ».
6- مجمع البيان ج 2 ص 287 ط صيدا.
7- المصدر نفسه ص 26.
8- المصدر السابق ص 29.
9- المصدر نفسه ص 20 وتجد بعض تلكم العسجدية مبثوثة في طيات الكتب والمعاجم ونرى المقام غنياً عن الاشارة لمصادرها غير إنّا أخذناها من ديوانه المطبوع بالنجف الأشرف في المطبعة الحيدرية وجامع ديوانه هو عبد اللّه بن مهزم البصري كما صرح به النجاشي في فهرسته ص 151 وذكر طريق روايته إليه ، وذكره شيخنا في الذريعة ج 14 ص 195.

وقال :

لقد أكرم اللّه النبي محمداً *** فأكرم خلق اللّه في الناس أحمد

وشقّ له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد (1)

قال الديار بكري : أنشأ أبو طالب في مدح النبي أبياتاً منها هذا البيت.

وشقّ له من اسمه ليجله ...

وحسان بن ثابت ضمن شعره هذا فقال :

ألم تر أنّ اللّه أرسل عبده *** بآياته واللّه أعلى وأمجد

وشقّ له من اسمه ليجله ...

قال ابن هشام : ولما خشى أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها وتودد أشراف قومه وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من أنّه غير مسلّم رسول اللّه ولا تاركه لشيء أبداً حتى يهلك دونه. ومن تلك القصيدة قوله :

لعمري لقد كلفت وجداً بأحمد *** واحببته حب الحبيب المواصل

فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها *** وزيناً لمن والاه رب المشاكل

فأصبح فينا أحمد في أرومة *** تقصر عنه سورة المتطاول (2)

روى ابن الأثير : أنّ أبا طالب رأى النبي وعلي يصلّيان ، وعلي على يمينه فقال لجعفر - رضي اللّه تعالى عنه - : صل جناح ابن عمك وصلّ على يساره ، وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه علي بقليل ، وقال أبو طالب :

فصبراً أبا يعلي على دين أحمد *** وكن مظهراً للدين وفقت صابراً

ص: 511


1- تاريخ ابن كثير ج 1 ص 266 ، الإصابة ج 4 ص 115 ، تاريخ الخميس ج 1 ص 254.
2- سيرة ابن هشام ج 1 ص 272 وشرح النهج ج 14 ص 79.

وباد قريشاً بالذي أتيته *** جهاراً وقل ما كان أحمد ساحراً (1)

روى شيخنا أبو الفتوح الرازي في تفسيره :

زعمت قريش أنّ أحمد ساحر *** كذبوا ورب الراقصات الى الحرم (2)

إلى غير ذلك مما نقل وأثر منه سلام اللّه عليه ، ولو اسقصينا ما نقل عنه من الشعر في هذا الباب لخرجنا عن المقصود ، وقد نقل السيد الفخار عنه هذين البيتين في ضمن أبيات :

وانصر أحمداً فإنّ من اللّه *** رداء عليه غير مدال

فخير بني هاشم أحمد *** رسول الاله على فترة (3)

وقال :

يا شاهد اللّه علي فاشهد *** انّي على دين النبي أحمد (4)

وقد أثر عن أمير المؤمنين علي علیه السلام أنّه قد أمره والده أبو طالب بالصبر في الدفاع عن النبي بقوله :

أصبرن يا بني فالصبر أحجى *** كل حي بصبره مشعوب

فأجاب علي علیه السلام بقوله :

أتأمرني بالصبر في دين أحمد *** وواللّه ما قلت الذي قلت جازعاً

ص: 512


1- اُسد الغابة ج 1 ص 287 ، كما في الغدير ج 7 ص 358 ، بحار الأنوار ج 18 ص 221 ، مجمع البيان ج 2 ص 287 ، وفي الأخير : يحض أبو طالب أخاه حمزة على اتباع النبي صلی اللّه علیه و آله .
2- تفسير أبي الفتوح ج 4 ص 212 ونقله أبو علي شمس الدين السيد فخار بن محمد الموسوي المتوفّى 630 صاحب كتاب الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب ص 72.
3- كتاب الحجة ص 74.
4- شرح النهج ج 14ص 78 ، وقال وقد يروى لعلي في ديوانه ، ولكنّه موجود في ديوان أبي طالب ص 75 ولم نذكر في عداد ما نقلناه عن ديوانه لمكان هذا الترديد.

سأسعى لوجه اللّه في نصر أحمد *** نبي الهدى المحمود طفلاً ويافعاً (1)

وأمّا ما نقل عن غير أبي طالب متضمناً تسمية النبي بأحمد ، فكثير جداً تصعب الاحاطة به ويطول الكلام بنقل ما وقفنا عليه في مجاميع التاريخ والأدب ولنكتفي بما يلي :

قال حسان بن ثابت شاعر عهد الرسالة في رثاه :

مفجعة قد شفها فقد أحمد *** فظلّت لآلاه الرسول تعدد

أطالت وقوفاً تذرف العين جهدها *** على طلل القبر الذي فيه أحمد (2)

وقال أيضاً في رثاه صلی اللّه علیه و آله :

صلّى الاله ومن يحيق بعرشه *** والطيّبون على المبارك أحمد (3)

وقال :

فمن كان أو يكون كأحمد *** نظام الحق أو نكال لملحد

وقال في رثاه جعفر الطيار :

بها ليل منهم وابن اُمّه *** علي ومنهم أحمد المتخير

وقال يرثي زيد بن حارثة :

ذاكم أحمد الذي لا سواه *** ذاك حزني معا له وسروي (4)

وقال حسان :

ص: 513


1- شرح النهج الحديدي ج 14 ص 64.
2- نقلها ابن هشام في سيرته ج 2 ص 667 و 669 ، ونقل الثاني منهما ابن سعد في طبقاته ج 2 ص 323.
3- نقلها ابن هشام في سيرته ج 2 ص 667 و 669 ، ونقل الثاني منهما ابن سعد في طبقاته ج 2 ص 323.
4- أخذنا ما نقلناه إلى هنا من شاعر عهد الرسالة من مواضع مختلفة من ديوانه راجع ص 59 ، 63 ، 65 ، 102 ، 109 ط بيروت ، تحقيق محمد عزت نصر اللّه ، مضافاً إلى المصادر الاُخرى التي أوعزنا إليها.

فمن كف أحمد قد فجرت *** عيون من الماء يوم الظمأ (1)

وقال :

ففي كف أحمد قد سبّحت *** بتقديس ربي صغار الحصى (2)

وقال كعب بن مالك :

فهذا نبي اللّه أحمد سبّحت *** صغار الحصى في كفّه بالترنم (3)

وقد نقل عن ورقة بن نوفل أنّه بعد ما اطلع على أمر النبي صلی اللّه علیه و آله وأنّه ينزل عليه الناموس الأكبر الذي كان ينزل على موسى وعيسى أنشأ يقول :

فإن يك حق يا خديجة فاعلمي *** حديثك أيانا فأحمد مرسل (4)

وقال :

بأنّ أحمد يأتيه فيخبره *** جبريل أنّك مبعوث إلى البشر (5)

وقال :

وانّ ابن عبد اللّه أحمد مرسل *** إلى كل من ضمّت عليه الأباطح (6)

وقال أحد بني عامر رداً على حسان في افتخاره بالأنصار :

بسيف ابن عبد اللّه أحمد في الوغى *** بكف علي نلتم ذاك فاقصروا (7)

وقال حمزة حين أسلم ، أبياتاً منها :

إذا تليت رسائله علينا *** تهدر دمع ذي اللّهب الحصيف

رسائل جاء أحمد من هداها *** بآيات مبيّنة الحروف (8)

ص: 514


1- بحار الأنوار ج 16 ص 413 و 414 و 415.
2- بحار الأنوار ج 16 ص 413 و 414 و 415.
3- بحار الأنوار ج 16 ص 413 و 414 و 415.
4- بحار الأنوار ج 18 ص 195 و 196 وراجع بلوغ الارب ج 2 ص 274 و 275.
5- بحار الأنوار ج 18 ص 195 و 196 وراجع بلوغ الارب ج 2 ص 274 و 275.
6- بحار الأنوار ج 18 ص 195 و 196 وراجع بلوغ الارب ج 2 ص 274 و 275.
7- بحار الأنوار ج 20 ص 259.
8- سيرة ابن هشام ج 1 ص 293.

وقالت عاتكة بنت عبد المطلب ترثي النبي صلی اللّه علیه و آله :

يا عين جودي ما بقيت بعبرة *** سحاً على خير البرية أحمد (1)

ونقل المجلسي عن الخرائج : انّ تبع بن حسان سار إلى يثرب وقتل من اليهود ثلاثمائة وخمسين رجلاً بالصبر وأراد خرابها ، فقام إليه رجل من اليهود وقال : إنّك لا تستطيع أن تخرب هذه القرية ، قال : ولِمَ ؟ قال : لأنّه يخرج منها من ولد اسماعيل نبي يظهر من هذه البنية ، يعني البيت الحرام ، فكف « تبع » ومضى يريد مكة ومعه اليهود وكسا البيت وأطعم الناس وهو القائل :

شهدت على أحمد أنّه *** رسول من اللّه باري النسم (2)

وقالت صفية في تزويجه صلی اللّه علیه و آله :

ثمّ السعود لأحمد *** والسعد عنه ما برح

بخديجة بنت الكمال *** وبحر أناملها طفح (3)

واجتمع سادة قريش وأكابرها في اليوم الثالث كعادتهم ، ونهض العباس وهو يقول :

شاع في الناس فضلكم *** وعلا في المراتب

قد فخرتم بأحمد *** زين كل الاطائب

أحمد سيد الورى *** خير ماش وراكب (4)

وقال بعض المسلمين عند اجلاء بني النضير وربّما ينسب إلى علي بن أبي طالب علیه السلام :

ص: 515


1- الطبقات الكبرى ج 2 ص 326.
2- بحار الأنوار ج 15 ص 214.
3- بحار الأنوار ج 16 ص 75.
4- بحار الأنوار ج 16 ص 72.

رسائل تدرس في المؤمنين *** بهن اصطفى أحمد المصطفى

إلى أن قال :

وقلن لأحمد ذرنا قليلا *** فإنّا من النوح لم نشتف (1)

خاتمة المطاف :

ولنختم البحث بذكر ما ورد حول أسمائه فانّ صريح الأحاديث أنّ أسماءه في القرآن أكثر من هذين ، فقد روى الصدوق في خصاله (2) أنّ لرسول اللّه عشرة أسماء : خمسة منها في القرآن ، وخمسة ليست في القرآن ، فأمّا التي في القرآن : محمد ، أحمد ، عبد اللّه ، يس ، ن ، وأمّا التي ليست في القرآن : فالفاتح ، الخاتم ، الكاف ، المقفي ، الحاشر.

روى الشيخ الأكبر عن الكلبي (3) عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قال لي : كم لمحمد اسم في القرآن ؟ قال : قلت : اسمان أو ثلاثة ، فقال : يا كلبي له عشرة أسماء ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) ، ( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ، ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) ، ( طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) ، ( يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ ) ، ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) ، ( يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ ) ، ( يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ ) ، ( قَدْ أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللّهِ ) ، فالذكر اسم من أسماء محمد ونحن أهل الذكر ، فسل يا كلبي عمّا بدا لك ؟

ومفهوم الحديثين واضح فانّ المراد من الاسم فيها أعم من الصريح والمؤوّل ومن العلم والوصف فانّ بعض ما عد اسماً له صلی اللّه علیه و آله لا يعدو عن كونه وصفاً له كالمدثر والمزمل كما أنّ عد الحروف المقطعة علماً له إنّما هو بالتأويل المخصوص علمه لهم علیهم السلام ، فلاحظ.

ص: 516


1- سيرة ابن هشام ج 2 ص 197.
2- الخصال ج 2 ص 48.
3- بصائر الدرجات ص 159.

وقال الشيخ الطوسي في التبيان : روي عن علي علیه السلام : سمّى اللّه تعالى النبي في القرآن بسبعة أسماء (1).

هذه سيرة النبي الأكرم وهذه صفاته ونعوته وأسماؤه ، وما قدمناه خطوة رائدة للتعرف على نفسياته وسيرته من اُفق القرآن المبين ، أو نواة طيبة يمكن البناء عليها ، وهو باجماله يمثل شخصيته اللامعة ، ومكانته المرموقة ، التي قرن اللّه طاعته بطاعته وقال سبحانه : ( مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) ( النساء - 80 ) ومحبّته بمحبّته وقال سبحانه : ( إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) ( آل عمران - 31 ).

وبيعته ببيعته وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ ) ( الفتح - 10 ) إلى غير ذلك.

وما أردت أن ألمح إلى جميع ما ورد في حقه صلی اللّه علیه و آله في القرآن المجيد فإنّ استخراجه عمل ضخم لا تسعه طاقة انسان واحد.

وإنّما الذي استهدفت هو أن أشير إلى نماذج حتى يكون فتحاً للباب واستنهاضاً للهمم وتقديماً للاسوة : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيرًا ) .

وآخر دعوانا

أن الحمد لله ربّ العالمين

ص: 517


1- التبيان ج 2 ص 475.

ص: 518

فهرس مصادر الكتاب

1. القرآن الكريم

حرف الألف

2. إبانة المختار : شيخ الشريعة الأصفهاني ( 1266 - 1339 ه ) دار القرآن ، قم.

3. إثبات الهداة : الحرّ العاملي : محمد بن الحسن ( م 1104 ه ) المطبعة العلمية ، قم.

4. الإحتجاج : أبو منصور : أحمد بن علي الطبرسي ( من أعلام القرن السادس الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1403 ه.

5. إحقاق الحق : الشهيد السيد نور اللّه الحسيني التستري ( 1091 ه ) المكتبة الإسلامية ، طهران.

6. الاختصاص : المفيد : محمد بن محمد بن النعمان ( 336 - 413 ه ) مؤسسة النشر الإسلامي ، قم المقدّسة.

7. الإرشاد : له أيضاً 1 قم المقدّسة - 1402 ه.

8. إرشاد القلوب : الديلمي : أبو محمد : الحسن بن محمّد ( من أعلام القرن الثامن الهجري ) منشورات الرضي ، قم المشرفة.

9. الاستيعاب : أبو عمر : يوسف بن عبد اللّه بن عبد البر ( م 456 ه ) ، دار نهضة مصر ،

ص: 519

القاهرة.

10. اُسد الغابة : ابن الأثير : أبو الحسن : علي بن أبي الكرم ( م 630 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

11. الأسس النفسية للنمو : الدكتور فؤاد البهي مدرس علم النفس بجامعة عين شمس.

12. الإشارات : الشيخ الرئيس ابن سينا ( م 428 ه ) طبع طهران.

13. إشراقات : عبد الحميد خاوري.

14. الإصابة : العسقلاني : أحمد بن علي بن حجر ( م 852 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1358 ه.

15. أصل الشيعة واُصولها : الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ( 1295 - 1373 ه ) مطبعة العرفان ، صيدا - 1355 ه.

16. اُصول الفلسفة : العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي ( 1402 ه ) منشورات المؤسسة الثقافية ، النجف الأشرف - 1385 ه.

17. أعلام الورى : الطبرسي : أمين الإسلام الفضل بن الحسن ( 471 - 548 ه ) طبع إيران.

18. الإقبال : ابن طاووس : علي بن موسى الحلّي ( م 664 ه ) طبع تبريز.

19. إكمال الدين : الشيخ الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) طهران - 1405 ه.

20. الأمالي : له أيضاً قدس سره المكتبة الإسلامية ، طهران.

21. الأمالي : الطوسي : محمّد بن الحسن ( 385 - 460 ه ) مؤسسة الوفاء ، بيروت - 1401 ه.

22. الأمالي : المفيد : محمد بن محمد بن النعمان ( م 413 ه ) قم - 1404 ه.

23. أوائل المقالات : له أيضاً قدس سره مكتبة الحقيقة ، تبريز - 1371 ه.

24. ايقان : عبد الحميد خاوري.

ص: 520

حرف الباء

25. بحار الأنوار : محمّد باقر المجلسي ( م 1110 ه ) مؤسسة الوفاء ، بيروت - 1403 ه.

26. بديع : حسين علي النوري.

27. بصائر الدرجات : الصفار : محمد بن الحسن ( م 290 ه ) تحقيق الميرزا محسن كوچه باغي ، الطبعة الثانية ، إيران - 1391 ه.

28. بلوغ الارب : السيد محمود الآلوسي ( م 1270 ه ).

حرف التاء

29. التاج : أبو عثمان : عمرو بن بحر الجاحظ ( م 255 ه ) مطبعة تابان - 1349 ه.

30. التاج الجامع للاُصول : الشيخ منصور علي ناصف ، دار الفكر ، بيروت - 1406 ه.

31. تاريخ ابن كثير المسمى ( البداية والنهاية ) : ابن كثير الشامي ( م 774 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1402 ه.

32. تاريخ الإسلام السياسي : الدكتور حسن إبراهيم حسن ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة - 1967 م.

33. تاريخ بغداد : أبو بكر : أحمد بن علي الخطيب البغدادي ( م 463 ه ) المكتبة السلفية ، المدينة المنورة.

34. تاريخ بيهق : ابن فندق ( م 565 ه ) تعليق الاُستاذ بهمنيار ، ط. طهران.

35. تاريخ حصر الاجتهاد : آقا بزرگ الطهراني ( 1293 - 1389 ه ) مدرسة الإمام المهدي - عج - خونسار ، إيران - 1401 ه.

36. تاريخ الخميس : الديار بكري : الشيخ حسين بن محمّد ، مؤسسة شعبان ، بيروت.

37. تاريخ الطبري المسمّى ( تاريخ الاُمم والملوك ) : أبو جعفر محمّد بن جرير ( م 310 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت.

38. تاريخ اليعقوبي : أحمد بن أبي يعقوب ( من علماء القرن الثالث الهجري ) المكتبة

ص: 521

الحيدرية ، النجف الأشرف - 1384 ه.

39. التبيان في اعراب القرآن: أبو البقاء عبد اللّه بن الحسين العكبري (م 616).

40. تجريد الاعتقاد : نصير الدين الطوسي ( م 672 ه ).

41. تحفة الزائر : العلاّمة محمّد باقر المجلسي ( 1110 ه ) طبعة حجر ، إيران.

42. تذكرة الفقهاء : العلاّمة الحلّي ( م 726 ه ) المكتبة الرضوية ، تبريز ، طبعة حجر.

43. تعاليق الأسفار الأربعة : الحكيم السبزواري.

44. تفسير ابو الفتوح المسمّى ( روح الجنان ) : أبو الفتوح الرازي ، طهران - 1394 ه.

45. تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل: عبد اللّه بن عمر البيضاوي، طبع مصر.

46. تفسير البرهان : السيد هاشم التوبلي البحراني ( م 1107 ه ) قم - 1375 ه.

47. تفسير البيان : السيد أبو القاسم الخوئي ( 1317 - 1413 ه ) مطبعة الآداب ، النجف الأشرف.

48. تفسير التبيان : الطوسي : محمّد بن الحسن ( 385 - 460 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

49. تفسير الدر المنثور : جلال الدين السيوطي ( 849 - 911 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1403 ه.

50. تفسير الرازي : الفخر محمّد بن عمر الخطيب ( 544 - 606 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

51. تفسير فرات : أبوالقاسم : فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي ( من أعلام الغيبة الصغرى ) طهران - 1410 ه.

52. تفسير الكشاف : الزمخشري : محمود بن عمر ( م 538 ه ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة - 1367 ه.

53. تفسير مجمع البيان : الطبرسي : الفضل بن الحسن ( 471 - 548 ه ) مطبعة العرفان ، صيدا - 1354 ه.

54. تفسير المنار : محمد رشيد رضا ( م 1354 ه ) دار المنار ، مصر - 1373 ه.

ص: 522

55. تفسير الميزان : العلاّمة محمّد حسين الطباطبائي ( 1321 - 1402 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1403 ه.

56. تفسير النعماني : ابو عبد اللّه محمد بن إبراهيم.

57. تنبيه الاُمّة وتنزيه الملّة : الميرزا النائيني.

58. تنقيح المقال : عبد اللّه المامقاني ( 1290 - 1351 ه ) النجف الأشرف - 1350 ه.

59. تهذيب الأحكام : الشيخ الطوسي : محمد بن الحسن ( م 460 ه ) النجف الأشرف 1378 ه.

60. تهذيب الوصول إلى علم الاُصول : العلاّمة الحلّي ( م 726 ه ) طبعة حجر.

61. التيسير في علم التفسير : عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الدميري المعروف بالديريني ( 612 - 694 ه ).

حرف الجيم

62. جامع الاُصول : الترمذي.

63. جامع الرواة : الأردبيلي ، محمّد بن علي الغروي ، منشورات مكتبة آية اللّه العظمى المرعشي النجفي ، قم المقدّسة - 1403 ه.

64. جامع السعادات : جلال الدين عبد الرحمان السيوطي ( 849 - 911 ه ) دار الفكر ، بيروت.

65. الجامع الصغير : جلال الدين عبد الرحمان السيوطي ( 849 - 911 ه ).

حرف الحاء

66. الحجة الذاهب إلى تكفير أبي طالب : أبو علي : شمس الدين فخار بن محمد الموسوي ( م 630 ه ).

67. حق اليقين : السيد عبد اللّه شبر ( م 1188 - 1242 ه ) المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف.

ص: 523

68. حلية الأولياء : أبو نعيم : أحمد بن عبد اللّه الإصبهاني ( م 430 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1387 ه.

حرف الخاء

69. الخاتمية : علي أمير پور ، منظمة مرجان للمطبوعات ، طهران - 1385 ه.

70. الخرائج والجرائح : قطب الدين الرواندي ( م 573 ه ) مؤسسة الإمام المهدي ، قم - 1409 ه.

71. الخصال : الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) مؤسسة النشر الإسلامي ، قم - 1403 ه.

72. الخطط المقريزية : تقي الدين المقريزي ( م 845 ه ) دار صادر ، بيروت.

حرف الدال

73. الدرجات الرفيعة : صدر الدين السيد علي خان المدني الحسيني ( م 1120 ه ) منشورات المكتبة الحيدرية ، النجف الأشرف - 1381 ه.

74. الدعوة إلى الإسلام : السير توماس ارنولد.

75. ديوان أبي طالب : الجامع علي بن حمزة البصري التميمي المكنّي بأبي نعيم ( م 375 ه ).

حرف الذال

76. الذريعة : آقا بزرگ الطهراني ( 1293 - 1389 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1403 ه.

حرف الراء

77. الرجال : الكشي : أبو عمرو ( من علماء القرن الرابع الهجري ) مؤسسة اللأعلمي ، كربلاء ، العراق.

ص: 524

حرف الزاي

78. زاد المعاد : العلاّمة محمد باقر المجلسي ( 1110 ه ) طبعة حجر ، إيران.

حرف السين

79. السرائر : ابن إدريس الحلي ( م 598 ه ) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم - 1410 ه.

80. سفينة البحار : الشيخ عباس القمي ( 1294 - 1359 ه ) طبعة حجر ، النجف الأشرف.

81. السنن : ابن ماجة : أبو عبد اللّه : محمد بن يزيد القزويني ( 207 - 275 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1395 ه.

82. السنن : الدارمي : عبد اللّه بن عبد الرحمان ( 181 - 255 ه ) دار إحياء السنة النبويّة.

83. السيرة النبويّة : ابن هشام : أبو محمد : عبد الملك بن أيوب الحميري ( م 213 أو 218 ه ) دار التراث العربي ، بيروت.

84. السيرة الحلبيّة : الحلبي : برهان الدين علي بن إبراهيم ( م 1044 ه ) المكتبة الإسلامية ، بيروت.

85. السيرة الدحلانية على هامش السيرة : السيد أحمد زيني دحلان ، المكتبة الإسلامية ، بيروت.

حرف الشين

86. الشرائع : المحقق الحلّي : أبو القاسم : جعفر بن الحسن ( 602 - 676 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1403 ه.

ص: 525

87. شرح ابن عقيل : عبد اللّه بن عقيل الهمداني المصري ( 698 - 769 ه ) المكتبة التجاريّة الكبرى ، بيروت - 1403 ه.

88. شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد ( م 655 ه ) دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة - 1378 ه.

89. شرح المواهب : الزرقاني.

90. الشفاء : الشيخ الرئيس ابن سينا ( م 428 ه ) منشورات بيدار ، إيران.

حرف الصاد

91. الصحيح : البخاري : محمد بن إسماعيل ( م 256 ه ) مكتبة عبد الحميد أحمد حنفي ، مصر - 1314 ه.

92. الصحيح : مسلم بن الحجاج القشيري ( م 261 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

93. الصحيفة السجادية الجامعة : الإمام زين العابدين : علي بن الحسين علیهماالسلام مؤسسة الإمام المهدي - عج - قم المقدّسة - 1411 ه.

94. الصحيفة الهادية والتحفة المهدية : الشيخ إبراهيم بن محسن الكاشاني.

95. الصراع بين الإسلام والوثينة : عبد اللّه القصيمي.

96. الصواعق المحرقة : أحمد بن حجر الهيتمي ( م 974 ه ) مكتبة القاهرة ، مصر - 1385 ه.

حرف الطاء

97. الطبقات الكبرى : محمد بن سعد ( م 230 ه ) دار صادر ، بيروت - 1380 ه.

حرف العين

98. العرب : الاُستاذ عمر أبو النصر.

ص: 526

99. عقائد الإمامية : الشيخ محمد رضا المظفر.

100. العقد الفريد : ابن عبد ربه الأندلسي ( 246 - 328 ه ) دار الكتب العلمية ، بيروت - 1404 ه.

101. علل الشرائع : الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1408 ه.

102. علم الإمام : الشيخ محمد حسين المظفر : النجف الأشرف - 1380 ه.

103. عيون أخبار الرضا : الشيخ الصدوق ( م 381 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1404 ه.

حرف الغين

104. غاية المرام : السيد هاشم البحراني ( م 1107 ه ) طبعة حجر ، إيران.

105. الغدير : العلاّمة الأميني : عبد الحسين أحمد النجفي ( 1320 - 1390 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1387 ه.

حرف الفاء

106. فتح الباري : ابن حجر : شهاب الدين أحمد العسقلاني ( م 852 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

107. فتوح البلدان : البلاذري : أبو الحسن ( م 279 ه ) المكتبة التجارية ، مصر - 1959 م.

108. الفرائد : الشيخ الأنصاري ( 1212 - 1281 ه ) طبعة حجر ، إيران.

109. فرحة الغري : عبد الكريم بن طاووس ، النجف الأشرف - 1368 ه.

110. فلا السائل : علي بن موسى بن جعفر بن طاووس ( م 664 ه ) منشورات دفتر تبليغات إسلامي التابع للحوزة العلمية ، قم المقدّسة.

111. الفهرست : النجاشي : أبو العباس ( م 450 ه ) طبع بومبي.

ص: 527

حرف القاف

112. قاموس الرجال : محمد تقي التستري ( المعاصر ، تولد 1320 ه ) طهران - 1397 ه.

113. القرآن والكتاب : الحداد.

114. قرب الإسناد : الحميري القمي : عبد اللّه بن جعفر ( من أعلام القرن الثالث الهجري ) مكتبة نينوى الحديثة ، طهران.

حرف الكاف

115. الكافي : الكليني : محمد بن يعقوب ( م 329 ه ) دار الكتب الإسلامية ، طهران - 1388 ه.

116. كامل الزيارات : ابن قولويه : جعفر بن محمد ( 367 ه ) منشورات ميقات ، طهران - 1406 ه.

117. الكامل في الأدب : المبرد النحوي : أبو العباس : محمد بن يزيد ( م 285 ه ) مكتبة المعارف ، بيروت.

118. الكامل في التاريخ : ابن الأثير الجزري : محمد بن محمد ( م 630 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت.

119. كتاب سليم بن قيس : سليم بن قيس الهلالي ( م 90 ه ) مؤسسة البعثة ، طهران - 1407 ه.

120. كشف الغمّة : الأربلي : علي بن عيسى ( م 693 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1405 ه.

121. كشف المراد : العلاّمة الحلّي : الحسن بن يوسف بن علي بن مطهر ( م 726 ه ) مطبعة العرفان ، صيدا - 1353 ه.

122. كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين : العلاّمة الحلّي ( م 726 ه ) طهران -

ص: 528

1411 ه.

123. كنز الفوائد : الكراجكي : محمد بن علي بن عثمان ( م 449 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1405 ه.

حرف اللام

124. لباب المنفول في أسباب النزول : جلال الدين عبد الرحمان السيوطي ( 849 - 911 ه ) دار إحياء العلوم ، بيروت - 1403 ه.

125. اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية : جمال الدين مقداد بن عبد اللّه الأسدي السيوري الحلّي ( م 826 ه ) مطبعة شفق ، تبريز - 1397 ه.

حرف الميم

126. المبسوط : الشيخ الطوسي ( م 460 ه ) طبع طهران - 1387 ه.

127. متشابهات القرآن ومختلفه : ابن شهر آشوب ( 488 - 588 ه ) مطبعة شركت سهامي طبع كتاب ، ايران.

128. مجموعة الرسائل الكبرى : ابن تيمية : أحمد بن عبد الحليم ( 661 - 728 ه ) مصر - 1385 ه.

129. المحاسن : البرقي : أحمد بن محمد ( م 274 ه ) طبع طهران - 1370 ه.

130. المدخل إلى دراسة التشريع الإسلامي : الدكتور عبد الرحمان الصابوني ، المطبعة الجديدة ، دمشق - 1399 ه.

131. مروج الذهب : المسعودي : علي بن الحسين ( م 345 ه ) منشورات الجامعة اللبنانية ، بيروت - 1965 م.

132. المزار الكبير : ابن المشهدي ، مخطوط ، مكتبة آية اللّه العظمى المرعشي النجفي ، قم المشرّفة.

133. المستدرك : الحاكم النيسابوري : محمد بن عبد اللّه ( م 405 ه ) دار المعرفة ، بيروت.

ص: 529

134. مستدرك الوسائل : النوري الطبرسي : الحسين بن محمد تقي ( 1254 - 1320 ه ) مؤسسة آل البيت ، قم - 1407 ه.

135. المسند : أحمد بن حنبل ( م 241 ه ) دار الفكر ، بيروت.

136. المسند : الشافعي.

137. مصباح المتهجد : الشيخ الطوسي : محمد بن الحسن ( م 460 ه ) بإشراف إسماعيل الزنجاني ، إيران.

138. معاني الأخبار : الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) دار المعرفة ، بيروت 1399 ه.

139. المعجزة الخالدة : العلاّمة الشهرستاني.

140. المغازي : الواقدي : محمد بن عمر بن واقد ( 130 - 207 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت ، لبنان.

141. مفاتيح الغيب : صدر المتألّهين.

142. المفردات : الراغب الأصفهاني : أبو القاسم : الحسين بن محمد ( م 502 ه ) مطبعة الميمنية ، القاهرة - 1324 ه.

143. مقاييس اللغة : أبو الحسين : أحمد بن فارس بن زكريا ( م 395 ه ) دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة - 1366 ه.

144. مقباس المصابيح : العلاّمة محمد باقر المجلسي ( م 1110 ه ).

145. المقتل : الخوارزمي : موفق بن أحمد المكي ( م 568 ه ) مطبعة الزهراء ، النجف الأشرف - 1367 ه.

146. المقدّمة : ابن خلدون : عبد الرحمان بن محمد ( م 808 ه ) دار الكتب العلمية ، بيروت - 1398 ه.

147. مكاتيب الأئمة : العلاّمة محمد بن المحسن بن المرتضى الكاشاني ( 1039 - 1115 ه ) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين - قم 1407 ه.

148. مكاتيب الرسول : علي بن حسين علي الأحمدي ( المعاصر ) المطبعة العلمية ، قم -

ص: 530

1379 ه.

149. مكارم الأخلاق : الطبرسي : الحسن بن الفضل ( من أعلام القرن السادس الهجري ) منشورات الشريف الرضي ، قم - 1408 ه.

150. المكاسب : الشيخ مرتضى الأنصاري ، منشورات علاّمة ، قم - 1408 ه.

151. ملحقات العروة الوثقى : السيد الطباطبائي.

152. مناقب آل أبي طالب : ابن شهر آشوب : أبو جعفر : رشيد الدين محمد بن علي السروي المازندراني ( 488 - 588 ه ) المطبعة العلمية ، قم ، إيران.

153. مناهل العرفان : محمد عبد العظيم الزرقاني ، دار الفكر ، بيروت - 1408 ه.

154. من لا يحضره الفقيه : الشيخ الصدوق : محمد بن علي بن بابويه القمي ( م 381 ه ) دار الكتب الإسلامية ، طهران - 1390 ه.

155. من هنا وهناك : محمد جواد مغنية ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1388 ه.

156. الموطأ : مالك بن أنس ( م 179 ه ) دار الآفاق الجديدة ، بيروت - 1403 ه.

حرف النون

157. نظرية السياسة والحكم في الإسلام : العلاّمة الطباطبائي ( م 1402 ه ) طهران - 1402 ه.

158. نهاية الدراية : السيد حسن الصدر ( 1272 - 1354 ه ) الهند ، لكهنو - 1324 ه.

159. نهج البلاغة : جمع الشريف الرضي ( 359 - 404 ه ) بيروت - 1387 ه.

160. نهج السعادة : العروسي الحويزي : عبد علي بن جمعة ( م 1112 ه ) مطبعة الحكمة ، قم المقدّسة ، إيران.

161. نور الثقلين : العروسي الحويزي : عبد علي بن جمعة ( م 1112 ه ) مطبعة الحكمة قم المقدّسة ، إيران.

ص: 531

حرف الهاء

162. هدية الزائرين : الشيخ عباس القمي ( 1294 - 1359 ه ) طبعة حجر.

حرف الواو

163. الوافي : الفيض الكاشاني ( م 1091 ه ) منشورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين ، اصفهان - 1406 ه.

164. الوحي المحمدي : محمد رشيد رضا ( م 1354 ه ) طبع مصر.

165. وسائل الشيعة : الحرّ العاملي : محمد بن الحسن ( 1033 - 1104 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1403 ه.

166. ولاية الفقيه : الإمام روح اللّه الخميني ( م 1409 ه ) منشورات ناس ، طهران.

حرف الياء

167. اليهود في القرآن : عفيف عبد الفتاح طبارة ، دار العلم للملايين ، بيروت - 1386 ه.

168. ينابيع المودة : القندوزي : سليمان بن إبراهيم البلخي ( م 1294 ه ) مطبعة اختر ، اسلامبول - 1301 ه.

ص: 532

فهرس المواضيع

كليمة قيّمة للعلامة الطباطبائي قدس سره ... 3

إكبار وتقدير من الشيخ محمد تقي التستري ... 4

التفاتة كريمة من الشيخ محمد الكرمي ... 5

عواطف خالصة من فضيلة الشيخ حسن طراد العاملي ... 7

مقدّمة الطبعة الثالثة ... 9

مقدمة الطبعة الثانية : القرآن كتاب القرون والأجيال ... 11

القرآن معجزة خالدة ... 11

أوجه الإعجاز القرآني ... 12

لزوم الاهتمام بالمعارف الإلهية ... 14

تقديم مباحث النبوّة على الصفات ... 16

مباحث النبوّة ... 18

مقدمة الطبعة الاُولى : منهج متكامل في علام التفسير ... 21

القرآن وآفاقه اللامتناهية ... 22

ص: 533

التفسير في مختلف الاتجاهات ... 24

المنهج الصحيح في التفسير ... 25

1. تفسير القرآن بالقرآن : ... 26

2. على ضوء الأحاديث الإسلامية الصحيحة : ... 28

تأثير الحضارة الغربية في المنهج التفسيري ... 29

نزول القرآن نجوماً ... 30

الجمود فى التفسير ... 33

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ... 34

أوّليات الطريقة الموضوعية في التفسير ... 35

منهجنا في هذا الكتاب ... 37

الفصل الأوّل

عالمية الإسلام على ضوء القرآن الكريم

تأثير تلكم الكتب : ... 44

النصوص القرآنية في عالمية رسالته : ... 45

البرهان على عمومية رسالته بوجه آخر : ... 49

الدعوة إلى الفطرة ، أساس الأحكام الإسلامية : ... 54

الإسلام يكافح المبادئ الرجعية : ... 55

نظرة في الآيات المشعرة بعدم العمومية ... 59

1. آيات الانذار : ... 59

2. عد بعض أهل الكتاب من الصالحين : ... 61

3. تخصيص الانذار باُمّ القرى ومن حولها : ... 63

4. كلّ نبي مبعوث بلسان قومه ... 70

ص: 534

مغالطة اُخرى حول الآية ... 71

هل كانت نبوّة نوح والكليم والمسيح عالمية ؟ ... 73

هل رسالة نوح كانت مختصّة بقومه ؟ ... 74

هل كانت نبوّة الكليم عالمية ؟ ... 78

موقف دعوة الكليم من القبطيين ... 79

موقف دعوة الكليم من غير القبطيين ... 83

المقام الثاني في عموم شريعته ... 86

أسئلة وأجوبة ... 90

هل كانت نبوّة المسيح عالمية ؟ ... 97

ما المراد باُولي العزم من الرسل ... 102

من هم اُولي العزم من الرسل ؟ ... 105

شبهة واهية في المقام : ... 110

الفصل الثاني

الخاتمية في الذكر الحكيم

النصوص القرآنية الدالّة على ختم النبوّة ... 117

الخاتم وما يراد منه ... 118

تشكيكان حول دلالة الآية على كون نبي الإسلام خاتماً ... 123

التشكيك الأوّل ... 124

التشكيك الثاني ... 127

التنصيص الثاني على الخاتمية : ... 129

ص: 535

النص الثالث من القرآن على الخاتمية : ... 133

النص الرابع من القرآن على خاتمية الرسول صلی اللّه علیه و آله : ... 135

النص الخامس على الخاتمية : ... 135

النص السادس على الخاتمية : ... 136

اشارات قرآنية إلى الخاتمية : ... 137

الخاتمية في الأحاديث الإسلامية ... 140

تنصيص الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله على الخاتمية ... 140

تنصيص الإمام أمير المؤمنين علیه السلام على الخاتمية ... 148

تنصيص فاطمة الزهراء علیهاالسلام على الخاتمية : ... 152

تنصيص السبط المجتبى على الخاتمية : ... 152

تنصيص الإمام سيد الشهداء علیه السلام على الخاتمية ... 153

تنصيص الإمام زين العابدين علیه السلام على الخاتمية ... 153

تنصيص الإمام الباقر علیه السلام على الخاتمية ... 154

تنصيص الإمام الصادق علیه السلام على الخاتمية ... 155

تنصيص الإمام موسى بن جعفر علیهماالسلام على الخاتمية ... 159

تنصيص الإمام الرضا علیه السلام على الخاتمية ... 159

ابهام وايضاح : ... 160

تنصيص الإمام أبي محمد الجواد علیه السلام على الخاتمية ... 162

تنصيص الإمام الهادي علیه السلام على الخاتمية ... 162

تنصيص الإمام العسكري علیه السلام على الخاتمية ... 163

تنصيص الإمام الحجة المنتظر ( عجل اللّه فرجه الشريف ) على الخاتمية ... 163

روايات اُخرى ... 164

ص: 536

الفصل الثالث

شبهات حول الخاتمية

الشبهة الاُولى : الاستدلال بلآية : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ ... ) لنفي الخاتمية 171

الجواب عن الشبهة : ... 171

دحض الشبهة بوجه آخر : ... 176

نقل كلام عن العلمين : ... 178

الشبهة الثانية : الاستدلال بالآية : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ... ) لنفي الخاتمية ... 181

الجواب : ... 181

الشبهة الثالثة : بالآيتان : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ... ) و ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا ... ) لنفي الخاتمية 184

الجواب : ... 184

القرآن يتوسّع في استعمال الاُمّة : ... 186

الاُمّة : الطريقة والدين : ... 187

نظرة في موارد استعمال الأجل في القرآن : ... 189

سؤال من المستدل : ... 190

الاكذوبة التي نسبها إلى رسول اللّه : ... 191

الشبهة الرابعة : الاستدلال بالآية : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ ... ) لنفي الخاتمية ... 193

الجواب : ... 193

الشبهة الخامسة : الاستدلال بالآية : ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ ... ) لنفي الخاتمية 194

الجواب : ... 195

حصيلة البحث : ... 197

مشكلة المفتتح والمختتم : ... 199

ص: 537

الشبهة السادسة : استدلالهم بأن القرآن أقرّ استمرار جميع الشرائع السماوية واحتفاطها بشرعيتها 200

الحديث يبيّن هدف الآية : ... 203

جواب آخر : ... 204

1. فكرة الشعب المختار : ... 204

2. الأسماء لا تنقذ انساناً : ... 205

3. ليست الهداية في اعتناق اليهودية والمسيحية : ... 206

خاتمة المطاف : ... 214

الفصل الرابع

أسئلة حول الخاتمية ... 217

السؤال الأول : إذا اختمت النبوة التشريعية ، فلماذا ختمت التبليغية منها ؟ ... 217

دور أهل البيت في إكمال الدين وختم الرسالة : ... 221

السؤال الثاني : لماذا حرم الخلف من الاٌمم من المكاشفة الغيبية ؟ ... 226

الاسفار المعنوية الأربعة : ... 234

مثل الفضيلة والأخلاق ... 237

السؤال الثالث : لاتجد في الكون المادي أمراً خالداً عبر الأجيال ، فكيف يكون الإسلام أمراً ثابتاً ؟ 241

السؤال الرابع : لزوم اختلاف القوانين والمقتضيات باختلاف ألوان الحياة ... 246

المقررات المتطوّرة في الإسلام : ... 249

الإسلام والتطوّر الزمني : ... 257

بين الجمود والجهل : ... 258

النسخ غير المرونة : ... 258

ص: 538

السؤال الخامس : ادعاء النقص في التشريع الإسلامي ... 260

الأمر الأوّل : التشريع ذو مادة حيوية خلاقة للنفاصيل ... 262

الاعتراف بحجية العقل في مجالات خاصة ... 262

إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد : ... 267

التشريع الإسلامي ذو مادة حيوية ... 269

تشريع الاجتهاد ... 271

الحقيقة بنت البحث : ... 281

شبهة حول الاجتهاد الدارج في عصرنا : ... 283

الجواب عن الشبهة : ... 283

حقوق الحاكم الإسلامي : ... 288

الأمر الثاني : مرونة أحكامه ... 290

1. الإسلام دين جامع والاُمّة الإسلامية اُمة وسط : ... 290

2. النظر إلى المعاني ، لا المظاهر : ... 292

3. الأحكام التي لها دور التحديد : ... 294

خاتمة المطاف : ... 294

الفصل الخامس

النبي الاُمّي في الذكر الحكيم

النص الأوّل : قوله سبحانه : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ ... ) ... 297

نظريات شاذة للدكتور الهندي ... 300

النص الثاني : من القرآن على كونه اُمّياً : ... 302

الآراء الشاذة في تفسير الاُمي : ... 305

ص: 539

الرأي الأول : الأٌمّي منسوب إلى اُم القرى ... 305

الرأي الثاني : الأُمي من لم يعرف المتون السامية ... 308

بحث وتنقيب ... 311

أمر النبي صلی اللّه علیه و آله بعد بزوغ دعوته ... 316

1. الوجوه التي اعتمد عليها شيخنا المفيد : ... 317

2. الاستدلال بمفهوم الآية : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ ... ) ... 320

تأملات وملاحظات ... 321

3. الاستدلال بقوله سبحانه : ( يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ) ... 323

4. الاستدلال بقوله سبحانه : ( اكْتَتَبَهَا ) ... 324

5. الاستدلال بالأولوية : ... 326

6. التجارة تتوقّف على الكتابة : ... 326

اُمّية النبي في الأحاديث : ... 328

منها : حديث بدء الوحي ... 328

كلمة حول سند الحديث : ... 329

توضيح مفاد الرواية : ... 330

منها : حديث المطالبة بالقلم والدواة : ... 333

منها قصة الحديبية : ... 333

الجواب عن الاستدلال بالرواية : ... 334

منها كتاب النبي إلى العذار : ... 340

فذلكة البحث : ... 340

عرض وتحقيق : ... 341

حصيلة الكلام في اُمّية النبي صلی اللّه علیه و آله : ... 345

نحن وقساوسة الغرب والمستغربة : ... 345

ص: 540

الفصل السادس

علم الغيب في الكتاب العزيز

أنواع المغيبات في القرآن : ... 352

الإخبار عن الغيب أحد وجوه إعجازه : ... 355

مغيبات القرآن وأخباره الغيبية ... 359

1. تنبؤ القرآن بعجز البشر عن معارضته بمثله : ... 359

2. التنبّؤ بانتصار الرومان على الفرس : ... 361

3. اخباره عن صيانة النبي عن أذى الناس : ... 362

4. تنبّؤات حول المنافقين والمخلّفين من الأعراب : ... 364

5. الإخبار عن القضاء على العدو قبل المعركة : ... 367

6. التنبّؤ بصيانة القرآن عن التحريف : ... 369

7. الاخبار عن نجاح الإسلام والرسول : ... 370

8. التنبّؤ بأحداث جزئية : ... 376

9. تنبّؤ القرآن في مكّة بما سيصيب كفّار قريش : ... 378

10. التنبّؤ حول اليهود والنصارى : ... 381

إجابة عن سؤال ... 387

ختامه مسك : ... 394

الفصل السابع

اختصاص العلم بالغيب باللّه سبحانه

1. قصره على اللّه سبحانه في بعض الآيات : ... 400

ص: 541

2. ما يستفاد منه الحصر بمعونة القرائن : ... 401

3. سلب العلم بالغيب عن غيره : ... 402

هل يمكن للانسان الاطلاع على الغيب : ... 404

القرآن يدل على تحقق التنبّؤ من الأنبياء والصالحين : ... 414

1. النبي آدم علیه السلام والاطلاع على الغيب : ... 415

2. تنبّؤ نوح علیه السلام : ... 416

3. إبراهيم علیه السلام وملكوت السماوات والأرض : ... 416

4. اطّلاع لوط علیه السلام على الغيب : ... 417

5. تنبّؤ يعقوب علیه السلام : ... 418

6. تنبّؤ يوسف علیه السلام : ... 419

7. صالح علیه السلام والتنبّؤ بالغيب : ... 421

8. اطّلاع سليمان علیه السلام بالغيب : ... 421

9. المسيح علیه السلام والتنبّؤ بالغيب : ... 422

10. انباء النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله بالغيب : ... 422

11. اطّلاع مريم على الغيب : ... 423

12. الغيب وامرأة إبراهيم : ... 423

13. الغيب واُم موسى : ... 424

14. الغيب وصاحب موسى : ... 424

15. النبي شهيد على الاُمّة : ... 425

16. المؤمنون شهداء على المنافقين : ... 425

حصيلة البحث : ... 426

ما هو مفاد الآيات النافية لعلم الغيب عن النبي ... 427

تساؤلات حول علم النبي بالغيب ... 441

السؤال الأول : كيف تحمل الآيات الدالة على علم النبي بالغيب على العلم

ص: 542

الذاتي ، المحيد بكل شيء ، المريسل عن كل شيء ؟ ... 441

السؤال الثاني : لوكان النبي صلی اللّه علیه و آله عالماً بالغيب بعلم من اللّه لما مسّه السوء ... 443

السؤال الثالث : مشكلة المشاركة مع اللّه ... 457

السؤال الرابع : علم الغيب مختص بالرسول صلی اللّه علیه و آله دون الأئمّة علیهم السلام ... 458

السؤال الخامس : سبب تحاشي الرسول صلی اللّه علیه و آله والأئمة علیهم السلام نسبة العلم بالغيب إليهم 459

خاتمة المطاف : ... 464

تنبّؤات نبوية : ... 466

تنبّؤات علوية : ... 471

عثرة لا تقال : ... 483

هل استأثر اللّه بعلم هذه الاُمور ؟ ... 486

دفع شبهة : ... 487

نظرنا في الموضوع : ... 480

عرض وتحليل : ... 493

الفصل الثامن

سيرة النبي الأعظم وصفاته وأسماؤه في القرآن الكريم

عناية القرآن ببيان صفات النبي صلی اللّه علیه و آله : ... 498

أسماؤه في القرآن : ... 506

شبهة تافهة اختلقها رجال الكنيسة : ... 509

خاتمة المطاف : ... 516

فهرس مصادر الكتاب ... 519

فهرس المواضيع ... 533

ص: 543

المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 3

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1426 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-357-221-8

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء الرابع

دراسة شاملة لأجر الرسالة المحمديظ ومعاجز النبي الأكرم صلی اللّه عليه وآله وسلم وكراماته وما أیير حولها من شبهات وشفاعته المقبولة

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

ص: 2

مفاهيم القرآن

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

أما بعد ،

فهذا هو الجزء الرابع من أجزاء موسوعتنا القرآنية « مفاهيم القرآن » نقدّمه إلى القرّاء الكرام ، راجين منهم العفو عمّا وقع من التأخير في نشره ، وقد كان جاهزاً للطبع يوم طبع الجزء الثالث منها غير أنّه طلباً لوقوعه موقع القبول والرضا من القرّاء ، قد غيّرنا بعض مطالبه عند تقديمه للطبع في هذه الأيام ، ولنعم ما قال الكاتب الكبير عماد الدين أبو عبد اللّه محمد بن حامد الأصفهاني ( المتوفّى عام 597 ه ) بدمشق : إنّي رأيت أنّه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلاّ قال في غده لو غيّر هذا لكان أحسن ، ولو زيد كذا لكان يستحسن ، ولو قدّم هذا لكان أفضل ، ولو ترك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جميع البشر.

المؤلف

ص: 5

ص: 6

كلمة قيمة تفضّل بها العلامة الحجّة المحقق والكاتب الإسلامي الكبير السيد مرتضى العسكري

كلمة قيمة

تفضّل بها العلامة الحجّة المحقق والكاتب الإسلامي الكبير

السيد مرتضى العسكري (1)

ننشرها مشفوعة بالشكر والتقدير

بسم اللّه الرحمن الرحيم

صاحب الفضيلة العالم الباحث الحجّة الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني متّعنا اللّه بطول بقائه.

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

أمّا بعد ،

فقد تسلمت بيد الشكر هديتكم النفيسة وهي الجزء الأوّل والثاني والثالث من موسوعتكم المباركة « مفاهيم القرآن » وتمتعت زمناً طويلاً بمطالعتها كما تمتعت بمطالعة سائر مؤلّفاتكم ، خاصة مؤلّفاتكم في سيرة النبي والوصي ، وأريد أن أتحدّث عن اتجاهكم المحمود هذا ، وأُبدي تقديري لكم ، فقد وجدت في هذه الموسوعة القرآنية بحوثاً مقارنة أصيلة نافعة - شكر اللّه مساعيك ، وجزاك اللّه خيراً

ص: 7


1- الأستاذ العسكري علم من أعلام الأُمّة ، يدافع عن ساحة الإسلام والتشيّع بآثاره القيمة المبتكرة ، منها : « مائة وخمسون صحابي مختلق » ، « عبد اللّه بن سبأ في التاريخ » ، « معالم المدرستين » ، وغيرها.

على دأبك في بذل الجهد المتواصل ، في هذا السبيل في عصر عزّ فيه وجود الباحثين - وأخص بالذكر الجزء الثالث من تلك الموسوعة حيث وجدت فيه اختياراً موفقاً للمواضيع الهامة من حقول المعرفة القرآنية ، وأُسلوب البحث حول كل موضوع على حدة مثل : عالمية الإسلام ، وخاتمية النبي الأكرم ، وأُميته ، مع ذكر الشبهات المثارة حول تلك المواضيع ودفعها ، سواء من قبلكم أو بنقل كلمات المفسرين الإسلاميين حولها بأمانة تثير الإعجاب في عصرنا الحاضر.

نعم أنّي لا أتفق معكم في بعض ما اخترتموه في رسالة نوح وانّما أختار في ذلك رأي العلاّمة الطباطبائي قدس سره .

وفي الختام أقول : إنّ هذه الموسوعة قد طرحت على بساط البحث مواضيع هامة ينبغي أن تتناولها أقلام المفكرين الإسلاميين بالبحث والنقد وأن تُنتخب منها خلاصات تترجم إلى سائر اللغات الحية وتنشر على جماهير المسلمين لحاجتهم إلى هذه الأبواب من المعرفة.

أطال اللّه عمرك ، أيّها الأخ البحّاثة ، وأخذ بيدك في ما أنت بصدده من نشر فنون المعرفة القرآنية ، وتقبَّل منك عملك والسلام عليك من مرتضى العسكري.

مرتضى العسكري

19 / 3 / 1403 ه

ص: 8

رسالة قيمة بعثها إلينا الكاتب الكبير الأُستاذ الحجّة الشيخ سلمان الخاقاني صاحب التآليف القيمة الممتعة ، حيّاه اللّه وبيّاه

بسم اللّه الرحمن الرحيم

معرفتي بالأستاذ العلاّمة الحجّة الشيخ جعفر السبحاني لم تكن حدثاً جديداً ، فقد عرفته منذ أكثر من عشرين عاماً من خلال كتبه العلمية التي جاوزت العشرات في جميع نواحي الدين والعلم.

وفي عام 1395 ه حمل إلي البريد كتاباً من بعض أصدقائي الأعزّاء القاطنين بطهران يحمل اسم « مفاهيم القرآن » وهو من تأليف صديقنا الأستاذ السبحاني ، وقد تصفّحته فأعجبت به ، وزاد إعجابي بمؤلّفه ، وعرفت أنّه ذو مواهب عالية ، وزاد كل ذلك معرفتي به ، وحمدت اللّه على أن جعل في مجتمعنا من يخدم اللغة العربية والقرآن والحديث بقوّة واقتدار كما خدمها سلفنا الماضي.

وقد مرّت على هذه الأحاسيس سنوات وأنا في دار هجرتي قم يدخل عليَّ صديقنا السبحاني زائراً ومواسياً ومتلطفاً ويهدي إلي الجزء الآخر من تلك الموسوعة القرآنية ، وهو « معالم التوحيد في القرآن الكريم » وهي محاضرات كتبت بقلم أحد تلامذته النجباء الأوفياء.

ص: 9

وقد تناولت الكتاب بالبحث فوجدت فيه مواضيع مفيدة يحتاج إليها كل فرد مسلم ، يريد أن يعرف حقائق الدين المبين.

واستوقفني من تلك المواضيع موضوعه الأخير الحاكمية ، ولمن تكون.

أقول : استوقفني هذا الموضوع لأنّه من المواضيع الهامة التي نُشرت حوله رسائل وكتابات.

وليس قولي - استوقفني هذا الموضوع - أنّ غيره لا يستحق الوقوف ، لا ، ففي مواضيع الكتاب مباحث نافعة ومفيدة لكل من يريد الوقوف.

وإلى الأستاذ العلاّمة الشكر والامتنان في اخراج هذه التحف ، وأرجو لكتابه هذا ، بل ولجميع كتبه ، الرواج والانتشار وليتقبل هو قولي مخاطباً له :

لقد أحسنت يا جعفر *** فلتهنأ بإحسان

لما فصلت من آي *** لتوحيد وعرفان

وما بينت من شرح *** على آيات قرآن

فأنت الكاتب الفذ *** بإخلاص وإيمان

لقد سبحت تمجيداً *** بإسرار وإعلان

إلى من يهب العقل *** ويغني المملق العاني

ويهدي التائه الضال *** لذا لقبت « سبحاني »

ألا فاقبل أخا الفضل *** نشيد المخلص الجاني

ربيع المولود 1403 ه *** سلمان الخاقاني النجفي

ص: 10

خطاب تفضّل به العلاّمة الحجة الحكيم المتألّه الشيخ حسن الآملي ( دام ظله الوارف )

اشارة

ننشره مشفوعاً بالشكر والتقدير

بسم اللّه الرحمن الرحيم

( ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ )

سماحة العلم الآية العلاّمة العبقري الشيخ جعفر السبحاني متعنا اللّه بطول بقائه.

بعد التحية والسلام :

سلام كمثل الروض باكره الصبا *** فصادف ريحاناً ونوراً مفتقاً

أنّه سبحانه كتب على نفسه وأخبر في كتابه بقوله : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) فهو سبحانه يقيّض في كل دور وكور أعلاماً يهتدى بهم ، ويستضاء بنور هداهم ، فقد عرَّفهم وليّ ذي الجلال ، زارع المعارف في مزارع القلوب في خطابه الفصل الملقى إلى كميل الكامل الباخع النخعي بقوله : « يحفظ اللّه بهم حججه وبيناته ، حتى يودعها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء ، واللّه ذو الفضل العظيم ».

وأنتم - بحمد اللّه سبحانه - ممن حذا حذو هؤلاء ، وتتلمذ في مدرستهم

ص: 11

وتعرّف على مناهجهم ، فلأجل ذلك أخرجتم إلى المجتمع الإسلامي تفسيركم الموضوعي لحبل اللّه : « القرآن الكريم » في حلقات عديدة ، وقد حالفني التوفيق لأقف على أجزاء منها تتناول موضوعات قرآنية هامة كأنّما هي نسمات أُنس هبّت من حظائر القدس ، وقد تجلّى فيها القرآن بمفاهيمة ومعالمه للّذي قد جاء في طلب القبس.

رزقنا اللّه وإيّاكم فهم الخطاب الإلهي وأسأله سبحانه غرة جدّكم ، وعزة جداكم ، والحمد لله الذي فضّل مداد العلماء على دماء الشهداء.

تحريراً في 24 / شعبان المعظم / 1403 ه

قم : حسن الآملي

ملحوظة :

هذا ما سمح المجال بنشره مما تفضّل به الأساتذة حول كتابنا « مفاهيم القرآن » وقد نشرناها مشفوعة بالشكر والتقدير ، وسوف نقوم بنشر بعض الرسائل والكتب الأُخرى التي وصلتنا من قادة الفكر وأرباب القلم في الجزء الآتي إن شاء اللّه تعالى.

المؤلف

ص: 12

مقدمة المؤلف

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الإيمان بالغيب في الكتاب العزيز

الإيمان بالغيب عنصر أساسي في جميع الشرائع السماوية ، والشرط الرئيسي في التديّن بالدين الإلهي على الإطلاق ، بحيث لو انتزع هذا العنصر من برامج الدين لأصبح الدين دستوراً عادياً يشبه الدساتير والآيديولوجيات المادية البشرية ، ونظاماً لا يمت إلى الدين الإلهي بصلة.

ولأجل ذلك نرى أنّ اللّه سبحانه يعد الإيمان بالغيب في طليعة الصفات التي يتصف بها المتقون إذ يقول سبحانه في الآية الثالثة من سورة البقرة : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (1).

والمراد من « الغيب » هو ما يقابل الشهادة ، ومن أجل مصاديقه : الروح والملائكة ، والجن والمعاجز ، والكرامات ، والوحي ، والبرزخ ، والقيامة ، وما يرجع إلى اللّه تعالى من ذاته وصفاته.

ولا يشك أحد في أنّ تجريد الدين من هذه الأمور ومن الاعتقاد بها يوجب أن يصبح الدين نظاماً مادياً ، ومبدأً بشرياً كسائر الأنظمة والمبادئ والبرامج البشرية الأرضية.

ص: 13


1- البقرة : 3.

وقد كان أصحاب الشرائع ، وأنصارها ، وفي مقدمتهم علماء الإسلام ، وكتابهم محتفظين بهذا الأصل ، معتصمين به أشد الاعتصام ، مؤكدين عليه في كتاباتهم غاية التأكيد باعتباره ميزة الشرائع الإلهية ، وقوامها ، والفارق الجوهري بينها وبين الأنظمة والآيديولوجيات الأرضية البشرية.

غير أنّ الحضارة المادية الحديثة التي اعتمدت على الحس والتجربة ، وأعطت كل القيمة والوزن لما أيّدته أدوات المعرفة المادية ، أدهشت بعض المفكرين المسلمين ، فوجدوا أنفسهم في صراع عنيف بين الإيمان بالغيب باعتباره عنصراً أساسياً في الدين ، وبين الحضارة المادية الحديثة التي لا تعتمد إلاّ على الحس والتجربة ، وربّما لم يتجرّأوا على إنكار ما هو خارج عن إطار أدوات المعرفة المادية ، فلم يقدروا على الانحياز إلى أي واحد من الطرفين ، فلو صاروا إلهيين مطلقاً لوجب عليهم مقابلة الماديين المنكرين لعالم الغيب ، ولو انحازوا إلى جانب الماديين لانخرطوا في صفوف الملحدين ، ولذلك اختاروا طريقاً وسطاً ، وهو تأويل بعض ما ورد في مجال الغيب عامّة ، والمعاجز والكرامات خاصة ، وزعموا أنّهم يستريحون بهذا التأويل ، ويرضون كلتا الطائفتين.

وممن سلك هذا الطريق بعض السلوك الشيخ المصلح « محمد عبده » والسيد سير « أحمد خان » الهندي ، و « طنطاوي جوهري » ، وتلامذة هذه المدرسة.

ولكي لا يحمل القارئ كلامنا هذا على القسوة والتحامل على أحد نأتي فيما يلي بنماذج من كتابات أصحاب هذه المدرسة ، ونختارها ممّا كتبه السيد محمد رشيد رضا منشئ « المنار » تقريراً لدروس الأستاذ الامام الشيخ « محمد عبده » في التفسير ، ونكتفي - في هذا الاقتباس - على ما ضبطه حول سورة البقرة فقط ، ونحيل البحث المفصّل حول هذا التفسير المنشور في أحد عشر جزءاً إلى وقت آخر.

ص: 14

النموذج الأوّل

قوله سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1).

لا شك أنّ المتبادر من الآية هو إحياؤهم بعد الموت ، والخطاب لليهود المعاصرين للنبي صلی اللّه علیه و آله باعتبار أحوال أسلافهم ، ولا يفهم أيُّ عربي صميم من لفظة : ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ) غير هذا إلاّ أنّ صاحب المنار ذهب إلى أنّ المراد من البعث هو كثرة النسل ، أي أنّه بعدما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها وظن أنّهم سينقرضون ، بارك اللّه في نسلهم ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها (2).

ولم يكن هذا التفسير من الأستاذ إلاّ لأجل أنّ الاعتراف بالإحياء بعد الموت في الظروف المادية ممّا لا يصدقه العلم الحسّي والتجربة ، فلأجل ذلك التجأ إلى تفسيره بما ترى ، وما أظن أنّ الأستاذ يتفوّه بهذا التفسير في نظائر الآية الكثيرة في القرآن الكريم.

النموذج الثاني

لقد كتب الأستاذ في تفسير قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا

ص: 15


1- البقرة : 55 - 56.
2- تفسير المنار : 1 / 322.

خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) (1). ما يلي :

إنّ السلف من المفسرين - إلاّ من شذّ - ذهب إلى أنّ معنى قوله : ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) أنّ صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين.

وحيث كان هذا المعنى يصطدم بالاتجاه المادي ولا تصدقه أنصار الحضارة المادية الذين ينكرون إمكان صيرورة الإنسان قرداً حقيقياً دفعة واحدة ، عمد الأستاذ إلى تأويل هذه الآية ، وتفسيرها على النحو والنهج الجامع بين الاتجاهين المادي والديني !!

فمع أنّه نقل عن الجمهور أنّ معنى الآية أنّ صورهم مسخت فأصبحوا قردة على الحقيقة والواقع ، نجده ينحاز إلى رأي مجاهد الذي قال : ما مسخت صورهم ، ولكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقردة ، كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) . (2)

ثم قال : ومثل هذا قوله تعالى : ( وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) . (3) وقال : الخسوء هو الطرد والصغار ، والأمر للتكوين ، أي فكانوا بحسب سنّة اللّه في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس.

ثم أخذ في رد قول الجمهور ، وقال : ولو صح - ما ذكره الجمهور - لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة ، لأنّهم يعلمون بالمشاهدة أنّ اللّه لا يمسخ كلَّ عاص ، فيخرجه عن نوع الإنسان ، إذ ليس ذلك من سننه في خلقه ، وإنّما العبرة الكبرى في العلم بأنّ من سنن اللّه تعالى في الذين خلوا من قبل : أنّ من يفسق عن أمر ربّه ويتنكب الصراط الذي شرّعه له ، ينزل عن مرتبة الإنسان ، ويلتحق

ص: 16


1- البقرة : 65 - 66.
2- الجمعة : 5.
3- المائدة : 60.

بعجماوات الحيوان ، وسنّة اللّه تعالى واحدة ، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية.

إلى أن قال : فاختيار ما قاله مجاهد هو الأوفق بالعبرة والأجدر بتحريك الفكرة (1).

ونحن لسنا - هنا - في صدد تفسير الآية وتوضيح مفادها ، غير أنّه - إيقافاً للقارئ الكريم على الحقيقة - نلفت نظره إلى أُمور تثبت ما نسبناه إلى هذه الجماعة من موقف خاص تجاه المعاجز والكرامات وما شاكلها ، وهذه الأمور هي :

أوّلاً : أنّ المشهود من تفسير صاحب المنار أنّه مقلّد قوي للسلف في أكثر الموارد والمجالات ، فلماذا عدل في هذا المضمار ، واختار القول الشاذ ، أعني : قول مجاهد ؟!

ثانياً : كيف رضيت نفسه أن يفسر الآية بمثل قوله سبحانه : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ... ) مع أنّ المذكور في تلك الآية إنّما هو على سبيل المثل ، فإنّ لفظة « مثل » تنادي بأنّ حالهم - في عدم الفهم والانتفاع بالتوراة - كمثل الحمار الحامل للكتب والأسفار من دون فهم لما فيها ، لا أنّهم حمر بالهيئة والصورة والحقيقة ، وهذا بخلاف ظاهر الآية الحاضرة ، فإنّها بظاهرها حاكية عن أنّهم صاروا قردة حقيقيّين لا أنّهم صاروا مثلهم مثل القردة ؟!

ثالثاً : لماذا غفل الأستاذ عما ورد في تلك القصة في سورة الأعراف من قوله سبحانه : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوا عَن مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) (2).

ص: 17


1- تفسير المنار : 1 / 343 - 345.
2- الأعراف : 165 - 166.

أفيمكن تفسير الآية - حينئذ - بغير ما اختاره جمهور المفسرين من صيرورتهم قردة حقيقيّين ، وأي عذاب بئيس أشدّ من صيرورة الإنسان بصورة القردة المطرودة !!

رابعاً : أنّ ما ردّ به نظرية الجمهور من أنّه لا يكون المسخ الصوري موعظة للعصاة ، لأنّهم يعلمون - بالمشاهدة - أنّ اللّه لا يمسخ كلّ عاص ... إلى آخر كلامه ، مردود بوجهين :

الأوّل : أنّه لو صح ذلك لوجب تأويل جميع ما ورد في القرآن الكريم من الإبادة والإهلاك بالخسف والإمطار بالحجارة ، والغرق ، والريح ، وغير ذلك مما وقع بالأمم السالفة عقاباً وعبرة للآخرين ، وذلك مثل قوله سبحانه : ( وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيماً ) (1) ، ومثل قوله سبحانه في شأن فرعون : ( فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشَى ) (2).

إنّه سبحانه يصرح في الآية الأُولى والثانية بأنّه إنّما فعل ما فعل بقوم نوح وبفرعون ليكونوا عبرة للآخرين ، وتذكاراً.

على أنّ اللّه سبحانه يذكر نظير ذلك في سورة هود ، وذلك عندما يستعرض قصص من أرسل إليهم الأنبياء وأنّهم كذبوهم ، فأصابهم اللّه بشتّى ألوان العذاب والإهلاك ، وذلك مثل قوم نوح ، وقوم عاد ، وقوم ثمود ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، وقوم فرعون ، ثم يختم هذا الاستعراض المفصل بقوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ

ص: 18


1- الفرقان : 37.
2- النازعات : 24 - 26.

مَشْهُودٌ ) (1).

إنّه تعالى يصرح بأنّ كل ما نزل بالأمم السابقة من العذاب والإهلاك إنّما ذكر ليكون عبرة ، وآية للناس ، وعندئذٍ يطرح هذا السؤال نفسه بأنّه كيف يكون عبرة وآية للناس مع أنّهم يعلمون بالمشاهدة أنّ اللّه لا يؤدب الأمة المحمدية بما أدّب به الأمم السالفة ؟!

الثاني : أنّ كون هذه القضايا وسيلة للعبرة والاعتبار لا يستلزم أن تتحقّق تلك العقوبات بعينها في حق العصاة والطغاة في الأمم اللاحقة ، بل يكفي - في ذلك - أن تدل على أنّ اللّه لهم بالمرصاد ، فهو لا يترك الظالم بلا عقاب ، ولا يفوته العصاة دون أخذ.

إنّ الأخذ والعقوبة يختلف حسب مشيئة اللّه وإرادته ، ولا يلزم أن تكون العقوبة متحدة النوع مع العقوبات السابقة حتماً.

وهذه هي الحقيقة التي تؤكدها الآيات ( 10 - 14 ) من سورة الفجر إذ يقول سبحانه : ( وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) (2).

النموذج الثالث

لقد قصّ اللّه سبحانه في سورة البقرة قصة البقرة التي أمر بنو إسرائيل بذبحها إذ قال : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) إلى أن قال : ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ

ص: 19


1- هود : 102 - 103.
2- الفجر : 10 - 14.

يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (1).

ومجمل القصة هو أنّ رجلاً قتل قريباً له غنياً ليرثه ، وأخفى قتله له ، فرغب اليهود في معرفة قاتله فأمرهم اللّه أن يذبحوا بقرة ويضربوا بعض المقتول ببعضها ليحيا ، ويخبر عن قاتله.

ولقد بيّن اللّه لنا في هذه القصة لجاجة بني إسرائيل ورفضهم للطاعة ، وانحرافهم عن منهج اللّه ، ونتائج ذلك في نفوسهم ومجتمعاتهم حيث آل أمرهم في هذه الواقعة - إلى أن يضطروا إلى ذبح البقرة - وبعد ما ذبحوها أمرهم اللّه سبحانه أن يضربوه ببعضها ( أي يضربوا المقتول ببعض البقرة ) حتى يحيا ويخبر عن قاتله.

وهذا هو ما اختاره الجمهور في تفسير الآية ، وهو صريح قوله سبحانه : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى ) .

وأمّا الأُستاذ فقد سلك طريقاً آخر تحت تأثير موقفه المسبق من المعاجز والكرامات وخوارق العادة ، فهو بعد أن نقل رأي الجمهور قال : قالوا : إنّهم ضربوه فعادت إلى المقتول الحياة ، وقال : قتلني أخي ، أو ابن أخي فلان. قال : والآية ليست نصّاً في مجمله فكيف بتفصيله.

ثم فسّر الآية بما ورد في التوراة من أنّه إذا قتل قتيل ولم يعرف قاتله ، فالواجب أنّ تذبح بقرة في واد دائم السيلان ويغسل جميع أفراد القبيلة أيديهم على البقرة المكسورة العنق في الوادي ، ويقولون : إنّ أيدينا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل ، ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل ، ومن لم يفعل يتبين أنّه القاتل ، ويراد بذلك حقن الدماء.

ثم قال : وهذا الإحياء على حد قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ ) (2).

ص: 20


1- البقرة : 67 - 73.
2- البقرة : 179.

ومعناه حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قاتل تلك النفس (1).

وأنت ترى أنّ هذا التفسير لا ينطبق على قوله : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ) أي اضربوا النفس المقتولة ببعض جسم البقرة ( كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى ) فهل كان في غسل الأيدي على البقرة المكسورة العنق ، ضرب المقتول ببعض البقرة ؟! هذا أوّلاً.

وأمّا ثانياً : كيف استند الأستاذ - في تفسير الآية الحاضرة - بما ورد في التوراة ، مع أنّ المشهود منه أنّه يستوحش كثيراً من بعض الروايات التي ربما توافق ما ورد في الكتب المقدسة ، ويصفها بالإسرائيليات والمسيحيات ، ومع ذلك عدل عن مسلكه واستند في تفسير الذكر الحكيم بالكلم المحرف.

وليس هذا التفسير - في حقيقته - إلاّ لأجل ما اتخذه الأستاذ من موقف مسبق تجاه المعاجز والكرامات ، وخوارق العادة ، وغير ذلك مما يرجع إلى عالم الغيب.

النموذج الرابع

قال اللّه سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) (2).

ذهب الجمهور إلى أنّهم قوم من بني إسرائيل فرّوا من الطاعون أو من الجهاد ، فأرسل عليهم الموت ، فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم

ص: 21


1- تفسير المنار : 1 / 345 - 350.
2- البقرة : 243.

فراراً منه ، فأماتهم اللّه جميعاً وأمات دوابهم ثم أحياهم ، لمصالح وغايات أُشير إليها في الآية.

هذا هو ما ذهب إليه الجمهور ، ولكن الأستاذ أنكر ذلك واختار كون الآية مسوقة سوق المثل ، وانّ المراد بهم قوم هجم عليهم أُولو القوة والقدرة من أعدائهم لاستذلالهم واستخدامهم وبسط السلطة عليهم ، فلم يدافعوا عن استقلالهم وخرجوا من ديارهم وهم أُلوف ، لهم كثرة وعزة حذر الموت ، فقال لهم اللّه : موتوا موت الخزي والجهل ، والخزي موت ، والعلم وإباء الضيم حياة ، فهؤلاء ماتوا بالخزي وتمكن الأعداء ، منهم ، وبقوا أمواتاً ثم أحياهم بإلقاء روح النهضة ، والدفاع عن الحق فيهم ، فقاموا بحقوق أنفسهم ، واستقلّوا في أمرهم (1).

ولا يخفى على القارئ الكريم أنّ تفسير الأستاذ هذا نابع من موقفه المسبق حول خوارق العادة والكرامات والمعجزات وذلك :

أوّلاً : أنّه لو كانت الآية مسوقة سوق المثل وجب أن تذكر فيه لفظة « المثل » كما هو دأبه سبحانه في الأمثال القرآنية ، مثل قوله : ( كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ) (2). وقوله تعالى : ( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) (3). وقوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) (4).

فحمل الآية على المثل وإخراجها عن كونها وردت لبيان قصة حقيقية ، تفسير بلا شاهد ، وتأويل بلا دليل.

ثانياً : لو كان المراد من الموت هو موت الخزي والجهل ، ومن الحياة روح النهضة والدفاع عن الحق ، فحيث إنّ المفروض أنّهم قاموا بحقوق أنفسهم

ص: 22


1- تفسير المنار : 2 / 458 - 459.
2- البقرة : 17.
3- يونس : 24.
4- الجمعة : 5.

واستقلوا بأمرهم ، وجب أن يمدحوا ، ويذكروا بخير ، مع أنّه سبحانه يقول في ذيل الآية ذاماً لهم : ( إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ) .

والعجب أنّ الأستاذ ردَّ نظرية الجمهور بقوله سبحانه : ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلا المَوْتَةَ الأُولَى ) (1) قائلاً بأنّه لا معنى لحياتين في هذه الدنيا (2).

والجواب : أنّ الحياة الدنيا لا تصير بتخلل الموت حياتين ، بل هي حياة واحدة ، أيضاً ، وإلاّ فماذا يقول في أصحاب الكهف الذين ضرب اللّه على أسماعهم ثلاثمائة سنة انقطعوا فيها عن هذه الحياة ثم رجعوا إليها ، والسبات على طائفة بمدة ثلاثمائة سنة ، لا تقصر عن الموت ، بل هو والموت سواسية.

ولو قال بأنّ ظاهر الآية انّ الناس لا يذوقون إلاّ موتة واحدة ، وعلى هذا التفسير فهؤلاء ذاقوا الموت مرتين.

فجوابه : أنّ مشيئته سبحانه هو أن لا يذوق الانسان إلاّ موتة واحدة ، إلاّ إذا كانت هناك مصالح توجب تعدد الموت ، مثل قوله سبحانه : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) . (3) وقوله : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ) (4). وليست الآية راجعة إلى يوم البعث ، فإنّه يحشر فيه جميع الناس والأمم جمعاء لا فوج منهم.

النموذج الخامس :

قال اللّه سبحانه : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ

ص: 23


1- الدخان : 56.
2- تفسير المنار : 2 / 458 - 459.
3- غافر : 11.
4- النمل : 83.

يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَبِثْتَ مائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1).

ذهب الجمهور إلى أنّ الرجل المذكور في الآية كان من الصلحاء عالماً بمقام ربّه ، مراقباً لأمره ، بل كان شخصاً مكلَّماً كما يحكي عنه قوله سبحانه : ( ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ) فخرج من داره قاصداً مكاناً بعيداً عن قريته التي كان بها ، والدليل على ذلك خروجه مع حمار يركبه وحمله طعاماً وشراباً يتغذى بهما ، فلما صار إلى ما كان يقصده مرّ بالقرية التي ذكر اللّه أنّها كانت خاوية على عروشها ، ولم يكن قاصداً نفس القرية ، وإنّما مرّ بها مروراً ثم وقف معتبراً بما شاهده من القرية الخربة قائلاً كما يحكيه عنه سبحانه : ( أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) مستعظماً - بذلك - الإحياء بعد طول المكث في القبور ورجوعهم إلى حياتهم الأولى ، فأماته اللّه سبحانه ثم بعثه.

وقد كانت الإماتة والإحياء في وقتين مختلفين من النهار ، واستفسر عنه سبحانه بقوله : ( كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) فردّ اللّه سبحانه عليه بقوله : ( بَل لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ) فرأى من نفسه أنّه شاهد مائة سنة كيوم أو بعض يوم ، فكان في ذلك جواب ما استعظمه من إمكان الإحياء بعد طول المكث.

ولكن الأستاذ فسر « الموت » في الآية بالسبات ، وهو أن يفقد الموجود الحي ، الحس والشعور مع بقاء أصل الحياة مدّة من الزمان ، أياماً أو شهوراً ، أو سنين ، كما أنّه الظاهر من قصة أصحاب الكهف ، ورقودهم ثلاثمائة وتسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة فالقصة تشبه القصة (2).

ص: 24


1- البقرة : 259.
2- تفسير المنار : 3 / 49 - 50.

وأنت تعرف أنّ تفسير الموت ب « السبات » ناشئ من موقف مسبق في هذا النوع من الموضوعات ، مع كونه خلاف ظاهر ( فَأَمَاتَهُ اللّهُ ) وهو ظاهر في الموت الحقيقي المتعارف دون السبات الذي ابتدعه الأستاذ ، وقياسه على أصحاب الكهف قياس مع الفارق ، حيث إنّه سبحانه يصرح هناك بالسبات بقوله : ( فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ) (1).

ثم إنّه ارتكب مثل هذا التأويل في قوله سبحانه : ( وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ) ، فمن أراد الوقوف عليه فليرجع إلى تفسيره.

النموذج السادس :

وليس ما ذكر هو الخطأ الأخير الذي وقع فيه الأستاذ في تفسير سورة واحدة ، وهي سورة البقرة ، فقد ارتكب مثل هذا التأويل البارد أيضاً في تفسير قول اللّه سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (2).

فقد ذهب الجمهور إلى أنّ إبراهيم طلب من ربّه أنْ يطلعه على كيفية إحياء الموتى ، فأمره اللّه تعالى بأن يأخذ أربعة من الطير فيقطعها أجزاء ويفرّقها على عدّة جبال هناك ثم يدعوها إليه فتجيئه ، وأنّه علیه السلام قد فعل ذلك.

ولكن الأستاذ اتخذ رأياً خاصّاً نقل عن أبي مسلم أيضاً ، وهو : أنّه ليس في الآية ما يدل على أنّ إبراهيم علیه السلام فعل ذلك ، وما كل أمر يقصد به الامتثال ، فإنّ

ص: 25


1- الكهف : 11.
2- البقرة : 260.

من الخبر ما يأتي بصيغة الأمر لا سيما إذا أُريد زيادة البيان ، كما إذا سألك سائل كيف يصنع الخبز ؟ مثلاً فتقول : خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا يكن خبزاً ، تريد هذه كيفيته ، ولا تعني تكليفه صنع الخبز بالفعل ، وفي القرآن كثير من الأمر الذي يراد به الخبر ، والكلام ها هنا مثل لإحياء الموتى.

ثم إنّه جاء بتفسير عجيب للآية ، إذ قال : معناه خذ أربعة من الطير فضمها إليك ، وآنسها بك حتى تأنس ، وتصير بحيث تجيب دعوتك ، فإنّ الطيور من أشد الحيوانات استعداداً لذلك ، ثم اجعل كل واحد منها على جبل ثم ادعها فانّها تسرع إليك ، لا يمنعها تفرّق أمكنتها ، وبعدها عن ذلك ، كذلك أمر ربّك إذا أراد إحياء الموتى ، يدعوهم بكلمة التكوين « كونوا أحياء » فيكونوا أحياء ، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة (1).

ثم إنّ الأستاذ اختار هذا المعنى قائلاً : إنّ تفسير أبي مسلم هو المختار !!

نحن لا نرد على هذا النظر بما في إمكاننا ، غير أنّا نكتفي في إبطال هذا التفسير بأنّه سبحانه قال في الآية : ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ) ولم يقل : واحداً منها ، وعلى ما ذكره يجب أن يقول : واحداً.

فإذا كان هذا هو مسلك الأستاذ الذي كان يعيش في بيئة علمية دينية تؤمن بالسنن والصحاح والمسانيد ، وموقفه من المعاجز والكرامات وخوارق العادة ، فكيف يكون يا تُرى موقف الجدد من الكتّاب الذي تأثروا بالحضارة الغربية المادية والأفكار الإلحادية الواردة من الشرق والغرب فصاروا إلى تأويل هذه المعاجز والخوارق على هذا النمط ، أسرع وأميل ؟!

ص: 26


1- المنار : 3 / 54 - 56.

إنّ هذا الأمر هو الذي دفع بنا إلى أن نجعل البحث في هذا الكتاب حول المعاجز والكرامات الواردة للنبي الأكرم في القرآن ، وأنْ نشبع الكلام فيه ، وأنْ نقوم في وجه المعاندين الذين جعلوا بعض الآيات القرآنية ذريعة إلى نفي أن يكون لنبي الإسلام صلی اللّه علیه و آله معاجز غير القرآن ، آملين أن ينتفع به الجيل الحاضر كما انتفع بالأجزاء السابقة ، ويقوى به إيمانه ليكون ممن يشمله قوله : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) واللّه المستعان.

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

15 شعبان المعظم من شهور عام 1405 ه

ص: 27

ص: 28

1

أجر الرسالة المحمدية في القرآن الكريم

اشارة

ص: 29

في هذا الفصل :

1. توضيح المراد من « المودة في القربى » حسب معاجم اللغة العربية ، وفهم السلف من الأمّة.

2. التوفيق بين مفاد الآية المثبتة للأجر للنبي صلی اللّه علیه و آله المطلوب من الأمّة ، والآيات النافية له بتاتاً.

3. كيف يعود هذا الأجر إلى الناس أنفسهم دون النبي صلی اللّه علیه و آله كما هو صريح قوله سبحانه : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) ؟

4. هل المستثنى في الآية هو المستثنى في قوله سبحانه : ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) ؟

5. حال الأقوال الشاذة التي ربّما يذكرها المفسرون حول الآية.

6. نقل بعض ما رواه الفريقان من المأثورات حول الآية.

ص: 30

شعار الأنبياء في طريق دعوتهم هو ( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ )

إنَّ أخلص الأعمال وأطهرها من شوائب المادية ما يكون الدافع إلى الإتيان بها وجه اللّه سبحانه وكسب مرضاته ، وامتثال أمره ، وإطاعة فرضه ، ولو أردنا أن نأتي بمثال ، أو نعرض نموذجاً ، فعمل الأنبياء ودعوتهم إلى إصلاح المجتمع خير مثال ونموذج له.

وقد اتفقت كلمة الأنبياء في هتافاتهم على أنَّهم يبلغون رسالات اللّه تطوعاً وطلباً لمرضاة اللّه ، ولا يسألون الناس أجراً ولا جزاء ، حتى صار ذلك شعاراً لهم.

وقد ورد هذا المضمون في قولهم الذي حكاه اللّه عنهم في قرآنه الكريم ، إذ قال :

( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ ) (1).

وقد أمر اللّه سبحانه نبيه الكريم أن يقول :

( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (2).

وقد أصبح هذا الشعار يعرف به النبي عن غيره ، ويميّز به المبعوث من جانبه سبحانه عن المبعوث من جانب نفسه ونفسانياته أو من جانب غيره.

ص: 31


1- انظر سورة الشعراء : الآيات : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180.
2- الفرقان : 57.

ويشهد على ذلك قوله سبحانه حاكياً عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة داعياً الناس أن يتبعوا المرسلين ، لأنهم مبعوثون من جانبه سبحانه بشهادة أنّهم لا يسألون أجراً في دعوتهم ، قال سبحانه :

( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُهْتَدُونَ ) (1).

ثم إنَّ رفضهم الأجر في تبليغ أوامره سبحانه كان لأجل أمرين :

1. أنّ ما قام به الأنبياء من الخدمة للناس أعلى وأنبل من أن يقوّم بالدراهم والدنانير ، أو بالمناصب والمقامات الدنيوية ، فأي شيء يساوي إنقاذ الناس من الخضوع للحجر والمدر ، والأشكال والصور والخوض في قبائح الأعمال ، ورذائلها مما يحطم السعادة الإنسانية ويجلب للبشر الشقاء والانحطاط ؟

أم ترى بماذا يقوّم إنقاذ الأمم مما كانت عليه قبل بعث الأنبياء من الفتك والقتل ووأد البنين والبنات ، وشن الغارات ، وقطع الرحم وأكل الميتة والجيف ، وغير ذلك من الفظائع الشائعة في الأمم الجاهلة ، والمتفشية في الأقوام المنحطة.

وتوقفك على قيمة أعمالهم ، وخدماتهم التي قدموها إلى المجتمع الإنساني ملاحظة البيئات التي لم يبلغ إليها نور النبوة ودعوة الأنبياء ، فهم على وحشيتهم الأولى ، وجاهليتهم الجهلاء ، فما صعدوا مرقاة الكمال درجة واحدة.

فإذا كان العمل هذه قيمته ، وهذه نتيجته فلا يصح تقويمه بزخارف الدنيا ، وملاذ الحياة ، وخاصة إذا لاحظنا أنّ عمل الأنبياء في مجال الدعوة كان مقروناً بالتضحية ، وبذل النفوس والأموال ، وترك الأوطان ، وتحمّل الشدائد والمصائب والدفاع عن الرسالة بأفلاذ أكبادهم ، فهل يمكن أن تقدّر تلكم التضحيات الجسام بالدراهم والدنانير ، أو بالمناصب والمقامات ؟!

ص: 32


1- يس : 20 - 21.

2. انّ الدافع إلى قيامهم ودعوتهم كان هو امتثال أمره سبحانه وتعالى ، وما كان كذلك فاللّه سبحانه أولى بأن يرجى منه الأجر والجزاء لا غيره ، فهؤلاء الرسل كانوا يقومون بأفضل خدمة للبشرية امتثالاً لأمره سبحانه ، وتنفيذاً لإرادته من غير أن يتوقعوا من سواه أجراً ولا جزاءً.

ولأجل ذلك نجد شيخ الأنبياء نوحاً يهتف في قومه بقوله :

( فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ ) (1).

وبقوله :

( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ) . (2)

ونجد هوداً يهتف في قومه بقوله :

( يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (3).

وهذا نبي الإسلام صلی اللّه علیه و آله يأمره سبحانه بالإجهار بذلك الهتاف - عدم سؤاله أجراً - بجمل وتعابير مختلفة نأتي بالجميع :

أ. ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) (4).

ص: 33


1- يونس : 72.
2- هود : 29.
3- هود : 51.
4- ص : 86 - 87.

ب. ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) (1).

ج. ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِن مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) (2).

ويعود سبحانه ينبّه نبيّه بأنّه قد أعد له أجراً عارياً عن المنّة ويقول :

( وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ) (3).

فأجره سبحانه عار وخال عن كل منّة بخلاف الأجر المتوقع من الناس ، فإنّه مقرون بها.

هذا حال الآيات الواردة في أجر الرسالة ، وهي بكلمة واحدة تنفي الأجر الموضوع على عاتق الناس.

والمراد من الأجر المرفوض هو الأجر الدنيوي الذي يتنافس فيه الناس ويتخاصمون في تحصيله من المال والثروة والمناصب والمقامات.

ويدل على ذلك وضع المال مكان الأجر في كلام نوح ، حيث قال :

( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللّهِ ) (4).

فالأجر المنفي والمرفوض بتاتاً هو ذلك الأجر الدنيوي بلا إشكال.

نعم يظهر من سورة الشورى أنّه سبحانه استثنى من الأجر المنفي أجراً واحداً وهو المودة في القربى حيث يقول : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) (5).

كما أنّه سبحانه استثنى في سورة الفرقان من الأجر المرفوض أمراً ربّما يتوهم

ص: 34


1- الأنعام : 90.
2- الطور : 40 ، والقلم : 46.
3- القلم : 3.
4- هود : 29.
5- الشورى : 23.

تغايره مع ما سأله في سورة الشورى قال سبحانه :

( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (1).

ثم إنّه سبحانه قد أخبر في آية ثالثة بأنّ الأجر الوارد في هاتين الآيتين يرجع بالنتيجة إلى الناس أنفسهم لا إلى النبي نفسه ، كما قال سبحانه :

( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (2).

ولأجل الإجابة على هذه الأسئلة ورفع الستار عن وجه الحقيقة في هذا المجال يقع البحث في مقامات هي :

الأوّل : ما المراد من المودّة في القربى التي جعلها اللّه سبحانه في ظاهر الآية أجراً للرسالة ؟

الثاني : كيف يمكن التأليف والتوفيق بين هذه الآية والآيات النافية للأجر بتاتاً ؟

الثالث : كيف يعود نفع هذا الأجر إلى الناس أنفسهم دون النبي صلی اللّه علیه و آله ؟

الرابع : هل المستثنى في قوله : ( إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) هو المستثنى في قوله : ( إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) أو غيره ؟

الخامس : حال الوجوه التي ذكرها المفسرون في تفسير ( المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) .

السادس : سرد الروايات والمأثورات التي رواها الفريقان في تفسير الآية.

وإليك البحث في المقام الأوّل :

ص: 35


1- الفرقان : 57.
2- سبأ : 47.

المقام الأوّل: ما هو المراد من ( المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) ؟

اشارة

قبل كل شيء نلفت نظر القارئ إلى أمرين :

الأوّل : أنّه لا مجال للشك في أنّ هذه الآية كانت واضحة المفهوم ، بيّنة المراد عند نزولها ، ولم تكن تشير إلاّ إلى معنى واحد.

الثاني : أنّه لا شك في أنّ السلف هم أفضل من يمكن الرجوع إليهم في تفسير مفاد الآية لقرب عهدهم بعصر الرسالة.

وعلى هذين الأمرين نبدأ بتفسير الآية ، ولنقدم عرض مفرداتها على معاجم اللغة ، وفي محاولتنا لعرضها على اللغة لا تمس الحاجة إلى البحث إلاّ عن كلمتين وهما : ( المَوَدَّةَ ) و ( القُرْبَى ) .

أمّا كلمة « المودَّة » : فقد اتفقت كتب اللغة والقواميس على أنّها لا تعني إلاّ شيئاً واحداً ، وهو : المحبة ، فإذا قيل فلان يودّ فلاناً معناه : أنّ فلاناً يحب فلاناً.

يقول ابن فارس في مادة ود : « الود » أي الحب ، وددته أي أحببته.

ثم قد تأتي كلمة الود بمعنى الحب مع التمني ، كما لو قيل وددت أنّ ذلك كان : إذا تمنيته.

ويقول الفيروزآبادي في قاموسه في باب ود : « الود » و « الوداد » تعني « الحب ».

ص: 36

هذا ولم يذكر صاحب القاموس أنّ الود قد يستعمل في الحب مع التمني.

وأمّا كلمة « القربى » : فكتب اللغة ومعاجمها متفقة على أنّها تعني القرابة والوشيجة الرحمية لا غير.

يقول ابن فارس في مادة « قرب » : القربى القرابة ، وفلان قريبي وذو قرابتي.

ويقول الفيروزآبادي في مادة « قربى » : والقربى ، القرابة وهو قريبي وذو قرابتي.

ويقول الزمخشري في الكشاف : « القربى » مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة ، والمراد أهل القربى (1).

وفي المنجد : « القربى » و « القربة » - بضم الراء - والقرابة ، القرابة في الرحم.

فاتضح من هذه النصوص أنّ المراد من القربى هو الرابطة النسبيّة بين شخصين ليس غير.

ويؤيد ذلك أنّ المتبادر من هذه الكلمة في الموارد التي استعملها القرآن ليس إلاّ ذلك المعنى الواحد الذي تصافقت عليه كتب اللغة ، ولم تعرف له بديلاً.

وإذا استعملت هذه الكلمة في غير ذلك المعنى أحياناً فلابد من اعتباره معنى شاذاً بعيداً عن الأفهام العرفية ، ولا يصح لنا الأخذ به مطلقاً.

نعم انّ كلمة « القربى » استعملت في القرآن بضميمة مضاف في مواضع ، وبدونها في مواضع أُخرى ، وقد وردت كلمة القربى في القرآن (15) مرة ، (2) ما عدا الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، وإليك بعض الآيات التي وردت فيها كلمة « القربى » وهي تقصد القرابة الرحمية ليس غير :

ص: 37


1- الكشاف : 3 / 81.
2- لاحظ : سورة البقرة الآية : 83 و 177 ، النساء : 8 و 36 ، المائدة : 106 ، الأنعام : 152 ، الأنفال : 41 ، التوبة : 113 ، النحل : 90 ، الإسراء : 26 ، النور : 22 ، الروم : 38 ، فاطر : 18 ، الحشر : 7. وقد تكرّرت الكلمة في الآية 36 من سورة النساء مرتين.

( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى ) (1).

( وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى ) (2).

( وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ) . (3)

( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) (4).

ماذا فهم الأوائل من ( المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) ؟

قد تبين ممّا أوردناه من كلمات اللغويين مفاد مفردات الآية ، ويجب الآن أن نبيّن ما هو المقصود من هذا التركيب.

فنقول : إنّ جمهور العلماء والأدباء والمفسرين بمختلف طبقاتهم وفنونهم لم يفهموا من هذه الآية سوى لزوم ولاء أقرباء النبي وعترته. نعم في مقابل هذا المعنى محتملات أُخر يذكرها بعض المفسرين ، ولكنها ليست إلاّ أقوالاً شاذة لا يعبأ بها ، وسيوافيك بعض هذه المعاني الشاذة في الفصل الخامس من هذا البحث فنقول :

أمّا المحدثون : فقد نقل الفريقان من السنّة والشيعة عشرات الأحاديث الدالة على أنّ الآية نزلت في لزوم ولاء أهل البيت ، ومودَّة أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله ، وسوف يوافيك بعض نصوصهم في محله ، وأمّا من هم أهل بيته وأقرباؤه ؟ فسيوافيك البحث عنهم في المستقبل.

ص: 38


1- البقرة : 83.
2- البقرة : 177.
3- النساء : 36.
4- التوبة : 113.

وأمّا غيرهم فقد فهم الأدباء من الآية نفس ما أقرّته اللغة ورجالها ، وبما أنّهم من العرب الأقحاح ، وبحكم إحاطتهم باللغة العربية يكون فهمهم حجة في تفسير الآية.

ولأجل هذا نورد في ما يلي نماذج من الشعر الذي يؤكد على أنّ المودة في القربى إنّما تعني المحبة لأهل البيت النبوي ، ونذكر من الكثير ، القليل.

1. لقد صاغ الإمام الشافعي ما فهمه من هذه الآية في البيتين التاليين وأثبت بذلك حبّه لأهل البيت وولاءه لأقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله فقال :

يا أهل بيت رسول اللّه حبكم

فرض من اللّه في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم

من لم يصل عليكم لا صلاة له (1)

2. وقد سبق الإمام الشافعي سفيان بن مصعب العبدي الكوفي ، وهو من تلاميذ الإمام جعفر الصادق علیه السلام فصاغ ما فهمه في إحدى قصائده ولعظمة شأنه وأهمية ما قاله من الشعر في هذا المضمار أوصى الإمام الصادق شيعته بتحفيظ شعره لأبنائهم (2) وهو يقول :

آل النبيّ محمد *** أهل الفضائل والمناقب

المرشدون من العمى *** والمنقذون من اللوازب

الصادقون الناطقون *** السابقون إلى الرغائب

فولاهمُ فرض من الر *** حمن في القرآن واجب (3)

ص: 39


1- لاحظ شرح المواهب للزرقاني : 7 / 8 ، والصواعق لابن حجر : 87 ، والاتحاف للشبراوي : 29 ، وإسعاف الراغبين للصبان : 119 ، ومشارق الأنوار للحمزاوي المالكي. راجع الغدير : 1 / 152.
2- روى الكشي عن الصادق علیه السلام أنّه قال : « يا معشر الشيعة علّموا أولادكم شعر العبدي ، فإنّه على دين اللّه ». رجال الكشي : 343.
3- لاحظ الغدير : 2 / 275 ، ط النجف.

3. وممّن صاغ مفاد الآية في قالب شعره هو الشيخ شمس الدين ابن العربي على ما نقل ابن حجر عنه في صواعقه ص 101 ، ففي البيتين التاليين يكشف ابن العربي بصراحة عن أنّ المقصود من المودة في القربى ليس سوى محبة عترة الرسول حيث يقول :

رأيت ولائي آل طه فريضة *** على رغم أهل البعد يورثني القربى

فما طلب المبعوث أجراً على الهدى *** بتبليغه إلاّ ( المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى )

4. نجد ابن الصباغ المالكي ينسب في كتابه « الفصول المهمة ص 13 » البيتين التاليين إلى شاعر :

هم العروة الوثقى لمعتصم بها *** مناقبهم جاءت بوحي وإنزال

مناقب في شورى وسورة هل أتى *** وفي سورة الأحزاب يعرفها التالي

ومن الواضح أنّ الشاعر يقصد بقوله « مناقب في شورى » مفاد الآية التي نبحث عنها ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) .

وكما يذكر أيضاً لقائل آخر قوله :

هم القوم من أصفاهم الود مخلصاً *** يمسك في أخراه بالسبب الأقوى

هم القوم فاقوا العالمين مناقبا *** محاسنها تجلى وآياتها تروى

موالاتهم فرض وحبهم هدى *** وطاعتهم ود وودهم التقوى

5. وينسب الشبلنجي في « نور الأبصار ص 13 » الآبيات التالية لأبي الحسن ابن جبير :

ص: 40

أحب النبي المصطفى وابن عمه *** علياً وسبطيه وفاطمة الزهرا

همو أهل بيت أذهب الرجس عنهمو *** وأطلعهم أفق الهدى أنجماً زهرا

موالاتهم فرض على كل مسلم *** وحبهمو سني الذخائر للأخرى

6. وقال النبهاني :

آل طه يا آل خير نبي *** جدكم خيرة وأنتم خيار

أذهب اللّه عنكم الرجس أه *** ل البيت قدماً وأنتم الأطهار

لم يسل جدكم على الدين أجراً *** غير ود القربى ونعم الاجار (1)

هذه نماذج ممّا قيل شعراً في مفاد الآية ، وهي تكشف بكل وضوح وجلاء عن أنّ الآية لم تقصد منذ أن نزلت إلاّ تكريس محبة ذوي القربى.

ولا شك أنّ الأشعار استوحت محتواها من اللغة وما فهمه المحدّثون ، والعلماء الأوائل.

فالأبيات الماضية أمّا كانت من إنشاء العلماء أنفسهم ، أو لقيت تأييدهم إلى درجة أنّهم نمَّقوا بها كتبهم في تفسير الآية ، وهذا إن دلَّ على شيء فانّما يدلُّ على أنّ الآية لا تحتمل إلاّ ما أسفرت عنه كتب الحديث والتفسير والتاريخ.

فهذه هي اللغة كما رأيناها ، وهؤلاء هم الأدباء وأبياتهم كما قرأناها كلّها تتفق على أنّ اللّه سبحانه لم يطلب أجراً لرسالة نبيه صلی اللّه علیه و آله إلاّ محبَّة ذوي القربى.

وأمّا أنّه كيف يصلح أن تكون المودة في القربى أجراً للنبي صلی اللّه علیه و آله ؟ فسوف نعود إليه عند البحث عن المقام الثاني ، فارتقب.

ص: 41


1- لاحظ : الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء : 229.
أسئلة وأجوبتها

ثم إنّ هاهنا أسئلة حول مفاد الآية طرحها بعض من لا إلمام له بتفسير كلام اللّه وتوضيح سنة نبيّه صلی اللّه علیه و آله ، ونحن نوردها هنا مع الإجابة عليها :

السؤال الأوّل :

لو أراد اللّه سبحانه من الآية مودّة القربى لقال : إلاّ مودّة أقربائه ، أو المودّة للقربى.

الجواب : انّ السائل توهم أنّ « القربى » جمع « القريب » أو « الأقرب » فقال لو أراد مودة أقربائه لقال كذا وكذا ، ولكنّه غفل عن أنّ القربى مصدر كزلفى وبشرى كما قال الزمخشري في كشّافه ، ولأجل ذلك لم يستعمل في القرآن إلاّ مع المضاف كقوله « ذي القربى » و « ذوي القربى » و « أُولي القربى » مشيراً إلى صاحب القرابة الرحمية ، وأمّا في مورد الآية فقد استعمل بلفظة « في القربى » بحذف المضاف من الأهل وغيره.

قال الزمخشري في كشافه : فإن قلت فهلا قيل إلاّ مودة القربى ، أو إلاّ المودة للقربى ، وما معنى قوله : ( إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) ، قلت : جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها كقولك : « لي في آل فلان مودة ، ولي فيهم هوى وحب شديد » تريد أحبهم وهم مكان حبي ، ومحله ، وليست « في » بصلة للمودة كاللام إذا قلت « إلاّ المودة للقربى » ، إنّما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك ، المال في الكيس ، وتقديره إلاّ المودة ثابتة في القربى ، ومتمكنة فيه « والقربى » مصدر بمعنى القرابة كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة والمراد « في أهل القربى » (1).

ص: 42


1- الكشاف : 3 / 81 ، ط مصر عام 1367.

قال النبهاني في الشرف المؤبد : القربى مصدر بمعنى القرابة وهو على تقدير مضاف أي ذوي القربى يعني الأقرباء قال : وعبر ب « في » ولم يعبر ب « اللام » ، لأنّ الظرفية أبلغ وآكد للمودة (1).

السؤال الثاني :

إنّ تفسير الآية بمودة أهل البيت وعترة النبي غفلة عن نقطة هامة ، وهي : أنّ الآية وردت في سورة الشورى وهي سورة مكية ولم يكن يومذاك الحسنان ، بل ربما لم تكن فاطمة أيضاً ، فكيف تفسّر الآية بعترة النبي ، وتخصص العترة بجماعة خاصة ، أعني : علياً وفاطمة والحسن والحسين ، مع أنّ أكثرهم لم يكونوا موجودين زمن نزول الآية ؟

وهذا السؤال يرجع إلى ابن تيمية في « منهاجه ص 250 » ، حيث قال : إنّ سورة الشورى مكية بلا ريب نزلت قبل أنْ يتزوج علي بفاطمة وقبل أنْ يولد له الحسن والحسين.

الجواب : انّ هناك طريقين لمعرفة الآيات المكية وتمييزها عن المدنية.

الطريق الأوّل : هو ملاحظة نفس مفاد الآية فهو الذي يكشف عن موضع نزول الآية أو السورة ، إذ الآيات التي تدور حول التوحيد والمعارف العقلية ، وانتقاد الوثنية ورفض الأوثان ، والدعوة إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر ، وبيان ما جرى في القرون الغابرة على الأمم السالفة ، وما يشابه هذه الموضوعات هي مكية في الأغلب على أساس أنَّ القضايا الوحيدة التي كانت تطرح في المحيط المكي كانت تدور حول هذه المسائل وأمثالها ، فإنّ محيط مكة في فجر الدعوة الإسلامية ما كان يتحمل أكثر من طرح هذه القضايا.

ص: 43


1- الشرف المؤبد نقله عنه العلاّمة شرف الدين في الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء : 32.

أمّا الآيات التي تدور حول شؤون النظام الإسلامي والجهاد ومحاجة اليهود والنصارى والأحكام الشرعية والنظم الاجتماعية فهي مدنية غالباً.

ولقد تمكّن العلماء مؤخراً أن يحصلوا بمعونة هذا المعيار الدقيق ، على نتائج باهرة في مجال فهم النصوص القرآنية.

فإذا كان هذا هو الملاك في تشخيص مكية الآيات عن مدنيتها ، فهذا يقودنا - بيسر - إلى اعتبار كون الآية المبحوثة هنا مدنية لا مكية ، لأنّها تناسب ظروف المدينة ، ولا تناسب ظروف مكة ، إذ ليس من المعقول أن يتحدث النبي بمثل هذا الطلب في مكة حيث لم يكن قد آمن به بعد إلاّ نفر يسير لا يتجاوز عددهم عدد الأصابع أو يزيد عن ذلك بقليل ، حيث كان يواجه أغلبية معادية ، مبالغة في عدائها ، متعنتة في خصومتها ، وأمّا النفر اليسير ، أعني : الجماعة القليلة المؤمنة ، فما كان يناسب طلب شيء منهم حتى المودَّة وهم على ذلك الضعف والمحنة الشديدة والتشرّد والمعاناة.

لندع الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله ولنأخذ أيَّ رجل بليغ آخر يعرف متى يتكلم وماذا يقول ، ترى هل من الصحيح أن يقول لجماعة لم تؤمن به بعد أو لجماعة قليلة مؤمنة كانوا يعذبون بألوان التعذيب : ( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) سواء أفسرت الآية بعترة الرسول وأهل بيته ، أو غيرها من المعاني التي أبدعها بعضهم في تفسير الآية ؟

أجل انّ مثل هذا الطلب إنّما يصح أن يوجهه إلى الذين صدّقوه وآمنوا به وقبلوا دعوته وكانوا قد وصلوا إلى بعض الأهداف والنجاحات واستقرّت أُمورهم وصفا لهم الجو والحال.

وخلاصة القول : إنّ سؤال الأجر من جانب النبي وهو في إبّان الدعوة ليس أمراً بليغاً حيث لم يستتب له الأمر بعد ، ولم يحصل هناك هدوء ولا سكون له ولمن

ص: 44

آمن به واتبعه ، وإنّما هو مناسب لظرف آخر مثل أواخر عهد الرسالة.

الطريق الثاني : لتمييز مكيّة الآيات عن مدنيتها هو الرجوع إلى النصوص الواردة في هذا المورد عن العلماء وكبار المفسرين ، فإذا كان هو الميزان لمعرفة الآيات المكية من المدنية فإنّنا نجد المفسرين - وبالأخص أُولئك الذين ألّفوا كتباً حول مواضع نزول الآيات والسور - يقولون : إنّ سورة الشورى مكيّة إلاّ أربع آيات أُولاها قوله تعالى : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) فهذا إبراهيم بن عمر البقاعي الذي ألّف كتاباً في هذا المضمار وأسماه « نظم الدرر وتناسق الآيات والسور » يقول في كتابه هذا : سورة الشورى مكية إلاّ الآيات 23 ، 24 ، 25 و 27 (1).

والواقع أنّه لم يكن البقاعي وحده هو القائل بمدنية هذه الآية ، وإنّما قال به عدّة من المفسرين منهم : نظام الدين النيسابوري ، صاحب التفسير الكبير يقول في ابتداء تفسيره لسورة الشورى : سورة الشورى مكية إلاّ أربع آيات ومنها آية المودّة في القربى نزلت في المدينة (2).

ويقول الخازن في تفسيره : سورة الشورى مكية ، ونقل عن ابن عباس أنّ أربع آيات منها نزلت في المدينة أولاها : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) ( ثم يضيف قائلاً ) : وليست هذه الآيات الأربع مدنية فحسب بل هناك آيات أُخرى نزلت بالمدينة أيضاً ، فقد ذهب فريق إلى أنّ الآيات من 39 إلى 44 أيضاً مدنية (3).

ص: 45


1- راجع تاريخ القرآن للزنجاني : 58. والبقاعي هذا هو برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الشافعي ، ولد عام 809 ه ، وتوفّي في دمشق عام 885 ه. قال في كشف الظنون : 2 / 605 : وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد جمع فيه من أسرار القرآن ما تتحير فيه العقول.
2- تفسير النيسابوري : 3 / 312.
3- تفسير الخازن : 4 / 94.

ثم إنّ بإمكان القارئ أن يراجع المصاحف التي طبعت تحت إشراف لجان أزهرية ومحققين منهم ليجد فيها هذه العبارة فوق سورة الشورى : سورة الشورى مكية إلاّ الآيات 23 ، 24 ، 25 و 27 فمدنية.

وليعلم القارئ أنّ ترتيب الكتاب العزيز في الجمع ليس على حسب ترتيبه في النزول إجماعاً وباتفاق جميع العلماء ، ومن ثم كانت أغلب السور المكية لا تخلو من آيات مدنية ، وكذلك أكثر السور المدنية لا تخلو من آيات مكية ، بحكم أئمّة السلف والخلف من الفريقين ووصف السورة بكونها مكية أو مدنية تابع لأغلب آياتها لا جميعها (1).

ولكي يكون هذا الكلام مقروناً بالدليل ومدعماً بالبرهان نأتي بنماذج من هذا :

1. سورة العنكبوت مكية إلاّ من أوّلها عشر آيات فهي مدنية (2).

2. سورة الكهف مكية إلاّ من أوّلها سبع آيات فهي مدنية ، وقوله ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ) الآية (3).

3. سورة هود مكية إلاّ قوله : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ) وقوله : ( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ) (4).

4. سورة مريم مكية إلاّ آية السجدة وقوله : ( وَإِن مِنكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) (5).

5. سورة الرعد فانّها مكية إلاّ قوله : ( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وبعض آيها

ص: 46


1- الكلمة الغرّاء : 227.
2- راجع تفسير الطبري : 20 / 86 ، وتفسير القرطبي : 13 / 323 ، والسراج المنير : 3 / 16.
3- تفسير القرطبي : 10 / 346 ، والإتقان : 1 / 16.
4- تفسير القرطبي : 9 / 1 ، والسراج المنير : 2 / 40.
5- إتقان السيوطي : 1 / 16.

الآخر ، أو بالعكس (1).

6. سورة إبراهيم مكية إلاّ قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللّهِ ) الآيتين (2).

7. سورة الإسراء مكية إلاّ قوله : ( وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ ) إلى قوله : ( وَاجْعَل لِي مِن لَدُنكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ) (3).

8. سورة الحج مكية إلاّ قوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَرْفٍ ) (4).

9. سورة النمل مكية إلاّ قوله : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) (5).

10. سورة القصص مكية إلاّ قوله : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِن قَبْلِهِ ) (6).

11. سورة القمر مكية إلاّ قوله : ( سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (7).

12. سورة يونس مكية إلاّ قوله : ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ) الآيتين (8).

وغيرها مما نص به أئمّة التفسير ، وما ذكرناه نماذج ممّا ذكروه.

فكما أنّ كون السورة مكيّة لا يستلزم كون جميع آياتها كذلك فكذلك كون السورة مدنية لا يستلزم كون جميعها كذلك ، كما يجده المتتبع في طيات التفاسير.

ص: 47


1- تفسير القرطبي : 9 / 278 ، ومفاتيح الغيب : 5 / 258.
2- تفسير القرطبي : 9 / 338 ، والسراج المنير : 2 / 159.
3- تفسير القرطبي : 10 / 203 ، وتفسير الرازي : 5 / 540 ، والسراج المنير : 2 / 261.
4- تفسير القرطبي : 12 / 1 ، وتفسير الرازي : 6 / 206 ، والسراج المنير : 2 / 511.
5- تفسير القرطبي : 5 / 65 ، والسراج المنير : 2 / 205.
6- تفسير القرطبي : 13 / 245 ، وتفسيرالرازي : 6 / 585.
7- السراج المنير : 4 / 136.
8- تفسير الرازي : 4 / 774 ، والإتقان : 1 / 15 ، والسراج المنير : 3 / 2.

كما أنّ بعض الآيات نزلت مرتين ، نصّ بذلك العلماء ، وعللوه بكونها عظة وتذكيراً ، أو لاقتضاء علل متعددة ذلك (1).

وإن شئت التفصيل فلاحظ أوائل السور من التفاسير تجد انّ المفسرين حيث يحكمون بأنّ السورة مكية أو مدنية يستثنون في أغلب السور آيات خاصة ، فلاحظ التفاسير في تفسير السور : المائدة ، الأعراف ، الرعد ، الإسراء ، الكهف ، مريم ، الحج ، الشعراء ، القصص ، الروم ، لقمان ، سبأ ، الزمر ، الزخرف ، الدخان ، الرحمن.

فإنّ نظرة فاحصة في هذه السور والتفاسير حولها توقف الإنسان على أنّ كون السور مكية أو مدنية بمعنى أنَّ أغلب آياتها لا جميعها كذلك.

* * *

ولو فرضنا كون الآية مكية لكنه لا يستلزم كون المودة مقصورة على الموجودين من أقربائه بل يكون حكماً إسلامياً شاملاً لمن يتولَّد بعد نزول الآية من أقربائه نظير قوله : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) فانّها شاملة لأولاد المخاطبين المتولدين بعد نزول الآية.

ثم إنّ تفسير النبيّ الآية بعلي وفاطمة وابنيهما يمكن أنْ يكون متأخراً عن نزول الآية لرفع الستار عن وجه الآية ، فيكون من الإخبارات النبوية بالمغيبات.

ثم إنّ فرض مودتهما على الأمّة قبل ولادتهما لأجل كرامتهما عليه وقرب

ص: 48


1- الإتقان : 1 / 60 ، تاريخ الخميس : 1 / 11 ومنها سورة الفاتحة ، ولأجل تكرار نزولها سميت المثاني. وقد أخذنا هذه النصوص في مورد تلك الآيات عن الغدير : 1 / 1. 234 شكر اللّه مساعيه.

منزلتهما منه ، كما بشر اللّه آدم ونوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى بالنبي الخاتم ، وعرّفهم جلالة قدره وعظم شأنه.

وعلى كل تقدير سواء أكان تفسير الآية بعلي وفاطمة وابنيهما مقارناً مع نزول الآية أم بعده ، فقد روى المحدّثون عن ابن عباس أنّه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ فقال : « علي وفاطمة وابناهما » (1).

وخلاصة القول : إنّ ما يعيّن مكيّة الآيات ومدنيتها هي الأحاديث الإسلامية ، فالأحاديث التي تقول بأنّ سورة الشورى مكية هي التي تقول بأنّ آية ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ ) بل بضع آيات وردت فيها ، نزلت في المدينة ، ومخالفة هذه الأحاديث ليس سوى نوع اجتهاد في مقابل النص بل النصوص.

وعلى تسليم كونها مكية برمتها لا يضير عدم وجود بعض أفرادها حين النزول في مكة إذ أنّ من الجائز أن يشرِّع مقنن قانوناً يحترم طائفة من الناس يوجد بعض أفرادها حين التشريع ، وهذا هو الاسلوب الذي يتبعه القرآن في كثير من تشريعاته حيث يقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى ) (2). فلفظ الغنيمة يشمل كل ما تغلب عليه المسلمون في الأجيال كلها ، كما أنّ لفظ ( وَلِذِي القُرْبَى ) يشمل أقرباء النبي سواء أكانوا موجودين زمن نزول الآية أم لا.

ص: 49


1- الذخائر : 25 ، والكشاف : 2 / 339 ، مطالب السؤول : 8 ، مفاتيح الغيب : 7 / 665 ، مجمع الزوائد : 9 / 168 ، الفصول المهمة : 12 ، الكفاية للكنجي : 31 ، شرح المواهب : 7 / 3 و 21 ، والصواعق : 101 و 135 عند البحث في المقام السادس ، نور الأبصار : 112 ، الاسعاف : 105 وستوافيك نصوصهم.
2- الأنفال : 41.

والعجب تسمية ذلك في كلام بعضهم ( أي إدراج الآية المدنية في السورة المكية أو بالعكس ) تحريفاً باطلاً فإنّ هذا تصور باطل عن معنى التحريف الذي هو بمعنى الزيادة والنقيصة في القرآن وإلاّ يلزم أن نعتبر كلَّ المفسرين والمحدّثين من القائلين بالتحريف لأنَّهم كثيراً ما يعتبرون الآية مدنية في ضمن السورة المكية وبالعكس.

على أنّ التحقيق هو أنَّ القرآن جمع في عصر الرسول بهذا الشكل الحاضر فبأمره رتبت سوره ونظمت آياته ، ووضعت كل آية في موضعها ، فإذا كان ذلك بأمر الرسول فهل يصح أن نعتبره تحريفاً ؟

روى المفسرون عن ابن عباس والسدي : انّ قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (1) آخر آية نزلت من الفرقان على رسول اللّه وانّ جبرئيل قال له ضعها على رأس الثمانين والمائتين من البقرة ، وهذا القول كأنّما إجماعي ، وانّما الاختلاف في مدة حياة الرسول بعد نزولها. (2)

السؤال الثالث

إنّ المحبة حالة قلبية غير اختيارية فلا يمكن الأمر بها بأن تقع تحت دائرة الطلب ، لأنّه لو كانت هناك موجبات الود وجدت المحبة قهراً وإن لم يوص بها ، وإن لم تكن فلا توجد وان كانت هناك توصية بذلك.

الجواب : عزب عن المستشكل أنّه لو كانت المودة أمراً غير اختياري موجباً لعدم صحة الأمر بها ، لزم عدم صحة النهي عنها أيضاً فإنّ الموضوع غير

ص: 50


1- البقرة : 281.
2- الكشاف : 1 / 303 ، مجمع البيان : 1 / 394 ، الإتقان : 1 / 77.

الاختياري لا يقع تحت دائرة الطلب مطلقاً ، لا تحت دائرة الأمر ولا تحت دائرة النهي ، بينما نرى القرآن ينهى عن مودة الكفّار وأعداء اللّه ويقول وهو يصف المؤمنين : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (1).

كما يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ ) (2).

والآية الأولى وإن كانت تخبر في الظاهر عن أحوال المؤمنين إلاّ أنّ المقصود منها هو الحث على الاجتناب عن مودتهم ومحبتهم.

إذا كانت المودة - لأجل كونها أمراً خارجاً عن الاختيار - لا يتعلق بها الأمر لماذا نجد الرسول العظيم صلی اللّه علیه و آله يدفع المسلمين إلى التوادد والتحابب ممثلاً لذلك بمثل جميل ورائع حيث يقول :

« مثل المؤمنين في توادّهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » (3).

وهذا الحديث ونظائره كثيرة في الأحاديث الإسلامية ، وكلّها تعطي أنّ المودة موضوع قابل للطلب ، كما أنّ المحدثين عقدوا في موسوعاتهم الحديثية أبواباً من قبيل باب « الحب في اللّه » وباب « البغض في اللّه » وأدخلوا في هذه الأبواب مجموعات كبيرة من الأحاديث التي تبدو منها بجلاء الدعوة إلى التوادد والتحابب بين الأمّة الإسلامية ونبذ الكفار وعدم موالاتهم.

ص: 51


1- المجادلة : 22.
2- الممتحنة : 1.
3- مسند أحمد : 4 / 7 ، والتاج : 5 / 17 ، نقلاً عن صحيحي البخاري ومسلم.

ومن هنا يبدو أنّ البغض والحب ليسا كما يتوهم أمرين غير اختياريين وغير خاضعين للإرادة الانسانية ، بل هما حالتان اختياريتان تتحققان بالتدبر واعمال النظر في مقدماتهما.

يقول الإمام الصادق علیه السلام : « من أوثق عرى الإيمان أن تحب في اللّه وتبغض في اللّه » (1). أي تحب المؤمن لإيمانه باللّه ، وتبغض الكافر لكفره باللّه.

ويقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في عهده إلى مالك الأشتر النخعي : « واشعر قلبك الرحمة والمحبة لهم واللطف بهم » (2).

ولو أُتيح لك أن تطّلع بالتفصيل على النصوص الواردة في مجال الحب والبغض ، لرأيت كيف أنّ الرسول والأئمّة علیهم السلام أوصوا بمحبة جماعة معينة ، ونهوا عن مودة آخرين ، فها هو الرسول يقول : « عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالب علیه السلام » (3). والهدف النهائي من هذه الكلمة هو الدعوة إلى موالاة علي وعقد القلب على محبته.

ويقول الرسول صلی اللّه علیه و آله أيضاً : « من سرَّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال علياً من بعدي ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهماً وعلماً » (4).

وقال صلی اللّه علیه و آله في حق علي أيضاً : « ومن أحبني فليحبه ، ومن أحبني وأحب هذين وأباهما وأُمهما كان معي في درجتي يوم القيامة » (5).

ص: 52


1- سفينة البحار : 1 / 12.
2- نهج البلاغة : قسم الكتب برقم 53.
3- تاريخ بغداد : 4 / 410.
4- حلية الأولياء : 1 / 86.
5- مسند أحمد : 5 / 366 ، وصحيح مسلم كتاب الفتن : 119 ، وصحيح الترمذي كتاب المناقب : 20.

ولا شك أنّ هدف الرسول صلی اللّه علیه و آله ليس إلاّ دفع الناس إلى محبتهم وموالاتهم.

أضف إلى ذلك أنّ دعوة النبي إلى حب وموادّة جماعة خاصة ، يكون سبباً قوياً لغرس بذور المحبة لتلك الجماعة في قلوب الناس ، وسرعان ما تنمو تلك البذور وتتحول إلى حب عميق لتلك الجماعة ، فعندما يأخذ الرسول بيد علي ويقول : « من أحبني فليحبه » ، تكون تلك العبارة حافزاً لمشاعر القوم تجاه مكانة علي ، وسبباً لنمو بذور المحبة في أفئدتهم ، كيف لا ، وهذه الكلمات من رسول اللّه هي التي صنعت جماعة أحبت علياً وآله غاية الحب.

نعم لو أوصى بمحبة من لا يتوفر فيه ملاك المحبة ، إمّا لوجود نقاط ضعف في خلقه أو عمله لما نفعت التوصية ، على أنّ هناك قد يوجد من يتوفر فيه ملاكالمحبة دون أن يعلم أكثر الناس به ، فدعوة الناس إلى محبتهم وولائهم تكون سبباً إلى التفتيش في موجبات هذه الدعوة ، وفي نهاية المطاف يكون هذا الأمر سبباً إلى التفات الناس إلى سجاياهم وأخلاقهم التي تخلق المحبة في قلوب الناس.

وبذلك يتضح أنّ دفع الناس إلى التعرف على عظمة الشخص يحصل بأحد أمرين :

الأوّل : رفع الستر عن سجاياه الأخلاقية وملكاته الفاضلة ببيان فضائله ، وهو عمل يوجه الناس إلى القائد بصورة مباشرة.

الثاني : الأمر بحبه وموالاته ، ويكون سبباً لإقبال الناس عليه ، والتعرّف بالتدريج على مؤهلاته وصفاته وسجاياه.

وعلى هذا الأساس يعتبر الأمر بمودتهم منطلقاً للتعرف وأساساً للاتّباع.

ص: 53

السؤال الرابع

كيف يأمر الرسول بمودة أقربائه مع أنّا نجد في صفوفهم من عادى اللّه ورسوله ، وانّه سبحانه نهى عن مودة من يعاديه أو يعادي رسوله ؟

الجواب : لا شك أنّ القرآن الكريم نهى عن موالاة الكفار سواء أكانوا من أقرباء الرسول أم لا ، قال سبحانه :

( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) (1).

وقال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2).

وقال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ ) (3).

فبملاحظة هذه الآيات والآيات التي نزلت في مكة وطلبت من المؤمنين أن يجانبوا آباءهم وأُمهاتهم المشركين ، يقضي العقل بأنّ الرسول إنّما طلب موالاة من يرتبط به بوشيجة القربى إذا كان موصوفاً بالإيمان والتقى ، وليس من المعقول ممن ينهى عن موالاة الكفار والمشركين ، أن يطلب موالاة أقربائه على الإطلاق حتى المشركين.

ص: 54


1- التوبة : 113.
2- التوبة : 23.
3- الممتحنة : 1.

وقصارى الكلام هو أن نخصّص إطلاق الآية بما دلَّ على المجانبة من الكفار والمشركين ، وإن كانوا من أُولي القربى.

وهذا الإشكال ضئيل غاية الضآلة ، فكأن صاحبه جهل أو تجاهل أنَّ القرآن يصدّق بعضه بعضاً ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، فالقرآن هو الذي يقول في حق ولد نوح : ( إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) (1). فعندئذ لا يتبادر من الآية سوى محبة المؤمنين والمخلصين من أقرباء النبي دون الكفار والمشركين.

على أنّ الآية كما أسلفناه نزلت في المدينة ولم يكن يومذاك حول النبيِّ صلی اللّه علیه و آله غير ذوي القربى المؤمنين ، وقد أجاب دعوته كل من بقي من بني هاشم ممن لم يؤمن به قبل ، فإذا كان نزول الآية في عام الفتح وبعده فلم يكن في أرض المدينة ومكة من أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله كافر أو منافق.

وبذلك يعلم أنّ ما ذكره روزبهان (2) من أنّ ظاهر الآية شامل لجميع أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله ضعيف جداً ، وعلى فرض الصحة فالحديث الصحيح خصّصها بعدّة خاصّة كما ذكرنا صورة الحديث فيما مر.

وأظن أنّ هذا الإشكال لم يكن يحتاج إلى هذا التفصيل لظهور بطلانه.

ص: 55


1- هود : 46.
2- إحقاق الحق : 3 / 20.

المقام الثاني: التأليف بين هذه الآية والآيات الأُخر

إنّ الآيات القرآنية تشهد على أنّه كان شعار الأنبياء في طريق دعوتهم وتجاه أُممهم هو رفض الأجر ، وعدم طلبه من الأمّة وكلّهم يقولون : ( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللّهِ ) (1).

فالقرآن يحدّثنا في سورة الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب بأنّ شعارهم الوحيد طوال فتراتهم الرسالية كان هو قولهم : ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ ) (2).

كما يرد في سورتي هود ويونس (3) هذا المضمون عن نوح وهود أيضاً وإنّ من علائم النبوّة أنّ أصحابها لا يطلبون أجراً على رسالتهم.

ولأجل ذلك لما لاحظ المبعوث الثالث إعراض أهالي إنطاكية عن رسل المسيح ، التفت إلى أهاليها وقال : ( اتَّبِعُوا مَن لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُهْتَدُونَ ) (4).

ص: 56


1- لاحظ الشعراء ، الآيات : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180.
2- الشعراء : 109.
3- يونس : 27 ، هود : 29 و 51.
4- يس : 21.

ومع ذلك كيف يصح أن يقال أنّ الرسول بدَّل هذا الشعار الذي ظل يتمسّك به كل الرسل على طول التاريخ ، وجعل مودة أقربائه أجراً على رسالته ، أضف إلى ذلك أنّ الرسول الأعظم نفسه يصرح بأمر من اللّه بأنّه لا يسأل أجراً ويقول : ( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) (1).

الجواب : انّ الأجر في اللغة هو العوض الذي يتلقّاه المرء لقاء عمل يؤدّيه ، وهو بمفهومه يشمل كل الأجور الدنيوية والأخروية ، بيد أنّ المقصود بالأجر المنفي في هذه الآيات ، بقرينة توجيه الخطاب إلى البشر ، هو الأجر الدنيوي الذي كان بإمكان البشر تقديمه إلى الرسل ، ولا شكّ أنّ الرسول لم يطلب من أحد مثل هذه الأجور الدنيوية كما لم يطلب أيضاً إخوانه من الرسل ذلك من قبل.

ولفظ الأجر في الآية وإن كان يشمل الأجور الدنيوية كلَّها حتى التكريم والتبجيل لنفسه وقومه وأقربائه ، وعند ذاك تكون المودَّة داخلة في المستثنى منه قطعاً.

غير انّ المطلوب في الآية ليس نفس المودة والولاء لأقربائه بما هي هي حتى يعود أجراً دنيوياً مطلوباً ويصير طلبها من الأمة مصادماً للآيات الحاكية عن رفض الأنبياء للأجر بتاتاً بل المودَّة في القربى وسيلة لاتصال الأمّة بعترة النبي ، ويكون نفس ذلك الاتصال ذريعة لتكامل الأمّة في المراحل الفكرية والعملية ، فعندئذ تنتفع الأمّة الإسلامية بها قبل أن تنتفع به العترة ، فحينئذ لا تكون المودّة في القربى أجراً حقيقياً وان أُخرجت بصورة الأجر.

هذا هو مجمل الجواب ، وأمّا التفصيل فيبين في ضمن أمرين :

الأوّل : انّ الأجر وإن كان يطلق على الأجر الدنيوي والأخروي ، ولكن

ص: 57


1- الأنعام : 90.

المقصود من الأجر المنفي في هذه الآيات هو الأجر الدنيوي بقرينة توجيه الخطاب إلى الناس.

أضف إليه أنّه ليس من المعقول أن يطلب الرسول من الناس أجراً أُخروياً ، إذ ليس في وسع الناس أن يقدّموا مثل هذا الأجر إلى الرسول ، هذا وإنّ القرآن يحدّثنا بأنّ الرسول كان يعلن للناس بأنّه لا يريد من أحد أجراً ، وقد أمره سبحانه أن يقول :

( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) (1).

وقوله سبحانه :

( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ ) (2).

فمع مثل هذه التصريحات التي تمَّت في بدء الرسالة ، لا يمكن للنبي أن يطلب من الناس شيئاً يعتبره الناس أجراً على عمله ، كيف ؟ والنبي الأعظم كالأنبياء السابقين من نخبة المجتمع وصفوة البشرية ، والإخلاص منطلقهم الوحيد في عملهم ودعوتهم ، وكان شعارهم كل شيء لأجل اللّه.

قال شيخنا المفيد : إنّ أجر النبيّ هو الثواب الدائم ، وهو مستحق على اللّه في عدله وجوده وكرمه ، وليس المستحق على الأعمال ، يتعلق بالعباد لأنّ العمل يجب أن يكون لله تعالى خالصاً ، وما كان لله فالأجر فيه على اللّه تعالى دون غيره (3).

الثاني : هل الاستثناء في الآية استثناء منقطع أو استثناء متصل ؟

فقد نقل روزبهان عن بعضهم أنَّ الاستثناء منقطع والمعنى : لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً « لكن المودة في القربى حاصل بيني وبينكم » فلهذا أسعى

ص: 58


1- الأنعام : 90.
2- ص : 86.
3- شرح عقائد الصدوق : 68.

وأجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم (1).

وقال بعضهم : الاستثناء متصل والمعنى : لا أسألكم عليه أجراً من الأجور إلاّ مودّتكم في قرابتي ، وأيّد ذلك القول بأنّ الاستثناء المنقطع مجاز واقع على خلاف الأصل ، وانّه لا يحمل على المنقطع إلاّ لتعذر المتصل ، ولأجل ذلك لا يحمل العلماء الاستثناء على المنقطع إلاّ عند تعذر المتصل ، حتى عدلوا للحمل على المتصل ، عن الظاهر في قوله : له عندي مائة درهم إلاّ ثوباً ، وله علي إبل إلاّ شاة ، وقالوا : معناه إلاّ قيمة ثوب أو قيمة شاة ، فيرتكبون الإضمار وهو خلاف الظاهر ليصير الاستثناء متصلاً.

وممّن ذهب إلى أنّ الاستثناء منقطع الشيخ المفيد ، فقال : إن قال قائل ما معنى قوله تعالى : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) أوليس هذا يفيد أن قد سألهم النبي مودة القربى أجراً على الأداء ؟ قيل له ليس الأمر على ما ظننت لما قدمنا من حجة العقل والقرآن ، والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة لكنه استثناء منقطع ، ومعناه : قل لا أسألكم عليه أجراً لكني ألزمكم المودة في القربى ، وأسألكموها ، فيكون قوله لا أسألكم عليه أجراً كلاماً تاماً قد استوفى معناه ، ويكون قوله إلاّ المودّة في القربى كلاماً مبتدأً ، فائدته لكن المودّة للقربى سألتكموها ، وهذا كقوله : ( فَسَجَدَ المَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ ) (2) والمعنى فيه لكن إبليس وليس باستثناء من جملة وكقوله : ( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلا رَبَّ العَالَمِينَ ) (3) معناه لكن ربّ العالمين ليس بعدو لي ، قال الشاعر :

وبلدة ليس بها أنيس *** إلاّ اليعافير وإلاّ العيس

ص: 59


1- إحقاق الحق : 3 / 20. وسوف نرجع إلى نقد هذا الفكر الذي زعمه روزبهان تفسيراً للآية. وممن اختار كون الاستثناء منقطعاً الرازي في تفسيره : 7 / 1. وقال تم الكلام عند قول : ( عليه أجراً ) ثم قال : ( إلاّ المودة في القربى ) : أي لكن اذكركم قرابتي منكم. فلاحظ.
2- الحجر : 30 - 31.
3- الشعراء : 77.

وكأنّ المعنى في قوله : « وبلدة ليس بها أنيس » على تمام الكلام ، واستيفاء معناه ، وقوله : « إلاّ اليعافير » كلام مبتدأ معناه لكن اليعافير والعيس فيها ، وهذا بيّن لا يخفى فيه الكلام على أحد ، ممن عرف طرفاً من اللسان ، والأمر فيه عند أهل اللغة أشهر من أن يحتاج معه إلى استشهاده (1).

والحق في المقام أن يقال : إنّ تقسيم الاستثناء إلى المتصل والمنقطع ليس على ما اشتهر ، من أنّ المستثنى المنقطع غير داخل في المستثنى منه لا موضوعاً ولا حكماً ، لا حقيقة ولا ادّعاء ، إذ لو لم يكن المستثنى داخلاً بنحو من الأنحاء في المستثنى منه كان استثناؤه عنه لغواً غير صالح لأن يذكر في كلام العقلاء ، فالمستثنى حتى المنقطع داخل في المستثنى منه دخولاً ادّعائياً لا حقيقياً ، إذ ليس الاستثناء إلاّ إخراج ما لولاه لدخل ، ومعلوم انّ الإخراج فرع الدخول بالضرورة غاية الأمر انّ المستثنى منه بمفهومه اللغوي شامل للمستثنى كما في قولنا جاءني القوم إلاّ زيد ، بخلاف الاستثناء المنقطع ، فالمستثنى منه وإن كان غير شامل للمستثنى بمفهومه اللغوي ، لكن المخاطب ربّما يتوهم شمول الحكم المذكور للمستثنى منه ، للمستثنى أيضاً ، فيعود المتكلم إلى استدراك ذلك الوهم بعدم شموله للمستثنى ، مثلاً إذا قلنا : جاء زيد إلاّ خادمه ، وجاء القوم إلاّ مراكبهم ، فالاستثناء لأجل دفع توهم ، وهو انّ مجيء زيد والقوم كان مع خادمه ومراكبهم ولولا هذا التوهم لما صح الاستثناء ، ولأجل ذلك قلنا بأنّ المستثنى في الاستثناء المنقطع داخل في المستثنى منه ادّعاء لا حقيقة ، ولولا توهم الدخول لا يصح الاستثناء ، فلا يصح أن يقال جاءني القوم إلاّ الغراب أو إلاّ الشجر ، إذ ليس مجيئ الغراب والشجر معرضاً للتوهم.

وبذلك يظهر أنّ مصحح الاستثناء هو دخول المستثنى في المستثنى منه

ص: 60


1- شرح عقائد الصدوق : 68.

بنحو من الأنحاء ، وعند ذلك لا فرق بين جعل الاستثناء متصلاً أو منقطعاً.

والظاهر أنّ مصحح الاستثناء في الآية هو دخول المودة تحت الأجر حقيقة إذ الخارج عن الآية بقرينة توجه الخطاب إلى الناس هو الأجر الأخروي الخارج أو طلباً للمودة لشخصه أو لقريبه.

ومع هذا الاعتراف ( أي دخول المودة تحت المستثنى منه وكون الاستثناء حقيقياً ) ليس طلب المودة للقربى أجراً حقيقياً عائداً نفعه إلى النبي صلی اللّه علیه و آله إذ لو كان المطلوب من الأمّة نفس المودّة وتكريم الأقربين وتبجيلهم لكان محلاً لأن يعد أجراً حقيقياً ، ومصادماً للآيات النافية لطلب الأجر عن الأنبياء.

وأمّا إذا كانت مودتهم طريقاً لتربية الأمّة وإسعادها وتكاملها كما سنشرحه عند البحث عن المقام الثالث ، فعند ذلك يعود طلب المودة كسائر التكاليف المطلوبة من الناس ، فهو قبل أن يكون مفيداً لصاحب الرسالة ، مفيد لنفس الأمّة ، ولأجل ذلك قلنا عند الأجابة على وجه الإجمال : بأنّ طلب المودّة ليس أجراً حقيقياً وان أخرجت بصورة الأجر.

وحاصل ما ذكرناه أمران :

الأوّل : انّ المودّة داخلة تحت الأجر بلا إشكال والاستثناء متصل جداً.

الثاني : انّ المودة ليست أجراً حقيقياً ، لأنّها ليست مطلوبة بالذات ، بل هي طريق وسبيل إلى نجاة الأمّة عن الهلاك والضلال ، بل هي وسيلة إلى هدف تربوي ، وهو اتّباع أقربائه في أقوالهم وأعمالهم.

وإن شئت قلت : إنّ المودّة الحقيقية لأقربائه لا تنفك عن اتّباعهم ، فيما يفعلون وفيما لا يفعلون ، وأمّا المودّة المنفكة عن الاقتفاء بهم فإنّما هي مودّة كاذبة أو خدعة يخدع الإنسان بها نفسه ، وهو يحب نفسه وميوله لا سيده ومولاه ، وإن

ص: 61

أطلق عليها المودة فبالعناية والمجاز ، بل طبيعة المودّة لشخص يوجب انصباغ صاحبها بصبغة من يحبه ، والتكيّف بكيفه ، والتخلف في مورد أو موارد لا يضر في هذا المجال لاختلاف مراتب الود.

وبعبارة ثالثة : تصبح المودّة لأهل بيت النبي الذين هم أحد الثقلين (1) وسفينة النجاة (2) وورثة علم الرسول وحملة أحكام الدين ، سبباً لإغناء الأمّة من الناحية الدينية عن الرجوع إلى غيرهم ، ووسيلة لإزالة كل احتياجاتها ، فعند ذلك يكون طلب المودة كمثل قول الطبيب المعالج لمريضه - بعدما يفحصه بدقة ، ويكتب له نسخة - : « لا أطلب منك أجراً إلاّ العمل بهذه الوصفة » ، فهو في الظاهر أجر مطلوب ربّما يوجب نشاط الطبيب وسروره القلبي إذا رأى أنّ مريضه قد استعاد صحته ولكنّه قبل أن يرجع نفعه إلى الطبيب يعود نفعه إلى المريض.

وبملاحظة هذه الأمور يتضح أنّ الهدف النهائي من طلب المودّة لأقربائه هو دفع الناس إلى الاقتداء بهم واتباعهم لهم في شؤون الدنيا والآخرة ، وهذا سبب لوعي الأمّة وتكاملها ، في المرحلتين : الفكرية والعملية.

إذا عرفت هذه الأمور وقفت على أنّه لا تناقض بين هذه الآية الناصّة على طلب المودة أجراً على الرسالة وبين الآيات المتضافرة الناصّة على أنّ الأنبياء لا يطلبون أي أجر من أُممهم.

ووجه عدم المنافاة واضح جداً ، لأنّ المودة - كما أسلفناه - وإن كانت مطلوبة بصورة الأجر إلاّ أنّ نتيجتها عائدة إلى ذات الأمّة لأنّها سبب رقيّها مدارج

ص: 62


1- قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً » حديث رواه الفريقان.
2- قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق » رواه جمع من المحدِّثين من العامة والخاصة.

الكمال ، وإسعادها وتكاملها في المراحل الفكرية والعملية ، وتعرّفها على أُصول دينها وفروعه ، واستغنائها عن أيِّ منهج لا ضمان لصحته ، فلا يعد طلب ذلك الأجر مضاداً للهتافات المتضافرة الصادرة عن الأنبياء طيلة أداء رسالاتهم.

ص: 63

المقام الثالث: كيف يعود نفع المودّة إلى الناس ؟

إنّ القرآن الكريم اعتبر مودة القربى أجراً على الرسالة في آية ، وفي آية أُخرى اعتبر الأجر المطلوب عائداً نفعه في نفس الأمر إلى الأمّة ، قال سبحانه : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (1) فكيف يعود نفعها على الأمّة ؟

الجواب : لا حاجة إلى إفاضة القول في المقام على وجه التفصيل إذ قد تبين الجواب عند البحث السابق الدائر حول الجمع بين هذه الآية والآيات النافية ، ومع ذلك نشير هنا إلى الجواب على وجه الإجمال وهو : انّ اللّه سبحانه عندما أمر نبيه بطلب المودّة من الناس لأقربائه ، أراد إيصال الناس إلى فائدة أُخرى ، وذلك لأنّ مودة أقربائه تنطوي على فائدتين مهمتين لنا :

الأولى : انّ العترة بحكم أنّهم قرناء القرآن (2) معصومون من الخطأ والاشتباه ، فعند ذلك بإمكانهم أن يلبُّوا حاجات الناس العلمية في أُصول الدين وفروعه ، وبما أنّهم كسفينة نوح لا يتصور لهم انحراف في أقوالهم وأعمالهم فمودتهم ، والارتباط بهم يوجب تعرف الأمّة على حقائق دينها على وجه الصحّة

ص: 64


1- سبأ : 47.
2- في قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي » ، وقرين القرآن وعديله معصوم مثله وإلاّ لما صح جعله عديلاً وقريناً. فلاحظ.

واليقين ، بخلاف ما إذا رجعت إلى غيرهم فلا يحصل لهم إلاّ الشك والظن والتخمين.

الثانية : لما كانت العترة النبوية تمثل بحكم تربيتها المتعالية قمة الأخلاق والسجايا النبيلة ، كان الارتباط بهم طريقاً إلى الحصول على التكامل الروحي والمعنوي وسبباً للوقوف على الرضا الإلهي.

إذ عندما يكون ارتباط عامل برب عمله أو تلميذ بأُستاذه موجباً لتكامل العامل والتلميذ ، فالارتباط بعترة النبي سيكون بصورة أولى موجباً للحصول على تكامل أرقى ، كيف وهم بحكم الحديثين الماضيين مبرّأون من كل رذيلة أخلاقية ، وصفات ذميمة.

وقد وردت الإشارة إلى مثل هذا التأثير الذي يتركه الحب والود في نفس المحب من محبوبه في كلام الإمام الصادق علیه السلام حيث قال : « ما أحب اللّه من عصاه » ثم أنشد الإمام قائلاً :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته *** انّ المحب لمن يحب مطيع (1)

وبذلك يظهر أنّ ما ربّما يتفوّه به من لا قدم راسخ له في هذه الأبحاث ويقول : إنّ طلب المودة من جانب النبي لأقربائه أمر غير متين ، خال عن السداد والمتانة. لأنّ القائل تصور انّ المقصود هو المحبة القلبية ، أو ما يصاحبه من التظاهر باللسان ، ولكنك قد وقفت على أنّ المقصود من المودة هو الارتباط وبالنتيجة التعرّف على المعارف والأصول ، وفي مرحلة أُخرى الاتباع والاقتداء العملي ، فيصير طلب المودة نوعاً من طلب الاتّباع للرسول وكتابه سبحانه ، قال

ص: 65


1- سفينة البحار : 1 / 119 ، مادة حب.

سبحانه : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (1).

ثم إنّ للمفسرين في تفسير قوله : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (2) وجهين :

الأوّل : انّه كناية عن نفي الأجر رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئاً فخذه ، وهو يعلم أنّه لم يعطه شيئاً ، ولكنه يريد به البت لتعليقه الأخذ بما لم يكن (3).

وقال الطبرسي : لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من عرض الدنيا فتتهموني ، فما طلبت منكم من أجر على أداء الرسالة وبيان الشريعة ، لكم وهذا كما يقول الرجل لمن لا يقبل نصحه : ما أعطيتني من أجر فخذه وما لي في هذا فقد وهبته لك ، يريد ليس لي فيه شيء (4).

الثاني : أن يريد بالأجر ما جاء في قوله تعالى : ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (5) وفي قوله : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) (6) لأنّ اتخاذ السبيل إلى اللّه نصيبهم وما فيه نفعهم ، وكذلك المودة في القربى (7).

ص: 66


1- آل عمران : 31.
2- سبأ : 47.
3- الكشاف : 2 / 566.
4- مجمع البيان : 4 / 396.
5- الفرقان : 57.
6- الشورى : 23.
7- الكشاف : 2 / 566.

المقام الرابع: المودّة في القربى نفس اتخاذ السبيل إلى اللّه

اشارة

لقد بانت الحقيقة من هذا البحث الضافي بأجلى مظاهرها ، غير أنّه يجب البحث عن نكتة أُخرى وهي : أنّه سبحانه جعل اتخاذ السبيل إلى اللّه أجراً لرسالة نبيه في الآية التالية ، قال سبحانه : ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (1) وقبل الإجابة على السؤال ، وأنّ المستثنى في هذه الآية هو المستثنى في آية سورة الشورى ، نعمد إلى توضيح الآية.

إنّ الضمير في « عليه » يرجع إلى القرآن ، وقد وضع الفاعل وهو « من اتخذ إلى ربه سبيلا » موضع فعله ، وهو نفس اتخاذ السبيل ، فالأجر المستثنى هو عمل المسلمين ، وهو اتخاذ السبيل لا نفس المتخذ كما هو ظاهر الآية ، أعني قوله : ( مَنِ اتَّخَذَ ) والمراد إلاّ فعل ( مَنِ اتَّخَذَ ) والنكتة في العدول ، هو المبالغة في اتخاذ السبيل ، فكأنّ الشخص بوجوده الخارجي نفس اتخاذ السبيل - الذي هو معنى عرضي يحمله الإنسان - ولذلك نظائر في القرآن الكريم ، قال سبحانه : ( لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ) (2). فإنّ الظاهر من الآية ، انّ البر هو نفس من آمن ، مع أنّه لا يمكن أن

ص: 67


1- الفرقان : 57.
2- البقرة : 177.

يكون هو براً ، ولكن لإظهار المبالغة في العمل بالبر ربما يخبر عن البر ب ( مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ) وكأنّ المؤمن لأجل إيمانه بالأمرين صار نفس البر.

ثم إنّ المراد من اتخاذ السبيل هو تلاوة القرآن والعمل بما فيه من الفرائض والمحرمات بقرينة قوله سبحانه : ( إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (1).

وقد وردت هذه الآية أيضاً بنصها في سورة الإنسان في الآية 29.

وعلى ذلك يكون مفاد الآية : أنّي لا أطلب منكم أجراً سوى استجابة دعوتي واتباع الحق ، وهو نهاية استغنائه عن الأجور الدنيوية التافهة.

وقد علّق سبحانه اتخاذ السبيل على مشيئتهم للدلالة على حريتهم الكاملة فلا إكراه ولا إجبار في ذلك الاتخاذ من قبل أحد ، ولا وظيفة للنبي سوى التبشير والإنذار ( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (2).

قال الزمخشري في الكشاف : وهذا نظير قول من قد سعى لك في تحصيل مال وقال : ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت إلاّ أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه ، فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب ، ولكن صوّره هو بصورة الثواب وسمّاه باسمه ، فأفاد فائدتين :

إحداهما : قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله.

والثانية : إظهار الشفقة البالغة ... إلى أن قال : ومعنى اتخاذهم إلى اللّه سبيلاً ، تقرّبهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة. وقيل التقرّب بالصدقة والنفقة في سبيل اللّه (3).

ص: 68


1- المزمل : 19.
2- الكهف : 29.
3- الكشاف : 2 / 412.

وما ذكره من أنّ المراد من اتخاذ السبيل هو الإيمان والطاعة يرجع إلى ما ذكرنا من أنّه يطلب إجابة دعوته والاتّباع للحق ، وتلاوة القرآن والعمل بما فيه ، والكل يرجع إلى أمر واحد ، وهو أنّه لا يطلب سوى العمل بالشريعة والاتّباع للدين الحنيف ، ومن ذلك يظهر أنّ تفسير « اتخاذ السبيل » بالإنفاق في سبيل اللّه وإعطاء الصدقة تفسير بالمصداق وليس اتخاذ السبيل منحصراً فيه.

قال الطبرسي : ما أسألكم عليه : على القرآن وتبليغ الوحي من أجر تعطونيه إلاّ من شاء أن يتخذ إلى ربِّه سبيلاً بإنفاقه ماله في طاعة اللّه واتّباع مرضاته ، والمعنى : لا أسألكم لنفسي أجراً ، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة اللّه سبحانه ، بل أرغب فيه وأحث عليه ، وفي هذا تأكيد للصدق ، لأنّه لو طلب على تبليغ الرسالة أجراً لقالوا إنّما يطلب أموالنا (1).

وجه الجمع بين الأجرين الظاهريين

هذا هو معنى إيجاب اتخاذ السبيل الوارد في الآية ، وهو لا يفترق عن إيجاب المودة في القربى لغرض الوصول إلى الشريعة والتعرّف على أحكامها والعمل بما فيها من الفرائض والتجنب عن المنهيات ، لأنّ مودّتهم الحقيقية كما عرّفناك لا تفترق عن الاتّباع لأقوالهم والاقتداء بأعمالهم وهو نفس الاتّباع للشريعة والعمل بما فيها من الأحكام ونفس استجابة دعوة النبي صلی اللّه علیه و آله ، فعادت الآيتان متوافقتي المضمون ومتحدتي المعنى.

فالنبي صلی اللّه علیه و آله لم يطلب في كلتا الآيتين سوى العمل بالشريعة وإجابة دعوته ، وهو يحصل من طريق المودة في القربى كما يحصل من الإيمان بالنبي ومودّته ، ولا معنى للمودة الحقيقية إلاّ العمل بقول المحبوب والاقتداء به فيما يأمر وينهى ،

ص: 69


1- مجمع البيان : 4 / 175.

والمودّة الفارغة عن الاتّباع ليست سوى خدعة يخدع الإنسان بها نفسه هذا على القول بأنّ المراد من « اتخاذ السبيل » هو إجابة دعوة النبي صلی اللّه علیه و آله والعمل بما أتى به والتمسك بشريعته.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ المراد من اتخاذ السبيل هو نفس المودّة في القربى ، فإنّها إحدى الطرق إلى التعرّف على الشريعة ، والتمسّك بها ، كما أنّ القرآن أيضاً أحد هذه الطرق ، وقد وافاك أنّ المودة ليست إلاّ أمراً طريقياً لهذه الغاية المهمة وليست مطلوبة بما هي هي ولذاتها.

وتؤيد ذلك الصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين ، أعني : الكتاب والعترة ، في قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وأهل بيتي ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي وانّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » (1).

وقوله صلی اللّه علیه و آله : « انّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق » (2).

وقوله صلی اللّه علیه و آله : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » (3).

وعلى هذا فينطبق المستثنيان الواردان في الآيتين على معنى واحد ، ويكونان هادفين إلى معنى فارد ، وهو المودة في القربى ، غير أنّه جاء الأجر المطلوب في سورة الشورى على وجه الصراحة ، وفي سورة الفرقان على وجه الكناية.

ص: 70


1- راجع مصادر حديث الثقلين ، إلى ما نشرته دار التقريب بين المذاهب الإسلامية ، باسم « حديث الثقلين » القاهرة ، عام 1374 ه ؛ والمراجعات : 20 - 23.
2- مستدرك الحاكم : 3 / 151.
3- المصدر السابق : 149.

ويؤيد ذلك ما رواه الطبري في ذخائر العقبى عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال :

« أنا وأهل بيتي شجرة في الجنّة وأغصانها في الدنيا ، فمن تمسّك بنا اتخذ إلى ربّه سبيلاً » (1).

وأخرج شيخ الإسلام الحمويني في « فرائد السمطين » عن الإمام الصادق علیه السلام قوله :

« نحن خيرة اللّه ، ونحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلى اللّه » (2).

وقد روي عن تفسير الثعلبي ، عن عبد اللّه بن عباس في تفسير قوله تعالى : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ) (3) انّه قال : « قولوا معاشر العباد ارشدنا إلى حب محمد وأهل بيته علیهم السلام » (4).

وفي بعض الأدعية المأثورة عن بعض أئمّة أهل البيت تلويح إلى ذلك الجمع والتفسير ، حيث جاء في دعاء الندبة قوله علیه السلام :

« ثم جعلت أجر محمد صلواتك عليه وآله مودتهم في كتابك فقلت : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) وقلت : ( مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) وقلت : ( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك » (5).

ص: 71


1- ذخائر العقبى : 16.
2- الغدير : 2 / 280 ، ط النجف.
3- الفاتحة : 6.
4- الغدير : 2 / 280 ، ط النجف.
5- راجع البحار : 102 / 104 ، نقلاً عن مصباح الزائر : 230 والمزار الكبير : 190.

المقام الخامس: مناقشة الاحتمالات الواردة حول آية المودَّة

قد عرفت في المقام الأوّل أنّ المفهوم من المودة في القربى هو موالاة أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله ، ولم يفهم صحابة النبي ولا جمهور المفسرين إلاّ هذا المعنى ، وقدّمنا لك أسماء الذين رووا هذا المعنى عن النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله عند البحث عن الحديث الوارد حول الآية.

غير أنّ بعض المفسّرين أضاف إلى المعنى المختار محتملات أُخر ، يأباها الذوق السليم ، ولا يرتضيها العارف بأساليب الكلام البليغ ، ولأجل ذلك ليست تلك المحتملات إلاّ مجرد احتمالات فارغة ، ودونك بيانها :

الأوّل : لم يكن بطن من بطون قريش إلاّ وبين رسول اللّه وبينهم قربى ، فلمّا كذّبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت الآية ، والمعنى إلاّ أن تودوني في القربى أي في حق القربى ، ومن أجلها كما تقول : الحب في اللّه ، والبغض في اللّه بمعنى في حقه ومن أجله ، يعني انّكم قومي وأحق من أجابني ، وأطاعني ، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ، ولا تؤذوني ، ولا تهيجوا عليّ (1). وعلى ذلك يكون « في » للسببية ، ومفاد الآية إلاّ مودتي لسبب القرابة.

ص: 72


1- الكشاف : 3 / 82 ، ط مصر عام 1368 ه ، المفاتيح للرازي : 7 / 389 وعلى هذا التفسير يكون « القربى » بمعنى الرحم.

ولا يخفى على العارف البصير أنّ سؤال الأجر ممن يكذبونه ولا يؤمنون به ويبغضونه ودعوته ، ويرونه خطراً على كيانهم ، لا يصدر من عاقل ، فضلاً عن النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، فإنّ الاستثناء سواء أكان متصلاً أم منفصلاً ، إمّا أجر حقيقي للنبي ، أو شبيه له ، وطلب الأجر بكلا المعنيين لا يصح إلاّ ممن أسدى إليه طالبه شيئاً من الخدمة المادية أو المعنوية ، فيصح عندئذ أن يطلب منه شيئاً تجاه ما قدّم له ، وأمّا طلبه ممن لا يؤمن به ولا يراه أسدى له خدمة ، فلا يصح في منطق العقل والعقلاء ، فطلب الأجر على فرض البغض والعداء لا يصح ، وعلى فرض الإيمان به فالمودّة حاصلة لا حاجة لطلبها.

الثاني : أتت الأنصار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمال جمعوه فقالوا : يا رسول اللّه قد هدانا اللّه بك وأنت ابن اختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينوبك. فنزلت الآية ، وردّه (1).

وهذا المحتمل كسابقه من الضعف ، فانّ مودة الأنصار للنبي صلی اللّه علیه و آله كان أمراً حاصلاً فلم يكن النبي في حاجة إلى طلبها منهم ، كيف وهم الذين بذلوا دون النبي صلی اللّه علیه و آله النفس والنفيس ، وآووه ونصروه ، وفدوه بشبّانهم في طريق دعوته ، فإذا كانت الحالة هذه ، فلا وجه لطلب المودّة منهم.

على أنّ الوشيجة التي كانت تربطهم بالنبي صلی اللّه علیه و آله لم تكن قوية بل ضئيلة جداً ، إذ كانت العرب لا تعتني بالقرابة من ناحية النساء وكان منطقهم :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهن أولاد الرجال الأباعد

ومنهم من يقول :

ص: 73


1- الكشاف : 3 / 89 ؛ مفاتيح الغيب : 7 / 389. ومعنى الآية على هذا التفسير « إلاّ أن تودوني لأجل قرابتي منكم ».

وإنّما أُمّهات الناس أوعية *** مستودعات وللأنساب آباء

وإنّما أدخل الإسلام القرابة من جانب النساء وساوى بين البنات والبنين ، واعتنى بكل وشيجة حصلت بينهم سواء أكانت من جانب الرجال أم من جانب النساء ، وكان النبي صلی اللّه علیه و آله يرتبط بالأنصار من جانب النساء ، فإنّ هاشماً تزوج ببنت « عمرو الخزرجي » فولدت له عبد المطلب وهو جد النبي الأكرم ، وما كان عرب الجاهلية يقيمون وزناً للقرابة الناشئة من جانب البنت.

الثالث : انّ الخطاب لقريش ، والمقصود مودّة النبي إيّاهم ، والمعنى لا أطلب منكم أجراً ولا جزاء ولكن حبي لكم بسبب ما تربطني بكم من قرابة هو الذي دفعني إلى الاعتناء بكم وبهدايتكم.

وهذا المعنى اختاره روزبهان حيث قال : لكن المودة في القربى حاصل بيني وبينكم ، فلهذا أسعى واجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم (1).

ولا يخفى أنّ لفظ الآية لا يحتمل ذاك المعنى ، ودلالتها عليه تحتاج إلى تقدير أُمور كثيرة ، وما حمله على تفسير الآية بما ذكر إلاّ مخالفته للعلاّمة الحلي في الاستدلال بالآية على عصمة من وجبت محبتهم ، ولو كان القائل مجرداً عن جميع الميول والأغراض لم يحمل الآية على هذا المعنى ، فإنّ الذي دفع النبي إلى الاهتمام بأمر قريش هو امتثال أمر اللّه حيث قال : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (2) ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ) (3).

أضف إلى ذلك أنّ حرص النبي على إنقاذ المجتمع الإنساني من الضلالة لم يكن منحصراً بقريش بل هم وغيرهم في هذا الاهتمام سواسية ، وقال سبحانه

ص: 74


1- إحقاق الحق : 3 / 20.
2- الشعراء : 214.
3- الحجر : 94 - 95.

حاكياً عن اهتمام النبي بهداية المؤمنين : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (1).

على أنّ إرادة هذا المعنى تحوجنا إلى التصرّف في الآية بجعل « إلاّ » بمعنى « لكن » والقول بأنّ الخبر محذوف ، وتقدير الآية هكذا ، ولكن المودّة في القربى دفعتني إلى دعوتكم وهدايتكم. وهذا تكلّف واضح في تفسير الآية.

الرابع : أنّ المقصود مودّة كل واحد من المسلمين لأقربائه ، وهو عبارة أُخرى عن صلة الرحم التي دعا إليها الإسلام (2).

ولا يخفى أنّ هذا الاحتمال لا يساعده اللفظ ولا الذوق القرآني ، فإنّ عد مودّة الناس لأقربائهم أجراً للنبي صلی اللّه علیه و آله لا يستحسنه الذوق السليم ، فإنّ المودّة إمّا أجر حقيقي أو أجر غير حقيقي ( أي حكمي ) أخرج بصورة الأجر ، وعلى كلا التقديرين إنّما يصح الاستثناء إذا كان المستثنى عائداً إلى النبي إمّا حقيقة ، أو مجازاً ، ومودّة كل مسلم لأقربائه وإن كان أمراً مطلوباً بذاته في الشرع الأقدس ، لكنّه لا يصح أن يعد أجراً ، أو يخرج بصورة الأجر ، فإنّ الاستثناء كما أوقفناك على حقيقته هو إخراج ما لولاه لدخل ، والإخراج حقيقة أو حكماً فرع الدخول كذلك ، وقد قلنا إنّ المستثنى المنقطع ، منقطع حقيقة لا ظاهراً وحكماً ، وانّ المستثنى منه شامل للمستثنى المنقطع شمولاً حكمياً ولو في وهم المخاطب فإذا قال القائل : جاء القوم إلاّ مراكبهم ومواشيهم ، إنّما يصح هذا القول لإجل توهم شمول الحكم ( أعني المجيء ) لمراكبهم ومواشيهم ، أو خدّامهم ، فإنّ القبيلة إذا ارتحلت من مكان إلى مكان آخر فإنّما ترتحل مع مواشيها وما يتعلّق بها ، فالحكم بالمجيء على

ص: 75


1- يوسف : 103.
2- مفاتيح الغيب : 7 / 390 ذكره في توجيه طلب الأجر للرسالة حيث قال : لأنّ حصول المودة بين المسلمين واجب وقال تعالى : ( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) .

القوم كأنّه حكم على توابعهم ولوازمهم بالمجيء ، ولأجل ذلك لا يصح أنّ يقال : جاءني القوم إلاّ الشجر.

وعلى ذلك فالمصحح لاستثناء المودّة في القربى هو دخولها في المستثنى منه بنحو من أنحاء الدخول إمّا حقيقياً أو حكمياً ، وحينئذ فلو قلنا : إنّ أجر النبي صلی اللّه علیه و آله هو مودّة أقربائه بما هي هي ، وبما أنّها مطلوبة بذاتها ، لصح الاستثناء لدخولها في الأجر دخولاً حقيقياً ، ويصح أن يطلق عليه الأجر على نحو الحقيقة.

وإن قلنا : بأنّ أجر النبي هو مودة أقربائه بما أنّها ذريعة لتكامل الأمّة في مرحلتي الفكر والعمل ، لصح الاستثناء أيضاً ، لكونها داخلة في الأجر دخولاً حكمياً ، وعلى كلا التقديرين يصح أن يطلق عليه الأجر ، وبتبعه يصح الاستثناء والاستدراك.

وأمّا لو قلنا : بأنّ المراد هو مودة كل ذي رحم لرحمه كمودة المسلم الأفريقي لأخيه والآسيوية لأختها ، فذلك وإن كان أمراً مطلوباً لكن لا يشمله لفظ الأجر لا حقيقة ولا عناية حتى يصح الاستثناء والاستدراك. وعلى الجملة فالأجر الوارد في الآية إنّما يراد منه ما يرجع إلى الإنسان الطالب للأجر رجوعاً واقعياً أو ظاهرياً ، وهو لا يحصل إلاّ أنّ تفسر المودة ، بمودة أقرباء ذلك الرجل الطالب.

وأمّا إذا أُريد منه مودة كل بعيد لرحمه ، فذلك لا يعد أجراً حتى بصورة الظاهر ، ليصح الاستثناء ، وإن شئت قلت : إنّ الأجر هو المكافأة والإثابة على العمل ، ولا يطلق إلاّ على الشيء الذي تعود نتيجته إلى العامل بنحو من الأنحاء ، وعلى ذلك فالمستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى منه ، أو مرتبطاً به بنحو من الارتباط لا أجنبياً عنه ، فعندئذٍ لو أُريد مودة نفسه وأقربائه ، لصح أن يستثنى من الأجر المنفي لدخوله في المستثنى منه ، وأمّا إذا أُريد مودة كل رجل لرحمه فلا يشمله لفظ الأجر حتى بنحو العناية والمجاز ، ليصح الاستثناء ، ولا يتوجه ذهن

ص: 76

السامع عند سماع كلمة الأجر إلى مثل ذاك الأمر حتى يصح الاستدراك ، بخلاف مودّة أهل بيته وعترته ، فإنّها ممّا يسعه اللفظ بعموم معناه.

على أنّه لم يعهد من القرآن حث الأفراد على موالاة ومودة أقربائهم بما هم أقرباؤهم ، وإنّما أمر بموالاة المؤمنين وموادّتهم ، نعم للقرآن اهتمام شديد بصلة الرحم ، ودفع عيلة ذوي القربى وحاجاتهم وهو غير موالاتهم القبلية.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه حينما يأمر بصلة الرحم جعل الغاية من هذا الأمر وجه اللّه وحده لا بعنوان الأجر للرسالة حيث قال :

( وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ( حب اللّه ) ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ ) (1).

وقال سبحانه : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (2). (3)

ثم إنّ جعل الآية كناية عن صلة الرحم وإسداء الخدمة إلى ذوي القربى لا يتحمله اللفظ ولا يقوم به ظاهر الآية.

الخامس : انّ المقصود أنّني لا أطلب منكم أجراً فإنّما هدفي هو إيجاد التآلف والتحابب وحسن المعاشرة بين أفراد البشر ، فكل ما أطلبه هو أن أزيل بهذا القرآن كل الضغائن والعداوات من بينكم ، وأحلّ محلها المودة بين قبائلكم.

ولا يخفى أنّه لو كان المراد هو توحيد الأمّة وجمع شملهم لكان ينبغي أن يعبّر عنه بأسدّ العبارات وأتقنها ، كأن يقول : لا أسألكم عليه أجراً إلاّ الاعتصام بحبل الوحدة وصيانة الاخوة الإسلامية ، وما يفيد هذا المعنى.

ص: 77


1- البقرة : 177.
2- الإنسان : 8.
3- الاستدلال مبني في كلتا الآيتين على رجوع الضمير في « حبه » إلى اللّه لا إلى المال أو الطعام.

على أنّه يستلزم أن يكون لفظ القربى - على هذا المعنى - حشواً ، بل كان اللازم أن يقول : إلاّ المودّة بينكم.

السادس : انّ المقصود هو لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجراً إلاّ أن تحبوا اللّه ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح (1).

وحاصل هذا الوجه : أنّ حبكم لله ورسوله يتجسّم في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح ، فيكون « في » للسببية. وكأنّه يدعو الناس إلى حب اللّه ورسوله بتجسيد هذا الحب في قالب الطاعة والعمل الصالح.

وهذا الوجه من أبعد الوجوه عن مراد الآية ، إذ هو مبني على تفسير القربى بالمقرِّب : أي ما يقرِّب العبد إلى اللّه سبحانه ، من الطاعة والعمل الصالح ، مع أنّ أهل اللغة والاستعمال قد اتفقوا على حصر معناها في الوشيجة الرحمية ، والرابطة النسبية ، وقد قدمنا لك نصوصاً في هذا المجال في المقام الأوّل.

السابع : لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجراً إلاّ التوادّ والتحابّ فيما يقرِّب إلى اللّه تعالى من العمل الصالح. روي هذا المعنى عن الحسن والجبائي ، وأبي مسلم.

وهذا الاحتمال مبهم لا يعلم مراد القائل منه إلاّ بطرح جميع محتملاته ، وإليك بيانها :

1. انّ المقصود أنّي لا أسألكم أجراً إلاّ أن تودّوا وتحبوا ما يقرِّبكم إلى اللّه سبحانه ، كالأعمال الصالحة.

وفيه : مضافاً إلى ما عرفت من عدم صحّة تفسير القربى بالمقرّب ، إنّه يكون الغرض الأقصى عندئذ هو إطاعة اللّه سبحانه والإتيان بما يقرب العبد منه ،

ص: 78


1- الكشاف : 3 / 82 ، مجمع البيان : 5 / 28.

وحينئذ يكون لفظ المودّة زائداً ومخلاًّ بالفصاحة ، وكان الأولى أن يقول : إطاعة اللّه سبحانه والعمل بما أمركم به ، والإتيان بما يقرّبكم.

وكأنّ القائل بهذا التفسير أعطى القيمة لنفس المودّة ، لا لنفس العمل ، مع أنّ المهم هو العمل لا مجرّد المودّة ، إذ كل تارك للواجبات ربّما يود العمل الصالح وإن لم يقم بالإتيان بها.

2. انّ المقصود من المودّة في القربى هو إظهار الحب والتودد إليه تعالى بالطاعة ، والمعنى إلاّ أن تتودّدوا إلى اللّه بالتقرّب إليه والإتيان بما يقرّبكم إليه (1).

وفيه : مضافاً إلى ما عرفت ما في تفسير القربى بالمقرِّب ، إنّه لم يرد في كلامه تعالى إطلاق المودة على حب العباد لله سبحانه ، وإن ورد العكس كما في قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (2) وقوله : ( وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ ) (3).

ووجهه واضح ، فقد فسّر الراغب المودّة بقوله : إنّ مودّة اللّه لعباده مراعاته لهم. وفيها إشعار بمراعاة حال المودود وتعاهده وتفقده ، ولا يناسب ذلك من العبد بالنسبة إلى اللّه سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّه يرجع إلى الوجه السادس الذي نقلناه عن الكشاف.

3. لا أسألكم أجراً إلاّ أن تتواددوا بما يقرِّبكم إلى اللّه ، كأن يحسن بعضكم إلى بعض فيحصل التحابب والتوادد بما يقربكم إلى اللّه.

ولعل هذا الوجه أوفق لعبارة بعضهم حيث قال : لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً إلاّ التوادّ والتحابّ فيما يقربكم إلى اللّه من العمل الصالح.

ص: 79


1- ذكره الرازي وجهاً للآية راجع مفاتيح الغيب : 7 / 389.
2- هود : 90.
3- البروج : 14.

وفيه أنّ تفسير المودّة بالتوادد والتحابب غير صحيح ، فإنّ المودّة تطلق على المحبّة وإن كانت من طرف واحد ، والوارد في القرآن هو لفظ المودّة لا التواد ولا التوادد.

أضف إلى ذلك أنّ حمل القربى على المقرِّب إلى اللّه غير مأنوس في اللغة العربية ، وهو خلاف ما اتفق عليه اللغويون.

4. المراد لا أسألكم أجراً إلاّ التقرب إلى اللّه والتودّد إلى اللّه بالطاعة. ذكره الطبرسي في تفسيره ، وهو أبعد الوجوه عن مراد الآية ، إذ هو جعل الأجر أمرين : أحدهما : التقرّب ، والثاني : التودّد. مع أنّ ظاهر الآية أنّ الأجر المستثنى شيء واحد.

وخلاصة هذه الوجوه المذكورة في السادس والسابع هي ما نأتي بها - ثانية - تسهيلاً للقارئ الكريم :

1. الأجر هو حب اللّه ورسوله بالطاعة والعمل الصالح.

2. الأجر حب المقربات إلى اللّه سبحانه.

3. الأجر إظهار الحب إلى اللّه بالطاعة (1).

4. الأجر حب بعضكم بعضاً بالعمل الصالح ، كالإحسان.

5. الأجر أمران : التقرّب إلى اللّه ، والتودّد إليه بالطاعة.

وغير خاف على القارئ الكريم أنّ هذه الوجوه تشبه التفسير بالرأي ، ولا مبرر لها في اللغة ومنطق التفسير ، وهي برمتها غير ما كان المسلمون الأوائل يفهمونه من ظاهر الآية. قال الكميت الأسدي شاعر أهل البيت :

وجدنا لكم في آل حاميم آية *** تأولها منا تقي ومعرب

ص: 80


1- والفرق بينه وبين الوجه الأوّل انّ الأجر في الوجه الأوّل هو نفس الحب ، وفي هذا إظهاره.

المقام السادس: في سرد الأحاديث الواردة حول الآية

لقد بانت الحقيقة بأجلى مظاهرها وبان الصبح لذي عينين ، ولم يبق شك لمشكك في أنّ الآية تهدف إلى طلب المودّة لأقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله .

وقد كان الأوّلون لا يرتضون للآية غير هذا المعنى ، وهم العرب الأقحاح ، الذين يعرفون معنى الآية بأذواقهم العربية.

ومن راجع كتب التفسير والحديث يرى أنّ الرأي العام عند علماء الإسلام وأساطين التفسير لم يكن سوى هذا المعنى ، ولذلك اختصروا في تفسير الآية بالمأثورات ، ولكن لا يسعنا نقل جميعها في هذه الصحائف ، كيف ؟ وقد نقل المحدث الخبير السيد هاشم البحراني سبعة عشر حديثاً من طرق السنّة ، واثنين وعشرين حديثاً من طرق الشيعة ، كلّها تنصُّ على الرأي المختار (1).

وقد جمع العلاّمة الأميني طرق الحديث ونصوصه وكلمات العلماء ، حول الآية في كتابه القيِّم « الغدير » الجزء الثاني والثالث (2).

وقد استقصى بعض الأجلّة في تعاليقه على إحقاق الحق (3) مصادر الحديث

ص: 81


1- غاية المرام : 307 - 310.
2- الغدير : 2 / 280 ، 3 / 151 - 153 طبعة النجف.
3- إحقاق الحق : 3 / 2 - 18.

من طرق أهل السنّة فتجاوزت خمسين مصدراً لأعلام الحديث ، شكر اللّه مساعي الجميع ، ولا يسعنا نقل ما وقفنا عليه برمته غير أنّنا نقتطف ما يلي :

الأحاديث الواردة في تفسير الآية على قسمين : قسم يصرّح بأنّ الآية وردت في حق علي وفاطمة وابنيهما ، وقسم يدلُّ على نزولها في أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله من دون تسمية لأسمائهم.

أمّا القسم الأوّل فإليك بيانه :

روى الإمام أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة ، عن جبير بن عامر قال : لما نزلت : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) قالوا : يا رسول اللّه من قرابتك من هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال : « علي وفاطمة وابناهما علیهم السلام ». قالها ثلاثاً (1).

روى الزمخشري في تفسيره حول الآية : روي أنّها لما نزلت قيل : يا رسول اللّه من قرابتك ؟ ومن هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال : « علي وفاطمة وابناهما ». ونقله الإمام الرازي في تفسيره ج 27 ، ص 166.

وقد نقل ابن بطريق في العمدة عن تفسير الثعلبي نزول الآية في حقهم بالعبارة المتقدّمة.

وقد اقتفى أثرهم في هذا النقل الشيخ كمال الدين في مطالب السؤول ص 8 ، فصرح بنزول الآية فيهم بالعبارة الماضية ، ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص 25 ، والعلاّمة النسفي في تفسيره ص 95 بهامش تفسير الخازن ، والحمويني في كفاية الخصام ص 96 ، ونظام الدين النيسابوري في تفسيره المطبوع بهامش تفسير الطبري ج 25 ص 31 ، وأبو حيان في البحر المحيط ج 7 ص

ص: 82


1- مسند الإمام أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة : 218.

516 ، وابن كثير الدمشقي في تفسيره ج 4 ص 112 ، والهيثمي في مجمع الزوائد ج 5 ص 168 ، إلى غير ذلك من أعلام الحديث وحفاظه.

وكلّهم ينصُّ على نزول الآية في حقهم ، بأشخاصهم.

وأمّا القسم الثاني ، الذي يدلّ على نزول الآية في أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله على وجه عام ، فإليك بعضها :

روى محب الدين الطبري في الذخائر ص 25 ، وابن حجر في الصواعق ص 120 ، و 136 : أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّ اللّه جعل أجري عليكم المودّة في أهل بيتي وإنّي سائلكم غداً عنهم ».

وروى الهيثمي في مجمع الزوائد ج 9ص 14 ، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص 166 ، والحافظ الكنجي في الكفاية ص 32 ، وابن حجر في الصواعق ص 101 و 136 : انّ الحسن بن علي خطب بعد شهادة أبيه بقوله : « أيّها الناس لقد فارقكم رجل ما سبقه الأوّلون ولا يدركه الآخرون - إلى أن قال - وإنّا من أهل البيت الذين افترض اللّه عزّ وجلّ مودّتهم وولايتهم ، فقال فيما أنزل على محمد صلی اللّه علیه و آله : ( قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرَاً إلاّ المَؤدَّةَ فِي القُرْبَى ) ».

وأخرج الطبري في تفسيره ج 25 ص 16 باسناده عن أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين - رضي اللّه عنهما - أسيراً فأُقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام ، فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرني الفتنة ، فقال له علي بن الحسين - رضي اللّه عنه - : « أقرأت القرآن؟ » قال : نعم. قال : « أقرأت آل حم » قال : قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم. قال : « ما قرأت : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) » قال : وأنّكم لأنتم هم ؟ قال : « نعم ».

وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 7 ، وابن حجر في الصواعق ص 101 ، وص 136 ، والزرقاني في شرح المواهب.

ص: 83

وروى الطبري في تفسيره ج 12 ص 16 و 17 ، عن سعيد بن جبير ، وعمرو ابن شعيب ، أنّهما قالا : هي قربى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ورواه البخاري في صحيحه ج 6 ص 129 ، عن سعيد بن جبير : أنّها قربى آل محمد.

وقال الرازي : لا شك أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يحب فاطمة علیهاالسلام ، قال صلی اللّه علیه و آله : « فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها » وثبت بالنقل المتواتر ، عن محمد صلی اللّه علیه و آله أنّه كان يحب علياً والحسن والحسين ، وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمّة مثله لقوله تعالى : ( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ولقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) ولقوله : ( إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) ، ولقوله سبحانه : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .

ثم قال : إنّ الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو قوله : اللّهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، وارحم محمداً وآل محمد ، وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل ، فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمد واجب ، وقال الشافعي - رضي اللّه تعالى عنه - :

يا راكباً قف بالمحصب من منى *** واهتف بساكن خيفها والناهض

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حب آل محمد *** فليشهد الثقلان أنّي رافضي (1)

ولو أنّ القارئ الكريم أضاف إلى هذا الجم الغفير من الأحاديث التي اكتفينا بنقل النزر اليسير منها ، ما رواه أئمّة الحديث من الشيعة لوجد الحديث في

ص: 84


1- مفاتيح الغيب : 7 / 390 - 391.

أعلى درجة الاستفاضة والتواتر ، فلا يبقى لقائل شك في أنّ المراد من القربى أقرباء النبي ، ولا من المودّة إظهار الحب إليهم ، نعم قد يصعب على بعض من لا خبرة له بالحديث والتفسير قبول هذه القضية في حق آل طه وياسين.

وقد أشار النبهاني في خطبة كتابه إلى ذلك البعض وقال : ومن هذا القبيل ما وقع في عصرنا في القسطنطينية سنة سبع وتسعين ومائتين وألف هجرية من قوم جهّال غرقوا من أحوال البغضاء لآل محمد في أوحال ، فأخذوا يتأوّلون بجهلهم ما ورد من الآيات والأخبار في فضل أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي ومنبع الحكمة ، ويخرجونها عن ظواهرها بأفهامهم السقيمة ، وآرائهم الذميمة ، ومع ذلك فقد زعموا أنّهم لأهل البيت من أهل المحبة والوداد ، ولم يعلموا أنّهم هائمون من الخذلان في كل واد (1). والحق ينطق منصفاً وعنيداً.

ص: 85


1- الشرف المؤبد راجع الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء : 37.

ص: 86

2

معاجز النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وكراماته

اشارة

ص: 87

في هذا الفصل :

1. دعوة الأنبياء والقيام بالمعاجز والكرامات.

2. قساوسة الغرب ومعاجز النبي الأكرم.

3. المحاسبة العقلية تفند مزاعم القساوسة.

4. القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن : انشقاق القمر ، معراجه ، ومباهلته مع نصارى نجران.

5. مطالبة النبي الإتيان بالمعجزة بعد الأخرى.

6. الكفّار يصفون معاجز النبي بالسحر.

7. النبي الأعظم وبيّناته.

8. إخبار النبي عن الغيب كالمسيح.

9. معاجز الرسول الأعظم في الأحاديث.

10. امتياز الأحاديث الإسلامية - حول معاجز النبي - عن أحاديث اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم.

ص: 88

النبي الأكرم ومعاجزه وكراماته

اشارة

شهد التاريخ البشري أُناساً ادّعوا النبوة كذباً ودجلاً ، واتَّخذوا ميل الإنسان الفطري نحو قضايا الدين ذريعة للوصول إلى مآربهم ، وجعلوا سذاجة بعض الأمم والجماعات ، وسيلة لتغطية دجلهم وكذبهم.

لا شك أنّ تمييز الحق من الباطل والصادق من الكاذب ، وتشخيص النبي الحقيقي عن المتنبئ والمنتحل للنبوة كذباً ودجلاً ، يحتاج إلى ضوابط ودلائل ومعايير.

وقد كان هناك طرق ووسائل ظلت البشرية تتوسل بها لمعرفة الحقيقة واستجلاء الصواب ، وكان الإتيان بالمعجزة في طليعة تلكم الطرق ، حيث كانت إحدى الطرق التي تثبت بها صحة دعوى النبوة وإن لم تكن الطريق الوحيد.

والمعجزة هي : العمل الخارق للعادة ، الذي يعجز عن الإتيان به البشر حتى النوابغ والعباقرة.

وهناك تعاريف أُخر ربّما تكون أكمل من هذا التعريف ، ولسنا بصدد تحديدها على وجه الدقة ، والمهم هو أن نعرف أنّ المعجزة كان أوّل ما يطالب بها مَن يدّعي النبوة كوثيقة تثبت صدق مدّعاه ، وصحّة انتسابه إلى اللّه ، إذا قام بها ، دون تهرّب وتملّص ، فها هو القرآن يحدثنا أنّ صالحاً عندما حذر قومه من سخط اللّه ، وأخبرهم بأنّه رسوله إليهم ، طالبوه بالمعجزة قائلين : ( مَا أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا

ص: 89

فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (1).

وقد وردت آيات أُخرى بهذا المضمون في سور شتّى.

ولأجل ذلك كان الأنبياء لا يتأخرون عن تلبية هذا الطلب الطبيعي والمنطقي ، بل يبادرون إلى إظهار معاجز حسبما تقتضيه الظروف مبرهنين بذلك على صحّة دعواتهم وصدق أقوالهم ، بينما ينكص الكذابون ومنتحلو النبوة ، وتخيب مساعيهم.

وقد جرت سيرة الناس مع النبي الأكرم محمد صلی اللّه علیه و آله على ذلك ، حيث طالبوه بالمعاجز في بدء دعوته ، وكان الرسول العظيم يلبي طلبهم ، ويأتي بمعاجز عديدة يشهدها الناس ويرونها بأعينهم.

وبالرغم من كثرة هذه المعاجز - التي وقعت على يد رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله في موارد كثيرة - أبى بعض من ناوأ الإسلام إلاّ إنكار هذه المعجزات ، وادّعاء أنّ نبي الإسلام لم يأت بمعجزة سوى القرآن فقط.

إنّ هذه الشبهة حول معاجز الرسول الكريم طرحت من جانب الكتّاب المسيحيين ، تقليلاً من أهمية الدعوة المحمدية ، وحطاً من شأن الرسول ومكانته وعظمته ، فإذا بهم يزعمون أنّ معاجز النبي كانت تنحصر في القرآن دون سواه ، وانّه كلما طالبه قومه بأن يأتي لهم بمعجزة ، أحالهم على القرآن ولم يظهر أيّة معجزة سواه.

فها هو « فندر » القسيس الألماني المعروف يقول في كتابه ميزان الحق ص 277 - وهو كتاب حول حياة الرسول - : إنّ من شروط النبوة أن يأتي مدّعيها بمعجزة لإثبات مدّعاه ، ولكن محمداً لم يأت بأيّة معجزة قط.

ص: 90


1- الشعراء : 154.

ثم استشهد بآيات في سورة العنكبوت والإسراء والأنعام وغيرها ، ممّا سنفرد لدراستها فصلاً خاصاً بعد هذا الفصل.

على أنّ « فندر » لم ينفرد بطرح هذه الشبهة ، بل طرحها قساوسة آخرون قبله وبعده.

وقد ذكر فخر الإسلام : أنّ المسيو « جورج دوروي » رسم في ص 157 من كتابه صورة خيالية عن النبي الأكرم بيده ورقة من القرآن الكريم ، وكتب تحت الصورة هكذا : كان محمد كلّما طالبه قومه بمعجزة ردّهم قائلاً : ليس لي أن آتيكم بمعجزة إلاّ بإذن اللّه ، ولكن اللّه لم يمن عليّ بهذه النعمة ، أي نعمة إظهار المعاجز (1).

وبهذه الكيفية حاول المسيو « جورج دوروي » المسيحي أن ينفي معاجز النبي محمد صلی اللّه علیه و آله ، ولكن ما نقله عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يتألف من صحيح وسقيم.

أمّا الصحيح : فهو قوله في جواب قومه : إنّه ليس لي أن آتيكم بمعجزة إلاّ بإذن اللّه. وذلك أمر يؤيده القرآن حيث يقول سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (2).

وأمّا السقيم : فهو ما ألحقه بكلام الرسول افتراءً عليه ، وهو قوله : ولكن اللّه لم يمنّ عليّ بهذه النعمة ولم يعطني أية معجزة.

فإنّ هذا الكلام المنقول عن لسان النبي تقوّل على رسول اللّه ، وقد دلّت شواهد كثيرة على أنّه أتى بمعاجز كثيرة لقومه يوم طلبوا منه ذلك ، ولم يكن شأنه إلاّ شأن سائر الأنبياء والرسل.

ص: 91


1- أنيس الأعلام : 5 / 351 لفخر الإسلام وهو قس مسيحي أسلم وكتب حول النصرانية ، وما فيها من تناقضات وخرافات ، كتابه القيم « أنيس الأعلام » وغيره من الكتب القيمة.
2- الرعد : 38.

ثم إنّ القسيس « أنار كلي » مؤلف كتاب « مشكاة الصدق » الذي طبع في لاهور سنة 1901م قد بسط الكلام في هذا الباب ، فهو - بعد أن طرح الشبهة في كتابه واستشهد بآيات من القرآن على مزعومه - قال : إنّ محمداً كلّما طالبه قومه بأن يأتي لهم بمعجزة لاذ بالصمت ، أو تهرّب من ذلك الطلب ، مكتفياً بقوله : « إنّما أنا بشر مثلكم » و « إنّما إنا منذر » إلى غير ذلك من العبارات.

وسوف نقوم بتحليل هذه الآيات التي استند إليها « انار كلي » في مزعومه.

أجل هكذا سعى الكتّاب المسيحيون إلى إنكار معاجز الرسول ، ونفوا أن تكون له معجزة أُخرى سوى القرآن ، فهل هم على حق فيما يزعمون ؟ بكل تأكيد لا ، لأنّ المحاسبة العقلية - قبل أي دليل - تفنّد هذه المزعمة ، وتثبت نفس المحاسبة أنّ الرسول الأعظم كان صاحب معاجز أُخرى عدا القرآن الكريم ( معجزته الخالدة ) ، وإليك بيانها.

المحاسبة العقلية تفند مزعمة القساوسة :

إنّ الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله وصف نفسه بأنّه خاتم الأنبياء ، وأنّ رسالته خاتمة الرسالات ، وكتابه خاتم الكتب ، حسبما أوردنا أدلّته في الجزء الثالث من هذه السلسلة (1).

ثم أخبر عن وقوع معاجز على أيدي الرسل والأنبياء ، حيث قال في شأن موسى علیه السلام : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) (2). وقال أيضاً : ( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ) (3).

ص: 92


1- لاحظ مفاهيم القرآن : 3 / 118 - 180.
2- الإسراء : 101.
3- النمل : 12.

ثم إنّه عندما يتحدّث عن المسيح ودعوته ، يصفه بوحي من اللّه بقوله : ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) (1).

ثم إنّه صلی اللّه علیه و آله لم يخص هذين النبيين العظيمين بالإتيان بالمعاجز ، بل أثبتها لكثير من الأنبياء من قبله كما هو لائح لمن سبر أحوالهم في القرآن المجيد.

وعند ذلك ، كيف يكون للنبي الأعظم وهو يخبر بهذه المعاجز للأنبياء ويصف نفسه بأنّه خاتمهم وآخرهم ، وأفضلهم ، إذا طلبوا منه إظهار المعجزة ، أن ينكص ويتهرّب ، أو يلوذ بالصمت ، أليس في مثل هذا ما يوهن دعوته ، وينقض أقواله ؟

لو فرضنا أنّ النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله لم يكن إلاّ نابغة من النوابغ الذين نهضوا لإصلاح أُمّتهم متستراً برداء النبوة ، لما كان يصح منه أن يخبر بمعاجز للأنبياء الماضيين ثم ينكص هو نفسه عن الإتيان بمثلها ، ومع ذلك يزعم أنّه خاتمهم وأكملهم ديناً ، فكيف وهو نبي صدقاً وحقاً ، قد بانت دلائل صدق دعوته ، بأوضح الدلائل وأتقن البراهين ؟

فالمحاسبة العقلية تحكم ببطلان ما زعمه القساوسة ، بل تثبت بكل قوّة أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قد أظهر معاجز عديدة لقومه عندما طلبوا منه ذلك ، كيف ، والقرآن يصفه بما لا يصف به أحداً من أنبيائه ؟ وهو يقتضي عقلاً أن يكون له مثل ما أُوتي سائر الأنبياء ، وأن يكون قد أتى بها مبرهناً على صدق دعوته خصوصاً إذا توقفت هداية قومه على إظهار معاجزه.

ص: 93


1- آل عمران : 49.

ولهذا السبب كان منتحلو النبوة - كذباً - ينكرون معاجز الأنبياء ، أو يتأوّلونها تخلّصاً من الإحراج إذا طالبهم الناس بالمعجزة ، على العكس من سيرة الرسول صلی اللّه علیه و آله وأقواله الذي أخبر بصراحة عن معاجز الأنبياء بالتفصيل ، كما أخبر أنّ دعوات الأنبياء ما كانت تنفك عن طلب المعاجز منهم ، فما من نبي راح ينذر قومه إلاّ وطالبوه بأن يظهر لهم معجزة يبرهن بها على صدق مدّعاه وصدق رسالته ، وقد أسلفنا بعض الآيات في هذا المورد. القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن

إنّ القرآن يخبر - بصراحة - عن وقوع معاجز غير القرآن على يدي الرسول الأمين ، وإليك الآيات القرآنية الواردة في هذا المورد :

1. انشقاق القمر

قال سبحانه : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُم مِنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) (1).

أطبق المفسرون مثل الزمخشري في كشافه ، والطبرسي في مجمعه والرازي في مفاتيحه على ما يلي :

اجتمع المشركون إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالوا : إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فلقتين. فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إن فعلت تؤمنون ؟ » قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر ، فسأل رسول اللّه ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشق القمر فلقتين ، ورسول اللّه ينادي : « يا فلان يا فلان اشهدوا ».

ص: 94


1- القمر : 1 - 4.

وقال ابن مسعود : انشق القمر على عهد رسول اللّه شقتين ، فقال لنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اشهدوا اشهدوا ».

ونقل عن ابن مسعود أنّه قال : والذي نفسي بيده لقد رأيت حرّاء بين فلقتي القمر.

وعن جبير بن مطعم : انشق القمر على عهد رسول اللّه حتى صار فلقتين على هذا الجبل ، وعلى هذا الجبل ، فقال ناس : سحرنا محمد ، فقال رجل : إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلَّهم.

وقد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة ، منهم : عبد اللّه ابن مسعود ، وأنس بن مالك ، وحذيفة بن اليمان ، وابن عمر ، وابن عباس ، وجبير ابن مطعم ، وعبد اللّه بن عمر ، وعليه جماعة المفسرين ، إلى أن قال : فلا يعتد بخلاف من خالف فيه ، لأنّ المسلمين أجمعوا على ذلك ، والطعن في ذلك بأنّه لو وقع انشقاق القمر في عهد رسول اللّه لما كان يخفى على أحد من أهل الأقطار ، قول باطل ، فيجوز أن يكون اللّه تعالى قد حجبه عن أكثرهم بغيم وما يجري مجراه ، ولأنّه قد وقع ذلك ليلاً ، فيجوز أن يكون الناس نياماً فلم يعلموا بذلك ، على أنّ الناس ليس كلّهم يتأملون ما يحدث في السماء وفي الجو من آية وعلامة ، فيكون مثل انقضاض الكواكب وغيره مما يغفل الناس عنه ، وإنّما ذكر سبحانه اقتراب الساعة مع انشقاق القمر ، لأنّ انشقاقه من علامة نبوة نبينا ، ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة (1).

وما ذكره من الاعتذار في عدم رؤية أكثر الناس انشقاق القمر مبني على ما كان يعتقده علماء الفلك في الأزمنة السابقة من كون الأرض مسطحة لا كروية بحيث إذا طلع البدر يطلع على الناس كلّهم ، وإذا غرب غرب عنهم جميعاً في

ص: 95


1- مجمع البيان : 5 / 186.

وقت واحد ، وهذا مرفوض لكروية الأرض.

وقال الرازي : المفسرون بأسرهم على أنّ المراد : انّ القمر انشق وحصل فيه الانشقاق ، ودلّت الأخبار على حديث الانشقاق ، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة ، وقالوا : سئل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله آية الانشقاق بعينها معجزة ، فسأل ربّه فشقه ، ومضى.

وقال بعض المفسرين المراد سينشق ، وهو بعيد ولا معنى له ، لأنّ من منع ذلك - وهو الفلسفي - يمنعه في الماضي والمستقبل ، ومن يجوزه لا يحتاج إلى التأويل ، وإنّما ذهب إليه ذلك الذاهب لأنّ الانشقاق أمر هائل ، فلو وقع لعم وجه الأرض فكان ينبغي أن يبلغ حد التواتر ، نقول : النبي لما كان يتحدّى بالقرآن وكانوا يقولون : إنّا نأتي بأفصح ما يكون من الكلام وعجزوا عنه ، فكان القرآن معجزة باقية إلى قيام القيامة لا يتمسك بمعجزة أُخرى ، فلم ينقله العلماء بحيث يبلغ حد التواتر ، وأمّا المؤرّخون فتركوه ، لأنّ التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم ، وهو لما وقع الأمر قالوا بأنّه مثل خسوف القمر وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر فتركوا حكايته في تواريخهم ، والقرآن أدلّ دليل وأقوى مثبت له ، وإمكانه لا يشك فيه ، وقد أخبر عنه الصادق ، فيجب اعتقاد وقوعه ، وحديث امتناع الخرق والالتئام حديث اللئام ، وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السماوات (1).

وقال الزمخشري : إنّ أنس بن مالك قال : إنّ الكفار سألوا رسول اللّه آية فانشق القمر مرتين ، قال ابن عباس : انفلق فلقتين : فلقة ذهبت وفلقة بقيت. وقال ابن مسعود : رأيت حراء بين فلقتي القمر. وعن حذيفة انّه خطب بالمدائن وقال : ألا إنّ الساعة قد اقتربت ، وانّ القمر قد انشق على عهد نبيكم (2).

ص: 96


1- مفاتيح الغيب : 7 / 748.
2- الكشاف : 3 / 189.

هذه عبائر أشهر المفسرين الذين أسميناهم ، ومثلها غيرهم ، ونحن لا يهمنا البحث في تفاسير هذه المعجزة ، ولا الاعتراضات الطفولية التي تثار حولها ، إنّما يهمنا أن نبحث في دلالة الآيات المذكورة على وقوع هذه المعجزة العظمى على يد الرسول الكريم.

أمّا قوله سبحانه : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) فمعناه أنّ الساعة - أي القيامة - قد قربت وقرب موعد وقوعها ، وإن كان الكفّار يتصورونه بعيداً ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في موضع آخر حيث قال : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً ) (1).

وأمّا قوله : ( وَانشَقَّ القَمَرُ ) يدل على وقوع انشقاق القمر ، لأنّه فعل ماض ولا وجه لحمله على المستقبل ، بأن يكون المراد سينشق القمر في المستقبل أي عند وقوع القيامة ، لأنّ إرادة المضي من لفظ انشق أولى ، للمناسبة بينها وبين الجملة السابقة : ( اقْتَرَبَتِ ) وحمل الثاني ( انشَقَّ ) على المستقبل نوع مجاز ، وإن كان بادّعاء كونه محقق الوقوع ، وأمّا وجه الربط بين الجملتين فهو ما أشار إليه أمين الإسلام الطبرسي في مجمعه من أنّ انشقاقه من علامة نبوة نبينا ، ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة.

وبهذا يكون القرآن قد أخبر في هذه الآية عن تحقق هذين الشرطين : ظهور نبي الإسلام ، وانشقاق القمر بيده ، وإنّهما من أشراط الساعة كما يقول في آية أُخرى : ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) (2).

وعندئذ لا مجال لحمل الجملة ( انشَقَّ ) على المستقبل.

أضف إلى ذلك أنّ قوله تعالى : ( وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ

ص: 97


1- المعارج : 6 - 7.
2- محمد : 18.

مُسْتَمِرٌّ ) أوضح شاهد على وقوع هذه المعجزة « انشقاق القمر » في عهد الرسول ، لأنّ المقصود من الآية في قوله ( وَإِن يَرَوْا آيَةً ) غير القرآن من المعاجز ، بدليل أنّه يقول : ( وَإِن يَرَوْا ) ولو كان المراد من الآية هي الآيات القرآنية لكان اللازم أن يقول : وان سمعوا آية ، أو تنزّلت عليهم آية ، وعلى هذا تكون الآية المرئية هي انشقاق القمر الذي سبق ذكره في الآية السابقة.

ثم إنّ الدقة والإمعان في قوله تعالى : ( يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) يقودنا إلى الإذعان بأنّ ظرف هذا الحدث « انشقاق القمر » إنّما هو هذا العالم الدنيوي ، وقبل بعث الناس وحشرهم حتى يكون مجال للناس أن يتفوّهوا بغير الحق ، ويقولوا هذا سحر مستمر ، وأمّا الآخرة فليس هناك لأحد أن يتفوّه بغير الحق ، أو يصف الإعجاز بالسحر إذ يختم في ذلك اليوم على الأفواه ، وتتكلّم الأيدي والأرجل قال سبحانه : ( اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (1).

بل لا يؤذن لهم حتى يعتذروا فضلاً عن أن يتكلموا بما سولت لهم أنفسهم من الكذب والدجل ، قال سبحانه : ( هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (2) بل هناك تنكشف الحقائق وتظهر البواطن ويقف الإنسان على الحقائق ببصر حديد قال سبحانه : ( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ ) (3).

هكذا يدل هذا المقطع من الآية على أنّ ظرف الانشقاق كان في زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ولأجل ذلك اتخذ منه المشركون موقفاً متعنتاً مجادلاً ، وقال قائلهم :

ص: 98


1- يس : 65.
2- المرسلات : 36.
3- ق : 22.

سحركم ابن أبي كبشة ، حيث كان المشركون يدعون الرسول الأعظم بابن أبي كبشة وهو من أجداد النبي من ناحية أُمّه (1).

2. معراج النبي

إنّ إسراء النبي ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إحدى المعاجز العظيمة التي أثبتها اللّه سبحانه لنبيه ، وأخبر عنه القرآن حيث قال : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (2).

وليست تلك الرحلة الطويلة التي تحقّقت في زمن قصير في ذلك الظرف الذي لم يكن تتوفر فيه ما يتوفر الآن من وسائل النقل السريعة ، إلاّ معجزة من معاجزه.

إنّ القرآن الكريم لا يثبت هذا الإعجاز للرسول في هذا الموضع فحسب ، بل يذكره في موضع آخر أيضاً ، ويدافع عنه هناك بقوة بحيث لا يبقى معه شك ، بل يخبر أنّ رحلة النبي ومعراجه تجاوز عن المسجد الأقصى إلى « سدرة المنتهى ». قال سبحانه : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى ) (3).

ص: 99


1- الدر المنثور : 6 / 133. وقد جمع النقول الواردة عن الصحابة حول شق القمر ، فلاحظ.
2- الإسراء : 1.
3- النجم : 5 - 18.

ونحن لسنا بصدد الخوض في تفاصيل قضية المعراج ، بل يكفي الإذعان بوقوعها ورودها في هاتين السورتين ، مضافاً إلى الأحاديث المتواترة حول قضية المعراج ، وإن لم تكن الخصوصيات بالغة إلى هذا الحد من التواتر ، بل حولها أحاديث آحاد غير جامعة لشرائط الحجية ، وقد قسم الطبرسي في مجمعه الأحاديث الواردة حول المعراج ، إلى أربعة أقسام ، فلاحظ.

3. مباهلة النبي لأهل الكتاب

تعرض القرآن لقضية المباهلة ، في الآية التالية : قال سبحانه : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ ) (1).

قال الزمخشري في تفسير الآية : لمّا دعاهم النبي صلی اللّه علیه و آله إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر ، فلمّا تخالوا قالوا للعاقد - وكان ذا رأيهم - : يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال : واللّه لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، واللّه ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لتهلكن ، فإن أبيتم إلاّ ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول اللّه ، وقد غدا محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي خلفها. وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمّنوا ، فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ! إنّي لأرى وجوهاً لو شاء اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.

فقالوا : يا أبا القاسم ! رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ، ونثبت على ديننا. قال : « فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما

ص: 100


1- آل عمران : 61.

عليهم » فأبوا ، قال : « فإنّي أُناجزكم » فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ، ألف في صفر ، وألف في رجب ، وثلاثين درعاً عادية من حديد ، فصالحهم على ذلك ، قال : « والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل اللّه نجران وأهله ، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتى يهلكوا ».

ثم قال الزمخشري : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاّ ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، وأما ضم الأبناء والنساء ، فلأجل أنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده ، وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة ، وخص الأبناء والنساء لأنّهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربّما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمّون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق (1).

إنّ معجزة النبي - وهي حلول العذاب على نصارى نجران - وإن لم تتحقّق بسبب انصراف النصارى عن المباهلة ، إلاّ أنّ ذهاب الرسول إلى المباهلة واستعداده لذلك من جانب ، وانسحاب نصارى نجران من الدخول مع الرسول في هذا التباهل من جانب آخر ، يكشفان عن أنّ حلول العذاب كان حتمياً لو تباهلوا ، فقد أدركوا الخطر وأحسّوا بخطورة الموقف ، فاستعدوا للمصالحة والتنازل.

ص: 101


1- الكشاف : 1 / 326 - 327 ( بتلخيص يسير ) ولاحظ مجمع البيان : 1 / 452 - 453.
مطالبة النبي بالمعاجز ، الواحدة بعد الأُخرى

إنّ القرآن يصرح بأنّ النبي كلّما أتى لقومه بمعجزة طالبوه بمعجزة أُخرى ، وأصرّوا على أن تكون معاجزه مثل ما أُوتي رسل اللّه من قبل ، وهذا يدل على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن فوقع مورد الاعتراض والإصرار.

قال سبحانه : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ) (1).

فلنقف على المراد من لفظ ( آيَةٌ ) الواردة في هذا المورد ، فليس المراد منها نفس القرآن ، ولا الآية القرآنية ، لأنّ لفظ الآية كما ترى جاءت بصورة النكرة ، وهي تكشف عن نوع خاص منها ، بينما إذا كان المقصود هو القرآن أو الآية القرآنية ، كان ينبغي أن يكون الكلام على نحو آخر ، والآية نظير قوله سبحانه : ( وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ ) (2).

والمقصود منها : كل آية معجزة ، تثبت صلة الرسول باللّه سبحانه نظير قوله سبحانه : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) (3).

إنّ لفظ الآية يستعمل في القرآن في موارد :

1. العلامة المطلقة : فيقال هذا آية ذلك ، قال سبحانه : ( وَكَأَيِّن مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللّهِ إِلا وَهُم مُشْرِكُونَ ) (4).

ص: 102


1- الأنعام : 124.
2- يونس : 97.
3- البقرة : 145.
4- يوسف : 105 - 106.

ومثله قوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) (1).

وقد استعمل لفظ الآية في هذا المعنى كثيراً في القرآن الكريم ، ويقصد من الآية علامة الشيء ، إذا كانت دالة على وجوده سبحانه وصفاته ، أو ما إذا كانت مقارنة مع العبرة ، كما في قوله سبحانه : ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (2).

2. الآية القرآنية : مثل قوله سبحانه : ( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ ) (3) وقوله سبحانه : ( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) (4).

3. المعجزة لا بمعنى انّ الآية بمعنى المعجزة ، بل بمعنى نفس العلامة ولكن مقرونة بهذا الوصف وكأنّ لفظة المعجزة مقدرة بعدها ، ومن هذا القبيل قوله سبحانه : ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ ) (5).

وعلى الجملة فليس للفظ ( الآيَةَ ) إلاّ معنى واحد ، وإنّما الاختلاف في المستعمل فيه ، فيكون الشيء آية للعبرة ، أو آية لقدرته وعلمه ، أو آية لكون الآتي بها مبعوثاً من جانبه سبحانه ، إلى غير ذلك ، فالتمييز بين الموارد إنّما هو بحسب القرائن الحافة بالكلام.

ص: 103


1- الإسراء : 12.
2- يونس : 92.
3- آل عمران : 58.
4- آل عمران : 113.
5- آل عمران : 49.

وعلى ذلك فالمراد من قوله سبحانه : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ) هو العلامة الدالة على أنّ الآتي بها مبعوث من جانبه سبحانه ، فتكون معجزة للناس وموجبة للتحدي.

ولو كان المراد الآية القرآنية لكان الأنسب بل المناسب أن يستعمل كلمة « النزول » بدل « المجيء » فيقال : وإذا نزلت عليهم آية ، مكان ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ) .

على أنّ الدقة في مضمون الآية والقرائن الحافة بها تعطي أنّ المقصود من لفظة الآية هنا هو غير القرآن ، غاية ما في الباب أنّ المشركين كانوا يريدون أن تكون المعاجز التي يأتي بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مثل المعاجز التي أتى بها موسى علیه السلام مثلاً.

وأما علّة اختلاف الأنبياء في صنوف المعاجز ، فسيوافيك بيانها في الفصل القادم.

وصف معاجز النبي بالسحر

إنّ هناك آيات تصرّح بأنّ المشركين كلّما رأوا من الرسول صلی اللّه علیه و آله معجزة قالوا : إنّها سحر ، وهذا أدلّ دليل على ظهور معاجز - عدا القرآن - على يد النبي الأمين صلی اللّه علیه و آله .

أمّا هذه الآيات فمنها قوله سبحانه : ( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (1) وكلمة ( رَأَوْا ) وتنكير لفظ ( آيَةً ) شاهدان على أنّ المقصود من الآية هو غير القرآن من المعاجز ، وإلاّ كان المناسب أن يستعمل ألفاظ « النزول » أو « السماع » أو غير ذلك ، مكان « الرؤية » ، أو تبديل النكرة

ص: 104


1- الصافات : 14 - 15.

بالمعرفة ، نظير قوله سبحانه : ( وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) .

ولأجل ذلك نرى المفسرين يستشهدون بهذه الآية وغيرها على إثبات معاجز للنبي صلی اللّه علیه و آله غير القرآن الكريم.

النبي الأعظم وبيّناته

تفيد الآية التالية أنّ النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله جاء إلى الناس بالبينات ، وهي المعاجز ، بقرينة سائر الآيات الأخر التي استعملت فيها كلمة البينات في المعاجز ، قال سبحانه : ( كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (1).

والبيّنات جمع البيّنة بمعنى المبيّن لحقيقة الأمر ، وربّما يحتمل أنّ المراد منها هو القرآن ، أو البشائر الواردة في الكتب النازلة قبل القرآن حول النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، ولكن ملاحظة الآيات الأخر التي استعملت فيها هذه الكلمة وأُريد منه المعاجز والأعمال الخارقة للعادة ، توجب القول بأنّ المراد : إمّا خصوص المعاجز ، أو الأعم منها ومن غيرها ، وقد ورد فيما يلي من الآيات لفظ « البيّنات » وأُريد منها المعاجز.

قال سبحانه : ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ ) (2) ، ( ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ ) (3) ( إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ ) (4) ( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) (5) إلى غير ذلك ممّا ورد فيه لفظ البينات وأُريد منه الخوارق للعادة ، لاحظ المعجم المفهرس لفظة البينات.

ص: 105


1- آل عمران : 86.
2- البقرة : 87.
3- النساء : 153.
4- المائدة : 110.
5- المائدة : 32.

ولا نقول إنّ لفظ البيّنة بمعنى المعجزة ، بل هي كما عرّفناك هو الدليل المبين للحقيقة ، والمعاجز أحد مصاديقها.

إخبار النبي عن الغيب كالمسيح

يعد القرآن الإخبار عن المغيبات من معاجز السيد المسيح علیه السلام ويقول حاكياً عنه : ( وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (1). وقد أخبر النبي محمد صلی اللّه علیه و آله عن طائفة من المغيبات بواسطة الوحي الذي يوحى إليه ، وجاءت عدة من هذه المغيبات في القرآن الكريم منها قوله مخبراً عن انتصار الروم بعد هزيمتهم ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ) (2). كما أخبر عن هزيمة قريش في بدر قال : ( سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (3).

وقد جمعنا موارد إخبار النبي صلی اللّه علیه و آله عن المغيبات عن طريق الوحي في الجزء الثالث من هذه الموسوعة (4). فلاحظ.

معاجز الرسول الأعظم في الأحاديث الإسلامية

ما ذكرناه بعض ما ورد من معاجز النبي الأكرم في القرآن ، غير أنّه ورد في الأحاديث والروايات الصحيحة ما ينص على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن أكثر من أن تحصى ، وقد جمعها وأحصاها علماء الحديث ودوّنوها في كتبهم ، ومؤلّفاتهم ، وأجمع كتاب أُلِّف في هذا الموضوع ما جمعه الشيخ العاملي ( المتوفّى

ص: 106


1- آل عمران : 49.
2- الروم : 1 - 3.
3- القمر : 45.
4- معالم النبوة في القرآن الكريم : 455 - 556 وأيضاً 503 - 509.

عام 1104 ه ) وأسماه « إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات » وقد نقل فيها معجزات النبي بمئات الأسناد ، استخرجها من كتب الشيعة والسنّة ، جزاه اللّه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

على أنّ أحاديث المسلمين حول معاجز نبي الإسلام تمتاز على روايات اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم من ناحيتين :

الأولى : قلة المسافة الزمنية بيننا وبين حوادث عهد النبي وكثرتها بيننا وبين حوادث عهود النبيين موسى وعيسى علیهماالسلام وغيرهما ، وهذا يوجب الاطمئنان إلى روايات المسلمين أكثر من غيرهم.

الثانية : تواتر الروايات الإسلامية حول معاجز النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وعدمه في الجانب الآخر ، خاصة إذا عرفنا أنّ الروايات التي ينقلها اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم تنتهي إلى أفراد قلائل.

وليعلم القارئ أنّا لسنا بصدد تصحيح كل ما نسب إلى النبي صلی اللّه علیه و آله من المعجزات وخوارق العادات سواء أصحّ سنده ، أم لا ، أطابق كتاب اللّه أم لا ، أوافق الأصول العقلية أم لا ، بل نحن بصدد نفي السلب الكلي الذي ادّعاه أعداء القرآن والسنّة.

هذا بعض ما يمكن التحدّث عنه هنا حول معاجز نبي الإسلام العظيم ، غير القرآن الكريم معجزته الخالدة.

ص: 107

ص: 108

3

تحقيق وتحليل لمفاد الآيات النافية للمعجزة

اشارة

ص: 109

في هذا الفصل

1. الطرق العلمية الثلاث لإثبات نبوّة مدّعي النبوة.

2. يجب على النبي أن يكون مزوداً بالمعاجز ، ولا يجب عليه القيام بكل ما يقترح الناس عليه.

3. انّما يصح القيام بالمعجزة المطلوبة إذا تعلّق الطلب بالأمر الممكن لا المحال ، وكان بين الطالبين جماعة مستعدة للانضواء تحت راية النبي.

4. المعجزة نوع تصرف في الكون ولا تتحقق إلاّ بإقدار وإذن من اللّه سبحانه.

5. الهدف الأسمى من الإعجاز هو هداية الناس ، فلو تعلّق طلب المقترحين بإبادتهم لما صح القيام به.

6. هناك معاجز لو طلبها الناس ولم يؤمنوا بالنبي بعد الإتيان بها لعمّهم العذاب.

7. عرض الآيات الثمانِ عشرة التي استدل بها القساوسة على عدم تجهز النبي بمعجزة سوى القرآن.

8. عدم قيام النبي بمقترحات الطالبين بالمعجزة لفقدان الشرائط اللازمة في القيام بمقترحات الطالبين ، وهي عشرة.

ص: 110

مفاد الآيات النافية للمعجزة

اشارة

لا شك أنّ المعجزة إحدى الطرق لإثبات دعوى النبي ، نعم الإعجاز أحد الطرق لا الطريق الوحيد ، وقد قرّر في الأبحاث الكلامية بأنّ هناك طريقين آخرين لإثبات دعوى النبوة :

الأوّل : تصريح النبي السابق بنبوة النبي اللاحق ، كما ورد التصريح في التوراة والإنجيل بنبوّة النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله ، وحكاه سبحانه في القرآن الكريم بقوله : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ) (1).

وقوله سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (2).

والآيتان تشيران إلى تنصيص الكتب السابقة على نبوة النبي الخاتم ، فعلى من يريد الاهتداء فعليه أن يرجع إلى تلكم الكتب التي تحتوي على بيان صفات النبي وخصوصياته حتى يكون ذا بصيرة في الأمر ، فالآيتان تنبهان بهذا الطريق

ص: 111


1- الأعراف : 157.
2- الصف : 6.

الذي هو إحدى الطرق.

الثاني : ملاحظة القرائن والشواهد ، من حياة مدّعي النبوة وشريعته ومحتوى كتابه وأصحابه وأخلاقه وسوابقه وممارساته ، إلى غير ذلك من القرائن ، التي لو تضافرت لأفادت اليقين بصدق دعوى المدّعي للنبوّة وأنّه صادق في ادّعائه ، وهذا الطريق هو المتعارف في المحاكم القضائية لتمييز المحق من المبطل ، وهو الطريق الأتقن والأكثر اطمئناناً.

وقد سلكنا هذين الطريقين في إثبات نبوّة نبينا في أبحاثنا الكلامية.

وعلى ذلك فالإعجاز أحد الطرق ، لا الطريق الوحيد ، ومع الاعتراف بهذه الحقيقة ، يجب إلفات نظر القارئ إلى النقاط التالية :

الأولى : هل يجب على النبي القيام بكل ما يقترحه الناس عليه من معاجز أو أنّه يجب أن يتمتع بالدلائل المثبتة لصدق دعواه وبالمعجزات الساطعة التي تفيد القطع لكل من يريد الحقيقة ويتحرّاها دون غرض أو مرض ، سواء أطابقت تلك المعاجز مقترحات من بعث إليهم أم خالفتها ؟

وبعبارة أُخرى : يجب أن تبلغ معجزات النبي حداً يوجب طمأنينة النفس واستيقانها برسالته لكل من يطلب الحقيقة ويتوخّاها ، ولا يجب على النبي حتماً أن يقوم بالإتيان بكل ما يطلب منه.

إنّ العقل لا يوجب أكثر من أن تكون دعوى النبوة مقترنة بالدلائل والشواهد التي تُثبت صلة النبي باللّه سبحانه ، وتكون كافية في إفادة الإذعان بصدقه ، وأمّا قيامه بكل ما يطلب منه ، فلا دليل على وجوبه لا من العقل ولا من الشرع.

ومن هنا يتبين أنّ اللازم على النبي هو القيام بإقناع الناس من حيث

ص: 112

المجموع ، وأمّا قيامه بإقناع كل فرد فرد على حدة وتنفيذ طلبات آحاد الناس فلا دليل عليه ، وتشهد على ذلك حياة الأنبياء ، فقد أعطى سبحانه لموسى الكليم تسع آيات بيّنات ، وللمسيح ما آتاه من المعجزات الواردة في قوله سبحانه : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) (1).

أقول : إنّ اللّه سبحانه قد أعطاهما تلكم المعاجز ، ولم يكلفهما بالقيام بإقناع كل فرد بالإتيان بكل ما يقترحه حسب ميوله وأغراضه.

نعم ، لابد أن تكون معجزة كل نبي مشابهة لأرقى فنون عصره وزمانه ، والتي يكثر العلماء بها من أهل عصره ، فإنّه أسرع للتصديق ، وأقوم للحجة ، فكان من الحكمة والصواب أن يخص موسى بالعصا ، واليد البيضاء ، لمّا شاع السحر في زمانه وكثر الساحرون ، ولذلك كانت السحرة أسرع الناس إلى تصديق ذلك البرهان والإذعان به حين رأوا العصا تنقلب ثعباناً وتلقف ما يأفكون ثم ترجع إلى حالتها الأولى ، فرأى السَحَرَة ذلك ، وعلموا أنّه خارج عن حدود السحر ، وآمنوا بأنّه معجزة إلهية وأعلنوا إيمانهم في مجلس فرعون ، ولم يعبأوا بسخط فرعون ولا بوعيده.

وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح ، وأتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب ، وكان للطب رواج باهر في سورية وفلسطين ، لأنّهما كانتا مستعمرتين لليونان ، وحيث بعث اللّه المسيح في هذين القطرين شاءت الحكمة أن تجعل برهانه شيئاً يشبه الطب ، فكان من معجزاته أن يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، ليعلم أهل زمانه أنّ ذلك شيء خارج عن قدرة البشر وغير مرتبط

ص: 113


1- آل عمران : 49.

بمبادئ الطب وانّه ناشئ عما وراء الطبيعة.

وأمّا النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله فقد برعت العرب في عصره في البلاغة وامتازت بالفصاحة ، وبلغت الذروة في فنون الأدب حتى عقدوا النوادي وأقاموا الأسواق للمباراة في الشعر والخطابة ، فلأجل ذلك اقتضت الحكمة أن يخص نبي الإسلام بمعجزة البيان وبلاغة القرآن ، ليعلم كل عربي أنّ هذا خارج عن طوق البشر ، ويعترف به كل من يتوخّى الحقيقة (1).

نعم ، هناك وجوه أُخر اقتضت جعل المعجزة الخالدة للنبي الخاتم هو القرآن ، وقد أوضحنا تلك الوجوه في أبحاثنا الكلامية.

نعم ، يجب أن تكون معجزة النبي مشابهة لأرقى فنون العصر ، فقط ، وأمّا لزوم قيامه بكل المقترحات والمطلوبات فلا ، لأنّ الأنبياء بعثوا لغرض التربية والتعليم ، وتجب عليهم مكافحة الجهل بالوسائل الصحيحة الكافية ، لا أن يأتوا بكل مطلوب لكل جاهل أو متجاهل حسب هوسهم.

كما يجب أن تكون دعوتهم مقترنة بالمعاجز حتى تحقّق صلتهم باللّه سبحانه ويتبين أنّ اللّه الحكيم هو الذي أعطاه تلك المقدرة ، ولو كانوا كاذبين لما جاز في منطق العقل والحكمة إقدارهم عليها ، لأنّ في إقدار الكاذب على المعاجز ، إغراء بالجهل وإشادة بالباطل ، وذلك محال على الحكيم تعالى ، فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالة على صدقه وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوته سواء أطابقت مطلوب الناس أم لا.

وإذا رأينا أنّ نبياً من الأنبياء قد امتنع عن القيام ببعض المعاجز ، وبعبارة أصح : إذا لم يأذن اللّه له في الإتيان بها ، فإنّما هو لأجل أنّه سبحانه جهّزه بأوضح الدلائل وزوّده بأتقن المعاجز بحيث تكون كافية لكل من يتوخّى الحقيقة ويطلب

ص: 114


1- البيان : 48 - 49.

الواقع ، وليس عليه سبحانه أزيد من نصب الدلائل وإقامة البراهين ، فلو انّ القرآن يصف الأنبياء بقوله : ( فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (1) ويصف نبيَّه بقوله : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (2) ، فلا تهدف تلك الجملة إلاّ الإشارة إلى أنّ وظيفته الأساسية إنّما هي التبشير والإنذار المقترنين بالمعاجز الكافية ، وانّه لا يجب عليه أن يستجيب لطلب كل من اقترح عليه أمراً أو يطلب منه معجزة حسب هواه ، وليست هذه الأوصاف نافية لأصل المعاجز من رأسها.

الثانية : انّما يصح قيام النبي بالإتيان بالمعجزة المطلوبة منه إذا تعلّق الطلب بالأمر الممكن لا المستحيل ، لأنّه خارج عن إطار القدرة ، فعند ذلك لو طلب من النبي رؤية اللّه سبحانه جهرة ، أو ولوج الجمل في سم الخياط ، فالسؤال ساقط من أساسه لاستحالة الموضوع.

الثالثة : إنّما يجب على النبي القيام بالإتيان بالمعاجز المطلوبة المقترحة عليه من قبل الناس ، إذا كانت بين الطالبين بها جماعة مستعدة للانضواء تحت لواء الحق بعد أن شاهدوا المعجزة ، وأمّا لو كانوا يطالبون بها ويقترحوها عناداً ولجاجاً ، ومع ذلك يصرون على كفرهم وإنكارهم حتى لو أُتي بمطلوبهم ، فلا يجب على النبي الإجابة لدعوتهم لأنّ الإتيان بالمعاجز في هذه الحالة يعد أمراً لغواً وعبثاً ، وذلك لأنّ الهدف من المعاجز أحد أمرين :

الأوّل : سوق الناس إلى اللّه سبحانه عن طريق الإيمان بنبوة النبي صلی اللّه علیه و آله ورسالته ، والمفروض أنّ تلك الغاية منتفية في المقام ، لأنّ الطالبين بالمعاجز يشكّلون جماعة متعنتة ومعاندة فلا يؤمنون وان أُتي بأضعاف ما يريدون ويطلبون.

ص: 115


1- البقرة : 213.
2- الرعد : 7.

وأمّا الكلام في أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله من أين يحصل له هذا العلم ويكشف أحوالهم ، فهو خارج عن هذا البحث.

الثاني : إتمام الحجة على الكافرين المعاندين المغرضين حتى لا يقولوا يوم القيامة ولا يحتجّوا على اللّه سبحانه بأنّه ما جاءهم من بشير ولا نذير ، والمفروض أنّ تلك الغاية قد حصلت بالإتيان بسائر المعجزات التي جاء بها النبي صلی اللّه علیه و آله من غير اقتراح لما عرفت من أنّه يجب تزويد النبي صلی اللّه علیه و آله وتجهيزه بالمعاجز سواءً طابقت مقترحات قومه أو لا.

إنّ القارئ الكريم سيلمس تلك الحقيقة عند استعراض الآيات التي رفض النبي فيها إجابة الطالبين بالمعاجز ، فإنّ أكثرها واردة في ذلك المجال ، وانّه لم يكن غرض الطالبين الاهتداء والانتفاع بها ، بل كانوا يطلبونها لأغراض أُخر ، إمّا تعجيزاً للنبي صلی اللّه علیه و آله بحسب أهوائهم أو تلاعباً بما سيصدر منه صلی اللّه علیه و آله .

الرابعة : انّ المعجزة نوع تصرف في العالم ، والنبي بماله من ولاية تكوينية مكتسبة منه سبحانه ، يقدر على التصرّف في الأكوان بأن يخلع صورة من المادة ويلبسها صورة أُخرى ، كما خلع موسى الكليم صورة العصا من مادتها وألبسها صورة الثعبان بإذن ربّه ، وكما بدّل المسيح الصورة الطينية إلى الصورة الطيرية ، كل ذلك بإذنه سبحانه ، وأمر منه ، وعند ذلك فليس لهم حرية مطلقة في الخلع واللبس والتنفيذ والتصرّف وإنّما يفعلون ذلك بإذن منه سبحانه ، قال اللّه تعالى : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (1).

وبما أنّ هذه الآية تعد نفس النبي صلی اللّه علیه و آله آتياً بالمعجزة ، تدلّ على أنّ الآتي بها والمتصرّف في الأكوان هو النبي صلی اللّه علیه و آله بما له من روح قدسية يقدر معها على ذلك الأمر.

ص: 116


1- الرعد : 38.

ولكنها تقيد تنفيذ النبي وتصرفه بإذنه سبحانه ، فالأولياء وفي طليعتهم الأنبياء لا يشاءون إلاّ ما شاء اللّه ولا يخرجون عن إطار مشيئته سبحانه.

فلو رأينا أنّ النبي قد رفض بعض المقترحات ، فإنّما هو لأجل هذا السبب ، فلم يكن إذن من اللّه سبحانه بالقيام بتلك المعاجز المقترحة ، وعدم إذنه سبحانه لأجل كون عمل النبي صلی اللّه علیه و آله لغواً لا يترتب عليه أثر من هداية السائلين أو إتمام الحجة على المغرضين ، إذ المفروض أنّ السائلين ليسوا في مقام الاهتداء ، والحجة قد تمت على المغرضين من قبل ، ولأجل ذلك ليست هناك غاية صحيحة تبعث النبي إلى القيام بالمعاجز.

الخامسة : انّ الهدف الأسمى من الإعجاز هو هداية الناس إلى الطريق المستقيم ، فلو كانت نتيجة الإعجاز إفناء الناس وإهلاكهم ، لما صحّ في منطق العقل القيام بتلك الدعوة ، فلو طلبوا من الرسل أن يخسف اللّه بهم الأرض أو يسقط عليهم السماء كسفاً أو يبيدهم العذاب من وجه الأرض ، فلا يصحّ القيام بذلك الطلب ، لأنّ في إجابته نقضاً للغرض وإفناءً للهدف ، وهم علیهم السلام قد بعثوا لهداية الناس لا لإبادتهم وإهلاكهم ، وسوف يلمس القارئ أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لو امتنع في بعض المواقف عن القيام ببعض المقترحات فقد كان لأجل ذلك الأصل الذي دلّ العقل على رصانته.

السادسة : قد دلّت الآيات الكريمة على أنّ هناك معاجز لو طلبها الناس من نبيهم وقام هو بمقترحهم ومع ذلك قد رفضوا الاعتناق بدينه والتصديق برسالته ، سيصيبهم العذاب الأليم ، قال سبحانه : ( وَمَا مَنَعَنَا أَن نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) (1).

ص: 117


1- الإسراء : 59.

والمراد من الآيات المقترحة هي المعاجز التي طلبها أقوام الأنبياء منهم ثم كذبوها فنزل العذاب عليهم بسبب تكذيبهم ، وسيوافيك بيان مفاد الآية في محلها وانّ أية معجزة يوجب تكذيبها نزول العذاب.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ اللّه سبحانه وعد النبي برفع العذاب الدنيوي عن هذه الأمّة ما دام هو فيها إكراماً لمقامه وتعظيماً لشأنه ، قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) (1).

وعلى ضوء هذين الأمرين يتبيّن أنّ الامتناع عن القيام ببعض المعجزات المقترحة - التي يستلزم تكذيبها نزول العذاب - إنّما هو لأجل هذا الوعد القطعي الذي قطعه اللّه على نفسه لنبيّه ، فكل معجزة يستلزم تكذيبها نزول العذاب فهي معجزة ممنوعة لأجل هذا الأمان الذي أعطاه اللّه سبحانه لأمّة نبيّه.

السابعة : انّ شرط القيام بالمعجزة المطلوبة هو أن لا تكون الإجابة لطلب القوم سبباً لتحقير المعاجز الأُخر وازدراءً لها ، إذ في القيام - في هذه الصورة - نوع تصديق لموقف الخصم ، وإغراء له في الضلالة ، ولأجل ذلك نرى النبي يجيب القوم عندما طلبوا منه معجزة غير القرآن بصورة التحقير لهذه المعجزة الخالدة الباقية على وجه الدهر بقوله : ( فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ) (2).

الثامنة : انّ الهدف من بعث الأنبياء وتزويدهم بالآيات والبينات هو إيجاد الأرضية المناسبة لإيمان قومهم وإذعانهم بما جاء به الرسل اختياراً ، فإنّ الإيمان - بل كل عمل حسن - إنّما يعد كمالاً إذا اختاره الإنسان وانساق إليه بصميم قلبه ، وأمّا إذا أُلجئ واضطر إليه بلا اختيار فلا يعد كمالاً له ولا يستحق ثواباً.

ص: 118


1- الأنفال : 33.
2- يونس : 20.

ولذلك نرى في مورد يتمنّى النبي ( أو يشعر كلامه بذلك التمنّي ) أن يأتي بآية ملجئة لهم إلى الإيمان وملزمة لهم على الاذعان أجابه سبحانه : ( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ ) (1).

وسوف يوافيك شرح الآية وهدفها.

التاسعة : انّ القيام بالطلب إنّما يصح إذا لم يكن المطلوب على خلاف السنّة الإلهية الحكيمة الجارية في الكون ، وعلى ذلك فلو طلب القوم أن يأتي لهم النبي بجنة وينبوع حتى يريحهم من الكد والكدح فلا يستحق هذا الطلب الإجابة ، لأنّ سنته تعالى جرت على إرزاق الناس من طريق العمل والكسب ، وسيوافيك توضيح ذلك عند البحث عن قوله : ( وَقَالُوا لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً ) (2).

العاشرة : إنّما يصح القيام إذا كان بين المطلوب والمقترح والرسالة الإلهية رابطة منطقية حتى يستدل بالأوّل على الآخر ، وعلى ذلك فلو طلبوا من النبي أن يكون ذا ثروة طائلة فلا يصح للنبي الإجابة ، لأنّ ثروة الرجل ليست دليلاً على صحة منطقه ، وسيوافيك شرح ذلك عند البحث عن قوله سبحانه : ( أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً ) (3).

فلو أنّ النبي امتنع عن القيام ببعض المعاجز فإنّما هو لأجل هذا الأصل ، وأنت إذا لاحظت هذه الأمور تبيّن لك أنّ الآيات التي رفض فيها النبي القيام بمقترحات القوم ومطلوباتهم من المعاجز فإنّما هو لأجل فقدان إحدى هذه

ص: 119


1- الأنعام : 35.
2- الإسراء : 90.
3- الإسراء : 91.

الشرائط التي نعيد الإشارة إليها في ما يلي باختصار :

1. انّ الواجب هو اقتران دعوة النبي بالدلائل والمعاجز الكافية حتى تفيد الإذعان بصدق دعوته ، لا القيام بكل معجزة تقترح عليه من آحاد الأمّة.

2. لو اقتضت الحكمة الإلهية قيام النبي بمقترحات قومه ، فإنّما تصح عقلاً الإجابة لها إذا تعلّق الطلب بالأمر الممكن لا المستحيل ، فعدم الإجابة للمقترح المستحيل لا يدل على أنّه لم يزود بالمعاجز.

3. انّما يجب على النبي القيام بالمعاجز إذا دلّت القرائن على أنّ الهدف من طلبها هو الانضواء تحت لواء الحق والاهتداء بها لا طلبها عناداً ولجاجاً وتلاعباً بشأن النبي ومعجزاته.

4. الإعجاز نوع تصرف في الأكوان يقوم به النبي بإذن منه سبحانه ، ولا يصدر الإذن منه في كل الأحايين والأوقات ، وإنّما يصدر فيما إذا كانت هناك مصلحة مقتضية للتصرف.

5. انّ الهدف من الإعجاز هو هداية الناس ، فلو تعلّق الطلب بإهلاكهم وإبادتهم لم تكن إجابته صحيحة في منطق العقل لكونها نافية للغرض.

6. انّ المعاجز التي يستلزم تكذيبها نزول العذاب الأليم كما نزل على الأمم السابقة لا يصح للنبي القيام بها ، لأنّه سبحانه كتب على نفسه دفع العذاب عن الأمّة ما دام النبي فيهم ، وهذا الوعد القطعي الإلهي يمنع عن القيام بتلكم المقترحات.

7. انّ كل معجزة مطلوبة صارت سبباً لتحقير المعاجز الأخرى وازدراءً لها لا يجب على النبي في منطق العقل القيام بها ، لأنّ فيه نوع تصديق لموقفهم المتعنّت.

ص: 120

8. انّ الإيمان إنّما يعد كمالاً إذا دفع إليه الإنسان باختياره وإذا كانت الآية المطلوبة أو المتمنّاة سبباً لإيمانهم الإلجائي فلا يجب ، بل لا يحسن في منطق العقل القيام بها.

9. إنّما يصح للنبي أن يقوم بمقترح قومه إذا لم يتعلّق طلبهم بما يكون على خلاف السنّة الحكيمة الجارية في الكون والحياة.

10. إنّما يصح أيضاً القيام إذا كان بين المطلوب والرسالة رابطة منطقية بحيث يصح الاستدلال بأحدهما على الآخر ، فلو كانت الرابطة مفقودة فلا تصح في منطق العقل إجابة الاقتراح.

وأنت إذا استعرضت الآيات التي استدل بها الكتّاب المسيحيّون والمستشرقون على أنّه لم يكن للنبي الخاتم معجزة غير القرآن تقف وقوف مستشف للحقيقة على أنّ عدم قيامه بالمعجزات والآيات التي كانوا يطلبونها منه كان لأجل إحدى هذه العلل أو ما يضاهيها ، وإليك استعراض هذه الآيات واحدة بعد أُخرى حتى تتجلّى الحقيقة بأجلى مظاهرها.

استعراض الآيات التي استدل بها القساوسة
الآية الأولى
اشارة

قال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (1).

ص: 121


1- البقرة : 118.

الظاهر أنّ القائلين هم مشركو العرب ، بقرينة قوله : ( الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) مشيراً إلى أنّهم ليسوا من أهل الكتاب ، واستقربه الطبرسي في مجمعه (1).

وهذه الآية تدلّ على أنّهم طلبوا من النبي أمرين :

أ. لولا يكلّمهم اللّه سبحانه.

ب. لماذا لا تأتي الآية إليهم أنفسهم ؟

وكلا السؤالين ساقطان في منطق العقل ، بملاحظة الشرائط المصححة لطلب الإعجاز التي مرّت.

أمّا السؤال الأوّل : فإن كان مرادهم هلا يكلّمنا اللّه معاينة ، فهو محال ، لأنّه يستلزم جسمانيته سبحانه.

وإن كان مرادهم تكليمهم مخبراً بأنّ مدّعي النبوة نبي ، ولكن لا بالمعاينة ، بل بإحدى الطرق المألوفة من إسماعهم ، فهو وإن كان أمراً ممكناً لكنه لا يفيدهم الإذعان ، إذ من الممكن اتهام ذلك الإسماع بالسحر كما قالوا ذلك في غير هذا المورد.

وأوضح في البطلان لو كان مرادهم لولا يكلمنا اللّه مثلما كلّم موسى وغيره من الأنبياء ، فإنّ هذا يستلزم نزول الوحي عليهم ، وهو يتوقف على توفر شرائط معينة ، وهي غير موجودة إلاّ في أفراد قلائل.

ولا يقل عنه في البطلان لو كان مرادهم سماع الوحي النازل على النبي صلی اللّه علیه و آله فإنّ السماع متوقف - كذلك - على توفر الشرائط غير الموجودة في المشركين. وعلى فرض الإسماع لا يفيدهم الإذعان لإمكان اتّهامه بالسحر أيضاً.

وهذه الوجوه الأربعة محتملات لقولهم ( لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللّهُ ) وهي كما ترى غير

ص: 122


1- ج 1 / 195.

مستحقة للإجابة بل جديرة بالاعراض.

أضف إلى ذلك أنّ المحتمل الثالث - وهو تكليم اللّه إياهم كتكليمه سائر الأنبياء - يستلزم لغوية بعث الأنبياء الذي جرت عليه سنّة اللّه من لدن نزول آدم إلى الأرض.

وقد نقل هذا السؤال في مورد آخر ، حيث حكاه سبحانه بقوله : ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) (1). وكأنّ كل واحد من أفراد المشركين يتوقع أنّ تنزل عليه صحائف فيها تكاليفه ، وهي تؤيد أنّ مرادهم من تكليمه إيّاهم هو المحتمل الثالث. هذا كلّه حول السؤال الأوّل.

وأمّا السؤال الثاني : أعني قوله : ( أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ) فهو يشير إلى أنّهم طلبوا من النبي صلی اللّه علیه و آله ظهور المعاجز على أيديهم ، وهذا السؤال سخيف جداً ، إذ ظهور المعاجز على أيديهم يتوقف على توفر شرائط غير موجودة في المشركين ولا في غيرهم إلاّ في أفراد قلائل ، أعني : الأنبياء والمرسلين.

ويحتمل أن يكون المراد : أن يأتي النبي بآية موافقة لطلبهم. ويشير إليه قوله في ذيل الآية ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) (2). حيث اقترح اليهود الآيات على موسى ، والنصارى على المسيح.

ولكن عدم إجابة النبي صلی اللّه علیه و آله لاقتراحهم ، لأنّه كان فيما أتى به من الحجج والمعاجز الباهرة كفاية لمن كان بصدد تحصيل اليقين ولمن ترك التعنّت والعناد.

وإلى هذا الجواب أشار سبحانه في ذيل الآية ( قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (3).

ص: 123


1- المدثر : 52.
2- البقرة : 118.
3- البقرة : 118.

على أنّه من المحتمل أيضاً أن تكون الآيات المطلوبة من النبي صلی اللّه علیه و آله من الأمور المستحيلة ، ويقرب من ذلك قوله سبحانه في نفس الآية : ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) ومن المعلوم أنّ اليهود طلبوا من موسى رؤية اللّه جهرة.

وقوله سبحانه : ( تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) يشير إلى أنّ سؤالهم كان أشبه بسؤال من تقدّمهم في الكفر والقسوة والتعنت والعناد ، ولذلك قال سبحانه في موضع آخر : ( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِن رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ) (1).

والحاصل : أنّ ذيل الآية يشير إلى أنّ الواجب على اللّه في هداية الناس هو بعث الأنبياء وتزويدهم بالدلائل والمعاجز التي تثبت بوضوح صلتهم باللّه وصدق مقالتهم ، وأمّا إجراء المعاجز المطلوبة منهم على أيديهم فليس بواجب في منطق العقل إذ لمن يريد تحصيل اليقين كفاية فيما أتوا به من المعاجز.

الآية الثانية

قال سبحانه : ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً ) (2).

إنّ الآية تدلّ على أنّ أهل الكتاب سألوا النبي أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، وهذا السؤال يحتمل وجوهاً نأتي بجميعها ، وسوف يرى القارئ انّ الوجوه

ص: 124


1- الذاريات : 52 - 54.
2- النساء : 153.

المحتملة كلّها غير جامعة للشرائط المصححة لقيام النبي بإجابة طلبهم ، وإليك هذه الاحتمالات :

1. أن يعرج النبي إلى السماء ويرجع مع كتاب اليهم وقد سأل المشركون نظير ذلك حيث حكى اللّه سبحانه عنهم في سورة الإسراء إذ قال : ( أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) (1) وكيفية السؤال هذه ، تدلّ على أنّهم لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة ، لأنّ في واحد من الأمرين ( العروج إلى السماء وحده ، أو نزول الكتاب إلى النبي مع عدم عروجه ) كفاية ، فطلب الأمرين معاً يكشف عن أنّهم لم يتخذوا لأنفسهم موقف المتحري للحقيقة ، بل كانوا يتبعون في سؤالهم هوسهم ، وهواهم.

2. أن ينزل النبي عليهم أنفسهم كتاباً من السماء مكتوباً كما كانت التوراة مكتوبة من عند اللّه في الألواح حتى يروا نزول الكتاب من السماء بأُمّ أعينهم.

ولكن هذا الاحتمال أيضاً ينبئ عن أنّهم اتخذوا لأنفسهم موضع اللجاج والعناد كما ينبئ عن ذلك تشبيه هذا السؤال بسؤال بني إسرائيل من نبيهم موسى حيث قال : ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) وعندئذ لا يجب في منطق العقل الإجابة على هذا السؤال ، لأنّ موقف السائل لو كان موقف المستشف للحقيقة لاكتفى بما زوّد به النبي من المعاجز ، ولما شبّه اللّه سبحانه سؤالهم بسؤال بني إسرائيل من نبيهم ، علم منه أنّهم لم يكونوا في موقف المتحرّي للحقيقة.

أضف إلى ذلك أنّه لو قام النبي بهذا الإعجاز كان من المحتمل جداً أن لا يؤمن به أهل الكتاب أيضاً ، وعندئذ يسقط القيام بالإعجاز لما قلنا أنّه إنّما يجب القيام بالمعاجز المقترحة إذا كان هناك مظنة إيمان السائل.

ص: 125


1- الإسراء : 93.

ويدل على ما ذكرنا من الاحتمال أنّه سبحانه يقول : ( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (1).

وليس لقائل أن يقول : إنّ هذه الآية واردة في حق المشركين ولم يعلم وحدة تفكيرهم مع أهل الكتاب ، وذلك لأنّ المراد من أهل الكتاب في الآية هم اليهود القاطنون في المدينة وما حولها ، وهم كانوا أشد الناس عناداً ولجاجاً في حق النبي بدليل أنّ أكثر المشركين اعتنقوا الإسلام واختاروه دونهم إذ بقوا على شريعتهم ، ولم يؤمن إلاّ قليل منهم.

ثم إنّ في الإجابة على هذا الاقتراح ضرباً من الإهانة للقرآن والاستهانة به ، فإنّ طلب نزول الكتاب عليهم من السماء ، ينبئ عن أنّ القرآن النازل على قلب النبي لم يكن كافياً في إثبات نبوّته ، وتصديق رسالته وانّما يجب التصديق إذا رئي نزول القرآن بأُمّ الأعين.

على أنّ كيفية السؤال تنبئ عن الاعتقاد الفاسد ، وهو أنّ اللّه تعالى جسم واقع في السماء ، ولأجل ذلك اقترحوا على النبي أن ينزل اللّه سبحانه كتاباً من السماء يرون نزوله برأي العين.

ولنفترض قيام النبي صلی اللّه علیه و آله بإجابة هذا السؤال ، أو ليست تلك الإجابة توجب أن يطمع الآخرون في هذا الأمر ويطلبوا من النبي أن يفعل لهم ما فعل لغيرهم ، المرة بعد المرّة ، والكرّة بعد الأخرى ، مع كثرة القبائل وتعدّد البطون ، وعندئذ تصبح النبوّة العوبة بأيدي الجهّال ، ويصبح مثله كمثل المرتاضين والسحرة الذين غدوا أداة طيّعة لترفيه الناس.

هذه الوجوه ترد على هذا المحتمل من السؤال ، غير أنّ هاهنا إشكالاً آخر ، وهو أنّه لو قام النبي صلی اللّه علیه و آله بهذا الوجه من السؤال وهو أن ينزل عليهم كتاباً من

ص: 126


1- الأنعام : 7.

السماء مكتوباً كما كانت التوراة مكتوبة من عند اللّه في الألواح - إذ على هذا الوجه - لفاتت المصالح المترتبة على نزول القرآن تدريجياً ، فإن لنزول القرآن نجوماً عللاً وغايات أُشير إليها في الكتاب العزيز ، كما أُشير إلى اعتراض المشركين بأنّه لماذا لا ينزل عليه القرآن جملة واحدة ، قال سبحانه ، ( وَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ) (1). إذ في نزول القرآن نجوماً أسرار قد أُشير في الآية إلى واحد منها وهو تثبيت فؤاد النبي صلی اللّه علیه و آله ، فنزول القرآن مكتوباً مرّة واحدة يوجب فوات فوائد موجودة في النزول التدريجي ، وإليك بعض هذه الأسرار والفوائد :

أ. تثبيت فؤاد النبي صلی اللّه علیه و آله

إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يتحمل مسؤولية ضخمة جداً ، وكان يواجه في هذا السبيل صعوبات ومشقات ، كان لا بد له من إمداد غيبي غير منقطع ، ونجدة إلهية متصلة ، ولهذا كان نزول الوحي تدريجياً موجباً لتسلية النبي وتقوية روحه وعزيمته ، وإلى هذا أشارت الآية : ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) (2).

ب. تسهيل عملية التعليم

إنّ صعوبة مهمة التعليم كانت تقتضي أن يتنزّل القرآن شيئاً فشيئاً ليسهل تعليمه للناس ، وإلقاؤه إليهم ، كيف لا ؟! والنبي طبيب يعالج النفوس ويداوي الأرواح ، وذلك يقتضي التدرّج في العلاج.

ص: 127


1- الفرقان : 32 - 33.
2- الفرقان : 32.

وإن شئت قلت : إنّ أفضل الطرق للتعليم والتربية هو أن يتعانق ويتصافق الفكر والعمل ويتزامن التعليم والتطبيق وأن يردف المربي ما يلقيه بالعمل ، وهذا لا يتحقق إلاّ بنزول القرآن تدريجياً وحسب الحوائج والأسئلة ، ويفوت ذلك في نزوله مكتوباً جملة واحدة.

ج. التدليل على صدق الرسالة

إنّ التدرّج في التنزيل أحد الأدلة الساطعة على صدق القرآن في انتسابه إلى اللّه ، وأنّه وحي سماوي لا تأليف بشري ، إذ أنّ نزول الآيات في مواسم وظروف متفاوتة مع حفظ النمط الخاص به - رغم ما يواجه به الرسول صلی اللّه علیه و آله في حياته الرسالية من شدة ورخاء ، وهدوء واضطراب ، وسلم وحرب - خير دليل على أنّ هذا الكلام ليس إلاّ وحياً يوحى إليه من إله قادر حكيم محيط خالق عالم ، فيكون ذلك أظهر برهان لعظمة القرآن ، وأقوى دليل على إعجازه ، فهل في وسع النبي أو في وسع المنطق أن يرفض تلك المزايا ويصغي إلى مقترحات أهل الكتاب بإنزال الكتاب مكتوباً جملة واحدة على غرار التوراة والإنجيل ؟!

3. وربّما يفسر قولهم : ( حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) بأنّهم سألوا النبي أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتاباً يأمرهم اللّه تعالى فيه بتصديقه واتّباعه (1).

ونقله في الكشاف بقوله : ان ينزل كتاباً إلى فلان وكتاباً إلى فلان بأنّك رسول اللّه (2).

ومن المعلوم انّ هذا السؤال يكشف عن تعنّتهم وعنادهم ، ولو قام به النبي ولبّى طلبهم ، لطمع الآخرون في ذلك وصارت النبوة إلعوبة بأيدي الناس.

ص: 128


1- مجمع البيان : 2 / 133.
2- الكشاف : 1 / 434.
الآية الثالثة

قال سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

وهذه الآية ممّا تمسك بها الملاحدة على المسلمين ، فقالوا : تدلّ على أنّ اللّه تعالى لم ينزل على محمد آية ، إذ لو نزلها لذكرها عند سؤال المشركين إيّاها (2).

وقد صاغ رجال التبشير هذا الإشكال في قالب خاص ، وقالوا : إنّ الآية تدلّ على أنّه كلّما سئل محمد عن المعاجز أعرض عن السؤال وقال : إنّ اللّه قادر على الإنزال كما ورد في هذه الآية ، ومعلوم أنّ هذا الجواب لا يكفي السائل ، لأنّ قدرته سبحانه على الإتيان غير منكرة ، وانّما السؤال هو طلب خروج هذا الإمكان إلى مرحلة الفعلية ، فالجواب الوارد في الآية لا يدفع الاعتراض.

أقول : تحقيق مفاد الآية يتوقف على البحث حول أمرين :

الأوّل : لماذا لم يجب النبي دعوتهم ، ولم يقم بالإتيان بمطلوبهم ؟

الثاني : كيف يرتبط الجواب الوارد في الآية ، أعني قوله : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً ) بكلامهم أعني : ( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) ؟

فنقول : أمّا الأمر الأوّل انّ الآيات المتقدمة على هذه الآية تدل بوضوح على أنّ الطالبين لم يكونوا بصدد الإيمان وطلب الحقيقة ، فلاحظ قوله سبحانه قبل هذه الآية إذ يقول : ( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ

ص: 129


1- الأنعام : 37.
2- مجمع البيان : 2 / 296.

يُرْجَعُونَ ) (1).

وهاتان الآيتان الواردتان قبل هذه الآية تكشفان عن أنّه ما كان يرجى إيمان المعترضين وإذعانهم ، ولأجل ذلك يخاطب سبحانه نبيه : بأنّك إن قدرت وتهيأ لك أن تتخذ طريقاً إلى جوف الأرض أو سلّماً في السماء فتأتيهم بآية ، فافعل ذلك لكنهم لا يؤمنون لك (2).

ثم يضيف سبحانه ويشبههم بالموتى ويقول : ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ) مريداً أنّ هؤلاء لا يصغون إليك فهم بمنزلة الموتى ، فكل إنسان عاقل ، آيس من أن يسمع الموتى ، كلامه فهؤلاء بمنزلتهم لا يستجيبون لك ، ومعنى الآية : انّما يستجيب المؤمن السامع للحق فأمّا الكافر فهو بمنزلة الميت ، فلا يجيب إلى أن يبعثه اللّه تعالى يوم القيامة ليلجئه إلى الإيمان.

أضف إلى ذلك أنّه يحتمل أن يكون مقترحهم أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون مقترحهم نزول الملك عليهم ، كما يحكي عنهم سبحانه في تلك السورة ويقول : ( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ ) (3).

إنّ نزول الملك يمكن أن يتم بإحدى صورتين :

1. نزول الملك بصورته الواقعية ، ومن المعلوم انّ رؤية الملك بهذا الشكل متوقفة على توفر شرائط في الناظر ، وهم كانوا فاقدين لها ، ومن الممكن جداً أن تستلزم تلك الرؤية القضاء عليهم بالموت كما قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ ) .

ص: 130


1- الأنعام : 35 - 36.
2- هذا جواب الجملة الشرطية الواردة في الآية ، حذف لمعلوميته.
3- الأنعام : 8 - 9.

قال العلاّمة الطباطبائي : إنّ نفوس المتوغلين في عالم المادة لا تطيق مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم واختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرف الملائكة ، فلو وقع الناس في ظرفهم لم يكن ذلك إلاّ انتقالاً منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراءها وهو الموت كما قال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً * يَوْمَ يَرَوْنَ المَلَائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) (1). (2)

ولأجل ذلك قال في مورد الآية : ( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ) .

2. نزول الملك بصورة الإنسان ، وحينئذ لا يفيد ذلك إذعاناً بأنّ هذا ملك مجسد في صورة إنسان ، بل زعموا أنّه إنسان داع إلى اللّه أو مصدق لنبيّه ، شاهد على نبوته ، وإلى ذلك يشير سبحانه : ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ ) .

الثاني : يحتمل أن يكون مقترحهم هو الذي حكى اللّه عنه في سورة الفرقان بقوله : ( لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُوراً ) (3) وحكاه عنهم أيضاً في سورة الزخرف حيث قال : ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (4).

ومن المعلوم أنّ كون الرجل ذا ثروة طائلة لا يكون آية لصحة دعوته ، وإلاّ لكان كل ثري نبياً.

ص: 131


1- الفرقان : 22.
2- الميزان : 7 / 16.
3- الفرقان : 8.
4- الزخرف : 31.

وبهذه الملاحظات يذعن القارئ بأنّه لم يكن المقام مظنة القيام بطلب المدعو لما عرفت من الشرائط المصحّحة لإجابة النبي.

إلى هنا تبيّن أنّ عدم قيام النبي بالإجابة لمقترحهم لأجل ما عرفت في بعض المقدمات من أنّ شرط القيام بالطلب هو كون الطالب بصدد تحصيل الإيمان وكشف الحقيقة لا التعنت والعناد ، وهؤلاء بحكم هاتين الآيتين لم يتخذوا موقفاً سوى العناد واللجاج.

وأمّا الجواب عن السؤال الثاني : الذي ركن إليه المستشرقون وقالوا : بأنّ الجواب الوارد في الآية لا يرتبط بالسؤال ، لأنّ السؤال عن الوقوع ، والجواب بالإمكان.

فنقول : إنّ هذا الاعتراض ينشأ من عدم الاطلاع على عقائد العرب الجاهليين في باب التوحيد ، فإنّ طائفة من المشركين وإن كانوا يوحّدون اللّه تعالى في ذاته ويقولون : إنّه واحد ، كما يوحّدونه في الخالقية ويعتقدون بأنّه لا خالق سواه ، ولكن كانوا مشركين في مسألة التدبير والربوبية التي هي إحدى شعب التوحيد.

وحاصل عقيدتهم أنّ اللّه سبحانه ترك أمر التدبير إلى آلهة صغيرة فهم الذين يقومون بتدبير الكون وتصريف الأمور ، وانّه سبحانه تخلّى عن مسند القدرة وتدبير العالم بكافة شؤونه وفوّض الأمر إليهم ، ولأجل ذلك كانوا يعبدونها زاعمين بأنّهم يدبرون العالم وينزلون المطر ، إلى غير ذلك من مظاهر التدبير.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر اعتقدوا بأنّ النبي إذا رفض عبودية هؤلاء الآلهة ورفض عبادتها ، فحينئذ لا يوجد - حسب اعتقادهم - من يجري الإعجاز على يده ، فإنّ اللّه سبحانه منعزل عن تدبير الكون ، وأمّا هولاء الآلهة فقد نفاهم محمد وصار مغضوباً عندهم ، فصارت نتيجة ذلك أنّ اللّه تعالى حسب انعزاله عن

ص: 132

التدبير غير قادر على إنزال الآية المعجزة ، فعند ذلك أجاب القرآن رداً على زعمهم : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

ولذلك حقر السائلون إله محمد صلی اللّه علیه و آله بقولهم : ( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) ولم يقولوا من ربّنا ، أو من اللّه ، فهذا الازدراء أكبر دليل على أنّهم كانوا يعتقدون أنّ الإله الذي يدعو إليه محمد صلی اللّه علیه و آله مسلوب القدرة عندهم ، فعندئذ صح أن يجاب بجملة : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

ومن الممكن أن يكون المشركون متأثرين بعقيدة اليهود الذين قالوا : ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) (1) وانّه سبحانه غير قادر على تغيير الكون وخرق العادة ، ولأجل ذلك يجيب سبحانه أنّ اللّه قادر على أن ينزل آية.

ثم إنّ لصاحب المنار كلاماً في تفسير الآية يشير إلى بعض ما ذكرناه ، فلاحظ (2).

الآية الرابعة

قال سبحانه : ( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ ) (3).

استدل بعض الكتاب المسيحيين بهذه الآية على أمرين :

الأوّل : انّه سبحانه يعاتب بهذه الآية نبيّه صلی اللّه علیه و آله مع أنّ مكانته عند المسلمين فوق العتاب.

ص: 133


1- المائدة : 64.
2- تفسير المنار : 8 / 387.
3- الأنعام : 35.

الثاني : أنّ الآية تشهد على أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان حزيناً لعدم إعطائه أيّة معجزة له موجبة لإيمان قومه. وهذا يضاد ما عليه المسلمون من أنّه صلی اللّه علیه و آله كان صاحب معجزات وكرامات غير القرآن.

ولكنّ الاستنتاجين باطلان جداً ، وقد نبعا من عناد الكاتب للنبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وبغضه له ، وليست في الآية أيّة دلالة عليهما.

أمّا الأمر الأوّل : فلأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يهتم بإيمان قومه وهدايتهم ، وتدلّ على ذلك آيات في الكتاب العزيز :

1. ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (1).

2. ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (2).

3. ( إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ ) (3).

وهذه الآيات تكشف عن حرص النبي على هداية قومه ، ولكن القوم كانوا في منأى عن قبول دعوته ، بسبب عنادهم ولجاجهم.

فالآية بصدد تهدئة خاطره صلی اللّه علیه و آله بأنّ إصراره على هدايتهم غير مجد لأنّهم موتى والموتى لا يسمعون شيئاً ، ولأجل ذلك قال سبحانه بعد هذه الآية : ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) (4). فانّهم بمنزلة الموتى لا شعور لهم ولا سمع حتى يتأثروا بالدعوة الإلهية ويسمعوا نداء النبي لهم ،

ص: 134


1- التوبة : 128.
2- يوسف : 103.
3- النحل : 37.
4- الأنعام : 36.

فهذه الهياكل من الناس صنفان :

صنف منهم : أحياء يسمعون ، وهؤلاء يستجيبون لدعوة الهداة المخلصين.

وصنف منهم : أموات لا يسمعون وإن كانوا ظاهراً بصورة الأحياء. وهؤلاء لا يسمعون إلاّ أن يبعثهم اللّه ، فيسمعون ما لم يستطيعوا سمعه في الدنيا كما حكاه اللّه عنهم : ( وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) . (1) وقال سبحانه : ( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) وقال سبحانه : ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنتَ بِهَادِي العُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ ) (3). والآية تدل على أنّ الكفّار والمشركين سيفهمهم اللّه الحق ويسمعهم دعوته في الآخرة كما أفهم المؤمنين وأسمعهم في الدنيا ، فالإنسان - مؤمناً كان أو كافراً - لا مناص له عن فهم الحق عاجلاً أو آجلاً (4).

فأي كلمة أو جملة تدلّ على عتاب النبي وزجره ، فإنّما هي تهدئة من اللّه سبحانه لنبيه صلی اللّه علیه و آله وانّه قام بوظيفته الرسالية أحسن قيام ، والتقصير إنّما هو من قومه المعاندين.

وأمّا الثاني : أي دلالة الآية على عدم إعطاء النبي صلی اللّه علیه و آله أيّة معجزة ، فهو غفلة عن معنى الآية ، لما عرفت من أنّ الآية تمثل مدى اهتمام النبي بهداية قومه وتبين مقدار حرصه على إسلامهم ، وتهالكه في إسعادهم ، وانّه قد بلغ في ذلك الحرص

ص: 135


1- السجدة : 12.
2- ق : 22.
3- النمل : 80 - 81.
4- الميزان : 7 / 66.

مبلغاً لو استطاع أن يستخرج لهم من بطون الأرض أو من فوق السماء آية لفعل وأتى بها حتى يؤمنوا ، وعلى ذلك فالآية التي يتمنّاها النبي هي الآية التي تكون ملجئة لهم إلى الإيمان وتجرّهم إلى الإذعان من غير اختيار ، فمعنى الآية أيّها النبي قد بلغت في اهتمامك بهداية الناس مبلغاً ان قدرت وتهيأ لك أن تتخذ نفقاً في الأرض أو مصعداً في السماء فتأتيهم بآية وحجة تلجئهم إلى الإيمان وتجمعهم على ترك الكفر « لفعلت » أو « فافعل ذلك » ولو شاء اللّه « لجمعهم على الهدى » بالإلجاء وأعطاك تلك المعجزة الملجئة إلى الإيمان ، ولكن لم يفعل ذلك لأنّه ينافي الغاية المتوخاة من التكليف ويسقط استحقاق الثواب.

وإن شئت قلت : إنّ الآية تهدف إلى أنّه لا ينبغي للنبي أن يكبر ويشق عليه إعراضهم فانّ الدار دار الاختبار ، والدعوة إلى الحق وقبولها جاريان مجرى الاختيار ، وانّ النبي لا يقدر على الحصول على الآية الملجئة إلى الإيمان ، لأنّه سبحانه لم يرد من الناس الايمان إلاّ عن اختيار منهم ، فلم يعط للنبي آية تجبر الناس على الإيمان والطاعة ، ولو شاء اللّه لآمن الناس - على طريق الإلجاء - جميعاً ، والتحق هؤلاء الكافرون بالمؤمنين ولكن تلك المشيئة غير واقعة ، لأنّها على خلاف السنّة الحكيمة التي عليها أفعاله سبحانه.

وبذلك يتبين انّ الآية إنّما تنفي المعجزة الملجئة إلى الإيمان بقرينة قوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى ) لا المعجزة التي يكون الأفراد اتجاهها مختارين في الإيمان والكفر.

وبذلك يتبين مفاد كثير من الآيات الواردة حول الهداية والضلالة ، وربّما يتوهم منها الغافل الجبر في أمر الهداية ، قال سبحانه : ( وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (1).

ص: 136


1- السجدة : 13.

وهذه الآية نظير قوله سبحانه : ( فَالحَقُّ وَالحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) (1).

وهذه الآيات ونظائرها تفيد أنّ مشيئته سبحانه لم تتعلّق بهداية الناس أجمعين ، ولو تعلّقت لآمن كلّهم ، ولكن المشيئة المنفية في أمر الهداية هي المشيئة التكوينية التي لا تنفك عن المراد ، وتوجب إيمان الناس من غير اختيار. غير أنّه لما كان هذا الإيمان والإذعان لا قيمة له في عالم المعرفة لم تتعلّق مشيئته تعالى بهذا النحو من الهداية الجبرية ، بل ترك الناس أحراراً قال سبحانه : ( إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (2). وقال سبحانه : ( إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ) (3).

فقد خرجنا إلى هنا بهذه النتائج :

1. انّ المعجزة المنتفية هي المعجزة الملجئة لا المعجزة على الإطلاق.

2. انّ مشيئته التشريعية قد تعلّقت بهداية الناس جميعاً ، ولأجل ذلك بعث الأنبياء وجهّزهم بالدلائل والبراهين الكافية.

3. لم تتعلّق مشيئته التكوينية بهدايتهم ، لأنّ الإيمان عقيب هذه الإرادة إيمان قسري لا قيمة له.

نعم إنّ هاهنا سؤالاً صحيحاً ربّما يختلج في بعض الأذهان ، وهو أنّ الآيات الواردة حول اختيار الإنسان وإرادته تصرح بأنّ مشيئة الإنسان متوقفة على مشيئته سبحانه فليس لبشرٍ أن يختار أمراً أو يتبع سبباً خارجاً عن إطار إرادته سبحانه ومشيئته ، فالموجود الممكن بما أنّه ممكن ليس له أن يفعل أو يترك شيئاً خارجاً عن

ص: 137


1- ص : 84 - 85.
2- الإنسان : 29.
3- التكوير : 27 - 28.

إطار إرادته سبحانه ، وبذلك يصرّح سبحانه ويقول : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللّهُ ) (1) ويقول : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (2).

وعند ذلك يطرح هذا السؤال وهو : انّ اختيار من يختار الهداية على الضلال ، أو العكس ، تابع لمشيئته سبحانه فيعود الجبر والاضطرار ، فكيف الجواب ؟

غير انّ الإجابة على هذا السؤال واضحة لمن له إلمام بالآيات الواردة حول مشيئته سبحانه في القرآن الكريم ، فانّ تعلق مشيئته بهداية إنسان أو ضلالته ليس تعلقاً اعتباطياً ، بل مشيئته تكون في ضوء ما يميل إليه الإنسان في قرار نفسه فلو كان منيباً إلى ربّه وجاعلاً نفسه في معرض هدايته ومسير رحمته تتعلق مشيئته سبحانه بهدايته ، قال سبحانه : ( وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) ، أي من انعطف ورجع إليه سبحانه.

كما أنّ من أخلد نفسه إلى الأرض وامتنع من التخلص من آثار المادة فلا محالة تتعلق مشيئته بضلاله ، قال سبحانه : ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ) (3).

وقال سبحانه : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) وقال : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الفَاسِقِينَ ) (5). وقال سبحانه : ( فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ) (6).

ص: 138


1- الإنسان : 30.
2- التكوير : 29.
3- الأعراف : 175.
4- الصف : 5.
5- البقرة : 26.
6- المائدة : 13.

كل هذه الآيات تصرّح بوضوح بأنَّ مشيئته المتعلّقة بهداية الناس أو ضلالتهم إنّما تكون في ضوء ما يميل إليه العبد ، ويحصل العشق به في قرارة نفسه ، ولا يهدي اللّه سبحانه إلاّ من تعرّض لرحمته واستعد لهدايته ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ) (1).

الآية الخامسة
اشارة

قوله سبحانه : ( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) (2).

وقد استدل بعض المعاندين بالآية الرابعة من هذه الآيات على أنَّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله لم يكن مزوداً بأيّة معجزة قائلاً : بأنّه لو كان مزوّداً بها لما أجابهم القرآن بقوله : ( قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ ) بل يأمر نبيّه بالإتيان بها ويصرّح القرآن بها.

هذا اعتراض الكاتب ويعلم قيمته إذا قمنا بتفسير ما تهدف إليه هذه الآيات من المطالب فنقول :

ص: 139


1- العنكبوت : 69.
2- الأنعام : 106 - 111.

إنّه سبحانه قد أتى في مقام الرد على حلفهم بأنّهم ليؤمنن إذا جيئ بالآيات بأُمور خمسة ، وإليك شرحها :

1. ( قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ ) وهذه الجملة تهدف إلى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله ليس مفوضاً إليه أمر الإعجاز فيقوم به في أيّ وقت شاء ، بل هو يتبع إرادته سبحانه وإذنه ، وقد جاء مفاد الجملة في غير موضع من القرآن قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (1).

ومعلوم أنّ إذنه سبحانه موقوف على توفر شرائط في خرق العادة والإتيان بالمعاجز أهمها وجود استعداد للهداية في المقترحين والطالبين. وسيوافيك فقدان هذا الشرط في المقام.

2. ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) وهذه الجملة تهدف إلى أنّه ما يدريكم أنّ الآية التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وبما أنّ المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم فيتمنون مجيئ الآية ، فقال اللّه عزّ وجلّ رداً على تمنّيهم : بأنّهم ما يدريكم أنَّهم لا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أوَّل مرَّةٍ.

وما ذكره الكاتب من أنّ الإعجاز خرق للعادة والناس ينظرون إلى خارقها بنظر الإعجاز فيقتفون أثره عندما جاء فكيف يقول سبحانه : ( إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) جهل منه بتاريخ الأمم ، أو تجاهل به ، لقد كانت دعوة الأنبياء في كل العصور مزوّدة بالآيات والبيّنات ، ومع ذلك لم يؤمن بهم إلاّ قليل من الناس.

وهذا صالح نبي ثمود إذ دعا قومه إلى ترك عبادة الأوثان والأصنام وأتى لهم بآية باهرة ، وقال لهم : ( وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ

ص: 140


1- الرعد : 38.

أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (1). (2) ومع ذلك لم تؤمن به جمهرة قومه.

وهذا موسى الكليم إذ دعا فرعون وملأه إلى عبادة اللّه سبحانه ، فلم يؤمن به إلاّ قليل من السحرة ، وبقي الباقون على كفرهم وعنادهم حتى أدركهم الغرق وهم كافرون.

وقد أتى السيد المسيح إلى بني إسرائيل بالبيّنات والآيات ، فلم يؤمن به إلاّ تلاميذه.

فعند ذلك يظهر بطلان قول الكاتب بأنّ خرق العادة لا ينفك عن إيمان من رآه وسمعه.

3. ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (3).

الآية تفيد بأنّه كان للمشركين مع النبي موقفان ، موقف في بدء الدعوة ، وموقف بعدها وبعد الاقتراح ، فالآية تخبر النبي بأنّ موقفهم بعد الاقتراح حتى ولو رأوا الآيات هو موقفهم الأوّل ، وإليه يشير قوله : ( كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

وأمّا المراد من قوله : ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ) فهو بمنزلة التعليل لتساوي الموقفين ، فانّ اللّه تعالى قد قلب أفئدتهم وأبصارهم فلا يدركون الحقيقة ولا يرون الحق ، وقد فعل ذلك سبحانه لهم لا خصومة معهم ، بل هذا التقليب نتيجة عملهم وأثر أفعالهم ومواقفهم كما سيوافيك شرحه فيما بعد.

ص: 141


1- هود : 64 - 65.
2- وقريب منه ما ورد في سورة الأعراف لاحظ الآيات : 75 - 78.
3- الأنعام : 110.

4. ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ) (1). وهذه الآية تخبر عن عنادهم وشدة لجاجهم حتى ولو رأوا أكبر الآيات وأعظمها.

5. ( إِلا أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) (2). وهذه المشيئة مشيئة تكوينية لو تعلّقت بهداية الناس لم تنفك عن إيمانهم الاضطراري ولكنها لا تتعلّق أبداً ، وإن شئت مزيد توضيح فاقرأ ما يلي :

لقد مرّ في البحث عن الآية الرابعة أنّ مشيئته التشريعية تعلّقت بهداية وإيمان جميع الناس بلا استثناء ، وهذه الإرادة لا تستلزم جبراً ولا قسراً ، بل تترك الإنسان وما يختار. نعم لم تتعلق إرادته التكوينية بهداية الناس إلاّ من جعل نفسه في مسير رحمته ، وأناب إلى ربّه ، ولو تعلّقت إرادته التكوينية بهداية كل الناس هداية جبرية اضطرارية لم يكن لهذا الإيمان قيمة ولا وزن ، وإلى هذه الخصوصية أشار سبحانه في الآية الثانية من آيات مورد البحث بقوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكُوا ) أي لو شاءَ أن يتركوا الشرك قهراً وإجباراً لاضطرّهم إلى ذلك ، إلاّ أنّه لم يلجئهم إليه بما ينافي أمر التكليف ليستحقوا الثواب والمدح.

إلى هنا تبين مفاد الآيات وأنّ المقترحين لم يكونوا مستعدين للإذعان والإيمان حتى ولو رأوا أكبر الآيات ، وعند ذلك يكون الشرط المصحح لخرق العادة غير موجود.

ويزيد توضيحاً لذلك ما رواه المفسرون في شأن نزول الآيات حيث قالوا : إنّ قريشاً قالت للنبي صلی اللّه علیه و آله : اجعل لنا الصفا ذهبا ، وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل ؟! وأرنا الملائكة يشهدون لك أو ائتنا باللّه

ص: 142


1- الأنعام : 111.
2- الأنعام : 111.

والملائكة قبيلاً (1).

والرواية على فرض صحتها تصرّح بأنّهم لم يكونوا بصدد فهم الحقيقة وكشف الواقع ، لأنّ كثيراً من طلباتهم كانت من الأمور المستحيلة عقلاً ، كالإتيان باللّه والملائكة قبيلاً ، مضافاً إلى أنّ جعل الصفا ذهباً لا يخرج عن صورتين :

الأولى : أن يجعله ذهباً ويبقيه كذلك لحظات ثم يعود بالجبل إلى حالته الأولى.

الثانية : أن يجعله ذهباً ويتركه في متناول أيدي الناس ليستفيدوا منه.

أمّا الأولى : فلا شك أنّهم ينسبون عمل النبي صلی اللّه علیه و آله إلى السحر والشعوذة ، كما نسبوه إلى ذلك في غير موضع.

وأمّا الثانية : فهي تخالف سنن الخلقة والقوانين الحاكمة على الكون ، فإنّ اللّه تعالى خلق ذلك العنصر في مكامن الأرض وبواطنها ، وجعل طريق الحصول عليه هو السعي والاستخراج.

أضف إلى ذلك أنّ قيام النبي صلی اللّه علیه و آله بهذا الطلب يوجب أن تتوجه إليه طلبات كثيرة مماثلة ، وهذا يستلزم أن يترك النبي مهمته الرسالية ويشتغل بإجابة مقترحات الناس الناشئة من أهوائهم ، ومشتهياتهم.

حصيلة البحث

وحصيلة البحث من أوّله إلى هنا حتى يتبين سبب عدم قيام النبي بالمعاجز المقترحة هو أنّ القوم حسب ما يرشد شأن النزول وما يفيده قوله سبحانه في الآية الأخيرة : ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ

ص: 143


1- مجمع البيان : 2 / 349 ، وراجع الدر المنثور.

قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) (1) لم يكونوا يريدون كشف الحقيقة بل كانوا - لشدة عنادهم - يشكون في المشاهدات التي لا يشك فيها أحد ، فهم بلغوا في الشك والعناد بمنزلة يصفهم اللّه سبحانه بقوله : ( وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ) (2).

فإذا بلغ القوم إلى هذه الدرجة من العناد ، فأيّة معجزة يمكن أن تجلب إيمانهم ؟! ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

والخطاب للمؤمنين و ( مَا ) في ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ ) للاستفهام ، أي وما يدريكم أنّ الآية التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون ، يعني : أنا أعلم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون وأنتم لا تدرون بذلك ، ويقول في الآية التالية : ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (3). فهذه الآية تفيد بأنّهم كما لم يؤمنوا قبل رؤية الآيات المقترحة ، فهكذا لن يؤمنوا أيضاً بعد رؤيتها.

فقد بلغ عنادهم ولجاجهم إلى مرتبة صار سبباً لقلب أفئدتهم وأبصارهم في إدراك الحقائق ، فهم بسبب اتباع الهوى والإعراض عن سليم العقل ، صارت عقولهم وأفئدتهم لا تدرك الحقيقة ، فهم كما وصفهم اللّه سبحانه في آيات كثيرة حيث يقول : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ ) (4).

ص: 144


1- المائدة : 111.
2- الطور : 44 - 45.
3- الأنعام : 109.
4- النحل : 107 - 108.

ويصفهم أيضاً بقوله : ( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (1).

ويقول أيضاً : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) (2).

نعم انّ قلب الأفئدة والأبصار والطبع عليها ليس أمراً اعتباطياً بل هو نتيجة ما ترتكبه الطغاة من الأعمال ، وقد صرح بذلك القرآن في غير واحدة من الآيات قال سبحانه : ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) . (3) وقال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ) (4).

الآية السادسة

قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ) (5).

وهذه الآية تفيد أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان مجهزاً بآية معجزة غير القرآن ، ولذلك يقول : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ) بصورة التنكير ، ولو كان المراد هو الآية القرآنية لناسب تعريف الآية وتبديل ( جَاءَتْ ) ب « أنزلت ».

وقد استعملت الآية في القرآن في نفس المعجزة قال سبحانه : ( وَيَقُولُونَ

ص: 145


1- الأحقاف : 26.
2- محمد : 22 - 23.
3- غافر : 35.
4- المنافقون : 3.
5- الأنعام : 123 - 124.

لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) فإنّ المراد منها هو غير القرآن إذ لو كان المراد هو القرآن لما صح أن يقال : ( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) نافياً نزول القرآن ، إذ لا شك أنّ القرآن كان ينزل عليه آية بعد آية طوال سنين.

ثم إنّ القائل هم أكابر القوم بقرينة قوله : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ) وكانوا يترقبون أن يوهبوا نفس ما وهب رسل اللّه من المقام والنبوة كما يفيده قوله سبحانه : ( حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ) فأُجيبوا بقوله : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) وهو لا يصطفي للنبوة إلاّ من علم أنّه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم ولو لم يكن مطلوبهم ما ذكرناه لما صح هذا الجواب ، ولما ناسب هذا الرد ، وقد ذكر مطلوبهم هذا في بعض الآيات ، قال سبحانه - حاكياً عنهم ذلك الطلب - : ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (1) وقد أُجيبوا هناك أيضاً بنفس ما أُجيبوا به هنا قال سبحانه : ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (2).

ويؤيد ذلك ما ذكره المفسرون في شأن نزول الآية إذ قالوا : نزلت في الوليد بن المغيرة قال : واللّه لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك ، لأنّي أكبر منك سناً ، وأكثر مالاً. وقيل : نزلت في أبي جهل بن هشام ، قال : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منّا نبي يوحى إليه ، واللّه لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه (3).

ص: 146


1- الزخرف : 31.
2- الزخرف : 32.
3- الكشاف : 1 / 526 ، مجمع البيان : 2 / 361.
الآية السابعة

قوله سبحانه : ( وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ) (1).

وهذه الآية تشعر بأنّ القوم طلبوا من النبي آية معجزة غير القرآن ، ولكن النبي أجابهم مكان الإتيان بها بقوله : ( فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ) .

غير أنّ الآية على خلاف مقصود المستدل أدل ، فإنّ النبي لم يرد طلبتهم ، بل إنّما أمرهم بالصبر والانتظار ، وقد جاءت في الآية السادسة والأربعين من نفس السورة أنّه سبحانه وعد نبيّه بأنّه سوف يريه بعض ما يعدهم من المعجزات قال سبحانه : ( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ) .

وعلى ذلك فلم يرد النبي طلبهم إنّما أمرهم بالصبر ، ووجه ذلك : أنّهم إنّما طلبوا معجزة أُخرى غير القرآن تحقيراً لشأنه واستخفافاً به لعدم عدّه آية إلهية ، ولأجل ذلك أمر نبيَّه بأن يقول لهم : ( فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ ) وإنّ الآيات المعجزة بيد اللّه سبحانه وليست بيدي ( فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ) .

وهذه الآية تفيد أنّ النبي كان ينتظر آية معجزة فاصلة بين الحق والباطل غير القرآن قاضية بينه وبين أُمّته ، وأنّه سبحانه وعده بأنّه ربّما يريه بعض ما يعده كما مرت الآية.

قال في الكشاف : أرادوا آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات دقيقة

ص: 147


1- يونس : 20.

المسلك من بين المعجزات وجعلوا نزولها كلا نزول ، وكأنّه لم ينزل عليه آية قط ، حتى قالوا : ( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وانهماكهم في الغي (1).

فإذا كان الطلب سبباً لتحقير أكبر معجزة من معاجز النبي وازدراءً له لم يصح للنبي أن يقوم بطلبهم بالإعجاز ، لأنّ في تلك الإجابة في ظرف الطلب ضرباً من الموافقة على تحقيرهم للقرآن ، وقرينة المقال تدل على أنّ النبي كان آيساً من هدايتهم ، فلم يكن هناك أيُّ موجب في منطق العقل أن يقوم النبي بالإعجاز أو يمكّنه اللّه من القيام بمطلوبهم.

وقد جاء في القرآن تصريحات عن القوم بأنّهم كانوا يحقرون أمر القرآن قال سبحانه : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (2) وقال أيضاً : ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ العَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (3).

ومثل هذه العصابة التي تقابل القرآن الكريم بمثل هذا الموقف المتعنت الجاهل ، وتواجه تلك المعجزة الكبرى والآية الباهرة بمثل هذا التحقير والازدراء. لا تستحق جواباً أحسن من قوله سبحانه : ( فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ) .

ص: 148


1- الكشاف : 1 / 70.
2- يونس : 15.
3- يونس : 37 - 38.
الآية الثامنة

قوله سبحانه : ( وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِن رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (1).

المراد من الآية هو الآية القرآنية لا الآية المعجزة غير القرآن التي هي محور البحث ، والمقصود من الاجتباء هو الجمع ، وعلى ذلك فالآية خارجة عمّا نحن بصدده.

غير أنّ مفاد الآية هو الرد على كلامهم الجاري مجرى التهكّم والسخرية ، حيث إنّهم قالوا في حق النبي صلی اللّه علیه و آله - عندما كان الوحي يتأخر عليه لمصالح - : ( لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ) أي لولا اجتبيت ما تسمّيه آية من هنا وهناك فأتيت بها ، فأجابهم القرآن بأن يقول النبي لهم : ( إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِن رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ترى ماذا يفعل النبي بقوم إذا أتاهم بآية قرآنية قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، وإذا أبطأ عليه الوحي لمصالح قالوا : ( لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ) فكل ذلك يدل على أنّ موقف القوم لم يكن موقف الاهتداء وتحري الحقيقة.

الآية التاسعة

قوله سبحانه : ( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُسْلِمُونَ ) (2).

ص: 149


1- الأعراف : 203.
2- هود : 12 - 14.

ربّما ينقدح في ذهن القارئ الكريم سؤالان حول الآية الأولى من هذه الآيات :

الأوّل : لماذا تنسب الآية إلى النبي صلی اللّه علیه و آله احتمال ترك بعض ما يوحى إليه ، أو ليس هذا مخالفاً لعصمته صلی اللّه علیه و آله ؟

الثاني : لماذا لم يجب النبي صلی اللّه علیه و آله سؤال قومه من إنزال الكنز ، والمجيئ بالملك ، بل أجابهم بأنّه ليس إلاّ نذير ، واللّه على كل شيء وكيل ؟

أمّا الجواب عن السؤال الأوّل - وإن كان خارجاً عن موضوع البحث - فحاصله : إنّ اللّه تعالى يخاطب في قرآنه نبيه بكلام يناسب مقتضى الطبيعة البشرية ويلقي إليه خطابه مع قطع النظر عن الخصوصيات الموجودة في المخاطب والمخاطب ( بالفتح ).

ويدل على ذلك أنّ اللّه سبحانه مع أنّه عالم بكل شيء ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ ) (1) يستعمل لفظة « لعلَّ » الموضوعة للترجي الذي لا ينفك عن وجود الشك والترديد في المتكلم وليس ذلك إلاّ لأنّ الخصوصيات الموجودة في المتكلم ، أعني : علمه الواسع المحيط بكل شيء ، غير ملحوظة في المقام.

ومثله مخاطبة النبي ، فالنبي بما أنّه رسول معصوم لا يترك شيئاً من رسالته لا يخاطبه سبحانه في هذه الآية بل يخاطبه بما أنّه بشر ألقي إليه كلام ثقيل ورسالة شاقة ، وحيث إنّ طبيعة مثل هذه الرسالة الثقيلة تلازم احتمال أن يترك حاملها بعض ما وضع على عاتقه ، يعود المتكلم لأجل تقوية عزمه يخاطبه بقوله : ( ولعلك تارك بعض ما يوحى إليك ) وليس الهدف الاخبار عن وقوع مثل هذا الخلل أو ذم مخاطبه وتوبيخه وإنّما يريد تقوية عزمه ، وشدَّ أزره.

ص: 150


1- سبأ : 3.

وإن شئت قلت : إنّ الرسالة الإلهية لما كانت ملازمة مع المتاعب والمشاق ، وكان في مثل هذا الموقف أرضية أن يترك المخاطب بعض ما أُمر به ، صح للمتكلم أن يخاطبه بتلك العبارة مستلهماً ذلك من طبيعة العمل وصعوبته ، وما يكتنفه من المتاعب.

وفي الحقيقة ليس الموجب لهذا الخطاب إلاّ ملاحظة طبيعة العمل ذاته ، لا المخاطب بما يتمتع به من الخصوصيات والمؤهلات.

وهذه القاعدة جارية في كل ما يخاطب به اللّه نبيه بما لا يناسبه وعصمته وعلو همته ، وهذا واضح لمن عرف القرآن وامتزج به روحه وعقله ، وإليك نموذجاً من ذلك.

أنا نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيه بلحن يلازم احتمال الشك والترديد في ذهن النبي بالنسبة إلى رسالته ويقول : ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (1).

نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيه بجمل تشعر بوجود الشك والريب في نفس النبي بالنسبة إلى رسالته ، ولكن هذا الاحتمال سرعان ما يزول إذا علمنا أنّ الخطاب من هذا النوع يكون مع قطع النظر عن الخصوصيات الموجودة في المخاطب ( بالفتح ) من العلم القاطع بنبوته ورسالته ، والعصمة عن أيّ شك أو تكذيب.

أضف إلى ذلك أنّ الخطابات القرآنية تجري مجرى « إيّاك أعني واسمعي يا جارة » الذي يجري عليه فصحاء العرب وبلغاؤهم ، بل هو أصل رصين في المسائل التربوية حيث إنّ المربي الحكيم إنّما يتحاشى توجيه النقد إلى الغرباء مباشرة بل

ص: 151


1- يونس : 94 - 95.

يوجه النقد إلى نفسه وولده وأقربائه حتى ينبه بذلك أذهان الغرباء بأنّه يجري على هذا النمط مع غيرهم أيضاً ، فإذا هو تعامل مع نفسه وولده وأقربائه بما جاء في كلامه فغيرهم أولى بذلك.

ويؤيد هذا الأمر ما في الآية الماضية أنّه سبحانه وجّه خطابه إلى غير النبي بمثل المضمون الوارد في الآية المتقدمة ، قال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1).

فالهدف من خطاب النبي صلی اللّه علیه و آله بسؤال علماء الكتاب إنّما هو ترغيب غيره في سؤال علمائهم ، مشعراً بذلك بأنّ إحدى الطرق للتعرّف على صحة نبوة المدّعي هو تصريح النبي السابق على نبوّة النبي اللاحق باسمه ووصفه وعلائمه وسائر خصوصياته ، وقد جاءت خصوصيات النبي بما لا يدع للمراجع للعهدين أي شك وريب ، وكان علماء أهل الكتاب يعرفون تلك الخصوصيات ومواضعها فيهما ويعرفون النبي الخاتم كما يعرفون أبناءهم قال سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (2).

ونظير قوله سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (3).

فليست في هذه الخطابات أيّة دلالة على شك النبي وتردّده في رسالته ، وليست في أُختها أيّة دلالة على ذم النبي وتوبيخه ، وإنّما يعرف ذلك من عرف كيفية خطابات اللّه سبحانه في كلامه.

ص: 152


1- النحل : 43.
2- البقرة : 146.
3- الأنعام : 20.

هذا كله حول السؤال الأوّل وإليك الجواب عن السؤال الثاني.

إنّ الإجابة عن اقتراحهم بقوله : ( إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) لأجل أُمور نشير إليها :

أوّلاً : أنّ الظاهر من نفس الآيات أنَّ المقترحين لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة وتحرّي الواقع ، بل ما زالوا يعاندون النبي ويعادون دعوته ، إذ لو لم يكونوا بهذا الصدد لما عدلوا عن المعجزة الكبرى إلى طلب الكنز ، ومجيئ الملك معه ، وإلى هذا الجواب يشير سبحانه بقوله : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُسْلِمُونَ ) (1).

فأيّ معجزة أكبر من القرآن الكريم الذي كلّت عن فهمه الأذهان ، وعجز عن مباراته البلغاء.

ثانياً : أنّ القيام بمقترح القوم ( أعني : نزول الكنز ) يتصور على نوعين :

فأمّا أن يكون مطلوبهم نزول الكنز وبقاءه لحظة أو لحظات ، وهذا لا يكفيهم ولا يسكتهم بل سرعان ما يتهم القوم النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله بقولهم : ( إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) (2) كما اتّهموه في غير هذا المورد ، وسيوافيك بيانه في المستقبل.

وإن كان مطلوبهم بقاء الكنز معه أبداً طيلة عمره ، وانتفاعه وانتفاع قومه من هذا الكنز وصيرورة النبي ذا ثروة طائلة فهذا نوع اعتراف بمنطقهم حيث قالوا : ( لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (3).

ص: 153


1- هود : 13 - 14.
2- الحجر : 15.
3- الزخرف : 31.

كما أنّ مجيئ الملك مع النبي صلی اللّه علیه و آله يتصور على صورتين :

إمّا بصورة الإنسان.

وإمّا بصورته الواقعية.

والصورة الأولى على فرض تحقّقها - لا تؤدي إلى إيمانهم وإذعانهم - بل سيتصورون الملك إنساناً عادياً مع النبي.

والصورة الثانية غير ممكنة لأنّ رؤية الملك تتوقف على شرائط غير موجودة فيهم. ولا يمكن للإنسان العادي رؤيته بشكله الواقعي.

أضف إليه أنّ نزول الملك مع النبي مع تكذيب القوم له يوجب نزول العذاب ، وقد جرت عليه سنة اللّه سبحانه في الأمم الماضية ، وسيوافيك التصريح به في الأبحاث الآتية.

ثالثاً : أنّ قوله : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ) غير ناف للإتيان بالإعجاز ، أو عدم مقدرته عليه ، وإنّما يشير إلى أنّ إعجاز النبي يتوقف على إذن منه سبحانه ، فلولا إذنه لما جاز للنبي صلی اللّه علیه و آله أن يقوم به. قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (1).

ولذلك ختم كلامه في الآية المبحوث عنها بقوله : ( وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) .

الآية العاشرة ، والحادية عشرة

قال سبحانه : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (2).

ص: 154


1- الرعد : 38.
2- الرعد : 7.

وقال سبحانه : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) (1).

وطريق الاستدلال بهاتين الآيتين على أنّ النبي لم يكن مزوّداً بمعجزة غير القرآن هو ما تقدم في الآيات السابقة ، غير أنّ الآيتين تهدفان إلى حقيقة ناصعة قد أوضحناها عند البحث عن مسوغات الإتيان بالمعجزة وهي :

إنّ المقام لم يكن مقام الإتيان بالإعجاز حتى يقوم به النبي إذ للقيام به شرائط وهي غير موجودة.

أمّا أوّلاً : فلأنّ القوم قد بلغوا في العناد واللجاج مقاماً يصورهم اللّه سبحانه بقوله : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى بَل لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) (2).

فإذا بلغ عناد القوم إلى درجة لا يوجب قلع الجبال من أساسها إيماناً ولا يوجب إحياء الموتى وتكليمهم أو تقطيع الأرض قطعاً ، إذعاناً لهم ، فكيف يفيدهم غير هذه الأمور ؟

وثانياً : أنّ الآيتين تهدفان إلى ما تكرّر منّا في الأبحاث الماضية من أنّ أمر الإعجاز بيد اللّه سبحانه ، ولا يقدر النبي على شيء إلاّ بإذنه سبحانه ، كما قال تعالى في نفس السورة : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) فعلى ذلك فقوله : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) يرشد إلى أنّ الوظيفة الأساسية للنبي هو الإنذار ، وأمّا الإتيان بالمعجزة فليس من شأنه القيام به في كل يوم وساعة وعند كل طلب واقتراح.

ونفي الإعجاز بهذا المعنى لا يستلزم نفي صدور المعجزة عن النبي صلی اللّه علیه و آله بتاتاً عند اجتماع الشرائط.

ص: 155


1- الرعد : 27.
2- الرعد : 31.
الآية الثانية عشرة

قال سبحانه : ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إِلا بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنظَرِينَ ) (1).

وطريق الاستدلال مثل ما مر في الآيات السابقة ، غير أنّ هذه الآيات لا تهدف إلى ما رامه المستدل.

أمّا أوّلاً : فلأنّ عدم قيام النبي صلی اللّه علیه و آله بالإعجاز والإتيان بمقترحات القوم لأجل أنّ القوم لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة ، وتحرّي الواقع إذ يقول فيهم سبحانه في نفس تلك السورة : ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) (2) فإذا بلغ عناد القوم إلى هذه الدرجة حيث زعموا أنّ عروجه إلى السماء ليس إلاّ سَكَراً أو سحراً ، فما ظنّك بغيره ! فلو قام النبي بأيّ مقترح للقوم لقالوا فيه ما قالوه بل أعظم منها.

وثانياً : انّ القوم اقترحوا على النبي أن يأتيهم بالملائكة والإتيان بهم كما مر يتحقّق على صورتين :

الأولى : الإتيان بهم بصورة الإنسان وهو لا يؤدي إلى إيمانهم لأنّهم يتصورونه بشراً عادياً.

الثانية : الإتيان بهم في صورهم الواقعية وهم غير مؤهلين لرؤيتهم.

أضف إلى ذلك أنّه يستفاد من الآيات أنّه جرت سيرة اللّه سبحانه في الأمم الماضية على أنّ نزول الملائكة وتكذيبهم يوجب نزول العذاب ، ولأجل ذلك قال

ص: 156


1- الحجر : 6 - 8.
2- الحجر : 14 - 15.

سبحانه في نفس الآيات : ( مَا نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إِلا بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنظَرِينَ ) (1). ويقول سبحانه : ( يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) (2) وهذه الآية ، وإن كانت واردة في شأن يوم القيامة إلاّ أنّها تشير إلى أنّ رؤية الملائكة لا يعد أمراً مباركاً للمجرمين بل يكون سبباً لعذابهم.

ثالثاً : انّ القوم طلبوا من النبي صلی اللّه علیه و آله أن يأتي إليهم مع الملائكة ، مع أنّه سبحانه قد بعث رسلاً قبله ولم يكونوا إلاّ بشراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، ولم يكن معهم ملك ، وإلى ذلك يشير سبحانه بقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ) (3).

على أنّه يستفاد من بعض الآيات أنّ مطلوب القوم كان نزول الملائكة عليهم كما يحكيه عنهم بقوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ) (4).

وعلى ذلك فقد كان مطلوب القوم نزول الملائكة عليهم والاتصال بالمبدأ الأعلى ولا يمكن للنبي القيام بمطلوبهم.

الآية الثالثة عشرة

قال سبحانه : ( وَمَا مَنَعَنَا أَن نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا

ص: 157


1- الحجر : 8.
2- الفرقان : 22.
3- الفرقان : 20.
4- الفرقان : 21.

ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) (1).

استدل بعض الكتاب بهذه الآية بنفس ما تقدم في نظائرها.

والمراد بالآيات هو المقترحات الستة الواردة في تلك السورة في الآيات 90 إلى 93 ، وسوف يوافيك البحث عن تلكم الآيات المقترحة في البحث الآتي. وأمّا توضيح هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها.

فنقول : يمكن تفسيرها بوجهين :

أحدهما : ملاحظة نفس الآية بما فيها من الكلمات.

الثاني : دراستها بملاحظة الآيات الأخر التي وردت في هذا المضمار.

أمّا الأوّل : فالتدبّر في كلمة ( إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) يعطي أن الامتناع من نزول الآيات إنّما هو لأجل أنّ المقترحين كانوا يشابهون الأمم السابقة في الخلق والعناد ، فلهم ما لأوّليهم من الحكم حيث كانوا يقولون : ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ ) (2) وكانوا يقولون : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُقْتَدُونَ ) (3).

وعلى ذلك فلا فائدة في إرسال تلك الآيات لأنّهم لا يؤمنون بها ، فيكون إنزالها عبثاً لا فائدة فيها ، كما أنّ من قبلهم لم يؤمنوا عند إنزال الآيات (4).

وقد عرفت في مفتتح البحث أنّ القيام بالإعجاز ليس أمراً اعتباطياً بل يتوقف على وجود شرائط في المقترح التي منها الاستعداد والتهيؤ للإيمان

ص: 158


1- الإسراء : 59.
2- المؤمنون : 24.
3- الزخرف : 23.
4- مجمع البيان : 3 / 423.

والتصديق ، وإذا كان القوم يشبه آخرهم أوّلهم في العناد واللجاج فلا جدوى في الإعجاز.

ويؤيد ذلك المعنى ما قاله سبحانه في ذيل الآية : ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ) مشيراً بذلك إلى أنّ القوم إخوان من سبقهم من ثمود ، حيث رأوا آية مبصرة بيّنة فظلموا أنفسهم بالتكذيب بتلك البينة الواضحة.

وينبئ عن هذا المعنى ذيل الآية : ( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) أيْ لا نرسل الآيات التي نظهرها على الأنبياء إلاّ عظة للناس وزجراً وتخويفاً لهم من مخالفة اللّه إن لم يؤمنوا ، غير أنّ هذا الشرط مفقود في هذه الزمرة فلا فائدة في القيام بالإعجاز.

وعلى ذلك فالمقاطع الثلاثة في الآية تشهد على أنّ الامتناع من القيام هو اليأس من حصول الإيمان وتأثير الإعجاز في قلوبهم ، وإليك هذه المقاطع الدالة على ما ذكرنا :

1. ( أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) : والتعبير عن الأمم الهالكة بالأوّلين يشير إلى كون الآخرين امتداداً لهم ولفكرتهم وطريقتهم ، وفي كل وادٍ أثر من ثعلبة.

2. ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ) مشيراً إلى أنّ القوم يشبهون قوم ثمود في تكذيب الآيات والظلم بها وبأنفسهم.

3. ( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) مشيراً إلى أنّ الهدف من القيام بالآيات عظة الناس وزجرهم ودفعهم إلى الإذعان والإيمان.

وأمّا الثاني : أعني تفسير الآية بملاحظة بعض الآيات الواردة في هذا المضمار فإنّ القرآن يحكي بأنّ القوم ربّما كانوا يطلبون العذاب من النبي ، قال سبحانه : ( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ

ص: 159

أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1).

ولا ريب أنّ الهدف من نزول الآية هو دفع القوم إلى الإيمان لا أبادتهم وإهلاكهم ، فمثل هذه إلآية تضاد هدف الإعجاز وغايته ، فليس من البعيد أن يكون الامتناع من المجيئ ببعض الآيات هو لأجل أنّ مقترحهم كان إهلاكهم وإبادتهم ، ولعلّه إلى ذلك يشير قوله : ( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) أي عظة للناس وزجراً لا إهلاكاً وإبادة.

على أنّه يمكن أن يكون مقترحهم بعض الآيات التي يوجب تكذيبها نزول العذاب ، فإنّ القرآن يحكي لنا عن وجود تلك السنّة في بعض المعاجز ( لا كلّها ) قال سبحانه : ( كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) (2).

ولعله إلى هذا الجانب من هدف الآية يشير قوله : ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ) حيث إنّ من المعلوم أنّ قوم ثمود عمَّهم العذاب لما قاموا بتكذيب الآية (3).

هذا هو مفاد الآية بملاحظة نفسها ، وبملاحظة أخواتها ، فمن أين يستدل بها الكاتب على أنّ النبي الأكرم كان غير مزود بمعجزة غير القرآن ؟!

الآية الرابعة عشرة

قال سبحانه : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ

ص: 160


1- الأنفال : 32.
2- الزمر : 25.
3- وقد روى صاحب البرهان في تفسيره عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنّه قال : « وكنّا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا أهلكناهم ، فلذلك أخّرنا عن قومك الآيات ». ( البرهان : 2 / 224 ).

النَّاسِ إِلا كُفُوراً * وَقَالُوا لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً ) (1).

استدل الكاتب المسيحي بأنّ نبي الإسلام لما طولب بالمعجزة أظهر العجز قائلاً بأنّه ليس ( إِلا بَشَراً رَسُولاً ) .

هذا مبلغ معرفته بمعالم الآية وأهدافها ، وقد نسب إلى النبي هذا المضمون من دون أن يتدبّر في الآيات المقترحة وأنّها هل كانت جامعة للشرائط التي نوّهنا بها في مستهل البحث أو لا ؟ وأنّه هل كان صحيحاً في منطق العقل القيام بها أو لا ؟ ولا يظهر وجه الحقيقة إلاّ بدراسة كل واحدة من هذه الآيات. فنقول : إنّ مقترحات القوم كانت تدور بين أُمور هي :

1. تفجير ينبوع من الأرض لهم.

2. أن تكون للنبي جنة من نخيل وعنب وتجري الأنهار خلالها بتفجير منه.

3. أن يسقط السماء عليهم كسفاً.

4. أن يأتي باللّه والملائكة قبيلاً.

5. أن يكون للنبي بيت من زخرف.

6. أن يرقى في السماء ، ولا يكفي ذلك حتى ينزل كتاباً عليهم من السماء.

هذه هي مقترحات القوم ، وإليك دراسة كل واحد منها.

أمّا الأوّل : فلأنّ القيام بهذا الأمر يتنافى مع سنّة اللّه الحكيمة في الحياة

ص: 161


1- الإسراء : 89 - 93.

البشرية التي استقرّت على أن يصل الناس إلى معايشهم ومآكلهم ومشاربهم ومآربهم من طريق السعي والجد تكميلاً لنفوسهم وتربية لعزائمهم ، فإذا كان مطلوب القوم أن يفجر لهم النبي ينبوعاً وعيناً لا ينضب ماؤها حتى تتبدّل أراضيهم القاحلة إلى الأراضي الطيبة الصالحة للزرع والغرس ، فهو على خلاف تلك السنّة الحكيمة التي نلمسها في الحياة الإنسانية ، وعلى ذلك نزل الذكر الحكيم قال سبحانه : ( وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى ) (1).

نعم ربما تقتضي بعض الأحوال والظروف أن يقوم النبي - لإبقاء حياة قومه - ببعض المعاجز التي بها تستديم حياتهم كما نرى ذلك في حياة بني إسرائيل ، فإنّ موسى استسقى لقومه لما شكوا إليه من الظمأ فأوحى اللّه تعالى إليه أن : ( اضْرِب بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ) (2).

ولا يعد مثل ذلك نقضاً للسنّة العامة المذكورة فإنّ حياة بني إسرائيل في التيه كانت حياة خاصة حرجة غير مشابهة لحياة الأقوام الأخرى الذين يقدرون على معايشهم بيسر وسهولة وكسب وكدح ، ولأجل ذلك نرى أنّ رحمته سبحانه شملتهم بوجوه متعددة حكاها اللّه سبحانه في القرآن الكريم قال تعالى : ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (3).

فلأجل الشرائط الحرجة الاستثنائية التي كان يمر بها بنو إسرائيل ، خصّهم سبحانه بالنعم المذكورة في هذه الآيات ، وعندما تمكن بنو إسرائيل من تحصيل النعم بالكد والكدح ، وسوَّغت الظروف قيامهم برفع حوائجهم بأنفسهم تركهم

ص: 162


1- النجم : 39.
2- البقرة : 60.
3- البقرة : 57.

وشأنهم وطلب منهم القيام بذلك بأنفسهم بالكسب والتعاون ، قال سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَا سَأَلْتُمْ ) (1).

فقوله سبحانه : ( فَإِنَّ لَكُم مَا سَأَلْتُمْ ) يرشد إلى أنّ التنوّع الذي طلبوه من الكليم لن يحصل إلاّ بقيامهم بالدخول في مصر ، وتحصيلها منها بالأسباب الطبيعية ، لأنّ الذي يفرض على النبي أن يقوم - للإبقاء على حياة قومه - إنّما يتقدر بقدر الضرورة وهو الطعام الواحد ، وأمّا الزائد على ذلك فلا يحصل إلاّ عن طريق المجاري الطبيعية ، والأسباب المتعارفة.

ولا تقاس تلك الظروف بالأحوال الحاكمة على أرض مكة وسكانها حيث يحكي عنهم سبحانه : ( وَقَالُوا إِن نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (2).

وهذا البحث أسفر عن أنّ سؤالهم الوارد في المقطع الأوّل كان على وجه لا يصح للنبي القيام به لمخالفته للسنّة الإلهية الحكيمة في الكون والحياة البشرية.

أمّا الطلب الثاني : أعني : كون النبي مالكاً لجنة من نخيل وعنب ويفجر الأنهار خلالها تفجيراً ، فليس هذا إلاّ تصوراً باطلاً في شأن النبي من أنّه يجب أن يكون رجلاً غنياً ذا ثروة طائلة ، وقد حكى عنهم سبحانه تلك المزعمة بقوله : ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (3).

ص: 163


1- البقرة : 61.
2- القصص : 57.
3- الزخرف : 31.

فالإجابة على ذلك السؤال نوع اعتراف بتلك المزعمة ، على أنّه يجب أن يكون بين المطلوب والرسالة رابطة عقلية يستدل بالأوّل على الثاني ، وهذا الشرط غير موجود في ذلك السؤال ، إذ كون الرجل ذا ثروة لا يستدل به على صحة قوله وصدق نبوته ورسالته ، وإلاّ يجب أن يكون أصحاب الثروات أنبياء إذا ادّعوا النبوة والرسالة.

وأمّا الطلب الثالث : أعني قولهم : ( أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) فقولهم : ( كَمَا زَعَمْتَ ) يعنون به قوله تعالى : ( إِن نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ (1) ) غير أنّ القيام بهذا الاقتراح يضاد هدف الإعجاز ، فإنّ الغاية من خرق الطبيعة هي هداية الناس إلى الدين ، ولو كانت نتيجة الإعجاز أبادتهم وإهلاكهم لزم نقض الغرض.

وأمّا الطلب الرابع : أعني قولهم : ( أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) والمراد من قوله : ( قَبِيلاً ) أي كفيلاً بما تقول ، شاهداً بصحته ، والمعنى : أو تأتي باللّه قبيلاً وبالملائكة قبيلاً. ويمكن أن يكون المراد منه مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر ، وهذه الآية بمنزلة قولهم حيث حكى عنهم سبحانه بقوله : ( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ) (2). ومن المعلوم أنّ مقترحهم أمر محال ، فإنّ طلب رؤية اللّه المجرد عن المكان والزمان بهذه الأبصار المادية أمر غير ممكن ، وهو تعالى يصف نفسه بقوله : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (3). ومثله طلب رؤية الملائكة بأشكالهم الواقعية ، كما أوعزنا إليه غير مرة.

ص: 164


1- سبأ : 9.
2- الفرقان : 21.
3- الأنعام : 103.

وأمّا الطلب الخامس : أعني قولهم : ( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ ) فيرد بما ردّ به سؤالهم الثاني.

وأمّا الطلب السادس : أعني قولهم : ( أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) .

فلحن السؤال يدل على عنادهم وتعنّتهم ، إذ لو كان هدفهم من الطلب هو الاستهداء فيكفي طلبهم الأوّل ، أعني : رقي النبي إلى السماء ولم تكن حاجة لقولهم ( وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) .

وهذه التحليلات العقلية ترشدنا إلى أنّ عدم قيام النبي بهذه الطلبات والمقترحات إنّما هو لأجل فقدان مقتضى الإجابة ، أو لأجل وجود مانعها.

فلننظر بماذا أجابهم سبحانه ، نرى أنّه سبحانه ردّ على طلباتهم بأمره النبي أن يقول لهم : ( سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً ) والدقة في هذه الجملة القصيرة ترشدنا إلى الأمور التالية :

قوله تعالى : ( سُبْحَانَ رَبِّي ) فهو يهدف إلى تنزيهه سبحانه عن الرؤية والمجيئ اللّذين طلبهما القوم حيث قالوا : ( أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ ) ، كما أنّه يرمي إلى أنّ مشيئته سبحانه لا تتعلق بالمحال الذاتي كما لا تتعلق بالأمر الممكن إذا كان على خلاف الحكمة ، حيث طلبوا منه إهلاكهم وإبادتهم مع أنّهم خلقوا للاهتداء والتكامل لا للإبادة والهلاك.

وأمّا قوله : ( بَشَراً رَسُولاً ) فيهدف لفظهما إلى أنّ القيام بهذه الطلبات يحتاج إلى قدرة قاهرة غير متناهية وهي خارجة عن إطار القدرة البشرية ، ولست أنا إلاّ بشراً وأمّا القيام بها بما أنّي رسول فيتوقف على إذنه سبحانه المنتفي هنا لما ذكرنا من العلل.

ص: 165

فقيام المسؤول بهذه الطلبات أمّا بلحاظ أنّه بشر ، أو بلحاظ أنّه رسول ، فإن كان باللحاظ الأوّل ، فقدرة البشر قاصرة عن القيام بهذه الأمور ، وإن كان باللحاظ الثاني ، فهو موقوف على إذنه سبحانه.

قال العلاّمة الطباطبائي : أمره سبحانه أن يجيب عمّا اقترحوه عليه وينبههم على جهلهم ومكابرتهم في ما لا يخفى على ذي نظر ، فإنّهم سألوه أُموراً عظاماً لا يقوى على أكثرها إلاّ القدرة الغيبية الإلهية ، أضف إلى ذلك أنّ فيها ما هو مستحيل بالذات ، كالإتيان باللّه والملائكة ، ولم يرضوا بهذا المقدار دون أن جعلوه هو المسؤول المتصدّي لذلك ، المجيب لما سألوه ، فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك أن يفعل كذا وكذا ، بل قالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر أو تسقط السماء أو تأتي باللّه أو ترقى و ... ، فإن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر ، فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية المحيطة ؟! وإن أرادوا منه ذلك بما أنّه يدّعي الرسالة ، فالرسالة لا تقتضي إلاّ حمل ما حمّله اللّه من أمره وبعثه لتبليغه بالإنذار والتبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه ، وإقداره على أن يخلق كل ما يريد ، ويوجد كل ما شاءُوا ، وهو صلی اللّه علیه و آله لا يدعي لنفسه ذلك ، فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح (1).

الآية الخامسة عشرة

قوله سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِن رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى * وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ) (2).

والاستدلال بهذه الآية على مراد المستدل على غرار ما تقدم.

ص: 166


1- الميزان : 13 / 203.
2- طه : 133 - 134.

غير أنّ الاستدلال بها على مطلوبهم غير صحيح جداً ، فإنّ عدم القيام بما كانوا يقترحونه من الآية كان لأجل العلة التالية : أنّهم إنّما اقترحوا آية على النبوة - على عادتهم في التعنت - تحقيراً للمعجزة التي أعطاها لنبيه ، فلأجل ذلك نرى أنّ القرآن يجيبهم بقوله :

( أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى ) أي أو لم تأتكم آية هي أُمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز ، وهو القرآن ، فهو برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته عند الموافقة ، لأنّه معجزة وتلك ليست بمعجزات فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها ، افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة.

ويمكن أن تكون الجملة مشيرة إلى معنى آخر وهو : أنّه سبحانه يذكرهم بقوله : أو لم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب الأولى من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها ، فماذا يؤمّنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية كحال أُولئك ؟

فعلى المعنى الأوّل فعلّة الامتناع من الإتيان بآية أُخرى هو أنّهم كانوا بصدد تحقير المعجزة الكبرى ، فإذا لم يبصروا بها فلا يبصرون بغيرها.

وعلى المعنى الثاني تشير الجملة إلى أنّ الآية لو أتتهم لكذبوها فيعمّهم العذاب ويشملهم البلاء ، وقد عهد سبحانه أن لا يعذبهم ونبيّه فيهم ، قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) (1).

ثم أي فائدة لمعجزة توجب إبادة القوم وإهلاكهم ؟!

الآية السادسة عشرة

قوله سبحانه : ( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ

ص: 167


1- الأنفال : 33.

كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) (1).

نرى أنّ أعداء النبي صلی اللّه علیه و آله رموا قرآنه ومعجزته الكبرى بكونه أضغاث أحلام وتجاوزوا ذلك فاعتبروها فرية اختلقها ونسبها إلى اللّه سبحانه ، ثم استقر رأيهم على أنّه قول شاعر ، وهذا قول المتحيّر الذي بهره ما سمع فمرّة يقول : « حلم » وتارة يقول : « فرية » ، وأُخرى بأنّه : « شعر » ولا يجزم على أمر واحد من هذه الأمور ، فلأجل ذلك يعرض عن الجميع ويستدعي أن يأتي النبي صلی اللّه علیه و آله إليه بآية كما أتى الأوّلون من الأنبياء مثل الناقة والعصا.

ذلك مبلغهم من العلم والدرك ، والقرآن يصف نفسه بأنّه : ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ) (2).

وعندئذ يجب أن نستمع إلى ما يجيبهم القرآن تجاه هذا الاقتراح ، فأجابهم بوجوه :

1. إنّ قوله ( مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) مشيراً إلى أنّه لم يؤمن قبل هؤلاء الكفار من أهل قرية جاءتهم الآيات التي طلبوها أفهم يؤمنون عند مجيئها ، مصرحاً بحالهم وأنّ سبيلهم سبيل من تقدم من الأمم الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنّهم يؤمنون عندها ، فلمّا جاءتهم نكثوا وخالفوا ، فلو أعطينا لهؤلاء ، أيضاً ما يقترحون لكانوا أنكث من هؤلاء فهل في هذه الحال يصح أن يقوم النبي بالإعجاز والإجابة على الطلبات والاقتراحات ؟

2. انّ قوله : ( إلاّ أهلكناهم ) اشارة إلى أنّهم لو خالفوا ولم يؤمنوا بعد

ص: 168


1- الأنبياء : 5 - 8.
2- العنكبوت : 49.

المجيء بالآيات المقترحة ، لعمّهم الهلاك كما عمّ الأمم السابقة واستحقّوا عذاب الاستئصال ، فلأجل ذلك لم يأت بالآيات المقترحة.

3. انّ قوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) إشارة إلى جواب ثالث ، وهو : أنّ الظاهر من قول المقترحين : ( فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) أنّهم آمنوا بنبوّة موسى وعيسى وصدقوهما ، فلأجل ذلك يطلبون من النبي نفس المعجزات التي جاء بها الرسولان السابقان ، فعند ذلك يدعوهم القرآن إلى أن يسألوا أهل الذكر وهم أهل الكتاب حتى يعرّفوهم بالبشائر الواردة في حق النبي في الكتب المنزلة قبله ، فلو أنّهم بصدد الحقيقة فلماذا لم يطرقوا هذا الباب ؟ وهذا آية أنّهم قوم لجاج وعناد.

4. إنّ قوله : ( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) يشير إلى عقيدة القوم فكأنّهم كانوا ينتظرون من النبي أن يكون ذا قدرة فوق البشرية فلا يأكل ولا يمشي في الأسواق ، ويفعل كل ما اقترحوا عليه ، مع أنّ الأنبياء في منطق القرآن والعقل فوق هذه المزعمة ، فهم لا يفعلون ، ولا يقدرون على شيء إلاّ بإذن اللّه قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (1). ثم إنّ الآية تشتمل على حجتين تقومان على إبطال استدلالهم ببشريته على نفي نبوته :

الأولى : نقض حجتهم بالإشارة إلى رجال من البشر كانوا أنبياء فلا منافاة بين البشرية والنبوة.

الثانية : حلّها ، وهو انّ الفارق بين النبي وغيره هو الوحي الإلهي ، وهو كرامة من اللّه يخصص بها من يشاء من عباده.

ص: 169


1- الرعد : 38.

فالآية نظير قوله : ( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (1).

وعلى ذلك كله فامتناع النبي عن القيام بمقترحات القوم ، ليس لأجل أنّه لم يؤت بمعجزة سوى القرآن ، بل إمّا لأجل اليأس من إيمانهم ، وإمّا لاستلزام الإنكار إبادتهم واستئصالهم ، وإمّا لأجل أنّ النبي ليس قادراً على كل ما يطلبونه منه إلاّ بإذن اللّه ، وإذنه سبحانه موقوف على توفر شرائط.

الآية السابعة عشرة

قال سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (2).

وهذه الآية قد تذرّع بها الخصم على أنّ النبي لم يكن مزوداً بمعجزة سوى القرآن وأنّه كل ما طولب بالمعجزة أجاب بأنّ « الآيات عند اللّه » غير أنّ الإمعان في الآيات التي سبقتها وتأخرت عنها يكشف القناع عن مقصد الآية ومرادها ، وإليك بيانها :

إنّ الناظر في الآيات المتقدمة على هذه الآية يجد أنّ القرآن يبرهن على كونه من اللّه سبحانه بأنّ النبي الآتي به أُمّي ما كان يتلو من قبله من كتاب وما كان يخط بيمينه شيئاً ، فهذا الكتاب العظيم الذي ينطوي على آفاق من العلوم والمعارف والحكم ، يستحيل أن يكون من نسج الإنسان وصنع البشر ، فلأجل ذلك

ص: 170


1- إبراهيم : 10 - 11.
2- العنكبوت : 50.

يصفه بقوله : ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ) (1) فبعد ذلك ينقل اقتراحهم بقوله : ( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِن رَبِّهِ ) تعريضاً بالكتاب على أنّه ليس بآية معجزة وهذه السخرية نظير قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (2). ففي هذه الحالة ، وهذا الموقف هل يصح للنبي أن يقوم بتلبية مقترحهم ليكون عمله نوعاً من الاعتراف بعقيدتهم وتكريساً لاستهزائهم ؟!

ثم إنّه سبحانه يأمر نبيّه أن يجيبهم بقوله : ( قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ ) وهذا جواب عن زعمهم أنّ من يدّعي الرسالة يجب أن يكون متدرعاً بقوة غيبية يقدر بها على كل ما طولب به ، وحقيقة الجواب هي التصريح بأنّه لا يشارك في القدرة على المعاجز معه سبحانه فليس للنبي شيء إلاّ أن يشاء اللّه ، وقد تكرر هذا المضمون في القرآن الكريم غير مرة ، وعلى ذلك فليست الآية بصدد نفي الإعجاز عن النبي ، بل هي بصدد بيان حقائق غير منكرة في منطق العقل وهي : أنّ القادر المطلق هو اللّه سبحانه ، ولا يشاركه غيره والنبي لا يقوم بخرق العادة إلاّ بإذنه ، وأين ذلك ممّا يدّعيه الخصم ؟!

ويؤكد ذلك ذيل الآية : ( وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

الآية الثامنة عشرة

قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ ) (3).

ص: 171


1- العنكبوت : 49.
2- الحجر : 6 - 7.
3- غافر : 78.

والاستدلال بهذه الآية على نفي المعجزة من غرائب الاستدلالات إذ ليس في الآية أيُّ إشعار بذلك فضلاً عن الدلالة والتصريح ، بل مفاد الآية ومرامها كمفاد الآية الثامنة والثلاثين من سورة الرعد ، أعني قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) .

وعلى ذلك فالآيتان تدلاّن على أنّ الإعجاز ليس في اختيار النبي حتى يقوم به كيف شاء ، أو كيف ما شاءوا ، بل يقتفي في ذلك إذن اللّه سبحانه ، وهو موقوف على توفر شرائط غير موجودة إلاّ في ظروف قليلة.

على أنّ من المحتمل جداً أن يكون المراد من الآية هي الآيات التي تنصر الحق ، وتقضي بين الرسول وأُمّته وتلك أعم من الإعجاز ، أعني : النصر في الحروب والظروف القاسية ، ويؤيد ذلك ذيل الآية ، أعني : قوله : ( فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ ) أي إذا جاء أمر اللّه بالعذاب قضي بالحق فأُظهر الحق وأُزهق الباطل ، وخسر عند ذلك المتمسكون بالباطل في دنياهم بالهلاك وفي آخرتهم بالعذاب الدائم.

حصيلة البحث

وأنت أيها القارئ الكريم إذا أمعنت في هذه الآيات وما تشابهها في الهدف والمفاد تقف على أنّ هذه الآيات لا تهدف إلى ما يرميه الخصم المعاند الذي يكن للإسلام ونبيه حقداً وعداوة ، ويمهد الطريق للغزو الفكري وزعزعة القلوب عما اعتقدت به.

فإنّ هذه الآيات تهدف إلى حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق القرآنية وهي أن للإتيان بالمعجزة قوانين وضوابط ، وانّه يتوقف على توفر شرائط أشرنا إليها في مستهل البحث الحاضر ، فلو فقدت واحدة من هذه لما صح للنبي القيام

ص: 172

بالإعجاز والإتيان بمقترحات القوم ، وليس في الآيات أي إشعار بأنّ النبي كان يظهر العجز عن القيام بالإعجاز والإتيان بالآية أو يحيل الأمر إلى اللّه سبحانه بمعنى أنّه لم يؤت له أيّة معجزة سوى القرآن.

كل ذلك دعايات وسفاسف ألصقها الكتّاب المسيحيون ، ومن يقتفي أثرهم في الأهداف والغايات بمفاد الآيات ومعانيها ، والآيات تنادي خلاف ما ادّعوا.

والعجب أنّ بعض الكتّاب قد استدل على مدّعاه ببعض الآيات التي لا تمس ما نحن فيه أصلاً مثل قوله سبحانه : ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (1).

فالآية تهدف إلى أنّ العلم بوقت قيام القيامة يختص به سبحانه ولم يطّلع عليه أحد سواه ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) (2) ومثل ذلك قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) (3).

فالآية تهدف إلى أنّ النبي ليس بضنين على الوحي ، بأن يكتم بعضه ويبيّن بعضه ، فالمراد من الغيب هو الوحي ، فلا صلة للآية بالإعجاز ، كل ذلك يعرب عن أنّ الكاتب كان يخبط خبط عشواء فيأتي في مقام الاستدلال بشيء لا مساس له بالموضوع أبداً.

ص: 173


1- الملك : 25 - 26.
2- لقمان : 34.
3- التكوير : 23 - 25.

ص: 174

4

النبي الشفيع في القرآن الكريم

اشارة

ص: 175

في هذا الفصل

1. الشفاعة وكلمات علماء الإسلام ، وهي أربع وثلاثون كلمة.

2. الآيات الواردة حول الشفاعة ، وهي على سبعة أصناف :

أ. الآيات النافية للشفاعة.

ب. ما يفنّد عقيدة اليهود فيها.

ج. ما ينفي شمول الشفاعة للكفّار.

د. ما ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة.

ه. ما يعد الشفاعة حقاً مختصاً به سبحانه.

و. ما يثبت الشفاعة لغيره سبحانه في شرائط خاصة.

ز. ما يسمي أسماء من تقبل شفاعتهم.

3. الشفاعة المرفوضة والشفاعة المقبولة.

4. آيات أُخرى في الشفاعة.

5. حقيقة الشفاعة وأقسامها الثلاثة : التكوينية ، والقيادية ، والمصطلحة.

6. لماذا شرِّعت الشفاعة ، وما هي مبرراتها ؟

7. ما هو أثر الشفاعة ، أهو إسقاط العقاب أو زيادة الثواب ؟

8. إشكالات مثارة حول الشفاعة وهي عشرة.

9. الشفاعة في الأدب العربي.

10. الشفاعة في الأحاديث الإسلامية.

ص: 176

1

الشفاعة وعلماء الإسلام الشفاعة أصل من أُصول الإسلام

أجمع العلماء على أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أحد الشفعاء يوم القيامة مستدلين على ذلك بقوله سبحانه : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) (1).

وبقوله سبحانه : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (2).

وفسّرت الآيتان بالشفاعة ، فالمقام المحمود هو مقام الشفاعة ، والذي أُعطي للنبي هو حق الشفاعة الذي يرضيه.

ولما كانت الإحاطة بمفاد الآيتين تتوقف على البحث عن : معنى الشفاعة وأدلّتها ، وحدودها ، والتعرّف على الشفعاء ، ناسب أن نبحث عن الشفاعة بالإسهاب - وإن كان الهدف الأسمى هو التعرّف على إحدى صفات النبي صلی اللّه علیه و آله وهو كونه شفيعاً يوم القيامة - فنقول :

اتفقت الأمّة الإسلامية على أنّ الشفاعة أصل من أُصول الإسلام نطق به الكتاب الكريم ، وصرّحت به السنّة النبوية والأحاديث عن العترة الطاهرة.

ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين ، وان اختلفوا في معناها وبعض

ص: 177


1- الضحى : 5.
2- الإسراء : 79.

خصوصياتها. فذهب الإمامية والأشاعرة إلى أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته ، وذهبت المعتزلة إلى خلاف ذلك قائلين : بأنّ شفاعة رسول اللّه للمطيعين ، دون العاصين ، وأنّه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين (1).

وإلى ذلك يرجع أيضاً اختلافهم في معنى الشفاعة ، هل هي بمعنى طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب كما ذهبت إليه الوعيدية ؟ أو إسقاط عقاب الفساق من الأمّة كما ذهب إليه غيرهم (2) ؟ فانّ مآل النزاعين أمر واحد ، فتارة تطرح المسألة بلحاظ المشفوع له ، فيقال : هل هي للمطيعين أو الخاطئين ؟ وأُخرى بلحاظ نفس معنى الشفاعة ، هل هو طلب زيادة المنافع أو إسقاط العقاب ؟

وعلى كل تقدير ، فالشفاعة بإجمالها موضع اتفاق بين الأمّة الإسلامية ، ولا بأس أن نذكر بعض نصوص علماء الإسلام في هذا البحث حتى يكون القارئ على بصيرة من الأمر ، فنقول :

1. لقد أشار أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي السمرقندي المتوفّى عام 333 ه في تفسيره ، إلى الشفاعة المقبولة ، واستدل لها بآية : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) (3) وقد أورد قبلها قوله سبحانه : ( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (4).

وقال ما حاصله : إنّ الآية الأولى وإن كانت تنفي الشفاعة ، ولكن هنا شفاعة مقبولة في الإسلام وهي التي تشير إليها هذه الآية (5).

ص: 178


1- أوائل المقالات : 14 - 15.
2- كشف المراد : 262.
3- الأنبياء : 28.
4- البقرة : 48.
5- تفسير الماتريدي المعروف بتأويلات أهل السنّة : 148.

2. قال تاج الإسلام أبو بكر الكلابادي ( المتوفّى عام 380 ه ) : أجمعوا على أنّ الإقرار بجملة ما ذكر اللّه سبحانه وجاءت به الروايات عن النبي في الشفاعة واجب لقوله تعالى : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) (1) ولقوله : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (2) وقوله : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) (3).

وقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (4).

3. قال المفيد : اتفقت الإمامية على أنّ رسول اللّه يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته ، وأنّ أمير المؤمنين يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته ، وأنّ أئمّة آل محمد يشفعون كذلك ، وينجي اللّه بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين ، ووافقهم على شفاعة الرسول ، المرجئة ، سوى ابن شبيب وجماعة من أصحاب الحديث ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك ، وزعمت أنّ شفاعة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للمطيعين دون العاصين ، وانّه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين (5).

وقال في موضع آخر : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يشفع يوم القيامة في مذنبي أُمّته من الشيعة خاصة فيشفّعه اللّه عزّ وجلّ ، ويشفع أمير المؤمنين في عصاة شيعته فيشفّعه اللّه عزّ وجلّ ، وتشفع الأئمّة في مثل ما ذكرناه من شيعتهم فيشفّعهم اللّه ، ويشفع المؤمن البر لصديقه المؤمن المذنب فتنفعه شفاعته ويشفّعه اللّه ، وعلى هذا القول إجماع الإمامية - إلاّ من شذ منهم - وقد نطق به القرآن ، وتظاهرت به الأخبار قال اللّه تعالى في الكفار عند إخباره عن حسراتهم وعلى الفائت لهم ممّا حصل لأهل

ص: 179


1- الضحى : 5.
2- الإسراء : 79.
3- الأنبياء : 28.
4- التعرف لمذهب أهل التصوف : 54 - 55 ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود.
5- أوائل المقالات : 15.

الإيمان : ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (1) وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع ، ويشفع علي علیه السلام فيشفّع ، وأنّ أدنى المؤمنين شفاعة يشفع في أربعين من إخوانه » (2).

4. وقال الشيخ الطوسي : حقيقة الشفاعة عندنا أن يكون في إسقاط المضار دون زيادة المنافع ، والمؤمنون عندنا يشفع لهم النبي صلی اللّه علیه و آله فيشفّعه اللّه تعالى ويسقط بها العقاب عن المستحقين من أهل الصلاة لما روي من قوله علیه السلام : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » وإنّما قلنا لا تكون في زيادة المنافع ، لأنّها لو استعملت في ذلك ، لكان أحدنا شافعاً في النبي صلی اللّه علیه و آله إذا سأل اللّه أن يزيده في كرامته ، وذلك خلاف الإجماع ، فعلم بذلك أنّ الشفاعة مختصة بما قلناه ، والشفاعة ثبتت عندنا للنبي وكثير من أصحابه ولجميع الأئمّة المعصومين وكثير من المؤمنين الصالحين (3).

5. يقول القاضي عياض : مذهب أهل السنّة هو جواز الشفاعة عقلاً ، ووجوبها سمعاً ، بصريح الآيات ، وبخبر الصادق ، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين ، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنّة عليها ، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها ، وتعلّقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار ، واحتجوا بقوله تعالى : ( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) وأمثاله ، وهي في الكفّار ، وأمّا تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات ، فباطل ، وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم ، وإخراج من استوجب النار (4).

ص: 180


1- الشعراء : 100 - 101.
2- أوائل المقالات : 52 - 53.
3- التبيان : 1 / 213 - 214.
4- بحار الأنوار : 8 / 62 ، وشرح صحيح مسلم : 2 / 58.

6. قال الإمام أبو حفص النسفي : والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر بالمستفيض من الأخبار خلافاً للمعتزلة (1).

7. وقد أيّد التفتازاني في شرح العقائد النسفية هذا الرأي وصدّقه دون أي تردّد وتوقف (2).

8. قال الطبرسي في تفسيره : إنّ الأمّة أجمعت على أنّ للنبي شفاعة مقبولة ، وان اختلفوا في كيفيتها ، فعندنا هي مختصة بدفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين ، وقالت المعتزلة : هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين ، وهي ثابتة عندنا للنبي ولأصحابه المنتجبين والأئمّة من أهل بيته الطاهرين ولصالح المؤمنين ، وينجي اللّه تعالى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين ، ويؤيده الخبر الذي تلقته الأمّة بالقبول وهو قوله : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » وما جاء في روايات أصحابنا رضي اللّه عنهم - مرفوعاً إلى النبي - أنّه قال : « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع ، ويشفع علي علیه السلام فيشفّع ، ويشفع أهل بيتي فيشفّعون ، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفّع في أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار » وقوله تعالى مخبراً عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (3).

وقال أيضاً : أصل الشفاعة من الشفع الذي هو ضد الوتر ، فإنّ الرجل إذا شفع بصاحبه فقد شفعه أي صار ثانيه ، ومنه الشفيع في الملك لأنّه يضم ملك غيره إلى ملك نفسه ، واختلفت الأمّة في كيفية شفاعة النبي يوم القيامة ، فقالت المعتزلة ومن تابعهم : يشفع لأهل الجنّة ليزيد اللّه درجاتهم. وقال غيرهم من فرق

ص: 181


1- العقائد النسفية : 148.
2- العقائد النسفية : 148.
3- مجمع البيان : 1 / 103 - 104.

الأمّة : بل يشفع لمذنبي الأمّة ممّن ارتضى اللّه دينهم ليسقط عقابهم بشفاعته (1).

9. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : ( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) (2) : كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأُويسوا.

فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة ؟

قلت : نعم ، لأنّه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلّت به من فعل أو ترك ، ثم نفى أن تقبل منها شفاعة شفيع ، فعلم أنّها لا تقبل للعصاة (3).

10. قال الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه الانتصاف فيما تضمّنه الكشاف من الاعتزال :

وأمّا من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها ، وأمّا من آمن بها وصدّقها وهم أهل السنّة والجماعة فأُولئك يرجون رحمة اللّه ، ومعتقدهم أنّها تنال العصاة من المؤمنين وإنّما ادّخرت لهم ، وليس في الآية دليل لمنكريها ، لأنّ قوله : ( يَوْماً ) في قوله : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) أخرجه منكراً ، ولا شك أنّ في القيامة مواطن ، يومها معدود بخمسين ألف سنة ، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة ، وبعضها هو الوقت الموعود ، وفيه المقام المحمود لسيد البشر ، عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدّد أيامها واختلاف أوقاتها ، منها قوله تعالى : ( فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (4) مع قوله : ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) (5) فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين ، ووقتين متغايرين ، أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس له ، وكذلك

ص: 182


1- مجمع البيان : 2 / 83.
2- البقرة : 48.
3- الكشاف : 1 / 214 - 215. وما ذكره صاحب الكشاف في تفسير الشفاعة راجع إلى منهجه الذي هو منهج المعتزلة في معنى الشفاعة ، والهدف من نقل كلامه هو الإيعاز إلى كون أصل الشفاعة أمراً متفقاً عليه بين المسلمين ، وأمّا الخصوصية فسنبحث عنها في الفصول القادمة.
4- المؤمنون : 101.
5- الصافات : 27.

الشفاعة ، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة ، ورزقنا اللّه الشفاعة » (1).

وقال الزمخشري أيضاً في تفسير قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2) ( لا بَيْعٌ فِيهِ ) حتى تبتاعوا ما تنفقونه و ( لا خُلَّةٌ ) حتى يسامحكم أخلاّؤكم به ، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات ، لأنّ الشفاعة ثمّة في زيادة الفضل (3).

وقال صاحب الانتصاف : أمّا القدرية فقد وطّنوا أنفسهم على حرمان الشفاعة ، وهم جديرون أن يُحرموها ، وأدلّة أهل السنّة على إثباتها للعصاة من المؤمنين أوسع من أن تحصى ، وما أنكرها القدرية إلاّ لإيجابهم مجازاة اللّه للمطيع على الطاعة وللعاصي على المعصية ، إيجاباً عقلياً - على زعمهم - فهذه الحالة في إنكار الشفاعة نتيجة تلك الضلالة (4).

وعلى أي تقدير ، فالحاصل من المناظرة التي دارت بين الفريقين هو اتفاق الأمّة الإسلامية على الشفاعة وان اختلفوا في تفسيرها.

11. قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (5) تمسّكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر ، وأجيبوا بأنّها مخصوصة بالكفار ، للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة.

ص: 183


1- الانتصاف بهامش الكشاف : 1 / 214 ، المطبوع عام 1367.
2- البقرة : 254.
3- الكشاف : 1 / 291.
4- الانتصاف بهامش الكشاف : 1 / 291.
5- البقرة : 48.

ويؤيده أنّ الخطاب هنا مع الكفار ، والآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم (1).

12. قال الفتّال النيسابوري - الذي هو أحد علمائنا في القرن السادس الهجري - : لا خلاف بين المسلمين أنّ الشفاعة ثابتة ، إلاّ أنّ أصحاب الوعيد - وهم المعتزلة - قالوا : مقتضاها زيادة الثواب والدرجات. وقلنا مقتضاها : إسقاط المضار والعقوبات (2).

13. يقول الرصاص - الذي هو من علماء القرن السادس الهجري - في كتابه « مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم » : إنّ شفاعة النبي صلی اللّه علیه و آله يوم القيامة ثابتة قاطعة (3).

14. قال الرازي في تفسير قوله : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (4).

أجمعت الأمّة على أنّ لمحمد صلی اللّه علیه و آله شفاعة في الآخرة ، وذهبت المعتزلة إلى أنّ تأثير الشفاعة هو حصول الزيادة من المنافع على قدر ما استحقوه ، غير إنّ الحق هو ما اتفقت عليه الأمّة من أنّ تأثير الشفاعة هو إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب ، إمّا بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار ، أو إن دخلوا النار فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنّة ، واتفقوا على أنّها ليست للكفار (5).

ص: 184


1- أنوار التنزيل وأسرار التأويل : 1 / 152.
2- روضة الواعظين : 406.
3- مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم المعروف بالثلاثين مسألة.
4- البقرة : 123.
5- مفاتيح الغيب : 3 / 55 - 56.

15. قال المحقق الطوسي : والإجماع على الشفاعة ( أي الإجماع قائم على ثبوت الشفاعة ) وقيل لزيادة المنافع ، ويبطل منّا في حقه صلی اللّه علیه و آله (1).

يريد بقوله : « يبطل » انّ الشفاعة لو كانت لطلب زيادة المنافع لكنّا شافعين للنبي ، لأنّا نطلب زيادة المنافع وهو مستحق للثواب ، والتالي باطل ، لأنّ الشفيع أعلى مرتبة من المشفوع له ، وهنا ليس كذلك.

ثم استدل المحقق الطوسي على الشفاعة بالحديث المروي : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (2).

16. وقال العلاّمة الحلّي في شرحه لعبارة المحقق الطوسي : اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبي صلی اللّه علیه و آله ويدل عليه قوله تعالى : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) قيل انّه الشفاعة ، واختلفوا فقالت الوعيدية : إنّها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. وذهبت التفضلية إلى أنّ الشفاعة للفسّاق من هذه الأمّة في إسقاط عقابهم وهو الحق (3).

ويقول أيضاً في كتابه « نهج المسترشدين » : يجوز العفو عن الفاسق ، لأنّه صلی اللّه علیه و آله ثبت له الشفاعة ، وليست في زيادة المنافع ، وإلاّ لكنا شافعين فيه ، فثبت في انتفاء المضار وإسقاط العقوبة (4).

17. قال ابن تيمية الحراني الدمشقي : للنبي في القيامة ثلاث شفاعات - إلى أن قال - وأمّا الشفاعة الثالثة فيشفع في من استحق النار ، وهذه الشفاعة له صلی اللّه علیه و آله ولسائر النبيّين والصدّيقين ، وغيرهم في من استحق النار أن لا يدخلها

ص: 185


1- وقوله يبطل أي : لا يقع منّا في حق النبي.
2- شرح تجريد الاعتقاد : 262 - 263 ، طبعة صيدا.
3- شرح تجريد الاعتقاد : 262 - 263 ، طبعة صيدا.
4- نهج المسترشدين : 205.

ويشفع في من دخلها.

ثم قال : وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء والإثارة من العلم المأثور عن الأنبياء وفي العلم الموروث عن محمد صلی اللّه علیه و آله (1).

وله رسالة أُخرى أسماها بالاستغاثة ، وقد اعتبر فيها المعتزلة والخوارج الذين أنكروا الشفاعة بمعناها المعروف ، وهو إسقاط العقوبة ، أهل ضلال وبدعة ، وقال : وأمّا من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة (2).

18. وقال ابن كثير الدمشقي - في تفسير قوله سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (3) - : هذا من عظمته وجلاله ، وكبريائه عزّ وجلّ أنّه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده ، إلاّ بإذنه له في الشفاعة ، كما في حديث الشفاعة عن الرسول صلی اللّه علیه و آله : « آتي تحت العرش فأخرّ ساجداً ، فيدعني ما شاء اللّه أن يدعني ثم يقال : ارفع رأسك وقل تسمع ، واشفع تشفّع ، قال : فيحدّ لي حداً فأُدخلهم الجنة » (4).

19. قال نظام الدين القوشجي في شرحه على شرح التجريد : اتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة لقوله تعالى : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وفسّر بالشفاعة.

ثم أشار إلى اختلاف المعتزلة والأشاعرة في معنى الشفاعة واختار المذهب المعروف فيها (5).

ص: 186


1- مجموعة الرسائل الكبرى : 1 / 403 - 404.
2- الاستغاثة في ضمن مجموعة الرسائل الكبرى : 1 / 481.
3- البقرة : 256.
4- تفسير ابن كثير : 1 / 309.
5- شرح التجريد للقوشجي : 501.

20. قال الفاضل المقداد : في شرحه منهج المسترشدين : وأمّا ثبوت الشفاعة فلوجوه : الأوّل : الإجماع ، والثاني قوله تعالى : ( اسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ) والفاسق مؤمن لِما يجئ فوجب دخوله في من يستغفر له النبي (1).

21. قال المحقق الدواني : الشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن اذن له الرحمان من الأنبياء علیهم السلام ، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (2). (3)

22. قال الشعراني في المبحث السبعين : إنّ محمداً هو أوّل شافع يوم القيامة وأوّل مشفّع ، وأولاه فلا أحد يتقدم عليه. ثم نقل عن جلال الدين السيوطي : انّ للنبي يوم القيامة ثمان شفاعات ، وله صلی اللّه علیه و آله يوم القيامة ثمان شفاعات ، وثالثها في مَنْ استحق دخول النار أن لا يدخلها (4).

23. قال العلاّمة المجلسي : أمّا الشفاعة فاعلم أنّه لا خلاف فيها بين المسلمين بأنّها من ضروريات الدين ، وذلك بأنّ الرسول يشفع لأمّته يوم القيامة ، بل للأمم الأخرى ، غير أنّ الخلاف إنّما هو في معنى الشفاعة وآثارها ، وهل هي بمعنى الزيادة في المثوبات أو إسقاط العقوبة عن المذنبين ؟

وخصّها المعتزلة والخوارج بالمعنى الأوّل ، قائلين : بأنّه يجب عليه سبحانه أن يفي بوعيده في موارد العقاب ، وليس بإمكان الشفاعة أن تنقض هذه القاعدة المسلّمة. والشيعة ذهبت إلى أنّ الشفاعة تنفع في إسقاط العقاب ، وان كانت ذنوبهم من الكبائر ، ويعتقدون أيضاً بأنّ الشفاعة ليست منحصرة في النبي والأئمّة من بعده بل للصالحين أن يشفعوا بعد أن يأذن اللّه لهم بذلك (5).

ص: 187


1- إرشاد الطالبين : 206.
2- طه : 109.
3- شرح العقائد العضدية : 2 / 270.
4- اليواقيت والجواهر : 2 / 170.
5- راجع بحار الأنوار : 8 / 29 - 63 ، وحق اليقين : 473.

24. وقال محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي : وثبتت الشفاعة لنبينا محمد يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد ، ونسألها من المالك لها والآذن فيها بأن نقول : اللّهم شفّع نبينا محمداً فينا يوم القيامة. أو اللّهم شفّع فينا عبادك الصالحين ، أو ملائكتك ، أو نحو ذلك مما يطلب من اللّه لا منهم. إلى أن قال : إنّ الشفاعة حق في الآخرة ، ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته ، بل وغيره من الشفعاء ، إلاّ أنّ رجاءها من اللّه فالمتعيّن على كل مسلم صرف وجهه إلى ربّه فإذا مات استشفع اللّه فيه نبيّه.

ويظهر من أكثر كلماته أنّه معتقد بأصل الشفاعة ، ولكن اختلافه مع غيره من المسلمين في طلبها ، فذهب إلى أنّه لا يطلب إلاّ من اللّه لا من الشفعاء (1).

25. وقال السيد شبّر : اعلم أنّه لا خلاف بين المسلمين في ثبوت الشفاعة لسيد المرسلين في أُمّته ، بل في سائر الأمم الماضين ، بل ذلك من ضروريات الدين ، قال اللّه تعالى : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وإنّما اختلف في معناها ، فالذي عليه الفرقة المحقة وأكثر العامة : أنّ الشفاعة كما تكون في زيادة الثواب كذلك تكون لإسقاط العقاب عن فسّاق المسلمين المستحقين للعذاب. والخوارج والمعتزلة : على أنّها لا تكون إلاّ في طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. ولكن الأدلة النقلية والعقلية تبطل مذهبهم في الواقع (2).

26. وقال الشيخ محمد عبده : ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم وإنّها مزية يختص اللّه بها من يشاء يوم القيامة - عبر عنها سبحانه بهذه العبارة « الشفاعة » - ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه اللّه جل جلاله عن المعروف في معنى الشفاعة في لسان

ص: 188


1- راجع الهدية السنية الرسالة الثانية : 42.
2- حق اليقين : 2 / 186.

التخاطب العرفي ، وأمّا مذهب الخلف فلنا أن نحمل الشفاعة فيه على أنّها دعاء يستجيبه اللّه تعالى ، والأحاديث الواردة في الشفاعة تدل على هذا ، ثم ذكر حديثاً من الصحيحين ، وقال في الهامش بمثل هذا « أي دعاء يستجيبه اللّه تعالى » قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ولم يعدّوه تأويلا (1).

والعجب أنّ الأستاذ محمد عبده - مع ماله من الاطّلاع الوسيع على المعارف الإسلامية وبالأخص فيما يرجع إلى تفسير القرآن - انّه كلّما مر على أُمور ترتبط بأولياء اللّه مثل الشفاعة والاستشفاع منهم والتوسل والزيارة يضطرب بيانه ، ولا يعمد إلى كشف الحقيقة بحرية كاملة - كما هو دأبه في سائر المسائل - ونرى الأستاذ في هذه المسائل يبدو كأنّه قد تأثر بمقالة الوهابيين ، وأغلب الظن أنّ الأستاذ بريء عن أكثر ما نسب إليه بالصراحة في هذه المباحث في التفسير فأنّي أُجلّه عن النزعة الوهابية ، ولعل تلميذه السيد محمد رشيد رضا قد أودع كلمات الأستاذ في قوالب خاصة تتناسب مع نزعاته الوهابية ، ومع ذلك فالعلم عند اللّه سبحانه. اللّهم (2) اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.

ولأجل ذلك نرى تلميذه الكاتب لدروسه يثير إشكالات ثلاثة حول الشفاعة ، التي هي دون شأن الأستاذ ، وهي :

1. ليس في القرآن نص قطعي في وقوع الشفاعة ، ولكن ورد الحديث بإثباتها فما معناها ؟!

2. الشفاعة لا تتحقق إلاّ بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع ، فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلاّ إذا تغيّر علمه بما كان أراده ، أو حكم به ، كأن

ص: 189


1- تفسير المنار : 1 / 307.
2- نعم ما ذكره الأستاذ في تفسير سورة الفاتحة : 46 - 47 يؤيد أنّ الأستاذ كان يميل إلى الحركة الوهابية التي بلغت موجتها إلى تلك الديار في ذلك الأوان.

كان قد أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أنّ المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به.

3. ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات (1).

وستوافيك الإجابة عن هذه الإشكالات في فصله الخاص على وجه الإجمال ، وأمّا التفصيل فموكول إلى الرسالة التي أفردناها في الشفاعة وأبحاثها ، وقد نقلت الرسالة إلى اللغة العربية بواسطة الأخ الفاضل الشيخ جعفر الهادي دامت إفاضاته.

27. وقال السيد سابق : المقصود بالشفاعة سؤال اللّه الخير للناس في الآخرة ، فهي نوع من أنواع الدعاء المستجاب ، ومنها الشفاعة الكبرى ، ولا تكون إلاّ لسيدنا محمد رسول اللّه فإنّه يسأل اللّه سبحانه أن يقضي بين الخلق ليستريحوا من هول الموقف فيستجيب اللّه له فيغبطه الأوّلون والآخرون ، ويظهر بذلك فضله على العالمين ، وهو المقام المحمود الذي وعد اللّه به في قوله سبحانه : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ثم نقل الآيات والروايات المربوطة بالشفاعة والمثبتة لها ، وقد ذكر بعض شروط قبولها (2).

28. قال الشيخ الجليل محمد جواد البلاغي : إنّ الشفاعة قد نفاها القرآن من جهة وهي الشفاعة للمشركين ، أو الشفاعة التي يزعمها المشركون للذين يتخذونهم آلهة مع اللّه بزعم أنّهم قادرون بإلهيتهم بحيث تنفذ شفاعتهم طبعاً وحتماً ، أو شفاعة الشافع الذي يطاع حتماً كما في سورة ياسين الآية 22 ، والمؤمن الآية 18 ، والزمر الآية 44 ، والمدثر الآية 48 ، وأثبتها من جهة أُخرى بالاستثناء بل بالاستدراك الدافع لإيهام نفيها المطلق عن كل أحد فقال تعالى : ( إِلا بِإِذْنِهِ ) ،

ص: 190


1- تفسير المنار : 1 / 307.
2- العقائد الإسلامية : 73. والسيد سابق مؤلف إسلامي مصري قدير.

( إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ، ( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) ، ( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) ، ( إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) ، ( إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) ، ( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ ) ، ( إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ) ، كما في سورة البقرة الآية 256 ، ويونس الآية 6 ، ومريم الآية 90 ، وطه الآية 108 ، والأنبياء الآية 29 ، وسبأ الآية 22 ، والزخرف الآية 86 ، والنجم الآية 27. وانّ الشفاعة المستثناة والمستدركة في آيات البقرة ويونس وسبأ مطلقة غير مختصة بيوم القيامة ولا بما قبل وفاة الشافع في الدنيا (1).

29. قال الدكتور سليمان دنيا : والشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن أذن له الرحمن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) وقوله تعالى : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (2).

30. قال الحكيم المتألّه العلاّمة الطباطبائي : إنّ الآيات الواردة حول الشفاعة بين ما يحكم باختصاص الشفاعة باللّه عزّ اسمه ، وبين ما يعمّمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك ، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك ، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه.

ثم ذكر وجه الجمع بين الآيات والذي سيوافيك توضيحه عند البحث عن الآيات (3).

31. يقول الأستاذ الشيخ محمد الفقيّ : وقد أعطى اللّه الشفاعة لنبيه ولسائر

ص: 191


1- آلاء الرحمان : 1 / 62.
2- محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين : 2 / 628.
3- الميزان : 1 / 156.

الأنبياء والمرسلين وعباده الصالحين ، وكثير من عباده المؤمنين لأنّه وإن كانت الشفاعة كلّها لله كما قال : ( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1) إلاّ أنّه تعالى يجوز أن يتفضّل بها على من اجتباهم من خلقه واصطفاهم من عباده ، وكما يجوز أن يعطي من ملكه ما شاء لمن شاء ، ولا حرج.

ثم أخذ يستدل على الشفاعة بالآيات والروايات والأشعار المأثورة عن الصحابة (2).

32. قال المحقّق الكبير السيد أبو القاسم الخوئي : يستفاد من القرآن الكريم أنّ اللّه تعالى قد أذن لبعض عباده بالشفاعة إلاّ أنّه لم ينوّه بذكرهم عدا الرسول الأكرم فقد قال اللّه تعالى : ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) - إلى أن قال - : والروايات الواردة عن النبي الأكرم وعن أوصيائه الكرام في هذا الموضوع متواترة (3).

هذا نزر من كثير ، وغيض من فيض ، أتينا به ليكون القارئ على بصيرة من موقف علماء الإسلام - من الفريقين - من هذه المسألة الهامة ، وهي نصوص وتصريحات لا تترك ريباً لمرتاب ولا شكاً لأحد ، غير انّ لبعض الكتّاب المصريين الذين تأثّروا بالموجة الوهابية (4) التي وصلت إليهم في أوائل القرن الرابع عشر وقد دعمتها السياسات الحاكمة في ذلك الزمان ، موقفاً آخر يتنافى مع هذا الموقف الإسلامي العام وها نحن نأتي بنص كلامه.

33. قال محمد فريد وجدي في دائرة معارفه : الشفاعة هي السؤال في

ص: 192


1- الزمر : 44.
2- التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية : 206 ، ط. مصر.
3- البيان : 1 / 342.
4- مع أنّ مؤسس الوهابية لا ينكر أصل الشفاعة وإنّما ينكر جواز طلبها من الشفيع ويقول : إنّه يجوز أن يقال : اللّهم شفّع رسول اللّه في حقي ، ولا يجوز أن يقال : اشفع يا رسول اللّه في حقي ، وللبحث مع هؤلاء في هذا الموضوع مقام آخر.

التجاوز عن الذنوب ، وفي الاصطلاح الديني سؤال بعض الصالحين من اللّه التجاوز عن معاقبة بعض المذنبين ، وقد أضرت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلاّ تحريف تقصّده الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس ، وقد جاء الإسلام فقوّم عقائد الأمم من هذه الجهة ، فذكر الشفاعة ثم قال : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) وقال تعالى : ( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ) فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو اللّه وانّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً ، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربّه ، وناهيك بهذا بعداً عن الوثنية وقرباً من الديانة الإلهية (1).

لم يكن المتوقع من مثل عالم بارع قد أفنى عمره في الذب عن الإسلام بتآليفه القيمة أن يتعامل مع الشفاعة بمثل ما تعامل به « فريد وجدي » فإنّ كلامه هذا يكشف عن عدم تدبّره في معنى الشفاعة التي نطق بها القرآن وأثبتتها الأحاديث واختارها العلماء ، فإنّك ترى أنّه ينكر الشفاعة في بدء كلامه ويتلقّاها اعتقاداً ضاراً صنعه الكهنة وبثّوه بين الأمّة ، حيث قال : وقد أضرّت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلاّ تحريف تقصّده الكهان ليكون لهم شأن عند الناس. ولكنه سيعود في ذيل كلامه إلى العقيدة الوهابية في باب طلب الشفاعة الظاهرة في ثبوتها في نفس الأمر ، غير أنّه ليس لنا إلاّ أن نطلبها من اللّه سبحانه حيث قال : فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو اللّه وأنّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً ، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربِّه.

وسوف توافيك الآثار التربوية للشفاعة الصحيحة التي كشف عنها القرآن وأيّدها العقل والبرهان ، وأنّ ما رآه فريد وجدي عقيدة ضارة فما هي إلاّ الشفاعة التي اخترعتها الوثنية أو اليهودية البعيدة عن العقيدة الإسلامية ، وليس من

ص: 193


1- دائرة معارف القرن الرابع عشر : 5 / 402 ، مادة شفع.

الصحيح في منطق العقل أن يفسر أصل من أُصول الإسلام ببعض العقائد الدارجة بين الأقوام.

34. وليعلم أنّه ليس الكاتب فريداً في هذا الخلط والخبط بل تبعه معاصره الشيخ الطنطاوي حيث يعترف في تفسيره بأنّ الشفاعة من أُصول الإسلام المسلّمة وانّه لا اختلاف بين المعتزلة والفلاسفة وسائر الفرق الإسلامية في أصل ثبوتها ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما الاختلاف في مفادها ومرماها ، وحيث إنّه لم يتمكن من تحليلها بالمعنى الصحيح الذي يؤيده العقل أخذ يفسرها بتفسير بعيد عن واقع الشفاعة ، وإليك نص كلامه :

إنّ النبي كالشمس المشرقة وهي مشرقة على اليابسة والبحار والآكام والنبات والشجر والأرض السبخة والأرض الطيّبة ، وكل من تلك المواضع يأخذ حظه من ضوئها على مقدار استعداده ، فهكذا الأمّة التي تتبع نبياً في أطوارها وأحوالها الدينية على حسب أمزجتها وأخلاقها وعوائدها وبيئتها فلا جرم يختلفون في قبوله اختلاف أحوالهم وتكون أحوالهم في الآخرة على مقتضى ذلك الاختلاف إلى أن قال : - واعلم أنّ للشفاعة بذوراً ونباتاً وثمراً ، فبذورها العلم ، ونباتها العمل ، وثمرها النجاة في الآخرة ، فالأنبياء علیهم السلام علّموا الناس في الدنيا وفيها غرسوا البذور ، والناس إذا عملوا بما سمعوا منهم ينالون تلك الثمرة وهي النجاة والارتقاء ، فمبادئ الشفاعة العلم وأوسطها العمل ونهايتها الفوز والرقيّ في الآخرة ، فالشفاعة تابعة للاقتداء فمن لم يعمل بما أنزل اللّه وتجافى عن الحق فقد عطّل ما وهب له من بذر الشفاعة (1).

وقد نسب هذا المقال إلى محيي الدين بن العربي ، والإمام الغزالي ، وسيوافيك بقية كلامه عند البحث عن الإشكالات.

ص: 194


1- الجواهر في تفسير القرآن الكريم : 1 / 64 - 65 ، بتلخيص منا.

لو صحّ ما ذكره من المعنى للشفاعة لما كان منافياً للمعنى الآخر الذي ورد في الكتاب وتضافرت به الروايات كما سيجيئ.

ولا يخفى أنّ تفسير الشفاعة بما يتراءى في كلامه وان كان صحيحاً في حدّ ذاته ، ويليق أن يسمّى الأوّل بالشفاعة القيادية ، والثانية بالشفاعة العملية ، غير أنّ هذين المعنيين لا يمتان إلى ما اتفقت عليه الأمّة في معنى الشفاعة بصلة ، حيث إنّهم فسروها بالحديث المتواتر عنه من ادّخار شفاعته لأصحاب الكبائر أو للمذنبين من الأمّة ، وأين هذا من الشفاعة القيادية التي لا تختص بصنف دون صنف ، بل هي فيض إلهي عام شامل لجميع الناس حيث بعث اللّه سبحانه نبيّه بشيراً ونذيراً للعالمين كافة ؟

وكما أنّ الشفاعة القيادية لا تمّت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة ، فهكذا الشفاعة بمعنى العمل بالأحكام الإلهية والوظائف الدينية ، فإنّها وإن كانت تنجي الإنسان يوم التناد والعذاب ، لكنها غير مربوطة بما هو المصطلح في ذاك الباب.

وبالجملة فإنّ الكاتب لما لم يتوفّق لحل بعض معضلات الباب أخذ يؤوّل الشفاعة إلى المعنيين الآخرين ، وليست لهما أية صلة بالمراد من الآيات والروايات الواردة في الباب.

وسيوافيك المعنى الحقيقي للشفاعة بعد سرد الآيات وتفسير بعضها ببعض ولأجل ذلك يجب علينا أن نقدم البحث عن مفاد الآيات ، وتفسير بعضها ببعض حتى يرتفع الاختلاف الذي يلوح للقارئ لأوّل وهلة ثم البحث عن معنى الشفاعة ولأجل ذلك أفردنا الفصل التالي.

ص: 195

2

الشفاعة في القرآن الكريم

اشارة

قد وردت مادة الشفاعة - بصورها المتنوعة - ثلاثين مرّة في سور شتى ، ووقعت فيها مورداً للنفي تارة ، والإثبات أُخرى ، هذا وكثرة الورود والبحث عنها ينم عن عناية القرآن بهذا الأصل ، سواء في مجال النفي أو في مجال الإثبات.

غير أنّ الاستنتاج الصحيح من الآيات يحتاج إلى جمع الآيات في صعيد واحد ، حتى يفسر بعضها ببعض ، ويكون البعض قرينة على الأخرى ، إذ من الخطأ الواضح أن نقتصر في تفسير الشفاعة وأخواتها بآية واحدة ، ونغمض العين عن أُختها التي ربّما يمكن أن تكون قرينة للمراد ، وهذا الاسلوب أي البحث عن آية بمفردها مع الغض عن أُختها جرّ الويل والويلات على الباحثين في الأبحاث القرآنية ، وأدّى إلى ظهور مذاهب مختلفة في المعارف والعقائد ، بحيث نرى أنّ صاحب كل عقيدة يستدل على اتجاهه بآية قرآنية ، أو بنص نبويّ ، غير أنّه أخطأ في الاعتماد على آية قد جاء توضيحها في آيات أُخرى ، وهذا النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله يقول : « إنّ القرآن يصدق بعضه بعضاً » ويقول أيضاً : « إنّ القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ، ولكن نزل أن يصدق بعضه بعضاً » وقال أيضاً : « إنّما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض ، وانّما نزل كتاب اللّه يصدق بعضه بعضاً ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه » (1).

ص: 196


1- الدر المنثور : 2 / 6.

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : « وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض » (1).

ولأجل ذلك لا مناص من طرح جميع الآيات المرتبطة بالشفاعة والاستنتاج من جميعها جملة واحدة ، ولذلك نقول : إنّ الآيات المربوطة بالشفاعة على أصناف يرمي كل صنف إلى هدف خاص ، فنقول :

الصنف الأوّل : الآيات النافية للشفاعة

لا نجد من هذا الصنف إلاّ آية واحدة تنفي الشفاعة في بادئ الأمر بقول مطلق ، وهي قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2).

وهذه الآية بظاهرها تنفي الشفاعة بتاتاً ، ولعل ظاهرها هو المستمسك الوحيد لمن اعتقد بأنّ الشفاعة عقيدة اختلقها الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس (3).

إنّ منشأ الخطأ في تفسير هذه الآية هو الاقتصار على آية واحدة والغض عمّا ورد في موردها من الآيات الأخر.

ولأجل ذلك لو نظرنا إلى الآية التالية لهذه الآية نجد أنّها تصرّح بوجود الشفاعة عند اللّه سبحانه إذا كانت مقترنة بإذنه فقال سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (4) أفبعد هذا التصريح يصح لنا أن نعتقد بنفي الشفاعة

ص: 197


1- نهج البلاغة شرح عبده : 2 / 32 الخطبة 149.
2- البقرة : 254.
3- لاحظ الفصل السابق : ص 193.
4- البقرة : 255.

بتاتاً وننسبها إلى القرآن ، ونرمي الاعتقاد بالشفاعة إلى الكهنة ؟ كلا.

ثم إنّ الدليل الواضح على أنّ مرمى الآية هو نفي قسم خاص من الشفاعة لا جميع أقسامها هو قوله سبحانه : ( وَلا خُلَّةٌ ) فإنّ الظاهر من هذه الكلمة انقطاع أواصر الرفاقة يوم القيامة ، من غير فرق بين المؤمن والكافر ، والحال أنّ القرآن يصرح بانقطاعها بين الكفار خاصة حيث يقول سبحانه : ( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) (1) فإنّ الظاهر من الاستثناء وإن كان عدم العداوة بين المتقين إلاّ أنّ المتبادر من مجموع الآية هو بقاء الرفاقة الدنيوية مضافاً إلى انتفاء العداوة.

قال في الكشاف : تنقطع في ذلك اليوم كل خلّة بين المتخالّين في غير ذات اللّه ، وتنقلب عداوة ومقتاً ، إلاّ خلّة المتصادقين في اللّه فإنّها الخلّة الباقية المزدادة قوة إذا رأوا ثواب التحابّ في اللّه تعالى والتباغض في اللّه (2).

وقال العلاّمة الطباطبائي : إنّ من لوازم المخالة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهام أُموره ، فإذا كانت لغير وجه اللّه كان الإعانة على الشقوة الدائمة والعذاب الخالد كما قال تعالى حاكياً عن الظالمين يوم القيامة : ( يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ) (3).

وأمّا الأخلاّء من المتقين فإنّ خلّتهم تتأكد وتنفعهم يومئذ.

وفي الخبر النبوي : « إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام وقلّت الأنساب وذهبت الاخوة إلاّ الاخوة في اللّه ، وذلك قوله : ( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) » (4).

ص: 198


1- الزخرف : 67.
2- الكشاف : 3 / 102.
3- الفرقان : 28 - 29.
4- الميزان : 18 / 120 - 121.

وعلى الجملة : إنّ انقلاب المخالة إلى العداوة لأجل ما جاء في قوله سبحانه : ( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ) فهذه العلّة منتفية في حق المتقين ، فأواصر الرفاقة باقية في يوم القيامة.

وعلى ذلك فكما أنّ المنفي هو قسم خاص من المخالة دون مطلقها ، فهكذا الشفاعة ، فالمنفي بحكم السياق قسم خاص من الشفاعة.

أضف إلى ذلك أنّ الظاهر هو نفي الشفاعة في حق الكفّار بدليل ما ورد في ذيل الآية حيث قال : ( وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أفبعد هذه الوجوه الثلاثة يصح لنا أن نجعل الآية دليلاً على انتفاء الشفاعة من أصلها يوم القيامة ؟ كلا.

الصنف الثاني : ما يفنّد عقيدة اليهود في الشفاعة

هذا الصنف من الآيات - الذي ستوافيك نصوصه - يهدف إلى نفي عقيدة اليهود في الشفاعة حيث كان لهم في هذا المجال عقيدة خاصة كشفت عنها الآيات القرآنية ، وكانوا يعتقدون بأنّهم الشعب المختار ، وهم أبناء اللّه وأحباؤه ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ ) (1).

كانوا يعتقدون بأنّ الأواصر القومية القائمة بينهم وبين أنبيائهم هي التي تنجيهم وتدخلهم الجنة ويكفي في ذلك مجرّد الانتماء القومي والنسبي إلى أنبيائهم ، حيث قالوا : ( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ) (2).

وقد بلغت مغالاتهم في هذا المجال إلى درجة أنّهم زعموا أنّهم لا تمسهم النار إلاّ أياماً معدودة ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يرد على تلك المزعمة في ذيل تلك الآية

ص: 199


1- المائدة : 18.
2- البقرة : 111.

بقوله : ( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً ) (1).

كما يرد عليهم في آية أُخرى بقوله : ( تِلْكَ ( أي عدم دخول الجنة إلاّ من كان هوداً أو نصارى ) أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (2).

فهؤلاء كانوا يعتقدون بأنّ أنبياءهم وأسلافهم سوف يشفعون لهم وينجونهم من العذاب سواء أكانوا عاملين بشريعتهم أم عاصين ، وأنّ مجرد الانتماء والانتساب سوف يكفيهم في ذلك المجال.

كانت هذه عقيدتهم في باب الشفاعة ، وفي هذا المجال وردت آيات تندد بعقيدتهم وترفض وتفند ما يذهبون إليه قائلة : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (3).

وأنت ترى أن وحدة السياق تقضي بأنّ المراد من نفي قبول الشفاعة هو الشفاعة الخاطئة التي كانت تعتقدها اليهود في ذلك الزمان من دون أن يشترطوا في الشفيع والمشفوع له شرطاً أو أمراً ، ونظير ذلك قوله سبحانه حيث يقول بعد قوله : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ) ، ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (4).

ولأجل ذلك لا يمكن أن يُتمسَّك بهاتين الآيتين لنفي أصل الشفاعة في يوم القيامة.

ص: 200


1- البقرة : 80.
2- البقرة : 111 - 112.
3- البقرة : 47 - 48.
4- البقرة : 122 - 123.

قال الزمخشري في كشافه : كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأيسوا (1).

وقال الطبرسي : قال المفسّرون حكم هذه الآية - يريد الآية الثامنة والأربعين - مختص باليهود ، لأنّهم قالوا نحن أولاد الأنبياء ، وآباؤنا يشفعون لنا فأَيْأَسهم اللّه عن ذلك ، فخرج الكلام مخرج العموم ، والمراد به الخصوص ، ويدل على ذلك ، أنّ الأمّة اجتمعت على أنّ للنبي صلی اللّه علیه و آله شفاعة مقبولة وان اختلفوا في كيفيتها (2).

وقال في المنار : إنّ ذلك اليوم ، يوم تنقطع فيه الأسباب ، وتبطل منفعة الأنساب ، وتتحول فيه سنة هذه الحياة من انطلاق الإنسان في اختياره ، يدفع عن نفسه بالعدل والفداء ويستعين على المدافعة بالشفاعة عند الأمراء ، وقد يوجد له فيها أنصار ينصرونه بالحق والباطل على سواء.

كان اليهود المخاطبون ببيان هذه الحقيقة كغيرهم من أُمم الجاهلية يقيسون أُمور الآخرة على أُمور الدنيا فيتوهمون أنّه يمكن تخلص المجرمين من العقاب بفداء يدفع بدلاً ، أو بشفاعة من بعض المقربين إلى الحاكم يغير بها رأيه ويفسخ إرادته (3).

وهذه الكلمات من أعلام التفسير تكشف القناع عن هدف الآية ومرماها وأنّها لا تهدف إلاّ إلى نفي الشفاعة المزعومة لدى اليهود من قدرة العاصي لبعث الشفيع إلى المشفوع عنده على كل تقدير وشرط ، مع أنّ الشفاعة الواردة في القرآن تنص على عكس ذلك في كلتا المرحلتين : مرحلة البعث ، ومرحلة الشرط ، فلا تتحقق إلاّ ببعث المشفوع عنده ، الشفيع إلى الشفاعة لا ببعث المشفوع له كما يظهر

ص: 201


1- الكشاف : 1 / 215.
2- مجمع البيان : 1 / 103.
3- تفسير المنار : 1 / 305 - 306.

حاله في الأبحاث الآتية ، وحتى أنّه سبحانه أيضاً لا يبعث على كل حال وتقدير ، وفي حق كل أحد ، بل له شرائط خاصة كما سيوافيك بيانها.

الصنف الثالث : ينفي شمول الشفاعة للكفار

هناك صنف من الآيات يصرّح بعدم وجود شفيع للكفار يوم القيامة ، أو أنّ شفاعة الشافعين لا تنفعهم ، وإليك هذه الآيات :

1. ( يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالحَقِّ فَهَل لَنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (1).

وحاصل الآية : انّ الذين تركوا الإيمان والعمل يعترفون يوم القيامة بأنّ ما جاءت به الرسل كان حقاً ، ولكن يتمنون أن يكون لهم شفعاء يشفعون لهم في إزالة العقاب ، أو يردون إلى الدنيا فيعملون غير الذي كانوا يعملون من الشرك والمعصية ، ولكنهم قد أهلكوا أنفسهم بالعذاب وضل عنهم ما كانوا يصفون به الأصنام من أنّها آلهة وأنّها تشفع لهم ، وعلى ذلك فالآية واردة في حق الكفار وهم الذين لا يجدون شفعاء حتى يشفعوا لهم.

2. ( إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلا المُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (2).

وحاصل الآية : انّ أهل النار يوم القيامة يقولون - بحسرة - ويخاطبون جنود إبليس أو أصنامهم الذين كانوا سبباً في ضلالهم : ( إِذْ نُسَوِّيكُم ) باللّه وعدلناكم به في توجيه العبادة إليكم ، ثم يعترفون بأنّه ما أضلّهم إلاّ المجرمون ، ويظهرون

ص: 202


1- الأعراف : 53.
2- الشعراء : 98 - 101.

الحسرة بقولهم : ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ) يشفعون لنا ويسألون في أمرنا ( وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) وذي قرابة يهمه أمرنا.

3. ( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (1).

وهذه الآيات ناظرة إلى نفي وجود الشفيع يوم القيامة للكفار الذين انقطعت علاقتهم عن اللّه لأجل الكفر به وبرسله وكتبه كما انقطعت علاقتهم الروحية عن الشفعاء الصالحين لأجل انهماكهم في الفسق والأعمال السيئة ، فانّه ما لم يكن بين الشفيع والمشفوع له ارتباط روحي لا يقدر أو لا يقوم الشفيع على انقاذه وتطهيره وتزكيته.

أضف إلى ذلك أنّ الشفاعة منوطة بإذنه سبحانه فكيف يصح لله سبحانه أن يأذن للشفيع بأن يشفع في حق من لا ارتباط بينه وبين اللّه أبداً ؟

ويمكن أن يكون المراد من شفاعة الشافعين في سورة المدثر هو شفاعة الأصنام والأوثان حيث كانوا يعتقدون بشفاعتها يوم القيامة.

كما يحتمل أن يكون المراد هو شفاعة الملائكة والنبيين.

وعلى كل تقدير : فهذا الصنف من الآيات ناف للشفاعة في مورد خاص وهو حالة الكفر ، وانفصام الأواصر بين اللّه والعبد.

الصنف الرابع : ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة

وهذا الصنف يرمي إلى نفي صلاحية الأصنام للشفاعة ، وذلك لأنّ عرب الجاهلية كانت تعبد الأصنام لأجل الاعتقاد بشفاعتها عند اللّه ، وإليك الآيات الواردة في هذا المجال :

ص: 203


1- المدثر : 46 - 48.

1. ( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) (1).

2. ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (2).

3. ( وَلَمْ يَكُن لَهُم مِن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ) (3).

4. ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) (4).

5. ( ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ ) . (5)

وهذه الآيات تنفي صلاحية المعبودات الباطلة للشفاعة ، وتبرهن على ذلك بقوله سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ ) (6) وبقوله : ( لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) (7).

وعلى ذلك فبما أنّ عبدة الأصنام والأوثان كانوا يعتقدون بشفاعتهم ، ولأجل ذلك كانوا يعبدونها ، جاءت الآيات تفنّد مزعمتهم بأنّهم مسلوبو القدرة والإرادة مسلوبو الخير والضر ، فلا يقدرون على دفع الضر وجلب النفع ولا يصلحون

ص: 204


1- الأنعام : 94.
2- يونس : 18.
3- الروم : 13.
4- الزمر : 43.
5- يس : 23.
6- يونس : 18.
7- الزمر : 43.

للشفاعة.

وهناك بيان للعلاّمة الطباطبائي حول هذا القسم من الآيات نأتي به :

كانت الملل القديمة من الوثنيين وغيرهم تعتقد أنّ الحياة الآخرة نوع حياة دنيوية يطّرد فيها قانون الأسباب ، ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثر المادي الطبيعي ، فيقدّمون إلى آلهتهم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الامداد في حوائجهم ، أو يستشفعون بها ، أو يفدون بشيء عن جريمة ، أو يستنصرون بنفس أو سلاح ، حتى انّهم كانوا يدفنون مع الأموات أنواع الزخرف والزينة ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم ، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم ، وربما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها ، ومن الأبطال من يستنصر به الميت ، وتوجد اليوم في المتاحف بين الآثار الأرضية عتائق كثيرة من هذا القبيل ، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية والأقاويل الكاذبة ، فقال عزّ من قائل : ( وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ ) (1) وقال : ( وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) (2).

وقال : ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) (3).

وقال : ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (4). إلى غير ذلك من الآيات التي يبين فيها أنّ ذلك

ص: 205


1- الانفطار : 19.
2- البقرة : 166.
3- الأنعام : 94.
4- يونس : 30.

الموطن خال من الأسباب الدنيوية ، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعية ، وهذا أصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الأقاويل على طريق الإجمال ، ثم فصّل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (1).

وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2).

وقال : ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً ) (3).

وقال : ( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) (4). وقال : ( مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) (5).

وقال : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) . (6) وقال : ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) (7).

وقال : ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (8). إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط والأسباب يوم القيامة (9).

ص: 206


1- البقرة : 48.
2- البقرة : 254.
3- الدخان : 41.
4- غافر : 33.
5- الصافات : 25 - 26.
6- يونس : 19.
7- غافر : 18.
8- الشعراء : 100 - 101.
9- الميزان : 1 / 156 - 157.

ثم قال : إنّ الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنّما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه (1).

والحاصل : أنّ القرآن مع أنّه فند العقائد الجاهلية وعقائد الوثنيين في باب الشفاعة ، وأبطل كون النظام السائد في الآخرة عين النظام السائد في الدنيا ، لم ينكر الشفاعة من رأسها بل أثبتها لأوليائه في إطار خاص من الشرائط والضوابط ، وعلى ذلك فالآيات النافية ناظرة إلى تلك العقيدة السخيفة التي التزم بها الوثنيون وزعموا بموجبها وحدة النظامين وان تقديم القرابين والصدقات إلى الأصنام والخشوع والبكاء لديهم ، يصحّح قيامهم بالشفاعة وأنّهم قادرون على ذلك بتفويض منه سبحانه إليهم ، بحيث صاروا مستقلين في الفعل والترك.

والآيات المثبتة ناظرة إلى الشفاعة الصحيحة التي ليست لها حقيقة سوى جريان فيضه سبحانه ومغفرته من طريق أوليائه إلى عباده بإذنه ومشيئته تحت شرائط خاصة. وسيوافيك توضيح حقيقتها في الأبحاث القادمة.

الصنف الخامس : ما يعدّ الشفاعة حقّاً مختصاً به سبحانه

هناك آيات ترى أنّ الشفاعة مختصة باللّه سبحانه لا يشاركه فيها غيره ، وهي عبارة عن الآيات التالية :

1. ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (2).

2. ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن

ص: 207


1- المصدر نفسه : 159.
2- الأنعام : 51.

تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ) (1).

3. ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) (2).

4. ( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (3).

وكون الشفاعة مختصة باللّه سبحانه لا ينافي ثبوتها لغيره بإذنه سبحانه ، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن القسم السادس من أصناف آيات الشفاعة.

غير أنّا نعطف نظر القارئ إلى نكتة في قوله سبحانه : ( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (4).

وهذه الآية وإن كانت تدل على اختصاصها باللّه سبحانه ، غير أنّ الحصر هنا حصر إضافي لا حقيقي ، فهي تهدف إلى نفي ثبوت هذا الحق في حق الآلهة المزعومة كما تشير إليه الآية المتقدمة على تلك الآية حيث قال : ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) (5).

فأنت إذا لاحظت الآيتين جملة واحدة تقف على أنّ الهدف هو حصر حق الشفاعة باللّه سبحانه في مقابل الآلهة المزعومة التي كانت العرب تزعم أنّها تملك حق الشفاعة ، ولأجل ذلك ترد الآية عليهم بقوله سبحانه : ( أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) .

ص: 208


1- الأنعام : 70.
2- السجدة : 4.
3- الزمر : 44.
4- الزمر : 44.
5- الزمر : 43.
الصنف السادس : يثبت الشفاعة لغيره سبحانه تحت شرائط خاصة

إنّ هذا الصنف من الآيات يصرح بوجود شفيع غير اللّه سبحانه ، وأنّ شفاعته تقبل عند اللّه تعالى في إطار خاص وشرائط معينة في الشفيع والمشفوع له ، وهذه الآيات وان لم تتضمن أسماء الشفعاء ، أو أصناف المشفوع له غير أنّها تحدد كلا منهما بحدود واردة في الآيات ، وإليك هذا القسم من الآيات :

1. ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (1).

2. ( مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) (2).

3. ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) (3).

والضمير المتصل في قوله : ( لا يَمْلِكُونَ ) يرجع إلى الآلهة التي كانت تعبد ، وأُشير إليه في قوله سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ) (4).

4. ( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (5).

5. ( وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ ) (6).

6. ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (7) .

ص: 209


1- البقرة : 255.
2- يونس : 3.
3- مريم : 87.
4- مريم : 81 - 82.
5- طه : 109.
6- سبأ : 23.
7- الزخرف : 86.

والضمير المتصل في ( يَدْعُونَ ) يرجع إلى الآلهة الكاذبة كالأصنام والملائكة ، والمسيح بن مريم ، فهؤلاء لا يملكون الشفاعة إلاّ من شهد بالحق وهم يعلمون ، أي شهد بعبودية ربه ووحدانيته كالملائكة والمسيح ويستفاد من هذه الآيات أُمور تالية :

1. انّ هذه الآيات تصرّح بوجود شفعاء يوم القيامة يشفعون تحت شرائط خاصة وإن لم تصرح بأسمائهم وسائر خصوصياتهم.

2. انّ شفاعتهم مشروطة بإذنه سبحانه حيث يقول سبحانه : ( إِلا بِإِذْنِهِ ) .

3. يشترط في الشفيع أن يكون ممن يشهد بالحق ، أي يشهد باللّه سبحانه ووحدانيته وسائر صفاته.

4. أن لا يظهر الشفيع كلاماً يبعث غضب اللّه سبحانه بل يقول قولاً مرضياً عنده ، ويدل عليه قوله سبحانه : ( وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (1).

5. أن يعهد اللّه سبحانه له بالشفاعة كما يشير إليه قوله سبحانه : ( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) .

ثم إنّ هنا سؤالاً يطرح في المقام ونظائره ، وهو : كيف يصح الجمع بين هذا الصنف من الآيات التي تثبت الشفاعة لغيره سبحانه والصنف الخامس الذي يخصها باللّه سبحانه ؟ وهذا السؤال مطروح في مقامات كثيرة قد أجبنا عنها في كتاب « معالم التوحيد » ، وإليك خلاصة الجواب :

إنّ مقتضى التوحيد في الأفعال وأنّه لا مؤثر في عالم الكون إلاّ اللّه سبحانه ، أنّه لا يوجد في الكون مؤثر مستقل سواه ، وانّ تأثير سائر العلل إنّما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه ومشيئته ، والاعتراف بمثل العلل التابعة لا ينافي انحصار

ص: 210


1- قال الطبرسي : أي لا تنفع ذلك اليوم شفاعة أحد في غيره إلاّ شفاعة من إذن اللّه له في أن يشفع ورضي قوله فيها من الأنبياء والأولياء والصالحين والصدّيقين والشهداء. ( مجمع البيان : 4 / 31 ).

التأثير الاستقلالي في اللّه سبحانه ، ومن ليس له إلمام بالمعارف القرآنية يواجه حيرة كبيرة تجاه طائفتين من الآيات ، إذ كيف يمكن أن تنحصر شؤون وأفعال ، كالشفاعة والمالكية والرازقية وتوفّي الأرواح ، والعلم بالغيب ، والإشفاء ، باللّه سبحانه كما عليه أكثر الآيات القرآنية ، بينما تنسب هذه الأفعال في آيات أُخرى إلى غير اللّه من عباده ، فكيف ينسجم هذا الانحصار مع هذه النسبة ؟ غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ هذه الأمور على وجه الاستقلال والأصالة قائمة باللّه سبحانه مختصة به ، في حين أنّ هذه الأمور تصدر من الغير على وجه التبعية وفي ظل القدرة الإلهية.

وقد اجتمعت النسبتان في قوله سبحانه : ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ) (1) فهذه الآية بينما تنسب الرمي بصراحة إلى النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله تسلبه عنه وتنسبه إلى اللّه سبحانه ، وذلك لأنّ انتساب الفعل إلى اللّه - الذي منه وجود العبد وقوته وقدرته - أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلاً لله ، ولكن شدّة الانتساب لا تسلب المسؤولية عن العبد ، وإليه يشير الحكيم السبزواري في منظومته :

لكن كما الوجود منسوب لنا *** والفعل فعل اللّه وهو فعلنا (2)

وعلى ذلك فإذا كانت الشفاعة عبارة عن جريان الفيض الإلهي - أعني : طهارة العباد عن الذنوب وتخلّصهم عن شوائب المعاصي - على عباده ، فهي فعل مختص باللّه سبحانه لا يقدر عليه أحد إلاّ بإقداره وإذنه ، وبذلك يصح نسبته إلى اللّه سبحانه بالأصالة وإلى غيره بالتبعية ، ولا منافاة بين النسبتين ، وهذا كالملكية فاللّه سبحانه مالك الملك والملكوت ، ملك السماوات والأرض بإيجاده وإبداعه ،

ص: 211


1- الأنفال : 17.
2- لاحظ معالم التوحيد : 361 - 365 ، وشرح المنظومة للمحقق السبزواري : 175.

ثم يملّكه العبد منه بإذنه ، ولا منافاة في ذلك لأنّ الملكية الثانية في طول الملكية الأولى ، ونظيرها كتابة أعمال العباد فالكاتب هو اللّه سبحانه حيث يقول سبحانه : ( وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) (1) وفي الوقت نفسه ينسبها إلى رسله وملائكته ويقول سبحانه : ( بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (2).

فإذا كانت الملائكة والأنبياء والأولياء مأذونين في الشفاعة فلا مانع من أن تنسب إليهم الشفاعة كما تنسب إلى اللّه سبحانه ، غير أنّ أحدهما يملك هذا الحق بالأصالة والآخر يملكه بالتبعية.

ولأجل ذلك يقول العلاّمة الطبرسي في تفسير قوله تعالى : ( للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) : أي لا يشفع أحد إلاّ بإذنه ولا يملك أحد الشفاعة إلاّ بتمليكه (3).

وقال العلاّمة الطباطبائي في تفسير تلك الآية : كل شفاعة مملوكة لله فإنّه المالك لكل شيء ، إلاّ أن يأذن لأحد في شيء منها فيملّكه إياها.

وإن شئت قلت : إنّ الشفيع بالحقيقة هو اللّه سبحانه وغيره من الشفعاء لهم الشفاعة بإذن منه ، والشفاعة تنتهي إلى توسط بعض صفاته بينه وبين المشفوع كتوسط الرحمة بينه وبين عبده المذنب ، وتخليصه من العذاب (4).

وهناك بيان أبسط للعلاّمة الطباطبائي نأتي به حرفيّاً :

إنّ الآيات بينما تحكم باختصاص الشفاعة باللّه سبحانه - وقد ذكرت هذه الآيات في الصنف الخامس - وبينما يعمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك ، وكيف كان ، فهي تثبت الشفاعة بلا ريب ، غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك ، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه ، وهناك آيات تنفيها ،

ص: 212


1- النساء : 81.
2- الزخرف : 80.
3- مجمع البيان : 4 / 501.
4- الميزان : 17 / 270.

فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره وإثباته له تعالى بالاختصاص ، ولغيره بارتضائه ، قال تعالى : ( قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللّهُ ) (1).

وقال تعالى : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ ) (2) وقال تعالى : ( عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَسُولٍ ) . (3) وكذلك الآيات الناطقة في التوفّ - ي والرزق ، والتأثير والحكم والملك ، وغير ذلك فإنّها شائعة في اسلوب القرآن ، حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى ثم يثبته لنفسه ثم يثبته لغيره بإذنه ومشيئته ، فتفيد أنّ غيره تعالى من الموجودات لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها واستقلالها وانّما تملكها بتمليك اللّه إيّاها حتى أنّ القرآن يثبت نوعاً من المشيئة فيما حكم وفيما قضى عليها بقضاء حتم ، كقوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (4).فقد علق الخلود بالمشيئة - وخاصة في خلود الجنة ، مع حكمه بأنّ العطاء غير مجذوذ - إشعاراً بأنّ قضاءه تعالى عليهم بالخلود لا يخرج الأمر من يده ولا يبطل سلطانه وملكه عزّ اسمه كما يدل عليه قوله : ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) . (5)

ومن هنا يظهر أنّ الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة

ص: 213


1- النمل : 65.
2- الأنعام : 59.
3- الجن : 26 - 27.
4- هود : 106 - 108.
5- هود : 107.

فإنّما تنفيها عن غيره تعالى بالاستقلال في الملك ، والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة ، ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه ، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى بإذنه (1).

بقيت هنا نكتتان :

1. انّ الظاهر من الاستثناء الوارد في الآيات المتقدّمة ، أعني قوله سبحانه : ( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) وقوله : ( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) وقوله : ( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) انّها بصدد بيان شرائط الشفعاء ، ويؤيد هذا القول قوله سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) غير أنّه ربّما يحتمل أن يكون المراد منه هو المشفوع له ، ويكون مآل الآيات إلى أنّ الشفاعة لا تجدي إلاّ في حق من اجتمعت فيه هذه الشروط.

2. انّ الشفيع المأذون ليس له أيّة استقلالية ولا أصالة في أمر الشفاعة ، بل هو مظهر لإجراء أمره سبحانه وإرادته ومشيئته ، ولأجل ذلك نرى أنّ القرآن ينفي وجود الشفيع المطاع بتاتاً ، حيث يقول : ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) (2). وذلك لأنّ الشفيع ليس صاحب إرادة ومشيئة ، فهو مطيع لأمر اللّه مأذون من جانبه لا مطاع.

الصنف السابع : يذكر من تقبل شفاعته

ويتضمن هذا الصنف أسماء وخصوصيات من تقبل شفاعته يوم القيامة ، وإليك هذه الآيات :

1. ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ

ص: 214


1- الميزان : 1 / 158 - 159.
2- غافر : 18.

ارْتَضَى وَهُم مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) (1).

وهذه الآيات تصرح بأنّ الملائكة الذين اتخذهم المشركون أولاداً لله سبحانه ، معصومون من كل ذنب ، لا يسبقون اللّه بالقول وهم بأمره يعملون ، ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضاه اللّه سبحانه ، وهم مشفقون من خشيته.

2. ( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ) (2).

وهذه الآية كالآية السابقة تفيد كون الملائكة ممن ترضى شفاعتهم بإذن اللّه سبحانه في حق من يشاء اللّه ويرضاه.

3. ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) (3).

وهذه الآية تعد حملة العرش ومن حوله ممن يستغفرون للذين آمنوا ، والآية مطلقة تشمل ظروف الدنيا والآخرة ، وهل طلب المغفرة إلاّ الشفاعة في حق المؤمنين ؟

هذه هي الأصناف السبعة من الآيات الواردة حول الشفاعة نفياً وإثباتاً ، والجميع ناظر إلى أمر واحد وهو أنّ الشفاعة حق خاص باللّه سبحانه وانّ الشفاعة بيده ابتداءً ونهاية ، وهو لا يأذن إلاّ لعدة خاصة من مقربي عباده ، ولا يأذن لهم أن يشفعوا لهم إلاّ في حق عدة معينة.

وعلى ذلك فتفترق الشفاعة الواردة في القرآن الكريم عما عليه اليهود حيث لم يجعلوا لها حداً في الشافع والمشفوع له ، بل القرآن وضع لها حدوداً وقيوداً في

ص: 215


1- الأنبياء : 26 - 28.
2- النجم : 26.
3- غافر : 7.

الشافع والمشفوع له.

كما تفترق عن رأي من رفضها وطردها ولم يثبتها لأحد من أوليائه.

ولأجل ذلك نفصل القول في الشفاعات المردودة والمقبولة حتى يتميّز الحق عن الباطل.

الشفاعات المرفوضة

1. الشفاعة التي كانت تعتقدها اليهود الذين رفضوا كل قيد وشرط في جانب الشافع والمشفوع له واعتقدوا أنّ الحياة الأخروية كالحياة الدنيوية حيث يمكن التخلص من عذاب اللّه سبحانه بالفداء. وقد ردّ القرآن في كثير من الآيات وقال : ( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (1).

وقد مضى هذا الأمر في الصنف الثاني من الأصناف السبعة المذكورة.

2. الشفاعة في حق من قطعوا علاقاتهم الإيمانية مع اللّه سبحانه فلم يؤمنوا به أو بوحدانيته أو بقيامته أو أفسدوا في الأرض ، وظلموا عباده أو غير ذلك مما يوجب قطع رابطة العبد مع اللّه سبحانه حتى صاروا أوضح مصداق لقوله سبحانه : ( نَسُوا اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) (2) وقوله سبحانه : ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى ) (3) وقوله سبحانه : ( فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) (4). إلى غير ذلك من الآيات الواردة في حق المشركين والكافرين والظالمين والمفسدين ، وهؤلاء كما قطعوا علاقتهم الإيمانية مع اللّه

ص: 216


1- البقرة : 48.
2- الحشر : 19.
3- طه : 126.
4- الأعراف : 51.

سبحانه ، كذلك قطعوا علاقتهم الروحية مع الشافع فلم تبق بينهم وبين الشافعين أيّة مشابهة تصحح شفاعتهم لهم.

وقد ورد في الصنف الثالث من الأصناف السبعة المذكورة ما يوضح هذا الأمر.

3. الأصنام التي كانت العرب تعبدها كذباً وزوراً ، وقد نفى القرآن أن تكون هذه الأصنام قادرة على الدفاع عن أنفسها فضلاً عن الشفاعة في حق عبّادها. راجع لمعرفة ذلك الصنف الرابع من الأصناف المذكورة.

هذه هي الشفاعات المرفوضة في القرآن الكريم.

الشفاعات المقبولة

الشفاعات المقبولة عبارة عمّا نذكره :

1. الشفاعة التي هي حق مختص باللّه سبحانه ولا يمكن لمخلوق أن ينازعه في هذا الحق أو يشاركه فيه. لاحظ الصنّف الخامس من الأصناف السبعة.

2. شفاعة قسم خاص من عباد اللّه سبحانه الذين تقبل شفاعتهم عند اللّه تحت شرائط خاصة ذكرت في الآيات الواردة في الصنف السادس وإن لم تذكر أسماؤهم وخصوصياتهم.

3. شفاعة الملائكة وحملة العرش ومن حوله حيث يستغفرون للذين آمنوا ، فهؤلاء يقبل استغفارهم الذي هو قسم من الشفاعة. والفرق بين هذا وما تقدم هو أنّه قد ذكرت أسماء الشفعاء وخصوصياتهم في هذه الآيات دون ما تقدمها.

وبالإحاطة بهذه الأصناف السبعة تقدر على تمييز الشفاعة المرفوضة والمقبولة في لسان القرآن الكريم.

ص: 217

آيات أُخرى في الشفاعة

وهناك آيات أُخرى فسرت بالشفاعة وهذا الصنف وإن لم يكن في الصراحة في الموضوع كالآيات الماضية إلاّ أنّ الأحاديث فسرتها بالشفاعة وقد وردت هذه الأحاديث في المجاميع الحديثية وهذه الآيات عبارة عن ما نذكره :

1. ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (1).

قال في الكشاف : ومعنى المقام المحمود : المقام الذي يحمده القائم فيه وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات ، وقيل : المراد : الشفاعة وهي نوع واحد مما يتناوله اللفظ. وعن ابن عباس : مقام يحمدك فيه الأوّلون والآخرون ، وتشرف فيه على جميع الخلائق تسأل فتعطى ، وتشفع فتشفّع ، وليس أحد إلاّ تحت لوائك (2).

وقال الطبرسي : أجمع المفسرون على أنّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة وهو المقام الذي يشفع فيه للناس وهو المقام الذي يعطى فيه لواء الحمد فيوضع في كفه ويجتمع تحته الأنبياء والملائكة فيكون أوّل شافع وأول مشفّع (3).

وقد روى السيوطي في الدر المنثور ( ج 4 ص 197 ) والسيد البحراني في تفسير البرهان ( ج 2 ص 438 - 440 ) أحاديث متضافرة حول الآية وكلّها تجمع على أنّ المراد من المقام المحمود هو مقام الشفاعة فلاحظها في تلك المراجع.

2. ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلا مَن رَحِمَ اللّهُ إِنَّهُ

ص: 218


1- الإسراء : 79.
2- الكشاف : 2 / 243.
3- مجمع البيان : 3 / 435.

هُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (1).

والاستدلال بالآية على الشفاعة يحتاج إلى الدقة في مفرداتها.

فقد ورد في الآية لفظة الإغناء والنصر ، والمراد من الأوّل هو أنّ يتكفل الغير أمر الإنسان بكامله ، كما أنّ المراد من النصر هو أن يتكفل بعض الأمور ويكون اكتماله بسبب الإنسان نفسه.

فقد نرى أنّ القرآن ينفي أن يقدر إنسان على إغناء إنسان آخر يوم القيامة بأن يرفع عن كاهله كل مسؤولياته ، ويكون هو المسؤول عن عمل غيره ، وهذا ما عبر عنه القرآن في الآيات الأخرى بقوله : ( وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) (2).

كما أنّ القرآن ينفي نصر إنسان لإنسان آخر يوم القيامة ، ولكنّه يستثني من الثاني حالة واحدة معبراً عنها بقوله : ( إِلا مَن رَحِمَ اللّهُ ) (3) أي الذين رحمهم اللّه من المؤمنين.

ومن مصاديق هذا الاستثناء هو الشفاعة ، لأنّ الشفاعة لا تحصل إلاّ بأمر اللّه تعالى وإذنه ، فعندئذ يسقط عقاب المشفوع له لشفاعته (4).

قال العلاّمة الطباطبائي : إنّ الإغناء يكون فيما استقل المغني في عمله ، ولا يكون لمن يغني عنه صنع في ذلك ، والنصرة إنّما تكون فيما كان للمنصور بعض أسباب الظفر الناقصة ، ويتم له ذلك بنصرة الناصر.

والوجه في انتفاء الإغناء والنصر يومئذ انّ الأسباب المؤثرة في نشأة الحياة الدنيا تسقط يوم القيامة قال تعالى : ( وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) (5) وقال :

ص: 219


1- الدخان : 41 - 42.
2- البقرة : 48.
3- الدخان : 42.
4- لاحظ مجمع البيان : 5 / 68.
5- البقرة : 166.

( فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ) (1).

وقوله : ( إِلا مَن رَحِمَ اللّهُ ) استثناء من ضمير ( لا هُمْ يُنصَرُونَ ) والآية من أدلة الشفاعة.

والشفاعة نصرة تحتاج إلى بعض أسباب النجاة وهو الدين المرضي (2).

ولأجل ذلك قلنا انّ الشفاعة تحتاج إلى وجود رابطة ما بين العبد وربه والمشفوع له وشافعه وهي في جانب اللّه العلاقة الإيمانية ، وفي جانب المشفوع له الوشيجة الروحية.

3. ( وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) (3).

وفسرها المفسرون بالشفاعة ، قال الطبرسي : « وسيعطيك ربك في الآخرة من الشفاعة والحوض وسائر أنواع الكرامة فيك وفي أُمتك ما ترضى به. وقال محمد ابن علي بن الحنفية مخاطباً أهل العراق : يا أهل العراق تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب اللّه عزّ وجلّ قوله : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ ) الآية ، وانّا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب اللّه : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) وهي واللّه الشفاعة ، ليعطينها في أهل لا إله إلاّ اللّه حتى يقول ربي رضيت ».

وعن الصادق علیه السلام قال : « دخل رسول اللّه على فاطمة وعليها كساء من ثلة الإبل ، وهي تطحن بيدها وترضع ولدها فدمعت عينا رسول اللّه لما أبصرها ، فقال : يا بنتاه ، تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة ، فقد أنزل اللّه عليَّ ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) » (4).

ص: 220


1- يونس : 28.
2- الميزان : 18 / 157.
3- الضحى : 4 - 5.
4- مجمع البيان : 5 / 505.

وقال الرازي : المروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس انّ هذا هو الشفاعة في الآية والحمل عليها متعين ، ويدل عليه انّ مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنّه تعالى يقول : لا أودعك ولا أبغضك ، بل لا أغضب على أحد من أصحابك وأتباعك وأشياعك طلباً لمرضاتك ، وتطييباً لقلبك ، فهذا التفسير أوفق لمقدم الآية.

أضف إليه الأحاديث الكثيرة الواردة في الشفاعة الدالة على أنّ شفاعة الرسول صلی اللّه علیه و آله في العفو عن المذنبين ، وهذه الآية دلت على أنّه تعالى يفعل كل ما يرضاه فتحصل من مجموع الآية والخبر حصول الشفاعة ، وعن جعفر الصادق علیه السلام انّه قال : « رضا جدي أن لا يدخل النار موحد » ، وعن الباقر علیه السلام : « أنّ أهل القرآن يقولون : أرجى آية قوله : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ ) وأنّا أهل البيت نقول : أرجى آية قوله : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) واللّه إنّها الشفاعة ليعطاها في أهل لا إله إلاّ اللّه حتى يقول : رضيت » (1).

ص: 221


1- مفاتيح الغيب : 8 / 422.

3

ما هي حقيقة الشفاعة ؟

اشارة

إنّ الوقوف على حقيقة الشفاعة يتوقف على بيان أقسامها ، وتفاسيرها فنقول : إنّ الشفاعة حسبما يستفاد من القرآن الكريم تطلق على معان أو على أقسام ، وبعض هذه المعاني أو الأقسام وإن كان خارجاً عن الشفاعة المصطلحة بين أئمّة علم الكلام والتفسير ، غير أنّ الوقوف على مفاد عامّة ما ورد في القرآن الكريم حول الشفاعة يتوقف على توضيح جميع هذه المعاني أو الأقسام ، فنقول : إنّ الشفاعة على معان أو على أقسام :

1. الشفاعة التكوينية.

2. الشفاعة القيادية.

3. الشفاعة المصطلحة.

وإليك شرح هذه الأقسام :

1. الشفاعة التكوينية

تشهد النظرة العلمية والفلسفية بقيام النظام الكوني على أساس سلسلة الأسباب والمسبّبات وارتباط كل ظاهرة من الظواهر الكونية بعلّة وسبب ، وهذا أي كون العالم كعلّة خاصة من مجموعة العلل والمعاليل ، مما أثبتته الأُصول

ص: 222

الفلسفية واعترفت به الآيات القرآنية حسبما أوضحناه في الجزء الأوّل عند البحث عن التوحيد في الخالقية (1) ولا نعيدها هنا.

غير أنّ الظواهر الكونية بحكم أنّها ممكنة الوجود ، غير مستقلّة في ذاتها كما هي غير مستقلّة في علّيتها وتأثيرها ، بمعنى أنّها لا تؤثر إلاّ بإرادة اللّه وإذنه سبحانه ، ضرورة أنّها لو كانت مستقلّةً في التأثير يلزم أن تكون مستقلةً في الوجود لبداهة أنّ الاستقلال في العلية فرع الاستقلال في الوجود ، ولو سلمنا الاستقلال في التأثير فلا محالة قد سلّمنا قبله الاستقلال في الذات وهو يساوق كون الشيء واجباً غنياً عن العلّة ، وهو خلاف الفرض.

ولأجل ذلك اتّفقت الفلاسفة والمتكلمون إلاّ من شذّ من المعتزلة على أنّه لا مؤثّر مستقلّ في الوجود غيره سبحانه ، وأنّ غيره مفتقر في الوجود والتأثير إليه سبحانه ، ولأجل ذلك صار شعار القرآن في حق الإنسان ( وحتى غير الإنسان أيضاً ) : قوله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيزٍ ) (2) وقوله سبحانه : ( وَاللّهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ ) (3).

وقال سبحانه حاكياً عن موسى الكليم علیه السلام : ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) (4).

فعالَم الكون بما أنّه عالَم إمكاني لا يملك من لدن ذاته وجوداً ولا كمالاً ، بل كلما يملك من وجود وكمال فقد أُفيض إليه من جانبه سبحانه فهو بحكم

ص: 223


1- معالم التوحيد : 299 - 314.
2- فاطر : 15 - 17.
3- محمد : 38.
4- القصص : 24.

الإمكان موجود مفتقر في عامة شؤونه ، وتأثيره ، وعلّيته.

وإلى ما ذكرنا من توقف تأثير كل ظاهرة كونية ، على إذنه سبحانه يشير قوله تعالى : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (1).

فإنّ الآية بعدما تصف اللّه سبحانه بأنّه خالق السماوات الأرض في ستة أيام وأنّه استوى بعد ذلك على العرش ، وأنّه يدبّر أمر الخلق ، تعلن بأنّ كل ما في الكون من العلل الطبيعية والظواهر المادية يؤثر بعضه في البعض بإذنه سبحانه ، وأنّه ليست هناك علّة مستقلة في التأثير بل كل ما في الكون من العلل ، ذاته وتأثيره ، قائمان به سبحانه وبإذنه ، فالمراد من الشفيع في الآية هو الأسباب والعلل المادية وغيرها ، الواقعة في طريق وجود الأشياء وتحقّقها وإنّما سميت العلة شفيعاً لأجل أنّ تأثيرها يتوقف على إذنه سبحانه فهي ( مشفوعة إلى إذنه سبحانه ) تؤثر وتعطي ما تعطي.

وعلى ذلك تخرج الآية عن الدلالة على الشفاعة المصطلحة بين أئمّة علم الكلام ، وإنّما اخترنا هذا المعنى لوجود قرائن في نفس الآية ، فإنّها تبحث في صدرها عن خلق السماوات والأرض وتحدّد مدّة الخلق والإيجاد بستة أيام ، ثم ترجع الآية وتنص على سعة قدرته على جميع ما خلق وإحاطته بهم ، وانّه بعد ما خلق السماوات والأرض ، استوفى على عرش القدرة وأخذ يدبّر العالم وعند ذلك ينطرح في ذهن القارئ أنّه إذا كان هو المدبّر والمؤثر فما حال سائر المدبرات والمؤثرات التي يلمسها البشر في حياته ؟

فللإجابة عن هذا السؤال أتى بقوله : ( مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ )

ص: 224


1- يونس : 3.

مصرّحاً بأنّ كل تأثير وتدبير في سبب من الأسباب فإنّما هو بإذنه ومشيئته ولولا إذنه ومشيئته لما قام السبب بالسببية ولا العلة بالعلية ، وهذه القرائن توجب حمل هذه الجملة على ما يجري في عالم الكون والوجود من التأثّر والعلّية ، وتفسيرها بالشفاعة التكوينية وإنّ كل ظاهرة مؤثّرة كالشمس والقمر والنار والماء لا تؤثر إلاّ بالاستمداد من قدرته سبحانه والاعتماد على إذنه ومشيئته حتى يتم بذلك التوحيد في الخالقية والتدبير ، فلا خالق إلاّ هو ، كما لا مدبر إلا هو ، فما يتراءى في صفحة الوجود من الخلق والتدبير فليس على ظاهرهما وإنّما تقوم سائر العلل بالخلقة والدبير مستمداً من حوله وقوته ، فيرجع معنى الآية إلى أنّه لا مؤثّر في الكون إلاّ من بعد إذنه ، ولأجل ذلك تستنتج الآية وتخاطب البشر بأنّه إذا كان هو الخالق والمستولي على عرش القدرة والمدبر لجميع العالم ، وإذا كان تأثير كل ما سواه بإذنه ، فليعبد ذلك الرب سبحانه دون غيره ، إذ هو اللائق دون ما سواه بالعبادة ، فإنّ منشأ العبادة والخضوع هو الوقوف على الجمال والكمال المطلقين في المعبود بحيث يحمل ذلك الوقوف الإنسان العارف على العبادة والخضوع وليس ذلك الكمال موجوداً إلاّ فيه سبحانه ، لأنّه الخالق المستولي المدبّر المعطي لكل ما سواه : الوجود والتأثير ، قال : ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .

إذا وقفت على ما ذكرنا تقف على أنّه لا يناسب حملها على الشفاعة المصطلحة التي تدور حول التكاليف والتشريعات وعصيان العباد ومخالفتهم لها ، ثم توسيط الشفعاء لغفران ذنوبهم وحط سيئاتهم.

وإلى ما ذكرنا يشير العلاّمة الطباطبائي بقوله : « إنّ ربكم معاشر الناس هو اللّه الذي خلق هذا العالم المشهود كله سماواته وأرضه في ستة أيام ، ثم استوى على عرش قدرته ، وقام مقام التدبير الذي إليه ينتهي كل تدبير وإرادة ، فشرع يدبر أمر العالم ، وإذا انتهى إليه كل تدبير من دون الاستعانة بمعين أو الاعتضاد بأعضاد ،

ص: 225

لم يكن لشيء من الأشياء أن يتوسط في تدبير أمر من الأمور - وهو الشفاعة - إلاّ من بعد إذنه ، تعالى ، فهو سبحانه هو السبب الأصلي الذي لا سبب بالأصالة دونه وغيره من الأسباب أسباب بتسبيبه وشفعاء من بعد إذنه ، وإذا كان كذلك كان اللّه تعالى هو ربكم الذي يدبر أمركم لا غيره مما اتخذتموه أرباباً من دون اللّه وشفعاء عنده وهو المراد بقوله : ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أي لماذا لا تنتقلون انتقالاً فكرياً حتى تفهموا أنّ اللّه هو ربكم لا ربَّ غيره (1).

2. الشفاعة القيادية
اشارة

المراد من هذا الصنف هو قيام قيادة الأنبياء والأولياء والأئمّة والعلماء والكتب السماوية مقام الشفيع والشفاعة في تخليص البشر من عواقب أعماله وآثار سيئاته.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا كانت نتيجة الشفاعة المصطلحة يوم القيامة هي تخليص العصاة من عواقب أعمالهم ، وآثار معاصيهم وأفعالهم ، فإنّ قيادة الأنبياء والأولياء والكتب السماوية والعلماء وأقلامهم تقوم بنفس هذا العمل.

غير أنّ الفرق بين الشفاعتين واضح فإنّ الشفاعة المصطلحة توجب رفع العذاب عن العبد بعد استحقاقه له ، وهذه الشفاعة توجب أن لا يقع العبد في عداد العصاة حتى يستحق.

وإن شئت قلت : إنّ الشفاعة الأولى تخلّص العبد بعد زلته وعثرته وبعد وقوعه في المهالك والمهاوي ، ولكن الشفاعة القيادية تمنع من وقوع العبد في المهالك وزلته إلى المهاوي ، فالأولى من قبيل الرفع ، والثانية من قبيل الدفع ، والفرق بينهما واضح ، فإنّ الرفع يمنع المقتضي عن التأثير بعد وجوده ، والدفع

ص: 226


1- الميزان : 10 / 6 - 7.

يمنع عن وجود المقتضي وتكوّنه.

وعلى ما ذكرنا من قيام قيادة الأنبياء والأئمّة مقام الشفيع والشفاعة في تخليص العبد من الوقوع في المهالك ، يظهر أنّ إطلاق الشفاعة على هذا القسم ليس إطلاقاً مجازياً بل إطلاق حقيقي. وقد شهد بذلك القرآن والأخبار ، قال سبحانه : ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (1) والضمير المجرور في ( بِهِ ) يرجع إلى القرآن (2).

ولا شك أنّ ظرف شفاعة هذه الأمور إنّما هو الحياة الدنيوية ، فإنّ تعاليم الأنبياء وقيادتهم الحكيمة وهداية القرآن وغيره إنّما تتحقق في هذه الحياة الدنيوية ، وإن كانت نتائجها تظهر في الحياة الأخروية ، فمن عمل بالقرآن وجعله أمامه في هذه الحياة قاده إلى الجنة في الحياة الأخروية ، ولأجل ذلك نرى أنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله يأمر الأمّة بالتمسك بالقرآن ويصفه بأنّه الشافع المشفّع ويقول : « فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفّع ، وماحل مصدّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبرهان » (3).

فإنّ قوله : ومن جعله أمامه ، تفسير لقوله : فإنّه شافع مشفّع.

والحاصل : أنّ الشفاعة القيادية شفاعة بالمعنى اللغوي ، فإنّ المكلفين بضم هداية القرآن وتوجيهات الأنبياء والأئمّة إلى إراداتهم وطلباتهم ، يفوزون بالسعادة ويصلون إلى أرقى المقامات في الحياة الأخروية ويتخلّصون من تبعات المعاصي ولوازمها.

ص: 227


1- الأنعام : 51.
2- مجمع البيان : 2 / 304.
3- الكافي : 2 / 238.

فالمكلف وحده لا يصل إلى هذه المقامات ، ولا يتخلص من تبعات المعاصي ، كما أنّ خطاب القرآن والأنبياء وحده من دون أن يكون هناك من يسمع قولهم ويلبّي نداءهم لا يكون له أثر وإنّما يؤثر إذا انضمّ عمل المكلف إلى هدايتهم ، وهدايتهم إلى عمل المكلف فعندئذ تتحقق هذه الغاية.

وبهذا تبيّن أنّ هذه الشفاعة لغوية ، لا تمت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة ، وذلك لأنّ جميع هذه الأمور ، أعني اتّباع المكلف وقيادة الأنبياء وهداية القرآن ، غير متحققة إلاّ في الظروف الدنيوية وإن كانت تظهر النتيجة التامة في الحياة الأخروية ، والشفاعة المصطلحة عبارة عن تحقق الشفاعة في الحياة الأخروية وظهور نتائجها فيها ، وعندئذ يكون بين الشفاعتين بون بعيد.

والدليل على أنّ ظرف الشفاعة المصطلحة هو الحياة الأخروية : ما ورد في القرآن الكريم ، حيث عرف ظرفها اليوم الأخروي ، إذ قال سبحانه : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (1).

وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ) (2) وقال سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (3) وقال سبحانه : ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلا مَن رَحِمَ اللّهُ إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الرَحِيمُ ) (4).

فأنت إذا لاحظت هذه الآيات وأمعنت النظر في كلمة ( يَوْمَ ) التي وردت في هذه الآيات مكررةً ، تقف على أنّ ظرف إعمال الشفاعة وتحققها وظهور نتائجها

ص: 228


1- البقرة : 48.
2- البقرة : 254.
3- طه : 109.
4- الدخان : 41 - 42.

جميعاً إنّما هو الحياة الأخروية ، أعني اليوم الموعود الذي وعده اللّه لجميع الناس.

وأمّا الشفاعة القيادية فنفس الشفاعة وتحقّقها وتكوّنها في الحياة الدنيا وإنّما تتحقّق نتائجها وتظهر آثارها في الحياة الأخروية فكيف يصح أن تفسّر إحدى الشفاعتين بالأخرى ؟!

والذي يكشف عن ذلك هو أنّ بعض الآيات النافية للشفاعة والمثبتة لها إنّما وردت في نفي عقيدة اليهود القائلين بالشفاعة الباطلة ، فأراد القرآن بنصوصه إخراج أمر الشفاعة بصورة صحيحة لا تأباه الفطرة ، ولا تنخرم به الأصول العقلية ، فبما أنّ اليهود يعتقدون بأنّ انتسابهم إلى الأنبياء يوجب أن لا تمسّهم النار يوم القيامة إلاّ أياماً معدودة ، جاء القرآن يفنّد هذه المزعمة بنفي الشفاعة المطلقة المحررة من كل قيد وإثبات شفاعة محدودة ومقيّدة ، وعلى ذلك فالنفي والإثبات في آيات الشفاعة لا يردان على المورد الواحد إلاّ بجعل ظرف تلك الشفاعة هو يوم القيامة والحياة الأخروية.

وعلى ذلك لا ينبغي لمفسّرٍ إرجاع الآيات المربوطة بالشفاعة ، إلى الشفاعة القيادية ، التي لا ترتبط بعقيدة اليهود في أمر الشفاعة وليس لها ظرف إلاّ هذه الحياة الدنيوية.

أضف إلى ذلك أنّ القرآن يعرّف الملائكة بأنّهم من الشفعاء ويقول سبحانه : ( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ) (1) ومن المعلوم أنّ الشفاعة الممكنة من الملائكة في حق الإنسان إنّما هي الشفاعة المصطلحة ، لا القيادية فإنّ البشر العادي لا يقدر على الاستنارة والاستفادة من الملك ، ولا يمكن للملك أن يتكفل قيادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا.

ص: 229


1- النجم : 26.

وهذه الوجوه وغيرها تفنّد زعم من فسّر الشفاعة الواردة في القرآن الكريم بالشفاعة القيادية ، منهم الشيخ الطنطاوي في تفسيره ، فإنّه لما لم يتوفّق لحل مشاكل الشفاعة التي اخترعتها بعض العقول المنحرفة في أمر الولاية ، صار إلى تفسير آياتها بالشفاعة القيادية ، وأخذ يفسرها بتعاليم الأنبياء وهداية القرآن التي يصل بها الإنسان إلى الفوز والسعادة ، ويتخلّص بها من العذاب حيث قال :

إنّ شفاعة الأنبياء ليس من قبيل الهبات المالية ولا الوظائف الإدارية وإنّما هي نفحات علمية وأخلاق حكمية وآداب نبوية (1).

فَمَن فَقِهَ ما قالوه واتّبع ما رسموه واستثمر من بذور الشفاعة ما بذروه ، تمت له الشفاعة ودخل مع الجماعة وليس هذا القول بمخالف أهل السنّة ولا المعتزلة ، فإنّ خروج العاصي من النار بالشفاعة أو إبعاده عنها قبل الدخول وكذلك زيادة الحسنات في الأعمال للصالحين ، كل هذا جاء من شفاعته واتّباعه بل كل ثواب فإنّما هو بسبب ذلك وهكذا كل نجاة ، فإنّه صلی اللّه علیه و آله لو لم يأت لنا بالشريعة لكنّا أقرب إلى الحيوان فصرنا باتّباعه داخلين في شفاعته ، ولا يكون ذلك إلاّ باتّباعه ولا ننال إلاّ ما استعددنا له.

سؤال وجواب

ولقائل أن يقول : إنّ القول بمسألة تجسّم الأعمال بمعنى أنّ ما يفعله الإنسان من صالح الأعمال وما يرتكبه من جرائمها سيجسم في الحياة الأخروية بالوجود المناسب لظرف تلك الحياة ربّما يدفع تخصيص الشفاعة القيادية بالحياة الدنيوية ، ويوجب عموميتها لغير هذا الظرف أيضاً ، وذلك لأنّ التجسم لا يختص بنفس الأعمال بل يعم الروابط الموجودة بين الناس حتى رابطة التابعية والمتبوعية

ص: 230


1- تفسير الطنطاوي : 1 / 69 - 70.

ورابطة الإمامة والقيادة الحاكمة في الحياة الدنيوية ، فإنّ صريح الآيات هو أنّ كل أُناس يُدّعى بإمامتهم فالقيادة الموجودة في هذه الحياة يمتد وجودها إلى الحياة الأخروية ، فمن كان قائداً في هذا الظرف فهو قائد في الحياة الأخروية ، قال سبحانه : ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (1) فهذه الآية تكشف عن أنّ القيادة سيمتد وجودها وينجر من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى ، ويدل على ذلك بوضوح قوله سبحانه في حق فرعون : ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الوِرْدُ المَوْرُودُ ) (2).

وهذه الآية تدل - بوضوح وصراحة - على امتداد وجود القيادة من هذه الحياة إلى الحياة الأخروية ، فالإمام الحق يقود أُمّته إلى الجنة ، والإمام الباطل يقدم قومه ويوردهم النار ، وعلى ذلك فكل إمام سواء كان حقّاً أو باطلاً شفيع يسوق المشفوع له إلى الغاية التي يتوخّاها ، ولا يختص ظرف تلك الشفاعة بالحياة الدنيوية.

ولكن الإجابة عن هذا السؤال واضحة ، فإنّ القول بأنّ حقيقة التجسّم امتداد لنفس العمل الدنيوي إلى الحياة الأخروية غفلة عن حقيقة التجسّم الذي كشف عنه القرآن في بعض آياته.

فإنّ التجسّم الذي يعترف به القرآن هو عبارة عن ظهور نفس العمل الدنيوي بالوجود المناسب للعالم الأخروي ، فالقيادة في الحياة الأخروية ليست امتداداً للقيادة الحاكمة في الحياة الدنيوية بل هو ظهور تلك القيادة بالوجود المناسب للعالم الأخروي ، والفرق بين الوجودين كالفرق بين الذهب ومعدنه ، فليس هناك ذهبان بل هناك ذهب واحد ، يظهر تارة بوجود معدني مع ما يرافقه

ص: 231


1- الإسراء : 71.
2- هود : 98.

من الشوائب والأغيار ، وأُخرى بوجوده المصفّى ، والذهب المصبوب المصفّى من تلك الزوائد والشوائب ، نفس الذهب في حالته الأوّلية.

ويدلّ على ما ذكرناه - من أنّ هنا شيئاً واحداً يظهر بوجودين - الآيات الواردة حول مسألة التجسم قال سبحانه : ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (1) وقال سبحانه : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ) (2) وصريح الآيتين هو أنّ الحاضر هو نفس العمل ، كما أنّ المحضر نفس ما عملته النفس لا شيء آخر مغاير للوجود الدنيوي.

ويدل بوضوح على ذلك قوله سبحانه في حق مكتنزي الذهب والفضة : ( يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) (3) فالمحمي الظاهر في شكل النار هو نفس ما اكتنز من الذهب والفضة كما هو صريح قوله : ( هَذَا مَا كَنَزْتُمْ ) ، وقوله : ( فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) لا شيئاً آخر ، ولا امتداداً لذلك الوجود.

وعلى ذلك فالقيادة الأخروية والشفاعة التي تنتزع من تلك القيادة صورة أُخروية لنفس القيادة والشفاعة الدنيوية ، وحقيقة عينية لها ، فإنّ اللّه سبحانه يوجد تلك القيادة بالوجود المناسب لهذا الظرف ، وعلى ذلك فظرف الشفاعة القيادية وموضع تكونها هو الحياة الدنيوية ، وما يظهر من القيادة يوم القيامة هو ظهور تلك الرابطة لا شيء آخر ، وعلى ذلك فلا يناسب تفسير آيات الشفاعة أو بعضها بمسألة تجسّم العمل وتجسّم الروابط والقيادات الموجودة في الحياة الدنيوية للبشر ، فسوق فرعون قومه يوم القيامة إلى النار هو تجسم للقيادة التي اتخذها فرعون لنفسه

ص: 232


1- الكهف : 49.
2- آل عمران : 30.
3- التوبة : 35.

في هذه الدنيا وتبعتها أُمّته المسكينة ، فهذه القيادة الدنيوية تتمثل في الآخرة بالقيادة إلى النار.

3. الشفاعة المصطلحة
اشارة

وحقيقة هذه الشفاعة لا تعني إلاّ أن تصل رحمته سبحانه ومغفرته وفيضه إلى عباده عن طريق أوليائه وصفوة عباده ، وليس هذا بأمر غريب فكما أنّ الهداية الإلهية التي هي من فيوضه سبحانه ، تصل إلى عباده في هذه الدنيا من طريق أنبيائه وكتبه ، فهكذا تصل مغفرته سبحانه وغفرانه إلى المذنبين والعصاة يوم القيامة من عباده عن ذلك الطريق.

وإن شئت قلت : إنّ إرادته الحكيمة جرت في صفحة الوجود أن يتحقق كل شيء من طريق الأسباب الخاصة ، والعلل المعينة فكما أنّ رحمته التي وسعت كل شيء تصل إلى عباده في الحياة الدنيوية ، عن طرق خاصة وعلل طبيعية يلمسها كل من فتح عينه على الكون ، فكذلك رحمته المعنوية ومغفرته الوسيعة تصل في الحياة الأخروية إلى عباده عن طريق علل وأسباب خاصة ومن تلك الأسباب ، أولياؤه وصفوة خلقه ، ودعاؤهم وطلباتهم.

وما ذلك إلاّ لأنّ اللّه سبحانه قد جعل لكل شيء سبباً وقضى أن لا يصدر المسبب إلاّ بتوسط أسبابه ، فدار الوجود وصفحة الكون مدار الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات ، وقد جرت عليه مشيئته وإرادته.

أضف إلى ذلك أنّ وصول فيضه عن طريق أوليائه إلى عباده ، تكريم للأولياء ، وإظهار لمقامهم ونوع مثوبة لهم بالنسبة إلى طاعتهم وتضحياتهم ، في طريق الحق ، وإبلاغ رسالاته وأوامره.

ولا بعد في أنّ يصل غفرانه سبحانه إلى عباده يوم القيامة عن طريق خيرة

ص: 233

عباده فإنّ اللّه سبحانه قد جعل دعاءهم في الحياة الدنيوية سبباً ، ونص بذلك في بعض آياته فنرى أنّ أبناء يعقوب لما عادوا خاضعين ، رجعوا إلى أبيهم وقالوا له : ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) (1) فأجابهم يعقوب بقوله : ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (2).

وليس يعقوب وحيداً في هذا الباب بل النبي الأكرم أحد من يستجاب دعاؤه في حق العصاة قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) (3).

وهذه الآيات ونظائرها مما لم نذكرها مثل قوله : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (4) تدل على أنّ مغفرته سبحانه قد تصل إلى عباده بتوسيط واسطة كالأنبياء ، وقد تصل بلا توسيط واسطة ، كما يفصح عنه سبحانه بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) (5) ، وقوله : ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (6) إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن أنّ توبة العبد تجلب المغفرة بلا واسطة أحد وقد تصل بتوسيط واسطة هي من أعز عباده وأفضل خليقته وبريته.

وتتضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق وبخاصة دعاء الصالحين من المؤثرات الواقعة في سلسلة نظام العلة والمعلول ، ولا تنحصر العلة في العلل الواقعة في إطار الحس ، فإنّ في الكون مؤثرات خارجة عن إحساسنا

ص: 234


1- يوسف : 97.
2- يوسف : 98.
3- النساء : 64.
4- التوبة : 103.
5- التحريم : 8.
6- هود : 90.

وحواسنا بل قد تكون بعيدة حتى عن تفكيرنا ، يقول سبحانه : ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (1).

فما المراد من ( المُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) ؟ أهي مختصة بالمدبرات الطبيعية المادية ، أو المراد هو الأعم منها ؟ فقد روي عن أمير المؤمنين تفسيرها بالملائكة الأقوياء ، الذين عهد اللّه إليهم تدبير الكون والحياة بإذنه سبحانه ، فكما أنّ هذه المدبرات يجب الإيمان بها وان لم تعلم كيفية تدبيرها وحقيقة تأثيرها ، فكذلك الدعاء يجب الإيمان بتأثيره في جلب المغفرة ، ودفع العذاب وان لم تعلم كيفية تأثيره.

ويشير إلى ذلك ما روي عن النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله حيث سئل عن الأحراز التي يتداولها سواد الناس يقصدون بها الاستشفاء ، وهل أنّها تستطيع أن تغير القدر أو لا ؟ فأجاب صلی اللّه علیه و آله : « هي من قدر اللّه » (2). فأخبر بهذا عن أنّ الدعاء أيضاً جزء من القدر الإلهي ، فكما قدر أن يشفى المريض بسبب الداوء كذلك قدر أن يشفى بالدعاء.

ثم إنّ العلاّمة الطباطبائي رضوان اللّه عليه قد أوضح كيفية تأثير الشفاعة في جلب الغفران ودفع العذاب بقوله : « إنّ الشفيع إنّما يحكّم بعض العوامل المربوطة بالمورد ، المؤثرة في رفع العقاب مثلاً من صفات المشفوع عنده ( أي اللّه سبحانه ) على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم وترتب العقاب على مخالفته ( إلى أن قال : ) ومن هنا يظهر أنّ الشفاعة من مصاديق المسببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الأوّل ومسبّبه.

ص: 235


1- النازعات : 1 - 5.
2- التاج الجامع للأصول : 3 / 178 - 179. وروى الصدوق عن الإمام الصادق علیه السلام عندما سئل عن الرقى : أتدفع من القدر شيئاً ؟ فقال : « هي من القدر ». راجع توحيد الصدوق : 389.

وإن شئت قلت : إنّ الشفيع يستفيد من صفات اللّه العليا من الرحمة والخلق والإحياء والرزق وغير ذلك في إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه ، فكما أنّ الشفاعة التكوينية ( التي مر ذكرها وشرحها في القسم الأوّل من الشفاعة ) ليست إلاّ توسط العلل والأسباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها كما يفصح عنه قوله سبحانه : ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) (1) فكذلك الشفاعة المصطلحة فإنّ الآيات تثبت الشفاعة لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الإذن والارتضاء ، فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبداً من عباده ساءت حاله بالمعصية وشملته بلية العقوبة ، ولله الملك وهو القائل عز من قائل : ( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) (2). (3)

وبذلك ظهر أنّ الشفاعة المصطلحة قسم من الشفاعة التكوينية ، بمعنى تأثير دعاء النبي ومسألته في جلب الغفران بتوسيط صفاته العليا في هذا الأمر.

أضف إلى ذلك : انّ تأثير الشفاعة في جلب الغفران ونزول الفيض ، لا يحتاج إلى هذا التحليل أساساً ، فإنّ اللّه سبحانه هو مالك يوم الدين وله الملك وله الأمر ، فكما أنّ له إحباط عمل الكفار والمنافقين إذ يقول سبحانه : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنثُوراً ) (4) وقال سبحانه : ( فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (5) فكذلك له أن يغفر من ذنوب عباده ما شاء ولمن شاء وبما شاء إذ يقول : ( إِنَّ اللّهَ

ص: 236


1- يونس : 3.
2- الفرقان : 70.
3- الميزان : 1 / 161 - 163 بتلخيص.
4- الفرقان : 23.
5- محمد : 10.

لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (1) ، والآية واردة في غير مورد الإيمان والتوبة فإنّ الإيمان والتوبة ، يغفر بهما الشرك أيضاً.

فكما أنّ له تكثير القليل من العمل قال سبحانه : ( أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَرَّتَيْنِ ) (2) وقال سبحانه : ( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) (3) كذلك له أن يجعل المعدوم من العمل موجوداً قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِنْ عَمَلِهِم مِن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) (4).

وهذه الآية تصرح بأنّ ثواب العمل يصل إلى ذرية الإنسان أيضاً وإن لم تفعل هي بنفسها.

ولا يتوهم من هذه الآيات أنّ المغفرة والعقاب لا يخضعان لقانون بل اللّه يفعل ما يفعل بملاكات ومصالح مقتضية خفية علينا ، ولتكن من ذلك شفاعة أوليائه وتوسط صفوة عباده في هذا المورد. مبررات الشفاعة

إنّ هناك مبررات لجعل الشفاعة من أسباب المغفرة ورفع العذاب نذكر بعضها :

1. ابتلاء الناس بالذنب والتقصير

ربما يقال إذا كان المنقذ الوحيد للإنسان يوم القيامة هو عمله الصالح كما

ص: 237


1- النساء : 48 و 116.
2- القصص : 54.
3- الأنعام : 160.
4- الطور : 21.

هو صريح الآيات ، فلماذا جعلت الشفاعة وسيلة للمغفرة ، وسبباً لرفع العذاب أو ليس اللّه يقول : ( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى ) (1) وقال سبحانه : ( فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ ) (2) وقال سبحانه : ( وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ) (3) وعلى ذلك فلماذا أُدخلت الشفاعة في سلسلة العلل لجلب المغفرة ؟

ولكن الإجابة على هذا السؤال واضحة فإنّ الفوز بالسعادة وإن كان يعتمد على العمل أشد الاعتماد غير أنّ صريح الآيات الأخر هو انّ العمل بنفسه ما لم تنضم إليه رحمته الواسعة لا ينقذ الإنسان من تبعات تقصيره ، قال سبحانه : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ) (4) وقال سبحانه : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ ) (5). (6)

ص: 238


1- الكهف : 88.
2- القصص : 67.
3- القصص : 80.
4- النحل : 61.
5- فاطر : 45.
6- الآيتان بحكم السياق تعنيان الكفار والعصاة ، فلا تعمّان المعصومين من الناس ، فإنّ الآية المتقدمة على تلك الآية في سورة النحل تعني الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وتقول : ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل : 60 ). كما أن الآية المتقدمة على الواردة في سورة فاطر تعني المستكبرين فتقول: (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (فاطر: (43) ثم يقول: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا..) . وعلى ذلك فالمنصرف من لفظة (الناس) في الآيتين هو الكفار والمستكبرون.

وقد روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « أيّها الناس انّه ليس بين اللّه وبين أحد نسب ولا أمر يؤتيه به خيراً أو يصرف عنه شراً إلاّ العمل ألا لا يدّعين مدع ولا يتمنين متمن ، والذي بعثني بالحق لا ينجي إلاّ عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت » (1).

ولأجل ذلك نرى أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « إنّه ليغان على قلبي ، وإنّي لاستغفر اللّه كل يوم مائة مرة » (2).

ويدل هذا الحديث على أنّ كل من كثر قربه منه سبحانه يستفيد من مغفرته وفيضه العام أكثر من غيره.

2. سعة رحمته لكل شيء

إنّ التدّبر في الآيات القرآنية يعطي انّ رحمة اللّه سبحانه واسعة تسع كل الناس ، إلاّ من بلغ إلى حد لا يقبل التطهر ، ولا الغفران ، قال سبحانه حاكياً عن حملة العرش الذين يستغفرون للذين تابوا واتبعوا سبيله : ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ) (3).

نرى أنّ حملة العرش يدلّلون طلب غفرانه سبحانه للتائبين والتابعين لسبيله بكون رحمته واسعة وسعت كل شيء.

كما نرى أنّه سبحانه يأمر نبيه أن يواجه الناس كلهم حتى المكذبين لرسالته

ص: 239


1- الشرح الحديدي لنهج البلاغة : 2 / 863.
2- صحيح مسلم : 8 / 72 ، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه ، ط محمد علي صبيح. وللعلماء في معنى الحديث توجيهات ذكرها القاضي في الشفاء في الفصل الأوّل من الباب الأوّل من القسم الثالث.
3- غافر : 7.

بقوله : ( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) (1).

ونرى في آية ثالثة يعد الذين يجتنبون الكبائر بالرحمة والمغفرة ويقول : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ) (2). وهذه الآيات توضح مفاد ما ورد في الأدعية الإسلامية من قوله علیه السلام : « يا من سبقت رحمته غضبه ».

كيف ونحن نرى أنّ اللّه سبحانه يعد القانط من رحمة اللّه والآيس من روحه كافراً وضالاً ويقول : ( وَلا تَيْأَسُوا مِن رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللّهِ إِلا القَوْمُ الكَافِرُونَ ) (3) ويقول أيضاً : ( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ ) (4) ويقول سبحانه : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (5).

فإذا عرفنا القرآن بأنّ اللّه سبحانه ذو رحمة واسعة تفيض على كل شيء ، فعند ذلك لا مانع من أن تفيض رحمته وغفرانه عن طريق أنبيائه ورسله وأوليائه فيقبل أدعيتهم ، وطلباتهم في حق عباده بدافع انّه سبحانه ذو رحمة واسعة ، كما لا مانع أن يعتقد العصاة في شرائط خاصة بغفرانه سبحانه من طرق كثيرة لأجل أنّه عد القانط ضالاً والآيس كافراً.

وعلى الجملة فكما يجب على المربي الديني أن يذكّر عباد اللّه بعقوبته وعذابه وما أعدّ للعصاة والكفار من سلاسل ونيران ، يجب عليه أيضاً أن يذكّرهم برحمته الواسعة ومغفرته العامة التي تشمل كل شيء إلاّ من بلغ من الخبث والرداءة درجة

ص: 240


1- الأنعام : 147.
2- النجم : 32.
3- يوسف : 87.
4- الحجر : 56.
5- الزمر : 53.

لا يقبل معها التطهير كما قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (1).

3. الأصل هو السلامة

دلت التجارب والبراهين العقلية على أنّ الأصل الأوّلي في الخليقة هو السلامة وانّ المرض والانحراف أمران يعرضان على المزاج ويزولان بالمداواة والمعالجة ، وليس هذا الأصل مختصاً بالسلامة من حيث العيوب الجسمانية بل الأصل هو الطهارة من الأقذار والأدران المعنوية فقد خلق الإنسان على الفطرة النقية السليمة من الشرك والعصيان التي أشار إليها القرآن بقوله : ( فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (2). وقال النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « كل مولود يولد على الفطرة ، ثم أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه » (3).

وعلى ذلك فلا غرو في أن تزول آثار العصيان عن الإنسان بالعلاج والمداواة الخاصة في مواقف شتى حتى تظهر الخليقة الأولى التي فطر عليها.

فقد جعل اللّه سبحانه المواقف التي يمر بها الإنسان بعد موته في البرزخ ويوم القيامة ، وسائل لتطهير الإنسان وتصفيته من آثار الذنوب وتبعاتها ، ولا غرو في أن يكون الشفعاء المرضيون عند اللّه ، أطباء يعالجون أُولئك المرضى ، بتصرفاتهم ونفوسهم القوية حتى يزيلوا عنهم غبار المعصية ، ودرن الذنب حتى تعود الجوهرة الإنسانية نقية صافية ناصعة فيستحق الإنسان نعيم الآخرة ودخول الجنّة إلاّ من بلغ إلى حد لا يقبل العلاج والتداوي ، لأجل أنّ ذاته قد انقلبت إلى ما يضاد

ص: 241


1- النساء : 48.
2- الروم : 30.
3- التاج الجامع للأصول : 4 / 180 ، تفسير البرهان : 3 / 261 ، الحديث 5.

الجوهرة الإنسانية النقية التي لا تقبل أيّة مداواة أو علاج ، كما لو اتخذ لربه شريكاً فاستحق الخلود في النار.

فليس التوقّف في البرزخ ولا في المراحل المتنوعة في يوم القيامة ولا الدخول في النار مدة محدودة ولا شفاعة الأنبياء والأولياء في حقهم ، إلاّ تصرفاً تكوينياً في حقهم حتى تعود الجوهرة الأوّلية إلى حالتها الطبيعة الأولى وتصفو من كل شائبة تعلّقت بها نتيجة العصيان والتمرد.

4. الآثار البنّاءة والتربوية للشفاعة

إنّ تشريع الشفاعة ، والاعتراف بها في النظام الإسلامي إنّما هو لأجل غايات تربوية تترتب على ذلك التشريع والاعتقاد به ، وذلك لأنّ الاعتقاد بالشفاعة المقيدة بشروط معقولة سيوافيك بيانها ، من شأنه بعث الأمل في نفوس العصاة وأفئدة المذنبين ، يدفعهم إلى العودة عن سلوكهم الإجرامي ، وإعادة النظر في منهج حياتهم الشرير ، ويمسكهم عن الاستمرار والتمادي في ماهم عليه من التمرد والعصيان ، وذلك لأنّهم إذا رأوا أنّ الرجوع عن منتصف الطريق الباطل إلى طريق الصواب والحق ، سينقذهم من ما يترتب على أفعالهم السيئة التي ارتكبوها مدة من عمرهم ، اغتنموا الفرصة بتغيير وضعهم وتعديل سلوكهم إلى ما فيه رضا ربهم.

وهذا الاعتقاد - بالرغم مما اعترض عليه من جانب البعض بأنّه يوجب الجرأة ويحيي روح التمرد في العصاة والمجرمين - يتسبب في إصلاح سلوك المجرم ويقظته وإنابته ، والتخلّي عن ما يرتكبه من آثام ويقترفه من ذنوب.

وتظهر حقيقة الحال إذا لاحظنا مسألة التوبة التي اتفقت عليها الأمّة ونص بها الكتاب والحديث ، فإنّه لو كان باب التوبة موصداً في وجه العصاة

ص: 242

والمذنبين ، واعتقد المجرم بأنّ عصيانه مرة واحدة أو مرّات سيخلده في عذاب اللّه ، ولا مناص له منه ، فلا شك انّ هذا الاعتقاد يوجب التمادي في اقتراف السيئات وارتكاب الذنوب ، لأنّه يعتقد بأنّه لو غير وضعه وسلوكه في مستقبل أمره ، لا يقع ذلك مؤثراً في مصيره وخلوده في عذاب اللّه ، فلا وجه لأن يترك المعاصي ، ويغادر اللذة المحرمة ، ويتحمّل عناء العبادة والطاعة ، بل يستمر على وضعه السابق حتى يوافيه أجله.

وهذا بخلاف ما إذا وجد الجو مشرقاً والطريق مفتوحاً ، والنوافذ مشرعة واعتقد بأنّه سبحانه سيقبل توبته إذا كانت نصوحاً ، وإنّ رجوعه هذا سيغير مصيره في الآخرة ، وينقذه من تبعات أعماله ، وأليم العذاب عليها فعند ذلك سيترك العصيان ، ويرجع إلى الطاعة ، ويستغفر لذنوبه ، ويطلب الإغضاء عن سيئاته.

فهذا الاعتقاد له الأثر البناء في تهذيب الناس والشباب خاصة ، وكم وكم من شباب اقترفوا السيئات ، وأمضوا الليالي في اللذة المحرمة ، ثم عادوا إلى خلاف ما كانوا عليه في ظل التوبة والاعتقاد بأنّها تجدي المذنبين ، وبأنّ أبواب الرحمة والفلاح مفتوحة بعد لم تغلق ، فعادوا يسهرون الليالي في العبادة ، ويحيونها بالطاعة.

وليس هذا إلاّ أثر ذلك الاعتقاد ، وذاك التشريع.

ومثل ذلك ، الاعتقاد بالشفاعة المحدودة ، فانّه إذا اعتقد العاصي بأنّ أولياء اللّه سبحانه قد يشفعون في حقه في شرائط خاصة إذا لم يهتك الستر ، ولم يبلغ إلى حد لا تنفع معه شفاعة الشافعين ، فعند ذلك سوف يعيد النظر في مسيره ويحاول تطبيق نفسه على شرائط الشفاعة حتى يستحقها ، ولا يحرمها.

نعم الاعتقاد بالشفاعة المطلقة ، المحررة من كل قيد ، من جانب الشفيع والمشفوع له ، هو الذي يوجب التجرّي والتمادي في العصيان ، وهذه الشفاعة

ص: 243

مرفوضة في منطق العقل والقرآن ، وكأنّ المعترض قد خلط بين الشفاعة المحدودة والشفاعة المطلقة من كل قيد ، ولم يميز بينهما وبين آثارهما.

فالشفاعة الموجبة للتجري ومواصلة العناد والتمرّد ، هي الاعتقاد بأنّ الأنبياء والأولياء سيشفعون في حقّه يوم القيامة على كل حال وفي جميع الشرائط وإن فعل ما فعل ، وارتكب ما ارتكب ، وعند ذلك سيستمر في عمله الإجرامي إلى آخر حياته رجاء تلك الشفاعة التي لا تخضع لضابطة وقانون ، ولا تتقيد بقيد أو شرط.

وأمّا الشفاعة التي نطق بها الكتاب وأقرّت بها الأحاديث واعترف بها العقل ، فهي الشفاعة المحدودة بشرائط في المشفوع له والشافع ، ومجمل تلك الشرائط هو أن لا يقطع جميع علاقاته العبودية مع اللّه ، ووشائجه الروحية مع الشافعين ولا يصل تمرده إلى حد القطيعة ، ونسف الجسور.

فالاعتقاد بهذا النوع من الشفاعة مثل الاعتقاد بتأثير التوبة في الغفران ماهية وأثراً.

إنّ في التشريعات الجنائية العالمية السائدة في المجتمعات البشرية قانوناً يسمّى « قانون العفو عن السجناء الدائمين » يسمح للمسؤولين بأن يعفوا عن السجناء أو يقلّلوا من مدة عقوباتهم إذا هم غيّروا سلوكهم ، وأظهروا الندامة والتوبة ، وهذا القانون ليس من شأنه أن يبعث على الجرأة والعناد ، بل من شأنه أن يدفع السجين إلى أن يصلح نفسه ، ويعدل سلوكه ، ويحقّق في نفسه شرائط استحقاق العفو والتخفيف على أمل أن ينطبق عليه ذلك القانون ويشمله العفو ، وبهذا يكون هذا القانون المنطقي موجباً للإصلاح لا الإصرار ، وداعياً إلى الأوبة لا الاستمرار.

ص: 244

5. الأمر بيده سبحانه أوّلاً وآخراً

ما ذكرناه من الوجوه هي مبررات الشفاعة والجهات التعليلية لجعلها في صميم العقائد الإسلامية ، ومع ذلك كلّه فالأمر إليه سبحانه إن شاء إذن في الشفاعة وان لم يشأ لم يأذن ، فهو القائل سبحانه : ( مَا يَفْتَحِ اللّهُ لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1).

وصفوة القول : وانّ الشفيع انّما يشفع بإذنه وفي إطار مشيئته ، وتحت الشروط التي يرتضيها ، إذ هو الذي يبعث الشفيع على أن يشفع في حق المشفوع له ، وعند ذلك فلا تستلزم شفاعة الشافعين خروج الأمر عن يده ، وتحديد سلطته تعالى ، وملكه ، وسيوافيك بعض القول في ذلك عند التعرض للإشكالات المتوهمة حول الشفاعة.

ص: 245


1- فاطر : 2.

4

ما هو أثر الشفاعة أهو إسقاط العقاب أو زيادة الثواب ؟

اشارة

قد وقفت على آيات الشفاعة وأهدافها ، وأقسامها ، وانّ الشفاعة من الأصول الأساسية في العقيدة الإسلامية ، غير انّه بقي هنا بحث وهو الوقوف على أثر الشفاعة ، وانّ نتيجتها هي حط ذنوب المذنبين وإسقاط العقاب والمضار عنهم والعفو عن العصاة ، أو هي ازدياد الثواب ورفع الدرجات ، وقد ذهب إلى الأوّل جمهور المسلمين ، وإلى الثاني فرقة المعتزلة وقد وقفت عند نقل الأقوال ، على عقائدهم غير انّ الواجب هنا هو تعيين الموقف الصحيح من هذا الأمر.

إنّ الأسلوب الصحيح لتفسير القرآن الكريم له هو تجريد المفسّر نفسه عن كل رأي سابق ، ووقف النظر على مدلول الآية والاهتداء إلى مرماها باستنطاقها واستنطاق أخواتها التي يمكن أن تقع قرينة لفهم المراد منها ، وأمّا تفسير الآيات على ضوء الآراء المسبقة ، وتطبيقها على تلك الأفكار وجعلها دليلاً على صحتها ، فهو نفس التفسير بالرأي الذي حذّر عنه النبي صلی اللّه علیه و آله في الحديث المتواتر عنه : « من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار » (1).

وإن شئت قلت : يجب على المفسّر أن يتخذ نفس القرآن هادياً لمقصوده

ص: 246


1- حديث متفق عليه ، رواه الفريقان.

سبحانه لا أن تكون الآراء المتخذة سلفاً ، سبباً لتطبيق القرآن عليها ، فإنّ هذا هو الآفة الكبيرة التي أصابت فرقاً من المسلمين ، ودفعتهم إلى اتخاذ مواقف شاذة.

إنّ الآيات الواردة حول الشفاعة - مع الأسف - لم تتخلص عن هذه الآفة عند بعض هذه الفرق فإنّ الآيات الواردة حول الشفاعة ليست ناظرة إلى ما ذهبت إليه المعتزلة من أنّ نتيجتها هو رفع الدرجة وزيادة الثواب فقط ، ولا أقل ، لا تنحصر مداليلها بهذا بل هي ذات مدلول وسيع يعم كلا الأمرين من حط الذنوب والعقاب ورفع الدرجة وزيادة للثواب.

لم تكن مسألة الشفاعة فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها ، بل كانت فكرة رائجة بين أُمم العالم من قبل وخاصة بين الوثنيين واليهود ، نعم انّ الإسلام قد طرحها مهذبة من الخرافات ومما نسج حولها من الأوهام ، وقررها على أُسلوب يوافق أُصول العدل والعقل وصحّحها تحت شرائط في الشافع والمشفوع له التي تجر العصاة إلى الطهارة من الذنوب ، وكف اليد عن الآثام والمعاصي ، ولا توجد فيهم جرأة وجسارة على هتك الستر ، حسبما أوضحناه في الفصل الماضي.

وغير خفي على من وقف على آراء اليهود والوثنيين في أمر الشفاعة انّ الشفاعة الدارجة بينهم خصوصاً اليهود كانت مبنية على رجائهم لشفاعة أنبيائهم وآبائهم ، في حط ذنوبهم ، وغفران آثامهم ، ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي ، ويرتكبون الذنوب تعويلاً على ذلك الرجاء.

وفي هذا الموقف يقول سبحانه رداً على تلك العقيدة الباعثة إلى الجرأة : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (1) ويقول أيضاً رفضاً لتلك الشفاعة المحررة من كل قيد : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) (2).

ص: 247


1- البقرة : 255.
2- الأنبياء : 28.

وحاصل الآيتين : انّ أصل الشفاعة التي تدّعيها اليهود ويلوذ إليها الوثنيون حق ثابت في الشريعة السماوية ، غير انّ لها شروطاً أهمها إذنه سبحانه للشافع ورضاؤه للمشفوع له.

وعلى ذلك فكيف يصح لنا تخصيص الآيات بقسم خاص من الشفاعة وهي شفاعة الأولياء لرفع الدرجة ، وزيادة الثواب ؟

وأوضح دليل على عمومية الشفاعة للقسم الثالث من الأقسام الماضية ما أصفق على نقله المحدّثون من قوله صلی اللّه علیه و آله : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (1).

ومع هذه القرائن والأحاديث الكثيرة التي ستمر عليك في فصلها الخاص لا يصح تخصيص الآيات بالمورد الذي ذهبت إليه المعتزلة.

دافع المعتزلة إلى اتخاذ الرأي الخاص

إنّ الدافع الوحيد للمعتزلة كلّهم أو أكثرهم إلى تخصيص آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العصاة هو الموقف الذي اتّخذوه في حق العصاة ومقترفي الذنوب في أبحاثهم الكلامية ، فانّهم قالوا بخلود أهل العصيان في النار ، وهذه العقيدة منسوبة إلى جميعهم أو أكثرهم ، ومن الواضح أنّ من يتخذ مثل هذا الموقف لا يصح له أن يعمّم آيات الشفاعة إلى العصاة ، وذلك لأنّ التخليد في النار لا يجتمع مع التخلّص عنها بالشفاعة.

وإليك ما نقل عن المعتزلة في هذا الصعيد : قال المفيد : اتفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجّه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة باللّه تعالى ، والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة ، ووافقهم على هذا القول

ص: 248


1- ستوافيك مصادر الحديث في البحث الروائي.

كافة المرجئة سوى محمد بن شبيب ، وأصحاب الحديث قاطبة ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك ، وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عام في الكفار وجميع فساق أهل الصلاة.

واتفقت الإمامية على أنّ من عذب بذنبه من أهل الإقرار والمعرفة والصلاة لم يخلد في العذاب وأُخرج من النار إلى الجنة ، فينعم فيها على الدوام ، ووافقهم على ذلك من عددناهم ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعموا انّه لا يخرج من النار أحد دخلها للعذاب (1).

نعم نسب العلاّمة الحلي في « كشف المراد » تلك العقيدة إلى بعض المعتزلة لا إلى جميعهم (2) وكذلك نظام الدين القوشجي في شرحه على التجريد (3).

وقد خالفهم أئمّة المسلمين وعلماؤهم في هذا الموقف وقالوا بجواز العفو عن العصاة عقلاً وسمعاً.

أمّا العقل ، فلأنّ العقاب حق لله تعالى فيجوز تركه.

وأمّا سمعاً ، فللآيات الدالة على العفو فيما دون الشرك قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (4) والآية واردة في حق غير التائب ، لأنّ الشرك مغفور بالتوبة أيضاً ، وقال سبحانه : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ) (5) أي تشملهم المغفرة مع كونهم ظالمين.

وقال سبحانه : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن

ص: 249


1- أوائل المقالات : 14.
2- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 261 ، طبعة صيدا.
3- شرح التجريد للقوشجي : 501.
4- النساء : 48.
5- الرعد : 6.

رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ) (1) إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة على العفو في حق العصاة.

ومع ذلك لا مانع من شمول أدلّة الشفاعة لهم ، وأوضح دليل على العفو بدون التوبة قوله سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) (2) فانّ عطف قوله : ( وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) على قوله : ( يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ) بواو العطف ، يدل على التغاير بين الجملتين ، وانّ هذا العفو لا يرتبط بالتوبة وإلاّ كان اللازم عطفه بالفاء.

وقال سبحانه : ( وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) (3) ، فانّ الآية واردة في غير حق التائب ، وإلاّ فإنّ اللّه سبحانه يغفر ذنوب التائب جميعاً لا كثيرها مع أنّه سبحانه يقول : ( وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) .

فتلخص من ذلك انّه لا مانع من القول بجواز العفو في حق العصاة كما لا مانع من شمول آيات الشفاعة لهم.

نعم يجب إلفات النظر إلى نكتة وهي انّ بعض الذنوب الكبيرة ربّما تقطع العلائق الإيمانية باللّه سبحانه ، كما تقطع الأواصر الروحية مع النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله فصاحب هذه المعصية لا تشمله الشفاعة ، فيجب عليه ورود النار حتى يتطهر بالعذاب ، وتصفو روحه من آثار العصيان ويصير لائقاً لشفاعة الشافعين.

إلى هنا تم الكلام حول آيات الشفاعة وأصنافها وحقيقتها وأثرها في المطيع والعاصي. وبقي الكلام حول بعض الإشكالات التي آثارها بعضهم ، فيجب علينا التعرض لها على وجه الإجمال والإجابة عنها بما يقتضي المقام.

ص: 250


1- الزمر : 53.
2- الشورى : 25.
3- الشورى : 30.

5

إشكالات مثارة حول الشفاعة

اشارة

هاهنا إشكالات مثارة حول الشفاعة ناشئة من قياس الشفاعة الواردة في الشريعة الإسلامية على الشفاعة الرائجة في الحياة البشرية المادية والتي تسمّى بالوساطة ، ولو كان المستشكلون يعرفون حقيقة الشفاعة التي نص بها القرآن والحديث ، لما تفوّهوا بتلك الإشكالات التي لا تليق بالبحث والنقد في الكتب العلمية.

غير انّ انتشار هذه الإشكالات بين الشباب دعانا إلى عقد هذا البحث وإفراده عمّا سبق ، وإليك الإشكالات واحداً بعد واحد ، والإجابة عنها على نحو الإجمال :

الإشكال الأوّل

لا شك أنّ الشفاعة لا تشمل جميع أنواع الجرائم والمعاصي ، وعامة أنواع العصاة والمجرمين ، إذ عندئذ يصير القانون لغواً ، ويعود التكليف بلا أثر ، وانّما الشفاعة في بعض أنواع الجرم ، وفي حق بعض المجرمين دون بعض ، وعندئذ يطرح هذا السؤال :

إنّ حقيقة كل جرم هي التجاوز على الحدود ، وكل مجرم يعتدي على حدود

ص: 251

اللّه ، فما معنى أن يقع بعض أقسام الجرم والمجرمين في إطار الشفاعة دون البعض مع اشتراك الجميع في هدم الحدود ، والتجاوز والعدوان ؟

الجواب

إنّ ما زعمه المستشكل من استلزام الشفاعة الترجيح بلا مرجح ، والتفريق في القانون إنّما يتم إذا كان جميع ألوان الجرم وأنواع المجرمين في درجة واحدة في الآثار والتبعات والكشف عن النفسيات ، وأمّا إذا كان للجرم مراتب أو كان المجرمون على درجات في النفسيات والروحيات فلا تستلزم الشفاعة ما ذكره المستشكل ، فلا يستوي من أحرق منديل أحد عدواناً ، ومن أحرق مصنعاً كبيراً تعيش به مئات من العمال ، فكلا العملين تجاوز وعدوان ولكن شتان بين الأوّل والثاني.

ولأجل ذلك تكون العقوبات والتبعات متفاوتة حسب تفاوت مراتب الجرم وحسب كشف العمل عن روحية المجرم ونفسيته.

فهناك شاب لا يملك نفسه عن النظر إلى المرأة الأجنبية نظراً ممزوجاً بالسوء ، وهناك آخر يعتدي بالعنف عليها ، فكلا العملين عدوان على القانون وتجاوز على الحدود وتجاهل للحرمة ولكن تختلف مراتبهما. وعلى ذلك فإذا كان المجرمون مختلفين ومتفاوتين في مراتب الجرم فلا تعد الشفاعة في حق من كان أخف جرماً دون الآخر تفريقاً في القانون.

كما أنّ هناك فرقاً بين مجرم قد حافظ على روابطه الإيمانية مع اللّه ، وعلى علاقاته الروحية مع الشفيع بحيث لا يعد المجرم إنساناً أجنبياً عن كلا المقامين ، ومجرم قد قطع كل علاقاته الإيمانية والروحية بحيث صار إنساناً أجنبياً عن الشافع والمشفوع عنده ، فتشريع الشفاعة في حق الأوّل وقبولها في شأنه دون الثاني

ص: 252

لا يعد تفريقاً في القانون ، وعملاً مخالفاً للتسوية فيه.

والذي يوضح ذلك انّه سبحانه قد فرق بين الذنوب وأخبر بأنّ بعضها لا يغفر أبداً إلاّ مع التوبة ، وإنّ بعضها يغتفر بدونها أيضاً ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ) (1).

فهل يسوغ لنا أن نعترض على عدم التسوية بين المشرك وغيره في غفران ذنوب الثاني دون الأوّل ؟ كلا. فانّ المشرك قد قطع جميع علاقاته مع اللّه سبحانه دون غير المشرك.

وعلى الجملة فهذا الإشكال مبني على الغض عمّا ورد في الكتاب والسنّة من تقسيم الجرائم إلى الكبائر والصغائر ، وما ورد من أنّ الاجتناب عن الكبائر يوجب غفران الصغائر ، قال سبحانه : ( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُدْخَلاً كَرِيماً ) (2).

وربما يقرر هذا الإشكال بوجه آخر فيقال : إنّه جرت مشيئة اللّه الحكيمة على إجراء القوانين والسنن على نمط واحد قال سبحانه : ( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَحْوِيلاً ) (3) ، وعلى ذلك فقبول الشفاعة في حق بعض المجرمين نوع تغيير في السنن الحكمية الثابتة.

وأنت خبير إنّ هذا الإشكال هو نفس ما تقدم جوهراً ، وان كان يختلف عنه شكلاً ، فإنّ الأساس في التقرير الأوّل انّ الشفاعة تفرقة في القانون ، والأساس في هذا البيان هو انّ الشفاعة تبديل وتحويل لسنن اللّه التي لا يتطرق إليها التبدّل

ص: 253


1- النساء : 48.
2- النساء : 31.
3- فاطر : 43.

والتحوّل.

والإجابة عن هذا التقرير واضحة جداً ، فكما انّ العقاب سنّة إلهية ، فكذلك المغفرة والعفو عن الجرم والمجرم في شرائط خاصة سنّة من السنن الإلهية ، فلا يعد الاعتراف بأحدهما نقضاً لسنته. والقائل جعل العقاب هو الأصل وتخيل انّ العفو والمغفرة نوع تغيير في سننه.

وان شئت قلت : إنّ قوله سبحانه : ( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَحْوِيلاً ) (1) لا يهدف إلى أنّه ليس له إلاّ شأن واحد وعمل فارد لا يتجاوز عنه ( وهو عقاب المجرم في كل الأحايين ) بل هو سبحانه ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (2) ، وقال سبحانه : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ ) (3).

كيف وانّ لله سبحانه أسماء وصفات ، ولكل واحد منها تجل وظهور في عالم الكون ، فهو بما انّه المحيي والمميت ، فله تجل في الكون بالإحياء والإماتة وبما انّه القاهر والمنتقم والرؤوف والرحيم ، فله أيضاً تجلّيات في الكون ، ولا يعد كل تجلّ ناقضاً للآخر أو تحويلاً لسنته سبحانه ، وما هذا إلاّ لأن الكل سنن لا أنّ هناك سنة واحدة وهو الإحياء حتى تكون الإماتة ناقضة لها.

وهناك قصة قد رواها الأصمعي لا تخلو من صلة بالمقام ، قال الأصمعي : كنت في البادية وأقرأ القرآن عن ظهر القلب ، وكانت هناك امرأة من أهلها ، فقرأت قوله سبحانه هكذا : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللّهِ ) (4) - واللّه غفور رحيم - فاعترضت وقالت بأنّه سبحانه لو كان

ص: 254


1- فاطر : 43.
2- الرحمن : 29.
3- الرعد : 39.
4- المائدة : 38.

غفوراً ورحيماً لما أمر بقطع أيديهما ؟! قال الأصمعي : ففتحت القرآن فرأيت انّ في قراءتي لحناً والصحيح ( عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ووقفت بأنّ الأمر بقطع الأيدي لا يصح أن يقع مظهراً لرحمته وغفرانه ، بل هو مظهر لعزّه وحكمته.

هذه المرأة الربيبة في البادية تشير بكلامها إلى ما أدركه الفلاسفة في ضوء البراهين من أنّ لله سبحانه أسماء وصفات ، ولكلٍّ منها تجلّ خاص ، فكما أنّه يتجلّى في كل مجال من التكوين باسم خاص ، فهكذا عالم التشريع يتجلّى في كل حكم بما يناسبه من الاسم ، فالمناسب لقطع يد السارق هو التجلّي باسم العزة والحكمة لا الغفران والرحمة ، لأنّ كل تجلّ يتناسب مع اسم خاص.

والعجب انّ القائل استدل على ما يهدف إليه من الإشكال من عدم تطرق التحول والتبدل في سنن اللّه بقوله سبحانه : ( هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ ) (1) مع أنّ الآية تهدف إلى أمر آخر ، ويفسره قوله سبحانه : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) (2).

وكلتا الآيتين تهدفان إلى أنّ طريقه سبحانه صراط مستقيم لا تجد فيه عوجاً ولا أمتا ، وهذا بخلاف ما يدعو إليه الشيطان فإنّ فيه كل الاعوجاج.

الإشكال الثاني

إنّ تشريع الشفاعة يجر إلى التمادي في العصيان والتعدّي والاستمرار في العدوان ، وانّ المجرم حسب اعتقاده بالشفاعة سيستمر على عدوانه رجاء غفران

ص: 255


1- الحج : 41 - 42.
2- الأنعام : 153.

ذنوبه بالشفاعة (1).

الجواب

إنّ هذا الإشكال ينبع من قياس الشفاعة التي وردت في الكتاب والسنّة ، بالشفاعة الرائجة في أوساط الناس ، ولو كان المستشكل واقفاً على الفرق الجوهري بينهما لما عدّ الشفاعة عاملاً للجرأة ، وذريعة للعصيان ، وذلك لأنّه مردود نقضاً وحلاً ، أمّا الأوّل فمن وجوه :

1. لو كان تشريع الشفاعة عاملاً للجرأة لكان الوعد بالمغفرة عاملاً للجرأة أيضاً مع أنّه سبحانه وعد بها في قوله : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (2).

لاحظ قوله سبحانه : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ ) (3) فإنّ لفظ ( عَلَى ظُلْمِهِمْ ) جملة حالية تبين شمول المغفرة للناس في حال كونهم معتدين ومجرمين ، فلو كان الوعد بالشفاعة عاملاً للجرأة لكان الوعد بالمغفرة في هذه الآيات عاملاً لها أيضاً.

2. انّه سبحانه قد وعد بأنّ الاجتناب عن الكبائر يوجب التكفير عن بعض السيئات ، قال سبحانه : ( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ

ص: 256


1- وفي كلام الكاتب فريد وجدي إشارة إلى هذا الإشكال لاحظ : 5 / 402 ، مادة شفع من دائرة معارفه. وقال الطنطاوي : إنّ الشفاعة بالمعنى الذي يفهمه العامة تقود الأمّة إلى الانتكاس على أُمّ الرأس، ويبقى الدين من أسباب التأخر لا الرقي. لاحظ : 1 / 69 من تفسيره ، وما ذكره ليس إلاّ خلطاً بين الشفاعة السائدة في المجتمع المادي في الدنيا عند الرؤساء والمتنفذين فيهم ، والشفاعة التي جاء بها القرآن الكريم ، وستوافيك الفروق الموجودة بين الشفاعتين.
2- (2 النساء : 48 و 116.
3- الرعد : 6.

سَيِّئَاتِكُمْ ) (1) فهل يجد المستشكل في نفسه انّ هذا التشريع يوجب جرأة العباد على ارتكاب بعض السيئات رجاء غفرانها بالاجتناب عن الكبائر ؟

3. لو كان تشريع الشفاعة مستلزماً لما تخيّله القائل لكان تشريع التوبة من عوامل الجرأة والأسباب التي تجر العباد إلى العصيان والعدوان ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً ) (2).

هذا وذاك يكشفان عن أنّ المستشكل لم يقف على مغزى الشفاعة وما تهدف إليه الآيات والروايات وإلاّ لما عد الشفاعة الباعثة للأمل في النفوس ، موجباً للجرأة وسبباً للتمادي في العصيان ، وقد أشرنا - فيما سبق - إلى بعض الآثار التربوية البنّاءة الموجودة في الشفاعة.

هذا كله نقضاً وأمّا حلاً فالإشكال يتغذى من الشفاعة المتصورة في بعض الأذهان ، وهو انّ للإنسان أن يفعل ما يريد تعويلاً على الشفاعة واغتراراً بها.

وأمّا الشفاعة المحدودة الشاملة لبعض العباد التي لم تنقطع علاقاتهم باللّه سبحانه ، وبأوليائه فلا تبعث على الجرأة ، بل تبعث أملاً في نفس العاصي ويدفعه إلى أن يرجع عن التمادي في المعصية ، ويصلح حاله فيما يأتي من الزمان ، كما أوضحناه فيما سبق ، فلا نعيد ، ولكن نأتي هنا ببيان آخر ، وهو انّ الشفاعة الموعود بها لو كانت أمراً منجزاً ، مطلقاً ، واضحاً من حيث الجرم ، والمجرم متعيناً من حيث الوقت ونوع العقوبة ، لكان لما تخيله المستشكل وجه ، ولكن الشفاعة الموعود بها لأجل عمد تنجزها ، واشتراطها بشروط وإبهامها من حيث الجرم والمجرم ، وعدم تعيّنها من حيث الوقت ونوع العقوبة ، فلا يستلزم ذلك ، وإليك توضيح ذلك :

إنّ الشفاعة التي نطق بها القرآن ووعد بها ليست أمراً منجزاً ومطلقاً من كل

ص: 257


1- النساء : 31.
2- التحريم : 8.

قيد وشرط ، فإنّ الشفاعة مقيدة بإذنه سبحانه وكون المشفوع له مرضياً عنده ، قال سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (1) وقال سبحانه : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) (2) ، وليس من الممكن أن يتيقن المجرم بأنّه ممن يشمله إذنه سبحانه وارتضاؤه. إذ ليس في وسع أحد أن يدّعي أنّه من العباد الذين تشملهم المغفرة الإلهية يوم القيامة بالإذن في الشفاعة في حقهم وكونه من العباد المرضيين كيف وقد قال سبحانه : ( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلا القَوْمُ الخَاسِرُونَ ) (3).

هذا من وجه ، ومن وجه آخر : انّ الشفاعة مبهمة من حيث الجرم والمجرم ، إذ لم يرد أي توضيح في موردها وانّها تشمل أي جرم من الأعمال الإجرامية وأي مجرم من أنواع المجرمين فهي مبهمة من تلك الناحية ، وهذا الإبهام يصد العاصي عن أن يعتمد على الشفاعة المحتملة في حقه ، بل ربّما تدعوه إلى التحفظ عن اقتراف بعض المعاصي لئلاّ يحرم من الشفاعة.

هذا وكما انّ الشفاعة مبهمة من تلك الناحية فهي أيضاً مبهمة من ناحية الوقت وأنواع العقوبات ، فإنّ الآيات ناطقة بأنّ يوماً من أيام القيامة يمتد امتداد ألف سنة أو أكثر ، قال سبحانه : ( وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) (4) وقال سبحانه : ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (5) ، وعلى ذلك فللعصاة والطغاة بل العباد كلهم مواقف مختلفة يوم القيامة ، وهي مواقف رهيبة ومخيفة ذات أوضاع تهز القلوب ، ومن المعلوم انّه لم يعين وقت الشفاعة ، وانّه في أي وقت تتحقق في حق المجرم أفبعد

ص: 258


1- البقرة : 255.
2- الأنبياء : 28.
3- الأعراف : 99.
4- الحج : 47.
5- المعارج : 4.

هذه الإبهامات الثلاثة يبقى مجال لأن يعول المجرم على الشفاعة أو يتمادى في المعصية ؟!

إنّ غاية ما في الشفاعة أنّها بصيص من الرجاء ونافذة من الأمل فتحه القرآن في وجه العصاة حتى لا ييأسوا من روح اللّه ، ورحمته ، وأن لا يغلبهم الشعور بالحرمان من عفوه فيتمادوا في العصيان.

الإشكال الثالث

الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره - حكم به أم لا - فلا تتحقق الشفاعة إلاّ بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع ، فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلاّ إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به ، كأن كان أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أنّ المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به ، وأمّا الحاكم المستبد الظالم فإنّه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشيء وهو عالم بأنّه ظالم وانّ العدل في خلافه ، ولكنّه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة ، وكل من النوعين محال على اللّه تعالى ، لأنّ إرادته تعالى على حسب علمه وعلمه أزلي لا يتغير (1).

وحاصل الإشكال : انّ قبول الشفاعة يستلزم أحد أُمور ثلاثة :

1. أمّا أن يكون الحاكم في حكمه الأوّل جائراً عالماً بذلك.

2. أن يكون الحاكم في حكمه الأوّل جائراً غير عالم به.

3. أن يكون الحاكم في حكمه الأوّل عادلاً لكنه يعدل عن هذا الحكم على خلاف المصلحة ونزولاً عند رغبة الشفيع.

ص: 259


1- تفسير المنار : 1 / 307.

أمّا الأوّل ، فيستلزم أن يكون الحاكم جائراً غير عادل.

أمّا الثاني ، فهو يستلزم أن يكون الحاكم جاهلاً بحقيقة حكمه.

أمّا الثالث ، فيستلزم أن يكون الحاكم ناقضاً للحكم المبني على العدل لأجل شفاعة الشفيع ، والكل ممتنع في حقه سبحانه.

الجواب

لو أنّ الأستاذ قد أمعن في حقيقة الشفاعة التي نطق بها القرآن الكريم وفسرتها الأحاديث الإسلامية ، لما جعل أمر قبول الشفاعة مردّداً بين أحد أُمور ثلاثة ممتنعة في حقه سبحانه ، فإنّ الشفاعة لا ترتبط بأحد هذه الأمور ، بل هي من واد آخر نشير إليه بتقديم مقدمة وهي :

إنّ الحكم يتبع موضوعه ، فكل موضوع له حكم خاص فمادام الموضوع باقياً على وضعه الأوّل لا ينفك عنه الحكم ، فإذا تبدّل إلى موضوع آخر يتبدّل حكمه إلى حكم آخر ، أو يصير ذا حكم جديد غير ما حكم به على الموضوع الأوّل ، مثلاً المائع ما دام كونه خمراً فهو رجس يجب الاجتناب عنه ، فإذا تبدّل إلى الخل يتبدّل حكمه ، أثر تبدّل موضوعه ، فيكون محكوماً بالطهارة ، ولا يعد الحكم الثاني ناقضاً للحكم الأوّل ، ولا يوجب اختلاف الحكم اختلافاً وتبدّلاً في علم الحاكم بل للحاكم من أوّل الأمر علمان ، وحكمان ، كل مرتبط بموضوعه ، فقد كان الحاكم عالماً وحاكماً بأنّ الخمر نجس حرام ، وانّ الخل طاهر حلال ، وما حصل من التغيير فإنّما هو تغيير في المعلوم والموضوع لا في العلم.

ونظير ذلك العاصي والتائب فإنّ العصيان حالة نفسية في الإنسان ، فله حكمه الخاص من العقاب لأجل طغيانه وعدوانه ، كما أنّ التوبة حالة نفسانية مغايرة للحالة الأولى فلها حكمها الخاص ، فالإنسان العاصي محكوم بحكم كما

ص: 260

أنّ الإنسان التائب محكوم بحكم آخر ، والاختلاف في الحكم لأجل الاختلاف في الموضوع ، والتبدّل في ناحية المعلوم دون العلم وإلاّ فالحاكم العادل قد علم وحكم من الأزل بحكمين مختلفين على موضوعين متفاوتين ، قال عز من قائل : ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) فقد حكم على الإنسان المشرك بالقتل وعلى الإنسان الذي تاب من شركه بالتخلية لسبيله وإطلاق سراحه وعدم التعرض له ، ولا يعد الثاني ناقضاً للحكم الأوّل.

والمثال لا ينحصر بما ذكرناه بل هناك مئات الأمثلة وآلاف الشواهد من هذا القبيل ، ولا يعد أي عاقل ، الحكم الثاني ، ناقضاً للحكم الأوّل.

ولنأت بمثال ثالث تتميماً للوضوح : لا شك انّ لله سبحانه أوامر جدية ، وأُخرى امتحانية ولكل غايته وهدفه الخاص ، والهدف في الأوامر الجدية هو إحراز المكلف ما يترتب على الموضوع من المصالح كإقامة الصلاة لأجل كونها ناهيةً عن الفحشاء والمنكر ، لقوله : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ ) (2) وأمّا الأوامر الامتحانية فليس الهدف منها إلاّ جعل العبد في بوتقة الامتحان حتى يتفتح كل ما يملك من الكمال بصورة القوة والاستعداد ويدخل إلى مرحلة الفعلية ، التي هي الكمال لما هو أمر بالقوة ، وهذا كجعل تراب الحديد حديداً خالصاً من خلال التذويب في المصانع الخاصة فتكون المصائب والمتاعب التي يمر بها العبد في طريق امتثاله للأوامر الامتحانية بمثابة الحرارة المتوجهة إلى التراب المعدني في إبراز كمالاته ، وإخراج جوهره.

ص: 261


1- التوبة : 5.
2- العنكبوت : 45.

فإبراهيم الخليل كان يملك كمالاً بالقوة وهو ترك ما سوى اللّه في طريق أمره سبحانه ، ولكن هذا الكمال كان مكنوناً في ذاته ، مركوزاً في وجوده فأراد اللّه سبحانه إظهار ذلك الكمال وإبرازه من مكمن وجوده إلى ساحة الفعلية والتحقّق ، فأمره سبحانه بذبح الولد وهو قد أخذ بيد ولده وصار به إلى المذبح ، فأراد ذبحه امتثالاً لأمره سبحانه ، فأظهر بذلك أنّه يؤثر طاعته سبحانه على كل ما يملك من العواطف القلبية لولده العزيز ، فعند ذاك تفتح ذاك الكمال وصار إلى مرحلة الظهور ، وتحققت الغاية من أمره تعالى ، وجاء أمره سبحانه مخاطباً إيّاه ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) (1).

فهناك حكمان على موضوعين مختلفين فالخليل المالك للكمال بالقوة مخاطب بذبح الولد ، والخليل الواصل إلى هذه الذروة من الكمال ، مخاطب بحكم آخر ، وهو التفدية عنه بذبح عظيم ، ولا يعد كل ناقضاً للآخر بل الاختلاف في الحكم أثر الاختلاف في الموضوع.

وعلى هذا الأساس تبيّن انّ اختلاف الحكم بالشفاعة في مورد العاصي من قبيل اختلاف الحكم حسب اختلاف الموضوع.

وتوضيح ذلك : انّ العاصي بما هو عاص وبما انّه مجرّد عن انضمام الشفاعة إليه ، محكوم بالعقاب ، ولكنّه بانضمام الشفاعة إليه ، محكوم بحكم آخر ، واختلاف الحكمين أثر اختلاف الموضوعين بالإطلاق والتقييد.

وإن شئت قلت : إنّ العاصي مجرداً عما يمر عليه في البرزخ من العذاب وما يستتبع ذلك العذاب من الصفاء في روحه ، ومجرداً عن دعاء الشفيع في حقه ،

ص: 262


1- الصافات : 105 - 107.

محكوم بالحكم الأوّل ، ولكنه منضماً إلى هذه الضمائم الثلاث محكوم بالمغفرة ، فإذا أردت أن تمثل لتبيين حقيقة الشفاعة فعليك انّ تقول : إنّ نسبة الحكم الثاني إلى الحكم الأوّل ليس كنسبة الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف بالنسبة إلى حكم المحكمة الابتدائية الذي يعد الثاني ناقضاً للحكم الأوّل ، بل هو من قبيل الحكم الصادر في حق المجرم إذا جلب رضا المشتكي بالنسبة إلى الحكم الصادر في حقه قبل جلب رضاه ، فالاختلاف والتفاوت في الحكم لأجل الاختلاف في الموضوع.

وعلى ذلك فلابد أن يقال انّ الشفاعة لا توجب اختلافاً في علمه وتغييراً في إرادته ، كما لا توجب أن يكون أحد الحكمين مطابقاً للعدل والآخر مطابقاً للجور ، بل الحكمان صادران عن مصدر العدل على وفقه.

الإشكال الرابع

ما أشار إليه الشيخ محمد عبده أيضاً حسب ما نقله عنه تلميذه السيد محمد رشيد رضا : ليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة ، ولكن ورد الحديث بإثباتها (1).

هذا ويمكن تقرير الإشكال بوجه آخر فنقول : لقد نفيت الشفاعة في بعض الآيات على وجه الإطلاق قال سبحانه : ( أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ) (2) كما نفى في بعض الآيات نفع شفاعة الشافعين كقوله ( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (3) ، وقد علّقت في بعض الآيات على إذنه سبحانه وارتضائه قال سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا

ص: 263


1- تفسير المنار : 7 / 270.
2- البقرة : 254.
3- المدثر : 48.

بِإِذْنِهِ ) (1) وقال سبحانه : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) (2) غير انّ الاستثناء لا يدل على وقوع المستثنى إذ له نظائر في القرآن الكريم. قال سبحانه : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلا مَا شَاءَ اللّهُ ) (3) إذ من المحقق انّ النبي لا ينسى القرآن ، ولم ينسه. ومثله قوله سبحانه : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (4).

ومن المعلوم انّ الاستثناء الوارد في الآية الأخيرة غير محقّق أبداً فانّهم مخلدون فيها. نعم يدل الاستثناء على الإمكان ، أي إمكان اخراجهم من الجنة ، معلناً بأنّ دخولهم الجنة لا يلازم نفي القدرة الإلهية على إمكان إخراجهم منها ، وانّه ليس الأمر خارجاً عن قدرته ، فله أن يخرجهم منها كما له أن يبقيهم فيها ، فلا مانع من أن تكون الآيات الواردة في الشفاعة ، خصوصاً ما اشتمل منها على الاستثناء من هذا القبيل ، معلناً بإمكان الشفاعة لا وقوعها.

الجواب

قد أشبعنا البحث حول الآيات الواردة في الشفاعة فيما مضى ، وبيّنا أصنافها ، وقلنا إنّ الآيات النافية للشفاعة من الأساس ، راجعة إلى أيّ قسم منها ، فلأجل ذلك لا نعيد الكلام فيها. وإنّما المهم توضيح ما ورد من الاستثناء في الآيات المتقدمة فنقول :

إنّ البحث عن إمكان الشفاعة وامتناعها يشبه الأبحاث الفلسفية الدارجة فيها ولا يناسب حمل الآيات عليها ، والتقول بأنّ الآيات ناظرة إلى إمكانها لا

ص: 264


1- البقرة : 255.
2- الأنبياء : 28.
3- الأعلى : 6 - 7.
4- هود : 108.

وقوعها أشبه شيء بالأبحاث الجدلية.

إنّ البحث عن الإمكان والامتناع يناسب المسائل الفلسفية البحتة ، والكلامية الخالصة كما في البحث عن إمكان تعدّد الواجب وامتناعه وما شابه تلك المسألة ، فنرى أنّه سبحانه يبحث عن الإمكان والوقوع في قوله : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللّهُ لَفَسَدَتَا ) (1) وقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (2).

وأمّا المسائل التربوية أو الاجتماعية التي تدور مدار التربية والتوعية الاجتماعية والفردية ، فالبحث عن الإمكان والوقوع فيها ساقط وغير مناسب للأهداف القرآنية ولا يتوجه النظر إلاّ إلى قسم واحد ، وهو وقوع ما وعد به سبحانه في كتابه من الاستثناء كما في نظائره : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ) (3) وقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (4) وما شابه هاتين الآيتين.

وعلى ذلك فلا يتبادر من تلك الآيات إلاّ وقوع الإذن والارتضاء من اللّه سبحانه والحمل على الإمكان فيما ورد في قوله : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلا مَا شَاءَ اللّهُ ) لأجل قرينة خاصة وهي الدلائل المتضافرة على عصمة النبي ، وهذه القرينة تصدّنا عن حمل الآية على وقوع الاستثناء وتحقّقه.

ومثل تلك القرينة موجودة في الآية الأخرى الدالة على خلود المؤمنين في الجنة ، أعني قوله : ( مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) فإنّ الحمل على

ص: 265


1- الأنبياء : 22.
2- المؤمنون : 91.
3- آل عمران : 145.
4- يونس : 100.

الإمكان أي إمكان عدم الخلود ، لأجل قرينة قطعية دلت على تحقّق الخلود ، لأهل النعيم في الآخرة ، وهذا العلم يصدّنا عن حمل الاستثناء على وقوعه.

هذا كلّه مع غض النظر عمّا في نفس الآيات من القرائن الدالة على وقوع الاستثناء ، وإليك تلك القرائن :

الأولى : قال سبحانه : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) (1) فإنّ التعبير عن رضاه بالفعل الماضي يدل على تحقّق ذلك الرضا ، في حق المشفوع له ، ورضاه سبحانه لا ينفك عن إذنه للشفعاء ، لأنّ إعلان الرضا بالنسبة إلى المشفوع له بلا صدور إذن منه سبحانه للشفيع يعد أمراً لغواً ، وحمل قوله : ( إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) على وجود الرضا منه سبحانه دون إبلاغه للشفعاء أشبه شيء بالهزل.

الثانية : انّه سبحانه يخبر بخبر قطعي عن شفاعة من شهد بالحق ممن كانوا تسبغ عليهم صفة الإلوهية كالمسيح والملائكة ، قال سبحانه : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (2) والاستثناء يدل على تملك من شهد بالحق لأمر الشفاعة بإذن منه سبحانه وتملّكه هذا يكشف عن تحقّق المراتب المتقدمة عليه من إذنه سبحانه له وارتضائه لمن يستحقها.

اللّهم إلاّ أن يدّعي المعترض في ذلك الاستثناء ما ادّعاه في الآيات المشتملة على الإذن والارتضاء في آيات الشفاعة ويحمل مالكية من شهد بالحق للشفاعة على الإمكان دون الوقوع ، وهو كما ترى.

ونظير الآية السابقة قوله سبحانه : ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) (3) والاستثناء ظاهر في تملّك من اتخذ عند الرحمن عهداً أمر

ص: 266


1- الأنبياء : 28.
2- الزخرف : 86.
3- مريم : 87.

الشفاعة ، وتمليكه سبحانه إيّاها لهم لا ينفك عن إذنه وارتضائه.

وإن شئت قلت : إنّ تمليك الشفاعة من جانب اللّه لفريق خاص دال بالملازمة العرفية على أنّ هذا التمليك لأجل الاستفادة منه وتنفيذه في مواضع خاصة وحمله على مجرد التمليك من دون أن يقترن بالإذن أبداً تفسير للآية بغير الوجه المعقول ، إذ أيّة فائدة لهذا التمليك الذي لا يتلوه الإذن أبداً ، فإنّ هذا أشبه شيء بتمليك الشيء للإنسان والمنع عن الاستفادة منه بوجه من الوجوه.

وما ربما يقال من أنّه سبحانه علّق الشفاعة في بعض الآيات على أمر محال ، وهو اتخاذ العهد عند الرحمن ، قال سبحانه : ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) (1) مع أنّ بعض الآيات دالة على أنّه لم يتخذ أحد عند اللّه عهداً قال سبحانه : ( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً ) (2) ، وقال : ( أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) (3).

ولكن الاعتراض هذا ساقط جداً ، لأنّ سياق تلك الآيات كاشف عن أنّ الهدف هو نفي اتخاذ العهد في حق جماعة خاصة.

أمّا الآية الأولى فلأنّها وردت لنفي دعوى اليهود الوارد في قولهم : ( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) فردّ عليهم سبحانه بقوله : ( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ ) .

وأمّا الآية الثانية ، فلأنّها واردة أيضاً في مورد خاص ، وهو الذي يحكي عنه سبحانه بقوله : ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ) فردّ عليه سبحانه بقوله : ( أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) .

ص: 267


1- مريم : 87.
2- البقرة : 80.
3- مريم : 78.

ومع هذا السياق البارز في الآيتين هل يصح أن يقال انّه لا عهد بين اللّه سبحانه وبين أحد من عباده مطلقاً مع أنّه يصرّح بوجود مثل هذا العهد إذ يقول : ( وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ) (1) وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (2) إلى غير ذلك من الآيات.

الإشكال الخامس

ما ورد في إثبات الشفاعة من الآيات المتشابهات ، وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم ، وانّها مزية يختص اللّه بها من يشاء يوم القيامة ، عبر عنها بهذا المعنى « الشفاعة » ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه اللّه جل جلاله عن المعنى المعروف من معنى الشفاعة في لسان التخاطب العرفي (3).

الجواب

إنّ القرآن كتاب سماوي أُنزل لغرض التعليم والتربية ، والهداية والتزكية ، وقد نبّه على ذلك سبحانه في آيات كثيرة لا مجال لإيرادها هنا ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ ) (4) فلو جعلنا الآيات الواردة حول الشفاعة التي تقارب ثلاثين آية من المتشابهات يلزم أن تعد أكثر الآيات الواردة في الكتاب العزيز من الآيات المتشابهة ولازم ذلك جعل الكتاب العزيز غير مفهوم للناس الذين أُنزل ذلك الكتاب لهدايتهم وتربيتهم.

ص: 268


1- البقرة : 125.
2- طه : 115.
3- تفسير المنار : 1 / 307 - 308.
4- القمر : 17.

وكون الآية محتاجة إلى التفسير لا يكون دليلاً على كونها من الآيات المتشابهة ، فإنّ كثيراً من الآيات لابتعادنا عن عصر نزولها تحتاج إلى التفسير ، وكم من آية وآيات كتبت حولها رسالة أو رسائل ، ومع ذلك لم تعد واحدة منها من الآيات المتشابهة.

إنّ المراد من الآيات المتشابهة ما أحاط بها الإبهام حول المراد منها فاشتبه المقصود الواقعي بغيره وهذا الميزان لا ينطبق إلاّ على قليل من الآيات.

ثم إنّ كون الآية من الآيات المتشابهة لا يستلزم ترك البحث فيها وعدم الاستفادة منها ، بل الآيات المتشابهة تفسر بالآيات المحكمة بحكم أنّها أُمّ الكتاب وأصل للمتشابهات قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (1) فإنّ قوله سبحانه في شأن الآيات المحكمة بأنّها أُمّ الكتاب يعرب عن كونها هي الأصل وإنّ المتشابهة هي الفرع ، ورد المتشابه إلى المحكم كرد الفرع إلى الأصل.

وقد عرفت في صدر البحث مجموع الآيات الواردة حول الشفاعة وانّه ليست هناك آية أحاط بها الإبهام وامتنعت على الفهم ، وعلى فرض وجودها لم توجد آية لا يمكن رفع إبهامها بأُختها ، أو بالأحاديث الواردة حولها (2).

ص: 269


1- آل عمران : 7.
2- ما ذكره « من أنّ مذهب السلف في المتشابهات يقضي بالتفويض والتسليم » مبني على ما اختاره في تفسير الآيات المتشابهة من أنّها عبارة عن المفاهيم الواردة في القرآن ، التي لا يمكن أن يقف على حقيقتها إلاّ اللّه سبحانه كحقيقة ذاته وصفاته وأفعاله من الجنّة ونعيمها والجحيم ونارها إلى غير ذلك. غير ان تفسير الآيات المتشابهة بهذا المعنى مردود أساساً، وقد أوضحنا الكلام في حقيقة الآيات المتشابهة في محلها وقلنا: إنّها ليست إلا عبارة عن الآيات التي يشتبه فيها المراد بغير المراد والحق بالباطل ويزاح الستر عن وجه الحق، بالآيات المحكمة، ولأجل ذلك يصف القرآن الكريم، الآيات المحكمة بأنها «أم الكتاب» وأسسه.

وأغلب الظن انّ الباعث على وصف هذه الآيات الواضحة الدلالة والمراد بكونها من المتشابه هو تأثر الأستاذ صاحب المنار وتلميذه بالموجة الوهابية ، فهو الأمر الذي دفعهما إلى حمل هذه الآيات محمل المتشابه ، والإعراض عن الأخذ بمدلولاتها الظاهرة الصريحة.

ولعل جعل صاحب المنار آيات الشفاعة من الآيات المتشابهة ورميها بهذا الوصف لأجل الإشكال الذي سوف نذكره ، وهو تخيل انّ الشفاعة التي جاء بها القرآن نوع من الوساطة المتعارفة في الحياة المادية بين الناس ، وسنطرح هذا الإشكال ودفعه من الأساس.

الإشكال السادس

ربّما يتخيل بأنّ الشفاعة نوع من الوساطة المتعارفة بين الناس ، ويجب تنزيه المقام الإلهي من هذا النوع من الوساطة ، وتوضيحه : انّ الخارج على القانون في الحياة الاجتماعية إذا حكم عليه بضرب من العقوبة المالية أو البدنية يبعث من له مكانة عند الحاكم حتى يقوم بالوساطة عنده ويبعثه على العفو والإغماض عن معاقبته ، فتصبح النتيجة أن يجري القانون على من يفقد مثل هذه الوساطة ولا يجري على من يجدها ، وهذا من الظلم الفظيع السائد في الأنظمة البشرية ، ويجب تنزيه الشريعة الإسلامية المقدسة عن قبول هذا النوع من الوساطة.

الجواب

إنّ الأساس لهذا الإشكال هو قياس الشفاعة الواردة في الكتاب العزيز على الشفاعة الدارجة في الحياة الاجتماعية للبشر.

ولو كان معنى الشفاعة هذا فقد رفضه القرآن أشد الرفض ، إذ هذا النوع

ص: 270

من الشفاعة كان من معتقدات عرب الجاهلية حيث كانوا يعبدون الأصنام لهذه الغاية ، قال سبحانه واصفاً حالهم : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) (1) فالعربي الجاهلي كان يتخيل انّ مكانة الآلهة الباطلة تكون سبباً لصرف إرادته سبحانه عن معاقبة المجرمين والعصاة ، أو تكون سبباً لجلب عنايته بهم ، فردّ اللّه سبحانه على تلك المزعمة بقوله : ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (2).

وقال في آية أُخرى واصفاً حالهم أيضاً : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) (3) ثم رد عليهم بقوله : ( إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) (4).

وعلى ذلك فالشفاعة بهذا المعنى وهو غلبة إرادة الشفيع على إرادة المشفوع عنده ، بصرف إرادته عن عقوبتهم أو جلب إرادته لرفع منزلتهم مرفوضة في منطق القرآن ، فانّه سبحانه هو الحق المطلق لا يؤثر فيه شيء ولا يتأثر عن شيء ولا يجعل القانون لعبة الشفيع حتى يجري في حق بعض دون بعض ، وانّما الشفاعة التي دعا إليها القرآن شيء آخر ، وهو إيصال الفيض الإلهي ، أعني : المغفرة والعفو الى عباده المستحقين عن طريق أوليائه وأصفيائه ، وذلك لأنّ مشيئته الحكيمة جرت على إيجاد المسبّبات عن طريق أسبابها ، وإحداث الأشياء عن طرقها ، فكما أنّ لكل ظاهرة مادية سبباً مادياً توجد بهذا السبب وتصل إلى الناس عن هذا الطريق ، فهكذا الفيوض الإلهية تصل إلى عباد اللّه عن الطرق الخاصة المعينة ، وهذا كهداية

ص: 271


1- يونس : 18.
2- يونس : 18.
3- الزمر : 3.
4- الزمر : 3.

الناس عن طريق الأنبياء والرسل ، فالهادي هو اللّه سبحانه لكن عن طريق أنبيائه ورسله ، وقضت مشيئته الحكيمة بهذا ، قال سبحانه : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (1) ترى أنّه سبحانه يجري فعله أي الحكم بالحق عن طريق بعث النبيين كيف والقرآن المجيد يصدق هذا النظام السائد في الأمور المعنوية والمادية قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (2).

فإنّ المراد من الوسيلة ما يتوسل به إلى الشيء والآية تدعو إلى الإتيان بالقربات والقيام بالوظائف التي يتوسل بها الإنسان إلى مرضاته ورضوانه.

وإذا كانت هذه الآية تدعو إلى ابتغاء الوسيلة بشكل عام من دون أن تعيّن شخص الوسيلة ، فقد قامت الآيات الأخر بتعيين الوسائل التي تتحصّل معها مغفرته ورضوانه ، ويكتسب بها عفوه وغفرانه ، قال سبحانه : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (3) ترى أنّه سبحانه يأمر نبيه بأن يصلّي عليهم حتى تنزل عليهم السكينة التي هي فعله سبحانه ولطفه ، فالسكينة تصل إليهم عن طريق سببه وهو دعاء النبي ، وقال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّابًا رَحِيماً ) (4) ترى أنّ الآية تدعو المجرمين والعصاة إلى ابتغاء الوسيلة للوصول إلى غفرانه وهو دعاء النبي واستغفاره في حقهم ، وليست هذه سنّة مخصوصة بالأمّة الإسلامية ، بل جرت عليها مشيئته في الأمم السابقة حيث نرى أنّ أبناء يعقوب عندما شعروا بالإثم

ص: 272


1- البقرة : 213.
2- المائدة : 35.
3- التوبة : 103.
4- النساء : 14.

راحوا يطلبون من أبيهم استغفاره في حقّهم فلمّا سمع هو دعوتهم ، وعدهم بالانجاز قال سبحانه : ( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (1).

وهذه الآيات ونظائرها ترشد الباحث على أنّ للأمور المعنوية وتحقّقها نظاماً على غرار النظام السائد في الأمور المادية. ولأجل ذلك لا يصح للقارئ الكريم أن يتعجب من وصول فيضه ومغفرته سبحانه يوم القيامة إلى عباده المستحقين لها عن طريق الشفعاء ، وأوليائه المخلصين.

أضف إلى ذلك أنّ في استجابة دعوة الأولياء ( الذين لا يدعون ولا يطلبون شيئاً مخالفاً للعدالة الإلهية ، ومشيئته الحكيمة ) نوع تكريم وتبجيل لهم ولمقامهم ، ونوع إشادة بهم ، وإظهار لفضلهم.

نعم هؤلاء الكرام البررة لا يطلبون فيضه وغفرانه إلاّ لمن استحقها ، وهو من لم يقطع صلته الإيمانية باللّه وعلاقته الروحية مع أوليائه ، وشفعائه. وإذا أردت أن تقف على الفرق الكبير والواضح بين الشفاعتين ( الشفاعة السائدة في الجماعات المادية والشفاعة القرآنية ) فاستمع لما نتلوه عليك من الفروق الموجودة في الشفاعتين :

الفروق الموجودة في الشفاعتين

أوّلاً : أنّ زمام الشفاعة التي نطق بها القرآن بيد اللّه سبحانه ، فهو الذي يبعث الشفيع - لما فيه من الكمال والمعنوية - حتى يشفع في حق المجرم الذي له صلاحية المغفرة ، فتصبح النتيجة أنّ رحمته الواسعة ومغفرته العميمة تصل من طريق الشفيع إلى عباده ، فعلى ذلك فالأمور كلها بيده ، وناشئة منه ، وراجعة إليه ،

ص: 273


1- يوسف : 97 - 98.

وهذا على خلاف النظام السائد في الوساطات المادية المتعارفة إذ المجرم فيها هو الذي يبعث الشفيع ليشفع عند الحاكم بحيث لولاه لما تقدم الشفيع بالشفاعة والوساطة عند الحاكم ، فالأمر هنا يبدأ من المجرم ويصل إلى الشفيع وينتهي إلى الحاكم على عكس النظام السائد في الشفاعة الأخروية.

فلو انّ القرآن يحث المسلمين على الحضور عند النبي ومطالبته بأن يستغفر لهم فليس ذلك إلاّ بأمر منه سبحانه وحث منه على هذا الطلب ، فلولا أمره وحثّه سبحانه لما قمنا بذلك ، ولو أنّا قمنا به لما كان له أثر بلا أمر منه سبحانه. وعلى ذلك فلا يصح لقائل أن يستدل بالآية على أنّ الشفاعة القرآنية على غرار الشفاعة الدنيوية حيث إنّ المجرم يطلب من النبي ، وينتهي الأمر إلى اللّه سبحانه ، فإنّ القائل ذهل عن أنّ كل هذه الأمور تتحقق بأمره وإذنه ، وإرشاده وطلبه بحيث لولاه لما كان هناك بعث ، وعلى فرض البعث لما كانت أيّة فائدة.

ثانياً : أنّ الشفيع في الشفاعة الصحيحة يتأثر بالمقام الربوبي ويخضع له حيث يأمره المولى الحكيم بالشفاعة والدعاء في حق المجرمين المستحقين له ولكن الأمر في الشفاعة الدنيوية على العكس إذ الحاكم يتأثر ، هناك بشفاعة الشفيع كما انّه نفسه يتأثر من تقدم الشفيع إليه وتكلّمه معه.

ثالثاً : أنّ ماهية الشفاعة الدنيوية وواقعيتها ليست إلاّ نوع تفرقة في تطبيق القانون حيث إنّ نفوذ الشفيع ومكانته عند الحاكم ، يوجبان مغلوبية إرادته وغالبية إرادة الشفيع ، فتصبح النتيجة أن يجري القانون في حق الضعيف الذي لا يجد شفيعاً دون القوي الذي يجد شفيعاً ، وهذا بخلاف الشفاعة الصحيحة فإنّها لا تحمل إرادة الشفيع على مشيئة اللّه ولا تخضع سنته الحكيمة لإرادة أحد وطلبه ، ولا يوجب التفرقة في التطبيق بل غاية الشفاعة هو جريان مغفرته وفيضه عن طريق أوليائه إلى عباده ، فلو حرم البعض من الشفاعة ، فليس ذلك لأجل نفاد

ص: 274

رحمته ، بل لأجل عدم لياقته لها ، فلو أنّ اللّه سبحانه يقول في حق المشرك : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ) (1) فليس ذلك إلاّ لأنّ قلب المشرك كالوعاء المسدود لا يتسرب إليه شيء حتى لو غمس في سبعة أبحر لما تسرب إليه الماء ، أو هو كالأرض المالحة التي لا ينبت فيها شيء ولو أنّ القرآن يصر على أنّ الشفاعة لا تتحقق إلاّ بإذنه سبحانه للشفيع وارتضائه للمشفوع له ، فليس ذلك إلاّ لأجل أنّ المرضي هو اللائق دون غيره ، فلو حرم المشرك من شفاعة الأنبياء أو حرم بعض العصاة منها فليس ذلك إلاّ لعدم لياقتهم لهذا الفيض.

الإشكال السابع

إنّ المراد من الشفاعة هو الشفاعة القيادية وانّ الأنبياء والأولياء يوصلون عباد اللّه إلى الفوز والسعادة عن طريق الوحي وتبليغ الرسالة ، فإطلاق الشفاعة على هذا الأمر لأجل أنّ انضمامهم إلى الوحي الإلهي يمهد الطريق إلى السعادة والنجاة. وهذا الإشكال مما أثاره المفسر المعاصر الشيخ الطنطاوي في تفسيره وقام بتفسير الشفاعة بذلك ، وإليك نص كلامه : « وفي الحديث يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ، فهذا يفيد أنّ الشفاعة تابعة للاقتداء ، فالأنبياء علّموا العلماء ، والعلماء علّموا الناس ، وأفضل الناس بعد الأنبياء ، العلماء ، فالشهداء ، فمن لم يعمل بما أنزل اللّه وتجافى عن الحق فقد عطل ما وهب له من بذر الشفاعة ولم يسقه ولم يربه ولم ينمه بالعمل ، فيحرم ثمرته مع أنّه ساوى جميع المسلمين في حصول البذر عنده وخالفهم في قعوده عن استثماره » (2).

ص: 275


1- النساء : 48 و 116.
2- الجواهر في تفسير القرآن الكريم : 1 / 65 ، وقد مضى بعض عباراته عند نقل كلمات العلماء.
الجواب

نحن في غنى عن الإجابة على هذا الإشكال لما رددنا على هذا في الأبحاث السابقة حيث قد أشبعنا الكلام عند البحث عن التفسيرات الثلاثة للشفاعة ، ونظير هذا الإشكال ما ربما تفسر الشفاعة بالعمل بالواجبات والتجنب عن المحرمات فتفسر آيات الشفاعة بهذه الشفاعة العملية.

ونزيد بياناً هنا على ضعف هذا الإشكال انّه لو كان المراد هو المغفرة في ضوء الطاعة العملية فلماذا وعد اللّه سبحانه في الآية التالية بأنّه لا يغفر الشرك ويغفر ما دون ذلك ؟ قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (1) فلو كان المراد هو المغفرة في ضوء الإيمان والعمل لما صح استثناء الشرك في الآية الكريمة ، لأنّ الشرك يغفر في هذا الإطار أيضاً ، وبذلك يعلم أنّ لله سبحانه مغفرة ورحمة خارجة عن إطار العمل وانّ رحمته الواسعة كما تصل إليهم من طريق العمل بالأحكام ، تصل إليهم عن طريق آخر وهو كون العبد قابلاً للمغفرة والرحمة حافظاً لعلاقاته مع اللّه ومع الشفعاء وان كان قاصراً في العمل.

الإشكال الثامن

إنّ الاعتقاد بشفاعة الشفعاء يستلزم أن يكون الشفيع أشد رأفة بالعباد من اللّه سبحانه ، لأنّ المفروض أنّه لولا دعاء الشفيع وشفاعته لا ترفع العقوبة من المجرم والعاصي.

وإن شئت قرر هذا الإشكال بوجه آخر : انّ الاعتقاد بوصول مغفرته سبحانه

ص: 276


1- النساء : 48.

عن طريق الشفعاء يستلزم محدودية فيضه ورحمته بحيث يكون دعاء الشفيع وسيلة لتوسعتها وانبساطها.

الجواب

إنّ الإشكال بكلا التقريرين ساقط من الأساس ، فإنّ الإشكال مبني على تفسير الشفاعة بالواسطة المتعارفة في الحياة البشرية ، وأمّا على ما ذكرنا من معنى الشفاعة في القرآن من أنّه عبارة عن وصول رحمته وغفرانه إلى عباده من طريق أوليائه فلا وجه له لما قررنا من الفوارق الثلاثة بين الشفاعة القرآنية والشفاعة بمعنى الوساطة العرفية ، وقلنا : إنّ واقع الشفاعة القرآنية هو انّه سبحانه يبعث الشفيع على الدعاء والشفاعة وهو الذي يأذن له ويرتضي من يشاء من عباده وليس للشفيع هنا أيّ دخالة ، أفبعد ذلك يصح للقائل أن يقول إنّ معنى الشفاعة هو كون الشفيع أشد رأفة بالعباد من اللّه سبحانه ؟!

وأمّا التقرير الثاني فهو غفلة عمّا جرت عليه مشيئته سبحانه ، فإنّه جرت السنة الإلهية على إيصال المسببات عن طريق أسبابها ، فقد جعل لكل شيء سبباً من دون أن يقوم هو سبحانه بنفسه مكان الأسباب والعلل ، ولو صح ما زعمه المستشكل لزم أن يكون الاعتقاد بتأثير الأسباب الطبيعية في مسبباتها تحديداً لقدرته ورحمته إذ لولا هذه الأسباب ، لما وصلت فيوضاته المادية إلى الإنسان.

الإشكال التاسع

انّ الاعتقاد بالشفاعة وتأثير دعاء الشفيع وطلبه في رفع العقوبة ، أو في ارتفاع الدرجة ، يتناقض مع الأصل الذي أسّسه القرآن الكريم حيث جعل مصير كل أحد قيد عمله ورهن سعيه ، قال سبحانه : ( وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا

ص: 277

سَعَى ) (1) ، وقال سبحانه : ( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ) (2) وقال تعالى : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) (3) ، فهذه الآيات تجعل الجزاء قيد العمل والسعي وانّه هو نتيجة ذلك ، فكيف يجتمع هذا مع الشفاعة التي ليست لها واقعية كواقعية السعي والعمل بل هو موجب لفوز الإنسان ونجاته بسبب دعاء الغير ووجاهته ومكانته من دون سعي صادر من المشفوع له.

الجواب

إنّ الجواب على هذا الإشكال يكون بوجهين :

الأوّل : بالنقض ، فإنّ القرآن يصرّح بأنّ دعاء الغير سبب لمغفرة الذنوب ، قال سبحانه في حق حملة العرش : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ) (4) وقال سبحانه : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ) (5) فلو كان ما ذكره المستشكل صحيحاً فكيف يكون دعاء حملة العرش موجباً للمغفرة ؟! ومثله الآية الثانية فبملاحظة هاتين الآيتين وما ورد من الحث والتأكيد على دعاء المؤمن في الفرائض والنوافل ، وفي الجلوات والخلوات ، يتضح أنّ لآيات السعي مفاداً غير ما استنبطه المستدل منها ، وسوف يوافيك هذا المعنى في الجواب التالي.

ص: 278


1- النجم : 39.
2- يونس : 52.
3- آل عمران : 30.
4- غافر : 7.
5- الحشر : 10.

الثاني : بالحل ، فإنّ الشفاعة في الحقيقة فرع للسعي الذي قام به المشفوع له وتعد من آثاره وتوابعه إذ لولا عمله وسعيه وجده واجتهاده في الإيمان باللّه سبحانه وإقامة الفرائض والاجتناب عن المحرمات في الجملة ، لما نالته شفاعة الأولياء ، فالسعي الذي قام به طيلة حياته على وجه حفظ به علاقاته مع اللّه سبحانه ومع أوليائه ، هو المصحح للشفاعة والموجب لمغفرته بدعاء الشفيع.

ولأجل ذلك حثّت الأحاديث على تحديد شفاعة الأولياء وانّه لا تنال عدة من العصاة ، كتارك الصلاة وعاق الوالدين وغير ذلك.

الإشكال العاشر

إنّ طلب الشفاعة من الأولياء والأنبياء شرك باللّه سبحانه ، أو أمر محرم.

الجواب

قد أشبعنا الكلام في معنى الشفاعة وحدودها وشرائطها وبقي هنا بحث ، وهو انّه هل يجوز طلب الشفاعة من الشفعاء الحقيقيين أو لا ؟ ذهب ابن تيمية وخريج مدرسته محمد بن عبد الوهاب إلى أنّه لا يجوز طلبها من غيره سبحانه ، لأنّ طلبها من غيره عبادة له ، أو لا أقل من أنّه أمر محرم ، واختار جمهرة المسلمين جوازه من غير فرق بين أن يكون الشفيع حياً أو ميتاً.

وهذا الإشكال وان لم يكن مربوطاً بأصل الشفاعة لكنه يمت إليها بنحو من الارتباط ، فأردنا أن نبحث عنه في عداد الإشكالات فنقول : اتفق المسلمون على أصل الشفاعة وانّ هناك عباداً مخلصين وأصفياء كراماً يشفعون يوم القيامة بل يشفعون في هذه الدنيا والبرزخ ويوم القيامة وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين ، إلاّ من شذ وندر ممن فسر الشفاعة بغير معناها الصحيح ، إلاّ انّ الكلام في أنّه هل

ص: 279

يجوز طلب الشفاعة من المأذون له من الأنبياء والأولياء بعد الاتفاق على تحريم ذلك الطلب من غير المأذون ، أو لا يجوز ؟

قال ابن تيمية ومن لف لفه من أنّه لا يجوز للمؤمن إلاّ أن يقول : اللّهم شفّع نبينا محمداً فينا يوم القيامة ، أو اللّهم شفّع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك أو نحو ذلك مما يطلب من اللّه لا منهم ، فلا يقال : يا رسول اللّه أو يا ولي اللّه أسألك الشفاعة أو غيرها مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه ، فإذا طلبت ذلك في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك (1).

ولأجل هذا يجب الغور في هذه المسألة حتى يتضح الحق لمبتغيه بأجلى مظاهره.

ما يدل على جواز طلب الشفاعة

يمكن الاستدلال على جواز هذا الطلب بوجوه كثيرة نشير إلى بعضها :

الأوّل : انّ حقيقة الشفاعة ليست إلاّ دعاء النبي والولي في حق المذنب ، وإذا كانت هذه حقيقته في جميع المواقف أو في بعضها فلا مانع من طلبها من الصالحين ، لأنّ غاية هذا الطلب هو طلب الدعاء ، فلو قال القائل : « يا وجيهاً عند اللّه اشفع لنا عند اللّه » يكون معناه : ادع لنا عند ربك ، فهل يرتاب في جواز ذلك مسلم ؟

ولست أراك تشك في أنّ طلب الدعاء هو نفس الاستشفاع ، وانّ حقيقة الشفاعة هي الدعاء ، ولأجل ذلك نرى انّ العلاّمة نظام الدين النيسابوري ، صاحب التفسير الكبير ينقل في تفسير قوله سبحانه : ( مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً

ص: 280


1- الهدية السنية : 42.

يَكُن لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ) (1) عن مقاتل قوله : الشفاعة إلى اللّه انّما هي دعوة المسلم (2).

وقال الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ) (3) انّ هذه الآية تدل على حصول الشفاعة للمذنبين ، والاستغفار طلب المغفرة ، والمغفرة لا تذكر إلاّ في إسقاط العقاب ، أمّا طلب النفع الزائد فانّه لا يسمّى استغفاراً ، وقال : قوله تعالى : ( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) يدل على أنّهم يستغفرون لكل أهل الإيمان ، فإذا دللنا على أنّ صاحب الكبيرة مؤمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة (4).

وهذه الجمل تفيد أنّ الإمام الرازي جعل قول الملائكة في حق المؤمنين والتائبين من أقسام الشفاعة ، وفسر قوله : ( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا ) بالشفاعة وهذا دليل واضح على أنّ الدعاء في حق المؤمن ، شفاعة في حقه ، وطلبه منه طلب الشفاعة منه ، ويوضح ذلك ويؤيده ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي : « ما من ميت يصلّي عليه أُمّة من المسلمين يبلغون مائة كلّهم يشفعون له إلاّ شفّعوا فيه » (5).

وفسّر الشارح قوله صلی اللّه علیه و آله : « يشفعون له » بقوله : أي يدعون له ، كما فسر قوله صلی اللّه علیه و آله : « إلاّ شفّعوا فيه » بقوله : أي قبلت شفاعتهم.

ص: 281


1- النساء : 85.
2- تفسير النيسابوري : 1 والمطبوع في إيران غير مرقم.
3- غافر : 7.
4- مفاتيح الغيب : 7 / 285 - 286 ، طبعة مصر في ثمانية أجزاء.
5- صحيح مسلم : 3 / 53 ، طبعة مصر ، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده.

وروي أيضاً عن عبد اللّه بن عباس أنّه قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون باللّه شيئاً إلاّ شفّعهم اللّه فيه » (1) أي قبلت شفاعتهم في حق ذلك الميت فيغفر له.

وعلى ذلك فلا وجه لمنع الاستشفاع من الصالحين إذا كان مآله إلى طلب الدعاء ، ولو كان للشفاعة معنى آخر من التصرف التكويني في قلوب المذنبين ، وتصفيتهم في البرزخ ، ومواقف القيامة فهو أمر عقلي لا يتوجه إليه إلاّ الأوحدي من الناس ، فكل من يطلب من النبي الشفاعة لا يقصد منه إلاّ المعنى الرائج.

الثاني : انّ الأحاديث الإسلامية وسيرة المسلمين تكشفان عن جواز هذا الطلب ، ووجوده في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله ، فقد روى الترمذي في صحيحه عن أنس قوله : سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة ، فقال : « أنا فاعل » ، قال : قلت : يا رسول اللّه فأين أطلبك ؟ فقال : « اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط » (2).

فإنّ السائل يطلب بصفاء ذهنه ، وسلامة فطرته من النبي الأعظم ، الشفاعة من دون أن يخطر بباله أنّ في هذا الطلب نوع عبادة للنبي صلی اللّه علیه و آله كما زعمه الوهابيون.

وهذا سواد بن قارب ، أحد أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله يقول مخاطباً إياه :

فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلا عن سواد بن قارب (3)

وروى أصحاب السير والتاريخ ، انّ رجلاً من قبيلة حمير عرف أنه سيولد في أرض مكة نبي الإسلام الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، ولمّا خاف أن لا يدركه ، كتب رسالة وسلّمها لأحد أقاربه حتى يسلّمها إلى النبي صلی اللّه علیه و آله حينما يبعث ، وممّا جاء في تلك

ص: 282


1- نفس المصدر.
2- صحيح الترمذي : 4 / 621 ، كتاب صفة القيامة ، الباب 9.
3- نقله « زيني دحلان » عن الطبراني في الكبير كما في التوصل إلى حقيقة التوسل : 298.

الرسالة قوله : « وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني » (1). ولما وصلت الرسالة إلى يد النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « مرحباً بتبّع الأخ الصالح » فإنّ توصيف طالب الشفاعة من النبي صلی اللّه علیه و آله بالأخ الصالح ، أوضح دليل على أنّه أمر لا يصادم أُصول التوحيد.

وروي أنّ أعرابياً قال للنبي صلی اللّه علیه و آله : جهدت الأنفس ، وجاع العيال ، وهلك المال ، فادع اللّه لنا ، فإنّا نستشفع باللّه عليك ، وبك على اللّه ، فسبح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال : « ويحك أنّ اللّه لا يستشفع به على أحد من خلقه ، شأن اللّه أعظم من ذلك » (2). وأنت إذا تدبرت في الرواية ترى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أقرّه على شيء وأنكر عليه شيئاً آخر ، أقرّه على قوله : إنّا نستشفع بك على اللّه ، وأنكر عليه : نستشفع باللّه عليك ، لأنّ الشافع يسأل المشفوع إليه ، والعبد يسأل ربه ، ويستشفع إليه ، والرب تعالى لا يسأل العبد ، ولا يستشفع به.

وروى المفيد عن ابن عباس أنّ أمير المؤمنين علیه السلام لما غسّل النبي صلی اللّه علیه و آله وكفّنه ، كشف عن وجهه وقال : « بأبي أنت وأُمي طبت حياً وطبت ميتاً ... اذكرنا عند ربك » (3).

وروي أنّه لما توفي النبي صلی اللّه علیه و آله أقبل أبو بكر فكشف عن وجهه ، ثم أكبّ عليه فقبّله ، وقال : بأبي أنت وأُمي طبت حياً وميتاً ، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك (4).

وهذا استشفاع من النبي صلی اللّه علیه و آله في دار الدنيا بعد موته.

ص: 283


1- مناقب ابن شهر آشوب : 1 / 12 ، السيرة الحلبية : 2 / 88.
2- كشف الارتياب : 264 ، نقلاً عن زيارة القبور : 100.
3- مجالس المفيد : 103 ، المجلس الثاني عشر.
4- كشف الارتياب : 265 نقلاً عن خلاصة الكلام.

ونقل عن شرح المواهب للزرقاني انّ الداعي إذا قال : اللّهم إنّي استشفع إليك بنبيك يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك ، استجيب له (1).

وقد روى الجمهور في أدب الزائر إنّه إذا جاء لزيارة النبي صلی اللّه علیه و آله يقول : جئناك لقضاء حقّك ، والاستشفاع بك ، فليس لنا يا رسول اللّه شفيع غيرك ، فاستغفر لنا واشفع لنا (2).

كل هذه النصوص تدل على أنّ طلب الشفاعة من النبي صلی اللّه علیه و آله كان أمراً جائزاً ورائجاً ، وذلك لأنّهم يرونه مثل طلب الدعاء منه ، ولا فرق بينها وبينه إلاّ في اللفظ ، وقد عرفت صحة إطلاق لفظ الشفاعة على الدعاء والاستشفاع على طلب الدعاء حتى أنّ صحيح البخاري عقد بابين بهذين العنوانين :

إذا استشفعوا ليستسقى لهم لم يردهم.

إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط.

فنرى أنّ البخاري يطلق لفظ الشفاعة والاستشفاع على الدعاء وطلبه من الإمام في العام المجدب من دون أن يخطر بباله أنّ هذا التعبير غير صحيح.

وعلى الجملة انّ طلب الشفاعة من النبي صلی اللّه علیه و آله داخل فيما ورد من الآيات التالية :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيمًا ) (3).

( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) (4).

ص: 284


1- نفس المصدر.
2- الغدير : 5 / 124 - 127 ، وقد نقله عن جمع لا يستهان بعدتهم.
3- النساء : 64.
4- يوسف : 97 - 98.

وقوله سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ ) (1).

فكلّما يدل على جواز طلب الدعاء من المؤمن الصالح يمكن الاستدلال به على صحة ذلك.

وقد عقد الكاتب محمد نسيب الرفاعي مؤسس الدعوة السلفية والمدافع القوي عن الوهابية باباً تحت عنوان : « توسل المؤمن إلى اللّه تعالى بدعاء أخيه المؤمن له ». واستدل بالقرآن والسنّة الصحيحة ، فإذا كان ذلك جائزاً فلم لا يجوز طلب الشفاعة من النبي وآله بعد كون الجميع مصداقاً لطلب الدعاء.

وليعلم أنّ البحث هنا مركّز على طلب الشفاعة من الأخيار ، وأمّا التوسل بذواتهم أو بمقامهم أو غير ذلك فخارج عن موضوع بحثنا ، وقد أفردنا لجواز تلك التوسلات رسالة مفردة أشبعنا الكلام فيها قرآناً وحديثاً ، وقد طبعت وانتشرت.

وإذا وقفت على ذلك فهلمّ معي إلى ما لفّقه القوم وزعموه دلائل قاطعة على حرمة طلب الشفاعة من الأولياء ، ونحن ننقلها واحداً بعد واحد على سبيل الإجمال ، وقد أتينا ببعض الكلام في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة (2).

ما استدل به على حرمة طلب الشفاعة

استدل القائلون بحرمة طلب الشفاعة بوجوه :

1. انّ طلب الشفاعة من الشفعاء عبادة لهم وهي موجبة للشرك ، أي الشرك في العبادة ، فإنّك إذا قلت يا محمد اشفع لنا عند اللّه ، فقد عبدته بدعائك ،

ص: 285


1- المنافقون : 5.
2- راجع معالم التوحيد : 491 - 501.

والدعاء مخ العبادة ، فيجب عليك أن تقول : اللّهم اجعلنا ممن تناله شفاعة محمد صلی اللّه علیه و آله .

والجواب عن هذا الاستدلال واضح كل الوضوح بعد الوقوف على ما أوردناه في الجزء الأوّل من هذه الحلقات ، حيث قلنا : إنّ حقيقة العبادة ليست مطلق الدعاء ، ولا مطلق الخضوع ، ولا مطلق طلب الحاجة ، بل هو عبارة عن الدعاء أو الخضوع أمام من يعتقد بإلوهيته وربوبيته وانّه الفاعل المختار والمتصرف بلا منازع في الأمور التي ترجع إلى اللّه سبحانه.

وإن شئت قلت : العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بإلوهية المسؤول وربوبيته واستقلاله في ذاته أو في فعله.

وبعبارة ثالثة : العبادة هي الخضوع اللفظي أو العملي أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شؤون وجوده وحياته وعاجله وآجله.

إلى غير ذلك من التعابير التي توضح لنا مفهوم العبادة وحقيقتها.

فمن الغريب أن نفسر العبادة بمطلق الخضوع أو الخضوع النهائي وإن كان غير صادر عن الاعتقاد بإلوهية المدعو وربوبيته وإلاّ يلزم أن يكون خضوع الملائكة أمام آدم ، وخضوع الإنسان أمام والديه من الشرك الواضح.

وما ورد في الحديث من أنّ الدعاء مخ العبادة ، فليس المراد منه مطلق الدعاء ، بل المراد دعاء اللّه مخ العبادة ، وما ورد في الروايات من أنّه : من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان ينطق عن اللّه فقد عبد اللّه ، وان كان ينطق عن غير اللّه فقد عبد غير اللّه (1). فليس المراد من العبادة هنا : العبادة المصطلحة ، بل استعيرت في المقام لمن يجعل نفسه تحت اختيار الناطق.

ص: 286


1- الكافي : 6 / 434 ، الحديث 4 ، وعيون أخبار الرضا : 1 / 303 ، الحديث 63 ، الوسائل : 18 الباب 10 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9 و 13.

وعلى ذلك فطلب الشفاعة إنّما يعد عبادة للشفيع إذا كان مقروناً بالاعتقاد بإلوهيته وربوبيته وانّه مالك لمقام الشفاعة. أو مفوض إليه ، يتصرف فيها كيف يشاء ، وأما إذا كان الطلب مقروناً باعتقاد أنّه عبد من عباد اللّه الصالحين يتصرف بإذنه سبحانه للشفاعة ، وارتضائه للمشفوع له ، فلا يعد عبادة للمدعو ، بل يكون وزانه وزان سائر الطلبات من المخلوقين ، فلا تعد عبادة بل طلباً محضاً غاية الأمر لو كان المدعو قادراً على المطلوب يكون الدعاء أمراً صحيحاً عقلاً ، وإلاّ فيكون أمراً لغواً فلو تردّى الإنسان وسقط في قعر البئر وطلب العون من الواقف عند البئر القادر على نجدته وإنقاذه ، يعد الطلب أمراً صحيحاً ولو طلبه من الأحجار المنضودة حول البئر يكون الدعاء والطلب منها لغواً مع كون الدعاء والطلب هذا غير مقترن بشيء من الإلوهية والربوبية في حق الواقف عند البئر ، ولا الأحجار المنضودة حوله.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه حثّ على ابتغاء الوسيلة وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (1) ومن المعلوم انّ المراد من الوسيلة ليست الأسباب الدنيوية الموصلة للإنسان إلى غاياته المادية ، إذ ليس هذا أمراً خفياً على الإنسان حتى يحثّه عليه القرآن كما أنّه ليس من الأمور التي يكسل عنها الإنسان حتى يحض عليه ، بل المراد : التوسل بالأسباب الموصلة إلى الأمور المعنوية ومن المعلوم إنّ أحد الأسباب هو التوسل بدعاء الأخ المؤمن ، والولي الصالح ، وعلى ذلك فيرجع طلب الشفاعة إلى طلب الدعاء ، الذي اتفق المسلمون قاطبة على جوازه.

وإن شئت قلت إنّه سبحانه يقول : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (2).

ص: 287


1- المائدة : 35.
2- الزخرف : 86.

ومن الواضح إنّ جملة ( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ ) تدل على أنّ الطائفة الموحدة لله تملك الشفاعة بإذنه سبحانه ، وعندئذ فلماذا لا يصح طلبها ممن يملك الشفاعة بإذنه ؟ غاية الأمر إنّ الطالب لو كان في عداد من ارتضاه سبحانه نفعه الاستشفاع وإلاّ فلا ، ومن العجب قول محمد بن عبد الوهاب : « إنّ اللّه أعطى النبي الشفاعة ونهاك عن هذا وقال : ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) وأيضاً الشفاعة أُعطيها غير النبي فصح أنّ الملائكة والأولياء يشفعون فإن قلت : اللّه أعطاهم الشفاعة ، وأطلبها منهم ، رجعت [ عندئذ ] إلى عبادة الصالحين ، التي ذكرها اللّه تعالى في كتابه » (1) إذ هذه الكلمة من العجائب فإنّه إذا أعطاه اللّه سبحانه الشفاعة فكيف يمنع طلبها منه ؟! وهذا بمنزلة من ملّك أحداً شيئاً ليستفيد منه الآخرون ولكن منع الآخرين عن طلبه منه ، فهذا لو كان صحيحاً عقلاً فهو غير متعارف عرفاً.

أضف إليه انّه في أي آية وأي حديث منع طلب الشفاعة عنهم. وتصور انّ طلبها عبادة قد عرفت الإجابة عنها ، وانّ العبادة عبارة عن الطلب اللفظي أو الخضوع العملي عمن يعتقد بنحو من الأنحاء بإلوهيته وربوبيته ، وذلك الاعتقاد لا ينفك عن الاعتقاد في استقلال المطلوب منه ذاتاً وفعلاً ، وكونه متصرفاً في الأمور الإلهية تصرفاً بلا منازع ، وليس هذا الاعتقاد موجوداً في الاستشفاعات المتعارفة بين المسلمين.

2. انّ طلب الشفاعة يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة الباطلة وقد حكى القرآن ذلك العمل منهم ، قال سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) (2) وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير.

ص: 288


1- كشف الشبهات : 6 / 9.
2- يونس : 18.

والجواب عن هذا بيّن أيضاً ، فانّك إذا أمعنت النظر في مفاد الآية لا تجد فيها أيّة دلالة على أنّ شركهم كان لأجل الاستشفاع بالأصنام وكان هذا هو المحقق لشركهم وجعلهم في عداد المشركين ، وإليك توضيح ذلك فنقول :

إنّ المشركين كانوا يقومون بعملين : ( العبادة ) ويدل عليه ( وَيَعْبُدُونَ ... ) و ( طلب الشفاعة ) ويدل عليه : ( وَيَقُولُونَ ... ) وكان علة اتصافهم بالشرك هو الأوّل لا الثاني ، ولو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها بالحقيقة ، لما كان هناك مبرر للإتيان بجملة أُخرى ، أعني قوله : ( وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا ) بعد قوله : ( وَيَعْبُدُونَ ... ) إذ لا فائدة لهذا التكرار ، وتوهم انّ الجملة الثانية توضيح للأولى خلاف الظاهر ، فإنّ عطف الجملة الثانية على الأولى يدل على المغايرة بينهما إذ لا دلالة للآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة فضلاً عن كون الاستشفاع بالأولياء المقربين عبادة لهم.

نعم ثبت بأدلّة أُخرى ( لا من الآية ) بأنّ طلب الاستشفاع بالأصنام يعد عبادة لهم وذلك لما قلنا من أنّ المشركين كانوا يعتقدون بإلوهيتها وربوبيتها واستقلالها في الأفعال (1).

3. طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام ، فإنّ ذلك دعاء لغير اللّه وهو حرام قال سبحانه : ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (2) وإذا كانت الشفاعة ثابتة لأوليائه وكان طلب الحاجة من غيره حراماً فالجمع بين الأمرين يتحقق بانحصار جواز طلبها عن اللّه سبحانه خاصة ، ويوضح ذلك قوله سبحانه : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (3) ، فقد عبر عن

ص: 289


1- وان أردت المزيد من التوضيح ، فلاحظ الجزء الأوّل من هذه الحلقات : معالم التوحيد في القرآن : 493 - 501.
2- الجن : 18.
3- غافر : 60.

العبادة في الآية بلفظ الدعوة في صدرها وبلفظ العبادة في ذيلها ، وهذا يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى ، وقد مر قوله صلی اللّه علیه و آله : « الدعاء مخ العبادة ».

والجواب بوجوه : أوّلاً : أنّ المراد من الدعاء في قوله تعالى : ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) ليس مطلق دعوة الغير بل الدعوة الخاصة المحدودة المرادفة للعبادة ، ويدل عليه قوله سبحانه في نفس هذه الآية ( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ ) .

وعلى ذلك فيكون المراد من النهي عن دعوة الغير هو الدعوة الخاصة المقترنة بالاعتقاد بكون المدعو ذا اختيار تام في التصرف في الكون وفي شأن من شؤونه سبحانه.

فإذا كان طلب الشفاعة مقترناً بهذه العقيدة يعد عبادة للمشفوع إليه. وإلاّ فيكون طلب الحاجة كسائر الطلبات من غيره سبحانه الذي لا يشك ذو مسكة في عدم كونها عبادة.

وثانياً : أنّ المنهي عنه هو دعوة الغير بجعله في رتبته سبحانه كما يفصح عنه قوله : ( مَعَ اللّهِ ) وعلى ذلك فالمنهي هو دعوة الغير ، وجعله مع اللّه ، لا ما إذا دعا الغير معتقداً بأنّه عبد من عباده لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا بعثاً ولا نشوراً إلاّ بما يملكه من اللّه سبحانه ويتفضّل عليه بإذنه ويقدر عليه بمشيئته ، فعند ذاك فالطلب منه بهذا الوصف يرجع إلى اللّه سبحانه ، وبذلك يظهر أنّ ما تدل عليه الآيات القرآنية من أنّ طلب الحاجة من الأصنام كان شركاً في العبادة ، فلأجل انّ المدعو عند الداعي كان إلهاً أو رباً مستقلاً في شأن من شؤون وجوده أو فعله قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) (1) وقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ

ص: 290


1- الأعراف : 197.

عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) (1). ترى أنّه سبحانه يستنكر دعاءهم بقوله : ( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) وقوله : ( عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) مذكّر بأنّ عقيدتهم في حق هؤلاء عقيدة كاذبة وباطلة ، فإنّ الأصنام لا تستطيع نصر أحد ، وهذا يكشف عن أنّ الداعين كانوا من جانب النقيض من تلك العقيدة ، وكانوا يعتقدون بتملّك الأصنام لنصرهم وقضاء حوائجهم من عند أنفسهم.

وثالثاً : أنّ الدعاء ليس مرادفاً للعبادة وما ورد في الآية والحديث من تفسير الدعاء بالعبادة في ذيلهما لا يدل على ما يرتئيه المستدل ، فإنّ المراد من الدعاء فيهما قسم خاص منه ، وهو الدعاء المقترن باعتقاد الإلوهية في المدعو والربوبية في المطلوب منه كما عرفت.

4. الشفاعة حق مختص باللّه سبحانه لا يملكه غيره وعلى ذلك فطلبها من غير مالكها أمر غير صحيح ، قال سبحانه : ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (2).

والجواب : انّ المراد من قوله سبحانه : ( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) ليس انّه سبحانه هو الشفيع دون غيره ، إذ من الواضح انّه سبحانه لا يشفع عند غيره ، بل المراد انّ المالك لمقام الشفاعة هو سبحانه وانّه لا يشفع أحد في حق أحد إلاّ بإذنه للشفيع وارتضائه للمشفوع له ، ولكن هذا المقام ثابت لله سبحانه بالأصالة والاستقلال ولغيره بالاكتساب والإجازة ، قال سبحانه : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (3) فالآية صريحة في أنّ من شهد بالحق يملك الشفاعة ولكن تمليكاً منه سبحانه وفي طول ملكه. وعلى ذلك

ص: 291


1- الأعراف : 194.
2- الزمر : 43 - 44.
3- الزخرف : 86.

فالآية أجنبية عن طلب الشفاعة من الأولياء الصالحين الذين شهدوا بالحق وملكوا الشفاعة ، وأُجيزوا في أمرها في حق من ارتضاهم لها.

هذا وكما أنّ الشفاعة التشريعية مختصة باللّه سبحانه وانّه المالك لها بالأصالة وانّما يملكها الغير بإذن منه ، هكذا الشفاعة في عالم التكوين وعالم العلل والمعاليل والأسباب والمسببات ، قال سبحانه : ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) (1) والمراد من الشفيع في الآية هو الشفيع في عالم التكوين بقرينة انّ البحث يدور حول خلق السماوات والأرض ثم الاستواء على العرش ويعود معنى الآية إلى أنّ الأسباب والمسببات الخارجية إذا كان بعضها شفيعاً لبعض في تتميم الأثر ( كالسحاب والمطر والشمس والقمر وغيرها شفعاء للنبات ) فموجد الأسباب وأجزائها هو الشفيع بالحقيقة التي يتم نقصها ويقيم صلبها فانّه سبحانه هو الشفيع بالحقيقة لا شفيع غيره (2).

وإن شئت قلت : إنّ الآية بصدد نقد عقيدة المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّ الأصنام والأوثان تملك الشفاعة ، فأراد سبحانه أن يوقظ شعورهم بأنّ مالكية الأصنام لها فرع كونها ذا عقل وشعور حتى يمكن أن تستفيد من هذا الحق في شأن الشفعاء ، وتلك الآلهة لا تعقل ولا تشعر شيئاً ، كما يدل عليه قوله سبحانه : ( قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) .

5. طلب الشفاعة من الميت أمر باطل ، ولعل هذا آخر سهم في كنانتهم فجعلوا طلب الشفاعة من أوليائه الصالحين أمراً لغواً ، لأنّهم أموات غير أحياء لا يسمعون ولا يعقلون.

ص: 292


1- السجدة : 4.
2- الميزان : 16 / 258.

والاستدلال باطل من وجوه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ البراهين الفلسفية قد أثبتت تجرد النفس الإنسانية وبقاءها بعد مفارقة الروح البدن ، وقد أثبت الفلاسفة ذلك بأدلة كثيرة لا مجال لذكرها في هذه الصفحات ، وقد جئنا ببعضها في ما حرّرناه حول الروح في رسالة خاصة ، ولعلّنا نقوم ببيانها عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم.

وثانياً : أنّ الآيات صريحة في أنّ المقتولين في سبيل اللّه أحياء يرزقون قال سبحانه : ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (1) وهل يجد الوهابي مبرراً لتأويل الآية مع هذه الصراحة التي لا تتصور فوقها صراحة حيث أخبرت الآية عن حياتهم ورزقهم عند ربّهم وما يحل بهم من الأفراح وما يقدمون عليه من الاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم ، وما يتفوّهون به في حقهم بقولهم كما يحكيه سبحانه : ( أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

وعلى ذلك فلو كان الشفيع أحد الشهداء في سبيل اللّه تعالى ، فهل يكون هذا الطلب لغواً ؟!

وثالثاً : أنّ القرآن يعد النبي شهيداً على الأمم جمعاء ، ويقول سبحانه : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً ) (2) فالآية تصرّح بأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله شاهد على الشهود الذين يشهدون على أُممهم ، فإذا كان النبي صلی اللّه علیه و آله شاهداً على الأمم جمعاء أو على شهودهم فهل تعقل الشهادة بدون

ص: 293


1- آل عمران : 169 - 170.
2- النساء : 41.

الحياة ، أو بدون الاطّلاع على ما تجري بينهم من الأمور من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان ؟!

ولا يصح لك أن تفسر شهادة النبي بشهادته على معاصريه ومن زامنوه ، وذلك لأنّه سبحانه عدّ النبي شاهداً في عداد كونه مبشراً ونذيراً ، وهل يتصوّر أحد أن يختص الوصفان الأخيران بمن كان يعاصره النبي ؟! كلا لا ، فإذن لا وجه لتخصيص كونه شاهداً بالأمّة المعاصرة للنبي.

فعند ذلك يكون طلب الشفاعة من النبي الأكرم الذي هو حي بنص القرآن أمراً صحيحاً معقولاً ، وأنت إذا لاحظت الآيات القرآنية تقف على أنّها تصرح بامتداد حياة الإنسان إلى ما بعد موته ، يقول سبحانه في حق الكافرين : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (1). فهذه الآية تصرح بامتداد الحياة الإنسانية إلى عالم البرزخ ، وانّ هذا وعاء للإنسان يعذّب فيها من يعذّب وينعّم فيها من ينعّم ، أما التنعّم فقد عرفت التصريح به في الآية الواردة في حق الشهداء ، وأمّا العقوبة فيقول سبحانه : ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ ) (2).

وهناك آيات أُخر تدل على امتداد الحياة إلى ما بعد الموت نرجئ نقلها إلى مكانها الخاص بل هناك آيات تدل بصراحة على ارتباطهم بنا ، وارتباط بعضنا من ذوي النفوس القوية بهم.

وأمّا الأحاديث الواردة في هذا المورد فحدث عنها ولا حرج ، وقد روى المحدّثون قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « ما من أحد يسلّم عليّ إلاّ رد اللّه روحي حتى أرد عليه

ص: 294


1- المؤمنون : 99 - 100.
2- غافر : 46.

السلام » (1). كما نقلوا قوله : « إنّ لله ملائكة سياحين في الأرض يبلّغوني من أُمّتي السلام » (2).

وفي الختام نرى أنّه سبحانه يسلم على أنبيائه في آيات كثيرة ، ويقول : ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ ) ( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) ( سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) و ( سَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ ) (3).

كما يأمرنا بالتسليم على نبيه والصلوات عليه ويقول بصريح القول : ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (4) ، فلو كان الأنبياء والأولياء أمواتاً غير شاعرين بهذه التسليمات والصلوات ، فأي فائدة في التسليم عليهم ، وفي أمر المؤمنين بالصلوات والسلام على النبي صلی اللّه علیه و آله ؟ والمسلمون أجمع يسلمون على النبي في صلواتهم بلفظ الخطاب ، ويقولون : السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته ، وحمل ذلك على الشعار الأجوف والتحية الجوفاء ، أمر لا يجترئ عليه من له إلمام بالقرآن والحديث.

6. انّ القرآن يصرح بوضوح انّ الموتى لا يسمعون ولا يبصرون قال سبحانه : ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (5) فالآية تعرّف المشركين بأنّهم أموات ويشبههم بها ، ومن المعلوم أنّ صحة التشبيه تتوقف على وجود وجه الشبه في المشبه به بوجه أقوى وليس وجه الشبه إلاّ أنّهم لا يسمعون ، فعند ذلك تصبح النتيجة : انّ الأموات مطلقاً غير قابلين للإفهام ويدل

ص: 295


1- وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى : 4 / 1349 ، نقله عن أئمّة الحديث مثل أبي داود والبيهقي قال : وقد صدر به البيهقي باب زيارة قبر النبي.
2- المصدر السابق : 1350 نقلاً عن النسائي وغيره.
3- الصافات : 79 ، 109 ، 120 ، 130 ، 181.
4- الأحزاب : 56.
5- النمل : 80.

على ذلك أيضاً قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي القُبُورِ ) (1) ، والاستدلال بالآيتين على نسق واحد.

والجواب أوّلاً : أنّ الآية تنفي السماع والإفهام عن الأموات المدفونين في القبور ، فإنّهم أصبحوا بعد الموت كالجماد لا يفهمون ولا يسمعون ، وهذا غير القول بأنّ الأرواح المفارقة عن هذه الأبدان غير قابلة للإفهام ولا للإسماع والآيتان دالتان على عدم إمكان إسماع الأموات والمدفونين في القبور ، ولا تدلان على عدم إمكان تفهيم الأرواح المفارقة عن الأبدان ، العائشة في البرزخ عند ربهم كما دلت عليه الآيات السابقة.

ومن المعلوم أنّ خطاب الزائر النبي بقوله : يا محمد اشفع لنا عند اللّه ، لا يشير إلى جسده المطهر ، بل إلى روحه الزكية الحية العائشة عند ربّها ، إلى غير ذلك من الصفات التي يضفيها عليه القرآن الكريم وعلى سائر الشهداء.

والشاهد على ذلك انّا نرى : انّ المسلمين مع وقوفهم على هذه الآيات وتلاوتهم لها كانوا يتوجهون إلى النبي صلی اللّه علیه و آله بعد وفاته حيث روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف انّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان ، في حاجة له ، وكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته ، فلقى ابن حنيف فشكا إليه ذلك ، فقال له ابن حنيف : ائت الميضاة ، فتوضأ ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين ، ثم قل : اللّهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة ، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربك أن تقضي حاجتي ، وتذكر حاجتك ، فانطلق الرجل فصنع ما قال ، ثم أتى باب عثمان فجاءه البواب حتى أخذ بيده ، فأُدخل على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة فقال : حاجتك ؟ فذكر حاجته وقضى له ، ثم قال له : ما ذكرت حاجتك حتى كانت الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فاذكرها ، ثم إنّ الرجل خرج من

ص: 296


1- فاطر : 22.

عنده ، فلقي ابن حنيف ، فقال له : جزاك اللّه خيراً ، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلّمته فيّ ، فقال ابن حنيف : واللّه ما كلّمته ، ولكن شهدت رسول اللّه ، وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال له النبي صلی اللّه علیه و آله : « إن شئت دعوت أو تصبر » ، فقال : يا رسول اللّه ، انّه ليس لي قائد وقد شق علي ، فقال له النبي : « ائت الميضاة ، فتوضأ ، ثم صل ركعتين ، ثم ادع بهذه الدعوات » ، قال ابن حنيف : فواللّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل ، كأنّه لم يكن به ضر (1).

وثانياً : أنّ الاستدلال بالآيتين على ما يرتئيه المستدل غفلة عمّا تهدف إليه الآيتان ، فإنّ الآيتين في مقام بيان أمر آخر ، وهو انّ المراد من الإسماع هنا هو الهداية ، وهي تتصور على قسمين : هداية مستقلة ، وهداية معتمدة على إذنه سبحانه ، والآيتان بصدد بيان انّ النبي غير قادر على القسم الأوّل من الهدايتين ، بل هي من خصائصه سبحانه وإنّما المقدور له هو الهداية المعتمدة على إذنه تعالى ، ويدل على ذلك نفس الآية الواردة في سورة فاطر حيث يقول : ( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلا نَذِيرٌ ) (2).

والمستدل أخذ بالجملة الوسطى ، أعني قوله : ( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ ) وغفل أو تغافل عن الجملتين الحافّتين بها ، فإنّك إذا لاحظت قوله : ( إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ) تقف على أنّ المراد من قوله : ( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ ) هو نفي الإسماع أو الهداية المستقلة من دون مشيئته سبحانه ، فكأنّه يقول : لست أيّها النبي بقادر على الهداية بل الهادي هو اللّه سبحانه ، ولأجل ذلك

ص: 297


1- وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى : 4 / 1373 ، ورواه البيهقي من طريقين.
2- فاطر : 19 - 23.

يعود فيصف النبي في الجملة الأخيرة بأنّه « ليس إلاّ نذير » لا المتصرف في عالم الوجود مستقلاً ومعتمداً على إرادته.

والحاصل : انّ كون الآية بصدد بيان أنّ النبي ليس بقادر على إسماع الموتى وهدايتهم ، شيء ، وكونها بصدد أنّ النبي لا يقدر على الهداية والإسماع مستقلاً ومعتمداً على إرادة نفسه ، شيء آخر ، والآية بصدد الأمر الثاني لا الأوّل ، والذي يفيد المستدل هو الأوّل ، ويدل على ذلك قوله سبحانه : ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (1) وقال سبحانه : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (2) وقال سبحانه : ( وَاللّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) (3) فهذه الآيات قرينة على أنّ الغاية التي تهدف إليها تلك الآية هو سلب استقلال النبي بأمر الهداية وإسماعهم وان كان يقدر على ذلك بإذنه ، بقرينة قوله سبحانه : ( إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ ) (4) ، وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (5) بل يصفه سبحانه بقوله : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (6) وبذلك تحصل انّ استدلال المستدل غفلة عن هدف الآية.

وإن شئت قلت : إنّ الظاهر من الآيات انّ النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله كان حريصاً على هداية الناس وكان راغباً في إسعادهم كما يحكي عنه قوله تعالى : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (7) ، وقال تعالى : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ

ص: 298


1- البقرة : 272.
2- القصص : 56.
3- الأحزاب : 4.
4- النمل : 81 ، والروم : 53.
5- السجدة : 24.
6- الشورى : 52.
7- القصص : 56.

وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (1) وقال سبحانه : ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ) (2) وقال سبحانه : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (3) ، كل هذه الآيات تشهد على إصرار النبي وعلاقته بهداية أُمّته ، وعلى ذلك فيكون المراد من الآيات الناظرة إلى ما يطلبه النبي في أمر الأمّة ، هو نفي كون النبي قائماً بذلك الأمر على وجه الاستقلال ، وعلى نحو الإطلاق ، سواء أشاء اللّه أم لم يشأ ، بل انّما تنفذ إرادته وعلاقته بهدايتهم إذا وقعت في إطار إرادته سبحانه ومشيئته من غير فرق في ذلك بين الموتى والأحياء ، بإسماع الموتى وهداية الأحياء.

وبذلك يظهر ما تهدف إليه آية سورة النمل ، فإنّ المقصود من قوله : ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (4) هو انّك لا تقوم بإسماع الميت الواقعي ، أو ميت الأحياء كالمشركين والمنافقين مستقلاً ، وإنّما المقدور لك هو ما تعلّقت مشيئته سبحانه بهدايتهم ، ولأجل ذلك يقول : ( وَمَا أَنتَ بِهَادِي العُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ ) (5).

وقد وقفت في هذا الفصل الذي أفردناه عن الفصول السابقة على الإشكالات التي نسجتها الأوهام حول الشفاعة وعرفت ضآلتها بوجه واضح ، وفي ختام هذا الفصل نعطف نظر القارئ الكريم إلى نكتة ، وهي انّ الشفاعة وما يرجع إليها من الأبحاث من الأمور المسلّمة بين المسلمين ، ولو كان هناك خلاف فإنّما هو في أثر الشفاعة ، وإنّه هل هو رفع العقاب أو ترفيع الدرجة كما أنّه لو كان

ص: 299


1- يوسف : 103.
2- آل عمران : 128.
3- الشعراء : 3.
4- النمل : 80.
5- النمل : 81.

هناك خلاف آخر فإنّما هو في الإشكال العاشر ، فإنّ الوهابيين يمنعون طلب الشفاعة ممن أُعطي الشفاعة ، والناظر في أبحاثهم وكلماتهم وتحليلاتهم يقف على أنّهم أعداء الإنسان الكامل ، ولأجل ذلك يصرفون هممهم للحط من شخصيته ، ومكانته ، ويتصورون أنّ التوحيد لا يتم إلاّ بتنقيصهم ، وكأنّ التوحيد لا يتم إلاّ بحط مكانتهم أو شخصيتهم ومنازلهم المعنوية.

بقي هنا بحثان يتم بهما بحث الشفاعة :

الأوّل : الشفاعة في الأدب العربي.

الثاني : الشفاعة في الأحاديث الإسلامية.

ص: 300

6

الشفاعة في الأدب العربي

لم يكن شعر السلف الصالح مجرد ألفاظ مسبوكة في بوتقة النظم ، أو كلمات منضّدة على أسلاك القريض فحسب ، بل كان شعرهم حافلاً بالأبحاث الراقية من المعارف المستقاة من الكتاب والسنّة وشاملاً لدروس عالية من الفلسفة والعبر والموعظة الحسنة والأخلاق (1).

كما أنّ الشعر يؤرّخ الأحداث أصدق تاريخ ، ويخلد الوقائع أبعد تخليد ، ألست عندما تسمع أحداً ينشد قول الأنصار عند طلوع النبي في هجرته إلى المدينة :

طلع البدر علينا *** من ثنيّات الوداع

تتذكر قدوم الرسول وهجرته من دار موطنه إلى دار هجرته ، وتلك الحفاوة الجماهيرية البالغة ، وذلك الاحتفال العظيم بشكل لا يمكن أن تصوره الكلمات المبعثرة المنثورة.

على أنّ الشعر الذي يدور حول المعارف الموجودة في الكتاب والسنّة خير مرآة للمراد من الآيات والأحاديث الواردة في هذا المضمار ، فإنّ العرب كانوا بفطرتهم السليمة يفهمون ما هو المقصود من الآية والحديث ، ثم يصوغونه في

ص: 301


1- اقتباس من ما ذكره العلاّمة المحقق الأميني في غديره : 2 / 3.

شعرهم من دون أن يتأثروا في فهمه بالآراء المسبقة أو الأفكار المفروضة عليهم ، مثلاً اتفق المؤرخون على أنّ النبي الأكرم قام في يوم الغدير وألقى خطابه في ذلك المحتشد ، وقال في حق علي علیه السلام :

« من كنت مولاه فهذا علي مولاه » ولكن المتأخرين عن زمن الرسالة اختلفوا فيما يقصده النبي من تلك الجملة في هذا المحتشد العام ، ولكن إذا رجعنا إلى ما صاغه حسان بن ثابت شاعر عهد الرسالة حول هذا الموضوع وكان حاضراً في ذلك المشهد ، يتجلّى مفاد الحديث بأجلى مظاهره ، ويصير شعره مرآة اللغة ، وقرينة على المراد فإنّه قام - بعد ما ألقى النبي خطابه التاريخي - وألقى شعراً ارتجالياً في محضره وقال :

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم واسمع بالنبيِّ مناديا

فقال فمن مولاكم ونبيكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبينا *** ولم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا علي فإنّني *** رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

ولأجل ذلك أفردنا فصلاً لذكر الآبيات الواردة حول الشفاعة التي نظمت في العهود السابقة ، وبالتدبّر فيها يرتفع كثير من الإبهامات التي نسجتها أوهام المتأخرين حولها ، ويُعلم أنّ الشفاعة كانت أمراً مسلماً عند السلف الصالح ، وكان طلبها من أصحابها أمراً جائزاً رائجاً ، ولا نأتي في هذا الفصل إلاّ بقليل من كثير ، فإنّ الإشباع وبسط الكلام لا تتحملهما هذه الرسالة.

ص: 302

1. ونبدأ بما أنشأه عبد اللّه بن رواحة في محضر النبي ارتجالاً وقال :

انّي تفرست فيك الخير أعرفه *** واللّه يعلم ان ما خانني البصرُ

أنت النبي ومن يحرم شفاعَته *** يوم الحساب فقد أزْرَى به القدرُ

فثبَّتَ اللّه ما آتاك من حسن *** تثبيتَ مُوسى ونَصْراً كالذي نصروا (1)

2. قالت صفية بنت عبد المطلب في قصيدتها التي رثت بها النبي صلی اللّه علیه و آله :

ألا يا رسول اللّه أنت رجاؤنا *** وكنت بنا برّاً ولم تك جافياً

والمقصود من قولها : أنت رجاؤنا كون النبي صلی اللّه علیه و آله مرجو الشفاعة.

3. قال الشاعر المفلق أبو هاشم إسماعيل بن محمد الحميري الملقب بالسيد المتوفّى عام 173 ه.

إنّي امرؤٌ حميريٌّ حين تنسبني *** جدي رعين وأخوالي ذوو يزن

ثم الولاء الذي أرجو النجاة به *** يوم القيامة للهادي أبي حسن (2)

وقال :

على آل الرسول وأقربيه *** سلام كلّما سجع الحمام

أليسوا في السماء وهم نجوم *** وهم أعلام عز لا يرام

( إلى أن قال ) :

أُولئك في الجنان بهم مساغي *** وجيرتي الخوامس والسلام (3)

ص: 303


1- الاستيعاب : 3 / 900.
2- ذكره المرزباني في معجم الشعراء كما في الغدير : 2 / 210.
3- ذكره العلاّمة الأربلي في كشف الغمة كما في الغدير : 2 / 228.

وقال :

ان تسأليني بقومي تسألي رجلا *** في ذروة العز من أحياء ذي يمن

حولي بها ذو كلاع في منازلها *** وذو رعين وهمدان وذو يزن

إلى أن قال :

ثم الولاء الذي أرجو النجاة به *** من كبّة النار للهادي أبي حسن (1)

وقال :

يا أهل كوفان إنّي وامقٌ لكمُ *** مذ كنت طفلاً إلى السبعين والكبرِ

أهواكم وأُواليكم وأمد حكم *** حتماً عليّ كمحتوم من القدرِ

لحبِّكم لوصيِّ المصطفى وكفى *** بالمصطفى وبه من سائر البشرِ

هو الإمام الذي نرجو النجاة به *** من حر نار على الأعداء مستعرِ

عسى الإله ينجّيني برحمته *** ومدحي الغرر الزاكين من سقرِ (2)

4. وقال أبو محمد سفيان بن مصعب العبدي الكوفي من شعراء أهل البيت الطاهرين المتقربين إليهم بولائه وشعره المقبولين عندهم لصدق نيته ، وانقطاعه إليهم :

يا سادتي يا بني علي *** يا آل طه وآل صادِ

أنتم نجوم الهدى اللواتي *** يهدي بها اللّه كلّ هادِ

إلى أن يقول :

ص: 304


1- الأغاني : 7 / 250 ، كما في الغدير : 2 / 236.
2- الأغاني : 7 / 277 ، كما في الغدير : 2 / 247.

وما تزؤدتُ غير حبّي *** إيّاكم وهو خير زادِ

وذاك ذخري الذي عليه *** في عرصة الحشر اعتمادي (1)

ومن شعره أيضاً :

وان ضامنا دهرٌ فعذنا بعزِّكم *** فيبعد عنّا الضيمَ لمّا بكم عُذنا

وإن عارضتنا خفيةٌ من ذنوبنا *** براةٌ لنا منها شفاعتكم أمنا (2)

5. وقال أبو جعفر دعبل بن علي بن رزين الخزاعي في تائيته المعروفة :

مدارسُ آياتٍ خلت من تلاوة *** ومنزل وحي مقفر العرصاتِ

لآل رسول اللّه بالخيف من منى *** وبالركن والتعريف والجمرات

إلى أن قال :

فيا وارثي علم النبي وآله *** عليكم سلامٌ دائم النفحات

لقد آمنت نفسي بكم في حياتها *** وأنّي لأرجو الأمن بعد مماتي (3)

6. قال الشاعر بقراط بن أشوط الوامق النصراني :

يا حبَّذا دوحة في الخلد نابتة *** ما في الجنان لها شبه من الشجر

المصطفى أصلها والفرع فاطمة *** ثم اللقاح علي سيد البشر

والهاشميان سبطاها لها ثمر *** والشيعة الورق الملتف بالثمر

هذا مقال رسول اللّه جاء به *** أهل الروايات في العالي من الخبر

إنّي بحبهم أرجو النجاة غداً *** والفوز مع زمرة من أحسن الزمر (4)

ص: 305


1- الغدير : 2 / 285.
2- الغدير : 2 / 292.
3- الغدير : 2 / 322.
4- الغدير : 3 / 10.

7. قال الشاعر أبو الحسن علي بن عباس بن جريح البغدادي الشهير بابن الرومي في عينيته :

تتجافى جنوبهم *** عن وطيء المضاجع

إلى أن قال :

أعف عنا ذنوبنا *** للوجوه الخواشع

أعف عنا ذنوبنا *** للعيون الدوامع

أنت إن لم تكن لنا *** شافع غير شافع (1)

8. وقال الشاعر أبو القاسم أحمد بن محمد الشهير بالصنوبري في قصيدته :

وشافع الملك الراجي شفاعته

إذ جاءه ملك في خلق ثعبان (2)

9. قال الشاعر أبو القاسم علي بن إسحاق البغدادي الشهير بالزاهي :

أبا حسن جعلتك لي ملاذاً *** ألوذ به ويشملني الزَّماما

فكن لي شافعاً في يوم حشري *** وتجعل دار قدسك لي مقاماً (3)

10. قال الأمير أبو فراس الحارث بن أبي علا الحمداني في قصيدته :

لست أرجو النجاة من كل ما *** أخشاه إلاّ بأحمد وعلي

وببنت الرسول فاطمة الطهر *** وسبطيه والإمام علي

إلى أن قال :

ص: 306


1- الغدير : 3 / 4.
2- الغدير : 3 / 324.
3- الغدير : 3 / 346.

بهمُ ارتجي بلوغ الأماني *** يوم عرضي على الإله العلي (1)

وله أيضاً :

شافعي أحمد النبي ومولاي علي *** والبنت والسبطان (2)

11. قال الشاعر الصاحب كافي الكفاة أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد :

بمحمد ووصيه وابنيهما *** وبعابد وبباقرين وكاظم

ثم الرضا ومحمد ثم ابنه *** والعسكري المتّقي والقائم

أرجو النجاة من المواقف كلها *** حتى أصير إلى نعيم دائم (3)

وقال في مقطوعة أُخرى :

شفيع إسماعيل في الآخرة *** محمد والعترة الطاهرة (4)

12. وقال الشاعر أبو عبد اللّه الحسين بن أحمد الشهير بابن الحجاج البغدادي المتوفّى عام 391 ه :

يا صاحب القبة البيضاء في النجف *** من زار قبرك واستشفى لديك شُفي

إلى أن قال :

انّي أتيتك يا مولاي من بلدي *** مستمسكاً من حبال الحق بالطرف

راج بأنّك يا مولاي تشفع لي *** وتسقني من رحيق شافي اللّهف (5)

ص: 307


1- الغدير : 3 / 364 - 365.
2- الغدير : 3 / 364 - 365.
3- الغدير : 4 / 60.
4- مناقب آل أبي طالب : 2 / 165.
5- الغدير : 4 / 78.

13. وقال الشاعر أبو النجيب شداد بن إبراهيم بن حسن الملقب بالطاهر الجزري المتوفّى عام 401 ه :

حسبي عليّان ان ناب الزمان وإن *** جاء المعاد بما في القول والعمل

فلي عليُّ بن عبد اللّه منتجعُ *** ولي عليُّ أمير المؤمنين ولي (1)

14. وقال الشاعر أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي البغدادي المتوفّى عام 428 ه :

يزوّر عن حسناء زورة خائف *** تعرُّض طيف آخر الليل طائف

إلى أن قال :

هواكم هو الدنيا واعلم انّه *** يبيض يوم الحشر سود الصحائف (2)

15. وقال الشاعر أبو الغارات الملك الصالح المستشهد عام 556 ه :

محمد خاتم الرسل الذي سبقت *** به بشارة قس وابن ذي يزن

إلى أن قال :

ظل الإله ومفتاح النجاة وينبو *** ع الحياة وغيث العارض الهتن

فاجعله ذخرك في الدارين معتصماً *** به وبالمرتضى الهادي أبي الحسن (3)

16. قال الشيخ عبد اللّه الشبراوي الشافعي ( المتوفّى عام 1172 ه ) في قصيدته التي أنشأها في حق الحسين علیه السلام التي مطلعها :

ص: 308


1- الغدير : 4 / 158.
2- الغدير : 4 / 216.
3- الغدير : 4 / 311.

آل طه ومن يقل آل طه *** مستجيراً بجاهكم لا يُردُّ

حبّكم مذهبي وعقد يقيني *** ليس لي مذهبٌ سواه وعقدُ

منكم أستمدُّ بل كل من في الك *** ون من فيض فضلكم يستمد

وله قصيدة أُخرى مطلعها :

يا نديمي قم بي إلى الصهباءِ *** واسقنيها في الروضة الغنّاءِ

ويقول في آخرها :

يا ابن بنت الرسول إنّي محبٌّ *** فتعطّف واجعل قبولي جزائي

يا كرام الأنام يا آل طه *** حبّكم مذهبي وعقد ولائي

ليس لي ملجأ سواكم وذخرٌ *** أرتجيه في شدّتي ورخائي (1)

17. قال الجزري الشافعي ( المتوفّى عام 204 ه ) في طبقات القرّاء ج 2 ص 97 والدعاء عند قبره ( أي قبر الشافعي ) مستجاب ، ولمّا زرته قلت :

زرت الإمام الشافعي *** لأنّ ذلك نافعي

لأنال منه شفاعة *** أكرم به من شافع (2)

18. قال صفي الدين الحلي ( 677 - 752 ه ) في قصيدة في حق النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله مطلعها :

خمدت لفضل ولادك النيران *** وانشق من فرح بك الإيوان

ص: 309


1- الغدير : 5 / 165 - 166 نقلاً عن كتابه الإتحاف بحب الأشراف : 25.
2- الغدير : 5 / 175.

إلى أن قال في آخره :

فاشفع لعبد شأنه عصيانه *** انّ العبيد يشينه العصيان

فلك الشفاعة في محبكم إذا *** نصب الصراط وعلق الميزان

فلقد تعرض للإجازة طامعاً *** في أن يكون جزاؤه الغفران (1)

19. قال الشيخ مغامس بن داغر الحلي من شعراء القرن التاسع في قصيدة مطلعها :

حيا الإله كتيبة مرتادها *** يطوى له سهل الفلا ووهادها

إلى أن قال :

فتشفَّعوا لكبائر أسلفتها *** قلقت لها نفسي وقل رقادها

جرماً لو أنّ الراسيات حملنه *** دكت وذاب صخورها وصلادها

هيهات تمنع من شفاعة جدكم *** نفس وحب أبي تراب زادها

صلى الإله عليكم ما أرعدت *** سحب واسبل ممطراً أرعادها (2)

وله في قصيدة يمدح بها النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله ويقول في آخرها :

فهل أنال مفازاً في شفاعتكم *** ممّا احتقبت له في سائر الحقب

فيا مغامس أحبس في مدائحكم *** تلك القوافي وأجر اللّه فاحتسب (3)

20. قال الشيخ الحافظ البرسي رضي الدين رجب بن محمد بن رجب البرسي الحلي من شعراء القرن التاسع في مسمطه في حق أهل البيت ( صلوات اللّه عليهم ) :

ص: 310


1- الغدير : 6 / 38 نقلاً عن ديوانه : 47.
2- الغدير : 7 / 25 - 26.
3- المصدر نفسه : 32.

أنتم رجائي وحبكم أملي *** عليه يوم المعاد متكلي

فكيف يخشى حر السعير ولي *** وشافعاه محمد وعلي

أو يعتريه من شرها شرر (1)

هذه الروائع الشعرية التي تضمنت الولاء الصادق لآل البيت علیهم السلام وطلب الشفاعة منهم ومن جدهم صلی اللّه علیه و آله مما وقفنا عليه في مجلدات الكتاب القيم « الغدير » ونقلناها غالباً حسب القرون والأعصار ، غير انّ هناك نظائر لها تتضمن إظهار الولاء الصادق لأصحابه أو طلب الشفاعة منهم بصريح القول ، مما وقفنا عليه في بعض الكتب نذكرها :

21. قال الخطيب ابن الفرار المطيري في قصيدته :

بدين المصطفى أرجو نجاتي *** وحب المرتضى من يوم شين

بفاطمة البتول أتاك رشداً *** وبالحسن الزكي وبالحسين

بزين العابدين وصلت حبلي *** علي بن الحسين ومن كذين (2)

22. وقال أبو الرضا الحسيني في قصيدة مطلعها :

يا رب مالي شفيع يوم منقلبي *** إلاّ الذين إليهم ينتهي نسبي

المصطفى وهو جدي ثم فاطمة *** أُمّي وشيخي علي الخير وهو أبي (3)

23. وقال كشاجم :

ص: 311


1- المصدر نفسه : 7 / 49.
2- مناقب آل أبي طالب : 1 / 318 ، وكذين بمعنى من كهاذين.
3- المصدر نفسه : 1 / 322.

نبيي شفيعي والبتول وحيدر *** وسبطاه والسجاد والباقر المجد

بجعفر بموسى بالرضا بمحمد *** نجل الرضا والعسكريين والمهدي (1)

24. قال أبو الواثق العنبري في مقطوعته :

شفيعي إليك اليوم يا خالق الورى *** رسولك خير الخلق والمرتضى علي (2)

25. قال زيد المرزكي في مقطوعته :

منهم رسول اللّه أكرم من وطأ *** الحصى وأجل من أصف

إلى أن يقول :

وشفاعة السجاد يشملني *** وبها من الآثام أكتنف (3)

26. وقال ابن مكي في مقطوعته :

ومحمد يوم القيامة شافع *** للمؤمنين وكل عبد مقلت (4)

27. ويقول الشريف الرضي في مقطوعته :

يا بني أحمد أناديكم اليوم *** وأنتم غداً لردِّ جوابي

ألف باب أُعطيتم ثم أفضى *** كل باب منها إلى ألف باب

لكم الأمر كله وإليكم ولديكم *** يؤول فصل الخطاب (5)

ص: 312


1- المصدر نفسه : 1 / 326.
2- المصدر نفسه : 1 / 330.
3- المصدر نفسه : 1 / 331.
4- المصدر نفسه : 1 / 331.
5- المصدر نفسه : 2 / 37.

28. وقال أبو نؤاس في قصيدة مطلعها :

يا رب ان عظمت ذنوبي كثرة *** فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم

إلى أن يقول :

ثم الشفاعة من نبيك أحمد *** ثم الحماية من علي أعلم (1)

29. قال الشيخ شعيب الحريفيش في قصيدة مطلعها :

من زار قبر محمد *** نال الشفاعة في غد

إلى أن يقول :

وهو المشفع في الورى *** من هول يوم الموعد (2)

30. قال العلامة السيد محسن الأمين العاملي في أُرجوزته التي طبعت آخر كتاب كشف الارتياب :

وكذلكم طلب الحوائج عندها *** من ربنا أرجى لنيل المقصد (3)

هذا بعض ما عثرنا عليها في المجامع الأدبية والتاريخية مما يتضمن الاعتراف بأصل الشفاعة وطلبها من أصحابها كما يتضمن إظهار الولاء لأصحابه ، إلى غير ذلك مما يجده فيها المتدبر ، وكلّها تعرب عن أنّ الاعتقاد بالشفاعة وطلبها وإظهار الولاء للنبي وآله كان أمراً راسخاً في أذهان المسلمين من أوائلهم إلى أواخرهم وما كانوا يرونه أمراً مخالفاً للتوحيد ، ولسائر السنن الإسلامية.

ص: 313


1- المصدر نفسه : 2 / 165.
2- الروض الفائق : 2 / 138.
3- العقود الدرية في رد الشبهات الوهابية المطبوع في ذيل كشف الارتياب : 15.

ونود في خاتمة هذا الفصل أن نذكر بفضل الأخ العلاّمة الشيخ محمد رضا الأميني ابن العلاّمة الحجة الشيخ عبد الحسين الأميني قدس اللّه سره حيث تكرم علينا بجمع كثير من هذه الشواهد الشعرية من غدير والده وسائر المصادر ، فشكراً له ثم شكراً.

ص: 314

7

الشفاعة في الأحاديث الإسلامية

اشارة

لقد اهتم الحديث بأمر الشفاعة وحدودها وشرائطها وأسبابها وموانعها اهتماماً بالغاً لا يوجد له مثيل إلاّ في موضوعات خاصة تتمتع بالأهمية القصوى وأنت إذا لاحظت الصحاح والمسانيد والسنن وسائر الكتب الحديثية لوقفت على جمهرة كبرى من الأحاديث حول الشفاعة بحيث تدفع الإنسان إلى الإذعان بأنّها من الأصول المسلمة في الشريعة الإسلامية ، ولأجل هذا التضافر نرى أنفسنا في غنى عن المناقشة في الأسناد.

نعم لو كانت هناك رواية اختصت بنكتة خاصة غير موجودة في الروايات الأخر ، فإثبات النكتة الخاصة يحتاج إلى ثبوت صحة سندها كما هو المعلوم في علم الحديث.

ولما كانت الأحاديث حول الشفاعة وفروعها كثيرة جداً ، ومبثوثة في الكتب جمعناها في هذه الصحائف تحت عناوين خاصة ، ولسنا ندّعي انّنا قد أحطنا بكل الأحاديث في هذا المجال وانّما ندّعي أنّا قد جئنا بقسم كبير من الأحاديث (1).

ص: 315


1- لقد جمع العلامة المجلسي أحاديث الشفاعة الواردة من طرق أئمّة أهل البيت في موسوعته « بحار الأنوار » : 8 / 29 - 63 ، كما انّه أورد بعضها في الأجزاء التالية من موسوعته : بحار الأنوار : 100 / 116 ، 162 ، 170 ، 265 ، 303 ، 307 ، 331 ، 340 ، 345 ، 349 ، 351 ، 376 ، 379 ؛ ولاحظ ج 101 / 8 ، 211 ، 212 ، 213 ، 293 ، 297 ، 298 ، 299 ، 372 ، 374 ؛ و ج 102 / 31 ، 32 ، 33 ، 35 ، 36 ، 44 ، 47 ، 71 ، 171 ، 181 ، 183 ؛ إلى غير ذلك من الموارد.
أحاديث الشفاعة عند أهل السنة

أحاديث الشفاعة عند أهل السنة (1) 1. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لكلّ نبي دعوة مستجابة ، فتعجّل كل نبي دعوته ، وانّي اختبأت دعوتي شفاعة لأمّتي ، وهي نائلة من مات منهم لا يشرك باللّه شيئاً » (2).

2. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أُعطيت خمساً ... وأُعطيت الشفاعة فادّخرتها لأمّتي ، فهي لمن لا يشرك باللّه شيئاً » (3).

3. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « شفاعتي نائلة ان شاء اللّه من مات ولا يشرك باللّه شيئاً » (4).

4. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تفسير قوله : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) « هو المقام الذي أشفع لأمّتي فيه » (5).

ص: 316


1- وقد عقد العلاّمة علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي ( المتوفّى 975 ه ) باباً خاصاً للشفاعة نقل فيه طائفة من الأخبار ، فلاحظ كنز العمال : 4 / 638 - 640. كما عقد الشيخ منصور علي ناصف في كتابه التاج الجامع للأصول، أبواباً للشفاعة لاحظ التاج: 348/5 - 360 . وقد جاء فيها بأحاديث طوال قد أخذنا موضع الحاجة منها، غير ان ملاحظة مجموع الأحاديث لا تخلو من فائدة. وعقد النسائي في سننه أبواباً أربعة خاصة للشفاعة لاحظ : 622/3 ط دار إحياء التراث الإسلامي.
2- سنن ابن ماجة : 2 / 1440. وبهذا المضمون راجع مسند أحمد : 1 / 2. وموطأ مالك : 1 / 166 ، وسنن الترمذي : 5 / 238 ، وسنن الدارمي : 2 / 328 ، وصحيح مسلم : 1 / 130 ، وصحيح البخاري : 8 / 83 و 9 / 170.
3- مسند أحمد : 1 / 301 و 4 / 416 و 5 / 148. وبهذا المضمون سنن النسائي : 1 / 3. وسنن الدارمي : 1 / 323 ، و 2 / 224 ، وصحيح البخاري : 1 / 92 و 119.
4- مسند أحمد : 2 / 426.
5- مسند أحمد : 2 / 528 ، 444 ، 478 ، وسنن الترمذي : 3 / 365.

5. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا أول شافع وأوّل مشفّع » (1).

6. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلاّ اللّه مخلصاً يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه » (2).

7. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أُمّتي » (3).

8. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « رأيت ما تلقى أُمّتي بعدي ( أي من الذنوب ) فسألت اللّه أن يوليني شفاعة يوم القيامة فيهم ففعل » (4).

9. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلاّ اللّه خالصاً من قلبه أو نفسه » (5).

10. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا أوّل شافع في الجنة » (6).

11. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « شفاعتي لكل مسلم » (7).

12. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر » (8).

ص: 317


1- سنن الترمذي : 5 / 448 ، وسنن الدارمي : 1 / 26 و 27.
2- مسند أحمد : 2 / 307 و 518.
3- سنن ابن ماجة : 2 / 1441. وبهذا المضمون مسند أحمد : 3 / 3. وسنن أبي داود : 2 / 537 ، وسنن الترمذي : 4 / 45.
4- مسند أحمد : 6 / 428.
5- صحيح البخاري : 1 / 36.
6- صحيح مسلم : 1 / 130 ، وسنن الدارمي : 1 / 27.
7- سنن ابن ماجة : 2 / 1444.
8- سنن الترمذي : 5 / 247 ، وسنن ابن ماجة : 2 / 1443.

13. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا سيد ولد آدم وأوّل شافع وأوّل مشفّع ولا فخر » (1).

14. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة » (2).

15. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ليخرجن قوم من أُمّتي من النار بشفاعتي يسمون الجهنّميّين » (3).

16. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « خيّرت بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أُمّتي الجنة ، فاخترت الشفاعة لأنّها أعم وأكفى ، أترونها للمتقين ، لا ، ولكنّها للمذنبين الخطّائين المتلوّثين » (4).

17. وحكى أبو ذر أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلّى ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها : ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (5) فلما أصبح قلت : يا رسول اللّه ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها ، قال : « إنّي سألت ربي عزّ وجلّ الشفاعة لأمّتي فأعطانيها ، فهي نائلة إن شاء اللّه لمن لا يشرك باللّه عزّ وجلّ شيئاً » (6).

18. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار : بقيت شفاعتي » (7).

ص: 318


1- سنن ابن ماجة : 2 / 1440. وبهذا المضمون صحيح مسلم : 7 / 1. ومسند أحمد : 2 / 540.
2- مسند أحمد : 5 / 347.
3- سنن الترمذي : 4 / 114 ، وسنن ابن ماجة : 2 / 1443. وبهذا المضمون مسند أحمد : 4 / 3. وسنن أبي داود : 2 / 537.
4- سنن ابن ماجة : 2 / 1441.
5- المائدة : 118.
6- مسند أحمد : 5 / 149.
7- صحيح البخاري : 9 / 160. وبهذا المضمون مسند أحمد : 3 / 94.

19. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه يخرج قوماً من النار بالشفاعة » (1).

20. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء » (2).

21. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فإذا فرغ اللّه عزّ وجلّ من القضاء بين خلقه وأخرج من النار من يريد أن يخرج ، أمر اللّه الملائكة والرسل أن تشفع فيعرفون بعلاماتهم : انّ النار تأكل كل شيء من ابن آدم إلاّ موضع السجود » (3).

22. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ... فيؤذن للملائكة والنبيّين والشهداء أن يشفعون فيشفعون ويخرجون من كان في قلبه ما يزن ذرة من إيمان » (4).

23. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا ميز أهل الجنّة وأهل النار ، فدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار قامت الرسل وشفعوا » (5).

24. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يشفع الأنبياء في كل من يشهد أن لا إله إلاّ اللّه مخلصاً ، فيخرجونهم منها » (6).

25. ذكرت الشفاعة عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : « إنّ الناس يعرضون على جسر جهنم ... وبجنبتيه الملائكة يقولون : اللّهم سلم سلم ... » (7).

26. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث : « أمّا أهل النار الذين هم أهلها فلا

ص: 319


1- صحيح مسلم : 1 / 122. وبهذا المضمون صحيح البخاري : 8 / 143.
2- سنن ابن ماجة : 2 / 1443.
3- سنن النسائي : 2 / 181.
4- مسند أحمد : 5 / 43 بتخليص منّا.
5- مسند أحمد : 3 / 325.
6- مسند أحمد : 3 / 12.
7- مسند أحمد : 3 / 26.

يموتون فيها ولا يحييون ولكن ناس أصابتهم نار بذنوبهم أو بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أُذن في الشفاعة فيخرجون ضبائر ضبائر » (1).

27. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث : « ... فيشفعون حتى يخرج من قال لا إله إلاّ اللّه ممّن في قلبه ميزان شعيرة » (2).

28. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يشفع الشهيد في سبعين إنساناً من أهل بيته » (3).

29. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من تعلم القرآن ( من قرأ القرآن ) فاستظهره فأحل حلاله وحرم حرامه أدخله اللّه به الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلّهم قد وجبت لهم النار » (4).

30. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث : « إذا بلغ الرجل التسعين غفر اللّه ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمّي أسير اللّه في الأرض ، وشفّع في أهله » (5).

31. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أُمتي أكثر من بني تميم » (6).

32. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ من أُمّتي لمن يشفع لأكثر من ربيعة ومضر » (7).

ص: 320


1- مسند أحمد : 3 / 79. وبهذا المضمون سنن ابن ماجة : 2 / 1. وسنن الدارمي : 2 / 332 ، ومسند أحمد : 3 / 5.
2- مسند أحمد : 3 / 345.
3- سنن أبي داود : 2 / 15. وبهذا المضمون : مسند أحمد : 4 / 3. وسنن الترمذي : 3 / 106.
4- سنن الترمذي : 4 / 245 ، وسنن ابن ماجة : 1 / 78 ، ومسند أحمد : 1 / 148 و 149.
5- مسند أحمد : 2 / 89 ، وبهذا المضمون ما في 3 / 218.
6- سنن الدارمي : 2 / 328 ، وسنن الترمذي : 4 / 46 ، وسنن ابن ماجة : 2 / 1444 ، ومسند أحمد : 3 / 470 ، و 5 / 366.
7- مسند أحمد : 4 / 212.

33. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين أو مثل أحد الحيين ربيعة ومضر » (1).

34. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ الرجل من أُمّتي ليشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنّة ، وإنّ الرجل ليشفع للقبيلة ، وإنّ الرجل ليشفع للعصبة ، وإنّ الرجل ليشفع للثلاثة ، وللرجلين ، وللرجل » (2).

35. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يصف الناس ( أهل الجنة ) صفوفاً ، فيمر الرجل من أهل النار على الرجل فيقول يا فلان أما تذكر يوم استقيت فسقيتك شربة ؟ قال : فيشفع له ، ويمر الرجل فيقول : أما تذكر يوم ناولتك طهوراً ، فيشفع له » (3).

36. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث : « لا يصبر على لاوائها ( أي المدينة ) وشدّتها إلاّ كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة » (4).

37. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لخادمه : « ما حاجتك ؟ » قال : حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة ، قال : « ومن دلّك على هذا » ؟ قال : ربي ، قال : « أما فأعنّي بكثرة السجود » (5).

38. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من صلّى على محمد وقال : اللّهم انزله المقعد المقرّب عندك يوم القيامة ، وجبت له شفاعتي » (6).

39. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من قال حين يسمع النداء : « اللّهمّ رب هذه

ص: 321


1- مسند أحمد : 5 / 257.
2- مسند أحمد : 3 / 20 و 63 ، وسن الترمذي : 4 / 46.
3- سنن ابن ماجة : 2 / 1215.
4- موطأ مالك : 2 / 201 ، ومسند أحمد : 2 / 119 و 133 ومواضع أُخر من هذا الكتاب.
5- مسند أحمد : 3 / 500 ، وبهذا المضمون ما في 4 / 59.
6- مسند أحمد : 4 / 108.

الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته » حلّت له شفاعتي يوم القيامة » (1).

40. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول. ثم صلّوا عليّ فانّه من صلى عليّ صلاة صلى اللّه عليه عشراً ، ثم سلوا اللّه عزّ وجلّ لي الوسيلة ، فمن سأل اللّه لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة » (2).

41. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي » (3).

42. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة » (4).

43. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :« تعلّموا القرآن فإنّه شافع لأصحابه يوم القيامة » (5).

44. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي ( تبارك الذي بيده الملك ) » (6).

ص: 322


1- صحيح البخاري : 1 / 159 ، وبهذا المضمون ما في مسند أحمد : 3 / 354 ، وسنن ابن ماجة : 1 / 239 ، وسنن الترمذي : 1 / 136 ، وسنن النسائي : 2 / 22 ، وسنن أبي داود : 1 / 126.
2- سنن أبي داود : 1 / 124 ، وصحيح مسلم : 2 / 4 ، وسنن الترمذي : 5 / 246 و 247 ، وسنن النسائي : 2 / 22 ، ومسند أحمد : 2 / 168.
3- مسند أحمد : 1 / 72. ولا يتوهم أنّ هذا الحديث تكريس للقومية المبغوضة في الإسلام ، لأنّ من المعلوم أنّ المراد العرب المسلمين فيكون بمنزلة « من غش مسلماً فليس بمسلم » لأنّ المسلم يوم ذاك كان منحصراً في العرب.
4- مسند أحمد : 6 / 448 ، وصحيح مسلم : 8 / 24.
5- مسند أحمد : 5 / 251 ، وباختصار يسير في : 5 / 249.
6- مسند أحمد : 2 / 199 و 321 ، وسنن الترمذي : 4 / 238.

45. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي ربي منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه ، قال فيشفّعان » (1).

46. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ أقربكم مني غداً وأوجبكم عليَّ شفاعة : أصدقكم لساناً ، وأدّاكم لأمانتكم ، وأحسنكم خلقاً ، وأقربكم من الناس » (2).

47. روى أنس بن مالك عن أبيه قال : سألت النبي صلی اللّه علیه و آله أن يشفع لي يوم القيامة فقال « أنا فاعل » قال : قلت : يا رسول اللّه : فأين أطلبك ؟ قال : « اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط » ، قال : قلت : فإن لم ألقك على الصراط ، قال : « فاطلبني عند الميزان ». قلت : فإن لم ألقك عند الميزان ، قال : « فاطلبني عند الحوض فإنّي لا أُخطئ هذه الثلاث المواطن » (3).

48. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث : « أنا سيد الناس يوم القيامة ... ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفّع ، فارفع رأسي فأقول : يا ربي أُمّتي يا ربي أُمّتي يا ربي أُمّتي ، فيقول : يا محمد ادخل من أُمّتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة » (4).

49. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا أوّل الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعاً » (5).

ص: 323


1- مسند أحمد : 2 / 174.
2- تيسير المطالب في أمالي الإمام علي بن أبي طالب تأليف السيد يحيى بن الحسين من أحفاد الإمام زيد ( المتوفّى عام 424 ه ) : 442 - 443.
3- سنن الترمذي : 4 / 621 ، الحديث 2433 ، الباب 9 من كتاب صفة القيامة.
4- سنن الترمذي : 4 / 622 ، الحديث 2434 ، الباب 10 من كتاب صفة القيامة.
5- صحيح مسلم : 1 / 130.

50. أخرج ابن مردويه عن طلق بن حبيب قال : كنت أشد الناس تكذيباً بالشفاعة حتى لقيت جابر بن عبد اللّه فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر اللّه فيها خلود أهل النار ، فقال : يا طلق أتراك أقرأ لكتاب اللّه وأعلم بسنّة رسول اللّه منّي ؟ إنّ الذين قرأت هم أهلها هم المشركون ، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوباً فعذبوا ثم أُخرجوا منها ، ثم أهوى بيديه إلى أُذنيه فقال : صمّتا إن لم أكن سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « يخرجون من النار بعد ما دخلوا » ، ونحن نقرأ كما قرأت.

وعن ابن أبي حاتم عن يزيد الفقير قال : جلست إلى جابر بن عبد اللّه وهو يحدّث ، فحدّث انّ ناساً يخرجون من النار ، قال : وأنا يومئذ أنكر ذلك فغضبت وقلت : ما أعجب من الناس ، ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد تزعمون انّ اللّه يخرج ناساً من النار واللّه يقول : ( يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ) (1) فانتهرني أصحابه وكان أحلمهم ، فقال : دعوا الرجل إنّما ذلك للكفار ، فقرأ : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القِيَامَةِ ) (2) حتى بلغ ( وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) (3) أما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى قد جمعته ، قال : أليس اللّه يقول : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (4) فهو ذلك المقام ، فإنّ اللّه تعالى يحتبس أقواماً بخطاياهم في النار ما شاء لا يكلّمهم ، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم قال : فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذب به » (5).

هذه خمسون حديثاً رواها أهل السنّة عن النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، ولو أضفنا إليها الصور المختلفة لكل حديث لتجاوز عدد الأحاديث المائة حديث ، ولكن

ص: 324


1- المائدة : 37.
2- المائدة : 36.
3- المائدة : 37.
4- الإسراء : 79.
5- تفسير ابن كثير : 2 / 54 ، كما في حياة الصحابة للشيخ محمد يوسف الكاندهلوي : 3 / 471 - 472.

اكتفينا بهذا المقدار وأشرنا إلى المواضع التي نقلت فيها صورها المختلفة والناظر فيها يذعن بأنّ الاعتقاد بالشفاعة كان أمراً مسلماً بين جماهير المسلمين كما يذعن بأنّها لم تكن عندهم مطلقة عن كل قيد ، بل لها شرائط خصوصاً في جانب المشفوع له ، وانّ هناك شفعاء ، وسنشير في خاتمة المطاف إلى فذلكة الروايات وعضادتها في المواضع المختلفة.

هلم معي نقرأ ما روته الإمامية في هذا الباب من الأحاديث الكثيرة عن النبي الأكرم والأئمّة المعصومين ، ولأجل الحفاظ على سهولة الإرجاع إليها نحافظ على التسلسل المذكور في الأحاديث السابقة. أحاديث الشفاعة عند الشيعة الإمامية

51. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي لأشفع يوم القيامة وأُشفّع ، ويشفع علي فيشفّع ، ويشفع أهل بيتي فيشفّعون » (1).

52. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أُعطيت خمساً ... أُعطيت الشفاعة » (2).

53. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه أعطاني مسألة فادّخرت مسألتي لشفاعة المؤمنين من أُمّتي يوم القيامة ففعل ذلك » (3).

54. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ من أُمّتي من سيدخل اللّه الجنة بشفاعته أكثر من مضر » (4).

55. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (5).

ص: 325


1- مناقب ابن شهر آشوب : 2 / 15 ، وبهذا المضمون في مجمع البيان : 1 / 104.
2- من لا يحضره الفقيه : 1 / 155.
3- أمالي الشيخ الطوسي : 36.
4- مجمع البيان : 10 / 392.
5- من لا يحضره الفقيه : 3 / 376.

56. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الشفعاء خمسة : القرآن ، والرحم ، والأمانة ، ونبيكم ، وأهل بيت نبيكم » (1).

57. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يقول الرجل من أهل الجنة يوم القيامة : أي ربي عبدك فلان سقاني شربة من ماء في الدنيا ، فشفّعني فيه ، فيقول : اذهب فأخرجه من النار فيذهب فيتجسس في النار حتى يخرجه منها » (2).

58. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (3).

59. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه » (4).

60. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أيّما امرأة صلّت في اليوم والليلة خمس صلوات ، وصامت شهر رمضان ، وحجت بيت اللّه الحرام ، وزكّت مالها ، وأطاعت زوجها ، ووالت علياً بعدي ، دخلت الجنة بشفاعة بنتي فاطمة » (5). أحاديث الشفاعة عن الإمام علي علیه السلام

61. قال علي علیه السلام : « لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة » (6).

62. قال علي علیه السلام : « ثلاثة يشفعون إلى اللّه عزّ وجلّ فيشفّعون : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء » (7).

ص: 326


1- مناقب ابن شهر آشوب : 2 / 14.
2- مجمع البيان : 10 / 392.
3- مجمع البيان : 1 / 104. ويقول الطبرسي : إنّ هذا الحديث مما قبلته الأمّة الإسلامية.
4- مجمع البيان : 1 / 104.
5- أمالي الصدوق : 291.
6- خصال الصدوق : 624.
7- خصال الصدوق : 156.

63. قال علي علیه السلام لولده محمد بن الحنفية : « إقبل من متنصل عذره ، فتنالك الشفاعة » (1).

64. قال علي علیه السلام : « اعلموا أنّ القرآن شافع ومشفع وقائل ومصدق ، وانّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه » (2).

65. قال علي علیه السلام : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إذا قمت المقام المحمود تشفعت في أصحاب الكبائر من أُمّتي فيشفّعني اللّه فيهم ، واللّه لا تشفّعت فيمن آذى ذريتي » (3).

66. قال أمير المؤمنين علیه السلام : « إنّ للجنة ثمانية أبواب باب يدخل منه النبيون والصديقون ، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون ، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا فلم أزل واقفاً على الصراط أدعو وأقول : رب سلّم شيعتي ومحبي وأنصاري ومن تولاّني في دار الدنيا ، فإذا النداء من بطنان العرش قد أُجيبت دعوتك وشفّعت في شيعتك ، ويشفع كل رجل من شيعتي ومن تولاّني ونصرني وحارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفاً من جيرانه وأقربائه ، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا اله إلا اللّه ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت » (4).

67. قال أمير المؤمنين علیه السلام : « سمعت النبي يقول : إذا حشر الناس يوم القيامة ناداني مناد : يا رسول اللّه إنّ اللّه جل اسمه قد أمكنك من مجازاة محبيك ومحبي أهل بيتك الموالين لهم فيك والمعادين لهم فيك ، فكافهم بما شئت ، فأقول :

ص: 327


1- من لا يحضره الفقيه : 4 / 279.
2- نهج البلاغة : الخطبة 171.
3- أمالي الصدوق : 177.
4- بحار الأنوار : 8 / 39 نقلاً عن أمالي الصدوق : 39.

يا رب الجنة فأُبوّؤهم منها حيث شئت ، فذلك المقام المحمود الذي وعدت به » (1).

68. عن علي بن أبي طالب علیه السلام قال : « قالت فاطمة علیهاالسلام لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا أبتاه أين ألقاك يوم الموقف الأعظم ويوم الأهوال ويوم الفزع الأكبر ؟ قال : يا فاطمة عند باب الجنة ومعي لواء الحمد وأنا الشفيع لأمّتي إلى ربي. قالت : يا أبتاه فإن لم ألقك هناك ، قال : القيني على الحوض وأنا أسقي أُمّتي ، قالت : يا أبتاه إن لم ألقك هناك ، قال : القيني على الصراط وأنا قائم أقول رب سلم أُمّتي ، قالت : فإن لم ألقك هناك ، قال : القيني وأنا عند الميزان ، أقول : ربي سلم أُمّتي ، قالت : فإن لم ألقك هناك قال : القيني على شفير جهنم أمنع شررها ولهبها عن أُمّتي فاستبشرت فاطمة بذلك ، صلى اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها وبينها » (2).

أحاديث الشفاعة عن سائر أئمّة أهل البيت علیهم السلام

69. قال الحسن علیه السلام : « إنّ النبي قال في جواب نفر من اليهود سألوه عن مسائل ، وأمّا شفاعتي ففي أصحاب الكبائر ما خلا أهل الشرك والظلم » (3).

70. عن الحسين علیه السلام وهو ينقل كلام جده معه في منامه قائلاً : « حبيبي يا حسين كأنّي أراك عن قريب مرملاً بدمائك مذبوحاً بأرض كربلا على أيدي عصابة من أُمّتي وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى ، وظمآن لا تروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة » (4).

ص: 328


1- بحار الأنوار : 8 / 39 - 40 ، نقلاً عن أمالي الصدوق : 187.
2- بحار الأنوار : 8 / 35 ، نقلاً عن أمالي الصدوق : 166.
3- خصال الصدوق : 355.
4- مكاتيب الأئمّة : 2 / 41.

71. قال علي بن الحسين علیه السلام في الدعاء الثاني من صحيفته : « عرّفه في أهله الطاهرين ، وأُمّته المؤمنين من حسن الشفاعة ، أجل ما وعدته » (1).

72. قال علي بن الحسين علیه السلام : « اللّهم صلِّ على محمد وآل محمد وشرّف بنيانه وعظّم برهانه ، وثقّل ميزانه ، وتقبل شفاعته » (2).

73. قال علي بن الحسين علیه السلام : « فإنّي لم آتك ثقة مني بعمل صالح قدّمته ، ولا شفاعة مخلوق رجوته إلاّ شفاعة محمد وأهل بيته عليه وعليهم سلامك » (3).

74. قال علي بن الحسين علیه السلام : « إلهي ليس لي وسيلة إليك إلاّ عواطف رأفتك ولا ذريعة إليك إلاّ عوارف رحمتك ، وشفاعة نبيك نبي الأمّة » (4).

75. قال علي بن الحسين علیه السلام : « صل على محمد وآله واجعل توسّلي به شافعاً يوم القيامة نافعاً إنّك أنت أرحم الراحمين » (5).

76. قال محمد بن علي الباقر علیه السلام : « إنّ لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شفاعة في أُمّته » (6).

77. قال محمد بن علي الباقر علیه السلام : « من تبع جنازة مسلم أُعطي يوم القيامة أربع شفاعات » (7).

78. قال محمد بن علي الباقر علیه السلام : « يشفع الرجل في القبيلة ، ويشفع

ص: 329


1- الصحيفة السجادية : الدعاء الثاني.
2- الصحيفة السجادية : الدعاء الثاني والأربعون.
3- الصحيفة السجادية : الدعاء الثامن والأربعون.
4- ملحقات الصحيفة : 250.
5- ملحقات الصحيفة : 229.
6- المحاسن للبرقي : 184.
7- التهذيب : 1 / 455.

الرجل لأهل البيت ، ويشفع الرجل للرجلين على قدر عمله ، فذلك المقام المحمود » (1).

79. قال محمد بن علي الباقر علیه السلام : « انّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنساناً ، فعند ذلك يقول أهل النار فمالنا من شافعين ، ولا صديق حميم » (2).

80. سئل محمد بن علي الباقر علیه السلام عن أرجى آية في كتاب اللّه فقال الإمام علیه السلام للسائل ( بشر بن شريح البصري ) : « ما يقول فيها قومك ؟ » قال : قلت يقولون : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللّهِ ) قال : لكنّا أهل البيت لا نقول بذلك قال السائل : قلت : فأيّ شيء تقولون فيها ؟ قال : نقول : « ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) الشفاعة ، واللّه الشفاعة ، واللّه الشفاعة » (3).

81. دخل مولى لامرأة علي بن الحسين علیه السلام على أبي جعفر ( الباقر ) علیه السلام يقال له أبو أيمن فقال : يغرون الناس فيقولون شفاعة محمد ، قال : فغضب أبو جعفر حتى تربد وجهه ، ثم قال : « ويحك يا أبا أيمن أغرّك أن عف بطنك وفرجك ، أما واللّه لو قد رأيت أفزاع يوم القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمد ، ويلك وهل يشفع إلاّ لمن قد وجبت له النار » (4).

82. عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : « لفاطمة وقفة على باب جهنم ، فإذا كان يوم القيامة كتب بين عيني كل رجل مؤمن أو كافر ،

ص: 330


1- مناقب محمد بن شهر آشوب : 2 / 14.
2- الكافي : 8 / 101 ، وبهذا المضمون في تفسير فرات الكوفي : 108.
3- تفسير فرات الكوفي : 18.
4- المحاسن للبرقي : 1 / 183.

فيؤمر بمحب قد كثرت ذنوبه إلى النار ، فتقرأ بين عينيه محباً فتقول : إلهي وسيدي سميتني فاطمة وفطمت بي من تولاّني وتولّى ذريتي من النار ووعدك الحق وأنت لا تخلف الميعاد ، فيقول اللّه عزّ وجل : صدقت يا فاطمة أنّي سميتك فاطمة وفطمت بك من أحبك وتولاّك وأحب ذريتك وتولاّهم من النار ، ووعدي الحق ، وأنا لا أُخلف الميعاد ، وإنّما أُمرت بعبدي هذا إلى النار لتشفعي فيه ، فاشفّعك ليتبيّن لملائكتي وأنبيائي ورسلي وأهل الموقف موقفك منّي ومكانتك عندي ، فمن قرأت بين عينيه مؤمناً فجذبت بيده وأدخلته الجنة » (1).

83. قال جعفر بن محمد علیه السلام : « واللّه لنشفعن لشيعتنا ، واللّه لنشفعن لشيعتنا ، واللّه لنشفعن لشيعتنا ، حتى يقول الناس فما لنا من شافعين ولا صديق حميم » (2).

84. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « لكل مؤمن خمس ساعات يوم القيامة يشفع فيها » (3).

85. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « شفاعتنا لأهل الكبائر من شيعتنا وأمّا التائبون فإنّ اللّه عزّ وجل يقول : ( مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ) (4).

86. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « من أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا : المعراج ، والمساءلة في القبر ، والشفاعة » (5).

87. قال معاوية بن عمار لجعفر بن محمد الصادق علیه السلام : ( مَن ذَا الَّذِي

ص: 331


1- بحار الأنوار : 8 / 51 ، نقلاً عن علل الشرائع : 178.
2- مناقب ابن شهر آشوب : 2 / 14.
3- صفات الشيعة للشيخ الصدوق : 181 الحديث 37.
4- من لا يحضره الفقيه : 3 / 376.
5- أمالي الصدوق : 177.

يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) ؟ قال : « نحن أُولئك الشافعون » (1).

88. سئل جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : عن المؤمن هل يشفع في أهله ؟ قال : « نعم المؤمن يشفع فيشفّع » (2).

89. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « إذا كان يوم القيامة نشفع في المذنب من شيعتنا ، وأمّا المحسنون فقد نجّاهم اللّه » (3).

90. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « نمجّد ربنا ونصلّي على نبينا ونشفع لشيعتنا فلا يردنا ربنا » (4).

91. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « إنّ المؤمن ليشفع لحميمه ، إلاّ أن يكون ناصباً ولو أنّ ناصباً شفع له كل نبي مرسل وملك مقرّب ما شفعوا » (5).

92. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « إنّ الجار ليشفع لجاره والحميم لحميمه ، ولو أنّ الملائكة المقرّبين والأنبياء والمرسلين شفعوا في ناصب ما شفّعوا » (6).

93. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفع فيهم حتى يبقى خادمه فيقول فيرفع سبابتيه يا رب خويدمي كان يقيني الحر والبرد فيشفّع فيه » (7).

ص: 332


1- تفسير العياشي : 1 / 136. وبهذا المضمون في المحاسن للبرقي : 183.
2- المحاسن للبرقي : 184.
3- فضائل الشيعة : 109 ، الحديث 45.
4- المحاسن : 183 ، وبهذا المضمون في البحار : 8 / 41 عن الإمام الكاظم.
5- ثواب الأعمال : 251.
6- المحاسن للبرقي : 184.
7- بحار الأنوار : 8 / 56 و 61 ، نقلاً عن الاختصاص للمفيد وتفسير العياشي بتفاوت يسير.

94. كتب جعفر بن محمد الصادق علیه السلام إلى أصحابه : « واعلموا انّه ليس يغني عنهم من اللّه أحد من خلقه شيئاً لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك فمن سره أن تنفعه شفاعة الشافعين عند اللّه فليطلب إلى اللّه أن يرضى عنه » (1).

95. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « إذا كان يوم القيامة بعث اللّه العالم والعابد ، فإذا وقفا بين يدي اللّه عزّ وجلّ قيل للعابد انطلق إلى الجنة ، وقيل للعالم : قف تشفع للناس بحسن تأديبك لهم » (2).

96. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام في تفسير قوله سبحانه : ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) لا يشفع ولا يشفع لهم ولا يشفعون إلاّ من أذن له بولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده فهو العهد عند اللّه (3).

97. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « يا معشر الشيعة فلا تعودون وتتكلون على شفاعتنا ، فواللّه لا ينال شفاعتنا إذا ركب هذا ( الزنا ) حتى يصيبه ألم العذاب ويرى هول جهنم » (4).

98 : سئل جعفر بن محمد الصادق علیه السلام عن المؤمنين هل له شفاعة ، قال : « نعم » ، فقال له رجل من القوم : هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد ؟ قال : « نعم إنّ للمؤمنين خطايا وذنوباً ، وما من أحد إلاّ يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ » (5).

99. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام أو محمد بن علي الباقر علیه السلام

ص: 333


1- الكافي : 8 / 11.
2- بحار الأنوار : 8 / 56 ، نقلاً عن عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق.
3- تفسير علي بن إبراهيم القمي : 417 ونقل عن الإمام الباقر أيضاً كما في البحار : 8 / 27.
4- الكافي : 5 / 469 ، ومن لا يحضره الفقيه : 4 / 28.
5- تفسير العياشي : 2 / 314 ، والمحاسن : 1 / 184 ، ومع زيادات في بحار الأنوار : 8 / 48.

في تفسير قوله : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) قال : « هي الشفاعة » (1).

100. عن سماعة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن شفاعة النبي صلی اللّه علیه و آله يوم القيامة قال : « يلجم الناس يوم القيامة العرق فيقولون : انطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا عند ربه ، فيأتون آدم فيقولون : اشفع لنا عند ربك ، فيقول : إنّ لي ذنباً وخطيئة فعليكم بنوح ، فيأتون نوحاً ، فيردّهم إلى من يليه ، ويردّهم كل نبي إلى من يليه ، حتى ينتهون إلى عيسى فيقول : عليكم بمحمد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وعلى جميع الأنبياء - فيعرضون أنفسهم عليه ويسألونه ، فيقول : انطلقوا ، فينطلق بهم إلى باب الجنة ويستقبل باب الرحمان ، ويخرّ ساجداً فيمكث ما شاء اللّه فيقول عزّ وجلّ ارفع رأسك واشفع تشفّع ، وسل تعط وذلك قوله : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) » (2).

101. عن عيص بن القاسم عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « انّ أُناساً من بني هاشم أتوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي وقالوا : يكون لنا هذا السهم الذي جعله للعاملين عليها فنحن أولى به ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا بني عبد المطلب انّ الصدقة لا تحل لي ولا لكم ولكنّي وعدت الشفاعة - ثم قال : واللّه أشهد أنّه قد وعدها - فما ظنّكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة الباب أتروني مؤثراً عليكم غيركم ، ثم قال : إنّ الجن والإنس يجلسون يوم القيامة في صعيد واحد ، فإذا طال بهم الموقف طلبوا الشفاعة فيقولون : إلى من ؟ فيأتون نوحاً فيسألونه الشفاعة فقال : هيهات قد رفعت حاجتي ، فيقولون : إلى من ؟ فيقال : إلى

ص: 334


1- تفسير العياشي : 2 / 314.
2- بحار الأنوار : 8 / 35 - 36 ح 7 ، نقلاً عن تفسير علي بن إبراهيم : 387. الذنب الذي ورد في الحديث بمعنی ما يتبع الإنسان لا بمعنی المعصية ، وعلی كل حال فحسنات الأبرار سيئات المقربين.

إبراهيم ... » (1).

102. عن سماعة عن أبي إبراهيم في قول اللّه تعالى : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) قال : « يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاماً ويؤمر الشمس فيركب على رؤوس العباد ويلجمهم العرق ، ويؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئاً ، فيأتون آدم فيتشفعون منه فيدلّهم على نوح ، ويدلّهم نوح على إبراهيم ، ويدلّهم إبراهيم على موسى ، ويدلّهم موسى على عيسى ، ويدلّهم عيسى ، فيقول : عليكم بمحمد خاتم البشر ، فيقول : محمد أنا لها ، فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له : من هذا - واللّه أعلم - : فيقول محمد ! فيقال : افتحوا له ، فإذا فتح الباب استقبل ربه فيخر ساجداً ، فلا يرفع رأسه حتى يقال له تكلّم وسل تعط واشفع تشفع ، فيرفع رأسه فيستقبل ربه ، فيخر ساجداً ، فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنّه ليشفع من قد أحرق بالناس ، فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجه من محمد صلی اللّه علیه و آله وهو قول اللّه تعالى : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) » (2).

103. قال موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام : « لمّا احتضر أبي ( جعفر بن محمد ) علیه السلام قال لي : يا بني إنّه لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة » (3).

104. قال موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام : « كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : لا تستخفوا بفقراء شيعة علي ، فإنّ الرجل منهم ليشفع بعدد ربيعة ومضر » (4).

ص: 335


1- بحار الأنوار : 8 / 47 - 48 ح 48 ، وذيل الحديث موافق لما تقدمه ، ولأجل ذلك تركناه.
2- بحار الأنوار : 8 / 48 - 49 ح 51 ، نقلاً عن تفسير العياشي. والمراد من « استقبل ربه » استقبل رضوانه أو باب رحمته أو ما يناسب ذلك ، كما ورد في الحديث المروي عن الإمام الصادق.
3- الكافي : 3 / 270 ح15 و 6 / 401 ح 7 ، والتهذيب : 9 / 107 ، وبهذا المضمون في من لا يحضره الفقيه : 1 / 133 ، ونقله الشيخ في التهذيب : 9 / 106 عن الإمام الصادق.
4- بحار الأنوار : 8 / 59 ، وبهذا المضمون في أمالي الطوسي : 63 ، وبشارة المصطفى : 55.

105. قال موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام : « شيعتنا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويحجون البيت الحرام ويصومون شهر رمضان ويوالون أهل البيت ويتبرّأون من أعدائهم ، وانّ أحدهم ليشفع في مثل ربيعة ومضر ، فيشفّعه اللّه فيهم ، لكرامته على اللّه عزّ وجلّ » (1).

106. قال علي بن موسى الرضا علیه السلام : ناقلاً عن علي علیه السلام : « من كذّب بشفاعة رسول اللّه لم تنله » (2).

107. قال علي بن موسى الرضا علیه السلام : « مذنبو أهل التوحيد لا يخلّدون في النار ويخرجون منها ، والشفاعة جائزة لهم » (3).

108. قال علي بن موسى الرضا علیه السلام ناقلاً عن آبائه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة : المكرم لذريتي ، والقاضي لهم حوائجهم ، والساعي في أُمورهم عندما اضطروا إليه ، والمحب لهم بقلبه ولسانه » (4).

109. قال علي بن موسى الرضا علیه السلام ناقلاً عن آبائه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله شفاعتي ، ثم قال علیه السلام : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل » ، قال الحسين بن خالد : فقلت للرضا علیه السلام : يا بن رسول اللّه فما معنى قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) قال : « لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى اللّه دينه » (5).

110. قال علي بن محمد الهادي علیه السلام كما في الزيارة الجامعة : « ولكم المودة

ص: 336


1- صفات الشيعة : 45 ، الحديث الخامس.
2- عيون أخبار الرضا : 2 / 66.
3- عيون أخبار الرضا : 2 / 125.
4- عيون أخبار الرضا : 2 / 24 ، وباختصار يسير في بشارة المصطفى : 140.
5- أمالي الصدوق : 5.

الواجبة ، والدرجات الرفيعة ، والمقام المحمود ، والمقام المعلوم عند اللّه عزّ وجلّ والجاه العظيم ، والشأن الكبير ، والشفاعة المقبولة » (1).

111. قال الحسن بن علي العسكري علیه السلام ناقلاً عن أمير المؤمنين علیه السلام في ضمن حديث : « لا يزال المؤمن يشفع حتى يشفع في جيرانه وخلطائه ومعارفه » (2).

112. قال الحجة بن الحسن علیه السلام في الصلوات المنقولة عنه : « اللّهم صلِّ على سيد المرسلين وخاتم النبيّين وحجة رب العالمين ، المرتجى للشفاعة » (3).

هذه هي الأحاديث الواردة عن طرق الشيعة الإمامية ، وأنت إذا أضفتها إلى ما رواه أصحاب الصحاح والمسانيد يتجلّى لك موضوع الشفاعة في الشريعة الإسلامية من القطعية كما يتجلّى لك معناها إلى غير ذلك من الخصوصيات التي مر بيان الخلاف فيها.

ثم بقيت في المقام روايات مبعثرة في الكتب والصحاح والمسانيد ، يستلزم جمعها إفراد رسالة في المقام ، ولأجل ذلك اكتفينا بما ذكرناه.

ص: 337


1- من لا يحضره الفقيه : 2 / 616.
2- بحار الأنوار : 8 / 44.
3- مصباح المتهجد : 284.

بحث وتمحيص حول الروايات الواردة في الشفاعة

قد بسطنا الكلام في ضوء الروايات التي نقلناها من الصحاح والمسانيد لأهل السنّة والمجاميع الحديثية للشيعة الإمامية ، والواجب هنا هو الوقوف على مضمون هذه الروايات على وجه الاختصار وإليك ما تدل عليه تلك المأثورات :

1. يستفاد من الروايات المختلفة انّ الشفاعة من ضروريات التشيع وانّ أئمّة أهل البيت يجاهرون بذلك ، فلاحظ الأرقام التالية من الأحاديث الماضية 86 ، 106 ، 109.

2. انّ الدقة فيما مر من الروايات المتواترة تقضي ببطلان ما ذهب إليه المعتزلة في معنى الشفاعة ، وانّ الحق في الشفاعة هو ما عليه جمهور المسلمين من انّه عبارة عن غفران الذنوب الكبيرة ببركة شفاعة الشفيع ودعائه ، فلاحظ الأرقام التالية من الأحاديث الماضية : 1 ، 7 ، 15 ، 16 ، 55 ، 58 ، 65 ، 66 ، 85 ، 109 وغيرها من الروايات.

3. انّ الشفاعة كما تحفظ من دخول النار توجب خروج المذنب من النار بعد الدخول فيها ، فلاحظ الأرقام التالية : 26 ، 50 ، 57 ، 107 وغيرها.

4. انّ شفاعة الشافعين مشروطة بوجود مؤهلات في المشفوع لهم ، وقد جاءت شروطها في الروايات ، منها : أن لا يكون مشركاً ، ومنها : أن يكون مسلماً ،

ص: 338

ومنها : أن يكون مؤمناً ، ومنها : أن يكون محباً لأهل البيت لا ناصباً لهم العداء ، ومنها : أن لا يكون مستخفاً بالصلاة ، غير أنّ من كان مؤدياً للأمانة ، حسن الخلق وقريباً من الناس يشفع له قبل كل أحد ، فلاحظ في ذلك كله الأرقام التالية : 2 ، 3 ، 6 ، 9 ، 11 ، 17 ، 24 ، 91 ، 92 ، 103.

5. انّ القرآن وان أجمل مسألة الشفيع ولم يصرّح في ذلك إلاّ في مورد أو موردين غير انّ الأحاديث أعطت صورة مفصلة عن الشفعاء ، وإليك أسماءهم مع الإشارة إلى الأحاديث الدالة عليها.

ألف. الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله من الشفعاء ، فلاحظ الأرقام التالية من الأحاديث الماضية : 4 ، 5 ، 7 ، 8 ، 10 ، 14 ، 56 ، 69 ، 73 ، 74 ، 76 ، 100 ، 101.

ب. الملائكة من الشفعاء ، فلاحظ الأرقام التالية : 18 ، 21 ، 22.

ج. الأنبياء من الشفعاء ، فلاحظ الأرقام التالية : 20 ، 21 ، 22.

د. أهل البيت من الشفعاء ، فلاحظ الأرقام التالية : 51 ، 56.

ه. علي من الشفعاء ، فلاحظ الرقم التالي : 61.

و. فاطمة من الشفعاء ، فلاحظ : 60 ، 82.

ز. العلماء من الشفعاء ، فلاحظ : 20 ، 62 ، 95.

ح. الشهداء من الشفعاء ، فلاحظ : 20 ، 22 ، 28 ، 62.

ط. القرآن من الشفعاء ، فلاحظ : 43 ، 44 ، 56 ، 64.

ي. متعلم القرآن والعامل به من الشفعاء ، فلاحظ : 29.

ك. شيعة أهل البيت من الشفعاء ، فلاحظ : 61 ، 104.

ل. المؤمن من الشفعاء ، فلاحظ : 77 ، 78 ، 88 ، 91 ، 93 ، 105 ، 111. ولو أُريد من المؤمن المعنى الأخص يرجع مفاد هذا القسم إلى القسم المتقدم.

ص: 339

م. من بلغ التسعين يشفع ، فلاحظ : 30.

ن. من كان حافظاً للرحم مؤدياً للأمانة يشفع ، فلاحظ : 56.

ما ذكرناه عصارة هذه الروايات والوقوف على الجزئيات يتوقف على ملاحظتها واحدة بعد واحدة.

هذا تمام الكلام في بحث الشفاعة حسب الكتاب أوّلاً والسنّة ثانياً ، وقد عرفت حقيقة المقال كما وقفت على الأشواك التي نبتت حولها ممن لا حظ لهم من معارف الكتاب والسنّة.

وكان الأولى إرداف البحث عن الشفاعة بالبحث عن الاحباط والتكفير ولكن نرجئ البحث عنهما إلى فترة أُخرى لعدم صلتهما بالنبوة الخاصة التي تدور عليها رحى أبحاثنا في هذا الجزء وما تقدم.

ص: 340

النبي والرسول في القرآن الكريم

اشارة

ص: 341

في هذا الفصل :

1. الرسول من أُوحي إليه وأُمر بالتبليغ والنبي من أُوحي إليه سواء أُمر بالتبليغ أو لم يؤمر. ونقد هذا الفرق.

2. الرسول هو الذي أُنزل معه كتاب ، والنبي هو الذي ينبئ عن اللّه وإن لم يكن معه كتاب. ونقد هذا الفرق.

3. الرسول من جاء بشرع جديد ، والنبي أعم منه ومن جاء لتقرير شرع سابق. ونقد هذا الفرق.

4. الرسول من يعاين الملك ويكلّمه مشافهة أو يلقى في روعه ، والنبي من يتلقّى الوحي بغير هذا الطريق. ونقد هذا الفرق.

5. النبي من يوحى إليه في المنام ، والرسول من يشاهد الملك ويكلمه رسول ربه. ونقد هذا الفرق.

6. النبي والرسول مبعوثان إلى الناس والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبأ النبوة. ونقد هذا الفرق.

7. الفرق المختار في المقام وبيان أدلّته.

8. ما يترتب على هذا الفرق من النتائج.

9. منصب النبوة أسمى من مقام الرسالة.

10. بحث وتنقيب حول الروايات المروية في هذا المجال والقضاء بينها.

11. المحدَّث في السنّة.

ص: 342

ما هو الفرق بين الرسول والنبي ؟

اشارة

لقد وصف اللّه تعالى في كتابه الكريم أُناساً بالرسالة والنبوة والإمامة ، ومدح الذين صدقوهم واقتفوا آثارهم ، وذم العصابة الذين كانوا يكذبونهم ويخالفونهم ، وأوعدهم بالعذاب الشديد ، فيجب - والحالة هذه - أن نتعرف عليهم بصفاتهم التي يتميزون بها عن غيرهم ، وقد اضطربت كلمات المفسرين وأصحاب المعاجم في تحديد تلكم المفاهيم القرآنية ، وجاءوا ، بفروق لا يوافق الكثير منها الذكر الحكيم إذ لم يستعينوا في استيضاح المراد بالرجوع إلى نفس القرآن ، ونحن نذكر تلكم الفروق ثم نردفها بما أوصلنا إليه التدبر في الآيات ، وما ننقله عنهم مذكور في كتب القوم تفسيراً ولغة.

لقد أصفق القوم إلاّ من شذ (1) على نفي الترادف بين النبي والرسول ، استناداً إلى ظهور كثير من الآيات ، وإليك منها ما يدل على مغايرتهما :

1. ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ) (2).

2. ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (3).

ص: 343


1- فروق اللغة ، للجزائري : 107.
2- الأعراف : 157.
3- الحج : 52.

3. ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (1).

4. ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (2).

وهكذا ترى أنّه سبحانه يذكر النبي بعد الرسول ، وهو آية اختلافهما في المفاد وتوهم انّه من قبيل عطف المرادف على مثله خلاف الظاهر ، لا سيما في قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ... ) الآية.

ودونك الفروق المذكورة في كتب القوم (3).

الفرق الأوّل

الرسول أخص من النبي ، فهو من أُوحي إليه وأُمر بالتبليغ ، والنبي من أُوحي إليه ، سواء أُمر بتبليغه أو لم يؤمر ، وهذا هو المشهور بينهم ، نقله واختاره لفيف من المفسرين (4).

ولعل القائلين به ، استندوا إلى الوجه التالي :

« النبي » صفة مشبهة على زنة اللازم - بمعنى ذي النبأ والمطلع عليه - وكون الإنسان صاحب نبأ وخبر ، لا يلازم كونه مأموراً بإبلاغه وإعلانه ، فيصير عند ذلك أعم من أن يكون مأموراً بتبليغه.

ص: 344


1- مريم : 51.
2- مريم : 54.
3- هذه الفروق كلها تشير إلى أمر واحد ، وهو جعل الرسول أخصّ من النبي بوجوه مختلفة ، غير انّه طبعاً للوضوح بحثنا عن كل واحد مستقلاً.
4- التبيان : 7 / 331 ، مجمع البيان : 7 / 91 ، تفسير الجلالين في تفسير الآية 52 من سورة الحج ، تفسير المنار : 9 / 225 ، وغيرها.

نعم لو قلنا بأنّ « فعيل » بمعنى « فاعل » والنبي بمعنى المنبئ عن الغيب والمبلغ للخبر الخطير ، فربما يكون مشعراً بكونه مأموراً بإعلانه ولكن الأشعار غير الدلالة ، إذ لا ملازمة بين الإنباء عن الغيب وبين كونه مبعوثاً إلى هداية الناس وإنّهم ملزمون بإطاعته والانقياد إليه فيما يأمر وينهى.

أمّا « الرسول » فهو عبارة عن من تحمل رسالة من إبلاغ كلام أو تنفيذ عمل من جانب مرسله.

قال الراغب : « الرسول » يقال تارة للقول المتحمل ، كقول الشاعر : « ألا أبلغ أبا حفص رسولا » وتارة لمتحمل القول والرسالة (1) وعند ذاك فاللفظ بما له من المعنى ، يدل على أنّ الرسول من بعث إلى الغير لتنفيذ رسالة كلف بحملها من قبل مرسله.

هذا غاية ما يمكن أن يوجه به هذا القول ولكن يمكن مناقشته بوجوه :

1. ان أراد أنّ النبي لغة كذلك وانّه لا يلازم كونه مأموراً بالتبليغ فله وجه وإن أراد أنّ المراد من « النبي » أو « النبيين » في القرآن أعم فهو غير ظاهر لأنّه سبحانه وصف النبيين عامة بكونهم مبشرين ومنذرين وقال : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ ) (2).

وظاهر الآية يعطي أنّ كل نبي كان مبشراً ومنذراً ، فهل التبليغ إلاّ التبشير والإنذار ، سواء كان التبشير بشريعته أو بشريعة من سبقه من الأنبياء.

نعم انّ في الآية احتمالاً آخر تسقط معه المناقشة ، وهو انّ المراد من النبيين فيها القسم الخاص منهم لا جميعهم ، بقرينة قوله سبحانه : ( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ

ص: 345


1- المفردات : 195.
2- البقرة : 213.

الكِتَابَ ) إذ من المعلوم انّه لم يكن لكل نبي كتاب ، فالكتب السماوية محدودة معدودة ، لا تتجاوز مائة وأربعة كتب (1) وعلى هذا فالآية تدل على أنّ كل نبي أُنزل عليه كتاب ، يكون مبعوثاً ومأموراً بالتبشير والإنذار لا أنّ كل من كان نبياً وإن لم يكن معه كتاب كان مأموراً بالتبليغ والتبشير والإنذار.

فإن قلت : لو كان المراد من النبيين خصوص من أُنزل معه الكتاب يلزم استعمال العام وإرادة الأفراد النادرة ، لأنّ المعروف انّ عدد الأنبياء 124000 نبي ، والذين أُنزل معهم الكتاب عن 104 أنبياء ، وعندئذ تكون نسبة من أُنزل معه الكتاب إلى مجموع النبيين نسبة الواحد على 1192 ، ومن المعلوم انّ استعمال العام وإرادة الأفراد النادرة مستهجن.

قلت : إنّ الاستهجان إنّما يلزم إذا كان المخصص منفصلاً وأمّا إذا كان متصلاً فلا ، فلو قلنا أكرم العلماء العدول وكان نسبة العادل منهم إلى الفاسق نسبة الواحد إلى المائة لما أضر ذلك بالاستعمال ولما عد مستهجناً ، والمقام من هذا الباب.

2. انّ القرآن ينص على أنّ حياة الأنبياء لم تكن خالية من عدوٍ من الإنس والجن ، قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً ) (2) ، وقال تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ) (3).

وعلى هذا فكل نبي جاء ذكره في القرآن كان مأموراً بمكافحة الفساد وتطهير المجتمع البشري من كل عمل إجرامي ، فلو لم يكن كل نبي مأموراً

ص: 346


1- سيوافيك ما يدل على ذلك.
2- الأنعام : 112.
3- الفرقان : 31.

بالإرشاد والهداية ، ومكافحة الشر والفساد ، لم يكن للحكم بثبوت عدو لكل نبي على نحو الاستغراق الكلي وجه.

وتوهم أنّ للعداوة عللاً وأسباباً غير الدعوة إلى الحق ، إذ أنّ كثيراً من الناس يبغضون من ليس على شاكلتهم وإن لم يكن بينه وبينهم أيّة صلة ، والعصابة الضالة الجاهلية أعداء للصلحاء من الناس ، ولو فرض الصالح حيادياً تجاه فكرتهم العادية وعقيدتهم ، غير متعرض لشيء من أعمالهم وأفعالهم بذم أو تنديد.

مدفوع بأنّ الناس كانوا يبغضون الأنبياء من جهة رسالاتهم ومناهجهم لا من جهة أنّهم ليسوا على شاكلتهم ، والمناظرات التي دارت بينهم أوضح شاهد على ذلك.

3. لو كان الرسول أخص من النبي ، لكان أشرف وأمثل منه ، وذلك يناسب تقديم لفظ النبي على الرسول عند اجتماعهما في كلام واحد ، لأنّ ذكر الخاص بعد العام أوقع وأنسب ، والتدرج من الداني إلى العالي أو منه إلى الأعلى ، أحسن وأبلغ ، مع أنّ الوارد في القرآن هو العكس ، قال تعالى : ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (1) ، وقال سبحانه : ( إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (2).

وأمّا قوله سبحانه : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ ) (3) فالتدرج فيه من العالي إلى الداني لأجل رعاية فواصل الآيات حيث يقول سبحانه قبله : ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

ومما يثير العجب ، تفسير النبي في الآيتين بمعنى الرفيع شأناً والأعلى منزلة ،

ص: 347


1- مريم : 51.
2- مريم : 54.
3- الصافات : 112.

إذ فيه انّه مشتق من النبأ ، لا من النبوة ، وعلى فرض صحته فالحمل عليه ضعيف جداً ، لكونه منقولاً إلى المعنى المصطلح ولم يستعمل هذا اللفظ وما اشتق منه ، وهي النبوة ، في القرآن ولا في الأحاديث الشريفة ، إلاّ في ما استعملت فيه تلك اللفظة في قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللّهِ ) (1).

مضافاً إلى أنّ هذا لا يصح في قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (2) ، إذ لا يصح تفسير النبي فيه إلاّ بالمعنى المصطلح ، ثم إنّ صاحب المنار (3) لما اختار هذا الفرق وجه تقديم الرسول على النبي في قوله سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ) بكونه أهم وأشرف ولكن لو صح ما ذكره فرضاً في قوله سبحانه : ( كَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ) (4) ، أي رسولاً عظيم الشأن لا يصح في قوله : ( وَلا نَبِيٍّ ) .

4. انّ ما ذكر من الوجه لا يصح في قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) فإذا كان الرسول هو النبي المبعوث إلى الناس يكون المقصود من عديله أعني النبي ، غير المبعوث منهم فقط ، فإنّ المبعوث منهم إلى الناس داخل في الرسول ، وإذا كان المقصود من « النبي » في الآية غير المبعوث إلى الناس لا يستقيم معنى الآية ، وينافيه قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ ) لظهوره في أنّ الصنفين مرسلان من اللّه.

ص: 348


1- آل عمران : 79.
2- الحج : 52.
3- المنار : 9 / 225.
4- قال العلاّمة الطباطبائي في ميزانه : والآيتان في مقام المدح والتعظيم ولا يناسب هذا المقام ، التدرج من الخاص إلى العام ( الميزان : 2 / 145 ).
الفرق الثاني

الرسول هو الذي أنزل معه كتاب ، والنبي أعم ، فهو الذي ينبئ عن اللّه وإن لم يكن معه كتاب ، قال الزمخشري : قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ... ) دليل بين على تغاير الرسول والنبي ، وعن النبي صلی اللّه علیه و آله انّه سئل عن الأنبياء فقال : « مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، قيل : فكم الرسول منهم ؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً » (1).

والفرق بينهما انّ الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة ، الكتاب المنزل عليه والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب وانّما أُمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله (2).

وقال في تفسير قوله سبحانه : ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى ... ) (3) الرسول الذي معه الكتاب من الأنبياء ، والنبي من ينبئ عن اللّه عز وجل وان لم يكن معه كتاب كيوشع (4).

وهذا الوجه لا دليل عليه سوى ما عرفته من تفسير الرسول بكونه ذا رسالة ، واستلزامها كون المبعوث ذا كتاب ، فينتج كون الرسول من أُنزل معه الكتاب ، وهو ضعيف جداً ، فإنّ تخصيص الرسالة بالكتاب ، مع إمكان تحملها بغيره لا وجه له.

والاستدلال عليه بقوله سبحانه : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ

ص: 349


1- رواه الصدوق أيضاً في معاني الأخبار : 95 ، والخصال : 2 / 104.
2- الكشاف : 2 / 165 ، و 352 ، تفسير النيسابوري : 2 / 513 ، ونقله الرازي في : 23 / 49 ، والبيضاوي : 4 / 57 ، والمجلسي في بحاره : 11 / 32.
3- مريم : 51.
4- الكشاف : 2 / 282.

الكِتَابَ وَالمِيزَانَ ... ) (1) بتصور أنّ ظاهر الآية هو إنّ كل رسول بعث من قبل اللّه سبحانه ، قد أُنزل معه كتاب ، غير تام.

أما أوّلاً : فلأنّ الآية لا تدل على أنّ لكل نبي كتاباً على وجه العموم الاستغراقي ، وإنّما تنظر الآية إلى سلسلة الأنبياء بنظرة واحدة ، ويكفي في صدق قوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ ) نزول الكتاب على طائفة خاصة منهم لا على كل واحد منهم ، وذلك نظير قوله سبحانه في حق بني إسرائيل : ( وَجَعَلَكُم مُلُوكاً وَآتَاكُم مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ العَالَمِينَ ) (2) مع أنّه سبحانه جعل البعض النادر منهم ملكاً ، لا كل واحد.

وثانياً : أنّ من المحتمل أنّ المراد من ( الكِتَابَ ) هو الكتب التشريعية الخمسة التي هي أساس دعوة جميع الأنبياء والمراد من إنزال الكتب ، هو إنزال هذه الكتب سواء نزلت على نفس الرسول ، أو لرسول قبله وأمر المتأخر بترويجه وتطبيق العمل عليه.

وثالثاً : لو صح الاستدلال بهذه الآية على أنّ لكل رسول كتاباً ، فليصح الاستدلال بقوله : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ ) (3) على أنّ لكل نبي كتاباً وهو واضح البطلان. والجواب في كلتا الآيتين واحد.

ورابعاً : أنّه منقوض من جانب الرسول ، فهذا هو القرآن ، وصف أُناساً بالرسالة مع أنّه لم يكن مع واحد منهم كتاب ، قال سبحانه : ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ

ص: 350


1- الحديد : 25.
2- المائدة : 20.
3- البقرة : 213.

إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (1) وقال عز من قائل : ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) (2) وقال سبحانه : ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) (3).

فهذه العصابة من الرسل لم يكونوا أصحاب كتب سماوية ولم يذكر أحد من الباحثين القدامى والمتأخرين كتاباً لهم ، وما عزا إليهم أحد من أصحاب الملل وكتاب السير والتاريخ ، كتاباً وما جاء لكتبهم ذكر في الأحاديث الشريفة ، وفي مثل هذا المورد ، يصح أن يستدل بعدم الوجدان على عدم الوجود.

وقال سبحانه : ( أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (4) فقد بعث اللّه هوداً إلى عاد ، وصالحاً إلى ثمود ، وشعيباً إلى مدين ، الذين عدتهم الآية من الرسل ولم يثبت لواحد منهم كتاب. نعم نص القرآن على صحف إبراهيم وقال : ( صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) (5) كما نصت الروايات على كتاب نوح (6).

وبذلك يظهر المقصود من قوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ... ) (7) فالآية

ص: 351


1- مريم : 54.
2- الشعراء : 176 - 178.
3- الشعراء : 161 - 162.
4- التوبة : 70.
5- الأعلى : 19.
6- أخرج الصدوق في عيونه : 234 عن أبي الحسن الرضا علیه السلام : ... انّ كل نبي بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل » ، راجع البحار : 11 / 34.
7- آل عمران : 81.

أمّا تنظر إلى الأنبياء بنظرة واحدة وتصف الجميع بقوله : ( لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ ) أو المراد هو الكتب التشريعية السماوية التي تعد أساس دعوة الأنبياء ويحتمل أن يكون المراد من ( النَّبِيِّينَ ) خصوص أصحاب الشرائع فلاحظ.

وخامساً : أنّ هذا القول لا يتلاءم مع ما رواه الفريقان في عدد المرسلين والكتب ، فعن أبي ذر انّه قال : قلت يا رسول اللّه كم النبييون ؟ قال : « مائة ألف ، وأربعة وعشرون ألف نبي » ، قلت : كم المرسلون منهم ؟ قال : « ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً ... » إلى أن قال : قلت : يا رسول اللّه ! كم أنزل اللّه من كتاب ؟ قال : « مائة كتاب وأربعة كتب ، وأنزل اللّه تعالى على شيث ، خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة ، وأنزل التوراة والأنجيل والزبور والفرقان » (1).

ولم يذكر فيه كتاب نوح ... ولعلّه لم يكن في مقام الحصر والعد. روى صاحب الاختصاص تلك الرواية بسنده عن الصادق علیه السلام بصورة أُخرى تختلف عن ما تقدم في عدد الأنبياء قال : « يا رسول اللّه ! كم بعث اللّه من نبي ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : ثلاثمائة ألف وعشرين ألف نبي ، قال : يا رسول اللّه ! كم المرسلون ؟ فقال : ثلاثمائة وبضعة عشر ، قال : يا رسول اللّه كم أنزل اللّه من كتاب ؟ فقال : مائة كتاب وأربعة وعشرين كتاباً ، أنزل على إدريس خمسين صحيفة ، وهو « اُخنوخ » وهو أول من خط بالقلم ، وأنزل على نوح (2) وأنزل على إبراهيم عشراً ، وأنزل التوراة على موسى ، والزبور على داود ، والإنجيل على عيسى ، والقرآن على محمد صلی اللّه علیه و آله » (3).

نعم روى في الاختصاص أيضاً عن ابن عباس أنّه قال : أوّل المرسلين آدم

ص: 352


1- معاني الأخبار : 59 ، الخصال : 2 / 104. ولاحظ العقائد النسفية للتفتازاني : 169.
2- كذا في النسخ.
3- بحار الأنوار : 11 / 60.

وآخرهم محمد صلی اللّه علیه و آله وكانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي ، الرسل منهم ثلاثمائة ... إلى أن قال : والكتب التي أُنزلت على الأنبياء مائة كتاب وأربعة كتب ، منها على آدم خمسون صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثون ، وعلى إبراهيم عشرون ، وعلى موسى التوراة ، وعلى داود الزبور ، وعلى عيسى الإنجيل ، وعلى محمد صلی اللّه علیه و آله الفرقان (1).

فالرواية على ما نرى ، مع أنّها متفاوتة في حصر عدد الأنبياء والكتب ومن نزلت إليهم هذه الصحف ، إلاّ أنّها تنص على قلة الكتب عن الرسل ، وانّ الرسل كانوا أكثر من الكتب المنزلة بأضعاف ، فكيف يمكن القول بأنّ الرسول من أُنزل عليه كتاب ؟! *

الفرق الثالث
اشارة

الفرق الثالث (2)

الرسول من جاء بشرع جديد ، والنبي يشمل هذا ومن جاء لتقرير شرع سابق (3).

قال الرازي : قيل انّ من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شريعة من قبله ، فهو الرسول ، ومن لم يكن مستجمعاً لهذه الخصال ، فهو النبي ، غير الرسول.

قال البيضاوي في تفسير قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) الرسول من بعثه اللّه بشريعة مجددة يدعو الناس إليها ، والنبي من يعمه ومن بعث لتقرير شرع سابق.

ص: 353


1- بحار الأنوار : 11 / 42 ، الكشاف : 2 / 352.
2- وهذا الفرق كسابقيه داخل تحت عنوان واحد ، وهو كون الرسول أخص من النبي.
3- تفسير المراغي : 17 / 127.

ولكن باب المناقشة في هذا القول واسع ، فإنّ الظاهر من القرآن ونصوص الأحاديث ، انّ عدد الشرائع لا يتجاوز الخمسة ، وبينما تعداد الرسل قد تجاوزها بكثير ، فكيف يجوز لنا أن نفسر الرسول بأنّه المبتدئ بوضع الشرائع والأحكام أو هو من بعثه اللّه بشريعة مجددة.

قال سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (1) فإنّ الآية في مقام الامتنان على الأمة الإسلامية ، من أنّ شريعتها جامعة لكل ما اشتملت عليه الشرائع السابقة النازلة على السلف من الأنبياء ، فلو كان هناك أصحاب شرائع غير ما ذكر في الآية لكان اللازم ذكره ليكون الامتنان آكد ، فظاهر الآية انّ الشريعة مختصة بالمذكورين في الآية : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلی اللّه علیه و آله .

ولكن يمكن القول إنّ قوله سبحانه : ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) تفسير لما ( شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ ... ) ومعناه هو الأخذ بالدين بأجمعه والتدين بأحكامه وتشريعاته كافة وعدم الاختلاف فيه بأخذ طائفة ببعض الدين ، وطائفة أُخرى ببعضه الآخر ، كما فعلته الأمم السابقة ، فهذا ما أوصى به سبحانه كل من ذكر اسمه في الآية.

وعلى ذلك فلا تدل الآية على أنّ شريعة الإسلام جامعة للشرائع السابقة وتسقط دلالتها على كون أصحاب الشرائع خمسة ، زعماً بأنّها في مقام الامتنان لما عرفت من أنّها ليست إلاّ بصدد الحث على الأخذ بالدين بمجموعه ، وان هذا هو حكم اللّه سبحانه في جميع الأجيال والأزمنة ، لا بصدد الامتنان على الأمّة الإسلامية بأنّ دينهم جامع لما شرع للأمم السابقة ، حتى يستدل بالاكتفاء بذكر

ص: 354


1- الشورى : 13.

الأربعة والسكوت عن غيرهم ، على عدمها ، نعم لا تخلو الآية من إشعار بانحصارها في الخمسة ، كما لا يخفى.

نعم يؤيد انحصار الشرائع في الخمسة المذكورة ما أُثر عن أبي الحسن الرضا علیه السلام انّه قال : « إنّما سمّي أُولو العزم ، أُولي العزم ، لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع ، وذلك إنّ كل نبي بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه ، وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل ، وكل نبي كان في أيام إبراهيم وبعده ، كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه ، وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى ، وكل نبي كان في زمن موسى وبعده ، كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه ، إلى أيام عيسى ، وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده ، كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبينا محمد صلی اللّه علیه و آله ، فهؤلاء الخمسة أُولو العزم ، وهم أفضل الأنبياء والرسل وشريعة محمد صلی اللّه علیه و آله لا تُنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده إلى يوم القيامة ، فمن ادّعى بعده نبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب ، فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه » (1).

وفي الرواية جهات من البحث يجب تنقيحها في محل آخر ، وملخصها :

1. انّ تفسير « أُولي العزم » بما ذكر فيها ، لا يلائم ظاهر الكتاب ، أعني قوله سبحانه : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) (2) إذ الظاهر أنّ المقصود من العزم فيه هو الثبات على العهد المأخوذ منهم ، بقوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقاً غَلِيظاً ) (3) ، وقد أمر سبحانه نبيه الأعظم بالصبر والثبات اقتداء بمن سبق من أُولي العزم من الرسل ، حيث قال سبحانه : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ

ص: 355


1- بحار الأنوار : 11 / 35 ، عيون الأخبار : 234.
2- الأحقاف : 35.
3- الأحزاب : 7.

الرُّسُلِ ) (1).

وبما أنّ آدم علیه السلام لم يعهد منه العزم في بعض المواقف ، ونسى العهد المأخوذ منه ، لم يعد من أُولي العزم ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (2).

2. انّ موسى علیه السلام وان دعا فرعون وكل قبطي إلى توحيده سبحانه ، غير انّ ما جاء به من الشريعة والأحكام كانت مختصة ببني إسرائيل فقط ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) (3) ولكن المستفاد من الرواية خلافه ، وان شريعته كانت عامة لهم ولغيرهم.

3. انّ المراد من العزائم ما يقابل الرخص ، والمراد منها هو الواجبات والمحرمات ، فإذا كان الملاك لكونهم من أُولي العزم هو كونهم أصحاب فرائض وذوي واجبات ومحرمات أُوحيت إليهم ، فلماذا لم يكن غيرهم كصالح وهود وشعيب ممن أتوا بواجبات ومحرّمات ، منهم أيضاً مع كونهم مثلهم.

وروى صاحب المحاسن عن سماعة قال : قلت لأبي عبد اللّه الصادق علیه السلام : قول اللّه : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) فقال : « نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلی اللّه علیه و آله » قلت : كيف صاروا أُولي العزم ؟ قال : « لأنّ نوحاً بعث بكتاب وشريعة ، فكل من جاء بعد نوح ، أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه ، حتى جاء إبراهيم بالصحف ، وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفراً به ، فكل نبي جاء بعد إبراهيم ، جاء بشريعته ومنهاجه وبالصحف ، حتى جاء موسى بالتوراة وبعزيمة

ص: 356


1- الأحقاف : 35.
2- طه : 115.
3- المائدة : 44.

ترك الصحف ، فكل نبي جاء بعد موسى أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه ، حتى جاء المسيح بالإنجيل ، وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه ، فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه ، حتى جاء محمد صلی اللّه علیه و آله بالقرآن وشريعته ومنهاجه ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فهؤلاء أُولو العزم من الرسل » (1).

وعلى ذلك جرى شيخنا الصدوق في « الاعتقادات » وقال :

« إنّ سادة الأنبياء خمسة ، الذين دارت عليهم الرحى ، وهم أصحاب الشرائع وهم أُولو العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلی اللّه علیه و آله » (2).

ركام من الأوهام والأكاذيب

قد عرفت هذه الفروق المذكورة في كتب التفسير والمعاجم واتضح لك أنّه لا يوافقها الذكر الحكيم ، والذي يحصل من الجميع أنّ الرسول أخص من النبي وهم أعم منه ، ولكن هناك من الضالين من حرّف الكلم عن مواضعه (3) فصوّر

ص: 357


1- المحاسن : 269 ، بحار الأنوار : 11 / 56. لو كان الملاك بعدهم من أولي العزم، هو ترك كل واحد كتاب من قبله بعزيمة، يلزم أن لا يكون نوح منهم إذ لم يكن شريعة ولا كتاب قبله، حتى يتركها بعزيمة. أضف إلى ذلك أن المسيح لم يترك شريعة موسى، بل بين لبني إسرائيل بعض الذي اختلفوا فيه (الزخرف: 63) وأحلّ لهم بعض الذي حرم عليهم (آل عمران : 50) وليس ذلك تركاً للشريعة ورفضاً لها، كما هو ظاهر الرواية، ولأجل هذه الجهات تحتاج هذه الرواية وما تقدم عليها، إلى البحث والإمعان أكثر من هذا، وقد أوضحنا الحال في الجزء الثالث من هذه السلسلة. لاحظ : 107-115.
2- اعتقادات الصدوق : 92.
3- ثاني الفروق وثالثها.

المعنى بصورة شوهاء ، وشتان بين كاتب يكتب بدافع الإيمان والعقيدة طلباً للحقيقة ، وكاتب مستأجر لا هدف له إلاّ دعم ما نوى واضمر ، وتحكيم ما أُستوجر عليه ، وذلك يفرض عليه اختلاق الأوهام ونحت الأكاذيب التي يتحير عندها العقل والفكر.

نعم حرّف هؤلاء (1) ما أُثر عن القوم في المقام فقالوا : النبي هو الذي ينبئ عن اللّه وليس معه كتاب ، والرسول هو الذي بُعث إلى الناس وأُنزل معه كتاب ، أو أنّ النبي هو الذي يقرّر الشريعة السابقة فقط ، والرسول هو الذي يأتي بشريعة مستقلة (2) ، وعلى هذا تصير النسبة بين المفهومين ، هي التباين ، يفختص النبي بمن ليس له كتاب أو من يقرر شريعة من قبله.

ومن الواضح أنّ هذا القول باطل تماماً ، فهذا هو الذكر الحكيم قد خاطب نبي الإسلام المبعوث بأفصح الكتب وأحكمها وقد تضمن شريعة مستقلة عن غيرها من الشرائع ، بقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) فهل يمكن لهؤلاء الكتّاب المستأجرين أن ينكروا نزول الكتاب إليه أو مجيئه بشريعة مستقلة. فدونك نص ما خاطبه سبحانه بلفظ ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) :

ص: 358


1- البهائية الضالة.
2- الفرائد : 135 ، نعم نقل هذا الفرق الجزائري في فروقه : 106 قولاً ولا يعبأ بهذا النقل تجاه تلكم التصاريح المضادة له ، وأضعف منه ، ما نقله في تفسير الجلالين في تفسير قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) من أنّ الرسول هو من أُمر بالتبليغ ، ولا يخفى شذوذ هذا القول ، كسابقه ، ومضادتهما مع تصاريح أئمّة الأدب والتفسير. ومما يثير العجب ما ذكره الطنطاوي بقوله : الرسول هو الذي معه كتاب، والنبي ينبئ عن اللّه وليس معه كتاب، فمثال الأول موسى، والثاني يوشع، فيوشع نبي لا رسول وانما ينبئ قومه وموسى ينبئ قومه بكتاب معه أرسل به من اللّه ... الجواهر: 40/10 ، إذ فيه مع ضعف القول في نفسه أنّ ليوشع كتاباً معروفاً طبع مع كتب العهدين.

1. ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ... ) (1).

2. ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ ... ) (2).

3. ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ... ) (3).

وهكذا ... فعلم مما أوردناه من الآيات أنّ النبوة غير مقيدة بتقرير الشريعة ولا النبي منحصر في كونه غير ذي كتاب.

والغاية من هذا التحريف للقائل هو نفي دلالة قوله سبحانه : ( وَلَكِن رَسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) (4) على ختم الرسالة والنبوة معاً ، مدعياً أنّه إنّما ختمت الثانية ، دون الأولى وإنّ كونه صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين ، لا يلازم كونه خاتم الرسل.

وقد عرفت أنّ كلا الفريقين لا يعاضدهما القرآن ، فكيف وقد حرفا وخصص النبي بمن يقرر الشريعة ، أو لا يأتي بكتاب ، إذ أنّه باطل بنص الكتاب العزيز ، فقد استعمل النبي في أصحاب الشرائع والكتب وبذلك يظهر سقوط ما نقله الطبرسي عن الجاحظ ، انّه قال : إنّ النبي يحفظ شريعة غيره والرسول هو المبتدئ بوضع الشرائع والأحكام (5).

الفرق الرابع

الفرق الرابع (6)

إنّ العلوم والحقائق التي تفاض على الإنسان بواسطة الملك بحيث يعاينه

ص: 359


1- الأحزاب : 28.
2- الأحزاب : 59.
3- الأحزاب : 45.
4- الأحزاب : 40.
5- مجمع البيان : 7 / 91.
6- وهذا الفرق يخصص الرسالة بمعاينة الملك وأخذ الوحي منه مشافهة. وأمّا النبي فهو مقيد بأخذ الوحي بلا توسيط ملك ، بل بإحدى الطرق المألوفة من الرؤية في المنام وغيره كما سيصرح ، فبينهما تباين في النسبة.

ويشاهده ويكلّمه مشافهة أو يلقى في روعه تسمّى رسالة ، والإنسان الحامل لها رسولاً وباعتبار إنّ مثل هذا الإنسان يتلقّى رسالة اللّه بواسطة رسل السماء ، حيث أدّوا إليه رسالة ربهم ، يسمّى رسولاً ، أي ذا رسالة.

وأمّا ما يفاض من العلوم بغير هذا الطريق فيسمّى نبوة ، والإنسان العالم عن هذا الطريق نبياً ، سواء كان بالإلهام مثل ما أوحى اللّه إلى نبينا ليلة المعراج وما أوحي إلى موسى في طور سيناء ، أو بسماع صوت بلا رؤية شخص أو غير ذلك.

وعلى ذلك فالنبوة والرسالة مرتبتان للنفس في أخذ المعارف والحقائق من العلوم العلوية ، إحداهما مشروطة بحضور الملك ومعاينته ومشافهته للرسول ، والأخرى مقيدة بأخذها من دون توسيط ملك بل بطرق أُخرى.

وهذا الوجه هو مختار بعض الأجلّة (1) ولم أجد هذا الفرق برمته في كلام من تقدم عليه ، وما أُثر من النقول في المقام يوافقه في بعض ما ذكره لا كله ، بل بعضها يشير إلى خامس الفروق الذي سيوافيك بيانه ، وحاصله تخصيص النبوة بالرؤية في المنام.

ودونك بعض كلماتهم :

1. انّ الرسول هو الذي يرى الملك ويسمع منه ، والنبي يرى في المنام ولا يعاين (2).

وهذه العبارة توافق المذكور في ناحية الرسول فقط ، لا في جانب النبي ولا صراحة لها في ما ادّعاه القائل من التعميم في النبي ، أعني : من يأخذ الوحي بغير توسيط ملك سواء أكان بالرؤية في المنام أم بغيرها ، بل هي تحتمل هذا الوجه من

ص: 360


1- العلاّمة الشيخ محمد باقر الملكي دام ظله.
2- الميزان : 15 / 222.

التعميم في جانب النبي ، وما يأتي في خامس الوجوه من تخصيص النبوة بالرؤية في المنام.

2. « النبي » هو الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك ، والرسول هو الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين (1).

وهذا كما ترى يوافق الفرق المذكور في جانب النبي ويخالفه في ناحية الرسول ، إذ لا يخص الرسول بمن يتحمل الرسالة بواسطة الملك بل يعمم إلى محتملها بسبب الإيحاء في المنام.

3. « الرسول » من يأتيه الملك بالوحي عياناً ويشافهه ، و « النبي » يقال لمن يوحى إليه في المنام (2).

وهذا يوافق الفرق المذكور في جانب الرسول ويخالفه في ناحية النبي حيث يخصصه بالرؤية في المنام وهو جعل النبي أعم منها ، وإن كان قيده بعدم توسيط الملك.

4. « الرسول » الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي ، والنبي الذي يوحى إليه في منامه ، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً (3).

ولولا إنّه قد رتب على كلامه ما رتب ، لكان ظاهره في بدء الأمر موافقاً لما تقدمه غير انّه لما جعل النسبة بينهما أعم وأخص مطلقاً ، وفرض أنّ النبي أعم من الرسول ، فقد خالف الكلام المذكور قبله في جانب النبي وإن كان يوافقه من جانب آخر.

ص: 361


1- مجمع البحرين : مادة « النبأ ».
2- فروق اللغة : 106.
3- مجمع البيان : 7 / 91.

وكيف كان فقد استدل على كون النبوة والرسالة مرتبتين مختلفتين ، وإنّ الرسول خصوص من ينزل عليه الملك ، بقوله سبحانه :

( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً * قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ (1) لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) (2).

ومحصل مضمون الآيتين : انّ الذي يمنع الناس عن أن يؤمنوا برسالتك أنّهم يحيلون رسالة البشر من جانب اللّه ( حيث قالوا : ( أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً ) ) وقد أخطأوا في ذلك ، فإنّ مقتضى الطبيعة الإنسانية والأرضية وعناية اللّه بهداية عباده ، أن ينزل إلى بعضهم من أبناء جلدتهم ملكاً ، من السماء رسولاً لإرشادهم ، حتى أنّ الملائكة ، لو كانوا كالإنسان من حيث العيش على سطح هذه الأرض ، لنزّل اللّه إلى بعضهم ملكاً من السماء رسولاً حاملاً لوحيه ، وهذا يعطي أنّ الرسول إنسان ينزل عليه ملك من السماء بدين اللّه ثم هو يبلغه إلى الناس بأمر اللّه (3).

قال في الكشاف في تفسير قوله : ( لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) يعلمهم الخير ويهديهم الرشاد ، فأمّا الإنس فما هم بهذه المثابة إنّما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة ، فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم (4).

إلى غير ذلك من الكلمات حول الآية ، وهي تفيد أنّ رسالة أي فرد من البشر أو الملائكة القاطنين في الأرض إلى أمثالهم ، لا تستقيم إلاّ بنزول ملك من السماء يحمل رسالة اللّه إلى فرد مختار في الأرض يتحملها إلى أعداله وأمثاله.

ص: 362


1- أي يمشون على أقدامهم كما يمشي الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويتعلّموا ما يلزمهم علمه.
2- الإسراء : 94 - 95.
3- الميزان : 13 / 221.
4- الكشاف : 2 / 246.

ويشعر بذلك ما قاله موسى علیه السلام عندما خاطبه سبحانه بقوله : ( أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ) (1) أي أرسل إليه جبرئيل واجعله رسولاً مثلي واشدد عضدي به وقد أُجيبت دعوته حيث جعل سبحانه أخاه رسولاً مثله بقرينة قوله سبحانه : ( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (2) وقوله سبحانه : ( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ ) (3) ، وهذا الوجه يؤيده بعض الأحاديث المروية بطرق صحيحة سوف نشير إليها ونترجم رجال أسنادها حسب اقتضاء المقام.

هذا غاية ما يمكن أن يوجه هذا القول ، غير انّ في دلالة الآيتين على كون حقيقة الرسالة متقومة بنزول الملك على الرسول خفاء واضح.

فلأنّها سيقت لرد مزاعم بعض المشركين من امتناع أن يكون البشر رسولاً مبعوثاً من اللّه إلى الناس ، وانّه لابد أن يكون الرسول ملكاً لا بشراً ، بأنّ التماثل بين المرسل والمرسل إليهم أوفق في الغرض الذي لأجله بُعث الرسول ، لأنّ بين المتماثلين من التجاذب والتلاحم ما ليس في غيره ، ولأجل ذلك جرت حكمة اللّه على جعل الرسل بشراً ولو استقرت الملائكة في الأرض لجعل رسلهم من جنسهم أيضاً ملائكة ، وليست الآية بصدد تحديد مفهوم الرسالة وإنّها متقومة بنزول الملك إلى الرسول.

أضف إلى ذلك أنّ دلالة قوله : ( لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) على ما يرتئيه القائل مبنية على أن يكون الملك النازل من السماء ، رسولاً إلى الرسول

ص: 363


1- الشعراء : 12 - 13.
2- طه : 47.
3- الشعراء : 16.

المختار منهم لا رسولاً إليهم جميعاً ، وعند ذاك يصح ما يراه القائل من كون رسالة الرسول حتى رسالة الملك بين الملائكة ، تتوقف على نزول ملك من السماء إليه ، ينبئه بأخبار السماء ، مع أنّ ظاهر الآية خلافه وانّ الملك النازل هو بنفسه نبي الملائكة ورسولهم لا أنّه ينزل هذا الملك على ملك آخر ليكون هو الآخر رسولاً.

وأمّا الآية الثانية فلها إشعار بهذا القول ، ولا يبلغ حد الدلالة ، لأنّ طلب موسى من اللّه سبحانه أن يرسل جبرئيل إلى أخيه ليخلع عليه الرسالة ، لا يدل على تحديد مفهوم الرسالة بنزول الملك فقط بل هو أحد طرقها لا طريقها المنحصر.

الفرق الخامس

النبي من يوحى إليه في المنام (1) فيطلع على بعض الملاحم والمغيبات ، ولكن الرسول يشاهد الملك ويعاينه ويكلّمه ويراه.

والموافقة مع هذا القول مشكلة.

فإن أُريد أنّ النبي عبارة عمن يوحى إليه في المنام ، وان حيثية النبوة قائمة بالإيحاء إلى النبي بالمنام فقط ، كما انّ الرسالة متقومة بمعاينة الملك ومشاهدته ، فيرده أنّ النبي صفة مشبهة بمعنى المطلع على الغيب على زنة اللازم أو المخبر عن الغيب ( إذا كان بمعنى الفاعل كما هو ظاهر بعض المعاجم ) من أي طريق اتفق ، سواء أكان بالإيحاء إليه في النوم ، أو بإلقاء في قلبه وروعه ، أو بسماع الكلام من جبل أو شجرة أو بمعاينة الملك ومخاطبته ، فلا دليل على اختصاصه بالاطلاع على الغيب بالإيحاء إليه في المنام.

ص: 364


1- أوعز إليه في مجمع البحرين في مادة « النبأ » ، ونقله قولاً في مجمع البيان : 7 / 91 ، والرازي في مفاتيحه : 6 / 344 ، واختاره صاحب الميزان في مواضع من كتابه : راجع 1 / 280 ، و 13 / 221 - 222 ، و 14 / 429 - 430 ، وما نقلناه من الكلمات في ذيل الفرق الرابع الماضي ربما يمكن أن يشير بعضها إلى هذا الوجه.

وقد خاطب اللّه سبحانه نبيه الكريم في كتابه المجيد بقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) في مواضع كثيرة ، أو أطلق عليه النبي ، فهل ترى من نفسك أن تقول : إنّ ذلك الإطلاق إنّما هو بملاك الإيحاء إليه في المنام ، مع أنّ الإيحاء إليه إنّما كان بنزول الملك - دائماً أو غالباً - كما هو ظهور قوله سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) (1).

نعم اتفق الإيحاء إليه في المنام قليلاً ، كما يعرب عنه قوله سبحانه : ( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ ) (2) وقوله سبحانه : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَاناً كَبِيراً ) (3).

على أنّه يمكن أن يقال : إنّ تلك الرؤيا وما تقدم عليها وإن كان اطلاعاً منه على الغيب ولكنه لم يكون وحياً مصطلحاً ، وليس مطلق الكشف ومجرد الشهود والرؤيا الصادقة ، وحياً مصطلحاً.

وإن أراد أنّ النبي مطلق من يصل إليه الخبر من جانب اللّه ويطلع على الغيب بواحد من الطرق التي ألمحنا إليها ، وإليها يشير قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (4) وانّ الإيحاء في المنام أحد هذه الطرق ، فهو حق في جانب النبي وتعاضده اللغة وموارد الاستعمال ، فالنبي مطلق المطّلع على الغيب

ص: 365


1- الشعراء : 193 - 194.
2- الفتح : 27.
3- الإسراء : 60.
4- الشورى : 51.

أو المخبر عنه سواء أكان اطلاعه عليه بالإيحاء إليه في المنام أو غيره.

وأمّا تخصيصه الرسول بمعاينة الملك ، فقد استدل عليه ببعض الآيات وأيّدته بعض الروايات الآتية وقد تقدم بيانه.

وقد تمسكت الطائفة الضالة « البهائية » بهذا القول وادّعت بأنّ النبي هو خصوص من يوحى إليه في الرؤيا فقط ، وانّ المختوم إنّما هو النبوة بهذا المعنى ، لا الرسالة بمعنى مشاهدة الملك ومعاينته قبلاً ، فختم النبوة لا يلازم ختم الرسالة.

وقد وافاك إنّ هذا قول مجرد عن البرهنة ، وفارغ عن أي شاهد ، بل هو عبارة عن منصب معنوي يستدعي الاطلاع على الغيب بإحدى الطرق التي ألمحنا إليها ، فختم هذا الباب وسده يستلزم ختم الرسالة لما سنوضح من أنّ النبوة أساس الرسالة وإنّ ختم النبوة يلازم ختم الرسالة ، فانتظر.

الفرق السادس
اشارة

إنّ النبي والرسول كليهما مبعوثان إلى الناس ، غير أنّ النبي بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيراً بما عند اللّه ، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبأ النبوة كما يشعر به أمثال قوله تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) (1) وقوله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (2) وعلى هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أُصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية اللّه ، من هداية الناس إلى سعادتهم ، هلاكاً أو عذاباً أو نحو ذلك قال تعالى : ( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (3) ، وعلى هذا يصير الرسول أخص من النبي كما هو صريح

ص: 366


1- يونس : 47.
2- الإسراء : 15.
3- النساء : 165.

قول القائل : « والرسول هو الرسول الحامل لرسالة خاصة » (1).

وهذا الفرق لا يخلو من خفاء أيضاً فإنّ جعل الرسول من له رسالة خاصة تستتبع مخالفة العذاب لم يدل عليه دليل وما استدل به من قوله سبحانه : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) لا يدل على أنّ ما رآه داخل في حقيقة الرسالة ، وإنّها محددة به ، والدليل على ذلك إنّه لو قال مكانه : « حتى نبعث نبياً » لكان صحيحاً أيضاً ، لتمامية الحجة ، ببعث النبي والرسول كليهما ، كما في قوله سبحانه : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (2) فلولا إتمام الحجة ببعث النبي لما صح توصيفهم بعد البعث ، بكونهم مبشرين ومنذرين.

وعلى أي حال فقد اضطرب رأيه في إبداء الفرق بين اللفظين فاختار في المقام ما نقلناه عنه ، وقال في موضع آخر انّ النبي هو الذي يرى في المنام ما يوحى به إليه ، والرسول هو الذي يشاهد الملك فيكلّمه (3).

وقد دفعه إلى اختيار ثاني النظرين وروده في الروايات ويظهر منه في موضع ثالث (4) ما هو المختار عندنا ، وسوف يوافيك بيانه.

ص: 367


1- الميزان : 2 / 145 و 3 / 216 حيث قال : إنّ النبوة هي منصب البعث والتبليغ ، والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحق بين الناس ، أمّا بالبقاء والنعمة أو بالهلاك ، وسيوافيك امكان إرجاع كلامه هذا إلى ما هو المعتمد عندنا ، أعني : سابع الوجوه ، مع تصريحه به في : 16 / 345 من ميزانه.
2- البقرة : 213.
3- الميزان : 13 / 221 و 14 / 429.
4- الميزان : 1 / 274 حيث قال : النبوة معناها تحمل النبأ من جانب اللّه والرسالة معناها تحمل التبليغ والمطاعية والإطاعة ، ونظيره ما أفاده في 16 / 345 فقد عدّ التبليغ من شؤون الرسالة ، مع أنّه عدّه في الجزء الثالث ص 216 من شؤون النبوة ، والعصمة لله سبحانه ولمن اصطفاه من عباده.
ما هو المختار عندنا ؟

وقبل الدخول في البحث نقدم أُموراً ، تلقي الضوء على الحقيقة وتكشف الشك عن محيا الواقع.

الأوّل : النبأ في العرف العربي (1) الخبر الخطير الذي يستدعي الاهتمام به بالنظر إلى غاياته وآثاره فهو أخص من مطلق الخبر ، وبه يسمّى النبي نبياً ، لأنّه منبئ بما هو خطير من إنذار أو تبشير ، والتنبّؤ إخبار بالغيب ، لأنّه أظهر أفراد الخبر الخطير وأعظم مصاديق لنبأ العظيم (2).

النبي في اللغة مأخوذ من مادة « النبأ » بمعنى الخبر المهم العظيم الشأن أو بمعنى الارتفاع وعلو الشأن ، والأوّل أظهر ، وأكثر العرب لا تهمزه ، بل نقل أنّه لم يهمزه إلاّ أهل مكة ، وقد أنكر النبي على رجل قال له : « يا نبيء اللّه » (3) حيث روي أنّ رجلاً قال له : يا نبيء اللّه ، فقال : « لا تنبر (4) اسمي ، إنّما أنا نبي اللّه ».

النبي « فعيل » بمعنى فاعل للمبالغة من النبأ : الخبر ، لأنّه ينبئ عن اللّه ، أي يخبر عنه ، ويجوز فيه تحقيق الهمزة وتخفيفها ، يقال : نَبَأ ونَبَّأ وأنبأ ، قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلاّ ويقول : تنبّأ مسيلمة بالهمزة غير انّهم تركوا الهمزة في النبي ، كما تركوه في الذرية والبرية والخابية إلاّ أهل مكة فإنّهم يهمزون هذه الأحرف الثلاثة ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك كله (5).

قال الجوهري : يقال نبأت على القوم إذا طلعت عليهم ، ونبأت من أرض

ص: 368


1- ننقل في المقام نصوص أهل اللغة والعلم في تفسير النبي والرسول.
2- المعجزة الخالدة : 71.
3- المنار : 9 / 225 ، ورواه الصدوق في معاني الأخبار : 113.
4- أي لا تهمز اسمي ، النبر همز الحروف.
5- النهاية لابن الأثير : 5 / 3 ، مادة « نبأ ».

إلى أرض ، إذا خرجت من هذه إلى هذه ، وهذا المعنى أراده الأعرابي بقوله « يا نبيء اللّه » لأنّه خرج من مكة إلى المدينة فأنكر عليه الهمزة ، لأنّه ليس من لغة قريش ، وقيل إنّ النبي مشتق من النبأة وهي الشيء المرتفع (1).

حكى الصدوق في معانيه عن أبي بشر اللغوي أنّه سمع منه في مدينة « السلام » أنّ « النبوّة » مأخوذة من « النبوة » وهو ما ارتفع من الأرض ، فمعنى النبوّة : الرفعة ، ومعنى النبي : الرفيع (2).

قال ابن فارس : إنّ النبي من النبوة وهو الارتفاع كأنّه مفضل على سائر الناس برفع منزلته ، ويقولون : النبي ، الطريق « النبأ » الخبر ، والمعنى المخبر ومن يهمز النبي فلأنّه أنبأ عن اللّه سبحانه (3).

وقال في المعجم الوسيط (4) النبوة سفارة بين اللّه عز وجل وبين ذوي العقول لإزاحة عللها ، النبي المخبر عن اللّه وتبدل الهمزة وتدغم فيقال : النبي.

هذه نصوص أئمّة اللغة والتفسير ، ولو أردنا الاستيعاب لخرجنا عما هو المقصود وكلها تهدف إلى أنّ لفظ ( النبي ) لو كان مشتقاً من « نبو » ( الناقص الواوي ) بمعنى ارتفع ، فهو بمعنى المرتفع منزلة ، وإن كان من النبأ بالهمزة ، فهو المخبر عن اللّه وعلى أي تقدير ، فلا ترى في كلام واحد من أصحاب المعاجم دخول أحد هذه الفروق المذكورة في صلب معناه وجوهره حسب الوضع الأوّلي ، فلو دل على شيء منها فإنّما هو لعلّة أُخرى كما نشير إليه في آخر البحث.

وأمّا الرسول فقد قال الراغب في مفرداته : « أصل الرسل هو الانبعاث على

ص: 369


1- راجع الصحاح مادة « النبأ ».
2- معاني الأخبار : 39.
3- المقاييس : مادة « النبأ ».
4- أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

التؤدة ( التأنّي ) يقال ناقة مرسلة ، سهلة المسير ، وإبل مراسيل منبعثة انبعاثاً سهلاً ، ومنه « الرسول » المنبعث ، وتصور منه تارة الرفق فقيل على رسلك ، إذا أمرته بالرفق ، وتارة الانبعاث ، فاشتق منه الرسول.

وقال العسكري في فروقه : أرسلت زيداً إلى عمرو ، ويقتضي أنّك حملته رسالة إليه أو خبراً أو ما أشبه ذلك ... إلى أن قال : والنبوة يغلب عليها الإضافة إلى النبي فيقال نبوة النبي ، لأنّه يستحق منها الصفة التي هي على طريقة الفاعل والرسالة تضاف إلى اللّه لأنّه المرسل بها ، ولهذا قال برسالتي ولم يقل بنبوتي ، والرسالة جملة من البيان يحملها القائم بها ليؤدّيها إلى غيره ، والنبوة تكليف القيام بالرسالة فيجوز إبلاغ الرسالات ، ولا يجوز إبلاغ النبوات (1).

وكلا النصين من الراغب والعسكري ، يهدفان إلى أمر واحد ، وهو أنّ الرسالة نحو سفارة من الغير ، لتنفيذ ما تحمله الشخص من جانب مرسله ، وانّ ما نقل من الفروق من أعلام التفسير وغيره خارج عن جوهرها وصلب معناها ، فإن دلّ عليها فإنّما هو لأمر آخر ، كما سيوافيك بيانه.

الثاني : المفهوم من التدبر في الآيات وما في كلمات أعلام اللغة : انّ النبي هو الإنسان الموحى إليه من اللّه بإحدى الطرق المعروفة ، وأمّا الرسول فهو الإنسان (2) ( أو الأعم ) القائم بالسفارة من جانب شخص سواء أكان هو اللّه أو غيره (3) بإبلاغ قول أو تنفيذ عمل.

وإن شئت قلت : إنّ النبوة منصب معنوي وارتقاء للنفس الإنسانية ،

ص: 370


1- الفروق اللغوية : 222 ، الباب الرابع والعشرون.
2- وما أشبه حال اللفظين : النبي والرسول بلفظي « المجتهد » و « المبلغ ».
3- سيوافيك بيان انّه لا يشترط في صدق الرسول كونه مبعوثاً من جانبه سبحانه ، بل يعم ما لو كان مبعوثاً من شخص عادي ، فانتظر.

تستدعي إمكان الاطّلاع على الغيب بإحدى الطرق المألوفة ، والرسالة سفارة للمرسَل ( بالفتح ) من جانب المرسِل ( بالكسر ) لتنفيذ ما تحمله منه في الخارج ، أو ابلاغه إلى المرسل إليهم.

وإن شئت قلت : النبوة تحمّل الأنباء والأخبار عن اللّه ، والرسالة تحمّل التبشير والإنذار والتبليغ من جانب أي شخص كان سواء أكان هو اللّه أم غيره (1).

وتصديق ذلك يتوقف على إمعان النظر فيما نقلناه عن الأعلام في تفسير مادتي النبوة والرسالة اللتين اشتق منهما لفظا النبي والرسول.

توضيح ذلك : أنّ النبي باعتبار اشتقاقه من النبأ بمعنى الخبر (2) كما عليه جمهور اللغويين عبارة عمّن قام به المبدأ وهو « النبأ » فلا مناص في حالة إطلاق النبي على شخص ، عن اتصافه بمبدئه وقيامه به بنحو من أنحاء القيام فهو - بما أنّه واجد لهذا المبدأ أي الاطلاع على النبأ أو الأنباء عنه - نبي.

ففي أي مورد أُطلقت كلمة النبي في كلامه سبحانه أو جاءت في السنّة واللغة فلا يراد منها إلاّ من خصص بهذه المكانة ، أي مكانة تحمل النبأ وشرف الاتصال باللّه والعلم بما عنده والإيحاء إليه بإحدى الطرق المذكورة في القرآن الكريم ، أعني : سورة الشورى الآية 51.

ولأجل ذلك نراه سبحانه يقرن لفظ الوحي بلفظ النبيين ويقول : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ) (3).

ص: 371


1- مثل قوله : ( فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ) ( يوسف : 50 ).
2- نعم لا كل خبر أو كل نبأ ، بل النبأ من اللّه ولو كان في اللغة موضوعاً للمعنى المطلق ، لكن المصطلح استقر على استعماله في النبأ من اللّه.
3- النساء : 163.

وأمّا قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (1) فانتخاب الرسول دون النبي هو المناسب للوحي إنّما هو لأجل قوله ( أَرْسَلْنَا ) الذي يناسب الرسول كما سيوافيك بيانه ، والآية تهدف إلى أنّ الرسالات كلها كانت قائمة على أساس التوحيد ونفي عبادة غيره تعالى.

والمراد من الرسول في قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ) (2) هو أمين الوحي (3) ، يعني أنّ الرسول ( الروح الأمين ) يوحي إلى ذلك البشر الذي أراد اللّه أن يكلّمه ، بإذنه سبحانه فالرسول في الآية موح لا موحى إليه كما لا يخفى.

وإلى ذلك يشير العلاّمة اللغوي العسكري حيث يقول في فروقه : « والإنباء عن الشيء قد يكون من غير تحمل النبأ ... » فيريد أنّ النبوة متقومة بتحمل الخبر ولا يشترط في صدقها كون النبي مأموراً بإبلاغه إلى الغير (4) بخلاف الرسالة فإنّها متقومة بتلك الحيثية.

وأمّا الرسالة : فحقيقتها عبارة عن القيام ، بإنفاذ عمل أو إبلاغ كلام من جانب الغير سواء أكان هو اللّه سبحانه أم غيره (5) وتحمّل التبشير والإنذار كما نقلناه عن الراغب والعسكري.

ويدل على ذلك أنّ اللّه سبحانه إذا أراد من نبيه تبليغ كلام عنه أو تحقيق عمل في الخارج يخاطبه كثيراً بقوله : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ) لا بلفظ ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ )

ص: 372


1- الأنبياء : 25.
2- الشورى : 51.
3- وإلاّ لكان الأنسب مع قوله : ( فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ) لفظ « النبي » لا « الرسول » كما لا يخفى.
4- نعم دلّت ظواهر الآيات على أنّ كل نبي كان مبعوثاً إلى الناس كما مضى.
5- سيوافيك دليل عمومية الرسالة من جانب المرسل ( بالكسر ) كما سيوافيك دليل عموميتها من جانب نفس المرسل ( بالفتح ).

كقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) (1) وقوله سبحانه : ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ) (2) وهذا صريح في أنّ منصب الرسالة هو منصب التبليغ وتنفيذ أمر المرسل لا منصب نزول الوحي والإنباء عن اللّه مباشرة.

وأوضح منه ، أنّه سبحانه إذا أراد أن يحدّد وظيفة سفرائه ويبيّن لهم أنّهم بعثوا للتبليغ والإبلاغ لا الإكراه والإلزام ، يقول : ( فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا البَلاغُ المُبِينُ ) (3) ، وقوله سبحانه : ( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا البَلاغُ المُبِينُ ) (4) سبحانه : ( فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ ) (5) وقوله سبحانه : ( إِلا بَلاغاً مِنَ اللّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ) (6).

والنتيجة : إنّه إذا تعلّق غرضه سبحانه بالبلاغ بأشكاله المختلفة ، يقرنه بالرسالة دون النبوة ويقول سبحانه : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ ) (7) ، ويقول سبحانه : ( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ ) (8) ويقول أيضاً : ( إِنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَا أُرْسِلْتُ بِهِ ) (9) ، إلى غير ذلك من الآيات.

ص: 373


1- المائدة : 67.
2- مريم : 19.
3- النحل : 35.
4- العنكبوت : 18.
5- التغابن : 12.
6- الجن : 23.
7- الأحزاب : 39.
8- الأعراف : 62.
9- الأحقاف : 23.

ولذلك ترى المسيح علیه السلام لما ادّعى السفارة من اللّه وانّه جاء من عند اللّه لبيان أحكامه ورسالاته خاطب قومه بقوله : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) (1) ولم يقل « إني نبي اللّه ».

من كل ذلك يمكننا أن نستنتج أنّ الرسالة سفارة من المرسل لبيان ما تحمّله ( أي فرد كان ) ونشره بين الناس ، وانّ الحيثية المقومة للرسالة ، أمر يستدعي التبليغ والتنفيذ ، وأمّا النبوة فإنّما هي منصب يستدعي الاتصال باللّه سبحانه والعلم بما عنده من معارف وأحكام ، ولا صلة بين الحيثيتين ، سوى انّ النبوة أساس الرسالة (2) فلا تستقيم رسالة الإنسان من اللّه إلاّ بارتقائه إلى مقام النبوة واتصاله بالمبدأ الأعلى ، فكانت الرسالة من آثار النبوة.

ولكن هذا الأمر لا يجعل اللفظين مترادفين ومشيرين إلى معنى واحد بل كل منهما موضوع لمعنى خاص لا يختلط أحدهما بالآخر.

الثالث : انّ النبي لم يستعمل في القرآن والحديث إلاّ في الإنسان الموحى إليه من اللّه وبما انّ الجهة المقومة للنبوة عبارة عن كونه مطّلعاً على الغيب أو منبئاً عنه ، فإنّه يصير النبي عندئذ عبارة عن الإنسان الموحى إليه من جانب اللّه ، المطلع على الغيب ، أو المنبئ عنه ، فاعتبر فيه قيدان :

1. كونه إنساناً.

2. كونه موحى إليه من جانب اللّه سبحانه ومتحمّلاً النبأ منه عزّ وجل.

وأمّا الرسول فلمّا كانت الجهة المقوّمة لرسالته ، تحمل إنفاذ عمل أو بيان قول من جانب المرسل في إطار التبشير والإنذار أو ما يشبهه فلا يلزم أن يكون إنساناً بل يمكن أن يكون ملكاً أو جنّاً كما لا يلزم أن يكون مبعوثاً من جانب اللّه

ص: 374


1- الصف : 6.
2- المراد : الرسالة من جانب اللّه فلا ينافي ما سيوافيك من التوسع في الرسالة.

سبحانه بل أعم منه ، ومن هنا تجد القرآن يتوسع في استعمال كلمة « الرسول » من ناحيتين :

الأولى : التوسع من ناحية المرسل - بالفتح - حيث أطلقه على الملك المكلّف من قبله تعالى ، بإنفاذ عمل كقوله سبحانه : ( قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ) (1) وقوله سبحانه : ( اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) (2) ، وقوله سبحانه : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) (3) ، وهذا بخلاف النبي فإنّه لا يطلق إلاّ على البشر.

الثانية : التوسع من جانب المرسل - بالكسر - فلا يخصه بالمرسل من ناحيته سبحانه بل يطلقه على مطلق المبعوث من جانب الغير كقوله سبحانه : ( وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ) (4) ولا نفهم من ( الرَّسُولُ ) في الآية إلاّ نفس المعنى الذي نفهمه من قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) (5) وهذا التوسع (6) في لفظ الرسول في ناحيتي المرسل ( بالكسر ) والمرسل من خصائص الرسالة ولا يوجد شيء منه في النبي ، فلا يطلقه القرآن إلاّ على البشر - دون الملك - وعلى الذي يوحى إليه من ناحيته سبحانه دون غيره.

ص: 375


1- هود : 81.
2- الحج : 75.
3- الأنعام : 61.
4- يوسف : 50.
5- المائدة : 67.
6- بل يجري نظير هذا التوسع في لفظ المرسل ، لقوله سبحانه : ( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُرْسَلُونَ ) ( يس : 14 ) ، فقد اتفقت كلمة أكثر المفسرين على أنّ المراد منه في الآية الفرقة المبعوثة من جانب المسيح إلى ابلاغ دينه وقوله سبحانه : ( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ ) ( النمل : 35 ).
نتائج البحث
اشارة

يستنتج ممّا ذكرناه أُمور :

الأوّل
اشارة

إنّ النبوة متقومة بالاتصال باللّه والإنباء عنه ونزول الوحي إلى من يسند إليه منصبها بإحدى الطرق ، وأمّا الرسالة فهي متقوّمة بتحمّل الرسول إبلاغ كلام من المرسل إلى المرسل إليه ، مثل قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) (1) أو تنفيذ أمر في الخارج كما في قوله سبحانه : ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ) (2).

وعلى هذا فكل ما ذكروه في الفروق بين النبي والرسول سواء أصحت أم لا ممّا لا يدل عليه اللفظان بما لهما من المعنى اللغوي ولا هي داخلة في صلب معناهما ولا يدلاّن عليها بإحدى الدلالات الثلاث (3).

فالنبي هو الإنسان المتصل باللّه سبحانه بسبب الإيحاء إليه ، بطرقه المعهودة (4) والرسول الشخص المرسل من جانب المرسل أي فرد كان لتبليغ أمر أو إنفاذ عمل ، فليس في مفهوم الرسول المصطلح ، انّه يوحى إليه ، وانّه منبئ عن اللّه.

وإن شئت قلت : النبي : للإنسان المنبئ عن اللّه سبحانه ، أو المطّلع على

ص: 376


1- المائدة : 67.
2- مريم : 19.
3- دلالة اللفظ على تمام معناه ، دلالة مطابقية ، وعلى جزئه تضمنية ، وعلى لازم معناه التزامية.
4- وهذا هو المفهوم من مرادفه في اللغة الفارسية « پيامبر » أو « پيغمبر ».

الخبر منه سبحانه ، غير مقيد بشيء من هذه الفروق ، كما أنّ الرسول هو الشخص المرسل من جانب أي شخص كان لتنفيذ أمر ، وإبلاغ رسالة ، غير محددة بشيء منها ، ولأجل ذلك فإن انفرد لفظ النبي بالذكر ، ولم يجمع مع لفظ الرسول لا يتبادر منه إلى الذهن إلاّ المنبئ عن اللّه والمطّلع على الغيب فقط.

ومثله لفظ الرسول ، إذا لم ينضم إليه لفظ النبي ، فلا يتبادر منه إلى أذهاننا إلاّ القائم بإبلاغ رسالة أو تنفيذ أمر فقط ، من دون أن يتوجه الذهن إلى أحد هذه الفروق كما لا يتوجه إلى كونه مرسلاً من جانب اللّه ، وعلى هذا فاللفظان مختلفان معنى وأمّا النسبة ، فحيث إنّ القرآن يتوسع في استعمال الرسول ، فيطلقه على الإنسان والملك ، بخلاف النبي فلا يستعمله إلاّ في الإنسان ، بل يتوسع في استعمال الرسول من جانب المرسل ( بالكسر ) فيطلقه على المبعوث لا من جانبه سبحانه ، مثل قوله سبحانه : ( فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ) (1) بخلاف النبي فيختص بالإنسان الموحى إليه من ناحيته سبحانه ، فتكون النسبة هي الأعم والأخص مطلقاً ، فليس كل رسول نبياً ، لما عرفت من التوسع ، وأمّا كون كل نبي رسولاً فلو قلنا بأنّ كل نبي مبعوث إلى تنفيذ رسالة ما يصح ما ذكر من النسبة : فكل نبي رسول ، وليس كل رسول نبياً لما عرفت من التوسع في الجانبين.

وأمّا إذا سلمنا كون بعض النبيّين غير مبعوث إلى تنفيذ رسالة ، فتنقلب النسبة إلى العموم والخصوص من وجه ، فبعض النبيّين ليس برسول ، كما أنّ بعض الرسل كالمبعوث من جانب غيره سبحانه ليس بنبي ، وقد يجتمعان كما في نبينا وغيره من أُولو العزم وغيرهم.

ثم إنّي وقفت بعد ما حرّرت ذلك على كلمات تصرح ببعض ما ذكرناه :

ص: 377


1- يوسف : 50.

1. النبوة تحمّل النبأ من جانب اللّه والرسالة معناها تحمل التبليغ (1).

2. للرسول شرف الوساطة بين اللّه تعالى وعباده ، وللنبي شرف العلم باللّه وبما عنده (2).

3. الرسول هو الذي يحمل رسالة من اللّه إلى الناس ، والنبي هو الذي يحمل نبأ الغيب الذي هو الدين وحقائقه (3).

4. الأقرب انّه لا فرق بينهما من حيث إنّ كلاً منهما ينبئه اللّه بما يريد ، فإذا أنبأه وأمره بالتبليغ أُطلقت عليه كلمة النبي ، لأنّ اللّه تعالى أنبأه ، وكلمة الرسول لأنّه تعالى أمره بالتبليغ (4).

5. الرسول والنبي واحد ، والاختلاف إنما هو بالنظر والاعتبار من حيث إنّه يحمل رسالة اللّه ، يقال له رسول ، ومن حيث إنّه ينبئ بها الذين أُرسل إليهم يقال نبي (5).

والحاصل : انّ ما ذكر من الفروق سواء أصح أم لا فكلّه في مرتبة متأخرة عن حقيقة الرسالة والنبوة غير مأخوذ في صلب معناهما وإنّما يصار إليها لقرائن أُخر.

ويظهر ممّا ذكرناه ضعف ما نقلناه عن بعض الأجلّة : « انّ ما كان من العلوم والحقائق يفاض على الإنسان بواسطة الملك بحيث يشاهده ويكلّمه مشافهة

ص: 378


1- الميزان : 1 / 284.
2- الميزان : 2 / 145.
3- المصدر نفسه : 16 / 345 ، المراد تحديد الرسول المصطلح ، وإلاّ فليس في معناه كونه مبعوثاً من جانبه سبحانه وبذلك يظهر حال أكثر الكلمات.
4- الكاشف : 5 / 340.
5- المصدر نفسه : 7 / 91.

ويقرأ عليه كلام ربّه أو يلقي في روعه يسمّى رسالة ، والإنسان الحامل رسولاً ، وأمّا ما يفاض إليه بغير الطريق المذكور يسمى نبوة والإنسان العالم بهذا الطريق نبياً ».

فانّه ينقض عليه : بأنّ كل ما ذكره ، وإن كان مؤيداً ببعض المأثورات لكنّه خارج عن حقيقة معنى النبوة والرسالة حسب الوضع اللغوي ، ولم يثبت انّ للقرآن اصطلاحاً خاصاً أو حقيقة شرعية في إطلاق اللفظين واستعمالهما ، والظاهر أنّ القرآن جرى في إطلاقه واستعماله مجرى المألوف بين أهل اللسان ، ولم يجئ في المقام باصطلاح خاص.

وعلى ذلك فكل ما ذكروه من الفروق ، من أنّ الرسول هو من نزل عليه كتاب أو أتى بشريعة جديدة ، أو خصوص من كان مأموراً بالتبليغ من اللّه ، أو من يتلقى الوحي عن رسل السماء والملائكة ، وانّ النبي على خلافه ، فلا يشترط فيه نزول الكتاب أو مجيئه بشريعة جديدة ، أو كونه مأموراً بالتبليغ من اللّه أو غير ذلك ، كلّها على فرض صحتها ، خارجة عن صلب معناهما ، إذ لا يدل اللفظان على واحد منها أصلاً.

وبذلك يظهر أنّ الرسول وان كان يجب إطاعته فيما يأمر وينهي ، لقوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (1) أو أنّه وإن كان يتم الحجة على عباده سبحانه ، بحيث تستتبع مخالفته هلاكاً وعذاباً ، لقوله سبحانه : ( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (2) غير انّ ذلك لا يستلزم دخول لزوم الإطاعة وإتمام الحجة في صلب معنى الرسول ، فإنّ وزان قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) وزان قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ

ص: 379


1- النساء : 64.
2- النساء : 165.

بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ ) (1) ، بل كلاهما من لوازم الرسالة الإلهية التي تحملها الرسل ، فإنّ الهدف الأسمى من إرسال الرسل ، قطع العذر على الناس ، وإتمام الحجة عليهم ، وعند ذاك يجب على الناس إطاعتهم فيما يأمرون وينهون من جانبه سبحانه.

ولعل إلى ذلك يشير سيدنا الأستاذ بقوله : « إنّ النبي والرسول كلاهما مرسلان إلى الناس ، غير انّ النبي بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيراً بما عند اللّه ، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبأ النبوة ، كما يشعر به أمثال قوله تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) (2) وقوله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (3).

وعلى هذا فالنبي هو الذي يبيّن للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أُصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية اللّه من هداية الناس إلى سعادتهم ، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكاً أو عذاباً أو نحو ذلك قال تعالى : ( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (4) ، ولا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظهما بحسب المفهوم ، ولازمه هو الذي أشرنا إليه من أنّ للرسول شرف الوساطة بين اللّه تعالى وبين عباده ، وللنبي صلی اللّه علیه و آله شرف العلم باللّه وبما عنده » (5).

ص: 380


1- الرعد : 38.
2- يونس : 47.
3- الإسراء : 15.
4- النساء : 164.
5- الميزان : 2 / 143 وقد عرضنا آراءه المختلفة في ما سبق.
نعم بقي هنا سؤال

وهو انّه إذا سلمنا انّ النبي والرسول لا يقصد منهما أزيد مما يفيده لفظهما بحسب المفهوم ولا فرق بينهما إلاّ في المعنى الجوهري الذي يدلاّن عليه ، وانّ ما ذكر من الفروق كلها خارج عن صلب المعنى وما وضع له اللفظ ، فكيف نفسر قوله سبحانه : ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (1) وقوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (2) ؟

الجواب

إنّ مفاد هذه الآيات على ما حقّقناه واضح ، أمّا فيما إذا وقعا وصفين لشخص واحد مثل قوله سبحانه : ( وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (3) وقوله سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ) (4) فالمراد الدلالة على أنّه واجد لكلا المنصبين ، ومتصف بكلتا الحيثيتين إذ للفرد الموحى إليه ، المبعوث من اللّه سبحانه لإبلاغ أحكامه ، شؤون ومناصب أو صفات وحالات ، فبما انّه يوحى إليه وله اتصال بالمبدأ الأعلى ومطلع على الغيب أو منبئ عنه فهو نبي ، وبما أنّه يتحمل رسالة من اللّه تعالى ويتم حجته على العباد ، ويجب عليه إرشاد الناس وإنذارهم ، فهو رسول ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (5).

ص: 381


1- مريم : 54.
2- الحج : 52.
3- مريم : 54.
4- الأعراف : 157.
5- النساء : 165.

وأمّا إذا استعملا على وجه يشيران إلى طائفة مثل قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (1) فإنّ الظاهر انّ كل واحد من اللفظين يشير إلى طائفة وجماعة واحدة ولا يدل على تعدد الطائفتين مصداقاً ، وانّ الموصوف بالنبوة غير الموصوف بالرسالة حسب الوجود ، بل يمكن أن يكون اللفظان بما لهما من المعنى حاكيين عن جماعة واحدة لهم شأن النبوة والرسالة ، فيصير هدف الآية : انّا ما أرسلنا أحداً من هذه العصابة إلاّ إذا تمنّى ألقى الشيطان في أُمنيته ، غير انّه طلباً لجلية الحال وتوخياً في استيعاب كل واحد منهم بلا استثناء ، وانّ الحكم يعم رسولهم ونبيّهم عطف أحدهما على الآخر ، طلباً لشمول الحكم لهم جميعاً ، وانّ بلوغهم مرتبة النبوة والرسالة ، ما منعهم عن هذه الهواجس.

وان أبيت إلاّ عن ظهور الآية في تعدّد الطائفتين وجوداً ومصداقاً وانّ هنا مجموعتين : أنبياء ورسلاً ويفترق بعضها عن بعضها فعندئذ نقول : قصارى ما يمكن أن يقال انّ كل واحد من اللفظين إذا انفرد بالذكر ، لا يدل إلاّ على المعنى الذي أشرنا إليه ، من دون دلالة على أحد من هذه الفروق ، ومن دون أن نلتزم بالتفرقة بينهما بواحد من هذه الفروق ، مثلاً إذا قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (2) فلا يقصد من لفظ النبي ، إلاّ كونه المطّلع على الغيب والمنبئ عنه من دون أن يشير إلى واحد من هذه الفروق.

وإذا قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) لا يقصد منه إلاّ صاحب الرسالة والمبعوث إلى الناس لإبلاغ كلام ، أو تنفيذ عمل من دون أن يدل على كونه ذا كتاب ، أو شريعة جديدة ، أو معايناً للملك ، وآخذاً منه

ص: 382


1- الحج : 52.
2- الأحزاب : 45.

الوحي ، فإنّ واحداً من هذه المعاني لا يخطر ببال أي عربي عند سماع هذين اللفظين.

نعم إذا اجتمعا في الذكر ، وأشارا إلى طائفتين مثل قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) ، فالاعتراف بظهور الآية فيما ادّعاه القائل من دلالة اللفظين على أنّ هنا طائفتين ، مختلفتين ، لكل منهما صفة وخاصية ، يدفعنا إلى إبداء الفرق بينهما بأحد من الوجوه المذكورة في كلمات القوم مضافاً إلى ما يفيده لفظهما فيكون وزان النبي والرسول وزان الظرف والجار والمجرور والفقير والمسكين ، « إذا افترقا اجتمعا ، وإذا اجتمعا افترقا » وقد عرفت حال الوجوه السالفة ، وأقربها إلى الاعتبار هو الوجه الرابع المؤيد ببعض الروايات.

الثاني : منصب النبوة أسمى من مقام الرسالة

انّ منصب النبوّة أسمى من مقام الرسالة ، والنبي بما هو نبي ، أشرف من الرسول بما هو رسول ، لما عرفت انّ الحيثية المقومة للنبوة ، هي الاتصال باللّه واستعداد النفس لوعي ما ينزل به الوحي من المبدأ الأعلى ، والحيثية المقومة للرسالة هي تحمل تنفيذ عمل أو ابلاغ قول من المرسل ، وأين شرف الاتصال باللّه والمبدأ الأعلى من شرف تحقيق عمل في الخارج أو إبلاغ كلام عن شخص إلى الغير ؟

وقد عرفت أنّ النبي لم يستعمل في القرآن إلاّ في الإنسان الموحى إليه ، المبعوث من ناحيته سبحانه إلى الناس ، وأمّا الرسول فقد توسع فيه القرآن ولا يختص بالإنسان الموحى إليه من اللّه ، بل يستعمل في الأعم.

وبذلك يمكن أن يقال : إنّ النبي في مصطلح القرآن أفضل من مطلق الرسول ، فإنّ في توصيف الشخص بكونه نبياً يدل على كونه قد احتل مكانة مرموقة ، وليس كذلك عند وصفه بكونه رسولاً ، إذ يحتمل أن يكون نبياً مرسلاً من

ص: 383

جانب اللّه أو من جانب نبيه ، أو شخص ثالث ولا يتأتى مثل هذا الاحتمال في النبي وبذلك يعلم سر إطراء عدة من الأنبياء بالرسالة أوّلاً وبالنبوة ثانياً ، قال سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ) (1) ويقول سبحانه : ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (2) وقال عز اسمه : ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا ) (3) ، وقال عزّ من قائل : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (4).

ترى أنّه سبحانه عندما أراد إطراء نبي من الأنبياء وتوصيفه بما فيه من الصفات ، يصفه أوّلاً بكونه رسولاً ثم يردفه بكونه نبياً ، وما ذاك إلاّ لما أوضحناه من سمو مقام النبي وكرامته على مطلق الرسول وأحقيته منه عند الإطلاق ، فلو كان الأمر على ما اشتهر بين الناس من أحقية الرسول وأفضليته ، لما صحّ له سبحانه أن يترقى من الوصف العالي إلى ما هو أنزل منه ، خصوصاً إذا كان في مقام الإطراء والمدح ، كما هو الحال في الآيات كلّها غير الرابعة.

الثالث : النبوة أساس رسالة الإنسان من اللّه

النبوة أساس رسالة الإنسان من اللّه سبحانه ، إذ رسالة الإنسان من جانب اللّه سبحانه لإبلاغ أمره أو زجره لا تتحقّق إلاّ باتصاف الرسول بالنبوة وارتقاء نفس النبي إلى حد يقدر معه على وعي الوحي ، ويصبح به جديراً بنزول كلام الرب عليه ، إذ الرسول الذي أمرنا اللّه بوجوب اتباعه واقتفائه ، وحرمة التخلف

ص: 384


1- الأعراف : 157.
2- مريم : 54.
3- مريم : 51.
4- الحج : 52.

عن أمره ونهيه ، كما هو صريح قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (1) هو المبعوث من جانب اللّه ، المبلّغ عنه أحكامه ودساتيره ، المؤدي عنه سبحانه كل ما يقوله ، من صغير وجليل ، ولا يصير الإنسان مؤدياً عنه سبحانه إلاّ إذا استمسك بباب الوحي واعتصم به واستند إليه في قوله ونقله وإبلاغه واتصف بالتنبّؤ به (2).

الرابع

قد تبين في الأمر المتقدم ، انّ القسم الخاص من الرسول (3) أعني : الإنسان المبعوث من جانب اللّه سبحانه ، هو نفس النبي مصدقاً وانّ النسبة بينهما من حيث المصداق هي التساوي ، وعلى ذلك فلا فرق بين أن تقول : « محمد رسول اللّه وخاتم النبيين » أو تقول : « وخاتم الرسل » للتلازم بين الأمرين ، من حيث المصداق ، فلو فرض أنّه أوصد باب النبوة وختم نزول الوحي إلى أي إنسان ( كما تشير إليه مادة النبأ والنبوة ) فعند ذاك يختتم باب الرسالة الإلهية أيضاً بلا ريب وتردّد ، لأنّها تحقيق ما تحمّله النبي من جانب اللّه عن طريق الوحي ، فإذا انقطع الوحي ، والاتصال بالمبدأ الأعلى والاطلاع على ما عنده سبحانه ، فعند ذاك ، فقد أحد أركان الرسالة ، أو ركنها الركين ، أي التبليغ من جانب اللّه مستنداً إلى الوحي

ص: 385


1- النساء : 64.
2- ويدل على ذلك ما استفاض نقله عن الصادقين علیهماالسلام : « إنّ اللّه تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبياً وانّ اللّه تعالى اتّخذه نبياً قبل أن يتّخذه رسولاً ، وانّ اللّه اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً ، وانّ اللّه تعالى اتّخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً ». ( الكافي : باب طبقات الأنبياء والرسل : 94 ).
3- قد عرفت أنّ الرسول في القرآن هو صاحب الرسالة سواء تحملها من اللّه ، أو من جانب نبيّه أو من جانب شخص عادي ، ولأجل ذلك خصصنا الكلام بالقسم الخاص.

فتصير الرسالة عندئذ منتفية بانتفاء موضوعها.

فإذا كان محمد صلی اللّه علیه و آله خاتماً للنبيّين ، أي مختوماً به الوحي والاتصال فهو خاتم الرسل والمرسلين (1) طبعاً ، لأنّ رسالة الإنسان من جانب اللّه سبحانه ، عبارة عنبيان وإبلاغ ما أخذه منه عن طريق الوحي ، فلا تستقيم رسالة أي إنسان منجانبه سبحانه ، إذا انقطع الوحي والاتصال به تعالى ، ولا يقدر أن يتقول أي ابن أُنثى بالرسالة من ناحيته عز وجل ، إذا كانت النبوة موصدة باعترافه.

وبذلك يعلم أنّ كلا اللفظين ( « خاتم النبيين » و « خاتم الرسل ) » وإن كانا مفيدين لمعنى واحد ، إلاّ أنّ اختيار الأوّل على الثاني لأجل أنّ النبوة أساس للرسالة من جانب اللّه ، حيث إنّه يجب أن يعتمد الرسول في إبلاغه وإنذاره وإرشاده ، على الوحي والاتصال باللّه سبحانه ، ولا يفيده إلاّ لفظ النبي دون غيره ، فإذا أصحر المتكلم بإنهاء الوحي وانقطاعه من السماء إلى الأرض إلى يوم القيامة وقال « إنّه خاتم النبيين » أي انّه آخر من يوحى إليه ، وانّه لن يوحى من بعده إلى أحد يلزم منه ختم باب الرسالة الخاصة بطريق أولى ، ويكون من باب إفادة المقصد ببيّنة وبرهان ، كما لا يخفى (2) وأمّا ختم الرسالات الأُخر ، كرسالة الملك من اللّه سبحانه فلا صلة له بالبحث ، سواء أكان بابها مفتوحاً أو موصداً ، وأمّا الرسالة من جانب النبي والرسول ، فلا نبي بعده ، حتى يكون لهذا النبي ، رسول وأمّا الرسالة من

ص: 386


1- المراد ، القسم الخاص من الرسالة ، لا الرسالة من جانب النبي ولا من جانب الشخص العادي.
2- قال العلاّمة الطباطبائي - دام ظلّه - بعد ما اختار في معنى الرسالة والنبوة ما أوضحنا ، وأقمنا برهانه - ما هذا لفظه : ولازم ذلك أن ترتفع الرسالة بارتفاع النبوة ، فإنّ الرسالة من أنباء الغيب فإذا انقطعت الأنباء ، انقطعت الرسالة. الميزان : 16 / 346.

ناحية فرد عادي ، فهو خارج عن المقصود.

هذا ما أوصلنا إليه التدبر في آيات الذكر الحكيم وكلمات الفطاحل الأعلام ، ونردف المقام بالبحث عن الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

ص: 387

بحث وتنقيب

اشارة

قد اضطربت الروايات المروية عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام ، حول تفسير الرسول والنبي ، اضطراباً يعسر إرجاعها إلى أمر واحد إلاّ بإمعان وتدبّر عميق ، وتلك المأثورات على أقسام ننقلها تحت أقسام ، حتى تسهل الإشارة إليها :

الأوّل : ما يسوق منصبي النبوة والرسالة إلى أربع درجات ولا يفرّق بينهما قيد شعرة :

أخرج الكليني عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن أبي يحيى الواسطي (1) ، عن هشام بن سالم ودرست بن أبي منصور عنه قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات (2) فنبي منبئ في نفسه لا يعدو غيرها ، ونبييرى في المنام ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث إلى أحد ، وعليه امام ، مثل ما كان إبراهيم على لوط (3) ، ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت

ص: 388


1- قال الغضائري : حديثه يعرف تارة وينكر أُخرى ، ويجوز أن يخرج شاهداً ، وقد استثنى ابن الوليد وابن نوح وابن بابويه من روايات « محمد بن أحمد بن يحيى » ما رواه عن « أبي يحيى الواسطي » وقرّره الشيخ في فهرسته والنجاشي في رجاله. راجع قاموس الرجال : 5 / 43.
2- ويحتمل أن يكون المراد ، انقسام مجموع الصنفين إلى أربعة ، لا كل واحد ، وعندئذ يخرج الحديث عن الدلالة على هذا القسم.
3- الظاهر من التمثيل ب « لوط » من جهة انّ عليه إماماً ، لا من جهة انّه لا يعاينه حتى ينافي قوله سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ) ( هود : 77 ) ولا من جهة انّه لم يبعث إلى أحد حتى ينافي قوله تعالى : ( وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ المُرْسَلِينَ ) ( الصافات : 133 ).

ويعاين الملك ، وقد أُرسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا ، كيونس ، قال اللّه تعالى : ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) (1) ( قال : يزيدون ثلاثين ألفاً ) وعليه إمام ، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين ( الملك ) في اليقظة وهو إمام مثل أُولي العزم (2) ، وقد كان إبراهيم نبياً وليس بإمام حتى قال اللّه : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً » (3).

والرواية مع قطع النظر عمّا تحتاج إليه من توجيه ، كما أشرنا إليه في التعليقة ، تخالف ما استظهرناه من الآيات من كون كل نبي مبعوثاً إلى الناس ، وانّه ليس لنا نبي لا يعدو نفسه ، كما هو نص الرواية ، إلاّ على بعض الوجوه ، كما هو الحال في بدء الوحي وقبل الأمر بالإنذار ، ولكنّه يؤيد ما أوضحناه من كونه النسبة بين الرسول (4) والنبي هي المساواة حسب المصداق.

وأمّا ما أخرجه الكليني بسند موثق عن ابن أبي يعفور ، قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « سادة النبيين والمرسلين خمسة وهم أُولو العزم من الرسل ، وعليهم دارت الرحى : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلی اللّه علیه و آله ». (5) فليس من أحاديث هذا الباب ، بل غايته انّ هناك نبياً ومرسلاً ، وأمّا تساوي النبوة والرسالة ، والنبي والرسول فلا يستفاد منه أصلاً.

ص: 389


1- الصافّات : 147.
2- قد حدّد أولو العزم بقيود أربعة : من رؤية في المنام ، وسماع صوت الملك ، ومشاهدته ، وهو إمام.
3- الكافي : 1 / 174 ، 175 ، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمّة.
4- المراد الرسالة من اللّه فلا تغفل.
5- الكافي : 1 / 84 ، باب طبقات الأنبياء والرسل.

الثاني : ما يخصص النبوة بتجلّي اللّه لنبيه في اليقظة ، ولا يطلقها على غيره من مراتب الوحي (1).

روى الصدوق عن زرارة قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام جعلت فداك : الغشية التي تصيب رسول اللّه إذا أُنزل عليه الوحي ؟ فقال : « ذلك إذا لم يكن بينه وبين اللّه أحد ، ذاك إذا تجلّى اللّه له » ، قال : ثم قال : « تلك النبوة يا زرارة » وأقبل يتخشع (2).

ويمكن توجيهه بحملها على الدرجة الكاملة من النبوة ، وإن كانت النبوة غير منحصرة في هذا القسم ، كما ينبئ عنه قوله علیه السلام تلك النبوة ، فلا ينافي ما أوضحناه.

وأمّا حديث الغشية ، فقد أوضحه الإمام في رواية أُخرى بقوله : « إنّ جبريل إذا أتى النبي لم يدخل عليه حتى يستأذنه ، فإذا دخل عليه قعد بين يديه قعدة العبد ، وإنّما ذلك عند مخاطبة اللّه عزّ وجلّ إياه بغير ترجمان وواسطة » (3).

الثالث : ما يظهر منه اختصاص النبوة بالإيحاء في المنام ، والرسالة بمعاينة الملك (4).

ص: 390


1- وقد نقله قولاً في مجمع البحرين مادة « نبأ ».
2- التوحيد : 115 ، طبعة مكتبة الصدوق.
3- راجع البحار : 18 / 102.
4- الظاهر انّ المراد من الملك في هاتيك الروايات هو جبرئيل ، ولو كان مطلق من كلّمه الملك أو رآه رسولاً ، يلزم أن تكون سارة زوجة إبراهيم ومريم بنت عمران رسولتين ، بل كل من كلّمه الملكان ببابل ، رسولاً ، وعند ذلك يمكن أن يقال : إنّ المراد من الملك فيها هو جبرئيل وله بين الملائكة شأن عظيم وهو رسول كريم ، ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين. وقد جعل المجلسي في «مرآة العقول»: 134/1 هذا المعنی أحد الاحتمالات.

أخرج الكليني عن أحمد بن محمد (1) ومحمد بن يحيى (2) عن محمد بن الحسين (3) ، عن علي بن حسان (4) عن ابن فضال (5) عن علي بن يعقوب الهاشمي (6) ، عن مروان بن مسلم (7) عن بريد (8) عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه علیهماالسلام في قوله عزّ وجل : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث ) قلت : جعلت فداك : ليست هذه قراءتنا ، فما الرسول والنبي والمحدّث ؟ قال : « الرسول الذي يظهر له الملك فيكلّمه ، والنبي هو الذي يرى في منامه وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد ، والمحدّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة » قلت : أصلحك اللّه كيف يعلم إنّ الذي رأى في النوم حق وانّه الملك ؟ قال : « يوفق لذلك حتى يعرفه ، لقد ختم اللّه بكتابكم الكتب وختم بنبيكم الأنبياء » (9).

الرابع : ما يظهر منه انّ للنبي شأنين ( الإيحاء إليه في المنام وسماع صوت

ص: 391


1- ولعلّه العاصمي كما احتمله المجلسي في مرآته ، وليس المراد أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ، لأنّ الكليني لا يروي عنه إلاّ بواسطة.
2- العطار القمي.
3- محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، وهو ثقة جليل.
4- علي بن حسان الواسطي ، لا الهاشمي ، لأنّه لا يروي إلاّ عن العمش وهو ثقة جليل.
5- أي الحسن بن الفضال ، لا ابناه : علي بن الحسن ، وأحمد بن الحسن ، وهو إمامي ثقة ، وكان فطحياً ولكنه استبصر.
6- لم يعنون في كتب الرجال ، والظاهر من متن الحديث انّه كان إمامياً ، ولو كان مطعوناً ، لذكر في كتب الرجال.
7- ثقة جليل.
8- العجلي ثقة جليل عديل زرارة ومحمد بن مسلم ، فالخبر وإن لم يكن صحيحاً اصطلاحاً إلاّ أنّه حجة ومعتبر.
9- الكافي : 1 / 85 ، باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث.

الملك بلا معاينة ، وللرسول شؤون ثلاثة وهي هذان الأمران مضافاً إلى معاينة الملك ) :

1. أخرج الكليني عن عدة (1) من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد (2) عن أحمد بن محمد بن أبي نصر (3) عن ثعلبة بن ميمون (4) عن زرارة ، (5) قال : سألت أبا جعفر عن قول اللّه عز وجل : ( وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) ما الرسول وما النبي ؟ قال : « النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك ، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك » ، قلت : الإمام ما منزلته ؟ قال : « يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين » ، ثم تلا هذه الآية : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) (6) ( ولا محدث ).

2. أخرج الكليني عن محمد بن يحيى ، (7) عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن الأحول ، (8) قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الرسول والنبي والمحدّث ؟ قال : « الرسول هو الذي يأتيه جبرئيل قبلا ، فيراه ويكلّمه

ص: 392


1- العدة التي يروي الكليني بواسطتهم عن أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري عبارة عن : محمد بن يحيى العطار ، داود بن كورة ، أحمد بن إدريس ، علي بن إبراهيم ، وعلي بن موسى الكمنداني ، صرّح بذلك النجاشي في ترجمة أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ، والعلاّمة الحلي في خاتمة خلاصته ، نعم عدّ صاحب الوسائل « محمد بن موسى » مكان « علي بن موسى الكمنداني » وهو من هفوات قلمه الشريف قدس اللّه سره.
2- أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ، من أجلاّء أصحابنا القميين ، ثقة ، فقيه.
3- البزنطي من أصحاب الرضا والجواد علیهماالسلام ، ثقة جليل.
4- أحد فقهاء الطائفة الأجلاّء.
5- أمره في الفقاهة والجلالة غني عن البيان ، فالرواية صحيحة ، رجالها كلّهم ثقات.
6- الحج : 52.
7- محمد بن يحيى العطار ، ثقة جليل.
8- مؤمن الطاق ، محمد بن علي بن النعمان ، ثقة جليل ، فالحديث صحيح ، رجاله كلهم ثقات.

فهذا الرسول » (1).

وأمّا النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم علیه السلام ونحو ما كان رأى رسول اللّه من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل من عند اللّه بالرسالة ، وكان محمد صلی اللّه علیه و آله حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند اللّه يجيئه جبرئيل ويكلّمه بها قبلاً ومن الأنبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلّمه ويحدّثه ، من غير أن يكون يرى في اليقظة وأمّا المحدث فهو الذي يحدث ، فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه (2).

أقول : أثبت الحديث في صدره للنبي أمراً واحداً وهو انّه يرى في منامه ، لكنه استدركه في ذيله وأثبت له أمرين ، وهو انّه يرى في منامه ويسمع صوت الملك ولا يراه في اليقظة ، ولعل تعريف النبي بالرؤية في المنام ، للإيعاز إلى أقل ما تتحقق به النبوة ، مثل ما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يرى من أسباب النبوة قبل الوحي.

أضف إليه انّ ما أثبته ذاك الحديث للإمام من سماع صوت الملك بلا معاينة ولا رؤية في المنام ، أثبته الحديث السابق للإمام.

ثم إنّ رفع الاختلاف بين القسمين ( الثالث والرابع ) سهل ، فإنّ القسم الثالث وان أثبت للنبي شأناً واحداً وأثبت ذاك شأنين إلاّ إنّ الرابع يقدّم على الثالث ، لأنّه تعرض لأمر لم يتعرّض له الآخر ، والمثبت مقدم على الساكت ولا

ص: 393


1- لما كانت الوظيفة المحولة على الرسول أشد وأشق من النبي غير الرسول ، وبما انّه في إبلاغ رسالاته مضطر إلى ملابسة الناس وأحوالهم من جميع المشارب والأذواق والعقليات المختلفة ، وهو معرض لصنوف ثقيلة من الأذى والسخرية والجدال والمشاحنة ، اقتضى ذلك ، اختصاص الرسول بالمعاينة ، إذ هو عند ذاك في حاجة إلى تقوية روحه وتثبيت جناحه وتشجيعه على التحمل والصبر ومعاينة الملك ، وربما تزود العاين بكل هذه الأسلحة الروحية لمواجهة هذه المواقف الصعبة ، ولأجله قال علیه السلام : الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً فيراه ويكلمه.
2- الكافي : 1 / 176 ، باب الفرق بين النبي والرسول والمحدّث.

يعدان متعارضين ، أضف إلى ذلك إنّ كثيراً منها ليست في مقام التحديد ، بل في مقام انّ النبوة تتحقق بالرؤية في المنام ، أو برؤية الملك في اليقظة بلا تكلم معه ، فما يثبت للنبي شأنين ، لا صراحة فيه ، في اجتماعهما معاً ، كما يستفاد ذلك أيضاً ، من رواية « المعروفي » الآتية.

الخامس : ما يظهر منه انّ النبي يعاين الملك ولا يسمع كلامه حين المعاينة بخلاف الرسول فإنّه يعاينه حين التكلم :

أخرج الكليني عن علي بن إبراهيم (1) عن أبيه (2) عن إسماعيل بن مرار (3) ، قال كتب المعروفي إلى الرضا علیه السلام جعلت فداك : أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام ؟ قال : « إنّ الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه ، وربّما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ، والنبي ربّما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع ، والإمام الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص » (4).

وظاهره انّ النبي يعاين الملك وان لم يسمع كلامه ، وهذا مخالف لما أوردناه في القسمين الماضيين ( الثالث والرابع ) خصوصاً الأخير ، فإنّ صريحه انّ النبي لا يعاين الملك. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ المنفي عنه فيهما معاينته مع سماع كلامه ، والثابت له في هذا القسم هو المعاينة مع عدم سماع كلامه ، ولم يظهر من القسمين سلبهما عن النبي.

ص: 394


1- ثقة جليل.
2- إمامي ممدوح.
3- يروي عن يونس بن عبد الرحمان ، قال ابن الوليد : كل ما روي عن يونس صحيح ، غير ما انفرد به العبيدي ، وهذه الجملة من خرّيت الفن توثيق له على وجه العام ، فالحديث وان لم يكن صحيحاً لكنه معتبر.
4- الكافي : 1 / 176 ، باب الفرق بين النبي والرسول.

إلى هنا تم ما أورده الكليني في هذا الباب ، واتضح عدم الفرق الجوهري بين الروايات التي نقلناها في القسم الثالث والرابع والخامس وان مآل الجميع واحد.

السادس : ما يظهر منه انّ عدد المرسلين لا يعدو عن ثلاثمائة وثلاثة عشر والنبيين أكثر من المرسلين بكثير :

روى الفريقان عن أبي ذر ، انّه سأل النبي صلی اللّه علیه و آله قال : قلت يا رسول اللّه كم النبيّون ؟ قال : « مائة وأربعة وعشرون ألف نبي » ، قلت : كم المرسلون ؟ قال : « ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً » (1).

القضاء بين هذه المأثورات

هذه المأثورات عن أهل البيت بين صحاح وحسان ولا منتدح للباحث عن التعرض لها وتوضيح مضامينها ، فنقول :

أمّا القسم الأوّل والثاني فلا يخالف ما احتملناه من أنّ الرسول (2) والنبي متساويان في الصدق وإن لم يكونا مترادفين ، فإنّ القسم الأوّل يسوق النبيين والمرسلين معاً إلى أربع طبقات من دون أن يفرّق بينهما قدر شعرة ، وأمّا على القول بكون النبي أعم - كما هو الحال في النبي الأعظم في بدء الوحي - فلا بد من توجيه الرواية على وجه لا يخالفه ، كما قلنا ، من أنّ كلاً من اللفظين يشير إلى جهة خاصة هي مدلولهما الوضعي على ما أوضحناه.

ص: 395


1- بحار الأنوار : 11 / 32 من الطبعة الحديثة.
2- المراد من الرسول : الرسول من جانب اللّه سبحانه ، لا مطلق الرسول ، وقد عرفت أنّ القرآن يتوسع في إطلاق الرسول إلاّ أنّ البحث في هذه الروايات إنّما هو عن الرسول الخاص الدائر في الألسن ، لا مطلق الرسول.

وأمّا القسم الثاني فهو وان كان يخص النبوة بتجلّي الرب له ، إلاّ أنّ ذلك من باب إطلاق الكلي على الفرد الكامل ، كما في قوله سبحانه : ( ذَلِكَ الكِتَابُ ) .

وأمّا القسم السادس فلم يثبت عندنا بسند صحيح يؤخذ به.

بقي القسم الثالث والرابع والخامس : وقد أرجعناها إلى أمر واحد وهو « انّ النبي من يوحى إليه في المنام ، وربما يسمع بلا معاينة ، وربّما عاين بلا تكلم ، وأمّا الرسول فهو حائز لعامة المراتب ، يوحى إليه في المنام ويسمع الصوت بلا معانية ، وربّما يراه ويسمع صوته ، فالرسول هو النبي الذي استكملت نفسه حتى استعد لمشاهدة رسول ربه (1).

فيجب عند ذلك ملاحظة هذا القسم من الروايات :

فنقول : إنّ تلك المأثورات الواردة في الأقسام الثلاثة تهدف إلى أمر واحد ، وهو انّ النبي أعم من الرسول ، ولا يشترط فيه إلاّ أقل مراتب الاتصال باللّه ، بخلاف الرسول ، فهو النبي الذي وصل إلى مكانة مرموقة يقدر معها على معاينة الملك ووعي الوحي عنه. ويترتب على ذلك أُمور :

1. النبي أعم من الرسول ، وهو أخص منه.

2. الرسول أشرف من النبي.

3. ختم النبوة يستدعي ختم الرسالة ، فانّ الاختلاف بين المنصبين حسب تنصيص الروايات من قبيل اختلاف درجات حقيقة واحدة ، فلا ينال بالدرجة الكاملة ، إلاّ إذا نيل بالناقصة منها ، كما هو الحال في الدرجات العلمية ، كشهادة الدكتوراه والليسانس.

فلو أوصد باب الكلية بوجوه المتخرجين من الثانوية ، فلا يعقل أن يكون

ص: 396


1- كما هو ظاهر الحديث الأوّل من القسم الرابع.

قسم الدكتوراه مفتوحاً عليهم ، فإنّ الطالب إنّما يتم دراسة الكلية وما بعدها واحداً بعد واحد.

وهذا الأمر الثالث مما أصفقنا عليه سواء أقلنا بما في الروايات ، أم قلنا بما استظهرناه من الآيات من كون الرسول أعم من النبي ، والرسول المصطلح يساوق النبي صدقاً ، وان لم يكونا مترادفين.

وأمّا الأمر الأوّل فتمكن الموافقة معه ، فالنبي يمكن أن يكون أعم من الرسول ، أمّا لأنّ النبي ربّما لا يكون رسولاً في بعض الأحوال ، كما هو الحال في بدء الوحي ، وأمّا لما ذكر في هذه الروايات من أنّ الرسول يسمع كلامه مع معاينته في حال التكلم ، بخلاف النبي.

وأمّا الأمر الثاني فالتصافق معه مشكل ، إذ لو كان الرسول أشرف من النبي فلماذا أخّر النبي وقدم الرسول في كثير من الآيات مع كونها في مقام الإطراء ، فهل يصح التدرج من الكامل إلى الناقص ؟ وقد قدمنا الآيات فلاحظ ، ومنه يظهر الإشكال في أخصية الرسول على الوجه المذكور في الروايات ، فإنّ لازمه التدرّج من الكامل إلى الناقص.

المحدَّث في السنّة

قد وقفت على الفرق بين الرسول والنبي كما وقفت على المراد منهما في الكتاب والسنّة ، وبقي هنا بحث وهو : ما هو معنى المحدَّث ؟ فنقول :

اتفق أهل الحديث على أنّ في الأمّة الإسلامية أُناساً تكلّمهم الملائكة بلا نبوة ولا رؤية صورة ، أو يلهمون ويلقى في روعهم شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة ، من المبدأ الأعلى أو ينكت لهم في قلوبهم من حقائق تخفى على غيرهم أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن يراد منه.

ص: 397

وقد ورد هذا المعنى في الكتب الحديثية من الفريقين.

روى البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب ج 2 ص 194 ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر ». وعند القوم أحاديث في هذا الصدد وفي ما ذكرناه كفاية.

وأخرج الكليني عن الأحول قال : سألت أبا جعفر عن الرسول والنبي والمحدَّث ؟ فقال : « ... وأمّا المحدَّث فهو الذي يحدَّث ولا يعاين ولا يرى في منامه ».

وفي حديث آخر عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه علیه السلام : قالا : « المحدَّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة » (1).

وقد روي عن ابن عباس انّه كان يقرأ : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) - ولا محدَّث - (2).

وليس المراد هو سقوط تلك اللفظة من الذكر الحكيم ، فإنّ ابن عباس أجل من أن ينسب إليه التحريف ، وعلى كل تقدير فالقول بوجود المحدَّث بين الأمّة الإسلامية مما أطبقت عليه الروايات.

ص: 398


1- الكافي : 1 / 176 - 177.
2- إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : 6 / 99.

فهرس المواضيع

مقدمة الكتاب ... 5

كلمة العلامة الحجّة المحقق السيد مرتضى العسكري ... 7

رسالة العلامة الحجّة الشيخ سلمان الخاقاني ... 9

خطاب العلامة الحجة الحكيم المتأله الشيخ حسن الآملي ... 11

مقدمة المؤلف : الإيمان بالغيب في الكتاب العزيز ... 13

أثر الحضارة المادية الحديثة على أفكار بعض المفكرين المسلمين ... 14

مناقشة آراء صاحب المنار في تفسير آيات من سورة البقرة ... 15

أجر الرسالة المحمدية في القرآن الكريم

شعار الأنبياء في طريق دعوتهم هو ( ما أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ ) وفيه مقامات ... 31

المقام الأوّل : ما هو المراد من ( المَؤدَّةَ فِي القُربى ) ؟ ... 36

ص: 399

ماذا فهم الأوائل من ( المَؤدَّةَ فِي القُربَى ) ؟ ... 38

أسئلة وأجوبتها ... 42

السؤال الأوّل : لو أراد اللّه من الآية مودة القربى لقال : إلا مودة أقربائه ، أو المودة للقربى ؟ 42

السؤال الثاني : إن تفسير الآية بمودة أهل البيت غفلة لأن الآية وردت في سورة مكية ... ؟ 43

السؤال الثالث : إن المحبة حالة قلبية غير اختيارية ؟ ... 50

السؤال الرابع : كيف يأمر الرسول بمودة أقربائه مع أنا نجد في صفوفهم من عادى اللّه ورسوله ؟ 54

المقام الثاني : التأليف بين هذه الآية والآيات الأُخر ... 56

المقام الثالث : كيف يعود نفع المودّة إلى الناس ؟ ... 64

المقام الرابع : المودّة في القربى نفس اتخاذ السبيل إلى اللّه ... 67

وجه الجمع بين الأجرين الظاهريين ... 69

المقام الخامس : مناقشة الاحتمالات الواردة حول آية المودَّة ... 72

المقام السادس : في سرد الأحاديث الواردة حول الآية ... 81

معاجز النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وكراماته

النبي الأكرم ومعاجزه وكراماته ... 89

ص: 400

المحاسبة العقلية تفند مزعمة القساوسة ... 92

القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن ... 94

1. انشقاق القمر ... 94

2. معراج النبي ... 99

3. مباهلة النبي لأهل الكتاب ... 101

مطالبة النبي بالمعاجز ، الواحدة بعد الأُخرى ... 102

وصف معاجز النبي بالسحر ... 104

النبي الأعظم وبيّناته ... 105

إخبار النبي عن الغيب كالمسيح ... 106

معاجز الرسول الأعظم في الأحاديث الإسلامية ... 106

تحقيق وتحليل لمفاد الآيات النافية للمعجزة

مفاد الآيات النافية للمعجزة ... 111

الطرق العلمية الثلاث لإثبات نبوّة مدّعيها ... 111

يجب القيام بمقترحات الناس إذا توفرت فيها الشروط العشرة التالية : ... 112

1. يجب أن تكون دعوتهم مزودة بالمعجزة لا بما يختاره الناس ... 112

2. إمكانية الأمر المطلوب ... 115

3. استعداد الطالبين للاهتداء ... 115

ص: 401

4. إذنه سبحانه للإتيان بها ... 116

5. أن لا يؤدي الإعجاز إلى إفناء الناس ... 117

6. أن لا يؤدي إنكار المعجزة إلى نزول العذاب ... 117

7. أن لا يكون موجباً لتحقير المعاجز الأُخرى ... 118

8. أن لا يكون المطلوب معجزة ملجئة إلى الإيمان ... 118

9. أن لا يكون على خلاف السنة الحكيمة في الكون ... 119

10. أن تكون هناك رابطة منطقية بين ثبوت النبوّة والمعجزة المقترحة ... 119

استعراض الآيات التي استدل بها القساوسة على عدم تزويد النبي بمعجزة غير القرآن 121

ما هو السبب في نزول القرآن نجوماً ؟ ... 127

أ. تثبيت فؤاد النبي صلی اللّه علیه و آله ... 127

ب. تسهيل عملية التعليم ... 127

ج. التدليل على صدق الرسالة ... 128

حصيلة البحث حول تلك الآيات ... 172

النبي الشفيع في القرآن الكريم

الشفاعة وعلماء الإسلام ... 177

الشفاعة أصل من أُصول الإسلام ... 177

ص: 402

الشفاعة في القرآن الكريم ، وهي على سبعة أصناف ... 196

الصنف الأوّل : الآيات النافية للشفاعة ... 197

الصنف الثاني : ما يفنّد عقيدة اليهود في الشفاعة ... 199

الصنف الثالث : ينفي شمول الشفاعة للكفّار ... 202

الصنف الرابع : ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة ... 203

الصنف الخامس : ما يعدّ الشفاعة حقّاً مختصاً به سبحانه ... 207

الصنف السادس : يثبت الشفاعة لغيره سبحانه تحت شرائط خاصة ... 209

الصنف السابع : ما يسمّي من تقبل شفاعته ... 214

الشفاعات المرفوضة ... 216

الشفاعات المقبولة ... 217

آيات أُخرى في الشفاعة ... 218

ما هي حقيقة الشفاعة ؟ ... 222

الشفاعة التكوينية ... 222

الشفاعة القيادية ... 226

سؤال وجواب ... 230

الشفاعة المصطلحة ... 233

مبررات الشفاعة ... 237

ص: 403

1. ابتلاء الناس بالذنب والتقصير ... 237

2. سعة رحمته لكل شيء ... 239

3. الأصل هو السلامة ... 241

4. الآثار البنّاءة والتربوية للشفاعة ... 242

5. الأمر بيده سبحانه أوّلاً وآخراً ... 245

ما هو أثر الشفاعة ، أهو إسقاط العقاب أو زيادة الثواب ؟ ... 246

دافع المعتزلة إلى اتخاذ الرأي الخاص ... 248

إشكالات مثارة حول الشفاعة والإجابة عنها ... 251

الإشكال الأوّل : الشفاعة تجعل القانون لغواً وبلا أثر ... 251

الإشكال الثاني : تشريع الشفاعة يجر إلى التمادي في العصيان ... 255

الإشكال الثالث : الحاكم العادي لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه وهو مستحيل على اللّه 259

الإشكال الرابع : ليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة ... 263

الإشكال الخامس : آيات الشفاعة من الآيات المتشابهة ... 268

الإشكال السادس : الشفاعة لون من الوساطة المتعارفة بين الناس ويجب تنزيه اللّه عنها 270

الفروق الموجودة في الشفاعتين ... 273

ص: 404

الإشكال السابع : المراد من الآيات الشفاعة القيادية لا الشفاعة المصطلحة ... 275

الإشكال الثامن : هل الشفيع هو أشد رأفة بالعباد من اللّه ؟ ... 276

الإشكال التاسع : كل إنسان قيد عمله ورهن سعيه وهذا لا يجتمع مع الشفاعة ... 277

الإشكال العاشر : طلب الشفاعة من أولياء شرك باللّه ... 279

ما يدل على جواز طلب الشفاعة ... 280

ما استدل به على حرمة طلب الشفاعة ... 285

الشفاعة في الأدب العربي ... 301

الشفاعة في الأحاديث الإسلامية ... 315

أحاديث الشفاعة عند أهل السنّة ... 316

أحاديث الشفاعة عند الشيعة الإمامية ... 325

أحاديث الشفاعة عن الإمام علي علیه السلام ... 326

أحاديث الشفاعة عن سائر أئمّة أهل البيت علیهم السلام ... 328

بحث وتمحيص حول الروايات الواردة في الشفاعة ... 338

النبي والرسول في القرآن الكريم

ما هو الرسول والنبي ؟ ... 343

ص: 405

ما هو الفرق بين الرسول والنبي ؟ ... 344

1. الرسول من أُمر بالتبليغ والنبي من أُوحي إليه سواء أُمر بالتبليغ أو لا ؟ ... 344

2. الرسول من أُنزل معه كتاب والنبي هو الذي ينبئ عن اللّه وإن لم يكن معه كتاب 349

3. الرسول من جاء بشرع جديد والنبي أعم ... 353

ركام من الأوهام والأكاذيب ... 357

4. الرسول من يعاين الملك والنبي من يتلقّى عن غير هذا الطريق ... 359

5. النبي من يوحى إليه في المنام والرسول من شاهد الملك وكلّمه ... 364

6. النبي والرسول مبعوثان إلى الناس والرسول هو المرسل برسالة خاصة ... 366

ما هو المختار عندنا ؟ ... 368

نتائج البحث ... 376

الأوّل : النبوّة متقوّمة بالاتصال باللّه والإنباء عنه والرسالة تحمل مفهوماً أوسع ... 376

سؤال والجواب ... 381

الثاني : إنّ منصب النبوة أسمى من مقام الرسالة ... 383

ص: 406

الثالث : النبوّة أساس رسالة الإنسان من اللّه ... 384

الرابع : انّ النسبة بين الرسول والنبي من حيث المصداق هو التساوي ... 385

بحث وتنقيب حول الروايات الواردة في المقام ... 388

القضاء بين هذه المأثورات ... 395

المحدَّث في السنّة ... 397

ص: 407

المجلد 5

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 2

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1422 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-6243-75-4

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء الخامس

يبحث عن عصمة الأنبياء ويعالج أدلة المخطئة لها، وعن مفهوم الإمام وعصمته، وعدالة الصحابة، وإطاعة السلطان الجائر في القرآن الكريم،

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

مفاهيم القرآن

ص: 2

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 4

كلمة قدسية

تفضّل بها سماحة العلاّمة الأُستاذ المحقّق آية اللّه الشيخ لطف اللّه الصافي

صاحب المؤلفات الإسلامية القيّمة ، والمواقف الجهادية المشكورة

دام ظله الوارف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

العصر الحاضر والمفاهيم الدينية

يشهد عصرنا الحاضر المسمّى بعصر الذرة والفضاء ، صورة جديدة من رفض النصوص الشرعية ، يتمثل في موقف خاص من قضايا الدين ، وهو تفسير الحوادث الخارقة للعادة والحقائق الغيبية وما يتحقّق في مستقبل الزمان من الآيات والملاحم الثابتة كلّها في الدين ، والّتي أخبرت بها نصوص الكتاب والسنّة ، وتحقّقت أو تتحقّق - بإرادة اللّه تعالى وإذنه - بالتفسير والتعليل المادي الّذي ينكر تأثير عالم الغيب في عالم الشهادة.

وهو موقف نابع وناشئ من انبهار طائفة كبيرة من المثقفين ببريق النهضة المادية الحديثة ، ومن الإفتتان بالتقدم الصناعي الراهن ، الأمر الّذي آل إلى ظهور الاتجاهات العلمانية الّتي تعتقد بفصل الدين عن الدنيا ، والدنيا عن الدين حيناً ، وبإخضاع المفاهيم الدينية الغيبية لمقاييس العلوم المادية الحديثة حيناً آخر.

ص: 5

وممّا يزيد الطين بلّة ، والداء تفاقماً ، أنَّ هذا الفريق يظهرون الإسلام ويتظاهرون بالنصيحة له وللمسلمين ، ويدّعون أنّه لابد من تفسير الدين بنحو يقبله المفكر الغربي ، ولا يستنكره الملحد الشرقي ، وبالتالي : لا بد من تأويل اصطلاحاته وقضاياه بنحو يوافق المذاهب المادية ، والقوانين الطبيعية ، بينما يسعى فريق آخر إلى التوفيق بين الدين ونظاماته في الإدارة والحكم وغيرهما ، وبين الأنظمة الديمقراطية ، كما يريد بعضهم التوفيق بين الدين - وهو دين إلهي - مع الأنظمة الماركسية الملحدة.

فالثقافة عند هؤلاء هو الترديد والتشكيك في الحقائق المقبولة في الدين ، والّتي دلّت عليها نصوص الكتاب والسنّة ، ممّا لا يمكن أن يعلل بالعلل ، وبالتالي إخضاع الدين لمعطيات الحضارة المادية الحديثة ، ومقاييسها ، فإذن نحن في عصر يزداد فيه التخوّف من تعريض المفاهيم الدينية لخطر التحريف والتأويل ، وإخضاع الدين للأهواء والأمزجة والأذواق الشخصية ، على أيدي الجهّال والانهزاميين.

فما أحوجنا - في هذا العصر - إلى تبيين مفاهيم الكتاب والسنّة ، وتثبيت ما أتى به الإسلام ، على حقيقته ، وإرجاع الناس إلى النصوص ودلالاتها ، ورد المتشابهات إلى المحكمات ، في ضوء الكتاب العزيز والسنّة المطهرة الشاملة لما ورد عن العترة الطاهرة.

ولقد نهض بهذه المهمة منذ أقدم العصور - ولله الحمد - رجال من روّاد مذهب أهل البيت علیهم السلام وأصحابهم ممن دفعتهم غيرتهم الدينية إلى الدفاع عن حياض الشريعة المقدسة ، مع الاحتفاظ بنصوص الكتاب والسنّة ، فأبقوا على مفاهيم الإسلام غضّة طرية ، ناصعة ، ساطعة ، فشكر اللّه مساعيهم الجميلة

ص: 6

وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء.

وممّا يثلج الصدر أن تستمر هذه الجهود الخالصة المخلصة في سبيل الحفاظ على مفاهيم الدين ، حيث قام في عصرنا هذا جماعة من الأعلام بنفس هذا العمل العظيم ، ونخص بالذكر صديقنا العلاّمة الفقيه والبحّاثة المحقّق الأُستاذ الشيخ جعفر السبحاني في ما كتب في سلسلة « مفاهيم القرآن الكريم » هذه المجموعة الّتي صدرت منها إلى الآن أربعة أجزاء ، والّتي سدّت فراغاً واسعاً في هذا المجال حيث أوضحت - في غاية القوة والإحاطة والإتقان والتحقيق - كثيراً من المفاهيم القرآنية الإسلامية وسدّت الطريق في وجه المبتدعين والمحرّفين ، والمأوّلين والمشكّكين ، وأجابت باسلوب برهاني مقنع على أسئلة طالما شغلت أذهان الشباب ، وأصحاب المدارس الحديثة.

وقد جاء الجزء الرابع ردّاً على الاتجاه المذكور وهو تفسير الجوانب الغيبية بالتعليلات المادية.

فللّه درّ مؤلفه الفقيه المحقّق العلاّمة وحفظه اللّه ذخراً للحوزة والأُمّة ، ونفع المسلمين جميعاً بعلومه ومؤلّفاته. انّه سميع مجيب.

لطف اللّه الصافي

23 - ربيع الثاني - 1406 ه

ص: 7

كتاب كريم

اشارة

تفضّل به العلاّمة الحجّة الأُستاذ المحقّق آية اللّه الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

- دام ظله - ننشره تقديراً لجهوده العلمية الكبرى مشفوعاً

بالشكر والتكريم

بسم اللّه الرحمن الرحيم

( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) (1)

إنّ الواصف المطري مهما جدّ واجتهد ، ومهما بلغ شأواً عظيماً في القدرة على التحديد والتوصيف ، لا يتمكن من أن يصف كلامه سبحانه ويحدّده بما هو لائق به ، كيف ؟ وهو كلام من لا يتناهى كمالاً وجمالاً ، كما لا يتناهى علماً وقدرة.

فلو كانت هناك صلة بين الأثر والمؤثر وكان الأثر ظلاً له ، فكلامه سبحانه لا يتناهى في الروعة والجمال ، لكونه أثراً للكمال المطلق والجمال غير المتناهيين ، وعند ذلك لا يجد الباحث معرفاً محدداً لكلامه أحسن ممّا ورد في الذكر الحكيم في هذا المضمار ، قال سبحانه : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) .

وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) (2).

ص: 8


1- المائدة : 15.
2- النساء : 174.

وقال تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1) إلى غير ذلك من الآيات الّتي تعدُّ الذكر الحكيم نوراً منزّلاً من اللّه سبحانه إلى البشر كلّه في جميع العصور والقرون ، ولجميع الأجيال والمجتمعات ، فيجب علينا أن نقف على السر الّذي أصبح به القرآن نوراً وضياء.

أقول : إنَّ علماء الطبيعة كشفوا عن أسرار النور وخواصه ، فلاحظوا :

أوّلاً : أنّ سرعة النور لا تضاهيها سرعة أيّ شيء آخر.

ثانياً : أنّ حياة النبات والحيوان رهن للنور ، فلولاه لما استقرت الحياة وما اخضرّ لها عود.

ثالثاً : أنّ النور يكافح العوامل الهدّامة للحياة فيقتل بعض الجراثيم والميكروبات المضرة ، ويبقي الذرات النافعة للحياة ، إلى غير ذلك من الآثار المكشوفة الثابتة للنور في مجال علم الطبيعة.

مضافاً إلى أنّ النور يكشف الحجب في المجتمع فلا يرى إجرام المجرم في وضح النهار ، وإذا طرأت الظلمة خرج المجرمون من أوكارهم ابتغاءً للفساد ، ونشراً للرذيلة.

هذا هو حال النور الحسّي الّذي يمشي به الإنسان في حياته المادية ، وإذا كان هذا حال النور الحسّي فالنور المعنوي الّذي به حياة الإنسان الروحية ، أَولى أن يكون كذلك.

ومن حسن الحظ أن نجد النور المعنوي ( القرآن والسنّة ) حاملاً لهذه

ص: 9


1- الشورى : 52.

الأوصاف والآثار على الوجه الأكمل والأتم.

فإذا كان النور الحسّي أسرع الأشياء المادية في السير والدوران ، فالنور الّذي يحمله القرآن الكريم مثله في السرعة والانتشار ، فقد انبثق نور القرآن من أُمّ القرى وانتشر بسرعة فائقة في أجواء العالم ، وبدّد الظلام عن أُمّ القرى وما حولها إلى أن وصل إلى منتهى الخف والحافر.

وإذا كانت الحياة المادية لا تستقر في هذا الكوكب إلاّ بضوء الشمس فالحياة المعنوية لا تستقر في هيكل الفرد والمجتمع ، إلاّ بالإيمان والعمل الصالح ، ولا يهتدي الإنسان إلى كل منهما إلاّ ببركة الوحي المجسّد في الذكر الحكيم.

وإذا كان ضوء الشمس ونور الكوكب يبدّد الحجب في البوادي والصحاري والمدن والبلدان فيغيب المجرم ، ويختفي المسيء ، فالنور المعنوي الّذي يحمله القرآن ومثله كل وحي سماوي ، يضيء المجتمع وينوّر القلوب ، فلا تجد فيه مجالاً لظهور الرذائل وانتشار المساوئ ، وإنّما تظهر رذائل الأخلاق في غياب الإيمان والقرآن عن المجتمع.

وإذا كان النور الحسّي يكافح العوامل الهدّامة للحياة ، فالنور المعنوي أيضاً يكافح الغي والفساد ، والهرج والمرج ، والجهل والفقر ، وغيرها من الأُمور الّتي تعد من العوامل الهدّامة لحياة الإنسان المعنوية.

ولأجل ذلك نرى أنّ الرسول صلی اللّه علیه و آله يأمر بالتمسّك بالقرآن الكريم عند التباس الفتن على الإنسان كقطع الليل المظلم ويقول : « إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفّع وماحل مصدّق ... » (1).

ص: 10


1- الكافي : 2 / 238.

ولأجل هذا الأمر وغيره عكف علماء الإسلام منذ فجر الدعوة الإسلامية على دراسة القرآن وقراءته وحفظه وتفسيره والعناية به بشتى الطرق والوجوه. وقد بلغ إقبال المسلمين والعناية بكتابهم مبلغاً لا يوجد له نظير في جميع أنحاء العالم والمجتمعات البشرية. كيف ؟ وقد أسّسوا للاستضاءَة من ذلك النور ، علوماً كثيرة خدموا بها القرآن الكريم وعالجوا بها مشاكله ومبهماته ومعضلاته ، شكر اللّه مساعي الجميع.

منهج التفسير الموضوعي :

إنّ السيرة الرائجة في تفسير القرآن الكريم هي تفسيره سورة بعد سورة ، فالمفسر الموفّق هو من يأخذ بتفسير سورة الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران وهكذا إلى أن ينتهي إلى آخر القرآن ، أو إلى ما تصل إليه جهوده ، وهذه سيرة رائجة في جميع القرون ، غير أنّ هناك منهجاً آخر لتفسير الذكر الحكيم لم يقع موضع العناية الكبيرة للسلف الصالح من المفسرين وهو « المنهج الموضوعي » لتفسير القرآن.

والمقصود منه جمع الآيات الواردة في كل موضوع والبحث عنها دفعة واحدة ، وهذا هو الطريق الأمثل الّذي ستحل به معضلات الآيات ، وترتفع مبهماتها ، فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ، وينطق بعضه ببعض ، ولا مناص للمجتمع القرآني من العناية بهذا المنهج أيضاً كما كان له العناية بالمنهج الأوّل ، فالمنهجان متواكبان في الإضاءة والتنوير ، ولكل مزيّته ومحاسنه.

ثم إنّ من الذين عانوا في سد هذا الفراغ وبذلوا جهوداً واسعة في سبيله العلاّمة الحجّة المحقّق الأخ الشيخ جعفر السبحاني أدام اللّه تأييده.

فقد سلك هذا الطريق وكشف حقائق قيّمة ، فشكر اللّه مساعيه ووفقّه

ص: 11

لإدامة هذا المشروع.

فقد اختار من بين الموضوعات أوّلاً ما يتصل باللّه سبحانه ، وصفاته وأفعاله ، والنبوات العامة والخاصّة ، فلأجل ذلك قام بطرح مباحث التوحيد في الجزء الأوّل في اثني عشر فصلاً على وجه بديع.

ولقد أعجبني من هذه الفصول الفصل المعقود لتفسير التوحيد في العبادة ، وما يتميّز به ما يشبه العبادة عن غيره ، فقد اعتمد في هذا المبحث على ضابطة قيّمة استنبطها من الذكر الحكيم.

ولما انتهى بحثه في هذا الجزء إلى قسم خاص من التوحيد وهو « التوحيد في الحاكمية » وانّ الحكم حق مختص باللّه سبحانه ، لا يناله غيره إلاّ بإذنه ، جعل مدار البحث في الجزء الثاني « معالم الحكومة الإسلامية » باسلوب رائق وطريقة جديدة في نوعها ، إلى غير ذلك ممّا يراه القارئ في أجزاء هذا الكتاب القيّم من الموضوعات الهامّة.

أضف إلى ذلك كلّه أنّ الكتاب يشتمل على مزايا أُخرى قيّمة في ذاتها ، منها الصراحة في البحث ، وطرح المباحث بقلم واضح بعيد عن التعقيد ، والإيجاز المخل ، والإطناب الممل.

ومنها الحفاظ على المفاهيم الإسلامية من دون أيّ تحوير فيها وتغيير ، والتحرّز عن المناهج المزيجة الملفقة ، الّتي تأخذ من الإسلام شيئاً ، ومن المناهج غير الإسلامية شيئاً آخر ، فتمزجهما وتقدّم المجموع الملفّق باسم الإسلام ، من المناهج الّتي لها الضرر الكثير على الإسلام وأهله ، أعاذنا اللّه من شرور هذه الفكرة وخطورة هذه المناهج.

ص: 12

وقد مشى المؤلف فيما يمتّ إلى هذه المباحث في ضوء القرآن الكريم من دون أي خضوع للأفكار المادية ، أو إخضاع المفاهيم الإسلامية لتلك المناهج ، فشكر اللّه سعيه ، وضاعف أجره وجزاه اللّه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

ناصر مكارم الشيرازي

قم - الحوزة العلمية

12 - شوال - 1407 ه

ص: 13

ص: 14

بسم اللّه الرحمن الرحيم

المفاهيم القرآنية بين الجمود والتأويل

اشارة

إنّ الذكر الحكيم يشتمل على معارف وأُصول كما يشتمل على أحكام وفروع ، والغاية المتوخّاة من المعارف والأُصول ، هي تحصيل العلم والمعرفة أوّلاً ، والإذعان والإيمان ثانياً ، كما أنّ الهدف من تشريع الأحكام والفروع هو الدعوة إلى العمل والتطبيق.

فلو كان شرف كل علم بشرف موضوعه ، فالعلم الأوّل - بما أنّه يبحث عن معرفة اللّه سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وما ينبغي له وما لا ينبغي له - يكون هو الأشرف والفقه الأكبر ، كما أنّ العلم الثاني - بما أنّه يبحث عن حكمه سبحانه بما يتعلّق بأفعال العباد - يكون هو الفقه الأصغر. ولكلٍّ أئمّةٌ وقادة مفكرّون ، وكثيراً ما يكون الإنسان إماماً في باب المعارف والعقائد ، وفي الوقت نفسه يكون غير رفيع المستوى في باب معرفة الأحكام ، وربّما يكون على العكس ، فالكل إذا تكلموا فيما أحسنوا ، أرشدوا إلى الطريق المهيع والحق المبين ، فإذا نطقوا في غيره أتوا بما تندهش منه العقول ويقضي منه العجب (1).

فاللازم على روّاد العلم حسب ما أمر به الرسول من تنزيل كل أمرئ

ص: 15


1- قال أمير المؤمنين علیه السلام : « لو سكت من لا يعلم لرفع الاختلاف » لاحظ درر الحكم للآمدي.

منزلته (1) والأخذ عنهم فيما برعوا وفاقوا فيه ، وترك الاقتفاء والتبعية فيما لا حذق لهم فيه ولا براعة ، وهذا هو دأب الدين ، وهي السنّة القرآنية الّتي أمر اللّه سبحانه بها حيث قال : ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) (2).

وكذلك علم الحديث والسنّة ، فربّما يكون الرجل قدوة في الحفظ ، عارفاً بمتون الأحاديث وأسانيدها ، وليس له مقدرة علمية لتحليل مفادها والغور في أعماقها ، فيكون ذلك من موارد قوله صلی اللّه علیه و آله : « نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها ، فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه » (3).

فليس كل من روى كلاماً للنبي صلی اللّه علیه و آله ، يقبل رأيه الّذي رأى ، ولا كل من حفظ اللفظ ، كان أهلاً لبيان كنه المعنى ، وما يستنبط منه ، بل لكل من الحفظ والنقد والتحليل رجال متخصّصون ، ولكل فن أهل وأرباب ، فمن خاض في علم بلا كفاءة كان خطاؤه أكثر من صوابه وكان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه.

هذا هو الأصل الّذي دعا إليه القرآن ، واستقرّت عليه سيرة العقلاء ، ولكن الغفلة عن هذا الأصل في بدايات القرون الهجرية الأُولى ، أحدثت تخبّطاً في الأوساط الإسلامية فنجمت بين المسلمين بدع يهودية وآراء مسيحية ، من القول بالتشبيه ، وإثبات المحل لله تعالى ، والجهة له سبحانه ، فوصف الباري - المنزّه عن كل نقص - بالجلوس ، والنزول إلى الأرض ، وأثبتت له الأجزاء والأعضاء كالوجه والعين واليد والرجل ، ونسب إليه الاستعلاء الحسي على العرش ، وكان السبب لهذا

ص: 16


1- روى مسلم في صحيحه : ( 1 / 5 ) عن عائشة أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمرنا أن ننزل الناس منازلهم.
2- البقرة : 189.
3- سنن الترمذي : 5 / الباب 7 ، كتاب العلم ، الحديث 2657 ; مسند أحمد : 2 / 225.

التخبّط أمران :

أوّلاً : الاغترار بما وضعه أعداء الإسلام من الأحبار والرهبان الذين تظاهروا بالإيمان وأضمروا الكفر تنفيذاً لحقدهم وعدائهم ، ويقف القارئ على نماذج كثيرة من هذه الإسرائيليات فيما روي عن كعب الأحبار ، ووهب من منبه ، وعبد الملك بن جريج ، ومن شاكلهم من المتأسلمين لا المسلمين الحقيقيّين.

ثانياً : الجمود على ظواهر بعض الآيات والأحاديث من دون تعمّق في أغوارها ، ولا تفحّص في مفاهيمها وأعماقها ، حتّى عاد التفكّر في مفاد الآية والحديث تأويلاً بغيضاً ، فعند ذاك هاجت بحار الفتن وتلاطمت أمواجها بالبدع المهلكة ، فسمّي التفكّر في القرآن والتدبّر في كلمات الرسول « كفراً » و « زندقة » وعدّ إقصاء العقل وعزله عن القضاء في المعارف والأُصول « قداسة » و « نزاهة » !!!

ففي هذه الظروف والأحوال قامت قيامة تأسيس المناهج ، ونجمت فرق كثيرة ، كلٌّ يدّعي الانتساب إلى الوحي والسنّة.

وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى *** وليلى لا تقرّ لهم بذاكا

وإليك تسمية بعض هذه الفرق وبيان رؤوسها :

1. مبتدعة السلف :

وهم المغترون بكل حديث وقعت أعينهم عليه ، فجمعوا في حقائبهم كل رطب ويابس ، وأخذوا بالظواهر وتركوا الاستعانة بالقرائن ، وسمّوا كل بحث من أيّ أصل من الأُصول والمعارف « تأويلاً » و « خروجاً عن الدين » وكبحوا العقل بتهمة الزندقة ، واستراحوا لما رووا عن أئمتهم من ذم علم الكلام ، فوصفوا الجمال

ص: 17

المطلق والكمال اللامتناهي بالمحل والجسم ، والنزول والصعود ، وخرقوا له كثيراً من الأشباه والنظائر.

ترى كثيراً من هذه الأحاديث في مرويات حمّاد بن سلمة ، ونعيم بن حمّاد ، ومقاتل بن سليمان ، ومن لف لفهم ، ففي مروياتهم تلك الآثار المشينة ، وقد قلّدهم كثير من البسطاء في القرون المتأخرة ، فحسبوها حقائق راهنة وألّفوا فيها الكتب.

وعلى هذا الأساس أُلّف كتاب « التوحيد » لمحمد بن إسحاق بن خزيمة ( المتوفّى عام 321 ه ) ، وكتاب « السنّة » لعبد اللّه بن أحمد بن حنبل ، وكتاب « النقض » لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسّم فإنّه أول من اجترأ من المجسّمة بالقول : بأنَّ اللّه لو شاء لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ، فكيف على عرش بعيد (1).

ولقد عزب عن هؤلاء المساكين أنّ التفكّر في آي الذكر الحكيم والغور في أعماقها ممّا أمر به منزّله سبحانه حيث قال : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) (2). وليس صرف آيات الاستواء على العرش والوجه واليد والعين وما شابهها ، عن الظاهر المتبادر من مفرداتها ، إلى ما هو المتبادر عند أئمّة البلاغة ، تأويلاً وخروجاً عن ظاهر الكلام ، إذ للكلمة بمفردها حكم ، وللجملة المتكوّنة من بعض الكلمات حكم آخر.

وإن كنت في ريب من هذا فلاحظ لفظ الأسد بمفرده ، ونفس اللفظ في قول القائل : « رأيت أسداً يرمي » ، فحملها في الجملة الثانية على الحيوان المفترس

ص: 18


1- لاحظ مقدمة الشيخ محمد زاهد الكوثري على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي.
2- ص : 29.

صرف لظاهر الكلام بلا دليل ، وتأويل بلا مسوّغ.

وبهذا يظهر أنَّ الصفات الخبرية الواردة في القرآن كالوجه وغيره لها حكم عند الإفراد ، ولها حكم آخر إذا ما جاءت في ضمن الجمل ، فلا يصحّ حملها على المعاني اللغوية إذا كانت هناك قرائن صارفة عنها ، فإذا قال سبحانه : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ) (1) ، فيحمل على ما هو المتبادر من الآية عند العرف العام ، أعني : الإسراف والتقتير ، فبسط اليد كناية عن الإنفاق بلا شرط ، كما أنّ جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن البخل والتقتير ، ولا يعني به بسط اليد بمعنى مدّها ، ولا غلّ اليد إلى العنق بمعنى شدّها إليه.

وعلى هذا يجب أن يفسر قوله سبحانه : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (2) ، فالعرش في اللغة هو السرير ، والاستواء عليه هو الجلوس ، غير أنَّ هذا حكم مفرداتها ، وأمّا معنى الجملة فيتفرع الاستظهار منها ، على القرائن الحافة بها ، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى العلو والاستيلاء ، وحملها على غير ذلك يعد تصرّفاً في الظاهر ، وتأويلاً لها ، فإذا سمع العرب قول القائل :

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

أو سمع قول الشاعر :

ولما علونا واستوينا عليهم *** تركناهم مرعى لنسر وكاسر

فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى العلو والسيطرة والسلطة ، لا العلو المكاني

ص: 19


1- الإسراء : 29.
2- طه : 5.

الّذي يعد كمالاً للجسم ، وأين هو من العلو المعنوي الّذي هو كمال الذات.

وقد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات مقترناً بذكر فعل من أفعاله ، وهو رفع السماوات بغير عمد ، أو خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كله ، فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد لا شريك له أيضاً في الملك والسلطة ، ولأجل ذلك يقول في بعض هذه الآيات : ( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1).

فالتأويل بلا قيد وشرط ، إذا كان ضلالاً - كما سيوافيك بيانه - فكذلك الجمود على ظهور المفردات ، وترك التفكّر والتعمّق أيضاً ابتداع مفض إلى صريح الكفر ، فلو حمل القارئ قوله سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (2) على أنّ لله مثلاً ، وليس لهذا المثل مثل ... إذن يقع في مغبّة الشرك وحبائله ، وقد نقل الرازي في تفسيره لهذه الآية كلاماً عن ابن خزيمة فراجعه (3).

وما أحسن قول ابن العربي في هؤلاء المجسّمة المشبهة :

قالوا الظواهر أصل لا يجوز لنا *** عنها العدول إلى رأي ولا نظر

بينوا عن الخلق لستم منهم أبداً *** ما للأنام ومعلوف من البقر

وهؤلاء سلف المشبهة وأئمّة المجسّمة ، وقد اغتر بقولهم جماعة من البسطاء المحدثين إلى أن طلع إمام الأشاعرة فادّعى في الفترات الأخيرة من حياته أنّه تاب

ص: 20


1- الأعراف : 54.
2- الشورى : 11.
3- مفاتيح الغيب : 8 / 388.

من الاعتزال وصار من شيعة منهج أحمد بن حنبل ، وأنّ مذهبه لا يفترق عنه قيد شعرة ، فقام بتعديله وإصلاحه بشكل خاص خال عمّا يناقض عقول الناس ، إلاّ فيما شذ وندر. وليس مذهب الأشعري إلاّ صورة معدلة من مذهب الحنابلة وأهل الحديث ، كما سيوافيك ، فصار القول بالتشبيه والتجسيم الصريح متروكاً بعده إلى قرون.

ولكن العجب أنّ هذه البدع بعد إخمادها ، أخذت تنتعش في أوائل القرن الثامن بيد أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرّاني ( المتوفّى عام 728 ه ) ، فجدّد ما اندرس من آثار تلك الطائفة المشبهة ، وقد وصفه السبكي في السيف الصقيل : « بأنّه رجل جسور يقول بقيام الحوادث بذات الرب » ، ولكنه يقول بأنكر من ذلك ، وقد أتى بنفس ما ذكره الدارمي المجسّم في كتابه « غوث العباد » المطبوع بمصر عام 1351 ه في مطبعة الحلبي.

وعلى ذلك فابن تيمية إذن إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه ، وشيخ أهل التجسيم ممن سبقه من الكرامية وجهلة المحدّثين ، الذين اهتموا بالحفظ المجرّد ، وغفلوا عن الفهم والتفكير ، ولأجل ذلك نرى أنّ الشيخ الحراني يرمي المفكرين من المسلمين كإمام الحرمين ، والغزالي ، في كتابيه « منهاج السنّة والموافقة المطبوع على هامش الأوّل » بأنّهما أشدّ كفراً من اليهود والنصارى. مع أنّه ( أي ابن تيمية ) يعتنق عقائد يخالف جمهرة المسلمين وأئمّة أهل البيت علیهم السلام .

2. معطّلة السلفية

وهذه الزمرة من السلفية وإن كانت بريئة ممّا ذهبت إليه المجسّمة فهم لا يقتفون أثر الظواهر ، بل يصرفونها عمّا يتبادر منها في بادئ النظر ، إلاّ أنّهم

ص: 21

لا يخوضون في المراد منها حذراً ممّا يسمى ب « وصمة التأويل ».

فعقيدة هؤلاء في الصفات الخبرية أنّ لله سبحانه يداً وعيناً واستواءً على العرش ، لكن لا نعلم كنهها ، وفي مقدم هؤلاء مالك بن أنس ، وقد سئل عن معنى قوله سبحانه : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) أنّه كيف استوى ؟ فقال في جواب السائل : ما أظنّك إلاّ صاحب بدعة ، فالاستواء مذكور ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب. وفي رواية : والكيف غير معقول.

فلو صحت نسبة هذا الكلام إلى إمام المالكية ، فهو بلا شك من المعطّلة ، خصوصاً إذا كانت الرواية على قوله : « الكيف مجهول » ، فهو يعتقد أنّ لله سبحانه جلوساً على العرش ، لكن مجهولاً كنهه أو محالاً دركه ، فيجب الإيمان به لا السؤال عن حقيقته ، فيتوجه السؤال إلى إمام المذهب المالكي أنّه لماذا هجم على السائل بقوله ما أظنّك إلاّ صاحب بدعة ؟! مع أنّ وظيفة العالم إرشاد الجاهل لا الهجوم عليه بكلمة لاذعة ، كما أنّه يتوجه إليه أنّ الآية ونظائرها تصبح عند ذاك من الألغاز الّتي لا يفهم معناها ، بل يجب الإيمان بها ، ومع ذلك كلّه فقد راج هذا المذهب بعد ما رجع الإمام الأشعري من مذهب الاعتزال إلى مذهب المحدّثين ، وفي مقدمهم أحمد بن حنبل ، يقول ابن خلكان : كان أبوالحسن الأشعري أوّلاً معتزلياً ، ثم تاب من القول بالعدل ، وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة ورقى كرسياً ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أُعرفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرآن ، وإنّ اللّه لا تراه الأبصار ، وإنَّ أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع ، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم (1).

ص: 22


1- وفيات الأعيان : 3 / 285.

فغاية ما عند الإمام الأشعري وأتباعه أنَّ لله سبحانه صفات خبرية مثل اليدين ، والوجه ، ولكن لا نعرف كنه اللفظ الوارد فيه ، ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها ، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنّه لا شريك له وليس كمثله شيء ، وذلك قد أثبتناه يقيناً (1).

وهذه الطائفة قد خرجت من مغبة التشبيه والتجسيم ، غير أنّهم تورّطوا في أشراك التعطيل وحبائله ، فعطّلوا العقول عن التفكّر في المعارف والأُصول كما عطّلوها عن التدبّر في الآيات والأحاديث ، فكأنّ القرآن ألغاز نزلت إلى البشر ، وليس كتاباً للتعليم والإرشاد ، قال تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (2) ، فإذا كان القرآن مبيّناً لكل شيء فكيف لا يكون مبيّناً لنفسه ؟! وكيف يكون المطلوب منه نفس الاعتقاد من دون فهم معناه ؟ وفي الختام نشير إلى عدّة أُمور :

1. انّ القوم يطلقون عنوان « المعطّلة » على القائلين بوحدة الذات والصفات بمعنى أنّ صفاته سبحانه عين ذاته لا شيء زائد عليه ، وأنّ الذات كلّها علم وكلّها قدرة ، وكلّها حياة ، وليست هذه الصفات أُموراً زائدة على نفس الذات.

والقوم لما لم يصلوا إلى مغزى تلك العقيدة رموا القائلين بها بالتعطيل ، أي تعطيل الذات عن الاتصاف بالصفات ، وهم برآء عن هذه التهمة ، إذ لم يعطّلوها عن الاتصاف بها ، بل نزّهوا الذات عن الاتصاف بالصفات الزائدة ، فكم فرق بين تعطيل الذات عن الصفات ، وبين تنزيهه عن الصفات الزائدة ؟ فتوصيفهم بالتعطيل ظلم واضح ، بل المعطّلة حقيقة هم الذين عطّلوا العقول عن البحث

ص: 23


1- الملل والنحل للشهرستاني : 1 / 92.
2- النحل : 89.

حول المعارف واكتفوا بالإيمان المجرّد الخالي عن التعمّق والتفهم.

2. انّ معطّلة السلف كانوا يحرمون النظر في المعارف بحجة أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قال : عليكم بدين العجائز ، فإنّه الفائز. غير أنّ هذا النص لم يوجد في صحاح القوم ، ولا في مسانيدهم ، بل الصحيح ما روي أنّ « عمرو بن عبيد » لمّا أثبت منزلة بين الكفر والإيمان ، فقالت عجوزة : قال اللّه تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ ) فلم يجعل اللّه من عباده إلاّ الكافر والمؤمن. فقال سفيان : عليكم بدين العجائز.

وأقصى ما يمكن أن يقال : إنَّ الرواية صدرت من النبي صلی اللّه علیه و آله عندما استدلت العجوز على وجود الصانع بحركة دولابها ، وكف اليد عن تحريكها ، على ما هو معروف ، فاستدلت بحركة الأجرام السماوية على أنّ لها محركاً كما أنّ لحركة دولابها محركاً ، وأين هذا من تعطيل العقول عن المعارف ؟!

3. ثم إنّ تعطيل العقول عن البحث والمعرفة أخذ في هذه الأعصار صبغة علمية مادية بحتة بحجة أنّ مبادئها ومقدماتها ليست في متناول الباحثين ، لأنّها موضوعات وراء الحس والطبيعة ولا تعمل فيها حواس الإنسان ، فهذا هو السيد الندوي يتمسّك بهذا الوجه ويعدّ ترك البحث فضيلة ، والبحث عن المعارف القرآنية كفراناً للنعمة.

يقول : وقد كان الأنبياء علیهم السلام أخبروا الناس عن ذات اللّه وصفاته وأفعاله ، وعن بداية هذا العالم ومصيره ، وما يهجم عليه الإنسان بعد موته ، وآتاهم علم ذلك كلّه بواسطتهم عفواً بدون تعب ، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادئها ولا مقدماتها الّتي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول ، لأنّ هذه العلوم وراء الحس والطبيعة ، لا تعمل فيهما حواسّهم ، ولا يؤدي إليها

ص: 24

نظرهم ، وليست عندهم معلوماتها الأوّلية.

لكن الناس لم يشكروا هذه النعمة وأعادوا الأمر جذعاً ، وأبدوا البحث أنفاً ، وبدأوا رحلتهم في مناطق مجهولة لا يجدون فيها مرشداً ولا خرّيتاً (1).

إنّ الكاتب حسب ما توحي عبارته متأثر بالفلسفة المادية الّتي تحصر أدوات المعرفة بالحس ، ولا يقيم وزناً للعقل الّذي هو إحدى أدواتها ، وهذا من الكاتب أمر عجيب جداً ، فإنّ اللّه سبحانه كما دعا إلى الانتفاع بالحس ومطالعة الطبيعة وكشف قوانينها وأنظمتها دعا إلى التعقّل والتفكّر في كل ما ورد في القرآن الكريم حيث قال : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (2).

وليست الآية ناظرة إلى التدبّر في خصوص الأنظمة السائدة على النبات والحيوان والإنسان ، بل التدبّر في مجموع ما جاء في القرآن ، فقد جاء في القرآن الكريم معارف دعي إلى التدبّر فيها ، نظير : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (3). ( وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى ) (4). ( لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (5). ( المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ ) (6).

( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (7).

ص: 25


1- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : 97.
2- محمد : 24.
3- الشورى : 11.
4- النحل : 60.
5- طه : 8.
6- الحشر : 23.
7- البقرة : 115.

( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (1).

( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (2).

( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (3).

( يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (4).

إلى غير ذلك من المعارف العليا الواردة في القرآن الكريم ، ولا يحصل عليها الإنسان إلاّ بالتدبّر والتعقّل ، ولا تكفي في التعرّف عليها العلوم الحسّية وإن بلغت القمة.

ثم إنّ لصدر المتألّهين كلاماً حول هذه الطائفة طوينا الحديث عن ذكره ، كما أنّ للسيد العلاّمة الطباطبائي كلاماً قيماً آخر تركنا ذكره روماً للاختصار (5).

4. انّ العقيدة الأشعرية هي عقيدة حنبلية معدّلة ، وقد تصرّفت في جميع ما كان غير معقول في العقيدة الأُولى ، فلأجل ذلك حلّت محل ذلك المذهب بعد اضطرابات واشتباكات بين معدّل المذهب وأتباع العقائد الحنبلية.

وقد توفق الرجل في تعديل المذهب ، وأوّلَ منه ما يناقض العقول ، ومع ذلك كلّه أبقى من المذهب الحنبلي أُموراً على وجهها ولم يقدر على تأويلها ، وهي عبارة عن : مسألة قدم القرآن أوّلاً ، ورؤية اللّه سبحانه ثانياً ، والقول بالقضاء والقدر على وجه يجعل الإنسان مكتوف الأيدي ، فلو أغمضنا النظر عن هذه المسائل الثلاث ،

ص: 26


1- الحديد : 3.
2- الحجر : 21.
3- الحديد : 4.
4- الرعد : 39.
5- لاحظ الأسفار الأربعة : 1 / 5 ; الميزان : 8 / 158.

فقد توفّق الإمام الأشعري في إصلاح العقائد الحنبلية بعد ثبوتها في نفوس الناس وانتشارها في العالم.

3. المؤوّلة

إنّ المؤوّلة من الباطنية ليسوا بأقل خطراً من أصحاب الجمود ، فقد وضعوا لتفسير المفاهيم الإسلامية ضابطة باطلة لا يوافقها العقل ولا دلّ عليها من الشرع شيء ، قالوا :

للقرآن ظاهر وباطن ، والمراد منه باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة ، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر ، وانّ باطنه يؤدي إلى ترك العمل بظاهره ، واستدلوا على ذلك بقوله سبحانه : ( فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) (1). (2)

فإذا كانت تلك الضابطة في فهم الشريعة والعمل بالقرآن صحيحة ، إذن أصبحت الشريعة غرضاً لكل نابل ، وفريسة لكل آكل ، فلا يبقى منها شيء ، وفي هذه الحالة يدّعي كل مؤوّل أنّ الحق معه ، وأنّ المراد ما اختاره من التأويل على الرغم من اختلاف تأويلاتهم ، انظر إلى ما يقولون حول المفاهيم الإسلامية وأنّهم كيف يتلاعبون بها ، فالصلاة عبارة عن الناطق الّذي هو الرسول ، لقوله سبحانه : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ ) (3).

والغسل عبارة عن تجديد العهد ممن أفشى سراً من أسرار الباطنية من غير

ص: 27


1- الحديد : 13.
2- الفرق بين الفرق : 18.
3- العنكبوت : 45.

قصد ، والاحتلام عبارة عن إفشائه ، والزكاة هي تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين ، والجنة راحة الأبدان عن التكاليف ، والنار مشقتها بمزاولة التكاليف (1).

فإذاكان ما ذكروه حقيقة الدين والتكاليف فلم يبق بين الديانة والإلحاد حد ولا فصل.

هذه نماذج من تأويلات الباطنية ، وقد ظهرت بوادر هذه الفتنة ونبتت نواتها زمن المأمون العباسي إلى أن صاروا طائفة كبيرة حاقدة على الإسلام والمسلمين ، ومحاربة لهم بغير السيف والنار ، عن طريق الاحتيال الموصل لهم إلى مآربهم وأهوائهم.

ويليهم في التخريب والإضرار التصوّف الّذي جاء به ابن العربي شيخ هذه الطريقة ، فقد قام بتأويل المفاهيم القرآنية على وجه لا دليل عليه ، فيقول : إنّ جبرائيل هو العقل الفعّال ، وميكائل هو روح الفلك السادس ، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع ، وعزرائيل هو روح الفلك السابع (2).

كما يفسر قوله سبحانه : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ) (3) بأنَّ مرج البحرين هو بحر الهيولى الجسمانية الّذي هو الملح الأُجاج ، وبحر الروح المجرّد ، وهو العذب الفرات ، يلتقيان في الموجود الإنساني ، وأنّ بين الهيولى الجسماني والروح المجرّد برزخ ، هو النفس الحيوانية الّتي ليست في صفاء الروح المجرّدة ولطافتها ولا في كثرة الأجساد الهيولانية وكثافتها.

ص: 28


1- المواقف : 8 / 390.
2- تفسير ابن العربي : 1 / 150.
3- الرحمن : 19 - 20.

ولكن مع ذلك لا يبغيان ، أي لا يتجاوز أحدهما حدّه فيغلب على الآخر بخاصيته ، فلا الروح المجرّدة تجرّد البدن وتخرج به وتجعله من جنسه ، ولا البدن يجسّد الروح ويجعله مادياً (1).

تجد نظائر هذا في كتبه ، كالفتوحات المكية ، والفصوص ، فيطبّق كثيراً من الآيات القرآنية على كثير من نظرياته الصوفية ، وقد مني الإسلام بأصحاب الجمود في القرون الأُولى وحتى الآن ، كما مني بالمؤوّلة من الباطنية والمتصوّفة من أوائل القرن الثالث حتى الآن.

التأويل باسم التفسير العلمي

غير أنّ التأويل قد اتخذ في العصر الحاضر لوناً خاصّاً واسماً فخماً ، يطلق عليه التفسير العلمي ، فالغاية عند هذه الطبقة إخضاع القرآن للمكتشفات العصرية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية ، والحيوانات والنباتات ، والجواهر المعدنية ، وقد ظهرت هذه النزعة في أواخر القرن الثالث عشر الهجري ، وأُلّفت هناك كتب أبسطها كتاب « الجواهر في تفسير القرآن الكريم » للشيخ طنطاوي جوهري المصري.

لكن التفسير بهذا النمط ، إنّما يستحسن إذا وافق ظاهر الآية ، غير أنَّ المؤلفين في هذا القسم لا يكتفون بذلك بل يفسرون القرآن لغاية إخضاعه للمكتشفات ، ترى أنّهم يفسرون قوله سبحانه : ( وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ) (2) بالميكروب ، وقد ناقشنا هذا اللون من التفسير في بعض مسفوراتنا.

ص: 29


1- تفسير ابن العربي : 2 / 280.
2- الفيل : 3.

التأويل الإلحادي

هذا النوع من التأويل مني به الإسلام منذ زمن بعيد غير أنّه أخذ في هذه الأعصار صبغة علمية تخدع عقول الشباب ، والحافز إلى هذا النوع من التأويل هو إخضاع المفاهيم الغيبية للأُمور الحسيّة المادية ، ونأتي بنماذج من هذا النوع حتى يقف القارئ الكريم على أنّ هذا النوع من التأويل في العصر الحاضر ، والتأويل عند الباطنية في الأعصار السالفة ، وجهان لعملة واحدة.

1. انّه سبحانه عندما يعدّ معاجز عيسى وآياته يقول : ( قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (1) فأصحاب تلك المدرسة يزعمون أنّه تمثيل لأخراج الناس من ثقل الجهل وظلماته إلى خفة العلم ونوره ، وأنّ المراد من ( الأَكْمَهَ ) من ليس عنده نظر ، كما أنّ المراد من ( الأَبْرَصَ ) المتلوّن بما يشوّه الفطرة (2).

فإذا كان هذا هو المقياس في تفسير القرآن الكريم فهو تفسير القرآن على عمى ، فلا تراعى فيه اللغة ، ولا قوانين الأدب ، ولاقوانين البلاغة ، ولا السنّة الصحيحة ولا ... ولا ... .

وعلى هذا الأساس عاد الكاتب ينكر أن يكون إبراهيم قد أُلقي في النار وخرج منها سالماً (3). كما ينكر معاجز داود وسليمان ، وينكر الملائكة والجن والشيطان (4). إلى غير ذلك من التأويلات المزيّفة الّتي تساير الروح الإلحادية.

ص: 30


1- آل عمران : 49.
2- الهدية والعرفان في تفسير القرآن : 45.
3- لاحظ المصدر نفسه : 7 ، 256 ، 357.
4- لاحظ المصدر نفسه : 7 ، 256 ، 357.

والعجب أنَّ علاّمة مصر الشيخ محمد عبده شيخ الأزهر الّذي كان يرتجى منه الحفاظ على المفاهيم الأصيلة ، تورّط في هذا المأزق ، ففسر الملائكة وإبليس تفسيراً ماديّاً بعيداً عن ساحته (1).

كما أنّ موقفه في تفسير السحر كذلك أيضاً ، حيث يفسر قوله سبحانه : ( مِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) (2) بالنّمامين المقطعين لروابط الإلفة ، المحرقين لها بما يلقون عليها من ضرام نمائمهم (3).

وقد تأثر بهذا المنهج تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا ، فعاد ينكر أن يكون للنبي معجزة غير القرآن الكريم ، ويقول في جواب المحتجين بانشقاق القمر : قد بيّنّا أنّ ما تدلّ عليه الآيات القرآنية المؤيدة بحديث الصحيحين الصريح في حصر معجزة نبوّته في القرآن ، هوالحق الّذي لا ينهض لمعارضته شيء (4).

فإذا كان شيخ الأزهر ( عبده ) وتلميذه سائرين على هذا النمط من التأويل ، فما الظن بغيرهما من البسطاء ؟!!

إذا كان ربُّ البيت بالدف مولعاً *** فشيمة أهل البيت كلُّهم الطرب

ولقد كان المفسّر المعاصر سيد قطب يميل إلى هذا النوع من التأويل ، ولكنّه عندما وصل إلى تفسير سورة الجن تنبّه إلى أنّ في هذا اللون من التأويل ضرراً وبيلاً وقال : الجزم بنفي وجود الجن ، ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمع بإنسان يحترم عقله أن يجزم بشيء.

ص: 31


1- لاحظ المنار : 1 / 267.
2- الفلق : 4.
3- تفسير جزء عم : 180.
4- تفسير المنار : 11 / 333 ; الوحي المحمدي : 69.

إنّ طريقنا هو إبطال الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم ، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس بلاحجة ولا دليل (1).

وهذه المناهج المنحرفة ممّا لا يوافق عليها العقل ولا الكتاب العزيز ولا السنّة النبوية ولا أحاديث العترة الطاهرة ، فلا مناص من الحفاظ على المعارف الغيبية والتعمّق فيها ، مجانباً الجمود على الظواهر ، والتأويل بلا دليل وحجة ، وهذا هو الّذي سلكناه في فهم كتاب اللّه واستخراج معارفه ، أرجو منه سبحانه أن يجعله ضياءً ونوراً يسعى بين أيدينا في يوم القيامة إنّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

15 شوال المكرم 1407 ه

ص: 32


1- في ظلال القرآن الكريم : 29 / 140.

1

عصمة الأنبياء علیهم السلام في القرآن الكريم

اشارة

ص: 33

في هذا الفصل

1. مبدأ ظهور فكرة العصمة في الأُمّة الإسلامية.

2. ما هي حقيقة العصمة ؟

3. العصمة هي الدرجة القصوى من التقوى.

4. العصمة نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي.

5. العصمة الاستشعار بعظمة الرب وكماله.

6. هل العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي ؟

7. هل العصمة تسلب الاختيار ؟

8. مراحل العصمة الثلاث.

9. الآيات الدالة على عصمة الأنبياء في أمر الرسالة.

10. الآيات الدالة على مصونية الأنبياء عن المعصية.

11. حجة المخالفين للعصمة.

12. ما يستدل به من الآيات على عدم عصمتهم في مورد مطلق الأنبياء.

13. ما يستدل به من الآيات الّتي تمس عصمة عدة خاصة من الأنبياء.

14. عصمة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وما تمسّكت به المخطّئة.

15. عصمة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله من الخطأ والسهو.

16. دين النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله قبل البعثة ، والآيات الخمس الّتي تمسّكت بها المخطّئة في ذلك المجال.

ص: 34

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

اشارة

قد استعملت لفظة « العصمة » في القرآن الكريم بصورها المختلفة ثلاث عشرة مرة ، وليس لها إلاّ معنى واحد وهو الإمساك والمنع ، ولو استعملت في موارد مختلفة فإنّما هو بملاحظة هذا المعنى.

قال ابن فارس : « عصم » أصل واحد صحيح يدل على إمساك ومنع وملازمة ، والمعنى في ذلك كله معنى واحد ، من ذلك : « العصمة » أن يعصم اللّه تعالى عبده من سوء يقع فيه ، « واعتصم العبد باللّه تعالى » : اذا امتنع ، و « استعصم » : التجأ ، وتقول العرب : « أعصمت فلاناً » أي هيّأت له شيئاً يعتصم بما نالته يده. أي يلتجئ ويتمسك به (1).

إنّ اللّه سبحانه يأمر المؤمنين بالاعتصام بحبل اللّه بقوله : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ) (2).

والمراد التمسك والأخذ به بشدة وقوة وينقل سبحانه عن امرأة العزيز قولها : ( وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) (3).

وقد استعملت تلك اللفظة في الآية الأُولى في الإمساك والتحفّظ ، وفي الآية

ص: 35


1- المقاييس : 4 / 331.
2- آل عمران : 103.
3- يوسف : 32.

الثانية في المنع والامتناع ، والكل يرجع إلى معنى واحد.

ولأجل ذلك نرى العرب يسمّون الحبل الذي تشد به الرحال : « العصام » ، لأنّه يمنعها من السقوط والتفرّق.

قال المفيد : إنّ العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشيء كأنّه امتنع به عن الوقوع في ما يكره ، ومنه قولهم : اعتصم به الإنسان من الشيء كأنّه امتنع به عن الوقوع في ما يكره. ومنه قولهم : « اعتصم فلان بالجبل » إذا امتنع به ، ومنه سميت العصم وهي وعول الجبال لامتناعها بها.

والعصمة من اللّه هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان في ما يكره إذا أتى بالطاعة ، وذلك مثل إعطائنا رجلاً غريقاً حبلاً ليتشبث به فيسلم ، فهو إذا أمسكه واعتصم به ، سمّي ذلك الشيء عصمة له ، لما تشبّث به فسلم به من الغرق ، ولو لم يعتصم به لم يسم عصمة (1).

وعلى كل تقدير فالمراد من العصمة صيانة الإنسان من الخطأ والعصيان ، بل الصيانة في الفكر والعزم ، فالمعصوم المطلق من لا يخطأ في حياته ، ولا يعصي اللّه في عمره ولا يريد العصيان ولا يفكر فيه.

مبدأ ظهور فكرة العصمة في الأُمّة الإسلامية

إنّ الكتب الكلامية - قديمها وحديثها - مليئة بالبحث عن العصمة ، وإنّما الكلام في مبدأ ظهور تلك الفكرة بين المسلمين ، وانّه من أين نشأ هذا البحث وكيف التفت علماء الكلام إلى هذا الأصل ؟

لا شك انّ علماء اليهود ليسوا بالمبدعين لهذه الفكرة ، لأنّهم ينسبون إلى

ص: 36


1- أوائل المقالات : 11.

أنبيائهم معاصي كثيرة ، والعهد القديم يذكر ذنوب الأنبياء التي يصل بعضها إلى حد الكبائر ، وربّما يخجل القلم عن ذكر بعضها استحياء ، فالأنبياء عندهم عصاة خاطئون ، وعند ذلك لا تكون أحبار اليهود مبدعين لهذه المسألة.

نعم انّ علماء النصارى ، وإن كانوا ينزهون المسيح من كل عيب وشين ، ولكن تنزيههم ليس بملاك انّ المسيح بشر أرسل لتعليم الإنسان وإنقاذه ، بل هو عندهم « الإله المتجسد » أو هو ثالث ثلاثة.

وعند ذلك لا يمكن أن يكون علماؤهم مبدعين لهذه المسألة في الأبحاث الكلامية ، لأنّ موضوع العصمة هو « الإنسان ».

ويذكر « المستشرق رونالدسن » في كتابه « عقيدة الشيعة » انّ فكرة عصمة الأنبياء في الإسلام مدينة في أصلها وأهميتها التي بلغتها بعدئذ ، إلى تطور « علم الكلام » عند الشيعة وأنّهم أوّل من تطرق إلى بحث هذه العقيدة ووصف بها أئمتهم ، ويحتمل أن تكون هذه الفكرة قد ظهرت في عصر الصادق ، بينما لم يرد ذكر العصمة عند أهل السنة إلاّ في القرن الثالث للهجرة بعد أن كان الكليني قد صنّف كتابه « الكافي في أُصول الدين » (1) وأسهب في موضوع العصمة.

ويعلّل « رونالدسن » بأنّ الشيعة لكي يثبتوا دعوى الأئمّة تجاه الخلفاء السنيّين أظهروا عقيدة عصمة الرسل بوصفهم أئمّة أو هداة (2).

ص: 37


1- لقد توفي محمد بن يعقوب الكليني في العقد الثالث من القرن الرابع أي عام 328 ه ، فلو استفحلت مسألة العصمة في القرن الثالث عند أهل السنّة حسب اعتراف الرجل ، فكيف يكون كتاب الكافي منشئاً لهذه الحركة الفكرية ، أفهل يمكن تأثير المتأخر في المتقدم ، وهل يكون العائش في القرن الرابع مؤثراً في فكر من يعيش في القرن الثالث ، أضف إليه أنّ كتاب الكافي لم يؤلف في الأُصول وحدها ، بل هو كتاب مشتمل على أحاديث تربو على ستة عشر ألف حديث حول أُصول الدين وفروعه.
2- عقيدة الشيعة : 328.

إنّ هذا التحليل لا يبتنى على أساس رصين وإنّما هو من الأوهام والأساطير التي اخترعتها نفسية الرجل وعداؤه للإسلام والمسلمين أوّلاً ، والشيعة وأئمّتهم ثانياً ، وسيوافيك بيان منشأ ظهور تلك الفكرة.

القرآن يطرح مسألة العصمة

إنّ العصمة بمعنى المصونية عن الخطأ والعصيان مع قطع النظر عمن يتصف بها ، قد ورد في القرآن الكريم ، فقد جاء وصف الملائكة الموكلين على الجحيم بهذا الوصف إذ يقول : ( عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (1).

ولا يجد الإنسان كلمة أوضح من قوله سبحانه : ( لا يَعْصُونَ اللّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) في تحديد حقيقة العصمة ، وواقعها ، والفات الإنسان المتدبر في القرآن إلى هذه الفكرة ، وذاك الأصل.

إنّ اللّه سبحانه يصف الذكر الحكيم بقوله : ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (2).

كما يصفه أيضاً بقوله : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ ) (3).

فهذه الأوصاف تنص على مصونية القرآن من كل خطاء وضلال.

وعلى ذلك فالعصمة بمفهومها الوسيع ، مع قطع النظر عن موصوفها ، قد طرحها القرآن وألفت نظر المسلمين إليها ، من دون أن يحتاج علماؤهم إلى أخذ

ص: 38


1- التحريم : 6.
2- فصلت : 42.
3- الإسراء : 9.

هذه الفكرة من الأحبار والرهبان.

نعم انّ الموصوف في هذه الآيات وان كانت هي الملائكة أو القرآن الكريم والمطروح عند علماء الكلام هو عصمة الأنبياء والأئمّة ، لكن الاختلاف في الموصوف لا يضر بكون القرآن مبدعاً لهذه الفكرة ، لأنّ المطلوب هو الوقوف على منشأ تكوّن هذه الفكرة ، ثم تطورها عند المتكلّمين ، ويكفي في ذلك كون القرآن قد طرح هذه المسألة في حق الملائكة والقرآن.

عصمة النبي في القرآن الكريم

إنّ العصمة ذات مراحل أربع ، وقد تكفل القرآن ببيان تلك المراحل في مورد الأنبياء عامة ، ومورد النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله خاصة ، وسيوافيك بيان تلك المراحل ودلائلها القرآنية.

فإذا كان القرآن هو أوّل من طرح هذه المسألة بمراحلها ودلائلها ، فكيف يصح أن ينسب إلى الشيعة ويتصور أنّهم الأصل في طرح هذه المسألة ؟!

وإن كنت في ريب مما ذكرناه - هنا - فلاحظ قوله سبحانه في حق النبي الأكرم حيث يصف منطقه الشريف بقوله : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1).

فترى الآيتين تشيران - بوضوح - إلى أنّ النبي لا ينطق عن ميول نفسانية وانّ ما ينطق به ، وحي أُلقي في روعه وأُوحي إلى قلبه ، ومن لا يتكلم عن الميول النفسانية ، ويعتمد في منطقه على الوحي يكون مصوناً من الزلل في المرحلتين : مرحلة الأخذ والتلقّي ومرحلة التبليغ والتبيين.

على أنّ الآيات القرآنية تصف فؤاده وعينه بأنّهما لا يكذبان ولا يزيغان ولا

ص: 39


1- النجم : 3 - 4.

يطغيان ، إذ قال سبحانه : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * ... مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) (1).

أفيصح بعد هذه الآيات القرآنية تصديق ما ذكره هذا المستشرق اليهودي أو ذاك المستشرق النصراني فيما زعما في كون الشيعة مبدأ لطرح العصمة على بساط البحث ، وانّه وليد تكامل علم الكلام عند الشيعة في عصر الإمام الصادق علیه السلام مع أنّا نرى أنّ للمسألة جذوراً قرآنية ولا عتب على الشيعة أن يقتفوا أثر كتاب اللّه سبحانه ، ويصفوا أنبياءه ورسله بما وصفهم به صاحب العزة في كتابه.

نظرية أحمد أمين حول كلام الشيعة

إنّ بعض المصريين كأحمد أمين ومن حذا حذوه يصرّون على أنّ الشيعة أخذت منهجها الفكري في العدل والعصمة وغيرهما من الأفكار ، من المعتزلة حيث قالوا : إنّ الشيعة يقولون في كثير من مسائل أُصول الدين بقول المعتزلة ، فقد قال الشيعة كما قال المعتزلة بأنّ صفات اللّه عين ذاته ، وبأنّ القرآن مخلوق وبإنكار الكلام النفسي ، وإنكار رؤية اللّه بالبصر في الدنيا والآخرة ، كما وافق الشيعة المعتزلة في القول بالحسن والقبح العقليين ، وبقدرة العبد واختياره وانّه تعالى لا يصدر عنه قبيح وانّ أفعاله معللة بالأغراض.

وقد قرأت كتاب الياقوت لأبي إسحاق إبراهيم من قدماء متكلمي الشيعة الإمامية (2) فكنت كأني أقرأ كتاباً من كتب أُصول المعتزلة إلاّ في مسائل معدودة ، كالفصل الأخير في الإمامة وإمامة علي وإمامة الأحد عشر بعده ، ولكن أيّهما أخذ من الآخر ؟!

ص: 40


1- النجم : 11 - 17.
2- قال أحمد أمين تعليقاً على هذه الجملة : وهو مخطوط نادر تفضل صديقي الأُستاذ أبو عبد اللّه الزنجاني فأهدانيه. أقول : إنّ هذا الكتاب طبع أخيراً في إيران مع شرح العلامة الحلّي.

أمّا بعض الشيعة فيزعم انّ المعتزلة أخذوا عنهم وانّ واصل بن عطاء تتلمذ لجعفر الصادق ، وأنّا أرجح أن الشيعة هم الذين أخذوا من المعتزلة تعاليمهم ... ونشوء مذهب الاعتزال يدل على ذلك ، وزيد بن علي زعيم الفرقة الشيعية الزيدية تتلمذ لواصل ، وكان جعفر « الصادق » يتصل بعمه زيد ويقول أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : كان جعفر بن محمد يمسك لزيد بن علي بالركاب ، ويسوي ثيابه على السرج (1) فإذا صح ما ذكره الشهرستاني وغيره من تتلمذه لواصل ، فلا يعقل كثيراً أن يتتلمذ واصل لجعفر ، وكثير من المعتزلة كان يتشيع ، فالظاهر انّه عن طريق هؤلاء تسربت أُصول المعتزلة إلى الشيعة (2).

مناقشة نظرية أحمد أمين

ما ذكره الكاتب المصري اجتهاد في مقابل تنصيص أئمّة المعتزلة أنفسهم بأنّهم أخذوا أُصولهم من محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم وهما أخذا عن علي بن أبي طالب والدهما العظيم ، وإليك بعض نصوصهم :

قال الكعبي : والمعتزلة يقال أن لها ولمذهبها اسناداً يتصل بالنبي ليس لأحد من فرق الأُمّة مثله ، وليس يمكن خصومهم دفعهم عنه ، وهو انّ خصومهم يقرّون بأنّ مذهبهم يسند إلى واصل بن عطاء ، وان واصلاً يسند إلى محمد بن علي بن أبي طالب ، وابنه أبي هاشم « عبد اللّه بن محمد بن علي » وانّ محمداً أخذ عن أبيه علي وانّ علياً أخذ عن رسول اللّه (3).

وقال أيضاً : وكان واصل بن عطاء من أهل المدينة ربّاه محمد بن علي بن أبي

ص: 41


1- مقاتل الطالبيين : 93.
2- ضحى الإسلام : 267 - 268.
3- رسائل الجاحظ : 228 ، تحقيق عمر أبو النصر.

طالب وعلّمه (1).

وكان مع ابنه أبي هاشم في الكتّاب ثم صحبه بعد موت أبيه مدة طويلة وحكي عن بعض السلف انّه قيل له : كيف كان علم محمد بن علي فقال : إذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى أثره « واصل ».

وهكذا ذكروا في عمرو بن عبيد انّه أخذ عن أبي هاشم أيضاً ، وقال القاضي « عبد الجبار » : فأمّا أبو هاشم عبد اللّه بن محمد بن علي فلو لم يظهر علمه وفضله إلاّ بما ظهر عن واصل بن عطاء لكفى ، وكان يأخذ العلم عن أبيه وكان واصل بمنزلة كتاب صنعه أبو هاشم ، وكذلك أخوه غيلان بن عطاء يقال انّه أخذ العلم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أخي أبي هاشم (2).

وقال الجاحظ : ومن مثل محمد الحنفية وابنه أبي هاشم الذي قرأ علوم التوحيد والعدل حتى قالت المعتزلة : غلبنا الناس كلّهم بأبي هاشم الأوّل.

قال ابن أبي الحديد : إنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي ، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف ، ومن كلامه ( علي ) علیه السلام اقتبس ، وعنه نقل ، ومنه ابتدئ وإليه انتهى ، فإنّ المعتزلة - الذين هم أصل التوحيد والعدل وأرباب النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن - تلامذته ، وأصحابه ، لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه.

وأمّا الأشعرية فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي ، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعرية

ص: 42


1- فضل الاعتزال : 234.
2- فضل الاعتزال : 226.

ينتهون بالآخرة إلى استاذ المعتزلة ومعلمهم ، وهو علي بن أبي طالب (1).

وقال المرتضى في أماليه : اعلم أنّ أُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين - صلوات اللّه عليه - وخطبه ، فإنّها تتضمن من ذلك ما لا زيادة عليه ، ولا غاية وراءه ، ومن تأمل المأثور في ذلك من كلامه ، علم أنّ جميع ما أسهب المتكلمون من بعده في تصنيفه وجمعه إنّما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأُصول ، وروي عن الأئمّة من أبنائه علیه السلام في ذلك ما لا يكاد يحاط به كثرة ، ومن أحب الوقوف عليه وطلبه من مظانه ، أصاب منه الكثير ، الغزير ، الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة ، ونتاج للعقول العقيمة (2).

وقال العلاّمة السيد مهدي الروحاني في تعليقه على نظرية أحمد أمين : إنّ أحمد أمين قد لفق ذلك التوجيه والرد ليقطع انتساب الاعتزال والمعتزلة إلى أمير المؤمنين ولم نر أحداً من الشيعة قال بتتلمذ واصل للإمام الصادق علیه السلام حتى يرد عليه أنّ الصادق كان يمسك الركاب لتلميذ واصل ، وهو زيد. فتتلمذه للصادق بعيد ، بل وجه اتصال المعتزلة بأمير المؤمنين هو ما ذكروه أنفسهم ( حسب ما عرفت ) ، ومجرد إمساك الإمام الصادق بالركاب لعمه زيد رحمه اللّه لا يدل على أنّ الصادق تتلمذ لعمه زيد ، وانّما فعل أحمد أمين ذلك بدافع من هواه المعروف عنه ، والظاهر في كتبه ، وهو أن يسلب عن علي ما ينسب إليه من الفضائل مهما أمكن ولكن بصورة التحقيق العلمي علّ ذلك ينطلي على الناس ... وذلك بعد ما ظهر من الغربيين تقريظات ومقالات فيها تعظيم للمعتزلة وتعريف لهم بأنّهم أصحاب الفكر الحر ، لم تسمح نفس أحمد أمين بأن تكون جماعة كهؤلاء ينتسبون في أُصول مذهبهم وأفكارهم إلى علي ، فلفق ذلك التوجيه والرد والإغفال.

ص: 43


1- الشرح الحديدي : 1 / 17.
2- غرر الفوائد ودرر القلائد أو أمالي المرتضى : 1 / 148.

كما أنّه قد أنكر بلا دليل انتساب علم النحو إليه مع أنّ ابن النديم قال في الفهرست : زعم أكثر العلماء انّ النحو أخذه أبو الأسود عن أمير المؤمنين علیه السلام (1).

عود على بدء

فلنرجع إلى دراسة وجود جذور عصمة النبي في كلام علي علیه السلام حيث إنّه يصف النبي في الخطبة القاصعة بقوله :

ولقد قرن اللّه به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره (2).

ودلالة هذه القمة العالية من هذه الخطبة على عصمة النبي في القول والعمل عن الخطأ والزلل واضحة ، فإنّ من رباه أعظم ملك من ملائكة اللّه سبحانه من لدن أن كان فطيماً ، إلى أُخريات حياته الشريفة ، لا تنفك عن المصونية من الانحراف والخطأ ، كيف وهذا الملك يسلك به طريق المكارم ، ويربيه على محاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، وليست المعصية إلاّ سلوك طريق المآثم ومساوئ الأخلاق ، ومن يسلك الطريق الأوّل يكون متجنباً عن سلوك الطريق الثاني.

إنّ الإمام أمير المؤمنين لا يصف خصوص النبي صلی اللّه علیه و آله بالعصمة في هذه الخطبة ، بل يصف آل النبي صلی اللّه علیه و آله بقوله : « هم عيش العلم ، وموت الجهل ، يخبرهم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم ، لا يخالفون الحق ، ولا يختلفون فيه ، هم دعائم الإسلام ، وولائج الاعتصام ، بهم عاد

ص: 44


1- بحوث مع أهل السنّة والسلفية : 108 ، وقد نقلنا بعض النصوص السابقة في حق المعتزلة عن ذلك الكتاب.
2- نهج البلاغة الخطبة : 187 ، طبعة عبده.

الحق في نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ، لا عقل سماع ودعاية » (1).

لاحظ هذا الكلام وأمعن النظر فيه هل ترى كلمة أوضح في الدلالة على مصونيتهم من الذنوب وعصمتهم عن الآثام من قوله : « لا يخالفون الحق ، ولا يختلفون فيه » أي لا يعدلون عن الحق ، ولا يختلفون فيه ، قولاً وفعلاً كما يختلف غيرهم من الفرق ، وأرباب المذاهب ، فمنهم من له في المسألة قولان ، أو أكثر ، ومنهم من يقول قولاً ثم يرجع عنه ، ومنهم من يرى في أُصول الدين رأياً ثم ينفيه ويتركه.

إنّ الإمام يصف آل النبي بقوله : « عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية » أي عرفوا الدين ، وعلموه ، معرفة من فهم الشيء وأتقنه ، ووعوا الدين وحفظوه ، وحاطوه ليس كما يعقله غيرهم عن سماع ودعاية ».

وعلى الجملة انّ قوله علیه السلام : « لا يخالفون الحق » ، دليل على العصمة عن المعصية وقوله : « عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية » دليل على مصونيتهم عن الخطأ ، وسلامتهم في فهم الدين ووعيه.

والإمام لا يكتفي ببيان عصمة آل رسول اللّه بهذين الكلامين ، بل يصف أحب عباد اللّه إليه بعبارات وجمل تساوق العصمة ، وتعادلها ، إذ يقول :

« أعانه اللّه على نفسه ، فاستشعر الحزن ، وتجلبب الخوف ، فزهر مصباح الهدى في قلبه ، وأعدّ القرى ليومه النازل به ، فقرّب على نفسه البعيد ، وهوّن الشديد ، نظر فأبصر ، وذكر فاستكثر ، وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده فشرب نهلاً ، وسلك سبيلاً جدداً ، قد خلع سرابيل الشهوات ، وتخلّى من الهموم إلاّ

ص: 45


1- نهج البلاغة الخطبة 234 ، طبعة عبده.

هماً واحداً انفرد به ، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى ، ومغاليق أبواب الردى ، قد أبصر طريقه ، وسلك سبيله ، وعرف مناره وقطع غماره ، واستمسك من العرى بأوثقها ، ومن الحبال بأمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس ، قد نصب نفسه للّه سبحانه في أرفع الأُمور من إصدار كل وارد عليه ، وتصيير كل فرع إلى أصله ، مصباح ظلمات ، كشاف عشوات ، مفتاح مبهمات ، دفّاع معضلات ، دليل فلوات ، يقول فيفهم ، ويسكت فيسلم ، قد أخلص للّه فاستخلصه فهو من معادن دينه ، وأوتاد أرضه ، قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه ، يصف الحق ويعمل به ، لا يدع للخير غاية ، إلاّ أمّها ، ولا مظنة إلاّ قصدها ، قد أمكن الكتاب من زمامه ، فهو قائده وإمامه ، يحل حيث حل ثقله ، وينزل حيث كان منزله (1).

ولا أرى أحداً نظر في هذه الخطبة ، وأمعن النظر في عباراته وجمله ، إلاّ وأيقن أنّ الموصوف بهذه الصفات في القمة الأعلى من العصمة. فهل ترى من نفسك انّ من لا يكون له إلاّ هم واحد وهو الوقوف عند حدود الشريعة ومن ألزم على نفسه العدل ونفى الهوى عن نفسه ، أن لا يكون مصوناً من المعصية ، ومعتصماً من الزلل ، كيف وقد أمكن القرآن من زمامه ، فهو قائده وإمامه يحل حيث حل ، وينزل حيث نزل.

قال ابن أبي الحديد : إنّ هذا الكلام منه أخذ أصحابه علم الطريقة والحقيقة وهو تصريح بحال العارف ومكانته من اللّه ، والعرفان درجة حال رفيعة شريفة جداً مناسبة للنبوة ويختص اللّه تعالى بها من يقربه إليه من خلقه.

وقال أيضاً : إنّ هذه الصفات والشروط والنعوت التي ذكرها في شرح حال العارف إنّما يعني بها نفسه ، وهو من الكلام الذي له ظاهر وباطن ، فظاهره أن

ص: 46


1- نهج البلاغة الخطبة 83 ، طبعة عبده.

يشرح حال العارف المطلق ، وباطنه أن يشرح حال العارف المعين وهو نفسه علیه السلام .

ثم إنّ الشارح الحديدي أخذ في تفسير هذه الصفات والشروط واحداً بعد آخر ، إلى أن بلغ إلى الشرط السادس عشر (1) ومن أراد الوقوف على أهداف الخطبة فليرجع إليه وإلى غيره من الشروح.

هذه جذور المسألة في الكتاب والسنّة ، نعم انّ المتكلمين هم الذين عنونوا مسألة العصمة وطرحوها في الأوساط الإسلامية ، فذهبت العدلية من الشيعة والمعتزلة إلى جانب النفي والسلب على أقوال وتفاصيل بين طوائفهم ، وقد أقام كل فريق دليلاً على مدعاه.

ولا يمكن أن ينكر أنّ المناظرات التي دارت بين الإمام علي بن موسى الرضا وأهل المقالات من الفرق الإسلامية قد أعطت للمسألة مكانة خاصة ، فقد أبطل الإمام الرضا علیه السلام كثيراً من حجج المخالفين في مجال نفي العصمة عن الأنبياء عامة والنبي الأعظم خاصة ، ولولا خوف الإطالة لأتينا ببعض هذه المناظرات التي دارت بين الإمام علیه السلام وأهل المقالات من الفرق الإسلامية ، وإن شئت الوقوف عليها فراجع بحار الأنوار (2). وسوف نرجع في نهاية المطاف إلى تفسير بعض الآيات التي تمسّك بها المخالف في مجال نفي العصمة عن الأنبياء.

ما هي حقيقة العصمة ؟
اشارة

عرف المتكلمون العصمة على الإطلاق بأنّها قوة تمنع الإنسان عن اقتراف

ص: 47


1- الشرح الحديدي : 6 / 367 - 370.
2- بحار الأنوار : 11 / 72 - 85.

المعصية والوقوع في الخطأ (1).

وعرّفها الفاضل المقداد بقوله : العصمة عبارة عن لطف يفعله اللّه في المكلف بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة ولا إلى فعل المعصية مع قدرته على ذلك ويحصل انتظام ذلك اللطف بأن يحصل له ملكة مانعة من الفجور والإقدام على المعاصي مضافاً إلى العلم بما في الطاعة من الثواب ، والعصمة من العقاب ، مع خوف المؤاخذة على ترك الأَولى ، وفعل المنسي (2)إبطال نهج الباطل لفضل بن روزبهان علی ما نقله عنه صاحب دلائل الصدق: 370/1-371.(3).

أقول : اذا كانت حقيقة العصمة عبارة عن القوة المانعة عن اقتراف المعصية والوقوع في الخطاء ، كما عرّفه المتكلمون فيقع الكلام في موردين :

الأوّل : العصمة عن المعصية.

الثاني : العصمة عن الخطأ.

ولتوضيح حال المقامين من حيث الاستدلال والبرهنة يجب أن يبحث قبل كل شيء عن حقيقة العصمة.

إنّ حقيقة العصمة عن اقتراف المعاصي ترجع إلى أحد أُمور ثلاثة على وجه منع الخلو ، وان كانت غير مانعة عن الجمع :

ص: 48


1- الميزان : 2 / 142 ، طبعة طهران.
2- إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين : 301 - 302 ، ومن العجب تفسير الأشاعرة للعصمة على ما يقتضيه أصلهم من استناد الأشياء كلّها إلى الخالق المختار ابتداءً : بأن لا يخلق اللّه فيهم ذنباً (
3- ).
1. العصمة الدرجة القصوى من التقوى

العصمة ترجع إلى التقوى بل هي درجة عليا منها ، فما توصف به التقوى وتعرف به تعرف وتوصف به العصمة.

لا شك أنّ التقوى حالة نفسانية تعصم الإنسان عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي ، فإذا بلغت تلك الحالة إلى نهايتها تعصم الإنسان عن اقتراف جميع قبائح الأعمال ، وذميم الفعال على وجه الإطلاق ، بل تعصم الإنسان حتى عن التفكير في المعصية ، فالمعصوم ليس خصوص من لا يرتكب المعاصي ويقترفها بل هو من لا يحوم حولها بفكره.

إنّ العصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس لها آثار خاصة كسائر الملكات النفسانية من الشجاعة والعفة والسخاء ، فإذا كان الإنسان شجاعاً وجسوراً ، سخياً وباذلاً ، وعفيفاً ونزيهاً ، يطلب في حياته معالي الأُمور ، ويتجنب عن سفاسفها فيطرد ما يخالفه من الآثار ، كالخوف والجبن والبخل والإمساك ، والقبح والسوء ، ولا يرى في حياته أثراً منها.

ومثله العصمة ، فإذا بلغ الإنسان درجة قصوى من التقوى ، وصارت تلك الحالة راسخة في نفسه يصل الإنسان إلى حد لا يرى في حياته أثر من العصيان والطغيان ، والتمرّد والتجرّي ، وتصير ساحته نقية عن المعصية.

وأمّا أنّ الإنسان كيف يصل إلى هذا المقام ؟ وما هو العامل الذي يمكنه من هذه الحالة ؟ فهو بحث آخر سنرجع إليه في مستقبل الأبحاث.

فإذا كانت العصمة من سنخ التقوى والدرجة العليا منها ، يسهل لك تقسيمها إلى العصمة المطلقة والعصمة النسبية.

فإنّ العصمة المطلقة وإن كانت تختص بطبقة خاصة من الناس لكن

ص: 49

العصمة النسبية تعم كثيراً من الناس من غير فرق بين أولياء اللّه وغيرهم ، لأنّ الإنسان الشريف الذي لا يقل وجوده في أوساطنا ، وإن كان يقترف بعض المعاصي لكنه يجتنب عن بعضها اجتناباً تاماً بحيث يتجنب عن التفكير بها فضلاً عن الإتيان بها.

مثلاً الإنسان الشريف لا يتجوّل عارياً في الشوارع والطرقات مهما بلغ تحريض الآخرين له على ذلك الفعل ، كما أنّ كثيراً من اللصوص لا يقومون بالسرقة في منتصف الليل متسلحين لانتهاب شيء رخيص ، كما أنّ كثيراً من الناس لا يقومون بقتل الأبرياء ولا بقتل أنفسهم وان عرضت عليهم مكافآت مادية كبيرة ، فإنّ الحوافز الداعية إلى هذه الأفاعيل المنكرة غير موجودة في نفوسهم ، أو أنّها محكومة ومردودة بالتقوى التي تحلّوا بها ، ولأجل ذلك صاروا بمعزل عن تلك الأفعال القبيحة حتى أنّهم لا يفكّرون فيها ولا يحدّثون بها أنفسهم أبداً.

والعصمة النسبية التي تعرفت عليها تقرب حقيقة العصمة المطلقة في أذهاننا ، فلو بلغت تلك الحالة النفسانية الرادعة في الإنسان مبلغاً كبيراً ومرحلة شديدة بحيث تمنعه من اقتراف جميع القبائح ، يصير معصوماً مطلقاً ، كما أنّ الإنسان في القسم الأوّل صار معصوماً نسبياً.

وعلى الجملة : إذا كانت حوافز الطغيان والعصيان والبواعث على المخالفة محكومة عند الإنسان ، منفورة لديه لأجل الحالة الراسخة ، يصير الإنسان معصوماً تاماً منزهاً عن كل عيب وشين.

2. العصمة : نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي

قد تعرفت على النظريّة الأُولى في حقيقة العصمة وانّها عبارة عن : الدرجة

ص: 50

العليا من التقوى ، غير انّ هناك نظرية أُخرى في حقيقتها ، لا تنافي النظرية الأُولى ، بل ربّما تعد من علل تحقق الدرجة العليا من التقوى التي عرفنا العصمة بها وموجب تكونها في النفس ، وحقيقة هذه النظرية عبارة عن « وجود العلم القطعي اليقيني بعواقب المعاصي والآثام » علماً قطعياً لا يغلب ولا يدخله شك ، ولا يعتريه ريب ، وهو أن يبلغ علم الإنسان درجة يلمس في هذه النشأة لوازم الأعمال وآثارها في النشأة الأُخرى وتبعاتها فيها ، ويصير على حد يدرك بل يرى درجات أهل الجنة ودركات أهل النار ، وهذا العلم القطعي هو الذي يزيل الحجب بين الإنسان وتوابع الأعمال ، ويصير الإنسان مصداقاً لقوله سبحانه : ( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ ) (1) ، وصاحب هذا العلم هو الذي يصفه الإمام علي علیه السلام بقوله : « فهم والجنة كمن قد رآها ، فهم فيها منعمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون » (2).

فإذا بلغ العلم إلى هذه الدرجة من الكشف يصد الإنسان عن اجتراء المعاصي واقتراف المآثم بل لا يجول حولها فكره.

ولتوضيح تأثير هذا العلم في صيرورة الإنسان معصوماً من اقتراف الذنب نأتي بمثال :

إنّ الإنسان إذا وقف على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها قتل الإنسان إذا مسها من دون حاجز أو عائق بحيث يكون المس والموت مقترنين ، أحجمت نفسه عن مس تلك الأسلاك والاقتراب منها دون عائق.

هذا نظير الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم ، فإنّه إذا وقف على ماء اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص أو السل ، لم يقدم على شربه والاغتسال منه ومباشرته مهما اشتدت حاجته إلى ذلك لعلمه بما يجر عليه الشرب

ص: 51


1- التكاثر : 5 - 6.
2- نهج البلاغة : 2 : الخطبة 188 ، ص 187 ، طبعة عبده.

والاغتسال بذلك الماء الموبوء ، فإذا وقف الإنسان الكامل على ما وراء هذه النشأة من نتائج الأعمال وعواقب الفعال ورأى بالعيون البرزخية تبدل الكنوز المكتنزة من الذهب والفضة إلى النار المحماة التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ، امتنع عن حبس الأموال والإحجام عن إنفاقها في سبيل اللّه.

قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) (1).

إنّ ظاهر قوله سبحانه : ( هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ ) هو انّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ، ليست إلاّ نفس الذهب والفضة ، لكن بوجودهما الأُخرويّين ، وأنّ للذهب والفضة وجودين أو ظهورين في النشأتين فهذه الأجسام الفلزية ، تتجلّى في النشأة الدنيوية في صورة الذهب والفضة ، وفي النشأة الأُخروية في صورة النيران المحماة.

فالإنسان العادي اللامس لهذه الفلزات المكنوزة وان كان لا يحس فيها الحرارة ولا يرى فيها النار ولا لهيبها ، إلاّ أنّ ذلك لأجل أنّه يفقد حين المس ، الحس المناسب لدرك نيران النشأة الآخرة وحرارتها ، فلو فرض إنسان كامل يمتلك هذا الحس إلى جانب بقية حواسه العادية المتعارفة ويدرك بنحو خاص الوجه الآخر لهذه الفلزات ، وهو نيرانها وحرارتها ، يجتنبها ، كاجتنابه النيران الدنيوية ، ولا يقدم على كنزها ، وتكديسها.

وهذا البيان يفيد انّ للعلم مرحلة قويّة راسخة تصد الإنسان عن الوقوع في المعاصي والآثام ولا يكون مغلوباً للشهوات والغرائز.

قال جمال الدين مقداد بن عبد اللّه الأسدي السيوري الحلي في كتابه القيم

ص: 52


1- التوبة : 34 - 35.

« اللوامع الإلهية » : « ولبعضهم كلام حسن جامع هنا قالوا : العصمة ملكة نفسانية يمنع المتصف بها من الفجور مع قدرته عليه ، وتتوقف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات ، لأنّ العفّة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء ، والطاعة من السعادة ، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس فتصير ملكة » (1).

يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد : إنّ القوة المسمّاة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة ، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك ، لتسرب إليها التخلّف ، ولتخبط الإنسان على أثره أحياناً ، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة ، التي تقبل الاكتساب والتعلم ، وقد أشار اللّه في خطابه الذي خص به نبيه بقوله : ( وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ) (2) وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه ، إذ لا تذوق لنا في هذا المجال (3).

وهو قدس سره يشير إلى كيفية خاصة من العلم والشعور الذي أوضحناه بما ورد حول الكنز وآثاره.

3. الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجماله

إنّ هاهنا نظرية ثالثة في تبيين حقيقة العصمة يرجع لبها إلى أنّ استشعار العبد بعظمة الخالق وحبه وتفانيه في معرفته وعشقه له ، يصده عن سلوك ما يخالف رضاه سبحانه.

ص: 53


1- اللوامع الإلهية : 170.
2- النساء : 113.
3- الميزان : 5 / 81.

وتلك النظرية مثل النظرية الثانية لا تخالف النظرية الأُولى التي فسرناها من أنّ العصمة هي الدرجة العليا من التقوى ، بل يكون الاستشعار والتفاني دون الحق ، والعشق لجماله وكماله ، أحد العوامل لحصول تلك المرتبة من التقوى ، وهذا النحو من الاستشعار لا يحصل إلاّ للكاملين في المعرفة الإلهية البالغين أعلى قممها.

إذا عرف الإنسان خالقه كمال المعرفة الميسورة ، وتعرف على معدن الكمال المطلق وجماله وجلاله ، وجد في نفسه انجذاباً نحو الحق ، وتعلّقاً خاصاً به بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً ، فهذا الكمال المطلق هو الذي إذا تعرف عليه الإنسان العارف ، يؤجج في نفسه نيران الشوق والمحبة ، ويدفعه إلى أن لا يبتغي سواه ، ولا يطلب سوى إطاعة أمره وامتثال نهيه ، ويصبح كل ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه ، مقبوحاً في نظره ، أشد القبح. وعندئذ يصبح الإنسان مصوناً عن المخالفة ، بعيداً عن المعصية بحيث لا يؤثر على رضاه شيئاً ، وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام بقوله : « ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك إنّما وجدتك أهلاً للعبادة » (1).

هذه النظريات الثلاث أو النظرية الواحدة المختلفة في البيان والتقرير تعرب عن أنّ العصمة قوة في النفس تعصم الإنسان عن الوقوع في مخالفة الرب سبحانه وتعالى ، وليست العصمة أمراً خارجاً عن ذات الإنسان الكامل وهويته الخارجية.

نعم هذه التحاليل الثلاثة لحقيقة العصمة ، كلّها راجعة إلى العصمة عن المعصية والمصونية عن التمرد كما هو واضح لمن أعطى التأمل لها ، وأمّا العصمة في مقام تلقي الوحي والتحفظ عليه وإبلاغه إلى الناس ، أو العصمة عن الخطأ في

ص: 54


1- حديث معروف.

الحياة والأُمور الفردية أو الاجتماعية فلا بد أن توجه بوجوه غير هذه الثلاثة كما سيوافيك بيانها عند البحث عن المقام الثاني ، أعني : العصمة عن الخطأ والاشتباه ، والمهم هو البحث عن المقام الأوّل ، ولذلك قدّمنا الكلام فيه.

نعم هناك عدة روايات تصرح بأنّ ، هناك « روحاً » تعصم الأنبياء والرسل عن الوقوع في المهالك والخطايا ، وإليك بيانها :

الروح التي تسدد الأولياء

روى أبو بصير قال : سألت أبا عبد اللّه عن قول اللّه تبارك وتعالى : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) (1) قال : « خلق من خلق اللّه عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللّه يخبره ويسدده وهو مع الأئمّة من بعده » (2).

وهذه الرواية مع أنّ ظاهرها لا ينطبق على الآية ، لأنّ الوحي يتعلّق بالمفاهيم والألفاظ لا بالجواهر والأجسام ، فالملك الذي هو أعظم من جبرئيل وميكائيل لا يمكن أن يتعلّق به الوحي ، ويكون هو الموحى به ، وإنّما يتعلق به الإرسال والبعث ونحو ذلك ، لا صلة لها بباب المعاصي بل هي راجعة إلى التسديد في تلقي الوحي وإبلاغه إلى الناس ، وحفظهم عن الخطأ على وجه الإطلاق.

على أنّ هناك روايات تشعر بأنّ هذه الروح التي تؤيد الأنبياء غير خارجة عن ذواتهم ، وهذا جابر الجعفي يروي عن الإمام الصادق في تفسير قوله سبحانه : ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ

ص: 55


1- الشورى : 52.
2- الكافي : 1 / 273 ، باب « الروح التي يسدّد بها الأئمّة » الحديث 1 و2.

المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ ) (1) : « فالسابقون هم رسل اللّه ، وخاصة اللّه من خلقه جعل فيهم خمسة أرواح أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء ، وأيّدهم بروح الإيمان فبه خافوا اللّه عزّ وجلّ ، وأيدهم بروح القوة فبه قدروا على طاعة اللّه ، وأيّدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة اللّه عزّ وجلّ وكرهوا معصيته ، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون » (2).

ولا يخفى أنّ الأرواح الأربعة غير خارجة عن ذواتهم ، ولا يبعد أن تكون الخامسة وهي روح القدس غير خارجة عن ذواتهم ويكون المراد كمال نفوسهم إلى حد يعرفون الأشياء على ما هي عليها.

قال الشيخ صالح المازندراني في تفسير هذه الأرواح الخمسة : جعل اللّه تعالى بالحكمة البالغة والمصلحة الكاملة في الرسل والخاصة ، خمسة أرواح لحفظهم من الخطاء وتكميلهم بالعلم والعمل ليكون قولهم صدقاً ، وبرهاناً ، والاقتداء بهم رشداً وإيقاناً كيلا يكون لمن سواهم على اللّه حجة يوم القيامة ، ولعل المراد بالأرواح هنا النفوس (3).

وعلى أي تقدير فهذه الروايات التي تشهد بتسديد الأنبياء بها إمّا راجعة إلى تسديدهم في مقام تلقي الوحي ، أو راجعة إلى تسديدهم عن الخطاء في الأحكام والموضوعات والكل خارج عن إطار البحث ، وإنّما الكلام في صيانتهم عن المعاصي.

ص: 56


1- الواقعة : 6 - 11.
2- (2 الكافي : 1 / 261 باب فيه « ذكر الأرواح التي في الأئمّة » الحديث 1 و 2 و 3.
3- هامش أُصول الكافي : 136 ، الطبعة القديمة.
هل العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي ؟

قد وقفت على حقيقة « العصمة » والعوامل التي توجب صيانة الإنسان عن الوقوع في حبال المعصية ، ومهالك التمرد والطغيان ، غير انّ هاهنا سؤالاً هاماً يجب الإجابة عنه وهو : انّ العصمة سواء أفسّرت بكونها هي الدرجة العليا من التقوى ، أو بكونها العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي ، أم فسّرت بالاستشعار بعظمة الرب وجماله وجلاله ، وعلى أي تقدير فهو كمال نفساني له أثره الخاص ، وعندئذ يسأل عن أنّ هذا الكمال هل هو موهوب من اللّه لعباده المخلصين ، أو أمر حاصل للشخص بالاكتساب ؟ فالظاهر من كلمات المتكلمين أنّها موهبة من مواهب اللّه سبحانه يتفضّل بها على من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة وقابليات مصحّحة لإفاضتها عليهم.

قال الشيخ المفيد : العصمة تفضل من اللّه على من علم انّه يتمسك بعصمته (1).

وهذه العبارة تشعر بأنّ إفاضة العصمة من اللّه سبحانه أمر خارج عن إطار الاختيار ، غير أنّ اعمالها والاستفادة منها يرجع إلى العبد وداخل في إطار إرادته ، فله أن يتمسك بها فيبقى معصوماً من المعصية ، كما له أن لا يتمسك بتلك العصمة.

وقال أيضاً : والعصمة من اللّه تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان مما يكره إذا أتى بالطاعة (2).

وقال المرتضى في أماليه : العصمة : لطف اللّه الذي يفعله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع عن فعل قبيح.

ص: 57


1- شرح عقائد الصدوق : 61.
2- أوائل المقالات : 11.

ونقل العلاّمة الحلّي عن بعض المتكلمين بأنّه فسر العصمة بالأمر الذي يفعله اللّه بالعبد من الألطاف المقربة إلى الطاعات التي يعلم معها أنّه لا يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي ذلك إلى الإلجاء.

ونقل عن بعضهم : العصمة لطف يفعله اللّه تعالى بصاحبها لا يكون معه داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية.

ثم فسر أسباب هذا اللطف بأُمور أربعة (1).

وقال جمال الدين مقداد بن عبد اللّه الشهير بالفاضل السيوري الحلي ( المتوفّى عام 826 ه ) في كتابه القيم « اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية » :

قال أصحابنا ومن وافقهم من العدلية : « هي ( العصمة ) لطف يفعله اللّه بالمكلّف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية لانتفاء داعيه ، ووجود صارفه مع قدرته عليها » ثم نقل عن الأشاعرة بأنّها هي القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية (2).

كما نقل عن بعض الحكماء أنّ المعصوم خلقه اللّه جبلة صافية ، وطينة نقية ، ومزاجاً قابلاً ، وخصّه بعقل قوي وفكر سوي ، وجعل له ألطافاً زائدة ، فهو قوي بما خصّه على فعل الواجبات واجتناب المقبحات ، والالتفات إلى ملكوت السماوات ، والإعراض عن عالم الجهات ، فتصير النفس الأمارة مأسورة مقهورة في حيز النفس العاقلة (3).

وقال العلاّمة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ

ص: 58


1- كشف المراد : 228 ، طبعة صيدا.
2- سيوافيك انّ العصمة لا تنافي القدرة ، والهدف من نقل قول الأشاعرة هو إثبات اتفاق القائلين بالعصمة ، على أنّها موهبة إلهية.
3- اللوامع الالهية : 169.

عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (1) : إنّ اللّه تستمر إرادته أن يخصّكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقاد الباطل وأثر العمل السيّء عنكم أهل البيت وإيراد ما يزيل أثر ذلك عليكم وهي العصمة (2).

إلى غير ذلك من الكلمات التي تصرح بكون العصمة من مواهبه سبحانه إلى عباده المخلصين ، وفي الآيات القرآنية تلويحات وإشارات إلى ذلك مثل قوله سبحانه : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ ) (3) ، وقوله سبحانه في حق بني إسرائيل والمراد أنبياؤهم ورسلهم : ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُّبِينٌ ) (4).

فإنّ قوله : ( إِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ) وقوله : ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) يدل على أنّ النبوة والعصمة ، وإعطاء الآيات لأصحابها من مواهب اللّه سبحانه إلى الأنبياء ، ومن يقوم مقامهم من الأوصياء.

فإذا كانت العصمة أمراً إلهياً وموهبة من مواهبه سبحانه ، فعندئذ ينطرح هاهنا سؤالان تجب الإجابة عنهما ، والسؤالان عبارة عن :

1. لو كانت العصمة موهبة من اللّه مفاضة منه سبحانه إلى رسله وأوصيائهم لم تعد كمالاً ومفخرة للمعصوم حتى يستحق بها التحسين والتحميد والتمجيد ، فإنّ الكمال الخارج عن الاختيار كصفاء اللؤلؤ ، لا يستحق التحسين

ص: 59


1- الأحزاب : 33.
2- الميزان : 16 / 313.
3- ص : 45 - 48.
4- الدخان : 32 - 33.

والتمجيد ، فإنّ الحمد والثناء إنّما يصحان في مقابل الفعل الاختياري ، وما هو خارج عن إطار الاختيار لا يصح أن يحمد صاحبه عليه ، إذ هو وغيره في هذا المجال سواء ، ولو أفيض ذاك الكمال على فرد آخر لكان مثله ؟

2. إذا كانت العصمة تعصم الإنسان عن الوقوع في المعصية ، فالإنسان المعصوم عاجز عن ارتكاب المعاصي واقتراف المآثم ، وعندئذ لا يستحق لترك العصيان مدحاً ولا ثواباً إذ لا اختيار له ؟

والفرق بين السؤالين واضح ، إذ السؤال الأوّل يرجع إلى عد نفس إفاضة العصمة مفخرة من مفاخر المعصوم ، لأنّه إذا كانت موهبة إلهية لما صح عدها كمالاً للمعصوم ، بخلاف السؤال الثاني فإنّه يتوجه إلى أنّ العصمة تسلب القدرة عن المعصوم على ارتكاب المعاصي ، فلا يعد الترك كمالاً ولا عاملاً لاستحقاق الثواب.

وهذان السؤالان من أهم الأسئلة في باب العصمة ، وإليك الإجابة عن كليهما.

العصمة المفاضة كمال لصاحبها

إنّ العصمة الإلهية لا تفاض للأفراد إلاّ بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم تقتضي إفاضة تلك الموهبة إلى صاحبها ، وأمّا ما هي تلك الأرضيات والقابليات التي تقتضي إفاضتها فخارج عن موضوع البحث ، غير إنّا نقول على وجه الاجمال : إنّ تلك القابليات على قسمين : قسم خارج عن اختيار الإنسان ، وقسم واقع في إطار إرادته واختياره.

أمّا القسم الأوّل ، فهي القابليات التي تنتقل إلى النبي من آبائه وأجداده عن طريق الوراثة ، فإنّ الأولاد كما يرثون أموال الآباء وثرواتهم ، يرثون أوصافهم

ص: 60

الظاهرية والباطنية ، فترى أنّ الولد يشبه الأب أو العم ، أو الأُم أو الخال ، وقد جاء في المثل : الولد الحلال يشبه العم أو الخال.

وعلى ذلك فالروحيات الصالحة أو الطالحة تنتقل من طريق الوراثة إلى الأولاد ، فنرى ولد الشجاع شجاعاً ، وولد الجبان جباناً إلى غير ذلك من الأوصاف الجسمانية والروحانية.

إنّ الأنبياء كما يحدّثنا التاريخ كانوا يتولّدون في البيوتات الصالحة العريقة بالفضائل والكمالات ، وما زالت تنتقل تلك الكمالات والفضائل الروحية من نسل إلى نسل وتتكامل إلى أن تتجسد في نفس النبي ويتولد هو بروح طيبة وقابلية كبيرة لإفاضة المواهب الإلهية عليه.

نعم ليست الوراثة العامل الوحيد لتكوّن تلك القابليات بل هناك عامل آخر لتكوّنها في نفوس الأنبياء وهو عامل التربية ، فإنّ الكمالات والفضائل الموجودة في بيئتهم تنتقل من طريق التربية إلى الأولاد.

ففي ظل ذينك العاملين : « الوراثة والتربية » نرى كثيراً من أهل تلك البيوتات ذوي إيمان وأمانة ، وذكاء ودراية ، وما ذلك إلاّ لأنّ العائشين في تلك البيئات والمتولدين فيها يكتسبون جل هذه الكمالات من ذينك الطريقين ، وعلى ذلك فهذه الكمالات الروحية أرضيات صالحة لإفاضة المواهب الإلهية إلى أصحابها ومنها العصمة والنبوة.

نعم هناك عوامل أُخر لاكتساب الأرضيات الصالحة داخلة في إطار الاختيار وحرية الإنسان وإليك بعضها :

1. انّ حياة الأنبياء من لدن ولادتهم إلى زمان بعثتهم مشحونة بالمجاهدات الفردية والاجتماعية ، فقد كانوا يجاهدون النفس الأمّارة أشد الجهاد ، ويمارسون تهذيب أنفسهم بل ومجتمعهم ، فهذا هو يوسف الصدّيق علیه السلام جاهد نفسه الأمّارة

ص: 61

وألجمها بأشد الوجوه عندما راودته من هو في بيتها ( وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ) فأجاب بالرد والنفي بقوله : ( مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) (1).

وهذا موسى كليم اللّه وجد في مدين امرأتين تذودان واقفتين على بعد من البئر ، فقدم اليهما قائلاً : ما خطبكما فقالتا : انا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ، وعند ذلك لم يتفكر في شيء إلاّ في رفع حاجتهما ، ولأجل ذلك سقى لهما ثم تولّى إلى الظل قائلاً : ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) (2). (3)

وكم هناك من شواهد تاريخية على جهاد الأنبياء وقيامهم بواجبهم أبّان شبابهم إلى زمان بعثتهم التي تصدت لذكرها الكتب السماوية وقصص الأنبياء وتواريخ البشر.

فهذه العوامل ، الداخل بعضها في إطار الاختيار والخارج بعضها عن إطاره أوجدت قابليات وأرضيات صالحة لإفاضة وصف العصمة عليهم وانتخابهم لذلك الفيض العظيم ، فعندئذ تكون العصمة مفخرة للنبي صالحة للتحسين والتبجيل والتكريم.

وإن شئت قلت : إنّ اللّه سبحانه وقف على ضمائرهم ونيّاتهم ومستقبل أمرهم ، ومصير حالهم وعلم أنّهم ذوات مقدسة ، لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة وترك المعصية بحرية واختيار ، وهذا العلم كاف لتصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم بخلاف من يعلم من حاله خلاف ذلك.

ص: 62


1- يوسف : 23.
2- القصص : 23 - 24.
3- لاحظ قصة موسى في دفعه القبطي المعتدي على إسرائيلي في سورة القصص الآيات : 15 - 20 وفي ذلك يقول : ( رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ) ( القصص : 17 ).

يقول العلاّمة الطباطبائي : إنّ اللّه سبحانه خلق بعض عباده على استقامة الفطرة ، واعتدال الخلقة ، فنشأوا من بادئ الأمر بأذهان وقّادة ، وإدراكات صحيحة ونفوس طاهرة ، وقلوب سليمة ، فنالوا بمجرد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب بل أعلى وأرقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع والمزاحمات ، والظاهر أنّ هؤلاء هم المخلصون ( بالفتح ) للّه في مصطلح القرآن ، وهم الأنبياء والأئمّة ، وقد نص القرآن بأنّ اللّه اجتباهم ، أي جمعهم لنفسه وأخلصهم لحضرته ، قال تعالى : ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1) وقال : ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2). (3)

وهذه العبارة من العلاّمة الطباطبائي تشير إلى القسم الثاني وهو القابليات الخارجة عن اختيار الأنبياء غير انّ هناك أُموراً واقعة في اختيارهم كما عرفت ، فالكل يعطي الصلاحية لإفاضة الموهبة الإلهية على تلك النفوس المقدّسة.

كلام السيد المرتضى

إنّ للسيد المرتضى كلاماً في الإجابة عن هذا السؤال نأتي بنصه :

فإن قيل : إذا كان تفسير العصمة ما ذكرتم فألاَّ عَصَمَ اللّه تعالى جميع المكلّفين وفعل بهم ما يختارون عنده الامتناع من القبائح ؟

قلنا : كل من علم اللّه تعالى أنّ له لطفاً يختار عنده الامتناع من القبائح فإنّه لا بد أن يفعل به وإن لم يكن نبياً ولا إماماً ، لأنّ التكليف يقتضي فعل اللطف على

ص: 63


1- الأنعام : 87.
2- الحج : 78.
3- الميزان : 11 / 177.

ما دل عليه في مواضع كثيرة غير انّه لا يمتنع أن يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أنّ شيئاً متى فعل ، اختار عنده الامتناع من القبيح ، فيكون هذا المكلف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف ، وتكليف من لا لطف له يحسن ولا يقبح وانّما القبيح منع اللطف في من له لطف مع ثبوت التكليف (1).

وحاصل ما أفاده هو : انّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الأفراد في المستقبل فكل من علم سبحانه أنّه لو أُفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الامتناع من القبائح ، فعندئذ تفاض عليه العصمة ، وان لم يكن نبياً ولا إماماً ، وأمّا من علم انّه متى أُفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الامتناع من القبيح لما أُفيضت عليه العصمة لأنّه لا يستحق الإفاضة.

وعلى ذلك فوصف العصمة موهبة إلهية تفاض لمن يعلم من حاله انّه ينتفع منها في ترك القبائح عن حرية واختيار.

ولأجل ذلك يعد مفخرة قابلة للتحسين والتكريم ولا يلزم أن يكون المعصوم نبياً أو إماماً ، بل كل من ينتفع منها في طريق كسب رضاه سبحانه تفاض عليه.

إلى هنا تمت الإجابة على السؤال الأوّل ، وبقيت الإجابة على السؤال الثاني ، وإليك ذلك :

هل العصمة تسلب الاختيار ؟

ربما يتخيل أنّ المعصوم لا يقدر على ارتكاب المعصية واقتراف المآثم ، فالعصمة تسلب القدرة والاختيار عن صاحبها ، وعند ذاك لا يعد ترك العصيان مكرمة.

ص: 64


1- أمالي المرتضى : 2 / 347 - 348 ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

وفي هذا الصدد يقول السيد المرتضى :

ما حقيقة العصمة التي يُعتقد وجوبها للأنبياء والأئمّة علیهم السلام ؟ وهل هي معنىً يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية ، أو معنى يضام الاختيار ؟ فإن كان معنى يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية ، فكيف يجوز الحمد والذم لفاعلها ؟ وان كان معنىً يضامّ الاختيار فاذكروه ، ودُلّوا على صحة مطابقته له (1).

والجواب : انّ العصمة لا تسلب الاختيار عن الإنسان بأي معنى فسرت ، سواء أقلنا بأنّها الدرجة العليا من التقوى ، أو أنّها نتيجة العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي ، أو أنّها أثر الاستشعار بعظمة الرب والمحبة لله سبحانه ، وعلى كل تقدير فالإنسان المعصوم مختار في فعله ، قادر على كلا طرفي القضية من الفعل والترك ، وتوضيح ذلك بالمثال الآتي :

إنّ الإنسان العاقل الواقف على وجود الطاقة الكهربائية في الأسلاك المنزوعة من جلدها ، لا يمسّها كذلك ، كما انّ الطبيب لا يأكل سؤر المجذومين والمسلولين لعلمهما بعواقب فعلهما ، وفي الوقت نفسه يرى كل واحد منهما نفسه قادراً على ذلك الفعل ، بحيث لو أغمض العين عن حياته وهيأ نفسه للمخاطرة بها ، لفعل ما يتجنبه ، غير انّهما لا يقومان به لكونهما يحبان حياتهما وسلامتهما.

فإن شئت قلت : إنّ العمل المزبور ممكن الصدور بالذات من العاقل والطبيب ، غير انّه ممتنع الصدور بالعرض والعادة ، وليس صدوره محالاً ذاتياً وعقلياً ، وكم فرق بين المحالين ، ففي المحال العادي يكون صدور الفعل من الفاعل ممكناً بالذات ، غير انّه يرجح أحد الطرفين على الآخر بنوع من الترجيح بخلاف الثاني فإنّ الفعل فيه يكون ممتنعاً بالذات ، فلا يصدر لعدم إمكانه الذاتي.

ص: 65


1- أمالي المرتضى : 2 / 347.

وإن شئت فلاحظ صدور القبيح منه سبحانه فإنّ صدوره منه أمر ممكن بالذات ، داخل في إطار قدرته فهو يستطيع أن يدخل المطيع في نار الجحيم والعاصي في نعيم الجنة ، غير انّه لا يصدر منه ذلك الفعل لكونه مخالفاً للحكمة ومبايناً لما وعد به وأوعد عليه ، وعلى ذلك فامتناع صدور الفعل عن الإنسان مع التحفظ على الأغراض والغايات ، لا يكون دليلاً على سلب الاختيار والقدرة.

فالنبي المعصوم قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا ، حسب ما أُعطي من القدرة والحرية ، غير أنّه لأجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى واكتساب العلم القطعي بآثار المآثم والمعاصي واستشعاره بعظمة الخالق ، يتجنب عن اقترافها واكتسابها ولا يكون مصدراً لها مع قدرته واقتداره عليها.

ومثلهم في ذلك المورد كمثل الوالد العطوف الذي لا يقدم على قتل ولده ، ولو أُعطيت له الكنوز المكنوزة والمناصب المرموقة ومع ذلك فهو قادر على قتله ، بحمل السكين والهجوم عليه وقطع أوردته ، وفي هذا الصدد يقول العلامة الطباطبائي :

إنّ هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية ، ولا يخرجها إلى ساحة الإجبار والاضطرار كيف ؟ والعلم من مبادئ الاختيار ، ومجرد قوة العلم لا يوجب إلاّ قوة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما ، سماً قاتلاً من حينه فإنّه يمنع باختياره من شربه قطعاً ، وإنّما يضطر الفاعل ويجبر إذا أخرج المجبر أحد طرفي الفعل والترك من الإمكان إلى الامتناع.

ويشهد على ذلك قوله : ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا

ص: 66

يَعْمَلُونَ ) (1) تفيد الآية انّهم في إمكانهم أن يشركوا باللّه وإن كان الاجتباء أو الهدى الإلهي مانعاً من ذلك ، وقوله : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (2) ، إلى غير ذلك من الآيات.

فالإنسان المعصوم إنّما ينصرف عن المعصية بنفسه وعن اختياره وإرادته ، ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.

ولا ينافي ذلك أيضاً ما يشير إليه كلامه تعالى وتصرح به الأخبار من أنّ ذلك من الأنبياء والأئمّة بتسديد من روح القدس ، فإنّ النسبة إلى روح القدس ، كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان ، ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله ، فإنّ شيئاً من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلاً صادراً عن فاعله مستنداً إلى اختياره وإرادته فافهم ذلك.

نعم هناك قوم زعموا أنّ اللّه سبحانه إنّما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره وإرادته بل من طريق منازعة الأسباب ومغالبتها بخلق إرادة أو إرسال ملك يقاوم إرادة الإنسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها ويحرفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده كما يمنع الإنسان القوي ، الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه.

وبعض هؤلاء وإن كانوا من المجبرة لكن الأصل المشترك الذي يبتني عليه نظرهم هذا وأشباهه : انّهم يرون انّ حاجة الأشياء إلى البارئ الحق سبحانه إنّما هي في حدوثها ، وأمّا في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب ، إلاّ أنّه لما كان أقدر وأقوى من كل شيء كان له أن يتصرف في

ص: 67


1- الأنعام : 87 - 88.
2- المائدة : 67.

الأشياء حال البقاء أي تصرف شاء ، من منع أو إطلاق وإحياء أو إماتة ومعافاة أو تمريض وتوسعة أو تقصير إلى غير ذلك بالقهر.

فإذا أراد اللّه سبحانه أن يصرف عبداً عن شر مثلاً ، أرسل إليه ملكاً ينازعه في مقتضى طبعه ويغير مجرى إرادته مثلاً من الشر إلى الخير ، أو أراد أن يضل عبداً لاستحقاقه ذلك ، سلّط عليه إبليس فحوله من الخير إلى الشر وإن كان ذلك لا بمقدار يوجب الإجبار والاضطرار.

وهذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير والشر مشاهدة عيان انّه ليس هناك سبب آخر يغايرنا وينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها وإرادة مترتبة عليه قائمين بها ، فالذي يثبته السمع والعقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك والشيطان سبب طولي لا عرضي مضافاً إلى أنّ المعارف القرآنية من التوحيد وما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله (1).

ص: 68


1- الميزان : 11 / 179 - 180.

مراحل العصمة ودلالتها

اشارة

قد وقفت على حقيقة العصمة وما يرجع إليها من المباحث الاستطرادية ، فيجب الآن الوقوف على مراحلها التالية :

1. الصيانة في تلقي الوحي والحفاظ عليه وإبلاغه إلى الناس.

2. الصيانة من المعصية وارتكاب الذنب المصطلح.

3. الصيانة من الخطأ في الأُمور الفردية والاجتماعية.

هذه هي مراحل العصمة ، ويمكن تبيين تلك المراحل بصورة أُخرى ، وهي أنّ متعلّق العصمة والصيانة لا تخلو عن أحد أُمور وهي :

إمّا كفر باللّه أو عصيانه ومخالفته.

والثاني لا يخلو إمّا أن يكون معصية كبيرة ، أو صغيرة ; والصغيرة على قسمين : إمّا أن تكون حاكية عن خسة الفاعل ودناءة طبعه كسرقة اللقمة الواحدة ، أو لا ; وعلى كل حال فصدور المعصية إمّا عمدي أو سهوي ، وإمّا صادر قبل البعثة أو بعدها.

وقد فصّل القاضي عبد الجبار شيخ المعتزلة في عصره مذهب المعتزلة في العصمة ، فحكم بأنّه يجب أن يكون النبي منزّهاً عمّا يقتضي خروجه من ولاية اللّه تعالى إلى عداوته قبل النبوة وبعدها كما يجب أن يكون منزهاً من كذب أو كتمان أو سهو أو غلط إلى غير ذلك ، ومن حقه أن لا يقع منه ما ينفر منه عن القبول منه أو

ص: 69

يصرف من السكون إليه أو عن النظر في علمه ، نحو الكذب على كل حال ، والتورية والتعمية في ما يؤديه ، والصغائر المستخفة (1).

وقال التفتازاني في شرح العقائد النسفية : إنّهم معصومون عن الكفر قبل الوحي وبعده بالإجماع ، وكذا من تعمّد الكبائر عند الجمهور خلافاً للحشوية ، وأمّا سهواً ، فجوّزه الأكثرون ; وأمّا الصغائر ، فيجوز عمداً عند الجمهور ، خلافاً للجبّائي وأتباعه ، ويجوز سهواً بالاتفاق إلاّ ما يدل على الخسّة (2).

قال الفاضل القوشجي : إنّ المعاصي إمّا أن تكون منافيةً لما تقتضيه المعجزة ، كالكذب في ما يتعلّق بالتبليغ أو لا ، والثاني إمّا أن يكون كفراً أو معصية ; وهي إمّا أن تكون كبيرة كالقتل والزنا ، أو صغيره منفرة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة ، أو غير منفرة ككذبة وشتمة ; وكل ذلك إمّا عمداً أو سهواً ، أو بعد البعثة أو قبلها (3).

فنقول : أمّا الأوّل ، أعني : صدور الكفر من المعصومين ، فلم يجوّزه أحد ، وما ربّما ينسب إلى بعض الفرق كالأزارقة من تجويز الكفر على الأنبياء ، فالمراد من الكفر هو المعصية في مصطلح المسلمين ، وانّما أطلقوا عليه لفظ الكفر ، لأجل اعتقادهم بأنّ كل معصية كفر ، قال الفاضل المقداد : أجمعوا على امتناع الكفر عليهم إلاّ الفضيلية من الخوارج فإنّهم جوّزوا صدور الذنب عنهم ، وكل ذنب عندهم كفر ، فلزمهم جواز الكفر عليهم ، وجوّز قوم عليهم الكفر تقية وخوفاً ، ومنعه ظاهر ، فانّ أولى الأوقات بالتقية زمان بدء الدعوة لكثرة المنكرين له حينئذ ، لكن ذلك يؤدي إلى خفاء الدين بالكلية (4).

ص: 70


1- المغني : 15 / 279.
2- العقائد النسفية : 171 ، ونسب فيه للشيعة جواز إظهار الكفر للتقية ، وهم براء منه.
3- شرح التجريد : 464.
4- اللوامع الإلهية : 170.

وقال الفاضل القوشجي : قد جوّز الأزارقة من الخوارج الكفر بناء على تجويزهم الذنب مع قولهم بأنّ كل ذنب كفر (1).

وربما يتوهم تجويز الكفر على النبي لأجل التقية ، وهو باطل ، لأنّ للتقية شرائط خاصة تجوز إذا حصلت ولا تقية في هذا المورد ، وفي ذلك يقول القاضي عبد الجبار الهمداني الأسدآبادي : فإن قال : أفتجوزون على الرسول التقية في ما يؤدّيه ؟ قيل له : لا يجوز ذلك عليه في ما يلزمه أن يؤدّيه ، ولو كانت مجوزة لم تعظم مرتبة النبي ، لأنّها إنّما تعظم ، لأنّه يتكفّل بأداء الرسالة ، والصبر على كل عارض دونه - إلى أن قال : - فلو هُدّد بالقتل إذا أدّى شريعته فما الحكم فيه ؟ قيل له : يلزمه أن يؤدّيه ويعلم انه تعالى يصرف ذلك عنه (2).

وأمّا غير الكفر فتفصيل المذاهب هو انّ الشيعة اتفقت على عصمة الأنبياء عن المعصية صغيرة كانت أو كبيرة ، سهواً كانت أو عمداً قبل البعثة أو بعدها. نعم يظهر من الشيخ المفيد تجويز بعض المعاصي الصغيرة على غير عمد على الأنبياء قبل العصمة حيث قال : إنّ جميع أنبياء اللّه ( صلى اللّه عليهم ) معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها وبما يستخف فاعله من الصغائر كلها ، وأمّا ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوة ، وعلى غير عمد ، وممتنع منهم بعدها على كل حال ( ثم قال : ) وهذا مذهب جمهور الإمامية (3).

ويظهر ذلك من المحقق الأردبيلي في تعاليقه على شرح التجريد للفاضل القوشجي حيث إنّ المحقق الطوسي استدل على العصمة بأنّه لولاها لما حصل الوثوق بقول الأنبياء ، وأورد عليه الشارح بأنّ صدور الذنوب لا سيما الصغيرة

ص: 71


1- شرح التجريد : 464.
2- المغني : 15 / 284.
3- أوائل المقالات : 29 و 30.

سهواً لا يخل بالوثوق ، وعلّق عليه الأردبيلي بقوله : « خصوصاً قبل البعثة » (1).

وأمّا غير الشيعة فقد عرفت نظرية الاعتزال غير انّ الفاضل القوشجي يفصل بقوله : الجمهور على وجوب عصمتهم عما ينافي مقتضى المعجزة ، وقد جوّزه القاضي سهواً ، زعماً منه انّه لا يخل بالتصديق المقصود بالمعجزة وكذا عن تعمد الكبائر ، بعد البعثة ، وجوّزه الحشوية ، وكذا عن الصغائر المنفرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتباع ولهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضاً والمذهب عند محققي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقاً ، والصغائر غير الخسيسة عمداً لا سهواً ، وذهب إمام الحرمين من الأشاعرة وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمداً (2).

هذه هي الأقوال المعروفة بين المتكلمين وستعرف شذوذ الكل عن الكتاب والسنّة وحكم العقل غير القول الأوّل ، فنقول يقع الكلام في مراحل :

المرحلة الأُولى : عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة

ذهب الأكثرون من الجمهور والشيعة أجمع إلى عصمتهم في تلك المرحلة ونسب إلى الباقلاني تجويز الخطاء في إبلاغ الرسالة سهواً ونسياناً لا عمداً وقصداً ، وقال أبو الحسن عبد الجبار المعروف بالقاضي رئيس الاعتزال في وقته ( المتوفّى سنة 415 ) : لا يجوز الكذب في ما يؤدّيه ( أي النبي ) عن اللّه تعالى ، لأنّه تعالى ، مع حكمته ، ومع أنّ غرضه بالبعثة تعريف المصالح ، لو علم أنّه يختار الكذب في ما يؤديه لم يكن ليبعثه ، لأنّ ذلك ينافي الحكمة ، ولمثل هذه العلة لا يجوز أن لا يؤدّيه ما حمله من الرسالة ، ولا أن يكتمه أو يكتم بعضه.

ص: 72


1- تعاليق المحقّق الأردبيلي على شرح التجريد : 464.
2- شرح التجريد للفاضل القوشجي : 664.

إلى أن قال : إنّا لا نجوز عليه السهو والغلط في ما يؤدّيه عن اللّه تعالى لمثل العلة التي تقدم ذكرها ، لأنّه لا فرق ، في خروجه من أن يكون مؤدّياً بين أن يسهو أو يغلط أو يكتم أو يكذب ، فحال الكل يتفق في ذلك ولا يختلف.

وإنّما نجوز أن يسهو في فعل قد بينه من قبل وأدّى ما يلزم فيه حتى لم يغادر منه شيئاً ، فإذا فعله لمصالحه لم يمتنع أن يقع فيه السهو والغلط ، ولذلك لم يشتبه على أحد الحال في أنّ الذي وقع منه من القيام في الثانية هو سهو ، وكذلك ما وقع منه في خبر ذي اليدين إلى غير ذلك (1).

وفي ما ذكره من تجويز السهو على النبي في الفعل الذي بين حكمه سيأتي الكلام فيه.

وقد استدل المحققون من المتكلمين على عصمتهم في تلك المرحلة بوجوه أشار إليها المحقّق الطوسي في تجريده بقوله : ليحصل الوثوق بأفعاله وأقواله ، ويحصل الغرض من البعثة وهو متابعة المبعوث إليهم له في أوامره ونواهيه (2).

وما ذكره من الدليلين وإن كان لا يختص بهذه المرحلة بل يعم المراحل الأُخر ، ولكنه برهان تام يعتمد عليه العقل والوجدان في مسألة عصمة الأنبياء في مجال تبليغ الرسالة.

توضيحه :

انّ الهدف الأسمى والغاية القصوى من بعث الأنبياء هو هداية الناس إلى التعاليم الإلهية والشرائع المقدسة ، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بإيمانهم بصدق

ص: 73


1- المغني : 15 / 281.
2- شرح التجريد للفاضل القوشجي : 463 ، وكشف المراد : 217 طبع صيدا.

المبعوثين ، وإذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه ، وإنّ كلامهم وأقوالهم كلامه وقوله سبحانه ، وهذا الإيمان والإذعان لا يحصل إلاّ بإذعان آخر وهو الإذعان بمصونيتهم عن الخطاء في المراحل الثلاث في مجال تبليغ الرسالة ، وهي المصونية في مقام أخذ الوحي ، والمصونية في مقام التحفّظ عليه ، والمصونية في مقام الإبلاغ والتبيين ، ومثل هذا لا يحصل إلاّ بمصونية النبي عن الزلل والخطاء عمده وسهوه. قال القاضي أبو الحسن عبد الجبار : إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول - ممّن يخالف فعله قوله - سكونها إلى من كان منزهاً عن ذلك ، فيجب أن لا يجوز في الأنبياء علیهم السلام إلاّ ما نقوله من أنّهم منزهون عمّا يوجب العقاب والاستخفاف والخروج من ولاية اللّه تعالى إلى عداوته.

يبين ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر والمعاصي بالمنع والردع والتخفيف فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك ، لأنّ المتعالم أنّ المقدم على الشيء لا يقبل منه منع الغير منه للنهي والزجر ، وانّ هذه الأحوال منه لا تؤثر ... ولو إنّ واعظاً انتصب يخوف من المعاصي من يشاهده مقدماً على مثلها لاستخف به وبوعظه (1).

وقال في موضع آخر : إنّ الواعظ والمذكّر وان غلب على ظننا من حاله انّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة والندامة حتى عرفنا من حاله الانهماك في الشرب والفجور من قبل ، لم يؤثر وعظه عندنا كتأثير المستمر على النظافة والنزاهة في سائر أحواله (2).

وما ذكره أخيراً دليل وجوب العصمة حتى قبل البعثة.

وهذا البرهان لو قرر على الوجه الكامل لكفي برهاناً في جميع مراحل

ص: 74


1- المغني : 15 / 303.
2- المصدر نفسه : 305.

العصمة التي سنبيّنها في الأبحاث الآتية.

هذا منطق العقل ، وأمّا منطق الوحي فهو يؤكد على مصونية النبي في تبليغ الرسالة في المجالات الثلاثة الماضية ، وإليك بيان ذلك :

القرآن وعصمة النبي في مجال تلقي الوحي و ...
اشارة

هناك آيات تدل على العصمة في ذلك المجال نذكرها واحدة بعد الأُخرى :

الآية الأُولى

( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ) . (1)

( إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) (2).

( لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) (3).

إنّ دلالة الآيات هذه على مصونية الرسل والأنبياء في مجال تلقي الوحي وما يليه من التحفظ والتبليغ تتوقف على توضيح بعض مفرداته :

1. قوله : ( فَلا يُظْهِرُ ) من باب الافعال بمعنى الاعلام كما في قوله سبحانه : ( وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ) (4).

2. لفظة ( مِن ) في قوله : ( مِن رَّسُولٍ ) بيانية تبين المرضي عند اللّه ،

ص: 75


1- الجن : 26.
2- الجن : 27.
3- الجن : 28.
4- التحريم : 3.

فالرسول هو المرتضى الذي اختاره اللّه تعالى لتعريفه على الغيب.

3. والضمير في ( إِنَّهُ ) في قوله : ( إِنَّهُ يَسْلُكُ ) يرجع إلى اللّه ، كما أنّ ضمير الفاعل في قوله : ( يَسْلُكُ ) أيضاً يرجع إليه ، وهو بمعنى : يجعل.

4. والضمير في ( يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) يرجع إلى الرسول.

5. و ( رَصَدًا ) هو الحارس الحافظ يطلق على الجمع والمفرد.

6. والمراد من : ( بَيْنِ يَدَيْهِ ) أي ما بين يدي الرسول : ما بينه وبين الناس ، المرسل إليهم.

كما أنّ المراد من ( مِنْ خَلْفِهِ ) ما بين الرسول وبين مصدر الوحي الذي هو سبحانه.

وعلى ذلك فالنبي مصون ومحفوظ في مجال تلقي الوحي من كلا الجانبين.

وقد اعتبر في هذا التعبير ما يوهمه معنى الرسالة من أنّه فيض متصل من المرسل ( بالكسر ) وينتهي إلى المرسل إليه ( بالفتح ) والآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسل وانّ الرسول محاط بالرصد والحارس من أمامه « ما بين يديه » و « خلفه » وورائه ، فلا يصيبه شيء يباين الوحي.

ومعنى الآية : انّ اللّه يجعل ( يسلك ) ما بين الرسول ومن أرسل إليه ، وما بين الرسول ومصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة ، وليس جعل الرصد امام الرسول وخلفه إلاّ للتحفظ على الوحي من كل تخليط وتشويش بالزيادة والنقص التي يقع فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها.

ثم إنّه سبحانه علّل جعل الرصد بين يدي الرسول وخلفه بقوله : ( لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ ) .

ص: 76

والمراد من العلم هو العلم الفعلي بمعنى التحقق الخارجي على حد قوله : ( فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) (1).

أي ليتحقّق إبلاغ رسالات ربهم على ما هي عليه من غير تغيير وتبدّل.

7. قوله : ( وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ) بمنزلة الجملة المتممة للحراسة المستفادة من قوله : ( رَصَدًا ) .

وعلى الجملة فهذه العبارات الثلاث الواردة في الآية تفيد مدى عناية الباري للحراسة والحفاظ على الوحي إلى أن يصل إلى المرسل إليهم بلا تغيير وتبديل ، وهذه الجمل عبارة عن :

أ. ( مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ) .

ب. ( وَمِنْ خَلْفِهِ ) .

ج. ( وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ) .

فالجملة الأُولى تشير إلى وجود رصد بين الرسول والناس.

كما أنّ الجملة الثانية تشير إلى وجود رصد محافظين بينه وبين مصدر الوحي.

والجملة الثالثة تشير إلى وجود الحفظة في داخل كيانهم.

فتصير النتيجة أنّ الوحي في أمن وأمان من تطرق التحريف منذ أن يفاض من مصدر الوحي ويقع في نفس الرسول إلى أن يصل إلى الناس والمرسل إليهم.

8. قوله : ( وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) مسوق لإفادة عموم علمه بكل شيء سواء في ذلك الوحي الملقى إلى الرسول وغيره.

ص: 77


1- العنكبوت : 3.

يقول العلاّمة الطباطبائي : إنّ قوله سبحانه : ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) إلى آخر الآيتين يدل على أنّ الوحي الإلهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس ، مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله إليه.

أمّا مصونيته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله : ( مِنْ خَلْفِهِ ) وأمّا مصونيته حين أخذ الرسول إياه وتلقيه من ملك الوحي بحيث يعرفه ولا يغلط في أخذه ، ومصونيته في حفظه بحيث يعيه كما أُوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيره أو يبدله.

ومصونيته في تبليغه إلى الناس من تصرف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله : ( لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ ) حيث يدل على أنّ الغرض الإلهي من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربهم أي أن يتحقّق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس ، ولازمه بلوغه إيّاهم ولولا مصونية الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعاً لم يتم الغرض الإلهي وهو ظاهر.

وحيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقاً غير سلوك الرصد دل ذلك على أنّ الوحي محروس بالملائكة وهو عند الرسول ، كما أنّه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتى ينتهي إليه ، ويؤكده قوله بعده : ( وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ) .

وأمّا مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهي إلى الناس فيكفي فيه قوله : ( مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ) على ما تقدم معناه.

أضف إلى ذلك دلالة قوله : ( لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ ) بما تقدم من تقريب دلالته.

ويتفرع على هذا البيان : انّ الرسول مؤيد بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه وفي حفظه وفي تبليغه إلى الناس ، مصون من الخطأ في الجهات الثلاث جميعاً لما مرّ

ص: 78

من دلالة على أنّ ما نزّله اللّه من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي ، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس ومن مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي وحفظه له وتبليغه إلى الناس.

والتبليغ يعم القول والفعل فإنّ في الفعل تبليغاً كما في القول ، فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرمات وترك الواجبات الدينية ، لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحي وحفظه وتبليغه قولاً.

وقد تقدمت الإشارة إلى أنّ النبوة كالرسالة في دورانها مدار الوحي ، فالنبي كالرسول في خاصة العصمة ، ويتحصل بذلك انّ أصحاب الوحي سواء كانوا رسلاً أو أنبياء معصومون في أخذ الوحي وفي حفظ ما أُوحي إليهم وفي تبليغه إلى الناس قولاً وفعلاً (1).

الآية الثانية

قوله سبحانه : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (2).

إنّ الآية تصرح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو القضاء بين الناس في ما اختلفوا فيه ، وليس المراد من القضاء إلاّ القضاء بالحق ، وهو فرع وصول الحق إلى القاضي بلا تغيير وتحريف.

ص: 79


1- الميزان : 20 / 133.
2- البقرة : 213.

ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمن من الناس إلى الحق بإذنه كما هو صريح قوله : ( فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ ) .

والهادي وإن كان هو اللّه سبحانه في الحقيقة لكن الهداية تتحقق عن طريق النبي ، وبواسطته ، وتحقق الهداية منه فرع كونه واقفاً على الحق ، بلا تحريف.

وكل ذلك يسلتزم عصمة النبي في تلقي الوحي والحفاظ عليه ، وإبلاغه إلى الناس.

وبالجملة فالآية تدل على أنّ النبي يقضي بالحق بين الناس ويهدي المؤمنين إليه ، وكل ذلك ( أي القضاء بالحق أوّلاً ، وهداية المؤمنين إليه ثانياً ) يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه وليس المراد من الحق إلاّ ما يوحى إليه.

الآية الثالثة

قوله سبحانه : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1).

فالآية تصرح بأنّ النبي لا ينطق عن الهوى ، أي لا يتكلم بداعي الهوى. فالمراد إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجال الحياة كما هو مقتضى إطلاقه أو خصوص ما يحكيه من اللّه سبحانه ، فعلى كل تقدير فهو يدل على صيانته وعصمته في المراحل الثلاث المتقدم ذكرها في مجال إبلاغ الرسالة.

وبما أنّ عصمة الأنبياء في تلك المرحلة تكون من المسلمات عند المحققين من أصحاب المذاهب والملل ، فلنعطف عنان البحث إلى ما تضاربت فيه آراء المتكلمين ، وإن كان للشيعة فيه قول واحد ، وهو عصمتهم عن العصيان والمخالفة لأوامره ونواهيه.

ص: 80


1- النجم : 3 - 4.

المرحلة الثانية : عصمة الأنبياء عن المعصية لقد وقفت على دلائل عصمة الأنبياء في تلقي الوحي وحان الحين للبحث عن عصمتهم عن المعصية. ونبحث في ذلك عن وجهتين : العقلية والقرآنية :

العقل وعصمة الأنبياء

إنّ القرآن الكريم يصرح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو تزكية نفوس الناس وتصفيتهم من الرذائل وغرس الفضائل فيها قال سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1) وقال سبحانه : ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (2).

والمراد من التزكية هو تطهير القلوب من الرذائل وإنماء الفضائل ، وهذا هو ما يسمى في علم الأخلاق ب « التريبة ».

ولا شك أنّ تأثير التربية في النفوس يتوقف على إذعان من يراد تربيته بصدق المربي وإيمانه بتعاليمه ، وهذا يعرف من خلال عمل المربي بما يقوله ويعلمه وإلاّ فلو كان هناك انفكاك بين القول والعمل ، لزال الوثوق بصدق قوله وبالتالي تفقد التربية أثرها ، ولا تتحقق حينئذ الغاية من البعث.

وإن شئت قلت : إنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل ، هو العامل الوحيد لكسب ثقة الآخرين بتعاليم المصلح والمربي ، ولو كان هناك انفكاك بينهما

ص: 81


1- البقرة : 129.
2- آل عمران : 164.

لانفض الناس من حوله قائلين بأنّه لو كان مذعناً بصحة دعوته لما خالف قوله في مقام العمل.

سؤال وجواب

نعم يمكن أن يقال : يكفي في الاعتماد على النبي مصونيته عن معصية واحدة وهي الكذب فالبرهان المذكور على تماميته لا يثبت إلاّ مصونيته عن خصوص الكذب لا مطلقاً.

أقول : الإجابة عن هذا السؤال سهلة ، لأنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا يصح أن تقع أساساً للتربية العامة لما فيها من الإشكالات.

أمّا أوّلاً : فانّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة فإن تم وجودها أو وجود بعضها تحصل المصونية المطلقة للإنسان ، وإلاّ فلا يمكن التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي بأن يجتنب الإنسان عن الكذب طيلة عمره ويرتكب سائر المعاصي ، فإنّ العوامل التي تسوق الإنسان إلى ارتكابها تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب واجتياح التهمة.

وأمّا ثانياً : فلو صح التفكيك بينهما في عالم الثبوت لا يمكن إثباته ( الداعي لا يكذب أبداً وان كان يركب سائر المعاصي ) في حق الداعي ومدعي النبوة ، إذ كيف يمكن الإنسان أن يقف على أنّ مدّعي النبوة مع ركوبه المعاصي واقترافه للمآثم ، لا يكذب أصلاً عندما اضطر إليه حتى ولو صرح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك ، لسرى الريب إلى نفس هذا الكلام أيضاً.

وعلى الجملة : انّ الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب هو دعوة الناس إلى الهداية الإلهية التي يقوم بأعبائها الأنبياء والرسل ، ولا يتحقق ذلك الهدف إلاّ بعد

ص: 82

اعتماد الناس على حامل الدعوة والقائم بالهداية ، فاقتراف المعاصي ومخالفة ما يدعو إليه من القيم والخلق ، يزيل من النفوس الثقة به والاعتماد عليه.

وبهذا البيان تظهر الإجابة عن سؤال لا يقصر في الضآلة عن السؤال الماضي. وهو ما ربما يقال : إنّ أقصى ما يثبته هذا البرهان هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في المجتمع ، وهذا لا يخالف أن يكون عاصياً ومقترفاً للذنوب في الخلوات ، وهذا القدر من النزاهة كاف في جلب الثقة.

والجواب عن هذا السؤال واضح تمام الوضوح ، فإنّ مثل هذا التصور عن النبي والقول بأنّه يرتكب المعاصي في السر دون العلن يهدم الثقة به ، إذ ما الذي يمنعه - عندئذ - من أن يكذب ويتستر على كذبه ، وبذلك تزول الثقة بكل ما يقول ويعمل.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن خداع الناس بتزيين الظاهر مدة قليلة لا مدة طويلة ولا ينقضي زمان إلاّ وقد تظهر البواطن ويرتفع الستار عن حقيقته فتكشف سوأته ، ويظهر عيبه.

إلى هنا ظهر أنّ ثقة الناس بالأنبياء إنّما هي في ضوء الاعتقاد بصحة مقالهم وسلامة أفعالهم ، وهو فرع كونهم مصونين عن الخلاف والعصيان في الملأ والخلأ والسر والعلن من غير فرق بين معصية دون أُخرى.

تقرير المرتضى لهذا البرهان

إنّ السيد المرتضى قد قرر هذا البرهان ببيان آخر نأتي به.

قال ما هذا حاصله : إنّ تجويز الكبائر يقدح في ما هو الغرض من بعث الرسل ، وهو قبول قولهم وامتثال أوامرهم ولا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئاً من ذلك ، وهذا هو معنى قولنا :

ص: 83

إنّ وقوع الكبائر ينفّر عن القبول والمرجع فيما ينفر وما لا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه ، وليس ذلك مما يستخرج بالأدلة والمقاييس ، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه ، وانّه من أقوى ما ينفر عن قبول القول ، فإنّ حظ الكبائر في هذا الباب إن لم يزد على حظ السخف والمجون والخلاعة لم ينقص عنه.

فإن قيل : أليس قد جوّز كثير من الناس على الأنبياء علیهم السلام الكبائر مع أنّهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرائع ، وهذا ينقض قولكم : إنّ الكبائر منفّرة.

قلنا : هذا سؤال من لم يفهم ما أوردناه ، لأنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق وأن لا يقع امتثال الأمر جملة ، وانّما أردنا ما فسرناه من أنّ سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه وانّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد عن قبول القول ، كما أنّا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى القبول ، وقد يقرب من الشيء ما لا يحصل الشيء عنده ، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده.

ألا ترى أنّ عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجّره وتبرّمه منفّر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يقع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفراً ، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ، ولا يخرجه من أن يكون مقرباً ، فدل على أنّ المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه.

فإن قيل : فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة ، فمن أين يُعلم أنّها لا تقع منهم قبل النبوة ، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم ، ولم يبق وجه يقتضي التنفير ؟

ص: 84

قلنا : الطريقة في الأمرين واحدة ، لأنّا نعلم أنّ من نجوّز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال وإن تاب منهما وخرج من استحقاق العقاب به لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الأحوال ولا على وجه من الوجوه ، ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا ، الداعي إلى اللّه تعالى ونحن نعرفه مقارناً للكبائر مرتكباً لعظيم الذنوب وان كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا وفي نفوسنا ، كحال من لم نعهد منه إلاّ النزاهة والطهارة ، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور ، ولهذا كثيراً ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وان وقعت التوبة منها ويجعلون ذلك عيباً ونقصاً وقادحاً ومؤثراً ، وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوة وناقصاً عن رتبته في باب التنفير ( ولأجل ذلك ) وجب أن لا يكون فيه شيء من التنفير ، لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه ، ألا ترى أنّ كثرة السخف والمجون والاستمرار عليه والانهماك فيها منفر لا محالة ، وإنّ القليل من السخف الذي لا يقع إلاّ في الأحيان والأوقات المتباعدة منفر أيضاً ، وان فارق الأوّل في قوة التنفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب عن الأوّل من أن يكون منفراً في نفسه.

فإن قيل : فمن أين قلتم إنّ الصغائر لا تجوز على الأنبياء علیهم السلام في حال النبوة وقبلها ؟

قلنا : الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالتين عند التأمّل ، لأنّا كما نعلم أنّ من يجوز كونه فاعلاً لكبيرة متقدمة قد تاب منها وأقلع عنها ولم يبق معه شيء من استحقاق عقابها وذمها ، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه ، فكذلك نعلم انّ من نجوّز عليه الصغائر من الأنبياء علیهم السلام أن يكون مقدماً على القبائح مرتكباً للمعاصي في حال نبوته أو

ص: 85

قبلها وان وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح ولا نجوّز عليه فعل شيء منها (1).

إجابة عن سؤال آخر

ربما يقال : إنّ العقلاء يكتفون في تبليغ برامجهم التعليمية والتربوية بما يغلب صدقه على كذبه ، ويكفي في ذلك كون الرسول رجلاً صدوقاً عدلاً ، ومن المعلوم انّ الصدوق العادل ليس بمعصوم وليس صادقاً مائة بالمائة ، وفي نهاية الكمال ، ولأجل ذلك لا مانع من أن يكتفي سبحانه في تبليغ شرائع الأنبياء بأفراد صالحين يغلب حسنهم على قبحهم وثباتهم على زللهم.

هذا هو السؤال ، وأمّا الجواب : فإنّ اكتفاء العقلاء بهذه الدرجة من الصلاح والاستقامة ، لأجل وجهين :

إمّا لعدم تمكنهم من أفراد كاملين ، وإمّا لاكتفائهم في تحقق أهدافهم على الحد الخاص من الواقعية وكلا الأمرين لا يناسب ساحته سبحانه ، إذ في وسع المولى سبحانه بعث رجال معصومين ، وتحقيق أهدافه على الوجه الأكمل.

يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد : إنّ الناس يتسبّبون في أنواع تبليغاتهم وأغراضهم الاجتماعية بالتبليغ بمن لا يخلو من قصور وتقصير في التبليغ لكن ذلك منهم لأحد أمرين لا يجوز في ما نحن فيه ، لمكان المسامحة منهم في الوصول إلى الأهداف ، فإنّ مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من المطلوب والحصول على اليسير والغض عن الكثير ، وهذا لا يليق بساحته تعالى (2).

ص: 86


1- تنزيه الأنبياء : 4 - 6.
2- الميزان : 2 / 141.

ولأجل هذه الوجوه العقلية نرى القرآن يصرح بعصمة الأنبياء تارة ، ويشير إليها أحياناً حيث يصفهم بأنّهم مهديون لا يضلون أبداً ، وإليك هذه الآيات التي تعد من أجلى الشواهد القرآنية على عصمة الأنبياء.

القرآن وعصمة الأنبياء من المعصية
اشارة

إنّه سبحانه يطرح في كتابه العزيز عصمة الأنبياء ويصفهم بهذا الوصف ، ويشهد بذلك لفيف من الآيات :

الآية الأُولى

قال سبحانه : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1).

ثم إنّه يصف هذه الصفوة من عباده بقوله : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) (2).

والآية الأخيرة تصف الأنبياء بأنّهم مهديون بهداية اللّه سبحانه على وجه يجعلهم القدوة والاسوة.

هذا من جانب ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه يصرح بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا مضل له ويقول : ( وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللّهُ

ص: 87


1- الأنعام : 84 - 87.
2- الأنعام : 90.

فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ ) (1).

وفي آية ثالثة يصرح بأنّ حقيقة العصيان هي الانحراف عن الجادة الوسطى بل هي الضلالة ويقول : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) (2).

وبملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الآيات تظهر عصمة الأنبياء بوضوح وتوضيح ذلك :

انّه سبحانه يصف الأنبياء في اللفيف الأوّل من الآيات بأنّهم القدوة الاسوة والمهديون من الأُمّة كما يصرح في اللفيف الثاني بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا ضلالة ولا مضل له.

كما هو يصرح في اللفيف الثالث بأنّ العصيان نفس الضلالة أو مقارنه وملازمه حيث يقول : ( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ ) وما كانت ضلالتهم إلاّ لأجل عصيانهم ومخالفتهم لأوامره ونواهيه.

فإذا كان الأنبياء مهديين بهداية اللّه سبحانه ، ومن جانب آخر لا يتطرق الضلال إلى من هداه اللّه ، ومن جانب ثالث كانت كل معصية ضلالاً يستنتج أنّ من لا تتطرق إليه الضلالة لا يتطرق إليه العصيان.

وإن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الأشكال المنطقية فقل :

النبي : من هداه اللّه.

وكل من هداه اللّه فما له من مضل.

ينتج : النبي ما له من مضل.

ص: 88


1- الزمر : 36 - 37.
2- يس : 60 - 62.
الآية الثانية

انّه سبحانه يعد المطيعين لله والرسول بأنّهم من الذين يحشرون مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين الذين أنعم اللّه عليهم إذ يقول :

( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) (1).

وعلى مفاد هذه الآية فالأنبياء من الذين أنعم اللّه عليهم بلا شك ولا ريب ، وهو سبحانه يصف تلك الطائفة أعني : ( من أنعم عليهم ) بقوله : بأنّهم : ( غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) (2).

فإذا انضمت الآية الأُولى الواصفة للأنبياء بالإنعام عليهم ، إلى هذه الآية الواصفة بأنّهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، يستنتج عصمة الأنبياء بوضوح ، لأنّ العاصي من يشمله غضب اللّه سبحانه ويكون ضالاً بقدر عصيانه ومخالفته.

وعلى الجملة : من كان غير المغضوب عليه ولا الضال فهو لا يخالف ربه ولا يعصي أمره فإنّ العاصي يجلب غضب الرب ، ويضل عن الصراط المستقيم قدر عصيانه.

الآية الثالثة

انّه سبحانه يصف جملة من الأنبياء ويقول في حق إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ

ص: 89


1- النساء : 69.
2- الفاتحة : 7.

النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) (1).

فهذه الآية تصف تلك الصفوة من الأنبياء بأوصاف أربعة :

1. أنعم اللّه عليهم.

2. هدينا.

3. واجتبينا.

4. خرّوا سجّداً وبُكيّا.

ثم إنّه سبحانه يصف في الآية التالية ذرية هؤلاء وأولادهم بأوصاف تقابل الصفات الماضية ، ويقول : ( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) (2).

نرى أنّه سبحانه يصف خلفهم بأوصاف ثلاثة تضاد أوصاف آبائهم وهي عبارة عن أُمور ثلاثة :

1. أضاعوا الصلاة.

2. واتبعوا الشهوات.

3. يلقون غيّاً.

وبحكم المقابلة بين الصفات يكون الأنبياء ممن لم يضيّعوا الصلاة ولم يتّبعوا الشهوات ، وبالنتيجة لا يلقون غيّاً ، وكل من كان كذلك فهو مصون من الخلاف ومعصوم من اقتراف المعاصي ، لأنّ العاصي لا يعصي إلاّ لاتباع الشهوات وسوف يلقى أثر غيه وضلالته.

ص: 90


1- مريم : 58.
2- مريم : 59.
الآية الرابعة

إنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى الاقتفاء بأثر النبي بمختلف التعابير والعبارات يقول سبحانه : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) (1).

ويقول أيضاً : ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) (2).

ويقول في آية ثالثة : ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) (3).

كما أنّه سبحانه يندد بمن يتصور انّ على النبي أن يقتفي الرأي العام ويقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) (4).

وعصارة القول : إنّ هذه الآيات تدعو إلى إطاعة النبي والاقتداء به بلا قيد وشرط ، ومن وجبت طاعته على وجه الإطلاق أي بلا قيد وشرط يجب أن يكون معصوماً من العصيان ومصوناً عن الخطأ والزلل.

توضيحه : انّ دعوة النبي تتحقّق بأحد الأمرين : اللفظ أو العمل. والدعوة بالكتابة ترجع إلى أحدهما ، وعند ذلك فلو كان كل ما يدعو إليه النبي بلسانه

ص: 91


1- آل عمران : 31 - 32.
2- النساء : 80.
3- النور : 52.
4- الحجرات : 7.

وفمه وقلمه ويراعه ، صادقاً مطابقاً للواقع غير مخالف له قدر شعرة ، لصح الأمر بالاقتداء به وإنّ طاعته طاعة اللّه سبحانه كما قال : ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) (1).

وأمّا لو كان بعض ما يدعو به باللفظ والعمل والقول والكتابة على خلاف الواقع وعلى خلاف ما يرضى به سبحانه يجب تقييد الدعوة إلى طاعة النبي بقيد يخرج هذه الصورة.

فالحكم باتّباعه على وجه الإطلاق يكشف عن أنّ دعواته وأوامره قولاً وفعلاً حليفة الواقع ، وقرينة الحقيقة لا تتخلف عنه قدر شعرة ، من غير فرق بين الدعوة اللفظية أو العملية.

فإنّ الدعوة عن طريق العمل والفعل من أقوى العوامل تأثيراً في مجال التربية والتعليم وأرسخها وكل عمل يصدر من الرسل فالناس يتلقونه دعوة عملية إلى اقتفاء أثره في ذاك المجال.

فلو كان ما يصدر من النبي طيلة الحياة مطابقاً لرضاه وموافقاً لحكمه صح الأمر بالاقتفاء في القول والفعل ، ولو كانت أفعالهم تخالف الواقع في بعض الأحايين وتتسم بالعصيان والخطأ ، لما صح الأمر بطاعته والاقتداء به على وجه الإطلاق.

كيف وقد وصف الرسول بأنّه الأُسوة الحسنة في قوله سبحانه : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيرًا ) (2).

ص: 92


1- النساء : 80.
2- الأحزاب : 21.

فكونه أُسوة حسنة في جميع المجالات لا يتفق إلاّ مع عصمته المطلقة ، بخلاف من يكون أُسوة في مجال دون مجال ، وعلى ذلك فهو مصون من الخلاف والعصيان والخطأ والزلل.

وإن شئت قلت : لو صدر عن النبي عصيان وخلاف فمن جانب يجب علينا طاعته واقتفاؤه واتباعه ، وبما انّ الصادر منه أمر منكر يحرم الاقتداء به واتباعه وتجب المخالفة ، فعندئذ يلزم الأمر بالمتناقضين ، والقول بأنّه يجب اتّباعه في خصوص ما ثبت كونه موافقاً للشرع أو لم تعلم مخالفته له ، خلاف إطلاق الآيات الآمرة بالاتّباع على وجه الإطلاق من غير فرق بين فعل دون فعل ، ووقت دون وقت.

وهذا المورد من الموارد التي يستكشف بإطلاق الحكم حال الموضوع وسعته وانّه مطابق للشرع ، وكم له من مورد في الأحكام الفقهية (1).

الآية الخامسة

إنّ اللّه سبحانه يحكي عن الشيطان الطريد بأنّه قال : ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ) (2).

ويقول أيضاً : ( وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ) (3).

ص: 93


1- وقد عنونه الأُصوليون في أبحاث العام والخاص فيستكشفون عن إطلاق الحكم سعة الموضوع كما في مثل قوله : « لعن اللّه بني أُمية قاطبة » فيستدل بإطلاقه على سعته وعدم وجود مؤمن فيهم ، وإلاّ لما صح الحكم بالإطلاق.
2- ص : 83 - 84.
3- الحجر : 39 - 40.

فهذه الآيات ونظائرها تحكي عن نزاهة المخلصين عن إغواء الشيطان وجرّه إيّاهم إلى الطرق المظلمة.

توضيحه : انّ الغي يستعمل تارة في خلاف الرشد وإظلام الأمر ، وأُخرى في فساد الشيء ، قال ابن فارس : فالأوّل الغي وهو خلاف الرشد ، والجهل بالأمر والانهماك في الباطل ، يقال : غوى يغوي غياً ، قال الشاعر :

فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره *** ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً

وذلك عندنا مشتق من الغياية ، وهي الغبرة والظلمة تغشيان ، كأنّ ذا الغيِّ قد غشيه ما لا يرى معه سبيل حق.

وأمّا الثاني : فمنه قولهم : غوي الفصيل إذا أكثر من شرب اللبن ففسد جوفه ، والمصدر : الغوى (1).

وعلى ذلك فسواء فسرت الغواية في الآيتين بالمعنى الأوّل كما هو الأقرب أو بالمعنى الثاني ، فالعباد المخلصون منزهون عن أن تغشاهم الغبرة والظلمة في حياتهم أو أن يرتكبوا أمراً فاسداً ، ونفي كلا الأمرين يستلزم العصمة ، لأنّ العاصي تغشاه غبرة الجهل وظلمة الباطل ، كما أنّه يفسد علمه بالمخالفة.

نعم إثبات الغواية لا يستلزم إثبات المعصية ، فإنّ مخالفة الأوامر الإرشادية التي لا تتبنى إلاّ النصح والإرشاد وإن كانت تلازم غشيان الغبرة في الحياة وفسادالعمل ، لكنها لا تستلزم التمرد والتجري اللّذين هما الملاك في صدق المعصية.

ص: 94


1- مقاييس اللغة : 4 / 399 - 400.

وعلى كل تقدير ، فما ورد في هذه الطائفة من الآيات بمنزلة ضابطة كلية في حق المخلصين ونزاهتهم عن الغواية الملازمة لنزاهتهم عن المعصية.

وهناك آيات أُخرى تأتي بأسماء المخلصين وتصفهم وتقول : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ ) (1).

فقوله سبحانه : ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) خير دليل على أنّ المعدودين والمذكورين في هذه الآيات من إبراهيم وذريته كلهم من المخلصين الذين شهدت الآيات على تنزههم من غواية الشيطان الملازم لنزاهتهم عن العصيان والخلاف.

نعم هذه الطائفة لا تدل على عصمة جميع الأنبياء والرسل إلاّ بعدم القول بالفصل حيث إنّ العلماء متفقون إمّا على العصمة أو على خلافها ، وليس هناك من يفصل بين نبي دون نبي بأن يثبت العصمة في حق بعضهم دون بعض.

هذا بعض ما يمكن الاستدلال به على عصمة الأنبياء وبقيت هناك آيات يمكن الاستدلال بها على العصمة أيضاً مثل قوله سبحانه : ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (2).

لأنّ المراد من الاجتباء هو الاجتباء بالعصمة وان كان يحتمل أن يكون المراد

ص: 95


1- ص : 45 - 48.
2- الأنعام : 87.

الاجتباء بالنبوة ، والكلام هنا في الاجتباء دون الهداية.

ومثله قوله سبحانه : ( وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) (1).

ص: 96


1- مريم : 58.

حجة المخالفين للعصمة

اشارة

قد تعرفت على الآيات الدالة على عصمة الأنبياء في المجالات التالية : « تلقّي الوحي ، والتحفّظ عليه ، وإبلاغه إلى الناس ، والعمل به » غير انّ هناك آيات ربما توهم في بادئ النظر خلاف ما دلت عليه صراحة الآيات السابقة ، وقد تذرعت بها بعض الفرق الإسلامية التي جوزت المعصية على الأنبياء بمختلف صورها.

وهذه الآيات على طوائف :

الأُولى : ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء بصورة كليّة.

الثانية : ما يمس عصمة عدة منهم كآدم ويونس بصورة جزئية.

الثالثة : ما يتراءى منه عدم عصمة النبي الأكرم.

فعلينا دراسة هذه الأصناف من الآيات حتى يتجلّى الحق بأجلى مظاهره :

الطائفة الأُولى : ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء
الآية الأُولى

ومن هذه الطائفة قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (1).

ص: 97


1- يوسف : 109.

( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ ) (1).

استدل القائل بعدم وجود العصمة في الأنبياء بظاهر الآية قائلاً بأنّ الضمائر الثلاثة في قوله : ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) ترجع إلى الرسل ، ومفاد الآية انّ رسل اللّه سبحانه وأنبياءه كانوا ينذرون قومهم ، وكان القوم يخالفونهم أشد المخالفة ، وكان الرسل يعدون المؤمنين بالنصر عن اللّه والغلبة ويوعدون الكفّار بالهلاك والإبادة ، لكن لما تأخر النصر الموعود وعقاب الكافرين « ظن الرسل أنّهم قد كذبوا » فيما وعدوا به من جانب اللّه من نصر المؤمنين وإهلاك الكافرين ، ومن المعلوم انّ هذا الظن سواء أكان بصورة الإذعان واليقين أو بصورة الزعم والميل إلى ذاك الجانب ، اعتقاد باطل لا يجتمع مع العصمة.

وإن شئت تفسير الآية فعليك بإظهار مراجع الضمائر بأن تقول : لما أخّرنا العقاب عن الأُمم السالفة ظن الرسل انّ الرسل قد كذب ( بصيغة المجهول ) الرسل في ما وعدوا به من النصر للمؤمنين والهلاك للكافرين.

وعلى هذا فكل جواب من العدلية القائلين بعصمة الرسل على خلاف هذا الظاهر يكون غير متين ، بل يجب أن يكون الجواب منطبقاً على هذا الظاهر.

وإليك الأجوبة المذكورة في التفاسير :

الأوّل : انّ الضمائر الثلاثة ترجع إلى الرسل غير انّ الوعد الذي تصور الرسل أنّهم قد كذبوا ( أي قيل لهم قولاً كاذباً ) هو تظاهر عدة من المؤمنين بالإيمان وادّعاؤهم الإخلاص لهم ، فتصور الرسل انّ تظاهر هؤلاء بالإيمان كان كذباً وباطلاً ، وكأنّهم تصوروا انّ الذين وعدوهم بالإيمان من قومهم أخلفوهم أو كذبوا فيما أظهروه من الإيمان (2).

ص: 98


1- يوسف : 110.
2- مجمع البيان : 5 - 6 / 415 ، ط دار المعرفة ، بيروت.

وفيه : انّ هذا الجواب وان كان أظهر الأجوبة إذ ليس فيه تفكيك بين الضمائر كما في سائر الأجوبة الآتية لكن الذي يرده هو بعده عن ظاهر الآية ، إذ ليس فيها عن إيمان تلك الثلة القليلة أثر حتى يقع متعلّق الكذب في قوله سبحانه : ( قَدْ كُذِبُوا ) .

وإن شئت قلت : ليس في مقدم الآية ولا في نفسها ما يشير إلى أنّه قد آمن بالرسل عدّة قليلة وتظاهروا بالإيمان غير انّه صدر عنهم ما جعل الأنبياء يظنون بكذبهم في ما أظهروه من الإيمان حتى يصح أن يقال انّ متعلق الكذب هو هذا ، وانّما المذكور في مقدمها ونفسها هو مخالفة الزمرة الطاغية من أقوام الأنبياء وعنادهم ولجاجهم مع رسل اللّه وأنبيائه حيث يقول : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (1).

ومجرد قوله : ( وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا ) لا يكفي في جعل إيمانهم متعلّقاً للكذب ، إذ عندئذ يجب أن تتعرض الآية إلى إيمان تلك الشرذمة وصدور ما يوجب ظنهم بخلاف ما تظاهروا به حتى يصح أن يقال إنّ الرسل ظنوا انّ المتظاهرين بالإيمان قد كذبوا في ادّعاء الإيمان بالرسل.

أضف إلى ذلك : إنّ هذه الإجابة لا تصحّح العصمة المطلقة للأنبياء ، إذ على هذا الجواب يكون ظن الرسل بعدم إيمان تلك الشرذمة القليلة خطأً ، وكان ادّعاؤهم للإيمان صادقاً ، وهذا يمس كرامتهم من جانب آخر ، لأنّهم تخيّلوا غير الواقع واقعاً ، والمؤمن كافراً.

على أنّ ذلك الجواب لا يناسب ذيل الجملة فانّه سبحانه يقول بعد تلك الجملة : ( جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ) مع أنّ المناسب على هذه الإجابة أن

ص: 99


1- يوسف : 109.

يقول : « بل تبين للرسل صدق ادّعاء المؤمنين فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ».

الثاني : انّ معنى الآية : ظن الأُمم أنّ الرسل كذبوا في ما أخبروا به من نصر اللّه إيّاهم وإهلاك أعدائهم وهذا الوجه هو المروي عن سعيد بن جبير واختاره العلاّمة الطباطبائي ، فالآية تهدف إلى أنّه إذا استيئس الرسل من إيمان أُولئك الناس ، هذا من جانب ومن جانب آخر ظنّ الناس - لأجل تأخر العذاب - انّ الرسل قد كذبوا ، أي أخبروا بنصر المؤمنين وعذاب الكافرين كذباً ، جاءهم نصرنا ، فنجّي بذلك من نشاء وهم المؤمنون ، ولا يرد بأسنا أي شدتنا عن القوم المجرمين.

وقد دلّت الآيات على أنّ الأُمم السالفة كانوا ينسبون الأنبياء إلى الكذب ، قال سبحانه في قصة نوح حاكياً عن قول قومه : ( بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) (1) ، وكذا في قصة هود وصالح.

وقال سبحانه في قصة موسى : ( فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ) (2). (3)

ولا يخفى ما في هذا الجواب من الإشكال ، فإنّ الظاهر هو انّ مرجع الضمير المتصل في « ظنّوا » هو الرسل المقدم عليه ، وإرجاعه إلى الناس على خلاف الظاهر ، وعلى خلاف البلاغة وليس في نفس الآية حديث عن هذا اللفظ ( الناس ) حتى يكون مرجعاً للضمير في « ظنّوا ».

أضف إلى ذلك انّ ما استشهد به مما ورد في قصة نوح لا يرتبط بما ادّعاه فإنّ

ص: 100


1- هود : 27.
2- الإسراء : 101.
3- الميزان : 11 / 279.

معنى ( بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) انّ الناس صوّروا نفس الرسل كاذبين وانّهم قد تعمّدوا التقوّل على خلاف الواقع ، والمذكور في الآية المبحوث عنها ليس كون الرسل كاذبين بل كونهم مكذوبين ، أي وعدوا كذباً وقيل لهم قولاً غير صادق وإن تصوّروا أنفسهم صادقين في ما يخبرون به ، وبين المعنيين بون بعيد.

الثالث : ما روي عن ابن عباس من أنّ الرسل لمّا ضعفوا وغلبوا ظنّوا أنّهم قد أخلفوا ما وعدهم اللّه من النصر ، وقال كانوا بشراً ، وتلا قوله : ( وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ ) (1).

وقال صاحب الكشاف في حق هذا القول : إنّه إن صح هذا عن ابن عباس ، فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية ، وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل اللّه الذين هم أعرف الناس بربهم ، وانّه متعال عن خلف الميعاد منزه عن كل قبيح (2).

وهذا التفسير مع التوجيه الذي ذكره الزمخشري وإن كان أوقع التفاسير في القلوب غير انّه أيضاً لا يناسب ساحة الأنبياء الذين تسددهم روح القدس وتحفظهم عن الزلل والخطأ في الفكر والعمل ، وتلك الهاجسة وان كانت بصورة حديث النفس وشبه الوسوسة لكنها لا تلائم العصمة المطلقة المترقبة من الأنبياء.

الرابع ( وهو المختار )

إنّ المستدل زعم أنّ الظن المذكور في الآية أمر قلبي اعترى قلوب الرسل ،

ص: 101


1- البقرة : 214.
2- الكشاف : 2 / 157.

وأدركوه بمشاعرهم وعقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية وتنقدح فيها.

مع أنّ المراد غير ذلك ، بل المراد انّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدة والقسوة الى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق ، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل ، وأفئدتهم ، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعداً مكذوباً ، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدة كانت كأنّها تشهد في بادئ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر.

فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً أمر ، وكون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر ، والمخالف للعصمة هو الثاني لا الأوّل ، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (1) ، فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى ، فدعاهم فلم يؤمنوا ، فسأل اللّه أن يعذّبهم ، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا ، فكشفه اللّه عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وتأديبه ، لأجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى اللّه سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس ، هل كان ظناً قائماً بمشاعره ، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردد في ذهن غيرهم ، فكيف الأنبياء ؟! بل المراد انّ عمله هذا ( أي ذهابه ومفارقة قومه ) كان

ص: 102


1- الأنبياء : 87.

ممثلاً بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته ، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس ، وبين كون عمله مجسماً وممثلاً لهذا الظن في كل من رآه وشاهده ؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.

ومنها : قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة ، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة ، ولما خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم ، ضيّق عليهم النبي ، فلجأوا إلى حصونهم ، وفي ذلك يقول سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (1).

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة ؟ هل كانوا يظنون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من اللّه ؟ فإنّ ذلك بعيد جداً ، فانّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير انّ علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوته كان يحكي عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.

ولذلك نظائر في المحاورات العرفية فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها ، والبانين للقصور المشيدة والأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة ، وانّ الموت كأنّه كتب على غيرهم ، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكن بالمعنى الذي عرفت أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن ، ومصدر هذه النسبة.

وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة

ص: 103


1- الحشر : 2.

حياتهم وتشتد عليهم الأزمة والمحنة من جانب المخالفين ، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألداء ، وكان المؤمنون بهم في قلّة ، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل ، والبأساء والضراء ، مظنّة لأن يتخيّل كل من وقف عليها من نبي وغيره ، انّ ما وعدوا به وعد غير صادق ، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه ، للمؤمنين ، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول : ( فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ ) (1).

ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) (2).

فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين ، فعندما كانت البأساء والضراء تحدق بالمؤمنين ونفس الرسول ، وكانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنّها كانت تحبس الأنفاس ، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجر في شكل ضراعة إلى اللّه ، فيقول الرسول والذين آمنوا معه ( مَتَى نَصْرُ اللّهِ ) ؟ فإنّ كلمة ( مَتَى نَصْرُ اللّهِ ) مقرونة بالضراعة والالتماس ، تقعمظنة تصور استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم ، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.

وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة.

هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية ، ولعلّ القارئ يجد تفسيراً أوقع في النفس مما ذكرناه.

ص: 104


1- يوسف : 110.
2- البقرة : 214.
الآية الثانية

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).

( لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) (2).

( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (3).

وهذه الآية أو الآيات من أوثق الأدلة في نظر القائل بعدم عصمة الأنبياء ، وقد استغلها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحي النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.

وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخل في الوحي النازل عليه فيغيره إلى غير ما نزل به.

ثم إنّه سبحانه يمحو ما يلقي الشيطان ويصحّح ما أُُنزل على رسوله من الآيات ، فلو كان هذا مفاد الآية ، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلمين على المصونية في هذا المجال.

وربما يؤيد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية ، وسيوافيك نصه وما فيه من الإشكال.

ص: 105


1- الحج : 52.
2- الحج : 53.
3- الحج : 54.

فالأولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن انّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدل فنقول : يجب توضيح نقاط في الآيات.

الأُولى : ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟ وإلى مَ يهدف قوله سبحانه : ( إِذَا تَمَنَّى ) ؟

الثانية : ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول اللّه سبحانه : ( أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) ؟

الثالثة : ما معنى نسخ اللّه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

الرابعة : ماذا يريد سبحانه من قوله : ( ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ ) وهل المراد منه الآيات القرآنية ؟

الخامسة : كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها ؟ وكيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين ، وإخبات قلوبهم له ؟

وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية ومفادها فنقول :

1. ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟

أمّا الأُمنية قال ابن فارس : فهي من المنى ، بمعنى تقدير شيء ونفاذ القضاء به ، منه قولهم : مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي :

لا تأمنن وان أمسيت في حرم *** حتى تلاقي ما يمني لك الماني

والمنا : القدر ، وماء الإنسان : منيّ ، أي يُقدّر منه خلقته. والمنيّة : الموت ، لأنّها مقدّرة على كل أحد ، وتمنّى الإنسان : أمل يقدِّره ، ومنى مكة : قال قوم : سمِّي به لما قُدِّر أن يُذبح فيه ، من قولك مناه اللّه (1).

ص: 106


1- المقاييس : 5 / 276.

وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والأنبياء من طريق الكتاب العزيز ، ولا يشك من سبر الذكر الحكيم انّه لم يكن للرسل والأنبياء ، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة ، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي ، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً ، وكانوا يخططون لهذا الأمر ، ويفكّرون في الخطة بعد الخطة ، ويمهدون له قدر مستطاعهم ، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها :

يقول سبحانه في حق النبي الأكرم : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (1).

ويقول أيضاً : ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) (2).

ويقول أيضاً : ( إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) (3).

ويقول سبحانه : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (4).

ويقول سبحانه : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) (5).

هذا كلّه في حق النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته : ( وَإِنِّي كُلَّمَا

ص: 107


1- يوسف : 103.
2- فاطر : 8.
3- النحل : 37.
4- القصص : 56.
5- الغاشية : 21 - 22.

دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) (1).

ويقول سبحانه بعد عدة من الآيات : ( قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلَالاً ) (2).

فهذه الآيات ونظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى اللّه ، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن ، وان منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع ، فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل ، وهلم معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني ، أعني :

2. ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل ؟

وهذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف ، وبالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح فنقول : إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين :

1. أن يوسوس في قلوب الأنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة ، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم ، وانّ هذه الأُمّة أُمّة غير قابلة للهداية ، فتظهر بسبب

ص: 108


1- نوح : 7 - 9.
2- نوح : 21 - 24.

ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.

ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنص القرآن الكريم ، لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء وضمائرهم ، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والإرشاد ، والقرآن الكريم ينفي تسلل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء ومن دونهم ، ويقول سبحانه : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) (1).

ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان : ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ) (2).

وليس إيجاد الوهن في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفي بنص الآيات.

2. أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الأنبياء علیهم السلام والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخططاتهم عقيمة غير مفيدة.

وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحض أقوام الأنبياء علیهم السلام على المخالفة ويعدهم بالأماني ، حتى يخالفوهم.

قال سبحانه : ( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ) (3).

ص: 109


1- الحجر : 42 ، الإسراء : 65.
2- ص : 82 - 83.
3- النساء : 120.

وقال سبحانه : ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ) (1).

وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء والرسل ، وكانوا يخدعونهم بالعدة والأماني ، وعند ذلك يتضح مفاد الآية ، قال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى ( أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط ، وهيّأ لذلك المقدمات ) أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) ( بحض الناس على المخالفة والمعاكسة وإفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدمات عقيمة غير منتجة ).

3. ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه : ( فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) وما معنى هذا النسخ ؟

والمراد من ذاك النسخ ما وعد اللّه سبحانه رسله بالنصر ، والعون والإنجاح ، قال سبحانه : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (2) ، وقال سبحانه : ( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (3) ، وقال سبحانه : ( بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (4).

ص: 110


1- إبراهيم : 22.
2- غافر : 51.
3- المجادلة : 21.
4- الأنبياء : 18.

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) (1).

وقال في حق النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) (2).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (3).

إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكي عن انتصار الحق الممثل في الرسالات الإلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه.

4. ما معنى إحكامه سبحانه آياته ؟

إذا تبين معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ، يتبين المراد من قوله سبحانه : ( ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ ) .

فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى اللّه سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه.

وإن شئت قلت : إذا نسخ ما يلقيه الشيطان ، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً ، وسعادة الناس ثانياً.

ومن أسخف القول : إنّ المراد من الآيات ، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الأكرم ، وذلك لأنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الأكرم ، بل الرسل والأنبياء على وجه الإطلاق ، أضف إليه انّه ليس كل نبي ذا كتاب وآيات ،

ص: 111


1- الصافات : 171 - 173.
2- التوبة : 33.
3- الأنبياء : 105.

فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله ؟

ويعود مفاد الجملة إلى أنّ اللّه سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله اللّه إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة.

والحاصل : انّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للأوّل ، والاندحار والهزيمة للثاني فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه ، بإرادة اللّه سبحانه ، فتخلفها البرامج الحيوية الإلهية وآياته الناصعة ، فيصبح الحق قائماً وثابتاً ، والباطل داثراً وزاهقاً ، قال سبحانه : ( وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) (1).

5. ما هي النتيجة من هذا الصراع ؟

قد عرفت أنّ الآية تعلل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث :

1. الذين في قلوبهم مرض.

2. ذات القلوب القاسية.

3. الذين أوتوا العلم.

إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الإخلاص والإيمان.

فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الإلهية ، والقلوب القاسية التي أسّرتها الشهوات ، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا ، تتسابق إلى دعوة الشيطان

ص: 112


1- الإسراء : 81.

وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة ، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها.

وأمّا النفوس المؤمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب اللّه سبحانه ، فلا يزيدها ذلك إلاّ إيماناً وثباتاً وهداية وصمودا.

وهذه النتيجة حاكمة في عامة اختبارات اللّه سبحانه لعباده ، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لأجل العلم بواقع النفوس ومكامنها ، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (1) ، وانّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب ، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.

وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علي علیه السلام في معنى الاختبار بالأموال والأولاد الوارد في قوله : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (2) : « ليتبيّن الساخط لرزقه ، والراضي بقسمه ، وان كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب » (3).

وقد وقفت بعد ما حررت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي - قدس اللّه سره - وهو قريب مما ذكرناه : قال : المراد من الأُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر ، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي ويشهد به سوق الآيات ، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما ، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى ، وتأييد شريعة الحق ، ونحو ذلك ، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمّنى

ص: 113


1- الملك : 14.
2- الأنفال : 28.
3- نهج البلاغة : قسم الحكم الرقم : 93.

الصالح ما يشوشه ، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض ، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى ، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم ، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم ، وأحكام الشريعة بعده ، وألقى بين قوم رسول اللّه ما أهاجهم على تكذيبه وحربه وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع فينسخ اللّه بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان ، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق ، ثم يحكم اللّه آياته ويؤيد حججه بإرسال الرسل ، أو تسديد جامعة الدين القيم (1).

وما ذكره - قدّس اللّه سرّه - كلام لا غبار عليه ، وقد شيدنا أساسه فيما سبق.

إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسك به بعض القساوسة الطاعنين في الإسلام ، ومن حذا حذوهم من البسطاء.

التفسير الباطل للآية

ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الإسلام والتنقيص من شأن القرآن ، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا : بأنّ المراد من الآية هو انّ « ما من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه تدخل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها » واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي ، ومحمد بن قيس قالا : جلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من اللّه شيء فينفروا عنه ، فأنزل اللّه عليه ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) (2) فقرأها صلی اللّه علیه و آله حتى إذا بلغ : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ) (3) ألقى عليه الشيطان كلمتين : « تلك

ص: 114


1- الهدى إلى دين المصطفى : 1 / 134.
2- النجم : 1 - 2.
3- النجم : 19 - 20.

الغرانقة العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى » فتكلم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها ، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه ، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود ، فرضوا بما تكلم به وقالوا قد عرفنا : إنّ اللّه يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك ، قالا : فلمّا أمسى أتاه جبرائيل علیه السلام فعرض عليه السورة ، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه ، قال ما جئتك بهاتين ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : افتريت على اللّه وقلت على اللّه ما لم يقل فأوحى اللّه إليه : ( وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ) إلى قوله : ( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) (1) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة انّ أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ اللّه ما ألقى الشيطان (2).

ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الإشكالات التي تسقطه عن صحة الاستناد إليه.

أمّا أوّلاً : فلأنّه مبني على أنّ قوله « تمنّى » بمعنى تلا ، وانّ لفظة « أُمنيته » بمعنى تلاوته ، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث ولو صح فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.

ص: 115


1- الإسراء : 73 ، 75.
2- تفسير الطبري : 17 / 131 ، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.

نعم استدل بعضهم بقول حسان على ذاك الاستعمال :

تمنى كتاب اللّه أوّل ليلة *** وآخره لاقى حمام المقادر

وقول الآخر :

تمنى كتاب اللّه آخر ليلة *** تمنّي داود الزبور على رسل

وهذان البيتان لو صح اسنادهما إلى عربي صميم كحسان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذة.

أضف إلى ذلك انّ البيت غير موجود في ديوان حسان ، وانّما نقله عنه المفسرون في تفاسيرهم ، وقد نقله أبو حيان في تفسيره ( ج 6 ص 382 ) واستشهد به صاحب المقاييس ( ج 5 ص 277 ).

ولو صح الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الأوّل دون الأُمنية لعدم ورودها فيه.

وثانياً : أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّها لا تتجاوز في طرقها عن التابعين ومن هو دونهم إلاّ إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصة.

أضف إلى ذلك ، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة وقد جمع تلك الصور المختلفة العلاّمة البلاغي في أثره النفيس ، فلاحظ (1).

وثالثاً : أنّ القصة تكذّب نفسها ، لأنّها تتضمن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات ، استرسل في تلاوة بقية السورة إلى آخرها

ص: 116


1- الهدى إلى دين المصطفى : 1 / 130.

وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه ، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.

ولكن الآيات التي وقعت بعدهما ، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه : ( تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ) (1) إلى آخر الآيات.

وعندئذ يطرح هذا السؤال ، وهو انّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطيقهم وحكيمهم وشاعرهم : الوليد بن المغيرة عن النبي صلی اللّه علیه و آله بهذا الثناء القصير ، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندد بآلهتهم بشدة وعنف ، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الإلوهية إلاّ الاسم والعنوان ؟!

أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاً لها ، وقد قيل : لا ذاكرة لكذوب.

ورابعاً : أنّ اللّه سبحانه يصف في صدر السورة نبيه الأكرم بقوله : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (2) ، وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيه في أوّل السورة بهذا الوصف ، ثم يبدر من نبيه ما ينافي هذا التوصيف أشد المنافاة وفي وسعه سبحانه صون نبيه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير ؟!

وخامساً : أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات ، تكذبهما سائر الآيات الدالة على صيانة النبي الأكرم في مقام تلقّي الوحي والتحفظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه : ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) (3).

ص: 117


1- النجم : 22 - 23.
2- النجم : 3 - 4.
3- الجن : 27.

وقوله تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (1).

وسادساً : أنّ علماء الإسلام ، وأهل العلم والدراية من المسلمين قد واجهوا هذه الحكاية بالرد ، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها (2).

وقال النسفي : إنّ القول بها غير مرضيّ. وقال الخازن في تفسيره : إنّ العلماء وهّنوا أصل القصة ولم يروها أحد من أهل الصحة ، ولا أسندها ثقة بسند صحيح ، أو سليم متصل ، وإنّما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم ، والذي يدل على ضعف هذه القصة اضطراب رواتها ، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها (3).

هذه هي أهم الإشكالات التي ترد على القصة وتجعلها في موضع من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصة وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا « فروغ أبديت » (4) ، ولا نطيل المقام بذكرها.

ص: 118


1- الحاقة : 44 - 46.
2- تنزيه الأنبياء : 109.
3- الهدى إلى دين المصطفى : 1 / 130.
4- كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الأكرم من ولادته إلى وفاته صلی اللّه علیه و آله وقد طبع في جزءين.
الطائفة الثانية: ما يمس عصمة عدة خاصة من الأنبياء
اشارة

فهذه الطائفة عبارة عن الآيات التي تمس بظاهرها عصمة بعض الأنبياء بصورة جزئية وها نحن نذكرها واحدة بعد أُخرى.

1

عصمة آدم علیه السلام والشجرة المنهي عنها وجعل الشريك لله
اشارة

وقد طرحنا في هذه الطائفة أبرز الآيات التي وقعت ذريعة بأيدي المخطِّئة في مجال نفي العصمة عن عدة معينة من الأنبياء ، وراعينا الترتيب التاريخي لهم ، فنقدم البحث عن عصمة آدم علیه السلام على البحث عن عصمة نوح علیه السلام وهكذا.

إنّ حديث الشجرة المنهي عنها هو أقوى ما تمسّك به المخالفون للعصمة المجوّزون صدور المعصية من الرسل والأنبياء ، ويعدّ ذلك في منطقهم « كبيت القصيد » في ذلك المجال ، ولأجل ذلك ينبغي التوسّع في البحث واستقصاء ما يمكن أن يقع ذريعة في يد المخالف فنقول :

ص: 119

إنّ حديث الشجرة ورد على وجه التفصيل في سور ثلاث ، نذكر منها ما يتعلّق بمورد البحث قال سبحانه : ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (1).

ويقول سبحانه : ( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (2).

فأنت ترى أنّه سبحانه يتوسّع في بيان القصة في هذه السورة ، بينما هو يختصر في بيانها في السورة السابقة ، ووجه ذلك أنّ سورة الأعراف مكيّة وسورة البقرة مدنية ، ولما توسّع في البيان في السورة المتقدّمة أوجز في السورة اللاحقة ولم يفصّل.

ص: 120


1- البقرة : 35 - 37.
2- الأعراف : 19 - 24.

ويقول سبحانه : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) (1).

هذه السور الثلاث قد احتوت على مهمات هذه القصة ، فينبغي علينا توضيح ما ورد فيها من الجمل والكلمات التي تعتبر مثاراً للتساؤلات الآتية :

التساؤلات حول الآيات

إنّ التساؤلات المطروحة حول الآيات عبارة عن :

1. ما هي نوعية النهي في قوله تعالى : ( لا تَقْرَبَا ) ؟

2. ما هو المراد من وسوسة الشيطان لآدم وزوجته ؟

3. ماذا يراد من قوله : ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ) ؟

4. ماذا يراد من قوله : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) وهل العصيان والغواية يلازمان المعصية المصطلحة ؟

5. ما معنى اعتراف آدم بظلمه لنفسه في قوله : ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ) ؟

ص: 121


1- طه : 115 - 123.

6. ماذا يراد من قوله سبحانه : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) فهل التوبة دليل العصيان ؟

7. ما معنى قوله : ( وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا ) ؟

فلنبدأ بالإجابة على هذه الأسئلة واحداً بعد واحد ، وعند ختام البحث يقف القارئ على أنّ آدم أبا البشر كان نزيهاً عما أُلصق به من المخالفة للتكليف الإلهي الإلزامي المولوي الموجب للعقوبة.

1. ما هي نوعية النهي في قوله تعالى : ( لا تَقْرَبَا )
اشارة

إنّ النهي ينقسم إلى قسمين : مولوي وإرشادي ، والفرق بين القسمين بعد اشتراكهما غالباً في أنّ كلاً منهما صادر عن آمر عال إلى من هو دونه ، هو أنّه الآمر قد ينطلق في أمره ونهيه من موقع المولوية والسلطة ، متخذاً لنفسه موقف الآمر ، الواجبة إطاعته ، فيأمر بما يجب أن يطاع ، كما أنّه ينهى عمّا يجب أن يُجتنب ، فعند ذلك يترتب الثواب على الطاعة ، والعقاب على المخالفة ، وهذا هو شأن أكثر الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنّة.

وقد ينطلق في ذلك من موقع النصح والإرشاد ، والعظة والهداية ، من دون أن يتخذ لنفسه موقف الآمر ، الواجبة طاعته ، بل يتخذ لنفسه موقف الناصح المشفق ، القاصد لإسعاد المخاطب وإنجائه من الشقاء ، وعند ذلك يترك انتخاب أحد الجانبين للمخاطب ذاكراً له ما يترتب على نفس العمل من آثار خاصّة من دون أن تترتب على ذات المخالفة أيّة تبعة.

وإن شئت قلت : إنَّ نفس العمل والفعل ذو آثار طبيعية ومضاعفات تترتب عليه في كل حين وزمان ، من دون فرق بين فاعل وآخر ، فيذكر المولى العالم

ص: 122

بعواقب الأعمال وآثار الأفعال ، بما يترتب على ذات العمل من سعادة وشقاء ، فيجعل المخاطب في موقف العالم بآثار الشيء ويترك اختيار أحد الطرفين إليه ، حتى يكون هو المختار في العمل ، فإن اتبع نصحه وإرشاده فقد نجا عما يترتب على العمل من الهلاك والخسران ، وإن خالفه تصيبه المضاعفات التي تكمن في ذات العمل.

ولتوضيح ذلك نأتي بمثال

إنّ الطبيب إذا وصف دواء لمريض وأمره بتناول ذلك الدواء والاجتناب عن أُمور أُخرى ، فلو قام المريض بالطاعة والامتثال ، تترتب عليه الصحة والعافية ، وإن خالف أمر الطبيب لم يترتب على تلك المخالفة سوى المضاعفات المترتبة على نفس العمل ، وذلك لأنّ الطبيب لم يكتب له تلك الوصفة إلاّ بما أنّه طبيب ناصح ومعالج مشفق.

ومثل ذلك ما إذا قال سبحانه : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) بعدما أمر الناس بواجبات ونهى عن أُمور ، فلو خالف المكلّف وترك الواجب كالصلاة والصوم وارتكب المنهيات كالكذب والغيبة ، فقد خالف عندئذ أمرين :

1. الأمر بالصلاة والصوم.

2. الأمر بإطاعة اللّه ورسوله.

فلا يترتب على تينك المخالفتين سوى عقاب واحد لا عقابان ، وذلك لأنّ الأمر الثاني لم يكن أمراً مولوياً ، بل كان أمراً إرشادياً لا يترتب على مخالفته سوى ما يترتب على مخالفة الأمر الأوّل ، وذلك لأنّ المفروض أنّ الآمر لم يتخذ لنفسه عند الأمر بإطاعة اللّه ورسوله ، موقف الآمر الواجب الطاعة ، بل أمر بلباس النصح

ص: 123

والإرشاد.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ مخالفة النهي عن الشجرة إنّما تعدّ معصية بالمعنى المصطلح إذا كان النهي مولوياً صادراً عنه سبحانه على وجه المولوية ، لا أمراً إرشادياً وارداً بصورة النصح ، والقرائن الموجودة في الآيات تشهد بأنّه إرشادي ، لا يترتب على مخالفته سوى ما يترتب على ذات العمل من الآثار الوضعية والطبيعية ، لا مولوي حتى يترتب عليه وراء تلك الآثار ، عقاب المخالفة ومؤاخذة التمرّد ، وإليك هذه القرائن :

1. لو كان النهي عن الشجرة نهياً مولوياً يجب أن يرتفع أثره بعد التوبة والإنابة ، مع أنّا نرى أنّ الأثر المترتب على المخالفة بقي على حاله رغم توبة آدم وإنابته إلى اللّه سبحانه ، وهذا دليل على أنّ الخروج عن الجنّة والتعرّض للشقاء والتعب ، كان أثراً طبيعياً لنفس العمل ، وكان النهي لغاية صيانة آدم علیه السلام عن هذه الآثار والعواقب ، كما إذا نهى الطبيبُ المصابَ بمرض السكر عن تناول المواد السكرية.

2. انّ الآيات الواردة في سورة « طه » تكشف النقاب عن نوعية هذا النهي ، وتصرح بأنّ النهي كان نهياً إرشادياً لصيانة آدم علیه السلام عمّا يترتب عليه من الآثار المكروهة والعواقب غير المحمودة ، قال سبحانه : ( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) (1) فإنّ قوله سبحانه : ( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى ) صريح في أنّ أثر امتثال النهي هو البقاء في الجنّة ، ونيل السعادة التي تتمثل في قوله : ( إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا

ص: 124


1- طه : 117 - 119.

تَضْحَى ) وانّ أثر المخالفة هو الخروج من الجنّة والتعرض للشقاء الذي يتمثل في الحياة التي فيها الجوع والعرى ، والظمأ وحرّ الشمس ، كل ذلك يدلّ على أنّه سبحانه لم يتخذ لدى النهي موقف الناهي ، الواجبة طاعته ، بل كان ينهى بصورة الإرشاد والنصح والهداية ، وانّه لو خالفه لترتب عليه الشقاء في الحياة والتعب فيها.

3. انّه سبحانه - بعد ما أكل آدم وزوجته من الشجرة وبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة - ناداهما : ( أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) (1).

فإنّ هذا اللسان ، لسان الناصح المشفق الذي أرشد مخاطبه لمصالحه ومفاسده في الحياة ، ولكنه خالفه ولم يسمع قوله ، فعندئذ يعود ويخاطبه بقوله : ألم أقل لك ... ألم أنهك عن هذا الأمر ؟

4. انّه سبحانه يبيّن أنّ وسوسة الشيطان لهما لم يكن إلاّ لإبداء ما وُري عنهما من سوءاتهما حيث يقول : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءاتِهِمَا ) (2).

وهذا يكشف عن أنّ ما يترتب على الوسوسة ومخالفة آدم علیه السلام بعدها لم يكن إلاّ إبداء ما وُري عنهما من السوأة ، الذي هو أثر طبيعي للعمل من دون أن يكون له أثر آخر من ابتعاده عن لطفه سبحانه ، وحرمانه عن قربه ، الذي هو أثر المخالفة للخطابات المولوية.

5. انّه سبحانه يحكي أنّ وسوسة الشيطان لهما كانت بصورة النصح

ص: 125


1- الأعراف : 22.
2- الأعراف : 20.

والإرشاد حيث قال : ( وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) (1). وهذا يكشف عن أنّ خطابه سبحانه إليهما كان بصورة النصح أيضاً ، وهذا واضح لمن له أدنى إلمام بأساليب الكلام.

فهذه القرائن وغيرها الموجودة في الآيات الواردة حول قصة آدم علیه السلام تدل بوضوح على أنّ النهي في هذا المقام كان نهياً إرشادياً لا مولوياً ، وكان الهدف تبقية آدم علیه السلام بعيداً عن عوامل الشقاء والتعب ، ولكنّه لم يسمع قول ناصحه فعرّض نفسه للشقاء ، وصار مستحقاً لأن يخاطب بقوله سبحانه : ( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (2) ، وقوله سبحانه : ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) (3).

أضف إلى ذلك أنّ الظرف الذي تلقّى فيه آدم هذا النهي ، ( النهي عن الأكل من الشجرة ) لم يكن ظرف تكليف حتى تعد مخالفته عصياناً لمقتضاه ، فإنّ ظرف التكليف هو المحيط الذي هبط إليه مع زوجته بعد رفض النصح ، أمّا ذلك المحيط فكان معداً لتبصير الإنسان بأعدائه وأصدقائه ، ودورة تعليمية لمشاهدة نتائج الطاعة وآثار المخالفة ، أيّ ما يترتب على قبول قوله سبحانه من السعادة ، وما يترتب على قبول قول إبليس من الشقاء ، وفي مثل ذلك المحيط لا يعد النهي ولا الأمر تكليفاً ، بل يُعد وسيلة للتبصير وتحصيل الاستعداد لتحمّل التكاليف في المستقبل ، وكانت تلك الدورة من الحياة دورة إعدادية لأبي البشر وأُمّهم ، حتى يلمس الحقائق لمس اليد.

ص: 126


1- الأعراف : 21.
2- الأعراف : 24.
3- طه : 123.

إلى هنا تمت الإجابة على السؤال الأوّل ، غير أنّ هناك جواباً آخر ذكره أكثر المفسرين ، ونحن نأتي به بشكل موجز :

جواب آخر عن الإشكال

إنّ أكثر المفسرين من العدلية اختاروا أنّ مخالفة آدم لم تكن إلاّ مخالفة لنهي مولوي غير إلزامي ، وهو ما يعبّر عنه بترك الأولى وترك الأفضل ، وأمّا إطلاق العصيان وغيره من الكلمات الموهمة في المقام.

فحاصل كلامهم في ذلك : أنّ الذنب على قسمين : ذنب مطلق ، وهو مخالفة الإرادة القطعية الإلزامية للمولى الحكيم من غير فرق بين إنسان وإنسان ، فمن خالفه يكون عاصياً سواء فيه العاكف والباد.

وذنب نسبي ، وهو ما يعد ذنباً وأمراً غير صحيح بالنسبة إلى شخص دون شخص ، وهو ما يكون العمل بالذات مباحاً وجائزاً غير قبيح في حد نفسه ، غير أنّ العرف والمجتمع يستقبح صدوره من شخص خاص ، ويعده أمراً غير صحيح ، ومثاله ما يلي :

إنّ المساعدة المالية القليلة ممن يمتلك الآلاف المؤلّفة وإن كانت جائزة ، لكنّها تثير اعتراض الناس على فاعلها مع أنّه لم يرتكب عملاً قبيحاً بالذات.

كما أنّ إقامة الصلاة مع عدم تفرّغ البال مبرئة للذمة ومسقطة للتكليف ، إلاّ أنّه إذا أتى بها النبي بهذه الصورة يُعد أمراً غير لائق بمقامه وغير مترقب منه ، فوزان الأكل من الشجرة الممنوعة وزان صدور بعض الأعمال المباحة بالذات من الشخصيات الكبيرة المحترمة.

ونزيد توضيحاً في ذلك : إذا وقفنا على أنّه سبحانه أعزّ آدم بتعليمه الأسماء ،

ص: 127

وجعله معلماً للملائكة ومسجوداً لهم ، وفي هذه الحالة طلب منه أن يترك الأكل من الشجرة المعينة ، كان المترقب من مثله أن يتورّع عن أيّة مخالفة مهما صغرت ، ومهما كان الأمر والنهي غير إلزاميين ، ولأجل ذلك يعد هذا العمل - مع ملاحظة ما حفّه من الشرائط - عصياناً محتاجاً إلى التوبة.

جواب ثالث عن الإشكال

وهاهنا جواب ثالث : وهو أنّ محور البحث عند المتكلّمين في عصمة الأنبياء عبارة عن مخالفة الإنسان المكلّف ، للتكليف الإلهي بعد تشريع الشرائع ، وإنزال الكتب ، ولو كان هذا هو المعيار لما صدق في قصة آدم ، لأنّ البيئة التي كان أبو البشر يعيش فيها قبل الهبوط ، لم تكن دار التشريع والتكليف ، ولم تكن هناك أيّة شريعة ، والمخالفة في هذا المحيط لا تعد نقضاً للعصمة ، فلاحظ ، فقد تقدم بعض ذلك الكلام في ذيل الجواب الأوّل.

إلى هنا تبيّن أنّ مخالفة آدم لنهيه سبحانه لا تضاد عصمته ، وقد عرفت الأجوبة الثلاثة ، فحان حين البحث عن بعض المفاهيم الواردة في الآيات التي تقدّمت عليك وربّما يُعد بعضها دليلاً على أنّ المخالفة من آدم كانت ذنباً شرعياً ، ولأجل ذلك يجب علينا توضيح هذه المفاهيم الواردة في القصة.

2. ما معنى وسوسة الشيطان لآدم ؟

وحقيقة هذا السؤال ترجع إلى أنّ ظاهر الآيات الماضية هو تأثير الشيطان في نفس آدم بالوسوسة قال سبحانه : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ) (1) ، وقال

ص: 128


1- الأعراف : 20.

سبحانه : ( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ) (1) ، وعندئذ يتساءل : انّ تطرق الوسوسة إلى آدم من جانب الشيطان ، كيف تجتمع مع ما حكاه سبحانه من عدم تسلّط الشيطان على عباد اللّه المخلصين إذ قال : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (2) ، وقال سبحانه حاكياً قول إبليس : ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ) (3) ؟

والجواب عن ذلك : انّ المراد من ( المُخْلَصِينَ ) هم الذين اجتباهم اللّه سبحانه من بين خلقه ، قال تعالى مشيراً إلى ثلة من الأنبياء : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ) (4) ، وقال سبحانه مشيراً إلى طائفة من الأنبياء : ( وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (5).

فإذا كان المخلصون هم الذين اجتباهم اللّه سبحانه بنوع من الاجتباء ، لم يكن آدم علیه السلام يوم خالف النهي من المجتبين ، وانّما اجتباه سبحانه بعد ذلك قال سبحانه : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) (6) وعلى ذلك فوسوسة الشيطان لآدم لا تنافي ما ذكره سبحانه في حق المجتبين ، وانّ الشيطان ليس له نصيب في حق تلك الصفوة وليس له طريق إليهم.

ص: 129


1- طه : 120.
2- الحجر : 42.
3- ص : 82 - 83.
4- مريم : 58.
5- الأنعام : 87.
6- طه : 121 - 122.

أضف إلى ذلك : أنّ وسوسة الشيطان في صدور الناس إنّما هي بصورة النفوذ في قلوبهم والسلطان عليهم بنحو يؤثر فيهم ، وإن كان لا يسلب عنهم الاختيار والحرية ، ويؤيد كون الوسوسة بصورة النفوذ ، الإتيان بلفظة « في » في قوله سبحانه : ( يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) ، وأمّا (1) وسوسة الشيطان بالنسبة إلى أبي البشر فلم تكن بصورة النفوذ والتسلّط بشهادة تعديته بلفظة « لهما » أو « إليه » (2). وهذا التفاوت في التعبير يفيد الفرق بين الوسوستين ، وأنَّ إحداهما على نحو الدخول والولوج في الصدور ، والأُخرى بنحو القرب والمشارفة.

3. ماذا يراد من قوله : ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ) ؟

وأمّا قوله سبحانه : ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ) (3) وقوله : ( فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا ) (4) ، فلا يدلاّن على كون العمل الصادر منهما عصياناً بالمعنى المصطلح ، وأمّا التعبير الوارد في الآية فهو لأجل أنّ عمل آدم لم يكن مقروناً بالمصلحة ، بل كان مقروناً بالشقاء والبعد عن الحياة السعيدة ، فكل من افتقد هذه البركات والمصالح يصدق عليه أنّه « زلَّ » أو « انّ الشيطان أنزلهما عن مكانتهما بغرور ».

وبالجملة : انّ هذه التعابير تجتمع مع كون النهي إرشادياً غير مولوي ، أو نهياً مولوياً تنزيهياً كما هو المقرر في الجوابين الأوّلين.

4. ما معنى قوله : ( وَعَصَى ) و ( فَغَوَى ) ؟

ربّما يتمسك المخالف بهذين اللفظين ، حيث قال سبحانه : ( وَعَصَى آدَمُ

ص: 130


1- الناس : 5.
2- الأعراف : 20 ؛ طه : 120.
3- البقرة : 36.
4- الأعراف : 22.

رَبَّهُ فَغَوَى ) لكن لادلالة لهما على ما يرتئيه المستدل.

أمّا لفظة ( عَصَى ) فهي وإن كانت مستعملة في مصطلح المتشرعة في الذنب والمخالفة للإرادة القطعية الملزمة ، ولكنه اصطلاح مختص بالمتشرعة ولم يجر القرآن على ذلك المصطلح ، بل ولا اللغة ، فإنّ الظاهر من القرآن ومعاجم اللغة أنّ العصيان هو خلاف الطاعة ، قال ابن منظور : العصيان خلاف الطاعة ، عصى العبد ربّه : إذا خالف ربّه ، وعصى فلان أميره ، يعصيه ، عصياً وعصياناً ومعصية : إذا لم يطعه. وعلى ذلك فيجب علينا أن نلاحظ الأمر الذي خولف في هذا الموقف ، فإن كان الأمر مولوياً إلزامياً كان العصيان ذنباً ، وإذا كان أمراً إرشادياً أو نهياً تنزيهياً لم تكن المخالفة ذنباً في المصطلح ، ولأجل ذلك لا يصلح التمسّك بهذا اللفظ وإثبات الذنب على آدم علیه السلام .

وأمّا اللفظة الثانية : أعني ( فَغَوَى ) فالجواب عنها : انّ الغي يستعمل بمعنى الخيبة ، قال الشاعر :

فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره *** ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً

أي ومن حرم من الخير ولم يلقه ، لا يحمده الناس ويلومونه.

وفي حديث موسى وآدم : ( أغويت الناس ) أي خيّبتهم ، كما أنّه يستعمل في معنى الفساد ، وبه فسر قوله سبحانه : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) أي فسد عليه عيشه كما سيأتي (1).

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ المراد من الغي في الآية هو خيبة آدم وخسرانه وحرمانه من العيش الرغيد الذي كان مجرداً عن الظمأ والعرى ، بل من المنغصات

ص: 131


1- لاحظ لسان العرب : 15 / 140.

والمشقات ، وليس كل خيبة تتوجه إلى الإنسان ناشئة من الذنب المصطلح ، كما أنّه يحتمل أن يكون المراد منه هو الفساد ، وبذلك فسر ابن منظور المصري في لسانه قوله سبحانه : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) أي فسد عليه عيشه (1) ، ولا شك أنّ العيش في الجنّة لا يقاس بالعيش في عالم المادة الذي هو دار الفساد والانحلال.

ولو سلم أنّ الغي بمعنى الضلال في مقابل الرشد ، لكن ليس كل ضلال معصية ، فإنّ من ضل في طريق الكسب أو في طريق التعلّم يصدق عليه أنّه غوى : أي ضل ، ولكنه لا يلازم المعصية.

وكان سيدنا الأُستاذ العلاّمة الطباطبائي - رضوان اللّه عليه - يقول في مجلس بحثه : إنّ لفظة ( غَوَى ) تعني الحالة التي تعرض للغنم عندما تنفصل عن القطيع فتبقى حائرة تنظر يميناً وشمالاً ولا تشق طريقاً لنفسها ، وكان آدم أبو البشر حائراً بعد ما خالف نهي ربِّه وابتلي بما ابتلي به لا يدري كيف يعالج مشكلته ، وكيف يتخلّص من هذا المأزق الحرج ؟!

وبالجملة : فالغي إن أُريد منه الخروج عن جادّة التوحيد ، والانحراف عمّا رسم للإنسان من الواجبات والمحرمات ، فهو يلازم الكفر تارة والذنب أُخرى ، ولكن ليس كل ضلال - على فرض كون الغي بمعنى الضلال - ملازماً للجرم والذنب ، فمن ضل عن الطريق وتاه عن مقاصده الدنيوية أو المصالح التي يجب أن ينالها ، يصدق عليه أنّه ( غَوَى ) مقابل أنّه « رشد » ولكنه لا يلازم المعصية المصطلحة.

ولا شك أنّ آدم بعدما أكل من الشجرة بدت له سوأته وخرج من الجنة وهبط إلى دار الفساد ، فعندئذ غوى في طريقه وضل عن مصلحته.

ص: 132


1- لاحظ لسان العرب : 15 / 140 ، مادة « غوى ».

وبالجملة : فهذه الوجوه الثلاثة المذكورة حول ( غَوَى ) تثبت وهن الاستدلال بها على العصيان.

5. ما معنى قول آدم علیه السلام : ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ) ؟

إنّ الظلم ليس إلاّ بمعنى وضع الشيء في غير موضعه ، ومن أمثال العرب قولهم « من أشبه أباه فما ظلم ». قال الأصمعي : الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وفي المثل « من استرعى الذئب فقد ظلم » ولأجل ذلك يُعد العدول عن الطريق ظلماً ، يقال : « لزموا الطريق فلم يظلموه » أي لم يعدلوا عنه (1).

فإذا كان معنى الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه وتجاوز الحد ، لا يلزم أن يكون كل ظلم ذنباً بل يشمله وغيره ، فمن لم يسمع قول الناصح المشفق وعمل بخلاف قوله فقد وضع عمله في غير موضعه ، كما انّ من خالف النهي التنزيهي فقد عدل عن الطريق الصحيح.

وبالجملة : فكل مخالفة وانحراف عن طريق الصواب ظلم. سواء أكان الأمر المخالف مولوياً أم إرشادياً ، إلزامياً أم غيره.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يعد الظلم للنفس مقابلاً لعمل السوء ، ويقول : ( وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) (2).

والآية تُعرب عن أنَّ الظلم للنفس ربّما يكون غير عمل السوء ، وعند ذلك يتضح أنّ قول آدم : ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ) لا يستلزم الاعتراف بالذنب ، لأنّ الظلم

ص: 133


1- لسان العرب : مادة « ظلم ».
2- النساء : 110.

للنفس غير عمل السوء ، فالأوّل موجب لحط النفس عن مكانتها ولا يستلزم تجاوزاً عن حدود اللّه ، بخلاف عمل السوء فإنّه تجاوز على حدوده ، وبذلك يعلم أنّ المراد من قوله سبحانه : ( وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) (1) هو الظلم للنفس المستلزم لحط النفس عن مكانتها ، في مقابل عمل السوء المستلزم للتجاوز على حدوده سبحانه.

6. ما المراد من قوله : ( فَتَابَ عَلَيْهِ ) ؟

( التوبة ) بمعنى الرجوع ، فإذا نسبت إلى اللّه تتعدى بكلمة « على » قال سبحانه : ( لَقَد تَّابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ) (2) ، أي رجع عليهم بالرحمة.

وإذا نسبت إلى العبد تتعدى بكلمة « إلى » قال سبحانه : ( فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) (3). وقال سبحانه : ( أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (4).

فإذا كانت التوبة بمعنى الرجوع ، فعندما تعدت ب « على » يكون معنى قوله : ( فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (5) انّ اللّه رجع عليه بالرحمة ، فالتوبة في هذه الجملة توبة من اللّه على العبد لا من العبد إلى اللّه ، ومعنى الأوّل هو رجوعه سبحانه على العبد باللطف والمرحمة.

ص: 134


1- البقرة : 35.
2- التوبة : 117.
3- البقرة : 54.
4- المائدة : 74.
5- البقرة : 37.

ومثله قوله سبحانه : ( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) (1) فالتوبة هنا من اللّه على عبده ، ومعنى الآية أنّه سبحانه اصطفى آدم لأجل تلقّيه الكلمات وسؤاله بها ، فعندئذ رجع اللّه عليه بالرحمة وهداه سبحانه وأخرجه من الغواية التي غشيته ، والظلمة التي اكتنفته ، لأجل عدم الإصغاء إلى نصحه سبحانه وتقديم نصح غيره عليه.

نعم إنّ لفظة ( فَتَابَ عَلَيْهِ ) في سورتي البقرة وطه ، دالة على أنَّ آدم « تاب إلى ربه » ، ولأجل توبته إلى اللّه ورجوعه إليه بالندامة ، تاب اللّه عليه ورجع عليه بالرحمة والهداية ، ولكن لا دلالة لكل رجوع وإنابة إلى اللّه ، على وقوع الذنب وصدوره منه ، خصوصاً بالنظر إلى ما قدّمناه في التفسير الثاني لمخالفة آدم ، وقلنا إنَّ من الممكن أن يكون نفس العمل جائزاً ومباحاً ولكن يعد صدوره من بعض الشخصيات محظوراً وأمراً غير صحيح ، فإنابة تلك الشخصيات إلى اللّه في تلك المجالات لا تعد دليلاً على صدور الذنب ، بل تعد دليلاً على سعة علمها بالعظمة الإلهية ، ولأجل ذلك يقال : « حسنات الأبرار سيئات المقربين » وقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « إنّه ليران على قلبي وإنّي استغفر اللّه كل يوم سبعين مرّة » (2). وليس هذا الاستغفار دليلاً على صدور الذنب ، بل هو دليل على سعة علمه وعمق إدراكه لعظمة اللّه.

7. ما معنى الغفران في قوله : ( وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا ) ؟
اشارة

بقيت هنا كلمة وهي توضيح قوله سبحانه : ( وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا

ص: 135


1- طه : 122.
2- صحيح مسلم : 8 / 72 ، كتاب الذكر ، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه. وفيه : « ليغان » كان « ليران » ، وهو من مادة « الغين » أي الستر.

لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ) ، فربّما يتبادر إلى الذهن من هذا المقطع من الآية صدور الذنب من أبينا آدم علیه السلام ، فنقول : لا دلالة فيه ولا في واحدة من كلماته على ما يتوخاه الخصم ، وإليك بيان هدف الآية ومفرداتها.

أمّا الغفران فإنّ أصله « الغفر » بمعنى التغطية والستر ، يقال : غفره ، يغفره ، غفراً : ستره ، وكل شيء سترته فقد غفرته ، فإذا كان الغفران بمعنى الستر فلا ملازمة بين الستر والذنب ، فإنّ المستور ربّما يكون ذنباً وربّما يكون أمراً جائزاً غير مترقب الصدور من الإنسان ، ولأجل ذلك طلب آدم من اللّه سبحانه على عادة الأولياء والصالحين في استصغارهم ما يقومون به من الحسنات واستعظامهم الصغير من العيوب فقال : ( وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا ) أيْ لم تستر عيبنا ولم ( تَرْحَمْنَا ) أيْ لم ترجع علينا بالرحمة ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ) ولا شك أنّ آدم قد خسر النعيم الذي كان فيه ، بسبب عدم سماعه لنصح اللّه سبحانه ، ولأجل ذلك طفق يطلب منه أن يرجع عليه بالمغفرة أي بستر عيبه ، والرحمة أي بإخراجه من الخسران الذي عرض له.

إذا وقفت على ما ذكرنا حول هذه الآيات والجمل وتأمّلت فيها بإمعان ودقة يظهر لك أنّ الاستدلال بها على صدور الذنب المصطلح من آدم من غرائب الاستدلالات وعجائبها ، ولا يصح لباحث أن يُفسر آية دون أن يستعين لفهمها بأُختها ، وبذلك يتضح أنّ ما سلكناه من المنهج في تفسير القرآن ، هو الطريق الصحيح الذي يرفع النقاب عن وجوه كثير من الحقائق التي قد تخفى على الباحثين ، وهذا الطريق هو تفسير كتابه سبحانه بالتفسير الموضوعي ، أي جمع الآيات الواردة في موضوع واحد وعرض بعضها على بعض.

ص: 136

عصمة آدم علیه السلام وجعل الشريك لله !

قد وقفت على أعظم شبه المخطّئة للأنبياء ، كما وقفت على الجواب عنها ، فهلم معي ندرس شبهة أُخرى لهم جعلوها ذريعة لفكرتهم الفاسدة حيث استدلوا على عدم عصمة « آدم » علیه السلام بقوله سبحانه : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) (1).

استدل المخطّئة لعصمة الأنبياء بقوله سبحانه : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ ) قائلين بأنّ ضمير التثنية في كلا الموردين يرجع إلى آدم وحواء اللّذين أُشير إليهما بقوله سبحانه في صدر الآية : ( مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) .

ولكن الاستدلال بالآية مبني على القول بأنّ المراد من ( مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) هي الواحدة الشخصية لا الواحدة النوعية ، أعني كل أب وأُم بالنسبة إلى أولادهما ، ولكن القرائن تشهد بأنّ المراد هو الواحد النوعي لا الشخصي.

توضيح ذلك : أنّ تلك اللفظة قد استعملت في القرآن الكريم بوجهين :

الأوّل : ما أُريد منه الواحد الشخصي كقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً

ص: 137


1- الأعراف : 189 - 192.

وَنِسَاءً ) (1) فالمراد من ( نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) هو آدم ، ومعنى خلق الزوجة منها كونها من جنسها ، والدليل على أنّ المراد هو الواحد الشخصي قوله : ( وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ) والمعنى أنّه سبحانه خلق الخلق من أب واحد وأُم واحدة ، فهذه الجماهير على كثرتها تنتهي إليهما ومثله قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) (2).

الثاني : ما أُريد منه الواحد النوعي أي الأب لكل إنسان ومثله الأُم ، وذلك مثل قوله : ( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) (3) ، فالمراد من ( نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) هو الواحد النوعي ، والمراد أنّ كل واحد منّا قد ولد من أب واحد وأُم واحدة ، والدليل على ذلك قوله سبحانه : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) .

ومثلها الآية المبحوث عنها في المقام ، إذ ليس المراد منها شخص آدم أبي البشر بعينه ، بل المراد والد كل إنسان ووالدته ، فالجنسان يتقاربان ويتولد منهما الولد ، وتدل على ما اخترنا من المعنى قرائن في نفس الآيات.

الأُولى : انّ الآية وقعت في عداد الآيات التي تعرب عن الميثاق الذي أعطاه الإنسان لربّه في شرائط خاصّة ولكنّه حينما نال النعم ورفل فيها ، طفق ينقض ميثاقه ، وهذه طبيعة الإنسان المجهز بالغرائز ، ويشير إليها قوله سبحانه : ( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ) (4) ،

ص: 138


1- النساء : 1.
2- الحجرات : 13.
3- الزمر : 6.
4- فصلت : 51.

فإذا كانت هذه طبيعة الإنسان فلا يبعد أن يسأل اللّه أن يرزقه ولداً صالحاً ، معطياً لله ميثاقاً بأن يشكره على تلك النعمة ولكنّه عندما ينال النعمة يجعل له شركاء فيما آتاه ، وعلى ذلك فالآية جارية مجرى المثل المضروب لبني آدم في نقضهم ميثاقهم الذي واثقوه به.

والدليل على أنّ الآية واردة في ذاك المجال ، ما ورد قبل هذه الآية من حديث الميثاق الذي أعطاه الإنسان لربّه ولكنّه نقضه بعده قال سبحانه قبيل هذه الآيات : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ ) (1).

والميثاق الذي ورد في الآية ، معطوف على ذلك الميثاق الذي ورد في الآيتين ، وهذا دليل واضح على أنّ المراد هو تعريف طبيعة الإنسان وتوصيفها بالتعهد أوّلاً ، والنقض ثانياً ، وليس بصدد بيان حال الإنسان الشخصي أعني : أبانا آدم.

الثانية : انّ سياق الآية ولحنها يوحيان بأنّ الشخص الذي سأل اللّه أن يرزقه ولداً صالحاً ، كان يعيش في بيئة كان فيها آباء وأولاد بين صالح وطالح ، فنظر إليهم فتمنّى أنْ يرزقه اللّه ولداً صالحاً على غرار ما رآه ، غير أنّه لما رزقه اللّه ذلك الولد الصالح ، نقض ميثاقه أي شكره لله على ما رزقه من صالح الأولاد ، وهذا غير صادق في شأن أبينا آدم وأُمّنا حواء ، إذ لم يكن في بيئتهم آباء وأولاد ، صالحون وطالحون حتى يتمنّيا لنفسهما ولداً مثل ما رزقهم اللّه سبحانه.

الثالثة : انّ ذيل الآية يشهد بوضوح على أنّها غير مرتبطة بصفي اللّه آدم ،

ص: 139


1- الأعراف : 172 - 173.

وذلك لأنّه سبحانه يقول في ذيلها : ( فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ، فلو كان المراد من النفس وزوجها في الآية شخصين معيّنين كآدم وحواء ، كان من حق الكلام أن يقول : « فتعالى اللّه عمّا يشركان » وهذا بخلاف ما أُريد من النفس وزوجها ، الطبيعة الإنسانية في جانبي الذكر والأُنثى ، إذ حينئذ يصح الجمع لكثرة أفراده.

الرابعة : انّه سبحانه يقول : ( أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) ، ومن المعلوم أنّ المراد من الشرك هو الشرك في العبادة ، وحاشا أنْ يكون آدم صفي اللّه مشركاً في العبادة ، كيف ؟ وقد وصفه اللّه سبحانه بالاجتباء حيث قال : ( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) (1) ، وقال سبحانه : ( وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ ) (2) ، وقال سبحانه : ( وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ ) (3) ، وقال أيضاً : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (4).

كل هذه الآيات تشهد بوضوح على أنّ الآية تهدف إلى ذكر القصة على سبيل ضرب المثل ، وبيان أنّ هذه الحالة صورة تعم جميع الأفراد من الإنسان ، إلاّ من التجأ إلى الإيمان ، فكأنّه سبحانه يقول : هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية ، فلمّا تغشى الزوج الزوجة وظهر الحمل دعوا ربّهما بأنّه سبحانه لو آتاهما ولداً صالحاً سوياً ليكونا من الشاكرين لآلائه ونعمائه ، فلما آتاهما اللّه ولداً صالحاً سوياً جعل الزوج والزوجة لله شركاء في ذلك الولد الذي آتاهما ، فتارة نسبوه إلى الطبيعة كما هو قول الدهريين ، وأُخرى إلى الكواكب كما هو قول المنجمين ، وثالثة إلى الأصنام كما هو

ص: 140


1- طه : 122.
2- الإسراء : 97.
3- الزمر : 37.
4- الأحقاف : 5.

قول عبدتها ، فردَّ اللّه سبحانه على تلك المزاعم بقوله : ( فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (1). وعلى ما ذكرنا يحتمل أن يكون المراد من الشرك هو الشرك في التدبير ، ومثل هذا لا يليق أن ينسب إلى من هو دون الأنبياء والأولياء ، فكيف يمكن أن يوصف به صفي اللّه آدم علیه السلام ؟!

وأقصى ما يمكن أن يقال هو أنّ المراد من النفس الواحدة وزوجها في صدر الآية هو آدم وحواء الشخصيّان ، ولكنه سبحانه عندما انتهى إلى قوله : ( لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ) التفت من شخصهما إلى مطلق الذكور والأُناث من أولادهما أو إلى خصوص المشركين من نسلهما ، فيكون تقدير الكلام ( فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ) أي تغشى الزوج الزوجة من نسلهما ( حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ ) ... إلى آخر الآية.

وهذا ما يسمّى في علم المعاني بالالتفات ، وله نظائر في القرآن الكريم قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) (2). ترى أنّه سبحانه خاطب الجماعة بالتسيير ثم خص راكب البحر بأمر آخر ومثله الآية ، ترى أنّه سبحانه أخبر عن عامّة أمر البشر بأنّهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها وهما آدم وحواء ، ثم ساق الكلام إلى مطلق ذرية آدم من البشر.

وهذا الوجه نقله المرتضى في « تنزيه الأنبياء » عن أبي مسلم محمد بن بحر الاصفهاني (3).

وتوجد وجوه أُخر في تفسير الآية غير تامة (4). وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

ص: 141


1- مفاتيح الغيب : 4 / 343.
2- يونس : 22.
3- تنزيه الأنبياء : 16.
4- لاحظ مفاتيح الغيب : 4 / 341 - 343 ; مجمع البيان : 4 / 508 - 510 ; أمالي المرتضى : 137 - 143.

2

عصمة شيخ الأنبياء نوح علیه السلام والمطالبة بنجاة ابنه العاصي
اشارة

قد استدل المخطّئة لعصمة الأنبياء على عدم عصمة نوح علیه السلام بما ورد في سورة هود من الآية 45 إلى 47 ، وإليك الآيات :

( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ ) .

وقد استدل بهذه الآيات بوجوه :

1. انّ ظاهر قوله تعالى : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) تكذيب لقول نوح ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) ، وإذا كان النبي لا يجوز عليه الكذب ، فما الوجه في ذلك ؟

2. قوله : ( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) ، فإنّ ظاهره صدور سؤال منه غير لائق بساحة الأنبياء ، ولأجل ذلك خوطب بالعتاب ونهي عن التكرار.

ص: 142

3. قوله : ( وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ ) فإنّ طلب الغفران آية الذنب ، وهو لا يجتمع مع العصمة.

وإليك الجواب عن الوجوه الثلاثة : الوجه الأوّل : كيف يجتمع قول نوح علیه السلام : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) مع قوله سبحانه : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) ؟

فتوضيح دفعه : أنّه سبحانه قد وعد نوحاً بإنجاء أهله إلاّ مَنْ سبق عليه القول وقال : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (1) ، وهذا الكلام يعرب عن أنّه سبحانه وعد بكلامه شيخ الأنبياء بأنّه ينجّي أهله ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يجب أن نقف على حالة ابن نوح وأنّه إمّا أن يكون متظاهراً بالكفر وكان أبوه واقفاً على ذلك ، وإمّا أن يكون متظاهراً بالإيمان مبطناً للكفر ، وكان أبوه يتصوّر أنّه من المؤمنين به.

فعلى الفرض الأوّل : يجب أن يقال : إنّ نوحاً قد فهم من قوله سبحانه : ( وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) في سورتي هود الآية 40 والمؤمنون الآية 27 (2) انّه قد تعلّقت مشيئته بإنجاء جميع أهله الذين ينتمون إليه بالوشيجة النسبية والسببية ، سواء أكانوا مؤمنين أم كافرين غير امرأته التي كانت كامرأة لوط تخونه ليلاً ونهاراً ، وعندئذ يكون المراد من قوله : ( إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ) هو

ص: 143


1- هود : 40.
2- قال سبحانه في سورة هود : ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) . وقال سبحانه في سورة المؤمنون: (فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)

زوجته فقط ، ولما رأى نوح أنّ الولد أدركه الغرق تخالج في قلبه أنّه كيف يجتمع وعده سبحانه بإنجاء جميع الأهل مع هلاك ولده ؟ وعند ذلك اعتراه الحزن ورفع صوته بالدعاء منادياً : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) من دون أن يسأل منه شيئاً بل أظهر ما اختلج في قلبه من الصراع والتضاد بين الأمرين : الإيمان بصدق وعده ، كما يفصح عنه قوله : ( وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ ) وغرق ولده وهلاكه.

وعلى هذا الفرض لم يكذب نوح علیه السلام حتى بكلمة واحدة ، بل لما فهم من قوله ( وَأَهْلَكَ ) نجاة مطلق المنتمين إليه بالوشيجة الرحمية أو السببية ، أبرز ما فهم وقال : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) ، فلا يعد الإنسان كاذباً عند نفسه إذا أبرز ما اعتقده وأفرغه في قالب القول وان كان المضمون خلاف الواقع في حد نفسه ، وحينئذ أجابه سبحانه بأنّ الموعود بإنجائهم هم الصالحون من أهلك لا مطلق المنتمين إليك بالوشائج الرحمية أو السببية.

وبعبارة أُخرى : انّ ولدك وإن كان من أهلك حسب الوشيجة الرحمية ، لكنّه ليس من الأهل الذين وعدت بنجاتهم وخلاصهم.

وبعبارة ثالثة : ( إِنَّ ابْنَكَ ) داخل في المستثنى ، أعني قوله : ( إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ) كما أنّ زوجتك داخلة فيه أيضاً.

وهذا الجواب على صحة الفرض تام لا غبار عليه ، لكن أصل الفرض وهو كون ابن نوح متظاهراً بالكفر وكان الأب واقفاً عليه غير تام لما فيه :

أوّلاً : انّ من البعيد عن ساحة نوح علیه السلام أن يطلب من اللّه سبحانه أن لا يذر على الأرض من الكافرين ديّاراً ، كما يعرب عنه قوله سبحانه حاكياً عنه علیه السلام : ( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ) ، ويتبادر (1) إلى ذهنه من قوله سبحانه :

ص: 144


1- نوح : 26 - 27.

( وَأَهْلَكَ ) مطلق المنتمين إليه مؤمناً كان أم كافراً. بل يعد دعاؤه هذا قرينة على أنّ الناجين من أهله هم المؤمنون فقط لا الكافرون ، وانّ المراد من ( مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) مطلق الكافرين سواء كانوا منتمين إليه أو لا.

ثانياً : انّه لا دليل على أنّه فهم من قوله : ( إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ) خصوص زوجته ، بل الظاهر أنّه فهم أنّ المراد من المستثنى كل من عاند اللّه وحاد رسوله من غير فرق في ذلك بين الزوجة وغيرها.

وثالثاً : انّه سبحانه بعدما أمر نوحاً علیه السلام بصنع الفلك أوحى إليه بقوله : ( وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) (1) ، والظاهر من قوله : ( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) مطلق المشركين حميماً كان أو غريباً ، فإذا قال بعد ذلك : ( وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) يكون إطلاق الجملة الأُولى قرينة على أنّ المراد من الأهل هو خصوص المؤمن لا الظالم منهم ، إذ الظالم منهم داخل في قوله : ( وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ) .

وإن شئت قلت : إنّ صراحة الجملة الأُولى قرينة على أنّ المراد من قوله : ( إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) مطلق الظالم والكافر زوجة كانت أم غيرها ، رحماً كان أم غيره ، وهذه الصراحة قرينة على أنّ المراد من ( أَهْلَكَ ) هو خصوص المؤمن لا الأعم منه.

وبالجملة : فلو صحت النظرية صح الجواب ، لكنها باطلة لأجل الأُمور الثلاثة التي ألمعنا إليها.

وأمّا الفرض الثاني ، فالظاهر أنّه الحق ، وحاصله : أنّ الابن كان متظاهراً بالإيمان مبطناً للكفر ، ويدل على ذلك قول نوح لابنه عندما امتنع أن يواكب أباه

ص: 145


1- هود : 37.

في ركوبه السفينة : ( يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ) (1) ، أي لا تكن معهم حتى تشاركهم في البلاء ، ولو كان عارفاً بكفره لكان عليه أن يقول : « ولا تكن من الكافرين » وبما انّه كان معتقداً بإيمان ولده كان مذعناً بدخوله في قوله : ( وَأَهْلَكَ ) ولما أدركه الغرق أدركته الحيرة في أنّه كيف غرق مع أنّ وعده سبحانه حق لا يشوبه ريب ، وعندئذ أظهر ما في قلبه وقال : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) ، وأجابه سبحانه بأنّه ما أدركه الغرق إلاّ لأجل كفره ، فهو كان داخلاً في قوله : ( وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) (2) أوّلاً ، وثانياً في المستثنى أي قوله : ( إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) لا المستثنى منه أي ( أَهْلَكَ ) .

وعندئذ يقع السؤال والجواب في موقعهما ولا يكون نوح علیه السلام في حكمه كاذباً ، لأنّه كان يتصور أنّ ولده مؤمن فنبّهه سبحانه على أنّه كافر ، فأين الكذب في هذين الحكمين ؟ وفي قوله سبحانه : ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) إعلام بأنّ قرابة الدين غامرة لقرابة النسب ، وانّ نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد وان كان حبشياً وكنت قرشياً ، لصيقك وخصيصك ، ومن لم يكن على دينك وان كان أمس أقاربك رحماً فهو بعيد عنك إيماناً وعقيدة وروحاً.

ثم إنّ الإخبار عن ابن نوح بأنّه عمل غير صالح مكان كونه عاملاً غير صالح ، لأجل المبالغة في ذمه مثل قوله « فإنما هي إقبال وإدبار » (3).

وهاهنا نكتة يجب التنبيه عليها ، وهي أنّ العنصر المقوّم لصدق عنوان الأهل عند أصحاب اللغة والعرف هو انتساب الإنسان إلى شخص بوشيجة من

ص: 146


1- هود : 42.
2- هود : 37.
3- الكشاف : 2 / 101.

الوشائج النسبية أو السببية ، وان لم يكن بينهما تشابه ووحدة من حيث المسلك والمنهج.

غير أنّ التشريع الإلهي أدخل فيه عنصراً آخر وراء الوشيجة المادية وهو صلة الشخص بالإنسان من جهة الإيمان ، ووحدة المسلك ، إلى حد لو فقد هذا العنصر لما صدق عليه ذلك العنوان ، بل صار ذلك العنصر إلى حد ربّما يكتفي به في صدق الأهل على الأفراد سواء أكانت فيه وشيجة نسبية أم لا ، ولأجل ذلك نجد أنّه سبحانه يكتفي بلفظ الأهل في التعبير عن كل المؤمنين ، فيقول في قصة « لوط » : ( فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (1) ، وقال أيضاً : ( إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (2) ، وقال أيضاً : ( وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ) (3) ، ترى أنّه سبحانه اكتفى بلفظ الأهل من دون أن يعطف عليه لفظ « المؤمنين » أو « من آمن به » مع عدم اختصاص النجاة بخصوص أهله وعمومها للمؤمنين ، معرباً عن أنّ الإيمان يجعل البعيد أهلاً ، والكفر يجعل القريب بعيداً.

ولأجل ذلك اكتفى في قصة نوح بلفظ الأهل فقال : ( وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) (4) ، وقال أيضاً : ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) (5) ، ومن المعلوم عدم اختصاص النجاة بخصوص الأهل بشهادة قوله : ( وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ

ص: 147


1- الأعراف : 83.
2- العنكبوت : 33.
3- الصافّات : 133 - 135.
4- الأنبياء : 76.
5- الصافّات : 75 - 76.

الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ) (1).

وبذلك يظهر سرّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « سلمان منّا أهل البيت » فعد غير العرب من أهل بيته ، وما هذا إلاّ لأنّ التشابه الروحي أوثق صلة وأحكم عرى ، كما أنّ التباين الروحي خير أداة لقطع العرى وهدم الوشيجة المادية.

ولأجل ذلك قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا علیهماالسلام في حق ابن نوح : « لقد كان ابنه ولكن لمّا عصى اللّه عزّ وجلّ نفاه عن أبيه ، وكذا من كان منّا لم يطع اللّه عزّ وجلّ فليس منّا ، وأنت إذا أطعت اللّه فأنت منّا أهل البيت » (2).

نعم لا نقول إنّ ما ذكرناه هو المصطلح الوحيد في القرآن ، بل له مصطلح آخر يتطابق مع اصطلاح أهل اللغة والعرف ، وهو الاكتفاء بالوشيجة المادية ، ونرى كلا المصطلحين واردين في سورة هود قال سبحانه : ( وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ) ، فأطلق لفظ الأهل على مطلق المنتمي إلى شيخ الأنبياء ، كافراً كان أم مؤمناً ، ثم أخرج الكافر من الحكم ( احمل ) لا من الموضوع وهو ( الأهل ) وقال : ( إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) .

وفي الوقت نفسه يجيب نداء نوح علیه السلام بعد قوله : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) بقوله : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) . الوجه الثاني : لا دلالة لقوله : ( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) على صدور سؤال غير لائق بساحة الأنبياء :

قد عرفت ما في الوجه الأوّل من نسبة الكذب إلى شيخ الأنبياء نوح علیه السلام في قوله : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) ، فهلمّ معي ندرس الوجه الثاني ، وهو أنّ قوله

ص: 148


1- هود : 40.
2- البحار : 49 / 219 ضمن ح 3.

سبحانه : ( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) يعرب عن وجود سؤال غير لائق بساحة الأنبياء ، فلأجل ذلك خوطب ونهي عن التكرار.

فنقول : إنّ اللّه عزّ وجلّ قد وعده بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم ، وهذا الاستثناء كان دليلاً على أنّ في جملة « أهله » من هو مستوجب للعذاب ، وأنّهم كلّهم ليسوا بناجين ، وعندئذ كان على نوح أن لا تخالجه شبهة حين أشرف ولده على الغرق في أنّه من المستثنين ، وليس داخلاً في المستثنى منهم ، فعوتب على أنّه اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه عليه (1).

وعلى هذا يكون المراد من قوله : ( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) النهي عن السؤال الذي لا يليق أن يطرح ويسأل إذا كان الجواب معلوماً بالقرائن والتفكر في أطراف القضية ، وإلاّ فالسؤال انّما يتعلّق بما لا يعلم لا بما يعلم. هذا ما أجاب به صاحب الكشاف.

وهناك جواب أوضح ولعلّه أليق بساحة الأنبياء ، وهو : أنّه لما وعد نوحاً بنجاة الأهل بقوله : ( إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ) ولم يكن نوح مطّلعاً على باطن ابنه ، بل كان معتقداً بظاهر الحال أنّه مؤمن ، بقي متمسّكاً بصيغة العموم للأهلية ولم يعارضه يقين ولا شك بالنسبة إلى إيمان ابنه ، فلذلك ( نَادَى رَبَّهُ ) .

وأمّا قوله : ( إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) فليس راجعاً إلى كلامه وندائه ، بل كان نداؤه ربّه في هذا الظرف واقعاً موقع القبول ، وكان السؤال صحيحاً ورصيناً ، بل هو راجع إلى وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه اللّه باطن أمره ، وأنّه إن سأل في المستقبل كان من الجاهلين ، والغرض من ذلك تقديم

ص: 149


1- الكشاف : 2 / 101.

ما يبقيه علیه السلام على سمة العصمة ، والموعظة لا تستدعي وقوع الذنب وصدوره بل ربّما يكون الهدف التحفّظ على أن لا يصدر الذنب منه في المستقبل ، ولذلك امتثل علیه السلام نهي ربِّه وقال : ( أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) (1).

جواب ثالث للوجه الثاني

هذا وللعلاّمة الطباطبائي جواب ثالث أمتن من الجوابين السابقين حيث قال : إنّ قول نوح : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ ) في مظنة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه ، وهو لا يعلم أنّه ليس من أهله ، فشملته العناية الإلهية وحال التسديد الغيبي بينه وبين السؤال فأدركه النهي بقوله : ( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) بتفريع النهي على ما تقدّم ، مخبراً نوحاً بأنّ ابنك ليس من أهلك ، لكونه عملاً غير صالح ، فلا سبيل لك إلى العلم به ، فإيّاك أن تبادر إلى سؤال نجاته ، لأنّه سؤال ما ليس لك به علم ، والنهي عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقق السؤال منه لا مستقلاً ولا ضمناً ، والنهي عن الشيء لا يستلزم الارتكاب قبلاً ، وانّما يتوقف على أن يكون الفعل اختيارياً ومورداً لابتلاء المكلّف ، فإنّ من العصمة والتسديد أن يراقبهم اللّه سبحانه في أعمالهم ، وكلّما اقتربوا مما من شأنّه أن يزل فيه الإنسان نبههم اللّه لوجه الصواب ، ودعاهم إلى السداد والتزام طريق العبودية ، قال تعالى : ( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) (2).

وممّا يدل على أنّ النهي في قوله ( فَلا تَسْأَلْنِ ) نهي عمّا لم يقع بعد ، قول

ص: 150


1- الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال للإمام ناصر الدين الاسكندري المالكي : 2 / 101 على هامش الكشاف.
2- الإسراء : 74 - 75.

نوح علیه السلام بعد استماع خطابه سبحانه : ( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) .

ولو كان سأل شيئاً من قبل لكان عليه أن يقول : أعوذ بك ممّا سألت أو ما يشابه ذلك ، وممّا يوضح أنّ نوحاً لم يسأل شيئاً من ربّه قوله سبحانه : ( إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) تعليلاً لنهيه ( فَلا تَسْأَلْنِ ) ، فلو كان نوح علیه السلام سأل شيئاً من قبل لكان من الجاهلين ، لأنّه سأل ما ليس له به علم.

وأيضاً لو كان المراد من النهي عن السؤال أن لا يتكرر منه ذلك بعد ما وقع منه مرّة لكان الأنسب أن يصرّح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهي عن أصله ، كما ورد نظيره في القرآن الكريم : ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ... يَعِظُكُمُ اللّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً ) (1). (2)

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الثاني ، واتضح أنّه لم يسبق منه علیه السلام سؤال غير لائق بساحته ، بقي الكلام في السؤال الثالث.

الوجه الثالث : تفسير قوله تعالى : ( وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي ) .

وحاصله : أنّ طلب الغفران في قوله : ( وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ ) لا يجتمع مع العصمة.

أقول : إنّ هذا كلام ، صورته التوبة وحقيقته الشكر على ما أنعم اللّه عليه من التعليم والتأديب ، أمّا أنّ صورته صورة التوبة ، فإنّ في ذلك رجوعاً إلى اللّه تعالى بالاستعاذة ، ولازمها طلب مغفرة اللّه ورحمته ، أي ستره على الإنسان ما فيه زلته ،

ص: 151


1- النور : 15 - 17.
2- الميزان : 10 / 245.

وشمول عنايته لحاله ، والمغفرة بمعنى طلب الستر أعم من طلبه على المعصية المعروفة عند المتشرعة ، وكل ستر إلهي يسعد الإنسان ويجمع شمله.

وأمّا كون حقيقته الشكر ، فإنّ العناية الإلهية التي حالت بينه وبين السؤال الذي كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين ، كانت ستراً إلهياً على زلة في طريقه ، ورحمة ونعمة أنعم اللّه سبحانه بها عليه فقوله : ( وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ ) بمعنى أنّه إن لم تعذني من الزلاّت ، لخسرت ، فهو ثناء وشكر لصنعه الجميل (1).

وتظهر حقيقة ذلك الكلام ممّا قدمناه في قصة آدم من أنّ كثيراً من المباحات تعد ذنباً نسبياً بالنسبة إلى طبقة خاصة من الأولياء والأنبياء ، فعند صدور مثل ذلك يجب عليهم - تكميلاً لعصمتهم - طلب الغفران والرحمة ، حتى لا يكونوا من الخاسرين ، وليس الخسران منحصراً في الإتيان بالمعصية ، بل ربّ فعل سائغ يعد صدوره من الطبقة العليا خسراناً وخيبة ، كما أوضحناه في قصة آدم.

نعم لم يصدر من شيخ الأنبياء في ذلك المقام فعل غير أنّه وقع في مظنة صدور ذلك الفعل ، وهو السؤال عمّا لا يعلم ، فلأجل ذلك صح له أن يطلب الستر على تلك الحالة بالعناية الإلهية الحائلة بينه وبين صدوره.

إلى هنا تبيّن مفاد الآيات وأنّه ليس فيها إشعار بصدور الذنب بل حتى ما يوجب العتاب واللوم.

ثم إنّ لبعض المفسرين من العدلية أجوبة أُخرى للأسئلة المطروحة ، فمن أراد الوقوف عليها ، فليرجع إلى مظانها (2).

ص: 152


1- الميزان : 10 / 238.
2- لاحظ تنزيه الأنبياء : 18 - 19 ; مجمع البيان : 3 / 167 ; بحار الأنوار : 11 / 213 - 314 إلى غير ذلك.

3

عصمة إبراهيم الخليل علیه السلام والمسائل الثلاث
اشارة

عصمة إبراهيم الخليل علیه السلام والمسائل الثلاث (1)

إنّ اللّه سبحانه أثنى على إبراهيم علیه السلام بطل التوحيد بأجمل الثناء ، وحمد محنته في سبيله سبحانه أبلغ الحمد ، وكرر ذكره باسمه في نيّف وستين موضعاً من كتابه ، وذكر من مواهبه ونعمه عليه شيئاً كثيراً وقال : ( وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) (2). وقد حفظ اللّه سبحانه حياته الكريمة وشخصيته الدينية لما سمّى هذا الدين القويم بالإسلام ونسب التسمية به إليه قال تعالى : ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ) (3). وقال سبحانه : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) (4).

ومع هذا الثناء المتضافر منه سبحانه على إبراهيم علیه السلام نرى أنّ بعض المخطّئة للأنبياء يريد أن ينسب إليه ما لا يليق بشأنه مستدلاً بآيات نأتي بها واحدة بعد واحدة ونبيّن حالها.

ص: 153


1- أ. قوله للنجم : ( هَذَا رَبِّي ) . ب. قوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) . ج. قوله لقومه : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) .
2- البقرة : 130.
3- الحج : 78.
4- الأنعام : 161.
الآية الأُولى

( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) (1).

قالت المخطّئة : إنّ قوله : ( هَذَا رَبِّي ) في المواضع الثلاثة ظاهر في أنّه علیه السلام كان يعتقد في وقت من الأوقات بربوبية هذه الأجرام السماوية ، وهذا ممّا لا يجوز على الأنبياء عند العدلية ، وإن زعمت العدلية أنّه علیه السلام تكلّم بها ظاهراً غير معتقد باطناً ، فهذا أيضاً غير جائز على الأنبياء ، لأنّه يقول شيئاً غير معتقد به ، وهو أمر قبيح سواء سمّي بالكذب أم لا.

والجواب : انّ الاستدلال ضعيف ، لأنّ الحال لا تخلو من إحدى صورتين :

الأُولى : انّ إبراهيم كان في مقام التحرّي والتعرّف على الربّ المدبّر للعالم ، ولم يكن آنذاك واقفاً على الحقيقة ، لأنّه - كما قيل - كان صبياً لم يبلغ الحلم ، وصار بصدد التحقيق والتحري ، فعندئذ طرح عدّة احتمالات واحداً بعد واحد ، ثم شرع في إبطال كل واحد منها ، إلى أن وصل إلى الرب الواقعي والمدبّر الحقيقي.

وهذا نظير ما يفعله الباحثون عن أسباب الظواهر وعللها ، فتراهم يطرحون على طاولة التحقيق سلسلة من الفرضيات والاحتمالات ، ثم يعمدون إلى التحقيق عن حال كل واحد منها إلى أن يصلوا إلى العلة الواقعية ، وعلى هذا يكون معنى

ص: 154


1- الأنعام : 75 - 78.

قوله : ( هَذَا رَبِّي ) مجرّد فرض لا إذعان قطعي ، وليس مثُل هذا غيرَ لائق بشأن الأنبياء.

وفي هذا الصدد يقول السيد المرتضى - جواباً عن السؤال - : إنّه لم يقل ذلك مخبراً ، وانّما قال فارضاً ومقدّراً على سبيل الفكر والتأمّل.

ألا ترى أنّه قد يحسن من أحدنا إذا كان ناظراً في شيء وممتثلاً بين كونه على إحدى صفتيه أن يفرضه على إحداهما لينظر فيما يؤدي ذلك الفرض إليه من صحة أو فساد ، ولا يكون بذلك مخبراً عن الحقيقة ، ولهذا يصح من أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام وقدمها أنْ يفرض كونها قديمة ليتبين ما يؤدي إليه ذلك الفرض من الفساد (1).

وقد روي هذا المعنى عن الإمام الصادق علیه السلام حيث سئل عن قول إبراهيم : ( هَذَا رَبِّي ) أأشرك في قوله : ( هَذَا رَبِّي ) ؟ فقال علیه السلام : « لا ، بل من قال هذا ، اليوم فهو مشرك ، ولم يكن من إبراهيم شرك ، وانّما كان في طلب ربّه وهو من غيره شرك » (2).

وفي رواية أُخرى عن أحدهما ( الباقر والصادق علیهماالسلام ) : « انّما كان طالباً لربّه ولم يبلغ كفراً ، وانّه من فكّر من الناس في مثل ذلك فإنّه بمنزلته » (3).

غير أنّ هذا الفرض ربّما لا يكون مرضياً عند بعض العدلية ، لأنّ الأنبياء منذ أن فطموا من الرضاع إلى أن ادرجوا في أكفانهم ، كانوا عارفين بتوحيده سبحانه ذاتاً وفعلاً ، خالقاً وربّاً ، ولو كان هناك إراءة من اللّه لخليله كما في قوله : ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ ) كانت لزيادة المعرفة وليكون من الموقنين.

ص: 155


1- تنزيه الأنبياء : 22.
2- و (3) نور الثقلين : 1 / 610 - 611 ، الحديث 149 و 150 و 151.

الثانية : انّه كان معترفاً بربوبيته نافياً ربوبية غيره ، ولكنّه حيث كان بصدد هداية قومه وفكّهم من عبادة الأجرام ، جاراهم في منطقهم لكي لا يصدم مشاعرهم ويثير عنادهم ولجاجهم ، فتدرج في إبطال ربوبية معبوداتهم الواحد تلو الآخر ، بما يطرأ عليها من الأُفول والغيبة والتحوّل والحركة مما لا يليق بالربّ المدبّر ، ومثل هذا جائز للمعلم الذي يريد هداية جماعة معاندة في عقيدتهم ، منحرفة عن جادة الصواب ، وهذه إحدى طرق الهداية والتربية ، فأين التكلّم بكلمة الشرك عن جد ؟!

وإلى ذلك الجواب أشار السيد المرتضى في كلامه بأنّ إبراهيم علیه السلام لم يقل ما تضمّنته الآيات على طريق الشك ، ولا في زمان مهلة النظر والفكر ، بل كان في تلك الحال موقناً عالماً بأنّ ربَّه تعالى لا يجوز أن يكون بصفة شيء من الكواكب ، وانّما قال ذلك على أحد وجهين :

الأوّل : انّه ربّي عندكم ، وعلى مذاهبكم ، كما يقول أحدنا على سبيل الإنكار للمشتبه هذا ربّه جسم يتحرك ويسكن.

الثاني : انّه قال ذلك مستفهماً وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنها (1).

والوجه الأوّل من الشقين في هذا الجواب هو الواضح.

الآية الثانية

قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ... وَتَاللّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ... قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا

ص: 156


1- تنزيه الأنبياء : 23.

فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (1).

فزعمت المخطّئة أنّ قوله علیه السلام ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) كذب لا شك فيه ، لأنّه هو الذي كسر الأصنام وجعلها جذاذاً إلاّ كبيرها ، فكيف نسب التكسير إلى كبيرها ؟

ولا يخفى أنّ الشبهة واهية جداً ، مثل الشبهة السابقة ، لأنّ الكذب في الكلام إنّما يتحقق إذا لم يكن هناك قرينة على أنّه لم يرد ما ذكره ، بالإرادة الجدية ، وانّما ذكره لغاية أُخرى ، ومع تلك القرينة لا يُعد الكلام كذباً ، والقرينة في الكلام أمران :

الأوّل : قوله علیه السلام عند مغادرة قومه البلد ومخاطبتهم بقوله : ( وَتَاللّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) (2) ، ولا يصح حمل ذلك على أنّه قاله في قلبه وفكرته ، لا بصورة المشافهة والمصارحة ، وذلك لأنّ إبراهيم كان مشهوراً بعدائه وكرهه للأصنام ، حتى أنّهم بعد ما رجعوا إلى بلدهم ووجدوا الأصنام جذاذاً ، أساءوا الظن به ، واتهموه بالعدوان على أصنامهم وتخريبها و ( قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ) (3).

الثاني : انّ من المسلّم بين إبراهيم وعبدة الأصنام أنّ آلهتهم صغيرها وكبيرها

ص: 157


1- الأنبياء : 51 - 67.
2- الأنبياء : 57.
3- الأنبياء : 60.

لا تقدر على الحركة والفعل ، فمع تلك القرينة والتسليم الواضح بينه وبينهم ، بل وبين جميع العقلاء ، إذا أجاب إبراهيم بهذا الكلام يعلم منه أنّه لم يتكلم به لغاية الجد ، بل لغاية أُخرى حتى ينتبه القوم إلى خطئهم في العقيدة.

ويزيد توضيحاً ما ورد في القصص : إنّ إبراهيم بعد أنْ حطّم الأصنام الصغيرة جعل الفأس على عنق كبيرها ، حتى تكون نسبة التحطيم إلى الكبير مقرونة بالقرينة وهي : أنّ آلة الجرم تشهد على كون الكبير هو المجرم دون إبراهيم ، ومن المعلوم أنّ هذا العمل والشهادة المزعومة ، أشبه شيء في مقام العمل باستهزائه بالقوم وسخريته مما يعتقدون.

فعلى تلك القرائن قد تكلّم إبراهيم بهذه الكلمة لا عن غاية الجد ، بل لغاية أُخرى كما يبيّنها القرآن ، فإذا انتفى الجد بشهادة القرائن القاطعة ينتفي الكذب.

وأمّا الغاية من هذا الكلام فهو أنّه طرح كلامه بصورة الجد وإن لم يكن عن جد حقيقي ، وطلب منهم أن يسألوا الأصنام بأنفسهم ، وأنّه مَن فعل هذا بهم ؟ لغاية أخذ الاعتراف منهم بما أقرّوا به في الآية ، أعني قولهم : ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ ) حتى يتسنّى للخليل علیه السلام كبتهم وتوبيخهم - بأنّه إذا كان هؤلاء على ما يصفون - بقوله علیه السلام : ( أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (1) ، وفي موضع آخر يقول : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (2) ، فتبين من ذلك أنّ قوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) لم يكن كلاماً عن جد وجزم وعزم حتى يوصف بالكذب ، بل

ص: 158


1- الأنبياء : 66 - 67.
2- الصافات : 95 - 96.

كان كلاماً أُلقي على صورة الجد ليكون ذريعة لإبطال عبادتهم وشركهم ، وكانت القرائن تشهد على أنّه ليس كلاماً جديّاً ولو كان هذا الكلام صادراً من عاقل غير النبي علیه السلام لأجزنا لأنفسنا أن نقول : إنّ الغاية ، الاستهزاء والتهكّم بعبدة الأصنام والأوثان حتى يتنبهوا بذلك الوجه إلى بطلان عقيدتهم.

ولما كان هذا النمط من الحوار والاحتجاج الذي سلكه إبراهيم في غاية القوّة والمتانة ، لم يجد القوم جواباً له إلاّ الحكم عليه بالتعذيب والإحراق شأن كل مجادل ومعاند إذا أفحم ، كما يقول سبحانه : ( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ ) (1) ، وفي آية أُخرى : ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) (2) ، هذا هو الحق الصراح لمن طالع القصة في القرآن الكريم ، ومن أمعن النظر فيها يجد أنّ الجواب هو ما ذكرنا.

جواب آخر عن السؤال

وربّما يجاب بأنّه لم يكذب وانّما نسب الفعل إلى كبيرهم مشروطاً لا منجزاً ، وانّما يلزم الكذب لو نسبه على وجه التنجيز حيث قال : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) فكأنّه قال : فعل كبيرهم هذا العمل إن كانت الأصنام المكسورة ناطقة ، وبما أنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه ، وكان الشرط - أعني نطقها - منتفياً كان المشروط - أي كون الكبير قائماً بهذا الفعل - منتفياً أيضاً.

وهذا الجواب لا ينطبق على ظاهر الآية ، لأنّها تشتمل على فعلين :

أحدهما قريب من الشرط ، والآخر بعيد عنه ، ومقتضى القاعدة رجوع

ص: 159


1- الصافات : 97 - 98.
2- الأنبياء : 68.

الشرط إلى القريب من الفعلين لا إلى البعيد ، والرجوع إلى كلا الفعلين خلاف الظاهر أيضاً ، وإليك توضيحه :

1. بل فعله كبيرهم : الفعل البعيد من الشرط.

2. فاسألوهم : الفعل القريب من الشرط.

3. ان كانوا ينطقون : هذا هو الشرط.

فرجوعه إلى الأوّل وحده ، أو كليهما ، خلاف الظاهر ، والمتعين رجوعه إلى الثاني ، فصار الحكم بأنّه فعله كبيرهم منجزاً لا مشروطاً.

الآية الثالثة

استدلت المخطّئة لعصمة إبراهيم بالآية الثالثة ، أعني قوله سبحانه : ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) (1).

فاستدلوا بقوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) قائلين بأنّه لم يكن سقيماً ، وانّما ذكر ذلك عذراً لترك مصاحبتهم في الخروج عن البلد.

أضف إلى ذلك انّ قوله : ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ) يشبه ما يفعله المنجمون حيث يستكشفون من الأوضاع الفلكية ، الأحداث الأرضية.

والجواب : انّ الإشكال مبني على أنّه علیه السلام قال : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) ولم يكن سقيماً ، ولم يدل على ذلك دليل إذ من الممكن أنّه كان سقيماً في ذلك الوقت ، وأمّا

ص: 160


1- الصافات : 83 - 91.

قوله : ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ) ، فمن المحتمل جداً أنّه نظر إلى السماء متفكراً حتى يلاحظ حاله وانّه هل يقدر على المغادرة معهم أم لا ، والعرب تقول لمن تفكر : « نظر في النجوم » بمعنى أنّه نظر إلى السماء متفكراً في جواب سؤال القوم ، كما يفعل أحدنا عندما يريد أن يفكر في شيء.

ويؤيد ذلك أنّه علیه السلام قاله عندما دعاه قومه إلى الخروج معهم لعيد لهم ، فعند ذلك نظر إلى النجوم وأخبرهم بأنّه سقيم ، ومن المعلوم أنّ الخروج إلى خارج البلد لأجل التنزّه لم يكن في الليل بل كان في الضحى ، فلو كانت الدعوة عند مطلع الشمس وأوّل الضحى لم يكن النظر إلى النجوم بمعنى ملاحظة الأوضاع الفلكية ، إذ كانت النجوم عندئذ غاربة ، فلم يكن الهدف من هذه النظرة إلاّ التفكر والتأمل.

نعم لو كانت الدعوة في الليل لأجل الخروج في النهار كان النظر إلى النجوم مظنة لما قيل ، ولكنه غير ثابت.

نعم هناك معنى آخر لقوله : ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ) ، وهو أنّه علیه السلام كان به حمّى ذات نوبة تعتريه في أوقات خاصة متعينة بطلوع كوكب أو غروبه ، فلأجل ذلك نظر في النجوم ، ووقف على أنّها قريبة الموعد ، والعرب تسمّي المشارفة على الشيء باسم الداخل فيه ، ولهذا يقولون لمن أضعفه المرض ، وخيف عليه الموت « هو ميت » وقال تعالى لنبيّه : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) (1).

وأمّا استعمال كلمة « في » مكان « إلى » في قوله : ( فِي النُّجُومِ ) ، فلأجل أنّ الحروف يقوم بعضها مقام بعض ، قال اللّه تعالى : ( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ

ص: 161


1- الزمر : 30.

النَّخْلِ ) (1) وإنّما أراد على جذوعها ، وقال الشاعر :

وافتحي الباب وانظري في النجوم *** كم علينا من قطع ليل بهيم

جواب آخر عن الشبهة

وربّما يجاب عن الإشكال : انّه من قبيل المعاريض في الكلام ، والمعاريض : عبارة عن أن يقول الرجل شيئاً يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده ، فلعلّه نظر في النجوم نظر الموحِّد في صنعه تعالى ، الذي يستدل به على خالقه وصفاته ، ولكن القوم حسبوا أنّه ينظر إليها نظر المنجِّم فيها ليستدل بها على الحوادث ، فقال : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2).

ولا يخفى أنّ الجواب مبني على أنّه لم يكن سقيماً آنذاك ، وهو بعد غير ثابت ، على أنّ المعاريض غير جائزة على الأنبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم.

وبذلك يعلم قيمة ما أخرجه أصحاب الصحاح والسنن من طرق كثيرة عن أبي هريرة : انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : لم يكذب إبراهيم علیه السلام غير ثلاث كذبات : ثنتين في ذات اللّه : قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) وقوله في سارة : ( هي أُختي ) (3).

وقد عرفت أنّ إبراهيم لم يكذب في الأُوليين ، وأمّا الثالثة فهي مروية في التوراة المحرّفة ، فهل يمكن بعد هذا ، الاعتماد على الرواية ؟!

والعجب أنّ ابن كثير صار بصدد تصحيح الرواية ، وقال : ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله ، حاشا وكلاّ ، وانّما أُطلق الكذب على هذا

ص: 162


1- طه : 71.
2- تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 4 / 13.
3- تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 4 / 13.

تجوزاً ، وانّما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث « انّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب ».

ونحن لا (1) نعلّق على الحديث ولا على التوجيه الذي ارتكبه ابن كثير شيئاً وانّما نحيل القضاء فيه إلى وجدان القارئ الكريم ، وكفى في سقم الحديث أنّه من مرويات أبي هريرة ، كما يكفي في كذب الحديث أنّه من الإسرائيليات التي وردت في التوراة المحرّفة.

والعجب أنّ رواة هذا الحديث يزرون على الشيعة في قولهم بالتقية ، بأنّها مستلزمة للكذب مع أنّ التقية من المعاريض التي جوّزها القرآن والسنّة في شرائط خاصة لأشخاص معينين.

هذه هي الآيات التي استدلت المخطّئة بها على عدم عصمة بطل التوحيد ، وقد عرفت مفادها ، وهناك آيات أُخر آيات نزلت في حقه ، ربّما وقعت ذريعة لهؤلاء المخطّئة ، وبما أنّها واضحة المضمون لا نرى حاجة إلى البحث عنها ، وكفانا في هذا المضمار ما ذكره السيد المرتضى في « تنزيهه » فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليه.

كما أنّهم استدلّوا بآيات نزلت في حق يعقوب ، لتخطئته وبما أنّ الشبهات ضعيفة تركنا البحث عنها وعطفنا عنان القلم إلى بعض ما استدلت به المخطّئة في هذا المضمار في حق صدِّيق عصره ونزيه دهره سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام.

ص: 163


1- تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 4 / 13.

4

عصمة يوسف علیه السلام وقول اللّه ( ... وَهَمَّ بِهَا )
يوسف الصدِّيق هو الأُسوة

إنّ فيما ورد في سورة يوسف من الآيات ، لأجلى دليل على أنّه الإنسان المثالي الذي لا يعدّ له مثال ، كيف ؟ وقد دلّت الآيات على أنّه سبحانه اجتباه من بداية حياته وصباه ، وعلّمه من تأويل الأحاديث ، وأتمّ نعمته عليه ، وقد قام القرآن بسرد قصته وأسماها بأحسن القصص ، ففيها براهين واضحة على طهارته ونزاهته وعصمته من الذنوب ، وصيانته من المعاصي ، وتفانيه في مرضاة اللّه ، كيف ؟ وقد ابتلاه اللّه سبحانه بلاءً حسناً ، فوجده صابراً متمالكاً لنفسه عند الشهوات والمحرمات ، وناجياً من الغمرات التي لا ينجو منها إلاّ من عصمه اللّه سبحانه ، فقد ظهر بهذا البلاء باطنه ، وتجلّت به حقيقته ، وبان أنّه الإنسان الذي حاق به الخوف من اللّه سبحانه ، فطفق لا يغفل عنه طرفة عين ولا يبدل رضاه بشيء.

كيف ؟ ومن طالع القصة يقف على أنّ نجاة يوسف من مخالب الشهوة وخدعة امرأة العزيز لم تكن إلاّ أمراً خارقاً للعادة ، ولولا عصمته لما كانت النجاة ممكنة ، بل كانت أمراً أشبه بالرؤيا منه باليقظة.

ص: 164

وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائي :

فقد كان يوسف رجلاً ، ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء ، وكان شاباً ، بالغاً أشده ، وذاك أوان غليان الشهوة وفوران الشبق ، وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الألباب ، والجمال والملاحة يدعوان إلى الهوى ؟ هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان مستغرقاً في النعمة وهنيء العيش ، محبوراً بمثوى كريم ، وذلك من أقوى أسباب التهوّس ، وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال كما هو الحال في حرم الملوك والعظماء ، وكانت لا محالة متزيّنة لما يأخذ بمجامع كل قلب ، وهي عزيزة مصر - ومع ذلك - عاشقة له والهة تتوق نفسها إليه ، وكانت لها سوابق الإكرام والإحسان والإنعام ليوسف ، وذلك كلّه مما يقطع اللسان ويصمت الإنسان وقد تعرّضت له ، ودعته إلى نفسها ، والصبر مع التعرّض أصعب ، وقد راودته هذه الفتّانة وأتت بما في مقدرتها من الغنج والدلال ، وقد ألحّت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه ، والصبر معه أصعب وأشق ، وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها ، وهي رتبة خصّها بها العزيز ، وكان في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائعة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنيء.

وكانا في خلوة ، وقد غلّقت الأبواب وأرخت الستور ، وكان لا يأمن من الشر مع الامتناع ، وكان في أمن من ظهور الأمر وانتهاك الستر ، لأنّها كانت عزيزة ، بيدها أسباب الستر والتعمية ، ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كانت مفتاحاً لعيش هنيء طويل ، وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها كالملك والعزّة والمال.

فهذه أسباب وأُمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدّته ، أو أقبلت على صخرة صمّاء لأذابتها ، ولم يكن هناك ممّا يتوهم مانعاً إلاّ الخوف من ظهور الأمر ، أو

ص: 165

مناعة نسب يوسف ، أو قبح الخيانة للعزيز ، ولكن الكل غير صالح لمنع يوسف عن ارتكاب العمل.

أمّا الخوف من ظهور الأمر فقد مرّ أنّه كان في أَمن منه ، ولو كان بدا من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تأوّله تأويلاً كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها ، فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاءً ، فلم يؤاخذها بشيء ، وقلبت العقوبة على يوسف حتى سجن.

وأمّا مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عمّا هو أعظم من الزنا وأشد اثماً ، فانّهم كانوا أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمثال يوسف ، فلم تمنعهم شرافة النسب من أن يهمّوا بقتله ويلقوه في غيابت الجب ، ويبيعوه من السيّارة بيع العبيد ، ويثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي ، فبكى حتى ابيضّت عيناه.

وأمّا قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية ، والقوانين الاجتماعية إنّما تؤثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة وذلك إنّما يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوّة المجرية والحكومة العادلة ، وأمّا لو أغفلت القوّة المجرية ، أو فسقت فأهملت ، أو خفي الجرم عن نظرها ، أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين.

فلم يكن عند يوسف ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الأسباب القوية التي كانت لها عليه ، إلاّ أصل التوحيد وهو الإيمان باللّه.

وإن شئت قلت : المحبة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه ، فلم تترك لغيرها محلاً ولا موضع أصبع (1).

ص: 166


1- الميزان : 11 / 137 - 139.

هذا هو واقع الأمر غير أنّ بعض المخطّئة لم يرتض ليوسف هذه المكارم والفضائل ، واستدل على عدم عصمته بما ورد في سورة يوسف في حق العزيزة ومن هو في بيتها ، قال سبحانه : ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ ) (1).

ومحل الاستدلال : قوله ( وَهَمَّ بِهَا ) أي همّ بالمخالطة ، وانّ همّه بها كان كهمّها به ، ولولا أنّ رأى برهان ربّه لفعل ، وقد صانته عن ارتكاب الجريمة - بعد الهمّ بها - رؤية البرهان.

وبعبارة أُخرى : انّ المخطّئة جعلت كلا من المعطوف والمعطوف عليه ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) كلاماً مستقلاً غير مقيّد بشيء ، وكأنّه قال :

ولقد همّت به : أي بلا شرط وقيد.

وهمّ بها : أي جزماً وحتماً.

ثم بعد ذلك - أي بعد الإخبار عن تحقّق الهم من الطرفين - استدرك بأنّ العزيزة بقيت على همّها وعزمها إلى أن عجزت ، وأمّا يوسف فقد انصرف عن الاقتراف لأجل رؤية برهان ربِّه ، ولأجل ذلك قال :

( لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) أي ولولا الرؤية لاقترف وفعل وارتكب ، لكنّه رأى فلم يقترف ولم يرتكب ، فجواب لولا محذوف وتقديره « لاقترف ».

ثم إنّ المخطّئة استعانوا في تفسير الآية بما ذكروه من الإسرائيليات التي لا

ص: 167


1- يوسف : 23 - 24.

يصح أن تنقل ، وانّما ننقل خبراً واحداً ليكون القارئ على اطلاع عليها : قالوا : جلس يوسف منها مجلس الخائن ، وأدركه برهان ربّه ونجّاه من الهلكة ، ثم إنّهم نسجوا هناك أفكاراً خيالية في تفسير هذا البرهان المرئي; فقالوا : إنّ طائراً وقع على كتفه ، فقال في أُذنه : لا تفعل ، فإن فعلت سقطت من درجة الأنبياء; وقيل : إنّه رأى يعقوب عاضاً على إصبعه ، وقال : يا يوسف أما تراني ؟ إلى غير ذلك من الأوهام التي يخجل القلم من نقلها.

غير انّ رفع الستر عن مرمى الآية يتوقف على البحث عن أُمور :

1. ما هو معنى « الهم » في قوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) .

2. ما هو جواب ( لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) وهذا هو العمدة في تفسير الآية.

3. ما هو معنى البرهان ؟

4. دلالة الآية على عصمة يوسف ، وإليك تفسيرها واحداً تلو الآخر.

1. ما معنى الهم ؟

لقد فسّره ابن منظور في لسانه بقوله : همّ بالشيء يهم همّاً : نواه وأراده وعزم عليه ، قال سبحانه : ( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) (1).

روى أهل السير : أنّ طائفة من المنافقين عزموا على أن يغتالوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في العودة من تبوك ، ولأجل ذلك وقفوا على طريقه ، فلمّا قربوا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر بتنحيتهم ، وسمّاهم رجلاً رجلاً (2).

ص: 168


1- التوبة : 74.
2- مجمع البيان : 3 / 51 وغيره.

هذا هو معنى الهم ، وتؤيده سائر الآيات الوارد فيها لفظ الهم ، ولو استعمل في مورد في خطور الشيء بالبال ، وإن لم يقع العزم عليه ، فهو استعمال نادر لا يحمل عليه صريح الكتاب.

أضف إلى ذلك أنّ الهمين في الموردين بمعنى واحد ، وبما أنّ هم العزيزة كان بنحو العزم والإرادة ، وجب حمل الهم في جانب يوسف عليه أيضاً لا على خطور الشيء بالبال ، لأنّه تفكيك بين اللفظين من حيث المعنى بلا قرينة ، ولكن تحقّق أحد الهمين دون الآخر ، لأنّ هم يوسف كان مشروطاً بعدم رؤية برهان ربِّه ، وبما أنّ العدم انقلب إلى الوجود ، ورأى البرهان لم يتحقق هذا الهم من الأساس ، كما سيوافيك ، نعم لا ننكر أنّ الهم قد يستعمل بالقرينة في مقابل العزم ، قال كعب بن زهير :

فكم فهموا من سيد متوسع *** ومن فاعل للخير ان همّ أو عزم

ولكن التقابل بين الهم والعزم أوجب حمل الهم على الخطور بالبال ، ولولاه لحمل على نفس العزم.

كما ربّما يستعمل في معنى المقاربة فيقولون : همّ بكذا وكذا ، أي كاد يفعله ، وعلى كل تقدير فالمعنى اللائح من الهم في الآية هو العزم والإرادة.

2. ما هو جواب لولا ؟

لا شك أنّ « لولا » في قوله سبحانه : ( لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) ابتدائية. فلا تدخل إلاّ على المبتدأ مثل « لوما » قال ابن مالك.

لولا ولوما يلزمان الابتداء *** إذ امتناعاً بوجود عقدا

ص: 169

ومما لا شك فيه أنّ « لولا » الابتدائية تحتاج إلى جواب ، ويكون الجواب مذكوراً غالباً مثل قول القائل :

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية *** لولا رجاؤك قد قتلت أولادي

وقد تواترت الروايات عن الخليفة عمر بن الخطاب أنّه قال في مواضع خطيرة : « لولا علي لهلك عمر ».

وربّما يحذف جوابها لدلالة القرينة عليه أو انفهامه من السياق ، كقوله سبحانه : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) (1) ، أي ولولا فضل اللّه ورحمته عليكم لهلكتم ، وربّما يحذف الجواب لدلالة الجملة المتقدمة عليه كقوله : « قد كنت هلكت لولا أن تداركتك » ، وقوله : « وقتلت لولا أنّي قد خلصتك » ، والمعنى لولا تداركي لهلكت ، ولولا تخليصي لقُتلت ، ومثل لولا سائر الحروف الشرطية قال الشاعر :

فلا يدعني قومي صريعاً لحرة *** لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر

وقال الآخر :

فلا يدعني قومي ليوم كريهة *** لئن لم أعجل طعنة أو أعجل

فحذف جواب الشرط في البيتين لأجل الجملة المتقدمة.

وبالجملة : لا إشكال في أنّ جواب الحروف الشرطية عامة ، وجواب « لولا » خاصة ، يكون محذوفاً إمّا لفهمه من السياق أو لدلالة كلام متقدم عليه والمقام من

ص: 170


1- النور : 10.

قبيل الثاني ، فقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) يؤوّل إلى جملتين : إحداهما مطلقة ، والأُخرى مشروطة.

أمّا المطلقة فهي قوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) ، وهو يدل على تحقّق « الهم » من عزيزة مصر بلا تردد.

أمّا المقيدة فهي قوله : ( وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) وتقديره : « لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها » فيدل على عدم تحقق الهم منه لما رأى برهان ربّه ، وأمّا الجملة المتقدمة على « لولا » أعني قوله ( وَهَمَّ بِهَا ) فلا تدل على تحقق الهم ، لأنّها ليست جملة منفصلة عمّا بعدها ، حتى تدل على تحقق الهمّ ، وانّما هي قائمة مكان الجواب ، فتكون مشروطة ومعلّقة مثله ، وسيوافيك تفصيله عن قريب.

3. ما هو البرهان ؟

البرهان هو الحجة ويراد به السبب المفيد لليقين ، قال سبحانه : ( فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) (1) ، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) (2) ، وقال سبحانه : ( أَإِلَهٌ مَّعَ اللّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (3) ، فالبرهان هو الحجة اليقينية التي تجلي الحق ولا تدع ريباً لمرتاب ، وعلى ذلك فيجب أن يعلم ما هذا البرهان الذي رآه يوسف علیه السلام ؟

والذي يمكن أن يكون مصداق البرهان في المقام هو العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يجر النفس الإنسانية إلى طاعة لا تميل معها إلى معصية ،

ص: 171


1- القصص : 32.
2- النساء : 174.
3- النمل : 64.

وانقياد لا تصاحبه مخالفة ، وقد أوضحنا عند البحث عن العصمة انّ إحدى أُسس العصمة هو العلم اليقين بنتائج المآثم وعواقب المخالفة علماً لا يغلب ، وانكشافاً لا يقهر ، وهذا العلم الذي كان يصاحب يوسف هو الذي صدّه عمّا اقترحت عليه امرأة العزيز.

ويمكن أن يكون المراد منه سائر الأُمور التي تفيض العصمة على العباد التي أوضحنا حالها (1).

4. دلالة الآية على عصمة يوسف علیه السلام

إنّ الآية على رغم ما ذهبت إليه المخطّئة تدل على عصمة يوسف علیه السلام قبل أن تدلّ على خلافها.

توضيحه : انّه سبحانه بيّن همّ العزيزة على وجه الإطلاق وقال : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) ، وبيّن همّ يوسف بنحو الاشتراط وقال : ( وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) ، فالقضية الشرطية لا تدل على وقوع الطرفين خصوصاً مع كلمة « لولا » الدالة على عدم وقوعهما.

فإن قلت : إنّ كلاًّ من الهمين مطلق حتى الهم الوارد في حق يوسف وانّما يلزم التعليق لو قلنا بجواز تقدم جواب لولا الامتناعية عليها وهو غير جائز بالاتفاق وعليه فيكون قوله : ( وَهَمَّ بِهَا ) مطلقاً إذ ليس جواباً لكلمة « لولا ».

قلت : إنّ جواب « لولا » محذوف وتقديره « لهمّ بها » وليست الجملة المتقدمة جواباً لها حتى يقال : انّ تقدم الجواب غير جائز بالاتفاق ، ومع ذلك فليست تلك الجملة مطلقة ، بل هي أيضاً مقيدة بما قيد به الجواب ، لأنّه إذا كان الجواب مقيداً

ص: 172


1- راجع ص 21 - 25 من هذا الكتاب.

فالجملة القائمة مكانه تكون مثله ، وله نظير في الكتاب العزيز مثل قوله : ( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ) (1) ، والمعنى انّه سبحانه ثبّت نبيه فلم يتحقّق منه الركون ولا الاقتراب منه.

وقال سبحانه : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ) (2) والمعنى أنّ تفضّله سبحانه على نبيه صار سبباً لعدم هم الطائفة على إضلاله.

والآية مثل الآيتين غير أنّ الجواب فيها محذوف لدلالة الجملة المتقدمة عليه بخلافهما.

وحاصل الكلام : أنّه في مورد الآية ونظائرها يكون الجزاء منتفياً بانتفاء شرطه ، غير انّ هذه الجمل إنّما تستعمل في ما إذا كانت هناك أرضية صالحة لتحقق الجزاء ، وإن لم يتحقق لانتفاء الشرط ، وفي مورد الآية ، أرضية الهم كانت موجودة في جانب يوسف لتجهزه بالقوى الشهوية ، وغيرها من قوى النفس الأمارة ، وكانت هذه العوامل مقتضية لحدوث الهم بالفحشاء ، ولكن صارت خائبة غير مؤثرة لأجل رؤية برهان ربّه ، والشهود اليقيني الذي يمنع النبي عن اقتراف المعصية والهم بها.

وإن شئت قلت : منعته المحبة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه ، فلم تترك لغيرها موضع قدم ، فطرد ما كان يضاد تلك المحبة.

وهذا هو مفاد الآية ولا يشك فيه من لاحظ المقدمات الأربع التي قدّمناها.

وعلى ذلك فبما انّ « اللام » في قوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) للقسم يكون معنى

ص: 173


1- الإسراء : 74.
2- النساء : 113.

قوله : ( وَهَمَّ بِهَا ) بحكم عطفه عليه والمعنى : واللّه لقد همت امرأة العزيز به وواللّه لولا أن رأى يوسف برهان ربّه لهمّ بها ، ولكنّه لأجل رؤية البرهان واعتصامه ، صرف عنه سبحانه السوء والفحشاء ، فإذا به علیه السلام لم يهم بشيء ولم يفعل شيئاً ، لأجل تلك الرؤية.

أسئلة وأجوبة
اشارة

ولأجل رفع الغطاء عن وجه الحقيقة على الوجه الأكمل تجب الإجابة عن عدة من الأسئلة التي تثار حول الآية ، وإليك بيانها وأجوبتها :

السؤال الأوّل

انّ تفسير الهمّ الوارد في الآية في كلا الجانبين بالعزم على المعصية ، تكرار لما جاء في الآية المتقدمة بصورة واضحة وهي قوله : ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ) ومع هذا البيان الواضح لا وجه لتكراره ثانياً بقوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) خصوصاً في همّها به إذ ورد في الآية المتقدمة بصورة واضحة أعني قوله : ( هَيْتَ لَكَ ) .

والجواب : انّ الدافع إلى التكرار ليس هو لإفادة نفسه مرة ثانية بل الدافع هو بيان كيفية نجاة يوسف من هذه الغائلة ، ولأجل ذلك عاد إلى نفس الموضوع مجدّداً ليذكر مصير القصة ونهايتها ، وهذا نظير ما إذا حدّث أحد عن تنازع شخصين وإضرار أحدهما بالآخر واستعداده للدفاع عن نفسه ، فإذا أفاد ذلك ثم أراد أن يشير إلى نتيجة ذلك العراك يعود ثانيةً إلى بيان أصل التنازع حتى يبين مصيره ونهايته والآيتان من هذا القبيل.

ص: 174

وبذلك يظهر أنّ ما أفاده صاحب المنار في هذا المقام غير سديد حيث قال : إنّه قد علم من القصة أنّ هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلباً جازماً مصرّة عليه ليس عندها أدنى تردّد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضى له ، فإذاً لا يصح أن يقال : إنّها همّت به مطلقاً إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه (1).

أقول : قد عرفت دافع التكرار فلا نعيده ، بقي الكلام فيما أفاده في تفسير الهم بأنّه عبارة « عن مقاربة الفعل المتردّد فيه » ولا يخفى أنّه لا يصح في قوله سبحانه : ( وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ) (2) ، أي إخراج الرسول من مكة ، فهم كانوا جازمين بذلك ، وقد تآمروا عليه في ليلة خاصة معروفة في السيرة والتاريخ ، كما لا يصح في قوله سبحانه : ( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) (3) ، حيث حاول المنافقون أن ينفروا بعير النبي صلی اللّه علیه و آله في العقبة في منصرفه من غزوة تبوك.

السؤال الثاني

إنّ تفسير البرهان بالعصمة لا يتناسب مع سائر استعمالاته في القرآن مثلاً البرهان في قوله سبحانه : ( فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ ) (4) عبارة عن معاجز موسى من العصا واليد البيضاء ، وعلى ذلك فيجب أن يفسر البرهان بشيء ينطبق على الإعجاز لا العصمة التي هي من مقولة العلم.

والجواب : انّ البرهان بمعنى الحجة وهي تنطبق تارة على المعجزة وأُخرى على العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يصون الإنسان عن اقتراف المعاصي ،

ص: 175


1- تفسير المنار : 12 / 286.
2- التوبة : 13.
3- التوبة : 74.
4- القصص : 32.

وقد سبق منا أنّ العصمة (1) لا تسلب القدرة ، فهي حجة للنبي في آجله وعاجله ودليل في حياته إلى سعادته.

السؤال الثالث

إنّ قوله سبحانه : ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ) ظاهر في أنّ ( السُّوءَ ) غير ( الْفَحْشَاءَ ) فلو فسر قوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) بالعزم على المعصية يلزم كونهما بمعنى واحد وهو خلاف الظاهر.

والجواب : انّ المراد من ( السُّوءَ ) هو الهم والعزم ، والمراد من ( الْفَحْشَاءَ ) هو نفس العمل ، فاللّه سبحانه صرف ببركة العصمة - نفس الهم ونفس الاقتراف - كلا الأمرين.

قال العلاّمة الطباطبائي : الأنسب أنّ المراد بالسوء هو الهم بها والميل إليها ، كما أنّ المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة وهي الزنا ، ثم قال : ومن لطيف الإشارة ما في قوله : ( لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ) حيث جعل السوء والفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفاً عنهما ، لما في الثاني من الدلالة على أنّه كان فيه ما يقتضي اقترافه لهما المحوج إلى صرفه عن ذلك ، وهو ينافي شهادته تعالى بأنّه من عباده المخلصين ، وهم الذين أخلصهم اللّه لنفسه فلا يشاركهم فيه شيء ، ولا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أيّ داع من دون اللّه سبحانه.

ثم قال : وقوله : ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ ) في مقام التعليل لقوله : ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ) ، والمعنى عاملنا يوسف كذلك ، لأنّه من عبادنا المخلصين ، ويظهر من الآية انّ من شأن المخلصين أن يروا برهان ربّهم

ص: 176


1- راجع الجزء الرابع من مفاهيم القرآن : 401 - 405.

وإنّ اللّه سبحانه يصرف كل سوء وفحشاء عنهم فلا يقترفون معصيته ولا يهمون بها بما يريهم اللّه من برهانه ، وهذه هي العصمة الإلهية (1).

السؤال الرابع

لو كان المراد من ( بُرْهَانَ رَبِّهِ ) هو العصمة ، فلماذا قال سبحانه : ( رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) ، فإنّ هذه الكلمة تناسب الأشياء المحسوسة كالمعاجز والكرامات لا العصمة التي هي علم قاهر لا يغلب ويصون صاحبه عن اقتراف المعاصي.

أقول : إنّ الرؤية كما تستعمل في الرؤية الحسية والرؤية بالأبصار ، تستعمل أيضاً في الإدراك القلبي والرؤية بعين الفؤاد قال سبحانه : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) (2) ، وقوله سبحانه : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ) (3) ، وقوله سبحانه : ( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (4) ، وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح بأنّ الرؤية تستعمل في الإدراك القلبي والاستشعار الباطني.

وعلى ذلك فيوسف الصديق لمّا وقع مقابل ذلك المشهد المغري ، الذي يسلب اللب والعقل عن البشر ، كان المتوقع بحكم كونه بشراً ، الميل إلى المخالطة معها والعزم على الإتيان بالمعصية ، ولكنّه لما أدرك بالعلم القاطع أثر تلك المعصية صانه ذلك عن أي عزم وهمّ بالمخالطة.

هذا هو المعنى المختار في الآية ، وبذلك تظهر نزاهة يوسف عن أي هم

ص: 177


1- الميزان : 11 / 142.
2- النجم : 11.
3- فاطر : 8.
4- الأعراف : 149.

وعزم على المخالطة.

وهناك تفسير آخر للآية يتفق مع المعنى المختار في تنزيه يوسف عن كل ما لا يناسب ساحة النبوة غير أنّه من حيث الانطباق على ظاهر الآية يعد في الدرجة الثانية ، وهذا المعنى هو الذي اختاره صاحب « المنار » وطلاه بعض المعاصرين وزوّقه ، وسيوافيك بيان صاحب المنار وما جاء به ذلك المعاصر في البحث التالي :

المعنى الثاني للآية

انّ المراد من الهم في كلا الموردين هو العزم على الضرب والقتل مثل قوله سبحانه : ( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) (1) حيث قصد المشركون اغتيال النبي عند منصرفه من تبوك ، فيكون المعنى أنّ امرأة العزيز همت بضربه وجرحه وبطبيعة الحال لم يكن أمام يوسف إلاّ أن يدافع عن نفسه غير انّه رأى انّ ذلك ربّما ينجر إلى جرح امرأة العزيز ويكون ذلك ذريعة بيدها لاتّهام يوسف وبهته ، فقد أدرك هذا المعنى ولم يهم بها وسبقها إلى الباب ليتخلّص منها ، وعلى ذلك فيكون معنى الهم في كلا الموردين هو المضاربة لكنه من جانب العزيزة بدافع ومن جانب يوسف بدافع آخر.

وهذا التوجيه يتناسب مع حالة العاشق الواله عندما يخفق في نيل ما يصبو إليه ويتوق إلى تحصيله ، فإنّه في مثل هذا الموقف تحدث له حالة باطنية تدفعه إلى الانتقام من معشوقه الذي لم يسايره في مطلبه ولم يحقق له غرضه ، وقد حدث مثل هذا لامرأة العزيز ، فإنّ - ها عندما أخفقت في نيل ما تريد من يوسف ، دفعها الشعور بالهزيمة والإخفاق إلى الانتقام من يوسف وهذا هو معنى قوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ )

ص: 178


1- التوبة : 74.

على الإطلاق وبلا تقييد.

ولم يكن في هذه الحالة أمام يوسف إلاّ أن يدافع عن نفسه ، ولكنّه لما استشعر بأنّ ضرب العزيزة سوف يتخذ ذريعة لبهته واتهامه ، اعتصم عن ضربها والهمّ بها ، وهذا معنى قوله : ( وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) .

وهذا المعنى هو المختار لبعض أهل التفسير ، واختاره صاحب المنار ، وسعى في تقويته بقوله : تاللّه لقد همّت المرأة بالبطش به لعصيانه أمرها وهي في نظرها سيدته وهو عبدها وقد أذلّت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه ، ومن شأن المرأة أن تكون مطلوبة لا طالبة ، ولكن هذا العبد العبراني قد عكس القضية وخرق نظام الطبيعة فأخرج المرأة من طبع أُنوثتها في دلالها وتمنعها وهبط بالسيدة المالكة من عز سيادتها وسلطانها وعندئذ همّت بالبطش به في ثورة غضبها وهو انتقام معهود من مثلها وممن دونها في كل زمان ومكان (1).

ثم إنّ بعض المعاصرين اختار المعنى المذكور غير انّه فسر ( بُرْهَانَ رَبِّهِ ) بغير الوجه المذكور في هذا الرأي بل فسره بانفتاح الباب بإرادة اللّه سبحانه حيث إنّ امرأة العزيز كانت قد غلقت الأبواب وأحكمت سدها ، وعندما وقع هذا الشجار بينها وبين يوسف ، سبق يوسف إلى الباب فراراً منها وانفتح الباب له بإرادة اللّه سبحانه ، وهذا هو برهان الرب الذي رآه ، ويدل على ذلك انّ القرآن يصرح بغلق الأبواب ولا يأتي عن انفتاح الباب بأي ذكر ، وهذا يدل على أنّ المراد من ( بُرْهَانَ رَبِّهِ ) هو فتح الباب من عند اللّه سبحانه في وجه يوسف كرامة له.

ولا يخفى ضعف هذا التفسير ، وذلك لأنّه لو كان المراد من البرهان هو

ص: 179


1- تفسير المنار : 12 / 278.

انفتاح الباب لزم ذكره عند قوله أو قبله ( وَاسْتَبَقَا الْبَابَ ) لا في الآية المتقدمة عليه ويظهر ذلك بملاحظتهما حيث قال :

( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ... ) (1).

( وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ) (2).

ترى أنّه يذكر همّه بها ورؤية البرهان في آية ثم يذكر استباقهما إلى الباب في آية أُخرى مع الفصل بينهما بذكر أُمور منها ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ ) ، فلو كان المراد من « رؤية البرهان » هو انفتاح الباب كان المناسب ذكر الاستباق قبلها.

على أنّ الظاهر من قوله « وغلّقت الأبواب » هو سدّ الأبواب لا إقفالها بمعنى وضع قفل عليها يمتنع معه فتحها بيسر ، وإنّما لم تقفلها لأنّها لم تكن تتوقع من يوسف أن لا يستجيب لها ويعصي أمرها.

المعنى الثالث للآية

انّ الهمّ من جانب يوسف هو خطور الشيء بالبال وان لم يقع العزم عليه ، وربّما يستعمل الهم في ذلك ، قال كعب بن زهير :

فكم فهموا من سيد متوسع *** ومن فاعل للخير انّ همّ أو عزم

ولا يخفى أنّ هذا التفسير عليل ، لأنّ الظاهر من الهمّ في كلا الموردين واحد ولم يكن الهمّ من جانب العزيزة إلاّ العزم ، والتفكيك بين الهمين خلاف الظاهر.

وعلى كل تقدير فقصة يوسف الواردة في القرآن تدل على نزاهته من أوّل

ص: 180


1- يوسف : 24.
2- يوسف : 25.

الأمر إلى آخره وإنّه لم يتحقّق منه عزم ولا همّ بالمخالطة لا أنّه همّ وعزم وانصرف لعلة خاصة.

ثم إنّ هناك لأكثر المفسرين أقوالاً في تفسير الآية أشبه بقصص القصّاصين ، وقد أضربنا عن ذكرها صفحاً ، فمن أراد فليرجع إلى التفاسير.

وفي مختتم البحث نأتي بشهادة العزيزة بنزاهة يوسف عند ما حصحص الحق وبانت الحقيقة وقد نقلها سبحانه بقوله : ( قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) (1) وشهدت في موضع آخر على طهارته واعتصام نفسه وقالت : ( وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ) (2).

ص: 181


1- يوسف : 51.
2- يوسف : 32.

5

عصمة موسى علیه السلام وقتل القبطي ومشاجرته أخاه
اشارة

إنّ الكليم موسى بن عمران أحد الأنبياء العظام ، وصفه سبحانه بأتم الأوصاف وأكملها ، قال عزّ من قائل : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ) (1).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ) (2).

ووصف كتابه بقوله : ( وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً ) (3).

ومع ذلك كلّه : فقد استدل المخالف بعدم عصمته بأمرين :

أحدهما : قتله القبطي وتوصيفه بأنّه من عمل الشيطان.

ثانيهما : مشاجرته أخاه مع عدم كونه مقصّراً ، وإليك البحث عن كل واحد منهما.

ص: 182


1- مريم : 51 - 53.
2- الأنبياء : 48.
3- الأحقاف : 12.
ألف : عصمة موسى علیه السلام وقتل القبطي

قال عزّ من قائل : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ المَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ) (1).

ويذكر القرآن تلك القصة في سورة الشعراء بصورة موجزة ويقول سبحانه : ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) (2).

وتدلّ الآيات على أنّ موسى علیه السلام ورد المدينة عندما كان أهلها غافلين عنه ، إمّا لأنّه ورد نصف النهار والناس قائلون ، أو ورد في أوائل الليل ، وإمّا لغير ذلك ، فوجد فيها رجلين كان أحدهما إسرائيلياً والآخر قبطياً يقتتلان ، فاستنصره الذي من شيعته على الآخر ، فنصره ، فضربه بجمع كفه في صدره فقتله ، وبعدما فرغ من أمره ندم ووصف عمله بما يلي :

1. ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) .

2. ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) .

3. ( فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ) .

4. ( فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) .

ص: 183


1- القصص : 14 - 17.
2- الشعراء : 18 - 20.

وهذه الجمل الأربع تعرب عن كون القتل أمراً غير مشروع ، ولأجل ذلك وصفه تارة بأنّه من عمل الشيطان ، وأُخرى بأنّه كان ظالماً لنفسه ، واعترف عند فرعون بأنّه فعل ما فعل وكان عند ذاك من الضالّين ثالثاً ، وطلب المغفرة رابعاً.

أقول : قبل توضيح هذه النقاط الأربع نلفت نظر القارئ الكريم إلى بعض ما كانت الفراعنة عليه من الأعمال الإجرامية ، ويكفي في ذلك قوله سبحانه : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) (1) ، ولم يكن فرعون قائماً بهذه الأعمال إلاّ بعمالة القبطيين الذين كانوا أعضاده وأنصاره ، وفي ظل هذه المناصرة ملكت الفراعنة بني إسرائيل رجالاً ونساءً ، فاستعبدوهم كما يعرب عن ذلك قوله سبحانه : ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (2) ولمّا قال فرعون لموسى : ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا ) (3) واستعلى عليه بأنّه ربّاه وليداً منذ أن ولد إلى أن كبر ... أجابه موسى بأنّه هل تمن علي بهذا وقد عبدت بني إسرائيل ؟

وعلى ذلك فقتل واحد من أنصار الطغمة الأثيمة التي ذبحت مئات بل الآف الأطفال من بني إسرائيل واستحيوا نساءهم ، لا يعد في محكمة العقل والوجدان عملاً قبيحاً غير صحيح ، أضف إلى ذلك أنّ القبطي المقتول كان بصدد قتل الإسرائيلي لو لم يناصره موسى كما يحكي عنه قوله : ( يَقْتَتِلانِ ) ، ولو قتله القبطي لم يكن لفعله أيّ رد فعل ، لأنّه كان منتمياً للنظام السائد الذي لم يزل يستأصل بني إسرائيل ويريق دماءهم طوال سنين ، فكان قتله في نظره من قبيل قتل الإنسان الشريف أحد عبيده لأجل تخلّفه عن أمره.

إذا وقفت على ذلك ، فلنرجع إلى توضيح الجمل التي توهم المستدل بها

ص: 184


1- القصص : 4.
2- الشعراء : 22.
3- الشعراء : 18.

دلالتها على عدم العصمة فنقول :

1. انّ قوله : ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) يحتمل وجهين :

الأوّل : أن يكون لفظ « هذا » إشارة إلى المناقشة التي دارت بين القبطي والإسرائيلي وانتهت إلى قتل الأوّل ، وعلى هذا الوجه ليست فيه أيّة دلالة على شيء ممّا يتوخاه المستدل ... وقد رواه ابن الجهم عن الإمام الرضا علیه السلام عندما سأله المأمون عن قوله : ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) فقال : الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى من قتله (1).

الثاني : انّ لفظ « هذا » إشارة إلى قتله القبطي ، وإنّما وصفه بأنّه من عمل الشيطان ، لوجهين :

ألف : انّ العمل كان عملاً خطأً محضاً ساقه إلى عاقبة وخيمة ، فاضطر إلى ترك الدار والوطن بعد ما انتشر سره ووقف بلاط فرعون على أنّ موسى قتل أحد أنصار الفراعنة ، وأتمروا عليه ليقتلوه ، ولولا أنّ مؤمن آل فرعون أوقفه على حقيقة الحال ، لأخذته الجلاوزة وقضوا على حياته ، كما قال سبحانه : ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ المَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (2) ، فلم تكن لهذا العمل أيّة فائدة فردية أو اجتماعية سوى إلجائه إلى ترك الديار وإلقاء الرحل في دار الغربة « مدين » ، والاشتغال برعي الغنم أجيراً لشعيب علیه السلام .

فكما أنّ المعاصي تنسب إلى الشيطان ، قال سبحانه : ( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (3) ،

ص: 185


1- البرهان : 3 / 224 ; عيون أخبار الرضا : 1 / 199.
2- القصص : 20.
3- المائدة : 90.

فكذلك الأعمال الخاطئة الناجمة من سوء التدبير وضلال السعي ، السائقة للإنسان إلى العواقب المرة ، تنسب إليه أيضاً.

فالمعاصي والأعمال الخاطئة كلاهما تصح نسبتهما إلى الشيطان بملاك أنّه عدو مضل للإنسان ، والعدو لا يرضى بصلاحه وفلاحه بل يدفعه إلى ما فيه ضرره في الآجل والعاجل ، ولأجل ذلك قال بعدما قضى عليه : ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) .

ب. انّ قتل القبطي كان عملاً ناجماً عن العجلة في محاولة تدمير العدو ، ولو أنّه كان يصبر على مضض الحياة قليلاً لنبذ القبطي مع جميع زملائه في اليم من دون أن توجد عاقبة وخيمة ، كما قال سبحانه : ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) (1).

2. وبذلك يعلم مفاد الجملة الثانية التي هي من إحدى مستمسكات المستدل أعني قوله : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) ، فإنّ الكلام ليس مساوقاً للمعصية ومخالفة المولى ، بل هو كما صرح به أئمة اللغة وقدمنا نصوصهم عند البحث عن عصمة آدم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه ، وقد عرفت أنّ عمل موسى كان عملاً واقعاً في غير موقعه ، وخاطئاً من جهتين : من جهة أنّه ساقه إلى عاقبة مرة ، حيث اضطر إلى ترك الأهل والدار والديار ، ومن جهة أُخرى أنّه كان عملاً ناشئاً من الاستعجال في إهلاك العدو بلا موجب ، ولأجل تينك الجهتين كان عملاً واقعاً في غير محله ، فصح أن يوصف العمل بالظلم ، والعامل بالظالم ، والذي يعرب عن ذلك إنّه جعله ظلماً لنفسه لا للمولى ، ولو كان معصية لكان ظلماً لمولاه وتعدياً على حقوقه ، كما هو الحال في الشرك فإنّه ظلم للمولى وتعدّ

ص: 186


1- القصص : 40.

عليه ، قال سبحانه : ( لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (1).

3. وأمّا الجملة الثالثة ، أعني قوله : ( فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، فليس طلب المغفرة دليلاً على صدور المعصية ، لأنّه بمعنى الستر ، والمراد منه إلغاء تبعة فعله وإنجاؤه من الغم وتخليصه من شر فرعون وملائه ، وقد عبر عنه سبحانه : ( وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) (2) ، وقد نجّاه سبحانه بإخبار رجل من آل فرعون عن المؤامرة عليه ، فخرج من مصر خائفاً يترقّب إلى أن وصل أرض مدين ، فنزل دار شعيب ، وقص عليه القصص ، وقال له شعيب : ( لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (3).

وبذلك غفر وستر عمله ونجاه سبحانه من أعين الفراعنة ، ومكّن له الورود إلى ماء مدين والنزول في دار أحد أنبيائه علیهم السلام .

أضف إلى ذلك : أنّ قتل القبطي وإن لم يكن معصية ولكن كان المترقب من موسى تركه وعدم اقترافه ، فصدور مثله من موسى يناسب طلب المغفرة ، فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين ، إذ ربّ عمل مباح لا يؤاخذ به الإنسان العادي ولكنّه يؤاخذ به الإنسان العارف ، فضلاً عن شخصية إلهية سوف تبعث لمناضلة طاغية العصر ، فكان المناسب لساحتها هو الصبر والاستقامة في حوادث الحياة ، حلوها ومرّها ، والفصل بين المتخاصمين بكلام ليّن ، وقد أمر به عند ما بعث إلى فرعون فأمره سبحانه أن يقول له قولاً ليناً (4) ، وقد أوضحنا مفاد هذه الكلمة عند

ص: 187


1- لقمان : 13.
2- طه : 40.
3- القصص : 25.
4- طه : 44.

البحث عن آدم وحواء إذ : ( قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (1).

4. وأمّا قوله سبحانه : ( فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) ، فالمراد من الضلال هو الغفلة عمّا يترتب على العمل من العاقبة الوخيمة ، ونسيانها ، وليس ذلك أمراً غريباً ، فقد استعمل في هذين المعنيين في الذكر الحكيم ، قال سبحانه : ( مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ) (2) ، فالمراد نسيان أحد الشاهدين وغفلته عما شهد به ، وقال سبحانه : ( أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (3) ، أي إذا غبنا فيها.

قال في لسان العرب : الضلال : النسيان وفي التنزيل : ( مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ) أي يغيب عن حفظها ، ومنه قوله تعالى : ( فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) وضللت الشيء : أنسيته. وأصل الضلال : الغيبوبة يقال ضل الماء في اللبن إذا غاب ، ومنه قوله تعالى : ( أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (4).

وعلى الجملة : إنّ كليم اللّه يعترف بتلك الجملة عندما اعترض عليه فرعون بقوله : ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ويعتذر عنها بقوله : ( فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) ، والمناسب لمقام الاعتذار هو تفسير الضلال بالغفلة عمّا يترتب على العمل من النتائج ونسيانها.

ص: 188


1- الأعراف : 23.
2- البقرة : 282.
3- السجدة : 10.
4- لسان العرب : 11 / 392 - 393 ، مادة « ضل ».

وحاصله : أنّه قد استولت عليّ الغفلة حين الاقتراف ، وغاب عني ما يترتب عليه من رد فعل ومر العاقبة ، ففعلت ما فعلت.

ومن اللحن الواضح تفسير الضلالة بضد الهداية ، كيف وانّ اللّه سبحانه يصفه قبل أن يقترف القتل بقوله : ( آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ ) (1) ، كما أنّ نفس موسى بعد ما طلب المغفرة واستشعر إجابة دعائه قال : ( رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ) (2) ، أفيصح بعد هذا تفسير الضلالة بالغواية ضد الهداية ؟! كلا ولا.

هذا كلّه حول المستمسك الأوّل ، أعني : قتل القبطي ، فهلم معي ندرس المستمسك الثاني للخصم من اتهام كليم اللّه الأعظم ، عليه وعلى جميع رسل اللّه آلاف الثناء والتحية ، بعدم العصمة.

ب. مشاجرته أخاه هارون علیه السلام

إنّ اللّه سبحانه واعد موسى - بعد أن أغرق فرعون - بأن يأتي جانب الطور الأيمن فيوفيه التوراة التي فيها بيان الشرائع والأحكام وما يحتاج إليه ، وكانت المواعدة على أن يوافي الميعاد مع جماعة من وجوه قومه ، فتعجّل موسى من بينهم شوقاً إلى ربّه وسبقهم على أن يلحقوا به ، ولمّا خاطبه سبحانه بقوله : ( وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى ) أجابه بأنّهم ( عَلَى أَثَرِي ) وورائي يدركونني عن قريب ، وعند ذلك أخبره سبحانه بأنّه امتحن قومه بعد فراقه ( وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) ، فرجع موسى من الميقات إلى بني إسرائيل حزيناً مغضباً ، فرأى أنّ السامري

ص: 189


1- القصص : 14.
2- القصص : 17.

( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً ) جسداً له صوت ، وقال : إنّه إله بني إسرائيل عامة ، وتبعه السفلة والعوام ، واستقبل موسى هارون فألقى الألواح وأخذ يعاتب هارون ويناقشه ، وهذا ما يحكيه سبحانه في سورتين ويقول : ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (1).

ويقول سبحانه : ( فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي * ... قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) (2). فهاهنا يطرح سؤالان :

1. لماذا ألقى الألواح ؟

2. لماذا ناقش أخاه وقد قام بوظيفته ؟

وإليك تحليل السؤالين بعد بيان مقدمة وهي :

إنّ موسى قد خلف هارون عندما ذهب إلى الميقات ، وقد حكاه سبحانه بقوله : ( وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) (3). وقام هارون بوظيفته في قومه ، فعند ما أضلّهم السامري ناظرهم بقوله : ( يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) (4) واكتفى في ذلك بالبيان واللوم ولم يقم في وجههم بالضرب والتأديب وقد بيّنه

ص: 190


1- الأعراف : 150.
2- طه : 86 ، 92 - 94.
3- الأعراف : 142.
4- طه : 90.

لأخيه بقوله : ( إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) .

هذا ما يخص هارون ، وأمّا ما يرجع إلى موسى ، فقد أخبره سبحانه عن إضلال السامري قومه بقوله : ( فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) (1) ، ورجع إلى قومه غضبان أسفاً وخاطبهم بقوله : ( بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ) وقال أيضاً : ( أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ ) . وفي هذا الظرف العصيب أظهر كليم اللّه غضبه بإنجاز عملين :

1. إلقاء الألواح جانباً.

2. مناقشته أخاه بقوله : ( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) ، فعند ذلك يطرح السؤالان نفسهما :

لماذا ألقى الألواح أوّلاً ؟ ولماذا ناقش أخاه وناظره وقد قام بوظيفته ثانياً ؟ فنقول :

لا شك أنّ ما اقترفه بنو إسرائيل من عبادة العجل كان من أقبح الأعمال وأفظعها ، كيف ؟! وقد أهلك اللّه عدوهم وأورثهم أرضهم ، فكان المترقب منهم هو الثبات على طريق التوحيد ومكافحة ألوان الشرك - ومع الأسف - فإنّهم كفروا بعظيم النعمة ، وتركوا عبادته سبحانه ، وانخرطوا في سلك الثنوية مع الجهل بقبح عملهم وفظاعة فعلهم.

إنّ أُمّة الكليم وإن كانت غافلة عن مدى قبح عملهم ، لكن سيدهم ورسولهم كان واقفاً على خطورة الموقف وتعدّي الأُمّة ، فاستشعر بأنّه لو لم يكافحهم بالعنف والشدة ولم يقم في وجههم بالاستنكار مع إبراز التأسف

ص: 191


1- طه : 85.

والغضب ، فربّما تمادى القوم في غيّهم وضلالهم وحسبوا أنّهم لم يقترفوا إلاّ ذنباً خفيفاً أو مخالفة صغيرة ولم يعلموا أنّهم حتى ولو رجعوا إلى الطريق المهيع ، واتّبعوا جادة التوحيد ربّما بقيت رواسب الشرك في أغوار أذهانهم ، فلأجل إيقافهم على فظاعة العمل ، قام في مجال الإصلاح مثل المدير الذي يواجه الفساد فجأة في مديريته ولا يعلم من أين تسرب إليها.

فأوّل ما يبادر إليه هو مواجهة القائم مقامه الذي خلفه في مكانه ، وأدلى إليه مفاتيح الأُمور ، فإذا ثبتت براءته ونزاهته وأنّه قام بوظيفته خير قيام حسب تشخيصه ومدى طاقته ، تركه حتى يقف على جذور الأمر والأسباب الواقعية التي أدت إلى الفساد والانهيار.

وهكذا قام الكليم بمعالجة القضية ، وعالج الواقعة المدهشة التي لو بقيت على حالها ، لانتهت إلى تسرب الشرك إلى عامة بني إسرائيل وذهب جهده طوال السنين سدى ، فأوّل رد فعل أبداه ، أنّه واجه أخاه القائم مقامه في غيبته ، بالشدة والعنف حتى يقف الباقون على خطورة الموقف ، فأخذ بلحيته ورأسه مهيمناً عليه متسائلاً بأنّه لماذا تسرب الشرك إلى قومه مع كونه فيهم ؟! ولمّا تبيّنت براءته وأنّه أدّى وظيفته كما يحكيه عنه سبحانه بقوله : ( إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) اندفع إليه بعطف وحنان ودعا له فقال : ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) . انّ طلب المغفرة (1) لنفسه وأخيه لا يدل على صدور أي خلاف منهما ، فإنّ الأنبياء والأولياء لاستشعارهم بخطورة الموقف وعظمة المسؤولية ، ما زالوا يطلبون غفران اللّه ورحمته لعلو درجاتهم كما هو واضح لمن تتبع أحوالهم ، وسيوافيك بيانه عند البحث عن عصمة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

ص: 192


1- الأعراف : 151.

وبعدما تبيّن انّ السبب الواقعي لتسرب الشرك إلى قومه هو السامري وتبعه السفلة والعوام ، أخذ بتنبيههم بقوارع الخطاب وعواصف الكلام بما هو مذكور في سورتي الأعراف وطه نكتفي ببعضها حيث خاطب عبدة العجل بقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ ) (1).

ولمّا واجه السامري خاطبه بقوله : ( فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا * إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) (2).

وبما ذكرنا يعلم أنّه لماذا ألقى الألواح وتركها جانباً ؟ فلم يكن ذاك العمل إلاّ كرد فعل على عملهم القبيح وفعلهم الفظيع إلى حد استولى الغضب على موسى فألقى الألواح التي ظل أربعين يوماً في الميقات لتلقّيها حتى يحاسب القوم حسابهم ويقفوا على أنّهم أتوا بأعظم الجرائم وأكبر المعاصي.

ص: 193


1- الأعراف : 152.
2- طه : 95 - 98.

6

عصمة داود علیه السلام وقضاؤه في النعجة
اشارة

قد وصف سبحانه داود النبي علیه السلام بأسمى ما توصف به الشخصية المثالية ، قال سبحانه : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) .

وقد ذكر ملكه وسلطنته على الجبال والطيور على وجه يمثل أقوى طاقة نالها البشر طيلة استخلافه على الأرض.

قال سبحانه : ( إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ ) (1).

فقد أخبر في الآية الأخيرة بأنّه أُوتي الحكمة وفصل الخطاب ، الذي يعد القضاء الصحيح بين المتخاصمين من فروعه وجزئياته.

ثم انّه سبحانه ينقل بعده قضاءه في « نبأ الخصم » ويقول :

( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ

ص: 194


1- ص : 18 - 20.

نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) (1).

لقد تمسكت المخطّئة لعصمة الأنبياء بقوله تعالى : ( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) حيث إنّ الاستغفار وغفرانه سبحانه له ، آية صدور الذنب.

والإجابة عن هذا الاستدلال تحتاج إلى بيان مفردات الآية وإيضاح القصة فنقول :

إنّ تفسير الآية يتم ببيان عدة أُمور :

1. توضيح مفرداتها.

2. إيضاح القصة.

3. هل الخصمان كانا من جنس البشر ؟

4. لماذا استغفر داود ، وهل كان استغفاره للذنب أو لأجل ترك الأولى ؟

وإليك بيان هذه الأُمور :

1. توضيح المفردات

« الخصم » : مصدر « الخصومة » ، أُريد به الشخصان.

ص: 195


1- ص : 21 - 26.

« التسوّر » : الارتقاء إلى أعلى السور ، وهو ما كان حائطاً ، « كالتسنم » بمعنى الارتقاء إلى أسنام البعير ، و « التذري » بمعنى الارتقاء إلى ذروة الجبال ، والمراد من المحراب في الآية الغرفة.

« الفزع » : انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف ، وهو من جنس الجزع.

« الشطط » : الجور.

« النعجة » : الأُنثى من الضأن.

والمراد من قوله : « اكفلنيها » : اجعلها في كفالتي وتحت سلطتي ، ومن قوله « عزني في الخطاب » : انّه غلبني فيه.

هذا كله راجع إلى توضيح مفردات الآية.

2. إيضاح القصة

كان داود علیه السلام جالساً في غرفته إذ دخل عليه شخصان بغير إذنه ، وكانا أخوين يملك أحدهما تسعاً وتسعين نعجة ويملك الآخر نعجة واحدة ، وطلب الأوّل من أخيه أن يعطيه النعجة التي تحت يده ، مدعياً كونه محقاً فيما يقترحه على أخيه ، وقد ألقى صاحب النعجة الواحدة كلامه على وجه هيّج رحمة النبي داود وعطفه.

فقضى علیه السلام طبقاً لكلام المدعي من دون الاستماع إلى كلام المدعى عليه ، وقال : ( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ) .

ولما تنبّه أنّ ما صدر منه كان غير لائق بساحته ، وانّ رفع الشكوى إليه كان فتنة وامتحاناً منه سبحانه بالنسبة إليه ( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) .

ص: 196

3. هل الخصمان كانا من جنس البشر ؟

إنّ القرائن الحافة بالآية تشعر بأنّ الخصمين لم يكونا من جنس البشر ، وهذه القرائن عبارة عن :

1. تسوّرهم المحراب ودخولهم عليه دخولاً غير عادي مع أنّ طبع الحال يقتضي أن يكون محرابه محفوفاً بالحرس ولا أقل بمن يطلعه على الأمر ، فلو كان الدخول بإذنهم كان داود علیه السلام مطّلعاً عليه ولم يكن هناك أيّ فزع.

2. خطاب الخصمين لداود علیه السلام بقولهم : ( لا تَخَفْ ) مع أنّ هذا الخطاب لا يصح أن تخاطب به الرعية الراعي ، وطبيعة الحال تقتضي أن يخاطب به الراعي الرعية.

3. انّ خطابهما لداود بما جاء في الآية ، أشبه بخطاب ضيف إبراهيم له علیه السلام ، يقول سبحانه : ( وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) (1) ، ويقول سبحانه : ( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) (2).

4. تنبهه علیه السلام بأنّه كان فتنة من اللّه له وامتحاناً منه ، وهي تشعر بأنّ الواقعة لم تكن عادية ، وهذا يناسب كون الدعوى مطروحة من جانبه سبحانه عن طريق الملائكة.

5. انّ الهدف من طرح تلك الواقعة كان لغاية تسديده في خلافته وحكمه بين الناس حتى يمارس القضاء بالنحو اللائق بساحته ولا يغفل عن التثبت

ص: 197


1- الحجر : 51 - 53.
2- الذاريات : 28.

ولأجل ذلك خاطبه سبحانه بعد قضائه في ذلك المورد بقوله : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ ) كل ذلك يؤيد كون الخصمين من الملائكة تمثّلوا له بصورة رجلين من الإنس.

نعم كانت القصة وطرح الشكوى عنده أمراً حقيقياً كقصة ضيف إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا بصورة الرؤيا وما أشبهها.

4. كون الاستغفار لأجل ترك الأولى

استدلت المخطّئة باستغفاره وإنابته إلى اللّه ، على صدور ذنب منه ولكنّه لا يدل على ذلك :

أمّا أوّلاً : انّ قضاءه لم يكن قضاء باتاً خاتماً للشكوى ، بل كان قضاء على فرض السؤال ، وإنّ من يملك تسعاً وتسعين نعجة ولا يقتنع بها ويريد ضم نعجة أخيه إليها ، ظالم لأخيه ، وكان المجال بعد ذلك بالنسبة إلى المعترض مفتوحاً وإن كان الأولى والأليق بساحته هو أنّه إذا سمع الدعوى من أحد الخصمين ، أن يسأل الآخر عمّا عنده فيها ولا يتسرع في القضاء ولو بالنحو التقديري.

وإنّما بادر إليه لأنّه علیه السلام فوجئ بالقضية ودخل عليه المتخاصمان بصورة غير عادية فلم يظهر منه التثبت اللائق به.

ولمّا تنبّه إلى ذلك وعرف أنّ ما وقع ، كان فتنة وامتحاناً من اللّه بالنسبة إليه ( اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) تداركاً لما صدر منه ممّا كان الأولى تركه ، أوّلاً ، وشكراً وتعظيماً لنعمة التنبّه الذي نال به فوراً بعد الزلّة ، ثانياً.

وثانياً : انّ من الممكن أن يكون قضاؤه قبل سماع كلام المدّعى عليه ، لأجل انكشاف الواقع له بطريق من الطرق وانّ الحق مع المدّعي ، فقضى بلا استماع

ص: 198

لكلام المدّعى عليه ، نعم الأولى له حتى في هذه الصورة ترك التسرع في إصدار الحكم ، والقضاء بعد الاستماع ، ولمّا ترك ما هو الأولى بحاله استغفر لذلك ، وقد تكرر منا أنّ ترك الأولى من الأنبياء ذنب نسبي وإن لم يكن ذنباً على وجه الإطلاق.

وثالثاً : لما كانت الشكوى مرفوعة إليه من قبل الملائكة ، ولم يكن ذلك الظرف ظرف التكليف ، كانت خطيئة داود في ظرف لا تكليف هناك ، كما أنّ خطيئة آدم علیه السلام كانت في الجنة ولم تكن الجنّة دار تكليف ، ومع ذلك كلّه لمّا كان التسرع في القضاء بهذا الوجه أمراً مرغوباً عنه ، استغفر داود وأناب إلى اللّه استشعاراً بخطر المسؤولية بحيث يعد ترك الأولى منه ذنباً يحتاج إلى الاستغفار.

نعم قد وردت في التفاسير أحاديث في تفسير الآية لا يشك ذو مسكة من العقل أنّها إسرائيليات تسربت إلى الأُمّة الإسلامية عن طريق أحبار اليهود ورهبان المسيحية ، فالأولى الضرب عنها صفحاً ، وسياق الآيات يكشف عن أنّ زلته لم تكن إلاّ في أمر القضاء فقط لا ما تدّعيه جهلة الأحبار من ابتلائه بما يخجل القلم عن ذكره ، ولأجله يقول الإمام علي علیه السلام في حق من وضع هذه الترهات أو نسبها إلى النبي داود علیه السلام : « لا أُوتى برجل يزعم أنّ داود تزوج امرأة « أُوريا » إلاّ جلدته حدّين : حدّاً للنبوة وحدّاً للإسلام » (1).

ص: 199


1- مجمع البيان : 4 / 472. ط. المكتبة العلمية الإسلامية - طهران.

7

عصمة سليمان علیه السلام ومسألة عرض الصافنات الجياد وطلب الملك
اشارة

إنّ سليمان النبي صلی اللّه علیه و آله أحد الأنبياء وقد ملك من القدرة أروعها ومن السيطرة والسطوة أطولها ، وآتاه اللّه الحكم والحلم والعلم ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ) (1) ، وقال عز من قائل : ( وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) (2) ، وعلّمه منطق الطير قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ) (3) ، ووصف اللّه قدرته بقوله : ( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ ) (4) ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في توصيف قدرته وسعة علمه وعلو درجاته.

روى أصحاب السير : كان سليمان صلى الصلاة الأُولى ، وقعد على كرسيه والخيل تعرض عليه حتى غابت الشمس. فقال : « آثرت حبَّ الخيل على ذكر ربّي ، وأنّ هذه الخيل شغلتني عن صلاة العصر » فأمر برد الخيل فأخذ يضرب سوقها وأعناقها ، لأنّها كانت سبب فوت صلاته (5).

ص: 200


1- النمل : 15.
2- الأنبياء : 79.
3- النمل : 16.
4- النمل : 17.
5- تفسير الطبري : 23 / 99 - 100 ; الدر المنثور : 5 / 309.

وفي بعض التفاسير أنّ المراد من « ردّوها » هو طلب رد الشمس عليه ، فردّت فصلّى العصر (1).

ويدّعي بعض هؤلاء أنّ ما ساقوه من القصة تدل عليه الآيات التالية ، أعني قوله سبحانه : ( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ) (2).

فهل لما ذكروه مسحة من الحق أو لمسة من الصدق ، أو أنّ الآيات تهدف إلى أمر آخر خفي على هؤلاء ، وأنّهم أخذوا ما ذكروه من علماء أهل الكتاب ، كما سيوافيك بيانه ؟

ونقد هذه القصة المزعومة يتوقف على توضيح مفاد الآيات حتى يقف القارئ على أنّها من قبيل التفسير بالرأي ، الممنوع ، ومن تلفيقات علماء أهل الكتاب التي حمّلت على القرآن وهو بريء منها.

أقول :

1. ( الصَّافِنَاتُ ) : جمع « الصافنة » ، وهي الخيل الواقفة على ثلاث قوائم ، الواضعة طرف السنبك الرابع على الأرض حتى يكون على طرف الحافر.

2. ( الجِيَادُ ) : جمع « الجواد » ، وهي السراع من الخيل ، كأنّها تجود بالركض.

3. ( الخَيْرِ ) : ضد « الشر » ، وقد يطلق على المال كما في قوله سبحانه : ( إِن تَرَكَ خَيْرًا ) (3) ، والمراد منه هنا هي « الخيل » ، والعرب تسمّي الخيل خيراً ، وسمّى

ص: 201


1- مجمع البيان ناسباً إلى « القيل » : 4 / 475.
2- ص : 30 - 33.
3- البقرة : 180.

النبيُّ زيد الخيل ب « زيد الخير » وقال صلی اللّه علیه و آله : « الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة » وكيف لا يكون خيراً ، وهو لم يزل يعد وسيلة الحياة في عامة الحضارات.

4. « الحب » : ضد البغض ، قال في اللسان : أحببته وحببته بمعنى واحد.

5. ( حُبَّ الخَيْرِ ) : بدل عن المفعول المحذوف ، وتقديره إنّي أحببت الخيل حبَّ الخير ، ويريد أنّ حبي للخيل نفس الحب للخير ، لأنّ الخيل كما عرفت وسيلة نجاح الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية ، خصوصاً عند الجهاد مع العدو والهجوم عليه ، ويحتمل أن يكون ( حُبَّ الخَيْرِ ) مفعولاً لا بدلاً عن المفعول.

6. ( عَن ذِكْرِ رَبِّي ) : بيان لمنشأ حبّه للخير وسببه ، وأنّ حبه له ناش عن ذكر ربّه.

وتقدير الجملة : أحببت الخير حبّاً ناشئاً عن ذكر اللّه سبحانه وأمره ، حيث أمر عباده المخلصين بالإعداد للجهاد ومكافحة الشرك وقلع الفساد بالسيف والخيل ، ولأجل ذلك قمت بعرض الخيل ، كل ذلك امتثالاً لأمره سبحانه لا إجابة لدعوة الغرائز التي لا يخلو منها إنسان كما أشار إليه سبحانه بقوله : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ ) (1).

ص: 202


1- آل عمران : 14.

ويجد نظير تلك الدعوة في الذكر الحكيم ، قال سبحانه : ( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) (1).

7. فاعل الفعل في قوله : ( حَتَّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ ) أي الصافنات الجياد والمقصود : إنّ الخيل أخذت بالركض حتى غابت عن بصره.

8. انّ الضمير في قوله : ( رُدُّوهَا ) يرجع إلى الخيل التي تدل عليها الصافنات الجياد ، والمقصود أنّه أمر بردّها عليه بعدما غابت عن بصره.

9. وعند ذلك يطرح السؤال ، وهو : أنّه لماذا أمر بالرد ، وما كان الهدف منه ؟ فبيّنه بقوله : ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ) أي شرع بمسح أعراف خيله وعراقيبها بيده تقديراً لركابها ومربيها الذين قاموا بواجبهم بإعداد وسائل الجهاد.

إلى هنا اتضح مفاد مفردات الآية وجملها ، وعلى هذا تكون الآيات هادفة إلى تصوير عرض عسكري قام به أحد الأنبياء ذوي السلطة والقدرة في أيّام ملكه وقدرته.

وحاصله : انّ سليمان النبي ( الذي أشار القرآن إلى ملكه وقدرته وسطوته وسيطرته على جنوده من الإنس والجن وتعرّفه على منطق الطير ، إلى غير ذلك من صنوف قدرته وعظمته التي خصصها به بين الأنبياء ) قام في عشية يوم بعرض عسكري ، وقد ركب جنوده من الخيل السراع ، فأخذت تركض من بين يديه إلى أنْ غابت عن بصره ، فأمر أصحابه بردّها عليه ، حتّى إذا ما وصلت إليه قام تقديراً لجهودهم بمسح أعناق الخيل وعراقيبها.

ص: 203


1- الأنفال : 60.

ولم يكن قيامه بهذا العمل صادراً عنه لجهة إظهار القدرة والسطوة أو للبطر والشهوة ، بل إطاعة لأمره سبحانه وذكره حتى يقف الموحدون على وظائفهم ، ويستعدوا للكفاح والنضال ما تمكنوا ، ويهيّئوا الأدوات اللازمة في هذا المجال (1).

وهذا هو الذي تهدف إليه الآيات وينطبق عليها انطباقاً واضحاً ، فهلّم معي ندرس المعنى الذي فرض على الآيات ، وهي بعيدة عن تحمّله وبريئة منه.

نقد التفسير المفروض على القرآن

إنّ في نفس الآيات قرائن وشواهد تدل على بطلان القصة التي اتخذت تفسيراً للآيات ، وإليك بيانها :

1. انّ الذكر الحكيم يذكر القصة بالثناء على سليمان ويقول : ( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) فاسلوب البلاغة يقتضي أن لا يذكر بعده ما يناقضه ويضادّه ، فأين وصفه بحسن العبودية والرجوع إلى اللّه في أُمور دينه ودنياه ، من انشغاله بعرض الخيل وغفلته عن الصلاة المفروضة عليه ؟!

ولو فرضت صحة الواقعة ، فلازم البلاغة ذكرها في محل آخر ، لا ذكرها بعد المدح والثناء المذكورين في الآية.

2. انّما يصح حمل قوله : ( أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي ) على ما جاء في القصة إذا تضمن الفعل ( أَحْبَبْتُ ) معنى الترجيح والاختيار ، والتقدير أي أحببت حب الخير مقدّماً إيّاه على ذكر ربّي ومختاراً إيّاه عليه ، وهو يحتاج إلى

ص: 204


1- وقد اختار هذا التفسير السيد المرتضى في تنزيه الأنبياء : 95 - 97 ، والرازي في مفاتيح الغيب : 7 / 136 ، والمجلسي في البحار : 14 / 103 - 104 من الطبعة الحديثة.

الدليل.

3. ولو قلنا بالتضمين ، فيجب أن يقال مكان ( عَن ذِكْرِ رَبِّي ) « على ذكر ربي » ، أي أحببت حب الخير واخترته على ذكر اللّه ، كما في قوله سبحانه : ( فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الهُدَى ) (1) ، وقوله تعالى : ( إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ ) (2).

4. انّ ضمير الفعل في قوله تعالى : ( تَوَارَتْ ) يرجع إلى الصافنات المذكورة في الآية ، وعلى التفسير المفروض يرجع إلى الشمس ، وليست مذكورة في الآية ، ودلالة لفظ ( بِالْعَشِيِّ ) عليها ضعيفة جداً.

5. الضمير في قوله : ( رُدُّوهَا ) - على المختار - يرجع إلى الصافنات ، وعلى التفسير المفروض يرجع إلى الشمس ، وهي غير مذكورة.

6. انّ الخطاب في قوله : ( رُدُّوهَا ) على المختار متوجه إلى رؤساء الجنود وهو واقع موقعه ، وعلى التفسير المنقول عن بعضهم (3) يكون متوجهاً إلى الملائكة ، وهو لا يناسب ، إلاّ كونه منه سبحانه لعلوّه واستعلائه ، لا من مثل سليمان بالنسبة إليهم.

7. لا شك أنّ للصفوة من عباده سبحانه ولاية تكوينية ومقدرة موهوبة على التصرّف في الكون بإذنه سبحانه ، لغايات مقدّسة لإثبات نبوّتهم وكونهم مبعوثين من اللّه سبحانه لهداية عباده ، وتدلّ عليها آيات كثيرة تعرضنا لبعضها في كتابنا مفاهيم القرآن (4). ولم يكن المقام هنا مناسباً للتحدّي حتى يتوصل إلى

ص: 205


1- فصلت : 17.
2- التوبة : 23.
3- نسبه الطبرسي إلى « القيل » كما مرَّ.
4- لاحظ الجزء الأول : 444 - 446.

الإعجاز والتصرّف في الكون بالأمر برد الشمس ، فإنّ الصلاة الفائتة لو كانت مفروضة فجبرانها بقضائها ، ولو كانت مسنونة فلا إشكال في فوتها ، فلم يكن هناك لزوم للتصرّف في الكون وأمر ملائكة اللّه بردّها حتى يأتي بالصلاة المسنونة.

8. لو كان المراد من ( رُدُّوهَا ) طلب رد الشمس من ملائكته سبحانه ، فاللازم أن يذكر الغاية من ردّها بأن يقول : حتى أتوضّأ وأُصلي ، وليس لهذا ذكر في الآية ، بل المذكور قوله : ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ) ، وهذا يعرب عن أنّ الغاية المترتبة على الرد هي مسح السوق والأعناق ، لا التوضّؤ والصلاة.

9. انّ تفسير المسح بالقطع ، تفسير بلا دليل ، إذ المتبادر من المسح هو إمرار اليد عليها لا قطعها واجتثاثها ، ولو كان هذا هو المراد ممّا ورد في القصة فالأنسب أن يقول : فطفق ضرباً بالسوق ، لا مسحاً.

10. انّ التفسير المذكور ينتهي إلى كذّاب الأحبار ، وهو كعب الذي لم يزل يدسّ في القصص والأخبار بنزعاته اليهودية ، ومن أراد أن يقف على دوره في الوضع والكذب وغير ذلك في هذا المجال فعليه أن يرجع إلى أبحاثنا في الملل والنحل.

11. انّ بعض المفسرين قاموا بتفسير قوله : ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ) بمسحها بالماء كناية عن الوضوء. وهو في ضعفه كما ترى ، إذ لو كان المراد ما ذكره ذلك البعض ، فلماذا بدل الغسل بالمسح ، والساقين بالسوق والعنق بالأعناق ، مع أنّه لم يكن لسليمان إلاّ ساقان وعنق واحد ؟

12. إنّ قتل الخيل التي عبّر عنها نفس سليمان ( بالخير ) بحجة أنّ الاشتغال بعرضها صار سبباً لفوت الصلاة أشبه بعمل إنسان لا يملك من العقل شيئاً ، وحاشا سليمان الذي آتاه اللّه الحكم والعلم وسلّطه على الأرض من الإنس

ص: 206

والجن والسماء ، من هذا العمل الذي لا يقترفه السفلة من الناس إلاّ المجانين منهم ، ولا العاديّون من السوقة ، فضلاً عن أنبياء اللّه وأوليائه المنزّهين.

وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى ما ذكره « سيد قطب » في تفسير هذه الآيات في تفسيره قال :

أمّا قصة الخيل : انّ سليمان علیه السلام استعرض خيلاً له بالعشي ، ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب ، فقال : ردّوها عليّ ، فردّوها عليه ، فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربّه.

وفي رواية : روي أنّه جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها ، لأنّها كانت خيلاً في سبيل اللّه.

ثم قال : وكلتا الروايتين لا دليل عليها ، ويصعب الجزم بشيء منها (1).

والعجب من السيد أنّه أعطى الروايتين مكانة واحدة مع أنّ الأُولى تضاد حكم العقل ، وسيرة الأنبياء والعلماء ، لذلك يسهل الجزم ببطلانها ، وأمّا الثانية فهي تنطبق على ظاهر الآيات كمال الانطباق ، وهو المروي عن حبر الأُمّة ابن عباس.

وقد نقل الرواية الأُولى عن أُناس كانوا لا يتحرّزون من الأخذ عن الأحبار المستسلمين ، فنقلها الطبري في تفسيره ، عن السدي وقتادة ، حتى أنّ الطبري مع نقله أُولى الروايتين اختار قول ابن عباس واستوجهه ، وقال : إنّ نبي اللّه لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة ، ويهلك مالاً من ماله بغير سبب سوى أنّه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها (2).

ص: 207


1- في ظلال القرآن الكريم : 23 / 100.
2- تفسير الطبري : 3 / 100.

ولا يقصر عنه ما نقله السيوطي في « الدر المنثور » من الأساطير حول هذه الخيول ، فروي عن إبراهيم التميمي أنّه قال : كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة ، فعقرها ; وفي الوقت نفسه نقل قول ابن عباس في تفسير المسح : ظل سليمان يمسح أعراف الخيل وعراقيبها (1).

هذا حال التفسير المفروض على الآية ، وهناك مستمسك آخر في مورد سليمان للمخطّئة نأتي به.

الفتنة التي امتحن بها سليمان

قال سبحانه : ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) (2).

وتوضيح مفاد الآيات يترتب على البحث عن الأُمور التالية :

1. ما هي الفتنة التي امتحن بها سليمان ؟

2. ما معنى طلب المغفرة مع التمسّك بحبل العصمة ؟

3. لماذا يطلب لنفسه الملك ؟

4. لماذا يطلب ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ؟

أمّا السؤال الأوّل : فليس في الآيات الواردة في المقام ما يكشف عن حقيقتها.

وأمّا الروايات فقد نقل أهل الحديث حول تبيين الفتنة روايات يلوح منها

ص: 208


1- الدر المنثور : 5 / 309.
2- ص : 34 - 35.

أنّها إسرائيليات ، بثّها أحبار اليهود بين المسلمين ، وقد ابتلي بها المسلمون في كثير من المجالات التفسيرية والتاريخية والعقائدية و ... فالرجاء من اللّه سبحانه أن يقيض جماعة من المثقفين والمحقّقين ويوفّقهم لتهذيب الكتب الإسلامية منها وتنقيحها عن مروياتهم.

ولكن من بين هذه الروايات ما يمكن أن يعتمد عليه ، وهو ما قيل : كان لسليمان ولد شاب ذكي كان يحبّه حبّاً شديداً ، فأماته اللّه على بساطه فجأة بلا مرض ، اختباراً من اللّه تعالى لسليمان وابتلاء لصبره في إماتة ولده ، وألقى جسمه على كرسيه (1).

ولا شك أنّ الابتلاء بموت الولد الشاب من أعظم الابتلاءات ، والصبر في هذا المجال وتفويض الأمر إلى اللّه سبحانه آية كمال النفس ، فلم يكن الهدف من الابتلاء إلاّ أن يتفتح الكمال المركوز في ذاته ، حتى يخرج من القوّة إلى الفعل ، وسنوضح فلسفة الابتلاء عند البحث عن ابتلاء إبراهيم بالكلمات فانتظر.

والعجب أن سيد قطب قد اعتمد في تفسير الفتنة على رواية يبدو أنّها من الإسرائيليات التي أخذها أبو هريرة عن كعب الأحبار ، قال : ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسير « الجسد الذي أُلقي على كرسي سليمان » سوى حديث صحيح ، في ذاته ، ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة. وهذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً ، ونصه : « قال سليمان : لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل اللّه ، ولم يقل « إن شاء اللّه » ، فطاف سليمان عليهن ، فلم تحمل إلاّ امرأة جاءت بشق رجل ، والذي نفسي بيده : لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل

ص: 209


1- تنزيه الأنبياء : 99 الطبعة القديمة.

اللّه فرساناً أجمعون ».

ثم قال السيد : وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات ، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق ، ولكن هذا مجرد احتمال (1).

نحن لا نعلّق على هذا الحديث شيئاً وإنّما نترك القضاء فيه إلى القارئ لكي يقضي فيه ، وكفى في ضعفه أنّه من مرويات أبي هريرة ، وقد وصفها سيد قطب بأنّها مجرّد احتمال كما عرفت.

وبذلك يعلم الجواب عن السؤال الثاني ، فالظاهر أنّه كان له علیه السلام فيه رجاء أو أُمنية ، فأماته وألقاه على كرسيه ، حتى يوقفه على أنّ حق العبودية تفويض الأمر إلى اللّه والتسليم إليه ، ولعل هذا المقدار من الرجاء وعقد الأُمنية على الولد يعد نحو انقطاع من اللّه إلى الولد.

وهو وإن لم يكن معصية ولكن الأليق بحال الأولياء غيره ، ولأجل ذلك لما استشعر بوظيفته التي يوجبها مقامه ، أناب إلى اللّه ورجع إليه وطلب المغفرة كما يقول سبحانه : ( ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ) .

وقد تكرر منّا أنّ طلب المغفرة ليس دليلاً على العصيان وصدور الذنب ، بل كل فعل أو ترك صدر من الرجال العارفين بحقيقة الربوبية وعمق العبودية ، وكان الأولى والأليق خلافه ، استوجب طلب الغفران ، وإن لم يكن معصية وخلافاً في منطق الشرع ، ولأجل ذلك انّ أولياء اللّه لم يزالوا مستغفرين كل يوم وليلة لسعة استشعارهم بعظمة الوظيفة في مقابل عظمة الخالق.

وأمّا السؤال الثالث : أعني طلب الملك من اللّه سبحانه ، فلم يكن الملك

ص: 210


1- في ظلال القرآن الكريم : 23 / 99.

مقصوداً لذاته ، لأنّ مثل هذا الملك لا ينفك عن الظلم والتعدّي وهضم الحقوق إلى غير ذلك مما أُشير إليه في قوله تعالى : ( إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) (1) وفي قوله عز اسمه : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) (2).

هكذا كانت طبيعة الملوكية في الأعصار الغابرة والحاضرة ، فهي مع الاستبداد والاستعباد وغصب الأموال وقتل النفوس المحترمة متلازمة ، كما هو واضح لمن لاحظ تاريخ السلاطين في الأدوار الماضية والحاضرة.

وإنّما طلب سليمان ما وراء ذلك ، فقد طلب من اللّه سبحانه الملك الذي يقوده إنسان أُوتي العلم والحكم وتشرّف بالنبوة والوحي ، ومن هذا حاله ، لا يكون الملك مطلوباً له بالذات ، وانّما يكون في طريق إحقاق الحق وإبطال الباطل والخدمة للخلق.

ولأجل أنّ المتبادر من الملك - في أذهان العامة - هو السلطة الجائرة نجد الذكر الحكيم عندما يصف اللّه ب ( المَلِكِ ) يتابعه ب ( الْقُدُّوسِ ) مشيراً إلى أنّ ملكه وسلطته تفارق سائر السلطان ، فهو في عين كونه ملكاً للعالم ، قدوس منزّه من كل عيب وشين ، ومن كل تعدّ وظلم ، فهو : ( المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ ) (3).

نقل أهل السير أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يقول : « لست بملك » مع أنّه كان حاكماً

ص: 211


1- النمل : 34.
2- الكهف : 79.
3- الحشر : 23.

إلهياً ، ورئيس دولة إسلامية أسّسها منذ بدء وروده المدينة ، ومراده هو إبعاد نفسه عمّا يتبادر إلى أذهان العامّة من سماع ذلك اللفظ ، وأنّه ليس من أُولئك الزمرة ، بل حاكم إلهي يسعى لصالح الأُمّة حسب القوانين الإلهية.

وبالجملة : فرق بين السلطة التي تستخدمها الغرائز المادية ، والسلطة التي تراقبها النبوّة ، ويكبح جماحها الخوف من اللّه ، والعشق لرضوانه ، والذي طلبه سليمان في الآية إنّما هو الثاني ، وهو عمل إلهي وخدمة للدين وعمل مقرّب ، دون الأوّل.

ولأجل أن لا تذهب أذهان الصحابة إلى المعنى المتبادر من لفظ « الملك » قام رسول اللّه بتوضيح ما طلب سليمان لنفسه من اللّه سبحانه وقال : « أرأيتم ما أُعطي سليمان بن داود من ملكه ؟ فإنّ ذلك لم يزده إلاّ تخشعاً ، ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعاً لربِّه » (1).

وقد أوضحنا حقيقة السلطة الإسلامية التي دعا إلى استقرارها الكتاب والسنّة ، وملامحها وأهدافها ، فلاحظ (2).

ومن هنا يعلم جواب السؤال الرابع : وأنّه لماذا قال : ( لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ) ؟ فإنّه لم يقل ذلك ضناً وبخلاً على الغير ، وإنّما قال ذلك ، لأنّه طلب الملك الذي لا يصلح في منطق العقل والشرع أن يمارسه غيره ، أو من هو نظيره في العلم والإيمان ، وذلك لأنّه سبحانه يبيّن ملامح هذا الحكم في آيات أُخر ويقول : ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ

ص: 212


1- روح البيان : 8 / 39.
2- لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة : الفصل الأوّل : 11 - 72.

حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) (1) فالآيات بحكم « الفاء » في قوله ( فَسَخَّرْنَا لَهُ ) تدل على أنّه لم يطلب مطلق الحكم ، وهو السلطة التي يصح أن يمارسها المتعارف من الناس خصوصاً إذا كانوا من الصلحاء ، وانّما طلب من القدرة ما يصل بها إلى تسخير الريح والجن والشياطين. ومثل هذه القدرة لا تصح في منطق العقل أن تقع في متناول المتعارف من الناس ، لأنّ وجود تلك السلطة في متناول غير المعصوم يؤدي إلى الطغيان وهدم الحدود وادّعاء الربوبية ، إلى غير ذلك من عظيم الفساد ، وإنّما تكون مقرونة بالصلاح والفلاح إذا مارسها نبي عارف بعظمة المسؤولية أمام اللّه أوّلاً ، وأمام العقل والوجدان ثانياً ، وأمام الخلق ثالثاً.

ولأجل ذلك يقول : ( لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ) ويريد منه الإنسان المتعارف غير المتمسّك بحبل العصمة ، وغير المتحلّي بالنبوة ، فإنّ هذا الملك - لما عرفت - لا ينبغي لأحد ، وإنّما ينبغي لسليمان ومن يكون بمنزلته من الصيانة والعصمة.

وإلى ما ذكرنا يشير المرتضى ويقول : إنّما التمس أن يكون ملكه آية لنبوته ، ليتبين بها عن غيره ممّن ليس بنبي وقوله : ( لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ) أراد به لا ينبغي لأحد غيري ممّن أنا مبعوث إليه ، ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيين (2).

ص: 213


1- ص : 36 - 40.
2- تنزيه الأنبياء : 100.

8

عصمة أيوب علیه السلام ومسّ الشيطان له بعذاب
اشارة

قد وصف سبحانه نبيه العظيم « أيوب » بأوصاف كبار وقال : ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (1) ، ومع ذلك كلّه فقد استدلت المخطّئة على عدم عصمته بظواهر بعض الآيات ، وهي لا تدل على ما يرتؤون وإليك تلكم الآيات :

قال سبحانه : ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) (2).

وقال سبحانه : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (3).

استدلت المخطّئة على تجويز صدور الذنب من الأنبياء بما ورد في هذه

ص: 214


1- ص : 44.
2- الأنبياء : 83 - 84.
3- ص : 41 - 44.

الآيات ممّا يوهم ذلك ، أعني قوله :

1. ( مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ ) .

2. ( بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) .

وقد ظنوا أنّ مسّ الشيطان يستلزم صدور الذنب منه ، غافلين عن أنّ هذه الجملة عبارة أُخرى عمّا ورد في سورة الأنبياء بقوله : ( مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ ) .

كما ظنوا أنّ العذاب عبارة عن العقوبة الإلهية غافلين عن أنّ العذاب عبارة عن كل ما شق على الإنسان ، وهو المراد من التعب ، والنصب ، والوجع ، والألم.

وبالجملة : لا دلالة للآية على صدور الذنب أبداً ، إنّما الكلام في بيان ما هي علّة ابتلاء أيوب بهذا الوجع والألم ؟ يتضح هذا باستعراض الآيات وتفسير مفرداتها فنقول :

قال الراغب : « الضر » : سوء الحال ، إمّا في نفسه لقلة العلم والفضل والعفة ، وإمّا في بدنه لعدم جارحة ونقص ، وإمّا في حالة ظاهرة من قلة مال وجاه ، وقوله : ( فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ) محتمل لثلاثتها.

غير أنّه يحتمل أن يكون الضر هنا بمعنى يساوق المرض ، وهو غير المعنى الثاني الذي أشار إليه الراغب ، ولأجل ذلك يقول العلاّمة الطباطبائي : الضر خصوص ما يمس النفس من الضرر كالمرض والهزال ونحوهما ، وذيل الآيات يؤيد هذا المعنى.

وأمّا « النصب » : فهو التعب ، وربّما يفتح كما قال اللّه سبحانه : ( لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ ) (1) ، يقال أنصبني كذا أي أتعبني وأزعجني.

ص: 215


1- فاطر : 35.

وأمّا « الركض » : فهو الضرب بالرجل.

هذه هي اللغات الواردة في الآية ، فإذا عرفنا معانيها فلنرجع إلى تفسير الآية ، وستعرف أنّه لا يستشم منها صدور أيّ معصية من النبي أيوب مظهر الصبر والمقاومة.

تفسير قوله : ( مَسَّنِيَ الضُّرُّ )

أمّا ما ورد في سورة الأنبياء فلا يدل على أزيد من أنّه مسّه الضر وشملته البلية ، فابتهل إليه سبحانه قائلاً : ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ، وعندئذ شملته العناية الإلهية ، فكشف اللّه عنه ما به من ضر ، ومن المحتمل جداً أنّ المراد هو المرض وشافاه اللّه من ذلك المرض الذي ابتلي به سنين ، ولم يكتف بذلك بل وآتاه أهله بإحيائهم ، مضافاً إلى مثلهم ، كل ذلك رحمة من عنده ، ولم يكن ذلك العمل إلاّ امتحاناً منه سبحانه لأيوب وغيره من العابدين ، حتى يتذكّروا ويعلموا أنّ اللّه تعالى يبتلي أولياءه ثم يؤتيهم أجرهم ، ولا يضيع أجر المحسنين ، وليس الامتحان إلاّ لأجل تفتّح الكمالات المكنونة في ذات الممتحن ، ولا تظهر تلك الكمالات إلاّ إذا وقع الإنسان في بوتقة الامتحان فتظهر حينئذ بواطنه من الكمالات والمواهب ، وقد أوضحنا ذلك في بعض مسطوراتنا ، يقول أمير المؤمنين علیه السلام في هذا المجال : « ومعنى ذلك أنّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه والراضي بقسمه وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب » (1).

ص: 216


1- نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم 93.
تفسير قوله : ( مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ )

وأمّا الآيات الواردة في سورة « ص » فهي التي وقعت ذريعة لبعض المخطّئة من أنّه سبحانه ابتلى أيوب ببعض الأمراض المنفّرة مع أنّه ليست في الآية إشارة ولا تلويح إلى ذلك إلاّ في بعض الأحاديث التي تشبه الإسرائيليات ، قال سبحانه في سورة « ص » : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) وقد عرفت معنى النصب ، وأمّا العذاب فلا يتجاوز معناه ما يؤذي الروح من سوء الحال فقوله : ( مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ ) عبارة عمّا ذكره في سورة الأنبياء بقوله : ( مَسَّنِيَ الضُّرُّ ) ، فنسب نزول النصب والعذاب في هذه الآية إلى الشيطان ولكنّه سكت عن فاعله في سورة الأنبياء ، وعندئذ يجب إمعان إلنظر في معنى هذه الجملة فنقول : إنّه يحتمل أحد معنيين :

1. أن يكون ما مسّه من الضر والمرض مستنداً إلى الشيطان بنحو من السببية والتأثير مكان استناده إلى الأسباب العادية الطبيعية ، فكما أنّ الإنسان يصيبه التعب بواسطة العلل المادية ، يصيبه التعب بنحو من مس الشيطان ، كل ذلك بإذن منه سبحانه ، وهذا المعنى هو الذي يستفاد من الروايات ، وهو وإن لم يكن له مؤيد في ظاهر الآية غير أنّه ليس من الأُمور المستحيلة ، فإنّه إذا كان للعلل الطبيعية سلطان على الأنبياء في أمراضهم فلا مانع من أن تكون للشيطان سلطة في خصوص هذا المجال لا في إضلالهم والتصرّف في قلوبهم وعقيدتهم ، كل ذلك بإذن اللّه سبحانه خصوصاً إذا كان ذلك لأجل الامتحان.

نعم أنكر الزمخشري هذا السلطان قائلاً بأنّه لا يجوز أن يسلّط اللّه الشيطان على أنبيائه ليقضي من تعذيبهم وأتعابهم وطره ، فلو قدر على ذلك لم يدع صالحاً

ص: 217

إلاّ وقد نكبه وأهلكه ، وقد تكرر في القرآن آنه لا سلطان له إلاّ الوسوسة فحسب (1).

أقول : إنّما يصح ما ذكره إذا كانت للشيطان مقدرة مطلقة وعامة على كل الصالحين والمؤمنين ، وعند ذلك لم يدع صالحاً إلاّ وقد نكبه وأهلكه ، وهو غير القول بتسلّطه على مورد خاص ، وهو أيوب بإذن منه سبحانه ، ولا دليل على امتناع القضية الجزئية ، كيف ؟ وقد حكى اللّه سبحانه عن فتى موسى وهو يوشع النبي قوله : ( فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) (2).

2. أن يكون المراد من « مس الشيطان بالنصب والعذاب » هو وسوسة الشيطان إلى الناس عندما اشتد مرض أيوب حيث حثّهم على أن يجتنبوه ويهجروه ، فكان التعيير من الناس والتكلّم منهم لكن بوسوسة من الشيطان ، ونفس هذا التعيير كان نصباً وعذاباً على أيوب ، فالمراد من النصب والعذاب هو التعيير المستند إلى وسوسة الشيطان ، وعلى كل تقدير فلا دلالة لكلمة العذاب بعد كلمة النصب على أنّه كان عقاباً منه سبحانه له ، يقول الإمام جعفر الصادق علیه السلام : « إنّ اللّه ابتلى أيوب بلا ذنب فصبر حتى عُيِّر ، وإنّ الأنبياء لا يصبرون على التعيير » (3).

وأمّا الأحاديث الواردة حول قصة أيوب من أنّه أصابه الجذام حتى تساقطت أعضاؤه ، فيقول الإمام الباقر علیه السلام في حقها : « إنّ أيوب ابتلي من غير ذنب ، وإنّ الأنبياء لا يذنبون ، لأنّهم معصومون ، مطهرون ، لا يذنبون ولا يزيغون ،

ص: 218


1- الكشاف : 3 / 16.
2- الكهف : 63.
3- بحار الأنوار : 12 / 347 نقلاً عن أنوار التنزيل.

ولا يرتكبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً ».

وقال : « إنّ أيوب مع جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة ، ولا قبحت له صورة ، ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح ، ولا استقذره أحد رآه ، ولا استوحش منه أحد شاهده ، ولا تدوّد شيء من جسده ، وهكذا يصنع اللّه عزّ وجلّ بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه ، وإنّما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره ، لجهلهم بما له عند ربِّه تعالى ذكره ، من التأييد والفرج ، وقد قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « أعظم الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل » وإنّما ابتلاه اللّه عزّ وجلّ بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلاّ يدّعوا له الربوبية ، إذا شاهدوا ما أراد اللّه أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه ، ليستدلوا بذلك على أنّ الثواب من اللّه تعالى ذكره على ضربين : استحقاق واختصاص ، ولئلاّ يحتقروا ضعيفاً لضعفه ، ولا فقيراً لفقره ، وليعلموا أنّه يسقم من يشاء ويشفي من يشاء متى شاء كيف شاء ، بأيِّ سبب شاء ، ويجعل ذلك عبرة لمن شاء وشفاء لمن شاء وسعادة لمن شاء ، وهو عزّ وجلّ في جميع ذلك عدل في قضائه ، وحكيم في أفعاله ، لا يفعل بعباده إلاّ الأصلح لهم ، ولا قوة لهم إلاّ به » (1).

وهذه الرواية - الصادرة من بيت الوحي والنبوة - تعرب عن عقيدة الأئمّة في حق الأنبياء عامة ، وفي حق النبي أيوب خاصة ، وانّ الأنبياء لا يبتلون بالأمراض المنفّرة ، لأنّها لا تجتمع مع هدف البعثة ، وأنّ ابتلاء أيوب كان لأهداف تربوية أُشير إليها في الرواية.

قال السيد المرتضى : أفتصححون ما روي من أنّ الجذام أصابه حتى تساقطت أعضاؤه ؟

ص: 219


1- الخصال : 2 / 400 ، ط الغفاري.

قلنا : أمّا العلل المستقذرة التي تنفّر من رآها وتوحشه كالبرص والجذام ، فلا يجوز شيء منها على الأنبياء ، لما تقدم ذكره (1).

وقال العلاّمة المجلسي بعد نقل الخبر المتقدم عن الإمام الباقر علیه السلام : هذا الخبر أوفق بأُصول متكلمي الإمامية من كونهم منزّهين عمّا يوجب تنفّر الطباع عنهم ، فتكون الأخبار الأُخر محمولة على محامل أُخر (2).

إلى هنا استطعنا أن نخرج بهذه النتائج في مورد هذه الروايات المرتبطة بقصة أيوب :

1. انّ الألفاظ الواردة في الآية من قوله : ( مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) لا دلالة لها على صدور الذنب.

2. انّ الروايات الواردة في بعض الكتب من إصابته بأمراض منفّرة يخالفها العقل ، وتردّها النصوص المروية عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

ص: 220


1- تنزيه الأنبياء : 64.
2- البحار : 12 / 349.

9

عصمة يونس علیه السلام وذهابه مغضباً
اشارة

إنّ المخطّئة لعصمة الأنبياء استدلوا على مقصودهم بما ورد حول قصة يونس من الآيات ، ونحن نذكر عامّة ما ورد في ذلك المجال ، ثم نستوضح مقاصدها.

فنقول : قد وردت قصته على نحو التفصيل والإجمال في سور أربع : يونس ، الأنبياء ، الصافّات ، والقلم ، وإليك الآيات :

1. ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) (1).

2. ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (2).

3. ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ ) الأنبياء : 88..

4. ( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ المَشْحُونِ * فَسَاهَمَ

ص: 221


1- يونس : 98.
2- الأنبياء : 87.

فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) (1).

5. ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (2).

هذه هي الآيات الواردة حول قصة يونس ، وبالإحاطة بها يتمكّن المفسّر من الإجابة على الأسئلة المطروحة حولها ، وإن لم تكن لبعضها صلة بالعصمة.

أمّا ما جاء من الروايات حول القصة ، فكلّها روايات آحاد لا يمكن الركون إلى الخصوصيات الواردة فيها ، بل بعض ما فيها لا يناسب ساحة الإنسان العادي فضلاً عن النبي ، ولأجله تركنا ذكرها.

والذي تضافرت عليه الروايات هو أنّه لمّا دعا قومه إلى الإسلام ، وعرف منهم الامتناع ، دعا عليهم ووقف على استجابة دعائه ، فأخبرهم بنزول العذاب ، فلمّا ظهرت أماراته كان من بينهم عالم أشار إليهم أن افزعوا إلى اللّه لعلّه يرحمكم ، ويردّ العذاب عنكم ، فقالوا : كيف نصنع ؟ قال : اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة ، وفرّقوا بين النساء والأولاد ، وبين الإبل وأولادها ... ثم ابكوا وادعوا ، فذهبوا وفعلوا ذلك ، وضجّوا وبكوا ، فرحمهم اللّه ، وصرف عنهم العذاب (3).

فنقول : توضيح مفاد الآيات يتوقف على البحث عن عدّة أُمور :

ص: 222


1- الصافات : 139 - 148.
2- القلم : 48 - 50.
3- بحار الأنوار : 14 / 380 من الطبعة الجديدة رواه جميل بن درّاج الثقة عن الصادق علیه السلام .
1. لماذا كشف العذاب عن قوم يونس دون غيرهم ؟

صريح قوله سبحانه : ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) (1).

إنّ أُمّة يونس هي الأُمّة الوحيدة التي نفعها إيمانها قبل نزول العذاب وكشف عنهم ، وذلك لأنّ « لولا » التحضيضية إذا دخلت على الفعل الماضي تفيد معنى النفي ، كما في قولك : هلا قرأت القرآن ، وعلى ذلك يكون معنى قوله سبحانه : ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ ) انّه لم يكن ذلك أبداً ، فاستقام الاستثناء بقوله : ( إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ ) ، والمعنى هلا كانت قرية من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذبوهم آمنت قبل نزول العذاب فنفعها إيمانها ، لكن لم يكن شيء من ذلك إلاّ قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي.

ولا شك أنّه قد نفع إيمان قوم يونس ولكن لم ينفع إيمان فرعون ، وعندئذ يُطرح هنا السؤال التالي : ما الفرق بين الإيمانين ؟ حيث نفع إيمانهم دون إيمان الثاني وأتباعه ، يقول سبحانه : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) (2).

ص: 223


1- يونس : 98.
2- يونس : 90 - 92.

الجواب : الفرق بين الإيمانين ، أحدث هذا الفرق ، حيث كان إيمان قوم يونس إيماناً عن اختيار ، ولأجل ذلك بقوا على إيمانهم بعد رفع العذاب ، وكان إيمان فرعون إيماناً اضطرارياً غير ناجم عن ثورة روحية على الكفر والوثنية ، بل كان وليد رؤية العذاب وهجوم الأمواج ، لا أقول : إنّ إيمان قوم يونس كان حقيقياً جدياً وإيمان الآخرين كان صورياً غير حقيقي ، بل : الكل كان حقيقياً ، وإنّما الاختلاف في كون أحدهما ناشئاً من اختيار ، والآخر ناشئاً من الاضطرار والخوف ، وبعبارة أُخرى : ناشئاً من عامل داخلي وناشئاً من عامل خارجي.

والدليل على ذلك استقرار وثبوت قوم يونس على الإيمان بعد كشف العذاب عنهم لقوله سبحانه : ( وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) ، ويقول سبحانه : ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) (1) ، والظاهر من الآية أنّ يونس بعدما نجا ممّا ابتلي به ، أرسل إلى نفس قومه ، فاستقبلوه بوجوه مشرقة وتمتعوا في ظل الإيمان إلى الوقت المؤجل في علم اللّه.

وأمّا الفراعنة فكانت سيرتهم الإيمان عند نزول العذاب والرجوع إلى الفساد وإلى ما كانوا عليه من الفساد في مجال العقيدة والعمل ، بعد كشفه ، والذكر الحكيم يصرّح بذلك في الآيات التالية : ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ) (2).

ص: 224


1- الصافات : 147 - 148.
2- الأعراف : 133 - 135.

وثبات قوم يونس على إيمانهم وعدم انحرافهم عنه بعد كشف العذاب ، ونكث الفراعنة بعد كشف الرجز عنهم ، خير دليل على أنّ إيمان القوم كان إيماناً اختيارياً ثابتاً ونابعاً عن اليقين ، وإيمان الفراعنة كان اضطرارياً ناشئاً عن الخوف.

والأوّل من الإيمانين يخرق حجب الجهل ، ويشاهد الإنسان عبوديته بعين القلب وعظمة الرب ونور الإيمان ، فيصير خاضعاً أمام اللّه ، يعبده ولا يعبد غيره.

والثاني منهما يدور مدار وجود عامل الاضطرار والإلجاء ، فيؤمن عند وجوده ويكفر بارتفاعه ، ولا يعد ذلك الإيمان كمالاً للروح ولا قيمة له في سوق المعارف ، قال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (1).

ولا شك أنّه تعلّقت إرادته التشريعية بإيمان الناس كلّهم بشهادة بعث الأنبياء وإرسال الرسل ، ولكن لم تتعلّق إرادته التكوينية بإيمانهم ، وإلاّ لم تتخلف عن مراده وأصبح الناس كلّهم مؤمنين إيماناً لا عن اختيار ، ولكن بما أنّه لا قيمة للإيمان الخارج عن إطار الاختيار والناشئ عن الإلجاء والاضطرار ، لم تتعلّق إرادته سبحانه بإيمانهم ، وإليه يشير قوله : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ) .

2. هل كان كشف العذاب تكذيباً لإيعاد يونس ؟

قد وعد سبحانه في كتابه العزيز بأنه يؤيد رسله وينصرهم ولا يكذبهم وهو عز من قائل : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) (2).

ص: 225


1- يونس : 99.
2- غافر : 51.

فلو أخبر واحد منهم عن وقوع حادثة أو نزول رحمة وعذاب على قوم ، فلابد أن يكون وضع المخبر به في المستقبل على وجه لا يلزم منه تكذيبهم ، وذلك إمّا بوقوع نفس المخبر به كما هو الحال في إخبار صالح لقومه ، حيث تنبّأ وقال : ( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) ، فلمّا بلغ الأجل المحدد ( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِّثَمُودَ ) (1) ، وإمّا بظهور علامات وأمارات دالة على صدق مقال النبي وإخباره ، وانّ عدم تحقّقه لأجل تغيير التقدير بالدعاء والعمل الصالح ، قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ) (2).

وقال عز من قائل : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (3).

هذه سنة اللّه سبحانه في إنزال النعمة والنقمة ورفعهما.

وما أخبر به يونس كان من هذا القبيل ، فقد تنبّأ بنزول العذاب ، وشاهد القوم طلائع العذاب وعلائمه (4) ، فبادروا بالتوبة والإنابة إلى اللّه حسب إرشاد عالمهم ، فكشف عنهم العذاب ، وليس في هذا تكذيب ليونس ، لو لم يكن فيه تصديق حيث وقفوا على صدق مقالته غير أنّ للّه سبحانه سنناً في الحياة ، فأخذ المعتدي باعتدائه سنّة ، والعفو عنه لإنابته أيضاً سنّة ، ولكل موضع خاص ، وهذا

ص: 226


1- هود : 65 ، 67 - 68.
2- الأعراف : 96.
3- الأنفال : 53.
4- لاحظ تفسير الطبري : 11 / 117 - 118 ; الدر المنثور : 3 / 317 - 318 ; البحار : 14 / 396 من الطبعة الحديثة.

معنى البداء الذي تقول به الإمامية ، الذي لو وقف إخواننا أهل السنّة على حقيقته لاعترفوا به من صميم القلب ، ولكن الدعايات الباطلة حالت بينهم وبين الوقوف على ما تتبناه الإمامية في هذا المضمار ، وقد أوضحنا حقيقة الحال في رسالة « البداء من الكتاب والسنّة » (1). ومن أراد الوقوف على واقع الحال فليرجع إليها.

3. أسئلة ثلاثة حول عصمته

ألف. ما معنى كونه مغاضباً ؟ ومن المغضوب عليه ؟

ب. ماذا يراد من قوله : ( فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) ؟

ج. كيف تجتمع العصمة مع اعترافه بكونه من الظالمين ؟

هذه هي الأسئلة الحسّاسة في قصة يونس علیه السلام ، وقد تمسّك بها المخطّئة ، وإليك توضيحها واحداً بعد واحد :

أمّا الأوّل : فقد زعم المخطّئة أنّ معناه أنّه خرج مغاضباً لربِّه من حيث إنّه لم ينزل بقومه العذاب.

ولكنّه تفسير بالرأي ، بل افتراء على الأنبياء ، وسوء ظن بهم ، ولا يغاضب ربَّه إلاّ من كان معادياً له وجاهلاً بحكمه في أفعاله ، ومثل هذا لا يليق بالمؤمن فضلاً عن الأنبياء.

وإنّما كان غضبه على قومه لمقامهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأسه من توبتهم ، فخرج من بينهم (2).

ص: 227


1- مطبوعة منتشرة.
2- تنزيه الأنبياء : 102.

هكذا فسّره الإمام الرضا علیه السلام عندما سأله المأمون عن مفاد الآية وقال : « ذلك يونس بن متى ذهب مغاضباً لقومه »(1).

وأمّا الثاني : أعني : ( فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) فالفعل ، أعني : ( نقدر ) ، من القدر بمعنى الضيق لا من القدرة ، قال سبحانه : ( وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللّهُ ) (2) ، وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) (3) ، فمعنى الآية أنّه ظن أن لا يضيق عليه الأمر لترك الصبر والمصابرة مع قومه ، لا بمعنى أنّه خطر هذا الظن بباله ، بل كان ذهابه وترك قومه يمثل حالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر اللّه ، فكانت مفارقته قومه ممثلة لحال من يظن بمولاه ذلك.

وأمّا تفسيره بأنّه ظن أنّه سبحانه لا يقدر عليه ، فهو تفسير بما لا تصح نسبته إلى الجهلة من الناس فضلاً عن الأولياء والأنبياء.

وبما أنّ مفارقته قومه بلا إذن منه سبحانه - كان يمثل حال من يظن أن لا يضيّق مولاه عليه - ابتلاه اللّه بالحوت فالتقمه.

فوقف على أنّه ترك ما هو الأولى فعلاً ، فندم على عمله ( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ ) .

ونقل الزمخشري في كشّافه : عن ابن عباس أنّه دخل على معاوية فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة ، فغرقت فيها ، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلاّ بك ، قال : وما هي يا معاوية ؟ فقرأ هذه الآية وقال : أو يظن نبي اللّه أن لا يقدر عليه ؟

ص: 228


1- بحار الأنوار : 14 / 387.
2- الطلاق : 7.
3- الإسراء : 30.

قال : هذا من القدر لا من القدرة. ثم أضاف صاحب الكشاف : يصح أن يفسر بالقدرة على معنى « أن لن نعمل فيه قدرتنا » ، وأن يكون من باب التمثيل ، بمعنى فكانت حاله ممثلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر اللّه ، ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ثم يردعه ويردّه بالبرهان ، كما يفعل المؤمن المحقق بنزعات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت (1).

ولا يخفى أنّ ما نقله عن ابن عباس هو المعتمد ، بشهادة استعماله في القرآن بمعنى الضيق ، وهو المناسب لمفاد الآية ، وأمّا الوجهان الآخران فلا يصح الركون إليهما ، خصوصاً الوجه الأخير ، لأنّ الأنبياء أجل شأناً من أن تحوم حول قلوبهم الهواجس الشيطانية حتى يعودوا إلى معالجتها بالبرهان ، فليس له سلطان على المخلصين من عباده ، وقد اعترف بذلك الشيطان وقال كما يحكيه سبحانه : ( إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ) (2).

وأمّا السؤال الثالث : فقد مرّ أنّ الظلم في اللغة بمعنى وضع الشيء في غير موضعه ، ولا شك أنّ مفارقته قومه وتركهم في الظرف القلق العصيب كان أمراً لا يترقب صدوره منه ، وإن لم يكن عصياناً لأمر مولاه ، فالعطف والحنان المترقب من الأنبياء غير ما يترقب من غيرهم ، فلأجل ذلك كان فعله واقعاً غير موقعه.

ومن المحتمل أن يكون الفعل الصادر منه في غير موقعه هو طلبه العذاب لقومه وترك المصابرة ، ويؤيده قوله سبحانه : ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) (3) ، فالظاهر أنّ متعلّق النداء في الآية

ص: 229


1- الكشاف : 2 / 335 - 336.
2- ص : 83.
3- القلم : 48.

طلب نزول العذاب على قومه بقرينة قوله : ( وَهُوَ مَكْظُومٌ ) ، أي كان مملوءاً غيضاً أو غماً ، والمعنى : يا أيّها النبي لا تكن مثل صاحب الحوت ، ولا يوجد منك مثل ما وجد منه من الضجر والمغاضبة ، فتُبتلى ببلائه ، فاصبر لقضاء ربك ، فإنّه يستدرجهم ويملي لهم ولا تستعجل لهم العذاب لكفرهم.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ سبب لومه وردعه كان أمراً ثالثاً ، وهو أنّه لمّا وقف على نجاة أُمّته غضب وترك المنطقة (1).

والوجهان : الأوّل والثاني هما الصحيحان.

وممّا ذكرنا يعلم مفاد قوله سبحانه : ( إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ المَشْحُونِ ) ، فشبّه حاله بالعبد الآبق ، وذلك لما مرّ من أنّ خروجه في هذه الحال كان ممثلاً لإباق العبد من خدمة مولاه ، فأخذه اللّه بذلك.

وعلى كل تقدير فالآيات تدل على صدور عمل منه كان الأليق بحال الأنبياء تركه ، وهو يدور بين أُمور ثلاثة : أمّا ترك قومه من دون إذن ، أو طلب العذاب وكان الأولى له الصبر ، أو غضبه على نجاة قومه.

إلى هنا تم توضيح الآيات المهمة التي وقعت ظواهرها ذريعة لأُناس يستهترون بالقيم والفضائل ويستهينون بأكبر الواجبات تجاه الشخصيات الإلهية ، وبقي الكلام في عصمة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ونفيض القول فيها في البحث الآتي.

ص: 230


1- بحار الأنوار : 14 / 38.
الطائفة الثالثة: عصمة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وما تمسّكت به المخطّئة
اشارة

عصمة النبي الخاتم من العصيان والخطأ ، من فروع عصمة الأنبياء كلّهم ، فما دلّت على عصمتهم من الآيات ، تدلّ على عصمته أيضاً بلا إشكال ، ولا نحتاج بعد ذلك إلى إفراد البحث عنه في هذا المجال ، فقد أفاض اللّه عليه ذلك الكمال كما أفاض على سائر الأنبياء من غير استثناء ، فهو معصوم في المراحل الثلاث التالية :

1. مرحلة تلقّي الوحي وحفظه وأدائه إلى الأُمّة.

2. مرحلة القول والفعل ، وعلى ذلك ، فهو من عباده المكرمين الذين لا يعصون اللّه ما أمرهم وهم بأمره يعملون.

3. مرحلة تطبيق الشريعة وغيرها من الأُمور المربوطة بحياته ، فهو صلی اللّه علیه و آله لا يسهو ولا يخطأ في حياته الفردية والاجتماعية.

وما دلّ على عصمة تلك الطائفة في هذه المراحل الثلاث دلّ على عصمته فيها أيضاً.

ص: 231

نعم هناك آيات بالخصوص دالّة على عصمته من العصيان ومصونيته من الخطأ ، كما أنّ هناك آيات وردت في حقه وقعت ذريعة لمنكري العصمة ، ولأجل ذلك أفردنا بحثاً خاصاً في هذا المقام لنوفيه حقه.

أمّا ما يدل على عصمته من العصيان والخلاف ، فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) (1).

وقد ذكر المفسرون أسباباً لنزولها بما لا يناسب ساحة النبي صلی اللّه علیه و آله أوضحها ما ذكره الطبرسي في مجمعه : أنّ المشركين قالوا له : كف عن شتم آلهتنا ، وتسفيه أحلامنا ، واطرد هؤلاء العبيد والسقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان (2) حتى نجالسك ونسمع منك ، فطمع في إسلامهم ، فنزلت الآية (3).

ولتوضيح مفاد الآيات نبحث عن أُمور :

1. أنّ الآيات كما سنرى تشير إلى عصمته ، ومع ذلك استدلت المخطّئة بها على خلافها ، وهذا من عجائب الأُمور ، إذ لا غرو في أنّ تتمسك كل فرقة بقسم من الآيات على ما تتبنّاه ، وإنّما العجب أن تقع آية واحدة مطرحاً لكلتا الفرقتين ، فيفسرها كلٌّ حسب ما يتوخّاه ، مع أنّ الآية لا تتحمل إلاّ معنى واحداً لا معنيين متخالفين.

2. انّ الضمير في كلا الفعلين ( كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) يرجع إلى المشركين ،

ص: 232


1- الإسراء : 73 - 75.
2- الصنان : نتن الإبط.
3- مجمع البيان : 3 / 431.

ويدل عليه سياق الآيات ، والمراد من ( الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) هو القرآن بما يشتمل عليه من التوحيد ونفي الشريك ، والسيرة الصالحة ، والمراد من الفتنة في ( لَيَفْتِنُونَكَ ) هو الإزلال والصرف ، كما أنّ الخليل من الخُلَّة بمعنى الصداقة لا من الخَلّة بمعنى الحاجة.

3. انّ قوله : ( وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) يخبر عن دنو المشركين من إزلاله وصرفه عمّا أُوحي إليه ، لا عن دنو النبي وقربه من الزلل والانصراف عمّا أُوحي إليه ، وبين المعنيين فرق واضح.

4. انّ قوله سبحانه : ( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ) مركب من جملتين ، إحداهما شرطية ، والأُخرى جزائية ، أمّا الأُولى فقوله : ( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ ) ، وأمّا الأُخرى فقوله : ( لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ) ، وبما أنّ لولا في الآية امتناعية (1) ، تدل على امتناع الجزاء لوجود التثبيت ، مثل قولنا : لولا علي لهلك عمر ، فامتنع هلاكه لوجوده.

5. وليس الجزاء هو الركون بمعنى الميل ، بل الجزاء هو القرب من الميل والانصراف كما يدل عليه قوله : ( لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ ) ، فامتنع القرب من الميل فضلاً عن نفس الميل لأجل وجود تثبيته.

6. انّ تثبيته سبحانه لنبيّه لم يكن أمراً مختصاً بالواقعة الخاصّة ، بل كان أمراً عامّاً لجميع الوقائع المشابهة لتلك الواقعة ، لأنّ السبب الذي أوجب إفاضة التثبيت عليه فيها ، يوجب إفاضته عليه في جميع الوقائع المشابهة ، ولا معنى

ص: 233


1- يقول ابن مالك : لولا ولوما يلزمان الابتدا *** إذا امتناعاً بوجود عقدا والشرط في الآية مؤوّل إلى الاسم أي لولا تثبيتنا ، لقد كدت تركن إليهم.

لخصوصية المعلول والمسبب مع عمومية العلة ، وعلى ذلك تكون الآية من دلائل عصمته في حياته ، وسداده فيها على وجه العموم.

وتوهم اختصاصها بالواقعة التي تآمر المشركون فيها لإزلاله من كلمات رماة القول على عواهنه.

7. انّ التثبيت في مجال التطبيق فرع التثبيت في مجال التفكير ، إذ لا يستقيم عمل إنسان مالم يتم تفكيره ، وعلى ذلك يفاض على النبي السداد مبتدئاً من ناحية التفكّر منتهياً إلى ناحية العمل ، فهو في ظل هذا السداد المفاض ، لا يفكّر بالعصيان والخلاف فضلاً عن الوقوع فيه.

8. انّ تسديده سبحانه ، لا يخرجه عن كونه فاعلاً مختاراً في عامة المجالات : الطاعة والمعصية ، فهو بعد قادر على النقض والإبرام والانقياد والخلاف ، ولأجل ذلك يخاطبه في الآيات السابقة بقوله : ( إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) .

وعلى ضوء ما ذكرنا فالآية شاهدة على عصمته ، ودالة على عنايته سبحانه برسوله الأكرم فيراقبه ويراعيه ولا يتركه بحاله ، ولا يكله إلى نفسه ، كل ذلك مع التحفّظ على حريته واختياره في كل موقف.

فقوله سبحانه : ( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ) نظير قوله : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ ) (1) لكن الأوّل راجع إلى صيانته عن العصيان ، والثاني ناظر إلى سداده عن السهو والخطاء في الحياة ، وسيوافيك توضيح الآية الثانية في البحث الآتي.

ص: 234


1- النساء : 113.

وفي الختام نذكر ما أفاده الرازي في المقام : قال : احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية بوجوه :

الأوّل : انّها دلّت على أنّه صلی اللّه علیه و آله قرب من أن يفتري على اللّه ، والفرية على اللّه من أعظم الذنوب.

الثاني : انّها تدل على أنّه لولا أنّ اللّه تعالى ثبته وعصمه لقرب أن يركن إلى دينهم.

الثالث : أنّه لولا سبق جرم وجناية لم يحتج إلى ذكر هذا الوعيد الشديد.

والجواب عن الأوّل : أنّ « كاد » معناها المقاربة ، فكان معنى الآية قرب وقوعه في الفتنة ، وهذا لا يدل على الوقوع.

وعن الثاني : أنّ كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء ، لثبوت غيره ، نقول : « لولا علي لهلك عمر » ومعناه أنّ وجود علي علیه السلام منع من حصول الهلاك لعمر ، فكذلك هاهنا فقوله : ( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ ) معناه لولا حصل تثبيت اللّه لك يا محمد ، فكان تثبيت اللّه مانعاً من حصول ذلك الركون.

وعن الثالث : انّ التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها ، والدليل عليه آيات منها قوله تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) الآيات ، وقوله تعالى : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ ) وقوله : ( وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ ) (1).

أدلة المخطّئة
اشارة

لقد اطّلعت في صدر البحث على عصمة النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله على أنّ هناك

ص: 235


1- مفاتيح الغيب : 5 / 420.

آيات وردت في حق النبي صلی اللّه علیه و آله قد صارت ذريعة لبعض المخطّئة الذين يحاولون إنكار العصمة ، وهي عدة آيات :

الأُولى : العصمة والخطابات الحادة

هناك آيات تخاطب النبي بلحن حاد وتنهاه عن اتّباع أهواء المشركين ، والشرك باللّه ، والجدال عن الخائنين ، وغير ذلك ، ممّا يوهم وجود أرضية في نفس النبي صلی اللّه علیه و آله لصدور هذه المعاصي الكبيرة عنه ، وإليك هذه الآيات مع تحليلها :

1. ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (1).

وقد جاءت الآية في نفس هذه السورة بتفاوت في الذيل ، فقال بدل قوله : ( مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) ، ( إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) (2) ، كما جاءت أيضاً في سورة الرعد ، غير أنّه جاء بدل قوله : ( وَلا نَصِيرٍ ) ( وَلا وَاقٍ ) .

وعلى أي حال فقد تمسّكت المخطّئة بالقضية الشرطية على أرضية متوقعة في نفس النبي لاتّباع أهوائهم وإلاّ فلا وجه للوعيد.

ولكن الاستدلال على درجة من الوهن ، إذ لا تدل القضية الشرطية إلاّ على الملازمة بين الشرط والجزاء ، لا على تحقّق الطرفين ، ولا على إمكان تحقّقهما ، وهذا من الوضوح بمكان ، قال سبحانه : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا ) (3) ، وليس فيها أيّ دلالة على تحقّق المقدّم أو التالي ، وبما ذكرنا يتضح حال الآيتين

ص: 236


1- البقرة : 120.
2- البقرة : 145.
3- الأنبياء : 22.

التاليتين :

2. انّه سبحانه يخاطب النبي صلی اللّه علیه و آله بقضايا شرطية كثيرة قال سبحانه : ( وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ) (1).

ومن المعلوم المقطوع به أنّه سبحانه لا يستلب منه ما أوحى إليه.

3. قال سبحانه : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (2) ، وقال أيضاً : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (3) ، فهذه الآيات ونظائرها التي تحكي عن القضية الشرطية لا تدلّ على ما يرتئيه الخصم بوجه من الوجوه ، أي وجود أرضية متوقعة لصدور هذه القضايا ، وذلك لوجهين :

ألف : أنّ هذه الآيات تخاطب النبي صلی اللّه علیه و آله بما أنّه بشر ذو غرائز جامحة بصاحبها ، ففي هذا المجال يصح أن يخاطب النبي بأنّه لو فعل كذا لقوبل بكذا ، وهذا لا يكون دليلاً على إمكان وقوع العصيان منه بعدما تشرّف بالنبوّة وجُهّز بالعصمة وعُزِّز بالرعاية الربانية ، فالآيات التي تخاطب النبي صلی اللّه علیه و آله بما هو بشر لا تعم ذلك المجال.

ب : أنّ هذه الآيات تركز على الجانب التربوي ، والهدف تعريف الناس بوظائفهم وتكاليفهم أمام اللّه سبحانه ، فإذا كان النبي صلی اللّه علیه و آله - نبي العظمة - محكوماً

ص: 237


1- الإسراء : 86 - 87.
2- الزمر : 65.
3- الحاقة : 44 - 47.

بهذه الأحكام ومخاطباً بها ، فغيره أَولى أن يكون محكوماً بها.

وعلى ذلك فتكون الآيات واردة مجرى : « إياك أعني واسمعي يا جارة » ، فهؤلاء الذين يتخذون تلك الآيات وسيلة لإنكار العصمة ، غير مطّلعين على « ألف باء » القرآن ، وبذلك يظهر مفاد كثير من الآيات النازلة في هذا المجال ، يقول سبحانه عندما يأمره بالصلاة إلى المسجد الحرام :

4. ( الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ) (1) ، ويريد بذلك تعليم الناس أن لا يقيموا وزناً لإرجاف المرجفين في العدول بالصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام ، كما يحكي سبحانه وتعالى عنهم بقوله : ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ) (2).

5. انّه سبحانه يبطل إلوهية المسيح علیه السلام بحجّة أنّه وليد مريم علیهاالسلام بأنّ تولده بلا أب يشبه تكوّن آدم من غير أب ولا أُم ، قال سبحانه : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ، فعند ذلك يخاطب النبي صلی اللّه علیه و آله بقوله : ( الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ المُمْتَرِينَ ) (3).

ولا شك أنّ الخطاب جرى مجرى ما ذكرنا : « إياك أعني واسمعي يا جارة » ، فإنّ النبي الأعظم بعدما اتصل بعالم الغيب وشاهد ورأى الملائكة وسمع كلامهم ، هل يمكن أن يتسرّب إليه الشك حتى يصح أن يخاطب بقوله : ( فَلا تَكُن مِّنَ المُمْتَرِينَ ) على الجد والحقيقة ؟

6. انّه سبحانه يخاطب النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله عندما جلس على كرسي القضاء

ص: 238


1- البقرة : 147.
2- البقرة : 142.
3- آل عمران : 59 - 60.

بقوله : ( وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ) (1).

فالآية تكلّف النبي أن لا يدافع عن الخائن ، ومن الواضح أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لم يكن في زمن حياته مدافعاً عن الخائن ، وانّما هو خطاب عام أُريد منه تربية المجتمع وتوجيهه إلى هذه الوظيفة الخطيرة ، وبما أنّ أكثر الناس لا يتحمّلون الخطاب الحاد ، بل يكون مرّاً في أذواق أكثرهم ، اقتضت الحكمة أن يكون المخاطب ، غير من قصد له الخطاب.

7. وعلى ذلك يحمل قوله سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) (2).

وأخيراً نقول : إنّ سورة الإسراء تحتوي على دساتير رفيعة المستوى ، ترجع إلى وظائف الأُمّة : الفردية والاجتماعية ، وهو سبحانه يبتدئ الدساتير بقوله : ( لا تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولا ) (3) ، وفي الوقت نفسه يختمها بنفس تلك الآية باختلاف يسير فيقول : ( وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ) (4).

فهذه الخطابات وأشباهها وإن كانت موجهة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله لكن قصد بها عامة الناس لنكتة سبق ذكرها ، وإلاّ فالنبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله أعظم من أن يشرك باللّه تعالى بعد تشرّفه بالنبوّة ، كيف ، وهو الذي كافح الوثنية منذ نعومة أظفاره إلى أن بعث نبيّاً لهدم الشرك وعبادة غير اللّه تبارك وتعالى.

ص: 239


1- النساء : 107.
2- النساء : 105.
3- الإسراء : 22.
4- الإسراء : 39.

وقس على ذلك كلّما يمرُّ عليك من الآيات التي تخاطب النبي صلی اللّه علیه و آله بلحن شديد ، فتفسير الجميع بالوجهين اللّذين قدمنا ذكرهما.

الآية الثانية : العصمة والعفو والاعتراض

كان النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله بصدد خلق مجتمع مجاهد يقف في وجه الروم الشرقية ، فأذن بالجهاد إلى ثغرها ( تبوك ) ، فلبّت دعوته زرافات من الناس بلغت ثلاثين ألف مقاتل ، إلاّ أنّ المنافقين أبوا الاشتراك في صفوف المجاهدين ، فتعلّقوا بأعذار واستأذنوا في الإقامة في المدينة ، وأذن لهم النبي الأكرم ، وفي هذا الشأن نزلت الآية التالية :

( عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) (1).

والآية تصرّح بعفوه سبحانه عنه كما يقول : ( عَفَا اللّهُ عَنكَ ) ، كما تتضمن نوع اعتراض على النبي حيث أذن لهم في عدم الاشتراك ، كما يقول سبحانه : ( لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ) ، وعندئذ يفرض هذا السؤال نفسه :

ألف : كيف يجتمع العفو مع العصمة ؟

ب : ما معنى الاعتراض على إذن النبي ؟

أقول : أمّا الجملة الأُولى : فتوضيحها بوجهين :

الأوّل : أنّها إنّما تدل على صدور الذنب - على فرض التسليم - إذا كانت جملة خبرية حاكية عن شمول عفوه سبحانه للنبي في الزمان الماضي ، وأمّا إذا

ص: 240


1- التوبة : 43.

كانت خبرية ولكن أُريد منها الإنشاء وطلب العفو ، كما في قوله : ( أيّدك اللّه ) ( غفر اللّه لك ) ، فالدلالة ساقطة ، إذ طلب العفو والمغفرة للمخاطب نوع دعاء وتقدير وتكريم له.

الثاني : ليس على أديم الأرض إنسان يستغني عن عفوه ومغفرته سبحانه حتى الأولياء والأنبياء ، لأنّ الناس بين كونهم خاطئين في الحياة الدنيا ، وكونهم معصومين ، ووظيفة الكل هي الاستغفار.

أمّا الطائفة الأُولى فواضحة ، وأمّا الثانية فلوقوفهم على عظمة الرب وكبر المسؤولية ، وانّ هنا أُموراً كان الأليق تركها ، أو الإتيان بها ، وإن لم يأمر بها الرب أمر فرض ، أو لم ينه عنها نهي تحذير ، والمترّقب منهم غير المترقب من غيرهم.

ولأجل ذلك كان الأنبياء يستغفرون كل يوم وليلة قائلين : « ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك ».

وحاصل الوجهين : أنّ طلب العفو نوع تكريم واحترام للمخاطب بصورة الدعاء ، وليس إخباراً عن واقعية محقّقة حتى يستلزم صدور ذنب من المخاطب ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ كل إنسان مهما كان في الدرجة العالية من التقوى ، يرى في أعماله حسب عرفانه واستشعاره عظمة الرب وكبر المسؤولية ، أنّ ما هو الأليق خلاف ما وقع منه ، فتوحي إليه نفسه الزكية ، طلب العفو والمغفرة لإزالة آثار هذا التقصير في الآجل والعاجل.

وأمّا الجملة الثانية :

فلا شك أنّها تتضمن نوع اعتراض على النبي صلی اللّه علیه و آله لكن لا على صدور ذنب أو خلاف منه ، بل لأنّ إذنه كان مفوتاً لمصلحة له ، وهو معرفة الصادق في إيمانه

ص: 241

من الكاذب في ادّعائه ، كما يعرب عنه قوله : ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) .

توضيحه : أنّ المنافقين كانوا مصمّمين على عدم الخروج مع المؤمنين إلى غزو الروم ، وكان لهم تخطيط في غياب النبي صلی اللّه علیه و آله أبطله النبي صلی اللّه علیه و آله بتخليفه علياً مكانه ، قال سبحانه : ( وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) (1) ، والآية تدلُّ على أنّهم كانوا عازمين على الإقامة في المدينة ، وكان الاستئذان نوع تغطية لقبح عملهم حتى يتظاهروا بأنّ عدم ظعنهم مع المؤمنين كان بإذن من النبي صلی اللّه علیه و آله .

ومن جانب آخر أنّهم لو خرجوا مع المسلمين ما زادوهم إلاّ فتنة وخبالاً وإضعافاً لعزائم المؤمنين ، وفيهم سمّاعون لهم يتأثرون بدعاياتهم وإغوائهم كما يقول سبحانه : ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (2).

وبما أنّهم كانوا عازمين على القعود أوّلاً ، وعلى الإضرار والفتنة في جبهات الحرب ثانياً ، لذلك لم يكن في الإذن أيّة تبعة سوى فوت تميّز الخبيث من الطيب ، ومعرفة المنافق من المؤمن ، إذ لو لم يأذن لهم لظهر فسقهم وتمردهم على كلام النبي صلی اللّه علیه و آله ، ومثل هذا لا يعد عمل خلاف حتى يكون الاعتراض عليه دليلاً على صدور الذنب.

ولو كانت المخطّئة عارفة بأساليب البلاغة وفنون الكلام لعرفت أنّ اسلوب

ص: 242


1- التوبة : 46.
2- التوبة : 47.

الكلام في الآية ، اسلوب عطف وحنان ، وأشبه باعتراض الولي الحميم ، على الصديق الوفي ، إذا عامل عدوه الغاشم بمرونة ولين ، فيقول بلسان الاعتراض : لماذا أذنت له ، ولم تقابله بخشونة حتى تعرف عدوك من صديقك ، ومن وفى لك ممّن خانك ، على أنّه وإن فات النبي معرفة المنافق عن هذا الطريق لكنه لم يفته معرفته من طريق آخر ، صرح به القرآن في غير هذا المورد ، فإنّ النبي الأكرم كان يعرف المنافق من المؤمن بطريقين آخرين :

1. كيفية الكلام ، ويعبّر عنه القرآن بلحن القول ، وذلك أنّ الخائن مهما أصر على كتمان خيانته ، تظهر بوادرها في ثنايا كلامه ، قال أمير المؤمنين علیه السلام : « ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » (1). وفي ذلك يقول سبحانه : ( وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) (2).

2. التعرّف عليهم بتعليم منه سبحانه قال : ( مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ) (3) ، والدقة في الآية تفيد بأنّ اللّه سبحانه يجتبي من رسله من يشاء ويطلعه على الغيب ، ويعرف من هذا الطريق الخبيث ويميّزه عن الطيب.

وعلى ذلك فلم يفت على النبي الأكرم شيء وإن فاتته معرفة المنافق من هذا الطريق ، ولكنّه وقف عليها من الطريق الآخر أو الطريقين الآخرين.

ص: 243


1- نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم 26.
2- محمد : 30.
3- آل عمران : 179.
الآية الثالثة : العصمة والأمر بطلب المغفرة

إنّه سبحانه يأمر نبيّه الأعظم ، بطلب الغفران منه ويقول مخاطباً رسوله : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) . (1) ويقول سبحانه : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ) (2). وعندئذ يخطر في ذهن الإنسان : كيف تجتمع العصمة مع الأمر بطلب الغفران ؟

أقول : التعرّف على ما مرّ في الآيتين ونظائرهما ، رهن الوقوف على الأصل المسلَّم بين العقلاء ، وهو أنّ عظمة الشخصية وخطر المسؤولية متحالفان ، وربَّ عمل يُعد صدوره من شخص جرماً وخلافاً ، وفي الوقت نفسه لا يعد صدوره من إنسان آخر كذلك.

توضيح ذلك : انّ الأحكام الشرعية تنقسم إلى واجب وحرام ومستحب ومكروه ومباح ، ولا محيص عن الإتيان بالواجب وترك الحرام ، نعم هناك رخصة في ترك المستحب والإتيان بالمكروه ولكن المترقب من العارف بمصالح الأحكام ومفاسدها ، تحلية الواجبات بالمستحبات ، وترك المحرمات مع ترك المكروهات ولا يقصر عنه المباح ، فهو وإن أباحه اللّه سبحانه ولكن ربّما يترجح فعله على تركه أو العكس لعنوان ثانوي.

فالعارف بعظمة الرب يتحمّل من المسؤولية ما لا يتحمله غيره ، فيكون المترقّب منه غير ما يترقّب من الآخر ، ولو صدر منه ما لا يليق ، وتساهل في هذا

ص: 244


1- النساء : 105 - 106.
2- محمد : 19.

الطريق ، يتأكد منه الاستغفار وطلب المغفرة ، لا لصدور الذنب منه ، بل من باب قياس عمله إلى علو معرفته وعظمة مسؤوليته.

وإن شئت فاستوضح ذلك من ملاحظة حال المتحضر والبدوي ، فالمرجوّ من الأوّل القيام بالآداب والرسوم الرائجة في الحضارات الإنسانية ، ولكن المرجوّ من الثاني أبسط الرسوم والآداب ، فما ذلك إلاّ لاختلافهما من ناحية التربية والمعرفة ، كما أنّ الترقب من نفس المتحضرين مختلف جداً ، فالمأمول من المثقف أشد وأكثر من غيره كما أنّ الانضباط المرجو من الجندي يغاير المترقب من غيره ، والغفلة القصيرة من العاشق يعد جرماً وخلافاً في منطق العشق ، وليست كذلك إذا صدرت من غيره.

وهذه الأمثلة ونظائرها الوافرة تثبت الأصل الذي أوعزنا إليه في صدر البحث من أنّ عظمة الشخصية وكبر المسؤولية متحالفان وأنّ الوظائف لا تنحصر في الإتيان بالواجبات ، والتحرّز عن المحظورات بل هناك وظائف أُخرى ، وكلّما زاد العلم والعرفان توفرت الوظائف وتكثرت المسؤوليات ، ولأجل ذلك تُعدّ بعض الغفلات أو اقتراف المكروهات من الأولياء ذنباً ، وهو في الواقع ليس بالنسبة إليهم ذنباً مطلقاً ، بل ذنباً إذا قيس إلى ما أُعطوا من الإ يمان والمعرفة ولو قاموا بطلب المغفرة والعفو ، فإنّما هو لأجل هذه الجهات.

نرى أنّ شيخ الأنبياء نوحاً علیه السلام يقول : ( رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا ) (1).

ويقتفيه إبراهيم علیه السلام ويقول : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ

ص: 245


1- نوح : 28.

الحِسَابُ ) (1).

ويقول النبي الأعظم : ( سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ ) (2).

والمنشأ الوحيد لهذا الطلب مرّة بعد أُخرى هو وقوفهم على أنّ ما قاموا به من الأعمال والطاعات وإن كانت في حد نفسها بالغة حدّ الكمال لكن المطلوب والمترقّب منهم أكمل وأفضل منه.

وعلى ذلك يحمل ما رواه مسلم في صحيحه ، عن المزني ، عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « ليُغان على قلبي وإنّي لأستغفر اللّه في اليوم مائة مرّة » (3).

وقد ذكر المحدّثون حول الحديث نكات عرفانية من أراد التعرّف عليها ، فليرجع إلى كتاب « شفاء القاضي ».

يقول العلاّمة المحقّق علي بن عيسى الإرْبِلي : الأنبياء والأئمّة علیهم السلام تكون أوقاتهم مشغولة باللّه تعالى ، وقلوبهم مملوءة به ، وخواطرهم متعلّقة بالمبدأ ، وهم أبداً في المراقبة ، كما قال علیه السلام : « اعبد اللّه كأنّك تراه ، فإن لم تره ، فإنّه يراك » فهم أبداً متوجهون إليه ومقبلون بكلّهم عليه ، فمتى انحطوا عن تلك المرتبة العالية ، والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالأكل والشرب والتفرّغ إلى النكاح وغيره من المباحات ، عدّوه ذنباً واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه.

وإلى هذا أشار صلی اللّه علیه و آله : « انّه ليُران على قلبي وإنّي لأستغفر اللّه بالنهار سبعين مرّة » ولفظة سبعين ترجع إلى الاستغفار لا إلى الرين. وقوله : حسنات الأبرار

ص: 246


1- إبراهيم : 41.
2- البقرة : 285.
3- صحيح مسلم : 8 / 72 ، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه. وقوله : « ليغان » من الغين بمعنى الستر والحجاب والمزن.

سيئات الأقربين ... فقد بان بهذا أنّه كان بعد اشتغاله في وقت ما ، بما هو ضرورة للأبدان معصية يستغفر اللّه منها ، وعلى هذا فقس البواقي وكلّما يرد عليها من أمثالها ... ثم قال : إنّ هذا معنى شريف يكشف بمدلوله حجاب الشبهة ويهدي به اللّه من حسر عن بصره وبصيرته رين العمى والعمه (1).

وما ذكره من الجواب فإنّما يتمشّى مع الآيات التي تمسك بها المخالف ، وأمّا الأدعية التي اعترف فيها الأئمّة بالذنب من قوله في الدعاء الذي علمه لكميل بن زياد : « اللّهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء ، اللّهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم » فهذا من باب التعليم للناس.

وأمّا ما كانوا يناجون ربّهم في ظلمات الليل وفي سجداتهم ، فيحمل على ما حققه العلاّمة الإرْبِلي وأوضحنا حاله.

الآية الرابعة : العصمة وغفران الذنب
اشارة

إذا كان النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله معصوماً من العصيان ومصوناً من الذنب ، فكيف أخبر سبحانه عن غفران ذنبه : ما تقدم منه وما تأخر ؟ قال سبحانه : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) (2).

الجواب : انّ الآية تعد أكبر مستمسك لمخطّئة عصمة الأنبياء مع أنّ إمعان النظر في فقرات الآيات خصوصاً في جعل غفران الذنب غاية للفتح المبين ، يوضح المقصود من الذنب وأنّ المراد منه الاتهامات والنسب التي كانت الأعداء

ص: 247


1- كشف الغمة : 3 / 43 - 45.
2- الفتح : 1 - 3.

تصفه بها ، وانّ ذلك الفتح المبين دلّ على افتعالها وعدم صحتها من أساسها وطهر صحيفة حياته عن تلك النسب ، وإليك توضيح ذلك ببيان أُمور :

1. ما هو المراد من الفتح في الآية ؟

لقد ذكر المفسرون هنا وجوهاً ، فتردّدوا بين كون المقصود فتح مكة ، أو فتح خيبر ، أو فتح الحديبية.

لكن سياق آيات السورة لا يساعد الاحتمالين الأوّلين ، لأنّها ناظرة إلى قصة الحديبية والصلح المنعقد فيها في العام السادس من الهجرة ، والفتح الذي يخبر عن تحقّقه ووقوعه ، يجب أن يكون متحقّقاً في ذاك الوقت ، وأين هو من فتح مكة الذي لم يتحقّق إلاّ بعد عامين من ذلك الصلح حيث إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله فتحها في العام الثامن من هجرته ؟!

ولأجل ذلك حاول من قال : إنّ المراد منه فتح مكة ، أن يفسره : بأنَّ إخباره عن الفتح ، بمعنى قضائه وتقديره ذلك الفتح ، والمعنى قضى ربُّكَ وقدَّر ذاك الفتح المبين ، فالقضاء كان متحقّقاً في ظرف النزول وإنْ لم يكن نفس الفتح متحقّقاً.

ولكنّه تكلّف غير محتاج إليه ، وقصة الحديبية وإن كانت صلحاً في الظاهر على ترك الحرب والهدنة إلى مدّة معينة لكن ذلك الصلح فتح أبواب الظفر للنبي صلی اللّه علیه و آله في الجزيرة العربية ، وفسح للنبي أن يتوجّه إلى شمالها ويفتح قلاع خيبر ، ويسيطر على مكامن الشر والمؤامرة ، ويبعث الدعاة والسفراء إلى أرجاء العالم ، ويسمع دعوته أُذن الدنيا ، كل ذلك الذي شرحناه في أبحاثنا التاريخية كان ببركة تلك الهدنة ، وإن كان بعض أصحابه يحقّرها ويندّد بها في أوائل الأمر.

ص: 248

لكن مرور الزمان ، كشف النقاب عن عظمتها وثمارها الحلوة ، فصح أن يصفها القرآن : ( الفتح المبين ).

وعلى كل حال : فسياق الآيات يَدل بوضوح على أنّ المراد من الفتح هو وقعة الحديبية قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) (1).

وأيضاً يقول : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) . (2) وقال أيضاً : ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) (3).

ولا شك أنّ المراد من البيعة هو بيعة الرضوان التي بايع المؤمنون فيها النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله تحت الشجرة وأعرب سبحانه عن رضاه عنهم.

روى الواحدي عن أنس : انّ ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ، فأخذهم أُسراء فاستحياهم ، فأنزل اللّه : ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) (4).

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يخبر في نفس السورة عن فتح قريب ، وهذا

ص: 249


1- الفتح : 10.
2- الفتح : 18.
3- الفتح : 24.
4- أسباب النزول : 218.

يعرب عن أنّ الفتح المبين غير الفتح القريب ، قال سبحانه : ( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) (1) ، وهذا الفتح القريب إمّا فتح خيبر ، أو فتح مكة. والظاهر هو الثاني ، وأمّا رؤيا النبي فقد تحقّقت في العام القابل ، عام عمرة القضاء ، فدخل النبي صلی اللّه علیه و آله والمؤمنون مكة المكرمة آمنين محلّقين رؤوسهم ومقصّرين ، وأقاموا بها ثلاثة أيام ، ثم خرجوا متوجهين إلى المدينة ، وذلك في العام السابع من الهجرة ، وفي العام الثامن توفق النبي لفتح مكة وتحقّق قوله سبحانه : ( فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) .

هذا كلّه حسب سياق الآيات ، وأمّا الروايات فهي مختلفة بين تفسيرها بالحديبية ، وتفسيرها بفتح مكة ، والقضاء فيها موكول إلى وقت آخر ، ولا يؤثر هذا الاختلاف فيما نحن بصدده في هذا المقام.

2. ما هو المراد من الذنب ؟

قال ابن فارس في المقاييس : ذنب له أُصول ثلاثة : أحدها الجرم ، والآخر : مؤخّر الشيء ، والثالث : كالحظ والنصيب (2).

وقال ابن منظور : الذنب : الإثم والجرم والمعصية ، والجمع ذنوب ، وذنوبات جمع الجمع ، وقد أذنب الرجل ، وقوله عزّ وجلّ في مناجاة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام : ( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ ) (3) ، عني بالذنب قتل الرجل الذي وكزه

ص: 250


1- الفتح : 27.
2- معجم مقاييس اللغة : 2 / 361.
3- الشعراء : 14.

موسى فقضى عليه ، وكان الرجل من آل فرعون (1).

وقد وردت تلك اللفظة في الذكر الحكيم سبع مرّات وأُريد بها في الجميع الجرم قال سبحانه : ( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ) (2) ، وقال عزّ وجلّ : ( وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) (3).

وعلى ذلك فكون الذنب بمعنى الجرم مما لا ريب فيه ، غير أنّ الذي يجب التنبيه عليه ، هو أنّ اللفظ لا يدل على أزيد من كون صاحبه عاصياً وطاغياً وناقضاً للقانون ، وأمّا الذي عصي وطغي عليه ونقض قانونه فهو يختلف حسب اختلاف البيئات والظروف ، وليست خصوصية العصيان للّه سبحانه مأخوذة في صميم اللفظ بحيث لو أُطلق ذلك اللفظ يتبادر منه كونه سبحانه هو المعصي أمره ، وإنّما تستفاد الخصوصية من القرائن الخارجية ، وهذا هو الأساس لتحليل الآية وفهم المقصود منها.

3. الغفران في اللغة

الغفران في اللغة ، هو : الستر ، قال ابن فارس في المقاييس : عظم بابه الستر ، ثم يشذُّ عنه ما يُذكر ، فالغَفر : السَّتر ، والغفران والغَفْر بمعنًى يقال : غفر اللّه ذنبه غَفراً ومغفرةً وغفراناً (4). وقال في اللسان بمثله (5).

ص: 251


1- لسان العرب : 3 / 389.
2- غافر : 3.
3- التكوير : 8 و 9.
4- معجم مقاييس اللغة : 4 / 385.
5- لسان العرب : 5 / 25.
4. الفتح لغاية مغفرة الذنب

الآية تدل على أنّ الغاية المتوخاة من الفتح هي مغفرة ذنب النبي صلی اللّه علیه و آله ، ما تقدّم منه وما تأخّر ، غير أنّ في ترتب تلك الغاية على ذيها غموضاً في بادئ النظر ، والإنسان يستفسر في نفسه كيف صار تمكينه سبحانه نبيّه من فتح القلاع والبلدان ، أو المهادنة والمصالحة في أرض الحديبية مع قريش ، سبباً لمغفرة ذنوبه ، مع أنّه يجب أن تكون بين الجملة الشرطية والجزائية رابطة عقلية أو عادية ، بحيث تعدّ إحداهما علّة لتحقّق الأُخرى أو ملازمة لها ، وهذه الرابطة خفية في المقام جداً ، فإنّ تمكين النبي من الأعداء والسيطرة عليهم يكون سبباً لانتشار كلمة الحق ورفض الباطل واستطاعته التبليغ في المنطقة المفتوحة ، فلو قال : إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ، لتتمكن من الإصحار بالحق ، ونشر التوحيد ، ودحض الباطل ، كان الترتب أمراً طبيعياً ، وكانت الرابطة محفوظة بين الجملتين.

وأمّا جعل مغفرة ذنوبه جزاء لفتحه صقعاً من الأصقاع ، فالرابطة غير واضحة.

وهذه هي النقطة الحساسة في فهم مفاد الآية ، وبالتالي دحض زعم المخطّئة في جعلها ذريعة لعقيدتهم ، ولو تبيّنت صلة الجملتين لاتّضح عدم دلالتها على ما تتبنّاه تلك الطائفة.

فنقول : كانت الوثنية هي الدين السائد في الجزيرة العربية ، وكانت العرب تقدّس أوثانها وتعبد أصنامها ، وتطلب منهم الحوائج ، وتتقرب بعبادتها إلى اللّه سبحانه هذا من جانب ، ومن جانب آخر : جاء النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله داعياً إلى التوحيد في مجالي الخلق والأمر ، وإلى حصر التقديس والعبادة في اللّه ، وأنّه لا معبود سواه ولا

ص: 252

شفيع إلاّ بإذنه ، فأخذ بتحطيم الوثنية ورفض عبادة الأصنام ، وأنّها أجسام بلا أرواح لا يملكون شيئاً من الشفاعة والمغفرة ، ولا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم فضلاً عن عبدتهم ، فصارت دعوته ثقيلة على قريش وأذنابهم ، حتى ثارت ثائرتهم على النبي الأكرم ، فقابلوا براهين النبي بالبذاءة والشغب والسب والنسب المفتعلة ، فوصفوه بأنّه كاهن وساحر ، ومفتر وكذّاب ، وقد أعربوا عن نواياهم السيئة عندما رفعوا الشكوى إلى سيّد الأباطح وقالوا : إنّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامَنا وضلل آباءَنا ، فإمّا أن تكفّه عنا وإمّا أن تخلّي بيننا وبينه (1).

ولمّا وقف النبي صلی اللّه علیه و آله على كلام قومه عن طريق عمّه أظهر صموده وثباته في طريق رسالته بقوله : « يا عم واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّه أو أهلك فيه ، ما تركته » قال : ثم استعبر فبكى ، ثم قام. فلمّا ولى ناداه أبو طالب فقال : اقبل يابن أخي ، قال : فأقبل عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال : اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فواللّه ما أُسلّمك لشيء أبداً » (2).

فلمّا وقفت قريش على صمود الرسول شرعوا بالمؤامرة والتخطيط عليه حتى قصدوا اغتياله في عقر داره ، فنجّاه اللّه من أيديهم.

ولمّا استقرَّ النبي صلی اللّه علیه و آله في يثرب واعتز بنصرة الأنصار ومن حولها من القبائل جرت بينه وبين قومه حروب طاحنة أدّت إلى قتل صناديد قريش وإراقة دمائهم على وجه الأرض في « بدر » و « أحد » ووقعة « الأحزاب ».

ص: 253


1- تاريخ الطبري : 2 / 65.
2- السيرة النبوية لابن هشام : 1 / 285 من الطبعة الحديثة.

فهذه الحوادث الدامية عند قريش ، المرّة في أذواقهم بما أنّها جرّت إلى ذهاب كيانهم ، وحدوث التفرقة في صفوفهم ، والفتك بصناديدهم على يد النبي الأكرم ، صوّرته في مخيلتهم وخزانة أذهانهم صورة إنسان مجرم مذنب قام في وجه سادات قومه ، فسب آلهتهم وعاب طريقتهم بالكهانة والسحر والكذب والافتراء ، ولم يكتف بذلك حتى شن عليهم الغارة والعدوان فصارت أرض يثرب وما حولها ، مجازر لقريش ، ومذابح لأسيادهم ، فأيّ جرم أعظم من هذا ، وأي ذنب أكبر منه عند هؤلاء الجهلة الغفلة ، الذين لا يعرفون الخيّر من الشرير ، والصديق من العدو ، والمنجي من المهلك ؟

فإذن ما هو الأمر الذي يمكن أن يبرئه من هذه الذنوب ويرسم له صورة ملكوتية فيها ملامح الصدق والصفاء ، وعلائم العطف والحنان حتى تقف قريش على خطئها وجهلها.

إنّ الأمر الذي يمكن أن ينزّه ساحته من هذه الأوهام والأباطيل ، ليست إلاّ الواقعة التي تجلّت فيها عواطفه الكريمة ، ونواياه الصالحة ، حيث تصالح مع قومه - الذين قصدوا الفتك به وقتله في داره ، وأخرجوه من موطنه ومهاده - بعطف ومرونة خاصة ، حتى أثارت تعجب الحضّار من أصحابه ومخالفيه ، حيث تصالح معهم على أنّه « من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليّه ردَّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممّن مع محمد لم يردّوه عليه ، وأنّه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه » (1).

وهذا العطف الذي أبداه النبي صلی اللّه علیه و آله في هذه الواقعة مع كونه من القدرة بمكان ، وقريش في حالة الانحلال والضعف ، صوّر من النبي صلی اللّه علیه و آله عند قومه

ص: 254


1- السيرة النبوية لابن هشام : 2 / 317 - 318. ط 1. 1375 ه.

وأتباعه صورة إنسان مصلح يحب قومَه ويطلب صلاحهم ولا تروقه الحرب والدمار والجدال فوقفوا على حقيقة الحال ، وعضّوا الأنامل على ما افتعلوا عليه من النسب وندموا على ما فعلوا ، فصاروا يميلون إلى الإسلام زرافات ووحداناً ، فأسلم خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، والتحقا بالنبي قبل أن يسيطر النبي صلی اللّه علیه و آله على مكة وحواليها.

إنّ هذه الواقعة التي لمس الكفار منها خلقه العظيم ، رفع الستار الحديدي الذي وضعه بعض أعدائه الألدّاء بينه وبين قومه ، فعرفوا أنّ ما يرمى به نبيّ العظمة ويوصف به بين أعدائه ، كانت دعايات كاذبة وكان هو منزّهاً عنها ، بل عن الأقل منها.

ولا تقصر عن هذه الواقعة ، فتح مكة ، فقد واجه قومه مرّة أُخرى - وهم في هزيمة نكراء ، ملتفون حوله في المسجد الحرام - فخاطبهم بقوله : « ماذا تقولون وماذا تظنون ؟! » فأجابوا : نقول خيراً ونظن خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، وقدرت ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين » (1).

وهذا الفتح العظيم وقبله وقعة الحديبية أثبتا بوضوح أن النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله أكرم وأجل وأعظم من أن يكون كاهناً أو ساحراً ، إذ الكاهن والساحر أدون من أن يقوم بهذه الأُمور الجليلة ، كما أنّ لطفه العميم وخلقه العظيم آية واضحة على أنّه رجل مثالي صدوق ، لا يفتري ولا يكذب ، وإنّ ما جرى بينه وبين قومه من الحروب الدامية ، كانت نتيجة شقاقهم وجدالهم ومؤامراتهم عليه ، مرّة بعد أُخرى في موطنه ومهجره ، فجعلوه في قفص الاتهام أوّلاً ، وواجهوا أنصاره وأعوانه بألوان

ص: 255


1- المغازي للواقدي : 2 / 835 ; وبحار الأنوار : 21 / 107 - 132.

التعذيب ثانياً ، فقتل من قتل وأُوذي من أُوذي ، وضربوا عليه وعلى المؤمنين به ، حصاراً اقتصادياً فمنعوهم من ضروريات الحياة ثالثاً ، وعمدوا إلى قتله في عقر داره رابعاً ، ولولا جرائمهم الفظيعة لما اخضرت الأرض بدمائهم ولا لقي منهم بشيء يكرهه ، فأصبحت هذه الذنوب التي كانت تدّعيها قريش على النبي بعد وقعة الحديبية ، أو فتح مكة ، أُسطورة خيالية قضت عليها سيرته في كل من الواقعتين من غير فرق بين ما ألصقوا به قبل الهجرة أو بعدها ، وعند ذلك يتضح مفاد الآيات كما يتضح ارتباط الجملتين : الجزائية والشرطية ، ولولا هذا الفتح كان النبي محبوساً في قفص الاتهام ، وقد كسرته هذه الواقعة ، وعرّفته نزيهاً عن كل هذه التهم.

وعلى ذلك فالمقصود من الذنب ما كانت قريش تصفه به ، كما أنّ المراد من المغفرة ، إذهاب آثار تلك النسب في المجتمع.

وإلى ما ذكرنا يشير مولانا الإمام الرضا علیه السلام عندما سأله المأمون عن مفاد الآية فقال : « لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لأنّهم كانوا يعبدون من دون اللّه ثلاثمائة وستين صنماً ، فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم ، وقالوا : ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ ) (1) ، فلمّا فتح اللّه عزّ وجلّ على نبيه محمد صلی اللّه علیه و آله مكة ، قال له : يا محمد : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ( مكة ) فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد اللّه عزّ وجلّ فيما تقدّم ، وما تأخّر ، لأنّ مشركي مكة ، أسلم

ص: 256


1- ص : 5 - 7.

بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه ، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم.

فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن (1).

وقد أشرنا في صدر البحث إلى اختلاف الروايات في المراد من الفتح الوارد في الآية وقلنا بأنّ هذا الاختلاف لا يؤثر فيما نرتئيه ، فلاحظ.

الآية الخامسة : العصمة والتولّي عن الأعمى

استدلّ المخالف لعصمة النبي الأعظم بالعتاب الوارد في الآيات التالية : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) (2).

روى المفسرون أنّ عبد اللّه بن أُمّ مكتوم الأعمى أتى رسول اللّه وهو يناجي عتبة بن ربيعة ، وأبا جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأُبيّاً وأُمية ابني خلف ، يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم ; فقال عبد اللّه : اقرئني وعلّمني ممّا علّمك اللّه ، فجعل ينادي ويكرّر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد إنّما أتباعه العميان والسفلة والعبيد ، فعبس صلی اللّه علیه و آله وأعرض عنه ، وأقبل على القوم الذين يكلّمهم ، فنزلت الآيات ، وكان رسول اللّه بعد ذلك يكرمه ، وإذا رآه يقول : مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي (3). ويقول : هل لك من حاجة ، واستخلفه

ص: 257


1- بحار الأنوار : 17 / 90.
2- عبس : 1 - 10.
3- أسباب النزول للواحدي : 252.

على المدينة مرتين في غزوتين (1).

وهناك وجه آخر لسبب النزول روي عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام ، وحاصله أنّ الآية نزلت في رجل من بني أُميّة كان عند النبي صلی اللّه علیه و آله فجاء ابن أُمّ مكتوم ، فلمّا رآه تقذّر منه ، وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى اللّه سبحانه ذلك وأنكره عليه (2).

والاعتماد على الرواية الأُولى مشكل ، لأنّ ظاهر الآيات عتاب لمن يقدم الأغنياء والمترفين ، على الضعفاء والمساكين من المؤمنين ، ويرجح أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة ، وهذا لا ينطبق على النبي الأعظم من جهات :

الأُولى : انّه سبحانه حسب هذه الرواية وصفه بأنّه يتصدى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء ، وليس هذا ينطبق على أخلاق النبي الواسعة وتحنّنه على قومه وتعطّفه عليهم ، كيف ؟ وقد قال سبحانه : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (3).

الثانية : انّه سبحانه وصف نبيّه في سورة القلم ، وهي ثانية السور التي نزلت في مكة ( وأُولاها سورة العلق ) بقوله : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (4) ، ومع ذلك كيف يصفه بعد زمن قليل بخلافه ، فأين هذا الخلق العظيم ممّا ورد في هذه السورة من العبوسة والتولّي ؟ وهذه السورة حسب ترتيب النزول وان كانت متأخرة عن سورة القلم ، لكنّها متقاربة معها حسب النزول ، ولم تكن هناك فاصلة زمنية طويلة

ص: 258


1- مجمع البيان : 10 / 437 وغيره من التفاسير.
2- مجمع البيان : 10 / 437 ; تفسير القمي : 2 / 405.
3- التوبة : 128.
4- القلم : 4.

الأمد (1).

الثالثة : انّه سبحانه يأمر نبيه بقوله : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ) (2) ، كما يأمره أيضاً بقوله : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (3) ، ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ) (4).

إنّ سورتي الشعراء والحجر ، وإن نزلتا بعد سورة « عبس » ، لكن تضافرت الروايات على أنّ الآيات المذكورة في السورتين نزلت في بدء الدعوة ، أي العام الثالث من البعثة عندما أمره سبحانه بالجهر بالدعوة والإصحار بالحقيقة ، وعلى ذلك فهي متقدمة حسب النزول على سورة « عبس » أويصح بعد هذه الخطابات ، أن يخالف النبي هذه الخطابات بالتولّي عن المؤمن ؟! كلاّ ثم كلاّ.

الرابعة : إنّ الرواية تشتمل على ما خطر في نفس النبي عند ورود ابن أُمّ مكتوم من أنّه صلی اللّه علیه و آله قال في نفسه : « يقول هؤلاء الصناديد : إنّما أتباعه العميان والسفلة والعبيد ، فأعرض عنه وأقبل على القوم » وعندئذ يسأل عن كيفية وقوف الراوي على ما خطر في نفس النبي صلی اللّه علیه و آله فهل أخبر به النبي ؟ أو أنّه وقف عليه من طريق آخر ؟!

والأوّل بعيد جداً ، والثاني مجهول.

الخامسة : أنّ الرواية تدلّ على أنّ النبي كان يناجي جماعة من المشركين ، وعند ذلك أتى عبد اللّه ابن أُمّ مكتوم وقال : يا رسول اللّه أقرئني ، فهل كان إسكات

ص: 259


1- تاريخ القرآن للعلاّمة الزنجاني : 36 - 37 ، وقد نقل ترتيب نزول القرآن في مكة والمدينة معتمداً على رواية محمد بن نعمان بن بشير التي نقلها ابن النديم في فهرسته ص 7 طبع مصر.
2- الشعراء : 214 - 215.
3- الحجر : 88.
4- الحجر : 94.

ابن أُم مكتوم متوقفاً على العبوسة والتولّي عنه ، أو كان أمره بالسكوت والاستمهال منه حتى يتم كلامه مع القوم ، أمراً غير شاق على النبي ، فلماذا ترك هذا الطريق السهل ؟

وهذه الوجوه الخمسة وإن أمكن الاعتذار عن بعضها بأنّ العبوسة والتولّي مرّة واحدة لا ينافي ما وصف به النبي في القرآن من الخلق العظيم وغيره ، لكن محصل هذه الوجوه يورث الشك في صحة الرواية ويسلب الاعتماد عليها.

هذا كلّه حول الرواية الأُولى. وأمّا الرواية الثانية :

فهي لا تنطبق على ظاهر الآيات ، لأنّ محصلها أنّ رجلاً من بني أُمية كان عند النبي فجاء ابن أُمّ مكتوم ، فلمّا رآه ذلك الرجل تقذّر منه وجمع نفسه ، وعبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى اللّه سبحانه ذلك وأنكره عليه.

ولكن هذا المقدار المنقول في سبب النزول لا يكفي في توضيح الآيات ، ولا يرفع إبهامها ، لأنّ الظاهر أنّ العابس والمتولّي ، هو المخاطب بقول سبحانه : ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) إلى قوله : ( فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) ، فلو كان المتعبس والمتولّي ، هو الفرد الأموي ، فيجب أن يكون هو المخاطب بالخطابات الستة لا غيره ، مع أنّ الرواية لا تدل على ذلك ، بل غاية ما تدل عليه أنّ فرداً من الأمويين عبس وتولّى عندما جاءه الأعمى فقط ، ولا تلقي الضوء على الخطابات الآتية بعد الآيتين الأُوليين وإنّها إلى من تهدف ، فهل تقصد ذاك الرجل الأموي وهو بعيد ، أو النبي الأكرم ؟

هذا هو القضاء بين السببين المرويين للنزول ، وقد عرفت الأسئلة الموجهة

ص: 260

إليهما.

وعلى فرض صحة الرواية الأُولى لابدّ أن يقال :

إنّ الرواية إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان موضع عنايته سبحانه ورعايته ، فلم يكن مسؤولاً عن أفعاله وحركاته وسكناته فقط ، بل كان مسؤولاً حتى عن نظراته وانقباض ملامح وجهه ، وانبساطها ، فكانت المسؤولية الملقاة على عاتقه من أشد المسؤوليات ، وأثقلها صدق اللّه العلي العظيم حيث يقول : ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) (1).

كان النبي صلی اللّه علیه و آله يناجي صناديد قومه ورؤساءهم لينجيهم من الوثنية ويهديهم إلى عبادة التوحيد ، وكان لإسلامهم يوم ذاك تأثير عميق في إيمان غيرهم ، إذ الناس على دين رؤسائهم وأوليائهم ، وكان النبي صلی اللّه علیه و آله في هذه الظروف يناجي رؤساء قومه إذ جاءه ابن أُم مكتوم غافلاً عمّا عليه النبي صلی اللّه علیه و آله من الأمر المهم ، فلم يلتفت إليه النبي ، وجرى على ما كان عليه من المذاكرة مع أكابر قومه.

وما سلكه النبي صلی اللّه علیه و آله لم يكن أمراً مذموماً عند العقلاء ، ولا خروجاً على طاعة اللّه ، ولكن الإسلام دعاه وأرشده إلى خلق مثالي أعلى ممّا سلكه ، وهو أنّ التصدي لهداية قوم يتصورون أنفسهم أغنياء عن الهداية ، يجب أن لا يكون سبباً للتولّي عمّن يسعى ويخشى ، فهداية الرجل الساعي في طريق الحق ، الخائف من عذاب اللّه ، أولى من التصدي لقوم يتظاهرون بالاستغناء عن الهداية وعمّا أنزل إليك من الوحي ، وما عليك بشيء إذا لم يزكّوا أنفسهم ، لأنّ القرآن تذكرة فمن شاء ذكره ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) (2).

ص: 261


1- المزمل : 5.
2- الغاشية : 21 - 22.

فعظم المسؤولية اقتضى أن يعاتب اللّه سبحانه نبيّه لترك ما هو الأولى بحاله حتى يرشده إلى ما يعد من أفاضل ومحاسن الأخلاق ، وينبهه على عظم حال المؤمن المسترشد ، وأن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه ، أولى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه ، ومن هذا حاله لا يعد عاصياً لأمر اللّه ومخالفاً لطاعته.

وأمّا الرواية الثانية : فالظاهر أنّ الرواية نقلت غير كاملة ، وكان لها ذيل يصحح انطباق الخطابات الواردة في الآيات حقيقة على الشخص الذي عبس وتولّى ، وعلى فرض كونها تامّة فالضمير الغائب في « عبس » و « تولّى » و « جاءه » يرجع إلى ذلك الفرد ، وأمّا الخطابات فهي متوجهة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله لكن من وجه إليه الخطاب غير من قصد منه ، فهو من مقولة : « إياك أعني واسمعي يا جارة » ومثل هذا يعد من أساليب البلاغة ، وفنون الكلام.

ص: 262

دين النبي الأكرم قبل البعثة
اشارة

دلّت الأدلة العقلية والنقلية على عصمة الأنبياء عامّة والنبي الأكرم خاصة إلاّ أنّ الحكم بعصمته قبل التشرف بالنبوة ، يتوقف على إحراز تدينه بدين قبل أن يبعث ، وهذا ما نتلوه عليك في هذا البحث تكميلاً لعصمته صلی اللّه علیه و آله .

من الموضوعات المهمة التي شغلت بال المحققين من أهل السير والتاريخ موضوع دين النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، وقد اتفق جمهور المسلمين على أنّه صلی اللّه علیه و آله كان على خط التوحيد منذ نعومة أظفاره إلى أن بُعث لهداية أُمّته ، فلم يسجد لصنم ولا وثن ، وكان بعيداً عن الأخلاق والعادات الجاهلية التي تستقي جذورها من الوثنية ، وإن اختلفوا في أنّه هل كان متعبداً بشريعة أحد من الأنبياء أو بشريعة نفسه ، أو بما يلهم من الوظائف والتكاليف ؟ وعلى ذلك فنركّز البحث على نقطتين :

1. إيمانه وتوحيده قبل البعثة.

2. الشريعة التي كان يعمل بها في حياته الفردية والاجتماعية.

أمّا بالنسبة إلى النقطة الأُولى : فقد كان النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله على الدين الحنيف لم يعدل عنه إلى غيره طرفة عين ، وتظهر هذه الحقيقة بالتعرّف على ملامح

ص: 263

البيت الذي ولد فيه ، وتربّى في أحضان رجاله فنقول :

كان النبي كريم المولد ، شريف المحتد ، ولد من أبوين كريمين مؤمنين باللّه سبحانه وموحدين ، وتربى في حضن جده عبد المطلب ، وبعده في حجر عمّه أبي طالب علیهماالسلام ، وقد كان الدين السائد في ذلك البيت الرفيع ، دين التوحيد ، ورفض عبادة غير اللّه تعالى والعمل بالمناسك والرسوم الواصلة إليه عن إبراهيم علیه السلام .

لا أقول إنّ جميع من كان ينتمي إلى البيت الهاشمي كان على خط التوحيد وعلى الشريعة الإبراهيمية ، إذ لا شك أنّ بعضهم كان يعبد الأصنام ، ويدافع عنها كأبي لهب ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

بل أقول : الديانة السائدة في ذلك البيت هي عبادة الرحمن ورفض الأصنام والأوثان.

ويتضح وضع هذا البيت ببيان ديانة أشياخه وأسياده وأخص بالذكر منهم سيده الكبير « عبد المطلب » وشيخ الأباطح « أبو طالب » ، وإليك الكلام في ديانتهما :

1. عبد المطلب وإيمانه

عبد المطلب هو الرجل الأوّل في هذا البيت ، وكفى في صفائه وإيمانه ما ذكره المؤرّخون في حقه ، وإليك بعضه :

1. يقول اليعقوبي في الحديث عنه : ... ورفض عبد المطلب عبادة الأوثان والأصنام ، ووحَّد اللّه عزّ وجلّ ، ووفى بالنذر ، وسنّ سنناً نزل القرآن بأكثرها ، وجاءت السنّة الشريفة من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بها ، وهي الوفاء بالنذر ، ومائة من الإبل

ص: 264

في الدية ، وأن لا تنكح ذات محرم ، ولا تؤتى البيوت من ظهورها ، وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل المؤودة ، وتحريم الخمر ، وتحريم الزنا والحد عليه ، والقرعة ، وأنّ لا يطوف أحد بالبيت عرياناً ، وإضافة الضيف ، وأن لا ينفقوا إذا حجّوا إلاّ من طيب أموالهم ، وتعظيم الأشهر الحرم ، ونفي ذوات الرايات (1).

2. إذا اطّلعنا على موقف عبد المطّلب من جيش إبرهة ، وتوكّله على اللّه تعالى ، وأخذه بحلقة باب الكعبة ، نعلم بأنّه كان الرجل الموحد الذي لا يلتجئ في المصائب والمكاره إلى غير كهف اللّه ، ولا يعرف إلاّ باب اللّه ، على عكس ما كانت الوثنية عليه فإنّهم كانوا يستغيثون بالأصنام المنصوبة حول الكعبة ، وإليك إجمال القضية :

قدم عبد المطلب إلى معسكر إبرهة ، فلمّا رآه إبرهة أجلّه وأكرمه ، وبعدما وقف الملك على أنّه جاء ليردّ عليه إبله التي استولى عليها عسكره ، قال له إبرهة : أتكلّمني في إبلك وتترك بيتاً ، هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ؟! قال له عبد المطلب : أنا ربُّ الإبل ، وللبيت ربٌّ يمنعه ، قال إبرهة : ما كان يمنعه مني وأمر برد إبله ، فلمّا أخذها قلّدها وجعلها هدياً وبثّها في الحرم كي يصاب منها شيء فيغضب اللّه عزّ وجلّ ، وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر ، ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون اللّه ويستنصرونه على إبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب :

ص: 265


1- تاريخ اليعقوبي : 2 / 9 ، طبعة النجف. أقول : في عدِّ بعض ما ذكر ذلك المؤرخ من سنن عبد المطلب نظر : فإنّ لبعضها كالوفاء بالنذر ، والنهي عن قتل الموؤدة ، والقرعة ، سابقة تاريخية ترجع إلى فترات قبله.

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا *** يا رب فامنع منهم حماكا

إنَّ عدوّ البيت من عاداكا *** امنعهم أن يخربوا فناكا

وقال أيضاً :

لا هُمَّ إنّ العبدَ يَمنع *** رَحْلَه فامنع حِلالَكْ

لا يَغلِبَنَّ صَلِيبهم *** ومِحالُهم غَدْوا مِحالَكْ (1)

3. وليست هذه الواقعة وحيدة من نوعها بل لسيد قريش مواقف أُخرى تشبه هذه الواقعة حيث توسل لكشف غمته فيها باللّه سبحانه وتعالى ، وإليك مثالين :

ألف. تتابعت على قريش سنون جدب ، ذهبت بالأموال ، وأشرفت على الأنفس ، واجتمعت قريش لعبد المطلب وعلوا جبل أبي قبيس ومعهم النبي محمد صلی اللّه علیه و آله وهو غلام ، فتقدّم عبد المطلب وقال :

« لاهم (2) هؤلاء عبيدك وإماؤك وبنو إمائك ، وقد نزل بنا ما ترى ، وتتابعت علينا هذه السنون ، فذهبت بالظلف والخف والحافر ، فأشرفت على الأنفس ، فأذهب عنّا الجدب ، وائتنا بالحياء والخصب » ، فما برحوا حتى سالت الأودية ، وفي هذه الحالة تقول رقيقة :

بشيبة الحمد أسقى اللّه بلدتنا *** وقد عدمنا الحيا واجلوذ المطر

إلى أن تقول :

ص: 266


1- السيرة النبوية لابن هشام : 1 / 50 ; الكامل لابن الأثير : 1 / 12 ، وغيرهما.
2- مخفّف « اللّهم ».

مبارك الاسم يستسقى الغمام به *** ما في الأنام له عدل ولا خطر (1)

وقد نقل هذه الواقعة الشهرستاني في الملل والنحل قال : وممّا يدل على معرفته ( عبد المطلب ) بحال الرسالة وشرف النبوّة أنّ أهل مكة لمّا أصابهم ذلك الجدب العظيم وأمسك السحاب عنهم سنتين ، أمر أبا طالب ابنه أن يحضر المصطفى محمداً صلی اللّه علیه و آله فأحضره وهو رضيع في قماط ، فوضعه على يديه واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء ، وقال يا ربّ بحق هذا الغلام ورماه ثانياً وثالثاً. وكان يقول : بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلا ، فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر حتى خافوا على المسجد.

وقال أيضاً : وببركة ذلك النور كان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ، ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيّات الأُمور ، وان يقول في وصاياه : إنّه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم اللّه منه وتصيبه عقوبة ، إلى أن هلك رجل ظلوم حتف أنفه لم تصبه عقوبة ، فقيل لعبد المطلب في ذلك ، ففكر وقال : واللّه انّ وراء هذه الدار دار يجزى فيها المحسن بإحسانه ، ويعاقب المسيء بإساءته (2).

إنّ توسّله باللّه سبحانه وتوليه عن الأصنام والأوثان والتجاءه إلى ربِّ الأرباب آية توحيده الخالص ، وإيمانه باللّه وعرفانه بالرسالة الخاتمة ، وقداسة صاحبها ، فلو لم يكن له إلاّ هذه الوقائع لكفت في البرهنة على إيمانه باللّه وتوحيده له.

ص: 267


1- السيرة الحلبية : 1 / 131 - 133.
2- الملل والنحل للشهرستاني : القسم الثاني : 248 و 249 من الطبعة الثانية ، تخريج محمد بن فتح اللّه بدران القاهرة.

ب. روى أصحاب السير أنّه وقع النقاش بين عبد المطلب وقريش في حفر بئر زمزم بعد ما حفره عبد المطلب ، فاتفقوا على الرجوع إلى كاهنة ، فقصدوا طريق الشام فعطشوا في الطريق وأشرفوا على الموت ، فاقترح أن يحفر كلٌّ حفرة لنفسه بما بكم الآن من قوة ، فكلّما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخركم رجلاً واحداً فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً ، قالوا : نعم ما أمرت به ، فقام كل واحد منهم فحفر حفرته ، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً ، ثم إنّ عبد المطلب قال لأصحابه : واللّه إنّ إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت ، لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا ، لعجز ، فعسى اللّه أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ، ارتحلوا ; فارتحلوا حتى إذا فرغوا ، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هو فاعلون ، تقدّم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به ، انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب ، فكبّر عبد المطلب وكبر أصحابه ، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم ، ثم دعا القبائل من قريش فقال : هلمّ إلى الماء ، فقد سقانا اللّه فاشربوا واستقوا ; فجاءوا فشربوا واستقوا ، ثم قالوا : واللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب ، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إنّ الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة ، لهو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً ، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة ، وخلّوا بينه وبينها (1).

4. عن أُمّ أيمن ( رضي اللّه عنها ) قالت : كنت أحضن النبي صلی اللّه علیه و آله - أي أقوم بتربيته وحفظه - فغفلت عنه يوماً فلم أدر إلاّ بعبد المطلب قائماً على رأسي يقول : يا « بركة » قلت : لبيك ، قال : أتدرين أين وجدت ابني ؟ قلت : لا أدري ، قال : وجدته مع غلمان قريباً من السدرة ، لا تغفلي عن ابني ، فإنّ أهل الكتاب يزعمون

ص: 268


1- سيرة ابن هشام : 1 / 144 - 145 ، طبعة مصر.

أنّه نبي هذه الأُمّة وأنا لا آمن عليه منهم ، وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلاّ يقول : عليّ بابني ، أي احضروه ، ويجلسه بجنبه وربّما أقعده على فخذه ويؤثره بأطيب طعامه (1).

هذا هو عبد المطلب وتعوذّه ببيت اللّه الحرام ومواقفه بين قومه وكلماته في المبدأ والمعاد وعطفه على رسالة خاتم النبيين ، أبعد هذا يبقى لإحد شك في توحيده وإيمانه ، بل واعترافه برسالة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله ؟!

قضى النبي صلی اللّه علیه و آله لفيفاً من عمره في رعايته فلمّا بلغ أجله أوصى إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة ، وإلى أبي طالب برسول اللّه وسقاية زمزم ، وقال له : قد خلّفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطأُون به رقاب الناس ، وقال لأبي طالب :

أوصيك يا عبد مناف بعدي *** بمفرد بعد أبيه فرد

فارقه وهو ضجيع المهد *** فكنت كالأُمّ له في الوجد

تدنيه من أحشائها والكبد *** فأنت من أرجى بنيَّ عندي

لدفع ضيم أو لشدِّ عقد (2)

2. شيخ الأباطح أبو طالب وإيمانه
اشارة

قد تعرّفت على إيمان « عبد المطلب » الكفيل الأوّل لصاحب الرسالة ، فهلمّ معي ندرس حياة كفيله الآخر بعده ، وهو أبو طالب شيخ البطحاء ، فقد اتفقت

ص: 269


1- سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : 1 / 64.
2- تاريخ اليعقوبي : 2 / 10 ، طبعة النجف.

كلمة أهل السير والتاريخ على كفالته لصاحب الرسالة بعد جدّه ، ودرئه عنه كل سوء وعادية طيلة حياته ، وان اختلفت آراؤهم في إيمانه بالرسول الأكرم بعد البعثة ، ولأجل تحقيق الحال نركّز على البحث عن نقطتين : إيمانه قبل البعثة ، وإيمانه بعد البعثة :

إيمانه باللّه قبل البعثة

يكفي في إيمانه باللّه وخلوص توحيده عدّة أُمور نشير إليها :

1. ما أخرجه ابن عساكر في تاريخه ، عن جلهمة بن عرفطة ، قال : قدمت مكة وهم في قحط ، فقالت قريش يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال فهلّم واستسق ، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنّه شمس دجى تجلّت عنه سحابة قتماء وحوله اغيلمة ، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ باصبعه الغلام وما في السماء ، قزعة (1).

فأقبل السحاب من ها هنا وها هنا وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي واخصب البادي والنادي ، ففي ذلك يقول أبو طالب ويمدح به النبي أكثر من ثمانين بيتاً :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاّك من آل هاشم *** فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرة *** ووزان صدق وزنه غير هائل (2)

ص: 270


1- القزعة : قطعة من السحاب.
2- السيرة الحلبية : 1 / 116. لاحظ فتح الباري : 2 / 494 ، والقصيدة مذكورة في السيرة النبوية لابن هشام : 1 / 272 - 280.

وما نسبه إليه من الأشعار جزء من قصيدته المعروفة التي نظمها أيام الحصار في الشعب ، ويشير بها إلى الواقعة التي استسقى فيها بالنبي وقد كان غلاماً في كفالته ، ولو كان آنذاك عابداً للوثن لتوسل باللات والعزى وسائر الآلهة المنصوبة حول الكعبة.

2. روى الحافظ الكنجي الشافعي : أنّ أحد الزهّاد والعبّاد قال لأبي طالب : يا هذا انّ العلي الأعلى ألهمني إلهاماً ، قال أبو طالب : وما هو ؟ قال : ولد يولد من ظهرك وهو ولي اللّه عزّ وجلّ ، فلمّا كانت الليلة التي ولد فيها عليّ علیه السلام أشرقت الأرض ، فخرج أبو طالب وهو يقول : أيّها الناس ولد في الكعبة ولي اللّه ، فلمّا أصبح دخل الكعبة وهو يقول :

يا رب هذا الغسق الدجيّ *** والقمر المنبلج المضي

بيّن لنا من أمرك الخفيّ *** ماذا ترى في اسم ذا الصبي

قال : فسمع صوت هاتف يقول :

يا أهل بيت المصطفى النبي *** خصصتم بالولد الزكي

انّ اسمه من شامخ العلي *** عليّ اشتق من العلي (1)

3. انّ أبا طالب كان ممن تعرّف على مكانة النبي الأعظم عن طريق الراهب « بحيرا » ، وذلك حينما خرج في ركب إلى الشام تاجراً ، فلمّا تهيّأ للرحيل وأجمع السير هبّ له رسول اللّه فأخذ بزمام ناقته ، وقال : يا عم إلى من تكلني لا أب لي ولا أُمّ لي ؟ فرقّ له أبو طالب وقال : واللّه لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أُفارقه أبداً. قال : فخرج به معه ، فلمّا نزل الركب « بصرى » من أرض الشام نزلوا قريباً

ص: 271


1- الغدير : 7 / 347 ، نقلاً عن كفاية الطالب للحافظ الكنجي الشافعي : 260.

من صومعة راهب يقال له « بحيرا » ، فلمّا رأى النبي جعل يلحظه لحظاً شديداً ، وينظر أشياء من جسده ، فجعل يسأله عن نومه وهيئته ، ورسول اللّه يخبره ، ثم نظر إلى ظهره ، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه ، ثم قال لأبي طالب : ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود ، فواللّه لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ، ليبغنّه شراً ، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فاسرع به إلى بلاده ، فخرج به عمّه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام ، وفي ذلك يقول أبو طالب :

انّ ابن آمنة النبي محمداً *** عندي يفوق منازل الأولاد

لما تعلق بالزمام رحمته *** والعيس قد قلّصن بالأزواد

فارفضّ من عيني دمع ذارف *** مثل الجمان مفرق الأفراد

إلى أن قال :

حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا *** لاقوا على شرك من المرصاد

حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً *** عنه وردّ معاشر الحسّاد

فما رجعوا حتى رأوا من محمد *** أحاديث تجلو غمّ كل فؤاد

وحتى رأوا أحبار كل مدينة *** سجوداً له من عصبة وفراد (1)

وما رأى أبو طالب من ابن أخيه في هذا السفر من الكرامات وخوارق العادات التي ضبطها التاريخ ، وما سمعه من بحيرا من مستقبل أمره وانّ اليهود له بالمرصاد ، كاف لإرشاد كل إنسان صافي الذهن مستقيم الطريقة ، فكيف بأبي طالب الذي كان بالإضافة إلى هاتين الصفتين ، يحبه حبّاً جماً أشدّ من حبه لأولاده

ص: 272


1- السيرة النبوية لابن هشام : 1 / 182 ; الطبقات الكبرى : 1 / 120 ; تاريخ ابن عساكر : 1 / 269 - 272 ; ديوان أبي طالب : 33 - 35 ; إلى غير ذلك من المصادر التي اهتمت بنقل هذه الواقعة.

وإخوته ، فكانت هذه الكرامات كافية في هدايته لخط التوحيد ورسالة ابن أخيه وإن لم يكن يصرح بها لفظاً قبل البعثة ، لكنه جهر بها بعده كما سيوافيك إن شاء اللّه.

مضافاً إلى أنّه كان موضع الثقة من عبد المطلب ، وقد أوصاه برعاية ابن أخيه بعده ، فلا يصح لعبد المطلب المؤمن الموحّد أن يدلي بوصيته وكفالة محمد صلی اللّه علیه و آله إلى من لم يكن على غير خط التوحيد ، ولم تكن بينهما وحدة فكرية ، وإلى ذلك يشير أبو طالب في هذه القصيدة الدالية :

راعيت فيه قرابة موصولة *** وحفظت فيه وصية الأجداد

إيمانه بعد البعثة

أمّا دلائل إيمانه باللّه أوّلاً ، وبرسالة ابن أخيه ثانياً ، بعد بعثة النبي الأكرم فحدث عنه ولا حرج وإن كان بعضهم قد هضم حق أبي طالب قرة عين الرسول صلی اللّه علیه و آله وقالوا بما لا ينسجم مع الحقائق التاريخية ، ولو نقل معشار ما ورد عن إيمانه من فعل أو قول ، في حق غيره لاتفق الكل على إيمانه وتوحيده ، ولكن - ويا للأسف - انّ بعض الجائرين على الحق لا يريدون أن يعتبروا تلك الدلائل وافية لإثبات إيمانه.

لم يزل سيدنا أبو طالب يكلأ ابن أخيه ويذب عنه ويدعو إلى دينه الحنيف منذ بزوغ شمس الرسالة إلى أن لقي ربّه ، وكفانا من إفاضة القول في ذلك ، الكتب المؤلفة حول تضحيته لأجل الحق ودفاعه عنه شعراً ونثراً ، ونكتفي بالنزر اليسير من الجم الغفير :

1. كتب أبو طالب إلى النجاشي عندما نزل المهاجرون من المسلمين بقيادة

ص: 273

جعفر الطيار أرض الحبشة وهو يحضه على حسن الجوار :

ليعلم خيار الناس أنّ محمداً *** نبيّ كموسى والمسيح بن مريم

وانّكم تتلونه في كتابكم *** بصدق حديث لا حديث المبرجم (1)

2. نحن نفترض الكلام في غير أبي طالب ، فإذا أردنا الوقوف على نفسية فرد من الأفراد والعلم بما يكنّه من الإيمان أو الكفر ، فما هو الطريق إلى كشفها ؟ فهل الطريق إليه إلاّ كلامه وقوله ، أو ما يقوم به من عمل ، أو ما يروي عنه مصاحبوه ومعاشروه ، فلو كانت هذه هي المقاييس الصحيحة للتعرف على النفسية ، فكلّها تشهد بإيمانه القويم وتوحيده الخالص ، فإنّ فيما أثر عنه من نظم ونثر ، أو نقل من عمل بار ، وسعي مشكور في نصرة النبي صلی اللّه علیه و آله وحفظه ، والدعوة لرسالته وما روى عنه مصاحبوه ومعاشروه - فإنّ في هذه - لدلالة واضحة على إيمانه باللّه ورسالة ابن أخيه وتفانيه في سبيل استقرارها.

كيف ، وهو يقول في أمر الصحيفة التي كتبها صناديد قريش في سبيل ضرب الحصار الاقتصادي على النبي صلی اللّه علیه و آله وبني هاشم وبني المطلب :

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً *** نبيّاً كموسى خط في أوّل الكتب

وأنّ الذي ألصقتمُ من كتابكم *** لكم كائن نحساً كراغية السقب (2)

ففي هذه الأبيات التي تزهر بنور التوحيد ، وتتلألأ بالإيمان بالدين الحنيف دلالة واضحة على إيمانه بالرسالات الإلهية عامة ، ورسالة ابن أخيه صلی اللّه علیه و آله خاصة ، وكم وكم له من قصائد رائعة يطفح من ثناياها الإيمان الخالص ، والإسلام

ص: 274


1- مستدرك الحاكم : 2 / 623 - 624.
2- السيرة النبوية : 1 / 352 ، وذكر من القصيدة 15 بيتاً.

الصحيح ، ونحن نكتفي في إثبات إيمان كفيل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذا المقدار ونحيل التفصيل إلى الكتب المعدة لذلك.

فإنّ نقل ما أثر عنه من شعر ونثر ، أو روي من عمل مشكور ، يحتاج إلى تأليف كتاب مفرد وقد قام لفيف من محققي الشيعة بتأليف كتب حول إيمانه ، بين مسهب في الإفاضة وموجز في المقالة ، وفيما حقّقه وجمعه شيخنا العلاّمة الأميني في غديره كفاية لطالب الحق (1).

هذا إيمان عبد المطلب وذلك توحيد ابنه البار أبي طالب ، وقد تربَّى النبي صلی اللّه علیه و آله وترعرع وشب واكتهل في أحضانهما ، وفي قانون الوراثة أن يرث الأبناء ما في الحجور والأحضان من الخصال والأخلاق وقد قضى النبي الأكرم قسماً وافراً من عمره الشريف في تلك الربوع واستظل بفيئها.

إيمان والدي النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله

لقد تعرفت على إيمان كفيل النبي صلی اللّه علیه و آله فهلمّ معي ندرس حياة والديه وإيمانهما ، فقد ذهبت الإمامية والزيدية وجملة من محقّقي أهل السنّة إلى إيمانهما وكونهما على خط التوحيد ، وشذَّ من قال : إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله من كثرة ما أنعم اللّه عليه ووفور إحسانه إليه لم يرزقه إسلام والديه.

فإنّ هذه الكلمة صدرت من غير تحقيق ، فإنّ التاريخ لم يضبط من حياتهما إلاّ شيئاً يسيراً ، وفيما ضبط إيعاز لو لم نقل دلالة على إيمانهما وكونهما على الصراط المستقيم.

ص: 275


1- راجع تفصيل ذلك الغدير : 7 / 330 - 409 و 8 / 1 - 29.

أمّا الوالد : فقد نقلت عنه كلمات وأبيات تدل على إيمانه ، فإليك ما نقله عنه أهل السير ، عندما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه فقال رداً عليها :

أمّا الحرام فالممات دونه *** والحل لا حل فاستبينه

يحمي الكريم عرضه ودينه *** فكيف بالأمر الذي تبغينه (1)

وقد روي عن النبي الأكرم أنّه قال : « لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ». ولعل فيه إيعازاً إلى طهارة آبائه وأُمّهاته من كل دنس وشرك (2).

وأمّا الوالدة : فكفى في ذلك ما رواه الحفّاظ عنها عند وفاتها فإنّها ( رضي اللّه عنها ) خرجت مع النبي صلی اللّه علیه و آله وهو ابن خمس أو ست سنين ونزلت بالمدينة تزور أخوال جده صلی اللّه علیه و آله ، وهم بنو عدي بن النجار ، ومعها أُم أيمن « بركة » الحبشية ، فأقامت عندهم ، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر أُموراً حدثت في مقامه ويقول : « إنّ أُمّي نزلت في تلك الدار ، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إليّ ، فنظر إليّ رجل من اليهود ، فقال : يا غلام ما اسمك ؟ فقلت : أحمد ، فنظر إلى ظهري وسمعته يقول : هذا نبي هذه الأُمّة ، ثم راح إلى إخوانه فأخبرهم ، فخافت أُمّي عليّ ، فخرجنا من المدينة ، فلمّا كانت بالأبواء توفيت ودفنت فيها ».

روى أبو نعيم في دلائل النبوّة عن أسماء بنت رهم قالت : شهدت آمنة أُمّ النبي صلی اللّه علیه و آله في علتها التي ماتت بها ، ومحمد عليه الصلاة والسلام غلام « يفع » (3) له

ص: 276


1- السيرة الحلبية : 1 / 46 وغيرها.
2- سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : 1 / 58.
3- يفع الغلام : ترعرع.

خمس سنين عند رأسها ، فنظرت إلى وجهه وخاطبته بقولها :

إنّ صح ما أبصرت في المنام *** فأنت مبعوث إلى الأنام

فاللّه أنهاك عن الأصنام *** أن لا تواليها مع الأقوام

ثم قالت : كل حي ميت ، وكل جديد بال ، وكل كبير يفنى ، وأنا ميتة ، وذكري باق وولدت طهراً.

وقال الزرقاني في « شرح المواهب » نقلاً عن جلال الدين السيوطي تعليقاً على قولها : وهذا القول منها صريح في أنّها كانت موحّدة ، إذ ذكرت دين إبراهيم علیه السلام وبشّرت ابنها بالإسلام من عند اللّه ، وهل التوحيد شيء غير هذا ؟! فإنّ التوحيد هو الاعتراف باللّه وانّه لا شريك له والبراءة من عبادة الأصنام (1).

هذا بعض ما ذكره المؤرّخون في أحوال والدي النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، والكل يدل على إخلاصهما ونزاهتهما عمّا كان هو السائد في البيئة التي كانا يعيشان فيها.

وأخيراً نوجه نظر القارئ إلى الرأي العام بين المسلمين حول إيمانهما ، قال الشيخ المفيد في « أوائل المقالات » :

واتفقت الإمامية على أنّ آباء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب مؤمنون باللّه عزّ وجلّ موحّدون له ، واحتجوا في ذلك بالقرآن والأخبار ، قال اللّه عزّ وجلّ : ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (2).

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات حتى أخرجني في عالمكم هذا » ، وأجمعوا على أنّ عمّه أبا طالب ( رحمه

ص: 277


1- الاتحاف للشبراوي : 144 ; سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : 1 / 57.
2- الشعراء : 218 - 219.

اللّه ) مات مؤمناً ، وأنّ آمنة بنت وهب كانت على التوحيد ، وأنّها تحشر في جملة المؤمنين (1).

أقول : الاستدلال بالآية يتوقف على كون المراد منها نقل روحه من ساجد إلى ساجد ، وهو المروي عن ابن عباس في قوله تعالى : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (2) قال : من نبي إلى نبي حتى أُخرجت نبياً (3).

وقد ذكره المفسرون بصورة أحد الاحتمالات ، ولكنّه غير متعين ، لاحتمال أن يكون المراد إنّه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة ، وتقلّبه في الساجدين عبارة عن تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده إذا كان إماماً لهم.

وأمّا الاستدلال بالحديث ، فهو مبني على أنّ من كان كافراً فليس بطاهر ، وقد قال سبحانه : ( إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (4).

لكن الحجة هي الاتفاق والإجماع ، مضافاً إلى ما تضافر من الروايات حول طهارة والدي النبي صلی اللّه علیه و آله التي جمعها الحافظ أبو الفداء ابن كثير في تاريخه قال : وخطب النبي صلی اللّه علیه و آله وقال : « أنا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب ... وما افترق الناس فرقتين إلاّ جعلني اللّه في خيرها ، فأُخرجت من بين أبوي ، فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية ، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأُمي ، فأنا خيركم نفساً ، وخيركم أباً » (5).

وعن عائشة قالت : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « قال لي جبرئيل : قلّبت الأرض من مشارقها

ص: 278


1- أوائل المقالات : 12 - 13.
2- الشعراء : 219.
3- البداية والنهاية : 2 / 239 ، طبعة دار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبعة الرابعة - 1408 ه.
4- مفاتيح الغيب : 6 / 431. والآية من سورة التوبة : 28.
5- البداية والنهاية : 2 / 238.

ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم ».

قال الحافظ البيهقي : وهذه الأحاديث وإن كان في رواتها من لا يحتج به ، فبعضها يؤكد بعضاً ، ومعنى جميعها يرجع إلى حديث واثلة بن الأسقع ، واللّه أعلم.

قلت : وفي هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبي صلی اللّه علیه و آله :

إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخر *** فعبدُ مناف سِرُّها وصميمُها

فإن حصلت أشرافُ عبدِ منافِها *** ففي هاشم أشرافُها وقديمها

وإن فَخَرتْ يوماً فإنّ محمداً *** هو المصطفَى من سرّها وكريمها

تداعت قريشُ غثُّها وسمينُها *** علينا فلم تظفر وطاشت حُلومها

وكنّا قديماً لا نقرّ ظلامةً *** إذا ماثنوا صُعْرَ الخدود نقيمها

ونحمي حماها كل يومِ كريهة *** ونضربُ عن أحجارها من يرومها

بنا انتعش العودُ الذواءُ وإنّما *** بأكنافنا تندى وتنمى أرومها (1)

ويعجبني أن أنقل ما ذكره الشبراوي في المقام : قال : ومبدأ الكلام في ذلك إنّ اللّه سبحانه قد أخرج هذا النوع الإنساني لأجله صلی اللّه علیه و آله وإنّ آدم عليه الصلاة والسلام كان أوّل فرد من أفراد هذا النوع ، وكان سائر أفراده مندرجة في صلبه بصور الذرات ، فلمّا نفخ الروح في آدم كان نور نسمة محمد صلی اللّه علیه و آله يلمع في جبهته كالشمس المشرقة ، ثم انتقل ذلك النور من صلب آدم إلى رحم حواء ، ومنها إلى صلب شيث ، ثم استمر هذا ينتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، وهو معنى قوله : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) ، وأشار إليه العلاّمة البوصيري بقوله :

لم تزل في ضمائر الكون تختا *** ر لك الأُمّهات والآباء

ص: 279


1- البداية والنهاية : 2 / 240.

وكان كل جد من أجداده من لدن آدم يأخذ العهد والميثاق أن لا يوضع ذلك النور المحمدي إلاّ في الطاهرات ، فأوّل من أخذ العهد آدم ، أخذه من شيث ، وشيث من أنوش ، وهو من « قينن » ، وهكذا إلى أن وصلت النوبة إلى عبد اللّه بن عبد المطلب ، فلمّا أُودع ذلك الجزء ، في صلبه لمع ذلك النور من جبهته ، فظهر له جمال وبهجة ، فكانت نساء قريش يرغبن في نكاحه ، وقد أسعد اللّه بتلك السعادة وشرّف بذلك الشرف « آمنة » بنت وهب ، فتزوجها عبد اللّه.

وقد روى الترمذي عن العباس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه خلق الخلق فجعلني في خيرهم ، ثم تخيّر القبائل فجعلني في خير قبيلة ، ثم تخيّر البيوت ، فجعلني في خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً ». أي ذاتاً وأصلاً.

وقد دلّت الآيات والأحاديث على أنّه صلی اللّه علیه و آله كما طابت ذاته الشريفة ، بما أُوتي من الكمال الأعلى ، كذلك طاب نسبه الشريف ، فلم يكن في آبائه ولا أُمهاته من لدن آدم وحواء إلى عبد اللّه وآمنة ، إلاّ من هو مصطفى مختار قد طابت أعراقه ، وحسنت أخلاقه.

أخرج ابن جرير ، عن مجاهد قال : استجاب اللّه تعالى دعوة إبراهيم في ولده ولم يعبد أحد منهم صنماً بعد دعوته ، واستجاب له وجعل هذا البلد آمناً ورزق أهله من الثمرات وجعله إماماً وجعل من ذريته من يقيم الصلاة.

قال السيوطي : وهذه الأوصاف كانت لأجداده صلی اللّه علیه و آله خاصة دون سائر ذريّة إبراهيم ، وكل ما ذكر عن ذريّة إبراهيم من المحاسن فإنّ أولى الناس به سلسلة الأجداد الشريفة ، الذين خصّوا بالاصطفاء وانتقل إليهم نور النبوة واحداً بعد واحد ، ولم يدخل ولد إسحاق وبقية ذريته لأنّه دعا لأهل هذا البلد ، ألا تراه قال : ( اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ) وعقّبه بقوله : ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ

ص: 280

الأَصْنَامَ ) (1) ، فلم تزل ناس من ذرية إبراهيم علیه السلام على الفطرة يعبدون اللّه تبارك وتعالى ، ويدلّ عليه قوله : ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) (2) فإنّ الكلمة الباقية هي كلمة التوحيد ، وعقب إبراهيم علیه السلام هم محمد صلی اللّه علیه و آله وآله الكرام ، قال بعض الأفاضل : اللّهم حل بيننا وبين أهل الخسران والخذلان الذين يؤذون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنسبة ما لا يليق بأبويه الكريمين الشريفين الطاهرين - إلى أن قال - : فهما ناجيان منعّمان في أعلى درجات الجنان ، وما عدا ذلك تهافت وهذيان ، لا ينبغي أن تصغي له الأُذنان ولا أن يعتني بإبطاله أُولو الشأن (3).

إذا وقفت على ما ذكرنا تعرف قيمة كلمة ابن حزم الأندلسي في أحكامه (4) ، حيث نسب إلى والدي النبي الأكرم ما لا يليق بساحتهما ، ويكفي في سقوط هذه الكلمة أنّ راويها وكاتبها ابن حزم الذي أجمع فقهاء عصره على تضليله والتشنيع عليه ونهي العوام عن الاقتراب منه وحكموا بإحراق كتبه (5).

وقال ابن خلّكان في وفياته : وكان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين لا يكاد يسلم أحد من لسانه ، فنفرت عنه القلوب ، واستهدف فقهاء وقته ، فتمالأوا على بغضه ، وردّوا قوله ، وأجمعوا على تضليله ، وشنّعوا عليه ، وحذّروا سلاطينهم من فتنته ، ونهوا عوامّهم عن الدنو إليه والأخذ عنه ، فأقصته الملوك وشردته عن بلاده حتّى انتهى إلى بادية « لبلة » ، فتوفي بها آخر نهار الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة ، وقيل إنّه توفي في « منت ليشم » ، وهي قرية ابن حزم المذكور. وفيه قال أبو العباس ابن العريف : كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج ابن يوسف شقيقين ، وإنّما قال ذلك لكثرة وقوعه في الأئمّة (6).

ص: 281


1- إبراهيم : 35.
2- الزخرف : 28.
3- الإتحاف بحب الأشراف : 113 - 118.
4- الأحكام : 5 / 171.
5- لسان الميزان : 4 / 200 ، وقد عرّفه الآلوسي في تفسيره : 21 / 76 بالضال المضل.
6- وفيات الأعيان : 3 / 327 - 328.
إيمان النبي الأكرم قبل البعثة

كان البحث عن إيمان عبد المطلب وسيد البطحاء ووالدي النبي ، كمقدمة للبحث عن إيمان النبي الأكرم قبل البعثة ، فإنّ إيمانه برسالته وإن كان أمراً مسلّماً وواضحاً كوضوح الشمس غير محتاج إلى الإسهاب غير أنّ إكمال البحث يجرّنا إلى أن نأتي ببعض ما ذكره التاريخ من ملامح حياته منذ صباه إلى أن بعث نبياً ، حتى يقترن ذلك الاتفاق بأصح الدلائل التاريخية ، وإليك الأقوال :

1. روى صاحب المنتقى في حديث طويل : أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لما تمَّ له ثلاث سنين ، قال يوماً لوالدته ( لمرضعته ) « حليمة السعدية » : « ما لي لا أرى أخوي بالنهار ؟ » قالت له : يابني إنّهما يرعيان غنيمات. قال : « فما لي لا أخرج معهما ؟ » قالت له : أتحب ذلك ؟ قال : « نعم » ، فلمّا أصبح محمد دهنته وكحّلته وعلّقت في عنقه خيطاً فيه جزع يماني ، فنزعه ثم قال لأُمّه : « مهلاً يا أُمّاه ، فإنّ معي من يحفظني » (1).

وهذه العبارة من الطفل الذي لم يتجاوز سنّه ثلاث سنين آية على أنّه كان يعيش في رعاية اللّه ، وكان له معلم غيبي « يسلك به طريق المكارم » ويلهمه ما يعجز عن إدراكه كبار الرجال آنذاك ، حيث كانت أُمّه تزعم بأنّ في الجزع اليماني مقدرة الحفظ لمن علقه على جيده ، فعلى الرغم من ذلك فقد خالفها الطفل ونزعه وطرحه ، وهذا إن دلَّ على شيء فإنّما يدل على أنّه كان بعيداً عن تلك الرسوم والأفكار ... السائدة في الجزيرة العربية.

ص: 282


1- المنتقى الباب الثاني من القسم الثاني للكازروني ، وقد نقله العلاّمة المجلسي في البحار : 15 / 392 من الطبعة الحديثة.

2. روى ابن سعد في طبقاته : أنّ بحيرا الراهب قال للنبي صلی اللّه علیه و آله : يا غلام أسألك بحق اللات والعزى ألاّ أخبرتني عمّا أسألك ؟ فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا تسألني باللات والعزى ، فواللّه ما أبغضت شيئاً بغضهما » ، قال : باللّه إلاّ أخبرتني عمّا أسألك عنه ؟ قال : « سلني عمّا بدا لك ... » (1).

3. روى ابن سعد في طبقاته : عند ذكر خروج النبي إلى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها « ميسرة » : إنّ محمداً باع سلعته فوقع بينه ورجل تلاح ، فقال له الرجل : احلف باللات والعزى ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ما حلفت بهما قط ، وانّي لأمرُّ فأعرض عنهما » فقال الرجل : القول قولك ، ثم قال لميسرة : يا ميسرة هذا واللّه نبي (2).

وممّا يشهد على توحيده أنّه لم ير قط مائلاً عن الحق ، ساجداً لوثن أو متوسّلاً به ، بل كان يتحنّث في كل سنة في غار حراء في بعض الشهور ، فوافاه جبرئيل ( عليه الصلاة والسلام ) في بعض تلك المواقف وبشّره بالرسالة وخلع عليه كساء النبوة.

وهذه الوقائع التاريخية أصدق دليل على إيمانه ، ولأجل اتفاق المسلمين على ذلك نطوي بساط البحث ونركّزه على بيان الشريعة التي كان عليها قبل بعثته ، وهذا هو الذي بحث عنه المتكلمون والأُصوليون بإسهاب.

الشريعة التي كان يعمل بها النبيُّ صلی اللّه علیه و آله

اختلف الباحثون في أنّ النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله هل كان متعبّداً بشرع قبل بعثته

ص: 283


1- الطبقات الكبرى : 1 / 154 ; السيرة النبوية : 1 / 182.
2- الطبقات الكبرى : 1 / 156.

أو لا ؟ على أقوال نلفت نظر القارئ إليها :

1. لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً. نسب ذلك إلى أبي الحسن البصري.

2. التوقف وعدم الجنوح إلى واحد من الأقوال. ذهب إليه القاضي عبد الجبار والغزالي ، وهو خيرة السيد المرتضى في ذريعته.

3. إنّه كان يتعبّد بشريعة من قبله مردّدة بين كونها شريعة نوح أو إبراهيم أو موسى ، أو المسيح بن مريم علیهم السلام .

4. كان يتعبّد بما ثبت أنّه شرع.

5. كان يعمل في عباداته وطاعته بما يوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم لا.

6. انّه كان يعمل بشرع نفسه.

والأخير هو الظاهر من الشيخ الطوسي في عدته قال : عندنا أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لم يكن متعبداً بشريعة من تقدّمه من الأنبياء لا قبل النبوة ولا بعدها ، وانّ جميع ما تعبّد به كان شرعاً له ، ويقول أصحابنا : إنّه كان قبل البعثة يوحى إليه بأشياء تخصه ، وكان يعمل بالوحي لا اتّباعاً بشريعة (1).

وما ذكره أخيراً ينطبق على القول السادس ، والأقوال الثلاثة الأخيرة متقاربة ، وإليك دراستها واحداً بعد آخر ببيان مقدمة :

ص: 284


1- راجع للوقوف على الأقوال : الذريعة : 2 / 595 ، وذكر أقوالاً ثلاثة ; وعدّة الشيخ الطوسي : 2 / 60 ، وذكر الأقوال مسهبة ; البحار : 18 / 271 ، ونقل الأقوال عن شرح العلاّمة لمختصر الحاجبي ; والمعارج للمحقّق الحلي : 60 ; المبادئ للعلاّمة الحلي : 30 ; القوانين للمحقّق القمّي : 1 / 494.
نظرة إجمالية على حياته

إنّ من أطلّ النظر على حياته صلی اللّه علیه و آله يقف على أنّه كان يعبد اللّه سبحانه ويعتكف ب « حراء » كل سنة شهراً ، ولم يكن اعتكافه مجرّد تفكير في جلاله وجماله وآياته وآثاره ، بل كان مع ذلك متعبداً لله قانتاً له ، وقد نزل الوحي عليه وخلع عليه ثوب الرسالة وهو متحنث (1) ب « حرّاء » ، وذلك مما اتفق عليه أهل السير والتاريخ.

قال ابن هشام : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يجاور ذلك الشهر من كل سنة ، يطعم من جاءه من المساكين ، فإذا قضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جواره من شهره ذلك ، كان أوّل ما يبدأ به إذا انصرف من جواره ، الكعبة ، قبل أن يدخل بيته ، فيطوف بها سبعاً أو ما شاء اللّه من ذلك ، ثم يرجع إلى بيته ، حتى إذا كان الشهر الذي أراد اللّه تعالى به فيه ما أراد من كرامته ، من السنة التي بعثه اللّه تعالى فيها; وذلك الشهر شهر رمضان ، خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله ، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه اللّه فيها برسالته ، ورَحِمَ العبادَ بها ، جاءه جبريلُ علیه السلام بأمر اللّه تعالى (2).

ولم تكن عبادته منحصرة بالاعتكاف أو الطواف حول البيت بعد الفراغ منه ، بل دلت الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت على أنّه صلی اللّه علیه و آله حج عشرين حجة مستسراً (3).

ص: 285


1- التحنث : هو التحنف ، بدّلت الفاء ( ثاء ) ، كما يقال ( جدف ) مكان جدث ، بمعنى القبر ، وربّما يقال : بأنّه بمعنى الخروج عن الحنث بمعنى الاثم ، كما أنّ التأثم هو الخروج عن الإثم ، والأوّل هو الأولى.
2- السيرة النبوية : 1 / 236.
3- الوسائل : 8 / 87 باب 45 ، استحباب تكرار الحج والعمرة ; البحار : 11 / 280.

روى غياث بن إبراهيم ، عن الإمام الصادق علیه السلام : « لم يحج النبي بعد قدوم المدينة إلاّ واحدة ، وقد حج بمكة مع قومه حجّات » (1).

ولم تكن أعماله الفردية أو الاجتماعية منحصرة في المستقلات العقلية ، كالاجتناب عن البغي والظلم وكالتحنن على اليتيم والعطف على المسكين ، بل كان في فترة من حياته راعياً للغنم ، وفي فترات أُخرى ضارباً في الأرض للتجارة ، ولم يكن في القيام بهذه الأعمال في غنى عن شرع يطبق أعماله عليه ، إذ لم يكن البيع والربا والخل والخمر ولا المذكّى وغيره عنده سواسية ، وليست هذه الأُمور ونظائرها مما يستقل العقل بأحكامها.

فطبيعة الحال تقتضي أن يكون صلی اللّه علیه و آله عارفاً بأحكام عباداته وطاعاته ، واقفاً على حرام أفعاله وحلالها ، في زواجه ونكاحه في حلّه وترحاله ، ولولاه أشرف على اقتراف ما حرّمه اللّه سبحانه في عامّة شرائعه ، والاقتراف أو الدنو منه يناقض أهداف البعثة ، فإنّها لا تتحقّق إلاّ بعمله قبل بعثته بما سوف يدعو إليه بعد بعثته.

وعلى ضوء هذه المقدمة يبطل القول الأوّل من أنّه لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً ، لما عرفت من أنّ العبادة والطاعة لا تصح إلاّ بعد معرفة حدودها وخصوصيّاتها عن طريق الشرع ، كما أنّ الاجتناب عن محارم اللّه في العقود والإيقاعات وسائر ما يرجع إلى أعماله وأفعاله الفردية والاجتماعية ، يتوقف على معرفة الحلال والحرام ، حتى يتخذه مقياساً في مقام العمل ، وعند ذاك كيف يصح القول بأنّه لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً ؟ وإلاّ يلزم أن ننكر عباداته وطاعاته قبل

ص: 286


1- الوسائل : 8 / 88 باب 45 ، استحباب تكرار الحج والعمرة ، الحديث 4.

البعثة أو نرميه باقتراف الكبائر في تلك الفترة ، وهو يضاد عصمته قبل البعثة كما يضاد أهدافها.

قال العلاّمة المجلسي : قد ورد في أخبار كثيرة أنّه صلی اللّه علیه و آله كان يطوف وأنّه كان يعبد اللّه في حراء ، وأنّه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية والتحميد عند الأكل وغيره ، وكيف يجوّز ذو مسكة من العقل ، على اللّه تعالى أن يهمل أفضل أنبيائه أربعين سنة بغير عبادة ؟! والمكابرة في ذلك سفسطة ، فلا يخلو إمّا أن يكون عاملاً بشريعة مختصة به أوحى اللّه إليه بها ، وهو المطلوب ، أو عاملاً بشريعة غيره (1).

نعم روى أحمد في مسنده ، عن سعيد بن زيد قال : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمكة هو وزيد بن حارثة ، فمرَّ بهما زيد بن عمرو بن نفيل فدعوه إلى سفرة لهما ، فقال يابن أخي إنّي لا آكل مما ذبح على النصب ، قال : فما رؤي النبي صلی اللّه علیه و آله بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب ، قال : قلت لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ أبي كان كما قد رأيت وبلغك ، ولو أدركك لآمن بك واتبعك فاستغفر له ؟ قال : نعم ، فاستغفر له فإنّه يبعث يوم القيامة أُمَّة واحدة (2).

نحن لا نعلق على هذا الحديث شيئاً سوى أنّه يستلزم أن يكون زيد أعرف بأحكام اللّه تعالى من النبي الأكرم ، الذي كان بمقربة من البعث إلى هداية الأُمّة ، أضف إليه أنّ الحديث مروي عن طريق سعيد بن زيد الذي يَدّعي فيه شرفاً لأبيه ، وفي الوقت نفسه نقصاً للنبي صلی اللّه علیه و آله . ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) (3).

هذا كلّه حول القول الأوّل.

ص: 287


1- البحار : 18 / 280.
2- مسند أحمد : 1 / 189 - 190.
3- الكهف : 5.
نظرية التوقف في تعبّده

أمّا الثاني : أعني التوقف ، فقد ذهب إليه المرتضى ، واستدل على مختاره بقوله : والذي يدل عليه أنّ العبادة بالشرائع تابعة لما يعلمه اللّه تعالى من المصلحة بها في التكليف العقلي ، ولا يمتنع أن يعلم اللّه تعالى أنّه لا مصلحة للنبي صلی اللّه علیه و آله قبل نبوته في العبادة بشيء من الشرائع ، كما أنّه غير ممتنع أن يعلم أنّ له صلی اللّه علیه و آله في ذلك مصلحة ، وإذا كان كل واحد من الأمرين جائزاً ولا دلالة توجب القطع على أحدهما وجب التوقف (1).

وما ذكره محتمل في حد نفسه ، ولكنّه مدفوع بما في الأخبار والآثار من عبادته واعتكافه ، وقد عرفت أنّه كان يتعبد لله ، وكانت له أعمال فردية واجتماعية تحتاج إلى أن تكون وفق شريعة ما.

نظرية عمله بالشرائع السابقة

وهذا هو القول الثالث بشقوقه الأربعة : فيتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يعمل على طبق أحد الشرائع الأربع تابعاً لصاحبها ومقتدياً به بوجه يعد أنّه من أُمّته ; وهذا الشق مردود من جهات :

أ. انّ هذا يتوقف على ثبوت عموم رسالات أصحاب هذه الشرائع ، وهو غير ثابت ، وقد أوضحنا حالها في الجزء الثالث من موسوعة مفاهيم القرآن (2).

ب. انّ العمل بهذه الشرائع فرع الاطّلاع عليها ، وهو إمّا أن يكون حاصلاً

ص: 288


1- الذريعة : 2 / 596.
2- لاحظ الجزء الثالث : 77 - 116.

من طريق الوحي ، فعندئذ يكون عاملاً بشريعة من تقدم ولا يكون تابعاً لصاحبها ومقتدياً به ، وإن كان عاملاً بالشريعة التي نزلت قبله ، وهذا نظير أنبياء بني إسرائيل فقد كانوا مأمورين بالحكم على طبق التوراة مع أنّهم لم يكونوا من أُمّة موسى قال سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) (1) ، وإلى هذا الشق يشير المرتضى بقوله : إنّه غير ممتنع أن يوجب اللّه تعالى عليه بعض ما قامت الحجة من بعض الشرائع المتقدّمة لا على وجه الاقتداء بغيره فيها ولا الاتباع.

وإمّا أن يكون حاصلاً من طريق مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم وهذا مما لا تصدّقه حياته إذ لم يكن مخالطاً لهم ولم يتعلم منهم شيئاً ولم يسألهم.

يقول العلاّمة المجلسي : لو كان متعبّداً بشرع لكان طريقه إلى ذلك إمّا الوحي أو النقل ، ويلزم من الأوّل أن يكون شرعاً له لا شرعاً لغيره ، ومن الثاني التعويل على اليهود ، وهو باطل (2).

ج. انّ العمل بشريعة من قبله ما سوى المسيح بن مريم ، يستلزم أن يكون عاملاً بالشرائع المنسوخة فهو أشدّ فساداً ، فكيف يجوز العمل بشريعة نسخت ؟

قال الشيخ الطوسي : فإن قالوا : كان متعبّداً بشريعة موسى ، فإنَّ ذلك فاسد حيث إنّ شريعته كانت منسوخة بشريعة عيسى ، وإن قالوا : كان متعبّداً بشريعة عيسى فهو أيضاً فاسد ، لأنّ شريعته قد انقطعت واندرس نقلها ولم تتصل كاتصال نقل المعجزة ، وإذا لم تتصل لم يصح أن يعمل بها (3).

ص: 289


1- المائدة : 44.
2- البحار : 18 / 276.
3- عدة الأُصول : 2 / 61.

أضف إلى ذلك أنّه لم يثبت أنّ عيسى جاء بأحكام كثيرة ، بل الظاهر أنّه جاء لتحليل بعض ما حرّم في شريعة موسى علیه السلام قال سبحانه : ( وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَطِيعُونِ ) (1) ، فلو كان النبي عاملاً بشريعة عيسى ففي الحقيقة يكون عاملاً بشريعة موسى المعدّلة بما جاء به عيسى.

د. اتفقت الآثار على كونه أفضل الخلق واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً ، قال الشيخ الطوسي : إنّه صلی اللّه علیه و آله أفضل من جميع الأنبياء ولا يجوز أن يؤمر الفاضل باتّباع المفضول ، ولم يخص أحد تفضيله على سائر الأنبياء ، بوقت دون وقت ، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات.

وهذه الوجوه وإن كان بعضها غير خال من الإشكال لكن الجميع يزيّف القول بأنّه كان يعمل بشريعة من قبله.

وأمّا دليل من قال بهذا القول فضعيف جداً حيث قال : كيف يصح أن يقال : انّه لم يكن متعبداً بشريعة من تقدّم مع أنّه كان يطوف بالبيت ويحج ويعتمر ويذكّي ويأكل المذكّى ويركب البهائم ؟ (2)

وفيه أوّلاً : انّ بعض ما ذكره يعد من المستقلات العقلية ، فتكفي فيه هداية العقل ودلالته.

وثانياً : انّ الدليل أعم من المدّعى ، لأنّ عمله كما يمكن أن يكون مستنداً إلى شريعة من قبله ، يمكن أن يكون مستنداً إلى الوحي إليه ، لا اتّباعاً لشريعة ، وسوف

ص: 290


1- آل عمران : 50.
2- الذريعة : 2 / 596 ; العدة : 60 - 61.

يوافيك أنّه كان يوحى إليه قبل أن يتشرّف بمقام الرسالة وأنّ نبوّته كانت متقدّمة على رسالته ، وأنّ جبريل نزل إليه بالرسالة عندما بلغ الأربعين ، والاستدلال مبني على أنّ نبوّته ورسالته كانتا في زمان واحد ، وهو غير صحيح كما سيأتي.

وعلى هذا الوجه الصحيح لا نحتاج إلى الإجابة عن الاستدلال بما تكلّف به المرتضى في ذريعته ، والطوسي في عدّته.

قال الأوّل : لم يثبت عنه صلی اللّه علیه و آله أنّه قبل النبوّة حج أو اعتمر ، وبالتظنّي لا يثبت مثل ذلك ، ولم يثبت أيضاً أنّه صلی اللّه علیه و آله تولّى التذكية بيده ، وقد قيل أيضاً : إنّه لو ثبت أنّه ذكّى بيده ، لجاز أن يكون من شرع غيره في ذلك الوقت ، « أن يستعان بالغير في الذكاة » (1) فذكّى على سبيل المعونة لغيره ، وأكل اللحم المذكّى لا شبهة في أنّه غير موقوف على الشرع ، لأنّه بعد الذكاة قد صار مثل كل مباح من المأكل ، وركوب البهائم والحمل عليها ، يحسن عقلاً إذا وقع التكفّل بما يحتاج إليه من علف وغيره ، ولم يثبت أنّه علیه السلام فعل من ذلك ما لا يستباح بالعقل فعله (2).

وقريب منه ما في عدّة الشيخ الطوسي (3).

ولا يخفى أنّ بعض ما ذكره وإن كان صحيحاً ، لكن إنكار حجه واعتماره وعبادته في حرّاء واتجاره الذي يتوقف الصحيح منه على معرفة الحلال والحرام ، ممّا لا يمكن إنكاره ، فلا محيص عن معرفته بالمقاييس الصحيحة في هذه الموارد ، إمّا من عند نفسه ، أو من ناحية الاتّباع لشريعة غيره.

ص: 291


1- يريد أنّ من أحكام الشريعة السابقة أن يستعين الرجل في تذكية الحيوان بالغير - وعلى ذلك - فالنبي ذكّى نيابة عن الغير ، ولأجله ولم يذكّ لنفسه.
2- الذريعة : 2 / 597 - 598.
3- عدة الأُصول : 2 / 63.
الوجوه الأخيرة الثلاثة المتقاربة

إذا تبيّن عدم صحة هذه الأقوال الثلاثة تثبت الوجوه الأخيرة التي يقرب بعضها من بعض ، ويجمع الكل إنّه كان يعمل حسب ما يلهم ويوحى إليه ، سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم مخالفاً ، وانّ هاديه وقائده منذ صباه إلى أن بعث هو نفس هاديه بعد البعثة.

ويدل على ذلك وجوه :

1. ما أُثر عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام من أنّه من لدن كان فطيماً كان مؤيداً بأعظم ملك يعلّمه مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ، وهذه مرتبة من مراتب النبوّة وإن لم تكن معها رسالة.

قال علیه السلام : « ولقد قرن اللّه به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره » (1).

إنّا مهما جهلنا بشيء ، فلا يصح لنا أن نجهل بأنّ النبوة منصب إلهي لا يتحمّلها إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس ، ولا يقوم بأعبائها إلاّ من عمّر قلبه بالإيمان ، وزوّد بالخلوص والصفاء ، وغمره الطهر والقداسة وأُعطى مقدرة روحية عظيمة ، لا يتهيب حينما يتمثل له رسول ربّه وأمين وحيه ، ولا تأخذه الضراعة والخوف عند سماع كلامه ووحيه ، وتلك المقدرة لا تفاض من اللّه على عبد إلاّ أن يكون في رعاية ملك كريم من ملائكته سبحانه ، يرشده إلى معالم الهداية ومدارج الكمال ، ويصونه من صباه إلى شبابه ، وإلى كهولته عن كل سوء وزلة. وهذا هو السرّ في وقوعه تحت كفالة أكبر ملك من ملائكته حتى تستعد نفسه لقبول

ص: 292


1- نهج البلاغة : 2 / 82 ، من خطبة تسمّى القاصعة 187 ، طبعة عبده.

الوحي ، وتتحمل القول الثقيل الذي سيلقى عليه.

2. ما رواه عروة بن الزبير عن عائشة أُمّ المؤمنين أنّها قالت : أوّل ما بُدئ به رسول اللّه من الوحي ، الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنَّث فيه ، - وهو التعبّد - الليالي ذوات العدد ، قبل أن يَنزعَ إلى أهله ويتزوّد لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها حتى جاءه الحق ، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ (1).

3. روى الكليني بسند صحيح عن الأحول قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الرسول والنبي والمحدّث قال : « الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً ... وأمّا النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم علیه السلام ، ونحو ما كان رأى رسول اللّه من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل من عند اللّه بالرسالة » (2).

وهذه المأثورات تثبت بوضوح أنّه صلی اللّه علیه و آله قبل أن يُبعث ، كان تحت كفالة أكبر ملك من ملائكة اللّه ، يرى في المنام ويسمع الصوت ، قبل أن يبلغ الأربعين سنة ، فلمّا بلغها بُشّر بالرسالة ، وكلّمه الملك معاينة ونزل عليه القرآن ، وكان يعبد اللّه قبل ذلك بصنوف العبادات ، إمّا موافقاً لما سيؤمر به بعد تبليغه ، أو مطابقاً لشريعة إبراهيم أو غيره ، ممن تقدمه من الأنبياء ، لا على وجه كونه تابعاً لهم وعاملاً بشريعتهم ، بل بموافقة ما أُوحي إليه مع شريعة من تقدّم عليه.

ثم إنّ العلاّمة المجلسي استدل على هذا القول بوجه آخر ، وهو : انّ يحيى وعيسى كانا نبيّين وهما صغيران ، وقد ورد في أخبار كثيرة انّ اللّه لم يعط نبيّاً فضيلة

ص: 293


1- صحيح البخاري : 1 / 3 ، باب بدء الوحي إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ; السيرة النبوية : 1 / 234 - 236.
2- الكافي : 1 / 176.

ولا كرامة ولا معجزة إلاّ وقد أعطاها نبينا صلی اللّه علیه و آله ، فكيف جاز أن يكون عيسى علیه السلام في المهد نبياً ولم يكن نبينا صلی اللّه علیه و آله إلى أربعين سنة نبياً (1) ؟!

قال سبحانه حاكياً عن المسيح : ( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) (2) ، وقال سبحانه مخاطباً ليحيى : ( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا ) (3).

ولازم ذلك أنّ النبي قبل بعثته في صباه أو بعد ما أكمل اللّه عقله كان نبياً مؤيداً بروح القدس يكلّمه الملك ، ويسمع الصوت ويرى في المنام.

وإنّما بُعث إلى الناس بعد ما بلغ أربعين سنة ، وعند ذاك كلّمه الملك معاينة ونزل عليه القرآن وأُمر بالتبليغ.

ويؤيد ذلك ما رواه الجمهور عنه صلی اللّه علیه و آله من أنّه كان نبياً وآدم بين الروح والجسد (4).

هذا كلّه راجع إلى حاله قبل بعثته ، وأمّا بعدها فنأتي بمجمل القول فيه :

حاله بعد البعثة

قد عرفت حال النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله قبل بعثته ، فهلمّ معي ندرس حاله بعدها ،

ص: 294


1- البحار : 18 / 279.
2- مريم : 30 - 31.
3- مريم : 12.
4- نقل العلاّمة الأميني مصادره عن عدة من الكتب ، وذكر انّ للحديث عدّة ألفاظ من طرق شتى. لاحظ الجزء 9 / 287.

وقد اختلفوا فيه أيضاً على قولين :

فمن قائل : إنّه كان يتعبّد بشرع من قبله.

ومن قائل آخر ينفيه بتاتاً.

وقد بسط الكلام في هذا المقام السيد المرتضى في « ذريعته » وتلميذه الجليل في « عدّته » فاختارا القول الثاني وأوضحا برهانه (1).

غير انّي أرى البحث في ذلك عديم الفائدة ، لأنّ المسلمين اتفقوا على أنّه بعد البعثة ، ما كان يقول إلاّ ما يوحى إليه ، ولا يصدر عنه شيء إلاّ عن هذا الطريق ، فإذا كان الواجب علينا اقتفاء أمره ونهيه ، والعمل بالوحي الذي نزل عليه ، فأي فائدة في البحث عن أنّه هل كان ما يأمر به وينهى عنه ، صدر عن التعبّد بشريعة من قبله ، أو صدر عن شريعته ؟ إذ الواجب علينا الأخذ بما أتى به ، بأي لون وشكل كان ، وفي ذلك يقول المحقّق الحلّي : إنّ هذا الخلاف عديم الفائدة ، لأنّا لا نشك أنّ جميع ما أتى به لم يكن نقلاً عن الأنبياء ، بل عن اللّه تعالى بإحدى الطرق الثلاث التي أُشير إليها في قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (2).

فإذا كان صلی اللّه علیه و آله لا يصدر عنه شيء إلاّ عن طريق الوحي ، فلا تترتب على البحث أيّة فائدة ، فسواء أكان متعبداً بشرع من قبله أم لم يكن ، فهو صلی اللّه علیه و آله لا يأمر ولا ينهى إلاّ بإذنه سبحانه (3).

ص: 295


1- الذريعة : 2 / 598 ; العدة : 2 / 61.
2- الشورى : 51.
3- لاحظ المعارج : 65 ، بتوضيح منّا.

قال سبحانه : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1) ، وقال عزّ من قائل : ( كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللّهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (2) ، وقال تعالى : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) (3) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل بوضوح على أنّ كل ما يأمر وينهي ، مستند إلى الوحي منه سبحانه إليه ، سواء أمره بالأخذ من الشرع السابق أم أمره بما يماثله أو يخالفه.

أضف إلى ذلك إنّه إذا لم يجز له التعبد بالشرع السابق قبل البعثة بالدلائل السابقة لم يجز له أيضاً بعدها.

نعم هناك بحث آخر وهو حجية شرع من قبلنا للمستنبط إذا لم يجد في الشريعة المحمدية دليلاً على حكم موضوع خاص ، فهل يجوز أن يعمل بالحكم الثابت في الشرائع السماوية السالفة ما لم يثبت خلافه في شرعنا أم لا ؟

فهذه مسألة أُصولية طرحها الأُصوليون في كتبهم قديماً وجديداً ، فاستدل القائلون بالجواز بالآيات التالية :

1. ( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (4).

2. ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) (5).

3. ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) (6).

ص: 296


1- النجم : 3 - 4.
2- الشورى : 3.
3- الأحقاف : 9.
4- الأنعام : 90.
5- النحل : 123.
6- الشورى : 13.

4. ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) (1).

ولكن الكلام في دلالة هذه الآيات على ما يتبنّاه هؤلاء وهي غير واضحة ، وقد بسط المحقق الكلام في دلالة الآيات في أُصوله (2) ، ونقله العلاّمة المجلسي في « بحاره » (3) ، ونحن نحيل القارئ الكريم إلى مظانّه.

الآيات التي وقعت ذريعة لبعض المخطّئة
اشارة

هذا حال النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله قبل البعثة ، وحال أجداده وآبائه وبعض أعمامه ، وقد خرجنا من هذا البحث الضافي بهذه النتائج :

1. انّ النبي صلی اللّه علیه و آله قد ولد في بيت كان يسوده التوحيد وقد ترعرع وشب واكتهل في أحضان رجال لم يتخلّفوا عن الدين الحنيف قيد شعرة.

2. انّ النبي صلی اللّه علیه و آله منذ نعومة أظفاره كان تحت رعاية أكبر ملك من ملائكته سبحانه فيلهم ويوحى إليه قبل أن يبلغ الأربعين ، ويخلع عليه ثوب الرسالة.

3. انّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان مؤمناً باللّه ، وموحداً له ، يعبده ، ولا يعبد غيره ، ويتقرّب إليه بالطاعات والقربات ، ويتجنب المعاصي والمآثم.

هذه هي الحقيقة الملموسة من حياته يقف عليها من سبر تاريخ حياته بإمعان ، وقد مرّ أنّ هناك آيات وقعت ذريعة لبعض المخطّئة لعصمته ، فدخلت لأجلها في أذهانهم شبهات في إيمانه وهدايته قبل البعثة.

ص: 297


1- المائدة : 44.
2- معارج الأُصول : 157.
3- البحار : 18 / 276 - 277.

وهؤلاء بدل أن يفسروا الآيات على غرار التاريخ المسلّم من حياته ، أو يسلّطوا الضوء عليها بما تضافرت الأخبار والروايات عليه ، عكسوا الأمر فرفضوا التاريخ المسلّم الصحيح والروايات المتضافرة اغتراراً ببعض الظواهر مع أنّها تهدف إلى مقاصد أُخر تتضح من البحث الآتي ، وإليك هذه الآيات :

1. ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ) (1).

2. ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (2).

3. ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (3).

4. ( وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ) (4).

5. ( قُل لَّوْ شَاءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (5).

وقد استدلت المخطّئة بهذه الآيات على مدّعاها ، بل على زعم سلب الإيمان عنه قبل أن يبعث ، لكنّها لا تدل على ما يريدون ولأجل تسليط الضوء على مقاصدها نبحث عنها واحدة بعد واحدة.

ص: 298


1- الضحى : 6 - 7.
2- المدثر : 4 - 5.
3- الشورى : 52.
4- القصص : 86.
5- يونس : 16.
الآية الأُولى : الهداية بعد الضلالة ؟
اشارة

إنّ قوله سبحانه : ( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ) هل يتضمن هدايته بعد الضلالة ؟

وقد ذكر المفسرون للآية عدّة احتمالات أنهاها الرازي في تفسيره إلى ثمانية ، لكن أكثرها من مخترعات الذهن ، لأجل الإجابة عن استدلال الخصم على كونه صلی اللّه علیه و آله كان ضالاً قبل البعثة ، غير مؤمن ولا موحد ، فهداه اللّه سبحانه ، ولكن الحق في الجواب أن يقال :

إنّ الضال يستعمل في عرف اللغة في موارد :

1. الضال : من الضلالة : ضد الهداية والرشاد.

2. الضال : من ضل البعير : إذا لم يعرف مكانه.

3. الضال : من ضل الشيء : إذا ضؤل وخفي ذكره.

وتفسير الضال بأيّ واحد من هذه المعاني لا يثبت ما تدّعيه المخطّئة سواء أجعلناها معاني مختلفة جوهراً وشكلاً ، أم جعلناها معنى واحداً جوهراً ومختلفاً شكلاً وصورة ، فإنّ ذلك لا يؤثر فيما نرتئيه ، وإليك توضيحه :

أمّا المعنى الأوّل : فهو المقصود من تلك اللفظة في كثير من الآيات ، قال سبحانه : ( غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) (1) ، لكن الضلالة بمعنى ضد الهداية والرشاد يتصور على قسمين :

قسم : تكون الضلالة فيه وصفاً وجودياً ، وحالة واقعية كامنة في النفس ،

ص: 299


1- الحمد : 7.

توجب منقصتها وظلمتها ، كالكافر والمشرك والفاسق ، والضلالة في هاتيك الأفراد صفة وجودية تكمن في نفوسهم ، وتتزايد حسب استمرار الإنسان في الكفر والشرك والعصيان والتجرّي على المولى سبحانه ، قال اللّه سبحانه : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (1).

فإنّ لازدياد الإثم بالجوارح تأثيراً في زيادة الكفر ، وقد وصف سبحانه بعض الأعمال بأنّها زيادة في الكفر قال سبحانه : ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (2).

وقسم منه : تكون الضلالة فيه أمراً عدمياً ، بمعنى كون النفس فاقدة للرشاد غير مالكة له ، وعندئذ يكون الإنسان ضالاً بمعنى أنّه غير واجد للهداية من عند نفسه ، وفي الوقت نفسه لا تكمن فيه صفة وجودية مثل ما تكمن في نفس المشرك والعاصي ، وهذا كالطفل الذي أشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير من الشر ، والصلاح من الفساد ، والسعادة من الشقاء ، فهو آنذاك ضال ، لكن بالمعنى الثاني ، أي غير واجد للنور الذي يهتدي به في سبيل الحياة ، لا ضال بالمعنى الأوّل بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في روحه.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم : أنّه لو كان المراد من الضال في الآية ، ما يخالف الهداية والرشاد فهي تهدف إلى القسم الثاني منه لا الأوّل : بشهادة أنّ الآية بصدد توصيف النعم التي أفاضها اللّه سبحانه على نبيّه يوم افتقد أباه ثم أُمّه فصار يتيماً لا ملجأ له ولا مأوى ، فآواه وأكرمه ، بجدّه عبد المطلب ثم بعمّه أبي طالب ، وكان

ص: 300


1- آل عمران : 178.
2- التوبة : 37.

ضالاً في هذه الفترة من عمره ، فهداه إلى أسباب السعادة وعرّفه وسائل الشقاء.

والالتزام بالضلالة بهذا المعنى لازم القول بالتوحيد الإفعالي ، فإنّ كل ممكن كما لا يملك وجوده وحياته ، لا يملك فعله ولا هدايته ولا رشده إلاّ عن طريق ربّه سبحانه ، وإنّما يفاض عليه كل شيء منه قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (1) ، فكما أنّ وجوده مفاض من اللّه سبحانه ، فهكذا كل ما يوصف به من جمال وكمال فهو من فيوض رحمته الواسعة ، والاعتقاد بالهداية الذاتية ، وغناء الممكن بعد وجوده عن هدايته سبحانه يناقض التوحيد الإفعالي الذي شرحناه في موسوعة مفاهيم القرآن (2).

وقد تضافرت الآيات على هذا الأصل ، وأنّ هداية كل ممكن مكتسبة من اللّه سبحانه من غير فرق بين الإنسان وغيره ، وفي الأوّل بين النبي وغيره ، قال سبحانه : ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (3) ، وقال سبحانه : ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) (4) ، وقال سبحانه : ( وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ ) (5) ، وقال سبحانه : ( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) (6) ، وقال تعالى : ( إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) (7) ، وقال تبارك وتعالى : ( وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) (8) ، إلى غير ذلك من الآيات.

ص: 301


1- فاطر : 15.
2- لاحظ الجزء الأوّل : 297 - 376.
3- طه : 50.
4- الأعلى : 2 - 3.
5- الأعراف : 43.
6- الشعراء : 78.
7- الزخرف : 27.
8- سبأ : 50.

وعلى هذا الأساس فالآية تهدف إلى بيان النعم التي أنعمها سبحانه على حبيبه منذ صباه فآواه بعد ما صار يتيماً لا مأوى له ولا ملجأ ، وأفاض عليه الهداية بعدما كان فاقداً لها حسب ذاتها ، وأمّا تحديد زمن هذه الإفاضة فيعود إلى أوليات حياته وأيّام صباه بقرينة ذكره بعد الإيواء الذي تحقّق بعد اليتم ، وتمّ بجدّه عبد المطلب فوقع في كفالته إلى ثماني سنين ويؤيد ذلك قول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « ولقد قرن اللّه به صلی اللّه علیه و آله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره » (1).

والحاصل : انّ الهداية في الآية نفس الهداية الواردة في قوله : ( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ، وفي قوله : ( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) إلى غير ذلك من الآيات التي أوعزنا إليها ، والاعتقاد بكونه ضالاً أي فاقداً لها في مقام الذات ثم أُفيضت عليه الهداية ، هو مقتضى التوحيد الإفعالي ولازم كون النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ممكناً بالذات ، فاقداً في ذاته كل كمال وجمال ، مفاضاً عليه كل جميل من جانبه سبحانه ، وأين هو من الضلالة المساوقة للكفر والشرك أو الفسق والعصيان ؟!

وإن شئت قلت : إنّ الضلالة في الآية ترادف الخسران الوارد في قوله سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) والهداية فيها ترادف الإيمان والعمل الصالح الواردين بعده ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) (2) ، فالإنسان بما أنّه يصرف رأس ماله ، أعني : عمره الغالي كل يوم ، خاسر بالذات ، إلاّ إذا اكتسب به ما يبقى ولا ينفد أثره وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح ، والنبي وغيره في هذه الأحكام سواسية بل في كل التوصيفات الواردة في مجال الإنسان التي يثبتها القرآن له ولا

ص: 302


1- نهج البلاغة : الخطبة 178 ، والتي تسمّى بالقاصعة.
2- العصر : 2 - 3.

وجه لإرجاعها إلى صنف دون صنف ، بعد كونها من خواص الطبيعة الإنسانية ما لم تقع تحت رعاية اللّه وهدايته.

وبذلك يتبيّن أنّ الضلالة في الآية - لو فسرت بضد الهدى والرشاد - لا تدل على ما تدّعيه المخطّئة ، بل هي بصدد بيان قانون كلي سائد على عالم الإمكان من غير فرق بين الإنسان وغيره ، وفي الأوّل بين النبي وغيره.

حول الاحتمالين الآخرين

ولكن هذا المعنى غير متعين في الآية إذ من المحتمل أن تكون الضلالة فيها مأخوذة من « ضل الشيء : إذا لم يعرف مكانه » و « ضلت الدراهم : إذا ضاعت وافتقدت » و « ضل البعير : إذا ضاع في الصحارى والمفاوز » وفي الحديث : « الحكمة ضالة المؤمن أخذها أين وجدها » أي مفقودته ولا يزال يتطلبها ، وقد اشتهر قول الفقهاء في باب « الجعالة » : « من رد ضالّتي فله كذا ».

فالضال بهذا المعنى ينطبق على ما نقله أهل السير والتاريخ عن أوّليات حياته من أنّه ضل في شعاب مكة وهو صغير ، فمنَّ اللّه عليه إذ ردّه إلى جدّه ، وقصته معروفة في كتب السير (1).

ولولا رحمته سبحانه لأدركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً ، فشملته العناية الإلهية فردّه إلى مأواه وملجأه.

وهناك احتمال ثالث لا يقصر عمّا تقدمه من احتمالين ، وهو أن تكون

ص: 303


1- لاحظ السيرة الحلبية : 1 / 131 ويقول : عن حيدة بن معاوية العامري : سمعت شيخاً يطوف بالبيت وهو يقول : يا رب رد راكبي محمداً *** أردده ربي واصطنع عندي يداً

الضلالة في الآية مأخوذة من « ضل الشيء إذا خفي وغاب عن الأعين » قال سبحانه : ( أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (1) ، فالإنسان الضال هو الإنسان المخفي ذكره ، المنسي اسمه ، لا يعرفه إلاّ القليل من الناس ، ولا يهتدي كثير منهم إليه ، ولو كان هذا هو المقصود ، يكون معناه أنّه سبحانه رفع ذكره وعرفه بين الناس عندما كان خاملاً ذكره منسياً اسمه ، ويؤيد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح التي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلاً : ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (2) فرفع ذكره في العالم ، عبارة عن هداية الناس إليه ورفع الحواجز بينه وبين الناس ، وعلى هذا فالمقصود من « الهداية » هو هداية الناس إليه لا هدايته ، فكأنّه قال : فوجدك ضالاً ، خاملاً ذكرك ، باهتاً اسمك ، فهدى الناس إليك ، وسيّر ذكرك في البلاد.

وإلى ذلك يشير الإمام الرضا علیه السلام - على ما في خبر ابن الجهم - بقوله : « قال اللّه عزّ وجلّ لنبيّه محمد صلی اللّه علیه و آله : « ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ) يقول : ( أَلَمْ يَجِدْكَ ) وحيداً ( فَآوَى ) إليك الناس ( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ ) يعني عند قومك ( فَهَدَى ) أي هداهم إلى معرفتك » (3).

هذه هي المحتملات المعقولة في الآية ولا يدل واحد منها على ما تتبنّاه المخطّئة وإن كان الأظهر هو الأوّل.

ويعجبني في المقام ما ذكره الشيخ محمد عبده في « رسالة التوحيد » فقال :

ص: 304


1- السجدة : 10.
2- الانشراح : 1 - 4.
3- البحار : 16 / 142.

وفي السنة السادسة من عمره فقد والدته أيضاً فاحتضنه جده عبد المطلب ، وبعد سنتين من كفالته ، توفّي جدّه ، فكفله من بعده عمه أبو طالب وكان شهماً كريماً غير أنّه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف أهله.

وكان صلی اللّه علیه و آله من بني عمه وصبية قومه ، كأحدهم على ما به من يتم ، فقد فيه الأبوين معاً ، وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول ، ولم يقم على تربيته مهذب ، ولم يعن بتثقيفه مؤدب بين أتراب من نبت الجاهلية ، وعشراء من خلفاء الوثنية ، وأولياء من عبدة الأوهام ، وأقرباء من حفدة الأصنام ، غير أنّه مع ذلك كان ينمو ويتكامل بدناً وعقلاً وفضيلة وأدباً ، حتى عرف بين أهل مكة وهو في ريعان شبابه بالأمين ، أدب إلهي لم تجر العادة بأن تزين به نفوس الأيتام من الفقراء خصوصاً مع فقر القوّام ، فاكتهل صلی اللّه علیه و آله كاملاً والقوم ناقصون ، رفيعاً والقوم منحطون ، موحداً وهم وثنيون ، سلماً وهم شاغبون ، صحيح الاعتقاد وهم واهمون ، مطبوعاً على الخير وهم به جاهلون ، وعن سبيله عادلون.

من السنن المعروفة أنّ يتيماً فقيراً أُميّاً مثله تنطبع نفسه بما تراه من أوّل نشأته إلى زمن كهولته ، ويتأثر عقله بما يسمعه ممّن يخالطه ، ولا سيما إن كان من ذوي قرابته ، وأهل عصبته ، ولا كتاب يرشده ولا أُستاذ ينبهه ، ولا عضد إذا عزم يؤيده ، فلو جرى الأمر فيه على مجاري السنن لنشأ على عقائدهم ، وأخذ بمذاهبهم ، إلى أن يبلغ مبلغ الرجال ، ويكون للفكر والنظر مجال ، فيرجع إلى مخالفتهم ، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم كما فعل القليل ممّن كانوا على عهده ، ولكن الأمر لم يجر على سنته ، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره ، فعاجلته طهارة العقيدة ، كما بادره حسن الخليقة ، وما جاء في الكتاب من قوله : ( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ) لا يفهم منه أنّه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد ، أو على غير السبيل القويم

ص: 305

قبل الخلق العظيم ، حاش لله ، إنّ ذلك لهو الافك المبين ، وإنّما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص ، فيما يرجون للناس من الخلاص ، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين وإرشاد الضالين (1).

الآية الثانية : الأمر بهجر الرجز

يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) (2).

استدلت المخطّئة بأنّ الرجز بمعنى الصنم والوثن ، ففي الأمر بهجره إيعاز لوجود أرضية صالحة لعبادتهما في شخصية النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

أقول : إنّ الرجز في القرآن الكريم استعمل في المعاني الثلاثة التالية :

1. العذاب.

2. القذارة.

3. الصنم.

ولك أن تقول : إنّ المفاهيم الثلاثة أشكال لمعنى واحد جوهراً ، وليست بمعان متعددة ، ولكن تعيين أحد الأمرين لا يؤثر فيما نرتئيه ، توضيح ذلك :

إنّ « الرجز » : بكسر الراء قد استعمل في القرآن تسع مرّات ، وقد أُريد منه في جميعها العذاب إلاّ في مورد واحد ، وإليك مظانها : البقرة / 59 ، الأعراف / 134 وجاءت اللفظة فيها مرتين ، والأعراف / 145 و 162 ، الأنفال / 11 ، سبأ / 5 ، الجاثية / 11 ، والعنكبوت / 29.

ص: 306


1- رسالة التوحيد : 135 - 136.
2- المدثر : 1 - 7.

وأمّا « الرجز » : بضم الراء ، فقد جاء في القرآن الكريم مرّة واحدة ، وهي الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، فسواء أُريد منها العذاب أم غيره من المعنيين ، فلا يدل على ما ذهبت إليه المخطّئة ، وإليك بيان ذلك :

أ. « الرجز » العذاب : فلو كان المقصود منه العذاب فيدل على الأمر بهجر ما يسلتزم العذاب ، وبما أنّ الآيات القرآنية نزلت بعنوان التعليم فلا تدلّ على أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان مشرفاً على ما يجرّ العذاب ، لأنّ هذه الخطابات من باب « إياك أعني واسمعي يا جارة » ، وهذا النوع من الخطاب بمكان من البلاغة ، لأنّه سبحانه إذا خاطب أعز الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أوّلى به ، ومن هنا يقدر القارئ الكريم على حل كثير من الآيات التي تخاطب النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله بلحن حاد وشديد ، فتقول : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (1) ، وليست الآية دليلاً على وجود أَرضية الشرك في شخصية النبي صلی اللّه علیه و آله فنهاه عنه سبحانه ، بل الآيات آيات عامّة نزلت للتعليم ، والخطاب موجه إليه والمقصود منها عامة الناس ، نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيَّه الأكرم في سورة القصص بالخطابات الناهية الأربعة المتوالية ، الخطاب للنبي صلی اللّه علیه و آله والمقصود منه هو الأُمّة ويقول : ( وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (2).

وهذا هو المقياس في أكثر الخطابات الناهية الواردة في القرآن الكريم.

ب. الرجز بمعنى القذارة : ثم إنّ القذارة على قسمين : القذارة المادية ،

ص: 307


1- الزمر : 65.
2- القصص : 86 - 88.

والقذارة المعنوية ، فيحتمل أن يكون المراد هو الأوّل ، وقد ورد في الروايات أنّ أبا جهل جاء بشيء قذر ونادى أصحابه ، وقال : هل فيكم رجل يأخذه مني ويلقيه على محمد ؟ فأخذه بعض أصحابه فألقاه عليه ، فحينئذ تكون الآية ناظرة إلى تطهير الثوب عن الدنس ، وإن أُريد القذارة المعنوية فالمراد هو الاجتناب عن الأفعال والصفات الذميمة ، فإنّ الآية نزلت للتعليم فلاتدل على اتصاف النبي الأكرم بها.

ج. الرجز بمعنى الصنم : نفترض أنّ المقصود منه في الآية هو الصنم لكن لا بمعنى أنّه وضع لذاك المعنى ، وإنّما وضع اللفظ لمعنى جامع يعم الصنم والخمر والأزلام ، لاشتراك الجميع في كونها رجزاً ، ولأجل ذلك وصف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال : ( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (1).

ولكن الجواب عن هذه الصورة هو الجواب عن الصورتين الأُوليين ، والشاهد على ذلك أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن ، بل كان مشمّراً لتحطيم الأصنام ومكافحة عبدتها ، فلا يصح أن يخاطب من هذا شأنه ، بهجر الأصنام إلاّ على الوجه الذي أوعزنا إليه.

الآية الثالثة : عدم علمه بالكتاب والإيمان
اشارة

قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (2).

ص: 308


1- المائدة : 90.
2- الشورى : 52.

استدلت المخطّئة لعصمة النبي الأكرم بهذه الآية وزعمت - والعياذ باللّه - دلالة الآية على أنّه كان فاقداً للإيمان قبل الإيحاء إليه ، وقد انقلب وصار مؤمناً موحداً بالوحي وبعد نزوله إليه.

لكن حياته المشرقة - بالإيمان والتوحيد - تفند تلك المزعمة ، بشهادة التاريخ على أنّه من بداية عمره إلى أن لاقى ربَّه ، كان مؤمناً موحداً ، وليس ذلك أمراً قابلاً للشك والترديد ، وقد أصفق على ذلك أهل السير والتاريخ وحتى كان الأحبار والرهبان معترفين بأنّه نبيُّ هذه الأُمّة وخاتم الرسالات الإلهية ، وكان صلی اللّه علیه و آله يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في « مكة » و « يثرب » و « بصرى » و « الشام » وغيرها ، وعلى ذلك فكيف يمكن أن يكون غافلاً عن الكتاب الذي ينزل إليه ، أو يكون مجانباً عن الإيمان بوجوده سبحانه وتوحيده ، والتاريخ المسلّم الصحيح يؤكد على عدم صدق ذلك الاستظهار ، وعلى ضوء هذا ، لا بد من إمعان النظر في مفاد الآية كما لا بد في تفسيرها من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق فنقول :

بعث النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله - لهداية قومه أوّلاً ، وهداية جميع الناس ثانياً - بالآيات والبيّنات ، وأخص بالذكر منها : كتابه وقرآنه ( معجزته الكبرى الخالدة ) الذي بفصاحته أخرس فرسان الفصاحة ، وقادة الخطابة ، وببلاغته قهر أرباب البلاغة وملوك البيان ، وخلب عقولهم وقد دعاهم إلى التحدي والمقابلة ، فلم يكن الجواب منهم إلاّ إثارة التهم حوله ، فتارة قالوا : بأنّه ( يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) ، وأُخرى بأنّه ( إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) ، وثالثة : بأنّه ( أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ، قال سبحانه ردّاً على هذه التهم التي أوعزنا إليها : ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى

ص: 309

لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) (1) ، وقال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) (2).

والآية التي تمسّكت بها المخطّئة بصدد بيان هذا الأمر وأنّه وحي سماوي لا إفك افتراه ، ولأجل ذلك بدأ كلامه بلفظة ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) ، أي كما أنّه سبحانه أوحى إلى سائر الأنبياء بإحدى الطرق الثلاثة التي بيّنها في الآية المتقدمة ، أوحى إليك أيضاً روحاً من أمرنا ، وليس هذا كلامك وصنيعك ، بل كلام ربك وصنيعه.

هذا مجمل الكلام في الآية ، ولأجل رفع النقاب عن مرامها نقدم أُموراً تسلّط ضوءاً عليه :

الأوّل : المراد من الروح في الآية هو القرآن ، وسمّي روحاً لأنّه قوام الحياة الأُخروية ، كما أنّ الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية ، ويؤيد ذلك أُمور :

أ. انّ محور البحث الأصلي في سورة الشورى ، هو : الوحي والآيات الواردة فيها البالغ عددها 53 آية ، تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها.

ب. الآية التي تقدمت على تلك ، تبحث عن الطرق التي يكلّم بها سبحانه أنبياءه ويقول : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (3).

ص: 310


1- النحل : 102 - 103.
2- الفرقان : 4 - 6.
3- الشورى : 51.

ج. ما تقدم من أنّه سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة ( وَكَذَلِكَ ) ، أي كما أوحينا إلى من تقدّم من الأنبياء كذلك أوحينا إليك بإحدى هذه الطرق ( رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ) ووجه الاشتراك بينه وبين النبيين ، هو الوحي المتجلّي في نبينا بالقرآن وفي غيره بوجه آخر.

كل ذلك يؤيد أنّ المراد منه هو القرآن الملقى إليه ، نعم وردت في بعض الروايات أنّ المراد منه هو ( رُوحُ الْقُدُسِ ) ولكنه لا ينطبق على ظاهر الآية ، لأنّ « الروح » بحكم كونه مفعولاً ل ( أَوْحَيْنَا ) يجب أن يكون شيئاً قابلاً للوحي حتى يكون « موحاً » وروح القدس ليس موحاً ، بل هو الموحي بالكسر ، فكيف يمكن أن يكون مفعولاً ل ( أَوْحَيْنَا ) ، ولأجله يجب تأويل الروايات إن صح اسنادها.

الثاني : انّ هيئة ( ما كنت ) أو ( ما كان ) تستعمل في نفي الإمكان والشأن قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) (1) ، وقال عزّ اسمه : ( وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ) (1). وقال تعالى حاكياً عن بلقيس : ( مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ) (2).

وعلى ضوء هذا الأصل يكون مفاد قوله : ( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) انّه لولا الوحي ما كان من شأنك أن تدري الكتاب ولا الإيمان ، فإن وقفت عليهما فإنّما هو بفضل الوحي وكرامته.

الثالث : انّ ظاهر الآية أن النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان فاقداً للعلم بالكتاب والدراية للإيمان ، وإنّما حصلت الدراية بهما في ظل الوحي وفضله ، فيجب إمعان

ص: 311


1- التوبة : 122.
2- النمل : 32.

النظر في الدراية التي كان النبي فاقداً لها قبل الوحي وصار واجداً لها بعده ، فما تلك الدراية وذاك العلم ؟

فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه اجمالاً ، والإيمان بوجوده وتوحيده سبحانه ؟ أو المراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب والإذعان بها كذلك ؟

لا سبيل إلى الأوّل ، لأنّ علمه إجمالاً بأنّه ينزل إليه الكتاب ، أو إيمانه بوجوده سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه ، ولم يكن العلم بهما مما يتوقف على الوحي ، فإنّ الأحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوته ورسالته ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالاً ، وقد سمع منهم النبي صلی اللّه علیه و آله - في فترات مختلفة - أنّه النبي الموعود في الكتب السماوية ، وأنّه خاتم الرسالات والشرائع ، فهل يصح أن يقال : إنّ علمه صلی اللّه علیه و آله بنزول كتاب عليه إجمالاً كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي ؟ أو أنّه كان متقدّماً عليه وعلى بعثته ؟ ومثله الإيمان باللّه سبحانه وتوحيده إذ لم يكن الإيمان باللّه أمراً مشكلاً متوقفاً على الوحي ، وقد كان الأحناف في الجزيرة العربية ومن جملتهم رجال البيت الهاشمي ، موحدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي إليهم.

وبالجملة : العلم الإجمالي بنزول كتاب إليه والإيمان بوجوده وتوحيده ، لم يكن أمراً متوقفاً على نزول الوحي حتى يحمل عليه قوله : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) . وعندئذ يتعين الاحتمال الثاني ، وهو أنّ العلم التفصيلي بمضامين الكتاب وما فيه من الأُصول والتعاليم والقصص - ثم الإيمان والإذعان بتلك التفاصيل - كانا متوقفين على نزول الوحي ، ولولاه لما كان هناك علم بها ولا إيمان.

وإن شئت قلت : العلم والإيمان بالأُمور السمعية التي لا سبيل للعقل عليها - كالمعارف والأحكام والقصص ومحاجة الأنبياء مع المشركين والكفّار وما

ص: 312

نزل بساحة أعدائهم من إهلاك وتدمير - لا يحصلان إلاّ من طريق الوحي ، حتى قصص الأُمم السالفة وحكاياتهم لتسرب الوضع والدس إلى كتب القصاصين ، والصحف السماوية النازلة قبل القرآن.

تفسير الآية بآية أُخرى

إنّ الرجوع إلى ما ورد في هذا المضمار من الآيات ، يوضح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلاً ، والإيمان ثانياً :

أمّا الأوّل : فيقول سبحانه : ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) (1) ، فالآية صريحة في أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لم يكن عالماً بتفاصيل الأنباء ، وقد وقف عليها من جانب الوحي ، فعبّر عن عدم وقوفه عليها في هذه الآية بقوله : ( مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلا قَوْمُكَ ) وفي تلك الآية : بقوله : ( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ) والفرق هو أنّ ( الْكِتَابُ ) أعم من ( أَنبَاءِ الْغَيْبِ ) والأوّل يشتمل على الأنباء وغيرها « وأمّا الأنباء » فإنّها مختصة بالقصص ، والكل مشترك في عدم العلم بهما قبل الوحي والعلم بهما بعده.

وأمّا الثاني :

فقوله سبحانه : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ ) (2) فقوله : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ ) صريح في

ص: 313


1- هود : 49.
2- البقرة : 285.

أنّ متعلّق الإيمان الحاصل بعد الوحي ، هو الإيمان ( بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ ) ، أعني : تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة ، لا الإيمان باللّه وتوحيده ، وعندئذ يرتفع الإبهام في الآية التي تمسّكت بها المخطّئة ، ويتبيّن أنّ متعلّق الإيمان المنفي في قوله : ( وَلا الإِيمَانُ ) هو « ما أنزل إليه » لا الإيمان بالمبدأ وتوحيده.

والحاصل : أنّ هنا شيئاً واحداً ، أعني : الإيمان بما أُنزل من المعارف والأحكام والأنباء ، فقد نفى عنه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرة إلى ما قبل البعثة ، وأثبت له في الآية الأُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد البعثة.

ومن هنا تتضح أهمية عرض الآيات بعضها على بعض وتفسير الآية باختها ، فهاتان الآيتان كما عرفت كافلتان لرفع إبهام الآية وإجمالها.

وقد تفطن المفسرون لما ذكرناه على وجه الإجمال فقال الزمخشري في الكشاف : الإيمان اسم يتناول أشياء : بعضها الطريق إليه العقل ، وبعضها الطريق إليه السمع ، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل ، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي (1).

وقال الطبرسي : ( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ) ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الإيمان (2).

وقال الرازي : المراد من الإيمان هو الإقرار بجميع ما كلّف اللّه تعالى به ، وأنّه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف اللّه تعالى بل أنّه كان عارفاً باللّه ... ثم قال : صفات اللّه تعالى على قسمين : منها ما تمكن معرفته بمحض دلائل العقل ، ومنها ما لا تمكن معرفته إلاّ بالدلائل السمعية ، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته

ص: 314


1- الكشاف : 3 / 88 - 89.
2- مجمع البيان : 5 / 37.

حاصلة قبل النبوة (1).

وقال العلاّمة الطباطبائي في « الميزان » : إنّ الآية مسوقة لبيان أنّ ما عنده صلی اللّه علیه و آله الذي يدعو إليه إنّما هو من عند اللّه سبحانه لا من قبل نفسه وإنّما أُوتي ما أُوتي من ذلك ، بالوحي بعد النبوة ، فالمراد بعدم درايته بالكتاب عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية ، فإنّ ذلك هو الذي أُوتي العلم به بعد النبوّة والوحي ، والمراد من عدم درايته الإيمان ، عدم تلبسه بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقة والأعمال الصالحة ، وقد سمى العمل إيماناً في قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) (2) ، والمراد الصلوات التي أتى بها المؤمنون إلى بيت المقدس قبل النسخ ، والمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح ، علم الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع ولا كنت متلبساً به بما أنت متلبس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي والاعتقادي ، وهذا لا ينافي كونه مؤمناً باللّه موحداً قبل البعثة صالحاً في عمله ، فإنّ الذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملاً ، لا نفي العلم والالتزام الإجماليين بالإيمان باللّه والخضوع للحق (3).

الآية الرابعة : عدم رجائه إلقاء الكتاب إليه

قال تعالى : ( وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ ) (4).

ص: 315


1- مفاتيح الغيب : 7 / 410. ولاحظ روح البيان : 8 / 347 ; روح المعاني : 15 / 25.
2- البقرة : 143.
3- الميزان : 18 / 80.
4- القصص : 86.

استدل الخصم بأنّ ظاهر الآية نفي علمه بإلقاء الكتاب إليه ، فلم يكن النبي راجياً لذلك واقفاً عليه.

أقول : توضيح مفاد الآية يتوقف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية ، أعني قوله : ( إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ) حتى يتضح المقصود ، وقد ذكر المفسرون في توضيحها وجوهاً ثلاثة نأتي بها :

1. انّ « إلاّ » استدراكية وليست استثنائية ، فهي بمعنى « لكن » لاستدراك ما بقي من المقصود.

وحاصل معنى الآية : ما كنت يا محمد ترجو فيما مضى أن يوحي اللّه إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك ، إلاّ أنّ ربك رحمك وأنعم به عليك وأراد بك الخير ، نظير قوله سبحانه : ( وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ) (1) ، أي ولكن رحمة من ربك خصّك بها ، وهذا هو المنقول عن الفراء (2) ، وعلى هذا لم يكن للنبي صلی اللّه علیه و آله أيُّ رجاء لإلقاء الكتاب إليه وإنّما فاجأه الإلقاء لأجل رحمة ربّه ، ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلاّ إذا امتنع كون الاستثناء متصلاً لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.

2. أن يكون « إلاّ » للاستثناء لا للاستدراك ، وهو متصل لا منقطع ، ولكن المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام ، وهو كما في الكشاف : « وما ألقى إليك الكتاب إلاّ رحمة من ربك » (3) ، أي لم يكن لإلقائه عليك وجه إلاّ رحمة من ربك ، وعلى هذا الوجه أيضاً لا يعلم أنّه كان للنبي صلی اللّه علیه و آله رجاء لإلقاء الكتاب

ص: 316


1- القصص : 46.
2- مجمع البيان : 4 / 269 ; مفاتيح الغيب : 6 / 408.
3- الكشاف : 2 / 487 - 488.

عليه وإن كان الاستثناء متصلاً ، وهذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى منه محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر ، وإنّما يصار إليه إذا لم يصح إرجاعه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيّن في الوجه الثالث.

3. أن يكون « إلاّ » استثناء من الجملة السابقة عليه ، أعني قوله : ( وَمَا كُنتَ تَرْجُوا ) ويكون معناه : ما كنت ترجوا إلقاء الكتاب عليك إلاّ أن يرحمك اللّه برحمة فينعم عليك بذلك ، فتكون النتيجة : ما كنت ترجو إلاّ على هذا (1) ، فيكون هنا رجاءٌ منفي ورجاءٌ مثبت أمّا الأوّل : فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية ، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً ، وأمّا رجاؤه به عن طريق الرحمة الإلهية فكان موجوداً ، فنفي أحد الرجاءين لا يستلزم نفي الآخر ، بل المنفي هو الأوّل ، والثابت هو الثاني ، وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية ، وقد سبق منّا أنّ جملة ( مَا كُنتَ ) وما أشبهه تستعمل في نفي الإمكان والشأن ، وعلى ذلك يكون معنى الجملة : لم تكن راجياً لأن يلقى إليك الكتاب وتكون طرفاً للوحي والخطاب إلاّ من جهة خاصة ، وهي أن تقع في مظلة رحمته وموضع عنايته فيختارك طرفاً لوحيه ، ومخاطباً لكلامه وخطابه ، فالنبي بما هو إنسان عادي لم يكن راجياً لأن ينزل إليه الوحي ويلقى إليه الكتاب ، وبما أنّه صار مشمولاً لرحمته وعنايته وصار إنساناً مثالياً قابلاً لتحمل المسؤولية وتربية الأُمّة ، كان راجياً به ، وعلى ذلك فالنفي والإثبات غير واردين على موضع واحد.

فقد خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنّه صلی اللّه علیه و آله كان إنساناً مؤمناً موحداً عابداً لله ساجداً له قائماً بالفرائض العقلية والشرعية ، مجتنباً عن المحرمات ، عالماً بالكتاب ، ومؤمناً به إجمالاً ، وراجياً لنزوله إليه إلى أن بُعثَ لإنقاذ البشرية عن

ص: 317


1- مفاتيح الغيب : 6 / 498.

الجهل ، وسوقها إلى الكمال ، فسلام اللّه عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً ، وبقيت هنا آية أُخرى نأتي بتفسيرها إكمالاً للبحث وإن لم تكن لها صلة تامّة لما تتبنّاه المخطّئة.

الآية الخامسة : لو لم يشأ اللّه ما تلوته
اشارة

قال سبحانه : ( قُل لَّوْ شَاءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (1).

والآية تؤكد أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان لابثاً في قومه ، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن أو تالياً لآي من آياته ، وليس هذا الشيء ينكره القائلون بالعصمة ، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله وقف على ما وقف من آي الذكر الحكيم من جانب الوحي ولم يكن قبله عالماً به ، وأين هو من قول المخطّئة من نفي الإيمان منه قبلها ؟!

وإن أردت الإسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدمة عليها فترى فيها اقتراحين للمشركين ، وقد أجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدّمة وعن الآخر في نفس هذه الآية ، وإليك نصها : ( قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (2).

اقترح المشركون على النبي أحد أمرين :

1. الإتيان بقرآن غير هذا ، مع المحافظة على فصاحته وبلاغته.

ص: 318


1- يونس : 16.
2- يونس : 15.

2. تبديل بعض آياته ممّا فيه سبّ لآلهتهم وتنديد بعبادتهم الأوثان والأصنام.

فأجاب عن الثاني في نفس الآية بأنّ التبديل عصيان لله ، وانّه يخاف من مخالفة ربّه ، ولا محيص له إلاّ اتّباع الوحي من دون أن يزيد فيه أو ينقص عنه.

وأجاب عن الأوّل في الآية المبحوث عنها بأنّه أمر غير ممكن ، لأنّ القرآن ليس من صنعي وكلامي حتى أذهب به وآتي بآخر ، بل هو كلامه سبحانه ، وقد تعلقت مشيئته على تلاوتي ، ولو لم يشأ لما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، والدليل على ذلك إنّي كنت لابثاً فيكم عمراً من قبل فما تكلّمت بسورة أو بآية من آياته ، ولو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلّم به طيلة معاشرتي معكم في المدّة الطويلة.

قال العلاّمة الطباطبائي في تفسير الآية : إنّ الأمر فيه إلى مشيئة اللّه لا إلى مشيئتي فإنّما أنا رسول ، ولو شاء اللّه أن ينزل قرآناً غير هذا لأنزل ، أو لم يشأ تلاوة هذا القرآن ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، فإنّي مكثت فيكم عمراً من قبل نزوله ولو كان ذلك إليّ وبيدي لبادرت إليه قبل ذلك وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه (1).

هذا آخر الكلام في عصمته عن العصيان ، وصيانته عن الخلاف ، بقي الكلام في عصمته عن الخطأ والنسيان ، فنطرحها على بساط البحث إجمالاً.

عصمة النبي الأعظم عن الخطأ

عصمة النبي الأعظم عن الخطأ (2)

إنّ صيانة النبي عن الخطأ والاشتباه سواء أ كان في مجال تطبيق الشريعة ، أم

ص: 319


1- الميزان : 10 / 26. ولاحظ تفسير المنار : 11 / 320.
2- البحث كما يعرب عنه عنوان البحث ، مركز على صيانة خصوص نبينا الأعظم عن الخطأ استدلالاً وإشكالاً وجواباً ، وأمّا البحث عن عصمة غيره من الأنبياء فموكول إلى مجال آخر.

في مجال الأُمور العادية الفردية المرتبطة بحياته ، ممّا طرح في علم الكلام وطال البحث فيه بين متكلمي الإسلام.

غير انّ تحقق الغاية من البعثة رهن صيانته عن الخطأ في كلا المجالين ، وإلاّ فلا تتحقق الغاية المتوخاة من بعثته ، وهذا هو الدليل العقلي الذي اعتمدت عليه العدلية ، بعدما اتفق الكل على لزوم صيانته عن الخطأ والاشتباه في مجال تلقي الوحي وحفظه ، وأدائه إلى الناس ، ولم يختلف في ذلك اثنان.

وإليك توضيح هذا الدليل العقلي : إنّ الخطأ في غير أمر الدين وتلقّي الوحي يتصوّر على وجهين :

أ. الخطأ في تطبيق الشريعة كالسهو في الصلاة أو في إجراء الحدود.

ب. الاشتباه في الأُمور العادية المعدة للحياة كما إذا استقرض ألف دينار ، وظن أنّه استقرض مائة دينار.

وهو مصون من الاشتباه والسهو في كلا الموردين ، وذلك لأنّ الغاية المتوخاة من بعث الأنبياء هي هدايتهم إلى طريق السعادة ، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بكسب اعتماد الناس على صحة ما يقوله النبي وما يحكيه عن جانب الوحي ، وهذا هو الأساس لحصول الغاية ، ومن المعلوم أنّه لو سها النبي واشتبه عليه الأمر في المجالين الأوّلين ربّما تسرب الشك إلى أذهان الناس ، وانّه هل يسهو في ما يحكيه من الأمر والنهي الإلهي أم لا ؟

فبأي دليل أنّه لا يخطأ في هذا الجانب مع أنّه يسهو في المجالين الآخرين ؟! وهذا الشعور إذا تغلغل في أذهان الناس سوف يسلب اعتماد الناس على النبي ، وبالتالي تنتفي النتيجة المطلوبة من بعثه.

ص: 320

نعم ، التفكيك بين صيانته في مجال الوحي وصيانته في سائر الأُمور وإن كان أمراً ممكناً عقلاً ، ولكنه ممكن بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية ونحوها ، وأمّا العامّة ورعايا الناس الذين يشكلون أغلبية المجتمع ، فهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين ، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلاً على إمكان تسرّب السهو إلى المرحلة الأُخرى.

ولأجل سدّ هذا الباب المنافي للغاية المطلوبة من إرسال الرسل ، ينبغي أن يكون النبي مصوناً في عامّة المراحل ، سواء أكانت في حقل الوحي أو في تطبيق الشريعة أو في الأُمور العامة ، ولهذا يقول الإمام الصادق علیه السلام : « جعل مع النبي روح القدس وهي لا تنام ولا تغفل ولا تلهو ولا تسهو » (1).

وعلى ذلك فبما أنّه ينبغي أن يكون النبي اسوة في الحياة في عامة المجالات يجب أن يكون نزيهاً عن العصيان والخلاف والسهو والخطأ.

القرآن وعصمة النبي عن الخطأ والسهو

قد عرفت منطق العقل في لزوم عصمة النبي من الخطأ في مجال تطبيق الشريعة ، ومجال الأُمور العادية المعدّة للحياة ، وهذا الحكم لا يختص بمنطقه ، بل الذكر الحكيم يدعمه بأحسن وجه ، وإليك ما يدل على ذلك :

1. قال سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) (2) ، وقال أيضاً : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن

ص: 321


1- بصائر الدرجات : 454.
2- النساء : 105.

شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) (1).

وقد نقل المفسرون حول نزول الآيات وما بينهما من الآيات روايات رووها بطرق مختلفة نذكر ما ذكره ابن جرير الطبري عن ابن زيد قال : كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبي صلی اللّه علیه و آله وطرحه على يهودي ، فقال اليهودي : واللّه ما سرقتها يا أبا القاسم ، ولكن طرحت عليّ وكان للرجل الذي سرق جيران يبرؤونه ويطرحونه على اليهودي ، ويقولون : يا رسولَ اللّه إنّ هذا اليهودي الخبيث يكفر باللّه وبما جئت به ، قال : حتى مال عليه النبي صلی اللّه علیه و آله ببعض القول فعاتبه اللّه عزّ وجلّ في ذلك فقال : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) (2).

أقول : سواء أصحت هذه الرواية أم لا ، فمجموع ما ورد حول الآيات من أسباب النزول متفق على أنّ الآيات نزلت حول شكوى رفعت إلى النبي ، وكان كل من المتخاصمين يسعى ليبرئ نفسه ويتهم الآخر ، وكان في جانب واحد منهما رجل طليق اللسان يريد أن يخدع النبي صلی اللّه علیه و آله ببعض تسويلاته ويثير عواطفه على المتهم البريء حتى يقضي على خلاف الحق ، وعند ذلك نزلت الآية ورفعت النقاب عن وجه الحقيقة فعرف المحق من المبطل.

والدقة في فقرات الآية الثانية يوقفنا على سعة عصمة النبي من الخطأ وصيانته من السهو ، لأنّها مؤلفة من فقرات أربع ، كل يشير إلى أمر خاص :

1. ( وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا

ص: 322


1- النساء : 113.
2- تفسير الطبري : 4 / 172.

يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ) .

2. ( وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) .

3. ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ) .

4. ( وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) .

فالأُولى منها : تدل على أنّ نفس النبيّ بمجردها لا تصونه من الضلال ( أي من القضاء على خلاف الحق ) وإنّما يصونه سبحانه عنه ، ولولا فضل اللّه ورحمته لهمّت طائفة أن يرضوه بالدفاع عن الخائن والجدال عنه ، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الذي صدّه عن مثل هذا الضلال وأبطل أمرهم المؤدي إلى إضلاله ، وبما أنّ رعاية اللّه سبحانه وفضله الجسيم على النبي ليست مقصورة على حال دون حال ، أو بوقت دون وقت آخر ، بل هو واقع تحت رعايته وصيانته منذ أن بعث إلى أن يلاقي ربَّه ، فلا يتعدى إضلال هؤلاء أنفسهم ولا يتجاوز إلى النبي صلی اللّه علیه و آله فهم الضالون بما هموا به كما قال : ( وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ) .

والفقرة الثانية : تشير إلى مصادر حكمه ومنابع قضائه ، وأنّه لا يصدر في ذلك المجال إلاّ عن الوحي والتعليم الإلهي ، كما قال سبحانه : ( وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) والمراد المعارف الكلية العامة من الكتاب والسنة.

ولما كان هذا النوع من العلم الكلي أحد ركني القضاء وهو بوحده لا يفي بتشخيص الموضوعات وتمييز الصغريات ، فلابد من الركن الآخر وهو تشخيص المحق من المبطل ، والخائن من الأمين ، والزاني من العفيف ، أتى بالفقرة الثالثة وقال : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ) ومقتضى العطف ، مغائرة المعطوف ، مع المعطوف عليه ، فلو كان المعطوف عليه ناظراً إلى تعرّفه على الركن الأوّل وهو العلم بالأُصول والقواعد الكلية الواردة في الكتاب والسنّة ، يكون المعطوف ناظراً إلى

ص: 323

تعرّفه على الموضوعات والجزئيات التي تعد ركناً ثانياً للقضاء الصحيح ، فالعلم بالحكم الكلي الشرعي وتشخيص الصغريات وتمييز الموضوعات جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق من دون أن يجنح إلى جانب الباطل ، أو يسقط في هوّة الضلال.

قال العلاّمة الطباطبائي : إنّ المراد من قوله سبحانه : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ) ليس علمه بالكتاب والحكمة ، فإنّ مورد الآية ، قضاء النبي في الحوادث الواقعة ، والدعاوى المرفوعة إليه ، برأيه الخاص ، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء ، وإن كان متوقفاً عليهما ، بل المراد رأيه ونظره الخاص (1). ولما كان هنا موضع توهم وهو أنّ رعاية اللّه لنبيّه تختص بمورد دون مورد ، دفع ذلك التوهم بالفقرة الرابعة فقال سبحانه : ( وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) حتى لا يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أُخرى ، بل مقتضى عظمة الفضل ، سعة شموله لكل الوقائع والحوادث ، سواء أكانت من باب المرافعات والمخاصمات ، أم الأُمور العادية ، فتدل الفقرة الأخيرة على تعرّفه على الموضوعات ومصونيته عن السهو والخطاء في مورد تطبيق الشريعة ، أو غيره ، ولا كلام أعلى وأغزر من قوله سبحانه في حق حبيبه : ( وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) .

2. قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (2) إنّ الشهادة المذكورة في الآية حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه ، قال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) (3) ، وقال تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن

ص: 324


1- الميزان : 5 / 81.
2- البقرة : 143.
3- النساء : 41.

كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (1) ، وقال تعالى : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) (2) ، والشهادة فيها مطلقة ، وظاهر الجميع هو الشهادة على أعمال الأُمم وعلى تبليغ الرسل كما يومي إليه قوله تعالى : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ ) (3) ، وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة ويوم القيامة لكن يتحملها الشهود في الدنيا على ما يدل عليه قوله سبحانه حكاية عن عيسى : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (4) ، وقال سبحانه : ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) (5) ، ومن الواضح أنّ الشهادة فرع العلم ، وعدم الخطأ في تشخيص المشهود به ، فلو كان النبي من الشهداء يجب ألاّ يكون خاطئاً في شهادته ، فالآية تدلّ على صيانته وعصمته من الخطأ في مجال الشهادة كما تدلّ على سعة علمه ، لأنّ الحواس لا ترشدنا إلاّ إلى صور الأعمال والأفعال ، والشهادة عليها غير كافية عند القضاء ، وإنّما تكون مفيدة إذا شهد على حقائقها من الكفر والإيمان ، والرياء والإخلاص ، وبالجملة على كل خفي عن الحس ومستبطن عند الإنسان ، أعني ما تكسبه القلوب وعليه يدور حساب رب العالمين ، قال تعالى : ( وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) (6) ، ولا شك أنّ الشهادة على حقائق أعمال الأُمّة خارج عن وسع الإنسان العادي إلاّ إذا تمسّك

ص: 325


1- النحل : 84.
2- الزمر : 69.
3- الأعراف : 6.
4- المائدة : 117.
5- النساء : 159.
6- البقرة : 225.

بحبل العصمة وولي أمر اللّه بإذنه ، ولنا في الأجزاء الآتية من هذه الموسوعة بحث حول الشهداء في القرآن ، فنكتفي بهذا القدر في المقام.

ثم إنّ العلاّمة الحجّة السيد عبد اللّه شبر أقام دلائل عقلية ونقلية على صيانة النبي عن الخطأ ولكن أكثرها كما صرّح به نفسه - قدس اللّه سره - مدخولة غير واضحة ، ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى كتابه (1).

أدلّة المخطّئة
اشارة

إنّ بعض المخطّئة استدلّ على تطرّق الخطأ والنسيان إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ببعض الآيات غافلة عن أهدافها ، وإليك تحليلها :

1. قال سبحانه : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (2).

زعمت المخطّئة أنّ الخطاب للنبي وهو المقصود منه ، غير انّها غفلت عن أنّ وزان الآية وزان سائر الآيات التي تقدّمت في الأبحاث السابقة وقلنا بأنّ الخطاب للنبي ولكن المقصود منه هو الأُمّة ، ويدل على ذلك ، الآية التالية لها قال : ( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (3) ، فإنّ المراد انّه ليس على المؤمنين الذين اتقوا معاصي اللّه سبحانه من حساب الكفرة شيء بحضورهم مجلس الخوض ، وهذا يدل على أنّ النهي عن الخوض تكليف

ص: 326


1- مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار : 2 / 128 - 140.
2- الأنعام : 68.
3- الأنعام : 69.

عام يشترك فيه النبي وغيره ، وإنّ الخطاب للنبي لا ينافي كون المقصود هو الأُمّة.

والأوضح منها دلالة على أنّ المقصود هو الأُمّة قوله سبحانه : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) (1).

والآية الأخيرة مدنية ، والآية المتقدمة مكية ، وهي تدل على أنّ الحكم النازل سابقاً متوجه إلى المؤمنين وإنّ الخطاب وإن كان للنبي لكن المقصود منه غيره.

2. ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ) (2) ، والمراد من النسيان نسيان الاستثناء ( إلاّ أن يشاء اللّه ) ووزان هذه الآية ، وزان الآية السابقة في أنّ الخطاب للنبي والمقصود هو الأُمّة.

3. ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ) (3) ، ومعنى الآية سنجعلك قارئاً بإلهام القراءة فلا تنسى ما تقرأه ، لكن المخطّئة استدلّت بالاستثناء الوارد بعده ، على إمكان النسيان ، لكنّها غفلت عن نكتة الاستثناء ، فإنّ الاستثناء في الآية نظير الاستثناء في قوله سبحانه ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (4) ، ومن المعلوم أنّ الوارد إلى الجنّة لا يخرج منها ، ولكن

ص: 327


1- النساء : 140.
2- الكهف : 23 - 24.
3- الأعلى : 6 - 7.
4- هود : 108.

الاستثناء لأجل بيان انّ قدرة اللّه سبحانه بعد باقية ، فهو قادر على الإخراج مع كونهم مؤبدين في الجنّة ، وأمّا الآية فالاستثناء فيها يفيد بقاء القدرة الإلهية على إطلاقها ، وإنّ عطية اللّه أعني « الإقراء بحيث لا تنسى » لا ينقطع عنه سبحانه بالإعطاء ، بحيث لا يقدر بعد على إنسائك ، بل هو باق على إطلاق قدرته ، فلو شاء أنساك متى شاء ، وإن كان لا يشاء ذلك.

وبما أنّ البحث مركّز على عصمة النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله من الخطأ والنسيان دون سائر الأنبياء ذكرنا الآيات التي استدلّت بها المخطّئة على ما تتبنّاه في حق النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، وأمّا بيان الآيات التي يمكن أن يستدل بها على إمكان صدور السهو والنسيان عن سائر الأنبياء وتفسيرها فمتروك إلى مجال آخر ، ونقول على وجه الإجمال انّه يستظهر من بعض الآيات صحة نسبة النسيان إلى غير النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، أعني قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) (1).

وقوله سبحانه في حق موسى : ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ) (2).

وقوله سبحانه أيضاً عنه : ( فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) (3).

وقوله سبحانه في حقّه أيضاً : ( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) (4).

لكن البحث عن مفاد هذه الآيات موكول إلى مجال آخر.

ص: 328


1- طه : 115.
2- الكهف : 61.
3- الكهف : 63.
4- الكهف : 73.

بقي هنا أمران :

الأوّل : ما هي النظرية السائدة بين الإمامية في مسألة سهو النبي صلی اللّه علیه و آله ؟

الثاني : كيفية معالجة المأثورات الظاهرة في صدور السهو عن النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله .

وإليك بيان الأمرين على نحو الإجمال :

1. الرأي السائد بين الإمامية حول سهو النبي صلی اللّه علیه و آله

يظهر من الشيخ الصدوق أنّ إنكار سهو النبي صلی اللّه علیه و آله كان شعار الغلاة والمفوّضة ، قال في كتابه « من لا يحضره الفقيه » : إنّ الغلاة والمفوّضة ينكرون سهو النبي صلی اللّه علیه و آله ، ويقولون : لو جاز أن يسهو في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ ، لأنّ الصلاة عليه فريضة كما أنّ التبليغ عليه فريضة.

ثم أجاب عنه بقوله : وهذا لا يلزمنا ، وذلك لأنّ جميع الأحوال المشتركة يقع على النبي صلی اللّه علیه و آله فيها ما يقع على غيره ... فالحالة التي اختص بها هي النبوة ، والتبليغ من شرائطها ، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة ، لأنّها عبادة مخصوصة ، والصلاة عبادة مشتركة ، وبها تثبت له العبودية ، وبإثبات النوم له عن خدمة ربّه عزّ وجلّ من غير إرادة له وقصد منه إليه ، نفي الربوبية عنه ، لأنّ الذي لا تأخذه سنة ولا نوم هو اللّه الحي القيّوم ، وليس سهو النبي كسهونا ، لأنّ سهوه من اللّه عزّ وجلّ ، وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق فلا يتخذ ربّاً معبوداً دونه ، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا ، وسهونا عن الشيطان ، وليس للشيطان على النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمّة - صلوات اللّه عليهم - سلطان ( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) (1) وعلى من تبعه من الغاوين.

ص: 329


1- النحل : 100.

ثم نقل عن شيخه محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ( المتوفّى 343 ه ) انّه كان يقول : أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلی اللّه علیه و آله (1).

وحاصل كلامه : انّ السهو الصادر عن النبي إسهاء من اللّه إليه لمصلحة ، كنفي وهم الربوبية عنه ، وإثبات انّه بشر مخلوق ، وإعلام الناس حكم سهوهم في العبادات وأمثالها وأمّا السهو الذي يعترينا من الشيطان فإنّه صلی اللّه علیه و آله منه بريء ، وهو منزّه عنه ، وليس للشيطان عليه سلطان ولا سبيل.

ومع ذلك كلّه ، فهذه النظرية مختصة به ، وبشيخه ابن الوليد ، ومن تبعهما كالطبرسي في « مجمعه » على ما سيأتي; والمحقّقون من الإمامية متفقون على نفي السهو عنه في أُمور الدين حتى مثل الصلاة.

قال المفيد : أقول إنّ الأئمّة القائمين مقام الأنبياء علیهم السلام في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرائع وتأديب الأنام معصومون كعصمة الأنبياء ، وانّه لا يجوز منهم سهو في شيء في الدين ، ولا ينسون شيئاً من الأحكام ، وعلى هذا مذهب سائر الإمامية إلاّ من شذّ منهم وتعلّق بظاهر روايات لها تأويلات على خلاف ظنّه الفاسد من هذا الباب ، والمعتزلة بأسرها تخالف في ذلك ويجوّزون من الأئمة وقوع الكبائر والردّة عن الإسلام (2).

وقال في شرحه على عقائد الصدوق : فأمّا نص أبي جعفر رحمه اللّه بالغلو على من

ص: 330


1- من لا يحضره الفقيه : 1 / 232.
2- أوائل المقالات : 35.

نسب مشايخ القمّيين وعلمائهم ( الذين جوّزوا السهو على النبي ) إلى التقصير ، فليس نسبة هؤلاء القوم إلى التقصير علامة على غلو الناس ، إذ في جملة المشار إليهم بالشيخوخة والعلم من كان مقصّراً ، وانّما يجب الحكم بالغلو على من نسب المحقّقين إلى التقصير سواء أكانوا من أهل قم أم من غيرها من البلاد ومن سائر الناس ، وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد رحمه اللّه لم نجد لها دافعاً وهي ما حُكي عنه انّه قال : أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلی اللّه علیه و آله والإمام علیه السلام .

ثم إنّ الشيخ المفيد لم يكتف بهذا القدر من الرد بل ألّف رسالة مفردة في ردّه ، وقد أدرجها العلاّمة المجلسي في « بحاره » (1).

وعلى هذا الرأي استقر رأي الإمامية ، فقال المحقّق الطوسي : وتجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق ... وعدم السهو.

وقال العلاّمة الحلّي في شرحه : وان لا يصح عليه السهو لئلاّ يسهو عن بعض ما أُمر بتبليغه (2).

وقال المحقّق الحلّي في « النافع » : والحق رفع منصب الإمامة عن السهو في العبادة (3).

وقال العلاّمة في « المنتهى » في مسألة التكبير في سجدتي السهو : احتج المخالف بما رواه أبو هريرة عن النبي صلی اللّه علیه و آله : قال : ثم كبّر وسجد.

والجواب : هذا الحديث عندنا باطل ، لاستحالة السهو على النبي صلی اللّه علیه و آله .

وقال في مسألة أُخرى : قال الشيخ : وقول مالك باطل ، لاستحالة السهو على النبي صلی اللّه علیه و آله (4).

ص: 331


1- راجع البحار : 17 / 122 - 129.
2- كشف المراد : 195.
3- النافع : 45.
4- منتهى المطلب : 418 - 419.

وقال الشهيد في « الذكرى » : وخبر ذي اليدين متروك بين الإمامية ، لقيام الدليل العقلي على عصمة النبي صلی اللّه علیه و آله عن السهو ، لم يصر إلى ذلك غير ابن بابويه (1).

هذا هو الرأي السائد بين الإمامية ، ولم يشذّ عنهم أحد من المتأخّرين سوى أمين الإسلام الطبرسي في « تفسيره » حيث قال : وأمّا النسيان والسهو فلم يُجْوّزوهما عليهم فيما يؤدّونه عن اللّه تعالى ، وأمّا ما سواه فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل (2).

وأمّا غيره ، فلم نجد من يوافقه ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المصادر المذكورة في الهامش.

وقد قام (3) العلاّمة المجلسي بإيفاء حق المقام في « بحاره » (4).

2. كيفية معالجة المأثورات حول سهو النبي صلی اللّه علیه و آله

روى الفريقان أحاديث حول سهو النبي صلی اللّه علیه و آله .

روى البخاري في كتاب الصلاة ، باب « من يكبر في سجدتي السهو » عن أبي هريرة قال : صلّى النبي إحدى صلاتي العشية ... ركعتين ، فقالوا : أقصرت الصلاة ؟ ورجل يدعوه النبي ذو اليدين ، فقال : أنسيت الصلاة أم قصرت ؟ فقال :

ص: 332


1- الذكرى : 215.
2- مجمع البيان : 2 / 317.
3- حق اليقين في معرفة أُصول الدين : للسيد عبد اللّه شبر : 1 / 124 ; مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار ، له أيضاً : 2 / 134 - 142 ; تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى ; منهج الصادقين : 3 / 393 ، و 5 / 346.
4- لاحظ البحار : 17 / 97 - 129.

لم أنس ولم تقصر ، قال : بلى قد نسيت. فصلى ركعتين ثم سلم ، ثم كبّر فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه فكبّر ، ثم وضع رأسه فكبّر فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه وكبّر (1). هذا ما رواه أهل السنّة كما رووا غيره أيضاً.

أمّا الشيعة فقد رووا أحاديث حول الموضوع نقلها العلاّمة المجلسي في « بحاره » (2). ولا يتجاوز مجموع ما ورد في هذا الموضوع عن اثني عشر حديثاً ، كما أنّ أخبار نوم النبي صلی اللّه علیه و آله عن صلاة الصبح لا تتجاوز عن ستة أحاديث (3).

لكن الجواب عن هذه الروايات بأحد أمرين :

الأوّل : ما ذكره المفيد في الرسالة المومأ إليها من أنّها أخبار آحاد لا تثمر علماً ، ولا توجب عملاً ، ومن عمل على شيء منها فعلى الظن يعتمد في عمله بها دون اليقين (4).

الثاني : ما ذكره الصدوق من التفريق بين سهو النبي وسهو الآخرين بما عرفت ، واللّه العالم بالحقائق.

ثم الظاهر من السيد المرتضى ، تجويز النسيان على الأنبياء حيث قال في تفسير قوله سبحانه : ( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) (5) : إنّ النبي إنّما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤدّيه عن اللّه تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضي التنفير عنه ، فأمّا فيما هو خارج عمّا ذكرناه ، فلا مانع من النسيان (6).

ص: 333


1- صحيح البخاري : 2 / 68.
2- راجع البحار : 17 / 97 - 129.
3- راجع البحار : 17 / 100 - 106.
4- البحار : 17 / 123.
5- الكهف : 73.
6- تنزيه الأنبياء : 87.

وممّن وافق الصدوق من المتأخّرين ، شيخنا المجيز : الشيخ محمد تقي التستري ، فقد ألّف رسالة في الموضوع نصر فيها الشيخ الصدوق وأُستاذه ابن الوليد ، وطبعها في ملحقات الجزء الحادي عشر من رجاله « قاموس الرجال » والرسالة تقع في 24 صفحة.

وأمّا العلاّمة المجلسي ، فالظاهر منه التوقّف في المسألة قال : إعلم أنّ هذه المسألة في غاية الإشكال ، لدلالة كثير من الآيات ( الآيات التي يُستظهر منها نسبة النسيان إلى بعض الأنبياء غير النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وقد قدّمناها ) والأخبار على صدور السهو عنهم ، وإطباق الأصحاب إلاّ ما شذّ على عدم جواز السهو عليهم مع دلالة بعض الآيات والأخبار عليه في الجملة وشهادة بعض الدلائل الكلامية والأُصول المبرهنة عليه ، مع ما عرفت في أخبار السهو من الخلل والاضطراب وقبول الآيات للتأويل ، واللّه يهدي إلى سواء السبيل (1).

ثم إنّ الشيخ المفيد وصف القائل بصدور السهو منه صلی اللّه علیه و آله من الشيعة بالمقلّدة ، وأراد : الصدوق وشيخه ابن الوليد. ولكن التعبير عنهما بالمقلّدة غير مرضي عندنا ، كيف ؟! ويصف الأوّل الرجالي النقّاد النجاشي بقوله : أبو جعفر ، شيخنا وفقيهنا ، ووجه الطائفة بخراسان ، وكان ورد بغداد سنة 355 ه ، وسمع منه شيوخ الطائفة ، وهو حدث السن (2).

ويقول في حق شيخه : أبو جعفر ، شيخ القمّيين ، وفقيههم ، ومتقدّمهم ، ووجههم ، ويقال : إنّه نزيل قم ، وما كان أصله منها ، ثقة ، ثقة ، عين مسكون إليه (3).

ص: 334


1- البحار : 17 / 118 - 119.
2- رجال النجاشي : 2 / 311 برقم 1050.
3- رجال النجاشي : 2 / 301 برقم 1043.

والمحمل الصحيح لهذه التعابير ما أشار إليه شاعر الأهرام بقوله :

يشتد في سبب الخصومة لهجة *** لكن يرق خليقة وطباعا

وكذلك العلماء في أخلاقهم *** يتباعدون ويلتقون سراعاً

في الحق يختلفون إلاّ أنّهم *** لا يبتغون إلى الحقوق ضياعاً

اللّهم اغفر للماضين من علمائنا واحفظ الباقين منهم

ص: 335

ص: 336

2

مفهوم الإمام في القرآن الكريم

اشارة

ص: 337

في هذا الفصل

1. نظرية الإمامة بين الفريقين.

2. هل الإمامة تفويض اجتماعي أو منصب إلهي ؟

3. الاستدلال على كونها منصباً إلهياً.

4. ما هو الهدف من ابتلاء الخليل بالكلمات ؟

5. ما هو المراد من الكلمات الّتي ابتلي بها إبراهيم علیه السلام ؟

6. ما هو المقصود من إتمام تلك الكلمات ؟

7. ماذا يراد من الإمام في قوله : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ؟

8. توضيح النظريات الخمس في تفسير الإمام في الآية السابقة ؟

9. كيف تكون الإمامة عهداً إلهياً ؟

10. ما هو المراد من الظالمين في قوله : ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ؟

11. بيان كيفية دلالة الآية على نزاهة الإمام من الذنب.

ص: 338

مفهوم الإمام في القرآن الكريم

اشارة

للتعرّف على مفهوم كلمة الإمام في القرآن أهمية خاصة ، كما أنّ التعرّف على مفهومي النبي والرسول فيه كذلك ، وقد فرغنا من تبيين مفهوم الأخيرين في الجزء السابق ، وبقى البحث عن مفهوم الإمام في الكتاب العزيز.

إنّ الإمام في مصطلح المتكلّمين هو القائد العام للمسلمين الّذي يخلف النبي صلی اللّه علیه و آله في كل أو بعض ما يمتّ له بصلة ، وقد اتّفقت الأُمّة على انسداد باب الوحي وختم التشريع بموت النبي صلی اللّه علیه و آله ولحوقه بالرفيق الأعلى ، وإنّما الكلام في مقدار المسؤولية الّتي يتحمّلها الإمام في خلافته عنه ، وهذا الاختلاف أوجد نظريتين في باب الإمامة بين المتكلّمين ، بل أحدث مدرستين وصار سبباً للاختلاف في لزوم بعض الشروط في الإمام وعدمها ، ولا يمكن الوصول إلى الحق إلاّ بعد دراسة النظريتين على ضوء الكتاب والسنّة والعقل ، ولا يصح إبداء النظر في لزوم الشروط الّتي ذكرها المتكلّمون إلاّ بعد تلك الدراسة ، وإليك بيان النظريتين :

الإمامة تفويض اجتماعي

الإمامة منصب اجتماعي بمعنى انّ الأُمّة هي صاحبة السلطة العليا تخوّلها للإمام ، وهي الّتي تحاسب الإمام وتراقب قراراته وعليها أن تنتخب من يقودها.

ص: 339

وبعبارة أُخرى : انّ من حقّ الأُمّة أن تختار حكّامها ، تعيّنهم وتعزلهم وتراقبهم في كل تصرفاتهم الشخصية والعامّة ، وعلى ذلك فالإمامة منصب عرفي كسائر المناصب المطروحة في المجتمع غير انّها تتفاوت بسعة المسؤولية وضيقها ، فالإمام أكثر مسؤولية من الوزراء ، وهم أكبر مسؤولية من المدراء العامين ، ولا يخلف الإمام النبي الراحل إلاّ في بعض مسؤوليته ، وهي الأخذ بزمام السلطة في الشؤون الّتي تتوقف عليها حياة الأُمّة ، ولأجل ذلك يعتبر فيه من المؤهلات والصلاحيات : الدراية والكفاية أوّلاً ، والعلم بالأحكام والقوانين على مستوى خاص ثانياً.

وأمّا سائر الشروط ، كالعصمة الإلهية ، والعلم بجميع الأحكام الشرعية ، والإجابة عن كل الأسئلة المطروحة ، والدفاع العلمي عن أُصول الشريعة ومعارفها العليا ، وتفسير ما ورد من الآيات في الذكر الحكيم و ... فلا يعتبر قطعاً ، لأنّ الهدف المتوخّى من الإمام على هذا الصعيد هو إعمال السلطة وقيادة السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وتكفيه المقدرة العادية والعلم بمقدار محدود.

هذا هو أساس تلك النظرية ، وعلى ذلك نجد أنّ معتنقي تلك النظرية يصفون الإمام وشروطه بالعبارات التالية :

يقول القاضي الباقلاني : يجب أن يكون الإمام على أوصاف : منها : أن يكون قرشياً من الصميم ، وأن يكون من العلم بمنزلة من يصلح أن يكون قاضياً من قضاة المسلمين ، وأن يكون ذا بصيرة بأمر الحرب وتدبير الجيوش والسرايا وسد الثغور وحماية البيضة وحفظ الأُمّة والانتقام من ظالمها ونصرة مظلومها وما يتعلّق به من مصالحها ، وأن لا يكون ممّن تلحقه رقة ولا هوادة في إقامة الحدود ولا جزع

ص: 340

من ضرب الرقاب والابشار (1).

وقد جاء على منوال القاضي أكثر من تأخّر عنه إلى عصرنا هذا ، ولا حاجة لنقل ما ذكره المتأخرون عنه ، ونكتفي بنقل ما ذكره أحد الشخصيات البارزة في زماننا ألا وهو الشيخ محمود شلتوت ، حيث قال : اتفق الفقهاء على أنّ خليفة المسلمين هو مجرّد وكيل عن الأُمّة يخضع لسلطان موكّله في جميع أُموره ، وهو مثل وكيل من الأُمّة في البيع والشراء يخضع لما يخضع له الوكيل الشخصي كما اتفقوا على أنّ موظفي الدولة الّذين يعيّنهم الخليفة أو يعزلهم ، لا يعملون بولايته ولا ينعزلون بعزله باعتباره الشخصي وانّما بولاية الأُمّة وعزلها الّتي وكّلته في التولية والعزل ، ولهذا إذا عزل الخليفة لا ينعزل ولاته وقضاته ، لأنّهم يعملون باسم الأُمّة وفي حق الأُمّة لا باسم الخليفة ولا في خالص حق الخليفة (2).

وتتلخص تلك النظرية في أنّ الأُمّة نقلت إلى الإمام ولايتها ، وجعلت فيه ثقتها ، ولو قام أهل الحل والعقد بتنصيبه ، فلأجل أنّهم وكلاء الأُمّة.

هذه حقيقة تلك النظرية عند أصحابها ، وسواء أطابقت واقع خلافة الخلفاء وجلوسهم على منصّة الحكم أم لا ، فهؤلاء يتبنّون تلك النظرية ويحاولون أن يسوقوا على صحتها الشواهد والدلائل.

الخليفة والعدالة

إنّ أصحاب هذه النظرية اختلفوا في اشتراط العدالة في الخليفة ، فهم بين نافين لها مستدلين ببعض الخلفاء الذين افتقدوا السيرة المحمودة والعدالة ، وبين

ص: 341


1- التمهيد : 181.
2- من توجيهات الإسلام : 563.

مثبتين لها ، وإليك نصوص كلا الطرفين :

يقول القاضي الباقلاني : قال الجمهور من أهل الاثبات وأصحاب الحديث : لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرّمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود ولا ينخلع بهذه الأُمور ، ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه ، واحتجوا لذلك بأخبار كثيرة متضافرة عن النبي والصحابة في وجوب طاعة الأئمّة وان جاروا واستأثروا بالأموال (1).

وقال التفتازاني : وإذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير استخلاف ، وقهر الناس بشوكته ، انعقدت الخلافة له ، وكذا إذا كان فاسقاً اوجائراً على الأظهر إلاّ أنّه يعصي بما فعل ، وتجب طاعة الإمام ما لم يخالف حكم الشرع سواء كان عادلاً أو جائراً ، ولا ينعزل الإمام بالفسق (2).

وعلى هذا الأساس اشتهر بين أهل السنّة : أنّهم لا يرون الخروج على الأئمّة وقتالهم بالسيف وإن كان منهم ظلم ويتمسّكون في ذلك بأحاديث منسوبة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، وربّما يُعلّلون ذلك بأنّ الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل من ظلمهم بدون قتال ، فيدفع أعظم الفسادين بالتزام الأدنى ، ولا تكاد تعرف طائفة خرجت على السلطان ، إلاّ كان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الّذي أزالته (3).

وعلى هذا الأساس تسلّط أصحاب السلطة من الأُمويين والعباسيين على

ص: 342


1- التمهيد : 186.
2- شرح المقاصد : 2 / 272 ، ط اسلامبول.
3- منهاج السنة : 78.

أعناق الناس ، وأراقوا الدماء واستباحوا الأعراض وانتهبوا الأموال ، وصار أصحاب الحديث يبرّرون سلوكهم في عدم جهاد الطواغيت بهذه العلة التافهة الّتي لو أخذنا بها لاندرس من الدين حتّى الاسم ، وهؤلاء المساكين لا يدرون أنّه إنّما قام للإسلام عمود واخضر له عود ، بمجابهة المخلصين من المسلمين عن طريق ثوراتهم وأعمالهم على السلطات الجائرة حتّى استشهد كثير منهم ، وسقوا شجرة الإسلام بدمائهم الطاهرة ، فبقيت مخضرّة تُؤتي أُكلها كل حين.

وفي مقابل هذه الطائفة من أهل السنّة هناك من لمس الواقع ودرس حقيقة الإمامة على وجه صحيح ولو من بعض جوانبها ، منهم : القاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي ، وشارح كتابه المحقّق السيد الشريف ، إذ يقولان : نعم يجب أن يكون عدلاً في الظاهر لئلاّ يجور ، لأنّ الفاسق ربّما يصرف الأموال في أغراض نفسه ويضيع الحقوق (1).

ويقول إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد اللّه بن يوسف الجويني : إنّ الإمام إذا جار وظهر ظلمه وغيه ولم يرعوِ لزاجر من سوء صنيعه ، فلأهل الحل والعقد ، التواطؤ على ردعه ولو بحمل السلاح ونصب الحروب (2).

يقول العلاّمة الشيخ محمود شلتوت : فالحاكم يجب أن يكون حميد السيرة ، فإن ساءت سيرته فللأُمّة عزله (3).

الإمامة والاجتهاد

يظهر من كثير من متكلّمي السنّة شرط الاجتهاد في الإمامة.

ص: 343


1- شرح المواقف : 8 / 350 ، ط مصر.
2- شرح المقاصد : 2 / 272.
3- من توجيهات الإسلام : 563.

قال القاضي الإيجي : الجمهور على أنّ أهل الإمامة مجتهد في الأُصول والفروع ليقوم بأُمور الدين.

وقرّره على ذلك الشرط شارح المواقف السيد الشريف الجرجاني مفسراً العبارة المزبورة بقوله : حتّى يكون متمكّناً من إقامة الحجج وحل الشبه في العقائد الدينية مستقلاً بالفتاوى في النوازل والأحكام والوقائع نصاً واستنباطاً ، لأنّ أهم مقاصد الإمامة حفظ العقائد وفصل الحكومات ورفع المخاصمات ، ولن يتم ذلك بدون هذا (1).

وقال شمس الدين بن محمود الاصفهاني ( المتوفّى عام 749 ه ) المعروف بابن السناء : صفات الأئمّة هي تسع : الأُولى : أن يكون الإمام مجتهداً في أُصول الدين وفروعه (2).

وقال إمام الحرمين : إنّ من شروط الإمام الاجتهاد بحيث لا يحتاج إلى استفتاء غيره في الحوادث ، قال : وهذا متفق عليه (3).

وقد أكد على ذلك الإمام في بعض أسفاره ك « غياث الأُمم » (4).

وقد تبلورت هذه النظرية عند المتأخرين من أهل السنّة ، فترى أنّ الشيخ محمد أبو زهرة يقول في حق الحاكم : أن يكون مجتهداً مشاوراً للمجتهدين (5).

وهناك عدة أُخرى من المتقدّمين من العلماء والمتأخرين ركّزوا على هذا الشرط.

ص: 344


1- شرح المواقف : 8 / 349.
2- مطالع الأنظار : 470.
3- القرشي في كتاب الحكم والإدارة نقلاً عن الإرشاد : 426.
4- راجع غياث الأُمم : 274.
5- المجتمع الإسلامي : 128.

وأنت إذا لاحظت ما نقلناه عن أصحاب هذه المدرسة في ماهية الإمامة وشروطها تخرج بهذه النتيجة : انّ الإمامة عند أصحابها ليست إلاّ رئاسة عامة لتدبير أمر الجيوش وسد الثغور وردع الظالم والأخذ للمظلوم بحقه وإقامة الحدود وقسمة الفيء بين المسلمين ، ولا يشترط فيها نبوغ في العلم يزيد على علم الرعية ، بل هو والأُمّة في علم الشريعة سيان ، ويكفيه من العلم ما يكون عند القضاة ، هذه هي ماهية النظرية ، وأمّا الشروط فقد وقفت على متفقها ومختلفها.

وعلى هذه النتيجة الّتي خرجنا بها يكون البحث عن العصمة الإلهية والعلم بكل الأحكام الشرعية والذب عن حريم العقائد والمعارف وتبيين ما أجمل من الكتاب أمراً غير لازم بل غير متحقّق ولا متمكن منه ، إذ من المستحيل أن يكون منتخب الأُمّة حائزاً لهذا الكمال اذالم يكن المنتخب واقعاً في إطار التربية الغيبية كالنبي صلی اللّه علیه و آله والإمام في النظرية الثانية.

ولأجل ذلك نجد انّ أصحاب هذه النظرية يستوحشون من سماع شرط العصمة في الإمام أو من سماع بعض الشروط مثل أن يكون أعلم الأُمّة وعارفاً بكل ما يرجع إلى الشريعة والسياسة. وإذ فرغنا من دراسة حقيقة هذه النظرية فهلمّ معي ندرس حقيقة النظرية الأُخرى.

الإمامة منصب إلهي
اشارة

إنّ أصحاب هذه النظرية يعترفون بختم النبوة والرسالة بارتحال النبي صلی اللّه علیه و آله إلى الرفيق الأعلى وانقطاع الوحي بموته صلی اللّه علیه و آله ، ومع ذلك يقولون بأنّ منصب الإمامة استمرار لشؤون ووظائف الرسالة ، وانّ الإمام يقوم بكل ما كان يقوم به النبي صلی اللّه علیه و آله سوى كونه متلقياً للوحي ، فالرسول ، خص بالتشريع والوحي الإلهي ، وشأن

ص: 345

الخليفة والإمام التبليغ والبيان وتفصيل المجمل وتفسير المعضل وإظهار ما لم يتسن للنبي صلی اللّه علیه و آله الإشارة إليه إمّا لتأخّر ظرفه ، اولعدم تهيّؤ النفوس له ، أو لغير ذلك من العلل ، وإذا مات الرسول فهناك أحكام لم تبلغ وإن كانت مشرّعة وأُخرى لم تأت ظروفها فالإمام مبلّغها ومبيّنها.

ولا تتم وظيفة الإمام في هذا المجال فحسب ، بل هناك وظائف أُخرى ، كوظائف النبي صلی اللّه علیه و آله حذو القذة بالقذة ; فالإمام ببيانه يكمل الشريعة ، ويزيح شبه الملحدين ، ويدرأ عن الدين عادية أعدائه بقوته وسلطانه ، ويقيم الأمت والعوج بيده ولسانه ، وعلى الجملة كل ما كان من الوظائف والمسؤوليات على عاتق النبي صلی اللّه علیه و آله ، فهو على عاتق الإمام إلاّ التشريع وتحمّل الوحي الإلهي.

هذه هي حقيقة هذه النظرية وتترتب عليها الشروط الّتي تسالم أصحابها عليها من كون الإمام : أعلم الأُمّة ، وأقضاها ، وأعرفها بأُصول الدين وفروعه ، وأقواها على الذب عن حريم الدين والعقائد والمعارف إلى غير ذلك من المؤهلات الّتي يجب أن يكون النبي متّصفاً بها ، وقد استدل أصحاب هذه النظرية على ما يتبنّونه بوجوه عقلية ونقلية مذكورة في كتبهم ، وعلى القارئ الكريم مراجعتها.

ولأجل إيضاح الحق نأتي بالبيان التالي :

إنّ رحلة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله أحدثت فراغاً هائلاً في مختلف المجالات المادية والمعنوية ، ومقتضى لطفه سبحانه وعنايته بالعباد ، أن يملأ هذا الفراغ بإنسان يخلف النبي صلی اللّه علیه و آله ولا يقدر على ذلك إلاّ الإنسان المثالي الّذي يكون له من الوعي والتربية والعلم والشجاعة مثل ما كان للنبي صلی اللّه علیه و آله سوى كونه نبياً ذا شريعة ومتلقياً للوحي.

كان النبي صلی اللّه علیه و آله يقوم بمسؤوليات كثيرة تجمعها الأُمور التالية :

ص: 346

1. إدارة أُمور الأُمّة في مختلف مجالاتها الحيوية : السياسية والاقتصادية والعسكرية والقضائية وغيرها ممّا تجمعها إدارة الحكومة.

2. تفسير الكتاب العزيز وتوضيح مقاصده وبيان أهدافه وكشف أسراره.

3. الإجابة عن الأسئلة الشرعية الّتي لها مساس بعمل المسلم في حياته من حيث الحلال والحرام.

4. الرد على الشبهات والتشكيكات الّتي يلقيها أعداء الإسلام ويوجّهونها ضده من يهود ومسيحيين وغيرهم ، فكان يرد عليها تارة بلسان الوحي المقدّس وأُخرى بلسان الحديث.

5. صيانة الدين الإسلامي عن أي فكرة تحريفية ، وعن أي دس في التعاليم ، فلم يكن لأي دسّاس مقدرة على تحريف الدين أُصولاً وفروعاً.

6. يرتقي بأُمّته إلى طريق الكمال والتقدّم الروحي.

ولا شك أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يقوم بهذه المسؤوليات وكان فقدانه وغيابه عن الساحة ، يلازم حدوث فراغ هائل في حياة الأُمّة لايسدّ إلاّ بإنسان يتمتع بتلك الكفاءات عدا النبوّة وتلقّي الوحي.

والفراغ الأوّل وإن كان يملأ باختيار الإمام من جانب الأُمّة لكن الفراغ الباقي لا يسدّ إلاّ بإنسان مثالي تربّى في وضع خاص من العناية الإلهية ، ولمّا كانت هذه الأُمور النفسية والمؤهّلات المعنوية الّتي يتمكّن بها الإنسان المثالي من مل الفراغ ، لا يمكن الوقوف عليها ومعرفتها إلاّ بتعريف من اللّه تعالى وتعيين منه ، فلأجل ذلك صار الأصل عند أصحاب هذه النظرية في مسألة الإمامة هو التنصيب والتعيين من جانبه سبحانه.

ص: 347

ولمّا كان القيام بهذه المسؤوليات متوقفاً على كون الإنسان المثالي مصوناً من الزلل ومعصوماً عن الخطأ ، كان الأصل في الإمام هو العصمة من الذنب.

إنّ الإجابة عن الأسئلة الشرعية على وجه الحق ، وتفسير القرآن على النهج الصحيح ، وتفنيد الشبهات على وجه يطابق الواقع ، وصيانة الدين عن أي تحريف لا يحصل إلاّ بمن يعتصم بحبل العصمة ويكون قوله وفعله مميزين للحق والباطل.

نعم انّ الإنسان الجليل ربّما يملأ هذا الفراغ ولكن لا بصورة تامة جداً ، ولأجل ذلك نرى أنّ الأُمّة افترقت في الأُصول والفروع إلى فرق كثيرة يصعب تحديدها وتعدادها.

فلأجل هذه الأُمور لا محيص عن وجود إنسان كامل عارف بالشريعة : أُصولها وفروعها ، عالم بالقرآن ، واقف على الشبهات وكيفية الإجابة عنها ، قائم على الصراط السوي ليرجع إليه من تقدّم على الصراط ومن تأخّر عنه.

وهذا يقتضي كون الإمام منصوباً من جانبه سبحانه معصوماً بعصمته ، وهذه خلاصة هذه النظرية وأدلّتها الّتي تتمسّك بها.

ثم إنّ أصحاب هذه النظرية استدلوا بآيات على لزوم كون الإمام معصوماً من الذنب ، ونحن نقتصر الآن على آيتين :

أُولاهما : آية الابتلاء. والثاني : آية التطهير ، والآية الأُولى تركّز على عصمة الإمام من الذنب على وجه الإطلاق ، والآية الثانية تختص بجماعة خاصة.

الآية الأُولى : قوله سبحانه : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1).

ص: 348


1- البقرة : 124.

وكيفية الاستدلال بهذه الآية على عصمة الإمام يتوقف على البحث عن عدة نقاط ترتبط بها :

1. ما هو الهدف من الابتلاء ؟

2. ما هو المراد من الكلمات ؟

3. ما هو المراد من الإتمام ؟

4. ما هو المراد من الإمام ؟

5. كيف تكون الإمامة عهداً إلهياً ؟

6. ما هو المراد من الظالمين ؟

7. ما هي دلالة الآية على عصمة الإمام من الذنب ؟

وإليك بيان كل واحدة من هذه النقاط على وجه الاختصار.

ص: 349

1. ما هو الهدف من الابتلاء ؟

هاهنا سؤال يفرض نفسه وهو انّ الهدف من الامتحان هو الاطّلاع على أحوال الممتحن ، واللّه سبحانه مطّلع على أحوال العباد ، عارف بشؤونهم الخاصة والعامة ، فما هو الهدف من وضعهم في ظروف شاقّة من البلاء والامتحان ؟

والإجابة عن هذا السؤال تحصل بكل من الأُمور التالية :

1. أنّ الهدف من الامتحان من غيره سبحانه ، الاطّلاع على سرائر الآخرين ، وأمّا بالنسبة إليه سبحانه وتعالى فالهدف هو إتمام الحجة على العبد ، قال سبحانه : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (1) ولنعم ما قال الشاعر البغدادي :

وليحيا الجيل عن بينة *** وليهلكن عليها من هلك

وعند الامتحان بالتكاليف والوظائف ينقسم العباد إلى قسمين :

طائفة تقوم بما أُلقي على عاتقها من التكاليف ، وأُخرى : تخفق في مجال التكليف.

فالحياة للطائفة الأُولى عن حجة. والهلاك للطائفة الثانية عن حجة أيضاً ،

ص: 350


1- الأنفال : 42.

قال سبحانه : ( رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (1) ، وقال سبحانه أيضاً : ( قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (2).

فاللّه سبحانه يعلم القائم بالوظائف من القاعد عنها ، ولكنّه لو جازاهم بهذا العلم ، ربما يعترض عليه القاعد بأنّه لو كلّفه في الدنيا لقام بالوظائف ، فلماذا أثابه دونه ؟ فلأجل محو هذا الاعتراض من الأساس ، جعلهم في بوتقة الامتحان حتى تكون له الحجة البالغة على القاعدة.

2. انّ الهدف من الاختبار هو تمحيص المؤمن من الكافر ، وتمييز الخبيث من الطيب في المجتمع الإسلامي ، فإنَّ لهذا التمحيص شأناً من الشؤون وأثراً من الآثار ، قال سبحانه : ( مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (3) ، وقال سبحانه : ( لِيَمِيزَ اللّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ) (4) وبما أنّ المنافق يتظاهر بالإيمان ، والعدو بالصداقة ، فلابدَّ من إجراء الامتحان والابتلاء حتى يتميزا ، فإذا أمر اللّه سبحانه ببذل النفس والنفيس في سبيل اللّه فيتقدّم المؤمن حسب إيمانه ويتثاقل المنافق ، وعندئذ يتمايز الصنفان.

3. انّ الهدف من الامتحان ، إبراز الطاقات الكامنة في الإنسان وإخراجها من مكامنها ، فكل إنسان خلق وله قابليات خاصّة كامنة في ذاته ، غير أنّ ظهورها وخروجها من القوّة إلى الفعل ، يحتاج إلى وقوع الإنسان في خضمّ الامتحان والاختبار حتى تنبثق تلك القابليات من مكامنها ، وترى نور الوجود فكما أنّ

ص: 351


1- النساء : 165.
2- الأنعام : 149.
3- آل عمران : 179.
4- الأنفال : 37.

البذرة لا تتفتح ، ولا تصير نباتاً ولا شجرة إلاّ بعد ابتلاء وتأثير من الهواء ، والشمس ، والأرض حتى تكون شجراً ، فهكذا الإنسان لا تتفتح طاقاته الكامنة إلاّ إذا وضع في ظروف خاصّة توجب تفتح القوّة وظهورها إلى مرحلة الكمال.

فالتكاليف الشاقة الملازمة للشدّة والضغط ، توجب ظهور الثمار وإبراز الطاقة.

ولندرس حياة الخليل علیه السلام حتى نقف على حقيقة هذا الجواب.

كان الخليل علیه السلام قبل الابتلاء إنساناً ذا طاقة وكمال دفين في شخصيته غير أنّ تلك الطاقة - الّتي نعبّر عنها : بأنّه كان قابلاً لأن يكون إنساناً مثالياً ملكوتياً بترك كل شيء من أجل خالقه تعالى - كانت مستورة في وجوده ، دفينة في أغوار شخصيته ، فأراد سبحانه إظهارها فجعلها في مجال الامتحان وبوتقة الاختبار ، فتفتحت وصارت كمالاً بالفعل.

وقد أشار الإمام علي علیه السلام إلى هذا الجواب بقوله : « لا يقولنّ أحدكم اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة ، لأنّه ليس أحد إلاّ وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن ، فإنّ اللّه سبحانه يقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (1) » (2).

وهذا التعبير من الإمام يشير إلى أنّ الامتحان سنّة ثابتة من اللّه سبحانه وتعالى في عباده ليس عنها محيص ، ويشير بعد ذلك إلى فلسفة تلك السنّة بقوله علیه السلام : « ومعنى ذلك انّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال

ص: 352


1- الأنفال : 28.
2- بحار الأنوار : 94 / 197 ح 6.

الّتي بها يستحق الثواب والعقاب ، لأنّ بعضهم يحب الذكور ويكره الإناث وبعضهم يحب المال ويكره انثلام الحال » (1).

إنّه سبحانه جعل الخليل على محك الاختبار فأمره بمكافحة عبدة الأصنام وكسر آلهتهم المزعومة ، إلى حدٍّ يستعد به للبلاء في طريق طاعته ، وإن كان بالقتل والحرق ، كما أمره سبحانه بإسكان أهله بأرض غير ذي زرع ، كما أمره ببناء بيته وتطهيره ، وذبح ولده بيده ، و ... فهذه الوظائف الشاقة المرّة في ظاهرها ، الحلوة في باطنها ، جعلت الخليل بفضل بطولاته العجيبة في مجال الامتحان إنساناً إلهياً لا يعرف في مسيرة حياته غير اللّه ولا يهمه غير أمره ، وهذا منتهى الكمال الممكن للإنسان المثالي ، فكم فرق بين إنسان نسي ميوله الحيوانية وغرائزه عندما تعارضت مع مراد مولاه وغاية مناه وهو اللّه ، وبين إنسان غارق في الشهوات وخائض في لجج الغرائز ، أسّره الهوى فصار عبداً للشيطان ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) (2).

فالاختبار يجلي تلك الطاقات الكامنة في الصنفين المتقابلين في الناس ، ويعمل في النفوس المستعدة عمل الحرارة من تمييز الذهب عن خليطه.

هذا مجمل القول حول فلسفة الامتحان والتفصيل موكول إلى البحث عن الآيات الواردة حوله.

ص: 353


1- نهج البلاغة : قسم الحكم برقم 93.
2- الفرقان : 43.
2. ما هو المراد من الكلمات ؟

الكلمات جمع « كلمة » ، والمراد منها هو المفرد من الألفاظ ، وربّما يطلق على الجملة ، فيقال : « لا إله إلاّ اللّه » كلمة الإخلاص ، غير أنّ القرآن يتوسع بعناية خاصّة في استعمال الكلمة فيطلقها على الأشياء والأفعال الخارجية قال سبحانه : ( بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) (1) ، وقال سبحانه : ( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ) (2) ، وكما أنّه يستعملها في الأعيان الخارجية ، يستعملها أيضاً في الأفعال الّتي يقوم بها الإنسان الممتحن ، وقد اختلف المفسرون في تعيين تلك الأفعال الّتي اختبر الخليل بها ، فنأتي بآرائهم إجمالاً.

1. المراد من الكلمات هي الإمامة ، وتطهير البيت ، ورفع القواعد ، والدعاء لبعث محمد صلی اللّه علیه و آله ، فإنّ هذه الأُمور شاقة ، أمّا الإمامة فلأنَّ المراد منها هاهنا هو النبوّة ، وهذا التكليف يتضمن مشاقاً عظيمة ، وأمّا بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده فمن وقف على ما روى في كيفية بنائه عرف شدّة البلوى فيه ، ثم إنّه يتضمن إقامة المناسك ، وقد امتحن اللّه الخليل عليه الصلاة والسلام بالشيطان في الموقف لرمي الجمار وغيره ، وأمّا اشتغاله بالدعاء في أن يبعث اللّه تعالى محمداً صلی اللّه علیه و آله في آخر الزمان فهذا ممّا يحتاج إليه من إخلاص العمل لله وإزالة الحسد عن القلب بالكلية (3).

ص: 354


1- آل عمران : 45.
2- الكهف : 109.
3- مفاتيح الغيب : 1 / 490 ، ط مصر.

ولا يخفى أنّ الرازي ومن قال بهذا القول قد خلطوا الحق بالباطل ، أمّا الحق فلأنَّ عد تطهير البيت ورفع قواعده من الأُمور الّتي اختبر اللّه الخليل بها حق لا مرية فيه ، وسيوافيك بيانه ، وأمّا الباطل فهو أمران :

الأوّل : عدّ الإمامة من جملة ما اختبر بها إبراهيم علیه السلام ، فلأنّ الظاهر من الآية إنّه سبحانه شرّف إبراهيم بمقام الإمامة بعد أمرين :

1. الابتلاء بالكلمات.

2. إتمامه إيّاها.

فعند ذلك نصبه سبحانه في مقام الإمامة ونتيجة ذلك مغايرة الكلمات مع الإمامة الموهوبة له ، ولو كانت الإمامة من جملة ما ابتلي به إبراهيم لوجب تقديمها على قوله : ( فأتمّها ) وناسب أن يقول : « وإذ ابتلي إبراهيم ربه بكلمات قال إني جاعلك للناس إماماً فأتمهن ».

والعجب أنّ الرازي جعل تطهير البيت ورفع قواعده من جملة الكلمات الّتي ابتلي بها إبراهيم ، ولم يجعل قيامه بذبح الولد ، واستعداده لذلك من جملة تلك الكلمات ، مع أنّه سبحانه يعرّف ذاك العمل بأنّه بلاء مبين ويقول : ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ المُبِينُ ) (1).

وإنّما فعل الرازي ذلك لأنّه قصر نظره في الآيات الواردة بعد هذه الآية ، فقد ورد فيها الأمر بالتطهير ورفع القواعد وطلب بعث النبي صلی اللّه علیه و آله ، فزعم الكل تفسيراً « للكلمات » مع أنّه ليست في بيان تلك الأُمور أيّة قرينة على كون هذه الأُمور تفسيراً لها ، وإنّما وقفنا على كون بعض ما جاء فيها من الكلمات ، من

ص: 355


1- الصافات : 106.

القرائن الخارجية.

والظاهر المتبادر ، إنّ تنصيبه في مقام الإمامة كان جزاءً منه سبحانه لإتمامه الكلمات ونجاحه في الامتحان ، فلو كانت الإمامة من جملة تلك الأُمور لأصبح الكلام غير تام ، وصار السامع في نظائر المقام ينتظر حين يسمع ، المثوبة الّتي نالها إبراهيم لأجل النجاح في معترك الامتحان ولا يتم ذلك إلاّ بإخراج الإمامة عن جملة تلك الأُمور ، وجعلها جزاءً لإتمامه الكلمات لامن الأُمور الّتي اختبر بها.

وأمّا ما أيّد به الرازي نظره وقال : ثم إنّ الّذي يدلّ على أنّ المراد ذلك أنّه عقبه بذكره من غير فصل بحرف من حروف العطف ، فلم يقل : فقال إنّي جاعلك للناس إماماً » بل قال : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، فدلّ على أنّ الابتلاء الوارد في الآية كان عبارة عن هذه الأُمور المذكورة.

ففيه أنّ ( إِذِ ) في قوله سبحانه ( وَإِذِ ابْتَلَى ) ظرفية زمانية ، وليس مظروفه سوى قوله ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ ) ، ومفاد الآية هكذا : في الظرف الّذي ابتلي إبراهيم بكلمات وأتمّها ، قيل له إنّه منصوب للإمامة ، وعلى هذا لا حاجة للإتيان بحرف العطف « فاء » كانت أو غيرها.

وبعبارة أُخرى : يريد سبحانه أن يقول : في هذا الظرف الكذائي الّذي ابتلاه اللّه بكلمات وهو أتمّها ، قال له سبحانه : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) وفي مثل المورد يكون العاطف مخلاً ، ولعل الرازي توهم أنّ إذ الظرفية متضمنة لمعنى الشرط ، وهو غير صحيح ، وليست هذه أوّل قارورة كسرها الرازي ، فله في تفسيره شطحات كثيرة يقف عليها السابر فيه ، خصوصاً فيما يرجع إلى العلوم العربية وتفسير كلمات القرآن ومفرداتها ، ولأجل ذلك قال أبو الوليد ابن الشحنة الحنفي الحلبي في روض

ص: 356

المناظرة في حوادث سنة 606 ه : إنّ الرازي له اليد الطولى في العلوم خلا العربية (1).

الثاني : انّه زعم انّ اشتغال الخليل بالدعاء في حق النبي صلی اللّه علیه و آله دليل على إخلاصه وزوال الحسد من قلبه.

وفيه : انّه لا شك في إخلاصه وطهارته من كل رذيلة خلقية ، لكن جعل هذا دليلاً عليه أشبه شيء بجعل الصباح دليلاً على وجود ضوء الشمس ، فإنّ العامة من الناس يقومون بذلك فضلاً عن الأكارم ، بالأنبياء ؟ ولا يستدل أحد بهذا العمل على إخلاص الداعي وطهارته من الحسد خصوصاً إذا كان المدعو له يجيء بعده بقرون وبالأخص إذا كان من أولاده وأحفاده.

ولعمر القارئ إنّه لو وقف عربي صميم خال ذهنه عن المناقشات الكلامية على هذه الآية ، لقضى بأنّه كان هناك ابتلاء من اللّه بالنسبة إلى نبيّه إبراهيم بعدّة أُمور ، وإنّ إبراهيم أتمهن فجزاه اللّه سبحانه بتشريفه بمقام الإمامة ، وأمّا ما هو المراد من الكلمات ، فهو من الأُمور الّتي يجب أن تطلب من التفحص حول ما ورد في حقه علیه السلام من الآيات ، ولا يخطر بباله أنّ الإمامة من جملة ما ابتلي به إبراهيم.

2. المراد من الكلمات : الخصال العشر الّتي تسمّى خصال الفطرة ، وهي : قص الشارب ، والمضمضة ، والاستشناق ، والسواك ، وفرق الرأس ، وتقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، والاستنجاء بالماء.

هذا الرأي لا يقصر عن سابقه ، فإنّ القيام بهذه الأُمور ليس أمراً شاقاً حتى يبتلي اللّه بها أنبياءه ورسله ، بل يقوم بها كل إنسان بسهولة.

ص: 357


1- الغدير : 1 / 357 ط بيروت.

3. المراد من الكلمات هو الخصال الثلاثون الّتي لم يبتل أحد بها قبله ، فأقامها الخليل علیه السلام كلّها فأتمهن فكتب له البراءة فقال تعالى : ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) وهي :

عشرة في سورة براءة : ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الحَامِدُونَ ... ) (1) ، وعشرة في سورة الأحزاب : ( إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ... ) (2) ، وعشرة في سورة المؤمنون : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ... ) (3) ، وعشرة في سورة المعارج : ( الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ... * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) (4).

ولا يخفى أن هذا أشبه شيء بالتفسير بالرأي ، وإنّما هو مجرّد استحسان ، ولم يدل دليل على كون المراد من الكلمات هذه الخصال الواردة في الآيات المباركة على أنّ الخصال أزيد من ثلاثين ، فلاحظ.

4. المراد هو التكاليف الشاقة الملقاة على عاتق الخليل منذ شبابه إلى أُخريات أيامه ، يظهر ذلك بالرجوع إلى الآيات التالية الحاكية عن حياته ، من شبابه إلى شيخوخته : ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ *

ص: 358


1- التوبة : 112.
2- الأحزاب : 35.
3- المؤمنون : 2 - 9.
4- المعارج : 23 - 34.

فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ المُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ) (1).

وهذه الآيات تصرّح بأنّ إبراهيم بطل التوحيد قد ابتلي منذ شبابه إلى شيخوخته بأُمور :

1. أمره سبحانه بتحطيم الأصنام ، فقام بهذا العمل الخطير بحماس ورباطة جأش ، واستقبل رد فعل قومه وهو الإلقاء في النار ، بصلابة وقوّة عزيمة.

2. أمره تعالى بترك الوطن وإلقاء الرحل في دار الغربة لنشر الدعوة ، فجاءه الوحي بأن يذهب بأهله وولده إلى واد غير ذي زرع ، فاستقبل الأمر ببشاشة وجه ، ونادى ربَّه بقوله : ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ ) (2).

3. أمره سبحانه بعمارة البيت ورفع قواعده وتطهيره ، وجاء به النص في قوله

ص: 359


1- الصافات : 83 - 113.
2- إبراهيم : 37.

سبحانه : ( وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ... * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (1).

4. أمره بذبح ولده ، فقام بامتثال الأمر على صعوبته البالغة برحابة صدر وتسليم لأمر اللّه ، بحيث حكى ذلك تعالى بقوله : ( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ... ) .

فاللّه سبحانه يصف القيامة بالأمر الأخير بقوله : ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ المُبِينُ ) (2).

وهذا التوصيف ( البلاء المبين ) وإن كان ناظراً إلى قيام إبراهيم بمحاولة ذبح الولد ، ولكنّه يشعر بأنّ بقية الكلمات الّتي ابتلي بها إبراهيم كانت أعمالاً تشابه ذلك من حيث المشقة ، وليست تلك الأعمال في حياة إبراهيم إلاّ ما تكفّلت تلك الآيات ببيانها.

فعند ذلك قامت الحجة على أنَّ إبراهيم خالص من كل مزيج ، صفو من كل كدر ، فاستحق الارتقاء إلى منصب عال لم يرتق إليه أحد من قبله ، وهو منصب الإمامة.

3. المراد من الإتمام

التمام في مقابل النقص ، ومعنى الإتمام إبلاغ الشيء إلى حد الكمال ، يقول سبحانه : ( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) ، والمراد من إتمام الكلمات هو القيام بها

ص: 360


1- البقرة : 125 - 127.
2- الصافات : 106.

بنجاح في معترك الابتلاء ، وقد نقل سبحانه كيفية نجاح إبراهيم في تلك المعركة وتظهر بالرجوع إلى الآيات الواردة حول ابتلائه في السور المختلفة (1).

قال الزمخشري في « الكشاف » في تفسير « فأتمهن » : فقام بهنّ حق القيام وأدّاهنّ أحسن التأدية من غير تفريط وتوان. ويؤيد كون الفاعل هو إبراهيم قوله سبحانه : ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) (2) ، أي تمّم وأكمل ما ابتلي وامتحن به أو الأعم منه وما أمر به (3).

وربّما يحتمل كون الفاعل ، هو الضمير العائد إلى اللّه سبحانه ، وعليه يكون مفاده توفيقه لما أراد منه حتى تصح نسبة إتمام الكلمات إليه سبحانه ، فالفاعل المباشر هو الخليل واللّه سبحانه هو الموفّق ، وتصح نسبة الفعل الواحد إلى المباشر والسبب جميعاً.

وأمّا تفسير الإتمام - بناء على كون الضمير عائداً إلى اللّه - « بأنّه أعطاه ما طلبه ولم ينقص منه شيئاً » (4) ، فهو كلام عار عن التحقيق ، فإنّ الضمير المتصل بالفعل يرجع إلى الكلمات ، أعني : « هن » في « أتمهن » وليست الكلمات شيئاً طلبها إبراهيم من اللّه ، بل اللّه سبحانه طلبها منه كما سيوافيك ، وعلى ذلك لا يصح تفسير إتمام اللّه بإعطائه ما طلبه إبراهيم منه ، وإنّما يصح بتوفيقه إيّاه للقيام بما أمر والنجاح في ما ابتلي.

ص: 361


1- البقرة : 127 - 128 ; الأنعام : 70 - 83 ; الأنبياء : 53 - 71 ; الحج : 26 - 27 ; وسورة إبراهيم : 37 - 40.
2- النجم : 36 - 37.
3- لاحظ الكشاف : 1 / 236 ; مجمع البيان : 5 / 180.
4- لاحظ الكشاف : 1 / 236 ; مجمع البيان : 5 / 180.
4. المراد من الإمام
اشارة

هذا هو البحث المهم في المقام الّذي تضاربت فيه الآراء ، ونحن نرفع الستار عن وجه الحقيقة بالبحث عن أُمور ثلاثة :

ألف. ما هو معنى الإمام لغة ؟

ب. ما هو مفهوم الإمام في القرآن الكريم ؟

ج. ما هو ملاك إمامة الخليل في هذه الآية ؟ وهذا هو المهم في فهم الآية ، وقد أُهمل في كلمات المفسرين ، وسيوافيك أنّ البحث في الأمر الثاني لا يغني عن الثالث.

ألف. الإمام في اللغة

قال ابن فارس : الإمام كل من اقتدي به وقُدّم في الأُمور ، والنبي إمام الأئمّة ، والخليفة إمام الرعية ، والقرآن إمام المسلمين.

وقال ابن منظور : الإمام ما ائتُمّ به من رئيس وغيره ، وفي التنزيل العزيز : ( فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) ، أي قاتلوا رؤساء الكفر وقادتهم ... إمام كل شيء قيّمه والمصلح له ، والقرآن إمام المسلمين.

وليست تلك النصوص من هذين العلمين مبيّنة للمعنى الأصلي للكلمة ، وإنّما تشير إلى مصاديق المعنى الأصلي ، والنص اللغوي الصحيح - الّذي جاء يحدّد معنى الكلمة مجردة عن انطباقه على مصاديقها - هو ما ذكره صاحب القاموس : الإمام هو ما يتعلّمه الغلام كل يوم من رؤوس أقلام ، وما امتثل عليه من مثال ودليل ، وخشبة يسوى عليها البناء.

ص: 362

وهذه العبارة من صاحب القاموس توصلنا إلى أصل المعنى اللغوي ، وهو انّ الإمام عبارة عن كل شيء يتّخذه الإنسان مثالاً لعمله ودليلاً لفعله ، ويطبّق فعله وعمله على ذلك المثال وذلك الدليل ، فهذا هو المعنى الأصلي لتلك الكلمة ، فالنبي صلی اللّه علیه و آله إمام ، والقرآن إمام ، وخشبة البناء إمام للبنّاء ، لأجل إنّ الإنسان يطبق عمله على عمل وقول النبي صلی اللّه علیه و آله أو القرآن ، فكل شيء اتخذ مثالاً في الحياة وأُسوة في مقام التطبيق يكون إماماً من غير فرق بين الأشياء المادية ، هذا كلّه في توضيح مفهوم « الإمام » من حيث اللغة ، وإليك توضيحه في القرآن.

ب. مفهوم الإمام في القرآن

جاء لفظ الإمام في الذكر الحكيم اثنتا عشرة مرة بين مفرد وجمع ، مفردها سبع مرات ، وجمعها خمس مرات.

وقد استعملت في الجميع بمعنى واحد ، وهو الّذي تعرّفت عليه من صاحب القاموس وإن كانت تطبيقاتها مختلفة ، ولأجل ذلك لا يمكن عدّها من معاني كلمة الإمام.

وإليك تلك الموارد.

1. ترى أنّه سبحانه يصف التوراة بأنّها إمام ، يقول سبحانه وتعالى : ( وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً ) (1).

2. كما يصف الطريق الّذي تمشي عليه القوافل إماماً ويقول : ( فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ) (2) ، أي انتقمنا من قوم لوط وأصحاب الأيكة وانّ

ص: 363


1- هود : 17.
2- الحجر : 79.

مساكنهم على الطريق لواضح.

3. كما أنّه يصف قادة الكفر والانحراف به ويقول : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ ) (1) ، بل يصف كل قائد بالإمامة بقوله : ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (2).

فالمعنى في الجميع واحد ، وهو الدليل الّذي يهتدى به ، والمثال الّذي يمتثل به ، وإن كانت التطبيقات مختلفة ، فالتوراة إمام ، لأنّها يقتدى بها ، وطريق القوافل إمام ، لأنّ القوافل تتّخذه دليلاً وتمشي عليه ، وقادة الكفر بل جميع القادة أئمّة ، لأنّ المقتدين يتّخذونهم مثالاً في الحياة ويمشون على آثارهم حتى أنّ الأنبياء جميعهم أئمّة بهذا المعنى ، فإنّ عمل وقول النبي صلی اللّه علیه و آله وتقريره تتّخذ مثالاً ودليلاً يسار على ضوئه.

وهذا ما قلناه من أنّ معنى الإمام في الذكر الحكيم لا يختلف عن المعنى الّذي نصّت عليه الكتب اللغوية حتى الإمام في الآية المباركة ، فقد استعمل الإمام فيه في المعنى اللغوي لا غير ، وهو الدليل والمثال والأُسوة والمقتدى غير انّ ما يجب التدبّر فيه هو الوقوف على الملاك الّذي جعل به الخليل علیه السلام إماماً ، فهل هو لأجل كونه نبياً أو رسولاً أو خليلاً أو كونه مفترض الطاعة أو غير ذلك من الملاكات المختلفة الّتي تصحح كون الإنسان إماماً.

ج. ما هو ملاك إمامة الخليل في الآية ؟

نرى أنّ المفسرين يفترضون للإمام معاني مختلفة ، ثم يبحثون عن معناه في

ص: 364


1- القصص : 41.
2- الإسراء : 71.

هذه الآية ويذهبون يميناً وشمالاً ، غير انّ البحث بهذه الكيفية غير تام أصلاً ، لأنّه ليس لذلك اللفظ إلاّ معنى واحد كما بيّنا ، والّذي يجب التركيز عليه هو التعرض لملاك الإمامة ومعيارها وإنّه بماذا جعل الخليل إماماً في زمانه دون لوط علیه السلام مع أنّ الثاني كالأوّل كان نبياً ، ومع ذلك خُصّ بكونه إماماً من بين أنبياء عصره ، فلابد أن يكون هناك ملاك يختص به الخليل. وعلى الجملة نحن لا نشك انّ للكلمة في جميع موارد استعمالها معنى واحداً سواء أوقع وصفاً للكتاب أم للطريق أم للإنسان ، ولكن الّذي كان من واجب المفسرين هو تعيين ملاك الإمامة في كل مورد من موارد استعمالها حتى الآية الّتي نبحث عنها غير انّهم أهملوا تلك الناحية الحساسة في البحث.

ولأجل ذلك نطرح ما ذكره المفسرون على بساط البحث معبرين عنه بملاكات الإمامة ومعاييرها.

الملاك الأوّل هو النبوة

ذهب عدّة من المفسرين - منهم الرازي في « مفاتيح الغيب » - إلى أنّ المراد من الإمامة هنا هو النبوة.

بعبارة صحيحة : انّ ملاك إمامة الخليل نبوته ، لأنّها تتضمن مشاقاً عظيمة (1).

وقال الشيخ محمد عبده على ما في « تفسير المنار » : الإمامة هنا عبارة عن الرسالة ، وهي لا تنال بكسب الكاسب ، وليس في الكلام دليل على أنّ الابتلاء كان قبل النبوة (2).

ص: 365


1- مفاتيح الغيب : 1 / 490.
2- تفسير المنار : 1 / 455.

ولا يخفى وهن هذا الرأي ، لأنّ إبراهيم علیه السلام كان نبياً قبل الابتلاء بالكلمات وقبل تنصيبه إماماً ، فكيف يصحّ أن تفسر الإمامة بالنبوة على ما في لفظ الرازي والرسالة على ما في لفظ المنار ؟! ويتضح ذلك بالأُمور التالية :

1. انّ نزول الوحي على إبراهيم علیه السلام - كما تدل عليه الآية : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) - أوضح دليل على أنّه كان نبياً متلقياً للوحي قبل نزول هذه الآية ، وليس في وسع أحد أن يقول : إنّ الخطاب إليه بقوله : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) يدلّ على كونه نبياً حينه ، ولا يدل على كونه نبياً من قبل ، وذلك لأنّ اسلوب الوحي البدائي يختلف لوناً عن الوحي الاستمراري ، فالمحاورة الموجودة في هذه الآية تعرب عن أنّه كان مأنوساً بالوحي قبل نزولها ، ولأجل ذلك لما تشرف بمقام الإمامة أطال الكلام وطلبها لذريته ، وليس هذا اللون من الكلام يشبه الوحي الابتدائي أبداً ، فإنّ الإنسان في بدء لقائه وكلامه مع شخص ، لا يتجاوز عن أُمور كلية ولا يتجاوز إلى أخص الخصوصيات ، وهي طلب المنزلة لنسله ، بل هذا يناسب كلام من كان مأنوساً بمخاطبه ومكلّمه.

ويمكن لك أن تكشف الحقيقة بالخطاب النازل على موسى في بداية الإيحاء إليه بالنبوة قال سبحانه : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1).

ونظير ذلك ما خوطب به النبي محمد صلی اللّه علیه و آله في بدء نزول الوحي ، قال سبحانه : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) (2).

ومن هذا ينتج انّ الخليل كان نبياً قبل إلقاء الخطاب بالرسالة عليه ، فيكون

ص: 366


1- القصص : 30.
2- العلق : 1.

ملاك الإمامة غير النبوة.

2. دلت الآيات على أنّ إبراهيم كان نبياً ولم يرزق أيّ ولد لا إسماعيل ولا إسحاق.

أمّا الأوّل فإنّما بُشّر به بعد ما كان نبياً وقام بتحطيم الأصنام في « بابل » وحكم عليه بالإحراق ، ولمّا نجّاه سبحانه ترك الموطن ذاهباً إلى فلسطين ، فعند ذلك جاءت البشارة بأنّه يرزق غلاماً حليماً ، قال سبحانه : ( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) (1).

وأمّا الثاني فقد بُشّر به أيضاً عندما نزلت عليه الملائكة ضيوفاً ، قال سبحانه : ( وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالحَقِّ فَلا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ ) (2) ، ونزول الملائكة الذين كانوا مرسلين إلى قوم لوط ، عليه آية نبوته عند البشارة بإسحاق.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر إنّ إبراهيم يطلب من اللّه سبحانه أن يرزق ذريته الإمامة كما رزقها إيّاه ، فطلبه لها دليل على أنّه كان عند إفاضة الإمامة عليه ووقت الدعاء لذريته ، صاحب ذرية وأولاد.

ص: 367


1- الصافات : 93 - 102.
2- الحجر : 51 - 55.

إذا عرفت هذين الأمرين فنقول : يجب أن تكون الإمامة الموهوبة ( عند ما كان الخليل صاحب ذرية ) غير النبوة ، وإلاّ فيلزم أن تكون هبة المنصب الّذي كان واجداً له قبل ذلك بكثير ، أشبه بتحصيل الحاصل.

والحاصل : انّ الآية تدل على أنّ الإمامة أُفيضت عليه عندماكان ذا ولد بدليل طلبها لهم ، ودلّت الآيات الماضية على أنّه كان نبياًقبل أن يرزق أيّ ولد ، فينتج انّ الإمامة الموهوبة في الأزمنة المتأخرة عن بعثته بكثير ، غير النبوة ، غير انّ بعض المفسرين لمّا وقف على ذلك الوجه وانّه لا يصحّ طلب شيء للذرية إلاّ لمن كان له بعضها صار بصدد دفعه بأنّ إبراهيم يوم خوطب بقوله سبحانه : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... ) لم يكن ذا ذريّة وإنّما طلبها لهم لأجل التعرّف من جواب اللّه سبحانه على أنّه هل يكون في المستقبل ذا ذرية أم لا ؟ فوقف من جوابه سبحانه على أنّه لا يموت عقيماً بل يكون ذا ذرية.

ولا يخفى أنّ ما ذكره غير صحيح ، لأنّ الحكم على الذرية على وجه الإيجاب يقتضي أن يكون الرجل رزق بعضها ، وأمّا إذا لم يكن له أي ولد فلا يستحسن في العرف ، الدعاء لهم بالإمامة ، ولأجل ذلك ترى أنّ إبراهيم يستعمل لفظ الذرية في أولاده المحقّقين ويقول : ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ ) (1).

ويقول أيضاً : ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً ) (2) ، وقد طلب ذلك عندما كان يرفع القواعد من البيت مع ولده إسماعيل.

نعم إنّ الإنسان يصحّ أن يطلب من اللّه ذرية صالحة تكن قرة عين له كما

ص: 368


1- إبراهيم : 37.
2- البقرة : 128.

أمر به سبحانه بقوله : ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) (1) ، ولكن لا يصحّ إذا أُعطي شيئاً من جانب اللّه سبحانه ، أن يطلبه في الوقت نفسه لذريته مع أنّه لم يكن في وقت الطلب ذا ذرية ، فإنّ ذلك كلام خارج عن المتعارف ، وأمّا كون الطلب لأجل الوقوف على أنّه هل يرزق في المستقبل بعض الذرية أو لا ؟ فهو كما ترى.

قال العلاّمة الطباطبائي : وكيف يسع من له أدنى تدريب بأدب الكلام ، وخاصة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربّه الجليل أن يتفوّه بما لا علم له به ؟ ولو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول : ومن ذريتي إن رزقتني ذرية أو ما يؤدّي هذا المعنى (2).

الملاك الثاني كونه أُسوة في المجالات الثلاثة
اشارة

النبوة عبارة عن نزول الوحي على الإنسان ، والرسالة إبلاغه وتحقيق النبوة في مجالها ، ولكن ليس كل نبي إماماً بل الأنبياء على قسمين : منهم أئمّة ومنهم غير أئمة قال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (3) ، والآية بحكم « من » التبعيضية تدل على أنّه سبحانه لم يجعل كل الأنبياء أئمّة ، بل جعل البعض منهم أئمّة.

وعلى ذلك فيجب التفحص في الآيات الواردة حول الأنبياء للتعرف على الأئمّة من بينهم ، ويستظهر انّ المراد مَن يصلح أن يكون أُسوة على الإطلاق في

ص: 369


1- الفرقان : 74.
2- الميزان : 1 / 27.
3- السجدة : 24.

جميع المجالات الثلاثة : قولاً وفعلاً وتقريراً ، لا في مجال خاص كالإتيان بالواجبات وترك المحرمات دون مجال كترك الأولى.

توضحيه : انّ الأنبياء على قسمين : قسم منهم يصحّ أن نجعل أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم على وجه الإطلاق أُسوة ، ودليلاً في مجالات الحياة ; وقسم منهم ليسوا كذلك ، لأنَّهم اقترفوا ما كان الأولى والأليق بشأنهم تركه ، ولأجل ذلك لا يصحّ أن يتخذوا أئمّة على الإطلاق ، ونرى أنّه سبحانه ينقل عن عدة منهم اقتراف أُمور لا تصحّ أن تجعل دليلاً في الحياة وأُسوة للمؤمنين ، يقول سبحانه في حق أبينا آدم : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) (1).

كما ذكر تعالى عن نبيه موسى علیه السلام عندما وكز عدوه وقضى عليه : ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) (2).

وينقل عن نبيّه يونس قوله : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (3).

وهذه الأعمال الصادرة من هؤلاء الأنبياء وإن لم تكن معصية ونقضاً للحكم المبرم وكانت عبارة عن ما يسمّى ب « ترك الأولى » في المصطلح ، وقد دللنا على ذلك عند البحث عن عصمة الأنبياء غير انّ هذه الأفعال حالت بينهم وبين أن يكونوا أئمّة على الإطلاق ويؤخذ بأفعالهم على وجه الإبرام ، ولأجل ذلك لم يكونوا أئمّة وأُسوة في كل شيء وإنّما كانت الإمامة ثابتة لطائفة أُخرى من الأنبياء

ص: 370


1- طه : 115.
2- القصص : 15.
3- الأنبياء : 87.

صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين وهم الذين يصفهم سبحانه بقوله : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ ) (1).

فالهداية المطلقة والدعوة الواسعة والأُسوة التامة خاصة لقسم من الأنبياء وإن كان كل نبي داعياً وهادياً إلى الحلال والحرام ، ويرشد إلى ذلك انّ الخليل إنّما وصل إلى ذلك المقام ، بعد ما صار خليلاً ، والخلّة هي فراغ القلب من غير اللّه سبحانه بحيث لا يفعل صاحبها إلاّ ما فيه رضى اللّه سبحانه وتعالى ، وإليك متن الحديث : إنّ اللّه تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً ، وانّ اللّه اتّخذه نبياً قبل أن يتّخذه رسولاً ، وانّ اللّه اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً ، وانّ اللّه اتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً ، فلمّا جمع له الأشياء قال : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) (2).

فالإمامة نتيجة الخلّة وصيرورة النبي فارغاً من كل شيء سوى اللّه سبحانه ، وعند ذلك ، يكون إماماً مطلقاً يستدل به وأُسوة يقتدى به في المجالات الثلاثة : قولاً وفعلاً وتقريراً.

تحليل النظرية

وفيه : أوّلاً : فلأنّ هذه النظرية مبنية على ما استظهره من قوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، فاستظهر أنّ الأنبياء على قسمين : إمام وغيره ، بشهادة كلمة « من » ، لكن الاستظهار غفلة عن مرجع الضمير ، فالضمير يرجع إلى

ص: 371


1- الأنبياء : 73.
2- الكافي : 1 / 175 ، باب طبقة الأنبياء.

بني إسرائيل لا إلى الأنبياء ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (1).

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يصف إبراهيم ولوطاً وإسحاق ويعقوب أئمّة يهدون بأمره ، قال سبحانه : ( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (2).

وعلى هذا فجعل الأنبياء على قسمين معتمداً على ما استظهر من الآية غير تام ، وإن كان أصل التقسيم صحيحاً على ما سيبيّن.

وثانياً : فلماذا لا تكون الإمامة ذات مراتب ودرجات ومقولةً بالتشكيك ويكون الكل باعتبار انّ لهم نور الوحي والنبوة ، والعصمة والمصونية ، أئمّة يقتدى بهم ، وتخصيص الإمامة بجماعة خاصة منهم بلغوا القمّة في الطهارة والفضيلة يحتاج إلى دليل خاص ، فإنّ الإنسان المثالي إذا بلغ مقام العصمة يصبح أُسوة للناس ودليلاً في الحياة ، وإماماً في القول والعمل ، فالتشدّد والتزمّت في شرطية ترك الأولى في الإمامة ، غير واضح.

نعم لو كان ما اقترفوه من الأعمال ، عصياناً صحّ القول بعدم كونهم أئمّة وأُسوة على وجه الإطلاق ، وأمّا اذاكان أمراً مباحاً وجائزاً شرعاً وإن كان الأولى تركه ، فلا وجه لإخراج المقترفين منهم عن كونهم أئمّة.

ص: 372


1- السجدة : 23 - 24.
2- الأنبياء : 71 - 73.
الملاك الثالث : كونه معلم الهداية عبر العصور
اشارة

إنّ هذه النظرية تتلخّص في كلمة : وهي انّ الإمامة الّتي جاءت في هذه الآية من خصائص الخليل علیه السلام ، ولا تعدوه إلى أشخاص آخرين ، لاختصاص ملاكها به من الأنبياء ، وهو كونه بين الأنبياء واقعاً في قمة الهداية ومعلماً للآخرين ، وانّ الذين جاءوا بعده ساروا على الطريق الّذي اختطه.

ويظهر لك من الآيات الواردة في حقّه ، قال سبحانه : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) (1).

( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ ) (2).

فالآية الأُولى تجلّ إبراهيم عن أن يكون يهودياً أو نصرانياً ، وتصفه بأنّه كان حنيفاً مسلماً وما كان مشركاً ، وذلك لأنّ اليهودية والنصرانية عدلتا عن جادة التوحيد وامتزجتا بالشرك ، مضافاً إلى أنّ إبراهيم بعث قبل نزول الشريعتين.

والآية الثانية تخص الأصناف الثلاثة بأنّهم أولى بإبراهيم ، فإنّ الأوّل هم الذين اتّبعوه في عصره وما بعد عصره حتّى ظهور النبي محمد صلی اللّه علیه و آله ، والصنف الثاني هو النبي محمد صلی اللّه علیه و آله ، والثالث الذين آمنوا بالنبي محمد صلی اللّه علیه و آله ، فأولوية الصنف الأوّل به لأجل كونهم من أُمّته والثاني والثالث لوجود الوحدة بين الخطين والتشابه بين المنهجين.

نرى في بعض الآيات انّ الأمر أعظم من ذلك حيث يأمر سبحانه النبي

ص: 373


1- آل عمران : 67.
2- آل عمرن : 68.

الأكرم صلی اللّه علیه و آله باتّباع طريقة إبراهيم ، وهي الطريقة الحنيفية ، وخصّ منها البراءة من الشرك والنزاهة من الوثنية حتّى يعرف الخليل علیه السلام بأنّه أبو الإسلام والمسلمين ، وانّه هو أوّل من وصف مشاة خط التوحيد بالمسلمين ، قال سبحانه : ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) (1). ويقول أيضاً : ( وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (2).

وهذه الآيات وغيرها تعرب عن إمامة إبراهيم عبر العصور والأدوار وانّه بطريقته المثلى وشريعته الحنيفية ونزاهته من ألوان الشرك في العقيدة والعمل صار مثالاً شاخصاً لجميع الأنبياء والمرسلين ، والشرائع السماوية من بدايتها إلى نهايتها الّتي تمت بشريعة النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، وكأنّ الأنبياء في كل عصر يتّبعون منهجه ويخطون خطواته ويمشون على الخط الّذي مشى عليه ، ولأجل ذلك صار الخليل إماماً للناس ومثالاً للأُمم يتمثل به ويتخذ مناراً يقتدى به في القول والعمل.

تحليل هذه النظرية

لا شك انّ إبراهيم يعد من القمم بين الأنبياء وانّ له من الصفات الجليلة الّتي يذكرها القرآن ما ليس لغيره إلاّ أنّ تفسير ملاك الإمامة على النحو الّذي مر يوجب اختصاص الإمامة به من بين جميع الأنبياء والأولياء ولا تتعدى إلى غيره ، لأنّ الخصيصة الّتي نالها إبراهيم علیه السلام من جانب شريعته وطريقته حتّى صار علماً

ص: 374


1- النحل : 123.
2- الحج : 78.

ومناراً في حقول الشرائع والنبوّات أمر يختص به ، فلو كان ملاك الإمامة هو هذا ، يجب أن يكون هو الإمام وحده دون غيره مع أنّه علیه السلام طلبها لذريته فأُجيب بأنّ عهده سبحانه : ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) مشعراً بأنّ غيرهم ينالونه ، فلو كان ملاك الإمامة كون الإنسان مناراً بين الأنبياء ، وشريعته علماً بين الشرائع لاختصت الإمامة به ، ولا يناسب في المقام سؤلها للأولاد بما ذكر.

وحصيلة الجواب : انّ ما ذكر من الفضيلة لبطل التوحيد أمر لا ينكر على ضوء الآيات الّتي ذكرناها ، لكنّها لا تكون ملاكاً للإمامة بل يجب هناك شيء آخر وراءها يكون ملاكاً حتّى يصحّ طلبها لذريته وتصحّ الإجابة بنيل العدول منهم لها.

الملاك الرابع : كونه مفترض الطاعة
اشارة

هذه النظرية تتلخّص في أنّ الإمام في الآية هو الحاكم السائد على المجتمع ، والآخذ بيد الأُمّة إلى الكمال في الحياة الفردية والاجتماعية ، فيجب على الأُمّة امتثال أوامره وتوجيهاته في الحقول السياسية والاجتماعية والقضائية والعسكرية وغير ذلك ، ولا نقف على مدى صحة هذه النظرية إلاّ بعد الوقوف على معنى النبي والرسول في القرآن الكريم حتّى نعرف أنّ الإمام يشتمل على معنى لا يشتمل عليه اللفظان ، وعلى الأصحّ يشتمل منصب الإمامة على شيء لا يوجد في منصبي النبوة والرسالة فنقول :

النبي - سواء أجعل بمعنى المطّلع على الغيب أو بمعنى المنبئ عن الغيب - إنسان مؤدّ عن اللّه بلا واسطة بشرية (1) ، وهذا الإنسان باعتبار اتصاله بالملأ

ص: 375


1- الرسائل العشر للشيخ الطوسي : 11.

الأعلى وكونه متلقياً للوحي ومطّلعاً عليه ومنبئاً عنه ، يسمّ نبياً ، وإذا كلّف بإبلاغ ما أُمر به وتجسيد ما أخبر به على صعيد الحياة فهو رسول ، ففي إطار النبوة ليس إلاّ قضية الاطّلاع على الغيب أو قدرة الإخبار عنه إلى الناس ولا يتعدى عنها كما أنّه في إطار الرسالة ، مأمور بالإبلاغ والبيان ولا يتعدى عن هذه الوظيفة ، وهذا هو الموضوع الهام الّذي فرغنا منه في الجزء الرابع من كتابنا : مفاهيم القرآن ولا حاجة للإعادة (1).

ولكن القول الّذي نركّز عليه هو انّ الرسول المأمور بالإبلاغ ليس له في هذا المجال أمر ولا نهي ولا إكراه ولا سيطرة ، بل تتلخص وظيفته في التذكير والتبليغ ، قال سبحانه : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) (2) ويقول سبحانه : ( فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ المُبِينُ ) (3) ، ففي هذا المجال تتجلّى وظيفة الرسالة في بيان الحلال والحرام والمشروع والممنوع وإراءة طرق الصلاح والفلاح ، فلو صحّ في تبيين الحقيقة التمثيل بشيء أدون من الممثّل فنقول : إنّ مثل الرسول في توجيهاته الرسالية أشبه بمستنبط الأحكام من الكتاب والسنّة وإبلاغها للناس ، فإذا امتثل الناس بما يقول فقد امتثلوا إلى المشرّع الأعظم وأطاعوه ، وإن لم يقوموا بأداء ما يقول فقد خالفوا الشارع وعصوه ، وعلى هذا الضوء فالناس في صلاتهم وصومهم وحجهم وزكاتهم مطيعون لله سبحانه فقط وليس للرسول أيّ طاعة إلاّ بضرب من العناية ، كما أنّ للمفتي والمجتهد طاعة مثله ، فحين قال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (4) ، فهو يرشد إلى

ص: 376


1- لاحظ الجزء الرابع من هذه الموسوعة : 317 - 369.
2- الغاشية : 21 - 22.
3- المائدة : 92.
4- النساء : 64.

هذا النوع من الإطاعة ، فالمطاع هو اللّه سبحانه حقيقة والنبي مطاع بضرب من العناية إذ المفروض انّه ليس للرسول أيّ تشريع وأيّ تقنين ولا أمر ونهي فلا يكون له طاعة.

إمامة الرسول

هذا إذا قصرنا النظر على مجالي النبوة والرسالة ، ولكنّه سبحانه لما كساه ثوب الإمامة بعد أن ابتلاه ونصبه لمقام الإمامة وصار عند ذلك حاكماً سائداً على المجتمع ، رائداً للأُمّة ، قائماً بإرشادهم في الحقول المختلفة سياسياً وعسكرياً ...

فعند ذلك كان الرسول في مقام التنفيذ ذا أمر ونهي وأخذ ورد وتعيين وعزل إلى غير ذلك من الأُمور الّتي يمارسها الرسول باعتبار كونه حاكماً وسائساً ومؤدّباً للأُمّة وقائداً للمجتمع وإماماً للمؤمنين.

ولا ريب انّه ليس لأحد ولاية على أحد وانّ الناس كأسنان المشط ليس لأحدهم حق حكم على الآخر ، بل الولاية المطلقة لله سبحانه وتعالى ، فهو باعتبار كونه خالقاً للكون ومدبراً لما فيه ، له حق الحكم والطاعة ، يقول سبحانه : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

وهذا ما يعبّر عنه بالتوحيد في الحاكمية والطاعة لا يشاركه فيها غيره ، لكن مع الاعتراف بذلك لا نعني من عنوان انحصار الحاكمية ( باللّه ) حصر الإمرة باللّه بأن يتولّى سبحانه الإمرة على العباد ، فالولاية وحق الحاكمية بالأصالة حق لله سبحانه ، ولكن الإمرة لخيرة عباده يتصدّون لها بإذنه.

ص: 377


1- يوسف : 40.

وإن شئت قلت : إنّ المقصود من قوله سبحانه : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) (1) ، وقوله : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) (2) ، وقوله سبحانه : ( لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (3) ، هو حصر الولاية وحق الحاكمية لا الإمرة والتصدّي لنظام البلاد ، إذ يستحيل ممارسة الحكم من اللّه تعالى بصورة مباشرة ، ولأجل ذلك نجد جمعاً من الأنبياء تولّوا منصة الولاية بإذن اللّه وأخذوا بتدبير شؤون الحياة الاجتماعية للإنسان ، ففي هذا الصدد يقول سبحانه : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ ) (4).

فالرسول الّذي يحظى بمقام تنفيذ الولاية الإلهية في المجالات المختلفة بين الناس ، هو الإمام المفترضة طاعته ، ولا يحظى به إلاّ ثلة من المصطفين الأخيار ، وإليك الشواهد القرآنية الّتي تدل بوضوح على أنّ ملاك الإمامة في هذه الآية - لا مطلقاً - هو كونه مثالاً في القول والعمل ، وعلى الأُمّة طاعته في كل ما يأمر وينهى ويبرم وينقض ، فهو أُسوة في الحياة وقدوة للجميع.

الشواهد القرآنية على تفسير الإمامة بافتراض الطاعة

إنّ تفسير ملاك الإمامة بافتراض الطاعة والقيادة الإلهية الحكيمة شيء تؤيده الآيات التالية بل تثبته.

ص: 378


1- الأنعام : 57.
2- الأنعام : 62.
3- القصص : 70.
4- ص : 26.

روى بعض المفسرين أنّ كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أُحد ، ليحالفوا قريشاً ضد الرسول صلی اللّه علیه و آله فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش ، فقالت قريش : إنّكم أهل كتاب ، ومحمد صاحب كتاب ، فلا نأمن من أن يكون هذا مكراً منكم ، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ، ففعل ذلك.

ثم قال أبو سفيان لكعب : إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أُميّون لا نعلم ، فأيّنا أهدى طريقاً وأقرب للحق نحن أم محمد ؟

قال كعب : اعرضوا عليّ دينكم ، فلمّاعرض أبو سفيان عليه دينه ، قال كعب : أنتم واللّه أهدى سبيلاً ممّا عليه محمد.

فأنزل اللّه سبحانه الآيات التالية :

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * ... أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ المُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) (1). (2)

توضيح الاستدلال : أنّه سبحانه ردّ على قولهم ( هَؤُلاءِ ( المشركون ) أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) بوجوه ثلاثة :

الأوّل والثاني : يستفادان من قوله سبحانه : ( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ المُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ) ، فإنّ « أم » بحكم كونها متصلة تدلّ على وجود معطوف

ص: 379


1- النساء : 51 - 54.
2- مجمع البيان : 2 / 59 ، وغيره.

عليه محذوف ، مثل :

1. ( أَلَهم علم في كل ما حكموا به من حكم ) ثم قال :

2. ( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ المُلْكِ ) .

وعلى ذلك فعطف على ذلك المقدر قوله : أم لهم نصيب من الملك ثم أجاب بجواب ثالث.

3. ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ) .

فيؤوّل معنى الآية وجوابه سبحانه عنهم إلى شقوق ثلاثة :

الف. ألهم حق الحكم في كل شيء حتى في أنّ المشركين أهدى من الذين آمنوا ؟

ب. أم لهم نصيب من الملك الذي أنعم اللّه به على نبيّه ، ولو كان لهم نصيب من الملك لم يؤتوا الناس حتى أقل القليل الّذي لا يعتد به لبخلهم وسوء سريتهم ، وهذا يظهر من قوله سبحانه : ( قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ ) (1).

ثم عاد سبحانه يبيّن أساس قضائهم وحكمهم بكون المشركين أهدى من الذين آمنوا وقال :

ج. ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ) .

فبيّن أنّ أساس حكمهم بكون المشرك أهدى من الموحّد هو الحسد للموحّد وهو النبي ، وبذلك تبيّن أنّ المراد من الناس المحسودين هو النبي صلی اللّه علیه و آله وإطلاق لفظ « النّاس » عليه ، إمّا لأجل كونه في وحدته أُمّة ، كما كان إبراهيم

ص: 380


1- الإسراء : 100.

كذلك ، قال تعالى : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ) (1) ، أو لأجل الذين التفوا حوله.

ولأجل أياسهم وقطع رجائهم في زوال هذه النعمة وانقطاع هذا الفضل ، بيّن بأنّ اللّه قد أعطى آل إبراهيم من فضله ما أعطى وآتاهم من رحمته ما آتى ليموتوا بغيظهم فلن ينفعهم الحسد له ، وقال : ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) فأخبر عن حقيقة ثابتة غير زائلة تعلّقت بها الإرادة الحكيمة وهي : أتاهم الكتاب أوّلاً ، والحكمة ثانياً ، والملك العظيم ثالثاً. وهذا النبي من آل إبراهيم أيضاً قد أُوتي مثل ما أُوتي سائرهم من غير فرق بين أولاد إسماعيل وإسحاق ، فشملته العناية الإلهية فأتاه الأُمور الثلاثة فلن ينفعهم الحسد في زوال هذه النعمة.

والكتاب والحكمة واضحان ، فالكتاب رمز الوحي والنبوة ، والحكمة هي السنّة وجوامع الكلم. وانّما الكلام في « الملك العظيم » الّذي أعطاه اللّه سبحانه المصطفين من آل إبراهيم من غير فرق بين ولد إسماعيل وأخيه إسحاق.

فباقتران هذه الآية الّتي أخبرفيها سبحانه أنّه أعطى آل إبراهيم الملك العظيم بآية الابتلاء ، الّتي استجاب فيها سبحانه أن يرزق المصطفين من ذرية إبراهيم الإمامة ، يتبيّن انّ الإمامة الموهوبة لهم ( الّتي دللنا انّها غير النبوة والرسالة ) هي نفس « الملك العظيم » الّذي يدلّ ظاهر الآية على أنّه غير النبوّة والرسالة لعطفه على الكتاب والحكمة اللَّذين يعدّان رمز الوحي ونزوله والاتصاف بالنبوة.

ولا يصح حمل الملك العظيم على النبوة أو الرسالة للاستغناء عنهما بما تقدم

ص: 381


1- النحل : 120.

من إيتاء الكتاب والحكمة ، كيف ؟ ونزول الكتاب والحكمة دليل على كون المنزول عليه نبياً ينزل عليه الوحي بلا واسطة فلا حاجة لتكراره مجدّداً ، قال سبحانه : ( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالحِكْمَةِ ) (1) ، فالآية تهيب ببني إسرائيل أن يذكروا نعمة اللّه عليهم حيث بعث فيهم الأنبياء والرسل ، وقال سبحانه : ( وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ) (2) إلى غير ذلك من الآيات الّتي وردت فيهما الكلمتان.

وإن شئت قلت : إنّ الآية المباركة تدل على أنّه سبحانه أعطى منصب الإمامة لآل إبراهيم وبعض ذريته.

والآية الثانية تدل على أنّه سبحانه أعطى آل إبراهيم بعد الكتاب والحكمة ، الملك العظيم ، فباقتران الآيتين نخرج بهذه النتيجة : انّ الإمامة المعطاة لآل إبراهيم هي الملك العظيم فيتحدان حقيقة ومصداقاً ، فإذا كان ملاك الإمامة في الذرية هو كونهم ذوي ملك عظيم ، فيصبح ملاكها في نفس الخليل أيضاً ذلك.

الملك العظيم في القرآن

إنّ القرآن الكريم يصنّف ذرية إبراهيم إلى قسمين :

قسم أُعطي النبوة والرسالة ، كأيوب وزكريا ويحيى وعيسى.

وقسم أُعطي بعدهما الملك والحكومة.

ص: 382


1- البقرة : 231.
2- النساء : 113.

وتشير إلى ذلك الآيات التالية :

ألف. يقول يوسف بعدما أُعطي القوة والقدرة في حكومته وصار أميناً مكيناً فيها : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) (1) ، فجملة ( تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) رمز لجزء من النبوة ، والملك إشارة إلى السلطة والقدرة الّتي نالها.

ب. يقول سبحانه في حق داود : ( وَآتَاهُ اللّهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ) (2).

ويقول أيضاً : ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ ) (3).

ويحكي سبحانه عن سليمان أنّه قال : ( وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) (4).

فاستجاب اللّه دعاءه كما تحكي الآية التالية : ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (5).

ففي هذه الشخصيات الإلهية اجتمعت المناصب الثلاثة : النبوة ، والرسالة ، والإمامة. ولكن ربّما تقتضي المصلحة فصل الحكم عن النبوة والرسالة ، فيكون المبعوث بالنبوة والرسالة ، غير المبعوث للحكم ، ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعرّف طالوت ملكاً على لسان نبي زمانه قال سبحانه : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ

ص: 383


1- يوسف : 101.
2- البقرة : 251.
3- ص : 20.
4- ص : 35.
5- ص : 36 - 39.

وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (1).

ففي هذه الآية والآيات الّتي تليها عدة نكات نشير إليها :

أوّلاً : انّ المصالح ربّما تقتضي التفكيك بين المنصبين ، ولأجل إمكانه ما اعترض بنو إسرائيل باستهجانه بل اعترضوا بأنّهم أحق بالملك منه.

ثانياً : انّ طالوت صار ملكاً وحاكماً ورئيساً للجيش بأمر من اللّه سبحانه ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) .

ثالثاً : انّ وظيفة طالوت لم تتلخص في قيادة الجيش ، بل قيادة الجيش كانت جزءاً منها ، ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) ويقول في ذيلها : ( وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ) .

رابعاً : انّ الآية تشير إلى أنّ أعظم المؤهلات في القيادة الإلهية هو استكمال القائد من حيث العلم والجسم ، فالإنسان الجاهل بالشؤون الحكومية غير قادر عليها كما أنّ الإنسان الضعيف في القوى الجسمانية لا يقدر أن يقوم بمشاق الأُمور ومصاعبها.

خامساً : انّه سبحانه عندما يعد نعمه على بني إسرائيل يذكر منها أنّه جعل فيهم أنبياء وملوكاً قال سبحانه : ( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) (2) ، فالآية تصرّح بأنّهم كانوا ملوكاً ، غير أنّ نسبة الملوكية إلى الجميع لأجل انّ طائفة منهم صاروا ملوكاً بأمر من اللّه سبحانه.

ص: 384


1- البقرة : 247.
2- المائدة : 20.

فحصيلة البحث : انّ الآيات المتقدمة بأجمعها تعطي النتيجة التالية :

فمن جانب : طلب إبراهيم لذريته العطية الإلهية ، أعني : الإمامة ، وقد استجاب دعوته في بعضهم.

ومن جانب آخر : انّ مجموعة من ذريته كيوسف وداود وسليمان حظوا مع النبوة والرسالة ، بمنصب الحكومة والقيادة.

ومن جانب ثالث : نرى أنّه سبحانه أعطى آل إبراهيم مع الكتاب والحكمة الملك العظيم.

فبعد ضم هذه الأُمور بعضها إلى بعض نخرج بهذه النتيجة : انّ ملاك الإمامة في ذرية إبراهيم هو قيادتهم وحكمهم في المجتمع لا غير ; وأمّا ملاكها في نفس إبراهيم ، فالآيات وإن كانت غير ناظرة إليها ، لكنّها تفضي بوحدة الملاك في الوالد والأولاد ، وانّ ملاك إمامة الخليل أيضاً هي حاكميته وافتراض طاعته ، وإلاّ لزم الفصل في ملاك الإمامة بينه وبين ذريته ، وهو كما ترى.

هذا ما وصلنا إليه من التدبّر في الآيات ، واللّه العالم بالحقائق.

الملك العظيم في الأحاديث الإسلامية

هذا وقد تضافرت الروايات على أنّ المراد من قوله ( مُلْكًا عَظِيمًا ) هو كونهم مفترضي الطاعة.

روى حمران بن أعين قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام قول اللّه عزّ وجلّ : ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ ) ؟ قال : « النبوة » ، قلت : ( وَالحِكْمَةَ ) ؟ ، قال : « الفهم والقضاء » ، قلت : ( وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) ؟ فقال : « الطاعة ».

ص: 385

وروى بريد العجلي عن أبي جعفر علیه السلام في تفسير الآية المباركة أنّه قال : « الملك العظيم : ان جعل فيهم أئمّة من أطاعهم أطاع اللّه ، ومن عصاهم عصى اللّه ، فهو الملك العظيم » (1).

روى السيوطي وقال : أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات ، عن ابن عباس انّ معاوية قال : يا بني هاشم إنّكم تريدون أن تستحقوا الخلافة كما أستحققتم النبوة ولا يجتمعان لأحد ، وتزعمون انّ لكم ملكاً. فقال له ابن عباس : أمّا قولك انّا نستحق الخلافة بالنبوة ، فإن لم نستحقها بالنبوة فبمن نستحقها ؟! وأمّا قولك إنّ النبوة والخلافة لا يجتمعان لأحد فأين قول اللّه : ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) (2) فالكتاب : النبوة ، والحكمة : السنّة ، والملك : الخلافة ، نحن آل إبراهيم أمر اللّه فينا وفيهم واحد ، والسنّة لنا ولهم جارية (3).

وهذا البيان الضافي أوقفنا على معنى ( مُلْكًا عَظِيمًا ) في الآية المباركة.

وبضم هذه الأحاديث إلى ما وصلنا إليه من التدبّر في الآيات يتّضح الحق بإذنه سبحانه.

أسئلة وأجوبتها
1. هل زعامة هؤلاء كانت بتشريع من اللّه ؟

الجواب : الآيات الّتي تلوناها عليك دلّت بوضوح على أنّ نيل هؤلاء لمقام الملك والإمامة كان بجعل منه سبحانه ، ويكفي في ذلك قوله سبحانه : ( إِنِّي

ص: 386


1- الكافي : 1 / 206 ، باب انّ الأئمّة علیهم السلام ولاة الأمر وهم الناس المحسودون.
2- النساء : 54.
3- الدر المنثور : 2 / 173 - 174.

جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، وقوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) ، وهناك آيات أُخر في هذا الصدد قد مرّت عليك.

2. ما هي النسبة بين النبوة والإمامة الواردة في الآية ؟

ما هي النسبة بين النبي والإمام ؟ فهل هما متساويان في الصدق ، بمعنى أنّ كل نبي إمام ، وكل إمام نبي أو لا ؟

الجواب : الآيات التي تلوناها عليك تنفي الملازمة بينهما ، فهذا هو الخليل علیه السلام قد قضى شطراً كبيراً من عمره وكان نبياً ولم يكن إماماً ، وإنّما أُفيضت الإمامة عليه بعد ما بلغ من العمر عتياً وابتلاه سبحانه بأُمور كما بيّناه.

وهذا هو طالوت بعثه اللّه سبحانه ملكاً على بني إسرائيل ، وقد أخبر به بلسان نبيّهم ، فصار إماماً مطاعاً وقائداً لهم ولم يكن نبياً.

وبذلك اتضح انّه لا ملازمة بين النبوة والإمامة ، وإنّه لا يلزم أن يكون كل نبي إماماً ، كما هو الحال في الخليل - قبل أن يبلغ منصب الإمامة - وسائر الأنبياء الذين لم ينالوا منصب الإمامة ، كما أنّه لا يلزم أن يكون كل إمام نبياًكما هو الحال في طالوت. وقد تجتمعان في بعض الفترات مثل اجتماعهما في الخليل ويوسف وداود وسليمان والنبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله (1).

وربّما يستدل على تفكيك النبوة عن الإمامة بقوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (2).

« فإنّ الآية - بحكم لفظة « من » التبعيضية - تصنّف الأنبياء إلى صنفين بين

ص: 387


1- وسيوافيك بيان إمامة النبي الأعظم ، فتربّص حتّى حين.
2- السجدة : 24.

كونهم أئمّة ، وغير أئمّة ، لكن الاستدلال مبني على إرجاع الضمير إلى الأنبياء ، ولكنّه غير صحيح ، بل الضمير يعود إلى « بني إسرائيل » ، الوارد ذكرهم في ذيل الآية السابقة عليها ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً ) (1) وقد مر ذلك فلاحظ (2).

نعم عندما يصف مجموعة من الأنبياء بالإمامة يقول : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (3).

وقد وافاك انّ ملاك إمامة هؤلاء ، كان نبوّتهم لا غير.

نعم كان ملاك إمامة غيرهم كالخليل وأمثاله أمراً وراء نبوتهم كما أسلفنا بيانه.

3. هل الإمام لا يحقّق أهدافه إلاّ في ضوء الشريعة ؟

إنّ محور السؤال في ما سبق هو التعرّف على مدى الملازمة بين النبوة والإمامة ، وانّه هل كل نبي إمام ، وكل إمام نبي أو لا ؟ وقد عرفت عدمها ، ولكن الهدف من هذا السؤال هو التعرّف على الإطار الّذي يحقّق الإمام أهدافه فيه وهو الشريعة الإلهية ، فهل هو لا يأمر ولا ينهى ولا يبعث ولا يزجر إلاّ استلهاماً من الدساتير الكلية السماوية سواء أكان هو نفس صاحب الشريعة أم غيره ، أو أنّه يتوسع في حكمه وتدبيره ويعمل على صعيد أوسع منها ؟

ص: 388


1- السجدة : 23 - 24.
2- مر تفصيله عند البحث عن الملاك الثاني لإمامة الخليل.
3- الأنبياء : 73.

الحق الّذي لا يعتريه الشك هو الأوّل ، لأنّ الإمامة وتدبير الأُمّة ليست مقصودة بالذات ، وانّما اتخذت أداة لإسعاد الأُمّة وإرشادها إلى قمّة الكمال ، ولا يحصل ذلك إلاّ بتطبيق الشريعة الإلهية وتجسيدها في المجتمع ، لقصور كل المناهج البشرية عن القيام بذلك الهدف الأسمى.

وهذا إنّ دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الإمام لا يحقّق أهدافه إلاّ في ضوء الشريعة السماوية سواء أنزلت عليه أم نزلت على غيره ، وسواء كان ذلك الغير حياً حاضراً أم ميتاً راحلاً ، وعلى كل تقدير فسياسة الأُمّة وتدبيرها وقيادتها ودفعها إلى الكمال والّتي تعد من الوظائف الأساسية للإمام ، لا تحصل إلاّ أن يكون أمره ونهيه وفعله وتقريره انعكاساً عن الكليات والدساتير العامة النازلة منه سبحانه على نبي زمانه وصاحب شريعته.

وقد عرفت أنّ وظيفة النبي تلقّي الوحي ، كما أنّ وظيفة الرسول هي إبلاغه إلى الناس ، ولكن تجسيد هذه الكليات وتحقيقها في المجتمع من وظيفة الإمام ، ولأجل ذلك يجب إمّا أن يكون نبياً صاحب شريعة ، أو يكون تابعاً لشريعة نبي آخر معاصر له أو لنبي قبله.

والأوّل كالخليل والنبي الأعظم ، والثاني : كطالوت بني إسرائيل الّذي بعثه اللّه سبحانه سائساً لهم وقائداً مطاعاً.

وبذلك يعلم أنّ القادة المعصومين كعلي علیه السلام وأولاده الذين نصبوا أئمّة للأُمّة الإسلامية لا يحقّقون أهدافهم ، ولا يقومون بشؤون الأُمّة وسياستها إلاّ في ضوء الشريعة المحمدية النازلة على النبي الأكرم ، فهم من تلك الجهة كداود وسليمان اللّذين حقّقا أهداف الإمامة في ضوء الشريعة الموسوية - سلام اللّه عليهم أجمعين -.

ص: 389

4. الإمامة رهن الابتلاء

المتبادر من الآية الكريمة إنّ إفاضة الإمامة على الخليل كانت رهن ابتلائه وإتمامه الكلمات على النحو المطلوب ، ونجاحه الباهر في هذا المعترك.

وبعبارة أُخرى : كانت هناك صلة - ولو بنحو المقتضى والمعد - بين النجاح في الامتحان ، وجعله إماماً وإن إتمامه الكلمات على النحو المطلوب صار أرضية مناسبة لمنح منصب الإمامة له.

ولا يشك في هذا من أُعطي حق النظر في الآية بشرط تجرّده عن أي فكر مسبق ; وأمّا ما اختاره صاحب المنار : من عدم وجود الصلة بين الابتلاء وإفاضة الإمامة ، فهو على خلاف المتبادر من الآية. وإليك كلامه ، قال :

قال شيخنا : ولم يقل : « فقال إنّي جاعلك » للإشعار بأنّ هذه الإمامة بمحض فضل اللّه تعالى واصطفائه لا بسبب إتمام الكلمات ، فإنّ الإمامة هنا عبارة عن الرسالة ، وهي لا تنال بكسب الكاسب ، وليس في الكلام دليل على أنّ الابتلاء كان قبل النبوة ، وأمّا فائدة الابتلاء فهي تعريف إبراهيم علیه السلام بنفسه وانّه جدير بما اختصه اللّه به ، وتقوية له على القيام بما يوجه إليه. وقد تحقّقت إمامته للناس بدعوته إيّاهم إلى التوحيد الخالص - وكانت الوثنية قد عمتهم وأحاطت بهم - فقام على عهده بالحنيفية ، وهي الإيمان بتوحيد اللّه والبراءة من الشرك وإثبات الرسالة ، وتسلسل ذلك في ذريته خاصة ، فلم ينقطع منها دين التوحيد ، ولذلك وصف اللّه الإسلام بأنّه ملة إبراهيم (1).

ولا يخفى ما فيه :

ص: 390


1- تفسير المنار : 1 / 455.

أمّا أوّلاً : فلأنّ الآية لمّا أخبرت عن إتمام الخليل (1) الكلمات الّتي ابتلي بها ، صار المقام أن يسأل عن ماذا قال ربّه حين أتمّ الكلمات ، أو فعل به عنده ؟ فأُجيب بقوله : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) (2) ، فعدم الإتيان بالفاء ، لأجل كونه جواباً عن سؤال مقدّر يرد على الذهن عند الوقوف على قوله : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) (3) ، وعلى ذلك فتكون الجملة استئنافية. وأمّا جعله بياناً لقوله : ( وَإِذِ ابْتَلَى ) وتفسير له ، فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة وتطهير البيت ; فقد عرفت بطلانه ، لأنّ ملاك الإمامة على هذا الفرض هي من الرسالة ، وقد كان الخليل رسولاً قبل نزول الآية بكثير.

وثانياً : ماذكره من أنّ الإمامة في الآية عبارة عن الرسالة وهي لا تنال بكسب الكاسب وإن كان صحيحاً (4) إلاّ أنّ الإفاضات على حسب اللياقات ، والعطايا الإلهية على حد الصلاحيات ، والمناصب المعنوية قيد مؤهلات وشروط ، بين ما هي خارجة عن حدود الاختيار غير قابلة للاكتساب ، وما هي داخلة فيها وقابلة له ، فالرسالة لا تفاض على الإنسان ارتجالاً بلا سبق مؤهلات وقابليات ذاتية أو مكتسبة ، وليست المناصب الإلهية غرضاً لكل هادف أو رمية لكل نابل ، وانّما يصل إليها الأمثل فالأمثل. نعم ، اللّه سبحانه : ( أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ، لكنّه لا يجعل رسالته إلاّ في النفوس والأرواح الكاملة ، ذات الأرضيات الصالحة الذين يضرب بهم المثل في مجال الفضل والفضيلة ، ويشار إليهم بالبنان

ص: 391


1- البقرة : 134.
2- البقرة : 134.
3- من غير فرق بين كون الضمير في أتمّهنّ راجعاً إلى الخليل أو إلى اللّه سبحانه ، لما عرفت عند البحث عن « إتمام الكلمات » من أنّ الإتمام من جانب إبراهيم عبارة عن قيامه بها ، ومن جانبه سبحانه توفيقه لما أمر به وطلب منه ، فهنا فعل واحد ينسب إلى المباشر والسبب معاً ، فلو رجع إلى إبراهيم لصح ، لكونه الفاعل المباشر ، ولو رجع إلى اللّه لصح أيضاً لكونه السبب الموفق.
4- لكنه صحيح ، لأنّ تفسير الإمامة بالرسالة غير صحيح كما شرحناه.

بين الموصوفين بالمثل العليا والفضائل الكبرى.

ثم إنّ كثيراً من هذه الصلاحيات وإن كانت خارجة عن إطار الاكتساب لكن بعضاً منها قابل له في ضوء المواهب الإلهية ، وكون الرسالة أمراً غير اكتسابي لا يلازم أن تكون جميع الأرضيات المصحّحة لإفاضتها ، أمراً خارجاً عن حد الاكتساب.

وبهذا تبيّن انّه إذا كانت الرسالة رهن قيد وشروط ، فالإمامة أحرى وأحوج إليها من الرسالة ، لأنّ وظيفة النبي والرسول تتلخّص في تلقّي الوحي وإبلاغ الرسالة ولكن وظيفة الإمام هي تجسيد البرامج الإلهية وتحقيقها في المجتمع ، وسوقه إلى سعادة النشأتين وهي أصعب من وظيفة التبليغ.

إنّ القيام بمسؤولية القيادة أشد وطأ من القيام بمسؤولية التبليغ والبيان ، وهي من أشكل الأُمور وأصعبها ، فلا يقوم بها إلاّ الإنسان الصبور أمام المصاعب والمشاكل ، الواصل إلى مقام الخلّة الّذي لا يرى في نفسه وذاته سوى حبه سبحانه ورضاه.

نعم الابتلاء بالمشاكل ، والامتحان بأُمور صعبة أحد العوامل البنّاءة للشخصيات الإلهية ، وهناك عوامل أُخرى لبنائها وصنعها ، قد بيّنت في موضعها ، ولأجله لا يجب أن يكون كل إمام مبتلى بما ابتلي به إبراهيم ، وانّما الواجب الاتصاف بالمواهب الذاتية والفضائل الاكتسابية ، وغير ذلك من الأُمور المصححة لإفاضة منصب سياسة الأُمّة وتدبير أُمورها وإسعادها في الدارين.

وباختصار : انّ الابتلاء ليس العامل الوحيد لإيجاد المؤهلات والصلاحيات ، بل هناك عامل أو عوامل تقوم مقام الابتلاء وتؤثر أثره ، ولأجل ذلك قد بلغ بعض الأئمّة المعصومين لدى الشيعة إلى القمة من الكمال والصلاح

ص: 392

من دون أن يتعرضوا للابتلاء ، وصاروا ذوي شخصية صلبة غير متزعزعة أمام الأحداث والنوائب ، وإن لم يقعوا في معرض الامتحان ، وذلك لما عرفت من أنّ الابتلاء ليس عاملاً وحيداً في تكوين الشخصيات العالية ، بل هناك عوامل أُخرى مكشوفة وغير مكشوفة مؤثرة في ذلك المضمار.

أمّا المكشوفة : فمنها الوارثة والتربية والبيئة. والأئمّة المعصومون تربّوا في بيت رفيع عريق طاهر معروف بالصدق ، والوفاء ، والشجاعة والسماحة ، والغيرة والأمانة إلى غير ذلك من حميد الأخلاق ، وكان أجدادهم شرفاء ، كرماء ، ومن هذا المنطلق ورث النبي صلی اللّه علیه و آله ما في هذا البيت من الشرف والكمال ، فإذا كانت التربية عاملاً مؤثراً بنّاءً في مجال تكوين الشخصيات ، وموجبة لتفتح الكمالات المكنونة وازدهار كوامن النفوس ، فقد تربّوا في البيت النبوي تحت رعاية آبائهم المكرمين ، فورثوا المكارم من أجدادهم وأظهروا الكمالات برعاية آبائهم.

وإذا كانت الوراثة والتربية والبيئة الصالحة من العوامل المكشوفة ، فهناك عوامل غير مكشوفة لبناء الشخصيات ، تساهم تلك العوامل في عملية تكوين الشخصيات الأصيلة ، ولأجل ذلك نرى بروز نوابغ في بعض البيوتات من دون أن يكون هناك أثر من العوامل البنّاءة المعروفة ، وما ذلك إلاّ لأنّ الإنسان ما أُوتي من العلم إلاّ قليلاً ، ولا يعلم من أسرار الحياة إلاّ ظاهرها وقليلها (1). فهناك أسباب لتكون الشخصيات لم يعرفها الإنسان ولم يقف عليها ، وهذه العوامل مكشوفها وغير مكشوفها تخلّف الأرضية الصالحة لإفاضة منصب الإمامة ، بل العصمة مضافاً إلى عنايته سبحانه وحكمته البالغة فإنّ الأُمّة تحتاج إلى معلم بارع وهاد

ص: 393


1- إيماء إلى قوله سبحانه : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الإسراء : 85 ) وقوله سبحانه : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ( الروم : 7 ).

مصون من الزلل والخطأ ، ومقتضى لطفه وعنايته تقدير الأسباب المنتهية إلى تكوين شخصيات عالية صالحة ، لأن يكونوا أئمّة وأُسوة في الحياة وقدوة في القول والفعل.

5. هل حقق الخليل أهداف الإمامة ؟

وفي الختام يطرح هذا السؤال نفسه : إذا كان الهدف من تنصيب إبراهيم هو قيادة الأُمّة وتنظيم أُمورهم في الحياة فلسائل أن يسأل عن تحقّق تلك الغاية في حياة الخليل وعدمه ، وانّه هل ساعدته الظروف لقيامه بتلك الوظيفة الخطيرة أم لا ؟

الجواب : انّ حياة الخليل كحياة سائر الأنبياء محفوفة بالإبهام ، وما ورد في قصص الأنبياء لا يصحّ الركون إليه لأنّ أكثرها إسرائيليات أو مسيحيات ، وأمّا العهدان ، فقد لعب بهما الهوى ، وسرى إليهما التحريف ، فلا يصحّ الاعتماد على محتوياتهما ، ولأجل ذلك لا يمكن إظهار النظر حول السؤال على وجه بات.

والّذي يمكن أن يقال : إنّ القيادة وافتراض الطاعة وتنظيم أُمور الأُمّة بالأمر والنهي ذات مراتب ، وهي تختلف حسب اختلاف الظروف والإمكانيات ، وحسب اختلاف الأزمنة والحضارات ، فالقيادة البارزة الّتي أُتيحت للنبي أو لمن قبله من الأئمّة كداود وسليمان لم تكن متاحة ولا ممكنة في زمن الخليل ، لماعرفت من اختلاف القيادة باختلاف إمكانيات الظروف ، وازدهار الحضارات.

ولكن القيادة بإحدى مراتبها كانت متاحة ومتحقّقة له ، وإلاّ يلزم لغوية جعل المنصب ، ولو لم يتسن له مثل ما تسنّى لسائر الأئمّة فليس لقصور في القاعدة وبرامجه ، بل لقصور في الظروف والأزمنة ، أو لتقصير في الأُمّة والتابعين ، أو غير ذلك.

ص: 394

دلائل إمامة النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله

دلّت الآية الكريمة على أنّه سبحانه جعل إبراهيم إماماً للناس ، وقد سأل الخليل أن يجعل من ذريته أئمّة للناس ، فاستجاب سبحانه دعوته ، وصرّح بأنّها تنال غير الظالمين منهم ، والنبي الأعظم أفضل ذريته وأمثلهم ، فطبع الحال يقتضي أن يكون مشمولاً لدعاء جده ويكون إماماً كالخليل ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر ، قد استفاضت الآيات والروايات على أنّ النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله كان له منصب الإمامة وراء النبوة والرسالة ، فهو بما أنّه كان يتلقّى الوحي ويبلغه كان نبياً ورسولاً ، ولم تكن له في هذا المجال أيّة طاعة وعصيان إلاّ بالعناية.

وبما انّه كان قائداً وزعيماً للأُمّة في مختلف المجالات كان إماماً مفترض الطاعة ، وهو في هذا المقام صاحب أمر وبعث ونهي ، وزجر ونصب وعزل وقضاء وفصل وغزوة وسرية ، إلى غير ذلك من الأُمور الراجعة إلى إدارة المجتمع وسياسته ، وإليك بيان ما يثبت إمامته بوضوح ، وما يدل على ذلك من الآيات :

1. ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ) (1) ، ومعنى كون النبي أولى بهم من أنفسهم ، أنّه أولى بهم منهم ، ومعنى الأولوية رجحان جانب النبي إذا دار الأمر بينه وبين غيره ، ويتحصّل من ذلك انّ ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والكلاءة وإنفاذ الإرادة ، فالنبي أولى بذلك من نفسه ، فلو دار الأمر بين النبي وبين نفس المؤمن وما يرجع إليه ، كان جانب النبي أرجح من جانب المؤمن نفسه وما يتعلّق به.

ص: 395


1- الأحزاب : 6.

فعلى ذلك يجب أن يكون النبي أحب إليه من نفسه وأكرم عنده منها ولو دعته نفسه إلى شيء والنبي إلى خلافه كان المتعيّن إجابة النبي صلی اللّه علیه و آله وطاعته وتقديم أمر النبي على نفسه.

وعلى ذلك فمقتضى الإطلاق - إطلاق الأولوية - انّ النبي أولى بهم فيما يتعلّق بالأُمور الدنيوية أو الدينية ، وهذا يمثل قمة الإطاعة له وذروة الإمامة والقيادة في جميع المجالات على أحسن وجه.

نعم إذا أمر النبي بإخراج المؤمن عن نفسه ونفيسه ، فيجب عليه الخروج ، لأنّ النبي لا يأمر لغايات شخصية ، وإنّما يأمر لمصالح الإسلام والمسلمين ، ولا يتصوّر انّ الآية ، تهدف إلى جعله مستبداً بالحكم وتسلم زمام المجتمع بيد الفرد حتّى يتصرف فيه بما شاء هواه وأمرت به نفسه ، حاشا النبي الأعظم المسدّد أن تكون سيادته على أساس التسلّط الفردي والنفع الشخصي ، وانّما يتبع الوحي في حكمه وقضائه ويكون مصوناً بتسديد من اللّه عن الخطاء والزلل ، قال سبحانه : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1) ، وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ... وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (2).

وقد كان بعض الصحابة يصر على اتّباع الرسول لآرائهم ، فرد اللّه عليهم بأنّ مقتضى الإيمان أن لا يتقدم المؤمن على اللّه سبحانه ورسوله ، ولو انّ الرسول اتّبع آراءهم ، لكانت عاقبة ذلك العنت والهلاك.

ص: 396


1- النجم : 3 - 4.
2- الحجرات : 1 - 7.

2. ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (1) ، فقضاؤه صلی اللّه علیه و آله قضاء منه بولايته ، وفي الوقت نفسه قضاء من اللّه سبحانه ، لأنّه الجاعل لولايته والمنفّذ أمره ، وبما أنّه جعل الأمر الواحد « قضى » متعلّقاً لقضاء اللّه ورسوله معاً ، فهو يدل على أنّ المراد من القضاء التصرف في شؤون الناس في الأُمور الدنيوية والأُخروية ، لا القضاء بمعنى التشريع وجعل الأحكام ، لأنّه مختص باللّه سبحانه (2).

وبالجملة ليس لأحد من المؤمنين والمؤمنات إذا قضى اللّه ورسوله بالتصرّف في أمر من أُمورهم ، اختيار غير ما أراد اللّه ورسوله ، بل عليهم أن يتّبعوا قضاء اللّه ورسوله ، فالآية تمثّل أعلى مرتبة من الحكم للنبي صلی اللّه علیه و آله ، ومن المعلوم أنّ جعل قضاء الرسول كقضاء اللّه تابع لملاكات صحيحة تتّبع المصالح العامة فقط لا المصالح الشخصية.

3. ( مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (3).

الآية تمثّل مقام ولاية النبي في تقسيم الفيء ، وانّه يجب على المؤمنين اتّباعه في كيفيته ، ولا يعترضوا عليه بشيء ، هذا من غير فرق بين تفسير الإيتاء في ( آتَاكُمُ ) بمعنى الأمر والبعث بقرينة قوله : ( وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) والمعنى ما أمركم الرسول فخذوه بالاتّباع والطاعة ، أو تفسيره بمعنى الإعطاء أي ما أعطاكم

ص: 397


1- الأحزاب : 36.
2- راجع الجزء الأوّل من هذه الموسوعة بحث التوحيد في التشريع والتقنين.
3- الحشر : 7.

الرسول من الفيء فخذوه ما نهاكم عنه ومنعكم فانتهوا ولا تطلبوه ، وذلك لأنّ موقف الآية إعطاء الضابطة في كل ما آتاه الرسول فيجب اتّباعه سواء أكان في مجال الفيء أم غيره بشهادة قوله في ذيل الآية : ( وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ، وكون المورد هو الفيء لا يوجب تخصيص الآية بها ، والرجوع إلى الآيات السابقة لهذه الآية يفيد بأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يمثل مقام الإمامة والحكم ، وإليك الآيات السابقة :

1. ( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ ) .

2. ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ ) .

3. ( مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) .

4. ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) .

فمجموع الآيات من بدئها إلى آخرها واردة في مجال الحكم والقضاء وانّ اللّه فوّض إدارة أُمور المسلمين إلى نبيه ، وأمرهم بالأخذ بما آتى والانتهاء عمّا نهى ، وبهذا المعنى صرّحت الأحاديث المروية عن أهل البيت علیهم السلام فقال الإمام جعفر الصادق علیه السلام في تفسير الآية : « ثم فوّض إليه أمر الدين يسوس عباده فقال : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) انّ الرسول كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس ولا يزل ولا يخطأ في شيء ممّا يسوس به الخلق ». (1)

وقال علیه السلام أيضاً : « إنّ اللّه عزّ وجل فوّض إلى نبيه أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم » ثم تلا هذه الآية (2).

ص: 398


1- الكافي : 1 / 266 ، باب التفويض إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من كتاب الحجة.
2- نفس المصدر.

والمراد من تفويض أمر خلقه ، إمضاؤه تعالى ما يأمر به وينهى عنه ، وافتراض طاعته وإمضاء ولايته في أمر الناس.

نعم التفويض بمعنى سلبه تعالى ما أثبته للنبي عن نفسه ، فمستحيل كما قرر في محله.

4. انّ هناك آيات كثيرة تتجاوز عشرين آية تفرض طاعة الرسول على الأُمّة ، فيجب إمعان النظر فيما هو المراد من هذه الفريضة ، فنقول :

الرسول بما هو رسول وبما هو واسطة لإبلاغ كلامه سبحانه إلى الناس ليس له أمر ونهي حتّى تفترض له الطاعة ، بل هو في ذلك مبلّغ لرسالات اللّه ومذكر بآياته وليست له سلطة وسيطرة ، قال سبحانه : ( إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) (1) ، غير انّ الرسول إذا كان له مع الرسالة منصب الحكم وحق الأمر والنهي في تدبير المجتمع وتجسيد الشريعة يكون له حق الطاعة وعلى الأُمّة فرض الاقتفاء ، والآيات التالية تشير إلى ذلك النوع من الطاعة حيث يقول سبحانه : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (2).

فترى أنّه سبحانه يعطف طاعة الرسول على طاعته ، لكن بتكرار الفعل مشيراً إلى أنّ له طاعة خاصة وإن كانت في طول طاعة اللّه ومشتقة منها ، وقال سبحانه : ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (3).

يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في تفسير الآية : « فقرن طاعته بطاعته ،

ص: 399


1- الغاشية : 21 - 22.
2- النساء : 59.
3- النساء : 80.

ومعصيته بمعصيته ، وكان ذلك دليلاً على ما فوّض إليه ، وشاهداً على من اتّبعه وعصاه ، وبيّن ذلك في غير موضع من الكتاب العظيم » (1).

فالرجوع إلى الآيات الواردة فيها طاعة الرسول يوقفك على جلاء الحال.

الإمامة في الأحاديث الإسلامية

قد عرفت أنّ الإمامة الّتي أُفيضت على الخليل كانت عبارة عن حكمه بين الناس وتدبيره أُمورهم ، وقد استظهرنا ذلك من سائر الآيات الواردة في هذا المضمار والأحاديث الإسلامية تدعم ذلك المعنى بوضوح وتفسر الآية على النحو الّذي فسرناه.

قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « والإمامة نظاماً للأُمّة والطاعة تعظيماً للإمامة » (2).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « اتّقوا الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين » (3).

وقال الإمام الثامن علي الرضا علیه السلام : « إنّ الإمامة زمام الدين ، ونظام المسلمين ، وصلاح الدنيا ، وعز المؤمنين » (4).

وقال علیه السلام أيضاً : « الإمام يحلّل حلال اللّه ، ويحرّم حرامه ، ويقيم حدود اللّه ،

ص: 400


1- نور الثقلين : 1 / 431.
2- نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 252. وقد جاء في المطبوع من نهج البلاغة بمصر بشرح الشيخ محمد عبده : « الأمانات » مكان « الإمامة ». وهو اشتباه محض وقد تبعه صبحي الصالح في الاشتباه.
3- وسائل الشيعة : 18 / 7 ، كتاب القضاء ، الباب 3 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 3.
4- الكافي : 1 / 200 ، كتاب الحجة ، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته.

ويذب عن دين اللّه ، ويدعو إلى سبيل اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة - إلى أن قال : - مضطلع بالأمر ، عالم بالسياسة ، مستحق للرئاسة ، مفترض الطاعة ، قائم بأمر اللّه ، ناصح لعباد اللّه » (1).

فهذه العقود الدرّية تعرب عن مفهوم الإمامة لدى أئمّة أهل البيت ، وهو مطابق لما استفدناه من الآية الكريمة.

هذه هي النظريات الأربع المذكورة حول ملاك إمامة الخليل الواردة في آية الابتلاء ، وبقيت هنا نظرية خامسة اختارها العلاّمة الطباطبائي نتبرّك في خاتمة المطاف بذكرها وتحليلها ، وإنّما أخّرنا ذكرها ، لأنّ للنظرية الرابعة تأثيراً خاصاً في فهمها وتوضيحها وما يتوجه إليها من الإشكال ، وإليك بيانها.

الملاك الخامس : تسيير النفوس إلى الكمال بهداية تكوينية
اشارة

ويتضح ببيان أُمور :

الأوّل : انّ تفسير الإمامة بالنبوة والخلافة ، أو الوصاية ، أو الرئاسة في أُمور الدين والدنيا ، وكونه مطاعاً حدث من تكرّر الاستعمال بمرور الزمان كما ابتليت به سائر الألفاظ الواقعة في القرآن ، فإنّ النبوة معناها تحمّل النبأ من جانب اللّه ، والرسالة معناها تحمّل التبليغ ، والإطاعة من لوازم النبوّة والرسالة [ فكيف تفسّر الإمامة بالإطاعة ] والخلافة نحو من النيابة ، وكذلك الوصاية والرئاسة نحو من الطاعة للموصي والرئيس ، وهو كون الإنسان مصدراً للحكم في المجتمع ، وكل هذه المعاني غير معنى الإمامة ، إذ لا معنى لأن يقال لنبي من الأنبياء مفترض الطاعة إنّي جاعلك للناس نبياً ، أو مطاعاً فيما تبلغه ، أو رئيساً تأمر وتنهى في

ص: 401


1- تحف العقول : 436 - 441.

الدين أو وصياً أو خليفة في الأرض تقضي بين الناس في مراجعاتهم بحكم اللّه.

وبعبارة أُخرى : لا يصحّ أن يقال لنبي من لوازم نبوته كونه مطاعاً بعد نبوته إنّي جاعلك مطاعاً في الناس بعد ما جعلتك كذلك. ولا يصحّ أن يقال له ما يؤول إليه معناه وان اختلف معه في العبارة ، فهذه المواهب - أمثال الإمامة الإلهية - ليست مقصورة على مجرد المفاهيم اللفظية بل تصحبها المعارف الحقيقية.

الثاني : انّا نجد في كلامه تعالى انّه كلّما تعرّض لمعنى الإمامة تعرّض معها للهداية تعرضاً تفسيرياً ، قال تعالى : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (1) ، وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ ( أي بني إسرائيل ) أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (2) ، فوصفها بالهداية وصف تعريف ثم قيّدها بالأمر ، فبيّن إنّ الإمامة ليست مطلق الهداية ، بل الهداية الّتي تقع بأمراللّه والتعرّف على أنّ الإمام هو الهادي « بأمر اللّه » هو المهم في فهم معنى الإمامة.

الثالث : انّه سبحانه بيّن سبب هبته الإمامة بقوله : ( لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) فبيّن أنّ الملاك في ذلك هو صبرهم في جنب اللّه وكونهم قبل ذلك موقنين : وقال سبحانه في حق إبراهيم : ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) (3) ، فإراءة الملكوت لإبراهيم كانت مقدّمة لإفاضة اليقين عليه ، وقد علمت أنّ كونهم موقنين أحد أسباب إمامتهم.

الرابع : انّ « الأمر » الّذي يكون الإمام به هادياً ليس بمعنى الإذن ، بل المراد

ص: 402


1- الأنبياء : 72 - 73.
2- السجدة : 24.
3- الأنعام : 75.

هو الأمر التكويني الّذي بيّنت حقيقته في قوله : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) (1).

وقال سبحانه : ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (2) ، والمراد بكلمة ( كُن ) ليس هو التلفّظ بل وجود الشيء المعين بلا تدرج وتغيير كما هو اللائق بأفعاله سبحانه كما أنّه مع التغير والانطباق على قوانين الحركة والزمان هو الخلق.

إذا عرفت ذلك ، نقول : إنّ شأن النبي والرسول هو إراءة الطريق وشأن الإمام هو الإيصال إلى المطلوب ، لأنّ الإنسان الكامل الّذي يهدي بأمر ملكوتي (3) ( لا بأمر لفظي ) يصاحب ذلك الأمر ، فالإمامة نحو ولاية للناس في أعمالهم ، وهدايتها ، إيصالها إيّاهم إلى المطلوب بأمر اللّه (4).

وقد أوضحه أيضاً في كتابه « الشيعة في الإسلام » بقوله :

كما أنّ الإمام قائد ومسيّر وزعيم للأُمّة بالنسبة للظاهر من الأعمال ، كذلك هو قائد وزعيم بالنسبة للباطن من الأعمال أيضاً ، فهو المسيّر والقائد للإنسانية من الناحية المعنوية نحو خالق الكون وموجده.

إنّ كل عمل من الأعمال الحسنة والسيئة تولّد في الإنسان واقعية ، والحياة الأُخروية ترتبط بهذه الواقعيات ارتباطاً وثيقاً. والإنسان يتصف بحياة باطنية غير الحياة الظهرية الّتي يعيشها والّتي تنبع من أعماله ، وترتبط حياته الأُخروية بهذه الأعمال والأفعال الّتي يمارسها في حياته هنا ، قال سبحانه : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا

ص: 403


1- يس : 82 - 83.
2- القمر : 50.
3- يريد بالأمر الملكوتي : الأمر التكويني الّذي تعلّقه بشيء نفس تحقّقه وتكوّنه ، وأين هو من الأمر اللفظي أو الذهني اللّذين ينفكان عن المراد والمأمور به ويتوقفان على مقدمات ومعدّات.
4- الميزان : 1 / 274 - 276 بتلخيص.

مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) (1).

إنّ القرآن يدل على أنّ هناك حياة أسمى وروحاً أرفع من هذه الحياة للصالحين والمؤمنين ، ويؤكد على أنّ نتائج الأعمال الباطنية تلازم الإنسان دوماً ولكن الإنسان ربما لا يشعر بأنّ الأعمال الحسنة أو السيئة تكوّن في الإنسان حياة أُخروية وواقعية باطنية وسعادة وشقاء ، ومع ذلك كلّه هي مؤثرة ، والإنسان في حياته يشبه الطفل حيث يملي عليه مربّيه بألفاظ الأمر والنهي ، فهما كافلان لتكوين حياة سعيدة له ، هو يأتمر أمره ولا يشعر بما يترتّب على طاعة أمره ونهيه من النتائج ، لكنّه كلّما تقدّم في العمر استطاع أن يدرك ما قاله مربّيه ، فينال بذلك الحياة السعيدة ، وما ذلك إلاّ بما اتصف به من ملكات ، وإذا ما رفض وعصى معلمه الّذي كان يسعى له بالصلاح ، تجد حياته مليئة بالمآسي والآلام.

الإنسان يشبه المريض الّذي دأب على تطبيق أوامر الطبيب في الدواء والغذاء أو رياضة خاصة ، فهو لم يبال بشيء إلاّ ما أملاه عليه طبيبه ، فعندئذ يجد الراحة والصحة ويتحسن بتحسن صحته.

فإذن الإنسان الّذي يصبح قائداً للأُمّة بأمر من اللّه ، فهو قائد للحياة الظاهرية والمعنوية ، وما يتعلّق بها من أعمال تسير مع سيره ونهجه.

فالإمام فضلاً عن الإرشاد والهداية الظاهرية ، يختص بنوع من الهداية المعنوية ، فهو بواسطة الحقيقة والنور الباطني الّذي يتصف به يستطيع أن يؤثر في القلوب المهيّأة وأن يتصرف بها كيف ما شاء ويسيّرها نحو مراتب الكمال والغاية المتوخاة (2).

هذا غاية توضيح لهذه النظرية حرّرناها بشكل يقف على مرادها كل من له أدنى إلمام بالعلوم العقلية.

ص: 404


1- النحل : 97.
2- الشيعة في الإسلام : 163 - 166.
تحليل هذه النظرية

لا شك أنّ النفوس القوية تستطيع أن تؤثر في القلوب المهيّأة وتسيّرها نحو الكمال ، لكن البحث في تفسير الإمام الوارد في الآية الكريمة بالمتصرف في القلوب والهادي لها تكويناً ومسيرها نحو الكمال ، فانّه لا شاهد لذلك التفسير.

أمّا أوّلاً : فانّ قوله : ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) في مقام الثناء عليهم بأنّهم لا يصدرون في أمرهم ونهيهم إلاّ عن إذنه تعالى ، فلأجل ذلك صاروا هداة واقعيين ، فمنطقهم صواب ، وفعلهم وتقريرهم حجة وكل ما يمت إليهم هداية ، وأين ذلك من كون الجملة في مقام بيان حقيقة الإمامة وانّها عبارة عن القدرة التكوينية الّتي يستطيع بها الإنسان الكامل أن يؤثر في النفوس المهيّأة لسوقها نحو الكمال.

ويظهر ما ذكرنا من رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام حيث قال : « إنّ الأئمّة في كتاب اللّه عزّوجل إمامان : قال اللّه تبارك وتعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (1) لا بأمر الناس يقدّمون أمر اللّه قبل أمرهم وحكم اللّه قبل حكمهم ، قال : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (2) يقدّمون أمرهم قبل أمر اللّه وحكمهم قبل حكم اللّه ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب اللّه عزّ وجل » (3).

ويقول العلاّمة المجلسي رحمه اللّه حول الرواية : أي ليست هدايتهم للناس وإمامتهم بنصب الناس وأمرهم ، بل هم منصوبون لذلك من قبل اللّه

ص: 405


1- الأنبياء : 73.
2- القصص : 41.
3- الكافي : 1 / 216.

تعالى ومأمورون بأمره (1).

وثانياً : أنّ تفسير الإمامة بالقيادة العامة للأُمّة هو كون المتلبس بها أُسوة في القول والعمل ، ليس من المعاني المبتذلة كيف ويقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : والإمامة نظاماً للأُمّة (2).

وثالثاً : ما أفاده من أنّه لا معنى أن يقال لنبي مفترض الطاعة « إنّي جاعلك للناس إماماً أو مطاعاً » غير تام ، لما أوقفناك عليه من أنّ النبي بما هو نبي ليس له شأن إلاّ التنبّؤ ، كما أنّ الرسول ليس له شأن إلاّ إبلاغ الرسالات ، وأمّا كونه مطاعاً بالنسبة إلى الأوامر الّتي تصدر منه لأجل مصالح الأُمّة ، فهو ليس من شؤون الرسالة ، وانّما يكون من شؤون مقام آخر يتلبس به بعدهما ويحول إليه بعد الاختبار والابتلاء.

وقد أوقفناك على أنّ مثل النبي والرسول فيما يبلغ من أمر الرسالة مثل المفتي والمستنبط للأحكام من الكتاب والسنّة ليس له أمر ولا نهي ولا طاعة ولا معصية ، بل له حق الإبلاغ والإعلام لا الأمر والبعث والزجر والمنع ، كل ذلك يستوجب أن يكون له مقام آخر يناسب تلك الأُمور ، وهو مقام الإمامة والقيادة والرئاسة وما أشبهها.

ففي المجال الأوّل يكون المطاع حقيقة هو اللّه ، ولو نسبت الطاعة إلى الرسول فبالعناية ، وبهذا يفسر قوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (3) ، وإلاّ فالرسول بما هو رسول ومبلّغ وواسطة بين الخالق والمخلوق لا أمر

ص: 406


1- مرآة العقول : 1 / 165 ، الطبعة القديمة الحجرية ، وفي أواخر الجزء الثاني من الطبعة الحديثة.
2- نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم 252.
3- النساء : 64.

له حتى يطاع ولا نهي له حتى يعصى ، فمن أطاعه فقد أطاع اللّه ، ومن عصاه فإنّما عصى اللّه ، ونسبة الإطاعة إليه في الآية المباركة بضرب من العناية ، والمقصود من إطاعته سماع قوله ، وتطبيق العمل على كلامه نظير ما يقول الصديق للصديق « أطعت قولك » ، والمقصود جعل العمل مطابقاً لكلامه.

وبذلك يعلم أنّ ما ورد من الآيات من الأمر بإطاعة الرسول في جنب أُولي الأمر ليس المراد من الرسول فيها الرسول بما هو رسول ، بل بما له من مقام الإطاعة فيكون الرسول عنواناً مشيراً إلى قيادته وإمامته ، قال سبحانه : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (1).

( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا ) (2).

والحاصل : انّ للرسول إطاعتين.

إحداهما : ضرب من العناية ، كما هو شأن كل واسطة بين الآمر والمأمور ، ولا تعدّ هذه طاعة حقيقية ، وعلى هذا المعنى تنزّل عدة من الآيات الواردة فيها طاعة الرسول.

وثانيتهما : إطاعة حقيقية عندما خلع عليه سبحانه ثوب الإمامة ولباس القيادة ، فيكون مطاعاً واقعاً ، وعلى كلا المعنيين يمكن تنزيل قوله سبحانه : ( مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) . (3)

وعلى الجملة فما أفاده قدس سره فله حق عظيم علينا وعلى الأُمّة الإسلامية - كلام غير تام ، واللّه العالم.

ص: 407


1- النساء : 59.
2- الأنفال : 46.
3- النساء : 80.

وعلى كل تقدير فبين ما أفاده في « الميزان » وما بيّنه في الموضع الآخر فرق واضح ، لأنّه قدس سره في الأوّل لا يسلّم كون القيادة الظاهرية من شؤون الإمام بل يفسر الإمام بالمتصرّف في القلوب ، الهادي على نحو الإيصال إلى المطلوب ; ولكنّه يسلم في كتاب « الشيعة في الاسلام » كونها أحد شؤونه كما هو لائح من عبائره ، ولعله أمتن ; وقد عرفت فيما سبق أنّ الوقوف على مفاد الآية يتوقف على البحث عن نقاط سبع ، وقد فرغنا من البحث عن أربع منها ، وبقي الكلام في نقاط ثلاث ، وإليك بيان الخامسة منها.

5. الإمامة عهد من اللّه

العهد في الأصل هو الاحتفاظ بالشيء ، وإليه ترجع سائر المعاني الّتي استعملت فيها تلك اللفظة ، فيقال للوصية : العهد. لأنّه ينبغي الاحتفاظ بها كما يطلق على ما يكتب للولاة من الوصية ، لأنّه ممّا ينبغي الاحتفاظ به ، والعهد : الكتاب الّذي يستوثق به في البيعات (1).

وعلى ذلك فكل شيء غال قيم ينبغي الاحتفاظ به فهو العهد ، واللّه سبحانه ينسب الإمامة إلى نفسه ويقول : ( عَهْدِي ) ، ويريد بذلك إنّه شيء غال وهدية ثمينة من اللّه سبحانه يجب الاحتفاظ بها من جانب الأُمّة ، وبما أنّ الشيء الثمين لا يودع إلاّ عند من كان أميناً واضعاً كل شيء في مكانه ، قال سبحانه : ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، فالإمامة ميثاق اللّه سبحانه بين الأُمّة يجب الاحتفاظ بها عن طريق امتثال ما يفترض من الأوامر والنواهي وعدم إضاعتها.

ويظهر ذلك - أي انّ الإمامة عهد اللّه سبحانه - انّ الإمامة نوع من

ص: 408


1- معجم مقاييس اللغة : 4 / 168.

الحكومة ، وليس لأحد حق الحكم على أحد إلاّ بإذنه سبحانه ، فالحاكم الواقعي المشروع حكمه ، النافذ أمره ونهيه ، من استند في ولايته إلى اللّه سبحانه وتعالى.

6. ما هو المقصود من الظالمين ؟

الظلم في اللغة : هو وضع الشيء في غير موضعه ، قال ابن فارس بعد ذكره لهذه الجملة : ألا تراهم يقولون من أشبه أباه فما ظلم ، أي : ما وضع الشبه غير موضعه ، وبه قال غيره من اللغويين.

قال ابن منظور : الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، ومن أمثال العرب : من أشبه أباه فما ظلم. قال الأصمعي : أي ما وضع الشبه في غير موضعه. وفي المثل : من استرعى الذئب فقد ظلم. وفي حديث ابن زمل : لزموا الطريق فلم يظلموه ، أي : لم يعدلوا عنه ، يقال : أخذ في طريق فما ظلم يميناً ولا شمالاً. وأصل الظلم : الجور ، ومجاوزة الحد. والظلم : الميل عن القصد ، والعرب تقول : الزم هذا الصوب ولا تظلم عنه ، أي لا تجز عنه. قال سبحانه : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ، وذلك لأنّه جعل النعمة لغير ربها.

فإذا كان الظلم بمعنى مجاوزة الحد الّذي عيّنه العرف أو الشرع ، فالمعصية كبيرها وصغيرها ظلم ، لأنّ مقترفهما يتجاوز عن الحد الّذي رسمه الشارع ، والظلم له مراتب والمجموع يشترك في كونه تجاوزاً عن الحد ووضعاً للشيء في غير موضعه.

ولمّا خلع سبحانه ثوب الإمامة على خليله ونصبه إماماً للناس ودعا إبراهيم أن يجعل من ذريته إماماً ، فأُجيب بأنّ الإمامة وثيقة إلهية قيمة لا تنال الظالمين ، لأنّ الإمام هو المطاع بين الناس ، المتصرف في النفوس والأموال ، والقائد للمجتمع إلى السعادة ، فيجب أن يكون على الصراط السوي حتى يكون أمره ونهيه وتصرّفه

ص: 409

وقيادته نابعة عنه ، والظالم هو المتجاوز عن الحد ، المتمايل عن الصراط إلى اليمين والشمال (1) ، الواضع للشيء في غيرموضعه لا يصلح لهذا المنصب وحدوده.

إنّ الظالم الناكث لعهد اللّه ، والناقض لدساتيره وحدوده على شفا جرف هار لا يؤتمن عليه ، ولا تلقى إليه مقاليد الخلافة ، ولا مفاتيح القيادة ، لأنّه على مقربة من الخيانة والتعدّي ، وعلى استعداد لأن يقع أداة للجائرين ، فكيف يصح في منطق العقل أن يكون إماماً مطاعاً ، نافذاً قوله ، مشروعاً تصرفه ، إلى غير ذلك من شؤون الإمامة ؟

7. دلالة الآية على عصمة الإمام

إنّ بعض المناصب والمقامات تعيّن شروطها بنفسها ، فمدير المستشفى ، له شروط تختلف عن شروط قائد الجيش ، وهكذا غيرهما.

فالإمامة الّتي لا تنفك عن التصرّف في النفوس والأموال ، وبها يناط حفظ القوانين ، يجب أن يكون القائم بها إنساناً مثالياً مالكاً لنفسه ، وغرائزه ، حتى لا يتجاوز في حكمه عن الحد ، وفي قضائه عن الحق.

والمستفاد من الآية انّ الظلم بشتى ألوانه مانع من النيل لمقام الإمامة ، لأنّ كلمة « الظالمين » بحكم كونها محلاّة باللام تفيد الاستغراق في الأفراد ، فإذا كان الظالمون بعامة أفرادهم ممنوعين من الارتقاء إلى هذا المقام ، يكون الظلم بكل ألوانه وصوره مانعاً عن الرقي والنيل لهذا المنصب الإلهي ، فالاستغراق في جانب الأفراد يستلزم الاستغراق في جانب الظلم وأقسامه وتكون النتيجة مانعية كل فرد

ص: 410


1- ونعم ما قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « اليمين والشمال مضلّة ، والطريق الوسطى هي الجادة ». ( نهج البلاغة : قسم الخطب ، الرقم 15.

منه عن الارتقاء إلى منصب الإمامة.

وبالجملة : فالآية تستغرق جميع الظالمين ، وتسلب الصلاحية عن كل فرد منهم ، وبالنتيجة تفيد بأنّ الظلم بأي شكل كان مانع عن الارتقاء إلى الإمامة. فالاستغراق في ناحية الأفراد يلازم الاستغراق في أقسام الظلم.

فتكون النتيجة : انّ من صدق عليه انّه ظالم ولو في فترة من عمره يكون ممنوعاً من نيل هذا المقام الرفيع.

سؤال وجواب

أمّا السؤال ، فهو : انّ الآية انّما تشمل من كان مقيماً على الظلم ، فأمّا التائب عنه فلا يتعلّق به الحكم ، لأنّ الحكم إذا كان معلّقاً على صفة وزالت الصفة زال الحكم ، وصفة الظلم صفة ذم ، فإنّما تلحقه ما دام مقيماً عليه ، فإذا زال عنه زالت الصفة عنه ، كذلك يزول عنه الحكم الّذي علّق به من نفي نيل العهد في قوله تعالى : ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ألا ترى أنّ قوله تعالى : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) إنّما هو نهي عن الركون إليهم ما أقاموا على الظلم ، وكذلك قوله تعالى : ( مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ) إنّما هو ما أقاموا على الإحسان ، فقوله تعالى : ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) لم ينف به العهد عن من تاب عن ظلمه ، لأنّه في هذه الحالة لا يسمّى ظالماً كما لا يسمّى من تاب من الكفر كافراً ومن تاب من الفسق فاسقاً ، وانّما يقال كان كافراً وكان فاسقاً ، وكان ظالماً ، واللّه تعالى لم يقل لم ينل عهدي من كان ظالماً ، وانّما نفى ذلك عن من كان موسوماً بسمة الظالم والاسم لازم له باق عليه (1).

ص: 411


1- أحكام القرآن ( لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص ، المتوفّى عام 370 ه ) : 1 / 72 بتلخيص.
الجواب
اشارة

انّ ما أفاده الجصاص من أنّ الحكم يدور مدار وجود الموضوع ليس ضابطاً كلياً يعتمد عليه في كل الموارد ، وما استشهد به من المثالين لا يكون مبدأ لانتزاع القاعدة الكلية المزعومة ; بل الأحكام على قسمين : قسم يدور مدار وجود الموضوع ، فينتفي بانتفائه ، وقسم يكفي فيه اتصاف الموضوع بالوصف والعنوان آناً ما ولحظة خاصة ، وان انتفى بعد الاتصاف ، وإليك توضيح كلا القسمين :

أمّا القسم الأوّل : مثل قولنا الخمر حرام ، أو في سائمة الغنم زكاة ، فالمائع ما دام يصدق عليه عنوان الخمر يحرم شربه ، فإذا انقلب إلى الخل يرتفع عنه الحكم ، والغنم ما دامت سائمة تتعلّق بها الزكاة ، فإذا زال العنوان وعادت معلوفة يرتفع عنها الحكم ، وله في العرف والشريعة أمثلة لا تعد ولا تحصى.

وأمّا القسم الثاني : أعني ما يكفي في بقاء الحكم اتصاف الموضوع بالعنوان ولو مرة واحدة أو لحظة سريعة عابرة ، فهو كالزاني والسارق ، فالإنسان إذا تلبّس بالزنا أو السرقة ، يكون محكوماً بالحد وإن زال عنه العنوان ، بل وإن تاب وأناب بعد ثبوت الحكم في حقه ، ومثله عنوان المستطيع ، فمن استطاع الحج يجب عليه وإن زالت عنه الاستطاعة وقصر في أداء الحج.

ومثل هذه الأمثلة ، عنوان « أُمّهات نسائكم » فمن اتصفت بكونها أُمّاً لزوجة ولو لحظة تحرم على الزوج وإن زالت علقة الزوجية ، وعلى هذا الضوء يكون قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (1) ، وقوله سبحانه : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) (2) ، وقوله سبحانه : ( وَللهِ عَلَى

ص: 412


1- المائدة : 38.
2- النور : 2.

النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) ، وقوله سبحانه : ( وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ) (2) ، شاملاً لكل من تلبس بالسرقة والزنا والاستطاعة والأُمومة للزوجة ، سواء بقوا على العنوان أم زال عنهم ، وعلى هذا القياس يجب تقسيم الموضوعات المتصفة بالعناوين إلى قسمين لا جعلهما قسماً واحداً كما صنع الجصّاص.

نعم ، المهم في المقام إثبات انّ الموضوع في الآية من قبيل القسم الثاني لا القسم الأوّل ، فما لم يثبت كونه منه لا يفيد تقسيم العنوان إلى قسمين.

وبعبارة أُخرى : اللازم إثبات أنّ المتلبّس بالظلم ولو آناً ما ، ولو فترة يسيرة من عمره لا يصلح للإمامة في كل عمره وإن تاب من الذنب ، ويمكن إثبات ذلك من طريقين :

الأوّل : طريق العقل

إنّ الهدف الأسمى من تنصيب أمثال الخليل علیه السلام للإمامة تحقيق الشريعة الإلهية في المجتمع وتحقيقها بين الناس ، فإذا كان القائد رجلاً مثالياً نقي الثوب ، مشرق الصحيفة ، ناصع السلوك ، يكون لأمره ونهيه نفوذ في القلوب ، ولا تكون قيادته محل طعن من قبل المجتمع ، بل يستقبله الشعب بوجوه ملؤها الإجلال والإكبار ، لأنّه عاش بين ظهرانيهم ولم يروا منه عصياناً ولا زلة ، بل كان قائماً على الصراط السوي غير مائل عنه ، وعند ذلك يتحقّق الهدف الأسمى من تنصيب الشخصيات المعينة للإمامة.

وأمّا اذاكان في فترة من عمره مقترفاً للمعاصي ، مجترحاً للسيئات ، فهو

ص: 413


1- آل عمران : 97.
2- النساء : 23.

غرض لسهام الناقدين ، ومن البعيد أن ينفذ قوله وتقبل قيادته بسهولة ، بل يقع مورداً للاعتراض بأنّه كان بالأمس يقترف الذنوب ويعمل المعاصي ، ويتبنّى الباطل وأصبح اليوم آمراً بالحق ومميتاً للباطل ! وعند ذلك لا يتحقق الهدف الّذي لأجله خلعت عليه الإمامة.

وهذا التحليل العقلي يحكم بلزوم نقاوة الإمام عن كل زلة ومعصية وانّ الإنابة لو كانت ناجحة في حياته الفردية لاتكون ناجحة في حياته الاجتماعية ولا يقع أمره ونهيه موقع القبول ولا يقدر أن يأخذ بمجامع القلوب.

الثاني طريق النقل

وهو تحليل الآية : ببيان انّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أربعة أقسام :

1. من كان في طيلة عمره ظالماً.

2. من كان طاهراً ونقياً في جميع عمره.

3. من كان ظالماً في بداية عمره وتائباً في آخره.

4. من كان طاهراً في بداية عمره وظالماً في آخره.

عند ذلك يجب أن نقف على أنّ إبراهيم علیه السلام الّذي سأل الإمامة لبعض ذريته ، أراد أي قسم منها ؟ حاشا إبراهيم علیه السلام أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل والرابع من ذريته ، لوضوح انّ الغارق في الظلم من بداية عمره إلى آخره أو الموصوف به أيام تصدّيه للإمامة لايصلح لأن يؤتمن عليها ، فبقي القسمان الآخران ، أعني : الثاني والثالث ، وقد نص سبحانه على أنّه : لا ينال عهده الظالم ، والظالم في هذه العبارة لا ينطبق إلاّ على القسم الثالث ، أعني : من كان ظالماً في

ص: 414

بداية عمره وصار تائباً حين التصدّي ، فإذا خرج هذا القسم بقي القسم الثاني ، وهو من كان نقي الصحيفة طيلة عمره ، لم ير منه لا قبل التصدّي ولا بعده انحراف عن الحق ، ومجاوزة للصراط السوي.

وحصيلة البحث : انّ الإمام هو الإنسان المثالي المطاع قوله ، المقتدى بفعله ، والمنصوب من اللّه سبحانه ، لأجل تحقيق الأهداف الإلهية في المجتمع ولا يختلف كلامه وتقريره عنها قيد شعرة ، حتّى يحقّق الهدف الّذي نصب لأجله وبما أنّ الآية الكريمة تنفي صلاحية الظالم لنيل هذا المقام ، وهي على وجه الاستغراق ، فالظالم بجميع أصنافه لا يصلح لهذا المقام وإن تاب وطهر ، لما عرفت من الوجهين من أنّ المقام من قبيل القسم الثاني الّذي يكفي في ثبوت الحكم دائماً تلبس الموضوع بالعنوان آناً ما.

سؤال وجواب

أمّا السؤال فحاصله : انّ غاية ما يستفاد من الآية لزوم كون الإمام نقي الصحيفة عادلاً غير ظالم ، وأمّا كونه معصوماً قد أُفيضت عليه ملكة العصمة فلا يستفاد من الآية ؟

وإن شئت قلت : إنّ نفي صلاحية الظالم للتصدّي للإمامة لا يثبت إلاّ صلاحية تصدّي العادل ، وهو أعم من المعصوم الّذي نحن بصدد إثباته ؟

الجواب :

إنّ العدالة المطلقة الّتي يؤكد عليها القرآن - وهي كون الرجل نقياً عن كل ذنب ، صغير وكبير طيلة عمره ، من أوان بلوغه إلى لقاء ربّه - تلازم العصمة ولا تنفك عنها ، إذ من المستحيل عادة أن يثبت الإنسان على الحق ولا يتجاوز عنه ولا

ص: 415

تصدر منه كبيرة ولا صغيرة إلى أن يلاقي ربّه ، ومع ذلك يكون فاقداً للعصمة وملكة المصونية.

إنّ الإنسان القائم على الصراط السوي في جميع لحظات عمره غير مائل عن الحق فكراً وعملاً ، لا ينفك عن كونه يمتلك ملكة العصمة الحامية من الزلل.

نعم : العدالة غير المطلقة لا تلازم العصمة ، ولأجل ذلك ربّما يقترف العادل بعض المعاصي وإن كان يتوب بسرعة ، لكنّها ليست عدالة مطلقة ، بل عدالة خاصة لا تنافي صدور المعصية ، وأمّا العدالة المطلقة في جميع سني العمر ، والالتزام بالحق قولاً وفعلاً ، عقيدة وعملاً ، بلا انحراف ، فهي عبارة أُخرى عن العصمة ، ولا تتحقق إلاّ بالموهبة الإلهية المفاضة من اللّه سبحانه على عباده المخلصين.

وإن أبيت إلاّ عن أعمّية ما تهدف إليه الآية وانّ المستفاد منها العدالة المطلقة لا العصمة المفاضة من اللّه سبحانه ، فنقول : إنّ الشيعة الإمامية تكتفي بذلك في نفي خلافة من تصدّى للخلافة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، بحجة أنّهم لم يكونوا ذوي عدالة مطلقة ، كيف وقد عبدوا الصنم والوثن في فترات من عمرهم ؟!

فإذا ثبت عدم صلاحيتهم تعيّنت إمامة العترة الطاهرة ، لأنّ الأُمّة في مسألة الإمامة ذات قولين ، فذهبت طائفة إلى إمامة الخلفاء ، وذهبت طائفة أُخرى إلى إمامة علي وأهل بيته علیهم السلام ، فإذا نفيت صلاحية الفرقة الأُولى تعيّنت خلافة الطائفة الثانية ، لأنّ إمامة غير هاتين الطائفتين لم يذهب إليها أحد.

وبالجملة : اتفقت الأُمّة الإسلامية على قولين في مسألة الإمامة. فذهب أهل السنّة إلى خلافة الخلفاء الأربعة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثم تبدّلت الخلافة بعد الخليفة الرابع إلى الملوكية وخرجت عن صبغة الخلافة الإسلامية ، وقد كان أكثر هؤلاء الخلفاء الأربعة غير مجتنبين عن الشرك وعبادة الوثن في أوّليات حياتهم ،

ص: 416

وإن صاروا ببركة الإسلام موحّدين تاركين الخط الجاهلي.

وذهب الشيعة بعامة فرقهم إلى خلافة علي وبعده الحسن والحسين إلى آخر أئمّة الهدى ، فهؤلاء كانوا طاهرين عن الشرك منذ نعومة أظفارهم إلى لقاء ربّهم ، وليس بين الأُمّة قول بإمامة غير هاتين الطائفتين.

هذان هما القولان اللّذان أشرنا إليهما ، ومن جانب آخر انّ الآية تدلّ على شرطية طهارة الإمام على وجه الإطلاق عن كل ظلم في جميع أدوار الحياة ، وهذا لا ينطبق إلاّ على الطائفة الثانية ، لأنّ كثيراً من أفراد الطائفة الأُولى كانوا غير مجتنبين عن الظلم في بداية حياتهم وذلك ممّا لم يختلف فيه اثنان.

ص: 417

ص: 418

3

إطاعة السلطان بين الوجوب والحرمة و عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان.

اشارة

1. إطاعة السلطان بين الوجوب والحرمة.

2. عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان.

ص: 419

في هذا الفصل

1. إطاعة السلطان العادل من صميم الدين وبيان دلائله.

2. إطاعة السلطان الجائر ورأي أهل السنّة فيها.

3. حكم الخروج عليه وجوباً وحرمة.

4. الأحاديث الّتي استدلت الحنابلة بها على وجوب إطاعة الحاكم الجائر وحرمة الخروج عليه.

5. عرض تلك الأحاديث على كتاب اللّه أوّلاً ، والسنّة الصحيحة ثانياً ، وأحاديث العترة الطاهرة ثالثاً ، وسيرة السلف رابعاً.

6. محاولة الأُستاذ « أبو زهرة » لتصحيح نظرية إمام الحنابلة في هذا المورد ، وبيان ضعفها.

7. الصراع الدائم بين العقيدة والوجدان في نظائر المقام.

8. من هو الصحابي وتعاريفه المختلفة والغاية السياسية بها ؟

9. نظرية عدالة الصحابة كلهم ، وتقييم تلك النظرية.

10. الصحبة ليست بمادة كيمياوية تقلب المصاحب إلى إنسان مثالي.

11. الذكر الحكيم وأصناف الصحابة المختلفة.

12. الصحابة في السنّة النبوية.

13. الصحابة والتاريخ المتواتر.

14. آراء الصحابة بعضهم حول بعض.

15. النظرية الوسطى في الصحابة ، نظرية الشيعة المنعكسة في دعاء الإمام السجاد.

16. كلام أبي المعالي الجويني ، ونقد بعض الزيدية له.

17. النسبة المفتعلة إلى الشيعة الإمامية وإبطالها.

ص: 420

1

إطاعة السلطان بين الوجوب والحرمة

اشارة

إطاعة الحاكم العادل من صميم الدين ، قال سبحانه : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (1) ، وليس المراد منه إطاعة مطلق ولاة الأمر ، بل المراد خصوص العدول منهم ، بقرينة النهي عن إطاعة المسرفين والغافلين عن ذكر اللّه سبحانه ، والمكذبين والآثمين وغيرهم ، قال سبحانه : ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) (2) ، وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ ) (3) ، وقال سبحانه : ( فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ ) (4) ، وقال تعالى : ( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ) (5) ، وقال سبحانه : ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ) (6) ، وقال تعالى : ( وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ ) (7) ، إلى غير ذلك من الآيات الناهية عن طاعة الطغاة العصاة. فبقرينة هذه الآيات الناهية يصح أن يقال : إنّ المراد من الأمر بإطاعة أُولي الأمر ، هو إطاعة العدول منهم.

ص: 421


1- النساء : 59.
2- الكهف : 28.
3- الأحزاب : 1.
4- القلم : 8.
5- القلم : 10.
6- الإنسان : 24.
7- الشعراء : 151.

وقد تضافرت الروايات على وجوب إطاعة السلطان العادل المعربة عن عدم وجوب إطاعة السلطان الجائر أو حرمتها ، قال رسول اللّه علیه السلام : « السلطان العادل المتواضع ظل اللّه ورمحه في الأرض ويرفع له عمل سبعين صدّيقاً » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « ما من أحد أفضل منزلة من إمام إن قال صدق ، وإن حكم عدل ، وإن استرحم رحم » (2).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « أحب الناس إلى اللّه يوم القيامة وأدناهم مجلساً ، إمام عادل ، وأبغض الناس إلى اللّه وأبعدهم منه إمام جائر » (3).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « السلطان ظل اللّه في الأرض يأوي إليه الضعيف ، وبه ينصر المظلوم ، ومن أكرم سلطان اللّه في الدنيا أكرمه اللّه يوم القيامة » (4).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « ثلاثة من كن فيه من الأئمّة صلح أن يكون إماماً اضطلع بأمانته : إذا عدل في حكمه ، ولم يحتجب دون رعيته ، وأقام كتاب اللّه تعالى في القريب والبعيد ». (5) إلى غير ذلك من الروايات الّتي يقف عليها المتتبع في الجوامع الحديثية.

هذا من طريق أهل السنّة ، وأمّا من طريق الشيعة فحدث عنه ولا حرج.

روى عمر بن حنظلة عن الصادق علیه السلام في لزوم طاعة الحاكم العادل : « من روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنّما استخف بحكم اللّه وعلينا رد ، والراد علينا كالراد على اللّه ، وهو على حدّ الشرك باللّه » (6).

ص: 422


1- كنزل العمال : 6 / 6 ، الحديث 14589 ، 14593 ، 14604 ، 14572.
2- كنزل العمال : 6 / 6 ، الحديث 14589 ، 14593 ، 14604 ، 14572.
3- كنزل العمال : 6 / 6 ، الحديث 14589 ، 14593 ، 14604 ، 14572.
4- كنزل العمال : 6 / 6 ، الحديث 14589 ، 14593 ، 14604 ، 14572.
5- كنز العمال : ج 5 ، الحديث 14315.
6- الوسائل : 18 ، الباب 11 ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث 1.

ونكتفي بقول الإمام الحسين بن علي علیهماالسلام في كتابه إلى أهل الكوفة حيث قال علیه السلام : « فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات اللّه » (1).

إذاً فوجوب إطاعة السلطان العادل ممّا لا شك فيه ، ولا يحتاج إلى إسهاب الكلام فيه.

إطاعة السلطان الجائر

اتفقت كلمة الحنابلة ومن لفَّ لفّهم على وجوب إطاعة السلطان الجائر ، وإليك نصوصهم :

قال أحمد بن حنبل في إحدى رسائله : السمع والطاعة للأئمّة ، وأمير المؤمنين ، البر والفاجر ، ومن ولي الخلافة فأجمع الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف ، وسمّي أمير المؤمنين ، والغزو ماض مع الأُمراء إلى يوم القيامة ، البر والفاجر ، وإقامة الحدود إلى الأئمّة ، وليس لأحد أن يطعن عليهم وينازعهم ، ودفع الصدقات إليهم جائز من دفعها إليهم أجزأت عنهم ، براً كان أو فاجراً ، وصلاة الجمعة خلفه وخلف كل من ولي ، جائزة إقامتها ، ومن أعادها فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنّة (2).

ومن خرج على إمام من أئمّة المسلمين وقد كان الناس قد اجتمعوا عليه وأقرّوا له بالخلافة بأيِّ وجه من الوجوه ، كان بالرضاء أو بالغلبة ، فقد شق الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فإن مات الخارج عليه ، مات ميتة

ص: 423


1- بحار الأنوار : 15 / 116 ; تاريخ الطبري : 4 / 262 ، أحداث سنة 60 ه.
2- تاريخ المذاهب الإسلامية : 2 / 322.

جاهلية.

هذا الرأي المنقول عن إمام الحنابلة لا يمكن إنكار صحة نسبته إليه ، ولأجل ذلك قال الأُستاذ أبو زهرة : ولأحمد رأي يتلاقى فيه مع سائرالفقهاء وهو جواز إمامة من تغلّب ورضيه الناس وأقام الحكم الصالح بينهم ، بل انّه يرى أكثر من ذلك إنّ من تغلّب وإن كان فاجراً تجب إطاعته حتى لا تكون الفتن (1).

والعبارة الّتي نقلناها عن إمام الحنابلة تعرب عن وجوب إطاعة الجائر ولو أمر بمعصية الخالق ، وهو أمر عجيب منه جداً ، مع أنّ أكثر الأشاعرة الذين يحرّمون الخروج عليه ، لا يوجبون طاعته كما سترى عندما نوافيك بنصوصهم ، ولغرابة رأي ابن حنبل هذا ، ذيّله أبو زهرة بقوله : ولكنه ينظر في هذه القضية إلى مصلحة المسلمين وأنّه لا بدَّ من نظام مستقر ثابت وإنّ الخروج على هذا النظام يحل قوّة الأُمّة ، ويفك عراها ، ولأنّه رأى من أخبار الخوارج وفتنتهم ما جعله يقرر أنّ النظام الثابت أولى ، وأنّ الخروج عليه يرتكب فيه من المظالم أضعاف ما يرتكبه الحاكم الظالم.

ثم إنّه ينظر في القضية نظرة اتّباع ، فإنَّ التابعين عاشوا في العصر الأموي إلى أكثر من ثلثي زمانه قد رأوا مظالم كثيرة ، ومع ذلك نهوا عن الخروج ولم يسيروا مع الخارجين ، وكانوا ينصحون الخلفاء والولاة إن وجدوا آذاناً تسمع ، وقلوباً تفقه ، وفي كل حال لا يخرجون ولا يؤيدون الخارج (2).

وهذا التوجيه من الأُستاذ غريب جداً :

أمّا أوّلاً : فلأنّ الخروج على النظام الظالم إذا كان موجباً لحلِّ قوّة الأُمّة وفك

ص: 424


1- المصدر السابق : 321.
2- تاريخ المذاهب الإسلامية : 2 / 322.

عراها ، يكون الصبر عليه تشويقاً لتماديه في الظلم ، وإكثار الضغط على الأُمّة ، وبالنتيجة : تحويل الدين وتحريفه عمّا هو عليه من الحق ... فأيُّ فائدة تكمن في حفظ قوّة أُمّة ، انحرفت عن صراطها وتبدّلت سننها وتغيرت أُصولها ، فإنّ الظالم لا يرى لظلمه حداً ولتعدّيه ضوابط ، فلو رأى أنّ الإسلام بواقعه يضاد آراءه الشخصية وميوله الخبيثة ، عمد إلى تغييره وتحويره ، فليس يقتصر ظلم الظالم على التعدّي على النفوس والأموال ، بل الراكب على أعناق الناس ، يغيّر كل شيء كيفيما يريد ، وحيثما يرى أنّه لصالح شخصه ، والتاريخ شاهدنا الأصدق على ذلك.

وثانياً : فإنَّ الأُستاذ أبا زهرة نسب إلى التابعين الذين عاشوا في العصر الأموي إلى أكثر من ثلثي زمانه بأنّهم رأوا مظالم كثيرة ومع ذلك نهوا عن الخروج ولم يسيروا مع الخارجين ... ، ولكنّه كيف غفل عن قضية الحرّة الدامية حيث كان الخارجون فيها على الحكومة الغاشمة هم الصحابة والتابعون ... .

وهذا المسعودي صاحب « مروج الذهب » ينقل إلينا لمحة عمّا جرى هناك ويقول :

ولما انتهى الجيش من المدينة إلى الموضع المعروف بالحرّة وعليه « مُسرف » خرج إلى حربه أهلها ، عليهم عبد اللّه بن مطيع العدوي وعبد اللّه بن حنظلة الغسيل الأنصاري ، وكانت وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من الناس من بني هاشم وسائر قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس ; فمن قتل من آل أبي طالب اثنان : عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب ، وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب ; ومن بني هاشم من غير آل أبي طالب ، الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وحمزة بن عبد اللّه بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ،

ص: 425

والعباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب ، وبضع وتسعون رجلاً من سائر قريش ومثلهم من الأنصار ، وأربعة آلاف من سائر الناس ممّن أدركه الإحصاء ، دون من لم يعرف (1).

كيف نسي أبو زهرة - أو لعلّه تناسى - قضية دير الجماجم حيث قام ابن الأشعث التابعي في وجه الحجاج السفّاك بالموضع المعروف بدير الجماجم فكان بينهم نيّف وثمانون وقعة تفانى فيها خلق ، وذلك في سنة اثنتين وثمانين (2).

وعلى كل تقدير فقد اقتفى أثر أحمد بن حنبل جماعة من متكلّمي الأشاعرة وادّعوا بأنّ هذه عقيدة إسلامية كان الصحابة والتابعون يدينون بها ، وانّه يجب الصبر على الطغاة الظلمة إذا تصدّروا منصّة الحكم ، نعم غاية ما يقولون : إنّه لا يجب إطاعتهم إذا أمروا بالحرام والفساد ، جاعلين قولهم هذا منعطفهم الوحيد عن قول ابن حنبل وبقية أهل الحديث ، وإليك نبذة من أقوال القوم :

1. قال الإمام الشيخ أبو جعفر الطحاوي الحنفي ( المتوفّى عام 321 ه ) في رسالته المسمّاة ب- « بيان السنّة والجماعة » المشهورة ب « العقيدة الطحاوية »:

ونرى الصلاة خلف كلِّ بَرٍّ وفاجر من أهل القبلة ، ولا نرى السيف على أحد من أُمّة محمّد إلاّ على من وجب عليه السيف ( أي سفك الدم بالنص القاطع كالقاتل والزاني المحصن والمرتد ) ولا نرى الخروج على أئمتنا ولا ولاة أمرنا وإن جاروا ، ولا ندعوا على أحد منهم ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من

ص: 426


1- مروج الذهب : 3 / 69 - 70 ، طبع بيروت.
2- المصدر السابق : 3 / 132.

طاعات اللّه عزّ وجلّ فريضة علينا ما لم يأمروا بمعصية (1).

2. قال الإمام الأشعري من جملة ماعليه أهل الحديث والسنّة : ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر ... إلى أن قال : ويرون الدعاء لأئمّة المسلمين بالصلاح ، وأن لا يخرجوا عليهم بالسيف ، وأن لا يقاتلوا في الفتن (2).

3. وقال الإمام أبو اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي : الإمام إذا جار أو فسق لا ينعزل عند أصحاب أبي حنيفة بأجمعهم ، وهو المذهب المرضي ... ثم قال : وجه قول عامّة أهل السنّة والجماعة إجماع الأُمّة ، فإنّهم رأوا الفساق أئمة ، فإنّ أكثر الصحابة كانوا يرون بني أُمية وهم بنو مروان أئمّة حتّى كانوا يصلّون الجمعة والجماعة خلفهم ، ويرون قضاياهم نافذة ، وكذا الصحابة والتابعون ، وكذا من بعدهم يرون خلافة بني عباس وأكثرهم كانوا فسّاقاً ، ولأنَّ القول بانعزال الأئمّة بالفسق ، إيقاع الفساد في العالم ، وإثبات المنازعات وقتل الأنفس ، فإنّه إذا انعزل يجب على الناس تقليد غيره ، وفيه فساد كثير ، ثم قال : إذا فسق الإمام يجب الدعاء له بالتوبة ، ولا يجوز الخروج عليه ، وهذا مروي عن أبي حنيفة ، لأنّ في الخروج إثارة الفتن والفساد في العالم (3).

4. وقال الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ( المتوفّى عام 403 ه ) في « التمهيد ».

إن قال قائل : ما الّذي يوجب خلع الإمام عندكم ؟ قيل له : يوجب ذلك أُمور : منها كفر بعد إيمان ، ومنها تركه الصلاة والدعاء إلى ذلك ، ومنها عند كثير

ص: 427


1- شرح العقيدة الطحاوية : 110 و 111 ، طبع دمشق.
2- مقالات الإسلاميين : 323.
3- أُصول الدين للإمام البزدوي : 190 - 192 ، ط القاهرة.

من الناس فسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار ، وتناول النفوس المحرمة ، وتضييع الحقوق ، وتعطيل الحدود ، وقال الجمهور من أهل الاثبات وأصحاب الحديث : لا ينخلع بهذه الأُمور ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه ، إذ احتجوا في ذلك بأخبار كثيرة متضافرة عن النبي صلی اللّه علیه و آله وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمّة وإن جاروا واستأثروا بالأموال وانّه قال علیه السلام :

« واسمعوا وأطيعوا ولو لعبد أجدع ، ولو لعبد حبشي ، وصلّوا وراء كلِّ برٍّ وفاجر ».

وروي أنّه قال : « وان أكلوا مالك وضربوا ظهرك وأطيعوهم ما أقاموا الصلاة » (1).

5. وقال الشيخ نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد النسفي ( المتوفّى عام 537 ه ) في « العقائد النسفية » :

ولا ينعزل الإمام بالفسق والجور ... ويجوز الصلاة خلف كلِّ بَرٍّ وفاجر. وعلله الشارح التفتازاني بقوله : لأنّه قد ظهر الفسق واشتهر الجور من الأئمّة والأُمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجُمع والأعياد بإذنهم ولا يرون الخروج عليهم (2).

وقد أُيّدت تلك العقائد بروايات ربّما يتصوّر القارئ أنّ لها مسحة من الحق أو لَمْسة من الصدق ، لكن الحق أنّ أكثرها مفتعلة على لسان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد

ص: 428


1- التمهيد : 186 ، ط القاهرة.
2- شرح العقائد النسفية : 185 - 186.

أفرغها في قالب الحديث جَمعٌ من وعّاظ السلاطين ومرتزقتهم تحفظاً على عروشهم وحفظاً لمناصبهم ، وإليك بعض تلك الروايات الّتي رواها مسلم في صحيحه :

1. روى مسلم ، عن حذيفة بن اليمان ، قلت يا رسول اللّه ... إلى أن قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ولا يتسنّون بسنّتي ، وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان انس » قال : قلت كيف أصنع يا رسول اللّه إن أدركت ذلك ؟ قال : « تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع ».

2. وروى عن أبي هريرة عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة الجاهلية ... إلى أن قال : ومن خرج على أُمّتي يضرب بَرّها وفاجرها ، ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه ».

3. وروى عن ابن عباس أنّه قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنّه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية ».

4. روى عنه أيضاً ، عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « من رأى من أميره شيئاً فليصبر ، فإنّه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلاّ مات ميتة جاهلية ».

5. روي عن عبد اللّه بن عمر أنّه جاء إلى عبد اللّه بن مطيع - حين كان من أمر الحرّة ما كان زمن يزيد بن معاوية - فقال : اخرجوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال : إنّي ما أتيتك لأجلس ، أتيتك لأحدّثك حديثاً ، سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول :

ص: 429

« من خلع يداًمن طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ».

وقد فسر قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ابن عمر بلزوم بيعة يزيد وإطاعته حتّى في مسألة الحرة.

6. روي عن أُمّ سلمة أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « ستكون أُمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع » قالوا : يا رسول اللّه ! ألا نقاتلهم ؟ قال : « لا ما صلّوا ».

7. وروي عن عوف بن مالك في حديث : قيل يا رسول اللّه أفلا ننابذهم بالسيف ؟ فقال : « لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ، ولا تنزعوا يداً من طاعته » (1).

وقد أورد ابن الأثير الجزري قسماً من هذه الأحاديث في جامع الأُصول (2).

8. روى البيهقي في سننه عن أبي هريرة قال ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « سيكون بعدي خلفاء يعملون بما يعلمون ، ويفعلون بما يؤمرون ، وسيكون بعدهم خلفاء يعملون بما لا يعلمون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن أنكر عليهم برئ ، ومن أمسك يده سلم ، ولكن من رضي وتابع » (3).

9. وروى ابن عبد ربّه ، عن عبد اللّه بن عمر : إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر ، وإذا كان الإمام جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر (4).

ص: 430


1- صحيح مسلم باب الأمر بلزوم الجماعة : 6 ، وباب حكم من فرق أمر المسلمين : 20 - 24.
2- لاحظ جامع الأُصول : 4 ، الكتاب الرابع في الخلافة والامارة ، الفصل الخامس : 451 ... الخ.
3- السنن الكبرى : 8 / 158.
4- العقد الفريد : 1 / 8.

وقبل كل شيء يجب علينا أن نعرض تلك الروايات على كتاب اللّه سبحانه فإنّه المحك الأوّل لتشخيص الحديث الصحيح من السقيم.

قال سبحانه حاكياً عن العصاة والكفّار : ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) (1).

فهذا القسم من الآيات يندد بقول من يرى وجوب طاعة السلطان الظالم الّتي توجب ضلالة المطيع لهم عن السبيل السوي ، وثمّة آيات تندد بعمل من يصبر على عمل الطاغية من دون أن يأمره بالمعروف اوينهاه عن المنكر ، وترى نفس السكوت والصبر على طغيان الطاغية جرماً وإثماً موجباً للهلاك ، وهذه الآيات هي الواردة حول قوم من بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون قرب ساحل من سواحل البحر فتقسمهم إلى أصناف ثلاثة :

الأوّل : الجماعة المعتدية العادية الّتي رفضت حكم اللّه سبحانه حيث حرم عليهم صيد البحر يوم السبت قال سبحانه : ( إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ) (2).

الثاني : الجماعة الساكتة الّتي أهمّتهم أنفسهم لا يرتكبون ما حرم اللّه وفي الوقت نفسه لا ينهون الجماعة العادية عن عدوانها ، بل كانوا يعترضون على الجماعة الثالثة الّتي كانت تقوم بواجبها الديني من إرشاد الجاهل والقيام في وجه العاصي والطاغي ، بقولهم : ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) (3).

ص: 431


1- الأحزاب : 66 - 68.
2- الأعراف : 163.
3- الأعراف : 164.

الثالث : الجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر محتسبين ذلك وظيفة دينية عريقة ونصيحة لازمة للإخوان ، وقد حكى اللّه سبحانه على لسانهم في محكم كتابه العزيز حيث قال : ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (1).

نرى أنّ اللّه سبحانه أباد الطائفتين الأُوليين وأنجى الثالثة قال سبحانه : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) (2).

فالآية الآخيرة صريحة في حصر النجاة في الناهين عن السوء فقط ، دون العادين والساكتين على عدوانهم ، فلو كان السكوت والصبر على عدوان العادين أمراً جائزاً ، لماذا عمّ العذاب كلتا الطائفتين ؟! أو ما كان في وسع هؤلاء أن يعتذروا للقائمين بالأمر بالمعروف ، بأنّ في القيام والخروج وحتّى في النصيحة بالقول تضعيفاً لقوّة الأُمّة وفكّاً لعراها ؟

فلو دلّت الآية الأُولى على حرمة طاعة الظالم ودلّت الآية الثانية على حرمة السكوت في مقابل طغيان العادين ، فهناك آية ثالثة تدل على حرمة الركون إلى الظالم يقول سبحانه : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (3).

أوليس تأييد الحاكم الجائر والدعاء له في الجمعة والجماعات ، وإقامة الصلاة بأمره ، وإدارة كل شأن خوّل منه إليه ، يعد ركوناً إلى الظالم ؟ فما هو جواب هؤلاء المرتزقة في الدول الإسلامية اصطلاحاً الذين يعترفون بجور حكامهم وانحرافهم عن الصراط السوي ، ومع ذلك يدعون لهم عقب خطب الجماعات بطول العمر ودوام السلامة ، ويديرون الشؤون الدينية حسب الخطط الّتي يرسمها

ص: 432


1- الأعراف : 164.
2- الأعراف : 165.
3- هود : 113.

ويصورها لهم أُولئك الحكام ، الذين يعدّهم أُولئك المرتزقة محاور ومراكز ، وأنفسهم أقماراً تدور في أفلاكها ، اللّهمّ إلاّ أن يعتذر هؤلاء بعدم التمكّن ممّا يجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مراتبهما المختلفة ، ولكنّه عذر لا يقبل في كثير من الأحيان ، وعلى ذلك الأساس فما قيمة تلك الروايات المعارضة لنصوص الكتاب وصريح الذكر الحكيم.

أضف إلى ذلك أنّ هناك روايات تنفي صحة الروايات السابقة وتجعلها في مدحرة البطلان ، وقد نقلها أصحاب الصحاح والسنن أيضاً ، وعند المعارضة يؤخذ من السنّة الشريفة ما يوافق كتاب اللّه الحكيم ، وإليك نزراً من تلك الروايات :

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اسمعوا سيكون بعدي أُمراء ، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ، فليس مني ولست منه ، وليس بوارد عليّ الحوض » (1).

هذا بعض ما لدى السنّة من الروايات وأمّا ما لدى الشيعة فنأتي ببعضها عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انّه قال : « ألا ومن علّق سوطاً بين يدي سلطان جعل اللّه ذلك السوط يوم القيامة ثعباناً من النار طوله سبعون ذراعاً يسلطه اللّه عليه في نار جهنم وبئس المصير ».

وعنه صلی اللّه علیه و آله أيضاً أنّه قال : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين أعوان الظلمة ، ومن لاق لهم دواة أو ربط لهم كيساً ، أو مدّ لهم مدة قلم ، فاحشروهم معهم ».

وعنه صلی اللّه علیه و آله انّه قال : « من خف لسلطان جائر في حاجة كان قرينه في النار ».

ص: 433


1- جامع الأُصول : 4 / 75 ، نقلاً عن الترمذي والنسائي.

وقال صلی اللّه علیه و آله : « ما اقترب عبد من سلطان جائر إلاّ تباعد من اللّه ».

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام أنّه قال : « من أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يُعصى اللّه ».

وعنه علیه السلام أنّه قال : « من سوّد اسمه في ديوان الجبّارين ... حشره اللّه يوم القيامة حيراناً ».

وعنه علیه السلام أنّه قال : « من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم فقد خرج عن الإسلام ».

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمد علیه السلام أنّه قال : « ما أحب أنّي عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء وإنّ لي ما بين لابتيها ، لا ولا مدّة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم اللّه بين العباد » (1).

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته المعصومين علیهم السلام الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر ، والحاثّة على زجره ودفعه ، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة ، فهذه الأحاديث تدل على أنّ ما مرَّ من الروايات الحاثة على السكوت عن الحاكم الظالم ، والانصياع لحكمه ، والتسليم لظلمه ، والرضا بجوره ، جميعها ممّا لفّقه رواة السوء والجور بإيعاز من السلطات الحاكمة في تلك العصور المظلمة ، فنسبوها إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وهو صلی اللّه علیه و آله منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسنّة.

ولو لم يكن في المقام إلاّ قول علي علیه السلام في خطبته : « ... وما أخذ اللّه على

ص: 434


1- راجع لمعرفة هذه الأحاديث وسائل الشيعة : 12 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به ، الأحاديث 6 ، 10 ، 11 ، 12 ، 14 ، 15 ، والباب 44 من نفس الأبواب الحديث 5 و 6.

العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ... » (1) لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبي صلی اللّه علیه و آله .

وفي ختام الكلام نلفت نظر القارئ الكريم إلى ما ألقاه الإمام أبو الشهداء الحسين بن علي علیه السلام إلى أهالي الكوفة حيث خطب أصحابه ، وأصحاب الحر - قائد جيش عبيد اللّه بن زياد آنذاك - فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : « أيّها الناس انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم اللّه ، ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله ، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام اللّه وحرموا حلاله وأنا أحق من غَيَّر » (2).

وهذه النصوص الرائعة المؤيدة بالكتاب والسنّة وسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين قاموا في وجه الطغاة من بني أُمية وبني العباس ، تشهد بأنّ ما نسب إلى الصحابة والتابعين من الاستسلام والسكوت على ظلم الظالمين لكون ذلك من عقيدتهم الإسلامية ، ما هو إلاّ بعض مفتعلات أصحاب العروش ، وقد وضعها وعاظهم ومرتزقتهم ، وإلاّ فالطيبون - من الصحابة والتابعين - بريئون من هذه النسبة.

صراع بين العقيدة والوجدان

نرى أنّ بعض الشباب المسلم في البلاد الإسلامية قد انخرطوا في الأحزاب

ص: 435


1- نهج البلاغة : الخطبة 3.
2- تاريخ الطبري : 5 / 204 حوادث سنة 61 ه.

السياسية ، ورفضوا الدين من أساسه ، ولعل بعض السبب هو أنّهم وجدوا في أنفسهم صراعاً عنيفاً بين العقيدة والوجدان ، فمن جانب توحي إليهم فطرتهم وعقيدتهم الإنسانية السليمة ، إلى أنّه تجب مكافحة الظالمين ، والخروج عليهم ، ونصرة المظلومين ، وأخذ حقوقهم من أيدي الظالمين ، ومن جانب آخر يسمعون من علماء الدين أو المتزيّين بلباسه ، أنّه لا يجوزالخروج على السلطان ، بل تجب طاعته وإن أمر بالظلم والعدوان ، فحينئذ يقع الشاب في حيرة من أمره بين اتّباع الفطرة والعقل السليم ، واتّباع كلام هؤلاء العلماء الذين ينطقون باسم الدين خصوصاً إذا كان المتكلم رجلاً يكن المجتمع له الاحترام والإكبار ، ويعرفه التاريخ بالخطيب الزاهد كالحسن البصري ، فإنّه عندما سئل عن مقاتلة الحجّاج ذلك السيف المشهور على الأُمّة والإسلام فأجاب : « أرى أن لا تقاتلوه ، فإنّها إن تكن عقوبة من اللّه ، فما أنتم برادّيها ، وإن يكن بلاءً فاصبروا حتّى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين » فخرج السائلون من عنده وهم يقولون مستنكرين ما سمعوا منه : أنطيع هذا العلج ، ثم خرجوا مع ابن الأشعث على قتال الحجاج (1).

فإذا سمع الشاب الثوري هذه الكلمة من عميد الدين وخطيبه - كما يقال - عاد يصف جميع رجال الدين بما وُصِفَ به الحسن البصري ، وبالتالي يخرج من الدين ويتركه ، ويصف الدين سناداً للظالم وملجأ له.

وفي الختام نوجّه نظر الأعلام من السنّة إلى خطورة الموقف في هذه الأيام ، وأنّ أعداء الإسلام لبالمرصاد يصطادون الشباب بسهام الدعاية الكاذبة ، ويعرّفون الإسلام بأنّه سند الظالمين ، وركن الجائرين بحجة أنّه ينهى عن الخروج على السلطان الجائر.

ص: 436


1- الطبقات الكبرى : 7 / 164.

والمسلم غير العارف بالدين وما أُلصق به ، لا يميز بين الحقيقة الناصعة وبين ما أُلبس عليها من ثوب رديء قاتم.

وليس هذا أوّل ولا آخر مورد يجد الشاب الثوري صراعاً في نفسه بين العقلية الإنسانية وبين الدعاية الكاذبة عن الإسلام ، فيختار وحي الفطرة ويصبح ثائراً على القوى الطاغية ، ويظن انّه ترك الإسلام باعتقاد أنّ المتروك هو الدين الحقيقي الّذي أنزله اللّه تعالى على النبي محمد صلی اللّه علیه و آله ، وهذه الجريمة متوجهة بالدرجة الأُولى على هذا النمط من العلماء.

فواجب على علماء الدين أن يرجعوا إلى المصادر الإسلامية الصحيحة في تشخيص ما هو من صميم الدين عمّا أُلصق به ، ولا يقتنعوا بما كتب باسم الدين عن السلف الصالح ، وليس كل ما نسب إلى السلف الصالح أو قالوا به صميم الدين ، كما أنّه ليس كل سلف صالحاً ، بل هم بين صالح وطالح ، وسعيد وشقي ، وعالم وجاهل ، وليس كل سلف أفضل وأتقى وأعلم من كل خلف ، فليدرسوا الأُصول المسلّمة من رأس ، نعم لا أكتم أنّ هناك أُناساً واقفين على الحقيقة ، ولكن لا تقتضي مصالحهم الشخصية إظهارها وقد نزل فيهم قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (1) ، كما أنّ بينهم شخصيات لامعة جاهروا بالحقيقة واصحروا بها واشتروا رضا الرب بأثمان غالية وتضحيات ثمينة.

ص: 437


1- البقرة : 159.

2

عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان

اشارة

عدالة الصحابة كلهم بلا استثناء ، ونزاهتهم من كل سوء هي إحدى الأُصول الّتي يتدين بها أهل السنّة ، وقد راجت تلك العقيدة بينهم حتّى اتخذها الإمام الأشعري إحدى الأُصول الّتي يبتني عليها مذهب أهل السنّة جميعاً (1). ونحن نعرض هذه العقيدة على الكتاب أوّلاً ، وعلى السنّة النبوية الصحيحة ثانياً ، والتاريخ ثالثاً ، حتّى يتجلّى الحق بأجلى مظاهره إن شاء اللّه تعالى ، وقبل أن ندخل في صلب المسألة نقدّم تعريف الصحابي فنقول :

من هو الصحابي ؟

إنّ هناك تعاريف مختلفة للصحابي نأتي ببعضها على وجه الإجمال :

1. قال سعيد بن المسيب : الصحابي لا نعدّه إلاّ من أقام مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين.

2. قال الواقدي : رأينا أهل العلم يقولون : كل من رأى رسول اللّه ، وقد

ص: 438


1- مقالات الإسلاميين : 1 / 323. يقول : ويعرفون حق السلف الذين اختارهم اللّه سبحانه بصحبة نبيه صلی اللّه علیه و آله ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عمّا شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم.

أدرك فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه ، فهو عندنا ممّن صحب رسول اللّه ، ولو ساعة من نهار ، ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدمهم في الإسلام.

3. قال أحمد بن حنبل : أصحاب رسول اللّه كل من صحبه شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه.

4. قال البخاري : من صحب رسول اللّه أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.

5. وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب : لا خلاف بين أهل اللغة في أنّ الصحابي مشتق من الصحبة قليلاً كان أو كثيراً ، ثم قال : ومع هذا فقد تقرّر للأُمّة عرف ، فإنّهم لا يستعملون هذه التسمية إلاّ في من كثرت صحبته ولا يجيزون ذلك إلاّ فيمن كثرت صحبته لا على من لقيه ساعة أو مشي معه خطى ، أو سمع منه حديثاً ، فوجب ذلك أن لا يجري هذا الاسم إلاّ على من هذه حاله ، ومع هذا فإنّ خبر الثقة الأمين عنه مقبول ومعمول به ، وإن لم تطل صحبته ولا سمع عنه حديثاً واحداً.

6. وقال صاحب الغوالي : لا يطلق اسم الصحبة إلاّ على من صحبه ثم يكفي في الاسم من حيث الوضع ، الصحبة ولو ساعة ، ولكن العرف يخصصه بمن كثرت صحبته.

قال الجزري بعد ذكر هذه النقول : قلت : وأصحاب رسول اللّه على ما شرطوه كثيرون ، فإنّ رسول اللّه شهد حنيناً ومعه اثنا عشر ألف سوى الأتباع والنساء ، وجاء إليه « هوازن » مسلمين فاستنقذوا حريمهم وأولادهم ، وترك مكة مملوءة ناساً وكذلك المدينة أيضاً ، وكل من اجتاز به من قبائل العرب كانوا مسلمين ، فهؤلاء كلّهم لهم صحبة وقد شهد معه تبوك من الخلق الكثير ما لا

ص: 439

يحصيهم ديوان ، وكذلك حجّة الوداع وكلّهم له صحبة (1).

ولا يخفى أنّ التوسع في مفهوم الصحابي على الوجه الّذي عرفته في كلماتهم ممّا لا تساعده اللغة والعرف العام ، فإنّ صحابة الرجل عبارة عن جماعة تكون لهم خلطة ومعاشرة معه مدّة مديدة فلاتصدق على من ليس له حظ إلا الرؤية من بعيد ، أو سماع الكلام ، أو المكالمة أو المحادثة فترة يسيرة ، أو الإقامة معه زمناً قليلاً.

وأظن أنّ في هذا التبسيط والتوسع غاية سياسية لما سيوافيك من أنّ النبي قد تنبّأ بارتداد ثلة من أصحابه بعد رحلته فأرادوا بهذا التبسيط صرف هذه النصوص إلى الأعراب وأهل البوادي ، الذين لم يكن لهم حظ من الصحبة إلاّ اللقاء القصير ، وسيأتي انّ هذه النصوص راجعة إلى الملتفين حوله الذين كانوا مع النبي ليلاً ونهاراً ، صباحاً ومساءً إلى حد كان النبي يعرفهم بأعيانهم وأشخاصهم وأسمائهم ، فكيف يصحّ صرفها إلى أهل البوادي والصحاري من الأعراب ؟! فتربص حتّى تأتيك النصوص.

وعلى كل تقدير فلسنا في هذا البحث بصدد تعريف الصحابة وتحقيق الحق بين هذه التعاريف غير انّا نركز الكلام في أنّ أهل السنّة يقولون بعدالة هذا الجمع الغفير المدعوين باسم الصحابة ، وإليك كلماتهم :

عدالة الصحابة جميعهم

قال ابن عبد البر : ثبتت عدالة جميعهم (2).

ص: 440


1- أسد الغابة : 1 / 12 ، ط دار إحياء التراث العربي بيروت.
2- الاستيعاب في أسماء الأصحاب : 1 / 2 في هامش « الإصابة ».

وقال ابن الأثير : إنّ السنن الّتي عليها مدار تفصيل الأحكام ومعرفة الحلال والحرام إلى غير ذلك من أُمور الدين ، إنّما تثبت بعد معرفة رجال أسانيدها ورواتها ، وأوّلهم والمقدّم عليهم أصحاب رسول اللّه فإذا جهلهم الإنسان كان بغيرهم أشدّ جهلاً وأعظم إنكاراً ، فينبغي أن يعرفوا بأنسابهم وأحوالهم ، هم وغيرهم من الرواة حتّى يصحّ العمل بما رواه الثقات منهم وتقوم به الحجّة فإنّ المجهول لا تصحّ روايته ولا ينبغي العمل بما رواه ، والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلاّ في الجرح والتعديل ، فإنّهم كلهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح ، لأنّ اللّه عزّ وجلّ ورسوله زكياهم وعدلاهم ، وذلك مشهور لا نحتاج لذكره (1).

وقال الحافظ ابن حجر في الفصل الثالث من « الإصابة » : اتفق أهل السنّة على أنّ الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة ، وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلاً نفيساً في ذلك فقال : عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل اللّه لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم ، ثم نقل عدّة آيات حاول بها إثبات عدالتهم وطهارتهم جميعاً - إلى أن قال : - روى الخطيب بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول اللّه فاعلم أنّه زنديق ، وذلك أنّ الرسول حق ، والقرآن حق ، وما جاء به حق ، وانّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة ، والجرح بهم أولى وهم زنادقة (2). هذه كلمات القوم ، وكم لها من نظائر نتركها طلباً للاختصار.

ص: 441


1- أسد الغابة : 1 / 3.
2- الإصابة : 1 / 17.
تقييم نظرية عدالة الصحابة كلّهم

تقييم هذه النظرية يتم بتبيين أُمور :

1. انّ البحث عن عدالة الصحابي أو جرحه ليس لغاية إبطال الكتاب والسنّة ، ولا لإبطال شهود المسلمين ، لما سيوافيك من أنّ الكتاب شهد على فضل عدة منهم ، وزيغ آخرين ، وهكذا السنّة ، والغاية في هذا البحث هي الغاية في البحث عن عدالة التابعين ومن تلاهم من رواة القرون المختلفة ، فالغاية في الجميع هي التعرّف على الصالحين والطالحين ، حتّى يتسنّى لنا أخذ الدين عن الصلحاء ، والتنزّه عن أخذه عن غيرهم ، فلو قام الرجل بهذا العمل وتحمّل العبء الثقيل ، لما كان عليه لوم ، فلو قال أبو زرعة مكان قوله الآنف ، هذا القول : « إذا رأيت الرجل يتفحّص عن أحد من أصحاب الرسول لغاية العلم بصدقه أو كذبه ، أو خيره أو شرّه ، حتّى يأخذ دينه عن الخيرة الصادقين ، ويحترز عن الآخرين ، فاعلم أنّه من جملة المحققين في الدين والمتحرين للحقيقة » لكان أحسن وأولى ، بل هو الحسن والمتعين.

ومن غير الصحيح أن يتهم العالم أحداً يريد التثبّت في أُمور الدين والتحقيق في مطالب الشريعة « بالزندقة » وأنّه يريد جرح شهود المسلمين لإبطال الكتاب والسنّة ، وما شهود المسلمين إلاّ الآلاف المكتظة من أصحابه صلی اللّه علیه و آله ، فلا يضر بالكتاب والسنّة جرح لفيف منهم وتعديل قسم منهم ، وليس الدين القيم قائماً بهذا الصّنف من المجروحين. « ما هكذا تورد يا سعد الإبل » !!

2. انّ هذه النظرية تكونت من العاطفة الدينية الّتي حملها المسلمون تجاه الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وجرتهم إلى تبنّي تلك الفكرة ، وقد قيل : « من عشق شيئاً عشق لوازمه وآثاره ».

ص: 442

إنّ صحبة الصحابة لم تكن بأكثر ولا أقوى من صحبة امرأة نوح وامرأة لوط فما أغنتهما عن اللّه شيئاً ، قال سبحانه : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (1).

إنَّ التشرّف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازاً وتأثيراً من التشرّف بالزواج من النبي ، وقد قال سبحانه في شأن أزواجه : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ) (2).

3. انّ أساتذة العلوم التربوية كشفوا عن قانون مجرّب وهو أنّ الإنسان الواقع في إطار التربية ، إنّما يتأثّر بعواملها إذا لم تكمل شخصيته الروحية والفكرية ، لأنّ النفوذ في النفوس المكتملة شخصية والتأثير عليها والثورة على أفكارها وروحياتها ، يكون صعباً جداً ( لا أقول أمراً محالاً ) بخلاف ما إذا كان الواقع في إطارها صبيّاً يافعاً ، أو شاباً في عنفوان السن ، إذ عندئذ يكون قلبه وروحه كالأرض الخالية ينبت فيها ما أُلقي بها ، وعلى هذا الأساس لا يصح لنا أنْ نقول : إنّ الصحبة والمجالسة وسماع بعض الآيات والأحاديث ، أوجدت ثورة عارمة في صحابة النبي صلی اللّه علیه و آله وأزالت شخصياتهم المكونة طيلة سنين في العصر الجاهلي ، وكوّنت منهم شخصيات عالية تعد مثلاً للفضل والفضيلة ، مع أنّهم متفاوتون في السن ومقدار الصحبة ، مختلفون في الاستعداد والتأثّر ، وحسبك أنّ بعضهم أسلم وهو صبيٌ لم يبلغ الحلم ، وبعضهم أسلم وهو في أُوليات شبابه ، كما أسلم بعضهم في الأربعينات والخمسينات من أعمارهم إلى أن أسلم بعضهم وهو شيخ طاعن في

ص: 443


1- التحريم : 10.
2- الأحزاب : 30.

السن يناهز الثمانين والتسعين.

فكما أنّهم كانوا مختلفين في السن عند الانقياد للإسلام ، كذلك كانوا مختلفين أيضاً في مقدار الصحبة فبعضهم صحب النبي صلی اللّه علیه و آله من بدء البعثة إلى لحظة الرحلة ، وبعضهم أسلم بعد البعثة وقبل الهجرة ، وكثير منهم أسلموا بعد الهجرة ، وكثير منهم أسلموا بعد الهجرة ، وربما أدركوا من الصحبة سنة اوشهراً أو أياماً أو ساعة ، فهل يصح أن نقول : إنّ صحبة ما قلعت ما في نفوسهم جميعاً من جذور غير صالحة وملكات رديئة وكوّنت منهم شخصيات ممتازة أعلى وأجل من أن يقعوا في إطار التعديل والجرح ؟

إنّ تأثير الصحبة عند من يعتقد بعدالة الصحابة كلّهم أشبه شيء بمادة كيمياوية تستعمل في تحليل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب ، فكأنّ الصحبة قلبت كلَّ مصاحب إلى إنسان مثالي يتحلّى بالعدالة ، وهذا ممّا يردّه المنطق والبرهان السليم ، وذلك لأنّ الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله لم يقم بتربية الناس وتعليمهم عن طريق الإعجاز ( فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) (1) ، بل قام بإرشاد الناس ودعوتهم إلى الحق وصبّهم في بوتقات الكمال مستعيناً بالأساليب الطبيعية والإمكانيات الموجودة ، كتلاوة القرآن الكريم ، والنصيحة بكلماته النافذة وسلوكه القويم ، وبعث رسله ، ودعاة دينه إلى الأقطار ، ونحو ذلك ، والدعوة القائمة على هذا الأساس ، يختلف أثرها في النفوس حسب اختلاف استعدادها وقابلياتها ، فلا يصح لنا أن نرمي الجميع بسهم واحد.

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة : أنّ الأُصول التربوية تقضي بأنّ بعض الصحابة يمكن أن يصل في قوّة الإيمان ورسوخ العقيدة إلى درجات عالية ، كما

ص: 444


1- الأنعام : 149.

يمكن أن يصل بعضهم في الكمال والفضيلة إلى درجات متوسطة ، ومن الممكن أن لا يتأثر بعضهم بالصحبة وسائر العوامل المؤثرة إلاّ شيئاً طفيفاً لا يجعله في صفوف العدول وزمرة الصالحين.

هذا هو مقتضى التحليل حسب الأُصول النفسية والتربوية غير أنّ البحث لا يكتمل ، ولا يصح القضاء البات إلاّ بالرجوع إلى القرآن الكريم حتى نقف على نظره فيهم كما تجب علينا النظرة العابرة إلى كلمات الرسول في حقّهم ، وملاحظة سلوكهم وحياتهم في زمنه صلی اللّه علیه و آله وبعده.

الصحابة في الذكر الحكيم
اشارة

نرى أنّ الذكر الحكيم يصنّف صحابة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ويمدحهم في ضمن أصناف نأتي ببعضها :

1. السابقون الأوّلون

يصف الذكر الحكيم السابقين الأوّلين من المهاجرين والانصار والتابعين لهم بأنّ اللّه رضي عنهم وهم رضوا عنه ، قال عزّ من قائل : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1).

2. المبايعون تحت الشجرة

يصف سبحانه جماعة من الصحابة الذين بايعوه تحت الشجرة بنزول

ص: 445


1- التوبة : 100.

السكينة عليهم ويقول في محكم كتابه : ( لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) (1).

3. المهاجرون

وهؤلاء الذين يصفهم تعالى ذكره بقوله : ( لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) (2).

أصحاب الفتح

هؤلاء هم الذين وصفهم اللّه سبحانه وتعالى في آخر سورة الفتح بقوله : ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) (3).

الأصناف الأُخرى للصحابة
اشارة

فالناظر المخلص المتجرّد عن كل رأي مسبق ، يجد في نفسه تكريماً لهؤلاء

ص: 446


1- الفتح : 18.
2- الحشر : 8.
3- الفتح : 29.

الصحابة غير أنّ القضاء البات في عامة الصحابة ، يستوجب النظر إلى كل الآيات القرآنية الواردة في حقّهم ، فعندئذ يتبيّن لنا أنّ هناك أصنافاً أُخرى من الصحابة غير ما سبق ذكرها ، تمنعنا من أن نضرب الكل بسهم واحد ، ونصف الكل بالرضا والرضوان ، وهذا الصنف من الآيات يدل بوضوح على وجود مجموعات من الصحابة تضاد الأصناف السابقة في الخلقيات والملكات والسلوك والعمل ، وإليك قسطاً منهم :

1. المنافقون المعروفون

المنافقون المعروفون بالنفاق الذين نزلت في حقهم سورة « المنافقون » ، قال سبحانه : ( إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ... ) ( إلى آخر سورة المنافقون ).

فهذه الآيات تعرب بوضوح عن وجود كتلة قوية من المنافقين بين الصحابة آنذاك وكان لهم شأن ، فنزلت سورة قرآنية كاملة في حقّهم.

2. المنافقون المختفون

تدل بعض الآيات على أنّه كانت بين الأعراب القاطنين خارج المدينة ومن نفس أهل المدينة ، جماعة مردوا على النفاق وكان النبي الأعظم لا يعرف بعضهم ، ومن تلك الآيات قوله سبحانه : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا(1) عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ )(2) .

ص: 447


1- مردوا على النفاق : تمرنوا وتمرسوا عليه.
2- التوبة : 101.

لقد أعطى القرآن الكريم عناية خاصة بعصبة المنافقين وأعرب عن نواياهم وندّد بهم في السور التالية : البقرة ، آل عمران ، المائدة ، التوبة ، العنكبوت ، الأحزاب ، محمد ، الفتح ، الحديد ، المجادلة ، الحشر ، والمنافقون.

وهذا ان دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ المنافقين كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي بين معروف ، عرف بسمة النفاق ووصمة الكذب ، وغير معروف بذلك مُقنّع بقناع التظاهر بالإيمان والحب للنبي ، فلو كان المنافقون جماعة قليلة غير مؤثرة لما رأيت هذه العناية البالغة في القرآن الكريم وهناك ثلة من المحقّقين كتبوا حول النفاق والمنافقين رسائل وكتابات ، وقد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليهم فبلغ مقداراً يقرب من عشر القرآن الكريم (1). وهذا ان دلّ على شيء فإنّما يدل على كثرة أصحاب النفاق وتأثيرهم يوم ذاك في المجتمع الإسلامي ، وعلى ذلك لا يصح لنا الحكم بعدالة كل من صحب مع غض النظر عن تلك العصابة المجرمة ، المتظاهرة بالنفاق أو المختفية في أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله .

3. مرضى القلوب

وهذه المجموعة من الصحابة لم يكونوا من زمرة المنافقين ، بل كانوا يتلونهم في الروحيات والملكات مع ضعف في الإيمان والثقة باللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، قال سبحانه بحقهم : ( وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا ) (2).

فانّى لنا أنّ نصف مرضى القلوب الذين ينسبون خلف الوعد إلى اللّه سبحانه وإلى رسوله صلی اللّه علیه و آله بالتقوى والعدالة ؟

ص: 448


1- النفاق والمنافقون : تأليف الأُستاذ إبراهيم علي سالم المصري.
2- الأحزاب : 12.
4. السمّاعون

تلك المجموعة كانت قلوبهم كالريشة في مهب الريح تتمايل تارة إلى هؤلاء ، وأُخرى إلى أُولئك بسبب ضعف إيمانهم ، وقد حذّر الباري عزّ وجل المسلمين منهم حيث قال عز من قائل ، واصفاً إياهم بالسمّاعون لأهل الريب : ( إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (1) ، وذيل الآية دليل على كون السمّاعين من الظالمين لا من العدول.

5. خالطو العمل الصالح بالسيّء

وهؤلاء هم الذين يقومون بالصلاح والفلاح تارة ، والفساد والعبث مرة أُخرى ، فلأجل ذلك خلطوا عملاً صالحاً بعمل سيّء ، قال سبحانه : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) (2).

6. المشرفون على الارتداد

إنّ بعض الآيات تدلّ على أنّ مجموعة من الصحابة كانت قد أشرفت على الارتداد يوم دارت عليهم الدوائر ، وكانت الحرب بينهم وبين قريش طاحنة فأحسّوا بضعفهم ، وقد أشرفوا على الارتداد عرفهم الحق سبحانه بقوله : ( وَطَائِفَةٌ

ص: 449


1- التوبة : 45 - 47.
2- التوبة : 102.

قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) (1).

7. الفاسق

إنّ القرآن الكريم يحثّ المؤمنين وفي مقدمتهم الصحابة الحضور ، على التحرّز من خبر الفاسق حتى يتبيّن ، فمن هذا الفاسق الّذي أمر القرآن بالتحرز منه ؟ اقرأ أنت ما نزل حول الآية من شأن النزول واحكم بما هو الحق ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (2).

فإنّ من المجمع عليه بين أهل العلم انّه نزل في حق الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وذكره المفسّرون في تفسير الآية ، فلا نحتاج إلى ذكر المصادر.

كما نزل في حقّه قوله تعالى : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ ) (3). نقل الطبري في تفسيره باسناده إنّه كان بين الوليد وعلي ، كلام فقال الوليد : أنا أبسط منك لساناً وأحدّ منك سناناً وأرد منك للكتيبة ، فقال علي علیه السلام : « اسكت فإنّك فاسق » فأنزل اللّه فيهما : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ ) (4).

وقد نظم الحديث حسان بن ثابت ( شاعر عصر الرسالة ) وقال :

ص: 450


1- آل عمران : 154.
2- الحجرات : 6.
3- السجدة : 18.
4- تفسير الطبري : 21 / 62 ; تفسير ابن كثير : 3 / 462.

أنزل اللّه والكتاب عزيز *** في علي وفي الوليد قرآنا

فتبوّأ الوليد إذ ذاك فسقاً *** وعلي مبوّأ إيمانا

ليس من كان مؤمناً عرف *** اللّه كمن كان فاسقاً خوّانا

سوف يدعى الوليد بعد قليل *** وعلي إلى الحساب عيانا

فعلي يجزى بذاك جناناً *** ووليد يجزى بذاك هوانا (1)

أفهل يمكن لباحث حر ، التصديق بما ذكره ابن عبد البر وابن الأثير وابن حجر وفي مقدمتهم أبو زرعة الرازي الّذي هاجم المتفحّصين المحقّقين في أحوال الصحابة واتّهمهم بالزندقة.

8. المسلمون غير المؤمنين

إنّ القرآن يعد جماعة من الأعراب الذين رأوا النبي وشاهدوه وتكلّموا معه ، مسلمين غير مؤمنين وانّهم بعد لم يدخل الإيمان في قلوبهم قال سبحانه : ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (2).

أفهل يصح عد عصابة غير مؤمنين من العدول الأتقياء ؟!

9. المؤلّفة قلوبهم

اتفق الفقهاء على أنّ المؤلّفة قلوبهم ممّن تصرف عليهم الصدقات ، قال

ص: 451


1- تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : 115 ; « كفاية » الگنجي : 55 ; مطالب السؤول : 20 ; شرح النهج : 2 / 103 ، الطبعة القديمة ; جمهرة الخطب : 2 / 23 ; لاحظ الغدير : 2 / 42.
2- الحجرات : 14.

سبحانه : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).

والمراد من ( وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) : الذين كانوا في صدر الإسلام ممّن يظهرون الإسلام ، يتألّفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم ، وهناك أقوال أُخرى فيهم متقاربة ، والكل يهدف إلى الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلاّ بالعطاء (2).

10. المولّون أمام الكفّار

إنّ التولّي عن الجهاد والفرار منه ، من الكبائر الموبقة الّتي ندّد بها سبحانه بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ) (3).

إنّ التحذير من التولّي والفرار من الزحف ، والحثّ على الصمود أمام العدو ، لم يصدر من القرآن إلاّ بعد فرار مجموعة كبيرة من صحابة النبي في غزوة « أُحد » و « حنين ».

أمّا الأوّل ، فيكفيك قول ابن هشام في تفسير الآيات النازلة في أُحد ، قال : ثم أنّبهم بالفرار عن نبيّهم وهم يدعون ، لا يعطفون عليه لدعائه إيّاهم فقال :

ص: 452


1- التوبة : 60.
2- تفسير القرطبي : 8 / 187. لاحظ المغني لابن قدامة : 2 / 556.
3- الأنفال : 15 - 16.

( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ) .

وأمّا الثاني : فقد قال ابن هشام فيه أيضاً : فلمّا انهزم الناس ورأى من كان مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من جفاة أهل مكة ، الهزيمة ، تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وصرخ جبلة بن حنبل : ألا بطل السحر اليوم ... (1).

أفبعد هذا يصح أن يعد جميع الصحابة بحجة أنّهم رأوا نور النبوة عدولاً أتقياء ؟!

قال القرطبي في « تفسيره » قد فرّ الناس يوم « أُحد » وعفا اللّه عنهم ، وقال اللّه فيهم يوم حنين : ( ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) ثم ذكر فرار عدة من أصحاب النبي من بعض السرايا (2).

هذا الإمام الواقدي يرسم لنا تولّي الصحابة منهزمين ويقول : فقالت أُم الحارث فمر بي عمر بن الخطاب ، فقالت أُم الحارث : يا عمر ما هذا ؟ فقال عمر : « أمر اللّه » ، وجعلت أُم الحارث تقول : يا رسول اللّه من جاوز بعيري فاقتله (3).

هذه هي الأصناف العشرة من صحابة النبي ممّن لا يمكن توصيفهم بالعدالة والتقوى ، أتينا بها في هذه العجالة مضافاً إلى الأصناف المضادة لها ، ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى الآيات الواردة في أوائل سورة البقرة وسورة النساء

ص: 453


1- سيرة ابن هشام : 3 / 114 و 4 / 444. ولاحظ التفاسير.
2- تفسير القرطبي : 7 / 383.
3- مغازي الواقدي : 3 / 904. انّ تعليل الفرار عن الزحف بقضاء اللّه كتعليل عباد الأوثان شركهم به كما في قوله سبحانه حاكياً عن المشركين : ( لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا ) ( الأنعام : 148 ) وتلزم من ذلك تبرئة العصاة والكفّار ، لأنّ أعمالهم كلّها بقضاء منه.

وغيرها من الآيات القرآنية ، فترى فيها أنّ الإيمان بعدالة الصحابة مطلقاً خطأ في القول ، وزلة في الرأي ، يضاد نصوص الذكر الحكيم ، ولم يكن الصحابة إلاّ كسائر الناس ، فيهم صالح تقي بلغ القمة في التقى والنزاهة ، وفيهم طالح شقي سقط إلى هوة الشقاء والدناءة ، ولكن الّذي يميّز الصحابة عن غيرهم انّهم رأوا نور النبوة وتشرّفوا بصحبة النبي صلی اللّه علیه و آله وشاهدوا معجزاته في حلبة المباراة بأُمّ أعينهم ، ولأجل ذلك تحمّلوا مسؤولية كبيرة أمام اللّه وأمام رسوله وأمام الأجيال المعاصرة لهم واللاحقة بهم ، فإنّهم ليسوا كسائر الناس فزيغهم وميلهم عن الحق أشد لا يعادل زيغ أكثر الناس وانحرافهم ، وقد قال سبحانه في حق أزواج النبي صلی اللّه علیه و آله : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ) (1) ، فلو انحرف هؤلاء فقد انحرفوا في حال شهدوا النور ، ولمسوا الحقيقة ، وشتان الفرق بينهم وبين غيرهم.

الصحابة في السنّة النبوية

إذا راجعنا الصحاح والمسانيد نجد انّ أصحابها أفردوا باباً بشأن فضائل الصحابة ، إلاّ أنّهم لم يفردوا باباً في مثالبهم ، بل أقحموا ما يرجع إلى هذه الناحية في أبواب أُخر ستراً لمثالبهم ، وقد ذكرها البخاري في الجزء التاسع من صحيحه في باب الفتن ، وأدرجها ابن الأثير في جامعه في أبواب القيامة عند البحث عن الحوض ، والوضع الطبيعي لجمع الأحاديث وترتيبها كان يقتضي عقد باب مستقل للمثالب في جنب الفضائل حتّى يطّلع القارئ على قضاء السنّة حول صحابة النبي الأكرم.

روى أبو حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « أنا فرطكم على

ص: 454


1- الأحزاب : 32.

الحوض من ورد شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم ... » قال أبو حازم : فسمع النعمان بن أبي عياش وأنا أُحدّثهم بهذا الحديث فقال : هكذا سمعت سهلاً يقول ؟ فقلت : نعم. قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيقول : « إنّهم مني » ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : « سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي ». أخرجه البخاري ومسلم (1).

وظاهر الحديث أنّ المراد بقرينة « بدّل بعدي » أصحابه الذين عاصروه وصحبوه وكانوا معه مدة ثم مضوا.

روى البخاري ومسلم أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي - أو قال من أُمّتي - فيحلؤون عن الحوض ، فاقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، انّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى » (2).

ثم قال : وللبخاري : أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلمّ ، فقلت : أين ؟ فقال : إلى النار واللّه ، فقلت : ما شأنهم ؟ قال : إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة أُخرى حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال لهم : هلمّ ، قلت : إلى أين ؟ قال : إلى النار واللّه ، قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنّهم قد ارتدوا على أدبارهم ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم » (3).

ص: 455


1- جامع الأُصول : 11 / 120 ، الحديث 7972 ، كتاب الحوض في ورود الناس عليه. و « الفرط » : المتقدّم قومه إلى الماء ويستوي فيه الواحد والجمع، يقال رجل فرط وقوم فرط.
2- جامع الأُصول : 11 / 120 ، الحديث 7973.
3- جامع الأُصول : 11 / 121. و « همل النعم » كناية عن أنّ الناجي عدد قليل.

وظاهر الحديث بقرينة « حتّى إذا عرفتهم » وقوله : « ارتدوا على أدبارهم القهقرى » أنّ الذين أدركوا عصره وكانوا معه هم الذين يرتدون بعده.

الصحابة والتاريخ المتواتر

كيف يمكن عد الصحابة جميعاً عدولاً والتاريخ بين أيدينا نرى أنّ بعضهم ظهر عليه الفسق في حياة النبي وبعدها كوليد بن عقبة.

أمّا ظهور الفسق في حياة النبي صلی اللّه علیه و آله : فقد عرفت نزول الآية في حقّه.

وأمّا ظهوره بعدها : فقد روى أصحاب السير والتاريخ أنّ الوليد بن عقبة أيام ولايته بالكوفة شرب الخمر ، وقام ليصلّي بالناس صلاة الفجر ، فصلّى أربع ركعات وكان يقول في ركوعه وسجوده : اشربي واسقني ، ثم قام في المحراب ، ثم سلم وقال : هل أزيدكم ، إلى آخر ما ذكروه (1).

وبعضهم ظهرت عليه سمة الارتداد عندما بدت علائم الهزيمة عند المسلمين فقال : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر (2). وقال الآخر : ألا بطل السحر اليوم (3).

وهذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يخاطب ذي الخويصرة عندما قال للنبي في تقسيم غنائم حنين : اعدل بقوله : « ويحك إن لم يكن العدل عندي فعند من يكون ؟ » ثم قال : « فانّه يكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتّى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية » (4).

ص: 456


1- الكامل : 2 / 42 ; أُسد الغابة : 5 / 91 وغيرهما. وقد أقام الإمام أميرالمؤمنين علي عليه السلام عليه الحد خلافة عثمان بإصرار من الناس و إلحاح منهم لئلّا تتعطّل الحدود.
2- سيرة ابن هشام : 4 / 86 ، والقائل أبو سفيان.
3- سيرة ابن هشام : 4 / 86 ، والقائل كَلَدة ابن الحنبل ، فقال له صفوان : اسكت فض اللّه فاك.
4- سيرة ابن هشام : 4 / 139.

وهذا أبو سفيان يضرب برجله قبر حمزة علیه السلام ويقول : إنّ الملك الّذي كنّا نتنازع عليه أصبح اليوم بيد صبياننا (1).

وهذا أبو سفيان عندما بويع عثمان ، دخل إليه بنو أبيه حتّى امتلأت بهم الدار ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا ، قال : يا بني أُمية تلقّفوها تلقّف الكرة ، فو الّذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة (2).

أفهل بعد كلمات الردة الخبيثة هذه يصح لمسلم أن يعد هؤلاء وأمثالهم من صنف العدول وطبقة الصالحين ويعد جرحهم إبطالاً للكتاب والسنّة وتضعيفاً لشهود المسلمين ؟!!

آراء الصحابة بعضهم حول بعض

النظرة العابرة إلى تاريخ الصحابة تقضي بأنّ بعضهم كان يتهم الآخر بالنفاق والكذب ، كما أنّ بعضهم يقاتل بعضاً ، ويقود جيشاً لمحاربته ، فقتل بين ذلك جماعة كثيرة ، أفهل يمكن تبرير أعمالهم من الشاتم والمشتوم ، والقاتل والمقتول ، عدولاً ومثل للفضل والفضيلة ، وإليك نزراً يسيراً من تاريخهم ممّا حفظته يد النقل غفلة عن المبادئ العامة لأصحاب الحديث :

1. روى البخاري مشاجرة سعد بن معاذ مع سعد بن عبادة سيد الخزرج في قضية الإفك ، قال : قام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاستعدا يومئذ من عبد اللّه ابن أُبي وهو على المنبر فقال : « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في

ص: 457


1- قاموس الرجال : 10 / 89 ، نقلاً عن الشرح الحديدي.
2- الشرح الحديدي : 9 / 53 ، نقلاً عن كتاب السقيفة للجوهري.

أهلي ، واللّه ما علمت على أهلي إلاّ خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً وما يدخل على أهلي إلاّ معي » فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال : أنا يا رسول اللّه أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ، ففعلنا أمرك ، فقام رجل من الخزرج - وهو سعد بن عبادة ، وهو سيد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ، ولكن احتملته الحمية - فقال لسعد : كذبت لعمر اللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل ، فقام أسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد - فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر اللّه لنقتلنّه ، فانّك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيان : الأوس والخزرج حتّى هموا أن يقتتلوا ورسول اللّه قائم على المنبر ، فلم يزل رسول اللّه يخفضهم حتّى سكتوا وسكت (1).

اقرأ فاقض ، فإنّ هؤلاء يتهم بعضهم بعضاً بالكذب والنفاق ، ونحن نعتبرهم عدولاً صلحاء ، والإنسان على نفسه بصيرة.

2. انّ الحروب الدائرة بين الصحابة أنفسهم وحتّى الثورة الّتي أقامها أصحاب النبي ومن اتّبعهم على عثمان بن عفان وجرّت إلى قتله أفضل دليل على أنّه لا يصحّ تعريف الصحابة وتوصيفهم بالعدالة والتقوى ، إذ كيف يصحّ أن يكون القاتل والمقتول على الحق والعدالة.

وهذا هو طلحة وهذا الزبير قد جهّزا جيشاً جرّاراً لحرب الإمام علي علیه السلام وأعانتهما أُمّ المؤمنين ، فَقُتلت جماعة كثيرة بين ذلك ، فهل يمكن تعديل كل هذه الجماعة حتّى الباغين على الإمام المفترض الطاعة بالنص أوّلاً ، وبيعة المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ثانياً ؟!

ص: 458


1- صحيح البخاري : 5 / 151 - 152 ، في تفسير سورة النور.

وهذا معاوية بن أبي سفيان يعد من الصحابة وقد صنع بالإسلام والمسلمين ما قد صنع ممّا هو مشهور في التاريخ ، ومن ذلك انّه حارب الإمام علياً عليه الصلاة والسلام في صفين ، وكان مع علي كل من بقي من البدريين وهم قريب من مائة شخص ، فهل من حارب هؤلاء الصحابة جميعاً بما فيهم سيد الصحابة علي علیه السلام يعد من أهل الفضل والصلاح والعدالة ؟! فاقض ما أنت قاض.

نقل صاحب المنار : إنّه قال أحد علماء الألمان في « الاستانة » لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكة : إنّه ينبغي لنا أن نقيم تمثالاً من الذهب لمعاوية بن أبي سفيان في ميدان كذا من عاصمتنا « برلين » ، قيل له : لماذا ؟ قال : لأنّه هو الّذي حول نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغلب ( الملك لمن غلب ) ولولا ذلك ، لعم الإسلام العالم كله ، ولكنّا نحن الألمان وسائر شعوب أوربا عرباً مسلمين (1).

هذا خال المؤمنين الّذي يترحّم عليه خطباء الجمعة والجماعة ، فكيف حال غيره ؟! أضف إليه ما له من الموبقات والمهلكات ممّا لا يمكن لأحد إنكاره ، والاعتذار منه في تبرير أعماله القاسية باجتهاده في ما ناء به وباء بإثمه من حروب دامية وإزهاق نفوس بريئة تعد بالآلاف المؤلفة ليس إلاّ ضلالة وخداعاً للعقل ، فإنّه اجتهاد على خلاف اللّه وضد رسوله ، وإلاّ يصحّ أن يعد جميع المناوئين للإسلام مجتهدين في صدر الإسلام ومؤخّره.

هذا مجمل القول في هذا الأصل الّذي اتّخذه أصحاب الحديث أصلاً من أُصول الإسلام ، ثم أدخله الأشعري في الأُصول الّتي يتبنّاها أكثر أهل السنّة والجماعة.

ص: 459


1- تفسير المنار : 11 / 269 ، في تفسير سورة يونس.
التعذير التافه أو أُسطورة الاجتهاد

وما أتفه قول من يريد تبرير عمل هؤلاء بالاجتهاد ، وأنّهم كانوا مجتهدين في أعمالهم وأفعالهم ، أهل يصحّ تبرير عمل القتل والفتك والخروج على الإمام المفترضة طاعته ، بالاجتهاد ؟! ولو صحّ هذا الاجتهاد ( ولن يصحّ أبداً ) لصح من كل من خالف الحق وحالف الباطل من اليهود والنصارى وغيرهم من الطغام اللئام.

أيّ قيمة للاجتهاد في قبال النص وصريح السنّة النبوية وإجماع الأُمّة. أيّ قيمة للاجتهاد الّذي أباح دماء المسلمين ودمر كيانهم وشق عصاهم وفكك عرى وحدته ، أيّ ، أيّ ، أيّ ؟!!

إنّ القائلين بعدالة الصحابة يتمسكون بما يروون عن النبي أنّه قال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم (1). غير أنّ متن الحديث يكذب صدوره عن النبي ، إذ ليس كل نجم هادياً للإنسان في البر والبحر ، بل هناك نجوم خاصة موجبة للاهتداء ، ولأجل ذلك قال سبحانه : ( وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) (2).

ولم يقل « وبالنجوم يهتدون » ، ولو كان كل نجم هادياً للضال لكان الأنسب الإتيان بصيغة الجمع ، ولو افترضنا صحة الاهتداء بكل نجم في السماء ، أهل يمكن أن يكون كل صحابي نجماً لامعاً في سماء الحياة ، هادياً للأُمّة ؟!!

هذا قدامة بن مظعون صحابي بدري يعد من السابقين الأوّلين ومن

ص: 460


1- جامع الأُصول : 9 / 410 ، الحديث 6359 ، كتاب الفضائل.
2- النحل : 16.

المهاجرين هجرتين ، روي أنّه شرب الخمر وأقام عليه عمر الحد (1).

كما أنّ المشهور أنّ عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب قد شرب الخمر (2).

وقد ارتد طلحة بن خويلد عن الإسلام وادّعى النبوّة ، ومثله مسيلمة بن العنسي الكذّاب وأمرهما أشهر من أن يذكر.

إنّ بعض الصحابة خضب وجه الأرض بالدماء ، فاقرأ تاريخ بسر بن أرطاة حتّى أنّه قتل طفلين لعبيد اللّه بن عباس. وكم وكم بين الصحابة لِدّة هؤلاء من رجال العبث والفساد قد احتفل التاريخ بضبط مساوئهم ، أفبعد هذه البيّنات يصحّ لأيّ ابن أُنثى أن يتقوّل بعدالة الصحابة مطلقاً ويتّخذها مذهباً ويرمي المخالف له ، بما هو بري منه ؟!

والنظرية القويمة المستقيمة هي نظرية الشيعة المنعكسة في الدعاء المروي عن الإمام الطاهر علي بن الحسين علیهماالسلام ترى أنّه يدعو اللّه سبحانه في حق أصحاب محمد صلی اللّه علیه و آله ، لا لكلّهم ، بل للذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، والذين عاضدوه وأسرعوا إلى وفادته ، وإليك تلك الكلمات المباركة من الصحيفة السجادية :

« اللّهم وأصحاب محمد صلی اللّه علیه و آله خاصة الذين أحسنوا الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته ، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته ، وانتصروا به ، ومن كانوا منطوين على محبته ، يرجون

ص: 461


1- أُسد الغابة : 4 / 199 ، وسائر الكتب الرجالية.
2- نفس المصدر : 3 / 312.

تجارة لن تبور في مودته ، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته ، وانتفت منهم القربات إذ سكنوا في ظل قرابته ، فلا تنس اللّهم ما تركوا لك وفيك ، وارضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك ، وكانوا مع رسولك ، دعاة لك إليك ، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ، ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم ، اللّهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا ... » (1).

خاتمة المطاف

إنّ لأبي المعالي الجويني كلاماً حول الصحابة دعا فيه إلى أنّ الواجب ، الكف والإمساك عن الصحابة وعمّا شجر بينهم ، نقله الشارح الحديدي في شرحه على نهج البلاغة كما نقل نقد بعض الزيدية له ، الّذي سمعه من أُستاذه النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري في سنة إحدى وعشرة وستمائة ببغداد وعنده جماعة ، وما نقله عن أُستاذه رسالة مبسوطة في الموضوع فيها نكات بديعة لا يسعنا إيرادها في المقام ولذلك نقتبس بعضها ، وقد نقل فيها قضايا تعرب عن جريان السيرة على النقد والرد والمشاجرة ، وإليك بعضها :

1. هذه عائشة أُم المؤمنين خرجت بقميص رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالت للناس : هذا قميص رسول اللّه لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنّته ، ثم تقول : اقتلوا نعثلاً ، قتل اللّه نعثلاً ، ثم لم ترض بذلك حتّى قالت : أشهد أنّ عثمان جيفة على الصراط غدا.

2. هذا المغيرة بن شعبة وهو من الصحابة ، ادّعي عليه الزنا وشهد عليه قوم بذلك ، فلم ينكر ذلك عمر ولا قال : هذا محال وباطل ، لأنّ هذا صحابي من

ص: 462


1- الصحيفة السجادية : الدعاء الرابع مع شرحه : في ظلال الصحيفة السجادية : 55 - 56.

صحابة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يجوز عليه الزنا ، وهلا أنكر عمر على الشهود وقال لهم : ويحكم هلا تغافلتم عنه لمّارأيتموه يفعل ذلك ، فإنّ اللّه تعالى قد أوجب الإمساك عن مساوئ أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأوجب الستر عليهم ؟! وهلاّ تركتموه لرسول اللّه في قوله دعوا لي أصحابي ؟! ما رأينا عمر إلاّ قد انتصب لسماع الدعوى وإقامة الشهادة وأقبل يقول للمغيرة : يا مغيرة ذهب ربعك ، يا مغيرة ذهب نصفك ، يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك حتّى اضطرب الرابع ، فجلد الثلاثة ، وهلاّ قال المغيرة لعمر : كيف تسمع فيّ قول هؤلاء وليسوا من الصحابة وأنا من الصحابة ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد قال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ؟ ما رأيناه قال ذلك ، بل استسلم لحكم اللّه تعالى.

3. وهاهنا ، من هو أمثل من المغيرة وأفضل ، كقدامة بن مظعون ، لما شرب الخمر في أيّام عمر فأقام عليه الحد ، وهو رجل من علية الصحابة ، ومن أهل بدر المشهود لهم بالجنة ، فلم يرد عمر الشهادة ولا درأ عنه الحد ، لعلّة أنّه بدري ، ولا قال قد نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن ذكر مساوئ الصحابة ، وقد ضرب عمر أيضاً ابنه حداً فمات ، وكان ممّن عاصر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولم تمنعه معاصرته له من إقامة الحد عليه.

4. كيف يصحّ أن يقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » ، لأنّ هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هدى ، وأن يكون أهل العراق أيضاً على هدى ، وأن يكون قاتل عمار بن ياسر مهتدياً ، وقد صحّ الخبر الصحيح أنّه صلی اللّه علیه و آله قال له : « تقتلك الفئة الباغية » ، وقال اللّه سبحانه : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ ) (1) ، فدلّ على أنّها ما دامت موصوفة

ص: 463


1- الحجرات : 9.

بالمقام على البغي مفارقة لأمر اللّه ، ومن يفارق أمر اللّه لا يكون مهتدياً ، وكان يجب أن يكون بسر بن أرطاة الّذي ذبح ولدي عبيد اللّه بن عباس الصغيرين ، مهتدياً ، لأنّ بسراً من الصحابة أيضاً ، وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللّذان كانا يلعنان علياً وولديه أدبار الصلاة ، مهتديين ; وقد كان في الصحابة من يزني ، ومن يشرب الخمر ، كأبي محجن الثقفي ; ومن يرتد عن الإسلام ، كطليحة بن خويلد ، فيجب أن يكون كل من اقتدى بهؤلاء في أفعالهم مهتدياً.

5. هذا الحديث ( أصحابي كالنجوم ) من موضوعات متعصبة الأُموية ، فإنّ لهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث ، إذا عجز عن نصرهم بالسيف ، وكذا القول في الحديث الآخر وهو قوله : « القرن الّذي أنا فيه » وممّا يدل على بطلانه انّ القرن الّذي جاء بعده بخمسين سنة ، شر قرون الدنيا ، وهو أحد القرون الّتي ذكرها في النص ، وكان ذلك القرن هو القرن الّذي قتل فيه الحسين ، وأوقع بالمدينة ، وحوصرت مكة ، ونقضت الكعبة ، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه المنتصبون في منصب النبوة ، الخمور وارتكبوا الفجور ، كما جرى ليزيد بن معاوية وليزيد بن عاتكة ولوليد بن يزيد ، وأُريقت الدماء الحرام ، وقتل المسلمون وسبي الحريم ، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار ، ونقش على أيديهم كما ينقش على أيدي الروم ، وذلك في خلافة عبد الملك ، وإمرة الحجاج ، وإذا تأملت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية ، شراً كلّها لا خير فيها ولا في رؤسائها وأُمرائها ، والناس برؤسائهم وأُمرائهم ، والقرن خمسون سنة فكيف يصحّ هذا الخبر ؟!

6. فأمّا ما ورد في القرآن من قوله تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ ) (1) ، وقوله : ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) (2) ، وقول النبي صلی اللّه علیه و آله :

ص: 464


1- الفتح : 18.
2- الفتح : 29.

« إنّ اللّه اطلع على أهل بدر » إن كان الخبر صحيحاً فكله مشروط بسلامة العاقبة ، ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفاً غير معصوم ، بأنّه لا عقاب فيه فليفعل ما شاء.

7. من الّذي يجترئ على القول بأنّ أصحاب محمد صلی اللّه علیه و آله لا تجوز البراءة من أحد منهم وإن أساء وعصى بعد قول اللّه تعالى للّذي شرّفوا برؤيته : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (1) ، وبعد قوله : ( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (2) ، وبعد قوله : ( فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) (3) ، إلاّ من لا فهم ولا نظر معه ولا تمييز عنده.

8. والعجب من الحشوية وأصحاب الحديث إذ يجادلون على معاصي الأنبياء ويثبتون أنّهم عصوا اللّه تعالى ، وينكرون على من ينكر ذلك ويطعنون فيه ويقولون : قدري ، معتزلي ، وربما قالوا ملحد مخالف لنص الكتاب ، وقد رأينا منهم الواحد والمائة والألف يجادل في هذا الباب فتارة يقولون : إنّ يوسف قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من المرأة ، وتارة يقولون : إنّ داود قتل أُوريا لينكح امرأته ، وتارة يقولون : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان كافراً ضالاً قبل النبوة ، وربما ذكروا زينب بنت جحش وقصة الفداء يوم بدر ، فأمّا قدحهم في آدم علیه السلام وإثباتهم معصيته ومناظرتهم من ينكر ذلك ، فهو رأيهم وديدنهم ، فإذا تكلم واحد في « عمرو بن العاص » وفي « معاوية » وأمثالهما ونسبهم إلى المعصية وفعل القبيح احمرت وجوههم ، وطالت أعناقهم وتخازرت أعينهم ، وقالوا : مبتدع ، رافضي ، يسب

ص: 465


1- الزمر : 65.
2- الأنعام : 15.
3- ص : 26.

الصحابة ويشتم السلف.

فإن قالوا : إنّما اتّبعنا في ذكر معاصي الأنبياء نصوص الكتاب.

قيل لهم : فاتبعوا في البراءة عن جميع العصاة نصوص الكتاب ، فإنّه تعالى قال : ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (1) ، وقال : ( فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ ) (2) ، وقال : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (3). (4)

قتل الخليفة المفترض الطاعة

قد تصافق أهل السير والتاريخ انّ عثمان بن عفان قد حوصر ثم هوجم وقتل في عاصمة الإسلام ، وقد قتله الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، حتّى منعوا عن تجهيزه وتغسيله ودفنه والصلاة عليه ، وهذا إمام المؤرخين يتلو علينا كيفية الإجهاز عليه والهجوم على داره بعد محاصرته قرابة أربعين يوماً.

يقول الطبري : دخل محمد بن أبي بكر على عثمان فأخذ بلحيته ... ثم دخل الناس ، فمنهم من يجأه بنعل سيفه ، وآخر يلكزه ، وجاءه رجل بمشاقص معه فوجأه في ترقوته ، ودخل آخرون فلمّا رأوه مغشياًعليه جروا برجله ، وجاء التجيبي مخترطاً سيفه ليضعه في بطنه ، فوقته نائلة فقطع يدها ، واتكأ بالسيف عليه في صدره ، وقتل عثمان رضی اللّه عنه قبل غروب الشمس.

ص: 466


1- المجادلة : 22.
2- الحجرات : 9.
3- النساء : 59.
4- الشرح الحديدي : 20 / 12 - 30 والرسالة مبسوطة مفصلة ، أخذنا المهم منها.

وفي نص آخريقول : طعن محمد بن أبي بكر جنبيه بمشقص في يده ، وضرب كنانة بن بشر مقدم رأسه بعمود ، وضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خر لجبينه ، ووثب عمرو بن الحمق فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات ، إلى آخر ما ذكره (1).

وقد وقعت الواقعة بمرأى ومسمع من معظم الصحابة وليس لأحد أن يتفوّه انّهم لم يكونوا عالمين بها ، فإنّها ما كانت مباغتة ولا غيلة حتّى يكونوا في غفلة عنها ، وقد استدام الحوار أكثر من شهرين والحصر حوالي أربعين يوماً ، كل ذلك يعرب عن أنّهم كانوا راضين بهذه الاحدوثة ، لو لم نقل انّهم كانوا بين مباشر لها ، إلى خاذل للمودي به ، إلى مؤلّب عليه ، إلى مثبط عنه ، إلى راض بما فعلوا ، إلى محبّذ لتلك الأحوال ، كما هو واضح لمن قرأ تاريخ الدار وقتل الخليفة متجرداً عن أهواء وميول أُموية.

فعندئذ يدور الأمر بين أمرين بأيّهما أخذنا يبطل الأصل المزعوم من عدالة الصحابة أجمع.

فإن كان الخليفة ، قائماً على جادة الحق غير مائل عن الطريقة المثلى ، فالمجهزون على قتله والناصرون له فسّاق ان لم نقل انّهم مرّاق عن الدين لخروجهم على الإمام المفترضة طاعته.

وإن كان مائلاً عن الحق ، منحرفاً عن الطريقة المثلى ، مستحقاً للقتل ، فما معنى القول بعدالة الصحابة كلهم من إمامهم إلى مأمومهم ؟

وأمّا تبرير عمل المجهزين عليه ، والهاجمين على داره بأنّهم كانوا عدولاً

ص: 467


1- تاريخ الطبري : 3 / 423.

خاطئين في اجتهادهم ، فهو خداع وضلال وتمهل لا يصار إليه ، ولا يركن إليه أيّ ذو مسكة من العقل إذ أيّ قيمة لاجتهادهم ، تجاه نصوص الكتاب العزيز ، قال عز من قائل : ( مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ) (1).

هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير من تاريخ الصحابة وأحوالهم ، وهي مشحونة بالصواب والخطأ والهدى والضلال ، ضعه أمام عقلك وفكرك ، فاقض ما أنت قاض ولا تتبع الأهواء.

( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (2).

عثرة لا تقال

لمّا انتهت محاضراتنا في البحث عن عدالة الصحابة وقفنا على كتاب باسم « صورتان متضادتان لنتائج جهود الرسول الأكرم » تأليف الكاتب : السيد أبو الحسن الندوي الهندي - أقال اللّه عثراته - وقد بالغ في الذب عن عدالتهم بملفق الكلام وتزويره ، مضافاً إلى ما فيه من بوادر وعثرات أعاد فيها ما سبقه الآخرون من رمي الشيعة الإمامية إلى نسب مفتعلة هم برآء منها ، وكأنّه لم يك يحسب أن يأتي عليه يوم يناقشه قلم التنقيب أو كان غير مكترث لأيّة تبعة ومغبة.

وقد صاغ كتابه هذا في قالب « علم كلام جديد » لم يسبقه إليه أحد من أئمّة الاعتزال وأعلام الأشاعرة ، فأصبح كحاطب ليل رزم في حزمته كل رطب ويابس ولذلك عقدنا الفصل التالي لتتبع عثراته وزلاته ، وإلى اللّه المشتكى.

ص: 468


1- المائدة : 32.
2- المائدة : 42.

4

صورتان متضادتان أو رسالتان متضادتان دراسة موجزة وتحليل رائع للشروط اللازمة للرسالة الخالدة والنبوة الدائمة

اشارة

ص: 469

في هذا الفصل

1. نظريتان متضادتان حول الشعب الإيراني المسلم.

2. الحوافز الّتي دعت الكاتب إلى اتخاذ موقفين متضادين.

3. الملامح العامة للشعب الإيراني في الرسالة الأُولى.

4. الملامح العامة المناقضة لها في الرسالة الثانية.

5. النشاطات القرآنية في الجمهورية الإسلامية.

6. موقف الكاتب من الطغمة الأثيمة وركونه إليها في حلّه وترحاله.

7. الشرط الأوّل للرسالة الخالدة.

8. نظرية الكاتب تواكب نظرية الملاحدة : ماركس وانجلس والبهائية.

9. النبي الأكرم كان ناجحاً في دعوته لا بمعنى عدالة كل من صحبه.

10. ارتداد الصحابة على أدبارهم القهقرى في الصحيحين : البخاري ومسلم.

11. الشرط الثاني للرسالة الخالدة وموقف الشيعة منه.

12. حكم الكتاب العزيز والسنّة النبوية في هذا المجال.

13. الشرط الثالث للرسالة الخالدة وإصفاق الشيعة والسنّة على صحته وتحقّقه.

14. الكتب المؤلفة بيد أعلام الشيعة في صيانة الكتاب من التحريف.

15. اعتماد الكاتب على روايات ضعاف لا قيمة لها في سوق الاعتبار.

16. نظرية قائد الثورة الإسلامية حول التحريف.

17. اقتراح للمتسرعين في الكتابة وطلب إقامة مؤتمر حر في إحدى العواصم الإسلامية.

18. الشرط الرابع للرسالة الخالدة وتحليله وما هي مشكلة المسلمين الأساسية.

ص: 470

« صورتان متضادتان » أو « رسالتان متضادتان »

اشارة

في هذه الظروف الصعبة الّتي تمر بها الأُمّة الإسلامية في كافة أرجاء العالم ويعاني فيها المسلمون من أنواع الابتلاءات والمحن ، وصلنا كتاب باسم « صورتان متضادتان لنتائج جهود الرسول الأعظم » نشره المجمع الإسلامي العلمي في « لكهنو » في الهند عام 1405 ه . ق - 1985 م ، أُلّف بقلم العالم الأديب السيد أبوالحسن الندوي أصلح اللّه حاله ، وقد ترجم الكتاب إلى لغات عديدة وتم نشره على نطاق واسع.

والنتيجة الّتي أُريد للقارئ أن يستنبطها من خلال سبر هذا الكتاب ، هي : أنّ هناك أُمّة إسلامية كبيرة باسم الشيعة الإمامية يعتقدون بأُمور - على زعم الكتاب - لا تجتمع مع شروط النبوة الخالدة والرسالة المستمرة.

والكتاب بمادته وصورته - إلاّ ما شذ - على غرار الرسائل الكثيرة الّتي أُلّفت على مر القرون بهدف النيل من عقيدة هذه الطائفة ، والّتي أُجيب عنها عشرات المرّات على أيدي المحقّقين وأصحاب البصائر ، والكل يشتمل على نبش الدفائن وإثارة الضغائن ، وما يشق به عصا المسلمين ، وتنفك به أواصر الوحدة بينهم ، مضافاً إلى التهم المفتعلة والنسب الباطلة إلى هذه الطائفة ، وكان المترقب من

ص: 471

كاتب مثل السيد الندوي وخاصة في ظروفنا الحساسة أن يسعى إلى تقريب الخطى بين المسلمين ، وإزالة النعرات الطائفية ذات الضرر العظيم ، والخطر الكبير على الرسالة المحمدية ، ولكن يا للأسف أنّ الكاتب أطلق عنان قلمه في بيان معتقدات هذه الطائفة وتحليلها على نحو لا يناسب مقام الكاتب المتحرّي للحقيقة.

ولعلّه كان مجبراً على اتخاذ تلك المواقف من قبل حكام المنطقة ، أعني : الذين لا يروقهم انتشار الثورة الإسلامية في مناطقهم واندلاعها في بلدانهم.

وأعجب من هذا أنّ الأُستاذ ألّف كتيباً باسم « اسمعي يا إيران » قبل قيام الثورة الإسلامية في إيران ، ونشرته دار عرفات في الهند عام 1393 ه . ق - 1972 م ، وعندما يقارن بين محتوى الرسالتين ، يقف القارئ على التناقض الواضح بين التحليلين عن شعب واحد في فترتين متقاربتين ، وعندئذ يطرح السؤال نفسه. انّ الرسالة الأُولى كتبت ونشرت قبل قيام الثورة الإسلامية في إيران ، وكان الترف والتظاهر بالسفور والخمور ، والانحراف التربوي والمظاهر اللادينية ، طاغية على المجتمع ، ومع ذلك كلّه فقد وصف الكاتب الإيرانيين حكومة وشعباً بعكس ما وصفهم بعد قيام الثورة ، فأطرى في الرسالة الأُولى عليهم ، بما يناسب الحكومات المثالية ، والأُمّة المسلمة المتكاملة ، وعندما تحولت الملكية إلى الجمهورية الإسلامية ، تحولت تلك الصفات إلى خلافها ، وهذا من العجيب جداً ؟!

وإليك خلاصة ما في الرسالة الأُولى :

خاطب الأُستاذ في هذه الرسالة الشعب الإيراني على وجه يستظهر منه أنّه الفيلسوف الكبير ، العارف بالداء والدواء ، يريد نصح أبنائه وتلاميذه تحت عنوان « اسمعي يا إيران » وفيها العلماء والقادة ، والحكماء والمفكّرون ، ممّن لا يشق غبارهم

ص: 472

علماً ، ولا يصل الكاتب مهما جد واجتهد إلى شأوهم ومستواهم ، بقوله بنص عبارته :

« كانت زيارة إيران يونان الشرق أُمنية قديمة كانت تراود النفس ، الفضل في هذه الزيارة وما لقيه أعضاء الوفد من حفاوة بالغة من حكومة إيران الموقّرة والشعب الإيراني المسلم ، والمنظمات الدينية والعلمية والشخصيات البارزة في هذا البلد الكبير ، يرجع إلى رابطة العالم الإسلامي وكان لرئاسة مجلس الأوقاف بإيران ، الّذي يشرف عليه معالي الدكتور « منوچهر آزمون » نائب رئيس وزراء إيران ، الفضل الكبير في تيسير هذه الرحلة ووضع مخططها ، وكانت الأيام العشرة التاريخية الّتي قضاها الوفد في إيران ، حافلة بالزيارات ، واللقاءات ، والرحلات ، والمحاضرات ، وكان التنزل في « پارك هتل » أحد فنادق العاصمة الكبرى ، وقد زار الوفد خلال هذه الأيام عدداً من الوزراء الكبار نخص بالذكر منهم : عباس هويدا رئيس الوزراء ، ومعالي الأُستاذ كاظم زاده وزير التعليم العالي ، ومعالي الدكتور آزمون ، فقد أقام الدكتور حفلة عشاء فاخرة ، تكريماً لأعضاء الوفد في فندق « هلتون » حضرها عدد من الوزراء ، وغيرهم.

ومن المدن الّتي زارها الوفد مدينة طهران وقم ومشهد واصفهان وشيراز ، وقد تجوّل الوفد في أحياء هذه المدن وزار في مدينة مشهد ضريح شاعر إيران الخالد الفردوسي ، كما زار قبر السيد علي بن موسى الرضا علیه السلام ، ولم يعرف أثراً لضريح هارون الرشيد الّذي دوّى اسمه في الآفاق ، كما زار قبر الشيخ مصلح الدين سعدي ، وقبر الخواجه حافظ ، وتخت جمشيد في شيراز ، وقد عقدت حكومة إيران في هذا المكان « تخت جمشيد » في العام الماضي مهرجاناً بمناسبة مرور 2500 سنة على الامبراطورية الإيرانية حضره رؤساء الجمهوريات وملوك العالم ، وأُنفق

ص: 473

عليه الملايين من النقود ، وتفاصيل هذا المهرجان لا تقل عن أساطير ألف ليلة وليلة ».

ثم يقول : هذا استعراض مجمل لهذه الجولة الّتي كان لها صدى في القلوب والنفوس (1).

نظرتنا حول هذه الجولة

1. كان اللازم على العالم الإسلامي ، العارف بحلال الإسلام وحرامه ، أن يرفض ضيافة حكومة جائرة زائغة عن الحق ، متسلطة على الشعب بقوة السيف ورعب الإرهاب ، لأنّ في قبول هذه الضيافة تأييداً لها ولأهدافها ، والعجب أنّ الأُستاذ يتقبل تلك الهدية الموهوبة له ولوفده من حكومة ضالّة مضلّة ، ولكنّه عوض أن يرفضها ، أخذ يفتخر بحفلات العشاء ومأدبات الطعام الّتي أُقيمت له في الفنادق الكبرى الّتي أُسست وبنيت من دم الشعب المظلوم.

فلو كان الوفد عارفاً بوظيفته ، عالماً بحدود الإسلام وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ، لاستنكر هذه الضيافات الفاخرة ، بدل الافتخار بها ، كيف ؟!! وفي البلد « بطون غرثى ، وأكباد حرّى ، وأقدام حافية ».

هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ، الأُسوة الحسنة لكل من أراد الاقتداء به ، لمّا بلغه أنّ عامله استجاب دعوة أحد الأثرياء ، كتب إليه : « فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة ، فأسرعت إليها ، تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان ، وما ظننت أنّك تجيب دعوة قوم ، عائلهم مجفو وغنيهم مدعو ... فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه ،

ص: 474


1- رسالة « اسمعي يا إيران » : 4 - 20 بتلخيص.

فألفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه ... هيهات ، هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع ، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى ، أو أكون كما قال القائل :

وحسبك داء أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ »

2. لا يشك من طالع كتب الأُستاذ أو استمع محاضراته ، أنّه من المتأثرين بالوهابية ومن دعاتها ، ومن المعلوم أنّ الوهابية تعتقد بحرمة شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة المعروفة ، تمسكاً بالحديث النبوي : « لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ».

ولكن نسأل الأُستاذ وأعضاء الوفد كيف شدّوا الرحال إلى زيارة قبور أبي حامد الغزالي ، وسعدي الشيرازي ، وخواجه حافظ الدين وقد دفنوا في مشارق إيران ومغاربها ، فقد تجوّل الوفد لزيارة هذه القبور من العاصمة إلى الشرق ، ومنه إلى الجنوب ، ما هذا التناقض بين العقيدة والعمل ، والفكرة والتطبيق ، أفهل يسوغ شدّ الرحال إلى زيارة الشعراء وأصحاب الملحمات ، ويحرم شدّها إلى زيارة ضريح الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ؟!

وأعجب منه انّ الأُستاذ اشتاق إلى زيارة ضريح هارون الرشيد الّذي سمّ الإمام الطاهر موسى بن جعفر علیه السلام وحبس كثيراً من العلويين في سجونه الّتي لا يتميز فيها النهار من الليل ، وكان له من الجنايات والفضائح ما تزخر به كتب التاريخ.

3. وأعجب من ذلك ، التناقضات الصارخة بين ما جاء في تلك الرسالة في حق الشعب الإيراني وما جاء في الرسالة الثانية في حق هذا الشعب بعد قيام

ص: 475

الثورة الإسلامية ، مع أنّ الأُمّة هي الأُمّة لم يتغير منها شيء إلاّ النظام السائد عليها في الفترة الأُولى ، فتبدّلت الحكومة الفردية الملكية ، إلى الجمهورية الإسلامية المباركة.

ومقتضى الطبع أن تكون الأُمّة في الفترة الثانية ، أشد تمسكاً بالقيم والأخلاق والكتاب والسنّة وأحرى بالمدح والتمجيد ، ومع ذلك فوصفها في الكتاب الثاني عنهم ، يصور تدهور الشعب الإيراني فيما يرجع الى صلب الدين ، وإليك مقارنة البيانين :

الملامح العامة للشعب الإيراني في الرسالة الأُولى

أ. انّ أوّل شيء بهرنا وأثار فينا الاستغراب مع الإعجاب ، والحيرة مع المسرة هي قوة العاطفة الإسلامية وشدة رغبة إخواننا الإيرانيين على اختلاف طبقاتهم وثقافاتهم في الوحدة الإسلامية والالتقاء على صعيد واحد من جوهر الإسلام ومبادئه الأوّلية ، وأعترف هنا أنّنا لم نكن نتوقع هذه الموجة القوية من حب الوحدة ومد يد الأُخوة والصداقة إلى سائر المسلمين في العالم ، وتكوين جبهة موحدة ضد اللادينية الّتي تتحدى جميع الأديان وجميع القيم الخلقية.

ب. والشيء الثاني ما لمسناه في هذه الزيارة من عناية زائدة بالآثار الإسلامية والتأليف باللغة العربية ، وإحياء التراث الإسلامي ، ونشر آثار علماء الإسلام ، والاعتناء الزائد بالمصاحف الأثرية ، وتزيينها ممّا يدل على التقدير والإجلال والاحترام والاهتمام وقراءة القرآن وأكثره من صوت القرّاء المصريين المسجل في المشاهد والحفلات باحترامها ، وذلك يدل على الإيمان وإجلال القرآن.

ص: 476

ج. الغيرة الدينية ومحاربة الحركات الهدّامة الثائرة على الإسلام.

د. دماثة الخلق ورقّة العاطفة وكرم الضيافة والتواضع الزائد الّذي يلقى به المسلم الإيراني أخاه الوافد من بلاد الإسلام ، وإشعاره بأنّه بين إخوانه وأحبّائه وفي بلده (1).

الملامح العامة للشعب الإيراني في الرسالة الثانية

هذا ما عرّف به الكاتب الشعب الإيراني بما أنّهم يمثلون مذهب الشيعة الإمامية في المجتمع الإسلامي ، وإليك ما يذكره الأُستاذ عنهم في الرسالة الثانية كأنّه نسى ما ذكره في أُولاهما :

يقول :

1. « ونتيجة لما مر من آراء ومعتقدات الشيعة عن القرآن الكريم ، فانّهم لا يهتمون بالقرآن ولا يرتبطون به عملياً ، وانّ الشيعة لا يوجد فيهم حفظة القرآن ، وذلك نتيجة نفسية الشك في صحة القرآن الكريم وأصالته ، وقد جربت ذلك شخصياً لدى رحتلي إلى إيران عام 1973 م » !!

باللّه عليك أيّها الأُستاذ ، لو كان الشعب الإيراني - كما زعمت - شاكاً في صحة القرآن الكريم ، فما معنى قولك في الرسالة الأُولى في الفقرة الثانية : « الاعتناء الزائد بالمصاحف الأثرية وتزيينها ... وذلك يدل على الإيمان وإجلال القرآن » فهل يجتمع الإيمان بالقرآن مع الشك فيه ؟!!

كيف تتهم الإيرانيين بعدم الاهتمام بالقرآن وحفظه وقد وقف الأصم

ص: 477


1- اسمعي يا إيران : 20 - 23 بتلخيص.

والأبكم فضلاً عن السميع والبصير على أنّهم شاركوا في مسابقات عديدة لقراءة القرآن وحفظه في البلاد الإسلامية المختلفة وفازوا بالرتب الأُولى ، مرة بعد أُخرى ، وأحياناً كانوا في الدرجة الثانية من الفائزين ، ونحن نكتب هذه السطور انعقدت مسابقة دولية لتلاوة القرآن وحفظه في مسجد الإرشاد في طهران ، اشترك فيها قرّاء من 26 بلداً إسلامياً آسيوياً وأفريقياً ، وتستغرق المسابقة خمسة أيام ، وذكرت الأنباء أنّ سيرلانكا ، ماليزيا ، تنزانيا ، موريتانيا ، عمان ، الهند ، غانا ، باكستان ، سورية ، بالإضافة إلى عدد آخر من الأقطار المسلمة ، قد بعثت مشاركين إلى المؤتمر ، وتقيم الجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها ولحد الآن مسابقات دولية سنوية لحفظ وقراءة وتفسير وبيان مفاهيم القرآن الكريم بمناسبة عيد المبعث النبوي في 27 رجب ، وكان آخرها المسابقة الّتي أُقيمت في طهران هذا العام ( 1420 ه ).

وهذه هي إذاعة القرآن الّتي أُسست بصورة مستقلة في الجمهورية الإسلامية وتبث القرآن قراءة وتعليماً وعلوماً عدة ساعات كل يوم ، فهو خير شاهد على ما قلناه.

وهؤلاء هم حفظة القرآن في عاصمة الجمهورية الإسلامية ، وسائر بلدانها يقرأون القرآن في المجالس والمحافل عن ظهر القلب ، ويشتركون في المسابقات الدولية والمؤتمرات العالمية ويفوزون وهم بين طفل لم يبلغ الحلم ، أو شاب يافع ، أو كهل ، أو شيخ طاعن في السن.

النشاطات القرآنية في الجمهورية الإسلامية

على الرغم ممّا نسب الكاتب إلى الشعب المسلم في إيران من عدم إيمانه بصحة القرآن الكريم والقول بتحريفه ، فنحن نجد في هذا البلد الإسلامي

ص: 478

نشاطات واسعة وجادة حول القرآن الكريم بعد الثورة الإسلامية قلمّا يوجد لها نظير في سائر العواصم والبلاد الإسلامية.

ونحن نشير إلى أبرز هذه النشاطات باختصار ، مضافاً إلى ما أشرنا من تأسيس إذاعة خاصة بالقرآن :

1. تأليف ووضع دائرة المعارف القرآنية تضم كل المعلومات الّتي ترتبط بالقرآن الكريم.

2. فتح جناح خاص بكنوز القرآن يضم أقدم المخطوطات القرآنية ، وذلك في مؤسسة دار القرآن الكريم في قم وطهران.

3. تأسيس مؤسسة خاصة باسم « بنياد قرآن » منذ سنين تهتم بنشر كل ما يرتبط بالقرآن ويدور حوله من مؤلفات ، وقد طبعت إلى الآن عشرات الكتب والرسائل لمختلف علماء الإسلام.

4. الاهتمام بتعليم القرآن بطريقة سريعة وميسرة ، وذلك بابتكار طريقة تتكفل تعليم قراءة القرآن لغير الناطقين بالعربية خلال ثلاين ساعة أو أقل من ذلك.

5. تأليف كتاب يضم أكثر من ثلاثمائة حديث مروياً عن النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام تحت أبواب مختلفة باسم « القرآن في أحاديث النبي وأهل بيته صلوات اللّه عليهم أجمعين » تأليف جعفر الهادي ، وقد أُلّف للحث والتشجيع على تعلّم القرآن الكريم والعناية به قراءة وحفظاً وتجويداً ، طبعته مؤسسة تحفيظ القرآن الكريم في طهران عاصمة الجمهورية الإسلامية ، مرة في القاهرة ، ومرات في إيران ، ووزّع في كثير من البلاد الإسلامية.

والروايات المتضافرة المنقولة في هذا الكتاب تمثل نظرية أهل البيت

ص: 479

وشيعتهم في القرآن الكريم : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (1) ، وأي باطل أشوه وأفظع من تطرق النقصان إليه ، سبحانك أنت القائل : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (2) ، وأنت حفظته من إبطال المبطلين.

2. وأضاف قائلاً : « إنّ مكتبات الاثنا عشرية لا تحتوي على آثار ونماذج كثيرة لخدمة القرآن والتأليف بمختلف مطبوعاته ولاتشهد بالحركة العلمية القوية في باين إعجازه وما يشتمل عليه من علوم وحقائق » !!

أقول : لو كانت مكتبات الشيعة الإمامية على ما وصفت ، فما معنى قولك في الفقرة الثانية من الرسالة الأُولى : « والشيء الثاني ما لمسناه في هذه الزيارة من عناية زائدة بالآثار الإسلامية والتأليف باللغة العربية وإحياء التراث الإسلامي ونشر آثار علماء الإسلام والاعتناء الزائد بالمصاحف » ؟!!

إنّ الشيعة الإمامية تهتم بالقرآن الكريم ، لأنّه الثقل الأكبر الّذي تركه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين الأُمّة وانّ الكتب والرسائل الّتي أُلّفت بيد تلك الأُمّة حول القرآن الكريم تتجاوز المئات ، وانّ الفهارس المطبوعة تغنينا عن طرح أسمائها.

إنّي لأعذر الأُستاذ في عدم وقوفه على كتب الشيعة في التفسير وعلوم القرآن وتبيين طرق إعجازه ، إذ ليست بينه وبينهم أية صلة ، حتّى أنّه بعد زيارته إيران لم يلتق بالعلماء الربّانيين الذين كرّسوا حياتهم لخدمة العلوم والمسائل الإسلامية ولم يلتق إلاّ بمن سمحت مديرية الأوقاف بزيارته ولقائه ، ولم يزر المكتبات العامة الكبيرة المليئة بنفائس الكتب المخطوطة والمطبوعة ، ولم يجالس علماء الشيعة

ص: 480


1- فصلت : 41 - 42.
2- الحجر : 9.

الواقعيين إلاّ الشاذ النادر ، فإن الزيارة الرسمية الّتي رسم مقدماتها عملاء الطاغوت لا تسمح بإنجاز هذه الأُمور.

كيف ينكر الأُستاذ خدمة الشيعة للقرآن وعلومه وتبيين وجوه إعجازه مع أنّ المفسّر الأوّل هو إمام الشيعة وإمام المسلمين علي بن أبي طالب علیه السلام ثم تلميذه الأكبر ابن عباس حبر الأُمّة ، ثم أئمّة أهل البيت علیهم السلام كلّهم ، ثم تلاميذهم المتربّون في أحضانهم ومناهجهم وقد توالى التأليف حول القرآن في كل ما يرجع إليه من زمن ابن عباس إلى زماننا هذا.

ولإيقاف الأُستاذ على النزر اليسير من الجهود العلمية الّتي تحمّلها علماء الشيعة نأتي بأسماء التفاسير الّتي أُلّف أكثرها في أواخر القرن الرابع عشر الهجري باللغة العربية فقط ونترك ما أُلّف بغيرها :

1. « آلاء الرحمن في تفسير القرآن » : تأليف العلاّمة المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي ( المتوفّى عام 1352 ه ) صدر منه جزءان.

2. « الميزان في تفسير القرآن » : تأليف العلاّمة المحقّق المتألّه الأكبر السيد محمد حسين الطباطبائي ( المتوفّى 1402 ه ) وهو في عشرين جزءاً ، طبع في بيروت وإيران.

3. « البيان في تفسير القرآن » : تأليف المحقّق الأكبر السيد أبو القاسم الخوئي النجفي - دام ظلّه - طبع طبعات متعددة ، منها مانشرته مؤسسة الأعلمي بيروت ، الطبعة الثالثة - 1394 ه / 1974 م.

4. « التفسير الوجيز » : للعلاّمة الفقيه السيد محمد التبريزي ( مولانا ) ( المتوفّى عام 1363 ه ) وهو تفسير على غرار تفسير الجلالين ، طبع في قم المقدسة من قبل مؤسسة الإمام المنتظر علیه السلام - 1418 ه.

ص: 481

5. « التفسير الكاشف » : في سبعة أجزاء ، تأليف العلاّمة الحجة المجاهد الشيخ محمد جواد مغنية رحمه اللّه وهو من فطاحل علماء بيروت ومن المناضلين ضد البدع ، وله مع ذلك تفسير صغير آخر ألّفه للشباب.

6. « الفرقان في تفسير القرآن » : للعلاّمة الحجّة الشيخ محمد الصادقي الطهراني ، طبع في بيروت من قبل مؤسسة الأعلمي في 30 جزءاً.

7. « التمهيد في علوم القرآن » : للعلاّمة الحجة الشيخ محمد هادي معرفة ، صدرت منه ستة أجزاء.

8. « التفسير الأمثل » : للعلاّمة آية اللّه الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - حياه اللّه وبياه - ، وهو ترجمة لتفسيره باللغة الفارسية في عشرين جزءاً ، من منشورات مؤسسة البعثة ، بيروت - 1413 ه.

9. « القرآن والعقل » : للعلاّمة السيد نور الدين العراقي ( المتوفّى 1341 ه ) ، وهو تفسير بديع في اسلوبه ، في ثلاثة أجزاء ، مطبوع في إيران سنة 1403 ه.

10. « تقريب القرآن إلى الأذهان » : تأليف العلاّمة الحجة السيد محمد الشيرازي ، ويقع في 30 جزءاً.

11. « التحقيق في كلمات القرآن » : في أربعة عشر جزءاً تأليف المحقّق الشيخ حسن المصطفوي - دام ظلّه - ، وقد خرج جميع الأجزاء.

12. « مواهب الرحمن في تفسير القرآن » : للعلاّمة الحجة السيد عبد الأعلى السبزواري النجفي ، صدر منه عشرة أجزاء.

13. « تفسير القرآن الكريم مفتاح أحسن الخزائن الإلهية » : تأليف العلاّمة

ص: 482

المحقّق السيد مصطفى الخميني ، مطبوع في إيران خمسة أجزاء ، من منشورات مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره عام 1418 ه.

14. « تفسير البصائر » : تأليف العلاّمة المحقّق الشيخ يعسوب الدين الجويباري ، ويقع في 60 جزءاً ، مطبوع في قم المقدسة عام 1413 ه.

15. « الجديد في تفسير القرآن المجيد » : تأليف العلاّمة الحجة الشيخ محمد بن حبيب اللّه المعروف بالسبزواري النجفي ، سبعة أجزاء ، مطبوع في بيروت من منشورات دار التعارف للمطبوعات - 1402 ه.

16. « مفاهيم القرآن » : كتاب يفسر القرآن حسب موضوعاته ، وهو مبتكر في موضوعه ، بديع في بابه ، تأليف كاتب هذه السطور ، صدرت منه حتّى الآن عشرة أجزاء ، طبع في إيران عدة طبعات.

هذه هي أسماء التفاسير الّتي أُلّفت باللغة العربية في العصر الأخير أتينا بأسمائها من دون مراجعة الفهارس المكتبية.

وهناك تفاسير كثيرة باللغة العربية مطبوعة ومخطوطة لأعلام المعاصرين لم يسمح لهم الزمان بنشرها ، ومن أراد الوقوف على عناية طائفة الإمامية بتفسير الذكر الحكيم طول القرون ، فعليه الرجوع إلى كتاب « الذريعة إلى تصانيف الشيعة » ( الجزء الرابع مادة التفسير ) ومع ذلك فقد فاتته أسماء قسم من التفاسير الّتي أُلّفت في العصر الأخير.

ونحن نكتفي بهذا المقدار من التناقض الموجود بين الرسالتين ، ولا يفوت القارئ الكريم عرفان الحوافز الّتي دفعت المؤلف إلى هذا التناقض.

فإنّ الكاتب في الفترة الأُولى أطلّ بنظرة على الحقائق لا بعين السخط ، وإن

ص: 483

قصّر في كثير من الأُمور ، ولكنّه في الرسالة الثانية أطلّ بنظره عليها بعين السخط بعد قيام الثورة الإسلامية الّتي أثارت المستضعفين والمحرومين في المنطقة على أصحاب العروش ، الذين لم يزل الأُستاذ وأعضاء الوفد والرابطة يؤيدونهم وينصرونهم بأقلامهم وألسنتهم ، فلم يكن له بد من النظر إلى تلك الطائفة من زاوية السخط والغضب ، ولأجل ذلك جاء بالطامات والأكاذيب والنسب المفتعلة الّتي نشير إلى بعضها ، وقد قيل :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا

ولكن لم يكن هناك أيّ سوء أبداه سوى النسب المفتعلة.

وهناك مؤاخذة عامة تعم هذا الفريق من الكتّاب ولا تختص بالأُستاذ ولا بوفده ، وهي أنّهم قد اعتادو على السكوت على الظالم بل الركون إليه والجلوس على موائده ، والتبجّح بضيافته ، وهذه شنشنة نعرفها من هذه الجماعة من عصر الأُمويين إلى يومنا هذا ، ونجلّ العلماء الواقعيين من السنّة عن هذه المؤاخذة.

ولذلك ينبغي أن نركّز على هذه النقطة الّتي كانت ولا تزال أساس الكثير من الانحرافات الّتي ألحقت بالمسلمين أكبر الأضرار في حياتهم الاجتماعية والسياسية ، وجعلت الكتّاب والمفكّرين في خدمة الظالم.

الركون إلى الظالم وحكمه في الإسلام

لا شك أنّ الإسلام قد حرّم الركون إلى الظالم فقال سبحانه : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (1) ، والكاتب وزملاؤه من مؤيدي الحكومات

ص: 484


1- هود : 113.

الجائرة والدعاة لهم في صلوات الجمعة والجماعة ، فما هو جوابهم عند اللّه عن هذا الركون الّذي لا يمكن إنكاره ؟!

هذا هو زميله أبو الأعلى المودودي أوّل فائز بجائزة الملك فيصل ، وذاك نصيره الآخر « عبد رب الرسول سياف » الفائز بالجائزة الملكية عام 1404 ه (1) ، وهكذا دواليك فلا يشك ذو مسكة انّ جميع مشاريعهم وخططهم قائمة بالأُجور المبذولة من قبل الحكومات المفروضة على الأُمّة الإسلامية ، وهؤلاء قبال هذه النعم والترف ، يسعون بكل قوة وحماس ، في تدعيم عروشهم وتحكيم دعائمها ، ومع ذلك يدّعون أنّهم على خط الإسلام ، والتوحيد وغيرهم على خط الوثنية والشرك.

فما هذا التوحيد الّذي يدّعونه ويجعلونه واجهة لكل آمالهم وأُمنياتهم الدنيوية ؟! فلو كانت حقيقة التوحيد كسر الأصنام والأوثان ، وحذف الوسائط بين العبد والرب ، فما معنى تكريم هذه الطواغيت الجائرة ، والدعاء لهم والافتخار بضيافتهم الفاخرة ، والنزول عند رغباتهم واتخاذهم سناداً وعماداً في الحياة حتّى كأنّه لولاهم لما استقر لهم العيش ؟

نراهم ونرى كل من كان في الخط الذي يمشي عليه هؤلاء ، ساكتين في مقابل طواغيت العصر وأعمالهم الإجرامية ومنها تسامحهم بل تعاملهم مع الشيطان الأكبر الّذي زرع دويلة إسرائيل في قلب الأُمّة الإسلامية ، وهومعلوم للأصم والأعمى ، فكيف بالسميع والبصير ؟!

نرى أنّه سبحانه يذمّ الساكتين ويندّد بالمحايدين عندما يطرح حياة أُمّة من بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون في ساحل من سواحل البحر ، فيقسمهم إلى ثلاثة أصناف :

ص: 485


1- جريدة أخبار العالم الإسلامي ، رجب 1407 ه - الموافق 16 آذار 1987 م.

الأوّل : الجماعة الرافضة لحكم اللّه سبحانه ، حيث حرم عليهم صيد البحر يوم السبت قائلاً : ( ... إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ) (1).

الثاني : الجماعة الساكتة الّتي أهمّتهم أنفسهم ، لا ينهون المعتدين عن عدوانهم ، بل كانوا يعترضون على القائمين بوظيفة الإرشاد ، والرد في وجه العاصين والطاغين بقولهم : ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) .

الثالث : الجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر ، محتسبين ذلك وظيفة دينية عريقة ، وقد حكى اللّه سبحانه على لسانهم وقال : ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .

فاللّه سبحانه يخبر أنّه اباد الطائفتين الأُوليين « المنكرين ، والساكتين والمحايدين » وأنجى الطائفة الثالثة قائلاً : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) (2) ، فالآية صريحة في حصر النجاة في الناهين عن السوء وشمول العذاب للمعتدين والساكتين.

فما أصرح الآية في تبيين مصيركم أيّها الساكتون في وجه الطغاة ، الجالسون حول موائدهم العامرة ، المرتادون لمجالسهم وضيافاتهم الفاخرة ، من دون أن تقابلوهم بوجوه مكفهرّة أو بقلوب مملوءة بالغضب ، ومع ذلك تدّعون أنّكم دعاة التوحيد وأعلام الهداية وشعاركم الوحيد « إلى الإسلام من جديد » ؟!!

وهل الإسلام إلاّ أُصول وعقائد وأحكام ووظائف جاء بها خاتم الأنبياء والمرسلين وملأ فمه : « من رأى منكراً فليغيره بلسانه ، فإن لم يستطع فبيده ، ومن لم

ص: 486


1- الأعراف : 163.
2- الأعراف : 165.

يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ».

فهل أنت أيها الأُستاذ ويا أصحاب الندوة والندويين المرتزقين من الوهابية على هذا النمط ؟ فهل رفعتم عقيرتكم على أصحاب الجلالات والعروش بمساهمتهم مع الشيطان الأكبر بإيوائه ثغر الإسلام وأُمّ القرى ومن حولها ؟ كلا ، ولا !! فإنّكم تدركون خطورة الموقف ، وأنّ التخلّف عن الأدب الرسمي فضلاً عن رفع العقيرة ، ينتهي إلى قطع الرواتب والمنح والجوائز ، وبالنتيجة السقوط عن أعينهم وأعين من يعينونهم.

فأنتم بهذا الحال وعّاظ السلاطين وخدّامهم لا وعّاظ الإسلام وخدّام المسلمين غير انّكم اتّخذتم الإسلام والدين واجهة في المجتمع ، ومع ذلك تتمنّون أن يلتف حولكم شباب المسلمين زاعمين أنّكم الإسلام المجسد مع أنّ حياتكم ومنحكم وأُجوركم كلها على عاتق الملوك ، لا على الشعب المسلم ، هذا موجز من دوركم في الحواضر الإسلامية ، ولا نريد البسط والإسهاب « في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء » ؟!!

لقد رأى الكاتب صورتي النبي وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب في المساجد والبيوت ، وقد عزّ عليه ذلك.

أقول : إنّ الكاتب رأى سفور النساء في شوارع طهران يومذاك ورأى المؤسسات الربوية في جميع المدن الّتي زارها ، كما رأى التماثيل المنصوبة لطاغوت العصر في الساحات والميادين ، ولمس سنّ القوانين الكافرة في البلاد ، ولاحظ البرامج التربوية المنحرفة في الجامعات والكليات ، ومع ذلك كله لم ينبس في شأن تلك الموارد ببنت شفة ولم يعترض لا على مضيّفه ، ولا أتى بذكر واحدة من تلك الأُمور المهمة الهدامة لأُسس الإسلام في صميم رسالته ، ولكنّه عزّ عليه وجود

ص: 487

صورة النبي والولي في بعض المساجد ، الّتي لا يوافق عليها العلماء ولا يفعلها إلاّ بعض الجهلة والسذج.

فالإسلام الّذي يجتمع مع سفور النساء ، وإنشاء المؤسسات الربوية ، وانحراف المناهج التربوية ، ويلتئم مع القوانين الكافرة في جميع المظاهر ، ويجتمع مع الدعاء للطواغيت والخضوع لهم ، وأخذ المنح والجوائز من أيديهم ، والتذلّل لهم بكل الوسائل ، عليه السلام ، وعلى مثل ذلك الدين العفا ، وكأنّي بشاعر المعرّة يخاطب تلك الزمرة ، ويقول :

إذا وصف الطائي بالبخل مادر *** وعير قسّاً بالفهاهة باقل

وقال السهى للشمس أنت خفية *** وقال الدجى للصبح لونك حائل

وطاولت الأرض السماء ترفّعاً *** وفاخرت الشهب الحصى والجنادل

فياموت زر انّ الحياة ذميمة *** ويا نفس جدي انّ دهرك هازل

ويا للعجب انّكم تشاهدون بأُمِّ أعينكم السفور والخمور في شوارع العواصم الإسلامية وتعلمون أنّ الحكومات الّتي أنتم تؤيدونها وتدعمونها ، هي السبب الوحيد لهذه الأوضاع الخلقية المؤسفة ومع ذلك لا تنبسون ببنت شفة ، ولمّا قامت الثورة الإسلامية في إيران ، فجابهت فوضى الفساد ، وقطعت جذورها ، خرجتم من أوكاركم متسلحين باسم الإسلام المزعوم تصبون القارعات عليها ، وتشنون الغارات إليها بكل قوّة ووسيلة ، وتكتبون في كل شهر وشهرين رسالة حولها إبعاداً لها عن قلوب الشباب ، وتحاولون تشويه سمعتها ، ما هذا التساهل في مقابل الطغمة الأثيمة في الحواضر الإسلامية ، وما هو الهدف وراء هذه الهجمة الشرسة على الحكومة الإسلامية الفتية الّتي تريد إيقاظ الطوائف الإسلامية ، حتّى تقوم بواجبها وتركز على التمسك بالوحدة ؟!

ص: 488

فبدلاً من دعمها وتأييدها وصيانتها عن الزلة حتّى تنمو وتصير شجرة مثمرة معطية أُكلها كلَّ حين ، قمتم بوجه تلك الحكومة بنشر كتيبات ورسائل تكرّرون الشبه الّتي أكل عليها الدهر وشرب ، وأجاب عنها الفطاحل الأعلام ، وقبل كل شيء تشقون عصا المسلمين وتمزّقون الوحدة ولو كان الهدف من نشرها هو الهداية والإرشاد إلى سبيل التوحيد ، فليست الفرية والافتعال والاعتماد على كتب مخالفيهم ، بل وعلى كتب اليهود والنصارى من شروطها ، ولا نبش الدفائن من أُسسها !! « ما هكذا تورد يا سعد الأبل ».

إنّ ما تذكرونه من الشبهات مأخوذ من كتّاب مغفّلين أو مستغربين ، كموسى جار اللّه التركستاني ، وأحمد أمين المصري ، ذلك الكاتب المتحذلق المختلق ، والقصيمي النجدي ذلك الكيذبان الأشرس على المسلمين جميعاً وعلى الشيعة خصوصاً ، وغيرهم ، وقد قام الفطاحل الأعلام من الإمامية بنقد هذه النسب المفتعلة أو تفسيرها على نهج الحق ، نظراء : الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ، والسيد محسن الأمين الشامي ، وشرف الدين العاملي ، وعبد اللّه السبيتي ، والعلاّمة الأميني - قدس اللّه أسرارهم وأسكنهم فسيح جناته - فكان الواجب على الكاتب ونظيره ترك التعرّض لهذه المسائل بعد الوقوف على هذه الكتب ، غير أنّه راقه تكرار المكرّرات وإغواء البسطاء ، وقبل كل شيء إرضاء الأسياد الذين يقومون في وجه الثورة الإسلامية يخافون من اندلاعها في المنطقة.

لا شك أنّ الحركة نحو الإسلام قد استفحلت في جميع الأقطار الإسلامية وتشرف أن تكون ناضجة مثمرة في الأبعاد الكثيرة ، وانّ الأُمنية الّتي كانت تجول في خواطر الشخصيات الإسلامية الكبيرة منذ بداية القرن الرابع عشر كالسيد جمال الدين الأسدآبادي ، وتلميذه شيخ الأزهر محمد عبده المصري ، والسيد الكواكبي الشامي وسائر الأعلام ، أخذت تتجسد في المجتمع.

ص: 489

فهل يصحّ في هذه الظروف نبش الدفائن والتنقيب عن المسائل الّتي تفكك عرى الوحدة ، وتوجد القلق والاضطراب ، أو ليست الوظيفة في هذه الظروف الدعوة إلى الوحدة وتناسي البحث عن هذه المسائل أو تأجيلها إلى آونة أُخرى ؟!

هذه خلاصة القول في الرسالة الأُولى ، وكفانا في نقدها ما كتبه العلاّمة المحقّق الشيخ لطف اللّه الصافي ( دام ظله ) قبل أعوام عندما نشر الكاتب المذكور رسالته الأُولى ، فأجاب عنها الشيخ برسالة أسماها « إيران تسمع فتجيب » (1) ، وقد قابله بأجوبة رصينة ، وبما أنّ الظروف في تلك الأعوام لم تسمح له بالأصحار بالحقائق بأكثر ممّا فيها ، لذلك طوى الكلام عن كثير من الانتقادات المتوجهة إليها ، فشكر اللّه مساعي شيخنا المحقّق ونفعنا اللّه بوجوده وعلومه.

موجز الرسالة الثانية
اشارة

إنّ الرسالة الثانية تشتمل قبل كل شيء على « علم كلام » جديد غفل عنه مشايخ المعتزلة وأئمة الأشاعرة ، كما تشتمل على أُمور مفتعلة على الشيعة وهم برآء منها ، وقد طرحت في كتب المغرضين من القدماء كابن حزم وتيمية وحجر ، والمتأخرين عنهم أحمد أمين المصري والخضري ذلك الأُموي المباهت وغيرهم من كتب السلف والخلف. والمطلب الجديد الّذي أتى به الكاتب ما زعم أنّه يشترط في النبوّة الدائمة تحقّق شروط أربعة وإنّها من ملامح الرسالة الخالدة ، وإليك تحليل تلك الشروط واحداً بعد الآخر.

الشرط الأوّل للرسالة الخالدة
اشارة

يقول : إنّ معجزة التأثير والهداية يجب أن تتحقّق في حياة الرسول وعلى أثر

ص: 490


1- طبعت الرسالة عام 1399 ه ، ونشرتها دار القرآن الكريم في قم المشرّفة.

وفاته ، ويجب على الرسول أن يقدّم أمام العالم عدداً وجيهاًمن نماذج عملية ناجحة بنّاءة ، ومجتمعاً مثالياً في أيامه ، لأنَّ الشجرة الّتي لم تؤت ثمارها اليانعة الحلوة ولم تتلقح أزهارها العطرة الجميلة أيام شبابها ، وفي موسم ربيعها ( وهو عهد النبوّة ) لا تعتبر شجرة مثمرة سليمة.

وكيف يسوغ لدعاة هذه الدعوة والدين وممثليهما - الذين ظاهروا بعد أن مضى على عهد النبوّة زمن طويل - أن يوجهوا إلى الجيل المعاصر والعالم الحاضر دعوة إلى الإيمان والعمل ، والدخل في السلم كافة وهم عاجزون من تقديم نتائج حيّة باهرة للألباب ، مسلمة عند المؤرخين للمجهودات الّتي بذلت في العهد الأوّل وفي فجر تاريخه في سبيل إبراز أُمّة جديدة وإنشاء جيل مثالي يمثّل التعاليم النبوية أصدق تمثيل ويبرهن على تأثيرها ونجاحها (1).

وحاصل هذا الشرط الّذي ذكره مع ما فيه من التعقيد في العبارة هو أنّ من شرائط النبوّة الخالدة أن يكون صاحبها ناجحاً في تربية الجيل الأوّل وأصحابه الذين التفوا حوله ، إذ لولا ذلك لما صحّت لمن يجيء بعد الرسول ، الدعوة إلى دينه ودعوته بحجة أنّ صاحب الدعوة إذا لم يكن موفقاً في دعوته ، فكيف تكون دعوة الغير إلى سبيله ناجحة ومفيدة ؟

وبالتالي يجب أن يكون صحابته جيلاً مثالياً رائعاً ، وهذا ما يقتضيه الدليل النفسي الاجتماعي ، مع أنّ الشيعة الإمامية يخالفون هذا الرأي ويخطّئون الصحابة.

تحليل هذه النظرية

إنّ كمال الدعوة وصحتها يتمثل في قوّة المحتوى ورصانة حجتها ، بحيث

ص: 491


1- صورتان متضادتان : 11 - 12.

تكون الدعوة مطابقة للفطرة ، وموافقة لحكم العقل السليم ، ومتماشية مع الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية ، عند ذلك تتم الحجة من اللّه سبحانه على العباد ، وأمّا اشتراط كون الداعي موفقاً وناجحاً في دعوته ، وتربية جيله ، فلم يدل عليه شيء من العقل والشرع ، إذ النجاح والفوز ليس دليلاً على صحة الدعوة ، ولاتولي الناس وعدم استجابتهم برهاناً لبطلانها ، والعجب أنّ المنطق الّذي اعتمد عليه الأُستاذ في بيانه ممّا تكرّسه الملاحدة من أتباع « ماركس » و « البهاء » وغيرهم من الأحزاب الباطلة ، فهم يستدلون على صحة خططهم في مجال الحياة بالنفوذ والاستيلاء على الأفكار في مختلف الأقطار ، ويقولون إنّه لم يمض على موت ماركس وانجلس حتّى غطّت فلسفتهما ربع المعمورة ، واعتنقها ملايين الناس.

وهذه هي البهائية البغيضة تشترط في صحة دعوى النبوّة أُموراً أربعة :

1. ادّعاء النبوّة.

2. النفوذ والنجاح في الدعوة.

3. ثبات المدّعي في طريقها.

4. وكونه صاحب شريعة وبرنامج.

هذه هي الأُمور الّتي نسمعها من الماركسية والبهائية ، فإذاً نتحيّر كيف تسرّبت هذه الأفكار المنحرفة إلى ذهن الكاتب فقام بادّعاء ، لا يفترق عن ادّعائهم قيد شعرة ؟!!

لو كان من شروط النبوّة الخالدة إقبال الناس على الداعي إليها ، وخاصّة جيله المعاصر له ، يلزم أن يعذر المولون عن الدعوة في صدر البعثة ، نظراء : أبي لهب وأبي جهل وأُمية بن خلف ، إذ في وسعهم أن يقولوا : إنّ من شرائط صحة النبوّة الخالدة إقبال الناس إلى الداعي ونفوذ دعوته في نفوسهم ، ونحن لا ندري هل يكون هذا الداعي ناجحاً في دعوته ، وهل الناس يستقبلونها بوجوه مشرقة ، أو يردونها بألسنتهم وأكفّهم ، فإذاً نحن لا نؤمن بدعوته ونبوته ورسالته للشك في

ص: 492

صحة رسالته واستجماعها شرائط الصحة ؟!!

ما أشبه الليلة بالبارحة

والعجب أنّ يهود أبناء قريظة والنضير وقينقاع ، تمسّكوا بهذا العذر عندما دعاهم النبي إلى الطريق المهيع.

فقالوا : يا محمد إلى مَ تدعو ؟ قال : « إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّي رسول اللّه ، وأنّي الّذي تجدونني مكتوباً في التوراة ، والّذي أخبركم به علماؤكم انّ مخرجي بمكة ومهاجري بهذه الحرة ... يبلغ سلطاني منقطع الخف والحافر » فقالوا له : قد سمعنا ما تقول ، وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك ولا نعين عليك أحداً ولا نتعرض لأحد من أصحابك ولا تتعرض لنا ولا لأحد من اصحابنا حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك (1).

فقولهم : « حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك » تعليل لتوقفهم في الإيمان برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأنّ تثبتهم لأجل الاستطلاع عن بلوغ سلطانه منقطع الخف والحافر أو لا ، وكأنّهم يقولون : « فما لم نر بأُمِّ أعيننا أنّه آمنت بك جمهرة الناس ، فلا نؤمن بك » فلو كان هذا الكلام ، دليلاً رصيناً يصحّ لكل من كفر ولم يؤمن به في بدء الدعوة الالتجاء إلى هذا العذر ، وعند ذاك أصبح إيمان الناس بدعوة النبي أشبه بالدور ، إذ تلبية كل إنسان معاصر في بدء الدعوة وإيمانه بالدعوة النبوية ، يتوقف على تحقّق هذا الشرط أي إيمان الجيل المعاصر به ، ومن جانب آخر يتوقف تحقّق هذا الشرط على تلبية كل إنسان معاصر للدعوة وإيمانه به ، وهل هذا إلاّ الدور الصريح المحال ، وعندئذ لايصل الداعي إلى نتيجة إيجابية أبداً ، ويكون الكفّار في صدر الدعوة معذورين حسب هذا المنطق.

ص: 493


1- إعلام الورى بأعلام الهدى : 76.

هذا كلّه راجع إلى تحليل هذا الشرط من زاوية قضاء العقل ، فهلم معي نعرض صحة هذا الشرط على القرآن الكريم ، وهل هو يصدّق الكاتب في هذا الادّعاء أو يكذّبه من أساسه.

نحن نرى أنّ هناك أنبياء صادقين لم ينجحوا في دعوتهم طيلة حياتهم ، هذا قوله سبحانه يصف كيفيّة نجاح نوح علیه السلام بقوله :

( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (1) ، وقد قام بالدعوة وإرشاد الناس ولبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، فما آمن به إلاّ عدّة قليلة أركبها على الفلك.

إنّ الاعتماد على الكثرة هو منطق الفراعنة ، وقد كان فرعون يصف أتباع موسى بقوله : ( إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) (2) ، وعلى العكس يصف سبحانه أتباع الحق ويقول : ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ) (3).

على أنّه لا ملازمة بين صحة دعوة الداعي ، وإجابة المدعوين ، فربّما يكون الداعي كاملاً في دعوته ، قويّاً في منطقه ، رصيناً في بيانه ومجرّباً في إلقاء الحجّة ، إلاّ انّ الظروف لا تسمح للتجاوب والتصويت ، أو يكون المدعوّون أُسراء الشهوة وطلاّب اللذة فلا يكون الداعي مهما بلغ في صحة الدعوة شأواً شامخاً ناجحاً في الدعوة.

فلسفة جديدة

وان تعجب فعجب أنّه جعل نجاح الداعي في تربية الجيل الأوّل وصحبه الكرام شرطاً للرسالة الدائمة والنبوة الخالدة ، لا شرطاً لمطلق النبوّة والرسالة ، وإن

ص: 494


1- هود : 40.
2- الشعراء : 54.
3- ص : 24.

طال الفصل بين دعوة النبي الأوّل ودعوة النبي الآخر الناسخ لشريعته ، كدعوة موسى بن عمران بالنسبة إلى دعوة المسيح ، حيث إنّ الفصل بين الدعوتين يقرب من ثلاثة آلاف سنة ، فنسأل الأُستاذ بأيّ دليل جعل النجاح شرطاً للرسالة الخالدة دون مطلقها مع أنّ بعض الرسالات غير الخالدة ، كانت مستمرة حوالي ثلاث آلاف سنة ، أي أكثر ممّا مضى من بعثة الرسول الأكرم إلى زماننا هذا ، فلو كان عدم النجاح في الرسالة الخالدة دليلاً على وهن الدعوة في نظر الناس الذين جاءوا بعد مضي صاحبها بقرون ، فليكن عدم الفوز والنجاح موهناً في نظر الناس في نظائر الرسالات الطويلة وان لم تكن خالدة ، وعلى هذا الأساس يكون الكافرون بشرائع ، كشريعة موسى لأجل عدم نجاحه في طريق دعوته ، معذورين عند اللّه ، ولا أظن لمسلم واع أن يصحح ذلك الادّعاء ويعذر الكافرين والمتولّين عن دعوة الأنبياء ، ولأجل ذلك يصبح منطق الأُستاذ فلسفة جديدة لم يسبق إليها أحد من علماء الكلام ولا فلاسفة الإسلام.

النبي الأعظم كان ناجحاً في دعوته

إنّ النبي الأكرم قد نجح في دعوته ، ولكن ليس معنى نجاح دعوته هو عدالة كل من رآه أو سمع منه شيئاً أو صحبه يوماً أو أياماً اوسنة اوسنتين ، إذ لا ملازمة بين نجاح الدعوة وعدالة من صحبه ، بل المراد من نجاحه هو تأثيرها في أُمم العالم ، معاصرة كانت أم لاحقة ، والدعوة المحمدية أثّرت في أُمم العالم وشعوبها وأصحابه والتابعين لهم بإحسان حتّى المنافقين من أصحابه ، والكل أخذوا منه حسب قابليتهم واستعدادهم ، فقد بلغت عدّة من أصحابه إلى القمّة كعلي بن أبي طالب ، وسلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، وخزيمة بن ثابت ، إلى غير ذلك من أصحابه الكرام ، كمابلغت عدة منهم درجة المتوسطين في الإيمان والعمل ، كما

ص: 495

أنّ هناك عدة أُخرى تعد من الراسبين في كلا المجالين ، ومن قرأ تاريخ الصحابة يعلم أنّهم لم يكونوا على مستوى واحد في الإيمان والعمل.

نحن نفترض صحة ما ادّعاه من الشرط وأنّ الصورة الواقعية من الإسلام الصحيح ، هو الّذي رسمه من لزوم نجاح الرسول في تربية جيله الأوّل عامّة ، وانّ كل من رآه وسمع كلامه وصحبه ، كان مؤمناً ورعاً متربياً بالتربية الصحيحة الإسلامية ، وبقوا على هذه الحالة حتّى انتقلوا إلى رحمة اللّه ، غير انّنا نرى أنّ الصحاح والمسانيد ، تقدّم صورة معاكسة لما صوّره الأُستاذ ، فهي تهدم كل مجهودات النبي في مجال التربية وتوجيه الرعيل الأوّل ، وتثبت له إخفاقاً لم يواجهه أي مصلح أو مرب خبير ، وتقدم صورة كالحة جاحدة للنعمة ، وإليك ما يذكره البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ذلك الجيل المثالي خريج مدرسة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله فروى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما ما يدل على أنّ أصحابه صلی اللّه علیه و آله ارتدوا على أدبارهم القهقرى ، فجوابك أيّها الأُستاذ عن هذه الأحاديث هو جواب الشيعة عن أخبار الارتداد حرفاً بحرف ، وإليك نقل ما رواه الشيخان :

1. روى عبد اللّه بن مسعود رضی اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن إليّ رجال منكم ، حتّى إذا أهويت إليهم لأُناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب ، أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ». أخرجه البخاري ومسلم.

2. روى أنس بن مالك رضی اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « ليردن عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتّى إذا رأيتهم ورفعوا إليّ ، اختلجوا دوني ، فلأقولنّ أي ربِّ أصحابي أصحابي ، فليقالن لي إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ».

وفي رواية « ليردن عليّ أناس من أُمّتي » - الحديث - وفي آخره : « فأقول سحقاً

ص: 496

لمن بدّل بعدي ». أخرجه البخاري ومسلم.

3. روى أبو حازم رحمه اللّه عن سهل بن سعد قال : سمعت النبي صلی اللّه علیه و آله يقول : « أنا فرطكم على الحوض من ورد شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم » قال أبوحازم فسمع النعمان بن أبي عياش وأنا أُحدّثهم هذا الحديث فقال : هكذا سمعت سهلاً يقول ؟ فقلت : نعم ، قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري : لسمعته يزيد فيقول : « إنّهم مني فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي ». أخرجه البخاري ومسلم.

4. روى أبو هريرة انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي - أو قال من أُمّتي - فيحلؤون عن الحوض ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ». وفي رواية « فيجلون ». أخرجه البخاري ومسلم.

5. روى البخاري : انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت : أين ؟ قال : إلى النار واللّه. فقلت : ما شأنهم ؟ قال : إنّهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة أُخرى ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال لهم : هلم ، فقلت : إلى أين ؟ قال : إلى النار واللّه. قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنّهم قد ارتدوا على أدبارهم ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم ».

6. وروى مسلم : أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « ترد عليّ أُمّتي الحوض وأنا أذود الناس عنه ، كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله » قالوا : يا نبي اللّه تعرفنا ؟ قال : « نعم ، لكم سيما ليست لأحد غيركم ، تردون علي غرّاً محجّلين من آثار الوضوء ،

ص: 497

وليصدّن عني طائفة منكم ، فلا يصلون ، فأقول : يا رب هؤلاء من أصحابي فيجيبني ملك فيقول : وهل تدري ما أحدثوا بعدك ؟ ».

7. روت عائشة رضي اللّه عنها ، قالت : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول - وهو بين ظهراني أصحابه - : « إنّي على الحوض أنتظر من يرد عليّ منكم ، فواللّه ليقتطعن دوني رجال فلأقولن : اي ربِّ مني ومن أُمّتي ، فيقول : إنّك لا تدري ما عملوا بعدك ، ما زالوا يرجعون على أعقابهم ». أخرجه مسلم.

8. روت أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما. قالت : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي على الحوض أنظر من يرد عليّ ، وسيؤخذ ناس دوني ، فأقول : يا ربّ مني ومن أُمّتي - وفي رواية فأقول : أصحابي - فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك ؟ واللّه ما برحوا يرجعون على أعقابهم » أخرجه البخاري ومسلم (1).

فإذا كان رمز صدق الرسالة الخالدة هو النجاح الّذي يلقاه صاحب الدعوة في دعوته وتربية الجيل الأوّل ، فمن هؤلاء الذين يقول في حقّهم النبي صلی اللّه علیه و آله : « سحقاً سحقاً ، لمن غيّر بعدي » ؟!!

هذا كلّه حول الشرط الأوّل للرسالة الخالدة. وفي ما يلي دراسة باقي شرائط الرسالة الدائمة في ضوء العقل والكتاب والسنّة.

الشرط الثاني للرسالة الخالدة

يقول الكاتب :

يجب أن يكون الداعي الأوّل متميّزاً عن مؤسس الحكومات والدعاة

ص: 498


1- راجع جامع الأُصول : 11 / 119 - 121 ، وعليك مراجعة ذلك الكتاب لمعرفة ما لم ننقل من الأحاديث ، لاحظ ص 478 من هذه الموسوعة.

الماديين ، فإنّ محور الجهود الّتي يبذلها مؤسسو تلك الحكومات هو قيام مملكة خاصّة ، وتأسيس حكومة وراثية ، ثم استنتج من هذا الشرط أنّ عقيدة الشيعة بالإمامة الموروثة على خلاف هذا الشرط (1).

أقول : إنّ الشيعة الإمامية عن بكرة أبيهم لم يقولوا بالحكومة الوراثية ، وإنّما هي تهمة أُلصقت بهم بسبب الجهل بمعتقداتهم ، فإنّ الشيعة وإن قالت بأنّ الإمام المفترضة طاعته بعد علي ، هو ابنه الحسن ، فالحسين ، وهكذا ، ولكنّه ليس لأجل أنّهما ولدا الإمام علي بن أبي طالب ، وإنّما لأجل التنصيص على إمامتهما من جانب الرسول خلال حياته ، بقوله : « الحسن والحسين ابناي إمامان قاما أو قعدا » (2). ولو قالت الشيعة بأنّ الإمام بعد الحسين هو ابنه علي بن الحسين لا من جهة أنّه ولده ووارثه ، بل لأجل التنصيب من اللّه سبحانه لهم ، ولو كانت الوراثة هي المحور للإمامة لكان أخو الإمام الحسين ، أعني : محمد بن الحنفية أَوْلى بها من علي بن الحسين ، لأنّه ابن الإمام أمير المؤمنين علي ، وأكبر سناً من ابن الحسين علي السجاد.

وعلى ذلك ، فالشيعة تعتقد بإمامة الأئمّة الاثني عشر أوّلهم أمير المؤمنين علیه السلام وآخرهم الإمام القائم الّذي أخبر عنه الرسول وعن غيبته وظهوره وقيامه في كلماته ، وقد ملأت كتب الفريقين أحاديثه ، وذلك لأجل وجود النص على إمامة هؤلاء من النبي الأكرم ومن كلّ إمام بالنسبة إلى إمام بعده ، فباكتمال العدد الاثني عشر ، انتهت الإمامة التنصيصية ، فلو كانت الإمامة عندهم بملاك الوراثة لوجبت إدامة الإمامة ، إدامة وراثية من أهل بيت النبي صلی اللّه علیه و آله وأولاد الأئمّة

ص: 499


1- صورتان متضادتان : 12.
2- أو أبناي هذان ... رواه أعلام الفريقين : لاحظ « أهل البيت » تأليف أبو علم طبع مطبعة السعادة بالقاهرة.

الأطهار ، وهذه الحقيقة يلمسها كلُّ من وقف على معتقدات الشيعة.

ثم لو فرضنا صحة ما يقوله الأُستاذ ، فنقول : إنّ الشيعة والسنّة في هذا الأمر سواسية ، وقد روى مسلم في صحيحه مسألة وراثة قريش الإمامة والخلافة واحداً تلو الآخر منهم ، إلى أن ينتهي عددهم إلى الاثني عشر ، فجواب الأُستاذ عن هذه الأحاديث هو نفس جواب الشيعة عن الإمامة الوراثية المزعومة.

روى مسلم في صحيحه عن رسول اللّه أنّه قال : « لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان ».

وروى عن جابر بن سمرة ، قال : دخلت مع أبي على النبي صلی اللّه علیه و آله فسمعته يقول : « إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة » ثم تكلم بكلام خفي عليّ قال : فقلت لأبي ما قال ؟ قال : قال « كلّهم من قريش ».

وفي نص آخر يقول : « لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة » ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي ما قال ؟ فقال : « كلّهم من قريش » (1).

فنسأل الأُستاذ ما معنى هذه الحكومة الوراثية الّتي أخبر عنها النبي الصادع بالحق ، وأنّ قبيلة قريش تستلم الخلافة واحداً تلو الآخر إلى أن ينتهي عدد الخلفاء إلى اثني عشر خليفة ؟ فلو كانت الحكومة الوراثية صورة معكوسة عن الحكومة الإلهية والدعوة السماوية ، فلماذا أخبر عنها النبي كما أخبر بأنّ الإسلام يعتز بهم ، أفهل يتصوّر عزة الإسلام بحكومة على غرار الحكومات المادية ؟!

ثم نسأل الأُستاذ مَنْ أُولئك الأئمة الاثنا عشر الذين أخبر عنهم خاتم الأنبياء والرسل ؟ أفهل ينطبق ذلك بعد الخلفاء الأربعة ، على خلفاء الأمويين أو

ص: 500


1- صحيح مسلم : 2 / 3 ، كتاب الامارة ، باب الناس تبع لقريش والخلافة لقريش.

العباسيين ؟ وهل الإسلام اعتز بخلافة معاوية ثم ابنه يزيد ، ثم المروانيين وبعدهم العباسيون ؟!

نعم هذه الأحاديث الّتي جاءت في صحيح مسلم لا تنطبق إلاّ على الأئمة الاثني عشر ، الذين ذهبت الإمامية إلى خلافتهم وجاءت النصوص على إمامتهم من النبي الأكرم وأهل بيته على وجه لو جمعت تلك النصوص لصارت كتاباً مفرداً ضخماً وقد اعتز الإسلام بعلومهم وسلوكهم.

وفي ختام دراسة هذا الشرط نلفت نظر الكاتب إلى أنّه إذا كانت الحكومة الوراثية شعار الحكومات المادية ، فيجب تنزيه النبوّات على الإطلاق عنها من غير فرق بين الدائمة والمؤقتة ، ومع ذلك كلّه نرى وجود الحكومة الوراثية في النبوّات السابقة ، قال سبحانه : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) (1) ، فاللّه سبحانه وهب الملك العظيم لآل إبراهيم ، فجعل من بينهم ملوكاً وأُمراء فلو كانت الحكومة الوراثية رمز الحكومات المادية البشرية ، فلماذا وهبها سبحانه للأنبياء من ذرية إبراهيم علیه السلام إذ قال : ( أَمْ يَحْسُدُونَ ... ) الخ ؟

وقال سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ) (2) ، هذا كلّه حول الشرط الثاني من الشرائط الّتي انتخبها الأُستاذ للنبوّات الخالدة حسب ذوقه ، وقد عرفت أنّ الكتاب والسنّة يخالفاه ، وإليك تحليل الشرط الثالث.

ص: 501


1- النساء : 54.
2- المائدة : 20.
الشرط الثالث للرسالة الخالدة
اشارة

قال الأُستاذ :

يجب أن تكون الصحيفة السماوية الأخيرة الّتي نزلت على النبيِّ الخاتم ( والّتي تعتبر أساساً لدينه ، ومصدراً لتعاليمه ودعوته ووسيلة دائمة لربط الخلق بخالقه ) مصونة سالمة في كل حرف من حروفها ونقطها.

أقول : لا شك أن الرسول الخاتم لأجل خلود رسالته ودوام نبوّته يجب أن تكون صحيفته السماوية مصونة عن كلِّ تحريف ، لأنّ المفروض أنّ رسالته خاتمة الرسالات ونبوّته خاتمة النبوّات ، وكتابه خاتم الكتب ، لا ينزل بعده أيّ كتاب وصحيفة إلى يوم القيامة ، وعلى ضوء ذلك لا محيص عن تعلّق مشيئته الحكيمة على حفظه وصيانته ، ليتسنّى للبشر إلى يوم القيامة العمل ببرامج وتعاليم تلك الرسالة ، ولو طرأ عليه التحريف لما تسنّى للأجيال الآتية القيام بوظائفهم الحقيقية وعندئذ ضاعت غاية « البعثة » وهدفها ويكون الناس إلى يوم القيامة جاهلين بالشريعة.

وقد ذهب المحقّقون من الشيعة والسنّة إلى تحقّق هذا الشرط في نبوّة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وإن وجد بين الطائفتين من الحشوية من السنّة ، والاخبارية من الشيعة من ذهب إلى طروء التحريف على كتابه ، لكن القول به شاذ في كلتا الطائفتين والروايات الواردة في كتبهم روايات شاذة لا يعبأ بها ، والرأي السائد في عامّة الأجيال بين الفريقين هو صيانة الكتاب من التحريف ، أمّا السنّة فقد تسالم عليها الأُستاذ ، وأمّا الشيعة فقد نسب إليهم الكاتب التحريف تقليداً لمن سبقه من رماة القول على عواهنه ، ومن راجع كتب المحقّقين منهم يرى اتّفاقهم على ذلك ،

ص: 502

ونحن نأتي بأسماء مجموعة منهم ، وإن كان الفائت من أسمائهم أكثر ممّا أتينا به :

1. أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالصدوق ( المتوفّى 381 ه ) يقول : اعتقادنا في القرآن انّه كلام اللّه ووحيه وتنزيله وقوله وكتابه وإنّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم ، وانّه القصص الحق ، وانّه لحق فصل وما هو بالهزل ، وانَّ اللّه تبارك وتعالى محدثه ومنزله وربّه وحافظه والمتكلّم به (1).

2. السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي ( المتوفّى 436 ه ) قال : إنَّ جماعة من الصحابة مثل عبد اللّه بن مسعود ، وأُبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي عدّة ختمات ، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنّه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث (2).

3. أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة ( المتوفّى 460 ه ) : قال : وأمّا الكلام في زيادة القرآن ونقصه فممّا لا يليق به أيضاً ، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الّذي نصره المرتضى ، وهو الظاهر في الرواية ، قيل إنّه رويت روايات كثيرة من جهة الشيعة وأهل السنّة ينقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، لكن طريقها الآحاد الّتي لا توجب علماً ولا عملاً ، والأولى الإعراض عنها (3).

4. أبو علي الطبرسي ، صاحب تفسير « مجمع البيان » يقول : الكلام في زيادة

ص: 503


1- الاعتقادات : 93.
2- مجمع البيان : 1 / 10 ، نقلاً عن جواب المسائل الطرابلسيات للسيد.
3- التبيان : 1 / 3.

القرآن ونقصانه ، أمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامّة أنّ في القرآن تغييراً أو نقصاناً والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه (1).

5. السيد علي بن طاووس الحلي ( المتوفّى 664 ه ) : قال : إنّ رأي الإمامية هو عدم التحريف (2).

6. الشيخ زين الدين العاملي النباطي البياضي ( المتوفّى 877 ه ) يقول في تفسير قوله : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (3) : أي إنّا لحافظون له من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان (4).

7. القاضي السيد نور اللّه التستري صاحب كتاب « إحقاق الحق » ( المتوفّى 1019 ه ) يقول : ما نسب إلى الشيعة الإمامية من وقوع التغيير في القرآن ليس ممّا يقول به جمهور الإمامية إنّما قال به شرذمة قليلة منهم ، لا اعتداد لهم فيما بينهم (5).

8. الشيخ البهائي نابغة عصره ونادرة دهره محمد بن حسين المشتهر ببهاء الدين العاملي ( المتوفّى 1030 ه ) قال : الصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك زيادة كان أو نقصاناً ، وما اشتهر بين العلماء من إسقاط اسم أمير المؤمنين علیه السلام منه في بعض المواضع فهو غير معتبر عند العلماء (6).

9. المحدّث الأكبر الفيض الكاشاني ( المتوفّى 1091 ه ) صاحب كتاب « الوافي » الّذي يعد من الجوامع الحديثية المتأخرة قال : وقال اللّه تعالى : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) (7) وقال : ( إِنَّا نَحْنُ

ص: 504


1- مجمع البيان : 1 / 10.
2- سعد السعود : 144.
3- الحجر : 9.
4- إظهار الحق : 2 / 130.
5- و (6) آلاء الرحمان : 1 / 25 - 26.
6- فصلت : 41 - 42.

نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) عندئذ كيف يتطرّق إليه التحريف والتغيير ... مع أنّ خبر التحريف مخالف لكتاب اللّه ، مكذب له ، فيجب ردّه والحكم بفساده وتأويله (1).

10. الشيخ الحر العاملي ( المتوفّى 1104 ه ) قال : والمتتبع للتاريخ والأخبار والآثار يعلم يقيناً بأنّ القرآن ثابت بغاية التواتر ، وبنقل الآلاف من الصحابة ، وانّ القرآن كان مجموعاً مؤلفاً في عهد الرسول (2).

هذه هي الشخصيات الكبيرة من الإمامية الذين عرفت تنصيصهم على عدم طروء تحريف على الذكر الحكيم ، وقد جئنا بأسماء القائلين بعدم التحريف إلى نهاية القرن الحادي عشر ، وأمّا الذين نصّوا على عدم التحريف في القرون الأخيرة فحدّث عنهم ولا حرج ، كيف ، وقد ألّفوا رسائل كبيرة وصغيرة حول الموضوع ، ونحن نسأل الأُستاذ بأيّ دليل يقول بأنّ تنصيص الشخصيات الأربع الأُول على عدم التحريف من باب التقية ، أهكذا أدب العلم وأدب الإسلام ؟ أليس اللّه تعالى يقول : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ) (3) ؟! والعجب أنّه يستشهد على هذا النظر بقول أعداء الشيعة ويترك قول علمائهم ، وبما أنّ الكاتب يستند في بعض أبحاثه إلى كلمات قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني - دام ظله - نأتي بنصِّ كلامه في هذا الموضع ، وهذا ما جاء في محاضراته الّتي أُلقيت قبل بضع وثلاثين سنة :

« إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه قراءة وكتابة ، يقف على بطلان تلك المزعمة ( التحريف ) وانّه لا ينبغي أن يركن إليها ذو

ص: 505


1- تفسير الصافي : 1 / 51.
2- راجع آلاء الرحمان : 1 / 25.
3- النساء : 94.

مسكة ، وما وردت فيه من الأخبار ، بين ضعيف لا يستدل به ، إلى مجعول يلوح منه أمارات الجعل ، إلى غريب يقضي منه العجب ، إلى صحيح يدل على أنّ مضمونه تأويل الكتاب وتفسيره ، إلى غير ذلك من الأقسام الّتي يحتاج بيان المراد منها إلى تأليف كتاب حافل ، ولولا خوف الخروج عن طور البحث لأرخينا عنان البيان إلى تشريح تاريخ القرآن وما جرى عليه طيلة القرون ، وأوضحنا لك أنّ الكتاب هو عين ما بين الدفتين ، والاختلاف الناشئ بين القرّاء ليس إلاّ أمراً حديثاً لا ربط له بما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين (1).

الرسائل المفردة حول صيانة القرآن من التحريف

إنّ علماء الشيعة الإمامية لم يقتصروا على هذه الجمل القصيرة حول صيانة الذكر الحكيم من التحريف بل ألّفوا رسائل مفردة منذ أربعة قرون حولها :

1. الشيخ الحر العاملي قد أفرد رسالة في هذا الموضوع أسماها « تواتر القرآن » (2).

2. الشيخ عبد العالي الكركي ، فقد ألّف رسالة في نفي النقيصة عن القرآن ، ذكرها العلاّمة الشيخ محمد جواد البلاغي في « آلاء الرحمن » (3). وقد جاء في الرسالة كلام الصدوق ، ثم أعترض على نفسه بورود روايات تدل على التحريف ، فأجاب بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب والسنّة المتواترة أو الإجماع ولم يتمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه ، وجب طرحه.

ص: 506


1- تهذيب الأُصول : 2 / 96 ، تقريرات أبحاث الإمام الخميني بقلم جعفر السبحاني.
2- أمل الآمل : 1 / 31.
3- آلاء الرحمن : 1 / 26.

3. المتتبع البارع الشيخ آغا بزرگ الطهراني مؤلف « الذريعة إلى تصانيف الشيعة » ، فقد أفرد رسالة أسماها « النقد اللطيف في نفي التحريف ».

4. العلاّمة الحجة الشيخ عبد الحسين الرشتي الحائري ، فقد ألّف رسالة حول الموضوع أسماها « كشف الاشتباه ».

5. خصص العلاّمة المحقّق السيد الطباطبائي بحثاً مبسوطاً في صيانة الذكر الحكيم في ميزانه ، في تفسير قوله : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (1).

6. انّ العلاّمة المحقّق السيد الخوئي - دام ظلّه - قد أفرد بحثاً ضافياً حول صيانة الذكر الحكيم في كتابه « البيان في تفسير القرآن » ، وقد أغرق نزعاً في التحقيق فلم يبق في القوس منزعاً.

7. وقد قام العلاّمة الشيخ رسول جعفريان بتأليف رسالة نافعة حول الموضوع أسماها « أُكذوبة تحريف القرآن » حياه اللّه وبياه.

8. العلاّمة الشيخ آية اللّه محمد هادي معرفة ، فقد قام بتأليف كتاب قيّم حول الموضوع أسماه « صيانة القرآن من التحريف » طبع في قم المقدسة سنة 1413 ه ، وهو من منشورات مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

وليست عقيدة الشيعة حول الذكر الحكيم أمراً مخفياً على المحقّقين من السنّة ، فهذا علاّمة الهنود رحمة اللّه الهندي نقل عقيدة الشيعة في كتابه ، وقال : إنّ القرآن المجيد عند جمهور علماء الشيعة الإمامية الاثني عشرية محفوظ عن التغيير والتبديل ، ومن قال منهم بوقوع النقصان فيه ، فقوله مردود غير مقبول عندهم (2).

ص: 507


1- الميزان : 12 / 106 - 137.
2- إظهار الحق : 2 / 128.

وأخيراً نلفت نظر القارئ ، إلى محقّق عصرنا السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي ، فقد قال في كتابه « أجوبة مسائل موسى جار اللّه » نسب إلى الشيعة القول بتحريف القرآن بإسقاط كلمات وآيات ، ثم قال : نعوذ باللّه من هذا القول ، ونبرأ إلى اللّه تعالى من هذا الجهل ، وكلُّ من نسب هذا الرأي إلينا ، جاهل بمذهبنا أو مفتر علينا ، فإنّ القرآن العظيم والذكر الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته وسائر حروفه وحركاته وسكناته تواتراً قطعياً عن أئمّة الهدى من أهل البيت علیهم السلام ولا يرتاب في ذلك إلاّ معتوه (1).

ثم إنّ المتحاملين على الشيعة في مسألة تحريف القرآن يستندون إلى كتاب « فصل الخطاب » للمحدّث النوري الّذي جمع فيه المسانيد والمراسيل الّتي استدل بها على النقيصة ، ولكن غفل المتحامل عن الرسائل الكثيرة الّتي أُلّفت ردّاً عليه ، وكفى بذلك ما ذكره العلامة البلاغي فقال : إنّ القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار وقد وصف علماء الرجال كلاًّ منهم بأنّه :

1. إمّا ضعيف الحديث ، فاسد المذهب ، مجفو الرواية.

2. وإمّا بأنّه مضطرب الحديث والمذهب يعرف حديثه وينكر ، ويروي عن الضعفاء.

3. وإمّا بأنّه كذّاب متهم لا استحل أن أروي من تفسيره حديثاً واحداً ، وانّه معروف بالوقف وأشد الناس عداوة للرضا علیه السلام .

4. وإمّا بأنّه كان غالياً كذّاباً.

5. وإمّا بأنّه ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعول عليه ومن الكذّابين.

6. وإمّا بأنّه فاسد الرواية يرمى بالغلو.

ص: 508


1- أجوبة مسائل موسى جار اللّه : 34.

ومن الواضح أنّ أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئاً ، هذه حال المسانيد ، وأمّا أكثر المراسيل فمأخوذة من تلك المسانيد (1).

هذا توصيف إجمالي عن هذه الروايات الّتي يستند إليها أعداء الشيعة في هذه النسبة ، ويكفي في ذلك أنّ ثلاثمائة حديث من هذه الأحاديث ، يرويها السيّاري : ويكفي في ضعفه قول الرجالي المحقّق النجاشي : انّه ضعيف الحديث ، فاسد المذهب ، مجفو الرواية ، كثير المراسيل ، متهم بالغلو (2).

كما أنّ كثيراً من هذه الروايات ينتهي إلى يونس بن ظبيان الّذي وصفه النجاشي بقوله : ضعيف جداً ، لا يلتفت إلى ما رواه ، كل كتبه تخليط (3).

كما أنّ قسماً منه ينتهي إلى منخّل بن جميل الكوفي وقد نص النجاشي على كونه ضعيفاً فاسد الرواية (4).

الكافي كتاب حديث لا كتاب عقيدة

ثم إنّ الكاتب يستند في هذه النسبة إلى وجود روايات التحريف في الكافي ، ولكنّه غفل عن أنّ كتاب الكافي في نظر الإمامية ليس كالصحاح في نظر أهل السنّة الذين يقولون : إنّ كل ما في البخاري صحيح ، وإنّما هو كتاب : فيه الصحيح والضعيف والمرسل ، وما يوافق الكتاب وما يخالفه ، فلا يمكن الاستدلال بوجود الرواية فيه على عقيدة الشيعة ، وما يلهج به علماء الحديث في حق صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد ويقولون :

ص: 509


1- آلاء الرحمن : 1 / 26.
2- رجال النجاشي : 1 / 211 برقم 190.
3- رجال النجاشي : 2 / 423 برقم 1211.
4- رجال النجاشي : 2 / 372 برقم 1128.

وما من صحيح كالبخاري جامعاً *** ولا مسند يلفى كمسند أحمد

أقول : إنّ ما يلهجون به في حق كتبهم مخصوص بهم ، فليس كلّ ما في الجوامع الحديثية عند الشيعة ، صحاحاً يستدل بكلّ حديث ورد فيها في كلّ موضوع ومورد ، بل الاستدلال يتوقّف على اجتماع شرائط الصحّة التي ذكرها علماء الدراية والحديث ، ونحن واللّه نعاني من عدم اطّلاع هؤلاء على « أبجدية » عقائد الشيعة ومداركها ومصادرها.

التحريف في كتب أهل السنّة

نحن نجلّ علماء السنّة ومحقّقيهم عن نسبة التحريف إليهم ، ولكن لو كان وجود الرواية في كتب التفسير والحديث دليلاً على العقيدة ، فقد رويت أحاديث التحريف في كتبهم أيضاً ، ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من هذه الروايات نشير إلى بعضها :

1. أخرج أبو عبيد في الفضائل ، وابن مردويه ، وابن الأنباري ، عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلی اللّه علیه و آله مائتي آية ، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلاّ على ما هو الآن (1).

2. عن عمر : لولا أن يقول الناس ، إنّ عمر زاد في كتاب اللّه لكتبت آية الرجم بيدي (2).

3. نقل عن ابن مسعود أنّه حذف المعوذتين من المصحف ، وقال : إنّهما ليستا من كتاب اللّه (3).

ص: 510


1- الدر المنثور : 5 / 180 ; تفسير القرطبي : 14 / 113.
2- صحيح البخاري : 1 / 69 ، باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء ، ط مصر - 1372 ه.
3- الدر المنثور : 6 / 416.

وهناك روايات كثيرة مبثوثة في كتب التفاسير والحديث والتاريخ تحكي عن طروء التحريف على الذكر الحكيم ، ونحن نقتصر على الأقل القليل منها ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب « اكذوبة تحريف القرآن بين الشيعة والسنّة » : ص 27 - 33.

ونحن نرى أنّ في الإصرار على نسبة التحريف إلى أيّة طائفة من الطوائف الإسلامية ضرراً واسعاً على الإسلام والمسلمين ، ولا يستفيد منه إلاّ المستعمرون وأذنابهم.

وعلى الرغم من كثرة هذه الروايات نحن لا نؤمن بصحتها كما لا يؤمن علماء أهل السنّة المحقّقون بها ، ولا تبتني عقيدتهم عليها ، فهي بين ضعاف السند ، أو ضعاف الدلالة ، وقبل كل شيء تخالف الذكر الحكيم وإجماع الأُمّة.

اقتراح للمتسرّعين في الكتابة

نحن نرى أنّ عدّة من المتسرّعين في الكتابة حول الملل والنحل ، وبالأخص حول الشيعة الإمامية ، يجترئون في خلق النسب المخزية إلى تلك الطائفة ، ويعتمدون في كل ذلك على كتب المستشرقين ، أو ما أُلّف بيد المغفلين الجاهلين بعقيدة الشيعة ، وأخيراً يعتمدون على بعض كتب الشيعة الّتي لا تعد مصدراً رصيناً لبيان عقيدة تلك الطائفة.

ونحن نقترح على هؤلاء الكتّاب أن يقيموا مؤتمراً علمياً حراً في إحدى العواصم الإسلامية تحضره عدّة من محقّقي السنّة والشيعة ليتدارسوا تلك النسب المفتعلة ، على ضوء المصادر الصحيحة للشيعة والسنّة ، فلعل هذا المؤتمر إذا أُقيم بشكل صحيح يكون ناجحاً في رفع الأغطية والأغشية عن أعين كثير من غير

ص: 511

المطّلعين على عقيدة تلك الطائفة ، وانّ علماء الشيعة مستعدون للبحث والنقاش والحوار الصحيح الّذي دعا إليه القرآن الكريم في كل مكان وزمان بشرط أن يكون المؤتمر محايداً حراً غير منحاز إلى فئة دون فئة ، وسياسة دون سياسة ، فعند ذلك ستتجلّى الحقيقة ويرى إخواننا أهل السنّة أنّ هناك مشتركات بين الطائفتين تزيد على مفترقاتهما القليلة ، وأنّ ما يجمعنا أكثر ممّا يفرقنا ، كما تتجلّى قوّة منطق الشيعة في مورد المفترقات ( فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ) (1).

هذا كلّه حول الشرط الثالث ، وإليك الشرط الرابع الّذي هو آخر الشرائط الأربعة للنبوّة الخالدة.

الشرط الرابع للنبوّة الخالدة
اشارة

قال الكاتب : الشرط الرابع : هو أن يكون النبيُّ بذاته مركز الهداية ومصدر القيادة ومحور العلاقة القلبية والانقياد الفكري للأُمّة ، فتعتقد بكونه خاتم الرسل ولا تسمح لأحد بعده بالمشاركة في النبوّة والتشريع المطلق ، ولا تعتقد في أحد آخر العصمة وتعتبره مورد الوحي ثم إنّه استنتج من هذا الشرط أنّ الشيعة الإمامية يخالفونه ويعتقدون بالأُمور التالية :

1. انّ خلفاء الرسول قد تمَّ تعيينهم من عند اللّه.

2. وانّهم معصومون كالنبيّ.

3. انّهم مفترضو الطاعة ، وطاعتهم واجبة كطاعة الرسول.

4. إنّ الملائكة تتردّد على الأئمّة ليلاً ونهاراً.

5. انّ الأئمّة لهم الخيار في تحليل الأشياء وتحريمها.

ص: 512


1- طه : 135.

6. انّ المؤمن بالأئمّة من أهل الجنة وإن كان ظالماً وفاسقاً وفاجراً.

ثم استشهد على ذلك بقول المستشرقين الثلاثة : البطريق « هوجيس » ، « فيلب حتي » ، « وايوانو » (1).

نظريتنا في هذا الشرط وتحليله

إنّ ما رتب على هذا الشرط بين صحيح دلَّ عليه الدليل ، وبين مختلق مكذوب على الشيعة ، كما أنّ نفس الشرط أمر مجمل يحتاج إلى تفسير ، ولأجل ذلك نبحث عن كلِّ واحد من هذه الأُمور واحداً تلو الآخر حتى يتضح مدى صحة هذا الشرط وصحة ما تعتقده الطائفة الإمامية من بعض هذه الأُمور :

أمّا الأوّل : أعني : كون الإمامة عند الشيعة الإمامية تنصيبية ، وعند أهل السنّة انتخابية ، فالشيعة يعتقدون انّ الإمام بعد الرسول الأكرم يعيّن من جانبه سبحانه ، وأهل السنّة يعتقدون بأنّ أهلَ الحل والعقد يقومون بانتخابه ، فكلتا النظريتين بالنسبة إلى الشرط الرابع سواسية ، فإنّ كون شخصية الرسول مركز الهداية ومحور العلاقة القلبية ، لا ينافي أن يأمره سبحانه بنصب الخليفة بعده ، كما لا يخالف أن يفوّض أمر تعيينه إلى الأُمّة ، فاستنتاج صحة إحدى القضيتين وبطلان النظرية الأُخرى من الشرط الرابع على فرض صحته ، غريب جداً. وأي معارضة بين كون الرسول مركز الهداية وكون الإمام بعده والخليفة القائم مقامه منصوباً من جانبه سبحانه ؟ لأنّ للنبي وظائف ، وللإمام والخليفة وظائف ، ولا يشارك الإمام في جميع شؤون النبي منصوباً كان أو منتخباً ، فتأسيس الشريعة

ص: 513


1- صورتان متضادتان : 16 ، 83 ، 84. ولا تنس انّ الكاتب يعد النبي الأكرم مصدر التشريع. والشيعة كما لا تقول بكون الأئمّة من مصادره لا تقول بأنّه صلی اللّه علیه و آله مشرعاً ومصدراً للتشريع بل مبلغاً رسالة اللّه ، فلو وصفنا النبي أحياناً بمصدر التشريع فهو من باب المجاراة للقوم.

يختص به لا يشاركه الإمام في كلتا النظريتين.

لا شك أنّ الكليم موسى علیه السلام كان مركز الهداية ، ومحور العلاقة القلبية ، ومع ذلك نصب هارون علیه السلام مكانه ، وقال : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) (1) ، ولم يكن تنصيبه أخاه مكانه إلاّ برضا منه سبحانه.

إنّ معنى كون الرسول الأعظم مركز الهداية عبارة عن كونه خاتماً للنبوة والرسالة ، لا خاتماً للوصاية والخلافة والإمارة ، والأوصياء عند الشيعة ليسوا بأنبياء كما أنّهم ليسوا رسلاً ، وإنّما هم خلفاء الرسول شأنهم تنفيذ ما شرَّع الرسول الأعظم في غيابه.

وأمّا الثاني : أعني : عصمة الأئمّة من الذنوب ، فتكفي في ذلك آية التطهير ، أعني قوله سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (2) ، فإنّ الآية بحكم تذكير الضمائر ، أعني : « عنكم » و « يطهركم » لا تمت لنسائه وزوجاته بصلة ، وقد دلّت الآثار النبوية على اختصاص الآية بالخمسة الطاهرة ، أعني : النبي الأكرم وفاطمة وبعلها وبنيها ، وأمّا دلالتها على نزاهتهم من الذنب ، فلأجل أنّ الإرادة الواردة في الآية إرادة تكوينية خلاّقة للمراد لا تنفك عنه ، أعني : التطهير من الذنب ، وليست الإرادة تشريعية بمعنى طلب التطهير عنهم ، لأنّها لا تختص بطائفة دون طائفة بل تعم المكلّفين عامة ، ولكن الآية تخصص هذه الإرادة بأهل البيت وتقول : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، والحال انّ الإرادة التشريعية عامّة تعم جميع المكلّفين لا جماعة خاصة.

هذا هو موجز ممّا فصّله المحقّقون في رسائلهم وتفاسيرهم حول الآية ، ومن

ص: 514


1- الأعراف : 142.
2- الأحزاب : 33.

أراد التفصيل فليرجع إلى ما سبق في هذا الجزء.

والكاتب قدّم الفكرة أوّلاً وصوّرها عند نفسه سالمة عن النقد وهي انحصار العصمة في النبي الأكرم ، ولأجل ذلك عاد يصوّر القول بعصمة الأئمّة أمراً مناقضاً لكون النبي مركز الهداية مع أنّ كون النبي مركزها ومصدرها ليس بمعنى انحصار العصمة فيه ، بل معناه انّه صاحب النبوّة والرسالة وصاحب الشريعة والملة وغيره ينفّذ ما خطّه الرسول ورسمه مع عصمة في القول وصيانة عن الزلل في العمل ، وإن أردت تصوير كون النبي مركز الهداية ومصدر القيادة فقل : إن النبيَّ الأكرم واقع في نقطة المركز من الدائرة وغيره كالخطوط النابعة منه يستضيء بنوره ويقتبس من علمه ، وهذا لا ينافي أن يكون المستضيء والمستفيد معصوماً مثله ويكون في الوقت نفسه تابعاً له متنوّراً بنوره.

وأمّا الثالث : أعني كونهم مفترضي الطاعة فليس هذا بأمر عجيب فإنَّ وجوب الطاعة لا يختص بالنبي الأكرم ، بل تجب إطاعة أُولي الأمر بنص الذكر الحكيم ، قال سبحانه : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (1).

إنّ الأُستاذ يعيب على الشيعة بأنّهم يقولون بأنّ الأئمّة مفترضو الطاعة مع أنّهم يقولون بافتراض طاعة السلطان براً كان أو فاجراً ، ولاأقل يقولون بحرمة الخروج على السلطان الجائر وإن بلغ من الجور والفساد ما بلغ (2).

وأمّا الرابع : أعني : قوله : إنّ الملائكة تتردّد على الأئمة ليل نهار ، فلو كان هذا بمعنى كونهم أنبياء فالشيعة برآء منه ، فإنّ النبوّة قد ختمت بالنبي الأكرم بنصّ الذكر الحكيم وإجماع المسلمين وتواتر الروايات ، وإن كان بمعنى كونهم محدَّثين

ص: 515


1- النساء : 59.
2- مقالات الإسلاميين لإمام الأشاعرة : 323 ، ط القاهرة.

( بالفتح ) وانّ الملائكة تكلّمهم فليس هذا بأمر غريب ، وهذه مريم البتول قد كلّمتها الملائكة ، وقالت لها : ( وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) (1). فلم تكن مريم بتكليم الملائكة إيّاها نبيّة أو رسولة ، وإنّما صارت محدَّثة ( بالفتح ) ، وكون الإنسان محدَّثاً غير كونه نبيّاً أو رسولاً ، والكاتب لم يفرّق بين الرسالة والنبوّة ، ومسألة التحدّث مع الملائكة.

وقد أصفقت الأُمّة الإسلامية على أنّ في هذه الأُمّة على غرار الأُمم السابقة أُناساً محدَّثون ( بالفتح ) ، وقد أخبر بذلك النبي الأعظم كما ورد في الصحاح والمسانيد ، والمحدّث من تكلمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤية صورة ، أو يُلهم ويلقى في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى ، اوينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره ، أو غير ذلك من المعاني الّتي يمكن أن يراد منه ، فهذا أمر مسلّم غير أنّ الخلاف في مصاديقه وجزئياته ، فالشيعة تعتقد بأنّ عليّاً أمير المؤمنين وأولاده الأئمّة من المحدّثين وأهل السنّة يرون غيرهم.

أخرج البخاري في باب مناقب عمر بن الخطاب عن أبي هريرة ، قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أُمّتي منهم ، فإنّه عمر بن الخطاب » (2).

ونحن نكتفي بهذا المقدار في تحقيق الحال والتبسيط يحتاج إلى إفراد رسالة في هذا الموضوع ، على أنّ الآية الحاكية عن تكريم الملائكة لمريم البتول كافية في الموضوع ، فإنّها دليل أوّلاً على كون مريم محدَّثة تكلّمها الملائكة ، وهي تسمع كلامهم ، كما أنّها دليل على اعتصامها بعصمة اللّه فهي مصطفاة معصومة ، فلا ذنب للشيعة إذا اعتقدت أنّ الأئمّة من بعد الرسول محدّثون بلا نبوة ولا رسالة ،

ص: 516


1- آل عمران : 42.
2- صحيح البخاري : 2 / 194.

مطهّرون من الذنب والخلاف ، نظير مريم البتول.

والعجب من الكاتب ومن لفّ لفّه انّهم يفرّون من نسبة العصمة إلى الأئمّة فرار المزكوم من المسك مع أنّهم يتعاملون مع الصحابة معاملة العصمة ، ويحرمون البحث حول ما صدر عنهم من الأفعال المضادة للكتاب والسنّة ، والإنسان عندما يقف على حساسية القوم الخاصّة بحياة الصحابة ، يتحيّرون انّهم كيف يجعلون الصحابة بمقربة من العصمة وفي الوقت نفسه لا يبالون عن نسبة الذنب والخلاف إلى أنبياء اللّه ورسله ، والكتب الكلامية لأهل السنّة لا تأبى عن نسبة الذنب إلى الأنبياء صغيراً وأحياناً كبيراً (1).

وأمّا الخامس : أعني : كون الأئمّة لهم الخيار في تحليل الأشياء وتحريمها ، فهي فرية واضحة على الشيعة ، فإنّ الشيعة عن بكرة أبيهم قائلون بختم النبوّة والرسالة ، وانّ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

اتّفقت كلمتهم على أنّ منكر الخاتمية مرتد خارج عن الإسلام ، وقد تضافرت الروايات على ذلك (2).

ولعمر الحق انّ الرجل قد أشرك الشيعة في أُمور لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، وهم برآء منها براءة يوسف عن تهمة الطاغية.

وبما انّ هذه الفكرة الخاطئة قد تسرّبت إلى أذهان البسطاء بحق هذه الطائفة نبحث عن هذا الموضوع بإسهاب :

ص: 517


1- للوقوف على آراء أهل السنّة حول عصمة الأنبياء لاحظ مفاهيم القرآن : 4 / الفصل السادس ، العصمة في القرآن الكريم.
2- ومن أراد الوقوف على عقيدة الشيعة في الخاتمية وكيفية برهنتهم عليها من الكتاب والسنّة ، فليرجع إلى موسوعتنا القرآنية ، مفاهيم القرآن : 3 / 117 - 317.
الشيعة وفكرة التشريع إنّ الشيعة

الإمامية تعتقد بأنّ مصدر التشريع هو اللّه الجليل وانّه ليس للنبيِّ - فضلاً عن الأئمّة - حق التشريع ، وانّه محصور في حقه سبحانه ، وانّ الاعتقاد بذلك هو أحد مراتب التوحيد ودرجاته ، وقد دلَّت الآيات على انحصار هذا الحق به سبحانه قال : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

وليست هذه الآية هي الآية الوحيدة في هذا الباب ، بل هناك طائفة من الآيات تتحد معها في حصر الحاكمية باللّه سبحانه كما تحصر حق التقنين والتشريع به ، ومن أجل ذلك يندد القرآن باليهود والنصارى حيث اتخذوا الأحبار والرهبان مصادر للتقنين بقوله سبحانه : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ) (2) ، ومعنى الاعتقاد بربوبيتهم هو امتلاكهم زمام التحليل والتحريم ، مع أنّ زمامهما بيده سبحانه لم يفوضهما لأحد.

قال الإمام الباقر علیه السلام : « يا جابر انّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكتنزها عن رسول اللّه كما يكتنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم ».

وفي رواية أُخرى : « ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول اللّه وأُصول علم عندنا نتوارثها كابراً عن كابر ».

وفي رواية محمد بن شريح عن الصادق علیه السلام : « واللّه ما نقول بأهوائنا ولا نقول برأينا ولا نقول إلاّ ما قال ربُّنا ».

ص: 518


1- يوسف : 40.
2- التوبة : 31.

وفي رواية عنه علیه السلام : « مهما أجبتك فيه بشيء فهو عن رسول اللّه ، لسنا نقول برأينا من شيء » (1).

ولولا الخوف من تعكير الصفو لأتينا بنصوص كثيرة ممن يحسبون أنّ الخلفاء والصحابة من مصادر التشريع ، بل لا يختص التشريع بالصحابة ويعم الأُمراء والسلاطين فتتخذ آراؤهم ونظرياتهم أحكاماً إلهية ، وبما أنّ البحث في هذه المواضيع يوجب الخروج عن الموضوع نطوي الكلام فيه ، وكفى في ذلك انّ الأُستاذ عبد الوهاب خلاف عدَّ في كتابه « مصادر التشريع الإسلامي » فيما لا نص فيه : إجماع أهل المدينة ، وقول الصحابي ، وإجماع أهل الكوفة ، وإجماع الخلفاء الأربعة من مصادره (2).

وأمّا السادس : أعني : كون المؤمن بالأئمّة من أهل الجنة وإن كان ظالماً وفاسقاً ، فهو بهتان عظيم ، ويكفي في ذلك قول الإمام الباقر علیه السلام لتلميذه جابر الجعفي قال له : « يا جابر أيكفي من انتحل التشيع وأحبنا أهل البيت ، فواللّه ما شيعتنا إلاّ من اتقى اللّه وأطاعه ، وما كانوا يعرفون يا جابر إلاّ بالتواضع والتخشّع ، وبالإنابة وكثرة ذكر اللّه ، والصلاة والصوم ، وبر الوالدين ، وتعاهد الجيران والفقراء والمساكين والغارمين والأيتام ، وصدق الحديث وتلاوة القرآن ، وكف الألسن عن الناس ، إلاّ من خير ، وكانوا أُمناء عشائرهم في الأشياء » (3) وقال سبحانه : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (4).

ص: 519


1- راجع جامع أحاديث الشيعة : 1 / 17 ، المقدمة.
2- مصادر التشريع الإسلامي : 109.
3- أمالي ابن الشيخ المطبوع مع أمالي الشيخ : 97.
4- آل عمران : 31.
ما هي المشكلة الاساسية للمسلمين ؟

إنّ الكاتب ومن لفّ لفّه يزعمون أنّ المشكلة الوحيدة الّتي يواجهها الإسلام هي مشكلة الشيعة والجمهورية الإسلامية الإيرانية ، ولأجل ذلك لا يهمّهم شيء إلاّ الكتابة حول عقيدة الشيعة والنيل من مبادئهم وأُصولهم ، ولهذا نرى أنَّ الهجمة والصولة اشتدّت في السنوات الأخيرة على الشيعة ومبادئهم وأفكارهم لكي يستطيع هؤلاء أن يزيلوا مشكلتهم الصعبة هذه من مسيرتهم ويصلوا إلى القمّة من السعادة والهناء !!

وعجيب انّ الكاتب يعيش في شبه القارة الهندية الّتي تحدق فيها بالمسلمين مشاكل جمّة ، وكانت العناية بحلّها أولى وألزم من النيل من عقائد طائفة ليس لها ذنب إلاّ التمسك بكتاب اللّه وعترة رسوله الطاهرة اللّذين تركهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حجتين بين الأُمّة إلى يوم القيامة وقال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي » (1).

أَوليس الكاتب يرى بأُم عينيه انّ الوثنية هي الّتي أخذت تتزايد وتتسع في القطر الهندي ، المكان الذي يقطن فيه الكاتب مع أبناء جلدته وما من يوم ولا أُسبوع إلاّ ويؤسس فيه معبد بل ومعابد للوثنيين ، حتى في البلاد المكتظة بالمسلمين كلكهنو الندوي الّتي تكون فيها المعابد الوثنية على مقربة من داره.

وهذه الصحف العالمية تتناقل أخبار شروع الحكومة الوثنية الهندية باغتصاب مساجد المسلمين وتحويلها إلى معابد للأوثان بحجج واهية ، هذا

ص: 520


1- صحيح مسلم : 7 / 122 ; سنن الترمذي : 2 / 37 ; مسند أحمد بن حنبل : 3 / 14 و 17 ، وغيره.

والندوي وداره وأعوانه لا ينبسون في ذلك ببنت شفة ، فهم لا يعنيهم تبديل بيوت اللّه إلى بيوت أوثان إنّما تعنيهم مهاجمة الشيعة ومبادئها.

وهذه أيضاً مدينة حيدر آباد الإسلامية في الهند ، مكتظة بأتباع الرسالة المحمدية وكان بناء معابد الوثن فيها ممنوعاً أشدُّ المنع ، إلاّ أنّ الحكومة الوثنية هناك ضربت بهذا المنع عرض الحائط ، وبدأت ببناء المعابد الوثنية ناوية بذلك استئصال شأفة المسلمين وقطع جذورهم.

وزيادة على ذلك ، فقد أُريقت دماء مليون مسلم في ولاية آسام بيد الحكومة الهندية ، ونشرت خبر ذلك الصحف وتناقلته وكالات الأنباء ، ومع ذلك كله لا نرى ولا نسمع استنكاراً شديداً مقروناً بحماس من دار الندوة وروّادها ، أضف إلى ذلك انتشار الأفلام والكتب الّتي تهين الإسلام وتتعدى على حرمته وتصوّر النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله بصورة معكوسة تقشعر منها الجلود ، ولكن يا للأسف إنّ هذه ليست مشكلة الوهابية ودعاتها ، إنّما مشكلتهم هي مسألة زيارة القبور والتوسل بالأرواح المقدسة ودعاء اللّه سبحانه بحرمتهم ومقامهم.

وأمّا المخازي والجنايات الموجودة في الهند ضد الإسلام فحدّث عنها ولا حرج وهي لا زالت في تزايد ، كما أنّ هجمة القوم القوية ضد الشيعة والجمهورية الإسلامية لا زالت تتسع ، ومنطقهم في ترك مكافحة الشرك والإلحاد الواجبة على كل مسلم ، والهجمة على الطائفة الإمامية المسلمة المؤمنة بالكتاب والسنّة والعترة الطاهرة ، هو قول القائل :

إذا لم تستطع أمراً فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع

ص: 521

وفي الختام ندعو اللّه سبحانه بالدعاء التالي :

اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله

وتذلّ بها النفاق وأهله ، وتجعلنا فيها من الدعاة

إلى طاعتك ، والقادة إلى سبيلك

وترزقنا بها كرامة

الدنيا والآخرة

آمين رب العالمين

جعفر السبحاني

قم المقدسة - مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

عشية آخر شعبان من سنة 1407 ه

ص: 522

فهرس المحتويات

كتاب كريم لسماحة العلامة الحجة آية اللّه المحقّق الصافي - دام ظله - ... 5

كتاب كريم للاُستاذ المحقّق آية اللّه الشيخ مكارم الشيرازي - دام ظله - ... 8

مقدمة المؤلف : المفاهيم القرآنية بين الجمود والتأويل ... 15

مبتدعة السلف ... 17

معطّلة السلفية ... 21

المؤوّلة ... 27

التأويل باسم التفسير العلمي ... 29

التأويل الإلحادي ... 30

ص: 523

الفصل الأوّل

عصمة الأنبياء علیهم السلام في القرآن الكريم

مبدأ ظهور فكرة العصمة في الأُمّة الإسلامية ... 36

القرآن يطرح مسألة العصمة ... 38

عصمة النبي في القرآن الكريم ... 39

نظرية أحمد أمين حول كلام الشيعة ... 40

مناقشة أحمد أمين في مزعمته من أنّ الشيعة أخذت منهجها الفكري من المعتزلة ... 41

ما هي حقيقة العصمة ؟ ... 47

1. العصمة الدرجة القصوى من التقوى ... 49

2. العصمة : نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي ... 50

3. الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجماله ... 53

الروح التي تسدد الأولياء ... 55

هل العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي ؟ ... 57

العصمة المفاضة كمال لصاحبها ... 60

ص: 524

كلام السيد المرتضى ... 63

هل العصمة تسلب الاختيار ؟ ... 64

مراحل العصمة ودلالتها ... 69

المرحلة الأُولى : عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة ... 72

القرآن وعصمة النبي في مجال تلقي الوحي و ... ... 75

المرحلة الثانية : عصمة الأنبياء عن المعصية ... 81

العقل وعصمة الأنبياء ... 81

سؤال وجواب ... 82

تقرير المرتضى لهذا البرهان ... 83

إجابة عن سؤال آخر ... 86

القرآن وعصمة الأنبياء من المعصية ... 87

حجة المخالفين للعصمة ببعض آيات من القرآن الكريم ... 97

الطائفة الأُولى : ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء ... 97

الآية الأُولى ... 97

الآية الثانية ... 105

1. ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟ ... 106

ص: 525

2. ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل ؟ ... 108

3. ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟ ... 110

4. ما معنى إحكامه سبحانه آياته ؟ ... 111

5. ما هي النتيجة من هذا الصراع ؟ ... 112

التفسير الباطل للآية ... 114

الطائفة الثانية : الآيات التي تمسّ عصمة عدّة خاصة من الأنبياء ... 119

1. عصمة آدم علیه السلام والشجرة المنهي عنها ... 119

التساؤلات حول الآيات ... 121

ما هي نوعية النهي في قوله تعالى : ( لا تَقْرَبَا ) ... 122

ما معنى وسوسة الشيطان لآدم ؟ ... 128

ماذا يراد من قوله : ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ) ؟ ... 130

ما معنى قوله : ( وَعَصَى ) و ( فَغَوَى ) ؟ ... 130

ما معنى قول آدم علیه السلام : ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ) ؟ ... 133

ما المراد من قوله : ( فَتَابَ عَلَيْهِ ) ؟ ... 134

ما معنى الغفران في قوله : ( وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا ) ؟ ... 135

عصمة آدم علیه السلام وجعل الشريك لله ! ... 137

ص: 526

تفسير قوله : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ ) ؟ ... 137

2. عصمة شيخ الأنبياء نوح علیه السلام والمطالبة بنجاة ابنه العاصي ... 142

كيف يجتمع قول نوح علیه السلام : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) مع قوله سبحانه : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) ؟ 143

لا دلالة لقوله : ( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) على صدور سؤال غير لائق بساحة الأنبياء 148

تفسير قوله تعالى : ( وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي ) ... 151

3. عصمة إبراهيم الخليل علیه السلام والمسائل الثلاث ... 153

تفسير قوله للنجم : ( هَذَا رَبِّي ) ... 154

تفسير قوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) ... 156

تفسير قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) ... 160

4. عصمة يوسف علیه السلام وقول اللّه ( ... وَهَمَّ بِهَا ) ... 164

يوسف الصدِّيق هو الأُسوة ... 164

أسباب هائلة في صرح العزيزة لو توجهت إلى جبل لهدّته ... 165

تفسير قوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) ... 168

ص: 527

ما هو جواب : ( لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) ... 169

ما هو المراد من البرهان ؟ ... 171

دلالة الآية على عصمة يوسف علیه السلام ... 172

أربعة أسئلة وأجوبة ... 174

5. عصمة موسى علیه السلام وقتل القبطي ومشاجرته أخاه ... 182

عصمة موسى علیه السلام وقتل القبطي ... 183

تفسير قوله : ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) ... 185

تفسير قوله : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) ... 186

تفسير قوله : ( فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ) ... 187

تفسير قوله : ( فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) ... 188

تحليل إلقائه الألواح ومشاجرته أخاه ... 189

6. عصمة داود علیه السلام وقضاؤه في النعجة ... 194

توضيح المفردات الآية ... 195

إيضاح القصة ... 196

ص: 528

هل الخصمان كانا من جنس البشر ؟ ... 197

لماذا استغفر داود علیه السلام ؟ ... 198

7. عصمة سليمان علیه السلام ومسألة عرض الصافنات الجياد وطلب الملك ... 200

عرض عسكري قام به سليمان علیه السلام في ايّام ملكه ... 200

تفسير قوله : ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ) ... 203

نقد التفسير المفروض على القرآن ... 204

الفتنة التي امتحن بها سليمان وطلبه المغفرة ... 208

ما معنى طلبه الملك ؟ ... 210

8. عصمة أيوب علیه السلام ومسّ الشيطان له بعذاب ... 214

تفسير قوله تعالى : ( مَسَّنِيَ الضُّرُّ ) ... 216

تفسير قوله : ( مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ ) ... 217

9. عصمة يونس علیه السلام وذهابه مغضباً ... 221

لماذا كشف العذاب عن قوم يونس دون غيرهم ؟ ... 223

ص: 529

هل كان كشف العذاب تكذيباً لإيعاد يونس ؟ ... 225

ما معنى قوله : ( مُغَاضِبًا ) ومن المغضوب عليه ؟ ... 227

ما معنى قوله : ( فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) ؟ ... 228

كيف تجتمع العصمة مع اعترافه بكونه من الضالين ؟ ... 229

الطائفة الثالثة : عصمة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وما تمسّكت به المخطّئة ... 231

دلائل عصمته عن الذنب في القرآن الكريم ... 231

أدلة المخطّئة ... 235

1. العصمة والخطابات الحادة ... 236

2. العصمة والعفو والاعتراض ... 240

3. العصمة والأمر بطلب المغفرة ... 244

4. العصمة وغفران الذنب ... 247

ما هو المراد من الفتح في الآية ؟ ... 248

ما هو المراد من الذنب ؟ ... 250

الغفران في اللغة ... 251

الفتح لغاية مغفرة الذنب ... 252

ص: 530

العصمة والتولّي عن الأعمى ... 257

شأن النزول لا ينطبق على أوصاف النبي صلی اللّه علیه و آله في القرآن الكريم ... 258

شأن النزول الثاني لا ينطبق على ظاهر الآيات ... 260

دين النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله قبل البعثة ... 263

عبد المطلب وإيمانه ومواقفه ... 264

أبو طالب وإيمانه قبل البعثة وبعدها ... 269

إيمان والدي النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ... 275

إيمان النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله قبل البعثة ... 282

الشريعة التي كان يعمل بها النبيُّ صلی اللّه علیه و آله قبل البعثة ... 283

نظرة إجمالية على حياته ... 285

نظرية التوقف في تعبّده ... 288

نظرية عمله بالشرائع السابقة ... 288

نظرية عمله بما يلهم ويوحى إليه ... 292

حاله بعد البعثة ... 294

الآيات التي وقعت ذريعة لبعض المخطّئة ... 297

ص: 531

تفسير قوله : ( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ) ... 299

تفسير قوله : ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) ... 306

تفسير قوله : ( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) ... 308

تفسير قوله : ( مَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ ) ... 315

تفسير قوله : ( لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ) ... 318

عصمة النبي صلی اللّه علیه و آله الأعظم عن الخطأ ... 319

القرآن وعصمة النبي صلی اللّه علیه و آله عن الخطأ والسهو ... 321

أدلّة المخطّئة على جواز عروض الخطأ والنسيان للنبي صلی اللّه علیه و آله ونقدها ... 326

الرأي السائد بين الإمامية حول سهو النبي صلی اللّه علیه و آله ... 329

كيفية معالجة المأثورات حول سهو النبي صلی اللّه علیه و آله ... 332

الفصل الثاني

مفهوم الإمامة وملاكها في الخليل

ودلائل عصمة الإمام

مفهوم الإمام في القرآن الكريم ... 339

ص: 532

الإمامة منصب اجتماعي عند أهل السنّة ... 339

الخليفة والعدالة والاجتهاد عند السنّة ... 341

الإمامة منصب إلهي عند الشيعة الإمامية ... 345

ما هو الهدف من الابتلاء في قوله سبحانه : ( وَإِذِ ابْتَلَى ) ؟ ... 350

ما هو المراد من الكلمات في قوله : ( بِكَلِمَاتٍ ) ؟ ... 354

ما هو المراد من الإتمام في قوله ( فَأَتَمَّهُنَّ ) ؟ ... 360

المراد من الإمام ... 362

الإمام في اللغة ... 362

مفهوم الإمام في القرآن ... 363

ليس للإمام إلاّ معنى واحد ، وإنما الاختلاف في ملاك الامامة ... 364

ما هو ملاك إمامة الخليل ؟ ... 364

الملاك الأوّل : النبوة ... 365

الملاك الثاني : كونه أُسوة في المجالات الثلاثة ... 369

الملاك الثالث : كونه معلم الهداية عبر العصور ... 373

الملاك الرابع : كونه مفترض الطاعة ... 375

إمامة الرسول ... 377

ص: 533

الشواهد القرآنية على كون ملاك إمامته هو افتراض طاعته ... 378

الملك العظيم في القرآن ... 382

الملك العظيم في الأحاديث الإسلامية ... 385

هل زعامة هؤلاء كانت بتشريع من اللّه ؟ ... 386

ما هي النسبة بين النبوة والإمامة الواردة في الآية ؟ ... 387

هل الإمام لا يحقّق أهدافه إلاّ في ضوء الشريعة ؟ ... 388

هل الإمامة رهن الابتلاء في جميع الأدوار والعصور ؟ ... 390

هل حقق الخليل أهداف الإمامة ؟ ... 394

دلائل إمامة النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله ... 395

الإمامة في الأحاديث الإسلامية ... 400

الملاك الخامس لإمامة الخليل : تسيير النفوس إلى الكمال بهداية تكوينية ... 401

هل الإمامة عهد من اللّه ؟ ... 408

ما هو المقصود من الظالمين ؟ ... 409

دلالة الآية على عصمة الإمام ... 410

سؤال وجواب ... 411

ص: 534

الفصل الثالث

في إطاعة السلطان وعدالة الصحابة

إطاعة السلطان بين الوجوب والحرمة ... 421

إطاعة السلطان العادل من صميم الدين وحكم إطاعة السلطان الجائر ... 421

لزوم إطاعة السلطان الجائر أو حرمة الخروج عليه عند أهل السنّة ... 423

عرض هذا القول على الكتاب والسنّة ... 431

صراع بين العقيدة والوجدان عند شباب أهل السنّة ... 435

عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان ... 438

مَن هو الصحابي ؟ ... 438

عدالة الصحابة جميعهم ... 440

تقييم هذه النظرية من ناحية المباحث النفيسة ... 442

الصحابة في الذكر الحكيم وأصنافهم ... 445

ص: 535

الصحابة في السنّة النبوية ... 454

الصحابة والتاريخ المتواتر وما ظهرت من بعضهم من بوادر الارتداد ... 456

آراء الصحابة بعضهم حول بعض وثورة الحيان : الأوس والخزرج في حضرة الرسول صلی اللّه علیه و آله 457

التعذير التافه أو أُسطورة الاجتهاد في تنزيه الظالمين ... 460

كلام أبي المعالي الجويني حول الصحابة ونقد بعض الزيدية له ... 462

ما ورد في القرآن من إبداء الرضا عن المؤمنين مشروط بسلامة العاقبة ... 464

قتل الخليفة المفترض الطاعة دليل على عدم عدالة الصحابة ... 466

عثرة لا تقال للكتاب الندوي ... 468

ص: 536

الفصل الرابع

صورتان متضادتان أو رسالتان متضادتان

صورتان متضادتان ... 471

ملامح الشعب الإيراني في الرسالة الأُولى للندوي ... 476

الملامح العامة لهذا الشعب المضادة للصورة الأولى له أيضاً ... 477

النشاطات القرآنية في الجمهورية الإسلامية ... 478

الركون إلى الظالم وحكمه في الإسلام ... 484

الكاتب لا يتأثر من سفور النساء والمؤسسات الربوية ولكن يتأثر من مشاهدة صورة الإمام علي علیه السلام في المساجد !! 487

الشرائط الأربعة التي انتخبها الأُستاذ للرسالة الخالدة ... 490

الشرط الأوّل للرسالة الخالدة : نجاح النبي صلی اللّه علیه و آله في تربية الجيل الأوّل ، وتحليل هذا الشرط 490

وحدة منطق الكاتب مع منطق يهود بدء الرسالة ... 493

النبي الأعظم كان ناجحاً في رسالته بلا كلام ... 495

ص: 537

الأحاديث الدالة على ارتداد الصحابة في الصحاح ... 496

الشرط الثاني للرسالة الخالدة : تأسيس حكومة غير وراثية ... 498

براءة الشيعة عن فكرة الحكومة الوراثية ... 499

الأئمّة الاثنا عشر في صحيح مسلم ... 500

الشرط الثالث للرسالة : صيانة القرآن الكريم من التحريف ... 502

صيانة القرآن عن التحريف عند الشيعة ... 502

نصوص المحققين من الشيعة في المقام ... 503

الرسائل المفردة حول صيانة القرآن من التحريف ... 506

الكافي كتاب حديث لا كتاب عقيدة ... 509

أحاديث التحريف في كتب أهل السنّة ... 510

اقتراح للمتسرّعين في الكتابة ... 511

الشرط الرابع للرسالة الخالدة : انّ النبي مركز الهداية ... 512

عصمة الأئمة وتعيينهم من جانب اللّه وتكليمهم الملائكة لا

ص: 538

يخالف ذاك الشرط ... 513

الدلائل القرآنية على عقيدة الشيعة في هذه المواضيع ... 514

الشيعة والسنّة وفكرة التشريع ... 518

ما هي المشكلة الأساسية للمسلمين ؟ ... 520

تدهور الوضع الإسلامي في القطر الهندي ... 520

فهرس المحتويات ... 523

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )

( ق - 37 )

ص: 539

المجلد 6

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 2

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1426 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-357-222-6

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء السادس

يبحث عن أسمائه وصفاته سبحانه في القرآن الكريم

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 2

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي بطن خفيّات الاُمور ، ودلّت عليه أعلام الظهور ، وامتنع على عين البصير ، فلا عين من لم يره تُنكره ، ولا قلبُ من أَثْبَتَهُ يُبصره ، سبق في العلوّ فلا شيء أعلى منه ، وقرب في الدنوّ فلا شيء أقرب منه ، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه ، ولا قربه ساواهم في المكان به ، لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، وهو الذي تشهد له أعلام الوجود ، على إقرار قلب ذي الجحود ، تعالى اللّه عمّا يقول المشبّهون به والجاحدون له علوّاً كبيراً (1).

نفتتح هذا الجزء ( السادس ) من أجزاء موسوعتنا « مفاهيم القرآن الكريم » بهذه الخطبة المباركة ، المنقولة عن أمير البيان والبلاغة ، وسيد الموحّدين وقدوة العارفين ، وفيها براعة استهلال لما نرومه في هذا الجزء ، وهو البحث عن أسمائه وصفاته وإثباتها له سبحانه في عين التنزيه ، وتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان مع التوصيف.

ص: 3


1- اقتباس من خطبة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ( نهج البلاغة ، الخطبة 49 ).

إنّ البحث عن أسمائه وصفاته سبحانه من أجلّ المعارف القرآنية التي لم تبلغها عقول ذوي الأفكار ولم تحم حولها أعين ذوي الإعتبار نقدّمه إلى القرّاء الكرام ، تفسيراً لأسمائه وصفاته في ضوء القرآن الكريم وفي إطار التفسير الموضوعي ، ونشكره سبحانه على توفيقه للغور في هذه المباحث الدقيقة ، والإغتراف من هذه البحار العذبة إنّه حميد مجيد.

قم - مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

جعفر السبحاني

18 صفر المظفّر 1412

ص: 4

التفكر العقلي والاستدلال المنطقي في الذكر الحكيم

اشارة

إنّ النظرة الفاحصة إلى المجتمع البشري تكشف من أنّ الإلهيين يشكّلون الأكثرية الساحقة من الاُمم والشعوب ، وهم الذين يعتقدون بوجود مبدأ أعلى للعالم وراء المادة وتخالفهم شرذمة قليلة تنكر ذلك بل تنكر كلّ ماوراء الطبيعة ، وإنّما وصفناهم - بالقلّة - مع انّهم يشكلّون جماعة كبيرة في العالم ، ويسمّونها معسكر الشرق بفئاته المختلفة ، لأنّ ذلك المعسكر قد فرض على تلك الشعوب الالحاد والماديّة ، بحيث لو ارتفع الضغط لترى كيف خالط الإيمان ضميرهم ، وأنّهم ما برحوا على صلة وثيقة بالدين بفطرتهم ، ولو تظاهروا بالماديّة ، فإنما يتظاهرون تحت ضغط القوى المسيطرة عليهم التي ألجأتهم إلى ذلك (1).

وقد كان المتوقع من الإلهيين أن يشكلّوا صفاً واحداً وأن لايختلفوا في ما يتعلّق بالمبدأ إلاّ أنّهم - مع الأسف - إختلفوا في أبسط المسائل فضلاً عن العميقة منها ، وتفرقوا إلى مذاهب وشيع ، والسبب الأساسي - لهذا الإختلاف هو تنازعهم في أسمائه سبحانه وصفاته وأفعاله ، وهذا هو المنشأ الحقيقي لإفتراق الالهيين وظهور الديانات والمذاهب في المجتمع الإلهي.

ص: 5


1- ترى أنّ غوربا تشوف لمّا منح الحرّية النسبية لشعب الاتّحاد السوفيتي ارتفعت من جديد أصوات المآذن في أجواء ذلك البلد ، وأقبل الناس حتّى الشباب منهم على القضايا الدينية ، حتّى انّ وكالات الأنباء نقلت أخباراً عن بناء مساجد جديدة ، وقيام اجتماعات دينية واسعة ، والمطالبة بمنح المزيد من الحرّيات الدينية والاعتقادية.

الاختلاف في الأسماء والصفات سبب تعدد الديانات

الثنوية بعد تسليمها بوجوده سبحانه تميّزت عن سائرالإلهيين بإنكار صفة من صفاته سبحانه أعني التوحيد فهم بين ثنوي في الذات وثنوي في الفعل ، فتارة يصور للعالم مبدأً غير واحد وهذا هو الثنوي في الذات ، واُخرى يوحّد المبدأ ويقول بإله واحد ولكنه يفترض استقلالاً للمخلوقات فى البقاء دون الحدوث ، وثالثة تفترض الاستقلال في الفعل والايجاد كمن زعم أنّ وجود الممكنات قائم باللّه لكنّها مستقلاّت في أفعالها ، غير محتاجات إلى الإله في الإيجاد والإبداع ، وعلى كلّ تقدير فهم يمتازون عن سائر الفرق في وصفه سبحانه وهو كونه واحداً في الذات لا شريك له فيها كما هو واحد في الفعل لا موجد غيره ، ولو كان هناك إيجاد منسوب إلى غيره فإنّما هو بارادته ومشيئته وحوله وقوّته.

والثنوية بالمعنى الأوّل هي السائدة في الديار الهنديّة والصينيّة وشائعة بين البراهمة والبوذيين والهندوس ، كما أنّ الثنوية بالمعنى الثاني ذائعة بين القائلين بالتفويض ، وانّه سبحانه فوّض أمر الخليقة إلى جماعة مخصوصة أو فوّض أمر الإنسان إلى نفسه فهو يقوم بالفعل بلا استعانة ، فالإنسان محتاج في ذاته دون فعله ، ولو أنّ الطائفتين درسوا التوحيد على ما هو عليه وميّزوا بين الممكن والواجب لاتّحدت الصفوف وتراصّت.

والمسيحية وإن افترقت إلى يعقوبيّة وإلى نسطورية وإلى ملكانيّة لكن الكلّ متمسّكون بالتثليث أي تصوير اله العالم الواحد بصور ثلاث « الإله الأب » و « الإله الإبن » و « روح القدس » وبذلك نزّلوا الإله القدّوس إلى عالم المادة حتى جسّدوه في المسيح الذي صلب ليخلّص الناس من « عقدة الإثم » الذي ورثوه من أبيهم آدم ولو أنّ القوم فقهوا توحيده سبحانه ، لتقاربت الخطى وقلّ التباعد ، يقول سبحانه - ويأمر نبيّه أن يتلو عليهم قوله - : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

ص: 6

والمسلمون تفرّقوا إلى طوائف وشعوب وجلّ اختلافهم يرجع إلى أسمائه سبحانه وصفاته وأفعاله.

فالعدليه منهم يصرّون على تنزيهه وتوحيده وهم « المعتزلة » و « الإمامية » و « الزيدية » بفرقهم المختلفة ، فاللّه سبحانه عندهم ليس بجسم ولا جسماني لا تحيطه جهة ولا مكان ليس بجوهر ولا عرض إلى غير ذلك من الصفات الجلاليّة كما أنّه سبحانه عندهم حكيم لا يصدر عنه قبيح ، لا يظلم ولا يجوز عليه الظلم وإن كان قادراً عليه.

ولكن « أهل الحديث » و « والحنابلة » لابتعادهم عن البحوث العقلية ، وقعوا في مهالك التجسيم والتشبيه ، وتجويز نسبة القبيح إليه سبحانه بحجّة أنّه ليس للعبد فرض شيء على اللّه سبحانه ، فله الحكم وله المشية ، وقد أصبحت الدعوة السلفيّة شعاراً لمن يريد التخلّص من مخالب الإختلاف ، والإبتعاد عن التفكّر والتدبّر في المعارف.

وصفوة القول : إنّك إذا لاحظت الكتب الكلامية تقف على أنّ اُصول الاختلاف في الديانات والمذاهب ترجع إلى اختلافهم في أسمائه وصفاته وأفعاله وشئونه فهذا هو الذي أوجد مدارس كلاميّة شتّى واتجاهات متغايرة بين الالهيين فلازم علينا ان ندرس هذا الجانب دراسة موضوعيّة دون تحيّز إلى فئة دون فئة.

الإنسان يأنس المحاكاة والتشبيه

اشارة

الإنسان محبوس في إطار المادّة والماديات ، ولابث بين جدران الزمان والمكان ، يأنس بالتعرف على الأشياء عن طريق التشبيه والمحاكاة ، فيصعب عليه تصوّر موجود ليس له جسم ، وليس له جهة ولا مكان ، ولا يحوطه زمان ولا يوصف بالكيف والكم ، فلأجل ذلك نرى كثيراً من الالهيين لا ينفكّون عن تشبيه ماوراء الطبيعة بما فيها ، وكأنّ تفكيرهم أصبح أسير المادة والجسمانية وقلّ من نجى من مخاطر التشبيه ، ومخالب التجسيم.

ص: 7

يقول العلاّمة الطباطبائي :

« إنّ مزاولة الإنسان للحسّ والمحسوس مدى حياته وانكبابه على المادة ، عوّده أن يمثّل كلّ ما يتعقّله ويتصوّره تمثيلاً حسّياً ، وإن كان المتصوّرةُ المعقول لا طريق للحسّ والخيال إليه البتة ، كالكلّيات والحقائق المنزّهة عن المادّة. على أنّ الإنسان إنّما ينتقل إلى المعقولات من طريق الإحساس والتخيل فهو أنيس الحسّ وأليف الخيال ، فقد قضت العادة اللازمة على الإنسان أن يصوّر لربه صوراً خياليّة على حسب ما يألفه من الأمور المادية الحسّية وقلَّ أن يتفق لإنسان أن يتوجه إلى ساحة العزة والكبرياء ونفسه خالية عن هذه المحاكاة (1).

هذا هو الأصل الذي توحي إليه ظروف الحياة وملابسات الإدراك والناس أمام هذا الأصل على طوائف نشير إلى الأركان منها :

1 - « المشبّهة »

إنّ البسطاء من المجتمع الإنساني الذين سادت عليهم ظروف الحياة وليست لهم قدرة عقليّة كافية للتخلّص عمّا تفرض عليهم تلك الملابسات ، بنوا عقائدهم الدينيّة على هذا الأساس فلاينفكّون عن وصفه سبحانه تشبيهاً وتجسيماً فيقولون إنّ له جسماً وإنّه على صورة إنسان ، وله لحم ودم وشعر وعظم ، وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس وعينين ، وانّ له وفرة سوداء وله شعر قطط ، غير أنّ بعضهم أراد التظاهر بالتنزيه بأقلّ ما يمكن فقال : « اعفوني عن الفرج واللحية ، واسئلوني عما وراء ذلك » (2).

فهذه هي المجسّمة والمشبّهة لا يتورّعون عن وصفه بكلّ ما توحي إليهم القوّة الخيالية الأسيرة لعالم الحسّ والمادّة.

ص: 8


1- الميزان ج 10 ص 273.
2- الملل والنحل ج 1 ص 100 - 104.
2 - المعطّلة

2 - المعطّلة (1) وهناك طائفة اُخرى عطلوا العقول عن الوصول إلى المعارف نتيجة كون الإنسان يعيش في عالم الطبيعة وقد تطبّع تفكيره على الماديّات والمحسوسات فلا يمكنه إدراك ماوراء ذلك فلابد من التوقف وتعطيل العقول ، وهم الذين يقولون : إنّ كلّ ما وصف اللّه به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه (2).

وقد بنيت الدعوة السلفية في العصور السابقة واللاحقة على هذا الأساس وكأنّ القرآن نزل للتلاوة والقراءة دون التفكّر والامعان والتدبّر.

مع أنّه سبحانه يقول : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( محمد / 24 ).

ويقول : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( ص / 29 ).

والعجب انّ بعض هؤلاء يتفلسف قائلاً إنّما اُعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية فمن شغل ما اعطى لإقامة العبودية بإدراك الربوبيّة ، فاتته العبودية ولم يدرك الربوبية (3).

والقائل بهذا الكلام يفسّر العبوديّة بالقيام والقعود والامساك والصيام التي هي من واجبات الأعضاء ولكنّنا نقول لهم : إنّ العبوديّة تقوم على ركنين ركن منه يرجع إلى فرائض الأعضاء وواجباتها ، وركن آخر يرجع إلى العقل واللبّ ، فتعطيل العقول عن معرفة المعبود بالمقدار الذى يستطيع الإنسان الوصول إليه ، تعطيل لاقامة العبودية أو لجزئها.

ص: 9


1- « المعطّلة » لقب المعتزلة في كتب الأشاعرة لتعطيلهم الذات عن التوصيف بالصفات غير أنّها لا تتناسب مع عقيدتهم ، والحق إنّ المعطّلة هم الذين وصفناهم هنا.
2- الرسائل الكبرى : لابن تيمية ج 1 ص 32 - نقله عن سفيان بن عيينة.
3- علاقة الاثبات والتفويض نقلا عن الحجّة في بيان المحجّة ص 33.

ولو اقتصر الإنسان في إقامة العبوديّة بالقيام والقعود من دون ادراك للمعبود بصفات الجمال والجلال ولما هناك من أسماء وصفات ; لكانت عبوديّته كعبوديّة الحيوان والنبات والجماد ، فهؤلاء أيضا يقومون بواجبهم الجسماني بل ربّما تكون عبوديته أنزل من عبوديتهم كيف وقد قال سبحانه :

( وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( البقرة / 74 ).

فالحجر يستشعر بعظمته سبحانه حسب مقدرته ، ولكن الإنسان تفرض عليه تلاوة كتابه سبحانه والسكوت ثم السكوت عليه ؟

إنّ الدعوة السلفية التي عادت إلى الساحة الاسلامية من جديد مبنية على هذا الأساس ، وهؤلاء وإن كانوا لا يقرّون بالتشبيه والتجسيم بملئ أفواههم وألسنتهم ، ولكنّهم لا يفترقون عن المشبهة إلاّ في التصريح والتلميح.

قال ابن خزيمة : إنما نثبت لله ما اثبته لنفسه نقر بذلك بألسنتنا ونصدّق بذلك في قلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين (1).

قال ابن قدامة المقدسي : « وعلى هذا درج السلف والخلف فهم متّفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب اللّه وسنّة رسوله من غير تعرّض لتأويله (2).

قال ابن تيمية - مثيرالدعوة السفلية بعد اندراسها - : إنّ لله يدين مختصّتين به ، ذاتيتين له كما يليق بجماله ، وإنّه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس وإنّه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السماء بيده اليمنى (3).

يقول الخطّابي : « وليس اليد عندنا الجارحة وإنّما هي صفة جاء بها التوقيف

ص: 10


1- علاقة الاثبات والتفويض ص 58.
2- نفس المصدر ص 59.
3- نفس المصدر ص 59.

ونحن نطلقها على ما جاء ولا نكيّفها » (1).

هذه العبارات ونظائرها التي ملأ بها مؤلّف « علاقة الاثبات والتفويض » كتابه المنشور في مهد الدعوة السلفية ، ترمي إلى أحد الأمرين : إمّا التجسيم والتشبيه وإمّا تعطيل العقول عن معرفة الكتاب العزيز ، فانّ اليد والوجه والرجل موضوعات في اللّغة العربية للأعضاء الخاصّة ، فإن اُريد منها المعنى الحقيقي وهو الذي يطلق عليه المعنى الكيفي ، فيلزم التشبيه ، وإن اطلق عليه بلا هذا القيد ، فيلزم التأويل ، وهم يفرّون منه فرار المزكوم من المسك ، فإنّ القول بأنّ له سبحانه وجهاً بلا كيف مهزلة وشعار خادع ، إذ ليس هما معنى ثالث تلتجئ إليه السلفية فالأمر يدور بين اثنين ، وثالثهما غير متصوّر.

1 - اليد بما له من الكيفيّة الخاصّة فيلزم منه التشبيه.

2 - تأويله بالمعنى المجازي فيكون كناية عن القوّة والقدرة.

وأمّا الثالث أعني الوجه بلا كيف ، فهو أشبه بأسد لا ذنب له ولا رأس ولا ...

فإنّ واقعية اليد قائمة بكيفيّتها ، فسلب الكيفية سلب لحقيقتها ، فلا يمكن حفظ أصله ورفض كيفيّته ، فحذف الكيفيّة يلازم حذف أصل المعنى فقوامه بكيفيتها وعماده وسناده نفس هوّيتها الخارجية.

وأظن - وظن الألمعي صواب - : إنّ هؤلاء هم المشبّهة والمجسّمة ولكنّهم يخجلون من التفوّه بالتجسيم فيأتون به في قوالب خدّاعة ، وعبارات معقّدة ، أو أنّهم هم المعطّلة فإنّ امرار الصفات واثباتها على حسب ما جاء في الكتاب بلا توضيح لما يراد منه ، نفس التعطيل أي تعطيل العقول عن المعارف ، فهم بين مجسّمة تخفي عقيدتها ، أو معطّلة لا تريد الرقي من سلّم المعارف درجة ، فتكتفي بالألفاظ ولقلقة اللسان.

ص: 11


1- فتح الباري ج 13 ص 417.

وبذلك تقف على قيمة ما روي عن الامام مالك عند ما سئل عن معنى قوله سبحانه ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) فقال الاستواء معروف ، والكيفيّة مجهولة ، والسؤال بدعة ، والإيمان به واجب (1).

ولا أدري كيف جمع بين قوله « الاستواء معلوم » و « الكيفيّة مجهولة » إذ ليس للاستواء إلاّ معنى واحد وكيفيته هو حقيقته ، فلو جُهلت الكيفية ، جُهل الأصل فلا معنى للاستواء ( وهم يفسّرونه بالجلوس والاستقرار لا بالاستيلاء والاستعلاء ) مع القول بجهالة الكيفية فإنّ الكيفيّة والحقيقة متساويتان.

أضف إلى ذلك أنّه لم يعلم وجه قوله : « وإنّ السؤال عنه بدعة » مع أنّ السائل يريد تفسير الآية والتدبّر فيها ؟ وهل السؤال عن مفهوم الآية بقصد التعلم بدعة ؟

وبهذا عطّلوا العقول عن التدبّر في الكتاب العزيز وتفسير أسمائه وصفاته وأفعاله مع قدرتها على التعرف على ما هناك من الكمال والبهاء والجمال والجلال.

3 - المعطّلة بثوبها الجديد
اشارة

وقد ظهر التعطيل أى تعطيل العقول عن المعارف والالهيات بثوبها الجديد في العصر الأخير ، وقد حمل رايتها المغترّون بالعلوم الطبيعية ، وقد صبغوا نظريتهم بصبغة مادية خدعوا بها عقول البسطاء.

قال « فريد وجدي » :

« بما أنّ خصومنا يعتمدون على الفلسفة الحسّية والعلم الطبيعي في الدعوة إلى مذهبهم ، فنجلعهما عمدتنا في هذه المباحث بل لا مناص لنا من الاعتماد عليهما لأنّهما اللذان أوصلا الإنسان إلى هذه المنصّة من العهد الروحاني » (2).

ص: 12


1- الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 65 ، والرسائل الكبرى لإبن تيمية ص 32 - 33.
2- على أطلال المذهب المادي ج 1 ص 16.

وقال « الندوي » :

« وقد كان الأنبياء علیهم السلام أخبروا الناس عن ذات اللّه وصفاته وأفعاله وعن بداية هذا العالم ومصيره وما يهجم على الناس بعدموتهم ، وآتاهم اللّه علم ذلك كلّه بواسطتهم عفواً بلا تعب ، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادئها ولا مقدّماتها الّتي يبنون عليها بحثهم ليتوصّلوا إلى مجهول لأنّ هذه العلوم وراء الحسّ والطبيعة لا تعمل فيها حواسهم ، ولا يؤدّي إليها نظرهم ، وليست عندهم معلوماتها الأوّلية ... الذين خاضوا في الالهيات من غير بصيرة وعلى غير هدى جاؤوا في هذا العلم بآراء فجّة ، ومعلومات ناقصة ، وخواطر سانحة ، ونظريات مستعجلة فضلّوا واضلّوا (1).

ويلاحظ على كلا التقريرين :

أوّلا : إنّ الاعتماد على الفلسفة الحسّية والتركيز على الحسّ من بين أدوات المعرفة ، مقتبس من الفلسفة المادية التي ترفض الاعتماد على العقل وأدواته ولا يعترف إلاّ بالحسّ وتحسبه أداة منحصرة للمعرفة ، والعجب أن يلهج بهذا الأصل من يدّعي الصلة بالإسلام ويعد من المناضلين ضد الفلسفة الماديّة ، ففي القول بهذا ابطال للشرائع السماوية ، فانّها مبنية على النبوّة والوحي ونزول الملك وسائر الاُمور الخارجة عن إطار الحسّ التي لا تدرك إلاّ بالعقل والبرهنة ، فمن العجيب أن يلعب فريد وجدي ومقلد الدعوة السلفية « ابوالحسن الندوي » بحبال المادية من غير شعور ولا استشعار.

وثانياً : إنّه لو صحّ قول « الندوي » إنّ هذه العلوم وراء الحسّ والتجربة لا تعمل فيها حواسّهم ، ولا يؤدّي إليها نظرهم ، وليست عندهم معلوماتها الأوّليه ، فلما ذا يطرح الذكر الحكيم لفيفاً من المعارف ، ويحرّض على التدبّر فيها وهي ممّا

ص: 13


1- ماذا خسر العالم ص 97.

يقع وراء الحسّ والطبيعة ، وليست الغاية من طرحها هو التلاوة والسكوت حتى تصبح الآيات لقلقة لسان لا تخرج عن تراقي القارئ بدل أن تتسلّل إلى صميم الذهن وأعماق الروح.

وإن كنت في ريب من وجود هذه المعارف العليا في الكتاب العزيز فلاحظ الآيات التاليه :

( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ( الشورى / 11 ).

( وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى ) ( النحل / 60 ).

( لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( طه / 8 ).

( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) ( البقرة / 115 ).

( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الحديد / 3 ).

( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / 4 ).

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ) ( الطور / 35 ).

( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام / 75 ).

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الانبياء / 22 ).

( مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( المؤمنون / 91 ).

إلى غير ذلك من الآيات التي وردت فيها اُصول المعارف الإلهية التي تقع وراء الحسّ والطبيعة وليس عندنا حسب فرض الندوي معلوماتها الأوّلية.

هذا وإنّ القرآن يحثّ المجتمع البشري على تحصيل البرهان في كلّ ما يعتقدونه في المبدئ والمعاد ويقول :

ص: 14

( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ) ( الأنبياء / 24 ).

كلّ ذلك يعرب عن عناية القرآن بتفهيم الإنسان المعارف والاصول التي هي خارجة عن اطار الحسّ والمادّة بقناعة كاملة لا بلقلقة اللسان.

إنّ هناك اُصولاً يعتقدبها الالهيّون وفي مقدّمتهم المسلمون البارعون ، عن طريق العقل والبرهنة ، ولا يمكن للعلوم الطبيعيّة أن تساعدهم في فهمها ولا أن تهدي إليها البشر. كالبحث من انّ المصدر لهذا العالم والمبدئ له ، أزلي أو حادث ، واحد أو كثير ، بسيط أو مركّب ، جامع لجميع صفات الجمال والكمال أم لا ؟ هل لعلمه حدّ ينتهى إليه أم لا ؟ هل لقدرته نهاية أم لا ؟ هل هو أوّل الأشياء وآخرها أم لا ؟ هل هو ظاهر الأشياء وباطنها أم لا ؟

فالاعتقاد بهذه المعارف عن طريق العلوم الطبيعية والحسّية غير ممكن والاعتماد على الوحي للتعرف عليها غير مقدور لكلّ إنسان ، مضافاً إلى أنّه يجب معرفتها قبل معرفة النبي فكيف يتعرّف عليها عن طريق النبي والوحي المنزل.

وثالثا : نرى أنّه سبحانه يذكر الفؤاد إلى جانب السمع والبصر.

ويقول :

( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( النحل / 78 ).

والمراد من الشكر في ذيل الآية صرف النعمة في مواضعها فشكر السمع والبصر هو ادراك المسموعات والمبصرات بهما ، وشكر الفؤاد هو درك المعقولات وغير المشهودات به ، فالآية تحّرض على استعمال الفؤاد والقلب والعقل في ما هو خارج عن اطار الحسّ وغير واقع في متناول أدواته ، ولأجل ذلك يتّخذ القرآن في بعض المجالات موقف المعلّم فيعلّم المجتمع البشري كيفية البرهنة العقليّة على

ص: 15

توحيد الخالقيّة والتدبير فيقول :

( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ... أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ ) ( الواقعة / 57 و 72 ).

إنّ تعطيل العقول عن المعارف الإلهية يجر الإنسان إلى التشبيه والتجسيم ، وإن تبرأ منهما وإنبرى إلى نفي هذه الوصمة عن نفسه وأهل ملّته ، هذا هو ابن تيمية محيي الدعوة السلفيّة في القرن الثامن يقول :

« أهل السنّة والجماعة يؤمنون بما أخبر اللّه به في كتابه من غير تحريف ( تأويل ) ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ( تشبيه ) ، بل هم الوسط في فرق الاُمّة كما أنّ الاُمّة هي الوسط في الاُمم ، فهم وسط كما في باب صفات اللّه سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل ( الجهميّة ) وأهل التمثيل ( المشبّهة ) (1).

والقارئ الكريم يتصوّر أنّه مشي على هذا الأصل إلى آخر كتابه ولكنّه يقف على أنّه سرعان ما انقلب على وجهه وارتدّ على أدباره وغرق في التشبيه والتجسيم ونادى به وقال :

( وممّا وصف الرسول به ربّه في الأحاديث الصحاح التي تلقّاها أهل المعرفة بالقبول ووجب الايمان بها قوله (ص) : « ينزل ربّنا إلى سماء الدنيا كلّ ليلة حين يبقى ثلث اللّيل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ ومن يستغفرني فأغفر له ؟ وقوله يضحك اللّه إلى رجلين : أحدهما يقتل الآخر كلاهما

ص: 16


1- مجموعة الرسائل ص 400.

يدخل الجنة ، وقوله « لا تزال جهنّم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزّة فيها قدمه ينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : « قط قط » وهذه الأحاديث متّفق عليها ؟ ) (1).

نحن نسأل « ابن تيميّة » ومن لفّ لفّه : فهل يأخذ بظواهر هذه الأحاديث التي لو وردت في حقّ غيره سبحانه لقطعنا بكونه جسماً ، كالإنسان له أعضاؤه ، أو يحملها على غيرها ، فعلى الأوّل يقع في مغبّة التشبيه ، وعلى الثاني يقع في عداد المؤوّلين وهو يتبرّأ منهم.

والأخذ بظواهرها لكن بقيد « بلاتكييف » و « لا تشبيه » - مضافاً إلى أنّه لم يرد في النصوص - ما يوجب صيرورة الصفات مجملة غير مفهومة ، فإنّ واقعيّة النزول والضحك ووضع القدم ، إنّما هي بكيفيتها الخارجيّة ، فحذفها يعادل عدمها. فما معنى الإعتقاد بشيء يصير في نهاية المطاف أمراً مجملاً ولغزاً غير مفهوم ؟ فهل يجتمع هذا مع بساطة العقيدة وسهولة التكليف التي تتبنّاها السلفيّة في كتبهم ؟

فلو صحّ تصحيح هذه الأحاديث والصفات الجسمانية بإضافة قولهم « بلا تمثيل » فليصحّ حمل كلّ وصف جسماني عليه باضافة هذا القيد بأن يقال : اللّه سبحانه جسم لا كهذه الأجسام ، له صدر وقلب لا كمثل هذه الصدور والقلوب ، إلى غير ذلك مما ينتهي الإعتقاد به إلى نفي الإله الواجب الجامع لصفات الجمال والجلال.

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد وتفسير القرآن والحديث ، لا ينتج إلاّ إجلاسه سبحانه على عرشه فوق السماوات ، يقول « ابن قتيبة » - المدافع عن الحشوية وأهل الحديث - في تفسير قوله : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) يستوحشون أن يجعلوا لله كرسيّاً أو سريراً ويجعلون العرش شيئاً آخر ، والعرب لا تعرف العرش إلاّ السرير ، وما عرش من السقوف والابار. يقول اللّه ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) أي على السرير.

ص: 17


1- نفس المصدر 398 - 399.

واُميّة بن أبي الصلت يقول :

مجّدوا اللّه وهو للمجد أهل *** ربّنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء الأعلى الذي سبق النا *** س وسوّى فوق السماء سريرا

شرجعا (1) ما يناله بصر ال *** عين ترى دونه الملائك صورا (2) (3)

ترى أنّه يصور اللّه سبحانه ملكاً جبّاراً جالساً على عرشه ، والخدم دونه ينظرون إليه بأعناق مائلة ، وهو يتبجّح بذلك تبجّح المتكبّر باستصغار الناس وذلتهم.

ويقول أيضا :

« كيف يسوغ لاحد أن يقول : إنّه بكلّ مكان على الحلول مع قوله :

( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) أي استقر ، كما قال : ( فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ ) أي استقرت.

ومع قوله تعالى : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

كيف يصعد إليه شيء هو معه أو يرفع إليه عمل وهو عنده (4).

ثم إنّه يستشهد بكونه سبحانه في السماء بما ورد في الحديث :

« إنّ رجلاً أتى رسول اللّه بأمة أعجميّة ، للعتق فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أين اللّه تعالى ؟

فقالت : في السماء قال : فمن أنا ؟ قالت : أنت رسول اللّه فقال علیه السلام : هي مؤمنة وأمر بعتقها (5).

ص: 18


1- أي طويلا.
2- جمع « أصور » وهو المائل العنق.
3- تأويل مختلف الحديث : ص 67.
4- نفس المصدر : ص 271.
5- المصدر نفسه : ص 272.

فقد غاب عن « ابن قتيبة » إنّ المراد من كونه سبحانه بكلّ مكان ليس هو حلوله فيه ، بل المراد أنّ العالم بكلّ أجزائه وذرّاته قائم به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي وانّ وجوده سبحانه وجود فوق الزمان والزمانيّات والمكان والمكانيّات ، غني عنهما ، لا يحتاج إليهما ، بل هو الخالق لهما ، وأمّا الحديث الذي استدل به فليس فيه دلالة على تصديق رسول اللّه بكلّ ما تعتقده الاُمّة بل انّه صلی اللّه علیه و آله اكتفى بما أظهرت من الاعتقاد الساذج بوجوده سبحانه ونبوّة نبيّه وان اخطأت في الحكم بأنّه في السماء ولم يكن الظروف - إذ ذاك - تساعد ، أو لم تكن الاُمّة مستعدّه لتفهيمها إنّه سبحانه منزّه عن المكان والزمان والجهة ، وإنّه ليس جسما ولا جسمانياً حتى يحلّ في السماء.

4 - بين التشبيه والتعطيل
اشارة

وهناك طائفة اُخرى يسلكون طريقاً وسطاً لا يوافقون أهل التشبيه - بصبّ المعارف العليا في قوالب جسميّة وصفات ماديّة - ولا أهل التعطيل فلا يسدّون نوافذ عقولهم وأفهامهم من التطلّع إلى ماوراء الطبيعة والوقوف على ما هناك من أسماء وصفات وحقائق رفيعه لا ينالها إلاّ الأمثل فالأمثل من الإنسان ، وهؤلاء يقولون : إنّه يمكن للإنسان التعرّف على ماوراء الطبيعة بما فيها من الجمال والكمال والعالم الفسيح ، عن طريق التدبّر وامعان النظر ، إمّا بترتيب الأقيسة المنطقية وتنظيم الحجج العقلية ، أو بالنظر إلى ما يحتوي عالم الطبيعة من آثار ذلك الجمال وآياته ، فعنذ ذلك يخرج الإنسان عن مهلكة التشبيه ومغبّة التعطيل ، وإفراط المجسّمة وتفريط المعطّلة وهذا هو الذي يحصل به الجمع بين آيات القرآن والأحاديث الصحيحة وقد عرفت بعض الآيات الداعية إلى التدبّر والامعان في كلّ ما ورد في الكتاب من الحكم والمعارف (1).

ص: 19


1- ويكفيك انّ الذكر الحكيم يستعمل مادّة التعقّل في مشتقّاته المختلفة 47 مرّة والتفكّر 18 مرّة واللب 16 مرّة والتدبر 4 مرّات والنهي مرّتين.

أمّا السنّة فقد قال علي علیه السلام : لم يطّلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته (1).

يريد علیه السلام انّ العقول وان كانت غير مأذونة في تحديد صفاته ، ولكنّها غير محجوبة عن التعرّف عليها إجمالا كيف وقال سبحانه ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) ( الذاريات / 56 ).

والعبادة الصحيحة الكاملة لا تتيسّر إلاّ بعد تحقّق المعرفة الكاملة الممكنة للعابد ، وقال الامام علي بن الحسين علیهماالسلام : لما سئل عن التوحيد : إنّ اللّه عزّ وجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون ، فأنزل اللّه تعالى سورة قل هو اللّه أحد والآيات الستّ من سورة الحديد (2).

وكتب الامام الصادق علیه السلام في جواب سؤال « عبد الرحيم بن عتيك القصير » - عند ما سأله عن قوم بالعراق يصفون اللّه بالصورة وبالتخطيط - « سألت رحمك اللّه عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك فتعالى اللّه الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، تعالى عمّا يصفه الواصفون المشبّهون اللّه بخلقه المفترون على اللّه. فاعلم رحمك اللّه أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه عزّ وجلّ ، فانف عن اللّه تعالى البطلان والتشبيه ، فلا نفى ولا تشبيه هو اللّه الثابت الموجود ، تعالى اللّه عمّا يصفه الواصفون ، ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان » (3).

وسئل الإمام أبوجعفر الثاني علیه السلام : يجوز أن يقال : إنه شيء ؟ قال : نعم ، يخرجه من الحدّين : حد التعطيل وحد التشبيه (4).

ص: 20


1- نهج البلاغة : الخطبه 29.
2- الكافي ج 1 باب النسبة ص 91 الحديث 3 ، ونور الثقلين ج 5 ص 231.
3- الكافي ج 1 باب « النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه » الحديث 1.
4- الكافي ج 1 باب « اطلاق القول بأنّه شيء » الحديث 2 ، 5.

وقال الإمام الصادق - في جواب السائل عن الكيفية له - : لا لأنّ الكيفيّة جهة والاحاطة ، ولكن من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه (1).

وهذه الأحاديث تحدّد موقف المعرفة وأنّها بين التعطيل والتشبيه.

فاتضح انّ رائدنا في مجال المعارف الإلهية أمران :

1 - الأقيسة العقليّة.

2 - التأمّل في آثار الرب في العوالم المختلفة.

ولأجل ايضاح الحال وانّه يمكن الحصول على المعارف وصفات الواجب عزّ وجلّ عن طريق ترتيب الأقيسة المنطقيّة أوّلاً ، والتدبّر في صنعه وخلقه ثانياً ، نأتي بالبيان التالي :

1 - الاستدلال بالأقيسة العقليّة المنطقيّة

وله صور نشير إليها :

إذا ثبت كونه سبحانه غنيّاً غير محتاج إلى شيء بل الكلّ محتاج إليه فالعقل يتّخذه مبدأً لكثير من أحكامه على الواجب عزّ اسمه ، فيصفه بما يناسب غناه وينزّهه عمّا لا يجتمع معه ، وقد سلك الفيلسوف الإسلامي الكبير نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية قال :

« ووجوب الوجود ( الغني ) يدل على سرمديته ، ونفي الزائد ، والشريك والمثل ، والتركيب بمعانيه ، والضد ، والتحيّز والحلول ، والاتحاد ، والجهة ، وحلول الحوادث فيه ، والألم واللذّة والمعاني والأحوال والصفات الزائدة عيناً والرؤية ».

ص: 21


1- الكافي ج 1 باب « اطلاق القول بأنّه شيء » الحديث 2 ، 5.

بل انطلق المحقّق من نفس هذه القاعدة لاثبات سلسلة من الصفات الثبوتيّة حيث قال : « ووجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود ، والملك والتمام والحقّية والخيرية والحكمة والتجّبر والقهر والقيوميّة » (1).

فقد سبقه إلى ذلك صاحب كتاب « الياقوت » في علم الكلام إذ قال وهو بصدد تنزيهه سبحانه عن الصفات غير اللائقة بساحة قدسه : « وليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا حالاًّ في شيء ولا تقوم الحوادث به وإلاّ لكان عرضاً » (2).

وإن شئت قلت : إنّ ذاته سبحانه نفس الكمال ، وفوق ما يتصوّر من الكمال ، وليس للنقص إليه سبيل ، فإذا كان كذلك فيجب أن يوصف بكلّ ما يُعدّ كمالاً فينزّه عمّا يعدّ نقصاً ، فالصفات الذاتية صفات كمال لا محيص عن الاتّصاف بها ، كما أنّ الصفات السلبيّة صفات تنزيهيّة طاردة للنقص عن ساحة ذاته فيجب التنزيه عنها ، فإذا كان العلم والقدرة والحياة أوصاف كمال وكانت الجسميّة والتركّب والحالّيّه والمحلّيّة صفات نقص فيجب التوصيف بالاُولى والتنزيه عن الثانية ولأجل ذلك قلنا : إنّ الصفات الثبوتية والسلبية ترجع إلى اثبات أمر واحد وهو الكمال ، وسلب أمر واحد وهو النقص.

وبتعبير آخر لاثبات صفاته وهو أنّ الوجودات الامكانية وجودات متدلّية قائمة بوجود الواجب وما لها من صفات كمال كالعلم والقدرة والحياة ، فالمالك الحقيقيّ لها هو اللّه سبحانه ، والمعطي لها هو اللّه سبحانه. قال تعالى : ( للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) فالعلم والقدرة والحياة كلّّها تجلّيات لعلمه وقدرته وحياته ، فإذا كان كذلك فالعلم الأصيل والقدرة الأصيلة والحياة الحقيقيّة لله سبحانه.

ص: 22


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 178 - 185 ( ط صيدا ).
2- أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ص 76 - 80 - 81 - 92.

يقول العلاّمة الطباطبائي : نحن أوّل ما نفتح أعيننا ، يقع ادراكنا على أنفسنا ، وعلى أقرب الاُمور منا ، وهي صلتنا بالكون الخارج ، لكنّا لا نرى أنفسنا إلاّ مرتبطة بغيرها ولا قوانا ولا أفعالنا إلاّ كذلك ، فالحاجة من أقدم ما يشاهده الإنسان ، يشاهدها من نفسه ومن كلّ ما يرتبط به من قواه وأعماله والدنيا الخارجة. وعند ذلك يقضي بذات ما يقوم بحاجته ويصد خلّته ، وإليه ينتهي كلّ شيء وهو اللّه سبحانه ويصدقنا في هذا النظر والقضاء قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) ( فاطر / 15 ).

ثمّ إنّ أقدم ما نواجهه في البحث عن المعارف الالهيّه إنّا نذعن بانتهاء كلّ شيء إليه ، وكينونته ووجوده منه ، فهو يملك كلّ شيء لعلمنا أنّه لو لم يملكها لم يمكن أن يفيضها ويفيدها لغيره ، على أنّ بعض هذه الأشياء مما ليست حقيقته إلاّ مبنيّة على الحاجة وهو تعالى منزّه عن كلّ حاجة ونقيصة لأنّه الذي يرجع إليه كلّ شيء في رفع حاجته ونقيصته.

فله الملك - بكسر الميم وضمها - على الاطلاق فهو سبحانه يملك ما وجدنا في الوجود من صفة كمال كالحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والرزق والرحمة والعزّة.

فهو سبحانه حيّ ، قادر ، بصير ، حليم ، لأنّ في نفيها اثبات النقص ولا سبيل للنقص إليه ، ورازق ورحيم وعزيز ومحيي ومميت ومبدع ومعيد وباعث إلى غير ذلك لأنّ الرزق والرحمة والعزّة والاحياء والاماتة والابداع والاعادة والبعث له سبحانه وهو السبّوح ، القدّوس ، العلي ، الكبير ، المتعال ، إلى غير ذلك ، فنعني بها نفي كلّ نعت عدمي ، ونفي كلّ صفة نقص عنه (1).

ترى أنّه - قدس اللّه سره - استدل على الصفات الثبوتية بمبدأ واحد وهو أنّ

ص: 23


1- الميزان ج 8 ص 366 - 367.

الملك له لا لغيره ، فكلّ ما يملكه الإنسان فهو يملكه ، فصار هذا منشأً لاثبات كثير من الصفات الثبوتية.

2 - مطالعة الكون وآيات وجوده

الطريق الثاني التي يمكن التعرّف بها على ما في ذاته سبحانه من الجمال والكمال طريق التدبّر في النفس والكون أي في آياته الأنفسية والافاقية امتثالاً لقوله سبحانه :

( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( فصّلت / 53 ) (1).

فمطالعة الكون المحيط بنا وما فيه من بديع النظام وغريب الموجودات يكشف لنا عن علمه الوسيع وقدرته المطلقة فمن خِلال هذه القاعدة وعبر هذا الطريق ، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من الصفات الإلهية الجماليّة ( الثبوتية ) والجلالية ( السلبية ) وقد سلك هذا الطريق المحقّق نصير الدين وقال : « والأحكام والتجرّد واستناد كلّ شيء إليه دلائل علمه » (2).

وقول شيخنا المحقّق الطوسي ليس فريداً في ذلك الباب بل سبقه شيخنا أبو جعفر الطوسي في بعض كتبه وقال عند البحث عن علمه سبحانه :

« وأمّا الذي يدل على أنّه عالم هو أنّ الإحكام ظاهر في أفعاله كخلق الإنسان وغيره من الحيوان لأنّ فيه من بديع الصنعة ومنافع الأعضاء وتعديل الامزجة وتركيبها على وجه يصحّ معه أن يكون حيّاً لا يقدر عليه إلاّ من هو عالم بما يريد فعله ،

ص: 24


1- والاستدلال مبني على عود الضمير المنصوب في « انّه الحق » الى اللّه سبحانه.
2- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 174 ( ط صيدا ) والاستدلال بالتجرّد ، استدلال عقلي والاستدلال بالأحكام واستناد كل شيء اليه ، استدلال بآيات وجوده على كماله.

لأنّه لو لم يكن عالماً لما وقع على هذا الوجه من الإحكام والنظام ، والاختلاف في بعض الأحوال ولمّا كان ذلك واقعاً على حد واحد ، ونظام واحد ، واتساق واحد دل على أنّ صانعه عالم » (1).

وهناك - وراء الإستدلال العقلي والنظر في آثار الرب - طريقان آخران نشير إليهما.

3 - المعرفة عن طريق الوحي

إنّ الوحي ادراك مصون عن الخطأ والزلل كما أنّ السنّة الصحيحة فرع من فروعه فكلّ ما ورد في الكتاب والسنّة من الإلهيات والمعارف ، يصلح الاستدلال به غير أنّ الآيات القرآنية في ذلك المجال على قسمين : فتارة تتخد لنفسها موقف المعلم والمفكّر الذي يريد تعليم اتباعه فيكون موقف المخاطَب عندئذ موقف الاستلهام والاستعلام كما هو الحال في البراهين التي أقامها القرآن في مجال اثبات الصانع ونفي الشريك عنه وكثير من صفاته الثبوتية ، فتكون تلك الآيات حجّة عقليّة من دون استلزام الدور ، واُخرى يتخذ لنفسه موقف الرسول المتكلّم باسم الوحي المنبئ عن اللّه سبحانه فعندئذ يكون قوله حجّة تعبديّة ولا يمكن الاعتماد على مثله إلاّ بعد ثبوت وجود الصانع وبعض صفاته وثبوت النبوّة العامّة والخاصة ، ولكن الغالب على الآيات القرآنيه والسنّة الصحيحة المرويّة عن أئمّة أهل البيت هو الأوّل. يقف على ذلك من خالط القرآن روحه وقلبه وقرأ القرآن متدبّراً متعمّقاً.

4 - المعرفة عن طريق الكشف والشهود

هناك طريق رابع وهو التعرّف على الحقائق من خلال الكشف والشهود ، والقائلون به يرون أنّ سبيل الحصول على حقائق المعارف هو السعي إلى صفاء القلب

ص: 25


1- الاقتصاد ، الهادي الى سبيل الرشاد ص 28 ، ولاحظ إرشاد الطالبين للفاضل المقداد ص 194.

حتى ينعكس ما في ذلك العالم على قلب العارف وضميره ، ويدرك ما في ماوراء الطبيعة من الجمال والكمال ادراكاً يقينيّاً لا يخالطه الشك ، ولا يمازجه الريب ، ولكنه طريق ( قلّ سالكيه ) يختصّ بطائفة خاصّة ولايكون حجّة إلاّ لصاحب الكشف.

وعلى كلّ تقدير فليس المدّعى لمن يسلك هذه الطرق الأربعة هو معرفة كنه الذات الإلهية وكنه صفاته وأسمائه ، بل المراد التعرّف على ما هناك من الجمال والكمال ونفي النقص والعجز حسب المقدرة الإنسانية.

إلى هنا تبيّن إنّ التفكير الصحيح ممّا دعى إليه الكتاب العزيز والفطرة السليمة ، وهناك كلام للعلاّمة الطباطبائي حول التفكّر الذي يدعو إليه القرآن وهو بحث مسهب نقتبس منه ما يلي ، قال :

« إنّك لو تتبّعت الكلام الإلهي ثم تدبّرت آياته ، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكّر أو التذكّر أو التعقّل أو تلقّن النبي الحجّة لاثبات حقّ أو ابطال باطل كقوله : ( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ) ( المائدة / 17 ).

أو ينقل الحجّة الجارية على لسان أنبيائه وأوليائه كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء العظام ولقمان ومؤمن آل فرعون كقوله :

( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( إبراهيم / 10 ).

وقوله : ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ( لقمان / 13 ).

وقوله : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ) ( غافر / 28 ).

وقوله حكاية عن سحرة فرعون ( قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ

ص: 26

وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ) ( طه / 72 ). إلى آخر ما احتجّوا به.

ولم يأمر تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشيء ممّا هو عنده أو يسلكوا سبيلاً على العمياء وهم لا يشعرون حتّى أنّه علّل الشرائع والأحكام التي جعلها لهم ممّا لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته ، - علّل - باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ ) ( العنكبوت / 45 ).

وقوله : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة / 183 ).

وقوله ( في آية الوضوء ) : ( مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة / 6 ).

الى غير ذلك من الايات الواردة حول تحريم الخمر والميسر.

وهذا الادراك العقلي الذي يدعو إليه القرآن ويبني على تصديقه ، ما يدعو إليه من حقّ أو خير أو نفع ، ويزجر عنه من باطل أو شرّ أو ضرّ ، هو الذي نعرّفه بالخلقة والفطرة ممّا لا يتغيّر ولا يتبّدل ولا يتنازع فيه إنسان وإنسان ، والعجب انّ المخالفين للتفكّر المنطقي يعتمدون في اثبات دعاويهم ومقاصدهم على الاُسس المنطقيّة بحيث لو حلّلت مقالهم ودليلهم لعاد على صورة أقيسة منطقية يستدل بها المخالف على بطلان الاستدلال المنطقي (1).

ونذكر من باب المثال قولهم : « لو كان المنطق طريقاً موصلاً لم يقع الاختلاف بين أهل المنطق ، لكنّا نجدهم مختلفين في آرائهم » ترى أنّه استعمل القياس الاستثنائي من حيث لا يشعر وأمّا الجواب : فإنّ المنطق آلة تصون الفكر عن

ص: 27


1- الميزان : ج 5 ص 274 - 275.

الخطأ في كيفية الاستدلال ولكن صحّة الاستدلال مبنيّة على دعامتين :

1 - صحّة المادّة.

2 - صحّة الهيئة.

والمنطق يصون الإنسان عن الخطأ في الجانب الثاني دون الأوّل وأجاب عنه العلاّمة الطباطبائي بوجه آخر وقال :

« إنّ معنى كون المنطق آلة الاعتصام انّ استعماله كما هو حقّه يعصم الإنسان عن الخطأ وأمّا انّ كلّ مستعمل له فإنّما يستعمله صحيحاً فلا يدعيه أحد وهذا كما انّ السيف آلة القطع لكن لايقطع إلاّ عن استعمال صحيح » (1).

القرآن الكريم يهدي العقول إلى استعمال ما فطروا على استعماله بحسب طبعهم وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات والذي فطرت عليه العقول هو ترتيب مقدمات حقيقيّة يقينيّة لاستنتاج المعلومات التصديقيّة الواقعيّة ، وهو البرهان أو استعمال المقدّمات المشهورة أو المسلّمة وهو الجدل ، أو استعمال مقدّمات ظنيّة لغاية الارشاد والهداية إلى خير مظنون وشر مثله وهو العظة ، قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( النحل / 125 ).

والظاهر أنّ المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته بالعظة والجدل.

ثمّ إنّ آخر ما في كنانة القوم هو ادّعاء انّ جميع ما تحتاج إليه النفوس الإنسانيّة مخزونة في الكتاب العزيز ، مودعة في الأحاديث فما الحاجة إلى أساليب الكفّار والملاحدة ؟

يلاحظ عليه : إنّ اشتمال الكتاب والسنّة على جميع ما يحتاج إليه لا يلازم

ص: 28


1- الميزان ج 5 ص 288.

استغناء البشر عن التفكّر الصحيح الموصل إلى ما في الكتاب والسنّة ، فليس فهم الكتاب والسنّة غنيَّا عن التدبّر والامعان ، وليس أصحاب الفلسفة والمنطق من الكفّار والملاحدة ، والواجب على المسلم الواعي هو استماع القول - من أيّ ابن اُنثى صدر - ثم اتّباع أحسنه.

وعلى كلّ تقدير فابطال الاستدلال العقلي عن طريق الاستدلال العقلي غريب وعجيب جداً ومن قابَلَ التفكّر والتعقّل واقامة البرهنة فقد عارض إنسانيّته وفطرته التي تدعوه إلى الاعتناء بالتفكر الصحيح والتعقّل الرصين عن طريق اعمال الأقيسة الصحيحة من حيث المادة والهيئة.

وبذلك تقف على قيمة عمل أهل الحديث واسلوب دعوتهم إلى المعارف والحقايق حتى إنّ الأشعري لما تاب عن الإعتزال ولحق بأصحاب أحمد بن حنبل ، واستدل على عقيدة أهل الحديث مثل الرؤية وكون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ، رفضته الحنابلة قائلة : بأنّ الاستدلال ليس طريقاً دينياً ، وإنّما الطريق البرهنة بالآية والحديث مكان التعقل.

قال ابن أبي يعلي في طبقات الحنابلة عن طريق الأهوازي قال : قرأت على عليّ القومسي ، عن الحسن الاهوازي قال سمعت أبا عبد اللّه الحمراني يقول :

لما دخل الأشعري بغداد جاء إلى « البربهاري » فجعل يقول رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس وقلت وقالوا وأكثر الكلام فلمّا سكت قال البربهاري : وما أدري ممّا قلت لا قليلاً ولا كثيراً ، ولا نعرف إلاّ ما قاله أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل ، فخرج من عنده وصنف كتاب « الابانة » فلم يقبله منه (1).

هذا وإذا بان لك انّ الاستدلال المنطقي على المعارف العقليّة هو طريق

ص: 29


1- تعليقة « تبيين كذب المفتري » ص 391.

الفطرة التي دعا إليها القرآن ، ولا يشذ عنها إلاّ من احتجبت عنده الفطرة الإنسانيّة.

فيلزم علينا البحث عن أسمائه وصفاته الواردة في الذكر الحكيم وسنّة نبيه وأحاديث عترته صلوات اللّه عليهم أجمعين على ضوء البرهان والقياس العقلي.

ص: 30

أسماؤه وصفاته في القرآن الكريم

اشارة

قد احتلّ البحث عن أسمائه وصفاته سبحانه في كتب الكلام والتفسير المكانة العليا ، فالقدماء شرحوا معاني أسمائه وصفاته وأفعاله والمتأخّرون اكتفوا من مباحثهابالبحث عن أمرين :

1 - مغايرة الاسم للمسمّى.

2 - كون أسمائه توقيفية.

ونحن في هذه الفصول نجمع بين الطريقين فنأتي بما يتعلّق بها من المباحث المفيدة ونعرض عمّا لا يهمّنا جدّاً ثم نفسّر أسماءه وصفاته الواردة في الذكر الحكيم ، وبناء عليه سيقع البحث في اُمور :

1 - الفرق بين الاسم والصفة

اشارة

دلّت الآيات الكريمة على أنّ له سبحانه الأسماء الحسنى كما ورد ذلك في الأحاديث أيضاً.

قال سبحانه : ( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) ( الأعراف / 180 ).

وقال : ( أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( الاسراء / 110 ).

وقال : ( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( طه / 8 ).

ص: 31

وقال : ( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( الحشر / 24 ).

وقال : ( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) ( الأعراف / 180 ).

والاسم مشتق إمّا من « السمو » على ما ذهب إليه البصريون ، أو من « السمة » على ما اختاره الكوفيون ، وعلى كلّ تقدير فلو كان الملاك في تسميه اللفظ اسما هو سموّه على المعنى ، وتقدمه عليه أو كونه علامة له ، فالكلمه بأقسامها الثلاثه اسم لوجود كلا الملاكين فيها (1).

ومع ذلك كلّه فالاسم في مصطلح النحويين يطلق على قسم واحد من أقسام الكلمة ، وعرّفوه بأنّه ما دلّ على معنى في نفسه غير مقترن بالزمان ، فالاسم بهذا المعنى يقابل الفعل والحرف ، فالفعل يدل على معنى مستقل مقترن بالزمان ، والحرف يدل على معنى في غيره.

وهناك اصطلاح ثالث للاسم وهو كلّ ماهيّة تعتبر من حيث هي هي فهو أسم أو من حيث انّها موصوفة بصفه معينة فهو وصف ، فالأوّل كالسماء والأرض والرجل والجدار ، والثاني كالخالق والرازق والطويل والقصير. ذكره الرازي وقال : هذا هو الفرق بين الاسم والصفة على قول المتكلّمين (2).

يلاحظ عليه : إنّ حاصل كلامه يرجع إلى أنّ الجوامد أسماء ، وأسماء الفاعلين ونظائرها صفات مع أنّه لاينطبق على مصطلح المتكلّمين فإنّ الخالق والرازق من أسمائه سبحانه لا من صفاته ، فكيف يعده من صفاته ومقابل أسمائه والحق أن يقال :

ص: 32


1- اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ اطلاق الاسم على خصوص قسم من الكلمة لأجل كون معناه سامياً ومرتفعاً بين معاني سائر الكلمات أعني الفعل والحرف فعندئذ يختص بالقسم المعروف عند النحويين.
2- لوامع البينات للرازي ص 27 ( طبع القاهره ).
ما هو المختار في الفرق بين أسماءه وصفاته ؟

« الاسم هو اللفظ المأخوذ إما من الذات بما هي هي ، أو بكونها موصوفاً بوصف أو مبدأ الفعل ، فالأوّل كلفظ الجلالة له سبحانه والرجل والإنسان لغيره ، والثاني كالعالم والقادر ، والثالث كالرازق والخالق ، وأمّا الصفة فهو الدال على المبدء مجرّداً عن الذات كالعلم والقدرة والرزق والخلقة ولأجل ذلك يصحّ أن يقال الاسم ما يصحّ حمله كما يقال اللّه عالم وخالق ورحمان ورحيم ، والصفة لا يصحّ حملها كالعلم والخلق والرحمة ، وهذا هو المشهور بين المتكلّمين بل الحكماء والعرفاء ، فالصفات مندكة في الأسماء من غير عكس.

يقول العلاّمة الطباطبائى : لا فرق بين الصفة والاسم ، غير أنّ الصفة تدلّ على معنى من المعاني تتلبّس به الذات ، أعم من العينيّة والغيريّة والاسم هو الدال على الذات مأخوذة بوصف ، فالحياة والعلم صفتان ، والحي والعالم اسمان (1).

هذا كلّه على ما هو المشهور ويوافقه ظاهر الكتاب العزيز من انّ أسماءه سبحانه من قبيل الألفاظ والمعاني فيكون لفظ الجلالة وسائر الأسماء كالرحمان والرحيم ، والعالم والقادر أسماء اللّه الحسنى الحقيقية ، ولها معان ومفاهيم فينتقل إليها الذهن عند السماع.

الأسماء والصفات عند أهل المعرفة

إنّ لأهل المعرفة اصطلاحاً خاصّاً فالأسماء والصفات عندهم ليست من قبيل الألفاظ والمفاهيم بل حقيقة الصفه ترجع إلى كمال وجودي قائم بالذات ، والاسم عبارة عن تعيّن الذات بنفس ذلك الكمال والأسماء والصفات الملفوظة ، أسماء وصفات لتلك الأسماء والصفات الحقيقية التي سنخها سنخ الوجود والكمال ،

ص: 33


1- الميزان 8 / 369.

والتحقّق والتعيّن ، فلفظ الجلالة ليس اسماً بل اسماً للاسم ، ومثله العلم والقدرة والحياة فليست صفات بالحقيقة ، بل مرايا لأوصافه الحقيقيّة.

فالقولان متّفقان على أنّ الذات مع التعيّن هو الاسم ، والتعيّن بما هو هو ، هو الوصف ، ويختلفان من كونها من قبيل الألفاظ والمفاهيم أو من قبيل الحقايق والواقعيات. يقول أهل المعرفه : إنّ الذات الأحدية ، بما أنّه وجود غير متناه ، عار عن المجالي والمظاهر ، يسمّى « غيب الغيب » وإذا لوحظ في رتبة متأخّرة ، بتعيّن من التعيّنات الكماليّة كالعلم والقدرة ، فهو مع هذا التعيّن اسم ، ونفس التعيّن بلا ملاحظة الذات ، وصف.

يقول الحكيم السبزواري : « فالذات الموجودة مع كلّ منها ( التعيّنات ) يقال لها الاسم في عرفهم ، ونفس ذلك المحمول العقلي هي الصفه عندهم » (1). ويقول في موضع آخر : « والوجود بشرط التعيّن هو الاسم ، ونفس التعيّن هو الصفة » (2).

ويقول أيضاً : « الاسم عند العرفاء هو حقيقة الوجود مأخوذة بتعيّن من التعيّنات الصفاتية من كمالاته تعالى ، أو باعتبار تجلّ خاص من التجليّات الإلهية » فالوجود الحقيقي مأخوذاً بتعين « الظاهرية بالذات » و « المظهرية للغير » اسم « النور » وبتعيّن كونه « ما به الانكشاف لذاته ولغيره » اسم « العليم » وبتعيّن « كونه خيراً محضاً » و « عشقا صرفاً » اسم « المريد » وبتعيّن « الفياضية الذاتية » للنورية عن علم ومشيئة ، اسم « القدير » وبتعيّن « الدراكيّة » و « الفعاليّة » اسم « الحي » وبتعيّن « الاعراب عمّا في الضمير » المخفي والمكنون العيني اسم « المتكلّم » وهكذا » (3).

ص: 34


1- شرح الاسماء الحسنى 19.
2- شرح الاسماء الحسنى 215.
3- شرح الاسماء الحسنى 214.

2 - هل الاسم نفس المسمّى أو غيره

اشارة

من المباحث التي شغلت بال القدماء والمتأخّرين ، هو مسألة اتحاد الاسم والمسمّى وهو بحث لا يحتاج إلى التفصيل ، يقول الرازي : إنّ هذا البحث ممّا لا يمكن النزاع فيه بين العقلاء ، فإن كان المراد من الاسم هو اللفظ الدال على الشيء بالوضع ، وكان المسمّى عبارة عن نفس ذلك الشيء ، فالعلم الضروري حاصل بأنّ الاسم غير المسمّى وإن كان الاسم عبارة عن ذات الشيء ( المدلول ) والمسمّى ايضاً ذات الشيء كان معنى قولنا الاسم نفس المسمّى هو أن ذات الشيء نفس ذات الشيء فثبت أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنّما كان بسبب أنّ التصديق ما كان مسبوقاً بالتصوّر وكان اللائق بالعقلاء أن لا يجعلوا هذا الموضع مسألة خلافية (1).

هذا وان شيخ مذهبه « أبا الحسن الأشعري » قد زاد في الطين بلّة فعاد يفصّل فيها ويقول : إنّ الاسم ( يريد مدلوله ) عين المسمّى أي ذاته من حيث هي هي نحو اللّه فإنّه اسم للذات من غير اعتبار معنى فيه ، وقد يكون غيره نحو الخالق والرازق ممّا يدل على نسبته إلى غيره ، ولا شك انّ تلك النسبة غيره وقد يكون لا هو ولا غيره كالعليم والقدير مما يدل على صفة حقيقية قائمة بذاته (2).

ولا يخفى إنّ صحّة كلامه يتوقف على تسليم اصطلاح خاص له.

ففي الشق الأوّل الذي يدعى فيه انّ الاسم عين المسمّى يريد من الاسم المدلول لا اللفظ المتكلّم به وهو اصطلاح جديد لم نسمعه إلاّ منه ومن أمثاله.

كما أنّ حكمه بأنّ الخالق والرازق غيره ، مبني على كون المشتق بمعنى المبدء أي الخلق والرزق ، وانّ معنى المشتق هو نسبة المبدء إلى الذات على نحو خروج الذات عن مدلول المشتق.

ص: 35


1- لوامع البينات للرازي ص 18.
2- شرح المواقف ج 8 ص 207.

وأمّا الثالث فهو نظرية أخرى بين القول بإتحاد صفاته الذاتية مع الذات ومغايرته ، فالمعتزله على الأوّل وأهل الحديث على الثاني ، ولمّا لم ينجح الشيخ في القضاء الحاسم بين النظريتين إختار قولاً ثالثاً وهو أنّه لا هو ولا غيره ، وهو بحسب ظاهره أشبه بارتفاع النقيضين إلاّ أن يفسّر بوجه يرفع ذلك الاشكال.

والشيخ الأشعري يصّر في كتاب « الابانة » على أنّ الاسم نفس المسمّى ولا يذكر وجهه (1).

وما ذكرنا من المبني ( مراده من الاسم المدلول ) لتوجيه كلامه فإنّما ذكره اتباع مذهبه ك « الايجي » في المواقف و « التفتازاني » في المقاصد وشرحه ، والسيد الشريف في شرحه على المواقف.

يؤاخذ على الشيخ بأنّه أي حاجة في جعل هذا الاصطلاح أي اطلاق الاسم وارادة المدلول منه حتى نحتاج إلى هذه التوجيهات.

ثم إنّ القائلين بالاتحاد استدلّوا بوجوه :
اشارة

1 - قالوا : إنّ اللّه تعالى أمر بتسبيح اسمه وقال : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) ( الاعلى / 1 ). ودلّ العقل على أنّ المسبّح هو اللّه تعالى لا غيره وهذا يقتضي انّ اسم اللّه تعالى هو هو لا غيره.

2 - وقالو : إنّه سبحانه أخبر انّ المشركين عبدوا الأسماء وقال : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم ) ( يوسف / 40 ).

والقوم ما عبدوا إلاّ تلك الذوات فهذا يدل على أنّ الاسم هو المسمّى.

ص: 36


1- وراجع مقالات الاسلاميين ، ص 290 - الطبعة الثالثة الفصل الخاص لبيان عقيدة أهل الحديث والسنّة.

3 - قالوا : اسم الشيء لو كان عبارة عن اللفظ الدال عليه لوجب ان لا يكون لله تعالى في الأزل شيء من الأسماء إذ لم يكن هناك لفظ ولا لافظ وذلك باطل.

4 - قالوا : إذا قال القائل : محمد رسول اللّه فلو كان اسم محمد غير محمد لكان الموصوف بالرسالة غير محمد.

5 - قالوا : إنّ لبيد يقول : « اسم السلام » ويريد نفس السلام حيث قال :

« إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكِ عاماً كاملاً فقد اعتذر » (1).

وهذه الحجج التي نقلها الرازي تعرب من أنّ للمستدل كالشيخ الأشعري إصطلاح خاص في الاسم ، فهو كلّما يطلق الاسم إنّما يريد المدلول لا اللفظ الدال.

وعلى ضوء ذلك فنقول :

أمّا الدليل الأوّل : فلأنّ الظاهر أنّ الآية تحثّ على تسبيح الإسم وتقديسه وتنزيهه لا على تنزيه المسمّى وذلك لأنّه كما يجب تنزيه المدلول يجب تنزيه الدال ، وذلك بأن لا يسمّى به غيره ، فيكون ذلك نهياً عن دعاء غير اللّه تعالى باسم من أسماء اللّه فإنّ المشركين كانوا يسمّون الصنم باللات وكانوا يسمّون أوثانهم آلهة.

ويمكن أن يكون المراد تفسيره بما لا يليق بساحته ولا يصحّ ثبوته في حقه سبحانه.

وهناك وجه ثالث وهو أن تصان أسماء اللّه عن الإبتذال والذكر لا على وجه التعظيم.

ووجه رابع وهو أنّه يمكن أن يكون تسبيح الاسم كناية عن تسبيح الذات كما في قولهم سلام على المجلس الشريف والجناب المنيف إلى غير ذلك من الوجوه التي يمكن أن تكون باعثة لتسبيح الاسم نفسه.

ص: 37


1- لوامع البينات للرازي ص 21 - 22.

أمّا الدليل الثاني : فلأنّ المراد من قوله سبحانه : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) إنّه ليس لها من الاُلوهية إلاّ التسمية وهي أسماء بلامسميات ، وهذا كما يقال لمن سمّى نفسه باسم السلطان انّه ليس له من السلطنة إلاّ الاسم وكذا هنا وعلى ذلك فالمراد من قوله : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) اي إلاّ أشخاصاً أنتم سمّيتموها آلهة وليسوا بآلهة.

وأمّا الدليل الثالث : فلا محذور أن لا يكون له اسم ملفوظ في الأزل غير أنّ فقدان هذه الأسماء لا يلازم فقدان المدلولات ، فاللّه سبحانه كان جامعاً لكمالات هذه الأسماء ومداليلها ، وإن لم يكن هناك اسم على النحو اللفظي.

وأمّا الدليل الرابع : فساقط جداً لأنّ المبتدأ أعني قولنا : محمد يمثّل طريقاً إلى المدلول ، والحكم على ذي الطريق لا على نفس الطريق ، وهذا حكم كلّ لفظ موضوع اسما كان أو فعلاً أو حرفاً.

وأمّا الدليل الخامس : فهو تمسّك بشعر شاعر علم بطلانه ببديهة العقل ومن المحتمل جدا انّ اقحام لفظة اسم في البيت لأجل الضرورة وإلاّ فلا وجه للعدول من « السلام عليكما » إلى « اسم السلام عليكما » (1).

والرازي مع أنّه جعل المسألة بديهية ، أخذ في الاستدلال على أنّ الاسم غير المسمّى لاقناع غيره الذي وقع في الشبهة مقابل البديهية ، فقال : الذي يدل على أنّ الاسم غير المسمّى وجوه :

منها : إنّ أسماء اللّه كثيرة والمسمّى ليس بكثير.

منها قوله تعالى : ( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) حيث أمرنا أن ندعو اللّه تعالى بأسمائه ، والشيء الذي يدعي مغاير للشيء الذي يدعى به ذلك المدعو.

إلى غير ذلك من الوجوه التي لا تحتاج إلى الذكر والبيان.

ص: 38


1- لاحظ لوامع البينات للرازي ص 21 - 22 ، وشرح المواقف ج 8 ص 207 - 208 ، وشرح المقاصد للتفتازاني ج 2 ص 69 - 70.
بيان آخر لوحدة الاسم والمسمّى

نعم هناك بيان آخر لتوحيد الاسم مع المسمّى غير معتمد على اصطلاح الأشعري من تفسير الاسم بالمدلول الذي هو متّحد مع المسمّى ، وهذا الوجه هو ما أشار إليه علماء العرفان من انّ كلاًّ من العالم والقادر والخالق ليس اسماً للذات المقدسة بل اسم للاسم ، والاسم للذات المقدسة هو الذات المنكشفة بحقيقة العلم أو القدرة.

توضيح ذلك : إنّه قد يطلق الأسم على اللفظ الدال على الذات المتّصفة بوصف الكمال ، دلالة بالجعل والمواضعة وعندئذ يكون الاسم من قبيل الألفاظ والمسمّى من قبيل الأمر الخارجي ، وعلى ذلك فلا مسوّغ للبحث عن الاتحاد.

وقد يطلق على الذات المنكشفة ، بوصف من صفاته الكمالية وذلك لأنّ ذاته سبحانه مبهمة في غاية الإبهام غير معروفة لأحد من خلقه ، وإنّما تعرف عن طريق صفاته الجمالية ، ولولا الصفات لما عرف سبحانه بوجه ، وعلى ذلك يكون المراد من الاسم هو الحقيقية الخارجية المبهمة غاية الابهام ، المنكشفة لنا بواحد من صفاته وعلى هذا يكون المراد من الاسم الذات المنكشفة ، والمراد من الوصف نفس الكمال الواقعي ، والاسم والوصف بهذا المعنى ليسا من الأمور الملفوظة أو الذهنية بل من الاُمور الواقعيّة الحقيقيّة العينيّة وعندئذ يكون ألفاظ الحي ، والقادر ، والعالم أسماء للاسم ، كما يكون الحياة ، والقدرة ، والعلم أوصافاً للوصف لا أسماء وصفاتاً لذاته سبحانه ، فالاسم نفس المسمّى لكن اسم الاسم غيره ، وهذا المعنى الدقيق العرفاني لا يقف عليه إلاّ من له قدم راسخ في الأبحاث العرفانية وأين هو من تفسير الشيخ ، الاسم بالمدلول والحكم بأنّ المدلول نفس المسمّى ؟

وعلى أيّ تقدير فالظاهر من الروايات أنّ القول بالاتحاد كان ذائعاً في عصر أئمّة أهل البيت وما ذكره الشيخ الأشعري كان توجيهاً لتلك العقيدة الباطلة وإن كان أصحابها غافلين عن ذلك التوجيه ، وإليك ما روي عنهم علیهم السلام في

ص: 39

ذلك الباب :

1 - روى الكليني عن عبد الاعلى ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « اسم اللّه غيره ، وكلّ شيء وقع عليه اسم شيء » (1) فهو مخلوق ما خلا اللّه ، فأمّا ما عبّرته الألسن أو ما عملت الأيدي فهو مخلوق - إلى أن قال - : واللّه خالق الأشياء لا من شيء كان ، واللّه يسمى بأسمائه وهو غير أسمائه والأسماء غيره (2).

2 - روي الكليني عن علي بن رئاب ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال :

« من عبد اللّه بالتوهّم فقد كفر.

ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر.

ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك.

ومن عبد المعنى بايقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ، ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته ، فأولئك أصحاب أمير المؤمنين حقّاً » (3).

ترى أنّه علیه السلام يقسّم العابد حسب اختلاف المعبود إلى أقسام :

الف - فمن عابد لله سبحانه لكن بالتوهّم والشك فهو كافر باللّه لأنّ الشك كفرٌ به.

ب - ومن عابد للاسم أي الحروف أو المفهوم الوضعي معرضاً عن المعنى المعبّر عنه فقد كفر أيضا لأنّه لم يعبد المعبّر عنه بالاسم لأنّ الحروف والمفهوم غير الواجب الخالق للكلّ فإنّما الاسم بلفظه ومفهومه تعبير عن المعنى المقصود.

ص: 40


1- أي لفظ « الشيء ».
2- الكافي ج 1 باب حدوث الأسماء ص 112 الحديث 4 ، وتوحيد الصدوق باب أسماء اللّه ص 192 الحديث 5.
3- الكافي ج 1 باب المعبود ص 87 الحديث 1.

ج - ومن عابد للاسم والمعنى أي كلّّ واحد منهما أو مجموعهما فقد أشرك.

والتعبير بالشرك والكفر في القسمين الأوّلين لا يخفى لطفه.

د - ومن عابد للمعنى المقصود من هذه الأسماء بأن اعتقد الهاً خارجاً عن اطار الألفاظ والمفاهيم الذهنية وعقد عليه قلبه وجعل اللفظ معبراً عنه ، فهو موحّد يقتفي أثر سيّد الموحّدين علي علیه السلام .

3 - وروي عن هشام بن الحكم انّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن أسماء اللّه واشتقاقها : اللّه ممّا هو مشتق ؟ قال فقال : يا هشام ، اللّه مشتق من اِله ، والاله يقتضي مألوهاً ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ، ولم يعبد شيئاً ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد. أفهمت يا هشام ؟

قال : فقلت : زدني ، قال : « إنّ لله تسعة وتسعين اسماً فلو كان الاسم هو المسمّى ، لكان كلّ اسم منها إلهاً ، ولكن اللّه معنى يُدَلُّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره - إلى أن قال - يا هشام ، الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق ، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا والمتخذين مع اللّه جلّ وعزّ غيره ؟ » (1).

ورواه أيضاً عن عبدالرحمن بن أبي نجران لكن باختلاف يسير ، قال : كتبت إلى أبي جعفر أو قلت له : جعلني اللّه فداك نعبد الرحمن الرحيم الواحد الأحد الصمد ؟ قال : فقال : إنّ من عبد الاسم دون المسمّى بالأسماء أشرك وكفر وجحد ، ولم يعبد شيئاً بل اعبدوا اللّه الواحد الأحد الصمد المسمّى بهذه الأسماء ، دون الأسماء ، إنّ الأسماء صفاته وصف بها نفسه (2).

ص: 41


1- الكافي ج 1 باب المعبود ص 87 الحديث 2.
2- المصدر نفسه ، الحديث 3.

ترى أنّه علیه السلام يستدل على المغايرة بوجهين :

الأوّل : إنّ لله أسماء متعدّدة فلو كان الاسم عين المسمّى لزم تعدد الالهة لبداهة مغايرة تلك الأسماء بعضها لبعض.

الثاني : إنّ الخبز اسم لشيء يحكم عليه بأنّه مأكول ، ومعلوم أنّ هذا اللفظ غير مأكول.

3 - هل اسماؤه توقيفية أو لا ؟

اشارة

المراد من توقيفية أسمائه توقف اطلاقها على الاذن فيه ، وليس الكلام في الأسماء الموضوعة له بين شعوب العالم حسب اختلاف ألسنتهم حيث أنّ العرب يسمّيه سبحانه « اللّه » والعجم « خدا » والترك « تارى » وقسم من الافرنج « God » كلّ اُمّة من الامم تسميه سبحانه باسم يشيرون به إلى ما يؤمنون به بالفطرة.

إنّما النزاع في غير هذا القسم كالذي يشعر بوصف من صفاته أو أفعاله كالعالم والقادر.

فذهبت المعتزلة والكرّامية إلى أنّه إذا دلّ العقل على اتّصافه تعالى بصفة وجودية أو سلبية : جاز أن يطلق عليه اسم يدل على اتصافه بها سواء ورد بذلك أذن شرعي أو لم يرد وكذا الحال في الأفعال.

وقال القاضي الباقلاني من الأشاعرة : كلّ لفظ دلّ على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه بلا توقيف إذا لم يكن إطلاقه موهماً لما لا يليق بكبريائه ، فمن ثمّ لم يجز أن يطلق عليه لفظ العارف لأنّ المعرفة قد يراد بها علم يسبقه غفلة ، ولا لفظ الفقيه لأنّ الفقه فهم غرض المتكلّم من كلامه ، وذلك مشعر بسابقة الجهل ، ولا لفظ العاقل لأنّ العقل علم مانع عن الاقدام على ما لا ينبغي ، مأخوذ من العقال ، وإنّما يتصوّر هذا المعنى في من يدعوه الداعي إلى ما لا ينبغي ولا لفظ الطبيب لأنّ الطب يراد به علم مأخوذ من التجارب إلى غير ذلك من الأسماء التي فيها نوع ايهام

ص: 42

بما لا يصحّ في حقّه تعالى.

وذهب بعض آخر إلى أنّه يشترط وراء ذلك الإشعار بالتعظيم حتّى يصحّ الاطلاق بلا توقيف.

وذهب الشيخ الأشعري ومتابعوه إلى أنّه لابد من التوقيف وذلك للاحتياط احترازاً عمّا يوهم باطلاً لعظم الخطر في ذلك ، فلا يجوز الإكتفاء في عدم ايهام الباطل ، بمبلغ ادراكنا بل لابد من الاستناد إلى إذن الشارع (1).

وقال الغزالي : « إنّ الأسماء موقوفة على الاذن وأمّا الصفات فغير موقوفة عليه وهو خيرة الرازي في كتابه » (2).

وحجّة من ذهب إلى التوقيف على الاطلاق هو أنّه لو لم يتوقّف ذلك على الاذن لجاز تسميته عارفاً وفقيهاً وعاقلاً وفطناً وطبيباً ، ولكنّه مدفوع بما ذكره الباقلاني من أنّ الجواز فيما إذا لم يكن هناك نوع ايهام لما لا يصحّ في حقّه تعالى وما ذكر من الأمثلة من هذا القبيل ، ولأجل ذلك لا يمكن تسميته سبحانه بالخادع والماكر والمستهزئ ، وإن نسب سبحانه الأفعال إلى نفسه وقال :

( يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) ( النساء / 142 ).

( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) ( الطارق / 15 - 17 ).

( اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( البقرة / 15 ).

فلا يصحّ في مقام الدعاء أن يقول : يا أيّها الخادع والكائد والمستهزئ اقض حاجتي ، فإنّ الجري والنسبة غير التسمية والأوّل خال عن الإيهام لأنّ اللفظ ورد من باب المشاكلة في الكلام ، كما هو واضح لمن لاحظ الآيات بخلاف التسمية ، فإنّه

ص: 43


1- شرح المواقف ج 8 ص 210 ، وشرح المقاصد ج 2 ص 171.
2- لوامع البينات للرازي ص 36.

خال عن تلك القرينة.

وأمّا التفصيل الذي ذكره الغزالي واختاره الرازي فحجّته انّا أجمعنا على أنّه لا يجوز لنا أن نسمّي الرسول باسم ما سماه اللّه به ، ولا باسمٍ ما سمّى هو نفسه به فإذا لم يجز ذلك في حقّ الرسول بل في حقّ أحد من آحاد الناس فهو في حقّ اللّه تعالى أولى (1).

يلاحظ عليه : إنّ ما لا يجوز في حقّ الرسول هو التسمية على وجه العلميّة كأن يقول : مكان يا محمداً ويا أحمد يا شيث فإنّه يعد نوع تصرف في سلطان الغير ، ولكن المراد بالتسمية هنا هو توصيفه بما صدر منه من الأفعال أو اتّصف به من الصفات فمنعه موضع تأمّل ، فلو قال رجل للنبي الأكرم أيها الصابر أمام العدو ، والصافح عنه فلا وجه لمنعه ، فالغزالي والرازي خلطا التسمية على وجه العلمية بالتسمية بمعنى توصيفه بمحامد صفاته وجلائل أفعاله.

ثمّ إنّه أورد على نفسه وقال : أليس انّ العجم يسمّون اللّه تعالى بقولهم : « خداى » والترك بقولهم « تنكرى » والاُمّة لا يمنعون من هذه الألفاظ ؟ أجاب : إنّ ذلك من باب الاجماع فيبقى ما عداه على الأصل (2).

يلاحظ عليه : إنّ جواز ذلك ليس من باب الاجماع فإنّ ذلك كان ذائعاً قبل بعثة النبي صلی اللّه علیه و آله فإنّ كلّ أمّة حسب وحي الفطرة تشير إلى القوّة الكبرى السائدة على العالم بلفظ من الألفاظ ولم ينقل عن أحد منع الشعوب عن التكلّم بلسانها عمّا تجده في فطرتها والزامهم على التعبير عنه باللفظ العربي أو غيره.

والذي أظن أنّ تسميته بما ليس فيه ايهام لما لا يصحّ وصفه به جائز لا مانع منه ، وأمّا توصيفه به ، فلا وجه لمنعه لأنّ مدلول اللفظ لمّا كان ثابتاً في حقّه تعالى كان وصف اللّه تعالى به كلاماً صادقاً.

ص: 44


1- لوامع البينات للرازي ص 39.
2- لوامع البينات للرازي ص 39.

ثم إنّه ربما يستدل على التوقيفية بقوله سبحانه : ( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الأعراف / 180 ).

والاستدلال مبني على أمرين :

1 - إنّ اللام في الأسماء الحسنى للعهد تشير إلى الأسماء الواردة في الكتاب والسنّة.

2 - إنّ الالحاد هو التعدي إلى غير ما ورد فيهما.

وكلا الأمرين غير ثابت ، أمّا الأوّل فالظاهر ان اللام في الأسماء للاستغراق قدّم عليها لفظ الجلالة لأجل إفادة الحصر ومعنى الاية انّ كلّّ اسم أحسن في عالم الوجود فهو لله سبحانه لا يشاركه فيه أحد ، فإذا كان اللّه سبحانه ينسب بعض هذه الأسماء إلى غيره كالعالم والحيّ فأحسنها لله أعني الحقائق الموجودة بنفسها ، الغنيّة عن غيرها والثابتة أيضاً لغيره من العلم والحياة والقدرة المفاضة من جانبه سبحانه من تجلّيات صفاته وفروعها وشؤونها ، والآية بمنزلة قوله سبحانه : ( أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا ) ( البقرة / 165 ) وقوله : ( فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا ) ( النساء / 139 ) وعلى ذلك فمعنى الاية : إنّ لله سبحانه حقيقة كلّ اسم أحسن لا يشاركه غيره إلاّ بما ملّكهم منه كيفما أراد وحيث شاء.

وأمّا الثاني فلأن الالحاد هو الميل عن الوسط إلى أحد الجانبين وهو يتصوّر في أسمائه بوجوه :

1 - اطلاق أسمائه على الأصنام بتغيير ما كاطلاق « اللات » المأخوذ من الاله بتغيير على « الصنم » المعروف ، واطلاق « العزّى » المأخوذ من العزيز ، فكان المشركين يلحدون ويميلون عن الحقّ بسبب هذه الإطلاقات لإرادتهم التشريك والحطّ من مرتبة اللّه.

ص: 45

2 - تسميته بما لا يجوز وصفه به لما فيه من النقص كوصفه سبحانه بأبيض الوجه وجعد الشعر ، ومثله تسميتة بالخادع والماكر والكائد.

3 - تسميته ببعض أسمائه دون بعض حيث كان العرب يقولون : « يا اللّه ويا رحيم » ولا يقولون « يا رحمان » ولدفع ذلك قال سبحانه : ( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( الاسراء / 10 ). وقال سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ) ( الفرقان / 60 ).

إلى غير ذلك من أقسام الإلحاد والعدول عن الحقّ في أسمائه.

وبذلك يظهر أنّه لا مانع من توصيفه سبحانه بالواجب أو واجب الوجود أو الصانع أو الأزلي أو الابدي وان لم ترد فيها النصوص مع أنّه سبحانه يقول : ( صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) ( النمل / 88 ).

وأضعف من القول بالتوقيف ، القول بأنّ الذي ورد به التوقيف تسعة وتسعون اسماً ، حيث رووا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة » وقد أخرج الترمذي وابن المنذر وابن حبّان وابن مندة والطبراني والحاكم والمردويه والبيهقي فهرس هذه الأسماء باسنادهم عن أبي هريرة (1).

مع انّه ورد في الكتاب والسنّة أسماء خارجة عن التسعة والتسعين كالبارئ ، والكافي ، والدائم ، والبصير ، والنور ، والمبين ، والصادق ، والمحيط ، والقديم ، والقريب ، والوتر ، والفاطر ، والعلاّم ، والمليك ، والأكرم ، والمدبّر ، والرفيع ، وذي الطول ، وذي المعارج ، وذي الفضل ، والخلاّق ، والمولى ، والنصير ، والغالب ، والرب ، والناصر ، وشديد العقاب ، وقابل التوب ، وغافر الذنب ، ومولج الليل في النهار ، ومولج النهار في الليل ، ومخرج الحي من

ص: 46


1- سيوافيك نقله من صحيح الترمذي ، ونقله السيوطي عنه في الدرّ المنثور.

الميت ، ومخرج الميت من الحي ، والسيّد ، والحنّان ، والمنّان.

وقد شاع في عبارات العلماء المريد ، والمتكلّم ، والشيء ، والموجود ، والذات ، والأزلي ، والصانع ، والواجب (1). أضف إلى ذلك : إنّ اثبات الشيء لا يدل على نفي ما عداه ، فعدم ورود بعض الأسماء في هذه الرواية لا يدل على تحريم تسميته به.

الروايات وتوقيفية الأسماء

وربّما يستدل على توقيفية الأسماء ببعض الروايات المرويّة عن أئمة أهل البيت علیهم السلام .

1 - فعن محمد بن حكيم قال : كتب أبو الحسن موسى بن جعفر علیهماالسلام إلى أبي : « إنّ اللّه أعلى وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صفته ، فصفوه بما وصف به نفسه وكُفّوا عمّا سوى ذلك » (2).

والشاهد في قوله : « كفّوا عمّا سوى ذلك ».

2 - ما رواه حفص أخو مرازم عن المفضّل. قال سألت أبا الحسن علیه السلام عن شيء من الصفة فقال : لا تجاوزوا ما في القرآن (3).

والروايتان لا تخلوان من الضعف سنداً ودلالة ، فقد ورد في سندهما سهل بن زياد وهو ضعيف ، كما اشتمل الثاني على ضعيف كسندي بن ربيع ، ومجهول كحفص « أخو مرازم » ، وامّا ضعف الدلالة فمن المحتمل جداً إنّ الهدف منع تسميته بما يسمّى به عوام الناس من غير اكثرات ، فربما يسمّونه باُمور يشتمل على

ص: 47


1- شرح المقاصد للتفتازاني ج 2 ص 172.
2- الكافي ج 1 باب النهي عن الصفة بغير ما وصف اللّه به نفسه الحديث 6.
3- المصدر نفسه.

جهات من النقص والتشبيه ، فلأجل ذلك يقول الامام : « كفّوا عمّا سوى ذلك » أو « لا تتجاوزوا ما في القرآن » ، وأمّا إذا كانت التسمية بريئة عن النقص والعيب ، مناسبة لساحته سبحانه من العزّ والتنزيه كتوصيفه بواجب الوجود فالروايات منصرفة عنه.

والذي يقوّي ذلك الاحتمال انّه ورد في الأوساط الاسلامية صفات خبرية تعد من بدع اليهود والنصارى فقد أدخلها أحبار اليهود ورهبان النصارى حتى يشوّهوا بذلك عقائد المسلمين كما حقّفناه في موسوعتنا حول الملل والنحل (1).

وأمّا إذا كانت التسمية والتوصيف مطابقة للضوابط التي يستقل به العقل في توصيفه وتحميده وتكريمه فالروايتان منصرفتان عنه ، وبذلك يتّضح أنّه يصحّ تسميته بواجب الوجود ، وتوصيفه بالضرورة الأزلية ، وغير هما مما ورد في كتب الفلسفة والعرفان.

4 - بساطة الذات وكثرة الأسماء

اشارة

إنّ الكتاب والسنّة يثبتان لله سبحانه أسماءً وصفات متكثّرة ومختلفة هذا من جانب ، ومن جانب آخر تدل البراهين العقلية على أنّه سبحانه بسيط غير متكثّر فعندئذ كيف تجتمع البساطة مع كثرة الصفات ؟ فهما متغايران في بدء النظر.

وإن شئت قلت : إنّ الوحدة كمال والكثرة نقصان ، وهذا يقتضي وحدة الذات من دون طروء كثرة هناك. هذا من جانب.

ومن جانب آخر : إنّ الموجود الذي هو قادر على جميع المقدورات ، وعالم بجميع المعلومات ، حيّ ، حكيم ، سميع ، بصير ، أكمل من الموجود الذي ليس كذلك فلا مناص من اثبات الصفات المختلفة عليه وعندئذ يقع العقل في حيرة

ص: 48


1- لاحظ : الجزء الأوّل من تلك الموسوعة التي انتشرت باسم « بحوث في الملل والنحل ».

ودهشة بسبب تعارض هذين الأمرين وكلّ منهما يهدف إلى اثبات الكمال لله سبحانه ولأجل ذلك ذهبت فرقة إلى نفي الصفات خوفاً من انكار الوحدانية ، كما انّ طائفة اُخرى وقعوا في مغبّة الكثرة رغبة في توصيفه بالصفات الكمالية ، وهناك ثلّة جليلة جمعوا بين الوحدة والبساطة ، وكونه متّصفاً بصفات كمالية مختلفة.

ثمّ ان الإشكال إنّما هو في الصفات الجمالية التي يعبّر عنها بالصفات الثبوتية لكونها راجعة إلى صفات وجودية تختلف كلّ منها عن الاُخرى ، فيُشكل الجمع بينها وبين القول بالوحدة والبساطة ، وأمّا الصفات الجلاليّة أعني الصفات السلبية مثل قولنا ليس بجسم ولا عرض فلا توجب كثرة السلوب ، كثرة في الذات بشهادة انّه يصحّ سلب كثير من الاُمور عن الجزء الذي لا يتجزئ.

ومثلها كثرة النسب والاضافات التي تنسب إلى الذات في مرحلة متأخّرة فهي لا توجب كثرة في الذات ، وذلك نظير الوحدة فإنّها أبسط الأشياء مع أنّه يلحقها اُمور إضافية ونسبيّة. فيقال : الواحد نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة ، وربع الأربعة وهكذا إلى غير النهاية من النسب والاضافات العارضة للواحد ، فالكلام كلّه في الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة والحياة التي لها حقائق خارجية.

ثمّ ان بعض المتكلّمين لمّا لم يتوفّق للجمع بين وحدة الذات وكثرة الصفات لجأ إلى أحد الأمرين :

الأوّل : إرجاع الصفات الثبوتية إلى السلبية وقد عرفت انّ كثرة السلوب لا تنثلم به وحدة الشيء فمعنى كونه عالماً أنّه ليس بجاهل ، ومعنى كونه قادرا أنّه ليس بعاجز وهكذا وهذه النظرية منسوبة إلى أبي إسحاق النظام ، ولكنّها غير تامّة لأنّه سبحانه واجد لواقعيّة هذه الكمالات حسب الأقيسة العقلية ، وحسب ما يرشد إليه الكتاب والسنّة فهو متصف بالعلم والقدرة ، وبالتالي يطرد عن ذاته الجهل والعجز في الدرجة الثانية لا أنّه ليس له هذه الكمالات وإنّما يسلب عنه النقائص.

ص: 49

الثاني : القول بالنيابة وحاصله أنّه ليس هناك علم ولا قدرة ولا حياة ولكن يترتب على الذات ما يترتب على وجود هذه الصفات ، فالذات لأجل كمالها تقوم مقامها وهذا القول منقول عن بعض المعتزلة (1). وهو أيضاً مخالف للبرهان وظاهر الكتاب والسنّة.

إنّ هناك طائفة جليلة وفي مقدّمتهم الراسخون في الحكمة الإلهية جمعوا بين بساطة الذات واتّصافه بحقائق هذه الأوصاف بمعنى : إنّ وجوداً واحدا كلّه علم ، وكلّه قدرة ، وكلّه حياة ، لا أنّ بعضه علم ، وبعضه الآخر قدرة ، وبعضها الثالث حياة ولا يقف عليه إلاّ من له قدم راسخ في الأبحاث الفلسفية ولأجل ذلك نرى أنّ الفخر الرازي يردّ هذه النظرية بسهولة ، فيقول « وهذا أيضاً ضعيف لأنّ المفهوم من كونه « قادراً » غير المفهوم من كونه « عالماً » وحقيقة الذات الواحدة ، حقيقة واحدة والحقيقة الواحدة لا تكون عين الحقيقتين ، لأنّ الواحد لا يكون نفس الاثنين » (2).

ثمّ اختار أنّ صفاته سبحانه زائدة على الذات ولم يبال بوجود الكثرة في ساحة الذات وتعدد القدماء ، والحقّ إنّ المسألة تعدّ من الأسرار الإلهية التي يستصعب ادراكها إلاّ على من آتاه اللّه من لدنه علماً وحكمة كما أشار إليه صدرالمتألّهين (3).

فنقول : إنّ ما ذكره الرازي مردود بوجهين :

أوّلاً : فبالنقض بأنّ موجوداً امكانياً كزيد كلّه معلوم لله سبحانه ، وكلّه مقدور له وحيثيّة المعلومية في الخارج ، نفس حيثية المقدورية وليست حيثية المعلومية في الخارج مغايراً لحيثية المقدورية ، وإلاّ يلزم أن تكون الحيثيّة الثانية غير معلومة لله سبحانه ، وهو خلف ، لفرض كونه عالماً بكلّ شيء ولأجل ذلك نقول : ثبت في

ص: 50


1- هو رأي « عبّاد بن سليمان المعتزلي » والجبائيين خلافاً لأبي الهذيل العلاّف عنهم ، لاحظ « بحوث في الملل والنحل ج 2 ص 80 - 81 ».
2- لوامع البينات للرازي ص 24.
3- الأسفار الأربعة : ج 6 ص 10.

محله أنّ الكثير قابل للانتزاع من الواحد من حيث أنّه واحد وإن كان الواحد من حيث أنّه واحد لا يمكن انتزاعه من الكثير بما هو كثير.

وثانياً : فبالحل : فإنّ ما ذكره من أنّ المفهوم من كونه قادراً غير المفهوم من كونه عالماً وان كان صحيحاً لكن ما رتّب عليه من قوله « والحقيقه الواحدة لا تكون عين الحقيقتين ، لأنّ الواحد لا يكون نفس الاثنين » غير صحيح ومنشأ الاشتباه هو الخلط بين التغاير المفهومي والتغاير الخارجي فكلّ مفهوم يستحيل أن يكون في عالم المفهومية نفس المفهوم الآخر ، فلو قال قائل زيد موجود وأراد إنّ نفس مفهوم المسند إليه نفس مفهوم المسند فقد أخطأ خطأً عظيماً ، وليس مفاد الحمل الشائع الحكاية عن الوحدة في عالم المفهوم ولو أراد الرازي هذا لصحّ قوله : « الواحد لا يكون نفس الأثنين ».

وأمّا لو أراد الحقيقة الخارجية فهو غير صحيح إذ لا مانع من أن يكون شيء واحد بما هو واحد مصداقاً لمفهومين مختلفين ، وقد عرفت أنّ كلّ موجود امكاني كلّه معلوم لله سبحانه ، كما أنّ كلّه مقدور ، وليست حيثيّة المعلوميّة مغايرة للحيثيّة المقدوريّة وإلاّ يلزم ان يكون جهة المعلوميّة خارجة عن اِطار قدرته ، أو العكس.

قال الحكيم السبزواري : « اختلط عليهم المفهوم والمصداق فيرون اختلاف المفاهيم ويتوهّمون اختلاف وجودها ومصداقها بحسبها ، وكأنّهم لم يقرع أسماعهم جواز انتزاع مفاهيم مختلفة من مصداق واحد وهذا نظير أنّه يصدق عليك إنّك مقدور لله ومعلوم ، ومراد ومعلول له ، وأنّك مشخص واحد ، ولا يمكنك أن تقول : أنا مقدور من جهة ، ومعلوم من جهة اُخرى مثلاً ، إذ يلزم أن تكون حيثيّة مقدوريتك غير معلومة له مع أنّه لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة وحيثيّة معلوميتك غير مقدورة له مع ثبوت عموم قدرته ، فظهر أنّ اتّحاد مفاهيم كثيرة في الوجود والمصداق واقع » (1).

ص: 51


1- شرح المنظومة للحكيم السبزواري ص 154 - 155.

قال صدر المتألهين : « واجب الوجود وإن وصف بالعلم والقدرة والإرادة لكن ليس وجود هذه الصفات فيه إلاّ وجود ذاته بذاته ، فهي وإن تغايرت مفهوماتها لكنّها في حقّه تعالى موجودة بوجود واحد » قال الشيخ في التعليقات : « الأوّل : إنّه تعالى لا يتكثر لأجل تكثّر صفاته لأنّ كلّ واحدة من صفاته إذا حقّقت تكون صفة اُخرى بالقياس إليه ، فيكون قدرته حياته ، وحياته قدرته ، وتكونان واحدة ، فهو حيّ من حيث هو قادر ، وقادر من حيث هو حيّ ، وكذا في سائر صفاته » (1).

وإن شئت قلت : إنّ الوجود ربّما يبلغ في الكمال مرتبة كاملة لا يتصور فوقه فيكون بوحدته وبساطته نفس هذه الكمالات من العلم والقدرة والحياة من غير أن تتكثّر الذات وتتعدّد حقيقة أو اعتباراً وحيثيةً ، وذلك لأنّ حيثيّة الذات بعينها حيثية هذه الصفات.قال أبو نصر الفارابي :

« وجود كلّه ، وجوب كلّه ، علم كلّه ، قدرة كلّه ، حياة كلّه لا أنّ شيئاً منه علم وشيئاً آخر منه قدرة ليلزم التركيب في ذاته ، ولا أنّ شيئاً فيه علم وشيئاً آخر فيه قدرة ليلزم التكثّر في صفاته الحقيقية » (2).

بيان آخر لوحدة الصفات

ثمّ إنّ الراسخين في الحكمة الإلهية أرجعو الصفات الثبوتية إلى وصف واحد والصفات السلبية إلى سلب واحد ، كما ارجعوا الصفات الاضافية إلى اضافة واحدة وليس هذا الارجاع أمراً اعتبارياً ذهنيّاً بل التعليل العقلي يشهد بذلك مثلاً إنّ سلب الامكان عنه تعالى مبدأ لسائر السلوب فأنّ الجوهرية والعرضية والحدوث والحلول كلّها من لوازم الامكان فسلبه يلازم سلب كلّ هذه الصفات السلبية ، كما أنّ جميع

ص: 52


1- الأسفار : ج 6 ص 120.
2- الأسفار : ج 6 ص 121 ، والفرق بين القسمين هو : إنّ العلم في الشقّ الأوّل موجود في مرتبة الذات بخلافه في الشقّ الثاني فهو فيه زائد عليها.

الصفات الثبوتية من العلم والقدرة والحياة يرجع إلى أصل واحد وهو وجوب الوجود والوجود المتأكّد وقد عرفت أنّ المحقّق الطوسي استنتج من توصيفه سبحانه بالغني ، والوجود ، جميع الصفات الكمالية ، كما أنّ جميع الصفات الإضافية كالخالقية والرازقية والعلية ترجع إلى إضافة واحدة وهي اضافة القيّوميّة ، فانّ كونه بحيث يقوم به غيره من وجود أو حيثية وجودية عبارة اُخرى عن قيّوميّته ، فالخلق والرزق والحياة والعزّة والهداية حيثيّات وجوديّة وهي قائمة به مفاضة من عنده.

فاتّضح أنّه يمكن الجمع بين الكمالين : كمال البساطة وكمال اتّصاف الذات بواقع الصفات الكماليّة بشرط أن تقف على موضع الوحدة ، وانّ المدّعى ليس اتحادها مع الذات في اطار المفهوم بل المدّعى اتّحاد واقعية الذات مع واقعيّة هذه الصفات في الخارج ، وكم له من نظير في عالم الأعيان (1) .

5 - تقسيم صفاته إلى الجماليّة والجلاليّة

إنّ صفات اللّه تعالى على نوعين : جماليّة وجلاليّة.

فالجماليّة عبارة عن الألفاظ الدالّة على معان قائمة بذات اللّه تعالى كقولنا : عالم ، قادر ، حيّ.

والجلاليّة عبارة عن سلب معان عن اللّه سبحانه كقولنا : « اللّه ليس بجسم ولا جسمانيّ ولا جوهر ولا عرض » ولعلّه إلى القسمين يشير قوله سبحانه : ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ( الرحمن / 78 ).

فصفة الجلال ما جلّت ذاته عن مشابهة الغير ، وصفة الاكرام ما تكرّمت

ص: 53


1- وسنرجع الى هذا البحث عند دراسة كون صفاته عين ذاته ، وما ذكر هنا - كثرة أسمائه وبساطة ذاته - وما سيأتي : صفاته عين ذاته ، وجهان لعملة واحدة غير أنّ حيثيّة البحث في المقامين مختلفة.

ذاته بها وتجمّلت (1).

وبعبارة اُخرى : الصفة إمّا ايجابيّة ثبوتيّة ، وإمّا سلبيّة تقديسيّة ، وقد حصروا الاولى في ثمانية وهي : العلم ، والقدرة ، والحياة ، والسمع ، والبصر ، والتكلّم ، والغنى ، والصدق ، كما حصروا الثانية في سبعة وهي انّه تعالى ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، ولا يُرى ، وليس بمتحيّز ، ولا حالّ في غيره ، ولا يتّحد بشيء.

وبعبارة ثالثة لو كانت الصفة تثبت وجود كمال في الموصوف وواقعية في ذاته ، تعدّ كمالاً لها وسميّت ثبوتية أو جماليّة أو كماليّة أو معنويّة على اختلاف مصطلحاتهم ، ولو كانت الصفة تهدف إلى نفي نقيصة وحاجة عنه سبحانه سمّيت سلبية أو جلاليّة ، فالعلم والقدرة والحياة من الصفات الثبوتيّة لأنّها تعرب عن وجود كمال في الذات الإلهية كما انّ نفي الجسمانيّة والحلول والتحيّز من الصفات السلبيه لأنّها تهدف إلى سلب هذه النقائص عن ساحته وذاته.

وعلى وجه الإجمال كلّ اسم يدل على تنزّهه تعالى وخروجه عن الحدّين : حد الإبطال وحد التشبيه فهو جلاليّ ، مثل : عزيز ، وسبّوح ، وجليل ، وسرمد ، وغيرها مما تدلّ على غناه عمّا سواه وعدم مشابهته بشيء من خلقه ، وكلّ اسم يدل على شيء من كمالاته تعالى فهو جماليّ مثل : عليم ، وقدير ، وسميع ، وبصير ، مما يدلّ على استحقاقه لشيء من الكمالات فجلاله عين جماله ، وجماله عين جلاله ، وكلاهما عين ذاته ، ولكن التعدّد في عالم الأسماء فالأسماء الجلاليّة مظاهر عالم العزّة ، والأسماء الجمالية مظاهر عالم العظمة.

ولأجل ذلك ذهب المحقّقون إلى أنّ الصفات الثبوتيّة والسلبيّة لا تنحصر في الثمانية والسبعة فإذا كان الملاك فيهما اثبات كمال أو رفع نقص فكلّ كمال وجمال

ص: 54


1- الأسفار ج 6 ص 118 ، والعجب إنّ الرازي جعل قوله « والاكرام » إشارة الى الصفات الإضافيّة. لاحظ لوامع البينات : ص 33.

ثابت لله سبحانه وهو واجد له ، وكلّ نقص وحاجة منفيّ عنه سبحانه ومسلوب عنه.

ومن هناك يمكن أن يقال : إنّه ليس لنا من الصفات الثبوتيّة إلاّ وصف واحد ، وهو ثبوت الكمال المطلق له سبحانه ، ومن الصفات السلبيّة إلاّ سلب واحد وهو سلب النقص على وجه الاطلاق ، فذاته سبحانه لا تخلو عن كلّ كمال وجمال ، فلو وصفناها بالعلم والقدرة والحياة وغيرها ، فلأجل انّ كلّ ذلك كمال وعدمها نقص ، كما انّ سلب الجهل والعجز والموت والجسميّة والتركيب والانفعال ليس إلاّ لأجل إنّها علامة النقص والافتقار. على ضوء ذلك يمكن ارجاع جميع الصفات الثبوتية إلى وصف واحد ، وارجاع الصفات السلبيّة إلى سلب واحد من دون أن يكون هناك عناية بالثمانية أو السبعة ، ويؤيّد ذلك انّ الصفات والأسماء التي وردت في القرآن الكريم تفوق بأضعاف المرّات هذا العدد الذي ذكره المتكلّّمون والحكماء من الصفات لله.

وقد عرفت كلام صدر المتألّهين في هذا المضمار فلا نعيد.

6 - تقسيم صفاته إلى الذاتيّة والفعليّة

اشارة

إنّ لصفاته سبحانه وراء التقسيم الماضي تقسيماً آخر وهو كون الصفة صفة ذات ، أو كونه صفة فعل ، فيعدّون العلم والقدرة والحياة من صفات الذات ، كما يعدّون صفة الخلق والرزق والمغفرة من صفات الفعل ، وهذا تقسيم متين جداً غير أنّ المهم تعريفهما بنحو جامع ومانع وإليك تعريفهما :

إذا كان فرض الذات وحدها كافياً في حمل الوصف عليه ، فالوصف ذاتي.

وأمّا إذا لم يكن فرضها كافياً في توصيف الذات بها ، بل توقّف على فرض غيرها « ولا غير في دار الوجود إلاّ فعله » فالصفة صفة فعل ، وهذا كالخالق فإنّ الذات غير كافية لانتزاع الخلق والرزق ، بل يتوقّف على فرض الغير وهو فعله

ص: 55

سبحانه ، فالذات إذا لوحظت مع الفعل ووصفت بأوصاف تسمّى تلك الأوصاف صفات الفعل (1).

وإن شئت قلت : إنّ ما يحتاج في تحقّقه إلى فرض تحقّق الذات قبلاً ، كالخلق والرزق فهي الصفات الفعلية وهي زائدة على الذات ، منتزعة عن مقام الفعل ، ومعنى انتزاعها عن مقام الفعل إنّا مثلاً نجد هذه النعم « التي نتنعّم بها ونتقلّب فيها » نسبتها إلى اللّه سبحانه نسبة الرزق المقرّر للجيش من قبل السطان فنسمّيها رزقاً وإن كان منتهياً إليه تعالى نسميه رزّاقاً ومثله الخلق والرحمة والمغفرة وسائر الصفات الفعليّة ، فهي تطلق عليه تعالى ويسمّى هو بها من غير أن يتلبّس بمعانيها كتلبّسه بالحياة والقدرة وغيرها من الصفات ، ولو تلبّس بها حقيقة لكانت صفات ذاتيه غير خارجه من الذات (2).

وعلى ضوء ذلك فالصفات على قسمين :

1 - ما لا يحتاج في تحقّقه إلى فرض تحقّق الذات قبل الوصف وذلك مثل العلم والقدرة والحياة من غير فرق بين كونها متّحدة مع الذات في مقام الوجود كما عليه العدلية ، وبين كونها زائدة عليها كما عليه أهل الحديث والأشاعرة ، فإنّ القول بالزيادة ليس بمعنى تحقّق الذات قبلاً ثم عروض هذه الصفات ، وإنّما يكفي في ذلك تحقّق الذات والصفة معاً ، فهذه هي الصفات الذاتيه.

2 - ما يحتاج في تحقّقها في الخارج إلى فرض تحقّق الذات قبلاً كالخلق والرزق فهي الصفات الفعلية ، وهي زائدة على الذات بحكم انتزاعها باعتبار صدور شيء منها.

ص: 56


1- الميزان ج 8 ص 368.
2- نهاية الحكمة : ص 284.
تعريف آخر للذاتية والفعلية

وهناك تعريف آخر لتمييز الذاتية عن الفعلية وهو إنّ كلّ ما يجري على الذات على نسق واحد فهو صفة الذات مثل قولنا « يعلم » و « يقدر » وإنّه « حي » ولا يصح أن يقال « لا يعلم » و « لا يقدر » وانّه « ليس بحي » أيضاً ، وأمّا ما يجري عليه سبحانه على وجهين أي بالايجاب تارة وبالسلب اُخرى ، فهذا صفة الفعل فيصح أن يقال يخلق ولا يخلق ، ويرزق ولا يرزق ، ويرحم ولا يرحم.

قال الشيخ المفيد : « لا يصحّ وصفه تعالى بأنّه يموت أو بأنّه يعجز أو بأنّه يجهل ، ولا يصحّ وصفه بالخروج عن كونه حيّاً وعالماً وقادراً ، ولكن يصحّ الوصف بأنّه غير خالق اليوم ، ولا رازق لزيد ، ولا محيي لميت ، ولا مبدئ لشيء في هذا الحال ولا معيد له ، ويصح الوصف له بأنّه يرزق ، ويمنع ، ويحيي ، ويميت ، ويبدئ ، ويعيد ، ويوجد ، ويعدم ، فثبت إنّ العبرة في أوصاف الذات وأوصاف الأفعال بما ذكرنا » (1).

وقد اختار هذا الملاك الشيخ الكليني في كافيه فانّه بعد ما نقل جملة من الروايات حول صفات الذات وصفات الفعل له تعالى قال :

« إنّ كلّ شيئين وصفت اللّه بهما وكانا جميعاً في الوجود أي ايجاباً وسلباً ، اثباتا ونفياً فذلك صفة الفعل (2).

ولعلّ في بعض الروايات ما يؤيّد هذا التعريف (3).

7 - تقسيم صفاته إلى نفسيّة واضافيّة

ثمّ إنّه لصفاته الثبوتية تقسيماً آخر وهو تقسيمه إلى النفسيّة والإضافيّة.

ص: 57


1- تصحيح الاعتقاد : ص 185 - 186.
2- الكافي ج 1 ص 111.
3- التوحيد للصدوق - باب صفات الذات وصفات الأفعال : الحديث 1 ص 139.

قال صدر المتألّهين :

« والثبوتيّة تنقسم إلى حقيقية كالعلم والحياة ، واضافية كالخالقية والرازقيّة والعليّة وجميع الحقيقيّات ترجع إلى وجوب الوجود أعني الوجود المتأكّد وجميع الاضافات ترجع إلى إضافة واحدة وهي اضافة القيّوميّة » (1).

وبعبارة اُخرى : فما لا إضافة في معناه إلى الخارج عن مقام الذات كالحياة ، فهو نفسيّ ، وماله اضافة إلى الخارج سواء كان معنى نفسيّاً ذا اضافة كالصنع والخلق فهي النفسيّة ذات الاضافة ، أو معنى إضافيّاً محضاً كالخالقيّة والرازقيّة فهي الإضافة المحضة (2).

8 - تقسيم آخر منسوب إلى أهل المعرفه

وهناك تقسيم آخر ينسب إلى أهل المعرفة ذكره الحكيم السبزواري في « أسرار الحكم » وحاصله : تقسيم صفاته إلى تنزيهيّة وتشبيهيّة ، والمقصود من الأوّل ما لا يوجد إلاّ في الواجب جلّ اسمه ، كقولنا : القديم الأزلي ، والذاتي ، والبسيط المحض ، والقدّوس المفسّر عندهم بما لا ماهية له ، فإنّها صفات خاصّة ، لا يوجد نظيرها في الموجودات الامكانية حتّى بالمعنى المناسب لها.

والمراد من الثاني ما يوجد نظيره في الممكنات كالسميع والبصير ، فإنّه وإن كان فرق واضح بين كونه سميعاً وبصيراً وكون الإنسان كذلك ، لكن النتيجة مشتركة بينهما (3).

وهذا التقسيم أمر لا طائل تحته : لأنّ صفاته تحمل عليه ، بقيد التجريد عن وصمة الامكان وسمة المادية ، وعندئذ يكون الجميع أوصاف كمال وصفات جمال تنزّه بها ربّنا عن النقائص.

ص: 58


1- الاسفار ج 6 ص 118 - 119.
2- الميزان ج 8 ص 369.
3- أسرار الحكم ص 49.

9 - تقسيم صفاته إلى الذاتيّة والخبريّة

قسّم بعض المتكلّمين صفاته سبحانه إلى ذاتية وخبرية ، والمراد من الاُولى أوصافه المعروفة من العلم والقدرة والحياة ، والمراد من الثانية ما أثبتته ظواهر الآيات والأحاديث له سبحانه وأخبرت عنها كالقدم والوجه واليدين والقدوم والنزول إلى غير ذلك ، وهذه الصفات قد أوجدت ضجّة كبرى بين المتكلّمين ، فقسّمتهم إلى طوائف مختلفة ، وسنبحث عن هذه الصفات في فصل خاص.

10 - تقسيمها إلى صفات اللطف والقهر

إنّ صفاته سبحانه تنقسم - حسب الظاهر - إلى صفات لطف وصفات قهر. فالمتبادر من الرحمن والرحيم والغفور والحليم ، يضاد المتبادر من القاهر والجبّار والمنتقم ، وقد ورد في الأدعية توصيفه ب « قاصم الجبارين » و « مبير الظالمين » ولكلّ مجال ومظاهر ، ولذلك عند ما يأمر بقطع يد السارق يصف نفسه بأنّه عزيز حكيم ، يقول سبحانه : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( المائدة / 38 ). والمقام يناسب لأن يتجلّى سبحانه بأوصافه القهاريّة ، ولو قال مكانهما غفور رحيم لكان مخلاً بالبلاغة.

ولكنه سبحانه في المواضع التي تطلب بلاغة المقال يتجلى بوصف الرحمة والمغفرة و ... ولكن هذا التقسيم ، تقسيم ظاهري ، والكلّ مظاهر رحمته ومجالي رأفته ، ولأجل ذلك قال أهل المعرفة : « تحت كلّ لطف قهر وتحت كلّ قهر لطف ».

يقول سيد الموحّدين :

وكم لله من لطف خفى *** يدقّ خفاه عن فهم الذكي

كيف وهو سبحانه يصف نفسه بقوله : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) ( الأعراف / 155 ) وفي الدعاء المأثور عن أمير المؤمنين « يا من سبقت رحمته

ص: 59

غضبه » ولأجله نؤمن انّ في قهره رحمة للمقهور عليه ، وانّ في عذابه لطفاً خفيّاً للمعذّب.

11 - الأسماء العامّة والخاصّة

إنّ بين نفس الأسماء سعة وضيقاً ، وعموماً وخصوصاً ، فمنها خاصة ، ومنها عامة ، فالعالم اسم خاص بالنسبة إلى الحيّ ، وعام بالنسبة إلى السميع والبصير والشهيد واللطيف والخبير.

والرزّاق خاص بالنسبة إلى الرحمان ، وعام بالنسبة إلى الشافي والناصر ، والهادي ، وعلى هذا القياس.

فللأسماء الحسنى عرض عريض تأخذ في السعة والعموم ، ففوق كلّ اسم ما هو أوسع منه وأعم ، حتّى ينتهي إلى اسم اللّه الأكبر الذي يسع وحده ، جميع حقائق الأسماء ، وتدخل تحته شتات الحقائق برمّتها ، وهو الذي نسمّيه غالباً بالاسم الأعظم.

ومن المعلوم انّه كلّّما كان الاسم أعم ، كانت آثاره في العالم أوسع ، والبركات النازلة منه أكبر وأتم لما انّ الآثار للأسماء كما عرفت ، فما في الاسم من حال العموم والخصوص يحاذيه بعينه أثره ، فالاسم الأعظم ينتهي إليه كلّ أثر ويخضع له كلّ أمر (1).

12 - هل الاسم الاعظم من قبيل الألفاظ ؟

قد اشتهر بين الناس انّ لله سبحانه بين أسماءه اسم أعظم مَن دعاه به استجيب دعوته ، وهل هو من قبيل الألفاظ أو أنّ له حقيقة وراءها ؟ فقد حقّق حاله سيدنا

ص: 60


1- الميزان ج 8 ص 370 - 371.

الاُستاذ « قدس اللّه سره » في تفسيره نأتي برمّته.

شاع بين الناس انّه اسم لفظي من أسماء اللّه سبحانه إذا دعي به استجيب ، ولا يشذ من أثره شيء ، غير أنّهم لمّا لم يجدوا هذه الخاصّة في شيء من الأسماء الحسنى المعروفة ولا في لفظ الجلالة ، اعتقدوا انّه مؤلّف من حروف مجهولة تأليفاً مجهولاً لنا ، لو عثرنا عليه أخضعنا به لإرادتنا كلّ شيء.

وفي مزعمة أصحاب العزائم والدعوات ، إنّ له لفظاً يدل عليه بطبعه لا بالوضع اللغوي ، غير ان حروفه وتأليفها تختلف باختلاف الحوائج والمطالب ، ولهم في الحصول عليه طرق خاصّة يستخرجون بها حروفه أوّلاً ، ثم يؤلّفونها ويدعون بها على ما يعرفه من راجع فنَّهم.

وفي بعض الروايات الواردة اشعار ما بذلك ، كما ورد انّ ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من بياض العين إلى سوادها ، وما ورد أنّه في آية الكرسي وأوّل سورة آل عمران ، وما ورد انّ حروفه متفرّقه في سورة الحمد يعرفها الإمام وإذا شاء ألّفها ودعا بها فاستجيب له.

وما ورد إنّ آصف بن برخيا وزير سليمان دعا بما عنده من حروف « اسم اللّه الاعظم » فاحضر عرش ملكة سبأ عند سليمان في أقل من طرفة عين ، وما ورد إنّ الاسم الأعظم على ثلاث وسبعين حرفاً قسّم اللّه بين أنبيائه اثنتين وسبعين منها ، واستأثر بواحدة منها عنده في علم الغيب ، إلى غير ذلك من الروايات المشعرة بأنّ له تأليفاً لفظيّاً.

والبحث الحقيقي عن العلّة والمعلول وخواصّها يدفع ذلك كلّه ، فإنّ التأثير الحقيقي يدور مدار وجود الأشياء في قوّته وضعفه ، والمسانخة بين المؤثّر ، والاسم اللفظي إذا اعتبر من جهة خصوص لفظه ، كان مجموعة أصوات مسموعة هي من الكيفيّات العرضيّة ، وإذا اعتبر من جهة معناه المتصوّر كان صورة ذهنيّة لا أثر لها من حيث نفسها في شيء البتة ، ومن المستحيل أن يكون صوت « أوجدناه من طريق

ص: 61

الحنجرة أو صورة خياليّة نصورها في ذهننا » يقهر بوجوده وجود كلّ شيء ، ويتصرّف فيما نريده على ما نريده فيقلب السماء أرضاً ، والأرض سماء ، ويحوّل الدنيا إلى الآخرة وبالعكس وهكذا ، وهو في نفسه معلول لارادتنا.

والأسماء الإلهية واسعة ، واسمه الأعظم خاصّة وان كانت مؤثّرة في الكون بوسائطه وأسبابه لنزول الفيض من الذات المتعاليّة في هذا العالم المشهود ، لكنّها إنّما تؤثر بحقائقها لا بالألفاظ الدالّة عليها ، ولا بمعانيها المفهومة من ألفاظها المتصوّرة في الأذهان ، ومعنى ذلك إنّ اللّه سبحانه هو الفاعل الموجد لكلّ شيء بماله من الصفة الكريمة المناسبة له التي يحويها الاسم المناسب لا تأثير اللفظ أو الصورة المفهومة في الذهن أو حقيقة اُخرى غير الذات المتعالية.

إلاّ انّ اللّه سبحانه وعد اجابة دعوة من دعاه كما في قوله : ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ( البقرة / 186 ) ، وهذا يتوقّف على دعاء وطلب حقيقي ، وأن يكون الدعاء والطلب منه تعالى لا من غيره - كما تقدّم في تفسير الاية - فمن انقطع عن كلّ سبب واتّصل بربّه لحاجة من حوائجه فقد اتّصل بحقيقة الاسم المناسب لحاجته فيؤثر الاسم بحقيقته ويستجاب له ، وذلك حقيقة الدعاء بالاسم ، فعلى حسب حال الاسم الذي انقطع إليه الداعي يكون حال التأثير خصوصاً وعموماً ، ولو كان هذا الاسم هو الاسم الأعظم لإنقاد لحقيقته كلّ شيء ، واستجيب للداعي به دعاؤه على الاطلاق. وعلى هذا يجب أن يحمل ما ورد من الروايات والأدعية في هذا الباب دون الاسم اللفظي أو مفهومه.

ومعنى تعليمه تعالى نبيّاً من أنبيائه أو عبداً من عباده اسماً من أسمائه أو شيئاً من الاسم الأعظم ، هو أن يفتح له طريق الانقطاع إليه تعالى باسمه ذلك في دعائه ومسألته ، فان كان هناك اسم لفظي وله معنى مفهوم فإنّما ذلك لأجل انّ الالفاظ ومعانيها وسائل وأسباب تحفظ بها الحقائق نوعاً من الحفظ فافهم ذلك.

واعلم أنّ الاسم الخاص ربّما يطلق على ما لا يسمّى به غير اللّه سبحانه كما

ص: 62

قيل به في الاسمين : اللّه ، والرحمان.

أمّا لفظ الجلالة فهو علم له تعالى خاص به ليس اسماً بالمعنى الذي نبحث عنه.

وأمّا الرحمان فقد عرفت أنّ معناه مشترك بينه وبين غيره تعالى لما انّه من الأسماء الحسنى ، هذا من جهة البحث التفسيري ، وأمّا من حيث النظر الفقهي فهو خارج عن مبحثنا.

13 - صفاته عين ذاته لا زائدة عليه

اشارة

قد عرفت عند البحث عن كثرة صفاته مع بساطة ذاته انّه يمكن انتزاع مفاهيم كثيرة عن البسيط غاية البساطة وانّ من منع ذلك فقد خلط بين التغاير المفهومي والمصداقي (1).

وليس المراد وحدة الصفات مفهوماً بل المراد وحدتها تحقّقاً ومصداقاً ، ولقد كان لهذا البحث صدى كبيراً في الأدوار السالفة وقد افترق فيه المسلمون إلى فرقتين فالقائلون بالاتّحاد سمّوا بنفاة الصفات ، كما انّ القائلين بالزيادة نوقشوا بالقول بالقدماء الثمانية ، فيجب علينا تحقيق الحق في ذلك المجال مضافاً إلى ما ذكرناه في البحث السابق.

إنّ كيفية اجراء صفاته سبحانه على ذاته أوجد هوّة سحيقة بين متكلّمي المعتزلة والأشاعرة ، فمشايخ الاعتزال لأجل حفظ التوحيد ، ورفض تعدد القديم ، وتنزية الخالق عن التشبيه ، ذهبوا إلى أنّ ملاك اجراء هذه الصفات هو الذات ، وليست هنا أية واقعيّة للصفات غير ذاته إلاّ ان عقيدتهم في ذلك المجال تقرّر بوجهين :

ص: 63


1- سبق الكلام عن المقام عند البحث عن « بساطة ذاته وكثرة أسمائه » وقد عرفت انّ البحثين وجهان لعملة واحدة وهما متّحدان جوهراً ومختلفان حيثيّة.

الأوّل : ما نسبه إليه خصمهم أبو الحسن الأشعري من انّ اللّه عالم ، قادر ، حي بنفسه ، لا بعلم وقدرة وحياة (1).

ومعنى هذا انّه ليس هناك حقيقة العلم والقدرة والحياة ، غير أنّ الآثار المترقّبة من الصفات مترتبة على الذات ، مثلاً خاصية العلم اتقان الفعل وهي تترتب على نفس ذاته بلا وجود وصف العلم فيه وقد اشتهر بينهم : « خذ الغايات واترك المبادئ » ، وهذا النظر ينسب إلى أبي علي وأبي هاشم الجبائيين ، وهؤلاء هم المعروفون بنفاة الصفات ، ولا يخفى إنّ هذه النظرية لا يناسب ما تضافر عليه الكتاب من اثبات هذه الصفات عليه سبحانه بوضوح ، كما تصادمه البراهين الفلسفية من انّه لا يشذ عن حيطة وجوده أي كمال وانّه بسيط الحقيقة مع كونه جامعاً لكلّ الكمالات وأصحاب تلك النظرية وإن صاروا إليها لأجل حفظ التوحيد والتحرّز عن تعدد القدماء ، لكن عملهم هذا أشبه بعمل الهارب من المطر إلى الميزاب. أو من الرمضاء إلى النار ، أفيصح في منطق العقل إنكار هذه الكمالات لله سبحانه بحجّة انّ اثباتها يستلزم التركيب ؟ فلو كان أصحاب تلك النظرية غير قادرين على الجمع بين بساطة الذات واثبات الصفات كان اللازم عليهم الأخذ بالواضح المعلوم وهو كونه سبحانه عالماً قادراً حيّاً والسكوت عن كيفيّة اثباتها وإمرارها عليه ، واحالة العلم بكيفيتهما إلى اللّه سبحانه والراسخين في العلم.

الثاني : ما نقل عن أبي الهذيل العلاّف المعتزلي ، فقد ذهب إلى ما ذهبت إليه الاماميّة تبعاً لإمامهم سيد الموحّدين علي بن أبي طالب علیه السلام فأثبت إنّ لله علماً وقدرة وحياة حقيقية ولكنّها في مقام التحقق والعينيّة نفس ذاته ، وإليك نص عبارته :

« هو عالم بعلم هو هو ، هو قادر بقدرة هي هو ، هو حي بحياة هي هو ، - إلى أن قال - إذا قلت : إنّ اللّه عالم ، أثبتّ له علماً هو اللّه ونفيت عن اللّه جهلاً ، ودللت على معلوم كان أو يكون ، وإذا قلت : قادر نفيت عن اللّه عجزاً ، وأثبتّ له

ص: 64


1- مقالات الاسلاميين ج 1 ص 224.

قدرة هي اللّه سبحانه ودللت على مقدور ، فإذا قلت : « اللّه حي أثبتّ له حياةً وهي اللّه ونفيت عن اللّه موتاً » (1).

والفرق بين الرأيين جوهري ، فالرأي الأوّل يركز على أنّ اللّه عالم قادر حي بنفسه لا بعلم ولا قدرة ولا حياة ، وأمّا الثاني وهو يركز على كونه سبحانه موصوفاً بهذه الصفات وإنّه عالم بعلم ، وقادر بقدرة ، ولكنها تتّحد مع الذات في مقام الوجود والعينيّة.

هذا هو الذي فهمنا من عبارة أبي الهذيل العلاّف وإن أصرّ القاضي عبد الجبار على ارجاع مقالته إلى ما يفهم من عبارة أبي علي وابنه أبي هاشم ، وقال : إنّه لم تتلخص له العبارة ، وهذه النظرية هي المروية عن علي علیه السلام في خطبه وكلماته ، ونأتي منها بما يرتبط بالمقام :

1 - « كمال توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة انّها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوف انّه غير الصفة » (2).

2 - « ولا تناله التجزئة والتبعيض » (3). وقد مضى بعض الاحاديث التي تتعلق بهذا الشأن عند البحث عن بساطة الذات وكثرة الصفات.

وبذلك يعلم أنّ ما ردّ به أبو الحسن الأشعري نظرية وحدة الصفات مع ذات ، إنّما ينسجم مع نظرية النيابة لا مع نظرية أبي الهذيل : « قال إنّ الزنادقة قالوا : إنّ اللّه ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ، وقول من قال من المعتزله : إنّه لا علم لله ولا قدرة له ، معناه : إنّه ليس بعالم ولا قادر والتفاوت في الصراحة والكناية » (4).

ص: 65


1- شرح الاصول الخمسة : للقاضي عبد الجبار المعتزلي ص 183 ، ومقالات الاسلاميين ص 225.
2- نهج البلاغة الخطبة 1 - طبع عبده -.
3- نهج البلاغة الخطبة81 - طبع عبده -.
4- الابانة : ص 108.

و هذا النقد - لو سلم - فإنّما يتوجّه إلى النظرية الاُولى لا الثانية ، ومع ذلك يمكن لأصحاب النظرية الاُولى الدفاع عن أنفسهم أيضاً قائلين بالفرق بين قول الزنادقة وهذه النظرية ، فالزنادقة ينفون المبادئ على الاطلاق ، والمعتزله ينفون المبادئ لكن يقيمون الذات مقام الصفات في الأثر والغاية.

نعم ما أجاب به الأشعري عن النظرية الثانية ساقط جداً حيث قال لو كان علم اللّه هو اللّه يلزم ان يصح أن نقول يا علم اللّه اغفر لي وارحمني (1).

وهذا النقد يعرب عن عدم تفريق الشيخ بين الوحدة المفهوميّة والوحدة المصداقيّة والمعتزلة أعني أبا الهذيل ومن تبعه أو من سبقه لا يدّعون الوحدة المفهومية حتى يصحّ أن نقول : يا علم اللّه اغفر لي ، وإنّما يقولون بالوحدة المصداقية واتّحاد العلم مع الذات لا يسوّغ استعمال العلم في الذات.

أدلّة القائلين بعينيّة صفاته مع ذاته

القائلون بوحدة صفاته مع ذاته يستدلّون بدليلين واضحين :

أحدهما : إنّ القول بالزيادة يستلزم تركيب الذات مع الصفات ، والتركيب آية حاجة المركّب إلى كلّ واحد من الجزئين ، والحاجة حليف الامكان ، والممكن لا يكون واجباً.

ثانيهما : إنّ القول بالزيادة يستلزم تعدّد القدماء ، لأنّ المغايرة حقيقية واقعيّة لا مفهوميّة ، وأدلّة وحدة الواجب تضادها ، فلا محيص من القول بالتوحيد ، وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

« وكمال الاخلاص له نفي الصفات ( الزائدة ) عنه لشهادة كلّ صفة انّها غير

ص: 66


1- نفس المصدر ص 108.

الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف انّه غير الصفة فمن وصف اللّه ( أي بوصف زائد على ذاته ) فقد قرنه ( أي قرن ذاته بشيء غيرها ) ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ومن جزّأه فقد جهله » (1).

وأي برهان أوضح من هذا البيان فإنّ القول بالاتّحاد يوجب تنزيهه عن التجزئة ونفي الحاجة عن ساحته ، ولكن إذا قلنا بالتعدّد والغيريّة ، فذلك يستلزم التركيب ويتولّد منه التثنيه ، والتركيب آية الحاجة واللّه الغني المطلق لا يحتاج إلى ما سواه.

قال الصادق علیه السلام : « لم يزل اللّه جلّ وعزّ ربّنا ، والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور » (2).

هذا ويمكن الاستدلال على الوحدة بالذكر الحكيم ، نرى أنّه سبحانه يقول في سورة التوحيد : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) ويقول في آخرها : ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

فلو قلنا بأنّ الصدر ناظر إلى نفي المثليّة يلزم التكرار ، وأمّا لو قلنا بأنّه ناظر إلى بساطة الذات وعدم تركبه فعندئذ يكون الصدر دليلاً على نفي التركيب ، والذيل دليلاً على نفي المثليّة.

وهناك كلمة قيّمة لأميرالمؤمنين في جواب أعرابي يوم الجمل : فقال يا أمير المؤمنين أتقول انّ اللّه واحد ؟ قال ( الراوي ) ، فحمل الناس عليه قالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : دعوه ، فإنَّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ، ثم قال : يا أعرابي ، اِنَّ القول في انَّ اللّه واحد على أربعة أقسام فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزّ وجلّ ، ووجهان يثبتان فيه - إلى أن قال - : « وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل : هو

ص: 67


1- نهج البلاغة : الخطبة 1.
2- التوحيد للصدوق ص 139.

واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا. وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم. كذلك ربّنا » (1).

وهذا الحديث العلوي يركّز على البساطة ونفي توهّم الجزئية على الاطلاق سواء كان مبدأ التركيب هو زيادة الصفات على الذات أو غيرها كما هو الحال في تثليث المسيحيّين.

وأمّا أدلة القائلين بالزيادة فتبتني على أنّ واقعيّة الصفة هي البينونة ، فيجب أن يكون هناك ذات وعرض ينتزع من إتصاف الاُولى بالثاني ، عنوان العالم والقادر. فالعالم من له العلم ، والقادر من له القدرة ، لا من ذات نفسهما فيجب أن يفترض ذات غير الوصف (2).

يلاحظ عليه : إنّ الشيخ الأشعري يريد اقتناص الحقائق الفلسفيّة عن طريق اللّغة فإنّه لا شك إنّ لفظ العالم والقادر ظاهر فيما ذكر إلاّ انّه يجب رفع اليد عن هذا الظاهر بالبرهان العقلي ، وعدم وقوف العرف على هذا المصداق من العالم والقادر لا يمنع من صحّة اطلاقهما عليه.

أضف إلى ذلك إنّ الفرق بين القول بالعينيّة والقول بالزيادة ، كالفرق بين قولنا زيد عدل وزيد عادل ، فالاُولى من القضيتين آكد في اثبات المبدأ من الآخر ولأجل ذلك كان القول بالعينية آكد في اثبات العلم له سبحانه من القول بالزيادة ، فلو بلغ وجود امكاني إلى مبلغ من الكمال ، بأن صار ذاته علماً وقدرة فهو اُولى بالاتّصاف بهما ممّن يغاير ذاتُه صفتَه ، وعدم وقوف العرف على هذا النوع من الصفات لا يضرّ بالاتّصاف.

ص: 68


1- التوحيد للصدوق ص 83 - 84.
2- اللمع للشيخ الاشعري ص 30 بتقرير منّا.
مضاعفات القول بالزيادة

إذا كان في القول بعينيّة الصفات مع الذات ، نوع مخالفة لظاهر صيفة الفاعل اُعني العالم والقادر ، كان في القول بالزيادة مضاعفات ، لا يقبلها العقل السليم ، ونشير إلى بعضها :

1 - تعدّد القدماء بعدد الأوصاف الذاتيّة ، فلو كانت النصرانية قائلة بالتثليث ، فالقائلون بالزيادة يقولون بقدماء كثيرة.

نعم القائلون بالزيادة يتمحّلون في رفع الاشكال بأنّ « المراد من الزيادة هو أنّها ليست ذاته ولا غيرها » ولكنّك ترى أنّه كلام صوري ينتهي عند الدّقة إلى ارتفاع النقيضين.

إنّ القول بأنّ له سبحانه صفات زائدة على الذات ، قديمة مثله ، ممّا لا يجترئ عليه مسلم واع ، ولم يكن أحدٌ متفوّهاً بهذا الشرك من المسلمين غير الكلابية ، وعنهم أخذ الأشعري.

قال القاضي عبد الجبار : « وعند الكلاّبيّة أنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزليّة وأراد بالأزليّ : القديم ، إلاّ أنّه لمّا رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع اللّه لم يتجاسر على اطلاق القول بذلك ، ثمّ نبغ الأشعري وأطلق القول : بأنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة ، لوقاحته وقلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين » (1).

ص: 69


1- الاصول الخمسة : ص 183 ، ط مصر.

2 - إنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته ، يستلزم غناه في العلم بماوراء ذاته ، من غيره فيعلم بذاته كلّ الأشياء من دون حاجة إلى وراء الذات. وهذا بخلاف القول بالزيادة إذ عليه يعلم سبحانه بعلم سوى ذاته ، ويخلق بقدرة خارجة عن ذاته ، وكون هذه الصفات أزليّة ، لا يدفع الفقر والحاجة عن ساحته سبحانه ، مع أنّ وجوب الوجود يلازم الغنا عن كل شيء.

إنّ « الصفاتيّة » في علم الكلام وتاريخ العقائد هم الأشاعرة ومن لفّ لفّهم في القول بالاُوصاف الزائدة ، كما أنّ المعطّلة هم نفاة الصفات وهم المعتزلة ( حسب زعم الأشاعرة ) حيث عطّلوا الذات عن التوصيف بالأوصاف الكمالية ، وقالوا بالنيابة.

وقد عرفت أنّه ليس في القول بوحدة الصفات مع الذات « لا القول بالنيابة » أيّ تعطيل لتوصيف الذات بالصفات الكمالية.

إلى هنا انتهى البحث عن صفاته الثبوتية ووحدتها مع الذات ، بقي هنا بحثان :

الأوّل : البحث عن صفاته الفعلية وإنّ الإرادة والتكلّم هل هما من صفات الفعل أو من صفات الذات ؟

الثاني : عن كيفيّة حمل الصفات الخبرية عليه سبحانه ، وقد كان لهذا البحث دويّ في القرون الاولى الاسلامية ، وإليك بيان الأوّل ، ونؤخّر بيان الثاني إلى أن نفرغ عن تفسير أسمائه في القرآن.

ص: 70

14 - الإرادة صفة الذات أو صفة الفعل ؟

اشارة

قد تعرّفت على أنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى ذاتية وفعلية ، وعرفت الملاك فيهما غير أنّه وقع البحث في بعض الصفات وأنّها هل هي من صفات الذات أو من صفات الفعل ؟ ونخص بالذكر صفتي الإرادة والتكلّم فنقول :

الإرادة والكراهة كيفيّتان نفسانيّتان كسائر الكيفيّات النفسانيّة حاضرتان لدى النفس بلا توسيط شيء مثل اللّذة والألم فتكونان معلومتين للنفس بعلم حضوري لا حصولي كما هو الحال في كلّ الاُمور الوجدانية ، والمهم تبيين ماهية الإرادة في الإنسان ثم البحث عن إرادته سبحانه.

فنقول : إنّ في إرادة الإنسان آراء مختلفة نشير إليها (1).

أ - رأي المعتزلة في الإرادة

الإرادة عبارة عن اعتقاد النفع ، والكراهة عبارة عن اعتقاد الضرر ، ونسبة القدرة إلى طرفي الفعل والترك متساوية ، فإذا حصل في النفس الاعتقاد بالنفع في أحد الطرفين ، يرجّح بسببه ذلك الطرف ويصير الفاعل مؤثّراً فيه.

يلاحظ عليه : انّه تفسير للإرادة والكراهة ببعض مبادئهما فإنّ الإرادة تنبثق عن الاعتقاد بالنفع كما ان الكراهة تنبثق عن الاعتقاد بالضرر ، ولكن الاعتقاد غير الإرادة بشهادة انّ الاعتقاد بالنفع لا يستتبع إرادة في جميع المجالات.

ب - الإرادة : الشوق النفساني

يظهر من بعض المشايخ « إنّ الإرادة هو الشوق النفساني الحاصل في النفس من الاعتقاد بالنفع ».

ص: 71


1- لاحظ : الوقوف على آراء المتكلمين في حقيقة الإرادة : شرح المواقف ج 8 ص 81 - 82.

يلاحظ عليه : أنّ تفسير الإرادة بالشوق تفسير ناقص إذ ربّما تتحقّق الإرادة ولا تكون هناك أيّة شوق كما في تناول الأدوية المرّة لأجل العلاج ، وربّما يتحقّق الشوق المؤكّد ولا تكون هناك إرادة كما في مورد المحرمات للرجل المتّقي فالنسبة بين الشوق والإرادة عموم وخصوص من وجه.

ج - الإرادة هي العزم والجزم

الإرادة لدى البعض عبارة عن كيفيّة نفسانيّة متخلّلة بين العلم الجازم والفعل ويعبر عنه بالقصد والعزم تارة ، وبالإجماع والتصميم اُخرى ، وليس القصد من مقولة الشوق كما انّه ليس من مقولة العلم - رغم حضوره لدى النفس كسائر الكيفيّات النفسانيّة - وبإختصار : الإرادة هي القصد وإجماع النفس على الفعل والعزم القاطع هذا هو حقيقة الإرادة في الإنسان.

الإرادة الامكانية تلازم الحدوث

وعلى كلّ تقدير الإرادة في الإنسان بأيّ معنى فسّرت ظاهرة تظهر في لوح النفس تدريجيّة فيتقدّمها اُمور من تصوّر الشيء والتصديق بما فيه من الفائدة ثمّ حصول الاشتياق إليه في موارد خاصّة ، ثمّ رفع الموانع عن طريق ايجاد الشيء وأخيراً حالة التصميم والقصد القطعي المحرّك للعضلات نحو المقصود.

وهذا أمر واضح يقف عليه الإنسان إذا تدبّر في حالات نفسه ، ومن المعلوم انّ الإرادة بهذا المعنى لا يمكن توصيفه سبحانه به لأنّه يستلزم كونه موجوداً مادياً يطرأ عليه التغير والتبدل ، والتكامل من النقص إلى الكمال ، ومن الفقدان إلى الوجدان وما هذا شأنه لا يليق بساحة البارئ.

الإرادة ملاك الاختيار

إنّ الإرادة ملاك الإختيار ، فالفعل إنّما يوصف بالاختيار إذا صدر عن مشيئة

ص: 72

الفاعل وإرادته سواء أقلنا إنّ نفس الإرادة أيضاً أمر اختياري أو خارج عنه ، وهذا لا يهمنا في هذا البحث ، وإنّما المهم إناطة اختياريّة الفعل بسبق الإرادة عليها والفاعل المريد المختار أكمل من الفاعل غير المريد المختار ، وعلى ضوء ذلك لا يمكن سلب الإرادة والاختيار عنه سبحانه لأنّ فقدان الإرادة يستلزم أمرين :

1 - كونه فاعلاً غير مريد وبالتالي غير مختار.

2 - كونه فاعلاً غير كامل لأنّ المريد أكمل من غيره وبالتالي المختار أفضل من غيره.

وإن شئت قلت : إنّه سبحانه أمّا ان يكون فاعلاً فاقداً للعلم.

أو يكون عالماً فاقداً للإرادة.

أو يكون عالماً ومريداً لكن عن كراهة لفعله لأجل جبر خارجي عليه يقهره على الإرادة.

أو يكون عالماً ومريداً وراضياً بفعله غير مكره.

والثلاثة الأوّل غير لائقة بساحته ، فيتعيّن كونه فاعلاً مريداً مالكاً لزمام فعله وعمله ، ولا يكون مقهوراً في الإيجاد والخلق ، لأجل وجود جبر قاهر عليه.

إذا وقفت على ذلك فالباحث عن إرادته سبحانه وكونها صفة الذات أو صفة الفعل واقع بين أمرين متخالفين :

فمن جهة إنّ حقيقة الإرادة لا تنفكّ عن الحدوث والتدريج يستحيل أن يكون ذاته سبحانه محلاً للحوادث ، لاستلزامه طروء الفعل والانفعال على ذاته سبحانه وهو محال ، ولأجل ذلك ذهب كثير من المتكلّمين إلى انّ الإرادة من صفات فعله ، فارادته هو إيجاده كما انّ خالقيته عبارة عن فعله وإيجاده ، ورازقيّته عبارة عن انعام الخلق بنعمه.

ومن جهة اُخرى انّ سلب الإرادة عن ذاته وحصر إرادته في الفعل والايجاد

ص: 73

يستلزم كونه فاعلا غير مختار وتصور فاعل أكمل منه وهو لا يليق بساحته وإليك البيان.

هل الإرادة صفة الذات أو صفة الفعل ؟

إنّ الإرادة بما أنّها آية الاختيار تستلزم أن تعدّ من صفات الذات فإنّ سلبها عن مقام الذات يستلزم سلب كمال منها غير أن أمام هذا موانع تمنع عن عدّها من صفاتها وإليك بيانه :

1 - إنّ الإرادة لا تنفك عن الحدوث والتدريج ، فيستحيل أن تكون ذاته سبحانه محلاً للحوادث لاستلزامه طروء الفعل والانفعال على ذاته وهو محال.

2 - إنّ الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام تفسّر الإرادة بنفس الفعل والايجاد ، وهذا يكشف عن كونها صفة الفعل. وسيوافيك بيان هذه الأحاديث.

3 - إنّ الملاك الذي ذكره الكليني لتمييز صفة الذات عن صفة الفعل ، يستلزم عدّها من صفات الفعل لا من صفات الذات ، فإنّ صفات الفعل تقع تحت النفي والاثبات ويقال : « يَخلق ولا يُخلق » « يَغفر ولا يُغفر » بخلاف صفة الذات فإنّها تقع تحت الاثبات دون النفي ، يقال : « يعلم ويقدر » ولا يقال : « لا يعلم ولا يقدر » ، وعلى ضوء هذا فبما أنّه سبحانه يريد الحق ولا يريد الباطل ، يريد إيجاد شيء مطابق للحكمة ولا يريد إيجاد ما يخالفها ، فهي من صفات الفعل لا من صفات الذات (1).

4 - لو كانت الإرادة نفس ذاته ; لزم قدم العالم لأنّها متّحدة مع الذات والذات موصوفة بها وهي لا تنفك عن المراد ، فيلزم أن لا ينفكّ العالم عن الذات.

فهذه هي الموانع الأربعة أمام عدّ الإرادة من صفات الذات فالقائل بكونها من

ص: 74


1- الكافي ج 1 ص 109.

صفاتها يجب عليه حلّ عقدها ورفع مشاكلها ، ولأجل ذلك نطرحها على بساط البحث فنقول :

الاشكال الأوّل : الإرادة أمر تدريجي حادث
اشارة

لو كانت الإرادة صفة الذات ، يلزم كون الذات محلاًّ للحوادث فنقول : قد اُجيب عن هذا الاشكال بامور نشير إليها :

أ - إرادته سبحانه ، علمه بالذات
اشارة

إنّ إرادته سبحانه عبارة عن علمه بالنظام الأصلح والأتم والأكمل ، قال صدر المتألهين : « معنى كونه مريداً : إنّه سبحانه يعقل ذاته ، ويعقل نظام الخير الموجود في الكلّ من ذاته ، وإنّه كيف يكون ؟ وذلك النظام يكون لا محالة كائناً ومستفيضاً وهو غير مناف لذات المبدأ الأوّل » (1).

وقال أيضاً :

« إنّ إرادته سبحانه هي العلم بنظام الكلّ على الوجه الأتمّ وإذا كانت القدرة والعلم شيئاً واحداً مقتضياً لوجود الممكنات على النظام الأتمّ ، كانت القدرة والعلم والإرادة شيئاً واحداً في ذاته ، مختلفاً بالاعتبارات العقليّة (2).

وقال الحكيم السبزواري : « الواجب جلّ مجده حيث يتعالى من أن يفعل بآلة ، ومن أن يكون له شوق إلى ما سواه ، إذ هو موجود غير فقيد ، لكونه تامّاً وفوق التمام ، ومن أن يكون علمه انفعاليّاً ، فإنّ علمه تعالى فعلي غير معلّل بالأغراض الزائدة فالداعي ، والإرادة ، والقدرة ، عين علمه العنائي وهو عين ذاته (3).

ص: 75


1- الأسفار الأربعة ج 6 ص 316.
2- نفس المصدر ص 331.
3- شرح الأسماء الحسنى ص 42.
مناقشة هذه النظرية

لا شك انّه سبحانه عالم بذاته ، وعالم بالنظام الأكمل والأتم والأصلح ، ولكن تفسير الإرادة بالعلم ، يرجع إلى انكار حقيقة الإرادة فيه سبحانه ، فانكارها في مرتبة الذات ، مساوق لانكار كمال فيه ، إذ لا ريب أنّ الفاعل المريد أكمل من الفاعل غير المريد ، فلو فسّرنا إرادته سبحانه بعلمه بالنظام ، فقد نفينا ذلك الكمال عنه ، وعرّفناه فاعلاً يشبه الفاعل المضطر في فعله ، وبذلك يظهر النظر فيما أفاده صدر المتألّهين والسبزواري. حيث تصوّرا انّ الإرادة والعلم شيء واحد بذاته ، مختلف بالاعتبار ، ولأجل عدم صحّة هذا التفسير نرى أنّ أئمة أهل البيت علیهم السلام ينكرون تفسيرها بالعلم. قال بكير بن أعين : قلت لأبي عبد اللّه الصادق علیه السلام : « علمه ومشيئته مختلفان أو متّفقان » ؟

فقال علیه السلام : « العلم ليس هو المشيئة ، ألا ترى أنّك تقول سأفعل كذا إن شاء اللّه ، ولا تقول سأفعل كذا إن علم اللّه » (1).

وإن شئت قلت : « إنّ الإرادة صفة مخصّصة لأحد المقدورين ، أي الفعل والترك ، وهي مغايرة للعلم والقدرة ، لأنّ خاصيّة القدرة صحّة الإيجاد واللا إيجاد ، وذلك بالنسبة إلى جميع الأوقات وإلى طرفي الفعل والترك على السواء ، فلا تكون نفس الإرادة التي من شأنها تخصيص أحد الطرفين ، واخراج القدرة عن كونها متساوية بالنسبة إليهما.

وأمّا العلم فهو من المبادئ البعيدة للإرادة ، والإرادة من المبادئ القريبة إلى الفعل ، فلا معنى لعدّهما شيئاً واحداً.

نعم ، كون علمه بالمصالح والمفاسد مخصّصاً لأحد الطرفين ، وإن كان أمراً معقولاً ، لكن لا تصحّ تسميته إرادةً وإن اشترك مع الإرادة في النتيجة وهي تخصيص

ص: 76


1- الكافي ج 1 ص 109 باب الارادة.

الفاعل قدرته بأحد الطرفين ، إذ الاشتراك في النتيجة لا يوجب أن يقوم العلم مقام الإرادة ويكون كافياً لتوصيفه بذلك الكمال أي الإرادة.

ب - إرادته سبحانه ابتهاجه بفعله

إنّ إرادته سبحانه ابتهاج ذاته المقدّسة بفعلها ورضاها به ، وذلك لأنّه لمّا كانت ذاته سبحانه صرف الخير وتمامه ، فهو مبتهج بذاته أتمّ الابتهاج ، وينبعث من الابتهاج الذاتي ابتهاج في مرحلة الفعل ، فإنّ من أحبّ شيئاً أحبّ آثاره ولوازمه ، وهذه المحبّة الفعلية هي الإرادة في مرحلة الفعل ، وهي التي وردت في الأخبار التي جعلت الإرادة من صفات فعله ، فللإرادة مرحلتان : إرادة في مقام الذات ، وإرادة في مقام الفعل ، فابتهاجه الذتي إرادة ذاتيّه ، ورضاه بفعله إرادة في مقام الفعل.

يلاحظ عليه : إنّ هذه النظرية كسابقتها لا ترجع إلى محصّل ، فإنّ حقيقة الإرادة غير حقيقة الرضا وغير حقيقة الابتهاج ، وتفسير أحدهما بالآخر إنكار لهذا الكمال في ذاته سبحانه ، وقد مرّ أنّ كون الفاعل مريداً - في مقابل كونه فاعلاً مضطراً موجباً - ، أفضل وأكمل فلا يمكن نفي هذا الكمال عن ذاته على الاطلاق.

ج - الإرادة : إعمال القدرة

وربّما تفسر إرادته سبحانه بإعمال القدرة كما عن بعضهم. قال قائل :

« إنّا لا نتصوّر لإرادته تعالى معنى غير إعمال القدرة والسلطنة ، ولمّا كانت سلطنته تعالى تامّة من جميع الجهات ، ولا يتصوّر فيه النقص أبداً فبطبيعة الحال يتحقّق الفعل في الخارج ، ويوجد بصرف إعمال القدرة من دون توقّفه على أيّة مقدّمة اُخرى كما هو مقتضي قوله سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( يس / 82 ) (1).

ص: 77


1- المحاضرات ج 2 ص 38.

يلاحظ عليه : إنّ إعمال القدرة والسلطنة إمّا فعل اختياري له سبحانه أو اضطراري ، ولا سبيل إلى الثاني لأنّه يستلزم أن يكون تعالى فاعلاً مضطراً ولا يصح توصيفه بالقدرة ولا تسميته بالقادر ، وعلى الأوّل فما هو ملاك كونه فاعلاً مختاراً ؟ لأنّه لابد أن يكون هناك قبل إعمال السلطنة وتنفيذ القدرة ، شيء يدور عليه كونه فاعلاً مختاراً ، فلا يصحّ الاكتفاء في مقام تفسير الإرادة ، بإعمال القدرة.

وباختصار : إنّ الاكتفاء باعمال القدرة من دون إثبات وصف الاختيار له في المقام بنحو من الأنحاء غير مفيد ، والمعروف انّ ملاك الاختيار هو الإرادة ، نعم لعلّ ما ذكره ( دام ظله ) يرجع إلى ما سنذكره. د - إرادته ، كونه مختاراً بالذات

الحق إنّ الإرادة من الصفات الذاتية وتجري عليه سبحانه على التطوير الذي ذكره المحقّقون في توصيفه بالحياة ، ولأجل توضيح المطلب نأتي بكلمة جارية في جميع صفاته سبحانه وهي :

يجب على كلّ إلهي - في إجراء صفاته سبحانه عليه - تجريدها من شوائب النقص وسمات الإمكان ، وحملها عليه بالمعنى الذي يليق بساحته مع حفظ حقيقتها وواقعيّتها حتّى بعد التجريد.

مثلاً ، انّا نصفه سبحانه بالعلم ، ونجريه عليه مجرّداً عن الخصوصيّات والحدود الإمكانية ، ولكن مع حفظ واقعيّته ، وهو حضور المعلوم لدى العالم ، وأمّا كون علمه كيفاً نفسانيّاً أو إضافة بين العالم والمعلوم ، فهو منزّه عن هذه الخصوصيّات ، ومثل ذلك الإرادة ، فلا شك انّها وصف كمال له سبحانه وتجري عليه مجرّدة عن سمات الحدوث والطروء والتدرّج والانقضاء بعد حصول المراد ، فإنّ ذلك كلّه من خصائص الإرادة الامكانية وإنّما يراد من توصيفه بالإرادة كونه فاعلاً مختاراً في مقابل كونه فاعلاً مضطراً ، وهذا هو الأصل المتبع في إجراء صفاته سبحانه.

ص: 78

إنّ الإرادة صفة كمال لا لأجل كونها حادثة طارئة منقضية بعد حدوث المراد ، وإنّما هي صفة كمال لكونها رمز الإختيار وسمة القاهريّة حتى أنّ الفاعل المريد المكره له قسط من الاختيار ، حيث يختار أحد طرفي الفعل على الآخر تلو محاسبات عقليّة فيرجّح الفعل على الضرر المتوعّد به ، فإذا كان الهدف والغاية من توصيف الفاعل بالإرادة هو اثبات الاختيار وعدم المقهوريّة فتوصيفه سبحانه بكونه مختاراً غير مقهور في سلطانه ، غير مجبور في إعمال قدرته ، كاف في جري الإرادة عليه ، لأنّ المختار واجد لكمال الإرادة على النحو الأتمّ والأكمل ، وقد مرّ أنّه يلزم في اجراء الصفات ترك المبادئ والأخذ بجهة الكمال ، فكمال الإرادة ليس في كونها طارئة زائلة عند حدوث المراد ، أو كون الفاعل خارجاً بها عن القوّة إلى الفعل ، أو من النقص إلى الكمال ، بل كمالها في كون صاحبها مختاراً ، مالكاً لفعله آخذاً بزمام عمله فلو كان هذا هو كمال الإرادة ، فاللّه سبحانه واجد له على النحو الاكمل إذ هو الفاعل المختار غير المقهور في سلطانه ، ( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) ( يوسف / 21 ) ، وليس هذا بمعنى انّها وصف سلبي وهو كونه تعالى غير مغلوب ولا مستكره ، كما نقل عن النجّار (1) بل هي وصف وجودي هو نفس ذاته والتعبير عنه بوصف سلبي لا يجعله أمراً سلبياً كتفسير العلم بعدم الجهل ، والقدرة بعدم العجز.

إجابة عن سؤال :

ويمكن أن يقال : إنّ تفسير الإرادة بالاختيار يستلزم نفس ما يستلزمه تفسير الإرادة بالعلم فعلى كلا التفسيرين الإرادة بمفهومها الحقيقي منفيّة عن الذات الإلهية.

والإجابة عن هذا السؤال واضح بملاحظة ما قدّمناه من التحليل في تفسير صفاته سبحانه فإنّ الصفات الكماليّة تحمل على اللّه سبحانه بحذف نقائصها وزوائدها لا بالمفهوم الحرفي الابتدائي الذي يتبادر إلى الأذهان مثلاً إنّا نصفه سبحانه بالحياة وإنّه حي ، ومن المعلوم أنّ ما يتبادر من الحياة هو ما نعرفه في النبات بالدفع

ص: 79


1- كشف المراد ص 177.

والجذب وانتاج المثل ، وفي الحيوان بإضافه الحس والحركة ، وفي الإنسان بزيادة التعقل والتفكر ، ومن المعلوم انّ الحياة بهذا المعنى غير قابل للحمل على اللّه سبحانه لكونها نقصاً.

فكما أنّ تفسير الحياة في العلوم الطبيعية بما ذكرنا لا ينافي توصيفه سبحانه بالحياة لأنّه يؤخذ منه اللبّ ويحذف القشر ، فكونه سبحانه عالما قادراً أي درّاكاً ، فعّالاً ، يكفي في توصيفه بالحياة فهكذا توصيف الإرادة بالعزم والجزم الطارئين على النفس بعد مقدمات ، لا ينافي توصيفه سبحانه بالإرادة لكن على التحليل الذي بيّنّاه وهو طرد القشر والأخذ باللب ، فبما أنّ الإرادة آية الإختيار ، والإختيار جوهر الإرادة وروحها ، فيكفي في توصيفه بالإرادة ، تفسيره بالإختيار وأين هذا من تفسير الإرادة بالعلم الذي لا صلة بينهما إلاّ على وجه بعيد ؟

فكما أنّ ما ذكر من الخصائص للحياة من الحسّ والحركة وغيرهما ليس عنصراً مقوّماً للحياة ، وإنّما هي تجلّيات لوجود عنصر الحياة في الإنسان ، فهكذا الإرادة تجلّ لوجود عنصر الاختيار في الذات ، فإذا كان ما يتجلّى به غير لائق لتوصيفه سبحانه به ، ينحصر التوصيف باللب والتجلّي بالمفهوم وهو الاختيار.

إلى هنا تمّ البحث حول المانع الأوّل وبقي الكلام في الموانع الاُخرى.

الإشكال الثاني : الروايات تعدّ الإرادة من صفات الفعل
اشارة

كيف تعدّ الإرادة من صفات الذات ، مع أنّ الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام تفسّره بالإيجاد مشيرة إلى أنّها من صفات الفعل كالخالقيّة والرازقيّة.

قال المفيد : إنّ إرادة اللّه تعالى لأفعاله هي نفس أفعاله ، وإرادته لأفعال خلقه ، أمره بالأفعال ، وبهذا جاءت الآثار عن أئمّة الهدى من آل محمد علیهم السلام وهو مذهب سائر الإماميّة إلاّ من شذّ منها عن قرب ، وفارق

ص: 80

ما كان عليه الأسلاف (1).

وإليك ما ورد في ذلك المجال :

1 - روى الكليني بسند صحيح عن صفوان بن يحيى قال : قلت لأبي الحسن علیه السلام : أخبرني عن الإرادة من اللّه ومن الخلق. قال : فقال : الإرادة من الخلق ، الضمير يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من اللّه تعالى فإرادته إحداثه ، لا غير ذلك لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه ، وهي صفات الخلق ، فإرادة اللّه الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك ، كما أنّه لا كيف له (2).

2 - وروي الشيخ الطوسي عن صفوان بن يحيى قال قلت لأبي الحسن : اخبرني عن الإرادة من اللّه تعالى قال : « إرادته احداثه الفعل لا غير ذلك لأنّه جلّ اسمه لا يهم ولا يتفكّر » (3).

3 - روي الكليني عن الحسن بن عبد الرحمان الحماني ، عن الامام الكاظم علیه السلام في رواية قال : « إنّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق » (4).

روى الطبرسي في الاحتجاج عن الإمام الكاظم علیه السلام قال : « فيكون بمشيئته من غير تردّد في نفس » (5).

4 - روى الكليني عن يعقوب بن جعفر ، عن الإمام الكاظم علیه السلام في حديث : « ولكن كما قال اللّه تعالى كن فيكون بمشيئته من غير تردّد في نفس » (6).

ص: 81


1- أوائل المقالات ص 19.
2- الكافي ج 1 باب الاراده الحديث 3 ، ورواه البرقي في المحاسن ص 244.
3- أمالي الطوسي ص 214.
4- الكافي ج 1 باب النهي عن الجسم والصورة الحديث 6 ص 106.
5- الاحتجاج ج 2 ص 156.
6- الكافي ج 1 باب الحركة والانتقال ص 125 الحديث 1.

والجواب : إنّ هذه الروايات وإن كانت صريحة في كون إرادته سبحانه فعله ، لكنّها ليست بصدد سلب كون الإرادة صفة الذات حتّى بالمعنى المناسب لذاته عنه على الاطلاق ، وانما هي بصدد أنّ الإرادة الإمكانية الموجودة في الإنسان لا تصلح لذاته سبحانه لأنّها تقترن بالتردّد والتروّي والتفكّر والهمّ والكلّ من سمات الامكان والحدوث وهو سبحانه منزّه عن ذلك.

وفرق بين نفي أصل الإرادة عن ذاته سبحانه ، ولو بمعنى غير مستلزم لكون ذاته معرضاً للحوادث ، والإرادة الموجودة في الإنسان والحيوان وبما أنّه كلّما أطلقت الإرادة لا يراد منها سوى المعنى المتعارف من التفكّر والهم ّوالقصد ، وصرّح الإمام بنفي الإرادة بذلك المعنى عن ذاته وارجاعها فيه سبحانه إلى صفة الفعل ، حتّى يصدر السائل عن حضوره بشيء مقنع وبما أنّ عقليّة بعض الرواة في ذلك العصر لا تتحمّل كثيراً من المعارف الدقيقة اقتنع الامام بتفهيم ما تتحمله عقليته ، وبما أنّ قسماً من الإرادة صفة للفعل ، وقسم منها صفة للذات كعلمه سبحانه ، فإنّ قسماً منه صفة للفعل ، وقسم منه صفة للذات ، اكتفى الامام ببيان أحد القسمين دون الآخر.

وهذا أصل مطرّد في باب المعارف ، فهم صلوات اللّه عليهم يكلّّمون الناس على قدر عقولهم ولا يكلّّفونهم بما هو خارج عن طاقة شعورهم.

هذا هو سيد الموحّدين علي علیه السلام ينهي عن الغور في القدر ويقول :

« طريق مظلم فلا تسلكوه ، وبحر عميق فلا تلجوه ، وسر اللّه فلا تتكلّفوه » (1).

ومع ذلك فهو صلوات اللّه عليه بحث عن القضاء والقدر ويشهد لذلك ما رواه الرضي في نفس نهج البلاغه (2).

ص: 82


1- نهج البلاغة قسم الحكم الرقم 287.
2- نهج البلاغة قسم الحكم الرقم 78.

والحاصل لمّا كان المتبادر في ذهن الراوي وأمثاله من الإرادة ، هو المعنى المعروف من الهم ّو التفكّر والعزم وكان جعل الإرادة من صفات الذات - في ذهن الراوي - مستلزماً لكون إرادته سبحانه مثل الإرادات الامكانية ، رأى الإمام أن يعلّمه أحد القسمين من إرادته وهو الإرادة الفعلية كالعلم الفعلي ، وأضرب عن القسم الآخر ، ويعرب عن ذلك قوله في الروايات الثلاث الأخيرة ، حيث قال :

« إنّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته ، من غير كلام ولا تردّد في نفس ».

وهذا يعرب من انّ الإمام بصدد صيانة الراوي عن الوقوع في الخطأ في تفسير الرواية ، ولم يكن بصدد تفسير الإرادة بجميع مراتبها وأقسامها ، فلو كان هناك للإرادة قسما آخر يناسب ذاته سبحانه كما أوضحناه لما كانت هذه الروايات نافية لها.

هناك وجه آخر لجعل الإرادة من صفات الفعل وهو انّ الإرادة في الإنسان لا ينفك عن المراد ، فلو جعلت الإرادة فيه سبحانه من صفات الذات ربّما يستنتج الراوي منه قدم العالم ، فلأجل صيانة ذهن الراوي عن الخطأ فسّرت الإرادة بالأحداث والايجاد ، ويشهد على ذلك الوجه بعض الروايات :

1 - روى الصدوق في توحيده عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « المشيئة محدثة » (1).

2 - روى الصدوق عن عاصم بن حميد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قلت له لم يزل اللّه مريداً » ؟! فقال : « إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه بل لم يزل عالماً قادراً ثم أراد » (2).

3 - روى الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري قال : قال الرضا علیه السلام : « المشيئة والإرادة من صفات الأفعال فمن زعم أنّ اللّه تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد » (3).

ص: 83


1- التوحيد للصدوق ص 338 - 146 - 336.
2- التوحيد للصدوق ص 338 - 146 - 336.
3- التوحيد للصدوق ص 338 - 146 - 336.

وهذه الأحاديث تعرب من انّ جعل الإرادة صفة الفعل إنّما هو لأجل صيانة ذهن الراوي عن توهّم قدم العالم وانّه لم يزل كان مع اللّه سبحانه ، وإن شئت قلت : إنّ الإرادة التي سأل عنها الراوي كان يراد منها العزم على الفعل الذي لا ينفك عن المراد ، فاراد الإمام هدايته إلى أنّ الإرادة بهذا المعنى لا يوصف بها سبحانه لأنها تستلزم قدم المراد أو حدوث المريد ، ولأجل أن يتلقّى الراوي معنى صحيحاً للإرادة يناسب مستوى تفكيره ، فسّرها الامام بالمعنى الذي يجري عليه سبحانه في مقام الفعل ، وقال في جواب سؤال السائل :

« لم يزل اللّه مريداً ؟ : إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه ، لم يزل اللّه عالماً قادراً ثمّ أراد » (1).

عصر الإمام الكاظم علیه السلام والمذاهب الكلاميّة

كان عصر الإمام الكاظم علیه السلام ( ت 128 - م 183 ) عصر ازدهار المذاهب الكلامية وكانت الأمصار وحواضرها الكبرى ميداناً لمطارحات الفرق المختلفة.

فمن سلفيّ يقتصر في توصيفه سبحانه على الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ويأخذ بمعانيها الحرفية من دون امعان وتدبّر ، ويرفع عقيرته بأنّ لله يداً ووجها وأنّه مستو ومستقرّ على عرشه وأنّ له رجلاً و ...

إلى معتزلي يجعل للعقل قسطاً أوفر في مجال العقائد والمعارف ويتجاوز حدّه فيؤوّل الكتاب والسنّة فيما لا يوافق معتقده وعقليّته.

إلى مرجئيّ يكتفي في الإيمان بالقول ويقدّمه ويؤخّر العمل ، ولا يحكم على

ص: 84


1- الكافي ج 1 ص 109 ، باب الارادة.

مرتكب الكبيرة بعقوبة.

إلى مُحكِّم يكفّر كلّ الطوائف الاسلامية غير أهل نحلته الذين يبغضون الخليفتين عثمان وعليّاً ويكفّرون الصدّيق الاعظم عليّاً علیه السلام .

إلى غير ذلك من المذاهب الإسلاميّة التي ظهرت في القرن الثاني.

ويعرب عن تشتت الفرق وتكثّرها ما رواه الكشّي عن محمد بن عيسى العبيدي ، عن يونس ، عن هشام ، إنّه لما كان أيّام المهدي ، شدّد على أصحاب الهوى ، وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفاً صنفاً ، ثمّ قرأ الكتاب على الناس ، فقال يونس :

قد سمعت الكتاب يقرأ على الناس على باب الذهب بالمدينة واُخرى بمدينة الوضّاح (1).

ولم يكن الخلاف مقتصراً على معتقدات الطوائف الماضية بل كان عصر الإمام يتّسم بموجات رهيبة من النزعات الشعوبية والاتجاهات التي لاتمت إلى الاسلام بصلة ، ولأجل ذلك يجب امعان النظر في الروايات الواردة عن الكاظم علیه السلام وغيره مع ملاحظة الظروف السائدة عليه ، فإذا كان هذا عصر الإمام والأئمّة بعده فلابدّ أن تكون رواياتهم متضمّنة ردّ أصحاب الأهواء ودعاة الضلال ، وأكثر ما ورد في المقام عن الإمامين الكاظم والرضا علیهماالسلام حول الإرادة وأنّها صفة فعله سبحانه لا ذاته إنّما ورد في تلك الظروف المحرجة.

الإشكال الثالث : الإرادة يتوارد عليها النفي والاثبات

كيف نعد الإرادة من صفات الذات ؟ مع أنّ الملاك الذي ذكره الكليني لا ينطبق

ص: 85


1- رجال الكشي : ترجمة هشام بن الحكم رقم 131 ص 227 ، ولعلّ هذا الكتاب أوّل ما اُلّف في المذاهب الاسلامية.

عليه بل ينطبق على كونها من صفات الفعل وحاصله :

إنّ كلّ وصف يقع في اطار النفي والاثبات فهو من صفات الفعل مثل قولنا : يعطي ولا يعطى ، وما لا يقع في إطارهما ، بل يكون اُحادية التعلّق من صفات الذات فيقال « يعلم » ولا يقال « لا يعلم ».

وعلى ضوء هذا تكون الإرادة من صفات الفعل لأنّها ممّا يتوارد عليه النفي والاثبات. يقول سبحانه : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ( البقرة / 185 ).

والجواب على هذا السؤال بوجهين :

أحدهما : إنّ الإرادة التي يتوارد عليها النفي والاثبات هي الإرادة في مقام الفعل ، وأمّا الإرادة في مقام الذات التي فسّرناها بكمال الإرادة وهو الاختيار ، فلا تقع في إطار النفي والاثبات.

وثانيهما : ما أجاب به صدر المتألّهين قائلاً بأنّ لله سبحانه إرادة بسيطة مجهولة الكنه وإنّ الذي يتوارد عليه النفي والإثبات ، الإرادة العددية الجزئية المتحقّقة في مقام الفعل ، وأمّا أصل الإرادة البسيطة ، وكونه سبحانه فاعلاً عن إرادة لا عن اضطرار وايجاب ، فلا يجوز سلبه عن اللّه سبحانه ، وإنّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الإرادة البسيطة في مقام الذات التي لا تتعدّد ولا تتثنّى ، وبين الإرادة العددية المتحقّقة في مقام الفعل التي تتعدّد وتتثنّى ويرد عليها النفي والاثبات.

قال : « الفرق بين الإرادة التفصيلية العددية التي يقع تعلّقها بجزئي من اعداد طبيعية واحدة أو بكلّ واحد من طرفي المقدور ، كما في القادرين من الحيوانات ، وبين الإرادة ، البسيطة الحقّة الإلهية التي يكلّّ عن ادراكها عقول أكثر الحكماء فضلاً عن غيرهم » (1).

ص: 86


1- الاسفار ج 6 ص 324.
الإشكال الرابع : لو كانت الإرادة صفة للذات ، لزم قدم العالم
اشارة

هذا هو الإشكال الرابع في طريق جعل الإرادة من صفات الذات وحاصله : إنّ صفات الذات متّحدة معها ، فلو كانت الإرادة صفة للذات ، يلزم قدم العالم لأنّ الإرادة لا تنفك عن مرادها فقدم الذات يلازم قدم الإرادة وهو يلازم قدم المعلول وهو العالم.

يلاحظ عليه أوّلاً : انّ الإشكال لا يختصّ بمن جعل الإرادة بمعناها الحقيقي وصفاً لذاته سبحانه ، بل الإشكال يتوجه أيضاً على من فسّر إرادته بالعلم بالأصلح ، لاستناد وجود الأشياء إلى العلم بالنظام الأتم الذي هو عين ذاته ، واستحالة انفكاك المعلوم عن العلّة أمر بيّن من غير فرق بين تسمية هذا العلم إرادة أو غيرها ، فلو كان النظام الأصلح معلولاً لعلمه ، والمفروض انّ علمه قديم ، لزم قدم النظام لقدم علّته.

وثانياً : إذا قلنا بأنّ إرادته سبحانه عبارة عن كونه مختاراً غير ملزم بواحد من الطرفين ، لا يلزم عندئذ قدم العالم إذا اختار ايجاد العالم متأخّراً عن ذاته.

وثالثاً : إنّ لصدر المتألّهين ومن حذا حذوه في الاعتقاد بالإرادة الذاتية البسيطة المجهولة الكنه ، أن يجيب بأنّ جهلنا بحقيقة هذه الإرادة وكيفيّة إعمالها ، يصدّنا عن البحث عن كيفيّة صدور فعله عنه ، وأنّه لماذا خلق العالم حادثاً ولم يخلقه قديماً ؟

وها هنا نكتة نعلّقها على هذا البحث بعد التنبيه على أمر وهو : انّ الزمان كمّ متّصل ينتزع من حركة الشيء وتغيّره من حال إلى حال ، ومن مكان إلى مكان ، ومن صورة نوعية إلى اُخرى ، فمقدار الحركة عبارة عن الزمان ، فلولا المادة وحركتها لما كان للزمان مفهوم حقيقي ، بل كان له مفهوم وهمي. هذا ما أثبتته الأبحاث العميقة في الزمان والحركة ، وقد كان القدماء يزعمون : إنّ الزمان يتولد من حركة

ص: 87

الافلاك والنيّرين وغيرهما من الكواكب السيارة ، ولكن الحقيقة أن كلّ حركة حليفة الزمان وراسِمته ومولدته ، وإنّ التبدّلات عنصريّة كانت أو أثيرية ، مشتملة على أمرين :

الأوّل : حالة الانتقال من المبدأ إلى المنتهى ، سواء كان الانتقال في الوصف ، أو في الذات.

الثاني : كون ذلك الإنتقال على وجه التدريج والسيلان لا على نحو دفعي.

فباعتبار الأمر الأوّل توصف بالحركة ، وباعتبار الأمر الثاني توصف بالزمان ، فكأن شيئاً واحداً باسم التغير والتبدل والانتقال ، يكون مبدأ لانتزاع مفهومين منه ، لكن كلّ واحد منهما باعتبار خاص ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر انّ المادّة تتحقق على نحو النتدريج والتجزئة ولا يصحّ وقوعها بنحو جمعي ، لأنّ حقيقتها حقيقة سيّالة متدرّجة أشبه بسيلان الماء ، فكلّّ ظاهرة مادية تتحقق تلو سبب خاص ، وما هذا حاله يستحيل عليه التحقق الجمعي أو تقدّم جزء منه أو تأخّره بل لا مناص عن تحقّق كلّ جزء في ظرفه وموطنه ، وبهذا الاعتبار تشبه الأرقام والأعداد ، فالعدد مثل « الخمسة » ليس له موطن إلاّ الوقوع بين « الأربعة » و « الستة » وتقدّمه على موطنه كتأخّره عنه مستحيل ، وعلى ذلك فالأسباب والمسبّبات المترتبة بنظام خاص ، يستحيل عليها خروج أي جزء من أجزائها عن موطنه ومحله.

إذا عرفت هذا الأمر ، نرجع إلى بيان النكتة وهي ماذا يريد القائل من قوله « لو كانت الإرادة صفة ذاتية لله سبحانه ، يلزم قدم العالم ؟ » فان أراد أنّه يلزم تحقّق العالم في زمان قبله وفي فترة ماضية فهذا ساقط بحكم المطلب الأوّل ، لأنّ المفروض انّه لا زمان قبل عالم المادة لما عرفت من أنّ حركة المادة ترسم الزمان وتولّده.

وإن أراد لزوم تقديم بعض أجزائه على البعض الآخر أو على مجموع العالم

ص: 88

فقد عرفت استحالته فإنّ اخراج كلّ جزء عن إطاره أمر مستحيل مستلزم لانعدامه.

ما هو المراد من الحدوث الزماني للعالم ؟

اتّفق الالهيّون على أنّ العالم حادث ذاتاً بمعنى أنّه مسبوق بعدم حقيقي وانّه لم يكن فكان والفاعل المتخلّل في قولنا : « لم يكن فكان » هو الفاصل بين الواجب والممكن نظير الفصل بين حركة اليد وحركة المفتاح ، فالحركتان واقعتان في زمان واحد غير أنّ الثانية متأخّرة عن الاُولى رتبة لأنّها ناشئة من الاُولى ، وحركة اليد نابعة من ذاتها ، وحركة المفتاح ناشئة من حركتها ، فهي في طول الحركة الاُولى.

نعم هنا فرق بين المثال والممثّل له ، فالعلّة والمعلول في المثال زمانيان دون الممثّل له فالعلّة هنا منزّهة عن الزمان والزماني وهذا مما لا شبهة فيه ، إنّما الكلام في اثبات حدوث آخر للعالم وهو الحدوث الزماني.

إنّ المتشرّعة تثبت للعالم وراء الحدوث الذاتي حدوثاً زمانياً بمعنى كونه مسبوقاً بعدم زماني واقعي مثلا كما أنّ حوادث اليوم مسبوقة بالعدم الزماني حيث إنها لم تكن قبل ذلك اليوم ثم حدث ، فهكذا العالم لم يكن في وقت ثم حدث. وهذه المسألة ممّا تصرّ عليها المتشرّعة حتى انّ الشيخ الأعظم الأنصاري في الفرائد عند البحث عن حجّية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة يقول : « أجمعت الشرايع السماويّة على انّ العالم حادث زماناً (1).

ولكن تصوير الحدوث الزماني لكلّ جزء من أجزاء العالم بالنسبة إلى الزمان المتقدّم عليه أمر سهل يصدّقه البرهان والحسّ ف « زيد » المتولّد في هذا اليوم ، مسبوق بعدم زماني يوم أمس.

ص: 89


1- الفرائد ، رسالة حجّية القطع.

إنّما الكلام في اثبات الحدوث الزماني لمجموع العالم إذا أخذ صفقة واحدة ولوحظ شيئاً واحداً ، فإنّ اثبات الحدوث الزماني أمر لا يخلو من خفاء وذلك ببيانين :

1 - إنّ الزمان مقدار الحركة ، وكلّ حركه تعانق زماناً ما يعدّ مقداراً لها ، وليس في العالم زمان واحد يتولّد من حركة الفلك أو الشمس والقمر بل كلّ حركة مولد زماناً فيكون ذلك الزمان مقداراً لها كما حقّق في محلّه ، فإذا كان الزمان وليد الحركة ونتيجة سيلان المادّة إلى الغاية فكيف يمكن أن نقول بأنّه كان وقت حقيقي لم يكن العالم فيه ثمّ حدث ووجد ؟ لأنّ المفروض انّ هذا الوقت نتيجة حركة المادة التي لم تخلق بعد ، فلا يتصوّر شيء بمعنى الوقت والزمان قبل إيجاد العالم حتّى يتضمّن عدمه.

2 - إنّه ينقل الكلام إلى نفس الزمان فهل هو حادث ذاتي وقديم زماناً أو لا ؟

فعلى الأوّل يجب الاعتراف بممكن حادث ذاتاً وقديم زماناً ، فلو كان القول بالقدم الزماني مقبولاً فيه فليكن مقبولاً في مجموع العالم إذا لوحظ شيئاً واحداً أو في الجزء الأوّل منه. وعلى الثاني يلزم أن يكون للزمان زمان حتّى يتضمّن الزمان الثاني عدم الزمان الأوّل في حاقّه ، وعندئذ إمّا يتوقّف تسلسل الزمان فيلزم كون الزمان الثاني قديماً زمانيّاً وإن لم يتوّقف يلزم التسلسل.

فلأجل هذين الوجهين يعسر التصديق بالحدوث الزماني لمجموع العالم ويكتفى بالحدوث الذاتي ، ثم إنّ الداعي إلى ذهابهم إلى الحدوث الزماني للعالم كلّه أمران :

أ : التركيز على التوحيد ، وإنّه لا قديم سواه وإنّ كلّ ما في الكون فهو حادث زماني مسبوق بعدم زماني حقيقي ، فحصر القديم في اللّه سبحانه يصدّهم عن الاعتراف بقدم العالم زماناً والاكتفاء بالحدوث الذاتي.

ص: 90

يلاحظ عليه : أنّ تنزيه الحق عن الشرك والنّد لا يتوقف على اثبات الحدوث الزماني للعالم ، بل يكفي هنا القول بأنّه سبحانه قديم بالذات وإنّ غيره حادث كذلك سواء أكان له حدوث زماني أو لا ، وبعبارة اُخرى التنزيه ونفي الشرك يحصل بحصر ضرورة الوجود في اللّه سبحانه وإنّ وجوده نابع من صميم ذاته بخلاف غيره فإنّ وجوده مستعار ومكتسب من جانبه سبحانه.

ب : ما ورد في الروايات من أنّه كان اللّه ولم يكن معه شيء مستظهراً بأنّ المراد من الكينونة لله سبحانه ، وعدم غيره ، هو كونه في وقت مقروناً بعدم كون شيء فيه.

يلاحظ عليه : انّ الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيت خصوصاً ما روي عن الإمام الكاظم علیه السلام وأبي جعفر علیه السلام يعرب من انّ المراد غير ذلك وأنّ ما يتبادر من هذه الجملة في الأذهان البسيطة غير مراد ، ويعلم ذلك بسرد الروايات عنهم صلوات اللّه عليهم :

1 - روى الصدوق عن يعقوب بن جعفر الجعفري ، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر علیهماالسلام أنّه قال : إنّ اللّه تبارك وتعالى كان لم يزل ، بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان (1).

2 - ما روي عن أبي جعفر علیه السلام أنّه قال : إنّ اللّه تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره ، نوراً لا ظلام فيه ، وصادقاً لا كذب فيه ، وعالماً لا جهل فيه ، وحيّاً لا موت فيه ، وكذلك هو اليوم ، وكذلك لا يزال أبداً (2).

3 - ما ذكره الإمام الرضا علیه السلام في جواب عمران الصابئي حيث سأله الصابئي بقوله : أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق. قال الرضا علیه السلام سألت فافهم : « أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه ، بلا حدود ، ولا اعراض ، و

ص: 91


1- مسند الامام الكاظم علیه السلام ج 1 ص 270 - نقلاً عن توحيد الصدوق ص 178.
2- التوحيد للصدوق - باب صفات الذات وصفات الفعل - الحديث 5 ص 141.

لا يزال كذلك (1).

والذي يجب إمعان النظر فيه هو هذه الجمل التالية في حديث الإمام الكاظم علیه السلام وغيره.

أ : قوله في الحديث الاول : « وهو الآن كما كان ».

ب : قوله في رواية أبي جعفر علیه السلام : « وكذلك هو اليوم فكذلك لا يزال أبداً ».

ج : قوله في كلام الرضا علیه السلام : « ولا يزال كذلك ».

فهذه الأحاديث تعرب من أنّ توصيفه سبحانه بالجملة التالية : « كان اللّه ولم يكن معه شيء » لا يختص بالآزال قبل خلق العالم بل هذا الوصف مستمر له إلى الآن حتى بعد ما خلق العالم ، ومن المعلوم أنّه لو كان المراد من قوله : « كان اللّه ولم يكن معه شيء » إنّه كان وقت ، ولم يكن في ذلك الوقت شيء من الممكنات ، يجب ان يخصّص هذا الوصف بظرف خاص وهو قبل خلق العالم ، وأمّا بعده فلا يمكن أن يقال : إنّه مستمر إلى زماننا هذا لفرض تكوّن أشياء وتحقّقها مع تحقّق اللّه سبحانه.

وهذا يعرب : انّ المراد من أنّه سبحانه قد كان ولم يكن معه شيء مستمراً إلى زماننا هذا ، هو كونه سبحانه في درجة رفيعة من الوجود ورتبة متقدّمة على معلوله فهو في كلّ ظرف وزمان ، كائنٌ ، وليس معه في هذه الرتبة شيء من الممكنات من غير فرق بين مرحلة خلق العالم وقبله ، لأنّ العلّة لعلوّ مقامه وشموخ درجته على وجه لا يتجافى المعلول عن رتبته ، حتى يكون معه ، ولا شيء معه في هذا المقام مطلقاً سواء قبل خلق العالم أم بعده.

ص: 92


1- التوحيد : باب ذكر مجلس الرضا (ع) ص 430.

والحاصل : انّ هذه الروايات تركّز على نكتة فلسفيّة تغيب عن أذهان المتوسّطين وهو انّه سبحانه واحد ليس معه شيء ، وانّ هذا التوحيد مستمر في جميع الأوقات والأزمان ومن المعلوم أنّ الاعتراف بهذا النوع من التوحيد والتنزيه ، ونفي أن يكون شيء معه لا يتم إلاّ بالاعتراف بالحدوث الذاتي للعالم ، وإنّ وجوده نابع من وجوده سبحانه ، فليس في ذلك المقام أثر من الإمكان من غير فرق بين قبل التجلّي وبعده ، فالمعلوم أقصر من أن يصل إلى مقام العلّة ويجتمع معها.

هذا ما وصلنا إليه بعد التدبّر في الروايات.

نعم ، إنّ صدر المتألّهين وتلامذة منهجه حاولوا في المقام أن يثبتوا للعالم حدوثاً زمانيّاً وراء الحدوث الذاتي ، فمن أراد التبسّط فعليه المراجعة إلى كلامهم (1) ولكنّهم وإن بذلوا جهوداً كبيرة في تصوير الحدوث الزماني لكنّه لا يثبت ما ترومه المتشرّعة إذ أقصى ما يثبت بيانهم إنّ كلّ جزء من العالم مسبوق بعدم زماني بالنسبة إلى الجزء المتقدّم ، وهو ليس موضع بحث ونقاش وإنّما البحث في اثبات الحدوث لجملة العالم.

ثمّ إنّ لبعض المحقّقين ممّن عاصرناه كلاماً في المقام لا يخلو من فائدة ، فنأتي به برمته ، قال :

« اعلم انّ الذي يظهر لي في هذا المقام العويص ، هو أن يقال : إنّ المراد من العالم ( بمعنى ما سوى اللّه ) إمّا يكون هو هذا العالم المشهود لنا من السماء والسماويّات والعنصر والعنصريّات ، وإمّا يكون مطلق ما سوى اللّه ممّا يتصوّر من عالم مادي أو مجرّد ، فالأوّل أعني هذا العالم المحسوس ، فالحق انّه ليس على قدمه دليل ، ولا في القول بحدوثه محذور بل هو حادث زماني أعني مسبوقاً بالعدم

ص: 93


1- الاسفار ج 6 ص 368.

الزماني العرضي ، ويكون وعاء عدمه زماناً منتزعاً من عالم قبله وهو أي العالم الذي قبله أيضاً حادث زماني مسبوق بعدمه ، الواقع في عالم ثالث قبل ذاك العالم الثاني ، وليس هذا شيء يخالفه العقل ، بل الهيئة الجديدة ناطقة بأنّ الامر كذلك ، إذ شمسنا التي تدور حولها أرضنا مع بقية الكواكب عندهم عالم من العوالم ، حادث ، مسبوق بعدم واقعي ، قد انقضى الأكثر من عمره وما بقي منه إلاّ صبابة كصبابة الاناء ، وهو مع جميع توابعه مسبوق بعدم واقعي متأخّر عن عالم متألّف من شمس اُخرى مع ما حولها من كواكبها ، وهكذا كلّ كوكب من الثوابت شمس وكم انقضى منها وكم لم يوجد بعد ، وكم من موجود منها لم نشاهده ذلك تقدير العزيز الحكيم.

هذا بالقياس إلى حكم العقل ولم يثبت في الشرع ما يدل على خلافه بل لعل فيه ما يدل على وفاقه من انّ قبل هذا الخلق خلق ، وقبل هذا العالم عوالم إلى ثلاثين ألف ، الكاشف عن كثرتها (1) وقول الحكماء بانحصار العالم المحسوس في هذا العالم من فلك الأفلاك إلى الأرض وقدم أفلاكه مادّة وصورة وأعراضاً حتى بالنسبة إلى أصل الحركة وأصل الوضع إلاّ في جزئيات الحركة والوضع ، قول محض لا شاهد عليه إلاّ حدسيات أبطلتها الهيئة الجديدة.

والثاني أعني مطلق العوالم وجملة ما سواه ، فالحق انّ حدوثه بهذا المعنى شيء لم يتّفق عليه الملّيون ولم يثبت له الحدوث بهذا المعنى في شرعنا المقدّس كيف وقد عرفت ورود ما يدل على وجود العوالم قبل عالمنا وكذا بعد خرابه ، وهو الموافق مع الحكمة ويطابقه العقل الصريح ويلائم مع كونه تعالى دائم الفضل على البريّة وباسط اليدين بالعطية ولا امساك له عن الفيض ، وعلى هذا فيمكن أن يكون

ص: 94


1- قال أبو جعفر الباقر علیه السلام : ولعلّك ترى أنّ اللّه تعالى إنّما خلق هذا العالم الواحد ، وترى أنّ اللّه تعالى لم يخلق بشراً غيركم بلى واللّه لقدخلق اللّه تعالى الف الف عالم ، وألف ألف آدم ، أنت في آخر تلك العوالم واُولئك الاُمّيين. قال الحكيم السبزواري بعد نقل الحديث : والمراد من العدد الكثرة. « شرح الأسماء الحسنى ص 240 ».

النزاع في حدوث العالم وقدمه لفظيّاً الاّ على قول الحكماء بقدم هذا العالم من أفلاكه وفلكياته وعناصره البسيطه حيث إنّ النزاع في قدمه وحدوثه معنوي كما لا يخفى.

وأمّا بالنسبة إلى ما سوى هذا العالم فالحكماء ينكرون أصل وجوده ، ويزعمون انحصار العالم في عالمنا ، ولو كان له وجود قبل عالمنا فلا محالة يكون عالمنا حادثاً بالحدوث الزماني المسبوق بالعدم الواقعي ، كما أنّ الاعتراف بوجود العقول وعالم الجبروت يساوق الاعتراف بوجود الممكن القديم بالزمان كما لا يخفى (1).

15 - تكلّمه وكلامه سبحانه

قد تعرّفت على أنّ صفة التكلّم ممّا وقع فيه الكلام وأنّه هل هو صفة فعل أو صفة ذات ، وقد أثارت هذه المسألة في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث ضجّة كبيرة بين المسلمين ، وأوجدت محنة في التاريخ سمّيت بمحنة أحمد ، وقد بالغت شيعة أحمد كإبن الجوزي في مناقبه في تحرير هذه المحنة وتحليلها فجاء بقصص وروايات لم يروها غيره وجعل منه بطلاً دينيّاً ، مجاهداً من أجل عقيدته وآرائه. وعلى كلّ تقدير فنحن نبحث عنها على ضوء البرهان وهدى الكتاب والسنّة.

أجمع المسلون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّّماً وقد شغلت هذه المسألة بال العلماء والمفكّرين في العصور المتقدّمة ووقع الجدال في موضعين :

الأوّل : ما هو المراد من هذا الوصف ؟

الثاني : هل كلامه ( القرآن ) حادث أو قديم ؟

ص: 95


1- درر الفوائد : للمحقق الشيخ محمد تقي الآملي قدس سره ج 1 ص 272 - 274.

وقبل البحث في كلا الأمرين نقدّم النصوص القرآنية التي تضافرت الآيات على توصيفه به ، قال تعالى : ( مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ ) ( البقرة / 253 ).

وقال تعالى : ( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) ( النساء / 164 ).

وقال سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) ( الأعراف / 143 ).

وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الشورى / 51 ).

وقد بيّن تعالى انّ تكليمه الأنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية :

1 - وحياً.

2 - من وراء حجاب.

3 - يرسل رسولاً.

فقد أشار بقوله : « إلاّ وحياً » إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة وخفاء كما أشار بقوله : « أو من وراء حجاب » إلى الكلام المسموع لموسى علیه السلام في البقعة المباركة قال تعالى : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( القصص / 30 ).

وأشار بقوله سبحانه : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) إلى الإلقاء الذي يتوسّط فيه ملك الوحي.

قال سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / 192 - 194 ).

ففي الحقيقة « الموحي » هو اللّه سبحانه وهو تارة يوحي بلا واسطة عن طريق الالقاء في الروع ، أو عن طريق التكلّم من وراء حجاب بحيث يسمع الصوت ولا يرى

ص: 96

الموحي واُخرى بواسطة الرسول ، فهذه الأقسام الثلاثة هي الواردة في الآية المباركة.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّه اختلفت كلمة المتكلّمين والحكماء في حقيقة كلامه إلى نظريات : 1 - نظرية المعتزلة

قالت المعتزلة كلامه تعالى أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي. قال القاضي عبد الجبار :

« حقيقة الكلام : الحروف المنظومة والأصوات المقطعة وهذا كما يكون منعماً بنعمة توجد في غيره ، ورازقاً برزق يوجد في غيره ، فهكذا يكون متكلّما بايجاد الكلام في غيره وليس من شرط الفاعل أن يحلّ عليه فعلاً (1).

والظاهر أنّ كونه سبحانه متكلّما بهذا المعنى لا خلاف فيه إنّما الكلام في حصر التكلّم في هذا المعنى. قال السيد الشريف :

« هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره بل نحن نقوله ونسمّيه كلاماً لفظياً ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى ولكن نثبت أمرا وراء ذلك » (2).

ونزيد في الملاحظة : انّ تفسير كلامه سبحانه بايجاد الحروف والأصوات في الأشياء أو الالقاء في الروع إنّما يصحّ في ما إذا كان لكلامه سبحانه مخاطباً معيّناً كما في تكليمه الأنبياء وغيرهم كاُمّ موسى قال سبحانه :

( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ) ( القصص / 7 ).

ص: 97


1- شرح الاُصول الخمسة ص 528 ، وشرح المواقف ج 8 ، ص 495.
2- شرح المواقف ج 8 ص 93.

وقال سبحانه : ( فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ) ( مريم / 24 و 25 ).

وأمّا إذا لم يكن هناك مخاطب خاص لجهة الخطاب فلابد أن يكون كلامه سبحانه على وجه الاطلاق معنى آخر سنذكره فيما بعد. 2 - نظريّة الحكماء

لا شك انّ الكلام في انظار عامّة الناس هو الحروف والأصوات الصادرة من المتكلّم القائمة به ، وهو يحصل من تموّج الهواء واهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج غاب الكلام عنه ، ولكن الإنسان الاجتماعي يتوسّع في اطلاقه فيطلقه على الخطبة المنقولة أو الشعر المروي عن شخص ، ويقول هذا كلام النبي صلی اللّه علیه و آله أو شعر اُمرئ القيس مع أنّ كلامهما قد زالا بزوال الموجات والاهتزازات ، وما هذا إلاّ من باب التوسّع في الاطلاق ومشاهدة ترتّب الأثر على المرويّ والمنقول وعلى هذا يتوسّع بأزيد من هذا ، فكلّ فعل من المتكلّم أفاد نفس الأثر الذي يفيده كلامه اللفظي يسمّيه كلاماً لاشتراكهما في ابراز ما يضمره المتكلّم في قرارة ذهنه من المعاني والحقائق ، وبذلك تكون اللوحة الفنيّة كلاماً لرسّامها حتى انّ البناء الشامخ كلام يعرب عن نبوغ البنّاء والمعمار والمهندس ، فلأجل ذلك نرى انّه سبحانه يصف عيسى بن مريم بأنّه كلمة اللّه ألقاها إلى مريم العذراء فيقول : ( يَا أهل الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) ( النساء / 171 ).

وكيف لا يكون سيّدنا المسيح كلمة اللّه مع أنّه كاشف عن قدرته العظيمة على خلق الإنسان في الرحم من دون لقاح بين اُنثى وذكر ، ولأجل ذلك عدّ وجوده آية ومعجزة.

وفي ضوء هذا البيان يظهر وجه عدّ جميع ما في الكون كلمات اللّه سبحانه ،

ص: 98

قال :

( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) ( الكهف / 109 ).

ويقول سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( لقمان / 27 ).

فكلّ ما في صحيفة الكون من الموجودات الإمكانية كلامه وتخبر عمّا في المبدأ من كمال وجمال وعلم وقدرة ، وبذلك يكون العالم بموجوداته الكتاب التكويني.

وقال علي علیه السلام :

« يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات ، يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفّظ ، ويريد ولا يضمر ، يحب ويرضى من غير رقّة ، ويبغض ويغضب من غير مشقّة يقول لمن أراد كونه ، « كن » فيكون ، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً » (1).

وعلى هذين المعنيين فالتكلّم من صفات فعله سبحانه لا من صفات الذات نعم ، حاولت الأشاعرة أن تجعل كلامه سبحانه صفة ذاته وجاءت بنظرية معقدة غير واضحة سمّتها بالكلام النفسي ، وإليك بيانها : 3 - نظرية الأشاعرة

ذهبت الأشاعرة إلى كون التكلّم من صفات الذات بالقول بالكلام النفسي

ص: 99


1- نهج البلاغة : الخطبة 184.

القائم بذات المتكلّّم ، وهذه النظرية مع اشتهارها من الشيخ أبي الحسن الأشعري لم نجدها في « الإبانة » و « اللمع » وإنّما ركّز فيهما على البحث عن المسألة الثانية ، وهو كون كلامه حادثاً أو قديماً ، ولكن أتباعه المتأخّرين نقلوها عنه. قال « الشهرستاني » :

« وصار أبو الحسن الأشعري إلى أنّ للكلام معنى قائماً بالنفس الإنسانية وبذات المتكلّم وليس بحروف ولا أصوات وإنّما هو القول الذي يجده القائل في نفسه ويجيله في خلده » (1).

وقال الآمدي :

« ذهب أهل الحق من الإسلاميين إلى كون الباري تعالى متكلّما بكلام قديم أزلي نفساني أحدي الذات ، ليس بحروف ولا أصوات ، وهو مع ذلك مغاير للعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات » (2).

وقال « الايجي » بعد نقل نظرية المعتزلة :

« وهذا لا ننكره لكنّا نثبت أمراً وراء ذلك ، وهو المعنى القائم بالنفس ونزعم انّه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام بل قد يدلّ عليه بالإشارة والكتابة ... إلى أن قال : « .... وهو غير العلم » (3).

وقد حارت العقول في فهم المقصود من الكلام النفسي ، ولأجل ذلك قام رجال من الأشاعرة بتبيينه. فأوضحه « الشهرستاني » بقوله :

« العاقل إذا راجع نفسه وطالع ذهنه وجد من نفسه كلاماً وقولاً يجول في قلبه تارة اخباراً عن اُمور رآها على هيئة وجودها أو سمعها من مبتدئها إلى منتهاها على وفق ثبوتها ، وتارة حديثاً مع نفسه بأمر ونهي ووعد ووعيد لأشخاص على تقدير

ص: 100


1- نهاية الاقدام : ص 320.
2- غاية المرام : ص 88.
3- المواقف : ص 294.

وجودهم ومشاهدتهم ، ثمّ يعبّر عن تلك الأحاديث وقت المشاهدة ، وتارة نطقاً عقليّاً إمّا بجزم القول : إنّ الحق والصدق كذا ، وإمّا بترديد الفكر انّه هل يجوز أن يكون الشيء كذا أو يستحيل أو يجب إلى غير ذلك من الأفكار حتى انّ كلّ صانع ، يُحدِّث نفسه أوّلاً بالغرض الذي توجهت إليه صنعته ، ثم تنطق نفسه في حالة الفعل محادثةً مع الآلات والأدوات والمواد والعناصر ، ومن أنكر أمثال هذه المعاني فقد جحد الضرورة » (1).

وقال الفاضل القوشجي :

« إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو اخبار أو استخبار أو غير ذلك يجد في نفسه معاني يعبّر عنها يسمّيها بالكلام الحسّي ، والمعنى الذي يجده في نفسه ويدور في خلده ، ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات ، ويقصد المتكلّم حصوله في نفس السامع على موجبه هو الذي نسميه الكلام النفسي » (2).

يلاحظ عليه : أنّه لو كان المراد من المعنى النفسي هو المعاني المنتظمة في خلد المتكلّم ، التي لا تختلف حسب اختلاف الألفاظ والتعبيرات فهو إمّا معاني مفردة أو معاني مركبة.

وعلى كلا التقديرين فهما من أقسام العلم التصوّري أو التصديقي وليستا خارجتين عنه مع أنّ المدّعى كون التكلّم وصفاً مغايراً للعلم كما أنّ المعنى الموجود في الذهن في الانشائيات هو الإرادة والكراهة المبرزتين بالأمر والنهي وليست شيئاً ورائهما مع أنّ المدّعي انّ الكلام النفسي غير الإرادة والانشاء.

ولقد أنصف القاضي الايجي حيث أوعز إلى انّ هذا البيان لا يتم إلاّ إذا ثبت أنّ

ص: 101


1- نهاية الاقدام : ص 231 ، ولكلامه ذيل فراجع.
2- شرح التجريد للقوشجي : ص 420.

تلك المعاني التي تدور في النفس غير العلم والإرادة (1).

ثمّ إنّ للأشاعرة دلائل خاصّة في اثبات الكلام النفسي ، وإنّ هناك معاني في النفس وهو غير العلم والإرادة والكراهة كلّّها فاسدة ، وقد أوضحنا حالها في بعض موسوعاتنا الكلاميّة (2). هذا كلّه حول حقيقة كلامه. بقي البحث عن حدوثه وقدمه فنحن في غنى عن هذا البحث بعد ثبوت كونه من صفاته الفعلية ومن المعلوم أنّ فعله سبحانه غيره ، وكلّ ما هو غيره مخلوق ، حادث غير قديم. نعم يجب علينا أن نجتنب عن توصيف القرآن بكونه مخلوقاً ونقول مكان كونه مخلوقاً « محدثاً » وذلك لئلاّ يفسّر بكونه « مختلقاً » ومصنوعاً للبشر قال سبحانه حاكياً عن المشركين : ( إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ) ( المدثّر / 25 ).

ولأجل ذلك قال الإمام الرضا علیه السلام عند السؤال عن القرآن :

« كلام اللّه لا تتجاوزوه ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوه » (3).

ونقل سليمان بن جعفر الجعفري انّه سأل موسى بن جعفر علیه السلام عن القرآن وانّه مخلوق أو غير مخلوق ؟ فقال : « إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون ، ولكنّي أقول : إنّه كلام اللّه » (4).

ترى أنّ الإمام علیه السلام يبتعد عن الخوض في تلك المسألة لما رأى أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام ، وأنّ الإكتفاء بأنّه كلام اللّه أحسم لمادّة الخلاف ، ولكنّهم علیهم السلام عند ما أحسّوا بسلامة الموقف ، وهدوء الأجواء أدلوا برأيهم في الموضوع ، وصرّحوا بأنّ الخالق هو اللّه وغيره مخلوق والقرآن ليس

ص: 102


1- المواقف : ص 294.
2- لاحظ « بحوث في الملل والنحل » ص 271 - 278 ، والالهيات ص 197 - 204.
3- التوحيد للصدوق باب « القرآن ما هو ؟ » ص 223 الحديث 2.
4- نفس المصدر : ص 224 الحديث 5.

نفسه سبحانه ، وإلاّ يلزم اتّحاد المُنزِل والمُنزَل ، فهو غيره ، فيكون لا محالة مخلوقاً.

فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ، قال : كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا علیهم السلام إلى بعض شيعته ببغداد :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم ، عصمنا اللّه وإيّاك من الفتنة ، فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة ، وإن لا يفعل فهي الهلكة ، نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ اللّه عزّ وجلّ وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام اللّه ، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين ، جعلنا اللّه وإيّاك من الذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون » (1).

وفي الروايات المرويّة اشارة إلى المحنة التي نقلها المؤرّخون فقد كان أحمد بن أبي دؤاد كتب في عصر المأمون إلى الولاة في العواصم الإسلامية أي يختبروا الفقهاء والمحدّثين في مسألة خلق القرآن وفرض عليهم أن يعاقبوا كلّ من لا يرى رأي المعتزلة في هذه المسألة ، وجاء المعتصم والواثق فطبّقا سيرة المأمون وسياسته مع خصوم المعتزلة وبلغت المحنة أشدّها على المحدّثين ، ولمّا جاء المتوكّل نصر مذهب الحنابلة وأقصى المعتزلة وأحاطت المحنة باُولئك الذين كانوا بالأمس القريب يفرضون آراءهم بالقهر والقوّة.

باللّه عليك هل يمكن عدّ مثل هذا الجدال إسلاميّاً ، وقرآنيّاً وبذلك تقف على أنّه لماذا كتب الإمام الهادي إلى بعض شيعته ببغداد : « عصمنا اللّه وإيّاك من الفتنة ... ».

قال المفيد : « إنّ كلام اللّه محدث وبذلك جاءت الآثار عن آل محمد علیهم السلام وعليه اجماع الإماميّة والمعتزلة بأسرها والمرجئة إلاّ من شذّ عنها وجماعة من أهل الحديث وأكثر الزيدية والخوارج. وأقول : إنّ القرآن كلام

ص: 103


1- توحيد الصدوق ، باب القرآن ما هو ، الأحاديث : 2 و 3 و 4 و 5.

اللّه ووحيه ، وانّه محدث كما وصفه تعالى واَمْنعُ من إطلاقِ القول عليه بأنّه مخلوق ، وبهذا جاءت الآثار عن الصادقين وعليه كافة الإمامية إلاّ من شذّ منهم ، وهو قول جمهور البغداديين من المعتزلة وكثير من المرجئة وأصحاب الحديث » (1).

* * *

إلى هنا تمّ الكلام حول الصفتين : الإرادة والتكلّم وتعرّفت على أنّ الاُولى من الذات على معنى ومن صفات الفعل على معنى آخر ، كما أنّ الثاني من صفات فعله على الاطلاق.

ص: 104


1- أوائل المقالات : ص 18 - 19.

16 - اسماؤه في القرآن والسنّة

اشارة

قد ورد في القرآن الكريم مائة واثنان وثلاثون اسماً لله سبحانه بين بسيط ومركّب ، وروى الفريقان عن النبي أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً ( مائة إلاّ واحدة ) من أحصاها دخل الجنّة (1). والمراد من احصائها هو الوقوف على معانيها أو التمثّل والتشبّه بها مهما أمكن.

ويحتمل أن يكون المراد الاجتهاد في التقاطها من الكتاب والسنّة ، وجمعها وحفظها ، كما يحتمل أن يكون المراد عدّها والتلفّظ بها وفي القاموس : « أحصاه : عدّه أو حفظه أو عقله ».

فلنقدّم أسماءه سبحانه في الكتاب العزيز ثمّ نردفه بما ورد عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام حول تسعة وتسعين اسماً ، ثمّ نذكر ما رواه أهل السنّة ونعتمد في ذلك على رواية الترمذي التي هي السند لكثير من الحفّاظ في هذا المقام.

أسماؤه في القرآن

ورد في القرآن الكريم مائة واثنان وثلاثون اسما لله تعالى وإليك بيانها على الترتيب :

« الإله ، الأحد ، الأوّل ، الآخر ، الأعلى ، الأكرم ، الأعلم ، أرحم الراحمين ، أحكم الحاكمين ، أحسن الخالقين ، أسرع الحاسبين ، أهل التقوى ، أهل المغفرة ، الأقرب ، الأبقى ، الباري ، الباطن ، البديع ، البرّ ، البصير ، التوّاب ، الجبّار ، الجامع ، الحكيم ، الحليم ، الحي ، الحق ، الحميد ، الحسيب ، الحفيظ ، الحفيّ ، الخبير ، الخالق ، الخلاّق ، الخير ، خير الماكرين ، خيرالرازقين ، خير الفاصلين ، خير الحاكمين ، خير الفاتحين ، خير الغافرين ، خير الوارثين ، خير الراحمين ،

ص: 105


1- سيوافيك مصدر الرواية.

خير المنزلين ، خير الناصرين ، ذو العرش ، ذو الطول ، ذو انتقام ، ذو الفضل العظيم ، ذو الرحمة ، ذو القوّة ، ذوالجلال والإكرام ، ذو المعارج ، الرحمن ، الرحيم ، الرؤوف ، الرب ، رب العرش ، رفيع الدرجات ، الرازق ، الرقيب ، السميع ، السلام ، سريع الحساب ، سريع العقاب ، الشهيد ، الشاكر ، الشكور ، شديد العذاب ، شديد العقاب ، شديد المحال ، الصمد ، الظاهر ، العليم ، العزيز ، العفو ، العلي ، العظيم ، علاّم الغيوب ، عالم الغيب والشهادة ، الغني ، الغفور ، الغالب ، غافر الذنب ، الغفّار ، فالق الاصباح ، فالق الحبّ والنوى ، الفاطر ، الفتّاح ، القوي ، القدّوس ، القهّار ، القاهر ، القيّوم ، القريب ، القادر ، القدير ، قابل التوب ، القائم على كلّّ نفس بما كسبت ، الكبير ، الكريم ، الكافي ، اللطيف ، الملك ، المؤمن ، المهيمن ، المتكبّر ، المصوّر ، المجيد ، المجيب ، المبين ، المولى ، المحيط ، المقيت ، المتعال ، المحيي ، المتين ، المقتدر ، المستعان ، المبدئ ، المعيد ، مالك الملك ، النصير ، النور ، الوهّاب ، الواحد ، الولي ، الوالي ، الواسع ، الوكيل ، الودود ، الهادي.

أسماؤه في احاديث أئمّة أهل البيت علیهم السلام

روى الصدوق باسناده عن الصادق علیه السلام عن آبائه ، عن علي علیه السلام قال :

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنّه وهي : « اللّه ، الإله ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، الأوّل ، الآخر ، السميع ، البصير ، القدير ، القاهر ، العلي ، الأعلى ، الباقي ، البديع ، البارئ ، الأكرم ، الظاهر ، الباطن ، الحيّ ، الحكيم ، العليم ، الحليم ، الحفيظ ، الحق ، الحسيب ، الحميد ، الحفي ، الرب ، الرحمن ، الرحيم ، الذاري ، الرازق ، الرقيب ، الرؤوف ، الرائي ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، السيّد ، السبّوح ، الشهيد ، الصادق ، الصانع ، الطاهر ، العدل ، العفو ، الغفور ،

ص: 106

الغني ، الغياث ، الفاطر ، الفرد ، الفتّاح ، الفالق ، القديم ، الملك ، القدّوس ، القوي ، القريب ، القيّوم ، القابض ، الباسط ، قاضي الحاجات ، المجيد ، المولى ، المنّان ، المحيط ، المبين ، المقيت ، المصوّر ، الكريم ، الكبير ، الكافي ، كاشف الضر ، الوتر ، النور ، الوهّاب ، الناصر ، الواسع ، الودود ، الهادي ، الوفي ، الوكيل ، الوارث ، البر ، الباعث ، التوّاب ، الجليل ، الجواد ، الخبير ، الخالق ، خير الناصرين ، الديّان ، الشكور ، العظيم ، اللطيف ، الشافي » (1).

والمذكور في الحديث مائة اسم ، لكن الظاهر أنّ لفظة الجلالة ليست من الأسماء الحسنى ، وقد ذكر بعنوان المسمّى الجاري عليه الأسماء ، وبذلك يستقيم العدد.

أسماؤه سبحانه في أحاديث أهل السنّة

أخرج الترمذي ، وابن المنذر ، وابن حبان ، وابن مندة ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ لله تسعة وتسعين اسما مائة إلاّ واحد ، من أحصاها دخل الجّنة ، إنّه وتريحب الوتر : هو اللّه الذي لا إله إلاّ هو الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الغفّار ، القهّار ، الوهّاب ، الرازق ، الفتّاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ،

ص: 107


1- التوحيد للصدوق : ص 194 ج 8.

الماجد ، الواحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأوّل ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التوّاب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالكالملك ، ذوالجلال والاكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور » (1).

ونحن امتثالاً لأمر النبي الأكرم ، نرجع إلى احصاء الأسماء التي وردت في القرآن الكريم ، ولو سمح الوقت نرجع إلى احصاء ما ورد في حديث أئمّة أهل البيت علیه السلام لعلّ اللّه يرزقنا الجنّة حسب وعد نبيّه الأعظم صلی اللّه علیه و آله .

تمّ البحث عن الاُمور التي كان طبع البحث يقتضي ايرادها وهي خمسة عشر أمراً. ومن هنا ندخل في صلب البحث وهو تفسير أسماءه الواردة في الذكر الحكيم على حسب الحروف الهجائيّه إلاّ ما شذّ.

ص: 108


1- صحيح الترمذي ج 5 باب الدعوات ، ص 530 الحديث 507.

تفسير أسمائه الواردة في القرآن الكريم

اشارة

قد عرفت أنّه ورد في الذكر الحكيم مائة وخمسة وثلاثون اسماً له سبحانه فعلينا البحث عن معانيها ، وما تهدف إليها تلك الأسماء ، نذكرها مع تفسيرها على ترتيب الحروف الهجائيّة إلاّ إذا اقتضى المقام الجمع بين الاسمين فنفسّرهما معاً من غير مراعاة الترتيب.

والتفسير الصحيح يعتمد على أمرين :

1 - تحديد معناه اللغويّ تحديداً معتمداً على المعاجم الموثوق بها.

2 - عرض الاسماء بعضها على بعض ، والامعان في القرائن الواردة في الآيات .

وإليك البحث واحداً بعد آخر.

حرف الالف

الأوّل : الإله
اشارة

قد جاء لفظ الجلالة ( اللّه ) في الذكر الحكيم 980 مرّة كما جاء لفظ الإله بصوره المختلفة ( إله ، إلها ، الهك ، إلهكم ، وإلهنا ) 147 مرّة والاسهاب في البحث يقتضي الكلام في المواضع التالية :

1 - لفظ الجلالة عربي أو عبري ؟

قد نقل عن أبي زيد البلخي : إنّ لفظ الجلالة ليس بعربي بل عبري أخذه العرب عن اليهود ، واستدل عليه بأنّ اليهود يقولون : « إلاها » والعرب حذفت المدة

ص: 109

التي كانت موجودة في آخرها في العبرية ككثير من نظائرها العبرية فتقول « أب » بدل « أباه » و « روح » بدل « روحا » و « نور » بدل « نورا » إلى غير ذلك.

وذهب الباقون إلى أنّها عربية صحيحة وقد كانت العرب تستعمل تلك اللفظة قبل بعثة النبي بقرون ، ولا تشذّ عن سائر الاُمم ، فإنّ لكلّّ اُمّة على أديم الأرض لفظاً خاصّاً لخالق العالم وبارئه ومدبّره ، فالفرس عندهم « خدا » و « ايزد » كما أنّ للترك « تاري » ومن البعيد أن لا يكون عند العرب المعروفين بالبيان والخطابة لفظ يعبّرون به عمّا تهديهم فطرتهم إليه وتدلّهم عليه قال سبحانه : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) ( لقمان / 25 - الزمر / 38 ).

واشتراك الشعبين في التعبير عن مبدأ العالم لا يدل على أنّ العرب أخذت من اليهود خصوصاً إذا قلنا بأنّ اللسانين يرجعان إلى اُصول ومواد واحدة ، وإنّما طرأ عليهما الاختلاف لعلل وظروف إجتماعية وغيرها والكلّّ من العنصر « السامي ».

2 - لفظ الجلالة مشتقّ أو لا ؟

اختلفوا في انّ لفظ الجلالة مشتق من اسم آخر أو لا ؟ بعد ما اتّفقوا على انّ ما سوى هذه اللفظة من أسمائه سبحانه من باب الصفات المشتقة ، أمّا هذه اللفظة فقد نقل عن « الخليل » و « سيبويه » و « المبرّد » أنّها غير مشتقة وجمهور المعتزلة وكثير من الاُدباء على أنّها من الأسماء المشتقة.

ثمّ القائلين بالاشتقاق اختلفوا في المعنى المشتق منه إلى أقوال كثيرة يطول المقام بذكرها وذكر حججها وإنّما نشير إليها إجمالا :

أ - إنّ لفظ الجلالة مشتق من الاُلوهية بمعنى العبادة ، والتألّه : التعبّد ، وهذا هو المعروف بين كثير من المحدّثين والمفسّرين ، ويظهر من روايات بعض أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

ص: 110

روى الكليني عن هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن أسماء اللّه واشتقاقها :

اللّه ممّا هو مشتق ؟ قال : فقال لي : « يا هشام ، اللّه مشتق من إله ، والاله يقتضي مألوهاً والاسم غير المسمّى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا » (1).

وقال الصدوق : اللّه والإله هو المستحق للعبادة ولا يحق العبادة إلاّ له ، وتقول لم يزل إلهاً بمعنى أنّه يحق له العبادة ولهذا ضلّ المشركون فقدّروا أنّ العبادة تجب للأصنام سمّوها الالهة وأصله « الإلاهة » وهي العبادة (2).

ب - إنّه مشتق من « الوله » وهو التحيّر.

ج - إنّه مشتق من قولهم ألهت إلى أي فزعت إليه لأنّ الخلق يألهون إليه أي يفزعون إليه في حوائجهم.

د - إنّه مشتق من ألهت إليه سكنت إليه لأنّ الخلق يسكنون إلى ذكره.

ه - إنّه من « لاه » أي احتجب فمعناه انّه المحتجب بالكيفيّة عن الأوهام (3).

و - إنّه مشتق من الوله : المحبة الشديدة ، فاُبدلت الواو همزة فقالوا : أله يأله.

ز - إنّه مشتق من لاه يلوه إذا ارتفع ، والحق سبحانه مرتفع بالمكان أو بالمقام.

ح - إنّه مشتق من قولك ألهت بالمكان إذا أقمت فيه ، فإنّه تعالى استحق هذا الاسم لدوام وجوده (4).

ص: 111


1- الكافي - كتاب التوحيد - : باب المعبود ، ص 87 ، ورواه الصدوق في كتاب التوحيد باب أسماء اللّه الحديث 13.
2- التوحيد للصدوق باب أسماء اللّه تعالى في ذيل الحديث رقم 9 ، ثم ترك سائر الوجوه الاتية.
3- مجمع البيان ج 1 ص 16 طبع صيدا.
4- لوامع البينات للرازي : ص 106 - 120 ، فقد أسهب الكلام في ذكر الأقوال وحججها ونقدها.

وعلى كلّ تقدير فاللّه أصله « إله » فحذفت همزته وادخل عليه الألف واللام وادغمت اللامان فصار « اللّه » وخص بالباري تعالى ، قال تعالى ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) ( مريم / 65 ) (1).

والظاهر انّ القائلين بالاشتقاق والمنكرين له لا يختلفون في أنّه علم لذاته سبحانه وإنّما يختلفون في أنّ التسمية هل كانت ارتجالية وانّه لم تلاحظ في مقام التسمية أية مناسبة بين المعنيين أو كانت غير ارتجالية ، وقد نقل عن المعنى اللغوي إلى المعنى العلمي لمناسبة موجودة بينهما ، فالقائلون بالاشتقاق على الأوّل والمنكرون له على الثاني.

هذا هو لبّ النزاع في المقام.

والعجب انّ الرازي توهّم انّ النزاع في اشتقاقه وعدمه راجع إلى أنّ لفظ الجلالة علم أو لا ؟ فحسب أنّ القول بالاشتقاق ينافي العلمية ثمّ استدل على نفيه بأنّه لو كان مشتقاً لما كان قولنا « لا اله إلاّ اللّه » تصريحاً بالتوحيد لأنّه حينئذ مفهوم كلّّي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فلو كان مشتقاً لكان كلّّياً ، ولو كان كذلك لم يكن قولنا « لا إله إلاّ اللّه » مانعاً من وقوع الشركه (2).

يلاحظ عليه : أنّه لا مانع من كون لفظ الجلالة مشتقاً من « أله » بأيّ معنى تصوّر ثم يكون علماً للذات بالمناسبة الموجودة بين المنقول منه والمنقول إليه شأن كلّ الأعلام المشتقة وسيأتي تمام الكلام في البحث الرابع.

3 - « اللّهمّ » مكان « اللّه »

وقد يعبر عن لفظ الجلالة ب « اللّهمّ » قال سبحانه : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ

ص: 112


1- مفردات الراغب : مادّة « إله ».
2- لوامع البينات : ص 108 ، وقس على ذلك سائر ما استدلّ به.

تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ ) ( آل عمران / 26 ) ، وحكى سبحانه عن بعض الكافرين قولهم : ( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ ) ( الأنفال / 32 ) وقد اختلفوا في تفسيره عن « الخليل » وتلميذه « سيبويه » : معناه يا اللّه والميم المشدّده عوض من ياء النداء وعن « الفرّاء » إنّه كان « يا اللّه آمنّا بخير » فلمّا كثر في الكلام حذفوا حرف النداء وحذفوا الهمزة من أمّ فصار « اللّهمّ » بل حذفوا ضمير المتكلّّم مع الغير أيضاً في « آمنّا ».

4 - ما هو المقصود من « الإله » في الذكر الحكيم

قد عرفت وجود الاختلاف في اشتقاق لفظ الجلالة من لفظة « إله » وعدمه كما عرفت اختلاف القائلين بالاشتقاق في المعنى الذي اشتق منه ذلك اللفظ وجعله علماً للذات. هذا وعلى كلّّّ تقدير فلا يتبادر من لفظ الجلالة إلاّ الذات المستجمع لصفات الجمال والجلال ، فهو علم بلا اشكال يعادله ما في سائر لغات العالم ممّا يستعمل في ذلك المجال.

غير أنّه يجب أن يعلم انّ لفظ الجلالة ولفظ « الإله » كانا لا يفهم منهما في عصر نزول القران إلاّ الخالق البارئ للعالم ، وأمّا ما ذكر من المعاني للاله والوجوه المختلفة لاشتقاق لفظ الجلالة منه ، فكلّّها يرجع - على فرض الصحّة - إلى ما قبل عصر نزول القرآن ، فلعلّه كان يفهم من لفظ « إله » العبادة ، والتحيّر ، والعلو ، والسكون ، والفزع ، أو كان يفهم من لفظ الجلالة الذات الواجدة لاحدى هذه المعاني ، وأمّا في عصر نزول القرآن فلم تكن هذه المعاني مطروحة لأهل اللّغة أبداً لا في لفظ الجلالة ولا في لفظ « الإله » وإنّما المفهوم منهما ما تهدي إليه فطرتهم وتدل عليه عقولهم من البارئ الخالق المدبّر للعالم الذي بيده ناصية كلّ شيء أو ناصية الإنسان على الأقل.سواء كان إلها واقعيّاً أو إلهاً مختلقاً لا يملك من الاُلوهية سوى الاسم كالأصنام المعبودة للعرب وغيرهم.

ص: 113

فالكلمتان : « اللّه وإله » لفظان متّحدان معنى غير أنّ أحدهما علم يدل على فرد خاص والآخر كلّّي يشمل ذلك الفرد وغيره ، وبما أنّ اللغة العربيّة تتمتع بالسعة والعموم وضعوا لفظين يشيرون بواحد منه إلى الفرد وبالآخر إلى الكلّّي الجامع له ولغيره ، فالاسم العام هو الإله والاسم الخاص هو اللّه.

وأمّا سائر اللغات فالغالب عليها هو اتحاد اللفظ الموضوع للمعنى الكلّّي والمعنى العلمي فيتوسّلون لتعيين المراد منه بالعلامة والقرينة. مثلاً يكتبون في اللغة الانكليزية لفظة « گاد » بصورة « god » عند ما يراد منه المعنى الكلّّي وبصورة « God » عند ما يراد منه المعنى العلمي ، وبهذا يشيرون إلى المعنى المقصود وأمّا اللغات الفارسية والتركية والارديّة فالمكتوب والملفوظ في المقامين واحد ، وإنّما يعلم المراد بالقرائن الحافّة بالكلام.

والحاصل : انّ المعاني المذكورة للفظ « إله » أو المناسبات المتصورة لاشتقاق لفظ الجلالة من مادة « اله » لو صحّ فإنّما يصحّ في الأدوار السابقة على نزول القرآن ، وأمّا بقاء تلك المناسبات إلى زمان نزول القرآن وادعاء ان القرآن استعملها بملاحظة احدى هذه المعاني والمناسبات فأمر لا دليل عليه.

على أنّ لقائل أن يقول : إنّ هذه المعاني من لوازم معنى الإله وآثاره وليست من الموضوع له بشيء فإنّ من اتّخذ أحداً « إلهاً » لنفسه فهو يعبده قهراً ويفزع إليه عند الشدائد ، ويسكن قلبه عنده إلى غير ذلك من لوازم صفة الاُلوهيّة وآثارها.

هذا هو المدّعى والذي يثبت ذلك وجود لفيف من الآيات ورد فيها لفظ الاله ولا يصحّ تفسيره إلاّ بما ذكرنا أي كون المقصود منه هو الخالق البارئ لكن بشرط العموم والكلّّية ، لا بسائر المعاني المذكورة ، أو بمعنى المتصرف المدبّر ، أو من بيده أزمّة الاُمور أو ما يقرب من ذلك ممّا يعد فعلاً له تعالى وإليك الآيات :

1 - ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا ) ( الأنبياء / 22 ) فإنّ البرهان على نفي تعدد الآلهة لا يتم إلاّ إذا جعلنا « الإله » في الآية بمعنى المتصرّف المدبّر أو من بيده

ص: 114

أزمّة الاُمور أو ما يقرب من هذين. ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، لبداهة تعدد المعبودين في هذا العالم ، مع عدم الفساد في النظام الكوني ، وقدكانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحم بالآلهة ، ومركزها مع كون العالم منتظماً غير فاسد.

وعندئذ يجب على من يجعل « الاله » بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ « بالحق » أي لو كان فيهما معبودات - بالحق - لفسدتا ولما كان المعبود بالحق مدبّراً ومتصرفاً لزم من تعدّده فساد النظام ، وهذا كلّّه تكلّّف لا مبرر له.

2 - ( مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) ( المؤمنون / 91 ).

ويتم هذا البرهان أيضاً لو فسّرنا الإله بما ذكرنا من انّه كلّّيّ ما يُطلق عليه لفظ الجلالة. وإن شئت قلت : إنّه كناية عن الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من يقوم بأفعاله وشؤونه ، والمناسب في هذا المقام هو الخالق ، ويلزم من تعدّده ما رتب عليه في الآية من ذهاب كلّّّ إله بما خلق واعتلاء بعضهم على بعض.

ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، ولا يلزم من تعدّده أي اختلال في الكون. وأدل دليل على ذلك هو المشاهدة. فإنّ في العالم آلهة متعدّدة ، وقد كان في أطراف الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستون إلهاً ولم يقع أي فساد واختلال في الكون.

فيلزم على من يفسّر « إله » بالمعبود ارتكاب التكلّّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

3 - ( قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ) ( الاسراء / 42 ) فانّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدّد الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من بيده أزمّة اُمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى الالوهيّة ، وأمّا تعدد المعبود فلا يلازم ذلك إلاّ بالتكليف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

ص: 115

4 - ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا ) ( الأنبياء / 98 و 99 ) والاية تستدل بورود الأصنام والأوثان في النار على كونها غير آلهة إذ لو كانت آلهة ما وردت النار.

والاستدلال إنّما يتم لو فسّرنا الآلهة بما أشرنا إليه فانّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرّف فيه أو من فوّض إليه أفعال اللّه أجلّ من أن يحكم عليه بالنار وأن يكون حصب جهنّم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان لأنّ المفروض انّها كانت معبودات وقد جعلت حصب جهنم. ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه وإليك مورداً منها :

( فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ ) ( الحج / 34 ).

فلو فسر الإله في الآية بالمعبود لزم الكذب ، إذ المفروض تعدّد المعبود في المجتمع البشري ، ولأجل هذا ربّما يقيّد الإله هنا بلفظ « الحق » أي المعبود الحق إله واحد. ولو فسّرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرّف وايصال النفع ، ودفع الضر على نحو الاستقلال لصحّ حصر الإله - بهذا المعنى - في واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة إذ من المعلوم أنّه لا إله في الحياة البشرية والمجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها.

ولا نريد أن نقول : إنّ لفظ الاله بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الشفيع الغافر ، إذ لا يتبادر من لفظ الإله إلاّ المعنى البسيط ، بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الموضوع له لفظ الإله ، ومعلوم أنّ كون هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط ، غير كونها معنى موضوعاً للفظ المذكور كما أنّ كونه تعالى ذات سلطة على العالم كلّه أو بعضه سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره ، وصف مشير إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ الإله ، لا أنّه نفس معناه (1).

ص: 116


1- لاحظ الجزء الأول من مفاهيم القرآن ص 440 - 442.

5 - إنّ الذكر الحكيم ربّما يستعمل لفظ الجلالة مكان الاله ، بمعنى أنّه يريد منه المعنى الكلّي والوصفي دون العلمي ، وهذا يعرب عن أنّ اللفظين متّحدان أو متقاربان في المعنى.

قال سبحانه : ( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) ( الأنعام / 3 ).

وقال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر / 23 ).

وقال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الحشر / 24 ).

وقال سبحانه : ( وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) ( النساء / 171 ).

فانّ وزان « اللّه » في هذه الآيات وزان « الإله » في قوله سبحانه :

( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) ( الزخرف / 84 ).

فقد اُريد من لفظ الجلالة في الآيات الأربع المتقدمة نفس ما أريد من لفظ الإله من المعنى الكلّي في الآية الأخيرة ومعناه انّه « الاله » الذي يتّصف بكذا وكذا وليس كذا وكذا فكأنّه اطلق لفظ الجلالة واُريد منه إله العالم وخالقه وبارئه ولم يرد منه الفرد الخارجي ولأجل ذلك عاد إلى التنبيه على أنّه واحد لا كثير وذلك ببيان صفاته الجمالية والكمالية.

6 - إنّ الذكر الحكيم يستعمل لفظ الإله في الخالق البارئ المدبّر ولا يمكن لأي مفسّر تفسيره باحدى المعاني المتقدمة ويقول : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ

ص: 117

اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ) ( القصص / 71 ).

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( القصص / 72 ).

فلفظ « الإله » في هاتين الآيتين معادل للفظ الجلالة لكن بشرط العمومية والكلّية أو إلغاء الجزئيّة والخصوصيّة ولا يستقيم البرهان الوارد فيهما إلاّ بتفسير الإله بما يعادل الخالق المدبّر لا بتفسيره بالمعبود والمحبوب إلاّ بتكلّّف والاية بصدد البرهنة على أنّه ليس في الكون مدبّر سواه ولذلك لو جعل اللّه عليكم الليل سرمداً من إله ( مدبّر ) غير اللّه يأتيكم بضياء ، ولو جعل عليكم النهار سرمداً من إله غيره سبحانه يأتيكم بليل ، فإذاً الالوهيّه ( المعادلة للخالقيّة والمدبريّة ) منحصرة فيه ، لا يشاركه فيها غيره فهو إله واحد ليس غيره.

أضف إلى ذلك انّ مقتضي كون الاستثناء متّصلاً ، دخول المستثنى منه في المستثنى دخولاً واقعياً ، وبما أنّ المراد من المستثنى هو الخالق الذي بيده مصير الإنسان والأشياء فليكن هو المراد من المستثنى منه لكن بتفاوت انّ احدهما كلّي والآخر جزئي.

وقد عرفت انّ القول بإنّ لفظ الجلالة علم للذات المستجمع لجميع صفات الجمال والكمال أو الخالق والبارئ للأشياء أو لمن بيده مصير العالم والإنسان فلايراد دخول هذه المفاهيم بالصورة التفصيليّة في معناه وإنّما هي موضوع لما تهدي إليه الفطرة أو تدل عليه العقول من سيطرة قدرةٍ على العالم لها تلك الخصوصيّات فهي من الخصوصيّات الفرديّة التي يمتاز بها عمّن سواه من الأفراد لا أنّها أجزاء للمعنى والجامع بين أفراد الإله المفروضة ، لا المحققة أمر بسيط يشار إليه بأمر من الاُمور.

ص: 118

7 - والذي يعرب بوضوح إنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو كلمة الاخلاص « لا إله إلاّ اللّه » إذ لو كان المقصود من الإله المعبود لكان هذه الجملة كذباً ، لأنّ من البديهي وجود آلاف المعبودات في هذه الدنيا غير اللّه ومع ذلك كيف يمكن نفي معبود سوى اللّه ولأجل ذلك اضطرّ القائل أن يقول « الإله » بمعنى المعبود وأن يقدّر لفظ « بحق » لتكون الجملة هكذا : « لا إله بحق إلاّ اللّه » ، مع أنّ تقدير لفظ « بحق » خلاف الظاهر فإنّ كلمة الإخلاص تهدف إلى نفي أي إله في الكون سوى « اللّه » وإنّه ليس لهذا المفهوم مصداق بتاتاً سواه ، وهذا لا ينسجم إلاّ أن يكون « الاله » مع لفظ الجلالة متّحدين في المعنى وأمّا جعل لفظ الجلالة علماً للذات وجعل الإله بمعنى المعبود أو ما يشابهه فلا يحصل منه المعنى المقصود بسهولة.

وأمّا جمعه على لفظ الآلهة مع أنّ مصداقه منحصر في فرد فلا يدلّ على أنّه بمعنى المعبود بل لأجل أنّ العرب كانت معتقدة بتعدّد مصداقه قال سبحانه : ( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا ) ( الأنبياء / 43 )

إلى هنا تبيّن أنّ المفهوم من لفظ الجلالة ولفظ الإله واحد ، وأمّا ما ذكر من المعاني من الخلق والتدبير والإحياء والإماتة وكون مصير الإنسان بيده فإنّما هو من لوازم الالوهية واقعاً أو عند المتصور.

وربما يستدل على أنّ الإله في الذكر الحكيم بمعنى المعبود وانّ أَلَهَ بمعنى عَبَدَ ، تمسكاً بقوله : ( وَقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) ( الاعراف / 127 ) حيث قرء « وإلاهتك » اي يذرك وعبادتك ولكن الإجابة عنه واضحة.

أمّا أوّلاً فلأنّ القراءة المتواترة هي « وآلهتك » أي ليذرك وآلهتك التي أنت تعبدها حيث كان فرعون يستعبد الناس ويعبد الأصنام بنفسه (1).

ص: 119


1- مجمع البيان ج 2 ص 464.

وثانياً : على فرض صحّة القراءة فالمراد منها هو الالوهية بالمعنى المتبادر في سائر الايات أي يتركوا قولاً وعملاً أنك إله وأنت ربّهم الأعلى إلى غير ذلك من العناوين المشيرة إلى معنى الإله أي ينكروا إنّك إلههم وإله العالمين.

نعم قال الراغب : و « إله » جعلوه اسماً لكلّ معبود لهم ، وكذا الذات (1) وسمّوا الشمس إلاهة لاتّخاذهم ايّاها معبوداً وأله فلان يأله عبد وقيل تألّه فالإله على هذا هو المعبود (2) وكلامه هذا قابل للتوجيه وعلى فرض ظهوره في كون الإله بمعنى المعبود فقد عرفت عدم استقامته في كثير من الايات.

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة : إنّ لفظ الجلالة علم للذات الذي نشير إليه بصفات الجمال والكمال وانّ لفظ الإله موضوع لذلك المعنى لكن بصورة الكليّة والسعة ، وأنّه يجب أن يفسّر « الإله » في جميع الآيات بهذا النحو وانّ تفسيره بالمعبود وغيره تفسير بالمعنى اللازم لا بالمعنى الموضوع له.

وهاهنا نكتة نشير إليها وهو انّ كتب الوهابيّة مليئة بتقسيم التوحيد إلى قسمين : توحيد في الربوبيّة ، وتوحيد في الالوهيّة ، ويريدون من الأوّل التوحيد في الخالقيّة ومن الثاني التوحيد في العبادة وكلا التفسيرين غير صحيح أمّا الربوبيّة فليست مرادفة للخالقيّة بل هو أمر آخر وراء الخلقة ولو أردنا أن نفسّره فليفسّر بالتوحيد في التدبير وإدارة العالم ، وأمّا الالوهية فقد عرفت أنّ الإله والالوهية ليس بمعنى العبادة وإنّما العبادة من لوازم الاعتقاد بكون الموجود إلها ، فلو أردنا أن نعبّر عن التوحيد في ذلك المجال فيجب أن نقول التوحيد في العبادة (3).

ص: 120


1- كذا في النسخة المطبوعة ويحتمل أن يكون لفظ « الذات » مصحّف « اللات ».
2- المفردات : ص 21.
3- وقد مرّ في الجزء الأوّل من كتابنا ما يفيدك في المقام ، لاحظ : ص 348.
خاتمة المطاف

وممّا يقضي منه العجب أنّ جلّ من ينسبون أنفسهم إلى مذهب السلفيّة ينكرون ذكر اللّه تعالى بالاسم المفرد ( اللّه ) دون ذكره في جملة ذات معنى تامّ ، وينسبون من يذكر اللّه باسمه المفرد وحده إلى الضلال ويستدلّون على ذلك بأنّ جميع ما ورد من صيغ الأذكار في القرآن والسنّة جمل أو كلمات ذات دلالة على معنى يتضمّن حكماً كاملاً مثل لا إله إلا اللّه ، استغفر اللّه وليس فيها لفظ الجلالة المفرد ، فذكر اللّه بهذا اللفظ المفرد باطل ، ويضيف ابن تيميّة بأنّ الاستمرار على ذكر اللّه بهذا اللفظ المفرد من شأنه أن يزجّ الذاكر شيئاً فشيئاً في أوهام الحلول ووحدة الوجود (1).

لقد عزب عنه ومضافاً إلى أنّ اطلاقات الأدلّة (2) كاف في ذلك أنّه سبحانه يأمر نبيّه أن يذكر اللّه باسمه المفرد ويقول : ( قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) ( الانعام / 91 ).

وإمّا ما ذكره به في آخر كلامه من أنّ الاستمرار على ذكر اللّه عسى أن يزجّ الرجل في أوهام الحلول شيئاً فشيئاً لا قيمة له فانّه اجتهاد تجاه النص أولاً ، وهو بنفسه موجود في سائر الأسماء ثانياً.

الثاني : الأحد

قد ورد لفظ « الأحد » بصوره المختلفة في الذكر الحكيم 74 مرّة وقد وقع وصفاً له سبحانه في موردين فقط.

ص: 121


1- مجموع الفتاوى ج 10 ص 556.
2- مثل قوله سبحانه : ( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الدهر / 25 ) ، وقوله سبحانه : ( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ) ( الأعراف / 205 ).

قال سبحانه : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

قال ابن فارس : أحد والأصل « وحد » ، وعن الزجّاج : إنّه مأخوذ من « الواحد » وقال الأزهري : أنّه يقال : وحد يوحد فهو وَحَد ، كما يقال : حسن يحسن فهو حسن ثم انقلبت الواو همزة فقالوا « أحد » ، والواو المفتوحة قد تقلب همزة كما تقلب المكسورة والمضمومة ومنها امرأة اسماء بمعنى وسماء من الوسامة.

وقد ذكروا فروقاً بين الواحد والأحد وإليك البيان :

1 - إنّ الواحد اسم لمفتتح العدد فيقال : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، ولا يقال أحد ، اثنان ، ثلاثة ، قال الصدوق : الأحد ممتنع من الدخول في الضرب والعدد والقسمة وفي شيء من الحساب ، والواحد منقاد للعدد والقسمة وغيرهما داخل في الحساب فتقول : واحد في اثنين أو ثلاثة ، و « الأحد » ممتنع عليه هذا ، فلا يقال : أحد بين اثنين (1).

2 - إنّ لفظه « أحداً » إذ وضعت في حيّز النفي تفيد عموم النفي بخلاف لفظة « الواحد » فهو منصرف إلى نفي العدد لا إلى نفي الجنس ، فلو قيل ما في الدار واحد يصحّ أن يقال بل فيها اثنان ، وامّا لو قيل ما في الدار أحد بل اثنان كان خطأ.

3 - إنّ لفظ الواحد يمكن جعله وصفاً لكلّ شيء يقال رجل واحد ، ثوب واحد بخلاف الأحد فلا يصحّ وصف شيء في جانب الاثبات بالأحد إلاّ اللّه الأحد فلا يقال رجل أحد ولا ثوب أحد فكأنّه تعالى استأثر بهذا النعت.

وأمّا في جانب النفي فقد يذكر هذا في غير اللّه تعالى أيضاً فيقال : ما رأيت أحداً وعلى هذا فالأحد والواحد كالرحمان والرحيم.

ص: 122


1- التوحيد للصدوق : ص 197 بتلخيص.

فالأوّل مختص دون الثاني ، فكذلك الأحد فهو مختص به في مقام التوصيف دون الواحد ، وقال الراغب ( من أقسام استعمالاته ) أن يستعمل مطلقاً وصفاً وليس ذلك إلاّ في وصف اللّه ( قل هو اللّه أحد ) (1).

وقد احتمل الرازي أنّ تنكير أحد في قوله « قل هو اللّه أحد » لأجل أنّه صار نعتاً لله عزّ وجلّ على الخصوص فصار معرفة فاستغنى عن التعريف.

ويحتمل أن يكون التنكير لأجل التنبيه على كمال الوحدانية كقوله سبحانه : ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ) ( البقرة / 96 ). أي على حياة كاملة مضافاً إلى استعمال الأحد في الأدعية معرفة.

قال الأزهري سئل أحمد بن يحيى عن الآحاد هل هو جمع الأحد ؟ فقال : معاذ اللّه ليس للأحد جمع ولا يبعد أن يقال الآحاد جمع واحد كما أنّ الاشهاد جمع شاهد (2).

ثمّ إنّه اجتمع في قوله سبحانه : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) ألفاظ ثلاثة من أسماء اللّه وكلّّ واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات السائرين إلى اللّه.

أمّا الأوّل أعني لفظة « هو » فقد جاء به من دون ذكر مرجع وقد زعم النحويّون غير البارعين في المعارف الإلهية انّه للشأن ولكن يمكن أن يقال : إنّه ليس للشأن وإنّما يرجع إليه سبحانه والتعبير به من دون ذكر المرجع يناسب البارعين الذين نظروا إلى صفحة الوجود فلم يروا موجوداً مستحقاً لاطلاق اسم الوجود أو الموجود إلاّ ايّاه فكأنّه ليس في الدار غيره ديّار فكان قوله « هو » كافياً في حق هذه الطائفة لأنّه إذ لم يكن في صفحة الوجود إلاّ هو كانت الإشارة المطلقة لا تتوجه إلاّ إليه وغيره يحتاج إلى مرجع.

ص: 123


1- المفردات : ص 12.
2- لوامع البينات : ص 331.

ثمّ انّه سبحانه أوضحه بقوله « اللّه » ولعلّه لتفهيم طبقة اُخرى تليهم في المعرفة وهم الذين يرون الكثرة في الوجود وانّ هناك واجباً وممكناً فاحتاج ضمير الإشارة إلى مميز وذلك هو قوله اللّه ، وعلى هذا فالمجموع « هو اللّه » راجع إلى الطبقتين.

وأمّا الطبقة الثالثة الذين يجوّزون الكثرة لا في الوجود بل في الإله ، فردّ سبحانه وهمهم بقوله « هو اللّه أحد » لهدايتهم (1).

ثم انّه سبحانه كرر لفظة « أحد » في سورة الإخلاص ووصف نفسه به مرّتين وقال : قل هو اللّه أحد ثم قال : ولم يكن له كفواً أحد ، فهل اُريد من اللفظة في كلا الموردين معنى واحد أو اُريد معنيان ؟ وبعبارة واضحة هل اللفظتان تشيران إلى قسم واحد من التوحيد أو إلى قسمين ، فالظاهر أنّ الاية الثانية ناظرة إلى التوحيد الذاتي بمعنى انّه واحد لا مثيل له ولا نظير بل لا يتصور له التعدد والاثنينية ، وأمّا الاية الاُولى فهي ناظرة إلى التوحيد الذاتي لكن بمعنى البساطة ونفي التجزئة عن الذات.

وقد فسّره الصدوق بذلك في توحيده فقال : الأحد معناه أنّه واحد في ذاته أي ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا أعضاء (2).

قال الطبرسي : الأحد هو الذي لا يتجزأ ولا ينقسم في ذاته ولا في صفاته (3).

ويقول الجزائري في « فروق اللغات » في الفرق بين الواحد والأحد :

إنّ الواحد ، الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر ، والأحد الفرد الذي لا يتجزّأ ولا ينقسم.

يقول العلامة الطباطبائي (رحمه اللّه) :

« والأحد وصف مأخود من الوحدة كالواحد غير أنّ الأحد إنّما يطلق على ما

ص: 124


1- لوامع البينات : ص 311 ، وتوحيد الصدوق : ص 196.
2- توحيد الصدوق : ص 196.
3- مجمع البيان : ج 5 ص 564.

لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً » (1).

وفي ضوء هذا يمكن أن يقال : إنّ قوله سبحانه ولم يكن له كفواً أحد بشهادة لفظ « كفوا » ناظر إلى نفي المثيل والنظير له سبحانه ، فهو واحد في الذات فلا ذات كذاته كما هو واحد في الفعل فلا خالق ولا مدبّر سواه وانّ قوله : « قل هو اللّه أحد » ناظر إلى نفي أي نوع من التركيب والتجزئة في ذاته سبحانه ، وبذلك يعلم أنّ هذه السورة نزلت ردّاً لمزعمة النصارى بل اليهود أيضاً فالنصارى بحجّة أنّهم قالوا بالتثليث واليهود بحجة أنّهم يقولون : إنّ العزير ابن اللّه محجوجون بما ورد في هذه السورة فاللّه سبحانه واحد لا مثيل له ، بسيط لا جزء له. فلو كان مرجع التثليث عند المسيحية إلى أنّ كلّّ واحد من « الأب » و « الابن » و « روح القدس » إله مستقل متفرّد في الالوهية فله كفو بل كفوان مع أنّه سبحانه « لم يكن له كفوا أحد » أي لم يكن له مثيل ولا نظير فلا يتكرر ولا يتعدد ، وإن لم يكن كلّّ واحدٍ إلهاً مستقلاً بل كلّّ واحد يشكّل جزء من الالوهية فاللّه سبحانه هو المركب من هذه الثلاثة فهو سبحانه عندهم مركّب لا بسيط متجزئ منقسم. فردّ عليهم سبحانه بقوله : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) .

وقد ورد في ما روي عن بعض أئمّة أهل البيت علیهم السلام ما يؤيّد هذا الاستظهار. قال الامام أمير المؤمنين علیه السلام في جواب أعرابي سأله يوم الجمل عن تفسير قوله : « إنّ اللّه واحد » فقال علیه السلام في كلام مبسوط :

« وإمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا وقول القائل انّه عزّ وجلّ أحدي المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا » (2).

وبذلك تقف على أنّ التوحيد الذاتي ينقسم إلى التوحيد في الواحديّة و

ص: 125


1- الميزان ج 20 ص 543.
2- توحيد الصدوق : ص 83 - 84.

التوحيد في الأحديّة فيفسر الأوّل بنفي المثل والثاني بنفي التركيب والتجزئة والتقسيم.

وبذلك يمكن اصطياد البرهان على كون صفاته سبحانه الثبوتيّة الكماليّة عين ذاته كما عليه الاماميّة من العدليّة وبعض المعتزلة ، لا زائد عليه كما عليه الشيخ الأشعري ومن تبعه لوضوح انّ حديث الزيادة يستلزم التركيب والتجزئة ، وهما آيتا الامكان ، والامكان ينافي الوجوب ، وإلى ذلك يشير الامام أمير المؤمنين علیه السلام بقوله : « وكمال الإخلاص له نفي الصفات ( الزائدة ) عنه بشهادة كلّّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف اللّه ( أي بوصف زائد على ذاته ) فقد قرنه أي قرن ذاته بشيء غيره ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله » (1).

وهذا بعض الكلام حول « الاحد » ، وسيوافيك ما يفيدك عند البحث عن اسم « الواحد ».

الثالث والرابع : الأوّل والآخِر

لقد ورد لفظ « الأوّل » بصوره المختلفة في الذكر الحكيم 62 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في آية واحدة ، قال : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الحديد / 3 ).

قال ابن فارس : الأوّل : ابتداء الأمر والاخر نقيض المتقدّم (2) وقال الراغب : « فالأوّل هو الذي يترتّب عليه غيره » (3).

وقد وصف سبحانه في الآية بصفات متضادّة غير مجتمعة حيث تصفه بأنّه

ص: 126


1- نهج البلاغة الخطبة 1.
2- المقاييس ج 1 ص 158 و 70.
3- المفردات : ص 31.

الأوّل وفي الوقت نفسه الاخِر ، كما تصفه بأنّه الظاهر وفي الوقت نفسه بأنّه الباطن فلو كان أوّلاً كيف يكون آخراً ، ولو كان ظاهراً فكيف يكون باطناً ؟ فأوّل الناس في العمل لا يكون آخرهم فيه وهكذا الظاهر والباطن ، ومع ذلك كلّه فاللّه سبحانه جمع بين هذه الصفات جمعاً حقيقياً واقعياً لا مجازياً وذلك بإحاطته على الموجودات الامكانية وقيامهم به قيام المعنى الحرفي بالاسمي ، فكما لا يمكن خلو المعنى الحرفي عن الاسمي فهكذا لا يمكن خلو الوجود الإمكاني عن الوجود الواجبي ، وليس حديث نفي الخلو حديث الممازجة بل المقصود الاحاطة القيومية التي له سبحانه بالنسبة إلى العالم كلّه ، فالعالم بما فيه من الكبير إلى الصغير ومن المجرّة إلى الذرّة ، ومن المادّي إلى المجرّد ، قائم به سبحانه قيام المعلول بعلّته ، نظير قيام الصور الذهنيّة بالنفس فهو مع الأشياء كلّها ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / 4 ) فإذا كان محيطاً بوجوده على كلّّ شيء فكلّ ما فرض أوّلاً فهو قبله بحكم كونه محيطاً والشيء محاطاً ، فهو الأوّل دون الشيء المفروض أوّلاً ، وكلّّ ما فرض آخراً فهو بعده لحديث إحاطة وجوده به من كلّّ جهة ، فهو الآخر دون الشيء المفروض وليست أوليّته تعالى ولا آخريته زمانيّة ولامكانيّة بل بمعنى كونه محيطاً بالأشياء على أيّ نحو فرض وكيفما تصوّرت.

وعلى ذلك فالأوّل والآخر من فروع اسمه « المحيط » فبما أنّ وجوده محيط بكلّ شيء فهو الأوّل قبل الاشياء والاخر بعد الأشياء.

ولأجل ذلك روي عن الإمام علي علیه السلام أنّه قال : « ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت اللّه قبله ومعه وبعده ». وهذا هو العرفان الكامل.

والظاهر أنّ توصيفه بالأوليّة والآخريّة مبني على إحاطة وجوده بالأشياء ويؤيّده قوله في الاية التالية ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / 4 ) وإمّا تفسير الاية باحاطة قدرته كما عن بعض المفسّرين فلا ينافي ما ذكرناه بل هو يرجع إلى ما ذكرنا لكون قدرته نفس ذاته فإحاطة قدرته لا تنفك عن إحاطة ذاته ، وعلى ذلك فمعنى الاية

ص: 127

هو أوّل الأشياء وآخرها ، وانّه لو فرض شيء فهو أوّله كما أنّه آخره بحكم المحيطيّة والمحاطيّة.

ويمكن أن يقال : إنّ الوصفين تعبيران عن أزليّته وأبديّته فبما أنّه واجب الوجود وانّ وجوده نابع من صميم ذاته غير مكتسب من مقام آخر ، يكون أزليّاً فلا يكون لوجوده ابتداء كما لا يكون لوجوده انتهاء ، وبعبارة اخرى فرض كون وجوده واجباً بالذات يستلزم أن لا يتطرّق إليه العدم أبداً لا في السابق ولا في اللاحق وهو يساوق أزليّته وأبديّته وهو يستلزم أن لا يكون له ابتداء ولا انتهاء ولا أوّل وآخر ، ولو وصف بالأوليّة والآخرية يكون المراد منهما أنّه الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء ، وهذا معنى آخر غير ما ذكرنا.

والفرق بين المعنيين واضح فإنّ توصيفه بهما في المعنى الأوّل ينبع من كونه محيطاً بالأشياء كما أنّ توصيفه بهما في المعنى الثاني ينبع من كونه واجب الوجود ممتنع العدم ، وهو خيرة الصدوق في توحيده حيث قال : « إنّه الأوّل بغير ابتداء والاخر بغير انتهاء » (1).

ثمّ إنّ هذه الآية قد وقعت مجالاً لأرباب الاشارات فذكروا في تفسيرها وجوهاً كثيرة تناهز 24 وجهاً (2) كلّها من قبيل التفسير الإشاري ، وقد ذكرنا في محله أنّ قسماً منه تفسير جائز وقسماً آخر تفسير ممنوع.

الخامس : « الأعلى »

وقد ورد لفظ « الأعلى » في الذكر الحكيم 9 مرّات ووصف به سبحانه في

ص: 128


1- توحيد الصدوق : ص 197 ، وذكر ابن فارس في المقاييس : « إنّ العرب تقول : أوّل ذي أول. وأول أول ويريد قبل كل شيء » ج 1 ص 158.
2- لوامع البينات : ص 323 - 326.

آيتين قال : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) ( الاعلى / 1 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ) ( الليل / 19 - 20 ).

وربّما وصف به مثله ( بالفتح ) سبحانه قال : ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل / 60 ).

وقال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الروم / 27 ).

والأعلى في الآيتين الأوليّتين - كما هو الظاهر - وصف للرّبّ ، وفي الأخيرتين وصف للمثل ( بالفتح ) ، والمراد من « المثل » هو الوصف والتوصيف (1).

و « الأعلى » من العلو وهو الرفعة قال ابن فارس : « العلوّ : أصل واحد يدل على السموّ والإرتفاع ، لا يشذ عنه شيء ، من ذلك العلى والعلوّ ، ويقولون : تعالى النهار : ارتفع ».

أقول : المراد من العلوّ ، هو العلوّ من حيث الرتبة والدرجة لأنّه المبدأ لكلّّ شيء ، والمفيض له والمحيط به ، فذاته سبحانه أرفع من كلّّ موجود محدود ، يعلو كلّ عال ويقهر كلّ شيء فبما أنّه عال وله العلوّ المطلق ، فله الوجود الكامل ، وهذا يلازم كونه ذا أسماء حسنى ومعه يجب تسبيح اسمه وتنزيهه عمّا لا يليق من الأسماء.

وكما انّه عليّ في ذاته ، عال من حيث الصفات والأوصاف ، ولله سبحانه

ص: 129


1- قال سبحانه : ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) ( الفرقان / 9 ) ، والمراد من ضرب المثل للرسول هو توصيفه بصفات لا تليق به ، مثل توصيفه بأنّه « رجل مسحور » كما جاء في الآية المتقدمة عليها حيث قال سبحانه : ( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ) ( الفرقان / 8 ).

الصفات العليا فله العلم الذي لا يطرأ عليه الجهل ، والقدرة التي لا تعرضه عجز ، والحياة التي لا يحدّدها موت ، فهو سبحانه أعلى من أمثال السوء التي يتصف بها غيره.

فاللّه سبحانه أعلى ذاتاً ووجوداً ، وأعلى صفة وسمة. أمّا علوّ ذاته فلأجل كونه واجب الوجود ومبدع الممكنات وموجدها ، وأمّا علوّ صفاته فلأنّ كلّّ وصف كمالي يوصف به شيء في السماوات والأرض كالحياة والقدرة والعلم والملك والجود والكرم والعظمة والكبرياء ، فله السهم الأعلى ولغيره الأدنى وذلك لعدم محدوديّة صفاته بخلاف غيره.

ثم انّه ربّما يفسّر « الأعلى » بالقاهر. قال الصدوق : وأمّا الأعلى فمعناه العليّ والقاهر ويؤيّد ذلك قوله عزّ وجلّ لموسى علیه السلام : ( لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى ) ( طه / 68 ) اي القاهر وقوله عزّ وجلّ في تحريض المؤمنين على القتال : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 139 ) وقوله عزّ وجلّ : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ ) ( القصص / 4 ). أي غلبهم واستولى عليهم ، وقال الشاعر في هذا المعنى :

فلمّا علونا واستوينا عليهم *** تركنا هم صرعى لنسر وكاسر

ثم قال ، وهناك معنى ثان وهو إنّه متعال عن الأشباه والأنداد أي متنزّه كما قال : ( وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( يونس / 18 ).

والظاهر تعيّن المعنى الثاني وهو الذي عبّرنا عنه بالرفعة وجوداً وصفة ثم الرفعة كما تتحقق بالصفات الكمالية على ما أوضحنا ، تتحقق بالتنزّه عن الأشباه والأنداد وهو الذي ذكره الصدوق ، وأمّا المعنى الأوّل فالظاهر أنّه لازم المعنى الثاني فانّ العلو رتبة بل ومكاناً يستلزم القهر والغلبة ، فالقهر والغلبة ، من لوازم المعنى وليست نفس المعنى.

ص: 130

السادس : « الأعلم »

وقد ورد في الذكر الحكيم لفظ « الأعلم » 49 مرّة ولم يوصف به غيره سبحانه.

قال سبحانه : ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران / 167 ).

وقال سبحانه : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الأنعام / 124 ) إلى غير ذلك من الموارد.

وصيغة « أعلم » صيغة المفاضلة ومعناه انّه يثبّت العلم لنفسه وغيره ولكنّه يفضّل علمه على غيره غير أنّه يعدل عنه في موارد بقرائن خاصّة مثل قوله سبحانه : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الانعام / 124 ) فعلّقوا إيمانهم وتصديقهم على أن يؤتوا مثل ما أوتي رسل اللّه بأن ينزّل عليهم الملك والوحي ، فاجيبوا بقوله سبحانه ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) والمناسب لمقام الرد هو انسلاخ صيغة التفضيل من المفاضلة أي إنّه العالم دونهم بحجّة انّهم علّقوا ايمانهم على صدق النبي على أن يكونوا أنبياء مثله وهذا دليل على جهلهم المطبق ، فهم جهلاء واللّه سبحانه هو العالم ، ونظير ذلك قوله سبحانه نقلاً عن « لوط » في حق بناته : ( يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) ( هود / 78 ) وقوله سبحانه حاكياً عن يوسف ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ( يوسف / 33 ) والمناسب لمقام العصمة كون السجن محبوباً إليه دون غيره أعني الفحشاء ، والحبّ بمعنى كونه موافقاً للغريزة الجنسية خارج عن مجال البحث قال سبحانه : ( قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ ) ( الفرقان / 15 ) والمراد انّها خير دون الجحيم بل هي شر ، وعلى ذلك فالأصل في الصيغة هو الحمل على المفاضلة إلاّ إذا دلّ الدليل على خلافه ، نعم أدب العرفان والعبوديّة يقتضي توصيفه سبحانه فقط بالعلم.

ص: 131

السابع : « الأكرم »

وقد وردت هذه اللفظة في الذكر الحكيم مرتين الاُولى قوله سبحانه : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات / 13 ) والثانية قوله سبحانه : ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) ( العلق / 3 ).

قال الراغب في مفرداته : « الكرم إذا وصف اللّه تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه المتظاهر نحو قوله : ( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ( النمل / 40 ) وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه.

وعلى ذلك فمعنى قوله ( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) اي الأكثر كرماً الذي يفوق عطاؤه ما سواه ، فهو يعطي لا عن استحقاق وما من نعمة إلا وتنتهي إليه سبحانه.

قال الطبرسي : أي الأعظم كرماً فلا يبلغه كرم كريم لأنّه يعطي من الكرم ما لا يقدر على مثله غيره ، فكلّ نعمة توجد فمن جهته تعالى أمّا بأن اخترعها وأمّا بأن سبّبها وسهّل الطريق إليها.

هذا ويمكن أن يقال :

إنّه من الكرم بمعنى الشرف سواء كان في الشيء نفسه أو في خُلق من الأخلاق. يقال : رجل كريم وفرس كريم ، وأمّا السخاء والعطاء والصفح عن ذنب المذنب فهو من آثاره ، قال في المقاييس نقلاً عن ابن قتيبة : الكريم : الصفوح واللّه تعالى هو الكريم الصفوح عن ذنوب عباده المؤمنين (1) وعلى ذلك فمعنى قوله ( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) هو الأكمل في الشرف ذاتاً وفعلاً.

ص: 132


1- معجم مقاييس اللغة ج 5 ص 171 - 172.
الثامن : « أرحم الراحمين »

وقد جاء « أرحم الراحمين » في الذكر الحكيم أربع مرّات وصفاً له سبحانه. قال سبحانه : ( وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( الاعراف / 151 ). وقال سبحانه : ( فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / 64 ) ، وقال سبحانه : ( قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / 92 ). وقال سبحانه : ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( الأنبياء / 83 ).

وجاء فيه « خير الراحمين » وصفاً له سبحانه مرّتين. قال : ( رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / 109 ). وقال : ( وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / 118 ).

قال ابن فارس : « الرحم أصل واحد يدل على الرقّة والعطف والرأفة يقال من ذلك : رحمه يرحمه إذا رقّ له وتعطّف عليه ، والرحم ، والمرحمة والرحمة بمعنى ، والرحم علاقة القرابة ثم سمّيت رحم الأنثى رحماً من هذا لأنّ منها ما يكون ما يرحم ويرقّ له من ولد ».

قال الراغب : « والرحمة رقّة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وقد تستعمل في الرقة المجرّدة وتارة في الاحسان المجرّد عن الرقّة نحو « رحم اللّه فلانا » وإذا وصف به الباري فليس يراد به إلاّ الإحسان المجرّد دون الرقّة ، وعلى هذا روي : « إنّ الرحمة من اللّه إنعام وإفضال ، ومن الآدميّين رقّة وتعطّف ... ».

وظاهر هذا أنّ الرقّة والتعطّف داخل في معنى الرحمة غير أنّ البرهان العقلي يجرّنا عند توصيفه سبحانه به إلى تجريده عن الرقّة لاستلزامها الإنفعال وهو محال على اللّه سبحانه.

قال العلاّمة الطباطبائي : « الرحمن الرحيم من الرحمة وهي وصف انفعالي و

ص: 133

تأثر يلمّ بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره ، فيبعث الإنسان إلى تتميم نقصه ورفع حاجته إلاّ أنّ هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الإعطاء والافاضة لرفع الحاجة وبهذا المعنى يتّصف سبحانه بالرحمة » (1).

التاسع : « أحكم الحاكمين »

وقد ورد « احكم الحاكمين » في القرآن وصفاً لله سبحانه مرّتين.

قال : ( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ ) ( هود / 45 ).

وقال سبحانه : ( أَلَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ ) ( التين / 8 ).

والحكم في اللغة بمعنى المنع لإصلاح ، وسمّيت اللجام حَكَمة الدابّة لأنّها تمنعها ومنه قول الشاعر :

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم *** إنّي أخاف عليكم ان اغضبا

ثمّ استعير في الحكم الفاصل والقضاء الباتّ بأنه كذا وكذا أو ليس بكذا وكذا لأنّه يمنع الخصمين عن التعدّي ، وسمّيت الحكمة حكمة لأنّها تمنع الرجل من فعل ما لا ينبغي.

قال سبحانه : ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء / 58 ) وقال : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ) ( المائدة / 95 ) فكما وصفه القرآن بأنّه « أحكم الحاكمين » كذلك خصّ له الحكم وقال : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الأنعام / 62 ) وقال : ( وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( القصص / 70 ) وقال : ( أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ ) ( الزمر / 46 ) إلى غير ذلك من الايات. بقي الكلام في المراد من قوله « أحكم الحاكمين ».

ص: 134


1- الميزان ج 1 ص 16.

وأمّا قوله « أحكم » فهل المراد أنّه سبحانه أقضى القاضين ؟ كما نقله الطبرسي وجهاً ، فقال : فيحكم بينك يا محمد وبين أهل التكذيب.

الظاهر أنّ صيغة التفضيل في المقام بعد تسليم كونه بمعنى القضاء متضمّنة لمعنى الاحكام والاتقان خصوصاً في الاية الاُولى حيث أنّها وردت بعد قول نوح : ( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ ) فلا يناسب تفسيره بأنّك أقضى القاضين إلاّ بتضمين « أحكم » معنى الإتقان ومعناه إنّك فوق كلّّ حاكم في إتقان الحكم وحقّيّته ونفوذه من غير اضطراب ووهن فما جرى على ابني من الغرق في الماء عين حكمك الحكيم وقضاؤك الرصين.

العاشر : « أحسن الخالقين »

وقد ورد « أحسن الخالقين » وصفاً لله سبحانه في الذكر الحكيم مرتين. قال سبحانه : ( ... ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) ( المؤمنون / 14 ). وقال سبحانه ناقلاً عن إلياس : ( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخَالِقِينَ * اللّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ) ( الصّافات / 125 - 126 ) فهو سبحانه يصف نفسه في هاتين الايتين بأنّه « أحسن الخالقين » كما أنّه يصف فعله حسناً على الاطلاق في الايات الاُخر قال :

( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ) ( السجدة / 7 ).

وقال : ( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ) ( غافر / 64 ).

أمّا الخلق لغة فقد فسّر بمعنى تقدير الشيء ، يقال خلقت الأديم للسقاء إذا قدّرته. قال زهير :

ولانت تفري ما خلقت و *** بعض القوم يخلق ما يفري

ص: 135

ومن ذلك الخُلق : وهي السجيّة لأنّ صاحبه قد قدر عليه ، والخلاق : النصيب لأنّه قد قدّر لكلّ أحد نصيبه.

ويؤيّد كونه متضمّناً معنى الإيجاد قوله سبحانه : ( صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) ( النمل / 88 ) فانّ الصنع في الاية مكان الخلق وليس الصنع صرف التقدير بل العمل عن تقدير. قال سبحانه : ( أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) ( المؤمنون / 27 ).

قال الراغب : ثم إنّ الخلق تارة يستعمل في إبداع الشيء من غير مادّة ولا احتذاء قال سبحانه : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) ( الأنعام / 1 ) أي أبدعهما بدلالة قوله ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( الأنعام / 101 ) وأخرى في ايجاد الشيء من الشيء نحو : ( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) ( الأعراف / 189 ). وقال : ( خَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ) ( الرحمن / 15 ) ثم قال : والخلق الذي هو الابداع لله تعالى ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره : ( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( النحل / 17 ) وأمّا الذي يكون بالإستحالة فقد جعله اللّه تعالى لغيره في بعض الأحوال كعيسى حيث قال : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ) ( المائدة / 110 ) (1).

والظاهر أنّ الراغب بصدد الجمع بين مفاد الاية المثبت لكون الخلق صفة مشتركة بين اللّه وبين غيره ، وبين الآيات الحاصرة لها في اللّه سبحانه حيث يقول : ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) ( الأنعام / 102 ) فحصر الخلق في ابداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء في اللّه سبحانه ، وأمّا الخلق بمعنى الإستحالة فأثبته للمسيح ، وبذلك ارتفع الخلاف بين الآيتين ، وإليه ذهب الطبرسي حيث قال : وفي الاية دليل على أنّ اسم الخلق قد يطلق على فعل غير اللّه إلاّ أنّ الحقيقة في الخلق لله سبحانه فقط ، فإنّ المراد من الخلق ايجاد الشيء مقدّراً

ص: 136


1- المفردات للراغب : ص 157 - ماده خلق.

تقديراً لا تفاوت فيه ، وهذا إنّما يكون من اللّه سبحانه وتعالى دليله قوله : ( أَلا لَهُ الخَلْقُ ) (1).

يلاحظ عليهما : أنّ الخلق من غير أصل يوصف به سبحانه وغيره فانّ النفوس المجرّدة تخلق الصور في صقع النفس من غير مادة ، وإنّما يرتفع الإختلاف بين القسمين من الايات بأنّه لا مانع من تخصيص الخلق باللّه سبحانه وتشريك الغير معه أيضاً وذلك لأنّ الخلق بمعنى فعل الفاعل ، المستقل في فعله ، غير المعتمد في خلقه على شيء ، غير المستعين في عمله من أحد يختصّ باللّه سبحانه ، وأمّا الخلق بمعنى فعل الفاعل ، غير المستقل في فعله ، المعتمد في وجوده وفعله على الواجب ، المستعين في كلّّ آن من الفياض المطلق ، فهو للإنسان خاصّة ، ويجمعهما لفظ الخلق وهو على وجه وصف مشترك ، وعلى وجه مختصّ باللّه سبحانه.

الحادي عشر : « أسرع الحاسبين »

وقد ورد في الذكر الحكيم في مورد واحد. قال سبحانه : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الأنعام / 62 ). كما وصفه في آية بأنّه أسرع مكراً.

قال سبحانه : ( قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) ( يونس / 21 ).

وسيأتي البحث عنه عند الكلام في وصفه : « سريع الحساب ». كما يأتي البحث عن الاخر في البحث عن « خير الماكرين ».

الثاني عشر والثالث عشر : « أهل التقوى وأهل المغفرة »

وقد ورد في الذكر الحكيم هذان الاسمان في مورد واحد ووقعا اسمين له

ص: 137


1- مجمع البيان ج 4 ص 101 ، طبع صيدا.

سبحانه. قال سبحانه : ( وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ ) ( المدثر / 56 ).

قال الطبرسي : أي هو أهل أن تتّقى محارمه وأهل أن يغفر الذنوب. روي مرفوعاً عن أنس قال : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تلا هذه الآية وقال : قال اللّه سبحانه : أنا أهل أن اُتّقى فلا يجعل معي إله ، فمن اتّقى أن يجعل معي الهاً فأنا أهل أن أغفر له (1).

والظاهر أنّ الأهل في الاية بمعنى الجدير. قال الراغب : « يقال فلان أهل لكذا أي خليق به » (2) ومنه اشتقّ المؤهّل أي الجدير ، والمؤهّلات : القابليات.

قال العلاّمة الطباطبائي : إنّ قوله : ( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ ) تعليل لقوله ( وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللّهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى وأهل المغفرة لا يتمّ إلاّ بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم (3).

الرابع عشر : « الأبقى »

قد ورد لفظ « الأبقى » في الذكر الحكيم سبع مرّات ، وقد وصف به عذابه ورزقه وما عنده والاخرة ، وورد في آية واحدة وصفاً له سبحانه فقال : ( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) ( طه / 73 ).

ومضمون الآية إجابة على ما هدّد به فرعون السحرة وقال : ( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ) ( طه / 71 ) والآيتان ( أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ) ( وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) على وتيرة واحدة والضمير في صيغة التفضيل يرجع إلى

ص: 138


1- مجمع البيان ج 5 ص 362.
2- المفردات : ص 30.
3- الميزان ج 2 ص 185.

اللّه سبحانه. إنّما الكلام في تعيين المتعلّق ، فربما يقال : إنّه الثواب أي واللّه خير لنا منك وثوابه أبقى لنا من ثوابك ، وربما يقال : إنّ المتعلّق هو العقاب والمراد : واللّه خير ثواباً للمؤمنين وأبقى عقاباً للعاصين وهذا جواب لقوله : ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذاباً وأبقى ولكن الظاهر أنّ المراد أوسع من ذلك وكأنّه قيل : إنّما آثرنا غفرانه على احسانك ، لأنّه خير وأبقى أي خير من كلّّ خير وأبقى من كلّّ باق - لمكان الاطلاق - فلا يؤثر عليه شيء ، وبذلك يعرف معنى المقابلة بين كلام فرعون والسحرة فإنّه يصف نفسه في الاية الاُولى بالأبقى والسحرة تقابله بأنّه سبحانه أبقى.

الخامس عشر : « الأقرب »
اشارة

وقد وردت اللفظة في القرآن 11 مرّة ووردت توصيفاً له سبحانه مرتين قال : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق / 16 ) وقال سبحانه : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ) ( الواقعة / 85 ) وفسرت الأقربيّة بالعلم : أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل الوريد ويكون معنى الآية : نحن أعلم به. وتحقيق الكلام في مفاد الاية يتوقف على بيان معنى الأقربيّة الواردة فيها فنقول :

إنّ الأقربيّة ليست أقربيّة مكانيّة كما أنّ قربه سبحانه من العبد ليس منحصراً بالافضال عليه بل لقربة سبحانه من العبد ، وأقربيته إليه من حبل الوريد معنى آخر لا يقف عليه إلاّ المرتاض في المعارف الإلهية والخارج عن أسر التعطيل وحبال التشبيه.

انّه سبحانه يصرّح بأنّه مع عباده أينما كانوا ويقول : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / 4 ).

ويعد نفسه رابع الثلاثة وسادس الخمسة ويقول : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( المجادلة / 7 )

ص: 139

كما أنّه يصف نفسه الهاً في السماوات والأرض ويقول : ( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ) ( الأنعام / 3 ) إلى غير ذلك من الايات التي تدل على إحاطة وجوده سبحانه بكلّ شيء وكونه مع كلّّ شيء.

ثمّ إنّ المسلمين في مقابل هذه الايات على طائفتين :

الاُولى : أهل الحديث والحنابلة والمتقشّفون المغترّون بالظواهر التصوّريّة البدئيّة غير المتعمّقين في الايات والأحاديث ، فهؤلاء أخذوا بظاهر قوله سبحانه : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) ( طه / 5 ) ففسّروا الإستواء بالإستقرار لا بالإستيلاء والسلطة ، فجعلوه مستقرّا على عرشه وسريره فوق السماوات وأقصى ما عند المتظاهرين بالتنزيه إضافة قولهم : بلا كيف أي لا نعلم كيفية سريره واستقراره ، قال الشيخ الأشعري : « نقول : إنّ اللّه عزّ وجلّ يستوي على عرشه كما قال يليق به من غير طول الاستقرار » (1).

وهؤلاء - الذين حبسوا القاهر المحيط في نقطة خاصّة من العالم - تحيّروا أمام هذه الايات التي دلّت على احاطة وجوده لكلّ شيء وصحيفة الكون ، فلجأوا إلى التأويل المبغوض عندهم فقالوا في تفسير الآية في سورة المجادلة : المراد انّه سبحانه هو بعلمه رابعهم ، وبعلمه سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم ، نعني بعلمه فيهم ، كما أوّلوا قوله سبحانه : ( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ) بأنّ المراد هو إله من في السموات ، وإله من في الارض وهو على العرش ، وقد أحاط علمه بما دون العرش ، ولا يخلو من علم اللّه مكان ، ولا يكون علم اللّه في مكان دون مكان (2).

إنّ اتّخاذ الرأي المسبق في إحاطته سبحانه على الأشياء وتحديد وجوده بالاستقرار على السرير الموضوع على العرش ، لا ينتج سوى هذا أي التلاعب بآيات

ص: 140


1- الإبانة للأشعري : ص 18 و 85.
2- السنّة لابن حنبل : ص 34 و 36 طبع القاهره.

المعارف التي هي إحدى المعاجز القرآنية.

ولمّا حسب القائل باستقراره سبحانه على عرشه انّ مراد القائلين باحاطة وجوده لكلّ شيء ، وكونه في كلّّ مكان وزمان ، هو الإحاطة المكانية وانّه موجود في كلّّ شيء كوجود الجسم في مكانه بدأ بالاعتراض ، وقال : عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظم الربّ شيء فان قالوا : أي مكان ؟ قلنا أجسامكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظم الرب شيء (1).

والعجب انّ الشيخ الأشعري الذي تربّى في حضن الاعتزال قرابة أربعين سنة ووقف على مقالهم عن كثب بل وعلى مقال كلّّ من يقول باحاطة وجوده على كلّّ شيء ، وقيام كلّّ شيء بوجوده ، ومع ذلك أخذ يكرّر كلام إمام مذهبه الثاني قريباً عن عبارته ويتكلّم مثل من ليس له إلمام بالمعارف العقليّة ويقول : « إنّ من المعتزلة والجهميّة والحروريّة قالوا : إنّ قول اللّه عزّ وجلّ : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) ( طه / 5 ) انّه استولى وملك وقهر ، وإنّ اللّه عزّ وجلّ في كلّّ مكان ، وجحدوا أن يكون اللّه عزّ وجلّ على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة.

ولو كان هذا كما ذكره فلا فرق بين العرش والأرض السابعة فاللّه سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كلّّ ما في العالم ، فلو كان اللّه مستوياً على العرش بمعنى الإستيلاء وهو عزّ وجلّ مستوٍ على الأشياء كلّها لكان مستوياً على العرش ، وعلى الأرض ، وعلى السماء ، وعلى الحشوش ، والأقذار ، لأنّه قادر على الأشياء مستول عليها وإذا كان قادراً على الأشياء كلّها ولمّا لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول : إنّ اللّه عزّ وجلّ مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش ، الإستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلّها ، ووجب أن يكون معناه استواء يختصّ بالعرش دون الأشياء كلّها.

ص: 141


1- السنّة لابن حنبل : ص 33.

وزعمت المعتزلة والحروريّة والجهميّة أنّ اللّه عزّ وجلّ في كلّّ مكان فلزمهم انّه في بطن مريم وفي الحشوش والاخلية وهذا خلاف الذين تعالى اللّه عن قولهم « علوّا كبيرا » (1).

عزب عن امام الحنابلة ومن تبع مذهبه انّ الاستدلال متفرّع على تفسير العرش بأنّه مخلوق كهيئة السرير له قوائم وهو موضوع على السماء السابعة مستوٍ عليه كاستواء الملوك على عروشهم ، فعند ذلك يتوجّه إليهم السؤال بأنّه لو كان المراد من « استوى » هو الاستيلاء - لا الإستقرار - فلماذا خصّ الاستيلاء به مع أنّه مستو على الأشياء كلّّها ؟ وأمّا إذا قلنا بأنّ العرش كناية عن صفحة الوجود وعالم الكون فاستيلائه عليه كناية عن استيلائه على عالم الخلق ، فيسقط السؤال بأنّه لماذا خصّ الاستيلاء بعرشه دون غيره إذ ليس هنا شيء وراء صفحة الوجود ، واللغة العربيّة مليئة بالمجاز والكناية ، ولا يلزم في صدق الكناية وجود المعنى المكنىّ به : من سرير واستقرار المستوى عليه ، بل يطلق وإن لم تكن هناك تلك المظاهر ، قال الشاعر :

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

والذي يعرب عن ذلك أي انّ المراد استيلائه على عرش التدبير ، إنّ الذكر الحكيم لا يذكر استوائه على العرش إلاّ ويذكر فعلاً من أفعاله أو وصفاً من أوصافه ، أمّا قبله أو بعده مثل قوله :

( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) ( الأعراف / 54 ).

وقوله : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) ( يونس / 3 ).

وقوله : ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَ

ص: 142


1- الإبانة للأشعري : ص 86 - 87.

سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) ( الرعد / 2 ).

وقوله : ( تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) ( طه / 4 و 5 ).

وقوله : ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) ( الفرقان / 59 ).

وقوله : ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) ( السجدة / 4 ).

وقوله : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) ( الحديد / 4 ).

إنّ قوله سبحانه ثمّ استوى على العرش يحتمل في بادئ النظر معنيين ولا يتعيّن أحدهما إلاّ بالتدبّر فيما حُفّ به من المطالب وإليك المحتملين :

1 - إنّه سبحانه مستقر على العرش كاستقرار الملوك على عروشهم ، غاية ما في الباب إنّ الكيفية مجهولة وهذا خيرة الحنابلة والأشاعرة.

2 - إنّه سبحانه مستول على عالم الخلقة وصفحة الكون وقاهر عليه وبالتالي يدبّر العالم كلّّه بلا استعانة من أحد ومن دون أن يمسّه في هذا تعب ولا لغوب ، وهذا خيرة العدليّة كالاماميّة والمعتزلة وليس هذا تأويلاً له بل سياق جمل الاية يؤيّد ذلك ، فهو ظاهر في هذا المعنى والعدول عن الظاهر تأويل ، لا الأخذ بالظاهر. والميزان في تشخيص الظاهر ، هو الظهور التصديقي الجملي ، لا الظهور الحرفي والتصوّري.

هلمّ معي نستظهر أحد المعنيين من خلال التدبّر في الايات التي تلوناها عليك.

ص: 143

نقول : إنّه سبحانه كلّّما ذكر استوائه سبحانه على العرش ضمّ إليه إمّا بيان فعل من عظائم أفعاله أو وصفاً من أوصافه العليا وإليك بيان ذلك.

1 - ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) ( الأعراف / 54 - يونس / 3 - الفرقان / 59 - السجدة / 3 - الحديد / 4 ).

2 - ( خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى ) ( طه / 4 ).

3 - ( رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) ( الرعد / 2 ).

4 - ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) ( الأعراف / 54 )

5 - ( سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) ( الرعد / 2 ).

6 - ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ) ( الحديد / 4 )

فعند ذلك فأيّ المعنيين يناسب مع ذكر هذه الامور ؟

هل استقراره على السرير وإن كانت الكيفيّة مجهولة ؟

أو استيلاؤه على العالم وصفحة الكون وكونه قاهراً على الخلق وبالتالي مدبّراً للعالم وانّ الخلق لم يضعفه عن القيام بالتدبير.

حَكِّم وجدانَك ثم اختر أحد المعنيين المناسب لما حفّ به من القرائن اللفظيّة.

لا شك انّ البحث عن عظائم الامور والأفعال يناسب الأخبار عن فعل عظيم له صلة بما جاء فيه من سائر الأفعال والأوصاف وهو استيلاؤه على العالم كلّّه ، ولذلك ربّما يرتّب عليه تدبير الامر ( يونس / 3 ) واُخرى غشيان الليل النهار وطلبه لها حثيثاً ( الأعراف / 54 ) وثالثة تسخير الشمس والقمر ( الرعد / 2 ) ورابعة علمه الوسيع بما يلج في الارض وما يخرج منها ( الحديد / 4 ) فالجملة ظاهرة في الاستيلاء لا ظاهرة في الاستقرار حتى يسمّى تفسيرها بالاستيلاء تأويلاً لأنّ التأويل هو العدول عن

ص: 144

ظاهر الكلام ، فإذا أيّدت القرائن كون المراد هو الاستيلاء فالتفسير بالاستقرار تأويل بلا دليل لا العكس كما هو المعروف في كتب أهل الحديث والحنابلة.

أظنّ أن ّهذا البيان يقنع القارئ في أنّ المراد هو الإستيلاء لا الإستقرار ولو فرضنا أنّه في ريب وتردّد في اختيار أحد المعنيين فنأتي بمثال يقرّب إليه المطلوب وهو :

إذا بلغ طبيب في فنّ الجراحة مقاماً عظيماً فأخذ يصف أعماله العجيبة في ذلك المجال ويقول : إنّي قمت بعمل كذا وكذا فيذكر إبداعاته واعجازاته العلميّة أفيصح أن يرتجل في اثناء هذه المذاكرة ويقول : إنّي مستقرّ على عرشي في بيتي ، ولو تكلّّم بذلك يعدّ كلامه غير منسجم ، فيقول المخاطب في نفسه : أيّ صلة بين ما قام به من الأعمال العجبية في مجال الجراحة وبين استقراره على السرير في بناء رفيع.

وهذا بخلاف ما إذا كان جميع الجمل مربوطة إلى عمله وفعله في الموضوع الذي أخذ بتفسيره وبيانه ، وبهذا المثال تقدر على تقييم المعنى الذي لم يزل يسيطر على ذهن القشريين من الحنابلة وأهل الحديث ، إذ أيّ مناسبة بين هذه الأفعال العجيبة واستقراره على العرش وجلوسه على السرير وان كانت الكيفية مجهولة ، وأمّا إذا قلنا : بأنّ المراد استيلاؤه على صحيفه الكون وانّ الخلق ما أوقعه في التعب واللغوب (1) ولم يضعفه عن القيام بأمر التدبير بشهادة استيلائه عليه ، تكون الجمل مترابطة متناسبة.

ص: 145


1- اشارة الى قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ) ( ق / 38 ) اقرأ هذه الآية وراجع التوراة. ترى أنّه يقول في سفر التكوين : الإصحاح الثاني : وفرغ في اليوم السابع من عمله الذي عمل ، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك اللّه اليوم السابع وقدّسه لأنّه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل اللّه خالقا.

ثمّ إنّ إمام الحنابلة لأجل إتخاذ رأي مسبق في معنى الاية ، التبس الأمر عليه في كلامه السابق من جهات ثلاث :

1 - لمّا رأى ظهور الايات في إحاطة وجوده سبحانه بالعالم ، عمد إلى تأويلها بالإحاطة العلميّة مع أنّ حصرها فيها خلاف ظاهرها ، لأنّها ظاهرة في الإحاطة الوجوديّة المستلزمة للإحاطة العلمية.

2 - زعم أنّ العرش في الاية عند القائلين بالإحاطة الوجوديّة بمعنى السرير ، فردّ عليهم بأنّه « إذا كان مستولياً على العالم كلّّه ، فلماذا خصّ في هذه الايات استيلائه بالعرش » ولم يقف على أنّ القائلين بالإحاطة الوجوديّة يرون الاستيلاء على العرش بأجمعه كناية عن استيلائه على صفحة الوجود كاستيلاء الملوك على بلدانهم ، غير أنّهم يدبّرون البلد بالجلوس على سررهم ، واللّه سبحانه يدبّر العالم من دون أن يكون له سرير.

3 - زعم أنّ القائلين بالاحاطة الوجوديّة يفسّرونه بالاحاطه الحلوليّة المكانيّة فأورد « بأنّ المسلمين يعرفون أمكنة ليس فيها من عِظم الربّ شيء » وغفل أنّ الاحاطة هنا إحاطة قيوميّة لا إحاطة مكانيّة ، ولأجل إيضاح الحال نبحث عن هذا النوع من الإحاطة القيوميّة.

« الإحاطة القيوميّة لا الإحاطة المكانيّة »

إنّ نسبة الوجود الإمكاني إلى الواجب جلّ اسمه كنسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ، فكما أنّ المعنى الحرفي قائم بالثاني ، ومتقوّم به ، ولا يتصوّر له الانعزال عنه والاّ لصار باطلاً معدوماً فهكذا الوجود الإمكاني الصادر عنه سبحانه ، فالممكن بذاته قائم بالغير ، متدل به ، لا يتصور له البينونة عن الواجب والعزلة عنه وإلاّ بطل وجوده.

ص: 146

هذا هو المدّعى وأمّا الدليل عليه فهو انّ الامكان قد يقع وصفاً للماهيّة ، وقد يقع وصفاً للوجود فعندما يقع وصفاً للماهيّة يكون معناه مساواة نسبة الوجود والعدم إليها ، فلو وجد فمن جانب وجود علّته ، وإن اتّصف بالعدم فمن جانب عدم علّته وعندما يقع وصفاً للوجود ، فليس هو بمعنى مساواة الوجود والعدم إلى الوجود ، ضرورة إنّه إذا كان الموضوع هو الوجود ، لا معنى لمساواة الوجود والعدم إليه ، بل المراد من اتّصاف الوجود بالإمكان هو تعلّقه بعلّته وقيامه وتدلّيه بها تعلّقاً وتدلّيا وقياماً داخلاً في حقيقة وجوده بحيث لا حقيقة له إلاّ هذا.

وبعبارة اُخرى إنّ الوجود الإمكاني أمّا أن يكون مستقلاً في ذاته أو يكون متعلّقاً بالغير كذلك ، لا سبيل إلى الأوّل ، لأنّ الاستقلال مناط الغنى عن العلّة ومثله يمتنع أن يكون معلولاً بل ويمتنع أن يتّصف بالإمكان ، فتعيّن الثاني أي ما يكون متعلّقا بالغير بذاته ، وما هو كذلك يمتنع عليه العزلة عمّا يتعلّق به ، لانّ المفروض إنّه لا حقيقة له إلاّ التعلّق بالغير فيجب أن يكون معه ، معيّة المتدلّي بالمتدلّى به ، ومعيّة المعنى الحرفي مع المعنى الاسمي ، فالعوالم الامكانيّة بعامّة مراتبها من جبروتها إلى ملكوتها إلى ملكها حاضرة عنده سبحانه ، غير غائبة عنه ، لا كحضور المبصرات الخارجية لدى الإنسان ، بل كحضور الصور الذهنية لدى النفس المبدعة الخالقة لها ، بل أشدّ من ذلك.

ولعلّه إلى ما ذكرنا يشير قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) ( فاطر / 15 ).

ومثل هذا كيف يتصوّر له العزلة والبينونة فان فرضهما فرض بطلانه.

هذا البرهان الذي أجملنا الكلام في بيانه يكشف الستر عن حقيقة المعيّة أي معيّة الممكن مع الواجب ، ويفسر الاحاطة الوجوديّة له ، وإنّه ليس المراد حلول الواجب في جوف الممكن ونفوذه في ذرّاته ، كنفوذ الماء بين ذرّات الطين ، بل المراد أنّ مقتضي قيوميّته المطلقة قيام العوالم الممكنة به وحضورها لديه ، وبما أنّ

ص: 147

التعلّق والقيام في الممكنات نفس حقيقتها وواقعها ، فلا يمكن لها الغيبة عن اللّه سبحانه ولا العزلة عنه ، وإن أردت تقريب هذا في ضمن مثال فنقول :

إنّ النفس فاعل إلهي وفعله مثال لفعله سبحانه ، فالنفس هي مصدر الصور الذهنيّة ومبدعها وليست الصور منعزلة عن النفس مباينة عنها ، بل لها مع الصور معيّة قيوميّة تحيط بها ، ولا تحلّ فيها ولا يربط النفس بأفعالها إلاّ بإحاطتها عليها مع أنّ لها مقاماً آخر ليس للصور فيها شأن ودخل.

قال الإمام الطاهر موسى بن جعفر : « إنّ اللّه تبارك وتعالى ، لم يزل بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ، ولا يخل في مكان ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ، ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا ، ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال » (1).

ولعلّه إليه ينظر قول ابن العربي في خصوصه :

فإن قلت بالتنزيه كنت مقيّداً *** وإن قلت بالتشبيه كنت محدّداً

وإن قلت بالأمرين كنت مسدداً *** وكنت إماماً في المعارف سيّداً

فإيّاك والتشبيه إن كنت ثابتاً *** وإيّاك والتنزيه إن كنت مفرداً

والمراد من التنزيه هو تصوّر العزلة والبينونة الكاملة الّتي تستلزم استقلال الممكن ، وغناء عن الواجب كما عرفت.

ص: 148


1- التوحيد للصدوق : ص 179.
ما هو المقصود من الأقربيّة ؟

وعلى ضوء هذا إنّ قوله سبحانه : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق / 16 ) تقريب للمقصود بجملة ساذجة تفهمه العامّة « والوريد » هو مطلق العرْق أو عبارة عن العرق الموجود في العنق حيث انّ حياة الإنسان قائمة به فلو قطعنا النظر عن ظاهر الاية فأمر قربه سبحانه إلى الإنسان أعظم من ذلك ولكن الاية اكتفت بما تفهمه العامّة ، وأحال سبحانه المعنى الدقيق منه إلى الايات الاُخر. كيف والاية جعلت للإنسان نفساً وجعلت لها آثاراً ، قال سبحانه : ( وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) ( ق / 16 ) وجعلت سبحانه هو المتوسط بين الإنسان ونفسه ، وبين نفسه وآثارها ، مع أنّه سبحانه أقرب إلى الإنسان من كلّّ أمر مفروض حتى نفسه ، كلّّ ذلك يعرب عن أنّ الاية بصدد تفهيم قرب يقع في متناول فهم العامّة ونظيره قوله سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ ) ( الأنفال / 24 ).

وفي روايات أئمّة أهل البيت تصريحات بالقرب القيومي والاحاطة الوجوديّة نكتفي منها بما يلي :

1 - روى الكليني عن الامام موسى بن جعفر علیه السلام أنّه ذكر عنده قوم يزعمون أنّه اللّه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا فقال : « إنّ اللّه لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل ، وإنّما منظره في القرب والبعد سواء ، لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد » (1).

2 - روى الكليني عن محمد بن عيسى قال : كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد الهادي علیه السلام : « جعلني اللّه فداك يا سيّدي قد روي لنا أنّ اللّه في موضع دون موضع على العرش استوى ... » فوقّع علیه السلام : « واعلم أنّه إذا كان في السماء الدنيا فهو كما هو على العرش والأشياء كلّّها له سواء علماً وقدرة وملكاً وإحاطة » (2).

ص: 149


1- الكافي ج 1 ، باب الحركة ، ص 125 الحديث 1.
2- المصدر نفسه : الحديث 4 ، ص 126.

3 - روى الكليني عن أبي عبد اللّه علیه السلام : إنّ أمير المؤمنين استنهض الناس في حرب معاوية في المرّة الثانية ، فلمّا حشر الناس قام خطيباً فقال : « سبحان الذي ليس أوّل مبتدأ ولا غاية منتهى ولا آخر يفنى سبحانه هو كما وصف نفسه ، والواصفون لا يبلغون نعته ، وحدّ الأشياء كلّّها عند خلقه - إلى أن قال - : لم يحلل فيها فيقال هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن ، ولم يخل منها فيقال له أين ؟ لكنّه سبحانه ... » (1).

4 - روى ابن عساكر « في تاريخ دمشق » :

« إنّ نافع بن الأزرق قائد الأزارقة من الخوارج قال للحسين علیه السلام : صف ربّك الذي تعبده ، قال الحسين علیه السلام : « يابن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه : لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، قريب غير ملتصق ، وبعيد غير مستقصي ، يوحّد ولا يبعّض ، معروف بالآيات ، موصوف بالعلامات ، لا إله إلا هو الكبير المتعال » (2).

وما أليق بالمقام قول القائل :

لا تقل دارها بشرقيّ نجد *** كلّ نجد لعامرية دار

ولها منزل على كلّ ماء *** وعلى كلّ دمنة آثار

ص: 150


1- المصدر نفسه : باب جوامع التوحيد ، ص 135 الحديث 1.
2- تاريخ دمشق : ج 4 ، ص 323.

حرف الباء

السادس عشر : البارئ

قد ورد لفظ البارئ في القرآن ثلاث مرّات ولم يستعمل في غيره.

قال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( الحشر / 24 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ) ( البقرة / 54 ).

وقال سبحانه : ( فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / 54 ).

قال ابن فارس : البرأ له أصلان إليهما ترجع فروع الباب ، أحدهما : الخلق يقال برأ اللّه الخلق يبروهم برأً. والبارئ : اللّه جلّ ثناؤه ، والأصل الاخر : التباعد من الشيء ومزايلته من ذلك البُرء وهو السلامة من السقم. وفي المفردات : البارئ خصّ بوصف اللّه نحو قوله : البارئ المصوّر ، والبريّة : الخلق.

ص: 151

وقال الطبرسي هو الخالق الصانع.

قال اُميّة بن الصلت :

الخالق البارئ المصوّر في ال *** ارحام ماءً حتى يصير دماً

والفرق بين البارئ والخالق ، أنّ البارئ هو المبدئ ، المحدث ، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال (1).

وقال ابن منظور : « البارئ هو الذي خلق الخلق لا عن مثال وقال هذه اللفظة في الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات ، وقلّما تستعمل في غير الحيوان فيقال : برء اللّه النسمة وخلق السماوات والأرض » (2).

وعلى ضوء هذين النصّين يتلخّص الفرق بين البارئ والخالق في أمرين :

1 - البارئ هو الخالق لا عن مثال ، والخالق هو الأعم ، ولا يختصّ بالناقل من حال إلى حال كما هو الحال في فعل المسيح ، قال سبحانه ناقلاً عنه : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) ( آل عمران / 49 ). بل هو أعمّ من ذلك بقرينة قوله سبحانه : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) ( يونس / 3 ).

2 - إنّ البارئ يستعمل في الحيوان كثيراً دون الخالق ، ولأجل ذلك صحّ الجمع بين الخالق والبارئ في بعض الايات كما مرّ.

السابع عشر والثامن عشر : الباطن والظاهر

ورد لفظ « الباطن » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له ، قال سبحانه : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الحديد / 3 ).

ص: 152


1- مجمع البيان ج 1 ص 112 طبع صيدا.
2- لسان العرب ج 1 ص 30.

وورد لفظ « الظاهر » بصوره المختلفة عشر مرّات ووقع اسماً له في مورد واحد ، كما عرفت في الاية السابقة.

قال « ابن فارس » : الظهر له أصل صحيح واحد يدلّ على قوّة وبروز ، من ذلك ظهرَ الشيء يظهر ظهوراً ، ولذلك سمّي وقت الظهر والظهيرة ، وهو أظهر أوقات النهار وأضوؤها ، ومنه يعلم معنى البطن وهو خلاف الظهور أعني الخفاء ، ولعلّه لذلك سمّي أعلى الحيوان ظهراً وأسفله بطناً لظهور الأوّل وخفاء الثاني.

قال الراغب : والبطن خلاف الظهر في كلّّ شيء ، ويقال للجهة السفلى بطن وللجهة العليا ظهر ، وبه شبّه بطن الامر وبطن البوادي ، يقال لكلّ غامض بطن ، ولكلّ ظاهر ظهر ، ومنه بطنان القِدر وظهرانها.

وقد استعمل في الذكر الحكيم كلا اللفظين على هذا المنوال ، قال تعالى : ( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ) ( الأنعام / 120 ) ، وقال تعالى : ( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) ( لقمان / 20 ) ، ومن هذا الباب قولهم لدخلاء الرجل الذين يبطنون أمره : هم بطانته ، قال اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ) ( آل عمران / 118 ).

وعلى هذا فالمراد من توصيفه بالظاهر والباطن هو ظهوره وخفائه وأنّه سبحانه جامع بين الوصفين الضدّين.

ولأرباب الإشارات في تفسير هذين الاسمين وجوه أنهاها الرازي إلى أربعة وعشرين وجها (1) وسنذكر الأقلّ منها :

1 - الظاهر بآياته التي أظهرها من شواهد قدرته وآثار حكمته وبيّنات حجّته الذي عجز الخلق جميعاً عن إبداع أصغرها ، وانشاء أيسرها وأحقرها عندهم ،

ص: 153


1- لاحظ لوامع البينات : ص 323.

والباطن كنهه ، والخفي حقيقته ، فلا تكتنهه الأوهام ولا تدركه الأبصار ، فهو باطن كلّّ باطن ومحتجب كلّّ محتجب.

2 - العالم بما ظهر والعالم بما بطن.

3 - الظاهر : الغالب العالي على كلّّ شيء ، فكلّّ شيء دونه ، والباطن : العالم بكلّّ شيء فلا أحد أعلم منه.

4 - إنّ اتّصافه بهذين الوصفين من شؤون احاطته بكلّّ شيء فإنّه تعالى لمّا كان قديراً على كلّّ شيء مفروض ، كان محيطاً بقدرته على كلّّ شيء من كلّّ جهة فكلّ ما فرض أوّلاً فهو قبله ، وكلّ شيء فرض ظاهراً فهو أظهر منه لإحاطة قدرته به ، فهو الظاهر دون المفروض ظاهراً وكلّ شيء فرض أنّه باطن فهو تعالى أبطن منه لإحاطته به من ورائه فهو الباطن دون المفروض باطناً (1).

التاسع عشر : البديع

قد ورد لفظ « البديع » في القرآن مرّتين ووقع وصفاً له في آيتين قال سبحانه :

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( البقره / 117 ).

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الانعام / 101 ).

قال ابن فارس : « الإبداع إبتداء الشيء وصنعه لا عن مثال كقولهم أبدعت الشيء قولاً أو فعلاً إذا ابتدعته لا عن سابق مثال.

ص: 154


1- الميزان ج 19 ص 165 ولاحظ توحيد الصدوق : ص 200 - 201 ، ومجمع البيان ج 5 ، ص 230 ، ومفاتيح الغيب للرازي ج 8 ، ص 85.

قال الراغب : « الإبداع إنشاءُ صنعة بلا احتذاء واقتداء ، ومنه قيل رَكِيّة بديعة أي جديدة الحضر وإذا استعمل في اللّه تعالى فهو بمعنى إيجاد الشيء من غير آلة ولا مادّة ولا زمان ولا مكان وليس ذلك إلاّ لله ».

ويؤيّد ذلك قوله سبحانه ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ ) ( الاحقاف / 9 ) : أي مبدعاً لم يتقدّمني رسول ، أو مبدعاً في ما أقوله ومنه اشتق البدعة للمذهب وهو إيراد قول لم يستَنّ قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة ومثله قوله سبحانه : ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) ( الحديد / 27 ) (1).

ومنه يظهر أنّ قوله سبحانه « بديع السموات » برهان عقلي على أنّه ليس له ولد ولا صاحبة ، فإنّ مبدع السموات والأرض ومنشئهما هو من أوجدهما لا من شيء ولا على مثال سبق ، وهو لا يجتمع مع اتّخاذ الولد لأنّه فرع اتّخاذ الزوجة أوّلا ، وفرع اللقاح ثانياً ، وفرع الولادة ثالثاً ، والكلّّ ينافي كونه سبحانه بديعاً في فعله ، منشئاً في الإيجاد بلا مادّة ولا مثال سبق.

قال الرازي : « البديع عبارة عن من يوجد الشيء بلا آلة ولا مادّة ولا زمان ولا يخلوا اتّخاذ الولد من واحد منها ، وعلى ذلك فالبديع من صفات الفعل لا من صفات الذات. نعم لو فسّر بأنّه الذي لا مثل له ولا شبيه ، كما يقال هذا شيء بديع إذا كان عديم المثل كان من صفات الذات ، وهو تعالى أولى الموجودات بهذا الاسم والوصف لأنّه يمتنع أن يكون له مثل أزلاً وأبداً » (2).

العشرون : البر

قد ورد لفظ « البرّ » 15 مرّة في القرآن وقد وقع وصفاً له في آية واحدة. قال

ص: 155


1- المفردات : ص 45.
2- لوامع البينات : ص 350.

سبحانه : ( إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) ( الطور / 28 ).

قد ذكر ابن فارس « للبَر » مثلثاً اُصولاً أربعة : الصدق ، وحكاية صوت ، وخلاف البحر ، ونبت.

أمّا الصدق مثل قوله : صدق فلان وبرّ ، وبرّت يمينه أي صدقت ، وأبّرها أمضاها على الصدق.

وأمّا حكاية الصوت فالعرب تقول : لا يعرف هِراً من برّ ، فالهر دعاء الغنم ، والبرّ الصوت بها إذا سقيت.

وأمّا خلاف البحر مثل قوله سبحانه : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) ( الروم / 41 ).

وأمّا النبت فمنه البُرّ وهِيَ الحِنْطَةُ ، الواحدة : بُرّة.

ثمَّ إنّه رتّب على المعنى الأوّل قولهم : يبرّ ذا قرابته ، وقال : وأصله الصدق يقال : رجل برّ وبارّ وبررت والديّ.

وعلى هذا فالبرّ هو الصادق واُطلق على المحسن لأنّه صادق في حبّه ، وقد وصف به سبحانه في القرآن كما وصف به يحيى والمسيح قال سبحانه واصفاً ليحيى : ( وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ) ( مريم / 13 و 14 ) وحكى عن المسيح وقال : ( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) ( مريم / 31 و 32 ).

هذا ما يستفاد من كلام الخبير ابن فارس غير أنّ الراغب في مفرداته جعل الأصل هو خلاف البحر فاشتقّ منه سائر المعاني فقال : البرّ خلاف البحر وتصوّر منه التوسّع فاشتقّ منه البرّ أي التوسع في فعل الخير (1) وينسب ذلك إلى اللّه تعالى

ص: 156


1- ولعلّه لأجل انّ البَرّ مركز الخير عند العرب ، والبحر محل الشرّ.

نحو ( إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) ( الطور / 28 ) وإلى العبد تارة فيقال : برّ العبد ربّه ، أي توسّع في طاعته ، فمن اللّه تعالى الثواب ومن العبد الطاعة إلى آخر ما ذكره.

وعلى ذلك فيحتمل أن يكون المراد ، الصادق في ما وعده ، والرحيم بعباده ، واختارها الصدوق ونقله الطبرسي وجهاً ، كما يحتمل أن يكون المراد المحسن ، وإليه يرجع ما يقال أي اللطيف وأصله اللطف مع عظم الشأن (1).

الواحد والعشرون والثاني والعشرون : « البصير والسميع »
اشارة

الواحد والعشرون والثاني والعشرون : « البصير والسميع » (2)

قد ورد لفظ « البصير » في القرآن 51 مرّة ووقع اسماً له سبحانه في 43آية كما أنّ « السميع » ورد في الذكر الحكيم 47 مرّة ، ووقع وصفاً له سبحانه في جميع الموارد إلاّ آية واحدة أعني ما ورد في وصف خلق الإنسان. قال سبحانه : ( فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( الإنسان / 2 ). ولنرجع إلى تحقيق المعنى الأصيل للفظ « البصير » والظاهر من ابن فارس أنّ له أصلا واحداً وهو وضوح الشيء ثم اشتقّ منه سائر المعاني ومنها إطلاق اسم « البصر » على العين (3).

ولكن الظاهر من « الراغب » إنّ المعنى الجذري له هو الجارحة الناظرة ومنه اشتقّ سائر المعاني.

قال : « البصر » يقال للجارحة الناظرة نحو قوله تعالى : ( كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) ( النحل / 77 ) و ( القمر / 50 ) و ( إِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ ) ( الأحزاب / 10 ) ويقال للقوّة التي فيها ، ويقال لقوّة القلب المدركة « بصيرة » و « بصر » نحو قوله تعالى : ( فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ( ق / 22 ) وقال : ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ

ص: 157


1- التوحيد للصدوق : ص 215 ، مجمع البيان ج 5 ، ص 116.
2- لوجود الصلة بين هذين الاسمين ، بحثنا عنهما في حرف الباء.
3- مقاييس اللغة ج 1 ، ص 253 - 254.

مَا طَغَى ) ( النجم / 17 ) ، وجمع « البصر » : « أبصار » وجمع « البصيرة » : « بصائر » (1).

وعلى كلّّ تقدير إنّ البصر والسمع من أعظم أدوات المعرفة وأنفعها وأكثر ما يرتبط به الإنسان مع الخارج بهذين الحسّين ، فهما من أشرف الحواسّ الظاهرة ولعلّه - لأجل ذلك - اُطلق عليه سبحانه « السميع البصير » دون غيرهما من أسماء الحواسّ ، فلا يطلق عليه « الشامّ » و « الذائق » و « اللامس » وإن فسّرت بما يفسّر به « السميع » و « البصير » بمعنى حضور المبصرات والمسموعات ، وهذا يعرب عن كرامة هذين الحسّين وأعظمها نفعاً وأوسعها في ايجاد الصلة للإنسان بالخارج. ونقدّم الكلام في « البصير » على « السميع » حفظاً للترتيب الأبجدي.

والتتبّع في الايات يعطي أنّ البصير قد يطلق ويراد منه حضور المبصرات عنده كما سيأتي بيانه وذلك عند ما استعمل مع « السميع » ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء / 58 ) وقس عليه ما جاء بهذا المنوال وقد يراد منه العلم بالجزئيات والاشراف عليها عن كثب وأنه لا يعزب عنه شيء من الأشياء وذلك عند ما يستعمل متعدّياً بالباء.

قال سبحانه : ( إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) ( الاسراء / 30 ) وقال سبحانه : ( وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) ( الاسراء / 17 ) وقال سبحانه : ( وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) ( الفتح / 24 ) وقال سبحانه : ( مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ) ( الملك / 19 ).

والمتعلّق في هذه الايات يختلف سعة وضيقاً فقد تعلّق ب « كلّ شيء » مّرة ، وب « العباد » ثانيا ، وب « أعمالهم » ثالثة ، وب « ذنوبهم » رابعة ، فعندئذٍ لا يصحّ تفسير البصير فيها بحضور المبصرات فإنّ كثيراً من الذنوب وكثيراً من الأشياء ليس أمراً مبصراً مرئيّا بالعيون ، ومع ذلك هو بصير بكلّ شيء ، فالبصير هناك يرادف العلم

ص: 158


1- المفردات للراغب : ص 49.

بالجزئيّات بدقّة وامعان ولعلّ « الخبير » تأكيد لمعناه أو هو تأكيد له ، والايات بصدد بيان أنّ علمه سبحانه بما يجري في الكون ليس علماً اجماليّاً بل هو علم تفصيلي يشمل كلّّ ما جلّ ودق ، وكلّّ شيء خَفِي أو ظهر ، وبذلك يبطل قول من ينكر علمه سبحانه بالجزئيات بحجّة أنّها في مظان التغيّر والتبدّل ، فيوجب الحدوث والتبدّل في ذات البارئ ذاهلاً عن أنّ التغيّر في المعلوم لا في جانب العلم ، ولعلّنا نرجع إلى نقد هذه الشبهة عند البحث عن اسم « العالم ».

ولأجل اشتمال هذه الكلمة على الدقّة والامعان يقول سبحانه : ( بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) ( القيامة / 14 و 15 ). ويقول سبحانه حاكياً عن السامري : ( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ... ) ( طه / 96 ).

هذا كلّّه حول البصير وأمّا « السميع » فقد استعمل في معنيين : أحدهما سماع المسموعات الذي يرجع معناه فيه سبحانه إلى حضورها لديه ، وعدم غيبتها عن ذاته ، وهذا المعنى هو الأكثر ، وآخر بمعنى « المجيب » مثل قوله : ( سَمِيعُ الدُّعَاءِ ) ( آل عمران / 38 ) و ( إبراهيم / 39 ) والحقّ أن يقال : إنّ السميع في هاتين الايتين كالسميع في غيرهما ، وإنّه استعمل في معنى واحد وهو سماع الدعاء غير أنّ السماع إذا لم يكن مقترناً بالاجابة لا يكون نافعاً للعبد ، فلأجل ذلك فسّر بمجيب الدعاء لا أنّه استعمل اللفظ في المجيب بل الاجابة من لوازم المقصود ، ومثله مايقال : اسمع ما أقول ، أو يقال : لِمَ لا تسمع ما قلت.

وقال سبحانه : ( سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) ( البقرة / 285 ). و « الراغب » فسّر بعض الايات وقول القائل : « اسمع ما أقول » بالطاعة ، والحقّ أنّ السماع استعمل في نفس المعنى اللغوي ولكن لمّا كانت الغاية من السماع هو الفهم ثم العمل دلّ الكلام عليه بما أنّه من لوازم المعنى اللغوي في المقام.

ص: 159

تفسير كونه « سميعاً بصيراً »

إنّ السماع في الإنسان يتحقّق بأجهزة وأدوات طبيعيّة ، ويتحقّق السماع في الإنسان بوصول الأمواج الصوتية إلى الصماخ ومنها إلى المخ ثمّ إلى النفس.

كما أنّ حقيقة الإبصار في الإنسان تتحقّق بأجهزة وآلات طبيعية حيث تنقل الأضواء الحاملة لصورة الشيء المرئي إلى عدسة العين ومنها - بعد أعمال فيزياويّة - إلى النقطة الصفراء إلى أن يتحقّق الإبصار ، ولكن إطلاقهما على اللّه سبحانه ليس بتحقّق هذه المقدّمات فيه أيضاً وذلك لأنّ هذه الأدوات والتفاعلات من لوازم تحقّق الإبصار والسماع في الحيوان والإنسان وليست داخلة في حقيقتهما بصورة عامّة ، وبعبارة اُخرى : انّ هذه الآلات والأدوات والأعمال الفيزياوية التي اثبتها العلم إنّما هي من لوازم الابصار والسماع في الإنسان والحيوان اللذين لا يمكنهما القيام بعملية السماع والابصار إلاّ في ظلّ هذه الاُمور ، فلو تمكن موجود من الوصول إلى ما يصل إليه الإنسان من دون أداة وفعل وانفعال فهو أولى بأن يكون سميعاً وبصيراً ، لأنّ الغاية الحاصلة بعد عمل الحسّ هو حضور الأمواج والصور عند النفس فلو أمكن حضورهما لديه بلا أداة أو بلا عمل فيزياوي أو كيمياوي فهو سميع وبصير قطعاً لتحقق الغاية المتوخّاة.

وبما أنّ جميع العوالم الامكانيّة حاضرة لديه ، واللّه سبحانه محيط بالموجودات إحاطة قيوميّة والعالم الإمكاني قائم به من الذرّة إلى المجرّة ، فتكون المسموعات والمبصرات حاضرة لديه حضور سائر الأشياء ولأجل ذلك إنّ كثيراً من المحقّقين جعلوا كونه « سميعاً » و « بصيراً » من شعب علمه ولكن علمه بالجزئيات (1).

والمراد من كونه من شُعب علمه بالجزئيات حضور المسموعات والمبصرات

ص: 160


1- الأسفار الأربعة ج 6 ص 421.

لديه حضوراً واقعيّاً ، وليس للعلم حقيقة وراء حضور المعلوم لدى العالم ولعلّ هذا هو مراد من قال من المتكلّمين : سمعه تعالى يؤول إلى علمه بالمسموعات إذ لا جارحة له ، وإلاّ فالتعليل المذكور لا يكون دليلاً على عدم كونه سميعاً حقيقة.

قال الحكيم السبزواري : اللّه سبحانه يسمع جميع الأصوات التي كانت وستكون بسمع واحد حضوري اشراقي ، ومن أسماءه الحسنى : « من لا يشغله سمع عن سمع » فمناط السمع حضور الأصوات ، حتى لو فرضت حضور الأصوات لك ، بلا قرع صماخ لكنت سميعاً فما ظنّك بمن حضور إله ، أشد من حضورها لانفسها ، فلا قيمة دفت من يقول من المتكلّمين : سمعه تعالى يؤول إلى علمه بالمسموعات إذ لا جارحة له بل الأمر كما قال شيخ الاشراق : إنّ علمه تعالى يرجع إلى بصره وسمعه لا أنّ بصره وسمعه يرجعان إلى علمه (1).

أقول كما أنّ ارجاع سمعه إلى علمه بحجّة أنّه لا جارحة له غير صحيح ، كذلك ارجاع علمه في جميع الموارد إليهما غير تامّ إلاّ إذا كان المراد ارجاع خصوص علمه بهما لا مطلق علمه كما هو واضح.

وربّما يقال : « من أنّه إذا كان ملاك توصيفه سبحانه بالسميع والبصير هو حضور المسموعات والمبصرات فليكن هذا مبرّراً لتوصيفه بأنّه ذائق شامّ لامس لحضور المذوقات والمشمومات والملموسات عنده » وهذا غير تام لما عرفت أنّ شرافة الحسّين وكرامتهما وعظم نفعهما صار سبباً لتسميته سبحانه بهما دون غيرهما من أسماء الحواس الظاهرة ، مضافاً لما عرفت في باب توقيفيّة الأسماء وإنّ كلّّ اسم يكون موهماً لكونه جسماً أو جسمانياً فتكون التسمية به ممنوعة. نعم أهل الحديث والحنابلة والسلفية يصفونه سبحانه بهما على وجه يوهم كونه سبحانه سميعاً وبصيراً بنفس المعنى الموجود في الإنسان والحيوان ، وآخر ما يوجد عند المتظاهرين بالتنزيه منهم أنّهم يقولون : إنّه سميع وبصير بلا كيف.

ص: 161


1- شرح الأسماء الحسنى : ص 36 ، للحكيم السبزواري.

قال الأشعري : « ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهميّة والخوارج » (1).

وقال في موضع آخر : « وزعمت المعتزلة أنّ قول اللّه عزّ وجلّ ( وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) ( الحج / 61 ). معناه عليم. ثم أجاب بأنّه إذا قال عزّ وجلّ : ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) ( طه / 46 ) وقال : ( قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ) ( المجادلة / 1 ) فهل معنى ذلك عندكم « علم » فإن قالوا نعم ، قيل لهم : فقد وجب عليكم أن تقولوا معنى قوله أسمع وأرى : أعلم وأعلم إذ كان معنى ذلك العلم. ثم قال : إذا كان معنى سميع وبصير هو أنّه عالم فيلزم أن يكون معنى قادر هو عالم - إلى آخر ما ذكره - (2).

يلاحظ عليه :

أوّلا : انّه لو قيل بأنّ كونه « سميعاً » و « بصيراً » من شعب علمه بالكلّيّات فلا شك أنّه خاطئ في رأيه لأنّ السمع والبصر من أدوات المعرفة الجزئيّة والسميع والبصير من يعرف المسموعات والمبصرات عرفاناً شخصياً جزئياً ، وأمّا لو قيل بأنّه من شعب علمه بالجزئيات الذي يعبّر عنه بالعرفان والمعرفة فلا يرد عليه ما ذكره الشيخ أبو الحسن من إنكار كونه سميعاً وبصيراً وما نسب إلى المعتزلة من أنّهم ينفون أن يكون لله السمع والبصر غير صحيح فانّهم يثبتان لله سبحانه هذين الأمرين لكن بالتطور الذي قد عرفته ، وسيجيء نظيره في الحياة ، فاللّه سبحانه « سميع » بالحقيقة « بصير » واقعا والمسموعات والمبصرات مشهودة له لكن بلا حاجة إلى الحسّ وإعماله.

قال الصدوق : « وليس وصفنا له تبارك وتعالى بأنّه سميع بصير ، وصفاً بأنّه

ص: 162


1- الابانة : ص 19.
2- الابانة : ص 117 و 118.

عالم بل معناه ما قدّمناه من كونه مدركاً وهذه الصفة صفة كلّّ حيّ لا آفة به » (1).

وبذلك يعلم أنّ قوله « أسمع وأرى » يفيد معنيين متغايرين فقوله « أسمع » إشارة إلى حضور المسموعات وقوله « أرى » إشارة إلى حضور المبصرات عنده.

وثانيا : إنّ تفسير « السميع » و « العليم » بالعالم لا يستلزم تفسير القادر به لما عرفت من أنّ حضور المبصرات والمسموعات لدى العالم نوع معرفة له لكن معرفة جزئيّة مشخّصة لا معرفة كلّّية ، وأمّا القدرة فلا صلة له بالعلم ، فالسمع والبصر من أدوات المعرفة والعلم دون القدرة.

وثالثا : إنّ الوحدة المصداقية ، لا تلازم الوحدة المفهوميّة فكم فرق بين القول بأنّ واقع كونه بصيراً وسميعاً ، هو علمه بالمبصرات والمسموعات ، لا بشيء آخر ، والقول بأنّ مفهومهما هو نفس مفهوم العلم وانّ الموضوع في الكلّ واحد والمدّعى هو الأوّل ، وما ذكر من الاشكال إنّما يترتّب على الثاني ، وعلى ذلك فلا يلزم من القول بأنّهما من شعب علمه تفسير قوله سبحانه : ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) : « اعلم واعلم ».

وكم للشيخ الاشعري من هذه التخليطات.

نعم الأشعري وإمام الحنابلة ومن لفّ لفّهما غير الراسخين في تنزيهه سبحانه عن الجسم والجسمانيات ربّما يروق لهم اثبات أجهزة كالعين والسمع له سبحانه ولكن لا يتظاهرون بذلك بل يتظاهرون بالتنزيه باضافة « بلا كيف » ، وقد عرفت أنّ هذه اللفظة لا تفيد شيئاً في مقام التنزيه.

ص: 163


1- التوحيد للصدوق : ص 197.
روايات أئمّة أهل البيت علیهم السلام في هذا المجال

قال الامام أمير المؤمنين علیه السلام : « والبصير لا بتفريق آلة والشاهد لا بمماسّة » (1).

وقال علیه السلام : « ويسمع لا بخروق وأدوات » (2).

وقال علیه السلام : « بصير لا يوصف بالحاسّة » (3).

وقال الامام الصادق علیه السلام : « سميع بصير ، أي سميع بغير جارحة ، وبصير بغير آلة ، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه » (4).

وقال الامام الباقر علیه السلام : « إنّه سميع بصير : يسمع بما يبصر ، ويبصر بما يسمع » (5).

وفي هذا الحديث إشارة إلى اتّحاد صفاته بعضها مع بعض والمجموع مع الذات لكن اتّحاداً في الخارج والمصداق لا في المفهوم.

ص: 164


1- نهج البلاغة : الخطبة 155.
2- نهج البلاغة : الحكمة 186.
3- نهج البلاغة : الخطبة 182.
4- التوحيد للصدوق : ص 144.
5- التوحيد للصدوق : ص 144.

حرف التّاء

الثالث والعشرون : « التوّاب »

قد ورد لفظ التوّاب في الذكر الحكيم 11 مرّة ووقع في الجميع اسماً له سبحانه قال : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / 37 ).

قال ابن فارس : التوب كلمة واحدة يدلّ على الرجوع. يقال : تاب من ذنبه أي رجع عنه ، يتوب إلى اللّه توبة ومتاباً فهو تائب ، والتوب : التوبة ، قال اللّه : ( وَقَابِلِ التَّوْبِ ) (1).

أصل التوبة الرجوع عمّا سلف ، والندم على ما فرّط ، فالعبد إذا تاب يقال له تائب إلى اللّه بندمه على معصيته ، وإذا قبل توبته يقال اللّه تعالى تائب على العبد بقبول توبته.

والحاصل أنّه إذا تعدّى بكلمة « إلى » يكون بمعنى التوبة وإذا تعدّى به « على » يكون بمعنى قبول التوبة ، أمّا الأوّل فقال سبحانه : ( فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) ( البقرة / 54 ) وقال سبحانه : ( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا ) ( هود / 3 ) وقال سبحانه : ( وَتُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( النور / 31 ) إلى غير ذلك من الايات.

ص: 165


1- مقاييس اللغة ج 1 ص 357.

وأمّا الثاني فكما قال سبحانه : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / 37 ) وقال : ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / 54 ) وقال : ( لَقَد تَّابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ) ( التوبة / 117 ) (3).

وبذلك يعلم أنّ معنى التوّاب هو قابل التوبة عن العباد وذلك لأجل وروده بعد قوله « فتاب عليه » أو « فتاب عليكم » وهو بمنزلة العلّة للجملة المتقدّمة.

ص: 166

حرف الجيم

الرابع والعشرون : « الجبّار »
اشارة

قد ورد هذا اللفظ في موارد عشرة في القرآن الكريم ووقع وصفاً له في مورد واحد قال سبحانه : ( المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر / 23 ) وهو من الصفات التي إذا وقع وصفاً له سبحانه يتبادر منه المدح وإذا وصف به غيره يتبادر منه الذم. قال سبحانه : ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) ( غافر / 35 ) وقال سبحانه : ( وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) ( هود / 59 ) ويمكن توضيح ذلك بوجوه :

1 - قال ابن فارس : الجبر هو جنس من العظمة والعلوّ والاستقامة. فالجبّارُ الذي طال وفات اليد. يقال فرس جبّار ونخلة جبارة (1).

وقال الرازي : الجبّار : العالي الذي لا ينال ، ومنه نخلة جبّارة : إذا طالت وعلت وقصرت الأيدي عن أن تنال أعلاها ، ومنه قوله تعالى : ( إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ ) ( المائدة / 22 ) أي عظماء ، فيقال : رجل جبّار إذا كان متعظّماً متجبّراً لا يتواضع ولا ينقاد لأحد وهذا الاسم في حقّ اللّه سبحانه يفيد أنّه سبحانه وتعالى بحيث لا تناله الأفكار ولا تحيط به الأبصار ، ولا يصل إلى كنه عزّه عقول العقلاء ، ولا ترقي إلى مبادي اشراق جلاله علوم العلماء ، وهو بهذا المعنى من صفات التنزيه (2).

ص: 167


1- مقاييس اللغة ج 1 ص 501.
2- لوامع البينات : ص 197.
يلاحظ عليه :
اشارة

الظاهر أنّ الجبّار بمعنى واحد صفة مدح في حقّه سبحانه ووصف ذمّ في غيره ، وعلى ضوء ذلك فيجب أن يفسّر على وجه يكون نفس المعنى في مورد مدحاً وفي مورد آخر ذمّاً من دون أن يكون هناك معنيان ، وما ذكر من المعاني للجبّار لا يحقّق ذلك المطلوب وإليك البيان :

1 - الجبّار : العالي الذي لا ينال

هذا المعنى هو المتبادر ممّا ذكره « ابن فارس » و « الرازي » ولو صحّ لا يحقّق ما هو المطلوب بأن يكون معنى واحد مدحاً في حقّ الواجب وذمّاً في حقّ الممكن ، فإنّ كون الشيء عالياً لا ينال مدح على كلّ حال ، وتعليل كونه ذمّاً في حقّ الممكن بعدم كونه كذلك ، لا يستلزم كونه وصف ذمّ في ذلك المورد وإلاّ يلزم أن يكون وصف العالم في حقّ الجاهل وصف ذمّ إذا ادّعى لنفسه.

2 - الجبّار : العظيم الشأن في الملك

وهذا هو المستفاد من كلام الطبرسي حيث قال : الجبّار ب « العظيم الشأن في الملك » ولا يستحق أن يوصف به على الاطلاق إلاّ اللّه تعالى ، فإن وصف به غيره فإنّما يوضع اللفظ في غير موضعه فيكون ذمّاً » (1).

يلاحظ عليه : بنفس ما لوحظ به على كلام الرازي ، فإنّ ما ذكره من المعنى صحيح في حقّ البارئ سبحانه ، إنّما الكلام في وجه كونه وصف ذم في حقّ غيره فالظاهر من الآيات أنّه كذلك بنفس معناه وصف ذم لا لكون المبدء غير موجود فيهم. فكم فرق بين كون الشيء وصف ذمّ ، وبين كونه في حدّ ذاته مدحاً ، ولكنه لأجل كونه مدعياً لما ليس فيه وصف ذمّ.

ص: 168


1- مجمع البيان ج 2 ص 179 ، وج 5 ص 267.
3 - « الجبّار » : من يصلح الشيء بضرب من القهر

هذا المعنى يظهر من « الراغب » في مفرداته. قال الجبر : إصلاح الشيء بضرب من القهر ، وقد يقال في الاصطلاح المجرد مثل قوله علي علیه السلام : « يا جابر كل كسير » (1) ويطلق على الإنسان بمعنى من يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقّها. وهذا لا يقال إلاّ على طريق الذم (2).

أقول : ما ذكره محتمل في حقّه سبحانه ويمكن تقريره بوجه واضح وهو أنّه سبحانه وتعالى باعتبار جمع شتيت اُمور خلقه ، ولمّ شعثهم وشعب ما تفرّق عنهم ، واستصلاح ما فسد منهم ، ورتق ما فتق منهم ، فهو جبّار من في السموات ومن في الارض دائماً (3).

ولكن عدّه وصف ذم بهذا المعنى أيضا في حقّ الغير أمر مشكل ، فإنّ من يجبر النقيصة بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها ليس مذموماً إلاّ من جهة عدم وجود المبدأ فيه ، وهو غير كونه بذاته ذمّاً وقدحاً والظاهر أنّ قوله « بادّعاء منزلة من التعالي لا يستحقّها » ليس داخلا في معنى الجبّار وذلك لأنّه على هذا الاحتمال يصدق على اللّه سبحانه وعلى الناس بمعنى واحد وإلاّ يلزم أن يكون مشتركا لفظياً فاذا اطلق على اللّه سبحانه يكون القيد هو الايجاب أعني يستحقّها مكان لا يستحقّها.

والذي يمكن أن يقال : إنّ المراد منه قهر الناس على ما يريده من دون أن يكون له ذلك الحق ويؤيّده توصيفه بالشقيّ في آية ، والعنود في آية اُخرى ، وهما يناسبان مع كونه بمعنى القهر والجبر ضد الاختيار. قال سبحانه واصفاً ليحيى : ( وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ) ( مريم / 14 ) وقال عن لسان المسيح ( وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) ( مريم / 32 ) وقال سبحانه : ( وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَ

ص: 169


1- وفي المصباح المنير : جبرت العظم الكسير : اصلحته.
2- المفردات : ص 86.
3- شرح الأسماء الحسنى للسيد حسين الهمداني : ص 39.

اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) ( هود / 59 ) فبحكم المقابلة أي مقابلة جبّار مع البرّ ، وتوصيفه بالشقاء والعناد ، يعلم معنى الجبّار الموصوف به الانسان ، كما أنّ المراد من قوله سبحانه : ( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) ( المائدة / 22 ) هو كونهم شديدي البطش والبأس وهو يلازم قهر الناس على الحرب والمقابلة.

الخامس والعشرون : « الجامع »

وقد ورد اللفظ في القرآن الكريم ثلاث مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في آيتين قال : ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ ) ( آل عمران / 9 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء / 140 ) ونظير الاية الاُولى قوله سبحانه : ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ) ( التغابن / 9 ) وقوله سبحانه : ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) ( هود / 103 ).

والظاهر أنّ المراد من كونه جامعاً هو جمع الخلق في موقف القيامة بشهادة قوله سبحانه : ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ ) ( المرسلات / 38 ) وقوله سبحانه : ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللّهُ ) ( الدخان / 40 - 42 ) ، والذي يوضح ذلك أنّ قوله ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ) بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة الوارد في الاية المتقدمة : أعني ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ( آل عمران / 8 ). فعلّل سؤاله الرحمة بأنّه سبحانه يجمع الناس في يوم القيامة الذي لا يغني فيه أحد عن أحد ، وعلى ضوء ذلك فما ذكره الرازي من الوجوه كلّها ساقطة فلاحظ (1).

ص: 170


1- الايات البينات : ص 243.

حرف الحاء

اشارة

السادس والعشرون : « الحسيب »

وقد ورد اللفظ في الذكر الحكيم أربع مرّات ووقع وصفاً له في موارد ثلاث قال سبحانه : ( وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ) ( النساء / 6 ).

( إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ) ( النساء / 86 ).

( وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللّهَ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ) ( الاحزاب / 39 ).

وقال ابن فارس : إنّ ل « حسب » اُصولا أربعة :

1 - العدّ. تقول : حسبت الشيء أحسبه حسباً وحسباناً ...

2 - الكفاية. تقول : شيء حساب أي كاف ...

3 - الحسبان. وهي جمع حسبانة وهي الوسادة الصغيرة ...

4 - الأحسب الذي ابيضّت جلدته ...

والمتناسب في المقام هو المعنيان الأوّلان. أمّا الاية الاُولى فالمناسب فيها هو المعنى الأوّل بقرينة ما قبله. فالاية واردة في الارتزاق من أموال اليتامى.

قال سبحانه : ( وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ) ( النساء / 6 ).

وعلى هذا « الحسيب » بمعنى المحاسب كالنديم بمعنى المنادم ، والجليس بمعنى المجالس قال تعالى : ( كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) ( الاسراء / 14 ) و

ص: 171

معنى الاية كفى باللّه محاسباً فاحذروا محاسبته في الآخرة كما تحذرون محاسبة اليتيم بعد البلوغ ، وإلى ذلك يرجع تفسيره بأنّه بمعنى « رقيبا » يحاسبهم عليه. فإنّ الحساب لغاية الرقابة والحفظ ، ومثله من فسّره بالحفيظ فانّ الكلّ من الغايات المترتبة على العدّ والحساب. وربّما يحتمل أن يكون من الأصل الأوّل بمعنى « وكفى باللّه حسيبا » أي شاهداً على دفع المال إليهم وكفى بعلمه وثيقة.

وأمّا الاية الثانية أعني قوله تعالى : ( وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ) ( النساء / 86 ) فالظاهر أنّه أيضاً من الأصل الأول وإليه يرجع تفسيره ب « حفيظا » فانّ الحفظ نتيجة العدّو الحساب.

وأمّا الاية الثالثة : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللّهَ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ) ( الاحزاب / 39 ) فالظاهر أنّه من الأصل الثاني أي كفى كفاية بقرينة قوله : ( وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللّهَ ) ويحتمل أن يكون من الأصل الأوّل أي حافظاً على أعمال خلقه ، ومحاسباً ومجازياً عليها.

السابع والعشرون : « الحفيظ »

وقد ورد « الحفيظ » في القرآن الكريم احدى عشرة مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في آيتين :

قال سبحانه : ( فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) ( هود / 57 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) ( سبأ / 21 ).

وفي آية ثالثة جاء وصفاً للكتاب قال سبحانه : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) ( ق / 4 ).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : له أصل واحد يدلّ على مراعاة الشيء ... و

ص: 172

التحفّظ وقلّة الغفلة والحفاظ : المحافظة على الامور.

وقال الراغب : الحفيظ : الحافظ.

ولكن المناسب للآيتين الأوّليتين تفسيره « بعليم » ، نعم هو في الاية الثالثة بمعنى الحافظ ، يظهر ذلك بالامعان في معنى الايات.

الثامن والعشرون : « الحفيّ »

قد ورد « الحفي » في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له في آية واحدة. قال حاكياً عن ابراهيم عند ما هجر آزر : ( قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ) ( مريم / 47 ).

وقال في غيره سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ ) ( الأعراف / 187 ).

قال ابن فارس : « إنّ للحفي اُصولاً ثلاثة : المنع ، واستقصاء السؤال ، والحفاء خلاف الانتعال ... » (1).

ومن الأصل الثاني قوله سبحانه : ( إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا ... ) ( محمد / 37 ) أي أن يجهدكم بمسألة جميع أموالكم ويبالغ في المسألة تبخلوا.

وأمّا الحفيّ عند ما وقع وصفاً له فهو بمعنى البرّ اللطيف ولا يرجع معناه إلى الاصول التي طرحها ابن فارس ولأجل ذلك فسّره الراغب بما ذكرناه وقال : الحفيّ : البرّ اللطيف وأضاف : يقال أحفيت بفلان وتحفّيت به : إذا عنيت بإكرامه ، والمناسب لسياق الاية هو هذا لأنّ الاية تذكر وعد ابراهيم لأبيه آزر انّه سيستغفر له وكأنّه يريد : ويقبل سبحانه دعائي لأنّه حفيّ بي.

ص: 173


1- مقاييس اللغة ج 2 ص 83.
التاسع والعشرون : « الحكيم »
اشارة

قد ورد لفظ « الحكيم » في القرآن الحكيم 97 مرّة ووقع اسماً له سبحانه في 92 مورداً.

وأمّا الموارد الاُخر ، فقد وقع وصفاً للاُمور التالية : 1 - الذكر ، 2 - الكتاب ، 3 - القرآن ، 4 - الأمر ، قال سبحانه : ( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران / 58 ) ، وقال تعالى : ( آيَاتُ الْكِتَابِ الحَكِيمِ ) ( يونس / 1 ولقمان / 2 ) وقال : ( يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ ) ( يس / 1 - 2 ) وقال : ( كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) ( الدخان / 1 ).

وأمّا معناه في اللغة فقد مضى البحث عنه في تفسير أحد أسمائه : « أحكم الحاكمين » فقلنا : إنّ له أصلاً واحداً وهو المنع ، وسمّيت حكمة الدابّة بها ، لأنّها تمنعها ، يقال : حكّمت الدابّة وأحكمتها ، والحكمة هذا قياسها ، لأنّها تمنع من الجهل.

وممّا يجدر بالذكر أنّه لم يقع الحكيم اسماً له سبحانه إلاّ معه اسم آخر من علمه وعزّته وغيرهما ، وإليك الايات التي ورد فيها اسم الحكيم مع سائر الأسماء ونذكر من كل قسم آية واحدة.

1 - العليم : قال سبحانه : ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) ( البقره / 32 ).

2 - العزيز : قال سبحانه : ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( البقرة / 129 ).

3 - الخبير : قال سبحانه : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / 18 ).

4 - التوّاب : قال سبحانه : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) ( النور / 10 ).

ص: 174

5 - عليّ : قال سبحانه : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الشورى / 51 ).

6 - واسع : قال سبحانه : ( وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ) ( النساء / 130 ).

7 - حميد : قال سبحانه : ( تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ( فصلت / 42 ).

وأمّا معناه فقد اختلفوا فيه على أقوال :

1 - ذهب « الأزهري » إلى أنّه من صفات اللّه كالحكم والحاكم ومعاني هذه الأسماء متقاربة واللّه أعلم بما أراد بها وعلينا الايمان بأنّها من أسمائه.

يلاحظ عليه : أنّ القرآن نزل للتدبّر والتعقّل لا للتلاوة فقط وارجاع معاني ألفاظها إلى اللّه سبحانه ، وإنّما يرجع إليه كنه حقائقها.

2 - قال ابن الاثير : الحكم والحكيم بمعنى الحاكم وهو القاضي فهو فعيل لمعنى فاعل.

يلاحظ عليه : أنّه لا ينطبق على جميع الايات. مثلا يصحّ في قوله سبحانه : ( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( المائدة / 38 ) ولا يصحّ في قوله : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الانفال / 10 ) أو قوله : ( وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / 71 ) أضف إلى ذلك أنّ القاضي ليس من معاني الحاكم وإنّما يستعمل فيه بمناسبة خاصّة.

3 - هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى مفعل.

4 - الحكيم : ذوالحكمة والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم وبه فسّر العلاّمة الطباطبائي قوله : ( وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ ) ( يس / 2 ) قال : وقد وصف القرآن بالحكيم لكون الحكمة مستقرّة فيه وكذلك حقايق المعارف وما يتفرّع

ص: 175

عليها من الشرائع والعبر والمواعظ (1).

5 - الحكيم بمعنى العالم. ذهب إليه الجوهري ، قال الحكم والحكمة من العلم ، والحكيم : العالم ، والحكم : العلم والفقه. قال اللّه تعالى : ( وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا ) أي علما وفقهاً ، وفي الحديث : إنّ من الشعر لحكمة أي أنّ في الشعر كلاماً نافعاً يمنع من الجهل والسفه وينهى عنه (2).

يلاحظ عليه : أنّه لو صحّ تفسير الحكيم بالعليم فإنّما هو في ما إذا كان مجرّداً عن العليم مع أنّه استعمل في الذكر الحكيم منضمّاً إليه. قال سبحانه : ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) .

وقال الصدوق : معناه انّه عالم والحكمة في اللغة العلم ، ومنه قوله عزّ وجلّ ( يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ومعنى ثان أنّه محكم وأفعاله محكمة متقنة من الفساد ، وقد حكمته وأحكمته لغتان ، وحكمة اللجام سمّيت بذلك لأنّها تمنعه من الجهل الشديد وهي ما أحاطت بحنكِه (3).

والظاهر أنّ الحكيم أخذ من الحكم بمعنى المنع فلو اُطلق على العلم فلأنّه يمنع الجهل ، ولكنّه إذا وصفت به الأفعال يكون المراد منه كونها محكمة متقنة مصونة محفوظة عن الفساد وبما أنّه وقع في كثير من الايات تعليلاً للحكم يستظهر أنّ المراد هو المتقن فعله ، مثلاً إنّ الملائكة تعتذر عن عدم علمهم بالأسماء بقولهم : ( لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ) . ثمّ تعلّل قصورها عن علمها بها بقوله : ( إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) أي ما قمت به من تعليم آدم وعدم تعليمنا فهو ناشئ عن علمك بالواقع أو فعلك المتقن ، ومثله قوله سبحانه الذي حكم فيه بقطع يد السارق وأتمّ كلامه بقوله ( وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) وهذا الحكم صدر عن اللّه الغالب المتقن

ص: 176


1- الميزان في تفسير القرآن : ج 17 ص 62.
2- لسان العرب : ج 12 ، مادة « حكم » ص 140.
3- التوحيد للصدوق : ص 201.

حكمه وفعله وقس على ذلك سائر الايات ، وإلى ذلك يرجع تفسير الحكيم بذي الحكمة ، فهو سبحانه حكيم في تشريعه ، حكيم في تكوينه ، متقن في كل ما يشرع ويكون ، المراد من الاتقان اتقان التدبير وحسن التقدير الذي يدلّ عليه قوله سبحانه : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) ( الفرقان / 2 ).

ومنه يعلم أنّ تفسيره بالمنزّه عن فعل ما لا ينبغي من فروع هذا المعنى ، فإنّ التحرّز من العبث من فروع الاتقان ، قال سبحانه : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ) ( ص / 27 ).

والحاصل انّ الحكم بمعنى المنع ، والحكيم يراد به المتقن بصلة بين الاتقان والمنع ، فمن أتقن فعله تشريعاً وتكويناً فقد منع من طروء الزوال والفساد ، ومن تحرّز عن العبث في فعله فقد صان فعله عن الفساد والزوال.

وعلى ضوء ذلك يستفاد من الحكيم أمران : أحدهما كون الفعل في غاية الإحكام والإتقان.

ثانيهما : كون الفاعل لا يفعل قبيحاً ولا يخلّ بواجب.

والثاني من لوازم الأوّل.

وعلى ذلك فهو من صفات الذات بوجه ومن صفات الفعل بوجه آخر فبما أنّ القيام باتقان الفعل والتجنّب عن العبث سيتوقّف على العلم الوسيع فهو من صفات الذات ، وبما أنّ الفعل يوصف بالحكمة والاتقان وبالحقّ والتنزّه عن الباطل فهو من صفات فعله ، وإليك البحث في كلا المقامين على وجه الاجمال.

الحكيم : المتقن فعله

أمّا اتقان الفعل فيكفي في ذلك معطيات العلوم الطبيعيّة فقد كشفت عن الإتقان الهائل في الفلكيّات والطبيعيّات ويكفي في ذلك ملاحظة كل عضو من أعضاء الانسان فقد حفّ بقوانين وسنن تُدهش النفوس وتبهر العقول.

ص: 177

قال سبحانه :

( وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) ( النمل / 88 ) وقال الإمام علي علیه السلام : « قدّر ما خلق فَأحكم تقديره » (1).

وقال علیه السلام : « مبتدأ الخلائق بعلمه ، ومنشئهم بحكمه ، بلا إقتذاء وتعليم ولا احتذاء لمثال صانع حكيم » (2).

ثم إنّ بعض المغرورين أثاروا شكوكاً حول حكمته تعالى وسألوا عن فوائد الاُمور التالية :

1 - الزائدة الدوديّة.

2 - اللوزتان.

3 - ثدي الرجل

4 - صيون الاذن

5 - الفضاء الوسيع

ولكن الاعتراض بهذه الأعضاء نتيجة الجهل المطبق وذلك لضآلة علوم الانسان وقلّة اطّلاعه على سنن الكون ورموزه فوضع عدم العلم بالفائدة مكان عدمها مع أنّ العلم كشف عن فوائدها وقد أوضحنا حالها في أبحاثنا الكلامية (3).

الحكيم : المنزّه عن فعل ما لاينبغي
اشارة

هذا هو المعنى الثاني للحكمة غير المعنى الذي سبق توضيحه وإن كان من

ص: 178


1- نهج البلاغة : الخطبة 91.
2- نهج البلاغة : الخطبة 191.
3- لاحظ : اللّه خالق الكون ص 370 - 378.

لوازمه عند الدقّة ، وأساس ذلك هو توصيف الأفعال بالحسن والقبح الذاتيّين ، وتمكّن العقل من دركهما وعلى ضوئه توصيفه سبحانه بالحكيم أي من لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ، وقد اختلفت كلمة المتكلّمين في حسن الأفعال وقبحها هل هما عقليان وإنّ للعقل درك حسن الفعل بذاته وقبحه كذلك أو لا ؟ فالعدليّة على الأوّل ، وأهل الحديث والحنابلة وبعدهم الأشاعرة على الثاني حيث ذهبوا إلى أنّه لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها ، فلا حسن ولا قبح لها قبل الشرع ، فكل ما أمر به الشرع فهو حسن ، وكل ما نهى عنه فهو قبيح ، فلو عكس الشارع القضية فنهى عمّا أمر وأمر بما نهى تنقلب القضيّة من حيث الحسن والقبح. هذا والخوض في هذه المسأله بمبادئها ومقدماتها يحوجنا إلى القيام بتأليف كتاب مفرد ولأجل ذلك نأتي هنا بملخّص القول الذي فصّلناه في منشوراتنا الكلامية (1).

1 - ما هو المراد من الحسن والقبح العقليين

أ - المراد من الحسن والقبح العقليّين الذاتيّين ، ثبوتهما للأفعال بما هي من غير حاجة إلى ضمّ حيثيّة تعليلية أو تقيّدية بل وزان الحسن والقبح في الأفعال وزان الزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة ، فكما أنّه لا يحتاج الزوجية في ثبوتها له إلى شيء وراء فرض كون الشيء أربعة فهكذا الحسن والقبح لا يفتقر توصيف الأفعال بأحدهما سوى فرض وجودها. هذا هو الذي ذهب اليه المحقّقون وهو المختار عندنا وعلى هذا فالحسن حسن على كل حال ، والقبيح قبيح على كل حال غير أنّ الانسان ربّما يضطر إلى ارتكاب القبيح لترك الأقبح فيكون الفعل موصوفاً بالقبح لكن رخّص لأجل دفع المحذور الأهم ، وفي مقابل هذا القول أقوال اُخر نسبت إلى العدليّة نشير إلى رؤوسها.

ب - إنّهما ثابتان لذوات الأفعال لكن لا على وجه العليّة التامّة بل على وجه الاقتضاء فمن الممكن أن تعارض ذلك الاقتضاء جهة خارجية تمنعها عن مقتضاها و

ص: 179


1- لاحظ : بحوث في الملل والنحل ج 2 ، ص 276 - 295 ، والالهيات ج 1 ، ص 249 - 254.

القائلون بهذا القول يتمسّكون بالصدق والكذب ، فيتبدّل حسن الصدق إلى القبح إذا كان ضارّاً ، وقبح الكذب إلى الحسن إذا كان نافعاً.

ج - إنّ الأفعال انّما تتّصف بالحسن والقبح إذا قيست إلى الجهات الخارجية فالعدل بما أنّه سبب لبقاء النظام ، والظلم بما أنّه هادم له يوصفان بالحسن والقبح فليست الأفعال في حدّ ذاتها حسنة ولا قبيحة وإنّما توصف بهما بالنظر إلى الجهات الخارجية ، وإلى ذلك القول يرجع كل من قال بأنّ حسن العدل وقبح الظلم من القضايا المشهورة التي اتّفق العقلاء على حسن الأوّل وقبح الثاني.

د - التفصيل بين الحسن والقبح فالأوّل يكفي فيه نفس الذات دون الثاني ، ونسب هذا القول إلى أبي الحسين البصري وكأنّه يريد أن الحسن يستند إلى نفس الذات والقبح يرجع إلى أمر خارج عنها.

ه - إنّهما يتبعان للفعل بالوجوه والاعتبارات ، فليس شيء منها مستنداً إلى نفس الذات ولا يعد من الصفات اللازمة للأفعال وذلك كضرب اليتيم فإنّه حسن لو كان بنيّة التأديب ، وقبيح لو كان بنيّة الايذاء.

ولك أن ترجع مجموع أقوال القائلين بالحسن والقبح العقليين إلى اُصول ثلاثه :

أ : إنّ الحسن والقبح من الامور الذاتيّة ، فلو قلنا بأنّ نفس الفعل علّة تامّة فهو القول المختار ، وإن قلت إنّه من قبيل المقتضي فهو القول الثاني.

ب : إنّ الحسن والقبح ليسا من الامور الذاتيّة بل من الامور الاجتماعيّة والعقلائيّة ، فكل فعل وقع في اطار مصلحة الفرد والمجتمع فهو حسن ، وما وقع في خلافه فهو قبيح ، وإلى هذا القول يرجع كل من أراد اثبات الحسن والقبح للأفعال بتعليلها بالمصالح الفردية والإجتماعية.

ج - إنّ الحسن والقبح يتبعان نيّة الفاعل وهدفه ، فربّ فعل يصير حسناً إذا

ص: 180

صدر عن نيّة صالحة وقبيحاً إذا صدر عن نيّة فاسدة (1).

هذه الأقوال من فروع القول بالحسن والقبح العقليّين والجميع في مقابل المنكرين أعني أهل الحديث والأشاعرة.

ولكنّ الحقّ هو القول المختار حيث أنّ هناك أفعالاً يقوم العقل بدرك حسنها أو قبحها بنفسها من أيّ فاعل صدر ، وفي أيّ موّرد وقع ، بلا ملاحظة جهة خارجية وحيثيّة تعليلية أو تقييديّة ومن دون ملاحظة نيّة الفاعل وقصده فضلاً عن ملاحظة كونه ملائماً للطبع وغيره ، نعم وإنّما يفتقر إلى ملاحظة النيّة في توصيف الفاعل بأنّه محسن أو مسيئ وأمّا نفس الفعل فلا يحتاج في الحكم عليه بشيء منهما وراء فرض الموضوع.

هذا هو المدّعى وإليك الدليل في البحث الثاني.

2 - العقل النظري والعقل العملي

ينقسم العقل عند الحكماء إلى عقل نظري وعقل عملي. فالأول هو الذي به يحوز الانسان علم ما ليس من شأنه ذلك العلم أن يعمله. والثاني هو الذي يعرف به ما من شأنه أن يعمله الانسان بإرادته (2).

وظاهر هذه العبارة أنّ هنا عقلين أحدهما نظري والاخر عملي ولكنّه خلاف التحقيق ، بل الظاهر أنّ تفاوت العقل النظري مع العقل العملي بتفاوت المدرَكات من حيث أنّ المدرك من قبيل أن يُعلَم ، أو من قبيل ما ينبغي أن يؤتى به أو لا يؤتى به ،

ص: 181


1- هذا القول أي كون الحسن والقبح يدوران مدار النوايا والأهداف غير القول بكون الحسن والقبح أمراً يعتبره العقل من ادراك الملائمة للطبع ، الذي حقّقه العلاّمة الطباطبائي ، وهو خيرة بعض فلاسفة العرب ، فقد طوينا الكلام عن ذلك القول في هذا البحث لما اسهبنا عنه في أبحاثنا الكلامية. لاحظ : « مناهج الجبر والاختيار ».
2- شرح المنظومة : ص 305 ، نقلا عن المعلّم الثاني.

فالأوّل هو العقل النظري والثاني هو العقل العملي (1).

وعلى ضوء ذلك فالنظري والعملي وجهان لعملة واحدة لا يختلفان جوهراً وذاتاً ، فإن كان المدرك ممّا ينبغي أن يعلم فيسمّى المدرك عقلاً نظرياً ، وإن كان المدرك ممّا ينبغي أن يفعل أو لا يفعل فالمدرك هو العقل العملي.

3 - الحكمة العملية وقضاياها الواضحة

إنّ الحكمة العملية تتمشّى مع الحكمة النظريّة في كيفيّة البرهنة والاستدلال فكما أنّ في الحكمة النظرية قضايا بديهية بأصولها الستة تنتهي إليها القضايا النظريّة فهكذا في الحكمة العملية قضايا واضحة تنتهي إليها القضايا غير الواضحة.

نعم إنّ تقسيم القضايا إلى نظريّة وبديهيّة وإن كان دارجاً في الحكمة النظريّة دون العملية ، غير أنّ الحقّ عدم اختصاص التقسيم بها بل قضايا الحكمتين تنقسم إلى قسمين : واضحة وغير واضحة ، وتنتهي الثانية إلى الواضحة في كلتا الحكمتين ، والعقل كما يدرك القضايا البديهية في الحكمة النظريّة من صميم ذاته أو من تصوّر الطرفين مع النسبة فهكذا يدرك القضايا الواضحة في الحكمة العملية إذا لوحظت بذاتها.

هذا هو المهم في باب الحكم بالحسن والقبح العقليين ، وبالوقوف على هذه الحقيقة تعلم قيمة سائر الأقوال فيهما وبما أنّ الحكم في المقيس عليه « الفعل النظري » واضح لا حاجة فيه إلى البيان ، فلنرجع إلى بيانه في الفعل العملي فنقول : إنّ القضايا عند العقل العملي ليس على وزان واحد بل هو على قسمين : منها ما هي مغمورة مجهولة لا يحكم العقل فيها بواحد من الطرفين « الايجاب والنفي » ومنها ما هو مبيّنة واضحة لدى العقل مع غضّ النظر عن كل شيء والاقتصار على لحاظ نفس القضية فيجب أن تكون تلك القضايا مقدّمة

ص: 182


1- نهاية الدراية : ج 2 ، ص 124.

لحلّ القضايا الاُولى وبأنّها ترجع إليها ، ومن تلك القضايا البديهية مسألة التحسين والتقبيح في جملة من الأفعال أو جميعها مثلاً جزاء الاحسان بالاحسان حسن ، وجزاء الاحسان بالإساءة قبيح ، أو العمل بالميثاق حسن ، ونقضه قبيح ، أو العدل حسن ، والظلم قبيح ، فهذه القضايا قضايا بديهية في الحكمة العملية والعقل يدركها من صميم ذاته ويقف عليها من ملاحظة القضية مع نسبتها ، وعلى هذه القضايا البديهية يبتني كل ما يَردُ على العقل في مجال الأخلاق وتدبير المنزل وسياسة المدن.

وبذلك يعلم أنّ تحليل حسن العدل والاحسان ، وقبح الظلم والعدوان وغيرهما ممّا عددناه بأنّ القضية الأولى حافظة للنظام والثانية هادمة له ، ولأجل تلك التوالي عمّ الاعتراف بها من قبل الجميع - إنّ ذلك التحليل - إنكار للحسن والقبح العقليين الذاتيين فإنّ مدار البحث كما عرفت مركّز على نفس العقل مع غضّ النظر عن تواليه وتوابعه ، وإنّ العقل هل يقوم بنفسه بمدح إحسان المحسن بالاحسان ، وبذمّ جزاء المحسن بالإساءة أو لا ، وهل العقل يحسن الملتزم بالميثاق أو لا ؟ لا بالنظر إلى الأعراض والمصالح المترتّبة سواء كانت المصالح فردية أم اجتماعية.

والعجب انّ أكثر المحقّقين الباحثين في هذا الموضوع فسّروا حكم العقل بما يترتّب عليه من المصالح والمفاسد ، مع أنّ الهدف من طرح هذا البحث إنّما هو التوصّل إلى معرفة أفعال اللّه واكتشاف ما هو الحسن والقبيح عنده ، فكيف يمكن تفسير حسن العدل وقبح ضدّه بكونه حافظاً للنظام أو هادماً له ؟

لا شك انّ العدل والظلم يترتّب عليهما صيانة النظام وهدمه ويوصف الأوّل بالحسن والثاني بالقبيح لهذه الجهه أيضا ، لكنّ المطروح في هذا الباب ما هو أوسع من ذلك وهو درك العقل العملي حسن الفعل وقبحه بما هو هو سواء كان هناك نظام أو لا ؟ وسواء أكان هناك خلق أو لا ؟

وبذلك يعلم بطلان سائر الأقوال من القائلين للحسن والقبح حيث جعلوا ملاك الحسن والقبح الملائمة للطبع والمنافرة له سواء كان المراد الطبع الفردي أو

ص: 183

الطبع النوعي ، لأنّ ذلك على فرض صحّته إطلاق الحسن والقبح خارج عن محل البحث.

كما يعلم بطلان القول بأنّ الحسن ما يوافق الغرض والقبيح ما يخالفه ، فإنّ ذلك أيضاً كالسابق خارج عن محلّ البحث. كما يعلم فساد تفسير الحسن بما فيه المصلحة ، والقبيح بما فيه المفسدة وإنّ ما خلا منهما ليس بحسن ولا قبيح (1).

وعلى الجملة فالمحور في حكم العقل بالحسن والقبح هو ملاحظة نفس القضية مع غضّ النظر عن كل شيء لا كونه حافظاً للنظام أو هادماً ، ولا كونه موافقاً للطبع الفرديّ ، أو النوعيّ ، ولا كونه محصّلاً للغرض وعدمه ، أو كونه متضمناً للمصلحة أو المفسدة ، فالكل انحراف عن مسير البحث وكلام زائد ملأ كتب المتكلّمين بل الاصوليين من الشيعة إلاّ القليل منهم ، ولأجل ذلك ضربنا البحث عن تحليل هذه الأقوال من شعب القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، وأظنّ أنّ هذه الأقاويل وإن نسبت إلى القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين لكنّها أشبه بقول المنكرين ، فإنّه لما اتسع على الأشاعرة سبيل الانتقاد وضاق عليهم طريق الاعتذار أرادوا الدفاع عن منهجهم فعمدوا إلى تكثير معاني الحسن والقبح إلى معان ، أو تكثير ملاكاتهما والأولى للقائل بالحسن والقبح العقليين الذي يريد استكشاف حال افعال الواجب الاعراض عن هذه التفاصيل.

والحاصل أنّ هناك أفعالاً إذا تصوّرها العقل حكم بحسنها أو قبحها بمجرد الوقوف على القضيّة وحكم بمدح فاعلها أو ذمّه كائناً من كان الفاعل.

وإن شئت قلت : إنّ كل عاقل مميّز يجد من صميم ذاته حسن بعض الأفعال وقبح بعضها ، سواء كان الشخص مؤمناً أو كافراً ، معتقداً بالشرايع الإلهية أو لا ، وسواء صدر الفعل من الممكن أم من الواجب وسواء تصوّر كونه حافظاً للنظام أو لا ، وسواء تصوّر كونه ذات مصلحة أو مفسدة ، أو كونه موافقاً للطبع الفردي أو

ص: 184


1- شرح التجريد للقوشجي : ص 337.

النوعي ، بل هو مع الغفلة عن كل هذا يدرك حسن بعض وقبح بعض آخر ، ولو نرى اتّفاق جميع العقلاء من جميع المذاهب والطوائف على هذا الحكم فلأنّه نابع من صميم القوّة العاقلة وهو أمر مشترك بين الناس.

وأقول رعاية للحقّ : إنّ أوّل من هذّب محلّ النزاع بوجه رائع هو المحقّق اللاهيجي في تأليفيه النفيسين (1).

ونزيد تأكيداً على أنّ هذا هو المدار ، وهو أنّ الغرض من طرح هذه المسألة هو التوصل إلى التعرف على أفعاله تعالى وهو لا يتمّ إلاّ إذا لوحظت المسألة على النحو الذي بيّنّاه.

نعم يمكن توجيه القول بالطبع من هذه الأقوال وإرجاعه إلى ما ذكرنا وهو أنّ صدق القضايا العقليّة في الحكمتين ، وتوصيفهما بالحقّ والصدق يتوقّف على وجود ملاك له. وهو في قضايا الحكمة النظريّة ، نفس الواقع والخارج بعرضها العريض.

فقولنا الإنسان متعجّب أو ممكن أو نوع من القضايا الصحيحة في الحكمة النظرية وملاك صدقها هو مطابقتها للخارج العريض ولا تشذّ عنها قضايا الحكمة العمليّة فإنّ توصيفها بالصدق والحقّ يتوقف على الملاك ، فقولنا : « العدل حسن » و « الظلم قبيح » قضيّتان صحيحتان ونقيضاهما باطلان وكاذبان. فما هو الملاك في الحكم بالأوّليتين بالحقّ والصدق وبالثانيتين بالكذب والبطلان ؟

أقول : الملاك في هذا الباب هو مطابقة حكم القضية للطبع الإنساني ولا يراد منه الطبع الحيواني الذي يجنح إلى العبث والفساد بل الجانب الأعلى والمثل الأعلى للانسان والوجه المثالي منه ، فلو اُريد من الطبع هذا المعنى لاتّفق القولان.

فالانسان بما هو ذو فطرة مثاليّة يتميّز بها عن الحيوانات يجد بعض القضايا

ص: 185


1- گوهر مراد : ص 122 - 123 ، وسرماية ايمان : ص 33 - 35. وما حقّقناه توضيح وتحقيق لكلامه.

ملائمة لذلك والبعض الآخر منافياً له. فيصف الملائم بالحسن ولزوم العمل ، والمنافي بالقبح ولزوم الاجتناب ، وبما أنّ هذا الموضوع يحتاج إلى بسط في الكلام حتى يعلم اتّفاق القولين في الهدف والمرمى نقوم بالاسهاب فيه.

4 - الانسان وقوى الخير والشر

إنّ واقع الانسان يتألّف من قوى الشر والخير ، الحيوانية والإنسانية ، ولكلّ دوره في حياة الانسان ، غير أنّ واقع الانسان يتمثّل ويتجلّى في الجانب الثاني ، ففي الجانب الأوّل تتجلّى الشهوة والغضب والأنانيّة والقسوة وغيرها من رذائل الأخلاق كما أنّ الجانب الثاني تتجلّى فيه القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية وغير ذلك من خصال الخير ، وهذا الجانب هو الأصيل في الانسان دون الجانب الأوّل.

والشاهد على ذلك انّه عند ما يقع الانسان في صراع بين جانبيه : الحيواني والانساني « الملكوتي » فإذا غلب الجانب الثاني على الجانب الأوّل ، يحسّ من صميم ذاته بالسرور والرضا ، فلو كان واقع الانسان يتمثّل في الجانب الحيواني لما صحّ السرور والرضا لأنّ المفروض مغلوبيّة القوى الحيوانية والمغلوب يكون محزوناً لا مسروراً ، وهذا يفيد بجلاء إنّ واقع الإنسان هو الجانب الثاني أي كونه موجوداً ملكوتياً ، إلهيَّ النزعة ، طالبا للخير والكمال والسموّ والارتقاء.

فلو أراد القائل من كون ملاك حكم العقل هو موافقة الحكم للطبع هو ما ذكرنا فنعم الوفاق ، وإلاّ فهو غير تام كسائر الأقوال.

وإن شئت قلت : لا حقيقة للحسن والقبح إلاّ كون الشيء ملائماً لطبع الانسان أو غير ملائم ، لكنّ المراد منه ليس هو الطبع السافل بل الطبع العالي ، والطبع العالي ينزع إلى الخير ويميل إلى الكمال ، والطبع السافل ينزع إلى الشرّ ، فكل فعل أحبّه الإنسان بروحه المتعالية وعقله المتكامل فهو حسن ، وكل ما وقع في خلاف ذلك يعدّ قبيحاً ، وعلى ضوء ذلك تقدر على تحليل جميع الأمثلة.

ص: 186

5 - الاُصول الأخلاقية الثابتة

إذا كان الميزان في الحكم بالحسن والقبح وفي الحكم بالقيم الأخلاقية هو درك العقل مع غضّ النظر عن كل شيء على ما ذكرنا ، أو كون القضية المدركة مطابقة للجانب المثالي الأعلى للإنسان ، تقف على أنّ هناك اُصولاً أخلاقيّة ثابتة لا تتغير مع مرور الدهور والعصور ، وتبدّل الحضارات ، لأنّ الشخصيّة المثالية العليا في الكيان الإنساني ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.

فإذا كان الملاك هو الملائمة والمنافرة بالقياس إليه تصبح الاُصول ثابته دائمة بثبات الحيثية العليا من الإنسان ودوامها.

ولأجل ذلك إنّ الاُصول الأخلاقيّة لا تختلف عند الأمم والشعوب لأنّهم متشابهون ومتشاركون في الجانب الأعلى للانسان ، نعم يختلفون في العادات والأخلاق التابعة للمحيط والعائلة وليس لها جذور في الفطرة الإنسانية.

نعم يختلفون في الأشكال والصور والتجلّيات والمظاهر ويتّحدون في اللبّ والجوهر ، فالكل يحكم باحترام المعلّم والاستاذ لأنّ عقله يحكم بلزوم إحسان المحسن وقبح إساءته غير أنّهم يختلفون في كيفيّة الاحترام ، وهذا الاختلاف نابع من التقاليد والعادات ، فربما يحترمون بالقيام عند الورود واُخرى برفع القلنسوة عن الرأس وثالثة ...

6 - الاُصول الثابتة في الشرائع السماوية

لا شكّ انّ هناك اُصولا ثابتة في جميع الشرائع السماوية من حرمة الشرك باللّه تعالى في العبادة وحرمة الظلم ولزوم تكريم الوالدين وغير ذلك ، وما ذلك إلاّ لأنّ الاُصول الثابتة توافق الجانب الأعلى من الإنسان وهو ثابت عبر القرون والعصور ، وبذلك يتجلّى سرّ خاتميّة الاسلام ودوام اُصوله الخلقية ، وتشريعاته المطابقة للشخصية الانسانية العالية ، فبما أنّ الشخصيّة المثاليّة لا تمسّها يد التغيّر والتبدل

ص: 187

في جميع العصور والحضارات ، وتكون الأحكام والتشريعات المطابقة لتلك الجوهرة المتعالية ثابتة لا تمسّها يد التغيير.

7 - القرآن وكونه سبحانه حكيماً

إذا كانت الحكمة بمعنى التحرّز عمّا يجب الاجتناب عنه مما يحكم العقل بقبحه ، فقد تضافر توصيفه سبحانه ب « الحكيم » في القرآن الكريم.

ترى أنّ القرآن الكريم يذكّر بلطيف بيانه انه سبحانه بريء من القبيح وفعل ما يجب التنزّه عنه. قال سبحانه : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) ( الأعراف / 28 ).

وقال سبحانه : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ) ( الاعراف / 33 ).

وقال سبحانه : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ( ص / 28 ) وقال سبحانه : ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) ( الرحمن / 60 ).

فهذه الآيات تعرب بوضوح أنّ هناك اُموراً توصف بالاحسان والفحشاء والمنكر والبغي والمعروف قبل تعلّق أمر الشارع بها أو نهيه عنها ، وانّ الانسان يجد اتّصاف الأفعال بواحد من هذه العناوين من صميم ذاته ، وليست معرفة الانسان بهذا الاتّصاف موقوفاً على تعلّق حكم الشرع وإنّما دور الشرع هو إرشاد حكم العقل الذي يأمر بالحسن وينهي عن القبيح.

قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل / 90 ).

وبذلك تقف على قيمة كلام الأشعري في جواز تعذيب أطفال الكفّار في الاخرة.

ص: 188

قال في « الابانة » : يجوز أن يؤلم أطفال الكافرين في الاخرة ليغيظ بذلك آباءهم ويكون ذلك منه عدلا ؟! (1).

وقال في اللمع : فإن قال قائل : هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الاخرة إذا قيل لله تعالى ذلك ، وهو عادل إن فعله ؟ - إلى أن قال - : ولا يقبح منه أن يعذّب المؤمنين ، ويدخل الكافرين الجنان ، وإنّما نقول : إنّه لا يفعل ذلك لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره (2).

الثلاثون : « الحق »
اشارة

قد ورد الحق معرّفاً ومنكراً في الذكر الحكيم 239 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في سبعة موارد :

قال سبحانه : ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الانعام / 62 ).

وقال سبحانه : ( فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) ( يونس / 32 ).

وقال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الحج / 6 ).

وقال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( الحج / 62 ).

وقال سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور / 25 ).

ص: 189


1- الابانة : ص 133.
2- اللمع : ص 116 - 117.

وقال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( لقمان / 30 ).

وقال سبحانه : ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ * قَالَ فَالحَقُّ وَالحَقَّ أَقُولُ ) ( ص / 82 - 84 ).

وقد استعمل الحق في (1) مقابل الباطل في غير واحد من الايات فهل هما من قبيل المتضادّين أو من قبيل المتضائفين أو من قبيل العدم والملكة أو السلب والايجاب ، لا سبيل إلى الأوّل لما سيوافيك أنّ البطلان أمر عدمي لا وجودي ، وبذلك يعلم عدم كونهما من قبيل المتضايفين لاشتراط كونهما أمرين وجوديين حيث يلزم من تصوّر أحدهما تصوّر الاخر ، فانحصر الاحتمال بين الثالث والرابع ، ولعلّ الثالث أقرب ، وعلى كل تقدير فلو كان أحد المفهومين واضحاً يمكن استظهار معنى الاخر من خلاله.

قال ابن فارس : الحق أصل واحد وهو يدلّ على إحكام الشيء وصحّته فالحق نقيض الباطل ثم يرجع كل فرع إليه بجودة الاستخراج وحسن التلفيق. يقال حقّ الشيء أي وجب ، ويقال ثوب محقّق إذا كان محكم النسج ، والحقّة من أولاد الابل : ما استحقّ أن يحمل عليه كأنَّه اُحكمت عظامه واشتدّت فاستحق الحمل ، والحاقة : القيامة لأنّها تحقّ بكل شيء (2).

وقال الراغب في مادة « بطل » : الباطل نقيض الحق وهو ما لا ثبات له عند الفحص عنه ، قال تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ ) .

اقول : إنّ الحقّ والباطل قد يوصف بهما الاعتقاد واُخرى نفس الواقع الخارجي مع قطع النظر عن الاعتقاد به ، فاذا قدّر للشيء نوع من الوجود أو نوع من

ص: 190


1- بناء على انّ المراد من الحق الأوّل هو اللّه سبحانه على انّ التقدير فالحق اقسم به ، وفيه أقوال.
2- مقاييس اللغة : ج 2 ، ص 15 - 17.

الوصف ثم قيس إلى الخارج وكان الخارج على وفق ما قدّر ووصف كان الاعتقاد حقّاً والقضيّة الذهنيّة حقّة ، وأمّا إذا لم يكن كذلك يكون الاعتقاد باطلاً والقضية باطلة.

قال سبحانه : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ... فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( البقرة / 213 ). اي هداهم إلى العقائد الحقّة المطابقة لنفس الأمر.

هذا إذا وقع الحق والباطل وصفين للإعتقاد والقضيّة الذهنيّة ، وأمّا إذا وقعا وصفين لنفس الأمر والواقع الخارجي فتوصيفه بهما يدور مدار ثبوته وعدمه.

فإذا كان الواقع واجب الوجود أي ماله ثبوت لا يشوب ثبوته بطلان ، ويكون ثابتاً من جميع الجهات وموجوداً على أيّ تقدير ، وموصوفاً بالوجود مطلقا غير مقيّد بقيد ولا مشروطاً بشرط فهو الحقّ المطلق الذي لا يتطرّق اليه البطلان بوجه ما ، والحقّ بهذا المعنى ينحصر فيه سبحانه لا غير ولأجل ذلك قال سبحانه : ( أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ ) فأتى بضمير الفصل وعرّف الخبر باللام لغاية القصر أي حصر المبتدأ في الخبر ، فاللّه سبحانه حقّ بذاته على الاطلاق بلا شرط وقيد.

أمّا إذا كان الواقع ممكن الوجود فهو حقّ بمقدار ماله من الثبوت وباطل بمقدار ما لا ثبوت له ، فبما أنّ الممكن يتّصف بالوجود من جانب علّته ، فيكون له الثبوت بفضلها فهو حقّ ، وبما أنّه ليس له الوجود من صميم ذاته ، وانّه إذا لم يكن له الموجد لبقي على العدم فهو باطل وهالك.

وهناك آيتان ناظرتان إلى ما ذكرنا أعني قوله سبحانه :

1 - ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) ( القصص / 88 ).

2 - ( وَيُحِقُّ اللّهُ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ) ( يونس / 82 ).

فالاية الأولى ناظرة إلى بطلان الممكن من حيث هو هو ، ولأجل ذلك يحكم

ص: 191

بهلاكه فعلاً ومستقبلاً فغيره سبحانه محكوم بالهلاك في جميع الأزمان ، والاية الثانية - لو قلنا بأنّ المراد بكلماته هو أفعاله - ناظرة إلى أنّ كل ممكن حقّ لكن بإحقاقه سبحانه ، إذ هو الذي يعطي الوجود والثبوت.

وللحكيم الفارابي كلام لا بأس بنقله : يقال : حقّ : للقول المطابق للمخبر عنه ، إذا طابق القول ، ويقال : حقّ للموجود الحاصل بالفعل ، ويقال : حقّ للموجود الذي لا سبيل للبطلان إليه ، والأوّل تعالى حقّ من جهة المخبر عنه ، حقّ من جهة الوجود ، وحقّ من جهة أنّه لا سبيل للبطلان إليه. لكنّا إذا قلنا : إنّه حقّ فلأنّه الواجب الذي لا يخالطه بطلان ، وبه يجب وجود كل باطل.

ألا كل شيء خلا اللّه باطل *** وكل نعيم لا محالة زائل (1)

وبذلك خرجنا إلى هذه النتيجه أنّه سبحانه حقّ على الاطلاق ، وأمّا الممكن فبما أنّه يفقد الوجود من صميم الذات فهو باطل ، وبما أنّه متصف بالوجود الظلّي والثبوت التبعي فهو حقّ ، ولعلّ إلى بعض ما ذكرنا يشير قول لبيد الذي تقدّم آنفاً.

هذا حال الواجب والممكن وقد عرفت أنّ الأوّل حقّ مطلق ، والثاني حقّ من جهة وباطل من جهة اُخرى ، وأمّا الممتنع فهو الباطل المحض ، ليس له منه حظ.

قال بعض المحقّقين : كل ما يخبر عنه فأمّا باطل مطلقاً ، وأمّا حقّ مطلقا ، وأمّا حقّ من وجه وباطل من وجه ، فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقاً ، ولا حقيقة له أصلاً ، فإنّ الحقيقة هي التي بها ذو حقيقة ، حقّ وثابت ، لا يمكن انكاره وهي خصوصيّة وجوده الذي يثبت له ، والواجب بذاته هو الحق مطلقاً ، والممكن بذاته الواجب بغيره فهو حقّ من وجه وباطل من وجه آخر ، فهو من حيث ذاته لا وجود له ، ومن حيث استفادة الوجود من غيره موجود ، فهو من هذا الوجه حقّ وثابت له حقيقة ينتهي إليها وأصل ينبعث منه ويجب وجوده به ويظهر بنوره الظاهر المظهر له

ص: 192


1- شرح الأسماء الحسنى : ص 271.

فلا يكون له وجود وظهور في نفسه بل يكون وجوده وظهوره من أصله المظهر بايجاب وجوده المحقّق لحقيّته وثباته ، والممكن من جهة نفسه باطل ولذلك قال : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (1).

وبذلك يعلم أنّ قوله سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( لقمان / 30 ). من غرر الايات القرآنية ، تشتمل على معارف إلهيّة نشير إلى إجمالها :

1 - إنّ الحقّ المطلق ثابت لله سبحانه وإنّه لا يوصف به إلاّ هو.

2 - إنّ الأصنام والأوثان التي كانت العرب عابدة لها ليس لها من الألوهية شيء ، فهي من هذا الجانب باطل محض لا تملك منها شيئاً إلاّ الإسم وهذا لا ينافي أن يوصف بالحقّ من حيث أنّ لها درجة من الوجود ككونها جماداً أو نباتاًً أو حيوانا غير أنّ محور البحث كونها آلهة فهي في هذا النظر لا توصف إلاّ بالبطلان.

3 - إنّ توصيفه سبحانه بالعليّ في الاية يشير إلى صفاته السلبية ويفيد تنزّهه عمّا لا يليق بساحته فاللّه سبحانه حقّ منزّه عن كل نقص من الجهل والعجز والزمان والمكان والجسم ، فما يدعون من الآلهة ليس لهم من الحقيقة شيء ولا إليهم من الخلق والتدبير شيء ، ولا إليهم شيء ممّا يعدّ فعلاً للربّ ككونهم مالكين للمغفرة والشفاعة.

4 - إنّ توصيفه سبحانه بالكبير إشارة إلى صفاته الثبوتية ويفيد سعة وجوده واشتماله على كل كمال وجودي وهو مجمع الصفات الكمالية والجمالية ، فهي الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال فهو اللّه عزّ اسمه.

وعلى ذلك فلحق في الاية وفي كل ما وقع وصفاً له سبحانه يعادل واجب الوجود و « العليّ » يقوم مقام الصفات السلبية و « الكبير » يقوم مقام الصفات الثبوتية.

ص: 193


1- كتاب كاشف الأسماء في شرح الأسماء الحسنى في اسم الحق.
توصيف الفعل بالحق

إنّ الحقّ كما يوصف به نفس الواجب وذاته فكذلك يوصف به فعله سبحانه لكن بلحاظ آخر قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) ( يونس / 5 ).

أفعاله سبحانه معلّلة بالاغراض

إنّ الذكر الحكيم يصف كثيراً من أفعاله سبحانه بقوله : « بالحق » وبذلك يشير إلى أنّ أفعاله أفعال حكيمة مصونة عن العبث واللغو ، ولأجل ذلك ذهبت العدلية إلى أنّ افعاله معلّلة بالاغراض خلافاً للاشاعرة ، فإذا كان الهادي في مجال العقائد هو الكتاب فآياته صريحة في ذلك ، يقول سبحانه :

( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) ( المؤمنون / 115 ).

وقال عزّ من قائل : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ) ( الدخان / 38 ).

ويقول سبحانه : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) ( ص / 27 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) ( الذاريات / 56 ).

والمراد في المقام هو إيجاده بحسب مقتضى الحكمة وبالتالي نزاهة فعله من العبث واللغو ، وبذلك يعلم معنى ما يقال : انّ فعله سبحانه كلّه حقّ كما يعلم سرّ اقتران لفظة « بالحق » بكثير من أفعاله التي جاءت في الذكر الحكيم ، قال سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ

ص: 194

جَدِيدٍ ) ( إبراهيم / 19 ). وتعرب الاية عن أنّ هنا صلة بين خلق السموات والأرض ووجود الإنسان في هذا الكوكب فقال سبحانه : ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) ( النحل / 102 ). أفيمكن توصيف الفعل العاري عن الغرض والهدف حتى ما يُرجع إلى المخلوق بأنّه نزّل بالحقّ ؟

والعجب انّ الأشاعرة وعامّة أهل الحديث الذين يلتزمون التعبّد بظاهر النصوص تعبداً حرفياً قد خرجوا في هذا المقام عن هذا الأصل وقالوا بعدم كون أفعاله معلّلة بالأغراض فماذا جوابهم تجاه هذه الآيات وتكرّر « بالحق » وصفاً لفعله ؟ لا أدري ولا المنجّم يدري.

هلمّ معي ندرس ما ذكره العقليون من الأشاعرة :

1 - قالوا : « لو كان فعله تعالى تابعاً لغرض لكان ناقصاً لذاته مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه وهو معنى الكمال » (1).

إنّ المستدلّ خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل والغرض الراجع إلى الفعل فالاستكمال موجود في الأوّل دون الثاني ، والقائل بكون أفعاله تابعة للأغراض والغايات والدواعي والمصالح إنّما يعني به الثاني دون الأوّل ، والغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنيّاً بالذات وغنيّاً في الصفات وغنيّاً في الأفعال ، والغرض بالمعنى الثاني يوجب خروج فعله عن كونه عبثاً ولغواً وكونه سبحانه عابثاً ولاهياً ، فالجمع بين كونه غنيّاً غير محتاج إلى شيء ، وكونه حكيماً منزّهاً عن العبث واللغو يتحقق بالقول باشتمال أفعاله على مصالح وحكم ترجع إلى العباد والنظام لا إلى وجوده وذاته.

2 - قالوا : إنّ العلّة الغائيّة هي احدى أجزاء العلّة التامّة ويراد منها في مصطلح

ص: 195


1- المواقف « للقاضي عضد الدين » : ص 231.

الحكماء ما يخرج بها الفاعل من القوّة إلى الفعل ومن الامكان إلى الوجوب ، فهي السبب لخروج الفاعل عن كونه فاعلاً بالقوّة إلى كونه فاعلاً بالفعل ، مثلا النجّار لا يقوم بصنع الكرسي إلاّ لغاية مطلوبة ولولا تصوّرها لبقى على كونه فاعلاً بالقوّة ، فلو كان لأفعاله سبحانه غاية لزم كونه ناقص الفاعليّة في ذاته ، وتامّ الفاعليّة بغاية الفعل فيحتاج في فاعليّته إلى شيء وراء ذاته.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكروه في تفسير العلّة الغائية حقّ لا غبار عليه وقد أخذته مفكّروا الأشاعرة من الفلاسفة واستغلوه في غير موضعه ، وخرجوا بهذه النتيجة : إنّ فعله سبحانه عار عن أية غاية وغرض وجعلوا فعله كفعل العابثين واللاعبين يفعل بلا غاية ويعمل بلا غرض ، والعلّة الغائيّة بهذا المعنى تنطبق على وجود الغرض للفاعل ، ولا تنطبق على وجود الغرض للفعل ، وقد عرفت أنّ القائلين بتبعيّة أفعاله للأغراض إنّما يعنون القسم الثاني دون الأوّل ، فلا شكّ انّه سبحانه تامّ الفاعلية بالنسبة إلى كلا الفعلين : ما يترتب عليه الغرض وما لا يترتب عليه الغرض لعموم قدرته ، لكن كونه حكيماً يصدَّه عن اختيار القسم الثاني ، فلا يختار من الأفعال الممكنة إلاّ ما يناسب ذلك المبدأ.

وهذا كعموم قدرته للفعل المقترن بالعدل والجور كسوق المطيع إلى الجنة والنار لكن اتّصافه بالعدل يصدّه عن سوقهم إلى النار ، ولا يختار إلاّ الأوّل وهذا لا يعني انّه في مقام الذات والفاعلية يستكمل بهذا الغرض بل هو في مقام الفاعلية تامّ لكلا العملين ، لكن عدله وحكمته وما يناسبهما تقتضي أن يختار هذا دون ذاك ، فلو أنّ النافين للأغراض يفرّقون بين الغرضين لما تطرفوا في نفي اقتران فعله بالغرض.

وبذلك يعلم المراد من انتخاب الأصلح وانّه لا يخلق إلاّ الأصلح ويترك اللغو والعبث ، وليس المراد من ذلك تحديد قدرته ومشيئته من جانب العبد بل العبد يستكشف من خلال صفاته وكمالاته ، إنّه لا يختار إلاّ الأصلح والأولى مع عموم قدرته على كلا الطرفين ، وأظنّ أنّ المسائل الكلامية لو طرحت في جو هادئ

ص: 196

فربّما ينتظم الكلّ في أكثر المسائل في صف واحد ويذوب الاختلاف في كثير من المسائل.

الواحد والثلاثون « الحليم »

قد ورد لفظ « الحليم » مرفوعاً ومنصوباً 15 مرّة ووصف به سبحانه كما وصف به بعض أنبيائه كإبراهيم الخليل وشعيب النبيّ ، وقد جاء وصفاً له سبحانه في (11) مورداً وجاء مقترناً بلفظ « غفور » تارة و « عليم » ثانياً و « غني » ثالثاً قال سبحانه : ( وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) ( آل عمران / 155 ).

وقال سبحانه : ( وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ) ( الأحزاب / 51 ).

وقال سبحانه : ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) ( البقرة / 263 ).

قال ابن فارس : « الحلم » له اُصول ثلاثة : الأوّل : ترك العجلة ، والثاني : تثقّب الشيء ، والثالث : رؤية الشيء في المنام ، وهي متباينة جدّاً تدلّ على أنّ بعض اللغة ليس قياساً وإن كان أكثره منقاساً.

فالأوّل « الحلم » خلاف الطيش ، والثاني قولهم : حلم الأديم إذا تثقّب وفسد ، والثالث قد حلم في نومه حلماً.

قال الراغب : « الحلم » ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب ، وجمعه أحلام قال تعالى : ( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) ( الطور / 32 ).

وقيل : معناه عقولهم وليس الحلم في الحقيقة هو العقل لكن فسّروه بذلك لكونه من مسببّات العقل.

الظاهر أنّ المراد من توصيفه سبحانه بالحليم في المقام هو الذي لا يعجل

ص: 197

بالانتقام ، يقول سبحانه : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ) ( فاطر / 45 ).

وقال سبحانه : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ) ( الكهف / 58 ).

وهو يجري على اللّه سبحانه بهذا المعنى وأمّا ما ذكره « الراغب » بأنّه ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب ، فإنّما هو من خصائص الإنسان الحليم ، وليس من صميم معناه حتى يتوقّف توصيفه سبحانه به على تجريده من معناه اللغوي.

قال الصدوق : معناه حليم عمّن عصاه لا يعجل عليهم بعقوبته (1).

وقال الكفعمي : الحليم ذوالحلم والصفح الذي يشاهد معصية العصاة ثمّ لا يسارع إلى الانتقام مع غاية قدرته ، ولا يستحقّ الصافح مع العجز اسم « الحليم » إنّما الحليم هو الصفوح مع القدرة.

ثمّ إنّ الرازي ذكر هنا كلاماً فقال من لا يعجل الانتقام إن كان على عزم أن ينتقم بعد ذلك فهذا يسمّى حقوداً ، وإن كان على عزم أن لا ينتقم البتّة فهذا هو العفو والغفران ، وأمّا إذا كان على عزم أن لا ينتقم لكن بشرط أن لا يظهر ذلك فهو حليم فإن أظهره كان ذلك عفوّاً » (2).

قال بعض المحقّقين : إنّ موقف العلم وعدم الانتصاف والانتقام فيما إذا صدر الظلم منه بالنسبة إلى حقوق اللّه فله ترك الانتقام مع القدرة عليه على سبيل العجلة والاسراع كي يندم ويستغفر فيُغفر فإنّه جلّ شأنه لا تضرّه المعصية ولا تنقصه المغفرة (3).

ص: 198


1- التوحيد : ص 202.
2- لوامع البينات : ص 242.
3- كاشف الأسماء في شرح الأسماء الحسنى للسيد عماد الدين المتوفّي عام 1110.

وأمّا حظّ العبد من هذا الاسم فهو انّه يمكن أن يكون الإنسان من مظاهر أسمائه فلا يعجل في الانتقام ، ولأجل ذلك عدّ الحلم من محاسن الأخلاق ، ولمّا دعا الخليل ربّه وقال : ( وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ) ( الشعراء / 84 ).

فاُجيبت دعوته بقوله : ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) ( الصافّات / 101 ).

وقد وصف به « إبراهيم » الخليل و « شعيب » النبيّ في بعض الآيات كما عرفت.

الثاني والثلاثون « الحميد »

وقد ورد ذلك اللفظ في الذكر الحكيم بالرفع والنصب (17) مرّة وقد وصف به سبحانه في جميعها ، وقد انضمّ اليه « غنيّ » تارة و « مجيد » ثانياً و « العزيز » ثالثاً و « حكيم » رابعاً و « الولي » خامساً قال سبحانه : ( وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ( البقرة / 267 ).

وقال سبحانه : ( رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) ( هود / 73 ).

وقال سبحانه : ( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ) ( إبراهيم / 1 ).

وقال سبحانه : ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ( فصّلت / 42 ).

وقال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الحَمِيدُ ) ( الشورى / 28 ).

قال ابن فارس : « الحمد له أصل واحد يدلّ على خلاف الذم يقال : حمدت

ص: 199

فلاناً أحمده ، ورجل محمود ومحمداً إذا كثرت خصاله المحمودة غير المذمومة » (1).

وقال الراغب : قوله عزّ وجلّ ( إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) يصح أن يكون في معنى المحمود وأن يكون في معنى الحامد.

أقول : الحمد على ما هو المعروف : الثناء على الشخص بالفضيلة في ما يصدر منه من الأفعال الاختياريّة.

قال الصدوق : الحميد معناه المحمود وهو فعيل في معنى المفعول والحمد نقيض الذمّ ويقال : « حمدت فلاناً إذا رضيت فعله ونشرته في الناس » (2). وهو أخص من المدح فإنّه في مقابل كلّ جميل سواء كان اختياريّا أو تسخيرياً كما إذا مدحت اللؤلؤ بصفاته ، وعلى ذلك فالحميد أمّا فعيل بمعنى الفاعل ، وعندئذ يكون المراد اللّه الحامد فإنّه لم يزل يثني على نفسه كما في قوله : ( الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وأمّا فعيل بمعنى المفعول كالقتيل بمعنى المقتول أي هو محمود بحمده لنفسه وحمد عباده له ، ومنه قوله : ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ) ( البقرة / 30 ). ويحتمل أن يكون المراد المستحقّ للحمد والثناء.

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فيقع مظهراً له إذا كان محمود العقيدة والفعل فيستحقّ أن يثنى عليه.

وأمّا الفرق بين الحمد والشكر فسيوافيك عند البحث عن اسم الشاكر والشكور.

الثالث والثلاثون « الحي »
اشارة

وقد جاءت اللفظة في الذكر الحكيم 14 مرّة ووقع وصفاً له في موارد أربعة قال سبحانه :

ص: 200


1- مقاييس اللغة : ص 110.
2- التوحيد : ص 202.

( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ ) ( آل عمران / 2 ).

وقال سبحانه : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) ( طه / 111 ).

وقال سبحانه : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) ( الفرقان / 58 ).

وقال سبحانه : ( هُوَ الحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ( غافر / 65 ).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : لِ « الحي » أصلان أحدهما خلاف الموت والاخر الاستحياء الذي هو ضدّ الوقاحة ، فأمّا الأوّل فالحياة والحيوان وهو ضدّ الموت والموتان ويسمّى المطر حيّاً لأنّ به حياة الأرض ، والأصل الآخر قولهم استحييت منه استحياء (1).

وقد ذكر الراغب انّ الحياة تستعمل على أوجه :

1 - القوّة النامية الموجودة في النبات والحيوان.

2 - القوّة الحسّاسة وبه سمّي الحيوان حيواناً.

3 - القوّة العاملة العاقلة.

4 - ارتفاع الغمّ ، واستشهد لذلك بقول الشاعر :

ليس من مات واستراح بميّت *** إنّما الميّت ، ميّت الأحياء

5 - الحياة الاخروية الأبدية.

6 - الحياة التي يوصف بها البارئ فإذا قيل فيه تعالى « هو حيّ » فمعناه لا يصحّ عليه الموت وليس ذلك إلاّ لله عزّ وجلّ (2).

ص: 201


1- المقاييس : ج 2 ، ص 122.
2- المفردات : ص 138 - 139.

والظاهر أنّ للحيّ معنى واحداً والخصوصيّات تعلم من الخارج وإليك توضيحه.

الحياة ومراتبها

لا شك انّ كلّ واحد منّا يميّز بين مادة حيّة ومادة غير حيّة ، وبين جسم حيّ ، وجسم ميّت إلاّ انّه رغم ذلك لا يستطيع أحد إدراك مفهوم الحياة في الموجودات الحيّة ، فالحياة أشدّ الحالات ظهوراً ولكنّها أصعبها مراساً على الفهم ، وأشدها استعصاء على التحديد.

وبعبارة اُخرى : الحياة ضدّ الموت ، وهي وإن كانت أظهر الأشياء مفهوماً لكنّها من أخفاها حقيقة ، ولهذا اختلف في تفسير وتبيين حقيقتها ، وذهب العلماء فيه مذاهب شتّى.

إلاّ أنّها حسب نظر علماء الطبيعة هو ما يلازم آثاراً أربعة في المتّصف بها وهي :

1 - الجذب والدفع.

2 - النمو والرشد.

3 - التوالد والتكاثر.

4 - الحركة وردّة الفعل.

بينما ذهب آخرون مذهباً آخر في تعريف الحياة فقالوا :

هي قدرة الوحدة العضوية على مباشرة الوظائف الضروريّة لحفظ الذات ، ووظيفة التكاثر ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه التعاريف تعاريف بخصائص الحياة ، وآثارها ولوازمها وليست لبيان ما تقوم به حقيقة الحياة لما نرى من البعد الشاسع بين الحياة النباتية والحياة البشرية.

ص: 202

وإلاّ فإنّ خصائص الحياة والأحياء لا تنحصر في ما ذكر ، فإنّ للحياة مراتب ودرجات تتفاوت حسب شدّتها وضعفها.

فالنبات الحيّ ما تجتمع فيه الخصائص الأربع المذكورة.

ولكنّ الحياة في الحيوان تزيد على ذلك بالحسّ والشعور ، فالحيوان كائن حيّ بمعنى أنّه يملك مضافاً إلى الخصائص الأربع خصيصة اضافية وهي خصيصة الشعور والحس بشكل واضح وملموس (1).

وهذا الكمال الزائد المتمثّل في الحسّ والشعور لا يجعله مصداقاً مغايراً للحياة بل يعدّ مصداقاً أكمل لها.

غير أنّ خصائص الحياة لا تقتصر على هذا بل هناك حياة أعلى وأشرف وهو أن يتملّك الكائن الحيّ مضافاً إلى الخصائص الخمس خصيصة الادراك العلمي والعقلي والمنطقي ، فهو حيّ على الوجه الأتمّ والأبسط.

وبعبارة اُخرى : انّ ما ذكروه من الخصائص إنّما حاولوا بها ادخال جميع الكائنات الحيّة حتى النباتات تحت عنوان واحد ، وليس شيء من هذه الخصائص بمقوّم لواقع الحياة ومكوّن لحقيقتها.

أضف إلى ذلك انّ هذه التعاريف صدرت من علماء الطبيعة الذين لا هدف لهم إلاّ التعريف بالحياة في الموجودات الحيّة الطبيعية في عالمي النبات والحيوان ، ولأجل ذلك نجدهم يعرّفون الحياة والأحياء بتلك التعاريف ، ولا عتب عليهم في ذلك لأنّ مهمّتهم ليس هو التعريف الفلسفي للحياة حتى يعمّ جميع مراحلها.

فهذه التعاريف مع أنّها تعريف بالخصائص دون المقوّمات تعريف لقسم خاص من الحياة الموجودة في عالم الطبيعة.

ص: 203


1- وإن أثبت العلم الحسّ والشعور في النباتات لكن لا بشكل عام بل في بعض الأنواع.

وعلى كلّ تقدير فهذه التعاريف تنفعنا في فهم حقيقة الحياة على وجه الاجمال.

أمّا التعريف الجامع للحياة الذي يشمل جميع مراتبها من النبات إلى الإنسان فهو أن يقال : إنّ الحياة حقيقة واقعيّة أثرها هو وجود ما يشبه بالحسّ والحركة في الموجود الحيّ.

فالحركة في النبات عبارة عن أعمال الجذب والدفع والرشد والنمو ، والتوالد والتكاثر وما شابهها.

وأمّا الحسّ والشعور فهو أثر محسوس في الحيوان وثابت في بعض أصناف الأشجار حسب التجربة وهاتان الخصيصتان توجدان في الإنسان بنحو أقوى وآكد وأكمل ، فالحركة فيه تتجلّى مضافاً إلى ما في النبات والحيوان في أنّه مبدأ الأفعال وصنائع عجيبة وغريبة تحيّر العقول ، وتدهش الألباب.

كما أنّه مضافاً إلى أنّه حاسّ ذوشعور - يمتلك قدرة عقليّة - وفكراً رفيعاً يقدر به على درك رموز الخلق ، وقوانين الكون وعلى حلّ المعادلات وغير ذلك.

فعند ذلك يقف الإنسان على أنّ ما هو ملاك الحياة مع الغضّ عن أنّ لها مفهوماً خاصاً في كلّ مرتبة - هو كون الموجود درّاكا (1). وفعّالاً ، وهي موجودة في عامّة المراتب ، غير أنّ تلك الحقيقة تتجلّى في كلّه مرتّبة بشكل.

ففي النبات بالجذب والدفع والنمو والرشد والتوالد والتكاثر مع الحسّ النباتي الذي أثبته العلم والتجربة.

وفي الحيوان يتجلّى في الأفعال المذكورة مع الشعور الخاصّ الذي ربّما يكون في البعض أكمل من البعض.

ص: 204


1- ليس المراد منه هو الادراك الموجود في الانسان وما فوقه بل المراد حقيقة الدرك والوقوف على الحقائق أو ما شئت فعبّر.

وفي الإنسان مضافاً إلى الخصائص الموجودة في الدرجات السابقة يتجلّى في أفعاله العجيبة والغريبة وصنائعه البديعة مع ادراكه المسائل العقلية والفلسفية.

فالناظر إلى حقيقة الحياة في جميع الدرجات إذا غضّ النظر عن خصائص كلّ مرتبة وعن التعريف بالمرتبة ينتقل إلى أنّ الحيّ هو الموجود المدرك الفعال ، فاذا كانت هذه هي حقيقة الحياة فاللّه تبارك وتعالى حيّ بأكمل حياة.

وإن شئت قلت : إذا أردنا تعريف الحياة الموجودة في كلّ مرتبة من المراتب فلا يمكن إطلاقها على اللّه سبحانه.

وأمّا إذا نظرنا إلى « حقيقة الحياة » الموجودة في جميع هذه المراتب ، المجرّدة من خصائص تلك المراتب وخصوصيّاتها ، انتزع العقل مفهوماً كلّيّاً ينطبق على جميع المراتب ، وهو كون الشيء فاعلاً ومدركاً أو فعّالاً ودرّاكاً ، وإن كان تجلّي ذلك يختلف من مرتبة إلى اُخرى حسب ضعف المرتبة وقوتها.

وهذه المسألة حقيقة ثابتة في كثير من الأسماء ، فإنّ لفظة « المصباح » يوم وضعت كانت تطلق على الضوء الحاصل من اشتعال غصن شجر ، غير أنّ هذه الحقيقة تكاملت حسب تكامل الحضارة والتمدّن فصارت تطلق على المصباح الزيتي والنفطي والغازي والكهربائي بمفهوم واحد وسيع.

وما ذلك إلاّ لأنّ الحقيقة المقوّمة لصحة إطلاق تلك الكلمة هي كون الشيء منوّراً لما حوله ، فهذه الحقيقة مع اختلاف مراتبها موجودة في جميعها ، وفي المصباح الكهربائي على نحو أتمّ.

إنّ من الوهم أن يتوقّع إنسان مفكّر تحديد حياته سبحانه من خلال ما نلمسه من الحياة الموجودة في النبات أو الحيوان أو الإنسان.

كما أنّ من الوهم أن يتوقع أن تكون حياته تعالى رهن فعل وانفعال كيمياوي أو فيزياوي.

ص: 205

فإنّ كلّ ذلك ليس دخيلاً في حقيقة الحياة وإن كان دخيلاً في تحقّق الحياة في درجة خاصّة إذ لولا هذه الأفعال في النبات والحيوان والإنسان لامتنعت الحياة ، لكن دخلها في مرتبة خاصّة لا يعدّ دليلاً على كونه دخيلاً في حقيقة الحياة ، كما أنّ اشتعال المصباح بالفتيلة لا يعدّ كون الفتيلة مقوّما للمصباح ، وإنّما هو مقوّم لدرجة خاصّة ، وعندئذ نخرج بالنتيجة التاليه وهي :

إنّ ما هو المقوّم للحياة هو كون الموجود مدركاً وفاعلا أو ما يضاهي هذه الكلمات.

وإن شئت قلت : فعّالاً ودرّاكاً حسب درجته ومرتبته فالفعل والدرك في الحيوان والنبات يتنزّل إلى حد الحس والحركة ، ويتجلّى بهما ، ولكنّه في الإنسان وما فوقه إلى أن يصل إلى مبدأ الوجود والحياة بشكل آخر الذي ربّما يعبّر عنه بالفعل والدرك والخلق والعلم وما يقوم مقامهما.

وقال الامام الباقر علیه السلام :

« إنّ اللّه تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره نوراً لا ظلام فيه ، وصادقاً لا كذب فيه وعالماً لا جهل فيه وحيّاً لاموت فيه وكذلك هو اليوم وكذلك لا يزال أبداً (1).

وقال الامام موسى بن جعفر علیه السلام :

« إنّ اللّه لا إله إلاّ هو كان حيّاً بلا كيف ولا أين ولا كان في شيء ولا كان على شيء ... كان عزّ وجلّ إلهاً حيّاً بلا حياة حادثة وبلا كون وصوت ولا كيف محدود ولا أين موقوف ولا مكان ساكن بل حيّ لنفسه » (2).

وفي الختام نقول : إنّ حياته تعالى كسائر صفاته الكمالية صفات واجبة

ص: 206


1- توحيد الصدوق : ص 141.
2- المصدر نفسه : ص 141.

لا يتطرّق اليها العدم ولا يعرض لها النفاد والانقطاع ، لأنّ تطرّق ذلك اليها يضادّ وجوب الوجود وضرورته فهو حيّ لا يموت كما يقول سبحانه عن نفسه :

( وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) ( القرفان / 58 ).

ص: 207

ص: 208

حرف الخاء

الرابع والثلاثون : « الخالق »

قد ورد لفظ الخالق في الذكر الحكيم ثماني مرّات ووقع اسماً له في آيات سبع كما أنّه ورد لفظ « الخلاّق » مرّتين وسمّي سبحانه به في كلا الموردين.

قال سبحانه : ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) ( الأنعام / 102 ).

وقال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( الحشر / 24 ).

إلى غير ذلك من الايات.

وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) ( الحجر / 86 ).

وقال سبحانه : ( بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) ( يس / 81 ).

وقد مرّ معنى الخلق في الاسم الحادي عشر أعني « أحسن الخالقين » فلاحظ ، غير انّا نركّز هنا على نكتة وهو انّ هناك آيات صريحة في حصر الخالقيّة فيه سبحانه وإنّه لا خالق سواه.

ويقول سبحانه : ( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الرعد / 16 ).

وقال سبحانه : ( هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) ( الفاطر / 3 ). وفي الوقت نفسه يصف نفسه

ص: 209

( أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) ( المؤمنون / 14 ) وينسب الخلق إلى غيره ويقول :

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ ) ( آل عمران / 49 ).

ويقول سبحانه : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ) ( المائدة / 110 )

ثمّ إنّ الأشاعرة والعدلية اختلفوا في تفسير هاتين الطائفتين من الايات فالطائفة الاُولى حصروا الخالقية فيه سبحانه وأنكروا السببية للأسباب الطبيعية كما أنكروا تأثير الإنسان في أفعاله ، وقالوا : إنّه سبحانه يخلق الجواهر والأعراض وأفعال الإنسان والحيوان والنبات بنفسه مباشرة ، فإذا أراد الإنسان فعلاً يسبقه سبحانه إلى إيجاد الفعل المطلوب له من دون أن يكون للإنسان وإرادته واختياره فيه تأثير حتى أنّهم أنكروا تأثير العلل الطبيعية على وجه الاطلاق وذهبوا إلى أنّ الاحراق فعل اللّه عند تكوّن النار ولا صلة له بها ، كما أنّ التبريد يوجد به سبحانه مباشرة عند تحقّق الماء من دون ارتباط بينهما وقس على ذلك الكائنات الجوية والظواهر الأرضية فأنكروا النظم الطبيعية كلّ ذلك حرصاً على حفظ ظواهر الايات.

قال الدكتور البوطي (1) :

إنّ من أسماء اللّه عزّ وجلّ « القيّوم » ومعناه القائم باُمّ المخلوقات على الدوام والاستمرار ، وقد فصل هذا المعنى في مثل قول اللّه عزّ وجلّ في مثل : ( إِنَّ اللّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا ) ( الفاطر / 41 ).

ص: 210


1- إنّ الدكتور « محمد سعيد رمضان البوطي السوري » في كتابه « السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب اسلامي » أدى حقّ الموضوع وأثبت انّ اتباع السلف ليس بمعنى الانحباس في حرفية الكلمات التي نطقوا بها أو المواقف الجزئيّة التي اتّخذوها. ( السلفية مرحلة زمنية مباركة : ص 12 ). لكنّه مع الأسف قد حبس نفسه وفكره في اطار الفكر الاشعري وقبله الحنبلي ، ولم يخلص نفسه عنه ونظر إليها نظر تقديس وتنزيه وكأنّ منهجهم قد افرغ من رصاص أو نحاس لا يقبل الخداش ، ومن الموارد التي تبع الدكتور ذلك المنهج بحرفيته مسألة سلب التأثير للفواعل الطبيعية والعلل المادّيّة.

وقوله عزّ وجلّ : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ) ( الروم / 25 ).

وقد علمنا أنّ امساك اللّه السموات والارض ورعايته لها وهدايته إيّاها للقيام بما توجّه إليها من الأوامر التكوينيّة وكلّ ذلك مستمر دائم يتجدد لحظة فلحظة.

فهل يتّفق هذا البيان الالهي لاسم اللّه « القيّوم » مع ما يقرره الفلاسفة من أنّ اللّه أودع في كلّ شيء طبيعة وقوّة فهو بها يحقّق آثاره ، وينتج معلولاته ، وذلك لأنّه إذا تصوّرنا الأمر على هذا النحو فقد بطلت صفة القيوميّة في ذات اللّه عزّ وجلّ وبطل معنى قوله : « يمسك السموات والارض أن تزولا » لأنّ الأشياء بعد أن أُودعت فيها قواها أصبحت تؤدّي مهمّاتها استقلالا ودونهما حاجة إلى أي عون مستمر فتصبح كالجهاز العقلي الآلي المعروف اليوم حيث لا يحتاج إلى أكثر من أن يملأ بالمعلومات التوجيهيّة إذ هو بعد ذلك يؤدّي عمله دون أي معونة مستمرة أو حتى رقابة من صاحب هذا الجهاز أو صانع (1).

يلاحظ عليه أوّلا :

انّه إذا كان الوحي الالهي هو المصدر الوحيد في ذاك المجال فاللّه سبحانه كما ينسب الآثار والأفعال إلى نفسه ينسب إلى جنوده وملائكته وعباده نسبة حقيقيّة سبحانه مع أنّه القيّوم ، ومعناه حسب قول الكاتب القائم بأمر المخلوقات على الدوام والاستمرار ينسب التوفّي إلى نفسه مرّة ويقول : ( اللّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ( الزمر / 42 ). وإلى رسله ثانياً ويقول : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) ( الأنعام / 61 ). وإلى الملائكة ثالثاً ويقول : ( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) ( محمد / 27 ).

ولا نشكّ في أنّ القرآن خال عن الاختلاف والتناقض ، فإذا كان معنى كونه قيوماً قائماً بأمر المخلوقات على الدوام والاستمرار ، وكان القول بأنّ هناك سبباً وعلّة اُخرى تقوم ببعض الاُمور في مجال الكون والطبيعة مخالفاً لذلك ، فما معنى نسبة

ص: 211


1- المصدر نفسه : ص 176 - 177.

التوفّي إلى الملائكة والرسل ، وهل يمكن أن يقال : إنّ النسبة الثانية والثالثة نسبتان مجازيّتان ؟ أو أنّ هناك وجهاً آخر به تنحلّ عويصة هذا النوع من الايات وهو انّ الممكن بذاته وفعله قائم به سبحانه ، قيام المعنى الحرفي بالاسمي ، لو قام بفعل أو تأثير فإنّما هو بقدرة مفاضة إليه في كلّ آن وآن ( إن صحّ التعبير بالآن من حيث هي أصغر وحدة زمنية نعرفها ).

وثانياً : إنّه ليس نسبة الممكن إلى الواجب كنسبة البناء إلى البنّاء حيث يستغني البناء عن الباني في بقائه ودوامه لأجل القوى الطبيعيّة المودوعة فيه التي توجب تماسكه والتصاقه وبقائه ، فإنّ ذلك التصوير تصوير خاطئ ، فانّ الباني ليس موجداً للبناء حدوثاً ولا بقاء ، وإنّما هو علّة الحركة ، أي تحريك أدوات البناء من حجر وطين وجصّ وتركيبها ونضدها بشكل خاص ، وفي مثل ذلك يصحّ استغناء البناء عن الباني ولو غاب أو مات ، لبقى كما هو محسوس.

وأمّا نسبة العلل الطبيعية إلى اللّه سبحانه فليس من تلك المقولة فإنّها في حدوثها وبقائها ، ذاتها وفعلها محتاجة إليه سبحانه قائمة به والوجود ذاتاً وفعلاً ، يفيض من المبدئ دوماً آناً فآناً ، بحيث لو انقطعت الصلة بين رب العزّة والعلل الطبيعية لما كان منها عين ولا أثر ، فلا ترى الشمس ولا ضياءه ولا القمر ولا نوره ، وفي مثل ذلك لا يتصور استقلال الممكن في ذاته وفعاله ، وما ذكره الكاتب مبنيّ على حاجة العالم في حدوثه إلى البارئ لا في بقائه ، وهو تصوّر باطل لا ينسجم مع كونه ممكناً ولو أورد بالتشبيه والتنزيل فلنا أن نقول :

« إنّ نسبة العلل الطبيعية إلى اللّه سبحانه نظير نسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي فإنّها لا تستغني عن المعنى الاسمي لا في عالم التصوّر ولا في مقام التحقّق عنه أو كنسبة الصور الذهنيّة إلى النفس ، وفي مثل ذلك التحدّث عن الاستغناء والاستقلال تحدّث خاطئ ».

وبذلك تعلم قيمة قوله « بعد أن اودعت فيها قواها المزعومة أصبحت تؤدّي

ص: 212

مهمّاتها استقلالاً فتصبح كجهاز العقل الآلي المعروف اليوم » وهذا يعرب عن أنّه تصور أنّ نسبة العوالم الامكانية إلى الواجب كنسبة البناء إلى الباني ، فإنّ القول بوجود القوى في الأسباب الطبيعية ليس بمعنى استقلالها في الوجود والايجاد بل بمعنى أنّ وجودها وايجادها وجوهرها وآثارها قائمة به ومؤثّرة بحوله وقوّته وأمره وإذنه ، فهو الذي أعطى قوّة الاحراق للنار وقوة التبريد للماء : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ) ( يونس / 5 ).

وينزل منه فيض الوجود إلى الممكنات دوماً وفي كلّ لحظة فلحظة وآن وآن.

وثالثاً : نتنزّل عن كلّ ما ذكرنا ونقول : إنّ نسبة العلل الطبيعية إلى اللّه سبحانه لا تقلّ عن نسبة الوكيل إلى الموكل والعبد إلى مولاه ، ومدير الشركة إلى أصحابها.

فالعبد يعمل لمولاه ، والوكيل يشتري ويبيع في متجر الموكّل ، والمدير يخطّط اُمور التجارة ويمهّد لها ، والكلّ مبادئ أفعال وآثار وفي الوقت نفسه ينسب أفعالهم إلى السيّد والموكّل وأصحاب الشركة ، وما ذلك إلاّ لأجل انّهم قاموا بهذه الاُمور ونالوا هذا المنصب بإذنهم وأمرهم وإرادتهم ، وإذا لم يريدوا حالوا بينهم وبين أفعالهم ، ولأجل ذلك فلو باع الوكيل دار الموكّل ينسب الفعل إليهما جميعاً لكن الوكيل غير مستقل والموكّل مستقل ، وفعل الوكيل فعله بالتسبيب.

هذا هو الخط الذي يجب أن يمشي عليه المفسّر في تنسيق هذه الايات وتفسيرها ، والمراد الايات التي ينسب الفعل الواحد إلى اللّه سبحانه وفي الوقت نفسه إلى الإنسان وإلى غيره وإليك نماذج من هذا النوع من الايات :

1 - يقول سبحانه : ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الهُدَى ) ( البقرة / 120 ). فترى أنّه يحصر الهداية في اللّه سبحانه وفي الوقت نفسه يسمّي النبي هادياً ويقول : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الشورى / 52 ). فما معنى الحصر المتقدّم ونسبة الهداية إلى النبي الأكرم ؟

والجمع أنّ الهداية الأصيلة القائمة باللّه مختصّة به ، وأمّا الهداية المفاضة

ص: 213

المكتسبة المأذونة فإنّما هو للعبد ، فهناك هداية واحدة تنسب إلى اللّه أوّلاً وإلى الثاني استقلالاً وتبعاً ، واللّه سبحانه هاد بلا شكّ والنبي الأعظم هاد حقيقة بلا شائبة مجاز ، لكن بتمكين وإقدار وإذن منه ، ومثل ذلك لا يوجب كون النبي مستقلاً في فعله ويكون كجهاز العقل الآلي.

2 - يأمر القرآن - في سورة الحمد - بالاستعانة باللّه وحده ، إذ يقول :

( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

في حين نجده في آية اُخرى يأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة ، إذ يقول :

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) ( البقرة / 45 ).

3 - يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقاً مختصّاً باللّه وحده ، إذ يقول :

( قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) ( الزمر / 44 ).

بينما يخبرنا - في آية اُخرى - عن وجود شفعاء غير اللّه كالملائكة :

( وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ ) ( النجم / 26 ).

4 - يعتبر القرآن الإطلاع على الغيب والعلم به منحصراً في اللّه ، حيث يقول :

( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) ( النمل / 65 ).

فيما يخبر الكتاب العزيز في آية اُخرى عن أنّ اللّه يختار بعض عباده لاطلاعهم على الغيب ، إذ يقول :

( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ) ( آل عمران / 179 ).

5 - ينقل القرآن عن إبراهيم علیه السلام قوله بأنّ اللّه يشفيه إذا مرض حيث يقول : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) ( الشعراء / 80 ).

ص: 214

وظاهر هذه الاية هو حصر الشفاء من الأسقام في اللّه سبحانه ، في حين أنّ اللّه يصف القرآن والعسل بأنّ فيهما الشفاء أيضاً ، حيث يقول :

( فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ) . ( النحل / 69 )

( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ) ( الاسراء / 82 ).

6 - إنّ اللّه تعالى - في نظر القرآن - هو الرزّاق الوحيد ، حيث يقول :

( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / 58 ).

بينما نجد القرآن يأمر المتمكّنين وذوي الطول بأن يرزقوا من يلوذ بهم من الضعفاء ، إذ يقول :

( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) ( النساء / 5 ).

7 - الزارع الحقيقي - حسب نظر القرآن - هو اللّه كما يقول :

( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) ( الواقعة / 63 و 64 ).

في حين انّ القرآن الكريم - في آية اُخرى - يطلق صفة الزارع على الحارثين ، إذ يقول :

( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) ( الفتح / 29 ).

8 - إنّ اللّه هو الكاتب لأعمال عباده ، إذ يقول :

( وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) ( النساء / 81 ).

في حين يعتبر القرآن الملائكة - في آية اُخرى - بأنّهم المأمورون بكتابة أعمال العباد ، إذ يقول :

( بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) ( الزخرف 80 ).

9 - وفي آية ينسب تزين عمل الكافرين إلى نفسه سبحانه يقول :

( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) ( النمل / 4 ).

ص: 215

وفي الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان :

( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ ) ( الأنفال / 48 ).

وفي آية اُخرى نسبها إلى آخرين وقال :

( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) ( فصّلت / 25 ).

10 - مرّ في هذا البحث حصر التدبير في اللّه حتى إذا سئل من بعض المشركين عن المدبّر لقالوا : هو اللّه ، إذ يقول في الاية 31 من سورة يونس :

( وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ ) .

بينما اعترف القرآن بصراحة في آيات اُخرى بمدبّريّة غير اللّه حيث يقول :

( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) ( النازعات / 5 ).

فمن لم يكن له إلمام بمعارف القرآن يتخيّل لأوّل وهلة أنّ بين تلك الايات تعارضاً غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ حقيقة هذه الاُمور ( أعني الرازقيّة والشفاء و ... ) قائمة باللّه على نحو لا يكون لله فيها أيّ شريك فهو تعالى يقوم بها بالاصالة وعلى وجه « الاستقلال » في حين أنّ غيره محتاج إليه سبحانه في أصل وجوده وفعله ، فما سواه تعالى يقوم بهذه الأفعال والشؤون على نحو « التبعيّة » وفي ظل القدرة الالهية.

وبما أنّ هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات ، وأنّ كل ظاهرة لابدّ أن تصدر وتتحقّق من مجراها الخاص بها المقرر لها في عالم الوجود ، ينسب القرآن هذه الآثار إلى أسبابها الطبيعية دون أن تمنع خالقية اللّه من ذلك ، ولأجل ذلك يكون ما تقوم به هذه الموجودات فعلاً لله في حين كونها فعلاً لنفس الموجودات ، غاية ما في الأمر انّ نسبة هذه الامور إلى الموجود الطبيعي نفسه إشارة إلى الجانب « المباشري » فيما يكون نسبتها إلى « اللّه » إشارة إلى الجانب « التسبيبي ».

ص: 216

ويشير القرآن إلى كلا هاتين النسبتين في قوله سبحانه :

( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ) ( الأنفال / 17 ).

ففي حين يصف النبي الأعظم بالرمي ، إذ يقول بصراحة « إذ رميت » نجده يصف اللّه بأنّه هو الرامي الحقيقي ، وذلك لأنّ النبي إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها اللّه له ، فيكون فعله فعلا لله أيضاً ، بل يمكن أن يقال : إنّ انتساب الفعل إلى اللّه ( الذي منه وجود العبد وقوّته وقدرته ) أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلاً لله لا غير ، ولكن شدّة الانتساب هذه لا تكون سبباً لأن يكون اللّه مسؤولاً عن أفعال عباده ، إذ صحيح انّ المقدّمات الأوّلية للظاهرة مرتبطة باللّه وناشئة منه إلاّ أنّه لما كان الجزء الأخير من العلّة التامّة هو إرادة الإنسان ومشيئته بحيث لولاها لما تحققت الظاهرة ، يعدّ هو مسؤولاً عن الفعل.

الخامس والثلاثون : « الخلاّق »

وقد تبيّن حاله ممّا ذكرناه في الاسم السابق.

السادس والثلاثون : « الخبير »

وقد ورد لفظ الخبير في الذكر الحكيم 45 مرّة وجاء اسماً له سبحانه في جميع الموارد ، واستعمل تارة مع « الحكيم » واُخرى مع « البصير » وثالثة مع « العليم » ورابعة مع « اللطيف ».

قال سبحانه : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / 18 ).

وقال سبحانه : ( وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ) ( الشورى / 27 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( الحجرات / 13 ).

ص: 217

وقال سبحانه : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / 103 ).

ويستظهر معناه ممّا قورن به من كونه حكيماً وبصيراً وعليماً ولطيفاً.

قال ابن فارس : « خبر » له أصلان : الأوّل العلم ، والثاني يدل على لين ورخاوة وغزر ، فالأوّل الخبر : العلم بالشيء ، تقول لي بفلان خبره وخبر ، واللّه تعالى الخبير أي العالم بكلّ شيء ، وقال اللّه تعالى : ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) ، والثاني الخبراء وهي الأرض الليّنة والخبير الأكّار وهو من هذا ، لأنّه يصلح الأرض ويدمّثها ويلينها » (1).

وقال الراغب : « العلم بالأشياء المعلومة من جهة الخبر ، وخبرته خبراً وخبرة وأخبرت وأعلمت بما حصل لي من الخبر ، وقيل الخبرة : المعرفة ببواطن الأمر ».

وفسّره الصدوق بمطلق العلم وقال : « الخبير معناه العالم ، والخبر والخبير في اللّغة واحد ، والخبر علمك بالشيء ، يقال لي به خبر أي علم » (2) والظاهر انّ المراد هو الثاني وهو العلم بكنه الشيء والخبير هو المطّلع على حقيقته وإليه يشير قوله : ( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) ( الفرقان / 59 ).

وقوله : ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) ( فاطر / 14 ). نعم الخبير صفة المخلوقين إنّما يستعمل في العلم الذي يتوصل به في الاختبار والامتحان واللّه منزّه منه (3).

وأمّا حظ العبد فيمكن أن يكون مظهراً لهذا الاسم بالبحث والفحص عن أسرار الكون ودقائقه ، ومحاسن الأخلاق وقبائحه.

ص: 218


1- مقاييس اللغة ج 2 ص 231.
2- كتاب التوحيد : ص 216.
3- لوامع البينات للرازي : ص 248.
السابع والثلاثون : « الخير »
اشارة

وقد ورد لفظ « الخير » مرفوعاً في الذكر الحكيم 176 مرّة ووقع اسماً ووصفاً له سبحانه مرّتين.

قال سبحانه : ( وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) ( طه / 73 ) ، وقال ( قُلِ الحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( النمل / 59 ).

هذا في ما وقع له وصفاً مفرداً ، وأمّا إذا اُضيف إلى اسم من أسمائه سبحانه فقد جاء في الذكر الحكيم الأسماء التالية :

1 - خير الحاكمين. 2 - خير الراحمين. 3 - خير الرازقين. 4 - خير الغافرين. 5 - خير الفاتحين. 6 - خير الفاصلين. 7 - خير الماكرين. 8 - خير المنزلين. 9 - خير الناصرين.10 - خير الوارثين. 11 - خير حافظا.

وهذا الأخير شبه المضاف ولذلك أتينا به في عداد المضاف ، ونقدّم البحث عن « الخير » غير المضاف ثمّ نأتي بالمضاف من « الخير ».

« الخير » كما قال ابن فارس خلاف الشرّ والضرّ.

قال سبحانه : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ) ( آل عمران / 180 ).

وقال سبحانه : ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الأنعام / 17 ). وفي جميع الأحوال ، وخير مقيّد ونسبيّ وهو أن يكون خيراً لواحد ، وشراً لآخر كالمال فقد أسماه سبحانه في مورد خيراً وقال : ( إِن تَرَكَ خَيْرًا ) ( البقرة / 180 ) وفي مورد آخر بخلافه وقال : ( أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ) ( المؤمنون / 55 و 56 ).

فالمال في يد الرجل التقيّ خير يقري به الضيف ويقضي حاجة المستنجد ، و

ص: 219

في يد الرجل الفاسق شرّ ، لأنّه يصرفه في العصيان والطغيان ، واللّه سبحانه خير مطلق لا شرّ فيه ولا يصدر منه الشرّ وليس للشرّ إليه سبيل.

هذا وربّما يطرح هناك سؤال وهو انّه سبحانه لو كان خيراً محضاً فما هو المبدئ للمصائب والآلام التي ملأت العالم كالزلازل الهدّامة والسيول الجارفة والسباع الضارية ، إلى غير ذلك ممّا يسمّى شرّاً.

أقول : هذا ممّا شغل بال الباحثين طيلة سنين وأجابوا عنه بوجوه :

1 - النظرة الأنانيّة إلى الظواهر :

إنّ ما يظن من الحوادث الشاذّة متّسمة بالشرّ إنّما ينبع من نظر الإنسان إلى هذه الاُمور من خلال مصالحه الشخصيّة ويجعلها محوراً وملاكاً لتقييم هذه الاُمور فعندما يراها نافعة لشخصه وذويه ، يصفها بالخير وإلاّ فيصفها بالشرّ ، فهو في هذا الحكم لا ينطلق إلاّ من نفسه ومصالحه الشخصيّة ومن يقرّبه بأواصر القومية ، ولأجل ذلك يصف الطوفان الجارف الذي يكتسح مزرعته ، والسيل العارم الذي يهدّم منزله ، والزلزلة التي تضعضع أركان بيته بالشرّ والبلاء ، ولكنّه يتجاهل غيره من البشر الذين يقطنون في مناطق اُخرى من العالم ، أو الذين عاشوا في غابر الزمان أو يعيشون في مستقبله أن تكون هذه الحوادث مفيدة لأحوالهم وحياتهم ، وما أشبه هذا الإنسان ورؤيته برؤية عابر سبيل ، يرى جرّافة تحفر الأرض أو تهدم أبنية فيقضي من فوره أنّه عمل ضارّ ومسيئ ، وهو لا يدري أنّ ذلك التخريب والتهديم مقدّمة لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى ويعالج المصابين ويهيّئ لمئات الآلاف من المحتاجين إلى العلاج ، ولو وقف على تلك الغاية لما وصف التهديم بالشرّ بل تتلقّاه خطوة نافعة.

إنّ مثل هذا الإنسان المحدود النظرة الأناني في تقييمه مثل الخفّاش الذي يؤذيه النور لأنّه يقبض بصره ، بينما يبسط هذا النور ملايين العيون ، ويساعدها على

ص: 220

الأبصار والرؤية ، ويوفّر لها إمكانيّة الحياة ، فهل يكون قضاء الخفّاش على النور بأنّه شرّ ملاكاً لتقييم هذه الظاهرة ؟

إنّ الحوادث حلقات مترابطة في سلسلة ممتدّة من أوّل الحياة إلى أقصاها ، فما يقع الآن يرتبط بما وقع في أعماق الماضي ، وبما سيقع في المستقبل في سلسلة من العلل والمعاليل والأسباب والمسبّبات ، ومن هنا لا يكون القضاء على ظاهرة من الظواهر بغض النظر عمّا سبقها وما يلحقها ، وتقييمها جملة واحدة ، قضاء صحيحاً وموضوعيّاً ، ولا النظر إليها دون هذا الشكل نظراً صائباً ، وإليك بعضالأمثلة :

إذا وقعت عاصفة على السواحل فإنّها تقطع الأشجار وتهدّم الأكواخ وتقلّب الاثاث ، ويوصف بالشرّ عند القياس إلى النفس ، ولكنّها في الوقت نفسه توجب حركة السفن الشراعيّة المتوقّفة في عرض البحر بسبب سكون الريح ، وبهذا تنقذ حياة المئات من ركابها اليائسين من نجاتهم وتوصلهم إلى شواطئ النجاة.

صحيح انّ العاصفة تهدّم بعض الجدران وتقلع بعض الأشجار ولكنّها تعتبر وسيلة فعّالة في عملية التلقيح بين الأشجار والأزهار ، كما يعتبر وسيلة فعّالة لتحريك السحب الحاملة للمطر ، وتبدّد الأدخنة المتصاعدة من فوهات المصانع والمعامل ، إلى غير ذلك من الآثار الطيّبة لهبوب الرياح التي تتضاءل عندها بعض الآثار السيّئة أو تكاد تنعدم بالمرّة.

وهناك ندرك سرّ قوله سبحانه في الكتاب العزيز عن علم الإنسان وعجزه حيث قال : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الاسراء / 85 ). وقال : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ( الروم / 7 ).

كلّ ذلك يصدّنا من التسرّع في القضاء والحكم على الحوادث بالشرّ لضآلة علمنا بما جرى في السابق وما يجري حالياً وما سيجري في المستقبل ، وليست هذه الحادثة منفصلة عن الحوادث في الظروف الثلاثة ، فلعلّها بالنسبة إليها تحمل

ص: 221

مصالح كبيرة يحقر عنده ما يصاب الإنسان من الشرّ والبلاء.

إنّ هنا كلمة قيّمة للفيلسوف الإلهي صدر الدين الشيرازي يقول :

« واعلم أنّه قد تحيّرت العقول في كون بعض الحيوانات آكلة لبعض ، وفيما جعل اللّه تعالى ذلك في طباعها وهيّأ لها الآلات والأدوات التي يتمكّن بها على ذلك كالأنياب والمخالب والأظافير الحداد التي بها يقدر على القبض والضبط والخرط والنهش والأكل والشهوة واللذّة والجوع وما شاكل ذلك مع ما يلحق المأكولات منها من الآلام والأوجاع والفزع عند الذبح والقتل ، فلمّا تفكّروا في ذلك ولم تسنح لهم العلّة ولا الغاية والحكمة ، فاختلفت عند ذلك بهم الآراء وتفنّنت بهم المذاهب ، حتى قال بعضهم : إنّ تسلّط الحيوانات بعضها على بعض وأكل بعض لبعض ليس في فعل حكيم بل فعل شرير قليل الرحمة ظلاّم للعبيد ، فلهذا قالوا : إنّ للعالم فاعلين خيّراً وشريراً.

وإنّما لم يقفوا عليها لأنّ نظرهم كان جزئيّاً ، وبحثهم عن علل الأشياء مخصوصاً ، ويمتنع أن يعلم أسباب الأشياء الكلّيّة بالأنظار الجزئيّة ، لأنّ أفعال البارئ تعالى إنّما الغرض منها هو النفع الكلّي والصلاح على العموم وإن كان يعرض من ذلك ضرر جزئي ومكاره مخصوصة أحياناً ، وهكذا خلق اللّه الشمس والقمر والامطار لأجل النفع والمصلحة العامّة ، وإن كان قد يعرض لبعض الناس والحيوان والنبات من ذلك ضرر ، ولمّا كان الأمر يؤول إلى الصلاح الكلّي كانت تلك الشدائد من جهته صغيرةً جزئيّةً (1).

وبوجه إجمالي القضاء على بعض الظواهر بأنّه شرٌّ ناشئ من انطلاق الإنسان في قضائه على هذه الظواهر من منطلق نفعيّ أناني ، وأمّا إذا نظر إلى تلك الظواهر من زاوية النظام العام فلا يراها إلاّ خيرات ضرورية لتعادل النظام ولازمة لاتّساقه واستمرار الحياة وبقائها.

ص: 222


1- الاسفار ج 7 ص 98 - 99.

وفي ذلك يقول الحكيم السبزواري :

ما ليس موزونا لبعض من نغم *** ففي نظام الكلّ ، كلّ منتظم

2 - الشرّ أمر انتزاعي قياسيّ نسبيّ
اشارة

ما ذكرنا من الجواب يعمّ كافّة الناس بشرط أن يتنازلوا عمّا يتصوّرون من الاحاطة على أسرار الكون وحقائقه ، وهناك جواب آخر يهمّ المحقّقين في العلوم العقلية وحاصل هذا الجواب : إنّ الشر أمر عدمي ليس له واقعيّة في صفحة الكون ، بل هو أمر انتزاعي تنتزعه النفس عند مقايسة أمر بأمر ، والاشكال إنّما يرد لو كان له واقع خارجي في حدّ ذاته ، وأمّا إذا كان كلّّ ما في الكون متّسما بسمة الخير وكانت الشرور مخلوقة ذهن الإنسان عند مقايسة ظاهرة بظاهرة ومشاهدة التنافر والتضاد بينهما فلا ، إذاً ليس لها واقع خارجي يحتاج إلى الايجاد والخلق ، وإنّما هي اُمور وهميّة يخلقها الذهن عند المقايسة ومشاهدة التضاد بين الحادثين ، بحيث لولا حديث المقايسة لما كان للشرّ في صفحة الكون واقعيّة وحقيقة ، فنقول في توضيح ذلك :

إنّ الصفات على قسمين :

1 - ما يكون له واقعيّة كموصوفه مثل قولنا : الإنسان موجوداً أو انّ المتر = 100 سنتمتر وهذه صفة حقيقيّة لها واقعيّة خارجيّة توجّه إليها الذهن أم لا ؟

2 - ما لا يكون له واقعية مثل موصوفه بل ينتزعه الذهن عند المقايسة كالكبر والصغر ، فإنّ الكبر ليس شيئاً ذات واقعيّة خارجيّة ، وانّما هي صفة ينتزعها الذهن بالقياس إلى ما هو أصغر منه.

مثلاً الأرض له حجم واقعي ومساحة خاصّة كما أنّ الشمس كذلك ، فالحجم والمساحة في كلّ منهما ذات واقعيّة خارجيّة ، إلاّ أنّ هناك أمراً ثالثاً وهو انّ الأرض أصغر من الشمس والشمس أكبر منه ، أو أنّ القمر أصغر من الأرض والأرض أكبر

ص: 223

من القمر ، فليس الكبر والصغر من الاُمور الواقعيّة ، بل إنّما هي مفاهيم ذهنيّة تنتزع عند القياس.

ولأجل ذلك تتّصف الأرض تارة بالصغر واُخرى بالكبر ، فليس هنا واقعيّة وراء الحجم والمساحة حتى يكون محقّقاً للصغر والكبر.

وفي ضوء هذا تقدر على حلّ الشرور فإنّها اُمور قياسيّة نسبيّة ، فسمّ الحيّة والعقرب وغزارة المطر ليست من الشرور بتاتاً إذا لوحظ كلّ واحد بنفسه ، بل هي سبب لكمال أصحابها وموجب لبقائها ، وإنّما يتّسم بالشر إذا قيس إلى الإنسان ولوحظ المنافرة بينهما.

وعند ذلك فالشرّ ليس ممّا يتعلّق به الخلق والايجاد لأنّ المفروض أنّها اعدام لا موجودات ، واتّصافه بالشرّ إنّما هو وليد الذهن وبانتزاعه ، فسمّ العقرب والحيّة بما هي هي مخلوق لله سبحانه وتعالى ، وأمّا كونه ضارّاً بالنسبه للإنسان فليس شيئاً واقعيّا وراء السمّ حتى يحتاج إلى الخالق ، وإنّما ينطلق إليها الذهن عند المقايسة.

إلى هنا خرجنا بجوابين عن الاشكال :

1 - إنّ وصف الإنسان لبعض الظواهر بكونها شرّاً لأجل النظر إليها من زاوية ضيّقة ، وأمّا إذا لوحظت من زاوية النظام العام فهي موصوفة بالخير.

2 - إنّ بعض الحشرات والضواري والسباع التي يصفها الإنسان بالشرّ لا يكون الموجود منها سوى ذواتها وأجهزتها ، وأمّا الاتصاف بالشريّة فليس إلاّ أمراً ذهنيّا لا خارجيّاً فلذلك لا يقع في صفحة الخلق.

وإلى ما ذكرنا يشير الحكيم السبزواري :

والشرّ اعدام فكم قد ضلّ من *** يقول باليزدان ثم الأهرمن

ما ذكرنا من الجوابين كان تحليلاً فلسفيّاً ولكن هناك تحليلات اُخرى للشرور وهي تحليلها من جانب الآثار التربويّة وحاصلها : إنّ لهذه الحوادث الأليمة و

ص: 224

المصائب المحزنة آثار تربويّة مهمّة في حياة البشر ، ولأجل ذلك وقعت في حيّز الخلق وذلك من باب تقديم الخير الكثير على الشرّ الكثير ، وإليك بيان تلك الآثارالتربويّة.

1 - المصائب وسيلة لتفجير القابليات

1 - المصائب وسيلة لتفجير القابليات (1)

يحطّ الإنسان قدمه على هذه الأرض وهو يحمل في كيانه جملة كبيرة من القابليات والمواهب التي تبقى في مرحلة القوى وفي صورة الطاقات المعطّلة المخزونة ، إلاّ أن تتوجّه إليها صدمة قويّة تحرك القابليات ، وتفجّر المواهب ، وتظهر المعادن ، وتصقل الجواهر.

وبعبارة واضحة : إذا لم يتعرّض الإنسان للمشاكل في حياته فإنّ قابليّاته ومواهبه المكنونة بين جوانحه ستبقى جامدة هامدة لا تنمو ولا تنفتح ، بل تبقى في مرحلة القوّة والذخيرة المهملة ، فإذا تعرّض الإنسان للمشاكل والمحن تفتّقت فيه تلك القابليات ، ونمت تلك المواهب ، وانتقلت الطاقات الكامنة من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعلية ، وتفتّح فكره ، وتكامل عقله.

ولا يعني هذا أن يعمد الإنسان بنفسه إلى خلق المشاكل ، وإثارة الشدائد والمصائب وجرّها إلى نفسه ابتداءً ، بل يعني أن يستقبلها الإنسان - إذا جاءت - برحابة صدر ، ويستفيد منها في تفجير قابلياته ، وتنمية مواهبه ، وإذكاء عقله ، وتقوية روحه ، لا أن يستسلم أمام عواصفها ، أو ينهزم أو ينهار ، فلا يحصد إلاّ الخسران ، ولا يقطف إلاّ ثمرة السقوط المرّة.

إنّ البلايا والمصائب والمحن خير وسيلة - لو أحسن المرء استغلالها واستخدامها - لتفجير الطاقات ، بل تقدّم العلوم ، ورقيّ الحياة البشريّة.

فهاهم علماء الحضارة يصرّحون بأنّ أكثر الحضارات لم تتفتّق ولم تزدهر إلاّ

ص: 225


1- لاحظ : اللّه خالق الكون ص 270 - 277 ، فقد نقلناه منه.

في أجواء الحروب والصراعات والمنافسات ، حيث كان الناس يلجأون فيها إلى استحداث وسائل الدفاع وفي مواجهة الأعداءِ المهاجمين ، أو اصلاح ما خلّفته الحروب من دمار ونقص وتخلّف ، أو تهيئة ما يستطيعون به على مقاومة الحصار مثلاً.

فقد كانت - في مثل هذه الظروف - تتفتّق المواهب وتتحرّك القابليّات لملافاة مافات ، وتكميل ما نقص وتهيئة ما يلزم. ومن هنا قالوا : إنّ الحاجة اُمّ الاختراع.

قال العلامة الطباطبائي في هذا الصدد :

« إنّ البحث الدقيق في العوامل المولّدة للسجايا النفسانيّة بحسب الأحوال الطارئة على الإنسان في المجتمعات يهدي إلى ذلك ، فإنّ المجتمعات العائلية والأحزاب المنعقدة في سبيل غرض من الأغراض الحيوية دنيويّة أو دينيّة في أوّل تكوّنها ونشأتها تحسّ بالموانع المضادّة والمحن الهادمة لبنيانها من كلّ جانب فتتنبّه قواها الدافعة للجهاد في سبيل هدفها المشروع عندها ، ويستيقظ ما نامت من نفسيّاتها للتحذّر من المكاره ، والتفدية في طريق مطلوبها بالمال والنفس ، ولا تزال تجاهد وتفدي ليلها ونهارها ، وتتقوّى وتتقدّم حتى تمهّد لنفسها فيها بعض الاستقلال ويصفو لها الجوّ بعض الصفاء ، وتأخذ بالاستفادة من فوائد جهدها » (1).

ثم إنّنا لا ندّعي بأنّ هذه النتائج والثمار توجد دائماً في جميع الحوادث والكوارث ، وإنّما في أغلبها.

فإنّ أغلبيّة هذه المصائب والبلايا تعطي دفعة قويّة لقابليات الأفراد ، وتطرد الكسل عن نفوسهم والجمود عن أفكارهم.

أليس الحديد يزداد قوة وصلابة كلّما تعرّض للنار ، وأليس السيف يزداد حدة وقاطعية كلّما تعرّض للمبرد.

ص: 226


1- الميزان ج 9 ص 124.

ومن هنا فإنّ الوالدين اللذين يعمدان إلى تربية ولدهما تربية ناعمة مرفّهة بعيدة عن الصعوبات والشدائد ، لا يقدّمان إلى المجتمع إلاّ إنساناً هزيلاً ضعيف الإرادة فاقد الطموح ، أشبه ما يكون بالنبتة الغضّة في مهبّ الريح ، بل والتبنة الخفيفة الوزن أمام هبوب العاصفة تأخذها يميناً وشمالاً.

وأمّا الذي ينشأ نشأة خشنة محفوفة بالمشاكل والمصائب ، والمصاعب والمتاعب ، فإنّه يكون أشبه بالصخرة الصلبة التي تتكسر عليها كلّ السهام ، وتتحطّم عندها كلّ العواصف أو كما وصف الامام علي علیه السلام إذ قال :

« ألا انّ الشجرة البرّية أصلب عوداً والروائع الخضرة أرقّ جلوداً ، والنباتات البدوية أقوى وقوداً ، وأبطأ خموداً » (1).

وإلى هذه الحقيقة ذاتها يشير قوله سبحانه :

( فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) ( النساء / 19 ).

وقوله تعالى :

( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) ( الشرح / 5 و 6 ).

وقوله سبحانه :

( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب ) ( الشرح / 7 و 8 ).

أي تعرّض للنصب والتعب بالاقدام على العمل والسعي والجهد كلّما فرغت من العبادة ، وكأنّ النصر والمحنة حليفان لا ينفصلان ، واخوان لا يفترقان.

وخلاصة القول : إنّ القدرة على المقاومة والظفر بالنجاح يتوقّف على صلابة الإنسان الحاصلة من المرور بالصعوبات والمشاق ، ليزداد قوّة إلى قوّة ، وتماسكاً إلى تماسك كما يزداد الحديد صلابة إذا تعرّض لمطرقة الحدّاد ، ولكي يخلص عقله وروحه من علائق الكسل والجمود كما يخلص الذهب من الشوائب إذا تعرّض لألسنة اللّهب.

ص: 227


1- نهج البلاغة - الرسالة رقم 45.
2 - المصائب والبلايا جرس انذار :

إنّ التمتع بالمواهب المادية ، والاستغراق في اللذائذ والشهوات يوجب غفلة كبرى عن القيم الأخلاقيّة.

فكلّما ازداد الإنسان تعمّقاً في اللذائذ والنعم ، ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنوية ، وربّما انتهى به الحال إلى أن ينسى نفسه بالمرّة.

وهذه حقيقة يلمسها كلّ فرد في حياته وحياة غيره ، كما يقرأها في صفحات التاريخ.

فلابد - حينئذ - من وخزة للضمير ، وهزّة للعقل ... لابد من جرس للانذار يذكّر الإنسان بنفسه ويفيقه من غفوته ، وينبّهه من غفلته ، وليس هناك ما هو أنفع - في هذا المجال - من بعض الحوادث التي تغيّر رتابة الحياة ، وتقطع على الإنسان شروده وغفلته ، ولهوه ولذّته ، فإذا انقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات ، واعترضت لذّته بعض المنغّصات ، استيقظ من نومه ، وأدرك عجزه ، وتخلّى عن غروره ، وخفّف من طغيانه.

إنّ الذي يعيش حياة ناعمة رتيبة يشبه إلى كبير من يركب في سيارة يقودها سائق ، تسير على طريق مبلّط فيغطّ في نوم عميق ، لا يستيقظ منه إلاّ إذا كبس السائق على فرامل السيارة فجأة ، وتوقّفت دون سابق اخبار ، أو مرّ على قطعة غير مبلّطة ، فأحدثت رجفة قويّة.

ولهذا تعمد الأجهزة المسؤولة عن الطرق والمواصلات إلى غرس بعض القطع الناتئة على متن الطرق حتى يوجب ذلك تنبيه السائقين بسبب ما تحدثه من هزّات للسيارة كيلا يستسلموا للنوم والنعاس.

ولأجل ذلك يتّضح وجه ربط الطغيان باحساس الغنى والاستغناء في الكتاب العزيز إذ يقول سبحانه :

( إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ) ( العلق / 6 و 7 ).

ص: 228

كما ولأجل هذا يعلّل القرآن الكريم بعض النوازل والمصائب بأنّها لفائدة الذكرى ، فالرجوع إلى اللّه ، والتضرّع إليه.

يقول سبحانه في هذا الصدد :

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) ( الاعراف / 94 ).

ويقول أيضاً :

( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ( الاعراف / 130 ).

فالآيتان تصرّحان بأنّ المصائب والبلايا سبب لتضرّع الإنسان إلى اللّه ، وتذكّره ، فهو إذا نسي اللّه في غمار الشهوة والماديّة ، أيقظته المحنة وذكّرته باللّه ، إذ بها يدرك أنّه فقير عاجز لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً ، وإنّ اللذة الدنيوية لذّة عابرة ، وشهوة متصرّمة ، وإنّه لا ملجأ له ولا معين إلاّ اللّه.

وهكذا تكون البلايا والمصائب سبباً ليقظة الإنسان ، وتذكّره ، وتنبّهه وتضرّعه إلى اللّه ، فهي بمثابة صفعة الطبيب على وجه المريض المبنّج الّتي لولاها لانقطعت حياة المريض وتعرّضت لخطر الموت.

وهكذا توجب المحن والمصائب التكامل الاخلاقي كما توجب التفتّح العقلي على ما عرفت في النقطة الأُولى ، وقد يتّخذ الإنسان من النوازل والمحن وسيلة لتذكّره ويقظته والتخلي عن غروره ، وعندئذ تكون البلايا نعماً إلهية في حقّ الإنسان.

وقد لا يتخذ منها أيّ موقف أبداً فتكون في هذه الحالة - بالذات - مصيبة عليه ، وكارثة في حياته.

ص: 229

3 - البلايا سبب للعودة إلى الحق :

إنّ للكون هدفاً ، كما أنّ لخلق الإنسان هدفاً كذلك ، وليس الهدف من خلق الإنسان إلاّ أن يتكامل في جميع أبعاده ، وما بعث الأنبياء وانزال الكتب والشرائع إلاّ لتحقيق هذا الهدف العظيم ، والغاية السامية.

ولمّا كانت المعاصي والذنوب من أكبر الأسباب التي توجب بعد الإنسان عن الهدف الذي خلق الإنسان من أجله ، وتعرقل مسيرة تكامله ، لأنّ الذي يعيش طيلة حياته في الكذب والنفاق وغيرها من المعاصي لا يمكن أن يتوصّل إلى هدف الخلقة بل يبقى كالحيوان غائب الرشد سادر الفكر ، كان لابدّ من صدمة تعيده إلى رشده ، وتردّه إلى صوابه ، وكذلك تفعل البلايا والمصائب فإنّها بقطعها نظام الحياة وايقافها للإنسان العاصي على نتائج أعماله توجب رجوعه إلى الحقّ وعودته إلى العدالة ، أو تدفعه إلى أن يعيد النظر في سلوكه ومنهجه في الحياة على الأقل.

إنّ القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة - بوضوح لا ابهام فيه - إذ يقول :

( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( الروم / 41 ).

ويقول سبحانه في آية اُخرى :

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( الأعراف / 96 ).

نقطتان هامّتان :

ويجدر بنا في ختام هذا البحث أن نشير إلى نقطتين هامّتين :

الاُولى : إنّ بقاء الحياة على نمط واحد ووتيرة واحدة يوجب ملل النفس وكلل الروح وتعب العقل ، فلا تكون الحياة محبّبة لذيذة إلاّ إذا تراوحت بين المرّ والحلو ، والجميل والقبيح ، والمحبوب والمكروه ، إذ لا يمكن معرفة السلامة إلاّ عند

ص: 230

العيب ، ولا الصحّة إلاّ عند المرض ، ولا العافية إلاّ عند الاصابة بالحمّى ، ولا تدرك لذة الحلاوة إلاّ عند تذوّق المرارة.

وبالجملة لولا المرض لما علمت قيمة الصحّة ، ولولا الشتاء لما عرفت قيمة الصيف ، وهكذا.

ومن هنا نجد البنّائين والمهندسين إذا بنوا داراً تفنّنوا في بناء الجدران والسقوف ، فبنوها متموّجة متعرّجة لا مسطّحة خالية من أية تعرجات وتموّجات ، لأنّ النفس الميّالة بطبعها إلى التنوّع لا ترتاح إلاّ برؤيتها للجدار المتنوّع الأشكال والسطوح.

ولعلّ لهذا السبب كانت الوديان إلى جانب الجبال ، والأشواك إلى جانب الورود ، والثمار المرة إلى جانب الثمار الحلوة ، والماء الاُجاج إلى جانب الماء العذب الفرات ، وعبور الأنهر والمياه عبر الجداول المتعرجة الملتوية في بطون السهول والأودية.

إنّ المصائب وإن كانت مرّة غير مستساغة ، ولا مأنوسة المذاق ، إلاّ أنّها تبرز من جانب حلاوة الحياة وقيمة النعم ، وأهمّية المواهب.

فجمال الحياة وقيمة الطبيعة ينشآن من هذا التنوّع والانتقال من حال إلى حال ، والتبدّل من وضع إلى آخر.

الثانية : إنّ هناك من المحن ما ينسبها الإنسان الجاهل إلى خالق الكون والحال أنّ أكثرها من كسب نفسه ونتيحة منهجه.

فإنّ الأنظمة الطاغوتية هي التي سبّبت تلك المحن وأوجدت تلك الكوارث ، ولو كانت هناك أنظمة قائمة على قيم إلهية لما تعرّض البشر لتلك المحن ولما أصابته أكثر تلك النوائب.

فالتقسيم الظالم للثروات - مثلاً - هو الذي سبّب في تجمّع الثروة عند قلّة قليلة ، وانحسارها عن جماعات كثيرة ، وتمتّع الطائفة الاُولى بكلّ وسائل الوقاية و

ص: 231

الحماية ضد الأمراض والحوادث ، وحرمان غيرهم منها ، وهذا هو الذي جعل الطائفة الفقيرة المحرومة من المال والامكانيات أكثر عرضة للكوارث بسبب فقدانهم لوسائل الوقاية من الأمراض ، والحماية من النوازل.

ولهذا يكثر الدمار والخراب والخسائر المالية والروحية بسبب الزلازل والسيول في القرى والأرياف ، ويقلّ ذلك في المدن التي تتمتع بأعلى مستويات الوقاية والحماية والحصانة.

ولو أنّ الناس سلكوا السبيل الإلهي المرسوم لهم ، وراعوا العدالة في تقسيم الثروة والامكانيات لما تضرّر أحد بهذه النوازل والحوادث ، ولكان الجميع في أمن من تبعاتها على السواء.

فالأنظمة المجحفة ، وخروج الناس عن السبيل الإلهي القويم الذي يكفل توفير وسائل العيش والسلامة للجميع على السواء هو من الأسباب الرئيسية التي توجب تعرّض الناس للمحن والكوارث (1).

هذا كلّه في الخير المطلق ، وأمّا الخير المضاف ( كخير الحاكمين و ... ) فإليك تفسير ما ورد في الذكر الحكيم في ذلك المجال.

الثامن والثلاثون : « خير الحاكمين »

وقد ورد ذلك اللفظ في الذكر الحكيم في موارد ثلاثة ووقع وصفاً لله سبحانه قال :

( وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( الأعراف / 87 ).

ص: 232


1- اقتبسنا ما مرّ من كتاب « الإلهيات » من محاضراتنا الكلامية فراجع الجزء الأوّل ص 271 - 277.

وقال سبحانه : ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس / 109 ).

وقال سبحانه ناقلاً عن الولد الأكبر ليعقوب بعد ما سجن أخ له من أبيه مخاطباً أخوته : ( فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يوسف / 80 ).

وقد تبيّن معنى هذا الاسم بما ذكرناه في « أحكم الحاكمين » والمفاضلة لأجل وجود حكّام غيره سبحانه وهم بين عادل في حكمه وجائر ، بين مأذون من اللّه وغيره والكلّ غير مصون بالذات عن الخطأ والزلّة إلاّ من عصمه اللّه كالأنبياء والأولياء فيكون سبحانه « أحكم الحاكمين » لكونه معصوماً من الخطأ والجهل بالذات.

التاسع والثلاثون « خير الراحمين »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / 109 ).

وقال عزّ شأنه : ( وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / 118 ).

ويظهر معناه ممّا سيجيئ في تفسير اسم « الرحيم ».

الأربعون : « خير الرازقين »

وقد ورد في القرآن الكريم في موارد ، ووقع وصفاً له سبحانه في جميعها ، قال سبحانه حاكياً عن عيسى بن مريم : ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( المائدة / 114 ).

ص: 233

وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( الحج / 58 ) (1).

وسيوافيك معناه عند البحث عن اسم « الرازق ».

الواحد والأربعون : « خير الغافرين »

وقد ورد في القرآن مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / 155 )

ويجيئ تفسيره عند البحث عن اسم « غافر الذنب ».

الثاني والأربعون : « خير الفاتحين »

وقد ورد في القرآن المجيد مرّة واحدة ووقع وصفاً له.

قال سبحانه : ( قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) ( الأعراف / 89 ).

وسيظهر معناه عند البحث عن اسم « الفتّاح ».

الثالث والأربعون : « خير الفاصلين »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة.

قال سبحانه : ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ

ص: 234


1- لاحظ : المؤمنون / 72 ، سبأ / 39 ، الجمعة / 11.

إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام / 57 ).

قال ابن فارس : « الفصل » يدل على تميّز الشيء عن الشيء وابانته عنه ، يقال : فصل الشيء فصلاً ، والفيصل : الحاكم ، والفصيل : ولد الناقة إذا افتصل عن اُمّه ، والمفصل : اللسان ، لأنّ به تفصل الاُمور وتميّز.

وقال الراغب : ابانة أحد الشيئين عن الآخر حتى يكون بينهما فرجة وسمّي يوم القيامة يوم الفصل ، لأنّه يبيّن الحق من الباطل ، ويفصل بين الناس بالحكم ، وفصل الخطاب ما فيه قطع الحكم.

وعلى ذلك فمعنى قوله سبحانه « خير الفاصلين » أي خير الحاكمين ، لأنّه لا يظلم في قضاياه ولا يجور عن الحقّ ، وإنّه يقضي بالحق ولا يعدل عنه ، والناس يحكمون بالايمان والبيّنات والقرائن والشواهد وهي قد تصيب وقد تخطئ ، وهو سبحانه يقضي بعلمه الوسيع الذي لا يشوبه جهل ، وبعرفانه الذي لا يخالطه خطأ فهو خير الفاصلين.

وحظ العبد من هذا الاسم هو اتّصافه بالقضاء العدل ، والحكم الفصل.

قال سبحانه : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) ( ص / 26 ).

وروي عن الصادق علیه السلام أنّه قال : « القضاة أربعة : ثلاثة في النار وواحد في الجنّة : رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة » (1).

ص: 235


1- وسائل الشيعة ج 18 الباب 3 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 6.
الرابع والأربعون : « خير الماكرين »

وقد ورد هذا اللفظ في القرآن مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال تعالى : ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ... وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) ( آل عمران / 52 و 54 ).

وقال تعالى : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) ( الأنفال / 30 ).

وقد اتّفق المفسّرون على أنّ المراد من مكره سبحانه هو المجازاة على مكرهم وقد سمّى المجازاة على المكر مكراً في غير هذا المورد أيضاً.

قال سبحانه : ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( البقرة / 14 و 15 ).

ومن المعلوم امتناع الاستهزاء على أنبيائه سبحانه فضلاً عن اللّه لأنّها من فعل الجهلة ، واللّه الحكيم وأنبياؤه هم الحكماء ، قال سبحانه حاكياً عن بني اسرائيل :

( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) ( البقرة / 67 ).

واللّه سبحانه وصف نفسه به عند ابطال مكر الناس على رسله وأنبيائه ففي الاية الاُولى يذكر همّ بني اسرائيل بالمسيح حيث أرادوا قتله ، فأبطل سبحانه مكرهم برفع عيسى إليه وقتلوا مكانه يهوذا وهو الذي دلّهم على المسيح.

رووا أهل السير والتاريخ انّ المسيح جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثمّ قال : ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة ، فخرجوا وتفرقوا ، وجاءت اليهود إليه فقال ما تجعلون لي أن أدلّكم عليه ، فجعلوا له ثلاثين

ص: 236

درهماً فأخذهم ودلّهم عليه ، فألقى اللّه عليه شبه عيسى ، فخرج إلى أصحابه وظنّوا أنّه عيسى (1).

وفي الاية الثانية تذكّرهم قصة همّهم بأسر النبي أو قتله أو اخراجه من البلد حتى استقرّ رأيهم على اجتماع أربعين رجلاً من أقويائهم للهجوم على البيت بعد تمام الليل لاجراء أحد الاُمور الثلاثة عليه ، واللّه سبحانه جازاهم بالمثل وأخبر رسوله فترك البيت قبل أن يتواثبوا عليه ، فلو مكروا يجازوا بمكر مثله واللّه خير الماكرين أي المجازين للماكرين ، وبذلك يعلم كونه سبحانه أسرع مكراً ، قال سبحانه :

( قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) ( يونس / 21 ).

فإذا كان المكر منه سبحانه هو الجزاء وابطال أثر مكر العدو ، فتوصيفه بالسرعة امّا خاص بموارد معيّنة كابطال مؤامرة الأعداء في قتل الأنبياء ، أو في ما بلغ الطغيان أعلى درجاته فيأخذ الطغاة في الدنيا لعذابه ، وإمّا عام لجميع موارد العقوبة والتعبير بالسرعة امّا لأنّ ظرف المجازاة قريب منه قال سبحانه : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) ( المعارج / 6 و 7 ). وامّا لكون عملهم نفس المجازاة التي يجازي بها العصاة يوم القيامة ، فعملهم ومكرهم عذاب لهم وهم لا يشعرون بناء على تجسّم الأعمال وتمثّلها.

الخامس والأربعون « خير المنزلين »

وقد ورد « خير المنزلين » في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في مورد واحد.

قال سبحانه حاكياً عن يوسف : ( أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ المُنزِلِينَ ) ( يوسف / 59 ).

ص: 237


1- مجمع البيان ج 1 ص 448.

وقال سبحانه حاكياً عن نوح عند وقوف سفينته على الجودي : ( رَبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ المُنزِلِينَ ) ( المؤمنون / 29 ).

والمنزل في الآية الثانية امّا مصدر ميمي بمعنى الانزال أو اسم مكان بمعنى المنزل ، فهو يطلب من اللّه تعالى أن يتفضّل عليه بانزال مبارك أو منزل مبارك بأن يكون ذات ماء وشجر أو غير ذلك ممّا يمهّد الحياة.

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : « النزل » يدلّ على هبوط شيء ووقوعه ، يقال : نزل عن دابّته نزولاً ، ونزل المطر من السماء نزولاً ، والنازلة : الشديدة من شدائد الدهر تنزل ، والنزل ما يهيّئ للنزيل ، وطعام ذو نزل أي ذو فضل ، ويعبّرون عن الحجّ بالنزول ، ونزل : إذا حج ، وقال الراغب : « النزول » في الأصل هو انحطاط من علوٍ يقال نزل عن دابّته ونزل في مكان كذا : حطّ رحله فيه ، وأنزله غيره قال : « أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين ».

والظاهر أنّ له معنى واحد وهو الانحطاط من علو ، فلو اطلق على المضيف حتى فسّر قوله سبحانه : ( وَأَنَا خَيْرُ المُنزِلِينَ ) في سورة يوسف به لأجل أنّ المضيف ينزل الضيف عن دابّته ، وهو في جميع الموارد بمعنى واحد ، فاللّه منزل القرآن نفسه إلى قلب رسوله ، قال : ( اللّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ ) ( الشورى / 17 ) ومنزل الحديد.

قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ ) ( الحديد / 25 ) ومنزل « الأنعام » و « الماء » و « اللباس » إلى غير ذلك ممّا تعلّق به الانزال في الذكر الحكيم ، ففي الكلّ نوع هبوط من علو ، ونوح شيخ الانبياء يطلب من اللّه سبحانه أن ينزله من السفينة إلى منزل مبارك فإنّه « خير المنزلين » ، فليس توصيفه سبحانه به بخصوص هذا الملاك بل هو خير المنزلين على الاطلاق سواء أنزل الإنسان إلى الأرض أو القرآن أو غيره.

ص: 238

السادس والأربعون : « خير الناصرين »

وقد ورد هذا اللفظ في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه قال : ( بَلِ اللّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) ( آل عمران / 150 ).

وسيجيئ تفسيره عند تفسير اسم النصير.

السابع والأربعون : « خير الوارثين »

وقد ورد « خير الوارثين » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً لله سبحانه قال :

( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) ( الأنبياء / 89 و 90 ).

قال ابن فارس : « الورث » أن يكون الشيء لقوم ثمّ يصير إلى آخرين بنسب أو سبب واطلاقه على اللّه سبحانه بملاك الانتقال من الإنسان إليه فقط من دون علقة النسب والسبب.

وإنّما وصفه سبحانه ب « خير الوارثين » لأنّه اسم عامّ يطلق عليه وعلى غيره.

قال سبحانه : ( وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ) ( البقرة / 233 ). وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) ( المؤمنون / 9 و 10 ). وقال : ( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص / 5 ).

غير أنّ وراثته سبحانه أتم وأكمل من وراثتهم ، ولأجل ذلك لمّا طلب زكريا وارثاً وقال : ( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا ) الملازم لوجود ولد يرثه ذكَّر بتنزيهه سبحانه لأنه هو الذي يرث كلّ شيء وهو المنزّه عن مشاركة غيره له في كلّ شيء حتى في الوراثة فرفعه عن مساواة غيره وقال : ( وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) يعني : أين هذا الوارث الذي

ص: 239

يرث مالي مدة ثمّ يموت من وراثتك الباقية والثابتة قال : ( وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ( آل عمران / 180 ). وقال : ( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ) ( الحجر / 23 ).

الثامن والأربعون : « خير حافظا »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه : ( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / 63 و 64 ).

والحافظ اسم عام توصف به الملائكه تارة قال سبحانه : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ ) ( الانفطار / 10 و 11 ).

والناس اُخرى. قال سبحانه : ( مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( يوسف / 63 ).

قال ابن فارس : والحفظ له معنى واحد يدل على مراعاة الشيء ، والتحفّظ : قلّة الغفلة ، والحفاظ : المحافظة على الاُمور.

وأمّا الذكر الحكيم فقد استعمله تارة في مورد رعاية حدود اللّه وقال : ( وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ ) ( التوبة / 112 ). واُخرى في تسجيل الشيء وضبطه كما في قوله سبحانه : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ ) . وثالثة في صيانته عن الافراط والتفريط قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) ( المؤمنون / 5 ) ورابعة في دفع الكيد والشر والبلاء ووقايته من كلّ سوء وهذا هو المراد من قول اخوة يوسف ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) كما هو المراد في قوله : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر / 9 ). أي نصونه من التحريف والتبدّل والزيادة والنقص والفقدان ، والموارد ترجع إلى أصل واحد.

ص: 240

غير أن كون الاخوة حافظين غير كونه سبحانه حافظاً ، ولأجل دفع وصمة الشركة قال يعقوب في جواب قول ابنائه : ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) قال : ( فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فلولا عناية الواجب بالممكن واستمداده منه لما يكون لحفظهم وزن ولا قيمة ولا حول ولا قوّة.

ص: 241

ص: 242

حرف الذال

التاسع والأربعون : « ذو انتقام »

وقد جاء « ذو انتقام » في الذكر الحكيم أربع مرّات ووقع الكلّ وصفاً له سبحانه قال : ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ( المائدة / 95 ) ، وقال سبحانه : ( لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ( آل عمران / 4 ). وقال سبحانه : ( فَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ( ابراهيم / 47 ). وقال سبحانه : ( وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ) ( الزمر / 37 ).

وأمّا معناه فقد ذكر له أصل واحد وهو انكار الشيء وعيبه ويقال : نقمت عليه انقم ، أنكرت عليه فعله ، والنقمة من العذاب والانتقام كأنّه أنكر عليه فعاقب (1).

وقال الراغب : نقمت الشيء إذا أنكرته أمّا باللسان وأمّا بالعقوبة وقد استعمل في معنى الانكار في عدّة من الآيات ، قال سبحانه : ( وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) ( التوبه / 74 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ) ( البروج / 8 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا ) ( الأعراف / 126 ).

ص: 243


1- مقاييس اللغة ج 5 ص 464.

وقال سبحانه : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ ) ( المائدة / 59 ). فإذا كان هو الأصل فكيف استعمل في معنى آخر وهو أخذ الثأر من الخصم والمعاقبة بالمثل ؟ فقد استظهره صاحب المقاييس بقوله : كأنّه أنكر عليه فعاقبه ، يريد أنّ المعاقبة لمّا كانت مسببة عن الانكار فاطلق اسم السبب على المسبب.

ثمّ إنّ الانتقام يستعمل في مورد التشفّي فيما أنّ اساءة المسيئ تدخل ضرراً في الجانب الاخر فيتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي تورث التشفّي لقلبه ، ولكن ذلك من لوازم المعنى في مورد الإنسان وليس جزء لمعناه ، فالانتقام هو مجازاة المسيئ على اساءته فلاموجب لتجريده عن التشفّي عند ما يطلق على اللّه سبحانه ، وعلى فرض كونه جزء لمعناه فبما أنّه سبحانه أعزّ من أن ينتفع أو يتضرّر بشيء من أعمال عباده ، فيطلق عليه مجرداً عنه كما هو سائر الأسماء التي تلازم شيئاً لايصح توصيفه سبحانه به ، كيف وما يصدر منه من المجازاة هو الوعد الحق وقدوعد عباده بأنّه يجزيهم إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرٌ ، قال سبحانه : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى ) ( النجم / 31 ).

وممّا يؤيّد ذلك بأنّه سبحانه ضم إليه أنّه العزيز فقال : ( عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) وهو يشير إلى أنّه منيع الجانب من أن تنتهك محارمه أو يصيب به ضرر.

قال الرازي : ولا يسمّى التعذيب بالانتقام إلاّ بشرائط ثلاثة :

الأوّل : أن تبلغ الكراهة (1) إلى حد السخط الشديد.

الثاني : أن تحصل تلك العقوبة بعد مدّة.

الثالث : أن يقتضي ذلك التعذيب نوعاً من التشفّي ، وهذا القيد لا يحصل إلاّ في حقّ الخلق ، وأمّا في حقّ الخالق فهو محال.

ويدل على القيد الأوّل قوله سبحانه في حقّ فرعون : ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا

ص: 244


1- وفي النسخة « الكرامة » وهو تصحيف.

مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) ( الزخرف / 55 ). فرتّب الانتقام على الاسف معرباً عن وجود صلة بينه وبين الانتقام.

ويدل على القيد الثاني قوله سبحانه : ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ ) ( المائدة / 95 ). حيث سمّى اللّه تعالى تكرار إيجاب الكفّارة ( إذا عاد المحرم إلى الصيد ثانياً ) ، انتقاماً.

وعلى كلّ تقدير فالانتقام في مقابل المعاجلة بالعقوبة ، والأوّل أشدّ من الثاني لأنّ المذنب إذا عوجل بالعقوبة لم يتمكن في المعصية فلم يستوجب غاية النكال بخلاف ما إذا أمهل فيتمكن في التجرّي والتمرّد فيستحقّ الأخذ بالعقاب الأشد.

وأمّا حظ العبد من هذا الوصف فله أن يقع مظهراً لهذا الاسم عند الانتقام من الأعداء فأعدى عدوّه هي النفس التي بين جنبيه ، وأمّا العدوّ الخارجي فيتبع قوله سبحانه : ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) ( الفتح / 29 ).

وللعلاّمة الطباطبائي (رحمه اللّه) كلام حول نسبة الانتقام إليه تعالى قال : « الانتقام هو العقوبة لكن لا كل عقوبة بل عقوبة خاصّة وهي أن تذيق غيرك من الشرّ ما يعادل ما أذاقك منه أو تزيد عليه.

قال تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ ) ( البقرة / 194 ). وهو أصل حيوي معمول به ، وربّما يشاهد من بعض الحيوانات أيضاً أعمال تشبه أن تكون منها. وعلى أي حال كان يختلف الغرض الذي يبعث الإنسان إليه ، فالداعي إليه في الانتقام الفردي هو التشفّي غالباً ، فإذا سلب الواحد من الإنسان غيره شيئاً من الخير ، أو أذاقه شيئاً من الشر ، وجد الإنسان في نفسه من الأسى والأسف ما لا تخمد ناره ، إلاّ بأن يذيقه من الشر ما يعادل ما ذاق منه أو يزيد عليه ، فالعامل الذي يدعو إليه هو الإحساس الباطني ، وأمّا العقل فربّما أجازه وربّما استنكف.

وأمّا الانتقام الاجتماعي ونعني به القصاصات وأنواع المؤاخذات التي نعثر

ص: 245

عليها في السنن والقوانين الرائجة في المجتمعات ، فالغرض الداعي إليه هو حفظ النظام عن الهرج والمرج وهذا النوع من الانتقام يعدّ حقّا من حقوق المجتمع ، وإن كان ربّما استصحب حقاً فردياً ، كمن ظلم غيره بما فيه مؤاخذة قانونية.

وما ينسب إليه تعالى في الكتاب والسنّة من الانتقام هو ما كان حقاً من حقوق الدين الالهي والشريعة السماوية ، وإن شئت قلت من حقوق المجتمع الاسلامي وإن كان ربّما استصحب الحق الفردي في ما إذا انتصف سبحانه للمظلوم من ظالمه فهو الولي الحميد.

وأمّا الانتقام الفردي لغاية التشفّي فساحته أعزّ من أن يتضرّر باجرام المجرمين ومعصية المسيئين أو ينتفع بطاعة المحسنين.

وبذلك يظهر سقوط ما ربّما يقال : إذا كان الانتقام لغاية التشفّي فلا وجه لنسبة الانتقام إليه « وجه السقوط » ، إنّ الساقط هو الانتقام الفردي لا الاجتماعي (1).

يلاحظ عليه : إنّ ما ذكره يصحّ في مورد القصاص والحدود والكفّارات التي يحكم بها على المجرم في الدنيا لغاية حفظ النظام عن الاختلال ، ولولاها اختلّ الأمن العام ، وأمّا العقوبات الاُخروية فلا يمكن تفسيرها من تلك الجهة إذ لا مجتمع فيها حتى يكون له حقّ كما أنّه ليست هناك مظنّة كون الاُمور فوضى حتّى تستتبع ذلك فالاُولى ما ذكرنا من أنّ نسبة هذه الصفات إلى اللّه سبحانه من باب المشابهة والمشاكلة ، ولا يتّصف به المولى سبحانه إلاّ بتجريده عن الملابسات الماديّة.

وأمّا القول بأنّ رحمته الواسعة تأبى عن تعذيب المجرم بعذاب خالد غير متناه فقد اجبنا عنه عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم.

ص: 246


1- الميزان ج 12 ص 87 - 88.
الخمسون : « ذو الجلال والإكرام »

وقد جاء هذا الاسم في القرآن الكريم مرّتين قال : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ( الرحمن / 27 ).

وقال سبحانه : ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ( الرحمن / 78 ).

هذا ، وأمّا معنى الجلال فهو من جلّ الشيء إذا عظم وجلال اللّه عظمته ، والجلل : الأمر العظيم (1) ، وأمّا الاكرام فقد مرّ تحقيق معناه عند البحث عن اسمه « الاكرام » فلاحظ ، وقد قلنا إنّ معناه هو الشرف في الشيء لا في خلق من الأخلاق.

وعلى ضوء ذلك فقوله : « ذو الجلال » يناسب الصفات السلبيّة لأنّه سبحانه أجلّ وأعظم من أن يكون جسماً أو جسمانيّاً أو حالاًّ في محلّ ، كما أنّ قوله ذي الاكرام يناسب الصفات الثبوتيّة لأنّ العلم والقدرة والحياة شرف للموجود بما هو هو.

نعم هنا نكتة لابد من بيانها وهو انّ اسم الاشارة في الآية الاُولى جاء مرفوعاً وفي الآية الثانية جاء مجروراً ، فهي في الآية الاُولى وصف لقوله « وجه ربك » وفي الآية الثانية وصف لنفس الرب ، وهذا يعرب عن أنّ الوجه في الآية الاُولى بمعنى الذات لا الوجه بمعنى العضو المعروف ، وإلاّ فلو كان المراد من الوجه هو العضو فلا معنى لتوصيفه بصاحب الجلال والإكرام لأنّه من صفات ذاته سبحانه لا من صفات وجهه ، ولأجل ذلك جيئ به مجرورًا في الآية الثانية لأنّه هناك وصف للرب لا للاسم ، وباختصار انّ الآية الثانية ترفع الإبهام عن الآية الاُولى ويثبت أنّ الوجه فيها بمعنى الذات.

ص: 247


1- مقاييس اللغة ج 1 ص 417.
الواحد والخمسون : « ذو الرحمة »

وقد ورد في الذكر الحكيم اسماً له سبحانه مرّتين وقال : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) ( الكهف / 58 ).

وقال : ( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ) ( الأنعام / 133 ). وقال سبحانه : ( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) ( الأنعام / 147 ). وقد مضى معنى الرحمة عند البحث عن اسمه « أرحم الراحمين ».

الثاني والخمسون : « ذو الطول »

لقد جاء الطول - بضم الفاء وفتحها - في الذكر الحكيم ثلاث مرّات ووقع وصفاً لله سبحانه باضافة « ذي » إليه ، قال سبحانه : ( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( غافر / 3 ).

وقال سبحانه : ( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ) ( التوبة / 86 ).

وقال سبحانه : ( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ) ( النساء / 25 ).

« الطول » - بضم الفاء - ضد القصر يستعمل في الأعيان والأعراض والزمان قال سبحانه :

( فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) ( الحديد / 16 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً ) ( المزمّل / 7 ).

وأمّا « الطول » - بفتح الفاء - : فقد فسّر بالفضل والمنّ ، قال ابن فارس :

ص: 248

الطول له أصل صحيح يدل على فضل وامتداد في الشيء (1) وهو بصدد ارجاع المعنيين إلى معنى واحد مع أنّ الجامع بينهما بعيد.

قال الراغب : والطول خص به الفضل والمنّ قال : « شديد العقاب ذي الطول » ، وقال الطبرسي في تفسير ذي الطول : « أي ذي النعم ، وقيل : ذي الغنى والسعة ، وقيل : ذي التفضّل على المؤمنين ، وقيل : ذي القدرة والسعة » ، ثمّ هو ذكر في شرح لغات الآية : « إنّ المراد من الطول : الأنعام التي تطول مدّته على صاحبه كما أنّ التفضل النفع الذي فيه افضال على صاحبه » (2) ، والكلّ محتمل.

ولكن الظاهر أنّ المراد من الطول : الفضل والأنعام بشهادة قوله : ( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ ) فبما أنّ لعدم الاستطاعة أسباباً وعللاً أتى بكلمة طولاً تمييزاً لعدم الاستطاعة معلناً بأنّ المراد عدم الاستطاعة من حيث القدرة المالية التي تصرف في المهر والنفقة ومثله قوله سبحانه : ( اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ ) أي أصحاب الثروة والمكنة ، فالاية مشتملة على أسماء أربعة :

1 - غافر الذنب. 2 - قابل التوب. 3 - شديد العقاب. 4 - ذو الطول.

وسيوافيك توضيح كلّ واحد في محله.

الثالث والخمسون : « ذو العرش »

وقد جاء لفظ « العرش » في الذكر الحكيم 22 مرّة وورد اسماً له سبحانه في مورد واحد بإضافة لفظ « ذي » قال : ( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ ) ( البروج / 14 و 15 ).

وسيوافيك تفسيره عند البحث عن « الصفات الخبرية » لله عزّ وجلّ (3).

ص: 249


1- مقاييس اللغة ج 3 ص 633.
2- مجمع البيان ج 4 ص 513.
3- عند تفسير قوله سبحانه : ( رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) .
الرابع والخمسون : « ذو عقاب »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له كما في قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) ( فصّلت / 43 ).

قال ابن فارس : العقب له أصلان أحدهما يدل على تأخير شيء وإتيانه بعد غيره ، والأصل الآخر يدلّ على ارتفاع وشدّة وصعوبة ... وإنّما سمّيت العقوبة عقوبة لأنّها تكون آخراً وثاني الذنب.

وقال الراغب : العقب مؤخّر الرجل واستعير العقب للولد وولد الولد ، والعقوبة المعاقبة والعقاب يختص بالعذاب ، قال : ( فَحَقَّ عِقَابِ ) ، ( شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ، ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) .

أقول : وإنّما سمّي العقاب عقاباً لأنّه يتأخّر عن الجرم وهو يستلزمه.

الخامس والخمسون : « ذو الفضل »

وقد ورد « ذو الفضل » معرّفاً ومنكراً في الذكر الحكيم 11 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال : ( إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) ( البقرة / 243 ).

وقال سبحانه : ( وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( البقرة / 251 ).

وقال سبحانه : ( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ( آل عمران / 74 ).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 152 ).

ص: 250

وقال سبحانه : ( وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ( الأنفال / 29 ) (1).

ترى أنّه سبحانه يعرّف نفسه بكونه ذا الفضل العظيم على المؤمنين وفي الوقت نفسه على الناس أجمعين بل على العالمين كلّهم.

قال ابن فارس : الفضل له أصل صحيح يدلّ على زيادة في شيء من ذلك الفضل الزيادة والخير ، والإفضال : الاحسان.

قال الراغب : كلّ عطيّة لا تلزم من يعطي يقال لها فضل نحو قوله : ( وَاسْأَلُوا اللّهَ مِن فَضْلِهِ ) - ( ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ ) - ( ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .

وعلى ذلك فالعطايا والمواهب السنيّة وكلّ ما يسمّى كرماً فهو فضل ، فاللّه سبحانه يتفضّل - وراء ما أسماه أجراً - بعظائم الفضل.

وأمّا حظّ العبد من هذا الوصف فيمكن أن يقع مظهراً لهذا الاسم في عطاياه النافلة بأن يقوم بعون المستنجد بنحل فضل ما له وإن لم يكن واجباً كما إذا أدّى الفرائض الماليّة.

السادس والخمسون : « ذو القوّة »

وقد ورد في الذكر الحكيم في مورد واحد قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / 58 ). ويظهر معناه عند البحث عن اسمه سبحانه : « القوي ».

ص: 251


1- راجع سورة يونس / 60 ، النمل / 73 ، غافر / 61.
السابع والخمسون : « ذو المعارج »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع اسماً له.

قال سبحانه : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللّهِ ذِي المَعَارِجِ * تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج / 1 - 4 ).

أمّا عرج فقد ذكر ابن فارس له اُصولاً ثلاثة وهي : الميل ، والعدد ، والسموّ والارتقاء.

ثم قال : العروج : الارتقاء ، يقال عرج يعرج عروجا ومعرجا ، والمعرج : المصعد ، قال اللّه تعالى : ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) .

وعلى ذلك فالمعارج مواضع العروج وهو الصعود مرتبة ، بعد مرتبة ومنه الأعرج لارتفاع إحدى رجليه عن الاُخرى ، وأمّا المراد من هذه الدرجات فهي عبارة عن المقامات المترتبة علوّاً وشرفاً التي تعرج فيها الملائكة والروح بحسب قربهم من اللّه وهو من الاُمور الغيبيّة التي يجب الايمان بها وربّما يفسّر بأنّ المراد مقامات القرب التي يعرج إليها المؤمنون بالايمان والعمل الصالح ، قال تعالى : ( هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / 163 ). وقال : ( لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) ( الانفال / 4 ).

وقال : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ) ( المؤمن / 15 ).

والوجهان متقاربان غير أنّ الأوّل يخصّ الدرجات بالملائكة والثاني بالمؤمنين ، وقوله سبحانه تعرج الملائكة والروح إليه يؤيّد الوجه الأوّل.

ص: 252

الثامن والخمسون : « ذو مغفرة »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه ، قال سبحانه : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الرعد / 6 ).

وقال سبحانه : ( مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) ( فصّلت / 43 ).

و « الغفر » في اللغة بمعنى الستر ، قال ابن فارس : عظم بابه الستر ، فالغفر والغفران والغفر بمعنى يقال غفر اللّه ذنبه ويقال للمغفر لأنّه يستر الرأس وستر الذنوب كناية عن الغضّ عنه وعدم المعاقبة عليه والمعاملة مع المجرم كالبريء ، وسيوافيك مزيد من التوضيح في تفسير اسم « غافر الذنب ».

ص: 253

ص: 254

حرف الراء

التاسع والخمسون : « ربّ العرش »

وقد ورد لفظ العرش في الذكر الحكيم 22 مّرة واُضيف إليه الرب 6 مرّات قال سبحانه :

( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( التوبة / 129 ). وقال تعالى : ( فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء / 22 ). وقال سبحانه : ( قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( المؤمنون / 86 ). وقال عزّ من قائل : ( فَتَعَالَى اللّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) ( المؤمنون / 116 ).

وقال تعالى : ( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( النمل / 26 ). وقال تعالى : ( سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الزخرف / 82 ).

ثم إنّ الذكر الحكيم يبيّن خصوصيات عرش الرب بتوصيفه بالعظيم تارة وبأنّه له حملة ثمانية اُخرى ، يقول تعالى : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) ( الحاقّة / 17 ).

وبأنّه تحُفُّه الملائكة ثالثة ، يقول تعالى ( وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) ( الزمر / 75 ).

وقد بلغ العرش في العظمة مكاناً بحيث إنّ اللّه تعالى يعرّف نفسه به ويقول تعالى : ( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ ) ( البروج / 14 و 15 ) ، ويقول تعالى : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ) ( غافر / 15 ).

ص: 255

هذا هو العرش وهذه هي خصوصياته في القرآن المجيد ، إنّما الكلام فيما يراد منه في هذه الآيات.

أقول : إنّ « العرش » لغة هو سرير الملك ولا تحتاج إلى ذكر نصوص أهل اللّغة.

قال سبحانه : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) ( يوسف / 100 ).

وقال سبحانه في ملكة سبأ : ( وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) ( النمل / 23 ).

وقال سبحانه : ( أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) ( النمل / 38 ).

( ... قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ) ( النمل / 41 ).

وبما أنّ الأصل في العرش هو الارتفاع.

قال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ ) ( الانعام / 141 ).

وربّما يطلق على البناء المرتفع.

قال ابن فارس : العريش : بناء من قضبان يرفع ويؤلّف حتى يظلل ، وقيل للنبي صلی اللّه علیه و آله يوم بدر : ألا نبني لك عريشاً. وكل بناء يستظل به عرش وعريش ، ويقال لسقف البيت عرش.

قال تعالى : ( فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ) ( الحج / 45 ) والمعنى أنّ السقف يسقط ثمّ يتهافت على الجدران ساقطة ، ومن هذا الباب العريش وهو شبه الهودج يتخذ للمرأة تقعد فيه على بعيرها.

ص: 256

هذا ما يرجع إلى معناه اللغوي وما يستعمل فيه ، لكن الكلام فيما هو المقصود من هذا اللفظ فنقول : ها هنا أقوال نأتي بها :

1 - إنّ لله سبحانه عرشاً كعروش الملوك يستقر عليه ويدبّر العالم منه ، وهذا هو الذي تصرّ عليه المجسّمة والمشبّهة من الحنابلة ، وأمّا الأشاعرة الذين يتظاهرون بالتنزيه لفظاً لا معنى يقولون بهذا المعنى ولكنّهم يضيفون إليه « بلا تكييف » أي أن له سريراً واستقراراً لا كسرير الملوك واستقرارهم والكيفية مجهولة.

وهناك قصّة تاريخية نقلها السيّاح المعروف ب « ابن بطوطة » لمّا زار الشام وشاهد أنّ « ابن تيميّة » صعد المنبر وهو يعظ الناس ويقول :

وكان بدمشق من كبار الفقهاء « تقي بن تيميّة كبير الشام يتكلّم إلاّ أنّ في عقله شيئاً ... فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم ، فكان من جملة كلامه : إنّ اللّه ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ، ونزل درجة من درج المنبر ، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء ، وأنكر ما تكلّم به فقامت العامّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته ... (1).

وهذا المعنى مردود مرفوض عند أهل التنزيه لأنّه تفسير للعرش تفسيراً حرفياً وغير جائز بداهة في تفسير الكلام العادي فضلاً عن كلام البلغاء ، فإنّ المتّبع في تفسير الكلام هو المعنى الجملي التصديقي لا المعنى الافرادي التصوّري ، فإذا قال الرجل : إن فلاناً مبسوط اليد أو كثير الرماد ، فليس لنا تفسيره ببسط العضو المعروف بحجّة أنّ اليد لفظ موضوع للجارحة ، أو حمل كثرة الرماد على معناه الحرفي الملازم لكون بيته غير نظيف بحيث يشمئزّ الإنسان من الدخول إليه ، بل يجب تفسير الأوّل بالسخاء ، والثاني بكثرة الطبخ الملازم لكثرة الضيافة التي هي رمز للكرم والسخاء.

وعلى ضوء هذا يجب إمعان النظر في مجموع الايات الواردة حول العرش

ص: 257


1- رحلة ابن بطوطة : ص 95 طبع بيروت.

حتّى يتبيّن أنّ المراد هل هو المعنى التصوّري ( السرير ) ، أو هو المعنى التصديقي المختلف حسب المقامات.

فإنّ العرش يطلق ويراد غالباً الملك أعني السلطة والحكم على الناس.

قال الشاعر :

تداركتم الأحلاف قد ثلّ عرشها *** وذبيان إذ ذلّت باقدامها النعل (1)

إنّ المراد من العرش هو نظام الحياة والمراد من ثلّه إزالته ، ولأجل ذلك يقال ثلّ عرشه فيما إذا انقلب الدهر عليه وسائت أحواله ، هذا وسيوافيك مزيد توضيح لهذا المعنى عند البحث عن المحتمل الثالث.

2 - العرش : هو الفلك التاسع أو فلك الافلاك في الهيئة البطلميوسيّة فقد كان بطلميوس يفسّر العالم في الكرات الأربعة ( الماء والتراب والنار والهواء ) ثمّ الأفلاك التسعة وكل فلك يحمل سيارة إلى الفلك السابع ، والثوابت في الفلك الثامن ثمّ الفلك التاسع وهو أطلس لا نجم فيه ، ويوصف بمحدّد الجهات وليس بعده خلأ ولا ملأ وهو العرش عند بعضهم ، ونقل العلاّمة المجلسي عن المحقّق الداماد في بعض تعليقاته أنّه قال : العرش : هو فلك الأفلاك (2).

وهذا القول لا يحتاج إلى النقد بعد وضوح بطلان أصل النظريّة حيث هدّم العلم الحديث أركان هذه النظرية وأصبحت من مخلّفات الدهر.

3 - إنّ العرش والاستيلاء عليه كناية عن إحاطته بعالم الوجود وصحيفة الكون تشبيهاً للمعقول بالمحسوس ، فإنّ الملوك إذا جلسوا على عروشهم واستقرّوا عليها وحولهم وزراءهم وعمّالهم ، أخذوا بتدبير اُمور البلد بإصدار الأوامر والنواهي وبالإرشادات والتوجيهات المناسبة ، فشبّه استيلاءه سبحانه على عالم الكون

ص: 258


1- الشعر لزهير ، ولاحظ : مقاييس اللغة ج 4 ص 265.
2- بحار الانوار ج 58 ، ص 5.

وصحيفة الوجود وتدبيره من دون أن يطرأ عليه نصب ولاتعب بإستيلاء الملوك على عروشهم على النحو الذي وصفناه.

وعلى هذا المعنى ليس للعرش واقعيّة سوى المعنى الكنائي وهو السلطة على العالم والإستيلاء على الوجود كلّه ، فتكون النتيجة إنّ للاستيلاء حقيقة تكوينيّة دون العرش.

ويمكن تأييد ذلك بأنّ العرش ربّما يطلق على الملك والسلطة وإن لم يكن هناك سرير كسرير الملوك. قال الشاعر :

إذا ما بنو مروان ثلّت عروشهم *** وأودت عمّا أودت أياد وحمير

قال الجوهري : ثلّ اللّه عرشهم أي هدم ملكهم ، ويقال للقوم إذا ذهب عزّهم قد ثلّ عرشهم.

وقال آخر :

أظننت عرشك لا يزول ولا يغيّر

وقال آخر :

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

وهذا المعنى متحقق بمجرد تحقّق السلطة وإن لم يكن هناك سرير وراءه.

وعلى الجملة : فهذه النظرية تبتني على كون العرش أمراً اعتبارياً والاستيلاء أمراً حقيقياً.

يلاحظ عليه : إنّ هذا المعنى وإن كان أقرب من سابقيه إلى الفهم القرآني ولكنّه يجب أن يكون للعرش حقيقة كالاستيلاء وذلك لاُمور :

أ - لو كان العرش أمراً اعتبارياً فلماذا وصفه بكونه عظيماً وقال سبحانه : ( وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( المؤمنون / 86 ).

ص: 259

بناءً على أنّ العظيم وصفاً للعرش دون الربّ والظاهر أنّ توصيفه بالعظيم توصيف أمر واقعي بأمر واقعي لا توصيف أمر اعتباري بمثله.

ب - إنّه سبحانه يذكر للعرش حملة ويقول : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) ( غافر / 7 ).

ج - إنّه سبحانه يذكر حملة العرش يوم القيامة وإنّهم ثمانية ويقول سبحانه : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) ( الحاقة / 17 ).

والظاهر أنّ مرجع ذلك القول إلى الرابع الذي نذكره ، أو هما قول واحد.

4 - إنّ للعرش حقيقة تكوينية كما أنّ للاستيلاء حقيقة كذلك ، غير أنه ليس شيئاً خاصاً سوى مجموع الكون وصحيفة الوجود فهو عرشه سبحانه ، فالعالم بمجرّده وماديّه وظاهره وباطنه عرشه ، وعليها تدبيره ، ويكون عطف « ربّ العرش العظيم » على قوله « ربّ السموات السبع » من باب عطف العام على الخاص ، فاللّه سبحانه مستول على ما خلق استيلاءً حقيقيّاً ولا يحتاج في إدارة الكون وتدبيره إلى غيره ، فلو كان هناك نظام الأسباب والمسبّبات والعلل والمعلولات فهو من جنوده في عالم الكون ، وقال سبحانه : ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ) ( المدثر / 31 ). وقال سبحانه :

( وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) ( الفتح / 4 ) ، وكذلك الاية 7 من نفس السورة مع اختلاف يسير في آخرها حيث قام « عزيزاً » مقام « عليماً ».

وقد اختار هذا المعنى شيخنا الصدوق في عقائده حيث قال : « اعتقادنا في العرش أنّه جملة جميع الخلق - إلى أن قال - العرش الذي هو جملة جميع الخلق حملته ثمانية من الملائكة » (1).

ص: 260


1- عقائد الصدوق : ص 74 ، الطبعة الحجرية.

ويظهر هذا المعنى من الشيخ المفيد غير أنّه فرّق بين العرش المطلق والعرش المحمول ، ففسّر الأوّل بالملك وقال : العرش الأوّل هو ملكه ، وإستواءه على العرش هو إستيلاءه على الملك ، وأمّا العرش الذي تحمله الملائكة هو بعض الملك وهو عرشٌ خلقه اللّه تعالى في السماء السابعة ، وتعبّد الملائكة بحمله وتعظيمه ، كما خلق سبحانه بيتاً في الأرض وأمر البشر بقصده وزيارته والحجّ إليه وتعظيمه كما جاء في الحديث : « إنّ اللّه تعالى خلق بيتاً تحت العرش سمّاه « البيت المعمور » تحجّه الملائكة في كل عام ، وخلق في السماء الرابعة بيتاً سمّاه « الزراح » وتعبّد الملائكة بحجّه والطواف حوله ، وخلق البيت الحرام في الأرض وجعله تحت الزراح - إلى أن قال - : « ولم يخلق اللّه عرشاً لنفسه ليستوطنه تعالى اللّه عن ذلك ، ولكنّه خلق عرشاً أضافه إلى نفسه تكرمة له وإعظاماً ، وتعبّد ملائكة بحمله ، كما خلق بيتاً في الأرض ولم يخلقه لنفسه ولا ليسكنه تعالى اللّه عن ذلك ، لكنه خلقه لخلقه واضافة لنفسه إكراماً له وإعظاماً ، وتعبّد الخلق بزيارته والحجّ إليه (1).

وقال العلاّمة المجلسي :

اعلم انّ ملوك الدنيا لمّا كان ظهورهم واجراء أحكامهم على رعيتهم إنّما يكون عند صعودهم على كرسيّ الملك وعروجهم على عرش السلطنة ، ومنهما تظهر آثارهم وتتبيّن أسرارهم ، واللّه سبحانه لتقدّسه عن المكان لا يوصف بمحلّ ولا مقرّ وليس له عرش ولا كرسي يستقرّ عليهما بل يطلقان على أشياء من مخلوقاته » (2).

وهذا هو الظاهر من بعض الروايات ، روى الصدوق بسنده عن المفضّل بن عمر ، قال : سألت أبا عبد اللّه عن العرش والكرسي ما هما ؟ فقال : العرش في وجه هو جملة الخلق (3).

ص: 261


1- تصحيح الاعتقاد : ص 29 - 31.
2- بحار الانوار ج 58 ، ص 27.
3- بحار الانوار ج 58 ، ص 29.

وها هنا كلام للعلاّمة الطباطبائي (رحمه اللّه) يحقّق ما ذكرنا بشكل بديع ويقول : « إنّ السلطة والاستيلاء والملك والرئاسة والولاية والسيادة وجميع ما يجري هذا المجري فينا اُمور وضعيّة اعتبارية ليس في الخارج منها إلاَّ آثارهما ، مثلاً الرئيس لا يسمّى رئيساً إلاّ لأن يتبعه الذين نسمّيهم مرؤوسين في إرادته وعزائمه ، وليس هنا للرئاسة واقعيّة إلاَّ التخيّل والتشبيه بمعنى تنزيل الرئيس مكان الرأس ، والمرؤوسين مكان البدن ، فكما أنّ البدن يتبع الرأس ، فالمرؤوسون يتبعون الرئيس وقس عليها.

وهذا خلاف ما يوصف به سبحانه من الملك والاحاطة والولاية وغيرها ، فإنّها معاني حقيقية واقعيّة على ما يليق بساحة قدسه ، وعلى ذلك يجب أن يكون للاستيلاء حقيقة تكوينيّة ولعرشه المتعلّق به واقعيّة مثله.

فالايات كما ترى تدلّ بظاهرها على أنّ العرش حقيقة من الحقائق العينيّة وأمر من الاُمور الخارجية » (1).

5 - إنّ العرش حقيقة من الحقائق العينيّة وهو المقام الذي يجتمع فيه جميع أزمّة الاُمور (2) وبعبارة اُخرى هو المقام الذي يبتدأ منه وتنتهي إليه أزمّة الأوامر والأحكام الصادرة من الملك ، وهو في ذلك وإن كان موجوداً مادّيّاً إلاَّ أنّ المحكمات من الايات مثل قوله : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ( الشورى / 11 ). وقوله : ( سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الصافّات / 159 ) تدلّ على انتفاء الجسم وانّه ليس من خواصّه تعالى فينفي من العرش الذي وصفه لنفسه كونه سريراً مؤلّفاً من مادّة معيّنة ، ويبقى أصل المعنى وهو أنّه المقام الذي يصدر عنه الأحكام الجارية في نظام الكون هو من مراتب العلم الخارج عن الذات ، والمقياس في معرفة ما عبّرنا عنه بأصل المعنى أنّه المعنى الذي يبقى ببقائه الاسم ، وبعبارة اُخرى يدور مداره صدق الاسم وإن تغيّرت المصاديق واختلفت الخصوصيّات.

ص: 262


1- الميزان ج 2 : ص 159 - 160 بتلخيص منّا.
2- الميزان ج 8 ، ص 160.

وعلى ضوء هذا ينفى عن العرش ما يلازم المادّيّة من كونها من خشب أو معدن أو على صورة خاصّة ، ويبقى ما لا يلازم ذلك كوجود مقام تنتهي إليه أزمّة الاُمور ومنه تصدر الأحكام (1).

ولو صحّت تلك النظرية لكان العرش بعض الخلق لا كلّه ويكون وجوداً مجرّداً لا مادّيّاً حتى يناسب كونه مركزاً لصدور الأحكام ومرجعاً لانتهاء الاُمور إليه.

ومثل ذلك يعدّ من مراتب علمه الفعلي لا الذاتي ، فإنّ لعلمه الفعلي مراتب ودرجات ، ويؤيد هذا التفسير بعض الروايات التي تفسّر العرش بالعلم.

روى عبد اللّه بن سنان عن الصادق علیه السلام في تفسير قول اللّه عز وجل : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) . قال علیه السلام : السموات والأرض وما بينهما في الكرسي ، والعرش : هو العلم الذي لا يقدر أحد به قدره (2).

روى الكليني بسند صحيح عن صفوان بن يحيى ، قال : سألني أبو قرّة المحدّث أن أدخله على أبي الحسن علي بن موسى الرضا علیهماالسلام ، فاستأذنته فأذن بي ، فدخل فسأله عن الحلال والحرام ، ثمّ قال له : أفتقرّ أنّ اللّه محمول ؟ ، فقال أبو الحسن : كل محمول مضاف إلى غيره محتاج ، والمحمول اسم نقص في اللفظ ، والحامل فاعل وهو في اللفظ ، مدح ... ولم يسمع أحد آمن باللّه وعظمته قطّ قال في دعائه يا محمول. قال أبو قرّة : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) وقال : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ) فقال أبو الحسن علیه السلام : العرش ليس هو اللّه والعرش اسم علم وقدرة ، والعرش كل شيء ، وعرش فيه كل شيء ، ثمّ أضاف الحمل إلى غيره ، خلق من خلقه لأنّه استعبد خلقه بحمل عرشه وهم حملة علمه ، وخلقاً يسبّحون حول عرشه وهم يعملون بعلمه ، وملائكة يكتبون

ص: 263


1- الميزان ج 14 ص 139 - 140 بتغيير طفيف.
2- التوحيد : باب 52 الحديث 20.

أعم العباده (1).

ويؤيّد ذلك ما ذكره أمير المؤمنين علیه السلام في جواب الجاثليق : فكل شيء محمول واللّه تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما من شيء وهو حياة كل شيء ، ونور كل شيء سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً (2).

وروى سنان بن سدير عن الصادق علیه السلام : إنّ الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ومنها الأشياء كلّها ، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحدّ والعلم والمشيئة ... فهما في العلم بابان مقرونان ... (3).

الستون ، والواحد والستون : « الرحمن والرحيم »

وقد ورد لفظ الرحمن في الذكر الحكيم 57 مّرة واسم الرحيم 95 مرّة ، ووقع الجميع وصفاً له سبحانه.

أمّا الرحمن فقد قورن باسمين :

1 - « الرحيم » وهو الأكثر ، قال سبحانه : ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) .

2 - « المستعان » ، قال سبحانه : ( رَبِّ احْكُم بِالحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) ( الأنبياء / 112 ).

ص: 264


1- البحار : ج 58 ، ص 14.
2- البحار : ج 58 ، ص 10 الحديث 8.
3- التوحيد : الباب 50 ، ص 321 الحديث 1.

وأمّا الرحيم فقد قورن بأسماء كثيرة لله سبحانه نشير إليها :

1 - « الرحمن » كما عرفت.

2 - « التواب » قال سبحانه : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / 37 ).

3 - « الرؤوف » قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / 143 ).

4 - « الغفور » قال سبحانه : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / 173 ).

5 - « الودود » قال سبحانه حاكياً عن شعيب : ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) ( هود / 90 ).

6 - « العزيز » قال سبحانه : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ( الشعراء / 9 ).

7 - « الرب » قال سبحانه : ( سَلامٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ) ( يس / 58 ).

8 - « البرّ » قال سبحانه : ( إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) ( الطور / 28 ).

والاسمان مشتقان من « الرحم » وقد مضى معناه في تفسير اسمه « أرحم الراحمين » فلا نعيد. إنّما الكلام في الفرق بينهما ، وسيوافيك بيانه.

الظاهر من الآيات إنّ العرب في العصر الجاهلي ما كانت تعرف « الرحمن ». قال الزجّاج : « الرحمن » اسم من أسماء اللّه مذكور في الكتب الاولى ولم يكونوا يعرفونه من أسماء اللّه فقيل لهم إنّه من أسماء اللّه ومعناه عند أهل اللّغة ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة ، لأنّ « فعلان » من أبنية المبالغة تقول رجل « ريّان » و « عطشان » في النهاية من الري والعطش ، وفرحان وجذلان إذا كان في النهاية من الفرح والجذل.

ص: 265

قال سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ) ( الفرقان / 60 ). أي زادهم ذكر الرحمن بعداً عن الايمان أو قبول الحقّ وقول النبي.

روى ابن هشام في أمر الحديبيّة الذي صالح فيه رسول اللّه مع قريش ثم دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عليّ بن أبي طالب - رضوان اللّه عليه - فقال : اكتب « بسم اللّه الرحمن الرحيم » قال : فقال سهيل : لا أعرف هذا ولكن اكتب « باسمك اللّهمّ » ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اكتب « باسمك اللّهمّ ». فكتبها ... (1).

وأمّا الفرق بينهما فهناك وجوه :

1 - الرحمن بمنزلة اسم العلم من حيث لا يوصف به إلاّ اللّه بخلاف الرحيم لأنّه يطلق عليه وعلى غيره.

2 - الرحمن : رحمان الدنيا ، والرحيم : رحيم الآخرة.

3 - الرحمن بجميع الخلق ، والرحيم بالمؤمنين خاصّة.

4 - الرحمن برحمة واحدة والرحيم بمائة رحمة (2).

والظاهر هو الثاني وهو المروي عن الامام الصادق علیه السلام حيث قال : « الرحمن » اسم خاص بصفة عامّة ، والرحيم اسم عامّ بصفة خاصّة ، وهو الظاهر من الصدوق حيث قال : « الرحمن » معناه الواسع الرحمة على عباده يعمّهم بالرزق والانعام عليهم وهو لجميع العالم ، والرحيم إنّه رحيم بالمؤمنين يخصّهم برحمته في عاقبة أمرهم كما قال اللّه عزّ وجلّ : ( وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) والرحمان والرحيم اسمان مشتقّان من الرحمة على وزن ندمان ونديم (3).

ص: 266


1- السيرة النبوية : ج 2 ، ص 317.
2- مجمع البيان : ج 1 ، ص 21.
3- التوحيد للصدوق : ص 203.

وأوضحه الرازي بقوله : « وقال جعفر الصادق علیه السلام : اسم الرحمان خاصّ بالحق ، عامّ في الأثر ، لأنّ رحمته تصل إلى البرّ والفاجر ، واسم الرحيم عامّ في الاسم خاص في الأثر لأنّ اسم الرحيم قد يقع على غير اللّه تعالى ، فهو من هذا الوجه عامّ إلاّ انّه خاص في الأثر لأنّ هذه الرحمة مختصّة بالمؤمنين ».

ثم استدلّ على ذلك بأنّ بناء وضع « الرحمان » للمبالغة يقال رجل غضبان وشبعان ، ورجل عريان هو الذي لا ثوب له أصلاً ، فإن كان له ثوب خلق ، فقد يقال له إنّه عار ولا يقال إنّه عريان ، وأمّا الرحيم فهو رحيم والفعيل قد يكون بمعنى الفاعل كالسميع بمعنى السامع ، وبمعنى المفعول كالقتيل بمعنى المقتول وليس في واحد منهما كبير مبالغة.

أضف إلى ذلك انّ كثرة المباني تدلّ على كثرة المعاني ، وحروف الرحمان أكثر من حروف الرحيم (1).

ثمّ إنّه يمكن استظهاره من بعض الآيات ، نرى أنّه سبحانه إنّما يخاطب الكلّ أو خصوص الكافر يقول ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) ( طه / 5 ). ويقول : ( قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ) ( مريم / 75 ). والأوّل خطاب للعامّ والثاني يخص مفاده بالكافر ، وفي الوقت نفسه يخصّ المؤمنين بالرحيم يقول : ( وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) ( الأحزاب / 43 ) ويقول : ( إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبه / 117 ).

وعلى ضوء هذا فالرحمان وإن كان يفيد الرحمة العامّة للكلّ إلاّ أنّ الرحيم يفيد الرحمة الخاصّة بالمؤمنين ، فكان الرحمان كالأصل والرحيم كالزيادة في التشريف ، والأصل يجب تقديمه على الزيادة كقوله : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) ( يونس / 26 ).

ص: 267


1- لوامع البينات : ص 152 - 172.

و أمّا حظ العبد من اسميه تعالى فحظ العبد من اسم « الرحمان » أن يكون كثير الرحمة على الناس وحظه من اسم الرحيم أن يكون عطوفاً بالمؤمنين ، فلو صحّ ما روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « تخلّقوا بأخلاق اللّه » فمعناه التشبّه بالاله بقدر الطاقة البشرية وصيرورة الإنسان مظهراً لاسمائه إلاّ فيما خرج كقوله : « المصوّر » (1).

الثاني والستون : « الرؤوف »

وقد جاء « الرؤوف » في الذكر الحكيم 11 مرّة ووقع الجميع اسماً له سبحانه واقترن ب « العباد » تارة ، وبالرحيم اُخرى ، قال سبحانه : ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ المَصِيرُ ) ( آل عمران / 30 ).

وقال : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / 143 ).

وأمّا معناه فقال ابن فارس : « الرؤوف كلمة واحدة تدل على رقّة ورحمة ».

قال اللّه تعالى : ( وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ ) ( النور / 2 ).

وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) ( الحديد / 27 ).

وقال جرير :

يرى للمسلمين عليه حقّا *** كفعل الوالد الرؤوف الرحيم

واطلاقه على اللّه سبحانه بالتجريد عمّا يلازم الوجود الامكاني من الرقة في القلب ، والتأثّر عن الشيء والأخذ بالنتيجة كما هو الضابطة في كثير من أسمائه سبحانه.

ص: 268


1- لوامع البينات : ص 167 بتلخيص منّا.

ثمّ انّ الرؤوف قدّم على الرحيم في جميع الايات فما هو وجهه ؟

يمكن أن يقال : إنّ الرحمة كمال حال في الرؤوف يدعوه إلى ايصال الاحسان إلى الغير ، والحال انّ الرحيم معنى يحصل من مشاهدة المرحوم في فاقة وضعف وحاجة ، ومن المعلوم كون الأوّل أكمل في مجال الفضيلة ، ولعلّه لذلك قدّم الرؤوف على الرحيم.

قال الصدوق : « الرؤوف معناه الرحيم والرأفة الرحمة » (1).

الثالث والستون : « الرزّاق »

جاء في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع إسماً له.

قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / 58 ).

كما انّه سبحانه وصف ب « خير الرازقين » 5 مرّات.

قال سبحانه : ( وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( المائدة / 114 ).

قال سبحانه : ( لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( الحج / 58 ).

وقال سبحانه : ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( المؤمنون / 72 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( سبأ / 39 ).

وقال سبحانه : ( قُلْ مَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( الجمعة / 11 ).

ص: 269


1- التوحيد للصدوق : ص 204.

وقد دل غير واحد من الآيات على أنّ رزق العباد والدوابّ على اللّه سبحانه.

قال عزّ وجلّ : ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ) ( هود / 6 ). ودلّت بعض الايات على أنّ منبع الرزق ومصدره هو السماء.

قال سبحانه : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) ( الذاريات / 22 ).

فلو كان المراد من السماء هو السماء المحسوس ، فالمراد من الرزق إمّا هو المطر كما عليه قوله سبحانه :

( وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ( الجاثية / 5 ). أو الأعم منه ومن الأنوار والأشعّة الحيوية إلى غير ذلك من الاُمور النازلة من السماء إلى الأرض.

وأمّا الرزق فقد فسّره ابن فارس بعطاء اللّه جلّ ثناؤه.

وقال الراغب : الرزق يقال للعطاء الجاري تارة دنيويّاً كان أم اُخرويّا ، وللنصيب تارة ولما يصل به إلى الجوف ويتغذى به تارة.

فالأوّل مثل قول القائل : « أعطى السلطان رزق الجند » ، والثاني : ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) ( الواقعة / 82 ) أي تجعلون نصيبكم من النعمة تحرّى الكذب ، وأمّا الثالث فقوله : ( فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ ) ( الكهف / 19 ) أي بطعام يتغذى به ، وقد يطلق على الرزق الاُخروي.

قال سبحانه في حقّ الشهداء في سبيل اللّه : ( بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ( آل عمران / 169 ).

والظاهر أنّ المراد من الرزق هو كل ما يحتاج إليه الإنسان في مأكله وملبسه ومسكنه ولا يختصّ بما يصل إلى الجوف وإن كان هو الرزق البارز.

قال الحكيم السبزواري : إنّ رزق كل مخلوق ما به قوام وجوده ، وكماله

ص: 270

اللائق به ، فرزق البدن ما به نشوؤه وكماله ، ورزق الحسّ ، ادراك المحسوسات ، ورزق الخيال ، ادراك الخياليات من الصور والأشباح المجرّدة عن المادة دون المقدار ، ورزق الوهم ، المعاني الجزئيّة ، ورزق العقل ، المعاني الكلّية والعلوم الحقّة من المعارف المبدئيّة والمعاديّة ، فالرزق في كل بحسبه (1).

قال الصدوق : « معناه انّه عزّ وجلّ يرزق عباده برّهم وفاجرهم » (2).

وعلى كلّ تقدير فالرزّاق اسم خاص لله سبحانه ، يقال لخالق الرزق ومعطيه ومسببه ، وكونه سبحانه رازقاً بالتسبيب يجتمع مع كون العباد يرزق بعضهم بعضاً أيضاً.

قال سبحانه : ( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) ( النساء / 5 ) لأنّ كل ما في يد العبد فهو لله سبحانه فهو ينفق ممّا آتاه اللّه ، وبذلك يعلم أنّ المفاضلة في قوله سبحانه : ( خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) على هذا الأساس.

وقال الرازي : إنّ رزق الأبدان بالأطعمة ، ورزق الأرواح بالمعارف وهذا أشرف الرازقين ، فإنّ ثمرتها حياة الأبد وثمرة الرزق الظاهر قوّة الجسد إلى مدّة قرببة الأمد ، ومن أسباب سعة الرزق الصلاة. قال تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ) ( طه / 132 ).

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن يجعل يده خزانة لربّه فكل ما وجده أنفقه على عباده على غرار قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) ( الفرقان / 67 ).

ص: 271


1- شرح الأسماء الحسنى الواردة في الدعاء المعروف بالجوشن الكبير : ص 6.
2- التوحيد : ص 204.

الرابع والستون : « رفيع الدرجات » وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة ووقع وصفاً له.

قال سبحانه : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) ( غافر / 15 ).

وقد وصف سبحانه في هذه الاية بصفات ثلاث :

1 - رفيع الدرجات.

2 - ذو العرش.

3 - يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق.

وفي الأوّل احتمالات :

منها : إنّ الرفيع بمعنى الرافع أي رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنّة (1).

ومنها : رافع السماوات السبع التي منها تصعد الملائكة.

ومنها : إنّه كناية عن رفعة شأنه وسلطانه.

أمّا الثاني : أعني « ذو العرش » فقد مرّ في تفسير اسم « رب العرش ».

وأمّا الثالث : فالظاهر أنّ المراد من الروح هو الوحي بقرينة قوله : ( عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) والمراد منهم رسله سبحانه المصطفون بالرسالة ، والمراد من الإلقاء هو إلقاء الوحي في القلب.

واحتمال كون المراد من « الروح » جبرئيل أو غيره ، لا يناسب مع قوله : « يلقي » فهو بإلقاء المعاني أنسب وبذلك فسّرنا قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا

ص: 272


1- بل رافع درجة كل موجود نازل الى درجة رفيعة ، كرفعة درجة التراب والنبات الى أعلى منهما ، فالانسان كان تراباً والحيوان كان بناتاً فرفع درجتهما.

مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الشورى / 52 ). الخامس والستون « الرقيب »

جاء « الرقيب » في الذكر الحكيم 5 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثلاث.

قال سبحانه حاكياً عن المسيح : ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) ( المائدة / 117 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) ( النساء / 1 ).

وقال سبحانه : ( وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا ) ( الأحزاب / 52 ).

أمّا معناه فقد قال ابن فارس : له أصل واحد مطّرد يدلّ على انتصاب لمراعاة شيء ومن ذلك الرقيب وهو الحافظ ، والمرقب : المكان العالي يقف عليه الناظر (1).

وأمّا « الراغب » : فجعل الأصل له الرقبة وأنّه اشتق منها سائر المعاني ، قال الرقبة : اسم للعضو المعروف ، والرقيب : الحافظ وذلك امّا لمراعاته رقبة المحفوظ وامّا لرفعة رقبته ، قال : ( وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) .

وعلى أي تقدير فالرقيب والشهيد بمعنى واحد أو متقاربي المعنى.

قال سبحانه : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / 117 ).

ص: 273


1- مقاييس اللغة ج 2 ص 427.

و المراد شهادته سبحانه أعمال الاُمّة وحفظه لها.

قال سبحانه : ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ) ( يونس / 61 ).

وقال سبحانه : ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( الحديد / 4 ).

قال الصدوق : « الرقيب معناه الحافظ بمعنى فاعل ، ورقيب القوم حارسهم » (1).

ص: 274


1- التوحيد : ص 204.

حرف السين

السادس والستون : « سريع الحساب »

وقد ورد « سريع الحساب » في الذكر الحكيم في ثمانية موارد ووقع الكل وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ) ( البقرة / 202 ).

وقال : ( وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) ( آل عمران / 19 ).

وقال : ( أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) ( آل عمران / 199 ).

قال سبحانه : ( لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) ( إبراهيم / 51 ) (1).

وقد جاء هذا الاسم في ثنايا البحث عن جزاء أعمال العباد سواء أكان خيراً أو شراً ، ولا يختصّ بالثاني لما في قوله سبحانه : ( أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) والحساب في اللّغة بمعنى العد ، تقول حسبت الشيء أحسبه حَسْباً وحُسباناً.

قال تعالى : ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) .

ص: 275


1- لاحظ : المائدة / 4 ، والرعد / 41 ، والنور / 39 ، وغافر / 17.

و من هذا الباب الحَسَب الذي يعدّ من الإنسان ، قال أهل اللّغة معناه أن يعدّ آباءً أشرافاً (1).

وقال الراغب : « الحساب إستعمال العدد ، قال تعالى : ( لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ ) هذا ما يرجع إلى الحساب ، وامّا ما يرجع إلى المضاف أعني سريع فالسرعة ضد البطء.

قال تعالى : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) . ( وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ ) (2).

ثمّ إنّ توصيفه بسريع الحساب امّا لأجل نفوذ إرادته وتحقّق كلّ شيء بعد مشيئته بلا بطء وسكون.

قال سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( يس / 82 ).

أو كونه مجرداً بل فوقه ، وجميع الأمكنة والمكانيات سواء ، وكل حاضر لديه ، وليس هناك ماض ولا استقبال ، « لا يشغله شأن عن شأن » فيسرع في وصول الجزاء لكيلا يمنع الحقّ عمّن له الحقّ.

وسئل أمير المؤمنين عن محاسبة اللّه فقال : « يحاسب الخلائق كلهم دفعة واحدة كما يرزقهم دفعة » (3).

فسريع الحساب اسم من أسماء اللّه الحسنى وهو عامّ شامل للدنيا والآخرة معاً ، وقد عرفت أنّ ملاك السرعة هو تحقّق كل ما أراد بلا فصل. وحضور الكل لديه دفعة واحدة.

قال سبحانه : ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) ( الكهف / 49 ).

ص: 276


1- مقاييس اللغة ج 2 ، ص 60.
2- المفردات : ص 230.
3- شرح الأسماء الحسنى : ص 47.

وقال سبحانه : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ ) ( آل عمران / 30 ).

فكأنّهم يرون أنفسهم مشتغلين بالصلاة وغيرها من الحسنات أو مكتسبين للسيئات فيرون ما كانوا يرتكبونها من السيئات ، فلا يمكن لهم إنكار شيء من صغير وكبير فيحاسب كل نفس بسرعة.

أضف إلى ذلك الشهود وأخصّ بالذكر صحيفة الأعمال التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة.

قال سبحانه : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) ( الاسراء / 13 و 14 ).

ويقول سبحانه : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ) ( الكهف / 49 ).

ومع هذه الشهود لا يبقى للعبد أي ريب في حسابه وجزائه فهو حقّاً « أسرع الحاسبين ».

نعم شهوده سبحانه على العباد أزيد ممّا ذكرنا ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الفصل الذي خصّصناه به عند البحث عن المعاد.

وبذلك علم معنى اسمه الاخر « أسرع الحاسبين » وقد مرّ في محلّه. نعم ليس المراد من الحساب الجزاء ولا العقاب وإن كان الحساب لغاية الجزاء ، وبذلك يعلم الفرق بين « سريع الحساب » و « سريع العقاب » فالفرق بينهما كالفرق بين الغاية وذيها.

ص: 277

السابع والستون : « سريع العقاب »

وقد جاء في الذكر الحكيم في موردين ووقعا إسماً له سبحانه.

قال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنعام / 165 ).

وقال سبحانه : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأعراف / 167 ).

أمّا السرعة فقد مضى معناه وأمّا العقاب فعن الخليل أنّه قال : كلّ شيء يعقب شيئاً فهو عقيبه ، ولأجل ذلك يطلق على الليل والنهار العقيبان ، وإنّما سمّيت العقوبة عقوبة لأنّها تكون آخراً وثاني الذنب (1) وكأنّ الذنب يخلف العقاب ويعقبه ، قال الراغب : العقب مؤخّر الرجل ، والعقوبة والمعاقبة تختصّ بالعذاب.

قال سبحانه : ( فَحَقَّ عقاب - شديد العقاب - وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ) والتعقيب أن يأتي بشيء بعد آخر.

وكونه سبحانه « شديد العقاب » ليس بمعنى كونه كذلك دائماً وإنّما يختصّ ذلك بموارد يستوجب سرعة العقاب ، كطغيان العبد وعتوّه فيسرع إليه العقاب ويأخذه بأشدّه.

ولأجل عدم كونه فعلاً له سبحانه على الدوام ; ضمّ إليه في الآيتين الاسمين الآخرين وقال « إنّه لغفور رحيم » ولو كان فعلاً له سبحانه على نحو الاستمرار لما صحّ الجمع بين الاسمين ، يقول سبحانه : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ( العنكبوت / 53 و 54 ).

ص: 278


1- معجم مقاييس اللغة ج 4 ص 77 - 78 بتلخيص.

وبذلك يتّضح كون العقاب على قسمين : قسم يعمّ الظالم في العاجل وقسم يشمله في الآجل كل ذلك لحكمة خاصّة هو واقف عليها ، غير أنّ رحمته وغفرانه سبقا غضبه وعقابه.

قال سبحانه : ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( يونس / 11 ).

الثامن والستون : « السلام »

قد ورد لفظ « السلام » في الذكر الحكيم معرّفاً سبع مرّات ومنكراً خمس وثلاثون مرّة ووقع في مورد واحد اسماً له سبحانه ، وقال :

( هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر / 23 ).

أمّا السلام لغة ، فقد قال ابن فارس : معظم بابه من الصحّة والعافية ، فالسلامة أن يسلم الإنسان من العاهة والأذى ، قال أهل العلم : اللّه جلّ ثناؤه هو السلام ، لسلامته ممّا يلحق المخلوقين من العيب والنقص والفناء. قال اللّه جلّ جلاله : ( وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ ) .

وقال الراغب : السلامة : التعرّي من الآفات الظاهرة والباطنة قال : « بقلب سليم » أي متعرٍّ من الدغل وهذا في الباطن ، وقال تعالى : ( مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ) وهذا في الظاهر ، وقال تعالى : ( لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ ) أي السلامة ، والسلامة الحقيقيّة ليست إلاّ في الجنّة إذ فيها بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعزّ بلا ذلّ ، وصحّة بلا سقم ، وقيل « السلام » اسم من أسماء اللّه تعالى وصف بذلك حيث لا تلحقه العيوب والآفات التي تلحق الخلق (1).

ص: 279


1- المفردات : ص 239.

ولمّا كان السلام من السلامة دعا سبحانه في حقّ يحيى بقوله : ( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) ( مريم / 15 ) ، وإنّما خصّ المواطن الثلاثة بالدعاء لأنّ أوحش ما يكون الخلق فيه هو يوم ولد ، ويوم يموت ، ويوم يبعث.

ففي الأوّل يرى نفسه خارجاً عمّا كان فيه ، وفي الثاني يرى قوماً لم يكن عاينهم ، وفي الثالث يرى نفسه في محشر عظيم ، فأكرم اللّه يحيى في هذه المواضع الثلاثة وخصّه بالسلامة من آفاتها ، والمراد أنّه سلّمه من شرّ هذه المواطن وآمنه من خوفها (1).

أقول : لا شكّ انّ السلام من أسماء اللّه سبحانه كما هو صريح آية سورة الحشر كما عرفت ، وترديد الراغب فيه لا وجه له ، إنّما الكلام في معناه فهناك احتمالان :

1 - أن يكون المراد من السلام انّه ذوالسلام ووصف به مبالغة في وصف كونه سليماً من النقائص والآفات كما يقال رجل عدل.

2 - أن يكون المراد من السلام كونه معطياً للسلامة وهو تعالى خلق الخلق سويّاً وقال : ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ) ( الملك / 3 ) ، وقال : ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ( طه / 50 ).

إنّما الكلام في الفرق بينه وبين « القدّوس » الوارد في الآية أيضاً.

قال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ ) فما هو الفرق بين الاسمين ويحتمل كون القدّوس من صفات الذات ، والسلام من صفات الفعل فهو منزّه ذاتاً وفعلاً عن النقص.

ويحتمل أن يكون القُدُّوس أكثر مبالغة في التنزيه من السلام فهو يشير إلى براءته سبحانه عن جميع العيوب في الماضي والحاضر والمستقبل ، وعن العيب الظاهر والباطن ، ولكن السلام أضيق دلالة من هذا ، فلعلّه مختص بالبراءة عن

ص: 280


1- لوامع البينات للرازي : ص 187 ، نقلاً عن سفيان بن عيينة.

العيوب في الزمن المستقبل.

هذا إذا فسّر السلام بمعنى ذي السلامة ، وأمّا لو فسّر بكونه معطي السلامة كما هو أحد الاحتمالين فالفرق بينه وبين القدّوس واضح ، فالقدّوس صفة ذات ، والسلام صفة فعل ، ولا يبعد هذا المعنى بملاحظة ما ورد من الايات حول « السلام » وهو سبحانه « يدعو إلى دار السلام » و « لهم دار السلام » فاللّه سبحانه هو معطي السلامة.

وأمّا حظّ العباد من هذا الاسم فله أن يطلب سلامة الدين والدنيا ويتجنّب عن العيوب.

قال سبحانه : ( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ) ( الأنعام / 120 ). ويكون ذا قلب سليم.

قال سبحانه : ( إِلاَّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) ( الشعراء / 89 ).

ص: 281

ص: 282

حرف الشين

التاسع والستون : « الشاكر »

قد ورد لفظ « الشاكر » في الذكر الحكيم مفرداً أربع مرات ووقع اسماً له سبحانه في موردين قال : ( وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة / 158 ) وقال : ( مَا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) ( النساء / 147 ).

وأمّا « الشكور » فقد جاء في الذكر الحكيم 12 مرّة ووقع اسماً له سبحانه في موارد.

قال سبحانه : ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) ( فاطر / 30 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) ( فاطر / 34 ).

وقال سبحانه : ( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) ( الشورى / 23 ).

وقال سبحانه : ( إِن تُقْرِضُوا اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) ( التغابن / 17 ).

ترى أنّه استعمل تارة مع اسم « غفور » واُخرى مع « حليم » وهذا يعرب عن صلة بينهما وبين « الشكور » ، وأمّا معناه فقد ذكر ابن فارس له اُصولاً أربعة نكتفي بذكر المعنى الأوّل فإنّه المناسب لهذا الاسم.

قال : الشكر الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه ، ويقال إنّ حقيقة الشكر

ص: 283

الرضا باليسير ، يقولون : فرس « شكور » إذا كفاه لسمنه العلف القليل. وقال الراغب : الشكر تصوّر النعمة واظهارها ، قيل وهو مقلوب الكشر أي الكشف ويضادّه الكفر وهو نسيان النعمة وسترها ، ودابّة شكور : مظهرة بسمنها اسداء صاحبها إليها ، فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم ، وإذا وصف اللّه بالشكر فإنّما يعني به انعامه على عباده وجزاءه بما أقاموه من العبادة ، يقال ناقة شكرة : ممتلئة الضرع من اللبن.

أقول : إذا كان الشكر بمعنى عرفان الاحسان فما معنى توصيفه بأنّه « شاكر » أو « شكور » وهو المحسن إلى عباده المنعم عليهم ؟

وبعبارة اُخرى : إذا كان الشكر هو الثناء على المحسن فما معنى ثناؤه سبحانه على المحسن ولا محسن سواه ؟

وبعبارة اُخرى : إذا كان الشكر هو مقابلة من أحسن اليه بالاحسان ، فكيف يصدق هذا في حقّه سبحانه فمن الذي يحسن اليه ؟ ولو اُحسن اليه بشيء ، فهو ملكه لا ملك المُحسِن ، ولأجل ذلك ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ تسميته بكونه شاكراً أو شكوراً من باب المجاز ، والمراد مجازاة الشاكر بالثواب فهو سبحانه يقبل شكر الشاكر بالجزاء عليه.

قال الصدوق : إنّه سبحانه لمّا كان مجازياً للمطيعين على طاعتهم جعل مجازاتهم شكراً لهم على المجاز كما سمّيت مكافأة المنعم شكراً (1).

ويمكن أن يقال : إنّ الاستعمال من باب الحقيقة استلهاماً من قوله سبحانه : ( إِن تُقْرِضُوا اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) .

فكما أنّ نسبة الإستقراض عليه بنوع من التوسع فهكذا توصيفه سبحانه بكونه شاكراً أو شكوراً به أيضاً.

ص: 284


1- توحيد الصدوق : ص 216.

قال العلاّمة الطباطبائي : واللّه سبحانه وإن كان محسناً قديم الإحسان ومنه كل الاحسان لا يد لأحد عنده ، حتى يستوجبه الشكر ، إلاّ أنّه جلّ ثناؤه عدّ الأعمال الصالحة التي هي في الحقيقة احسانه إلى عباده ، احساناً من العبد إليه ، فجازاه بالشكر والاحسان وهو احسان على احسان.

قال تعالى : ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) ( الرحمن / 60 ).

وقال تعالى : ( إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ) ( الإنسان / 22 ).

فاطلاق الشاكر عليه تعالى على حقيقة معنى الكلمة من غير مجاز (1). السبعون : الشكور

قد تبيّن معناه ممّا قدّمناه في تفسير اسم « الشاكر ».

الواحد والسبعون : « شديد العقاب »

وقد ورد ذلك الاسم المركّب في الذكر الحكيم 14 مرّة ووقع في الجميع وصفاً له سبحانه ، ويستعمل تارة مجرداً عن سائر الأسماء مثل قوله : ( وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( البقرة / 196 ) ، واُخرى مقترناً باسم القوي ، قال سبحانه : ( فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / 52 ) ولولا كونه قوياً لما قدر على العذاب الشديد. وثالثة مقترناً باسمي « غفور » و « رحيم » مثل قوله : ( اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( المائدة / 98 ). فله سبحانه تجلّيات كل في موضعه ، وفي دعاء الافتتاح :

وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة.

ص: 285


1- الميزان : ج 1 ، ص 392 ، وكونه على الحقيقة انّما هو بعد التنزيل كما في الاستقراض.

ورابعة مع عدّة من الصفات مثل قوله سبحانه : ( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ) ( غافر / 3 ). وعلى كلّ تقدير فكونه شديد العقاب ، من قبيل الوصف بحال المتعلّق ، فالشديد هو عذابه ، كما ورد في عدّة من الآيات ، قال سبحانه : ( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ ) ( الأنعام / 124 ).

الثاني والسبعون : « شديد العذاب »

وقد ورد في القرآن مرّة واحدة وقع وصفاً له سبحانه قال : ( أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ) ( البقرة / 165 ). وهو متّحد مع الاسم السابق معنى ، ومختلف لفظاً.

الثالث والسبعون : « شديد المحال »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له ، قال سبحانه : ( وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ ) ( الرعد / 13 ).

وهل المحال ، من « محل » (1) يقال : محل به محلاً ومحالاً : إذا أراد بسوء ، والميم ليست زائدة أو من « حول » (2) أو « حيل » والميم زائدة ، ومعناه : الكيد. على الأوّل معناه : شديد الأخذ ، وعلى الثاني : شديد المكر ، واستعماله في حقه سبحانه من قبيل المشاكلة كما هو واضح. وحيلته سبحانه هو ما جاء في قوله : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأعراف / 182 ) وقال : ( فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ( القلم / 44 ).

ص: 286


1- كما عليه البيضاوي في تفسيره للآية.
2- نقل الطبرسي عن ابن جني ، ونسبه الراغب الى القيل مشعراً بضعفه.
الرابع والسبعون : « الشهيد »

قد ورد لفظ « الشهيد » في الذكر الحكيم معرّفاً ومنكراً 35 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في 20 مورداً.

قال سبحانه : ( لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / 98 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( الحج / 17 ) (1).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : إنّه أصل يدلّ على حضور وعلم واعلام من ذلك : الشهادة ، والمشهد محضر الناس.

وقال الراغب : الشهود والشهادة : الحضور مع المشاهدة أمّا بالبصر أو بالبصيرة وقد يقال للحضور مفرداً ، قال : « عالم الغيب والشهادة » ، ويقال للمحضر مشهد ، وللمرأة التي يحضرها زوجها مشهد ، وجمع مشهد مشاهد ومنه مشاهد الحج وهي مواطنه الشريفة التي يحضرها الملائكة والأبرار من الناس.

أقول : الظاهر انّ الشهادة موضوعة للحضور وافادتها العلم ، لأنّها تلازمه ويدلّ على ذلك قوله سبحانه : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) ( الحجّ / 28 ). و ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا ) ( النور / 2 ). ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) ( الفرقان / 72 ).

فمعنى كونه سبحانه « شهيداً » على كل شيء أنّه لا يخفى على اللّه منه شيء كما صرّح وقال : ( فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) ( طه / 7 ) ومع ذلك لأنّه ليس بينه وبين

ص: 287


1- لاحظ النساء / 33 و 79 و 166 ، المائدة / 113 و 117 ، الأنعام / 19 ، يونس / 29 و 46 ، الرعد / 43 ، الإسراء / 96 ، العنكبوت / 52 ، الأحزاب / 55 ، سبأ / 47 ، فصّلت / 53 ، الاحقاف / 8 ، الفتح / 28 ، المجادلة / 6 ، البروج / 9.

خلقه حجاب ، فحقيقة الشهادة عبارة عن فقدان الحجاب بين الشاهد والمشهود واحاطته به.

وبذلك يظهر : انّ تقسيم الأشياء إلى الغيب والشهادة ، تقسيم نسبي بالنسبة إلينا ، وأمّا بالنسبة إليه فالأشياء كلّها مشهودات فلأجل ذلك يقول : ( أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) والشهادة أمر اضافي له نسبة إلى الشاهد ، ونسبة إلى المشهود ، فلو كان شهيداً على كل شيء لكان الكل مشهوداً لا غائباً.

وبذلك يظهر أنّ ما نقل عن الكفعمي أحسن من غيره حيث يقول : « هو الذي لا يغيب عنه شيء أي كأنّه الحاضر الشاهد الذي لا يعزب عنه شيء ، وكونه شاهداً لكل شيء ، فوق كونه عالماً به ، فإنّ العلم يتحقّق بحضور صورة الشيء عند العالم دون حضور نفسه ، ولكن الشهادة أقوى وأوثق من العلم ، بل المتبادر منها حضور الأشياء بوجودها الخارجي لدى الباري ، وكيف والعالم فعله سبحانه وليس فعله غائباً عن ذاته ».

وهذا أولى ممّا نقل عن الغزالي وقال : يرجع معنى الشهادة إلى العلم مع خصوص اضافة فإنّه عالم الغيب والشهادة ، والغيب عبارة عمّا يطلب ، والشهادة عمّا ظهر وهو شاهد كليهما ، فإذا اعتبر العلم مطلقاً فهو العليم ، وإذا اُضيف إلى الغير والامُور الباطنة فهو الخبير ، وإذا اُضيف إلى الاُمور الظاهرة فهو شهيد ، وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منه.

هذا والأولى ما ذكرنا من أنّ توصيفه سبحانه بكونه عالماً للغيب والشهادة بملاك كونه شهيداً على كل شيء وعدم غيبوبة شيء عن ذاته بملاك آخر.

وإلى ما ذكرنا صرّح بعض المحقّقين وقال : « إنّ الشاهد المدرك يرى ما لا يرى الغائب ، والحاضر المعاين المطّلع ، يعلم ما لا يعلمه الغائب ، وليس ذلك إلاّ لأن معلوماته كلّها حاضرة عنده ، مشاهدة معاينة مدركة له غير غائبة عنه ، ففي

ص: 288

اطلاق هذا الاسم عليه تعالى اشارة إلى أنّ علمه عزّ وجلّ بما سواه بالمشاهدة والحضور والادراك وليس شيء مما سواه من الأزل إلى الأبد غائباً عنه بل الكل حاضر عنده.

مع أنّ شيئاً ممّا سواه ليس معه مطلقاً من الأوّل إلى الأبد ، وهذا ستر مستور. لا يعلمه إلاَّ هو ومن هو ملهم بإلهام اللّه تعالى شأنه ، والغيب والشهادة إنّما يكونان بالنسبة إلى المخلوقات وعليه يحمل قوله عزّ وجلّ : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) وإلاّ فلا غيب ولا غائب عنده جلّ شأنه (1).

ص: 289


1- كاشف الاسماء في شرح الاسماء الحسنى ، وقداشبعنا الكلام في الجزء الثالث عند البحث عن علم الغيب فلاحظ : ص 377 - 381.

ص: 290

حرف الصاد

الخامس والسبعون : « الصمد »

قد ورد لفظ « الصمد » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له فيها قال سبحانه :

( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

قال ابن فارس : الصمد له أصلان : أحدهما القصد والآخر الصلابة في الشيء.

فالأوّل يقال صمدته صمداً ، وفلان صمد ، إذا كان سيّداً يقصد إليه في الاُمور. واللّه جلّ ثناؤه الصمد لأنّه يصمد إليه عباده بالدعاء والطلب.

قال الشاعر :

علوته بحسام ثمّ قلت له *** خذها حذيف فأنت السيّد الصمد

وقال طرفة في المصمّد :

وإن يلتقى الحي الجميع تلاقيني *** إلى ذروة البيت الرفيع المصمّد (1)

وقال الراغب : الصمد : السيّد الذي يصمد إليه في الأمر ، وقيل : الصمد : الذي ليس بأجوف.

ص: 291


1- الشعر من معلقة طرفة المشهورة.

وقال الصدوق : الصمد معناه السيد ، وللصمد معنى ثان وهو المصمود إليه في الحوائج (1).

والظاهر انّ المعنى الثاني من فروع الأوّل ومن لوازمه ، لأنّ من لوازم كون الرجل سيّداً مطاعاً ، كونه مقصوداً ومصموداً إليه في النوائب والحوائج.

ورواه في موضع آخر عن الامام الباقر علیه السلام : الصمد : السيّد المطاع الذي ليس فوقه آمر وناه (2).

روى الكليني عن جابر بن يزيد الجعفي قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن شيء من التوحيد فقال : ... صمد قدّوس يعبده كلّ شيء ، ويصمد إليه كلّ شيء ، ووسع كلّ شيء علماً.

قال الكليني وهذا المعنى الذي قال علیه السلام : إنّ الصمد هو السيّد المصمود إليه هو معنى صحيح.

قال أبو طالب في بعض ما كان يمدح به النبي صلی اللّه علیه و آله :

وبالجمرة القصوى إذا صمدوا لها *** يؤمّون رضحا رأسها بالجنادل

وقال بعض شعراء الجاهلية :

ما كنت احبّ انّ نبيّنا ظاهراً *** لله في أكناف مكّة يصمد

يعني يقصد.

وقال ابن الزبير :

ما كان عمران ذاغشّ ولا حسد *** ولا رهيبة إلاّ سيّد صمد

ص: 292


1- التوحيد : ص 197.
2- التوحيد : ص 90.

واللّه عزّ وجلّ هو السيّد الصمد الذي جميع الخلق من الجن والانس إليه يصمدون في الحوائج ، وإليه يلجأون عند الشدائد ، ومنه يرجون الرخاء ودوام النعماء ، ليدفع عنهم الشدائد (1).

وإذا كان اللّه تعالى هو الموجد لكلّ ذي جود ممّا سواه فيقصده كلّ ما صدق عليه أنّه شيء غيره ، ويحتاج إليه في ذاته وصفاته وآثاره ، قال تعالى : ( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) ( الأعراف / 54 ). وقال : ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنتَهَى ) ( النجم / 42 ). فهو الصمد في كلّ حاجة في الوجود ، لا يقصد شيء شيئاً إلاّ وهو الذي ينتهي إليه قصده ، وتنجح به طلبته ، وتقضى به حاجته.

وإنّما دخلت اللام على الصمد لإفادة الحصر ، فهو تعالى وحده الصمد على الاطلاق لما عرفت من أنّه ينتهي إليه قصد كلّ قاصد ، وهو المقصود بالاصالة وغيره مقصود بالتبع.

وإنّما كرّر لفظ الجلالة وقال : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ ) ولم يقل هو الصمد ، أو لم يقل اللّه أحد صمد ، فلعلّه للإشارة إلى أنّ كلا من الجملتين كاف في تعريفه تعالى فالمعرفة حاصلة بكلّ واحد.

وإنّما لم يدخل اللام على « أحد » فلعلّه لأجل ادعاء أنّه لا يطلق على غيره سبحانه فليس غيره أحد فلا يحتاج إلى عهد وحصر.

والآيتان تصفانه سبحانه بصفتي الذات والفعل ، فالأحدية من صفات الذات وهي عينها ، والصمدية من صفات الفعل حيث يصفه بانتهاء كلّ شيء إليه وهو من صفات الفعل.

هذا وقد نقل العلاّمة المجلسي للفظ الصمد معاني كثيرة تناهز العشرين غير أنّ أكثرها ليست معناني متعدّدة بل يرجع إلى أنّه السيد المصمود ، وقد ذكر الصدوق

ص: 293


1- الكافي : ج 1 ، ص 124.

أيضاً في تفسير ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) معاني مختلفة بحسب الظاهر غير أنّ أكثرها يرجع إلى ما ذكرنا ، فروى عن عليّ علیه السلام أنّه قال : « الصمد » الذي قد انتهى سؤدده ، والصمد : الذي لا يأكل ولا يشرب ، والصمد : الدائم الذي لم يزل ولا يزال.

وروى عن محمد بن الحنفية رضی اللّه عنه أنّه كان يقول : الصمد : القائم بنفسه ، الغني عن غيره ، وقال غيره : الصمد : المتعالي عن الكون والفساد.

وروى عن علي بن الحسين زين العابدين علیه السلام أنّه قال : الصمد : الذي لا شريك له ولا يؤده حفظ شيء ولا يعزب عنه شيء.

وروي أيضاً عنه علیه السلام أنّه قال : الصمد : الذي أبدع الأشياء فخلقها أضداداً وأشكالاً ، وأزواجاً وتفرّد بالوحدة بلا ضد ولا شكل ولا مثل ولا ندّ.

ولا يخفى إنّ هذه المعاني ليست معاني لغوية للفظ الصمد ولا نرى منها أثراً في المعاجم ، وإنّما هو من لوازم كون الشخص سيداً مصموداً لكلّ شيء ، فلازم ذلك أن ينتهي سؤدده وأن لا يكون له شريك ولا يؤده حفظ شيء إلى غير ذلك مما ورد في هذه التفاسير.

نعم ربّما يفسّر بالمصمّت الذي ليس بأجوف فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يلد ولا يولد وقد ورد تفسيره به في بعض الروايات وعلى ذلك فيكون قوله : ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ) تفسيراً للصمد ، وهناك حديث رواه الصدوق بسنده عن الحسين بن علي علیهماالسلام فمن أراد فليرجع إليه (1).

ص: 294


1- كتاب التوحيد : باب معنى قل هو اللّه أحد ، الحديث 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8.

حرف الظاء

السادس والسبعون : « الظاهر »

وقد مرّ تفسيره عند تفسير اسم « الباطن » فراجع.

حرف العين

السابع والسبعون : « عالم الغيب والشهادة »

لم يقع لفظ « عالم » وصفاً له سبحانه في الذكر الحكيم إلاّ مضافاً تارة إلى الغيب والشهادة ، واُخرى إلى الغيب وحده ، وثالثة إلى غيب السموات والأرض ، فقد جاء « عالم الغيب والشهادة » عشر مرّات ، و « عالم الغيب » مرّتين ، و « عالم غيب السموات والأرض » مرّة واحدة ، والكلّ يشير إلى علمه الوسيع لكل شيء سواء أكان مشهوداً للناس بالأدوات الحسّيّة أو كان غائباً عنهم إمّا لامتناع وقوعه في اطار الحسّ أو لضعف الحسّ.

توضيحه : انّ الغيب يقابل الشهود فما غاب عن حواسنا وخرج عن حدودها فهو غيب سواء أكان قابلاً للإدراك بالحواسّ كالحوادث الواقعة في غابر الزمان ، والمتكوّنة حاليّاً ، الغائبة عن حواسّ المخبر ، أم كان ممّا يمتنع ادراكه بالحسّ لعدم

ص: 295

وقوعه في اُفقه كذاته سبحانه وصفاته إلى غير ذلك من عوالم الغيب كالوحي والنبوّة فاللّه سبحانه عالم بالجميع من غير فرق بين المشهود وغيره (1).

قال سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ ) ( الرعد / 9 ).

وقال سبحانه : ( قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( سبأ / 3 ). وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( فاطر / 38 ).

لا شك إنّ هذه الآيات بصدد حصر العلم بالغيب والشهادة له ، وهناك سؤال يطرح نفسه بل سؤالان :

1 - كيف يصحّ حصر « العلم » بالغيب والشهادة مع أنّ العلم بالشهادة متاح لكلّ من اُعطي واحداً من أدوات الحسّ.

2 - دلّ قسم من الآيات على أنّ الأنبياء والأولياء كانوا يعلمون الغيب ويخبرون عنه ، فهذا العلم بالغيب كيف يجتمع مع حصره في اللّه سبحانه ؟

والجواب : إنّ ما يجري على اللّه سبحانه من صفات ونعوت يختلف عمّا يجري على غيره لا بمعنى انّ للعلم - مثلاً - معنيين مختلفين يجري على الواجب بمعنى وعلى الممكن بمعنى آخر فإنّ ذلك باطل بالضرورة ، ومثله الحياة والقدرة بل المراد اختلاف المحمول عند الجري على الواجب والممكن اختلافاً في كيفيّة الجري والإتّصاف ، فإنّ العلم منه واجب ، ومنه ممكن ، ومنه ذاتي ، ومنه اكتسابي ، منه مطلق ومرسل عن القيود ، ومنه مقيّد محدود ، منه ما هو عين الذات بلا تعدّد بين الوصف والموصوف ، ومنه ما هو زائد على الذات ، ومن المعلوم أنّ

ص: 296


1- وقد أشبعنا الكلام في حقيقة الغيب والشهود في الجزء الثالث من هذه الموسوعة لاحظ : الفصل السادس ص 375 - 382.

ما يجري على الواجب ، هو القسم الأشرف وما يجري على الممكن هو القسم الأخسّ فعند ذلك يظهر صحّة اختصاص العلم بالغيب والشهادة باللّه سبحانه ، فإنّ العلم الواجب ، المطلق ، الذي هو عين الذات ، يختصّ به سبحانه ، سواء أتعلّق بالغيب أم بالشهادة وأمّا علم الغير بالشهادة فانّما هو علم ممكن لا واجب ، محدود لا مطلق ، زائد على الذات لا عينه فلا يضر ثبوته لغيره مع حصر مطلق العلم ، سواء أتعلّق بالغيب أم بالشهادة عليه سبحانه.

وقد تقدّم في الجزء الثالث عند البحث عن اختصاص العلم بالغيب باللّه سبحانه ما يفيدك في هذا المقام (1).

وعلى ذلك فالعلم المختصّ باللّه سبحانه إنّما هذا النوع من العلم لا غيره.

وبذلك يعلم جواب السؤال الثاني فإنّ اطّلاع الأنبياء على الغيب بإذن منه سبحانه لا يضرّ بحصر علم الغيب على اللّه فإنّ المحصور من العلم ، غير المشترك. الثامن والسبعون : « عالم غيب السموات والأرض »

قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( فاطر / 38 ). وقد تقدّم تفسيره في الاسم السابق.

التاسع والسبعون : « علاّم الغيوب »

وقد ورد في الذكر الحكيم أربع مرّات.

قال سبحانه : حاكياً عن المسيح : ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / 116 ).

ص: 297


1- المصدر نفسه.

وقال سبحانه : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( التوبة / 78 ).

وقال سبحانه حاكياً عن الرسل : ( قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / 109 ).

وقال : ( إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( سبأ / 48 ).

وحصر هذا الاسم على اللّه سبحانه حصر حقيقي مضافاً إلى أنّ علم الواجب غير محدود كوجوده ، وعلم الممكن محدود ، وإنّ علم غيره سبحانه بالغيب بما أنّه يتوقّف على اذنه سبحانه وتعلّق مصلحة عليه قليل في ذاته فضلاً عن إذا قيس إلى علم الواجب بالغيب.

الثمانون : « العليم »
اشارة

قد ورد لفظ « العليم » في القرآن 162 مرّة ، ووقع وصفاً له في الجميع إلاّ في الموارد التالية : ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) ( الأعراف / 109 ) ، ( يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ) ( الأعراف / 112 ) ، ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ( يوسف / 55 ) ، ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) ( يوسف / 76 ) ، ( قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) ( الحجر / 53 ) ، ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) ( الشعراء / 34 ).

وأمّا في غير هذه الموارد ، فقد جاء وصفاً له سبحانه ، وقورن بالصفات التالية : الحليم ، الواسع ، السميع ، الشاكر ، القدير ، العزيز ، الخبير ، الفتّاح ، الخلاّق.

وقد وقفت على معنى العلم في البحث السابق ، وبما أنّ العلم والقدرة من أبرز الصفات الثبوتيّة وجب علينا البحث عن اُمور يرجع إلى علمه سبحانه أو إلى قدرته ، فلأجل ذلك قد أسهبنا البحث في هذين الوصفين ، وآثرنا الاختصار في غيرهما ، فنقدّم فهرس البحوث الواردة فيه مستقلاًّ.

ص: 298

العلم

ما هو حقيقة العلم ؟

التعريف المعروف للعلم.

نقد هذا التعريف من وجوه :

أوّلاً : عدم شموله لبعض أنواع العلم.

تقسيم العلم إلى الحضوري والحصولي.

نماذج من العلم الحضوري.

أ - نفس الصورة العلمية.

ب - علم الإنسان بذاته.

ج - علم الإنسان بالمشاعر النفسية.

د - علم العلّة بمعلولها.

ثانياً : عدم شموله للمعقولات المنطقية.

نماذج من المعقولات المنطقية.

أ - مفهوم الإنسان الكلّي.

ب - مفهوم الجنس والفصل.

ثالثاً : عدم شموله للمحالات والمعدومات.

رابعاً : عدم شموله للأرقام الرياضية.

نكتة هامة ليس كلّ انعكاس علماً.

اجابة عن سؤال.

تعريف العلم بوجه آخر ( التعريف المختار ).

ص: 299

علمه سبحانه بذاته.

الدليل الأوّل : معطي الكمال ليس فاقداً له.

الدليل الثاني : عوامل الغيبة منتفية عن ساحته سبحانه.

دليل النافين لعلمه سبحانه.

علمه سبحانه بالأشياء قبل إيجادها.

أدلّة ذلك العلم.

الدليل الأوّل : العلم بالحيثيّة الموجبة للمعلول علم به.

الدليل الثاني : بسيط الحقيقة كلّ الأشياء.

علمه سبحانه بالأشياء بعد ايجادها.

الدليل الأوّل : قيام بالاشياء بذاته لا ينفك عن علمه بها.

الدليل الثاني : سعة وجوده دليل على علمه بالأشياء.

الدليل الثالث : اتقان المصنوع آية على علم الصانع.

مراتب علمه سبحانه.

شمول علمه سبحانه للجزئيات.

أهم الأقوال في هذا المجال.

القول المختار ودلائله.

التعبير القرآني الرفيع عن سعة علمه سبحانه.

دلائل النافين لعلمه سبحانه بالجزئيات ونقدها.

ص: 300

ما هي حقيقة العلم ؟
اشارة

لقد عُرِّف العلم بأنّه صورة حاصلة من الشيء على صفحة الذهن.

وبعبارة أُخرى : هو انعكاس الخارج إلى الذهن ، عند اتصال الإنسان بالخارج.

وهذا التعريف انتزعه الحكماء من كيفيّة حصول العلم للإنسان عند اتّصاله بالخارج ، إذ لا شكّ أنّ الخارج لا يمكن أن يقع في اُفق الذهن بنفس واقعيّته وحقيقته وعينيّته ، وإلاّ لزم أن ينتقل كلّ ما للوجود الخارجي من الأثر إلى عالم الذهن ، وإنّما ينتقل إليه بصورته المنتزعة منه عن طريق أدوات المعرفة من الحواس الخمس.

وبالتالي : إنّ العلم هو الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل.

غير أنّ هذا التعريف ناقص من جهات شتّى نشير إلى بعضها :

أوّلاً : عدم شموله لبعض أنواع العلم
اشارة

إنّ العلم ينقسم إلى قسمين : حصولي وحضوري ، وإليك بيانهما :

لو كان الشيء حاضراً عند « العالم » بصورته وماهيّته لا بوجوده الخارجي ، فالعلم « حصولي ».

ولو كان المعلوم حاضراً لدى « العالم » بواقعيّته الخارجيّة من دون توسيط صورة بين الواقعيّة والعالم ، فالعلم « حضوري » (1).

ص: 301


1- وستقف على مراتب العلم الحضوري.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ الإنسان عند ما يطلّ بنظره إلى الخارج ويلاحظ ما يحيط به في هذا الكون ، يشاهد شجراً وحجراً ، وناراً وثلجاً ، وبحراً وجبلاً ، وشمساً وقمراً ، فهناك :

مدرِك - بالكسر - هو الإنسان وشيء في الخارج وهو المدرَك - بالفتح - وصورة متوسطة منتزعة من الشيء الخارجي تنتقل إلى مركز الإدراك ، عبر أدوات الاحساس والمعرفة.

وبما أنّ الحاضر - عندنا - ليس هو ذات القمر والشمس أو النار والثلج بوجودهما الخارجيين ، وإنّما الحاضر - عندنا - وفي ذهننا هو « الصورة » المنتزعة الحاصلة من الخارج يسمى الشيء الخارجي « معلوماً بالعرض » والصورة الذهنية الحاكية للخارج « معلوماً بالذات » لأنّ الخارج معلوم بوساطة هذه الصورة ، ولولاها لانقطعت صلة الإنسان بالخارج ، والواقع الخارجي.

وأمّا قولنا : بأنّ الخارج ليس حاضراً عندنا بواقعيّته الخارجيّة فهو أمر واضح لأنّ الذهن غير قادر على تقبّل الشيء بواقعيته الخارجية الحارة ، الباردة الخشنة ، الثقيلة إلى غير ذلك من الآثار المحمولة على الخارج.

وهذا هو العلم الحصولي ، وعلى ذلك ينطبق التعريف المذكور مطلع هذا البحث.

وهناك نوع آخر من العلم يسمّى بالعلم الحضوري وهو عبارة عن حضور نفس المعلوم بواقعيّته الخارجيّة عند الذهن لا بصورته ومفهومه.

وعند ذلك ينقلب التثليث (1) المذكور في تعريف « العلم الحصولي » إلى تقسيم ثنائي فلا يكون ثمّة مدرِك - بالكسر - ومدرَك - بالفتح - بواقعيته الخارجية وصورة ومفهوم منها بل يكون مدرِك - بالكسر - ومدرك ، وربّما يكون اُحاديّاً كما

ص: 302


1- الانسان المدرك والشيء الخارجي وصورته الذهنية.

سيوافيك بيانه.

نماذج من العلم الحضوري

أ. نفس الصورة الحاصلة في الذهن ، الحاكية للواقع الخارجي ، فإنّ علم الإنسان بالخارج يتحقّق بتوسط هذه الصورة.

أمّا نفس الصورة فهي معلومة بالذات من دون توسّط شيء بين الذهن وتلك الصورة المدركة.

فالخارج وإن كان معلوماً عبر هذه الصورة وبواسطتها ، إلاّ أنّ نفس الصورة معلومة بذاتها لدى النفس حاضرة في حورتها.

ب. علم الإنسان بذاته : فإنّ ذات الإنسان حاضرة بذاتها لديه ، وليست ذاته غائبة عن نفسه ، فهو يشاهد ذاته مشاهدة عقليّة ويحس بها احساساً وجدانيّاً ، ويراها حاضرة لديه من دون توسّط شيء بين الإنسان وذاته من قبيل الصورة المنتزعة عن الخارج.

وفي هذه الحالة ينقلب التقسيم الثنائي المذكور في القسم الأوّل من « العلم الحضوري » إلى حالة احادية ، وهي وحدة العاقل والمعقول ، والعالم والمعلوم.

فالإنسان - في هذه الحالة - هو العالم وهو المعلوم في وقت واحد وبهذا يتّحد المدرِك والمدرَك وهذا يفيد : إنّ ذات الإنسان علم وانكشاف وليس بين الذات ونفسه أيّ إبهام وحجاب.

قال الحكيم السبزواري في منظومته :

وحصولي كذا حضوري *** في الذات ما الحضور بالمحصور

فأوّل صورة شيء حاصله *** للشيء والثاني حضورالشيء له (1)

ص: 303


1- المنظومة قسم الفلسفة : ص 143.

إذا وقفت على هذا عرفت بأنّ علم الإنسان بذاته علم حضوري ، إذ لا تغيب ذات الإنسان ونفسه عن نفسه.

وبهذا تقف على ضعف ما نقل عن الفيلسوف الفرنسي « ديكارت » حيث أراد الاستدلال على وجود نفسه بكونه مفكراً إذ قال : « أنا اُفكر فإذن أنا موجود » حيث استدلّ بوجود التفكّر على وجود المفكّر وهو نفسه.

فإنّ هذا الإستدلال خال عن الإتقان لوجهين :

أوّلاً : إنّ علم الإنسان بوجود نفسه علم حضوري وضروري لا يحتاج إلى البرهنة عليه والاستدلال بشيء ، فليس علم الإنسان بتفكّره أقوى وأوضح عنده من علمه بذاته ونفسه.

وثانياً : إنّ « ديكارت » اعترف بالنتيجة التي سعى إليها في مقدمة كلامه وجملته ، إذ قال : أنا اُفكر فإذن أنا موجود.

فقد أخذ وجود نفسه ( التي عبر عنها ب « أنا » ) أمراً مفروضاً واقعاً مسلّماً بينما هو يريد الاستدلال على وجود « أنا » وهذا من باب قبول النتيجة قبل الاستدلال عليها.

فالحقّ هو انّ « علم الإنسان بذاته » وانّه أمر موجود وحقيقة كائنة بنحو من الانحاء لا يحتاج إلى البرهنة والاستدلال أصلاً.

ج. علم الإنسان بالمشاعر النفسية : إنّ الآلام والأفراح التي تحيط بالإنسان جميعها معلومة للإنسان بالعلم الحضوري الذاتي ، فإنّ هذه الأحاسيس والمشاعر حاضرة بوجودها الخارجي لدى الإنسان من دون حاجة إلى أخذ صورة عنها.

د. علم العلة بمعلولها : إنّ علم العلّة بمعلولاتها ليس علماً حصولياً بل علم حضوري لما سيوافيك من أنّ نسبة وجود المعلول إلى العلّة كنسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ، وإنّ المعلول بوجوده وهويته الخارجية قائم بعلّته. والمراد من

ص: 304

العلّة ، هو الفاعل الالهي أي معطي الوجود.

وما هو هذا حاله لا يمكن غيابه عن العلّة ، ولا يمكن عدم حضوره في ساحته ، وهو عبارة اُخرى عن علم العلّة بمعلوله. وسيوافيك توضيحه في محله.

هذه هي بعض أقسام العلم الحضوري ونماذجه وقد أتينا بهذا القدر على سبيل المثال لا الحصر.

فاتّضح - بما ذكرناه - إنّ التعريف الذي مرّ عليك في مطلع هذا البحث تعريف غير شامل لأفضل أنواع العلوم وأسناها.

ثانياً : عدم شموله للمعقولات الثانية المنطقية
اشارة

إنّ نقص التعريف الماضي لا يختصّ بما ذكر بل هناك نقص آخر وهو عدم شموله للمعقولات الثانية المنطقيّة.

وتوضيح ذلك : انّ ما يرد إلى الذهن ينقسم إلى معقولات أوّليّة ، ومعقولات ثانية (1). فكلّ مفهوم له فرد واقعي في خارج منه تؤخذ الصورة وتنتزع حتى ترد إلى حوزة النفس ، ومجال الذهن فهو معقول أوّل ، وذلك كالألوان وما شاكل ذلك.

وكلّ مفهوم لا نجد له فرداً خارجيا غير أنّه يقع في اُفق النفس بتعاملات ذهنيّة وذلك مثل المفهوم الكلّي والنوع والجنس والمعرّف والحجّة ، وغير ذلك من المفاهيم التي تعد موضوعات للمسائل المنطقية (2).

فإنّ كلّ واحد من هذه المفاهيم ، مفاهيم ذهنية ليس لها مصاديق في الخارج

ص: 305


1- والمعقولات الثانية تنقسم الى معقولات ثانية منطقية ومعقولات ثانية فلسفية والكل خاص.
2- قال الحكيم السبزواري : إن كان الاتصاف كالعروض في *** عقلك فالمعقول بالثاني صفي

بحيث ينتزع هذا المفهوم من ذلك الشيء الخارج ، وإنّما يصفه الذهن بتعامل فكري قد أوضحه المحققون في محلّه.

لا أقول : إنّ هذه المفاهيم من مصنوعات الذهن ، ومفتعلاته التي لا صلة لها بالخارج أبداً ، لأنّ كلّ ما في الذهن لابدّ وأن يرجع بنحو من الأنحاء إلى الخارج ولكن كون الخارج مبدأً لوقوع هذه المفاهيم في الذهن ، غير وجود مصداق خارجي له.

ونأتي هنا بأمثلة :

أ - مفهوم الإنسان الكلّي :

فإنّ هذا المفهوم المقيّد بالكلّية ليس له وجود إلاّ في محيط الذهن ، فإنّ الإنسان وإن كان موجوداً في الخارج لكنه جزئي متشخّص ، بخلاف مفهوم الإنسان الذي له سعة أن يشمل كلّ فرد من أفراده ، والمفهوم بهذه السعة غير موجود إلاّ في الذهن ، فإنّ كلّ ما في الخارج أمر جزئي متشخّص ومتعيّن ، والمفهوم الكلّي الوسيع خال عن التشخّص والتعيّن ، بدليل صدقه على هذا المتشخّص ، وذاك المتعيّن ومع ذلك فهذا المفهوم الكلّي يصنعه الذهن بمقايسة بعض الأفراد ببعض ، وانتزاع المشتركات منها.

وعلى الجملة فهذا المفهوم ( أي مفهوم الإنسان الكلّي ) معلوم لنا ، والنفس واقفة عليه ، غير أنّه ليس من قبيل « الصورة الحاصلة من الشيء في الذهن » وإنّما هو من مخلوقات الذهن ومصنوعاته بعد اتّصاله بالواقع الخارجي ، ومشاهدة أفراده ومصاديقه.

ص: 306

ب - مفهوم الجنس والنوع :

إنّ المنطق يبحث عن مفاهيم ، مثل النوع والجنس ، والمعرّف ، والحجّة ، وغير ذلك من المفاهيم التي تعد موضوعات لذلك العلم.

فالنوع عبارة عن مفهوم يحكي عن القدر المشترك بين أفراد متّحدة الحقيقة كالإنسان والجنس عبارة عن تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثّرة بالحقيقة في جواب ما هو كالحيوان.

ومن المعلوم أنّ القدر المشترك ، سواء أكان قدراً مشتركاً لمتّفقة الحقيقة أو لمختلفتها لا يمكن أن يكون له مصداق في الخارج ، لأنّ الخارج طرف للتعيّن والتشخّص ، فما لزيد من الإنسانيّة فهو يختصّ به ، وما لعمرو منها فهو له خاصّة أيضاً ، ولا يعد كلّ ما يختصّ قدراً مشتركاً ، وإنّما القدر المشترك هو المفهوم الذهني الذي لا يتشخّص ، ولا يتقرّر بعنوان فرد من الأفراد ، ولأجله يقدر أن يحكي عن كلا الفردين ، بسعة مفهومه وعموميّة معناه.

فلأجل ذلك لا يوجد لهذه المفاهيم موطن إلاّ الذهن ، وليس له مصداق إلاّ فيه ، ومع ذلك فهو يحكي بنحو من الأنحاء عن الخارج ، ويؤخذ منه بشكل من الاشكال ، لكن الحكاية عن الخارج ، غير كون الخارج مصداقاً له ، كما أنّ أخذه من الخارج بمقايسة الأفراد بعضهم ببعض غير كونه مأخوذاً من الخارج مباشرة ...

وبذلك يعلم أنّ المعرِّف بما هو أمر كلّي يعرف أمراً كلّياً ليس له موطن إلاّ في الذهن كالحيوان الناطق المعرّف للإنسان ، وهكذا الحجّة بما هو قضايا كلّيّة يستدلّ بها على قضية كلّية اُخرى لا موطن لها إلاّ الذهن.

فإنّ الاستدلال عبارة عن الانتقال عن العلّة إلى معلوله أو منه إلى علّته أو من اللازم إلى اللازم فكلّ هذه الاُمور قضايا كلّية تهدينا إلى قضية كلّية اُخرى.

ص: 307

فقولنا : العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث ، حجّة على قولنا : العالم حادث. فتحصل إنّ هناك علوماً ذهنيّة ليست صوراً متّخذة من الخارج ، ولا حاصلة منه.

وعلى هذا يجب أن يعرّف « العلم » بنحو يشمل هذا النوع أيضاً ، وإلاّ كان ناقصاً كما عرفت.

ثالثاً : عدم شموله للمحالات والمعدومات

لا شكّ إنّ النفس كثيراً ما تتصوّر مفاهيم ممتنعة ، وتقضي بأنّها لا يمكن أن تتحقّق في الخارج أبداً ، وذلك مثل الدور ، والتسلسل ، واجتماع النقيضين ، والضدّين.

فهذه معلومات نفسانيّة يقف عليها الإنسان ، مع أنّها ليست صوراً متّخذة من الخارج ولا منتزعة من شيء في الواقع الخارجي ، وإلاّ يلزم عدم امتناعها.

رابعاً : عدم شموله للأرقام الرياضية
اشارة

إنّ الإنسان يتصوّر أرقاماً بعد الواحد إلى المئات والاُلوف ، وهذه مفاهيم علميّة للنفس تستخدمها في العلوم الرياضيّة والهندسيّة مع أنّها ليست منتزعة من الخارج كما تؤخذ صورة زيد عن وجوده الخارجي.

فإنّ الموجود في الخارج هو الآحاد ، وأمّا العشرة أو المائة أو الألف بهذه المفاهيم المتكثّرة فهي ممّا تصنعه النفس.

فإنّ النفس تصنع هذا المركّب بعد مشاهدة الأفراد من دون أن يكون للمركّب مصداق وراء الآحاد فلو حضر في البيت عشرة رجال ، فالموجود - في الحقيقة - هو الآحاد ، وليس وراء ذلك ، أيّ موجود باسم المركّب ، وإلاّ كانت العشرة أحد عشر.

ص: 308

نكتة يجب التنبيه إليها

إنّ مجرد انعكاس الصورة من الخارج في الذهن ، سواء قلنا بمادّيتها أو بتجرّدها عن الماديّة ، لا يعادل العلم ، ولا يساوقه ، وإلاّ لكانت الصورة المنعكسة في المرايا علماً ، والمرآة عالمة ، بل يجب أن يكون هناك أمر آخر وهو لزوم نوع وحدة بين الصورة وحاملها وعينيّة بين العلم بالذات والعالم ، بحيث تعد الصورة من مراتب وجود العالم ، ومظهراً من مظاهر وجوده.

وهذه الحقيقة هي الّتي حقّقها الفلاسفة في البحث عن اتّحاد العاقل والمعقول ، والمراد من العاقل هو الإنسان العالم بالشيء ، ومن المعقول هو الصورة الذهنيّة.

فيجب أن يكون وجود الصورة بوجه يتّحد مع النفس ، اتّحاد العرض مع جوهره في الوجود ، وإلاّ فلو عدّت النفس ظرفاً للصورة ، والصورة شيئاً موجوداً فيه ، كانت أشبه شيء بالصورة المنعكسة في المرايا.

اجابة عن سؤال :

لقد اتّضح ممّا ذكرنا : إنّ الصور الذهنية على نوعين :

1. صور منتزعة من الخارج ، ومأخوذة عنها مباشرة.

2. صور غير منتزعة من الخارج ، وإنّما تعدّ من صنائع النفس ومخلوقاته ، وعلى هذا فينطرح السؤال التالي :

إنّ اللّه سبحانه يقول : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( النحل / 78 ).

والآية صريحة في أنّ مفاتيح العلم ، وصيرورة الإنسان غير العالم عالماً هو « الحواس » ومع ذلك فكيف يمكن أن يقال إنّ هناك مفاهيم وصور معلومة للإنسان

ص: 309

غير واردة إلى الذهن من الخارج عند اتّصاله به.

الجواب :

لا شك انّ كلّ ما يقف عليه الإنسان وليد صلته بالخارج وارتباطه به ، فلو ولد الإنسان فاقداً لحواسّ تربطه بالخارج ، لما انقدح ولا ظهر في ذهنه شيء ، ولأجل ذلك يقول الفيلسوف الإسلامي « أبو علي » : « من فقد حسّاً فقد علماً » (1).

ويقول « جون لاك » : « ليس في العقل شيء إلاّ وقبله في الحسّ شيء آخر ».

ومع هذا فإنّ المفاهيم على قسمين :

1. ما تؤخذ مباشرة من الخارج ، ويكفي في هذا القسم مجرّد الارتباط ، كالصورة الواردة إلى الذهن ، من الحجر والشجر ، والقلم ، والمنضدة وما شاكل ذلك.

2. ما لا يؤخذ من الخارج بهذا النحو ، غير أنّ ارتباط الإنسان بالخارج واتّصاله به يهيئه ويعطيه استعداداً لأن يصنع هذه المفاهيم الكلّية ، بحيث لولا تلك الصلة لما استطاعت النفس البشرية أن تصنع تلكم المفاهيم.

وهذا مثل تصوّر « الإنسان الكلّي » ، فهذا المفهوم وإن لم يكن منتزعاً من الخارج كانتزاع صورة القلم عنه ، غير أنّ صلة الإنسان بهذا الفرد من البشر ، وذاك الفرد يعطيه قدرة لأن يصنع في محيط الذهن « مفهوماً كلّياً » قابلاً لأن يحكي عن كلّ ما يمكن أن يعدّ قدراً مشتركاً.

وبهذا الشكل يستطيع الإنسان أن يأخذ كثيراً من المفاهيم الّتي ليس لها

ص: 310


1- قد استفيض نقل هذا الكلام عن الشيخ الرئيس.

مصاديق واقعيّة في الخارج ، غير أنّ صلة الإنسان بالخارج توفّر له مقدرة على صنعها ، وذلك مثل كثير من المفاهيم كالمحالات والممتنعات والأرقام الرياضية بل المفاهيم الاعتبارية - على ما هو محقّق في محله -.

تعريف العلم بوجه آخر

إنّ أصحّ التعاريف واتقنها هو أن يقال : إنّ العلم عبارة عن « حضور المعلوم لدى العالم ».

ليس الهدف من التعريف ، التعريف الحقيقي حتّى يؤخذ عليه بأنّه مستلزم للدور لأخذ المعرِّف ، جزءاً للمعرَّف وإنّما الهدف الاشارة إلى واقعيّة العلم بوجه من الوجوه وإنّ ماهيّته حضور ما وقف عليه الإنسان عند النفس فحقيقة العلم ، حضور شيء لدى شيء.

وهذا التعريف يشمل العلم بقسميه الحصولي والحضوري.

غير أنّ الحاضر في الأوّل هو الصورة ، ونفس المعلوم بالذات دون المعلوم بالعرض ، أي الواقعيّة الخارجيّة.

وفي الثاني نفس الواقعيّة ( الخارجية أو الذهنية » من دون توسّط صورة بين العالم والمعلوم ، فلا ترد الاشكالات الّتي وردت على التعريف الأوّل.

وهذا يشمل علم الإنسان بذاته ، فإنّ ذات كلّ إنسان حاضرة لديه ، غير غائبة عنه كما هو مقرّر في أدلّة تجرّد النفس.

فالذات بما هي واقفة على نفسها تعدّ « عالماً » ، وبما أنّها مكشوفة لنفسها غير غائبة عنها تعد « معلوماً » وبما أنّ هناك حضوراً لا غيبوبة تتحقق ثمّة واقعيّة للعلم.

وهذا التعريف تعريف جامع يشمل كلّ أنواع العلوم الحاصلة في الممكن والواجب ، ويدخل تحته علم النفس ، بنفس الصورة الذهنية ، فإنّها بواقعيّتها الذهنيّة

ص: 311

حاضرة لديها بلا توسيط صورة بينها وبين الصورة.

إذا وقفت على هذه المقدمات فاعلم أنّ البحث في علمه سبحانه تارة يقع في علمه بذاته ، وثانياً في علمه بالأشياء.

فلنقدّم البحث الأوّل على الثاني.

علمه سبحانه بذاته :

فنقول : المراد من علمه سبحانه بذاته ، ليس علمه بها على نحو العلم الحصولي ، بمعنى أخذ صورة عن الذات ومشاهدتها عن طريق الصورة ، لأنّ العلم بها عن هذا الطريق محال في حقّه سبحانه ، لأنّ انتزاع الصورة فرع التعرّف على المنتزع ، فلو كان التعرّف عليها عن طريق انتزاع الصورة لزم الدور.

وإن قيل تقدّم الصورة الحاكية عن الذات ، يلزم تركّبه من صورة وذيها.

بل المراد حضور ذاته لدى ذاته ويمكن اثباته بوجهين :

الدليل الأوّل : لا شك إنّه سبحانه مبدئ لموجودات عالمة بذواتها ، أي حاضرة لديها بنفسها كالإنسان فلابدّ أن يكون سبحانه المعطي لذلك الكمال واجداً له بأتمّ وجه وأفضله ، إذ لا يمكن أن يكون معطي الكمال فاقداً له ، فهو واجد لهذه الصفة ، وذاته حاضرة لديه بأحسن ما يكون من معنى للحضور.

ونحن وإن كنّا لا نحيط بكيفيّة علمه وخصوصيّة حضور ذاته لديه سبحانه ، غير انّا نشير إلى هذا العلم ب « حضور ذاته لديه وعلمه بها من دون وساطة شيء في البين أبداً ».

وخلاصة القول بأنّه كيف يسوغ عند ذي فطرة إنسانيّة أن يكون واهب كمال ما ، ومفيضه ، قاصراً عن ذلك الكمال ؟ فيكون المستوهب أشرف من الواهب ، والمستفيد أكرم من المفيد ، وحيث ثبت استناد جميع الممكنات إلى ذاته ( تعالى ) التي هي وجوب صرف وفعليّة محضة ومن جملة ما يستند إليه هي الذوات العالمة ،

ص: 312

والمفيض لكلّ شيء أوفى بكلّ كمال ، لئلا يقصر معطي الكمال عنه ، فكان الواجب عالماً ، وعلمه غير زائد على ذاته (1).

الدليل الثاني : لا شكّ انّ الموجود المادي - بما له من وجود مادي - تغيب بعض أجزائه عن بعضه.

فالمادة بما أنّها متكمّمة ( أي لهاكم ) ذات أبعاض وأجزاء ولا يكون لها وجود جمعي لا يجتمع مجموع أجزائها في مقام واحد.

وبعبارة اُخرى : إنّ الكائن المادي بملاحظة كونه متكمِّماً متفرّق الأجزاء ولهذا تغيب بعض أجزائها عن البعض الآخر.

كما أنّه بحكم كونه موجوداً زمانياً تدريجياً وذا وجود سيّال ، متدرّج في عمود الزمان يقع بعضه في ما مضى من الزمان وبعضه الآخر في الحال ، وبعضه في المستقبل ولهذا لا يمكن أن يحصل ذاته بجميع أبعادها وخصوصيّاتها لديه جملة واحدة.

وبذلك تكون غيبة المادة زماناً وأبعاضاً أمراً مضاداً مع حضور الذات ، وما ذلك إلاّ لكون المادة - كما أسلفنا - شيئاً متكمّماً ذات كمّية وذات أجزاء وأبعاض ، أو زمانيّاً واقعاً بعضه في زمان ، وبعضه الآخر في زمان آخر.

وهذا يعني : إنّ التبعّض ، والتدرّج موانع وحواجب تحجب الشيء عن نفسه ، وتمنع من علم الشيء بكلّ ذاته.

وأمّا اذا كان الموجود منزّها عن عوامل الغيبة هذه ، كما لو كان مجرّداً منزّهاً عن المادة والماديّة وعن التبعّض العنصري المكاني ، أو التدرّج الزماني بل كان وجوداً بسيطاً من غير أن يكون له أجزاء وأبعاض وأطراف ، كانت ذاته حاضرة لديه

ص: 313


1- الاسفار : ج 6 ، ص 176.

حضوراً كاملاً ، مطلقاً.

وذلك مثل حضور النفس عند ذاتها وعلمها بذاتها وبقواها ، فإنّ حضور ذاتنا عند ذاتنا لايراد منه حضور أبعاض جسمنا ، بعضها عند بعض ، بل المراد حضور الإنسان المعبّر عنه بلفظة ( أنا ) المجرّد عن الزمان والمكان ، المنزّه عن التكمّم والتدرّج.

فلو فرضنا موجوداً في صعيد أعلى من التجرّد والبساطة وأتم تجرداً من النفس وعارياً عن عوامل غيبة الذات عن نفسها ، التي هي من خصائص الكائن المادي ، كانت ذاته حاضرة لديه ، وهذا يعني علم اللّه سبحانه بذاته ، فإنّه بمعنى حضور ذاته لدى ذاته بأتمّ وجه وأكمل.

وأنت أيّها القارئ الكريم إذا أمعنت النظر في ما تلوناه عليك يسهل لك نقد ما استدل به على عدم علمه بالذات ، وإليك بيانه :

العلم بالذات يستلزم التغاير بين العلم والمعلوم

استدل النافون لعلمه سبحانه بذاته بأنّ العلم نسبة ، والنسبة تتحقّق بين شيئين متغايرين وهما طرفان بالضرورة ، ونسبة الشيء إلى نفسه محال إذ لا تغاير هناك.

وقد أجاب عنه المحقّق الطوسي في التجريد بقوله :

« والتغاير اعتباري »

توضيحه : « إنّ المغايرة قد تكون بالذات وقد تكون بنوع من الاعتبار ، وهاهنا ذاته تعالى من حيث انّها عالمة مغايرة لها من حيث انّها معلومة ، وذلك كاف في تعلق العلم » (1).

ص: 314


1- كشف المراد : ص 175.

وإن شئت قلت : « إنّ ذات الباري تعالى باعتبار صلاحيتها للمعلوميّة في الجملة مغايرة لها باعتبار صلاحيتها للعالميّة في الجملة وهذا القدر من التغاير يكفي لتحقّق النسبة » (1).

وبعبارة ثالثة : إنّ الذات من حيث انّها عالمة مغايرة لها من حيث هي معلومة فصحّت.

وإلى ما ذكرنا يشير الفاضل المقداد من أنّ الصورة إنّما تعتبر في غير العلم بالذات كالعلم بالأشياء لا في العلم بالذات (2).

والحاصل : انّ التعدد والتغاير إنّما هو في العلم الحصولي ففيها الصور المعلومة غير الهوية الخارجيّة.

وأمّا إذا كان الذات بالذات نوراً وانكشافاً وعلماً وحضوراً فلا يشترط فيه التعدّد والتغاير بل يصحّ اطلاق العالم والمعلوم عليه بالحيثيتين.

فلأجل انكشاف ذاته لذاته يسمّى « علماً » وبحسب كون الذات مكشوفة تسمّى « معلوماً ».

وإن شئت قلت : باعتبار أنّه يدرك ذاته فلا تغيب ذاته عن ذاته فهو عالم.

وباعتبار أنّ الذات حاضرة لديه فهو معلوم.

وإلى ذلك يشير كلام أمير المؤمنين علي علیه السلام : « يا من دلّ على ذاته بذاته ».

إلى هنا تمّ الكلام في علمه سبحانه بذاته وحال حين البحث عن علمه بالأشياء وإليك البيان.

ص: 315


1- شرح القوشجي : ص 313.
2- ارشاد الطالبين : ص 201.
2 - علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد
اشارة

إنّ علمه سبحانه بالأشياء يتصوّر على وجهين :

الأوّل : علمه بها قبل الإيجاد.

الثاني : علمه بها بعد الإيجاد.

وقد اتّفق الحكماء على علمه بها بعده ، وإنّما اختلفوا في علمه بها قبله ، فهم بين مثبت وناف ، والمثبت بين كون علمه إجمالياً لا تفصيلياً ، وكونه كشفاً تفصيليّاً في عين البساطة والاجمال وإليك براهين المثبتين :

الدليل الأوّل : العلم بالسبب بما هو سبب ، علم بالمسبب

العلم بالعلّة بما هي علّة ، والحيثيّة التي هي سبب لوجود المعلول ، لا ينفك عن العلم بالمعلول ولتقريب الدليل نمثل بأمثلة :

أ : المنجّم العارف بالقوانين الفلكية والمحاسبات الجوية يقف على أنّ الخسوف أو الكسوف أو ما شاكل ذلك ، يتحقّق عند الوقت أو الوضع الفلاني ، وليس علمه بهذه المعلومات ناشئاً إلاّ من العلم بالعلّة من حيث هي سبب لكذا وكذا.

ب : إنّ الطبيب العارف بحالات النبض وأنواعه ، وأحوال القلب وأوضاعه ، يقدر على التنبّؤ بما سيحدث لهذا المريض مستقبلاً إذا عرف بحالة قلبه أو وضع نبضه ، وليس هذا العلم بالمعلول إلاّ من طريق العلم بالعلّة من حيث هي علّة لكذا وكذا.

ج : والصيدلي العارف بخصوصيّة مائع خاص وكونه سمّاً قاتلاً لا يطيق الإنسان تحمّله سوى دقائق ، يقف من العلم بهذه الخصوصيّة على أنّ شاربه سيقضي على حياته ، بشربه ذلك المائع.

ص: 316

واللّه سبحانه لمّا كان علّة للعالم إذ لا يستمدّ العالم بأجمعه وجوده من غير ذاته تعالى ، فالعلم بالذات علم بالحيثيّة الّتي هي سبب لتحقّق العالم وتكوّنه.

فالعلم بالذات ( كما عرفت ) علم بنفس النظام لأنّ النظام معلول له وصادر منه وهذا هو معنى قولهم الشائع : « العلم بالنظام الربّاني ، نفس العلم بالنظام الكياني ».

ويمكن توضيح البرهان ببيان مقدّمات.

الأُولى : إنّه تعالى علّة وفاعل لما عداه بحيث تكون الممكنات بجملتها مستندة إليه من وجوداتها وماهيّاتها ، غاية الأمر استناد جميع الوجودات الممكنات إليه تعالى يكون بالذات ، واستناد الماهيّات (1) إليه بالعرض.

الثانية : علّية شيء لشيء هي عبارة عن كونه على جهة وخصوصيّة يأبى أن لا يترتب عليه المعلول.

وإن شئت قلت : إنّ معنى علّية شيء لشيء اشتمال الشيء الأوّل على حيثيّة وخصوصيّة توجب - ايجاباً قطعياً - وجود المعلول في الخارج ، بحيث لولا هذه الحيثيّة لما يتحقّق المعلول.

ومن هذا يعلم انّ بين تلك الحيثيّة القائمة بالعلّة ووجود المعلول رابطة وصلة خاصة بحيث تقتضي نفس الحيثيّة ، ذلك المعلول ولولا تلك الصلة لكان نسبة المعلول إلى تلك الحيثيّة وغيرها سواسية مع أنّها ضرورية البطلان.

وبكلمة واضحة إذا كانت النار مبدأً للحرارة بحيث لا تنفك الثانية من الاُولى نستكشف عن رابطة بين الشيئين ، وإلاّ يلزم أن تكون نسبة الحرارة إلى النار وسائر

ص: 317


1- المراد بالماهيات هي خصوصيات الوجود وحدوده من المعدنية والنباتية والحيوانية فالخصوصيات التي تبيّن حد الوجود وتشخّصه خصوصيات خاصة تسمّى بالماهية المتحققة في الخارج بالوجود.

الأجسام سواسية وهذا بديهي البطلان.

نعم تلك الحيثيّة الّتي تعدّ مبدأً للعلّية ، تكون في العلل الماديّة زائدة على الذات وفي العلل العلوية وبالأخص الحق سبحانه نفس ذاته.

الثالثة : إنّ فاعليته تعالى لما عداه ، يكون بنفس ذاته ، لا بخصوصيّة طارئة عليه وجهة زائدة عليه فهو تعالى بنفس ذاته ، المحيط بكلّ شيء وقيّوم له ، فاعل لكلّ شيء كيف ، وإلاّ يلزم أن يكون في فاعليته مفتقراً إلى غيره (1) فيلزم أن يكون في وجوده أيضاً كذلك وهو خلف ، فالواجب فاعل في ذاته بذاته ، لا بحيثيّة متضمّة إلى ذاته تقييدية كانت أو تعليلية.

الرابعة : إنّه تعالى عالم بذاته وإنّ علمه بذاته عين ذاته - كما عرفت -.

إذا عرفت ذلك تقف على أنّ علمه بذاته مستلزم للعلم بمعاليله ومخلوقاته وإنّ أحد العلمين لا ينفك عن الآخر وذلك لأنّه إذا كان العلم بالحيثيّة مستلزماً للعلم بالمعلول وكانت تلك الحيثية حسب المقدمة الثالثة نفس ذاته ينتج إنّ العلم بالذات ، نفس العلم بالمعاليل والمعلومات.

وبعبارة اُخرى :

العلم بالجهة المقتضية للشيء الّتي هي العلّة حقيقة ( وهي في الواجب تعالى نفس ذاته ) مستلزم للعلم بما يترتّب عليها من المعلول.

ففرض تلك الذات في العين ، يلازم لازمها في العين ، وإذا حصلت في الذهن ، يترتّب عليها في الذهن قضاء لحكم اللزوم ، فالعلم بالسبب من حيث هو سبب ، مستلزم للعلم بالمسبب المترتّب عليه وهذا الاستلزام يتصوّر على أنحاء أكملها : أن يكون العلم بالمسبّب عين العلم بالسبب فيكون العلم بالسبب عين

ص: 318


1- قد ثبت في محله انّ الافتقار في الفعل لا ينفك عن الافتقار في الذات ، ولأجل ذلك قالوا واجب الوجود بالذات واجب من جميع الجهات.

العلم بالمسبب ، وذلك بناء على أن يكون المسبب بعينه موجوداً بعين وجود السبب على ما هو مقتضى بساطته (1).

وقد أشار إلى هذا البرهان طائفة من المتكلّمين والحكماء نذكر بعض كلماتهم :

1 - قال العلاّمة الحلّي في كشف المراد : إنّ كلّ موجود سواه ممكن ، وكلّ ممكن فإنّه مستند إلى الواجب إمّا ابتداءً أو بوسائط ، وقد سلف : إنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، واللّه تعالى عالم بذاته على ما تقدّم فهو عالم بغيره.

وقد أوضح العلامة الحلّي في المسألة السابعة من الفصل الخامس ( بحث الأعراض ) كيفيّة استلزام العلم بالعلّة العلم بالمعلول إذ قال ما هذا توضيحه : إنّ العلم بالعلّة يقع على ثلاثة أنواع :

أ - العلم بذات العلّة لا بالحيثيّة التي تستند إليه الأشياء ، فمثل هذا لا يستلزم العلم بالمعلول.

ب - العلم بها بما أنّها مستلزم لشيء آخر ومثل هذا العلم يلازم العلم بالمعلول لكن علماً غير تام بعامّة خصوصيّات المعلول.

ج - العلم بالعلّة بتمام خصوصيّاتها وذاتها ولوازمها وملزوماتها ، وعوارضها ومعروضاتها ، وما لها في ذاتها ومالها بالقياس إلى الغير.

وهذا هو العلم التام بالعلّة ، وهو يستلزم العلم التام بالمعلول فإنّ المعلول وحقيقته ، لازم للعلّة بهذه الحيثيّة.

فلو تعلّق العلم بالعلّة بهذه الحيثية يستلزم العلم بالمعلول (2).

ص: 319


1- درر الفوائد : ج 1 ، ص 485 - 467.
2- كشف المراد راجع المقصد الاول الفصل الخامس المسألة السابعة عشرة والمقصد الثالث المسألة الثانية.

واللّه سبحانه بما أنّه بسيط من كلّ الجهات فالعلم بالذات البحث البسيط ، هو عين العلم بالحيثيّة التي تصدر بها عنه الأشياء ، فمثل هذا العلم يلازم العلم بعامّة معلولاته على الترتيب الذي يصدر عنه.

2 - وقال صدر المتألّهين : إنّ ذاته سبحانه لمّا كان علّة للأشياء - بحسب وجودها - والعلم بالعلّة يستلزم العلم بمعلولها على الوجه الذي هو معلولها ، فتعلّقها من هذه الجهة لابد أن يكون على ترتيب صدورها واحداً بعد واحد (1).

وهذه العبارة تفيد : انّ علمه سبحانه بالأشياء قبل الخلقة محقّق حتى على الترتيب الذي توجد به الأشياء في نظام الأسباب والمسبّبات.

3 - وقال الحكيم الالهي السبزواري نظماً :

وعالم بغيره إذا استند *** إليه وهو ذاته لقد شهد

بالسبب العلم بما هو السبب *** علم بما هو مسبّب به وجب

ثمّ قال شارحاً ذلك :

وحاصله : انّ الأشياء في ذواتها مستندة إليه تعالى وهو تعالى علم بذاته ، والعلم بالعلّة بما هي علّة يقتضي العلم بالمعلول ، فهو تعالى ينال الكلّ من ذاته.

ثمّ التقييد بقولنا : « بما هو السبب » إشارة إلى أنّ المراد من العلم بالسبب : العلم بالجهة المقتضية للمسبب سواء كانت عين ذاته أو زائدة.

ولا شك انّها عين حيثيّة ترتب المسبب على السبب إذ التخلف عن السبب التام محال ، كما أشرنا إليه بقولنا : « به وجب ».

فكلّما حصلت « الحيثية » في ذهن أو خارج حصل ذلك المسبّب فيه ، إذ

ص: 320


1- الاسفار : ج 6 ، ص 275 وغيره مفصلاً ومختصراً.

اللازم ممتنع الانفكاك عن الملزوم ، وحكم المنجّم بما سيقع ، والطبيب الحاذق حيث يقول : الشيء الفلاني ينذر بكذا وكذا من هذا الباب (1).

الدليل الثاني : بسيط الحقيقة كلّ الأشياء

ربّما يستدل على علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد بالقاعدة الشريفة التي تفطّن إليها الفيلسوف الكبير صدر الدين الشيرازي وهي : « بسيط الحقيقة كلّ الأشياء على النحو الأتم الأكمل الأبسط » وهذه القاعدة تثبت علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد في مرتبة الذات بالتوضيح التالي :

إذا لاحظنا الوجودات الخاصة كالسماء والأرض ونحوهما نرى ثمّة وجوداً كوجود السماء - مثلاً - ولهذا الوجود حداً ، وينتزع من حدّه ماهيّة ، وهي ماهيّة السماء ، فيلاحظ حينئذ أشياء ثلاثة : ذات الوجود ، وحدّه ، والماهية المنتزعة من حد ، فينحلّ الملحوظ إلى ثلاثة :

1 - حقيقة الوجود.

2 - حد ذلك الوجود ، والمراد من الحد : فقدان تلك المرتبة من حقيقة الوجود الثابت لمرتبة اُخرى.

3 - الماهيّة المنتزعة من ذلك الحد التي تكون قالباً للوجود الخاص به.

فيكون الموجود - بعد الانحلال - مركباً من أشياء ثلاثة لا يكون المتحقّق منها إلاّ نفس الوجود.

وأمّا الحدّ فهو راجع إلى الفقدان ، كما أنّ الماهيّة أمر عدمي أيضاً ولكنّه صار موجوداً بالوجود ، ولولاه لما كان لها وجود.

فكلّ موجود كان مركّباً من هذه الاُمور الثلاثة أي من ( وجود وعدم وعدمي )

ص: 321


1- المنظومة قسم الفلسفة : ص 164.

فهو مركّب بأسوء أنواع التركيب الذي لا ينفك عنها الامكان.

إذا عرفت هذا ، فاللّه سبحانه بما أنّه لا كثرة في ذاته أبداً ، يجب أن يجمع في مقام ذاته كلّ وجود ، بحيث لا يشذّ عن وجوده وجود ، إذ لو صدق أنّه شيء ، وذلك الوجود شيء آخر مسلوب عنه سبحانه لصار محدوداً ، والمحدود يلازم الإمكان ، وكلّ محدود مركّب ، وكلّ مركّب ممكن ، فينتج أنّه لا شيء من الواجب ممكناً.

فعلى ذلك فوجوده سبحانه يجب أن يكون مع صرافته وبساطته جامعاً لكلّ وجود يتصوّر ، بحيث لا يمكن سلب وجود عن مرتبة ذاته ، وإلاّ يلزم تركيبه من : أمر وجودي ( وهو ذاته ) ، وأمر عدمي ( وهو سلب ذلك الوجود عن ساحة ذاته ) ، وكان استجماعه لكلّ شيء لا بنحو الكثرة والتعدّد حتى يلزم التركيب بصورة أسوء وأبشع ، بل ذلك الاستجماع يكون بنحو أتم وأعلى ، أي بشكل جمعي رتقي بحيث يكون في وحدته كلّ الوجودات ، ولا يكون اشتماله على هذه الكثرات والوجودات موجباً لإنثلام وحدته وانتقاض بساطته.

فوجوده سبحانه مشتمل وجامع لكلّ وجود ، لكن كلّ وجود ملغى عنه حده ، الذي تنتزع عنه ماهيّته وإن كان كماله موجوداً فيه.

وإن شئت توضيح هذا المطلب أكثر من ذلك فلاحظ حال الملكات بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنها.

فإنّ الملكة حالة بسيطة جامعة - على نحو الأتم والأبسط - فكان كلّ فعل يصدر منها وكلّ ظهور ينشأ منها ، فالإنسان الواجد لملكة النحو قادر على الإجابة عن كلّ سؤال يرد عليه ، وهذه الأجوبة الكثيرة الصادرة عنه بفضل تلك الملكة ، كانت موجودة في نفس الملكة ، لكن لا بتفاصيلها وخصوصيّاتها وحدودها وقيودها ، بل بكمالها ووجودها الأتم والأبسط ، إذ لولاها لكان معطي الكمال فاقداً له.

فكما أنّ الملكة - مع بساطتها - واجدة لكمال كلّ الأجوبة ، وكمال وجودها

ص: 322

لكن لا على نحو التمايز والخصوصيّات ، وإلاّ تلزم الكثرة ويلزم التركيب بشرّ صورها في « الملكة ».

فكذلك كلّ علّة واجدة لكمال معلولها ولبّ كمالها على النحو الأتم والأبسط.

إذا عرفت هذا ، فاستوضح للوقوف على استجماع ذاته تعالى لكلّ كمال صدر منه ولكلّ وجود ظهر منه ، من حديث الملكة.

فإنّ ما سوى اللّه من أرض وسماء ومن إنسان وحيوان ، ومن شجر وحجر ، كلّها موجودات تفصيليّة ، وتحقّقات امكانيّة ، لا يعقل أن تكون موجودة في ذاته سبحانه بهذه الكثرات والتفصيلات ، وإلاّ يلزم انقلاب البسيط إلى المركّب ، وانقلاب الواجب إلى الممكن ، وهو أمر لا يصح لأي حكيم أن يتفوّه به.

ومع ذلك كلّه فذاته سبحانه ذات كاملة مشتملة لكلّ كمال موجود في هذه الموجودات ، بل جامعة كذلك لجميع الوجودات لكن لا بخصوصيّاتها بل هي - بما أنّها وجود أتم وتحقّق أكمل - جامعة لتلك الكمالات بأشدّها وأكملها وأحسنها.

فكما أنّ « المائة » بوحدتها مشتملة على التسعين والثمانين مع شيء زائد ، لا بمعنى أنّ التسعين والثمانين موجودتان في المائة بنحو التفصيل بل بمعنى أنّ وجود المائة ببساطته تشتمل على كمال كلّ من الرقمين بنحو أتم وأكمل.

فاللّه سبحانه بحكم البرهان المذكور من أنّه لا يمكن سلب مرتبة من مراتب الوجود عنه ، وإلاّ لزم التركّب في ذاته ، وبفضل برهان آخر هو أنّ معطي الكمال لا يكون فاقداً له ، وجوده أكمل الموجودات ، وأتمّها ، فإذا فرض العلم بذاته وحضور ذاته لديه ، كان ذلك عبارة اُخرى عن علمه بالوجودات الامكانيّة لكن لا بوجه التفصيل ، بل بنحو البساطة والوحدة.

ص: 323

وهذا هو ما يقال من : « انّ وجوده سبحانه كشف إجمالي عن الأشياء بلا طروء تركيب وحدوث امكان ».

وعلى الجملة فاللّه سبحانه - بفضل هذين البرهانين - لا يمكن أن يشذّ عنه اي كمال وأي وجود وإليك اعادة البرهانين :

1 - لو صحّ سلب وجود عنه ، أو سلب كمال للزم تركيب ذاته سبحانه من « أمر وجودي وأمر عدمي » وهذا ممّا ينافي بساطته ، ويستلزم التركيب في ذاته تعالى ، وهو ملازم للامكان الموجب للاحتياج إلى العلّة.

2 - إنّ معطي الكمال لا يمكن أن يكون فاقداً له فاللّه الصادر منه كلّ الأشياء ، لا يصحّ أن يكون فاقداً لكمالات تلك الأشياء.

فعلى ذلك لا يمكن أن يكون وجوده سبحانه مثل سائر المراتب من الوجود بأن يكون وجدان ذاته عين فقدانه لوجود آخر ، ومع ذلك كلّه لا يمكن أن تكون تلك الكثرات الامكانية موجودة فيها بحدودها وخصوصيّاتها ، وإلاّ يلزم تركيب أسوأ من التركيب السابق.

فلا محيص من أن يكون ذلك الوجود البسيط مشتملاً على وجود أقوى ، وآكد من الوجودات الخاصّة ، المتشتتة ، المحدودة ، التي من حدودها يحصل التركيب من « الوجدان والفقدان » والعلم بهذا الوجود الآكد الأقوى ، نفس العلم بكلّ الكمالات ، وكلّ الوجودات التالية الصادرة منه.

فهو بوجوده الجمعي الواحد واقف على ذاته ، وواقف على كلّ ما يصدر منه.

وإن شئت فقل : إنّ صرف الوجود يجمع كلّ وجود ، ولا يشذّ عنه شيء ، ولكن المشتمل عليه هو ذات الوجود من كلّ شيء لا بخصوصيّته الخاصّة الناشئة عن حدّه. فالوجودات الخاصّة بخصوصيّاتها والماهيّات الموجودة بها غير متحقّقة في الأزل ، وإذ لم يكن المعلوم بخصوصيّته في الأزل لا يتصور العلم به كذلك ، ولكن

ص: 324

هناك وجوداً أكمل ومعلوماً أتمّ يكون العلم به أتمّ أنواع العلم بهذه الوجودات الصادرة منه.

إن قلت : كيف يصحّ أن يقال إنّ النحو الأدنى من كلّ وجود ، معلوم له سبحانه في الأزل حسب الفرض إذ كيف يصير النحو الأعلى من كلّ وجود ، والنحو الأظهر من كلّ تحقّق ، علماً بالنحو الأدنى ، مع أنّ النحو الأدنى من كلّ وجود لا يكون موجوداً في الأزل.

غير أنّ الاجابة عن هذا السؤال ، بعد التوجّه إلى ما مثّلنا من حديث « الملكة » واضح فإنّ العلم بتمام الشيء وكماله ، علم بمراتبه النازلة مثل كون العلم بالإنسان الذي هو عبارة عن الحيوان الناطق نفس العلم بالمراتب التالية من النبات والجماد.

وحينئذ يكون الوجود بالنحو الأعلى نفس التحقق للوجود الأدنى مع كمال آخر ، وجمال زائد.

وعلى ذلك فالمعلوم الامكاني ، وان لم يكن في الأزل بخصوصيّاته وتفاصيله لكنّه كمال وجوده وتمام تحقّقه موجود في الأزل بوجوده سبحانه فهو سبحانه - ببساطته - جميع الكمالات والجمالات ، والعلم بالذات لا ينفك عن العلم بتلك الكمالات التي لا تنفك عن العلم بما صدر عنه من الكمالات.

قال صدر المتألّهين :

لمّا كان وجوده تعالى وجود كلّ الأشياء - لما حققنا سابقاً من أنّ البسيط الحقيقي من الوجود يجب أن يكون كلّ الأشياء - فمن عقل ذلك الوجود عقل جميع الأشياء ، وذلك الوجود هو بعينه عقل لذاته ، وعاقل ، فواجب الوجود عاقل لذاته بذاته ، فعقله لذاته عقل لجميع ما سواه ، وعقله لذاته مقدّم على وجود جميع ما سواه ، فعقله لجميع ما سواه سابق على جميع ما سواه ، فثبت أنّ علمه تعالى بجميع الأشياء حاصلة في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه فهذا هو العلم الكمالي التفصيلي بوجه والاجمالي بوجه ، وذلك لأنّ المعلومات على كثرتها وتفصيلها

ص: 325

بحسب المعنى موجودة بوجودة واحد بسيط ، ففي هذا المشهد الالهي والمجلي الأزلي ينكشف وينجلي الكلّ من حيث لا كثرة فيها ، فهو الكلّ في وحده (1).

قال العلامة الطباطبائي : « إنّ ذاته المتعالية حقيقة الوجود الصرف البسيط الواحد بالوحدة الحقّة الذي لا يداخله نقص ولا عدم ، فلا كمال وجوديّاً في تفاصيل الخلقة بنظامها الوجودي إلاّ وهي واجدة له بنحو أعلى وأشرف ، غير متميّز بعضها من بعض لمكان الصرافة والبساطة فما سواه من شيء فهو معلوم له تعالى في مرتبة ذاته المتعاليّة علماً تفصيليّاً في عين الإجمال وإجماليّاً في عين التفصيل (2).

إلى هنا تمّ الكلام في علمه بأفعاله أي الأشياء قبل وجودها. بقي البحث عن علمه بها بعد الايجاد. وإليك الكلام فيه.

علمه سبحانه بالأشياء بعد الايجاد
اشارة

يستدل على علمه بالأشياء بعد ايجادها بوجوه :

الأوّل : قيام الأشياء به يستلزم علمه بها

إنّ الأشياء أعمّ من المجرّدات والماديّات - معلولة لله سبحانه على سبيل ترقّب الأسباب والمسبّبات ، وكلّ معلول حاضر بوجوده العيني عند علّته غير غائب ولا محجوب عنه ، فالأشياء في عين معلوليّتها نفس علمه العقلي بعد الإيجاد (3).

وتوضيحاً لهذا الدليل نقول :

إنّ كلّ موجود سواه فهو ممكن في وجوده ، معلول في تحقّقه - له سبحانه - و

ص: 326


1- الاسفار : ج 6 ، ص 270 - 271.
2- نهاية الحكمة : ص 289.
3- نهاية الحكمة : ص 290 ، الطبعة الجديدة.

ليس معنى المعلوليّة إلاّ تعلّقه وجوداً بالعلّة ، وقيامه بها قياماً حقيقيّاً ، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.

فكما أنّ المعنى الحرفي قائم - حدوثاً وبقاءً - بالمعنى الاسمي ، بحيث لو قطع النظر عن المعنى الاسمي لما كان للمعنى الحرفي تحقّق في وعاء الوجود ، فهكذا المعلول ، فصلته بالعلّة أشدّ من صلة المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.

فإذا قلنا « سرت من البصرة » فهناك معنىً اسميا من : السير ، والبصرة ، وهناك معنىً حرفيّاً وهو ابتداء السير من ذلك البلد.

فحقيقة الابتداء الحرفي ليس شيئاً مستقلاًّ ، بل هو أمر مندكّ قائم بالطرفين ، وهكذا مثل المعلول الصادر من العلّة ، بمعنى مفيض الوجود ، فليس للمعلول واقعيّة سوى قيامه بالعلّة ، واندكاكه فيها وتعلّقه وتدلّيه بها.

وما هذا هو شأنه لا يخرج عن حيطة وجود العلّة ، ومجال ثبوتها ، إذ الخروج عن ذلك المجال مساوٍ للانعدام ومساوق للبطلان.

وعلى الجملة : فالمعلول بالنسبة إلى العلّة كالوجود الرابط بالنسبة إلى « الوجود المستقل » فكما أنّ الوجود الرابط لا يستغني عن « الوجود المستقل » آناً واحداً من الآنات ، بل يستمد منه وجوده - كلّ وقت وحين - فهكذا المعلول يستمد وجوده - حدوثاً وبقاءً - من العلّة ، وما هذا شأنه لا يمكن أن يخرج عن حيطة وجود العلّة ، ومجال تحقّقه. ومعنى ذلك حضوره لدى العلّة وما نعني من العلم سوى الحضور.

ويتّضح من ذلك القاعدة أنّ الموجودات الامكانية بما أنّها فعله ، هي علمه أيضاً فهي بوجوداتها الامكانية علم لله علماً فعلياً.

وإن أردت مزيد توضيح فلاحظ الصور الذهنية ، فإنّ الصورة الذهنيّة أفعال للنفس مع أنّها في نفس الوقت علوم فعليّة لها ، فالعلم والفعل مجتمعان.

وهذا البرهان هو المنقول عن شيخ الاشراق وقد أوضحه المحقّقون.

ص: 327

قال العلاّمة الحلّي رحمه اللّه :

« إنّ كلّ موجود سواه ، ممكن ، وكلّ ممكن فإنّه مستند إليه ، فيكون عالماً به سواء أكان جزئياً أم كلّياً ، كان موجوداً قائماً بذاته أو عرضاً قائماً بغيره ، وسواء أكان موجوداً في الأعيان أو متعقّلاً في الأذهان ، لأنّ وجود الصورة في الذهن من الممكنات أيضاً فسيتند إليه ، وسواء كانت الصورة الذهنية صورة أمر وجودي أو عدمي ممكن ، أو ممتنع ، فلا يعزب عن علمه شيء من الممكنات ولا من الممتنعات.

ثمّ انّ العلاّمة رحمه اللّه وصف هذا الدليل بأنّه برهان شريف قاطع (1).

والحاصل : انّ وزان الممكن بالنسبة إلى الواجب وزان المعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي ، ووزان الوجود الرابط بالنسبة إلى الوجود التام المستقل ، فليس للمعلول واقعيّة سوى القيام والارتباط والتدلّي بالعلّة.

فما سوى اللّه - ماديّاً ومجرّداً ، جوهراً وعرضاً - مخلوق له ، فهو في عين الوجود قائم به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ومرتبط به ، وما هذا هو حاله لا يمكن أن يكون غائباً عن اللّه مستوراً عليه ، لأنّه وجوده قائم بوجود العلّة ، كما يكون المعنى الحرفي قائماً بالمعنى الاسمي.

وإن شئت قلت : إنّ وزان الممكن بالنسبة إلى الواجب وزان الفقير المطلق بالنسبة إلى الغني ، فالعالم بحكم فقره المطلق محتاج إليه في وجوده وتحقّقه ، في حدوثه وبقائه ، وما هذا شأنه لا يمكن غيابه ، لأنّ غيابه عن العلّة مساوق للإنعدام.

الثاني : سعة وجوده دليل على علمه بالاشياء

لقد أثبتت البراهين القاطعة على أنّ وجوده سبحانه مجرّد عن المادة والمدّة ،

ص: 328


1- كشف المراد : ص 175.

مجرّد عن الزمان والمكان ، فوجوده فوق كلّ قيد زماني أو مكاني ، وكلّ من كان كذلك فوجوده غير محدود وغير متناه لأنّ المحدوديّة والتقييد فرع كون الشيء سجيناً في الزمان والمكان ، فهذا هو الذي لا يتجاوز إطار محيطه ، وزمانه ، وأمّا الموجود المجرَّد عن ذينك القيدين ، المتجرّد من إطار الزمان والمكان بل الخالق لهما ، وللمادّة ، فهو فوق الزمان والمكان ، والمادّة ، والمدّة ، لا يحدّه شيء من ذلك العوارض ولا يحصر حاضر منها ، ولهذا لا يمنعه المكان من الإحاطة والسيطرة على ما قبله ، وما بعده.

ولتوضيح هذه الحقيقة نأتي بالأمثلة التالية :

1 - إنّ النملة الصغيرة الماشية على سجّادة منسوجة بألوان مختلفة لا يمكنها بحكم صغر جسمها ومحدوديّة حواسّها أن تشاهد إلاّ اللّون الذي تسير عليه دون بقية الألوان.

أمّا الإنسان الواقف على طاولة ، المشرف على تلك السجّادة فإنّه يرى جميع ألوانها ويحيط بكلّ نقوشها دون إستثناء ، لأنّه لا ينظر إليها من زاوية دون زاوية كما هي في تلك النملة.

2 - إنّ الإنسان الجالس في غرفة ، الناظر إلى خارجها من كوة صغيرة ، لا يمكنه مشاهدة إلاّ ناقة واحدة من قافلة النوق والابل التي تمرّ أمام الغرفه بعكس من يقف على سطح تلك الغرفة المشرف على الطريق من شاهق ، فإنّه يرى كلّ ما في تلك القافلة من الإبل والنوق جملة واحدة ، ومن دون أن يمنعه عن ذلك قيد المكان.

3 - إنّ الإنسان الجالس على حافة نهر جار لا يرى إلاّ بعض الأمواج المائيّة التي تمرّ أمام عينيه دون بقيّة الأمواج الكائنة في منبع النهر أو مصبّه بخلاف من يراقب ذلك النهر من طائرة هليكوبتر أو من فوق مكان شاهق ، فإنّه يرى جميع التعرّجات والتموّجات في ذلك النهر جملة واحدة وفي وقت واحد.

ص: 329

وإنّما يرى هؤلاء الأشياء جميعها بخلاف غيره لأنّه لا ينظر إليها من خلال المكان المحدود.

هذه الأمثلة وإن كانت أقلّ بكثير عمّا يناسب ساحته سبحانه غير أنّها تكفي لإلقاء بعض الضوء على الحقيقة ، وتقريب سعة علمه إلى الذهن.

وعلى الجملة فاللّه المجرّد عن الزمان والمكان ، المجرّد عن كلّ حدّ وقيد ، بما أنّه لا يحيط به شيء ، بل هو المحيط بالأشياء جميعاً ، لا يصحّ في مجال علمه تقديم وتأخير ، وماض وحاضر ، أو حاضر ومستقبل ، بل العالم بأجمعه حاضر لديه وهو يحيط بجميع ما خلق دونما استثناء.

وقد عرفت أنّه لا معنى لحقيقة العلم إلاّ حضور المعلوم لدى العالم ، فبما أنّ وجوده سبحانه وجود غير متناه ، لا يحدّه حدّ ولا يقيّده قيد ، فهو في كلّ الأزمنة والأمكنة ، وحاضر مع كلّ الأشياء والموجودات ، والاّ يلزم أن يكون وجوده محدوداً متناهياً ، وعند ذلك يتحقّق علمه بكلّ حاضر لديه ، وبكلّ ماثل فلا يغيب عن وجوده شيء ولا ذرّة.

وقد أشار الإمام علي علیه السلام إلى هذه الحقيقة إذ قال :

« إنّ اللّه عزّ وجلّ أيّنَ الأين فلا أين له ، وجلّ أن يحويه مكان ، وهو في كلّ مكان ، بغير مماسة ولا مجاورة ، يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره » (1).

الثالث : إتقان المصنوع دليل علمه

إنّ الكون - من حيث سعته ، واشتماله على أسرار ورموز - أشبه ما يكون بمحيط لا تعرف سواحله التي قد غمرته الظلمة ، وغابت شواطيه في جنح المجهول ،

ص: 330


1- الارشاد للمفيد : ص 108 ، قضايا أمير المؤمنين علیه السلام .

ولم يوفّق الإنسان إلاّ إلى كشف بعض سطوحه بما سلّطه من أضواء كاشفة له ، فيما لا تزال أعماقه غير مكشوفة له بل لا يزال القسم الأعظم من سطوحه مجهولة.

إنّ عالم الخلقة أشبه ما يكون بهذا المحيط فإنّ الإنسان رغم ما قام به من جهود جبّارة للتعرّف على حقائقه ، ورموزه ، لم يقف إلاّ على قدر قليل من أسراره بينما لا تزال أكثرها غير معلومة له.

يقول أحد الاختصاصيين في الطبيعة الحيوية والأبحاث النووية :

« لقدكنت عند بدء دراستي للعلوم شديد الاعجاب بالتفكير الإنساني ، وبقوّة الأساليب العلميّة إلى درجة جعلتني اَثِقُ كلّ الثقة بقدرة العلوم على حلّ أية مشكلة في هذا الكون بل على معرفة منشأ الحياة ، والعقل وادراك معنى كلّ شيء ، وعندما تزايد علمي ومعرفتي بالأشياء من الذرة إلى الأجرام السماوية ، ومن الميكروب الدقيق إلى الإنسان ، تبيّن لي أنّ هناك كثيراً من الأشياء التي لم تستطع العلوم حتّى اليوم اَنْ تجدَ لها تفسيراً أو تكشف عن أسرارها النقاب ، وتستطيع العلوم أن تمضي في طريقها ملايين السنين ومع ذلك فسوف تبقى كثير من المشكلات حول تفاصيل الذرّة والكون والعقل كما هي لا يصل الإنسان إلى حلّ لها أو الاحاطة بأسرارها » (1).

وقال أنيشتاين - عند ما كان واقفاً على درج مكتبته - : « إنّ نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى السماء » (2).

ويقصد بذلك : انّه لم يتسلّق من درجات العلم والمعرفة سوى درجات معدودة جداً ، وإنّ المسافة بين معلوماته إلى مجهولاته كالمسافة بين الأرض والسماء.

حقاً إنّ الإنسان عند ما يقيس حجمه بأحجام الأجسام والأجرام السماوية ، و

ص: 331


1- اللّه يتجلى في عصر العلم : ص 35 - 36 ، بول كلارنس ابرسولد.
2- رسالة الاسلام ، السنة الرابع العدد الاول 24.

ما بينها من فواصل وأبعاد ، يدرك مدى صغر حجمه وضآلة معلوماته وضحالة معارفه.

إنّ أضخم مكتبة توصلّت البشرية إلى تأسيسها في الوقت الحاضر هي الآن في أمريكان حيث تضم عشرة ملايين كتاباً ، وما يقوم في « لينينغراد » ، وما يوجد في متاحف بريطانيا ومع ذلك فإنّ كلّ هذه الكتب لا تتجاوز معلومات البشر حول الأرض وقليل جداً من الفضاء الخارجي.

إنّ ملاحظة كلّ جهاز بسيط أو معقد - كقلم أو كومپيوتر - يدلّنا على أنّ صانعه عالم بما يسود ذلك الجهاز من القوانين والعلاقات ، كما تدل دائرة معارف ضخمة على علم مؤلّفها وجامعها بما فيها.

إنّ المصنوع بما فيه من اتقان ودقّة ، وتركيب عجيب ونظام بديع ، ومقادير معيّنة يحكي عن أنّ صانعه مطّلع على هذه القوانين والرموز ، عارف بما يتطلبه ذلك المصنون منمقادير وأنظمة.

ومن هنا يشهد الكون ابتداءً من الذرّة الدقيقة إلى المجرّة الهائلة ، ومن الخليّة الصغيرة إلى أكبر نجم ، بما يسوده من أنظمة وقوانين ، وتخطيط بالغ الدقّة ، وتركيب بالغ الاتقان ، على أنّ خالق الكون عالم بكلّ ما تنطوي عليه هذه الأشياء وما يسودها من أسرار وقوانين ، وانّ من المستحيل الممتنع أن يكون جاهلاً.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل بقوله :

( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الملك / 14 ).

وقال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) ( سورة ق / 16 ).

ومن وقف على علم التشريح ظهر له ذلك ظهوراً تامّاً.

ص: 332

كلام للمحقق الطوسي

ثمّ إنّ المحقّق الطوسي استدلّ على علمه سبحانه بوجوه ثلاثة نذكر منها اثنين :

1 - الإحكام.

2 - استناد كلّ شيء إليه.

حيث قال : والإحكام واستناد كل شيء إليه من دلائل العلم.

وقال العلاّمة في شرح الدليل الأوّل : إنّه تعالى فعل الأفعال المحكمة ، كلّ من هو كذلك فهو عالم.

أمّا المقدّمة الأُولى فحسّية ، لأنّ العالم إمّا فلكي أو عنصري ، وآثار الحكمة والإتقان فيهما ظاهر مشاهد.

وأمّا الثانية فضروريّة لأنّ الضرورة قاضية بأنّ غير العالم يستحيل منه وقوع الفعل المحكم المتقن مرّة بعد اُخرى.

وقال في شرح الدليل الثاني : إنّ كلّ موجود سواه ممكن ، وكلّ ممكن فإنّه مستند إلى الواجب إمّا ابتداءً أو بوسائط ، وقد سلف أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، واللّه تعالى عالم بذاته ، فهو عالم بغيره (1).

جمل درّية لأئمة أهل البيت علیهم السلام

إنّ لأئمّة أهل البيت جملاً وكلماً درّية حول علمه سبحانه نقتبس منها ما يلي :

ص: 333


1- كشف المراد : ص 174 - 175 - طبعة صيدا 1353 ه.ق ، ولاحظ : كشف الفوائد له أيضاً : ص 1. طبعة طهران 1311 ه.ق.

1 - قال الإمام علي علیه السلام :

« علم ما يمضى وما مضى. مبتدع الخلائق بعلمه ومنشئها بحكمته (1).

2 - سأل منصور بن حازم الصادق علیه السلام : أرأيت ما كان وما هوكائن إلى يوم القيامة ، أليس فيعلم اللّه ؟ فقال : بلى قبل أن يخلق السماوات والأرض (2).

3 - سأل الحسين بن بشار أبا الحسن علي بن موسى الرضا علیه السلام : أيعلم اللّه الشيء الّذي لم يكن ، أن لو كان كيف يكون ؟ ولا يعلم إلاّ ما يكون ؟

فقال : إنّ اللّه تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء. قال اللّه عزّ وجلّ : ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3).

وقال لأهل النار : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (4).

فقد علم اللّه عزّ وجلّ أنّه لو ردّهم لعادوا لما نهوا عنه.

وقال للملائكة لمّا قالوا : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) . قال : ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (5). فلم يزل اللّه عزّ وجلّ علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها فتبارك ربّنا تعالى علوّاً كبيراً. خلق الأشياء وعلمه بها سابق لها كما شاء كذلك لم يزل ربّنا عليماً سميعاً بصيراً (6).

ص: 334


1- نهج البلاغة الخطبة 191.
2- التوحيد للصدوق : ص 135 باب العلم الحديث 5.
3- الجاثية : 29.
4- الأنعام : 28.
5- البقرة : 30.
6- التوحيد : ص 136 الحديث 8.
مراتب علمه سبحانه

قد تبيّن ممّا ذكرنا انّ علمه سبحانه بالأشياء ذا مراتب هي :

الأُولى : علمه سبحانه بالأشياء بنفس علمه بالذات ، وما عرفت من أنّ العلم بالذات علم بالحيثيّة الّتي تصدر بها المعاليل منه سبحانه ، والعلم بنفس الحيثيّة علم بنفس الأشياء.

وقد عرفت انّ هناك بياناً آخر لعلم اللّه سبحانه بالأشياء في مرتبة الذات قبل الإيجاد والخلق ، ويرجع أصلها إلى القاعدة الفلسفيّة : « بسيط الحقيقة كل الأشياء » والّذي معناه أنّه جامع كل كمال وجمال ولا يشذّ عن حيطته شيء.

الثانية : إنّ الأشياء بنفسها فعله وعلمه وانّه لا مانع من أن يكون فعل الفاعل نفس علمه ، كما أنّ الصور المرتسمة في الذهن فعل الذهن وعلمه ، وانّ القائم بوجوده الخارجي مرتبة من مراتب فعله.

هذا كلّه حسب البراهين الفلسفيّة الكلامية غير أنّ الذكر الحكيم دلّ على أنّ لعلمه سبحانه مظاهر خاصّة ، عبّر عنه :

تارة باللوح المحفوظ.

وثانية بالكتاب المسطور.

وثالثة بالكتاب المبين.

ورابعة بالكتاب المكنون.

وخامسة بالكتاب الحفيظ.

وسادسة بالكتاب المؤجّل.

وسابعة بالكتاب المطلق.

وثامنة بالإمام المبين.

ص: 335

وتاسعة باُمّ الكتاب.

وعاشرة بلوح المحو والأسباب ...

وعن اللوح المحفوظ قال سبحانه :

( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ( البروج / 21 و 22 ).

وعن الكتاب المسطور قال سبحانه :

( وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ ) ( الطور / 2 و 3 ).

وقال سبحانه :

( إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) ( الأحزاب / 6 ).

وقال عزّ اسمه : ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ) ( القمر / 51 - 53 ).

وعن الكتاب المبين قال سبحانه :

( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام / 59 ).

وقال سبحانه :

( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( يونس / 61 ).

وقال سبحانه :

( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( النمل / 75 ).

وعن الكتاب المكنون قال سبحانه :

( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ) ( الواقعة / 77 و 78 ).

ص: 336

وعن الكتاب الحفيظ قال سبحانه :

( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) ( ق / 4 ).

وعن الكتاب المؤجّل قال سبحانه :

( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلاً ) ( آل عمران / 145 ).

وعن الكتاب المطلق قال سبحانه :

( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) ( الاسراء / 4 ).

وقال سبحانه :

( لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( الأنفال / 68 ).

وقال سبحانه :

( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ ) ( الحج / 70 ).

وقال سبحانه :

( قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ) ( طه / 52 ).

وقال سبحانه :

( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ) ( الحديد / 22 ).

وعن الإمام المبين قال تعالى :

( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) ( يس / 12 ).

ص: 337

وعن لوح « اُمّ الكتاب » قال تعالى :

( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ( الرعد / 39 ).

( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الزخرف / 4 ).

وعن لوح المحو والاثبات ، يقول سبحانه : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ( الرعد / 39 ).

ثم إنّ المفسّرين ومثلهم الحكماء اختلفوا في حقيقة هذه الكتب وخصوصيّاتها ، فذهب الحكماء إلى أنّها موجودات مجرّدة كالعقول والنفوس المستتر فيها كل صغيرة وكبيرة.

وذهب آخرون إلى أنّها ألواح ماديّة سطّرت فيها الأشياء بكيفيّاتها وأسبابها الموجبة لها وأوقاتها المضروبة لها.

وقد استشكل عليه بأنّ ذلك يقتضي عدم تناهي الأبعاد ، وقد قامت البراهين العقليّة والنقليّة على خلاف ذلك ، فلابدّ من تخصيص ذلك بموجودات بعض النشآت.

فأجاب آخرون إلى أنّ الأشياء سطرّت فيها على نحو الرمز لا بالتفصيل.

غير أنّ كل هذه المذاهب والأقوال ممّا لا يصحّ الركون إليه فالمسألة من المعارف العليا التي يجب الايمان بها ولا يمكن التعرّف عليها.

القضاء من مراتب علمه

ثم إنّه ربّما يعد من مراتب علمه سبحانه « القضاء ».

والقضاء عندهم عبارة عن الوجود الإجمالي لجميع الأشياء ، كما أنّ القدر عبارة عن الوجود التفصيلي لها.

ص: 338

فبما أنّ الصادر الأوّل حاوٍ لكلّ كمال موجود في الكائنات والموجودات التالية ، هو قضاء اللّه سبحانه عندهم ومن مراتب علمه تعالى ، فالعلم به ، بجميع ما دونه من المراتب ، كما أنّ القدر عبارة عن الوجود التفصيلي للأشياء سواء كانت بصورها العلميّة القائمة الموجودات المجرّدة ، أم بوجودها الخارجي الشخصي.

فهذه مراتب علمه سبحانه ، غير أنّ الغور والتعمّق في بيان حقائقها من الاُمور العويصة التي لا يتمكن الإنسان من الوقوف عليها والتطلّع إليها من خلال هذه العلم.

نعم ، القضاء والقدر من المعارف العليا التي نطق بها القرآن الكريم ، وسنبحث عنها لدى الحديث عن عدله سبحانه سواء أصحّ تفسيرهما بالوجود الاجمالي للأشياء ، أو بالوجود التفصيلي لها أم لا.

وأخيراً نقول : إنّ هذه التعابير العشرة الواردة في القرآن الكريم ، يمكن ارجاع بعضها إلى البعض الآخر ، كما يمكن عدّ كل منها مرتبة مستقلة من مراتب علمه ، ويظهر ذلك بالغور في الآيات الواردة في هذا المجال.

شمول علمه تعالى للجزئيات
اشارة

إنّ للباحثين في علمه سبحانه بالأشياء مذاهب شتّى حتّى إنّ بعضهم أنكره من أصله.

كما أنّ للمثبتين آراء مختلفة أنهاها المحقق السبزواري إلى أحد عشر رأياً نشير إلى بعضها هنا :

الأوّل : إنّ له تعالى علماً بذاته دون معلولاتها لأنّ الذات المتعالية أزليّة ، وكل معلول حادث ، فلا يمكن أن يكون الحادث معلوماً في الأزل.

وقد عرفت بطلان هذا الرأي من وجوه مختلفة ، منها :

ص: 339

1 - إنّ العلم بالذات من الجهة الّتي تنشأ عنها المعلولات علم بنفس المعلول ، وقد أوضحنا هذا البرهان في ما سبق.

2 - إنّ بسيط الحقيقة كل الأشياء وإنّ العلم بالذات علم إجمالي بنفس المعاليل قبل الايجاد ، وقد أوضحنا هذا الدليل أيضاً.

الثاني : ما ينسب إلى شيخ الاشراق وتبعه فيه جمع من المحقّقين بعده ، هو إنّ الأشياء أعمّ من المجرّدات ، والماديات حاضرة بوجودها العيني لديه سبحانه وغير غائبة عنه تعالى ولا محجوبة ، وهو علمه التفصيلي بالأشياء بعد الإيجاد.

وقد عرفت اتقان هذا القول ، غير أنّ علمه سبحانه بالأشياء لا يختصّ بهذا القسم إذ هو علم بالأشياء بعد الايجاد بالعلم الحضوري.

الثالث : إنّ ذاته المتعالية علم تفصيلي بالمعلول الأوّل ، واجمالي بما دونه ، وذات المعلول الأوّل علم تفصيلي بالمعلول الثاني ، وإجمالي بما دونه وعلى هذا القياس.

وقد عرفت إنّ خلو الذات الإلهية المقدّسة عن كمال العلم بما دون المعلول الأوّل غير تامّ ، كيف وهو وجود صرف لا يسلب عنه كمال.

الرابع : ما ينسب إلى المشائيين من أنّ له علماً حضورياً بذاته المتعالية ، وعلماً تفصيلياً حصولياً بالأشياء قبل ايجادها ، بحضور ماهيّاتها ( الصورة المرتسمة ) على النظام الموجود في الخارج لذاته تعالى ، وهذه الماهيّات قائمة به سبحانه نحو قيامها بأذهاننا فهوعلم عنائي له.

وفيه أنّ لازم ذلك خلو الذات عن العلم بالأشياء في مرتبة الذات. وقد عرفت ثبوته بالبرهانين المتقدّمين.

الخامس : إنّ علمه سبحانه بالمعلول الأوّل حضوري لحضور هويته الخارجية

ص: 340

لدى الذات وأمّا علمه سبحانه بسائر الأشياء فهو بارتسام صورها في ذلك المعلول الأوّل. واختاره المحقّق الطوسي.

غير أنّه يرد عليه ما أوردناه على ما تقدّم من استلزامه خلو الذات عن العلم بالأشياء ما سوى المعلول الأوّل.

السادس : وهو آخر الأقوال - حسب نقلنا - هو قول أكثر الفلاسفة ، وهو كون علمه سبحانه قبل الإيجاد بالأشياء علماً كليّاً ، وليس له علم بالجزئيات وانّه على حاله قبل وجود الأشياء وبعد وجودها من دون تغيّر.

هذه هي خلاصة الأقوال وعصارتها ، وهناك تفصيلات اُخر لا يهمّنا ذكرها ، وإنّما المهم اثبات علمه بالجزئيات ممّا وقع أو سيقع أو هو واقع ، واشباع البحث يتوقّف على البحث في مقامين :

الأوّل : اثبات علمه سبحانه بالجزئيات.

الثاني : نقد براهين النافين لذلك.

أمّا الأوّل فيمكن تقريره بوجهين :

1 - حضور الممكن لدى الواجب في كل حين

إنّ الكون - كما عرفت - موجود ممكن ونسبة الوجود والعدم إليه على السواء ، وإنّما تخرج من حد الاستواء بالعلّة الموجبة غير أنّ خروجه عن حد الاستواء لا يخرجه عن حد الامكان ، فهو قبل الخروج ومع الخروج وبعده ممكن بالذات ، مفتقر إلى الواجب مطلقاً وفي كل حين ولحظة ، فلا ينقطع افتقاره إلى الممكن ، بالايجاد أوّلاً ، بل هو في كل لحظة حدوثاً وبقاء قائم بالواجب مفتقر إليه مستفيض منه.

فإذا كان هذا هو حال الممكن فلا ينفك عنه حضور لدى العلّة ، وما هذا شأنه

ص: 341

فهو غير غائب عن العلّة في كل لحظة وآن ، وقائم به قيام الرابط بالمعنى الاسمي ، وليس لعلمه حقيقة وراء حضوره لدى العالم.

وعلى الجملة : فاذا كان الممكن قائماً بوجوده مع الواجب ومفتقر إليه في تحقّقه - حدوثاً وبقاء - وكان قيامه معه كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فهذا النحو من الوجود لا يقبل الغيبوبة وعدم الحضور ، فإنّ الغيبوبة مناط انعدامه وفنائه.

وكل من شك وتردّد في علمه سبحانه بالأشياء والجزئيات فقد غفل عن حقيقة نسبة المعلول إلى علّته ، فإنّ النسبة القائمة بينهما نسبة الفقير إلى الغني ، والمتدلّي إلى المتدلّى به ، والمعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، والرابط بالطرفين.

وهذه الكيفية نفس حقيقة الوجودات الامكانية الصادرة عنه سبحانه ، بحيث لو أخذت منه تلك النسبة لانعدمت ، وخرجت عن حيز الوجود ، أو انقلب اللامستقل إلى المستقل والممكن إلى الواجب.

فاذا كانت الوجودات الامكانية بعامّة أجزائها في عمود الزمان بهذه الكيفيّة والحالة فكيف يصحّ أن يتصوّر لها الغيبة من جانب العلّة وما هي إلاّ فرض انعدامها وفنائها.

لقد كشفت نظرية الحركة الجوهرية عن أنّ ذات المادة بعمقها وجوهرها في حال السيلان ، وإنّ الحركة ليست مختصّة بظواهر المادة وسطوحها ( أي بأعراضها ) بل السيلان والتدرّج والزوال والحدوث ، يعمّ جوهرها وصلبها وجودها وهويّتها أيضاً.

وبعبارة اُخرى : انّ التغيّر والحدوث المتجدّد ، لا يختصّ بصفات المادة وعوارضها ، بل يتطرّق هذا التغيّر إلى ذات المادة بمعنى أنّ الكون بجميع ذراته في تحوّل وتغيّر مستمرّين ، وإنّما يترآى للناظر من الثبات والاستقرار والجمود في مادة الكائنات الطبيعية ليس إلاّ من خطأ الحواس إذ الحقيقة هي غير ذلك ، فكل ذرّة من ذرات المادة خاضعة للتغيّر والتبدّل والسيلان.

ص: 342

قال الحكيم صدر الدين الشيرازي :

لقد تبيّن إنّ الأجسام كلّها متجددة الوجود في ذاتها ، وإنّ صورتها صورة التغيّر ، وكل منها حادث الوجود ، مسبوق بالعدم الزماني ، كائن فاسد ، لا استمرار لهويّاتها الوجودية ، ولا لطبائعها المرسلة ، والطبيعة المرسلة وجودها عين شخصياتها وهي متكثّرة ، وكل منها حادث.

وقال :

إنّ الطبائع الماديّة كلّها متحركة في ذاتها وجوهرها ، مسبوقة بالعدم الزماني فلها بحسب كل وجود معيّن مسبوقيّة بعدم زماني غير منقطع في الأزل (1).

وصفوة القول :

إنّ الحركة ليست إلاّ تعبيراً آخر عن كيفيّة وجود الشيء ، أي أنّ لوجود الشيء كيفيّتين : إمّا وجود قارّ ، أو وجود متدرّج ، وكانت المادة متحركة في جوهرها فإنّ معنى ذلك انّ لها وجوداً سيّالاً متدرجاً ينقضي بعضه بوجود البعض الآخر.

فإذا كان عالم المادة - بما أنّ وجوده متدرّج سيّال فلم يزل من حدوث إلى حدوث - لا ينفك عن محدث له ، وإذا كانت واقعيّة المادة هي نفس الحركة ، ولم يكن في امكان الحركة أن تقوم بنفسها ، فواقعيّتها نفس التعلّق والتدلّي مثل المصباح الكهربائي المتّصل بالمولّد الكهربائي فإنّه قائم بذلك المولد آناً فآناً ، وهذا هو معنى قولهم : إنّ الموجودات الامكانية متدلّيات بنفسها ومتعلّقات بغيرها.

فإذا كان مجموع العالم هذا هو حاله ، لم يزل يحتاج لامكانه المستمر وحدوثه الداعي إلى علّة تعطي الوجود في كل حين ، فهو لم يزل كعين نابعة ينبع من جانب ويصب في جانب آخر ، وليس للمادة - جوهراً وعرضاً - أي بقاء وثبات وصمود واستقرار ، بل الخلقة نفس التجدّد والتغيّر.

ص: 343


1- الاسفار : ج 7 ، ص 297 و 280 و 292 و 293.

إذا عرفت ذلك يظهر أنّه ليس للعالم حقيقة وراء الوجود التدريجي ، فهو سبحانه في كل حين ولحظة يفيض الوجود على الكون بجواهره وأعراضه من ذرّاته إلى مجرّاته ، وإن تصوّر الإنسان أنّ العالم خلق مرة واحدة وهو مستمر على الخلقة الاُولى ، لكنّه تصوّر مردود بالبرهان بل هناك ايجاد مستمر ، وابداع غير منقطع يحسب الجاهل له ثباتاً وصموداً.

وإذا كان الكون - بكل ما فيه - من الذرّة إلى المجرّة تجددات وحدوثات متلاحقة وأنّه سبحانه - في كل آن - ذو شأن أي ذو خلق وإيجاد وفعل وإبداع هذا من جانب.

ومن جانب آخر لا يمكن أن يكون المعلول غائباً عن حيطة العلّة لأنّ الغيبة تضاد وقيام المعلول بعلّته كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، ينتج أنّه سبحانه محيط بالأشياء إحاطة علميّة ، وقيوميّة.

فالعالم بذرّاته وكثراته ، فعله وخلقه وعلمه ومعرفته.

وبذلك يعلم : انّ انكار علمه سبحانه بالجزئيات ناشئ من الغفلة عن حقيقة الافاضة والخلقة في العالم أو عن حقيقة ارتباط المعلول بالعلّة.

وبهذا نقف على عظمة الجملة القائلة « إنّ اللّه بكل شيء عليم » فهي تعني : إنّه عالم بما مضى وما يأتي وما هو كائن ، وهي تحكي عن سعة علمه سبحانه وإحاطته سبحانه بكل ما في هذا الكون ، وبجميع رموزه ، وأسراره وجلائله ودقائقه.

وهذا هو ما تقصده النصوص الإسلامية في الكتاب والسنّة.

فهو سبحانه يصف علمه بقوله : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام / 59 ).

وقال تعالى :

( قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ

ص: 344

مَا فِي الأَرْضِ ) ( آل عمران / 29 ).

وقال تعالى : ( اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ) ( الرعد / 8 ).

وقال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق / 16 ).

وقال تعالى : ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ) ( سبأ / 2 ).

وقال تعالى : ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( سبأ / 3 ).

وقال تعالى : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( النمل / 74 - 75 ).

وقال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( المجادلة / 7 ).

وقال الإمام عليّ علیه السلام في هذا المجال :

« ولا يعزب عنه عود قطر الماء ، ولا نجوم السماء ، ولا سوافي الريح في الهواء ، ولا دبيب النمل على الصفا ، ولا مقيل الذرّ في الليلة الظلماء. يعلم مساقط الأوراق ، وخفِيّ طرف الأحداق » (1).

ص: 345


1- نهج البلاغة خطبة 178.

وقال علیه السلام : « يعلم عجيج الوحوش في الفلوات ، ومعاصي العباد في الخلوات ، واختلاف النينان في البحار الغامرات ، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات » (1).

وقال علیه السلام : « قد علم السرائر ، وخبر الضمائر ، له الاحاطة بكل شيء » (2).

التعبير الرفيع القرآني عن سعة علمه

إنّ من المفاهيم المعقّدة هو تصوّر مفهوم « اللامتناهي » بحقيقته وواقعيّته.

فإنّ الإنسان لم يزل يتعامل في حياته مع الاُمور المحدودة ولذلك أصبح تصوّر « اللامتناهي » أمراً مشكلاً في غاية الصعوبة عليه.

فهذه المنظومة مع ما فيها من السيّارات والكواكب رغم أنّها تعد جزءاً من مجرّتنا الواسعة الهائلة - ومع ذلك - فإنّ هذه المجرّة متناهية من حيث العدد والأجزاء ، ومن حيث الذرّات والألكترونات ، والبروتونات ، ومع السعة والحجم.

إنّ أكبر عدد تعارف الإنسان العادي على استخدامه في حياته هو رقم « المليارد » الذي يتألّف من رقم واحد أمامه تسعة أصفار ( 000/000/000/1 ).

ثمّ إنّ البشريّة بسبب تكاملها في العلوم الرياضية توصّلت إلى ما يسمّى بالأرقام النجومية ، ومع ذلك فإنّ كل ما توصّل إليه الإنسان من الأرقام - حتّى النجوميّة منها - لا يتجاوز كونه عدداً متناهياً.

إنّ القرآن الكريم يصوّر علمه سبحانه اللامتناهي بنحو خاص ، يختصّ

ص: 346


1- نهج البلاغة : خطبة 198.
2- نهج البلاغة : خطبة 86.

بالوحي ، فإنّه لا يستخدم الأرقام والأعداد الرياضية وحتّى النجوميّة منها ، لانتهائها إلى حد ، بل يأتي بمثل رائع يبيّن سعة علمه ، إذ يقول عزّ وجلّ : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( لقمان / 27 ).

إنّك لا تجد أي رقم رياضي مهما كان عظيماً وهائلاً ونجوميّاً قادر على تصوير سعة علمه سبحانه مثلما يصفها قوله : ( مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ ) .

فلو قال أحد : إنّ مقدار علمه - بلغة الحساب - هو العدد الواحد أمامه عشرات الأصفار لما أفاد هذا الرقم ما أفاده قوله : ( مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ ) .

وبذلك تقف على حقيقة قوله سبحانه : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) فإنّه يعبّر عن محدوديّة المقاييس والمقادير والمعايير البشرية ، كما يعبّر عن ضآلة علمه وضحالة معارفه.

دلائل النافين لعلمه سبحانه بالجزئيات
اشارة

قد عرفت البرهان الواضح على علمه سبحانه بالجزئيات وتبيّن لك أنّ الكون - بحكم كونه محتاجاً إلى المحدث حدوثاً وبقاء - وبحكم أنّ اللّه سبحانه موجد ومبدع في كل آن ولحظة ، فلا يمكن للكون أن يغيب عن ساحة العلّة ، وما هذا شأنه فهو ملازم للحضور ، وليس للعلم حقيقة وراء ذلك.

إذا وقفت على ذلك فهلمّ إلى دراسة ما يقوله النافون ، وما يقيمونه من دليل ، وهو لا يتعدّى دليلاً واحداً وقد عبّر عنه بتعابير مختلفة.

الأوّل : العلم بالجزئيات يلازم التغيّر في علمه

لو علم سبحانه بالجزئي على وجه يتغيّر لزم تغيّر علمه تعالى عند تغيّر المعلوم وهو محال.

ص: 347

وقد أوضحه العلاّمة بقوله : احتجّ الحكماء لنفي علمه بالجزئيات الزمانيّة بأنّ العلم يجب تغيّره عند تغيّر المعلوم وإلاّ لانتفّت المطابقة ، لكن الجزئيات الزمانيّة متغيّرة فلو كانت معلومة لله تعالى لزم تغيير علمه تعالى ، والتغيّر في علم اللّه تعالى محال.

وقال العلاّمة ابن ميثم البحراني في هذا الصدد :

ومنهم من أنكر كونه عالماً بالجزئيات على الوجه الجزئي المتغيّر ، وإنّما يعلمها من حيث هي ماهيّات معقولة ، وحجّتهم أنّه لو علم كون زيد جالساً في هذه الدار فبعد خروجه منها إن بقي علمه الأوّل كان جهلاً وإن زال لزم التغيّر ، لأنّ واجب الوجود ليس بزماني ولا بمكاني ، وليس ادراكه بالآلة وكل مدرك بجزئي زماني من حيث هو متغيّر ، يجب أن يكون كذلك ، فواجب الوجود لا يدرك الجزئي من حيث هو متغيّر (1).

وأجاب عنه المحقّق الطوسي بعبارة وجيزة بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن ».

وأوضحه العلاّمة الحلّي بقوله : « إنّ التغيّر هذا إنّما هو في الاضافات لا في الذات ولا في الصفات الحقيقيّة كالقدرة التي تتغيّر نسبتها ، واضافتها إلى المقدور عند عدمه ، وإن لم تتغيّر في نفسها ، وتغيّر الاضافات جائز لأنّها اُمور اعتبارية لا تحقّق لها في الخارج (2).

وحاصله أنّ العلم كالقدرة فلو استلزم تعلّق العلم بالجزئيات تغيّره عند تغيّر المعلوم يلزم أن يستلزم التغيّر في قدرته أيضا ، عند تعلّقها بالجزئيات لأنّ الجزئيات التي تتعلّق بها المقدرة هي في مسير التغيّر والتبدّل والتحوّل والتطوّر ، والقدرة من صفات الذات فما هو الجواب في جانب القدرة هو بعينه جار في جانب العلم.

ص: 348


1- قواعد المرام : ص 98.
2- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 176.

ويمكن توضيحه بوجه آخر أشار إليه المحقّق القوشجي في شرحه لتجريد الاعتقاد إذ قال : « إنّ علمه تعالى ليس زمانيّاً أي واقعاً في زمان كعلم أحدنا بالحوادث المختصّة بأزمنة معيّنة فإنّه واقع في زمان مخصوص ، فما حدث منها في ذلك الزمان كان واقعاً في الحال ، وما حدث قبله أو بعده كان واقعاً في الماضي أو المستقبل ، وأمّا علمه تعالى فلا اختصاص له بزمان أصلاً فلا يكون ثمّة حال وماض ومستقبل ، فإنّ هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى ما يختص بجزء منه إذ الحال معناه زمان حكمي هذا ، والماضي زمان قبل زمان حكمي ، والمستقبل زمان هو بعد زمان حكمي هذا فمن كان علمه أزليّاً محيطاً بالزمان وغير محتاج في وجوده إليه ، وغير مختص بجزء معين من أجزائه ، لا يتصور في حقّه حال ولا ماض ولا مستقبل فاللّه سبحانه عالم عندهم بجميع الحوادث الجزئيّة وأزمنتها الواقعة التي هي فيها لا من حيث إنّ بعضها واقع في الآن ، وبعضها في الماضي وبعضها في المستقبل ، بل يعلمها علماً شاملاً متعالياً عن الدخول تحت الأزمنة ثابتاً أبد الدهر ، وبعبارة اُخرى إنّه تعالى لمّا لم يكن مكانياً كان نسبته إلى جميع الأمكنة على السواء فليس فيها بالقياس إليه قريب وبعيد ومتوسط كذلك لما لم يكن هو تعالى وصفاته الحقيقيّة زمانيّة لم يتصف الزمان مقيساً إليه بالمعنى ، والاستقبال والحضور بل كان نسبته إلى جميع الأزمنة على السواء ، فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له كل في وقته ، وليس في علمه كان وكائن وسيكون ، بل هي حاضرة عنده في أوقاتها ، فهو عالم بخصوصيّات الجزئيات وأحكامها لكن لا من حيث دخول الزمان فيها بحسب أوصافها الثلاثة إذ لا تحقّق لها بالنسبة إليه تعالى ، ومثل هذا العلم يكون ثابتاً مستمرّاً لا يتغيّر أصلاً كالعلم بالكلّيّات (1).

هذا ما ردّ به القوم على الإشكال من الجواب.

ويمكن توضيحه بوجه آخر من دون تمسّك بأنّ التغيّر في الاضافات بأن نقول إنّ الإشكال إنّما يتوجّه إذا كان علمه تعالى حصولياً وإنّه سبحانه يصل إلى الجزئيات

ص: 349


1- شرح التجريد للقوشجي : ص 314.

بالصور العلميّة المرتسمة القائمة بذاته سبحانه ، وقد عرفت أنّ علمه بالجزئيات علمه حضوري ، وأنّ الأشياء بهوياتها الخارجيّة ، وحقائقها العينيّة « فعله » سبحانه وفي الوقت نفسه « علمه » فلا مانع من القول بطروء التغيّر في علمه سبحانه أثر طروء التغيّر في الموجودات العينيّة.

فإنّ التغيّر الممتنع على علمه إنّما هو على علمه الذاتي لا على علمه الفعلي ، لأنّ طروء التغيّر في العلم الذاتي يستلزم طروء الحدوث في ذاته سبحانه وهو لا يجتمع في وجوب وجوده بخلاف العلم الفعلي فإنّ العلم في مقام الفعل عبارة عن كون نفس الفعل « علمه » كما أنّ الصور الذهنيّة مع كونها فعلاً للنفس ، علم لها.

وبذلك يظهر ضعف اشكال آخر هو : إنّ ادراك الجزئيات إنّما يحتاج إلى آلة جسمانيّة وهو سبحانه منزّه عن ذلك لكونه منزّهاً عن الجسمانيّة.

فقد ظهر من البيان الحاضر أنّ هذا الاشكال ناشئ من الاعتقاد بأنّ علمه تعالى علم حصولي ، حاصل له تعالى عن طريق أعمال الآلات والأدوات الجسمانيّة للأبصار والإدراك مع أنّ علمه تعالى نفس فعله لا الصور المنتزعة عن فعله.

وربّما يستفاد هذا الجواب ممّا ذكره المحقّق القوشجي في شرحه المذكور إذ قال :

إنّ ادراك المتشكلات إنّما يحتاج إلى آلة جسمانيّة إذا كان العلم حصول الصورة ، وأمّا إذا كان اضافة محضة أو صفة حقيقيّة ذات اضافة بدون الصورة فلا حاجة إليها (1).

ص: 350


1- شرح تجريد الاعتقاد للقوشجي : ص 314.
الثاني : العلم بالجزئيات يستلزم الكثرة في الذات

إنّ العلم صورة مساوية للمعلوم مرتسم في العالم ولاخفاء في أنّ صور الأشياء المختلفة ، مختلفة ، فيستلزم كثرة المعلومات وكثرة الصور في الذات الأحدية من كل وجه.

ولكن الاشكال مبني على كون علمه بالأشياء علماً حصولياً مرتسماً في ذاته سبحانه كارتسام الأشياء في النفس الإنسانية ، فيلزم حدوث الكثرات في الذات الأحدية ، ولكنّه غير تام لأنّ علمه بالأشياء نفس هويّاتها الخارجيّة الحاضرة عنده.

وهذا العلم أقوى من ارتسام صور الأشياء.

الثالث : انقلاب الممكن واجباً

إنّ العلم لو تعلّق بالمتجدّد ، قبل تجدّده ، لزم وجوبه ، وإلاّ لجاز أن لا يوجد فينقلب علمه تعالى جهلاً ، وهو محال.

وبعبارة اُخرى : إنّ علمه لا يتعلّق بالحوادث قبل وقوعها ، وإلاّ يلزم أن تكون تلك الحوادث ممكنة وواجبة معاً ، والتالي باطل للتنافي بين الوجوب والامكان.

وبيان الملازمة أنّها ممكنة لكونها حادثة ، وواجبة أيضاً ، وإلاّ أمكن أن لا يوجد فينقلب علمه جهلاً.

وقد أجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله :

« ويمكن اجتماع الوجوب والامكان باعتبارين ».

وأوضحه العلاّمة الحلّي بقوله : إن أردتم وجوب علمه تعالى أنّه واجب الصدور عن العالم فهو باطل لأنّه تعالى يعلم ذاته ، ويعلم المعدومات ( فليس العلم هنا مصدر للمعلوم أي المعدوم ).

وإن أردتم وجوب المطابقة لعلمه فهو صحيح لكن ذلك وجوب لاحق

ص: 351

لا سابق ، فلا ينافي في الامكان الذاتي (1).

وإن شئت قلت : إنّ العلم إنّما هو تابع للمعلوم فلا يكون مفيداً لوجوبه ، فالعلم تعلّق بوقوعه بوصف أنّه ممكن بالذات فهي ممكنة لذواتها ، واجبة لغيرها ، وهو تعلّق علم الباري تعالى بوجوبها ، ولا تنافي بين الامكان بالذات والوجوب بالغير.

وبعبارة اُخرى : إنّ الممتنع هو اجتماع « الممكن بالذات » مع « الواجب بالذات ».

وأمّا اجتماع « الممكن بالذات » مع « الواجب بالغير » فهو أمر ممكن وجائز ، والمعاليل عند وجود العلّة التامة ممكنات بالذات ، واجبات بالغير.

وعلى ذلك فلو تعلّق علمه سبحانه بوجود حادث في وقت كذا ، فعلمه سبحانه لا يخرجه عن الامكان بالذات ، سواء قلنا بأنّ علمه سبب ، أو غير سبب ، إذ غاية ما يقتضي كون علمه سبباً ، هو وجوب وجوده بالغير ، وهو يجتمع مع الممكن بالذات.

فلو تعلّق علمه سبحانه بوقوع حادث في ظرف خاص الحادث وإن كان يقع قطعاً ولا يتخلّف ، غير أنّ ذلك الوقوع القطعي ، لا يخرجه عن الامكان الذاتي.

لأنّ معنى الامكان الذاتي مساواة الشيء إلى الوجود والعدم في حد الذات وهو محفوظ بعد لحوق العلّة واتّصافه بالوجوب الناشئ عن جانب العلّة ، فهو إذن ممكن ذاتي وإن كان واجباً بالغير.

وبذلك تقف على أنّه لا حاجة إلى القول بأنّ علمه ليس سبباً ومصدراً للمعلوم (2).

ص: 352


1- كشف المراد : ص 176.
2- كما عليه الفاضل القوشجي في شرحه على التجريد : ص 414.

فإنّ التحاشي عن ذلك في غير محلّه بل يجب أن يقال إنّ الحادث الذي يقع في ظرف خاص لا يخرج عن حد الامكان بعد تعلّق علمه ، وحصول العلّة التامّة لوجوده ، فالعالم كلّه ممكن لكن بالذات ، واجب بالغير.

الواحد والثمانون : « العظيم »

قد ورد لفظ العظيم مرفوعاً ومنصوباً في القرآن 107 مرّة ووقع وصفاً له في خمسة موارد :

1 - قال سبحانه : ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) ( الشورى / 4 ).

2 و 3 - وقال سبحانه : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ( الواقعة / 74 و 96 ).

4 - وقال سبحانه : ( إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ الْعَظِيمِ ) ( الحاقّة / 33 ).

5 - وقال سبحانه : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ( الحاقّة / 52 ).

بناءاً على أنّ العظيم في الآيات الثلاث صفة للرب لا للمضاف ، أمّا معناه فقال ابن فارس : العِظَم يدل على كبر وقوة ، وعظمة الذراع : مستغلظها ، ومن هذا الباب العظم المعروف سُمي بذلك لقوّته وشدّته ، قال الراغب : وعظم الشيء أصله كبر عظمه ، ثم استعير لكل كبير فاُجري مجراه محسوساً كان أو معقولاً ، عيناً كان أو معنى.

وما ذكره الراغب على طرف النقيض ممّا ذكره ابن فارس فإنّه جعل الأصل هو الكبر والقوّة ، وانّ اطلاقه على العظام لمناسبة موجودة بينهما ، والظاهر من مفردات الراغب عكس ذلك.

ص: 353

وقد جاء العظيم وصفاً لعدة اُمور في القرآن المجيد :

العذاب ، البلاء ، الأجر ، الفوز ، الفضل ، اليوم ، السحر ، الخزي ، العرش ، الكيد ، القرآن ، الكرب ، البهتان ، الطود ، الحظ ، الظلم ، الذبح ، الحنث ، النبأ ، القسم ، الخلق ، إلى غير ذلك ممّا يوصف به.

وأمّا عظمته سبحانه فهو عظيم ذاتاً ووصفاً وفعلاً وكلّ ما لغيره سبحانه من العظمة فهو يرجع إليه.

الثاني والثمانون : « العزيز »

ورد لفظة « العزيز » في الكتاب العزيز 148 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه 89 مرّة واقترن بصفات اُخر : الحكيم ، ذو انتقام ، القوي ، الحميد ، الرحيم ، العليم ، الغفور ، الوهّاب ، الغفّار ، الكريم ، المقتدر ، الجبّار.

قال ابن فارس : له معنى واحد يدلّ على شدّة وقوّة وما شاكلهما من غلبة وقهر.

وقال « الخليل » ربّما يستعمل فيما يكاد لا يوجد ، قال الخليل : عزّ الشيء حتى يكاد لا يوجد ، ولكن قال التعبير بلفظ آخر أحسن : هذا الذي لا يكاد يقدر عليه ، أي صعب المنال ، يقال عزّ الرجل بعد ضعف ، وأعززته إن جعلته عزيزاً.

وقال الراغب العزّة حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب من قولهم : أرض عزاز أي صلبة.

قال تعالى : ( أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا ) والعزيز الذي يقهِر ولا يقهر.

وما ذكره العلماء هو الظاهر من موارد استعماله في القرآن الكريم ، ولكن يحتاج إلى دقّة ولطف. مثلاً قوله سبحانه : ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) ( التوبة / 128 ) ،

ص: 354

المراد صعب وهو راجع إلى المعنى الأصلي للكلمة ، وهو القوي لكون كل صعب مقاوماً.

قال سبحانه : ( وَعَزَّنِي فِي الخِطَابِ ) ( ص / 23 ) أي غلبني في الخطاب.

وقول قوم شعيب له : ( وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) ( هود / 91 ) أي قويّ وغالب.

وعلى أي تقدير فقد جاء وصفاً له سبحانه في موارد كثيرة كما عرفت.

قال سبحانه : ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( آل عمران / 62 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران / 126 ).

وبما أنّه أُستعمل مع اسم « الحكيم » تارة ومع « ذي انتقام » ثانية ومع « القوي » ثالثة ، يعرب عن أنّه بمعنى الغالب القاهر الذي لا يغلب وهو « قوي » في الوقت نفسه « حكيم » يقهر عن حكمة وينتقم عن عزّ وقدرة ولو اجتمع مع « الرحيم » و « الغفور » يعرب عن أنّه غالب وفي الوقت نفسه سبقت رحمته كلّ شيء فلا يكون عزّه سبباً لعدم رحمتة وتجاوزه.

وبذلك يعلم أنّ ما احتمله الغزالي في تفسير « العزيز » تفسير غير تام ، قال : العزيز هو الذي يقل وجود مثله ، وتشتد الحاجة إليه ، ويصعب الوصول إليه فما لم تجتمع هذه المعاني الثلاثة فيه لا يطلق عليه اسم « العزيز » ، فكم من شيء يقل وجوده ولكن لا يحتاج إليه فلا يسمّى عزيزاً ، وقد يكون بحيث لا مثل له والانتفاع به عظيم جداً ولكن يسهل الوصول إليه فلا يسمّى عزيزاً كالشمس فإنّها لا مثل لها والانتفاع بها عظيم جداً ، ولكنّها لا توصف بالعزّة فإنّه لا يصعب الوصول إليها ، وأمّا إذا اجتمعت المعاني في شيء فهو « العزيز » (1).

ص: 355


1- لوامع البينات : ص 195 نقلا عن الغزالي.

يلاحظ عليه : أنّ تفسير « العزيز » بمعنى ما يقل وجود مثله مع ما عرفت من كلام ابن فارس في حقّه غير تام في تفسير هذا الاسم في كثير من الايات ، فإنّ تفسير قوله سبحانه : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) بأنّه ما النصر إلاّ من عند اللّه الذي لا مثل له ولا نظير غير منسجم لما تبيّن في محلّه ، إنّ كل اسم يقع في آخر الآية يجب أن يكون متناسبا مع ما ورد في الاية من المعنى ، وأي صلة بين النصر وبين كونه سبحانه لا نظير له ولا مثيل.

وروي عن الأصمعي أنّه قال : كنت في البادية وأقرأ القرآن بصوت عالٍ فقرأت الآية التالية بهذا النحو :

( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( المائدة / 38 ).

وكانت هناك أعرابيّة تسمع صوتي ، فقالت لي : لو كان غفوراً رحيماً لما أمر بقطع أيديهما ، فراجعت القرآن فرأيت أنّني أخطأت في التلاوة والآية ( وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

هذا ما فهمته الاعرابية بصفاء فطرتها ، وعلى ذلك فلا محيص عن تفسير العزيز في جميع الموارد على النحو الذي ذكره « ابن فارس » من القهر والقوّة والشدّة.

قال الصدوق معناه : انّه لا يعجزه شيء ولا يمتنع عليه شيء أراده ، فهو قاهر للأشياء غالب غير مغلوب فقد يقال في المثل « من عزّ بذّ » أي من غلب سلب ، وقوله حكاية عن الخصمين ( وعزّني في الخطاب ) أي غلبني في مجاذبة الكلام ، وقد يقال للملك عزيز كما قال اُخوة يوسف له « يا أيّها العزيز » والمراد به يا أيّها الملك (1).

والظاهر أنّ استعماله في الملك لمناسبة بينه وبين معناه فإنّ الملك يلازم

ص: 356


1- التوحيد للصدوق : ص 206.

القدرة والقهر والغلبة.

نعم يمكن تصحيح ما ذكره الغزالي بالبيان التالي وهو : إنّ من ليس له مثيل ولا نظير هو الغالب على الاطلاق دون ما إذا كان له مثيل فإنّه قد يغلب كما أنّ لازم كونه عزيزاً قاهراً عدم كونه محدوداً فانّ الحدّ آية المقهورية ولعلّه إلى ذلك يشير سبحانه :

( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الصافّات / 180 ).

وعلى أي تقدير فتفسير العزيز وما يشترك معه في الاشتقاق من قوله : « عزّزنا » « عزّاً » « عزّتك » « أعزّ » إلى غير ذلك حَسَب ما ذكرنا من المعنى الأصلي يحتاج إلى دقّة وأعمال قريحة.

الثالث والثمانون : « العفو »

لقد جاء العفو في الذكر الحكيم 5 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في جميع مواردها واقترن باسم الغفور تارة والقدير اُخرى.

قال سبحانه : ( لَيَنصُرَنَّهُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) ( الحج / 60 ).

وقال تعالى : ( وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) ( المجادلة / 2 ).

وقال تعالى : ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) ( النساء / 43 ).

وقال تبارك وتعالى : ( فَأُولَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) ( النساء / 99 ).

وقال تعالى : ( إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) ( النساء / 149 ).

ص: 357

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : له أصلان يدل أحدهما على ترك الشيء ، والآخر على طلبه ثمّ ترجع إليه فروع كثيرة لا تتفاوت في المعنى.

فالأوّل : العفو ، عفو اللّه تعالى عن خلقه وذلك تركه إيّاهم فلا يعاقبهم فضلاً منه.

قال الخليل كل من استحقّ عقوبة ; فتركته فقد عفوت عنه (1).

والظاهر أنّ العفو غير الترك بل هو المحو والازالة يقال عفت الديار إذا درست وذهبت ، قال لبيد في معلّقته :

عفت الديار محلّها فمقامها *** بمنى تأبّد غولها فَرِجامها

فعلى هذا العفو في حقّ اللّه تعالى عبارة عن إزالة آثار الذنوب بالكلّية فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين ولا يطالبه بها يوم القيامة ، وينسيها قلوبهم كي لا يخجلوا عند تذكرها - وأحياناً - يثبّت مكان كل سيّئة حسنة.

قال تعالى : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ( الرعد / 39 ).

وقال تعالى : ( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) ( الفرقان / 70 ) (2).

وعلى هذا فالعفو أبلغ من المغفرة لأنّ الغفران يشعر بالستر ، والعفو يشعر بالمحو ، والمحو أبلغ من الستر.

قال الصدوق : العَفوّ اسم مشتق من العفو على وزن فعول ، والعفو : المحو يقال عفا الشيء إذا امتحى وذهب ودرس ، وعفوته أنا إذا محوته ، ومنه قوله عزّ وجلّ : ( عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ) ( التوبة / 43 ) أي محى اللّه عنك إذنك لهم.

ص: 358


1- والأصل الثاني ذكره في آخر كلامه قال : والأصل الآخر الذي معناه : الطلب ، يقال : اعتفيت فلانا : اذا طلبت معروفه. وهذا الاستعمال قليل.
2- لوامع البينات : ص 338.

وجعل « الراغب » الأصل لمعنى العفو هو القصد (1) وقال العفو : القصد لتناول الشيء يقال عفاه واعتفاه أي قصده متناولاً ما عنده ، وعفت الريح الدار : قصدتها متناولة آثارها ، وعفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفاً عنه.

ولا يخفى أنّ ما ذكره ابن فارس أقرب بموارد استعمال العفو في الذكر الحكيم.

قال سبحانه : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ( آل عمران / 134 ) فلو كان العفو متضمّناً معنى القصد لقال والعافين للناس.

وقال سبحانه : ( يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) ( المائدة / 15 ).

وما ذكره الراغب هو الأصل الثاني في كلام « ابن فارس » حيث جعل له أصلين أحدهما ترك الشيء والآخر طلبه ولكلّ موارد ، والمعنى الثاني يناسب قوله سبحانه : ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) ( البقرة / 219 ).

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن يعفو عمّن ظلمه ولا يقطع برّه عنه بسب تلك الاساءة ولا يذكر ما تقدّم من أنواع الجفاء شيئاً من الشخص الذي يريد أن يعفو عنه ، قال تعالى : ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ) ( النور / 22 ).

فإنّه متى فعل ذلك فاللّه سبحانه أولى أن يفعل به ذلك.

روى الرازي عن عليّ علیه السلام انّه دعا غلاماً له فلم يجبه ، فدعاه ثانياً فلم يجبه وهكذا ثالثا فقام إليه فرآه مضطجعاً ، فقال : يا غلام أما سمعت الصوت ؟ فقال : بلى سمعت ، قال : فما منعك من الاجابة ؟ قال : ثقتي بحلمك واتكالي على عفوك ، فقال عليّ علیه السلام : أنت حرّ لوجه اللّه تعالى بهذا الإعتقاد (2).

ص: 359


1- ولعلّه الأصل الثاني في كلام ابن فارس.
2- لوامع البينات : ص 338.
الرابع والثمانون : « العليّ »

وقد ورد في الذكر الحكيم أحد عشر مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في ثمانية موارد ، واستعمل مع الكبير تارة والعظيم اُخرى والحكيم ثالثة.

قال سبحانه : ( وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) ( البقرة / 255 ).

وقال سبحانه : ( وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( لقمان / 30 ).

وقال سبحانه : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الشورى / 51 ).

وقال سبحانه : ( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ) ( النساء / 34 ).

أمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : للعلوّ أصل واحد يدلّ على السمو والارتفاع لا يشذّ عنه شيء من ذلك ، العلاء والعلو ، ويقولون : « تعالى النهار » أي ارتفع.

قال الخليل : أصل هذا البناء ، العلوّ ، فأمّا العلاء فالرفعة ، وأمّا العلو فالعظمة والتجبّر ، يقولون علا الملك في الأرض علواً كبيراً.

وعلى ذلك فالمراد من توصيفه سبحانه بعليّ هو علوّه من أن يحيط به أفكار المفكّرين ، ووصف الواصفين ، وعلم العارفين ، فهو تعالى لعلوّه لا تناله أيدي الخلوقات ولعظمته لا يعهده كثرة الخلق ، فهو العليّ المطلق لا غيره ، فإنّ العلو من الكمال وحقيقةُ كل كمال قائم به.

قال الصدوق في تفسير اسم العلي : إنّه تعالى عن الأشباه والأنداد وعمّا خاضت فيه وساوس الجهّال ، وترامت إليه فكر الضلاّل فهو عليّ متعال عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

ص: 360

قال علي علیه السلام : « الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصي نعمائه العادّون ، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون ، الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن ، الذي ليس لصفته حدّ محدود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود » (1).

ص: 361


1- نهج البلاغة : الخطبة 1.

ص: 362

حرف الغين

الخامس والثمانون : « غافر الذنب »

وقد جاء « غافر الذنب » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ، ووقع وصفاً له مع الصفات الاُخرى.

قال سبحانه : ( تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( غافر / 2 - 3 )

فقد وصف سبحانه في الآيتين بصفات ستّ ، واستعمل « غافر » بصيغة الجمع مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه باضافة لفظ الخير إليه.

قال سبحانه : ( فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / 155 ).

وجاء لفظ « الغفور » مرفوعاً ومنصوباً 91 مرّة ووقع وصفاً له في جميع الموارد ، واستعمل مع « الرحيم » تارة و « الحليم » اُخرى و « ذي الرحمة » ثالثاً و « الشكور » رابعاً ، و « العفو » خامساً ، و « العزيز » سادساً ، و « الودود » سابعاً.

كما أنّ « الغفّار » جاء 4 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه واقترن بالعزيز.

فله أسماء ثلاثة كلّها مشتق من « الغفر ».

1 - الغافر. قال تعالى : ( غَافِرِ الذَّنبِ ) ( غافر / 3 ).

2 - الغفور. قال سبحانه : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) ( الكهف / 58 ).

3 - الغفّار. قال تعالى : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ ) ( طه / 82 ).

ص: 363

والعبد له أسماء ثلاثة مشتقة من الظلم بالمعصية أو ما يعادله :

1 - الظالم. قال تعالى : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ) ( فاطر / 32 ).

2 - الظلوم.قال تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ) ( الأحزاب / 72 ).

3 - الظلاّم. قال تعالى : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ ) ( الزمر / 53 ).

والاسراف على الأنفس يعادل الظلاّم وكأنّه قال : عبدي لك أسماء ثلاثة في الظلم بالمعصية ولي أسماء ثلاثة في الرحمة والمغفرة ، فإن كنت ظالماً فأنا غافر وإن كنت ظلوماً فأنا غفور وإن كنت ظلاّماً فأنا غفّار (1).

أمّا معناه فقد قال ابن فارس : عُظم بابِه السترُ ، فالغفر : الستر ، والغفران والغفر بمعنىً ، يقال غفر اللّه ذنبه غفراً ومغفرة وغفراناً. قال في الغفر :

في ظلّ من عنت الوجوه له *** ملك الملوك ومالك الغفر

و « المغفر » معروف والغفارة خرقة يضعها المدهن على هامته ، وذكر عن امرأة من العرب أنّها قالت لابنتها : اغفري غفيرك تريد غطّيه. السادس والثمانون : « الغالب »

لقد جاء الغالب مفرداً في الذكر الحكيم ثلاث مرّات ووقع في موضع اسماً له سبحانه ، قال عزّ وجلّ :

( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( يوسف / 21 ).

وقال سبحانه : ( إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ ) ( آل عمران / 160 ).

وقال تعالى : ( وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي

ص: 364


1- لوامع البيّنات للرازي : ص 212.

جَارٌ لَّكُمْ ) ( الأنفال / 48 ).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس يدلّ على قوّة وقهر وشدّة.

قال اللّه تعالى : ( وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ) ( الروم / 3 ) وذكر مثله « الراغب » في مفرداته : قال سبحانه : ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ) ( البقرة / 249 ).

وأمّا المراد من قوله سبحانه : ( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) فإن كان الضمير راجعاً إلى يوسف ، فيكون المراد إنّ اللّه غالب على أمر يوسف ، يحفظه ويرزقه حتى يبلغه ما قدّر له من الملك ولا يكله إلى غيره ، وعلى تسليم هذا الفرض فرعاية يوسف مصداق من مصاديق القاعدة الكليّة وهو غلبته سبحانه على كلّ شيء.

وأمّا إذا قلنا أنّ الضمير يرجع إلى اللّه سبحانه فيكون المراد من الأمر هو نظام التدبير. قال تعالى : ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) ( يونس / 3 ). فيكون المعنى أنّ كلّ شيء من شؤون الصنع والايجاد ، من أمره تعالى وهو تعالى غالب عليه وهو مغلوب له يطيعه فيما شاء ينقاد له فيما أراد ليس له أن يستكبر أو يتمرّد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه أو يفوته.

قال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) ( الطلاق / 3 ).

وبالجملة أنّ اللّه تعالى هو قاهر كلّ شيء إذ لا شيء إلاّ بأمره حدوثاً وبقاء وعند ذلك فلا يتصوّر وجود شيء خارج عن إرادة اللّه وقدرته.

السابع والثمانون : « الغفّار »

وقد جاء اسم « الغفّار » في الذكر الحكيم معرّفاً ومنكراً خمس مرّات.

قال سبحانه : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) ( طه / 82 ).

ص: 365

وقال سبحانه : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ) ( نوح / 10 ). واستعمل مع العزيز في الموارد الثلاثة الآتية.

قال سبحانه : ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) ( سورة ص / 66 ). وقال عزّ من قائل : ( كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) ( الزمر / 5 ). وقال تعالى : ( وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ) ( غافر / 42 ).

واللّفظ صيغة المبالغة من الغفر وقد تبيّن معناه عند البحث عن اسم « غافر الذنب ».

الثامن والثمانون : « الغنيّ »

وقد جاء لفظ « الغنيّ » في الذكر الحكيم مرفوعاً ومنصوباً 20 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في ثمانية عشر مورداً واستعمل تارة مع إسم « الحميد » واُخرى مع « الحليم » وثالثاً مع « الكريم ».

قال سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ( البقرة / 267 ). وقال تعالى : ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) ( البقرة / 263 ).

وقال سبحانه : ( مَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ( النمل / 40 ).

وأمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : له أصلان أحدهما يدلّ على الغاية والآخر صوت ، فالأوّل الغنى في المال.

وقال « الراغب » : الغناء يقال على ضروب أحدها عدم الحاجات وليس ذلك إلاّ لله تعالى وهو المذكور في قوله : ( إِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) والثاني قلّة الحاجات ، وهو مشار إليه بقوله : ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) .

والظاهر أنّه ليس له إلاّ معناً واحداً وإنّما الاختلاف في المصاديق والجري ، فالغني المطلق هو اللّه سبحانه ، وأمّا غنى الغير هو أمر نسبي.

ص: 366

وأمّا كونه سبحانه غنيّاً غير محتاج إلى شيء فهو لازم كونه سبحانه واجب الوجود لذاته وواجب الوجود في صفاته وأفعاله فكان غنيّاً عن كل ما سواه. أمّا كل ما سواه فممكن لذاته فوجوده بايجاده. فكان هو الغني لا غيره.

فله العزّ والجمال ، وله البهاء والكمال ، وما للغير من الجمال ، من رشح بحر جماله ، أو له من الكمال ، فهو ظل كماله. وما أليق بالمقام قول القائل :

أرأيت حسن الروض في آصاله *** أرأيت بدر التم عند كماله

أرأيت كأساً شيب صفو شمولها *** أرأيت روضاً ريض خيل شماله

أرأيت رائحة الخزامي (1) سحرة *** فغمت خياشيم العليل الواله

هذا وذاك وكلّ شيء رائق *** أخذ التجمّل من فروع جماله

هلك القلوب بأسرها في أسره *** شغفا وشدّ عقولنا بعقاله (2)

التاسع والثمانون : « الغفور »

وقد ورد ذلك اللفظ مرفوعاً ومنصوباً 91 مرّة واُستعمل مع صفات اُخر مثل « رحيم » ، « عفوّ » ، « عزيز » ، « شكور » ، « الودود » و « الحليم ».

قال سبحانه : ( ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / 27 ).

وقال سبحانه : ( وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) ( الحج / 60 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) ( فاطر / 28 ).

ص: 367


1- الخزامي : نبت ، زهرة من أطيب الأزهار.
2- شرح الاسماء الحسنى : ص 40.

وقال سبحانه : ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) ( فاطر / 30 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) ( البروج / 13 - 14 ).

وقال سبحانه : ( وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) ( فاطر / 41 ).

واللفظ من الصفات المشبّهة بالفعل وصيغته للمبالغة وقد تبيّن معناه من ما ذكرناه في اسم « غافر الذنب ».

ص: 368

حرف الفاء

التسعون : « الفاطر »

قد ورد اسم الفاطر في الذكر الحكيم 6 مرّات ووقع في الجميع اسماً له سبحانه.

قال سبحانه : ( أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( الأنعام / 14 ).

وقال سبحانه : ( فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) ( يوسف / 101 ).

وقال عزّ من قائل : ( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( إبراهيم / 10 ).

وقال سبحانه : ( الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً ) ( فاطر / 1 ) (1).

وقد استعمل ذلك الاسم في جميع الموارد مضافاً إلى السموات والأرض نعم استعمل « فطر » متعدّياً إلى الناس.

قال سبحانه : ( فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ) ( الروم / 30 ).

ص: 369


1- لاحظ الزمر / 46 - الشورى / 11.

و أمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : يدلّ على فتح شيء وابرازه ومن ذلك « الفطر » بالكسر من الصوم ومنه « الفطر » بفتح الفاء وهو مصدر فطرت الشاة فطراً إذا حلبتها ، ثمّ قال والفطرة الخلقة ، وقال الراغب : أصل الفطر : الشق طولاً ، قال : ( هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ) ( المُلك / 3 ) أي اختلال ، وقال تعالى : ( السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) ( المزّمل / 18 ) ، وفطرت الشاة : حلبتها باصبعين ، وفطرت العجين إذا عجنته وخبزته من وقته ، ومنه الفطرة ، وفطر اللّه الخلق وهو إيجاده وابداعه على هيئة مترشّحة لفعل من الأفعال.

والمحصّل من كلامهما : إنّ الفطر بمعنى الفتح والشق حتى إنّ نسبة الفطر إلى العجين لأجل أنّه يحتاج إلى البسيط والقبض حتى يكون قابلاً للطبخ.

إنّما الكلام في استعماله في الايجاد والابداع والظاهر أنّ وجه استعماله فيهما هو انّ الخلقة يشبهها بشق العدم وفتحه وإخراج الشيء إلى ساحة الوجود.

يقول العلاّمة الطباطبائي (رحمه اللّه) في تفسير قوله : ( فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : أخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود (1).

وقال في موضع آخر : « إنّ اطلاق الفاطر عليه تعالى بعناية استعارية كأنّه شق العدم فأخرج من بطنه السموات والأرض. فمحصّل معناه إنّه موجد السموات والأرض ايجاداً ابتدائيّاً من غير مثال سابق ، فيقرب معناه من معنى « البديع » و « المبدع » ، والفرق بين الابداع والفطر ، إنّ العناية في الابداع متعلّقة بنفي المثال السابق ، وفي الفطر بطرد العدم وإيجاد الشيء من رأس لا كالصانع الذي يؤلّف موادّاً مختلفة فيظهر به صورة جديدة فقوله : ( فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) من أسمائه تعالى أجرى صفة لله ، والمراد بالوصف الاستمرار دون الماضي فقط ، لأنّ الإيجاد مستمر وفيض الوجود غير منقطع ولو انقطع لانعدمت الأشياء » (2).

ص: 370


1- الميزان : ج 7 ، ص 29.
2- المصدر السابق : ج 17 ، ص 6.
الواحد والتسعون : « فالق الإصباح »

قد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة وجرى وصفاً له سبحانه قال : ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) ( الأنعام / 96 ).

وأمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : يدلّ على فرجة وبينونة في الشيء وعلى تعظيم شيء. فمن الأوّل فلقت الشيء أفلقه فلقاً ، والفلق الصبح لأنّ الكلام ينفلق عنه ، ومن الثاني الفليقة وهي الداهيّة العظيمة ، وقال الراغب : « الفلق » : شق الشيء وإبانة بعضه عن بعض ، قال تعالى : « فالق الاصباح » و « إن اللّه خالق الحب والنوى » ، « فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم » وقوله : ( أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) أي الصبح.

فتوصيفه سبحانه بفالق الاصباح ، لأجل انّه يشق الظلمة ويتجلّى من صميمها النور.

فقد تضمّنت الآية ثلاث آيات سماوية :

1 - فالق الإصباح.

2 - وجعل الليل سكناً.

3 - والشمس والقمر حسباناً.

والمراد من الاصباح هو الصبح. قال امرؤ القيس :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي *** بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فالمراد من فلق الإصباح هو اخراج النور من الظلمة الهائلة المنبسطة في السماء كل ذلك عن طريق ربط الأسباب بالمسبّبات ، وطروء الوضع الخاص للأرض بالنسبة إلى الشمس كما أنّ المراد من الآية الثانية هو ما جاء في قوله : ( وَمِن رَّحْمَتِهِ

ص: 371

جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( القصص / 73 ).

والمراد من السكون أعم من سكون البدن والروح ، فالبدن يستريح من تعب العمل بالنهار والنفس تسكن بهدوء الخواطر والأفكار ، والمراد من جعل الشمس والقمر حسباناً هو كونهما مظاهر للحساب لأنّ طلوعهما وغروبهما وما يظهر منهما من الفصول كل ذلك بحساب.

قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ ) ( يونس / 5 ).

الثاني والتسعون : « فالق الحبّ والنّوى »

وقد ورد مرّة واحدة وجرى وصفاً له سبحانه.

قال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) ( الأنعام / 95 ).

قال الراغب : فالحبّ والحبّة يقال في الحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات.

قال تعالى : ( كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ( البقرة / 261 ).

وأمّا النّوى فالمراد منه نوى التمر.

قال في المقاييس : فاللّه سبحانه يشق الحبّ والنّوى فينبت منهما النبات والشجر اللذين يرتزق الناس من حبّه وثمره فالآية بصدد بيان قدرته ولأجل ذلك يذكر قوله : ( يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ) .

ص: 372

وقد تضمّنت الآية ، ثلاث آيات أرضية أعني :

1 - فالق الحبّ والنّوى.

2 - يخرج الحىّ من الميّت.

3 - ومخرج الميّت من الحىّ.

والكل آيات أرضية والمعنى أنّه سبحانه فالق ما يزرعه البشر من حب الحصيد ، ونوى الثمرات ، وشاقّه بقدرته ، وبذلك يبيّن قدرته على ربط علل الإنبات والنمو بمسبّباته وذلك بتقديره.

وإنّما خصّ بالذكر خصوص حالة فلق الحب والنّوى من بين سائر الحالات مع أنّه ستمر على الحبّ والنّوى حالات وتطرء عليهما مراحل مختلفة من النمو حتى يصير زرعاً أو شجراً وإنّما خصّ ذلك لأنّ لتلك الحالة من بين سائر الحالات أهمّية خاصّة تشبه بحالة خروج الطفل من بطن اُمّه بعد ما كان محبوساً فيها بين ظلمات ثلاث ، والحبّ والنّوى يمثّلان قلاعاً مستحكمة تحتفظ فيها المادة الحيوية للنباتات فاذا صارت الظروف مستعدّة لخروجها ونموّها وانتشارها ; تتحرك الحبّة بالتشقّق والتفتّح فتأخذ البذرة والنّوى مسيرها نحو التكامل.

وأمّا البحث حول الاية الثانية والثالثة الواردتين في هذه الآية المباركة أعني اخراج الحي من الميّت واخراج الميّت من الحي فقد ركّز القرآن على هذين العملين في غير مورد من الآيات.

يقول سبحانه : ( تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( آل عمران / 27 ).

وهاتان الآيتان من السنن العامّة الإلهية التي يركّز عليهما القرآن الكريم. والذي يناسب المقام هو أن يقال : إنّ المراد من خروج الحيّ من الميت هو اخراج البذر من نبات وشجر وهو حيّ متغذ نام ، من الميت أعني التراب وهو ما لا يتغذّى

ص: 373

ولا ينمو وبعبارة اُخرى خلق الأحياء من النبات والحيوان من الأرض العادمة الشعور والحياة.

كما أنّ المراد من قوله : ( وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ) هو عود الخلايا الحيوية إلى الموت بعد مدّة.

ويمكن أن يقال : إنّ المراد هو إخراج الحبّ والنوى من النبات ، فإنّ الحبّ والنوى حسب اللغة والعرف ليسا من الموجودات الحيّة وإن كانا حسب موازين العلوم الطبيعية حاويتين لموجودات صغيرة حيّة.

هذا إذا قمنا بتفسير الآية حسب السياق ويمكن أن يقال : المراد من اخراج الحي من الميّت ومقابله هو اخراج المؤمن من صلب الكافر ، وإخراج الكافر من صلب المؤمن فإنّه سبحانه سمّى الايمان حياة ونوراً ، والكفر موتاً وظلمة كما قال تعالى : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) ( الأنعام / 132 ).

الثالث والتسعون : « الفتّاح »

قد ورد « الفتّاح » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى : ( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ) ( سبأ / 26 ).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : إنّه أصل يدلّ على خلاف الاغلاق ، يقال فتحت الباب وغيره فتحاً ثمّ يحمل على هذا سائر ما في هذا البناء فالفتح والفتاحة : الحكم ، واللّه تعالى الفاتح أي الحاكم ، قال الشاعر في الفتاحة :

ألا أبلغ بني عوف رسولاً *** بأنّي عن فتاحتكم غنيّ

ص: 374

والفتح : النصر والاظفار وقريب من ذلك في « المفردات » غير أنّه قسّم الفتح على قسمين : يدرك بالبصر كفتح الباب وقسم يدرك بالبصيرة كفتح الهمّ ، قال : « ويقال فتح القضية فتاحاً : فصل الأمر فيها وأزال الاغلاق ». قال تعالى : ( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) ( الأعراف / 89 ).

وعلى هذا ف « الفتّاح » من أسماء اللّه الحسنى وهو بمعنى الحاكم في الآية ، ويؤيّده ذكر العليم بعده ، ولا يراد منه الفاتح بمعنى المنتصر ، وإلاّ لكان المناسب أن يذكر بعده « العزيز » ، ويؤيّده صدر الآية : ( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالحَقِّ ) فالآية تثبت البعث لتميز المحسن من المسيئ أوّلاً ثم القضاء بينهم بالحق وهو الحاكم العليم ، وبذلك يعلم أنّه « خير الفاتحين » أي خير الحاكمين ، لأنّ حكمه هو العدل والقسط ، وعلمه هو النافذ غير الخاطئ أبداً بخلاف حكم الآخرين فهم بين حاكم عادل أو جائر ، ومصيب أو مخطىء.

ص: 375

ص: 376

حرف القاف

الرابع والتسعون : « القائم على كل نفس بما كسبت »

وقد ورد هذا الاسم المركّب في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى : ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ( الرعد / 33 ).

وأمّا معناه فقد ذكر ابن فارس ل « قوم » معنيين أحدهما : الجماعة والناس ، مثل « لا يَسخر قوم من قوم » والآخر الانتصاب قال : وقد يكون قام بمعنى العزيمة كما يقال قام بهذا الأمر إذا اعتنقه فهم يقولون في الأوّل قيام حتم ، وفي الآخر قيام عزم ، والظاهر أنّ المراد منه في الآية هو المهيمن المتسلّط على كل نفس ، المحيط بها ، والحافظ لأعمالها ، وبما أنّّّ الهيمنة على الشيء والمراقبة له يستلزم كون المراقِب قائماً منتصباً كي يسهل تسلّطه ومراقبته ، استعير القائم بمعنى المنتصب للهيمنة والتسلّط والإحاطة.

قال سبحانه في حقّ أهل الكتاب : ( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ) ( آل عمران / 75 ).

وقال : ( وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ) ( المعارج / 33 ) أي الحافظون.

واللّه سبحانه في هذه الآية يندّد بالمشركين كيف يجعلون له ندّاً وشريكاً مع

ص: 377

أنّه سبحانه له الاحاطة على الأشياء والقهر عليها والشهود لها ، وهذا يقتضي أن لا يشاركه في الاُلوهيّة شيء.

وتقدير الآية : « أفمن هو قائم بالتدبير على كل نفس وحافظ على كل نفس أعمالها ليجازيها ، كمن هو ليس بهذه الصفات من الأصنام والأوثان ويؤيّد كون المعنى ذلك قوله : ( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ ) .

الخامس والتسعون : « قابل التوب »

قد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( غافر / 3 ).

وقد تبيّن معناه ممّا ذكرناه في تفسير « التوّاب ».

السادس والتسعون : « القادر »

قد ورد في الذكر الحكيم مفرداً سبع مرّات ووقع في جميع المواضع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأنعام / 37 ).

وقال تعالى : ( إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ) ( الطارق / 8 ).

وقال سبحانه : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) ( الاسراء / 99 ) (1) ، إلى غير ذلك من الآيات.

ص: 378


1- لاحظ يس / 81 ، الاحقاف / 33 ، القيامة / 40.
السابع والتسعون : « القدير »
اشارة

قد ورد لفظ القدير في الذكر الحكيم 45 مرّة ووقع في جميع المواضع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( البقرة / 284 ).

والعناية التامّة ظاهرة من القرآن على كون قدرته عامّة لكل شيء فقد ورد قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) في 32 آية ، كما استعمل لفظ القدير مجرّداً تارة ومع « عليم » أخرى ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) ( النحل / 70 ). و « عفوّ » ثالثاً قال سبحانه : ( فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) ( النساء / 149 ).

والحق إنّ القدرة والعلم من أسمى صفاته سبحانه كما أنّ العالم والقادر من أظهر أسمائه سبحانه ، فلاعتب علينا لو بسطنا الكلام هنا كما بسطناه في اسم « العالم » و « العليم ».

وأمّا معناه فقد جعل « ابن فارس » : الأصل في معناه مبلغ الشيء وكنهه ونهايته ، فالقدر مبلغ كلّ شيء وقدّرت الشيء واُقدّره من التقدير ، ثمّ قال : وقدرة اللّه تعالى على خليقته : إيتاؤهم بالمبلغ الذي يشاؤه ويريده. ثمّ قال : « رجل ذو قدرة وذو مقدرة أي يسار ومعناه أنّه يبلغ بيساره وغنائه من الاُمور المبلغ الذي يوافق إرادته ، ولا يخفى أنّ جعل الأصل في القدرة هو مبلغ الشيء وكنهه ونهايته ، يعسِّر اشتقاق القدرة منه بمعنى الاستطاعة ، ولأجل ذلك أعرض الراغب عنه وفسّره بقوله : « القدرة إذا وصف به الإنسان فإسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شيء ما ، وإذا وصف اللّه تعالى بها فهي نفي العجز عنه » ، وقال : محال أن يوصف غير اللّه بالقدرة المطلقة معنىً وإن اُطلق عليه لفظاً ، وقال : القدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه ، ولذلك لا يصحّ أن يوصف به إلاّ اللّه تعالى.

ص: 379

ويمكن أن يقال : إنّ القدرة من التقدير وهو التحديد وتبيين كمّيّة الشيء ، وإشتقاق القدرة بمعنى الاستطاعة لأجل أنّ القدرة تلازم تحديد الشيء وتقدير كميّته ، ولعلّ هذا مراد ابن فارس من قوله : « مبلغ الشيء وكنهه ونهايته ».

ثمّ إنّ الراغب فسّر القدرة في حقّه سبحانه بنفي العجز ، وهذا مبنيّ على ارجاع الصفات الثبوتية إلى السلبيّة وهو منظور فيه ، وعلى كل تقدير فالمفهوم من القادر والقدير شيء واحد إلاّ انّ القدير أبلغ وآكد في الدلالة على القدرة.

تعريف القدرة

فسّر المتكلّمون القدرة بتعريفين :

1 - صحّة الفعل والترك ، فالقادر هو الذي يصحّ أن يفعل ويصح أن يترك.

2 - الفعل عند المشيئة والترك عند عدمها ، فالقادر من إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ، أو إن لم يشاء لم يفعل (1).

ولا يخفى انّ التعريفين يصدقان في حقّ الإنسان ، أمّا التعريف الأوّل فلأنّ صحّة الفعل والترك عبارة عن أمكانهما ، والامكان إمّا امكان ما هوى وهو عبارة عن كون الفاعل ذا ماهيّة يكون نسبة الفعل والترك إليها متساوية ، وإمّا امكان استعدادي وهو كون الفاعل ذا قّوة استعداديّة تخرج الشي من القوّة إلى الفعل كالاستعداد الموجود في البذر والنواة الذي يعطي صلاحيّة لهما بأن يكونا ذرعاً أو شجراً والامكان الاستعدادي من مظاهر المادة ، واللّه سبحانه منزّه عنها وعن شأبتها.

وأمّا التعريف الثاني فلأنّ قول القائل بأنّ القادر إن شاء فعل وإن شاء لم

ص: 380


1- اوائل المقالات : ص 12 ، كشف الفوائد للعلامة الحلي : ص 32 ، الاسفار : ج 6 ، ص 307 و 308 ، وقال ابن ميثم في « قواعد المرام في علم الكلام » : ص 82 عرّفها المعتزلة بأنها عبارة عن كون الفاعل بحيث إذا شاء فعل وإذا شاء لم يفعل.

يفعل ، يعرب عن عدم كفاية الذات في مقام الفاعليّة بل تحتاج إلى ضم ضميمة باسم المشيئة واللّه سبحانه تام في الوجود كما هو تام في الفاعليّة ، لا يحتاج في وجوده وفعله إلى شيء سواه ، فيجب في توصيفه سبحانه بالقدرة والاستطاعة ، تجريده عن شوب النقص والعيب.

ولعلّنا لا نقدر على تعريف قدرته بشكل جامع ومانع مناسب لذاته إلاّ أنّه يمكن القاء الضوء عليه بالتقسيم التالي.

إنّ نسبة الفعل إلى الفاعل لا تخلو عن أقسام ثلاثة :

1 - أن يكون ملازماً للفعل غير منفك عنه كالنار بالنسبة إلى الاحراق.

2 - أن يكون ملازماً لتركه فيكون ممتنعاً عليه كالنار بالنسبة إلى البرودة.

3 - أن يكون الفاعل غير مقيّد بواحد من النسبتين فلا يكون الفعل ممتنعاً عليه حتى يتقيّد المبدء بالترك ولا الترك ممتنعاً عليه حتى يتقيّد بالفعل ، فيعود الأمر في تعريف القادر إلى كونه مطلقاً غير مقيّد بشيء من الفعل والترك ، ولعلّ هذا التعريف أسهل وأتقن ما في الباب.

وقد قلنا غير مرّة : إنّ الهدف من توصيفه سبحانه بهذه الصفات الكماليّة هو اثبات الكمال على ذاته وتنزيهه عن النقص والعيب فلو كان في اجراء بعض الصفات بما لها من المفاهيم العرفيّة شيء ملازم لشوب النقص ، وجب تجريدها عنه ، وتمحيضها في الكمال المحض ، وقد تعرّفت في تفسير الحياة بأنّ ما ندركه من معناه من الموجودات الطبيعيّة يمتنع توصيفه سبحانه بها لاستلزامه كون الواجب موجوداً مادّياً قابلاً للفعل والانفعال ، بل يجب في اجراء الحياة عليه تجريده عن كل ما يلازم شوب النقص ووصمة الامكان.

ص: 381

دلائل قدرته سبحانه :
اشارة

استدلّ على قدرته سبحانه باُمور :

الأوّل : الفطرة

فكلّ إنسان يجد في قرارة نفسه وصميم ذاته ووجدانه ميلاً وانجذاباً إلى قدرة فائقة يستمدّ منها العون عند الشدائد ونزول المحن ، ويعتقد كونه قادراً على تخليصه ومساعدته وإمداده. إن وجود تلك الفطرة وذلك الانجذاب حاك عن وجود تلك القدرة المطلقة ، وإلاّ يلزم لغويّة وجودها في الإنسان ، وليس المراد منها التصوّر والتفكّر حتّى يقال إنّ الوهم لا يدلّ على وجود المتوهّم بل المراد هو الميل الباطن والانجذاب الذاتي من دون محرّك وحافز ، فكل إنسان عند ما يواجه المشاكل والشدائد يجد من أعماق نفسه أنّ هناك موجوداً قادراً عالماً بمشاكله وهو قادر على دفعها عنه.

نعم بعد ما ارتفعت الشدّة ، وهدأت الأوضاع ربّما يغفل عنها ، وهذا من خصائص الاُمور الفطرية حيث تتجلّى في ظروف خاصّة وتتضاءل في ظروف اُخرى.

قال سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام / 40 و 41 ).

فالفطرة كما تهدي إلى أصل وجود الصانع ، كذلك تهدي إلى صفاته.

الثاني : مطالعة النظام الكوني

إنّ مطالعة النظام الكوني بما فيه من دقيق وجليل ، وما فيه من دقة وروعة ، وجمال وبهاء واتقان واحكام ، تهدي أنّ فاعله وموجده قادر ، قام بفضل قدرته على ايجاد عالم بديع. وقد خدم العلم الحديث بتوضيح هذا الوصف خدمة عظيمة ، وكلّما تكاملت العلوم الطبيعية ازداد علم الإنسان بسعة قدرته سبحانه و

ص: 382

يقف على ما في هذا النظام من السنن والقوانين التي تحيّر العقول.

ويكفي في ذلك إذا لاحظنا النظام السائد على الكون بدءاً من السماء وما فيها من نجوم وكواكب وما فيها من منظومات ومجرّات ومروراً بالأرض ، وما فيها من عوالم كعالم الحيوان وعالم البحار وعالم النبات وعالم الحشرات ، وما فيها من بدائع الصنع ورائع الخلق. - فإذا لاحظنا - تتمثّل قدرته تعالى أمام أعيننا قدرة لا يمكن تحديدها ، وعلى ذلك فكما أنّ وجود كل ممكن يدلّ على وجود صانع له فكذا صفات المصنوع كاشفة عن صفات الصانع ، فالملحمة الشعرية كما تحكي عن وجود الشاعر ، تعرب عن مدى مقدرته الخياليّة وذوقه الخلاّق ، حيث استطاع بذوقه المتفوّق على التحليق في آفاق الخيال ، وسبك المعاني في قوالب الألفاظ الجميلة. فكتاب « القانون » لابن سينا في الطب و « الشفاء » له في الفلسفة ، و « الملحمة البطولية » للفردوسي تعكس قدرة المؤلّفين وإحاطتهم على الطبّ والفلسفة وخلق المفاهيم والمعاني في عالم الخيال.

يقول الإمام أمير المؤمنين في بعض خطبه :

« وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ... » (1).

الثالث : معطي الكمال لا يكون فاقداً له

ومن دلائل قدرته أن خلق الإنسان وخلق غيره من الأشياء وأعطى لكلّ موجود حرّ مختار قدرة يقتدر بها على ايجاد البدائع والغرائب من الأشياء ، ومعطي هذا الكمال ومفيضه لا يكون فاقداً له ، والذي أظن إنّ المقام غني عن إقامة البرهان ، إنّما الكلام في فروع هذا الوصف التي مهمّها عبارة عن سعة قدرته لكل شيء.

ص: 383


1- نهج البلاغة : الخطبة87 المعروف بخطبة الاشباح.
سعة قدرته لكلّ شيء

الكمال المطلق الذي ينجذب إليه الإنسان في بعض الحالات والأحايين ، يجب أن يكون قادراً على كل شيء ممكن ولا يتبادر إلى الأذهان أبداً - لولا تشكيك المشكّكين - انّ لقدرته حدوداً وانّه بالتالي قادر على شيء دون شيء ولكن الأبحاث الكلاميّة طرحت أسئلة في المقام وهي :

1 - هل هو سبحانه قادر على القبيح أو لا ؟

2 - هل هو قادر على خلاف معلومه أو لا ؟

3 - هل هو قادر على مثل مقدور العبد أو لا ؟

4 - هل هو قادر على عين مقدور العبد أو لا ؟

ولا تنحصر الأسئلة المطروحة في المقام فيما ذكر بل هناك أسئلة اُخرى ، فإليك بيانها :

5 - هل هو سبحانه قادر على خلق نظيره ؟

6 - هل هو سبحانه قادر على جعل الشيء الكبير في جوف الشيء الصغير ؟

7 - هل هو سبحانه قادر على خلق شيء لا يقدر على إفنائه أو تحريكه من جانب إلى جانب ؟

وهذه الأسئلة الثلاثة الأخيرة لا يختلف فيها أحد من المتكلّمين ولأجل ذلك لا يعدّ البحث فيها ملاكاً لوجود الخلاف ، وإليك البحث عن تاريخ المسألة وفاقاً وخلافاً فنقول :

لم يكن أحد من المسلمين مخالفاً في سعة قدرته أخذاً بالنصوص الواردة في الكتاب الحكيم ، إلى أن حدث الخلاف في عموم قدرته على اُمور أربعة :

الأمر الأول : قدرته على القبيح من جانب المتكلّم المعتزلي الشهير

ص: 384

« إبراهيم ابن سيّار » ( النظام ) (1) المتوفّى عام 231 فقد خالف فيها وقال بعدم قدرته على القبيح وإلاّ لصدر منه فيكون فاعله جاهلاً أو محتاجاً وهو محال ، فيكون الفعل محالاً فلا يقدر عليه (2).

الأمر الثاني : من جانب « عبّاد بن سليمان السيمري » حيث قال :

إنّ اللّه لا يقدر على خلاف معلومه. أي ما علم اللّه وقوعه ، وجب وقوعه وما علم عدمه ، يمتنع وقوعه ، إذ لو لم يقع ما علم وقوعه ، أو وقع ما علم عدمه ، لزم انقلاب علمه تعالى جهلاً ، وانقلاب علمه تعالى جهلاً محال (3).

الأمر الثالث : من جانب البلخي المتوفّى عام 319 حيث قال : لا يقدر على مثل مقدور عبده لأنّه طاعة أو سفه أو عبث ، والكل عليه محال (4).

الأمر الرابع : من جانب الجبّائيين : أبي علي وولده أبي هاشم (5).

فقال : لا يقدر على عين مقدور العبد وإلاّ لاجتمع قادران على مقدور واحد وهو محال ، وإلاّ لزم وقوعه نظراً إلى إرادة أحدهما ، وعدمه نظراً إلى كراهة الآخر ، فيكون واقعاً وغير واقع ، وهذا خلف (6).

ص: 385


1- راجع في ترجمة النظام : الملل والنحل للشهرستاني : ج 1 ، ص 53 - 54 ، والتبصير في الدين للاسفرايني : ص 70 ، والجزء الثالث من موسوعتنا « بحوث في الملل والنحل ».
2- نقله الفاضل السيوري في « ارشاد الطالبين » في شرح نهج المسترشدين : ص 187 ، و « العلامة » في كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 174.
3- اللوامع الإلهية : ص 119 ، ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين : ص 189 - 190.
4- اللوامع الإلهية : ص 119 ، ونهج المسترشدين : ص 191.
5- توفّي أبو علي الجبائي عام 303 كما توفّى ابنه أبو هاشم عام 321 ، وكانا من أقطاب المعتزلة.
6- اللوامع الإلهية : ص 119 ، وقواعد المرام في علم الكلام لابن ميثم البحراني : ص 96.

وربّما نسب إلى الحكماء القول بأنّه سبحانه لا يقدر على أكثر من الواحد وحكموا بأنّه لا يصدر عنه إلاّ شيء واحد (1).

هذه صورة تاريخيّة عن نشأة هذا الرأي أي تحديد قدرة اللّه ، ويبدو أنّ أكثر هؤلاء إمّا تأثّروا ببعض المناهج الفلسفيّة المترجمة ، كما أن بعضهم لم يدرك حقيقة القول بسعة قدرته ، وإذا شرحنا حقيقة المقال تقف على سقوط الآراء الثلاثة الأخيرة المنسوبة إلى السيمري والبلخي والجبائيين.

تحليل القول بعموم القدرة الإلهية

إنّ المقصود من عموم قدرته سبحانه هو سعتها لكل شيء ممكن ، بمعنى أنّه تعالى يقدر على خلق كل ما يكون ممكناً بذاته غير ممتنع كذلك ، وهذا الوصف العنواني رهن اُمور :

أوّلاً : أن لا يكون الشيء ممتنعاً بالذات مثل أن يكون من قبيل جعل الشيء الواحد متحرّكاً وساكناً في آن واحد وهو أمر ممتنع.

فإنّه لا شك في أنّ هذا الامتناع مانع من شمول القدرة لهذا المورد ونظائره.

ثانياً : أن لا يكون هناك مانع من نفوذ قدرته ، وشمولها وهذا لا يكون إلاّ بوجود قدرة مضاهيّة ، معارضة ، مانعة ، من نفوذها.

ثالثاً : أن لا تكون قدرة القادر محدودة ، مضيّقة في ذاتها.

وهذه الشرائط كلّها موجودة في حقّ الواجب.

أمّا الأول : فلأنّ المقصود من عموميّة قدرته تعالى هو شمولها لكل أمر ممكن ، دون الممتنع بالذات ، فلا تتعلّق القدرة الالهية بالممتنع ذاتياً ، وهو بالتالي

ص: 386


1- النسبة في غير محلّها ، وسيوافيك مرامهم.

خارج عن محيط البحث ، تخصّصاً لا تخصيصاً ، أي لا لقصور في الفاعل بل لقصور في المورد ونعني به الممتنع ذاتيا. والأمر القبيح ليس أمراً ممتنعاً بالذات ، بل ممتنع بالغير وحسب الحكمة.

وأمّا الثاني : فليس هناك شيء مانع من نفوذ القدرة الإلهية كي يزاحم تلك القدرة إلاّ إذا كان موجوداً ، وهذا الموجود إن كان واجب الوجوب مثله سبحانه فهو مرفوض بما ثبت من وحدة واجب الوجود ، وانتفاء نظير له وأنّه بالتالي ليس في صفحة الوجود واجب سواه ، وإن كان ممكناً مخلوقاً له سبحانه فهو مقهور له تعالى فكيف يزاحم قدرته ، وكيف يمنع من نفوذها ؟

وأمّا الثالث : وهو ضيق نطاق قدرته ، فهو مدفوع لما سيوافيك - أيضاً - من أنّ وجود اللّه تعالى غير محدود ، ولا متناه ، فهو وجود مطلق لا يحدّه شيء من الحدود العقليّة والخارحيّة وما هو غير متناه في وجوده ، غير متناه في قدرته (1) لما ثبت من عينيّة صفاته وجوداً وتحقّقاً مع ذاته.

والحاصل : انّ هذا البيان يعتمد على أمرين كل منهما ثابت ومحقق :

أوّلاً : ما سيوافيك من أنّ وجوده سبحانه غير محدود ولا متناه ، بمعنى أنّه لاتحدّه حدود عقليّة ولا خارجيّة.

ثانياً : سيوافيك أيضاً من أنّ صفاته تعالى عين ذاته ، لا أمر زائد على الذات.

ص: 387


1- وقد استدلّ بعض المحققين من علماء الكلام على عموميّة قدرته من طريق آخر فقال « العلاّمة الحلّي » في كشف الفوائد : ص 43 والدليل عليه ( أي على عموم قدرته ) انّه تعالى واجب الوجود دون غيره ، وكل ما عداه ممكن وكل ممكن محتاج إلى المؤثر ولابد أن ينتهي إلى الواجب. فعلّة الحاجة وهي الامكان ثابتة في الجميع، فتساوت نسبتها إليه سبحانه بالاحتياج لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، فيكون قادراً على الجميع ، وراجع كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 174 ، و « قواعد المرام » : ص 96 ، وارشاد الطالبين : ص 187.

وهذان الأمران ينتجان عدم تضيّق القدرة الإلهية ، فهو إذا كان - من حيث الوجود - مطلقاً غير متناه وكان الوصف عين الذات ونفسها ; كانت صفة القدرة هي الاُخرى مطلقة لا تعرف حدّاً ، ولا تقف عند نهاية.

وبهذه الصورة تثبت سعة قدرته تعالى وشمولها لكل شيء.

ولقد صرّحت النصوص الدينيّة - من كتاب وسنّة - بهذه الخصوصيّة في القدرة الالهية ، وأكدت بالتالي على عموميّتها ، وسعة دائرتها ، واطلاقها على غرار الذات ، وذلك كقوله سبحانه : ( وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الأحزاب / 27 ).

وقوله تعالى : ( وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) ( الكهف / 45 ).

وقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ) ( فاطر / 44 ).

وقوله تعالى : ( لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( التغابن / 1 ).

وقوله تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الملك / 1 ).

وقال الإمام موسى بن جعفر علیهماالسلام : « والقادر الذي لا يعجز » (1).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « الأشياء له سواء علماً وقدرة وسلطاناً وملكاً وإحاطة » (2).

ص: 388


1- توحيد الصدوق : ص 76.
2- توحيد الصدوق : ص 133.
حول الأقوال السابقة
اشارة

بعد أن عرفت أدلّة القائلين (1) بعموميّة القدرة الإلهيّة. حان الأوان لتقييم ما قاله بعض أئمّة المعتزلة وأقاموه لتحديد قدرته فنقول :

لقد عرفت في مفتتح البحث أنّ الذي جرّ النافين لعموميّة القدرة إلى مثل هذا الموقف الذي يضادّ الفطرة مضافاً إلى مضادّته للبراهين العقليّة القاطعة ، وما دلّ عليه الكتاب والسنّة من النصوص الصريحة هو الشبهات التي ألقاها البعض في هذا المجال.

1 - عدم قدرته على فعل القبيح

فلقد استدلّ « النظام » لعدم عموميّة قدرته تعالى بأنّه لا يقدر على القبيح وإلاّ لصدر عنه فيكون فاعلاً جاهلاً أو محتاجاً وهو محال فلا يكون قادراً على القبيح.

ونظنّ انّ « النظام » خلط موضع البحث بشيء آخر فإنّ البحث إنّما هو في عموم القدرة والاقتدار وانّه سبحانه قادر على كل شيء قبيحاً كان أو غيره ، أي أنّ القبيح وغيره عنه قدرته سواء أي كما أنّه سبحانه قادر على ارسال المطيع إلى الجنّة قادر على إدخاله في النار ، وليس هنا ما يعجزه عن ذلك.

إلاّ أنّه لمّا كان هذا العمل قبيحاً مخالفاً لعدله وقسطه لا يفعله سبحانه ، ولا يرتكبه لأنّ الدافع إلى ارتكاب القبيح امّا الجهل بالقبح ، أو الحاجة إلى العمل القبيح ، وكلاهما منفيّان عن ساحته المقدّسة ، فلا يصدر منه الفعل اختياراً لأنّ هذه الموجبات والدواعي منتفية لديه سبحانه لا أنّه غير قادر عليه أو عاجز عن فعله.

فكم فرق بين عدم القيام بشيء لعدم توفّر الداعي إليه ، وبين عدم القدرة عليها أصلا.

ص: 389


1- وهم كل علماء الامامية.

فالوالد المشفق قادر على ذبح ولده في مرأى ومسمع من الناس لكن الدواعي إلى هذا الفعل منتفية عنه ( لأنّه لا يصدر هذا العمل القبيح إلاّ من جاهل بالقبح أو محتاج إلى العمل القبيح ).

وبالجملة فهو خلط بين عدم فعله لذلك القبيح ، وعدم قدرته عليه من الأساس.

2 - عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه

لقد ذهب « عبّاد بن سليمان السيمري » إلى عدم سعة قدرته قائلاً : إنّ ما علم اللّه تعالى بوقوعه يقع قطعاً ، فهو واجب الوقوع ، وما علم بعدم وقوعه لا يقع قطعاً فهو ممتنع الوقوع ، وما هو واجب أو ممتنع لا تتعلّق به القدرة ، إذ القدرة إنّما تتعلّق بشيء يصحّ وقوعه ولا وقوعه ، ويمكن فعله ولا فعله ، وما صار أحديّ التعلّق ( ذي حالة واحدة حتميّة ) لا يقع في إطار القدرة.

والجواب عن هذه الشبهة بوجهين :

أمّا أوّلاً : فلأنّه لو صحّ ما ذكر لزم أن لا تتعلّق قدرته بأي شيء مطلقاً ، لأنّ كلّ شيء إمّا أن يكون معلوم التحّقق في علمه سبحانه أو معلوم العدم.

فالأوّل : واجب التحقّق ، والثاني ممتنع التحقّق ، فيكون كل شيء متصوّر ، داخلاً في إطار أحد هذين الأمرين ، فيجب أن يمتنع توصيفه بالقدرة على شيء ما ، حتّى ما خلق فضلاً عمّا لم يخلق.

وثانياً : فإنّ القدرة تتعلّق بكل شيء ممكن في ذاته ، ولا تتعلّق بشيء واجب الوجود بذاته أو ممتنع الوجود كذلك ، ويكفي في تعلّق القدرة كون الشيء في حدّ الذات ممكناً متساوي الطرفين ، وكونه واجباً بالنسبة إلى علّته ، لا يخرجه عن حد الامكان كما أنّ كونه ممتنعاً بالنسبة إلى عدم علّته ، لا يخرجه عن ذلك الحدّ أيضاً.

ص: 390

يقول الحكيم السبزواري في هذه الحقيقة الأخيرة :

« الامكان عارض للماهيّة بتحليل من العقل حيث يلاحظها من حيث هي مقطوعة النظر عن اعتبار الوجود وعلّته والعدم وعلّته ، فيصفها بسلب الضرورتين وأمّا عند اعتبارهما فمحفوف بالضرورة والامتناع ، ولا منافاة بين لا اقتضاء من قبل ذات الممكن للوجود والعدم ، واقتضاء من قبل الغير للوجود أو العدم ». قال في منظومته :

عروض الامكان بتحليل وقع *** وهو مع الغيريّ من ذين اجتمع (1)

وعلى ذلك فمعلومه سبحانه وإن كان بين محقّق الوقوع ومحقّق العدم ، أي بين ضرورة الوجود بالنسبة إلى علّته وضرورة العدم بالنسبة إلى عدم علّته ، لكن هذه الضرورة الناشئة من ناحية علّته ، أو من ناحية عدم علّته ، لا يجعل الشيء واجباً بالذات أو ممتنعاً كذلك ، فهو حتى بعد لحوق الضرورة به من جانب علّته ، أو الامتناع من جانب عدم علّته موصوف بالامكان غير خارج عن حدّ الاستواء حسب الذات.

فابن عبّاد لم يفرق بين الواجب بالذات ، والواجب بالغير ، كما لم يفرّق بين الممتنع بالذات والممتنع بالغير ، فما هو المانع من تعلّق القدرة ، هو الوجوب والامتناع الذاتيان ، لا الوجوب والامتناع الغيريّان اللاحقان بالشيء من جانب وجود علّته ومن جانب عدم علّته.

ولو صحّ ما ذكره من الكلام وجب أن لا يوجد في العالم أي موجود موصوف بالقادريّة.

فإنّ كل متصوّر إمّا أن يكون في نفس الأمر محقّق الوجود لوجود علّته التامّة ، أو محقّق العدم لعدم تحقّق علّته التامّة.

ص: 391


1- المنظومة : قسم الفلسفة ، ص 69.

وإن شئت قلت : إنّ الممكن وإن كان مستوراً علينا وقوعه ولا وقوعه ، غير أنّه في نفس الأمر محقّق الوقوع لوجود علّته أو محقّق العدم لعدم وجود علّته ، وعدم علمنا بأحد الطرفين لا يضرّ بوجوب وجوده أو امتناعه وجوباً وامتناعاً عارضيّاً بالغير.

وكل شيء في صفحة الوجود لا يخلو عن أحد هذين الوصفين ، فيلزم أن لا يجوز توصيف شيء من الأشياء حتّى الإنسان بالقدرة لأنّه إذا قيس بفعل من الأفعال فهو في نفس الأمر امّا محقق الوقوع لوجود علّته التامّة ، أو ممتنع الوجود لعدم وجود علّته التامّة.

3 - عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد

وممّن اختار عدم سعة قدرته ، المتكلّم المعروف بالكعبي إذ قال : « إنّ اللّه تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد لأنّه امّا طاعة أو معصية أو عبث وكلّها مستحيلة عليه تعالى ».

توضيحه : إنّ فعل الإنسان امّا طاعة أو معصية أو عبث ، لأنّه إمّا أن يقع لغرض أو لا ، والثاني عبث ، والأوّل امّا أن يقع موافقاً للأوامر الشرعيّة أو لا ، والأوّل طاعة والثاني معصية ، ففعل الإنسان لا يخلو عن أحد هذه الأوصاف الثلاثة ، فلو قدر اللّه على مثله لوصف فعله بالطاعة أو المعصية أو العبث ، والأوّلان يستلزمان أن يكون لله تعالى آمر ، وهو محال.

والأخير يدخل تحت عنوان القبيح المستحيل عليه فلا يقدر على مثل مقدور الإنسان ، وهو المطلوب.

ونقول في الجواب : لقد عزب عن « الكعبي » أنّ عدم قيامه بالقبيح ( العبث ) ليس لعدم قدرته عليه ، بل لأجل حكمته العالية الصارفة عن القيام به ، فعدم القيام بالشيء لأجل مخالفته لمشيئته الحكميّة ، لا يعد دليلاً على عدم قدرته ، وقد أوضحنا حاله.

ص: 392

وأمّا المثالان الأوّلان ( الطاعة والمعصية ) ، فالطاعة والمعصية ليستا من الاُمور الحقيقية القائمة بالشيء ، بل هما أمران ينتزعهما العقل من كون الفعل مطابقاً للمأمور به ، أو كونه مخالفاً له ومن نسبة الفعل إلى الأمر الصادر من المولى الواجب طاعته والمحرّم عصيانه.

وإن شئت قلت : ينتزع وصف الطاعة من مطابقة الفعل لأمر الآمر به ، والعصيان من مخالفة الفعل مخالفاً لذلك الأمر وليس هذان المفهومان من الاُمور الذاتية ، ولا من الأعراض الحقيقيّة.

فلا إشكال في قدرته سبحانه على مثل ما قام به العبد بما هو مثل ، أي أن يكون فاعلاً لمثل الفعل الذي يقوم به الإنسان من حيث الذات والهيئة.

وأمّا عدم اتّصاف فعله سبحانه حينئذ بوصف الطاعة والعصيان فلا يوجب عدم قدرته تعالى على مثل ما يأتي به الإنسان لأنّ الملاك في المثليّة هو واقعيّة الفعل وحقيقته الخارجيّة لا عنوانه الاعتباري ، ولا ما ينتزع من نسبة الشيء إلى الشيء ، فإنّ هذه الاُمور الانتزاعيّة أو الشيء المنتزع من النسبة غير داخلة في حقيقة الشيء.

وإلى ما ذكرنا ينظر كلام العلاّمة في شرح التجريد :

« إن الطاعة والعبث وصفان لا يقتضيان الاختلاف الذاتي » (1).

وإليك نقطة مهمّة يجب التنبيه عليها وهي :

إنّ هاهنا أفعالاً مباشريّة للإنسان كالصيام والقيام والأكل والشرب ، فإنّها

ص: 393


1- كشف المراد شرح التجريد للعلاّمة الحلّي : ص 174 طبعة صيدا ، والمراد لا يقتضيان الاختلاف الذاتي أي لا يوجب اختلافا في ماهيّة العمل لأنّهما خارجان عن حقيقتة وماهيّته ، لكونهما منتزعان من نسبة حاصلة من موافقة فعل العبد لأمر المولى في الطاعة ومخالفته في جانب المعصية.

أفعال تقوم بالفاعل المادي ، واللّه سبحانه مجرّد ومنزّه عن المادّيّة والجسمانيّة فعدم صدورها منه إنّما هو لأجل تنزّهه سبحانه من أن يقع محلاً للفعل والانفعال والحركة والحدوث.

ومع ذلك كلّه فالإنسان وما يأتي به من الأفعال المباشريّة إنّما هي باقتداره سبحانه وحوله وقوّته بحيث لو انقطع ما بين العبد وربّه من صلة ، وانقطع الفيض لصار الإنسان مع فعله خبراً بعد أثر.

وسيوافيك تفصيل ذلك في الشبهة التالية.

4 - عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد

ذهب الجبّائيّان إلى عدم سعة قدرته تعالى قائلين :

« إنّ اللّه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد ، وإلاّ لزم إجتماع النقيضين ، إذا أراده اللّه وكرهه العبد ، أو بالعكس.

بيان الملازمة أنّ المقدور من شأنه الوقوع عند داعي القادر عليه ، والبقاء على العدم عند وجود صارفه ، فلو كان مقدور واحد واقعاً من قادرين ، وفرضنا وجود داع لأحدهما ، ووجود صارف للآخر في وقت واحد ، لزم أن يوجد بالنظر إلى الداعي ، وأن يبقى معدوماً بالنظر إلى الصارف ، فيكون موجوداً غير موجود ، وهما متناقضان.

والجواب أوّلاً : إنّ الجبائيين لم يستوفيا كافة الشقوق الممتنعة في المقام ، فقد بقي هناك شق ثالث وهو أنّه : إذا تعلّقت إرادة كل واحد منهما على نفس ما تعلّقت به إرادة الآخر ، فإنّ ذلك يعني أن تجتمع العلّتان التامّتان على معلول واحد وهو محال.

والجواب عن الجميع : هو ما عرفت من أنّ القدرة إنّما تتعلّق بالممكن بما هو ممكن ، فإذا عرض له الامتناع فلا تتعلّق به القدرة ، وعدم تعلّق قدرته بالممتنع

ص: 394

لا يدلّ على عدم سعتها.

وما فرض في المقام من الصور - بغضّ النظر عمّا سنذكره - لا يثبت أكثر من أنّ صدور الفعل منه سبحانه في هذه الشرائط محال لاستلزامه اجتماع النقيضين ، أو إجتماع العلّتين التامّتين على معلول واحد ، وما هو محال خارج عن اطار القدرة ولا يطلق عليه عدم القدرة.

هذا كلّه نذكره مماشاةً مع علامتي المعتزلة وإلاّ فثمّة مناقشة في كلامهما ، إذ نقول : ماذا يريدان من قولهما : « عين مقدور العبد » ؟

هل يريدان منه الشيء قبل وجوده ، أو بعده ؟

فإن أرادا الشيء قبل وجوده فليس في هذا المقام عينيّة ولا تشخّص ، حتّى يقال : إنّه سبحانه قادر عليه أو لا ؟ إذ الشيء في هذه المرحلة لا يتجازو عن كونه مفهوما كليّاً ، يصلح أن يكون له مصاديق كثيرة.

وإن ارادا من « عين المقدور » الشيء بعد وقوعه فمن المعلوم أنّه لا تتعلّق به القدرة - في هذه الحالة - لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل المحال ، وقد ذكرنا أنّ المحال خارج عن إطار القدرة.

وإن أرادا عدم تعلّق قدرته سبحانه مقارناً لتعلّق قدرة العبد فحكم هذا القسم هو نفس حكم الصورة الاُولى فإنّ المقدور بعد لم يتحقّق ، ولم يتشخّص حتى يقال بأنّه غير قادر على نفس مقدور العبد.

ثمّ إنّ ما ذكره العلاّمتان المعتزليّان ينبع عن القول بالثنويّة في باب تأثير المؤثّرات وفعل الفواعل حيث إنّ المعتزلة تصوّرت أنّ فعل العبد مخلوق لنفس العبد ، وليس مخلوقاً لله ، لا تسبيباً ولا مباشرة ، وانّ هناك فاعلين مستقلّين لكل مجاله الخاص فلفعله سبحانه وقدرته مجال ، ولفعل العبد مجال آخر ، وعند ذلك لا يمتّ مقدور العبد باللّه سبحانه بصلة.

ص: 395

غير أنّنا بيَّنا وهنَ هذه النظرية وأنّ الثنوية باطلة في عامّة المجالات وأنّه لا فاعل مستقلّ ولا مؤثّر في صفحة الوجود إلاّ « اللّه ».

فكل فاعل سواه سبحانه ، سواءً كان مختاراً أو غيره إنّما يؤثّر ويقوم بأفعاله بقدرته وحوله.

فعند ذلك يكون نفس مقدور العبد وفعله ، مقدوراً لله سبحانه ، وفعلاً له لكن لا فعلاً بالمباشرة ، بل فعلاً بالتسبيب.

وقد أوضحنا حال هذه المسألة في أبحاث التوحيد الخالقي.

سعة القدرة بمعنيين

ثمّ إنّ الكلام في سعة القدرة يطرح على وجهين :

الأوّل : ما عرفت مفهومه وأدلّته وأنّه قادر على كل شيء ممكن سواء صدر منه أو لم يصدر إذ من الممكن أن يكون الشيء ممكنا ولا يصدر عنه لحكمة خاصّة كصدور القبيح وغيره.

الثاني : وهو ما طرحه الحكماء في كتبهم ، ويغاير ما سبق ، وحاصله : إنّ الظواهر الكونية ، مجرّدها ومادّيها ، ذاتها وفعلها ، كلّها تنتهي إلى قدرته سبحانه ، فكما أنّه لا شريك له سبحانه في ذاته كذلك لا شريك له في الفاعليّة.

وكل ما هو موجود سواء كان جوهراً أو عرضاً ، مادّيّاً أو مجرّداً ، ذاتاً أو فعلاً فالجميع صادر عنه سبحانه على نحو الأسباب والمسبّبات ، فليس هناك موجود ممكن جوهراً كان أو عرضاً ، ذاتاً كان أو فعلاً لا يستند في تحقّقه ووجوده إليه سبحانه.

وهذا هو التوحيد الأفعالي الذي قدّمنا الكلام عنه عند البحث عن التوحيد ، وهذا المعنى هو الذي طرحه الحكماء في كتبهم الفلسفية.

ص: 396

وهذه المسألة في مقابل كلمات المعتزلة ومن حذى حذوهم من القائلين بأنّ اللّه تعالى أوجد العباد وأقدرهم على تلك الأفعال ، وفوّض إليهم الاُمور وهم مستقلّون بإيجاد تلك الأفعال على وفق مشيئتهم بحيث لا يمتّ فعل إنسان إليه سبحانه بصلة بنحو من الأنحاء.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام وإن كان وجيهاً عند القائلين بالاختيار ولكنّه يستلزم الشرك في الفاعليّة وهو مستلزم لاثبات الشريك لله في الحقيقة.

ومن جعل أبناء البشر كلّهم خالقين لأفعالهم مستقلّين في ايجادها ، أتى بما هو أشنع ممّن ذهب إلى جعل الأصنام والأوثان والكواكب شفعاء عند اللّه لأنّه جعل لله شركاء بعدد الفاعلين.

هذا وبما أنّنا قد استوفينا الكلام في هذه المسألة في مسفوراتنا الكلامية (1) ، فإنّنا نقتصر على ما ذكرناه هنا.

فتلخص : إنّ لسعة القدرة اصطلاحين :

الأوّل يناسب الأبحاث الكلامية ، والثاني يناسب الأبحاث الفلسفية ، والمخالف في القسم الثاني هم المعتزلة ، والخلاف ينبع من الاعتقاد بالعدل في اللّه سبحانه ، ومن التصوّر بأنّ نسبة أفعال العباد إلى اللّه سبحانه تخالف عدله.

بينما لا تنبع المسألة الاُولى من موقف كلامي معيّن وإن كان المخالف فيها بعض المعتزلة لكن الخلاف لا ينبع عن اُصول الاعتزال بخلاف الثانية ، وإن كان بين المسألة صلة وارتباط.

ص: 397


1- الالهيات : ج 1 ، ص 139 - 150.
أسئلة وأجوبتها

ثمّ إنّ القائلين بعموميّة القدرة الإلهية واجهوا أسئلة واشكالات اُخرى طرحها المنكرون لعموميّة القدرة ، واعتمدوا عليها في نفي ذلك وقد تعرّفت على اصولها في صدر البحث :

وهذه الأسئلة هي :

1 - هل يقدر سبحانه على خلق نظيره ؟

فلو اُجيب عن السؤال بالإيجاب لزم ذلك صحّة إفتراض الشريك لله سبحانه وامكان وجوده.

ولو اُجيب بالنفي والإنكار لزم ضيق قدرته وعدم عموميّتها وشمولها لكل شيء كما هو المدعى.

2 - هل هو قادر على أن يجعل الشيء الكبير في داخل الشيء الصغير كأن يجعل العالم الفسيح في البيضة من دون أن يصغر حجم العالم ، أو تكبر البيضة ؟

فلو اُجيب بنعم ، دفعه العقل ورفضه إذ لا يتصوّر أن يكون المظروف أكبر من الظرف.

ولو أجيب بلا ، ثبت عدم عموميّة قدرته سبحانه.

3 - هل يمكنه سبحانه أن يوجد شيئاً لا يقدر على إفنائه ؟

فإن قلنا : نعم ، لزم من ذلك نفي قدرته ، لأنّنا أثبتنا قدرته سبحانه على خلق ما لا يقدر على إفنائه.

وإن قلنا : لا ، استلزم ذلك نفي عموميّة قدرته.

وبهذا استلزم الجواب على كلا النحوين انتفاء عموميّة قدرته وتحديدها.

إنّ الاجابة عن هذه الأسئلة على وجهين : إجمالي وتفصيلي.

أمّا الجواب الإجمالي فهو أنّ القدرة مهما بلغت من السعة فإنّها لا تتعلّق إلاّ

ص: 398

بما كان ممكناً بالذات ، أي كان قابلاً للوجود والتحقّق ، وأمّا الخارج عن اطار الإمكان أي الذي يكون بذاته غير ممكن لا يقبل الوجود ، فهو خارج عن نطاق القدرة.

وبعبارة أخرى : إذا لاحظنا الأشياء وجدناها على نوعين :

الأوّل : ما يقبل أن يتلبّس بلباس الوجود ويتحقّق في الواقع الخارجي بسبب قدرة الفاعل.

الثاني : ما إذا لاحظناه في عقلنا ، نجد أنّه لا يتحقّق ولا يقبل الوجود مهما بلغت القدرة من السعة والعظمة ، ومهما بلغ الفاعل من القوّة والقدرة.

ولتوضيح ذلك نأتي بالمثال التالي فنقول :

إذا طلبنا من الخيّاط أو الرسّام أن يخيط الأوّل لنا ثوباً من الآجر ، أو أن يرسم الثاني لنا صورة جميلة لطاووس على صفحة الماء الجاري ، رفضا ذلك لاستحالة خياطة ثوب من الآجر ، ورسم صورة شيء على صفحة الماء الجاري.

فرفض الخيّاط والرسام لهذا الاقتراح ليس لأجل قصورهما وعجزهما ، بل لاستحالة تحقّق خياطة الثوب من الآجر ، والنقش على صفحة الماء الجاري ، فهو بالتالي قصور في جانب القابل ، لا عجز في ناحية الفاعل.

إنّ الآجر لا يمتلك قابلية صيرورته لباساً ، كما أنّ الماء الجاري لا يمتلك هو الآخر قابلية أن يصبح محلاًّ للرسم والنقش.

هكذا كل ما لا يقبل الوجود بذاته ، فإنّ عدم تعلّق القدرة بها ليس من جهة عجز القادر عن إيجادها ، بل من جهة أنّه غير قابل للايجاد ، وغير ممكن التحقّق بذاته.

وهذا نظير ما إذا طلبنا من رئيس مصنع لتوليد الكهرباء أن يجعل مصباحاً واحداً مشتعلاً ومنطفئاً في آن واحد ، فيرفض ذلك الشخص تحقيق هذا المطلب

ص: 399

لا لقصور في مصنعه أو في هندسته ، بل لأنّ المقترح لا يمكن - بذاته - أن يتحقّق.

كما أنّ ذلك نظير ما إذا طلبنا من عالم رياضيّ ماهر أن يجعل نتيجة 2×2 أربعة وخمسة في آن واحد ، فيرفض تحقيق ذلك المطلب لا لقصور في مقدرته الرياضية والحسابية ، بل لاستحالة تحقّق هذا المطلب المقترح في حدّ ذاته.

وبهذا يظهر أنّ سعة القدرة وعموميّتها تشمل جميع الممكنات ، والاُمور القابلة بذاتها للايجاد ، وبالتالي فإنّ كل ما هو ممكن التحقّق والوجود بذاته ، يقع في نطاق القدرة الإلهية دون ما لا يمكن تحقّقه ووجوده بذاته ، وهذا بخلاف غيره تعالى فإنّ قدرته قاصرة حتّى بالنسبة إلى كثير من الاُمور والموارد الممكنة.

بينما هو سبحانه قادر على ايجاد المجرّات العظيمة ، وعلى خلق السموات العلى ، ولكن غيره لا يقدر على أقلّ من ذلك مع كونه أمراً ممكناً بالذات.

فيستنتج من ذلك أنّ كلّ ما هو محال ذاتي لا يقع في نطاق القدرة لا لعدم سعتها بل لعدم قابلية هذا النوع من الأشياء للايجاد.

وعلى هذا الأساس لا ينحصر ما قلناه في ما ورد ذكره في هذه الأسئلة ، بل يعم كل ما كان من هذا القبيل ، أي كان من المحال الذاتي.

وبهذا يستطيع القارئ أن يقف على حل جميع الأسئلة المطروحة هنا.

فإنّ الجواب في الجميع هو النفي لا لعدم سعة قدرته سبحانه بل لعدم امكانها أساساً فإنّ جميع هذه الموارد مستلزمة للمحال أو هو بنفسه أمر محال ، ومع ذلك نوقف القارئ على الجواب لكل واحد من الأسئلة المطروحة.

الجواب التفصيلي عن الأسئلة الثلاثة :

أمّا الأوّل أعني قدرته على خلق مثله فالجواب عنه : إنّ خلق المثل لا يقع في اطار القدرة لا لقصور فيها بل لكون وجود المثل لله محالاً بذاته كما أوضحناه في

ص: 400

بحث التوحيد الذاتي.

وبعبارة اُخرى : إنّ مطالبة اللّه سبحانه بأن يخلق مثله مطالبة للجمع بين حالات وصفات متضادّة ومتناقضة غير ممكنة الإجتماع في شيء واحد.

فبما أنّنا نفترض إمكان تعلّق القدرة به يجب أن يكون ممكناً لا واجباً ، حادثاً لا قديماً ، وعلى فرض الوجود متناهياً لا غيره.

وبما أنّ المطلوب هو خلق مثله يجب أن يكون - على فرض الوجود - واجباً لا ممكناً ، قديماً لا حادثاً ، غير متناه لا متناه.

وهذا جمع بين الامكان والوجوب والحدوث والقدم ، والمخلوقيّة والخالقيّة ، والتناهي واللاتناهي في شيء واحد ، وهو أمر محال قطعاً.

وبذلك تتبيّن الإجابة عن السؤال الثاني فإنّ عدم تعلّق القدرة بجعل العالم الفسيح العظيم الحجم في بطن البيضة الصغيرة ليس لقصور القدرة ، وعدم سعتها ، بل لأنّ المقترح أمر غير ممكن في حدّ ذاته ، ومستلزم للمحال ، إذ من جانب أنّ العقل يحكم بالبداهة بأنّ الظرف يجب أن يكون أكبر من مظروفه ، والمظروف أصغر من ظرفه ، ومن جانب آخر نطلب منه سبحانه شيئاً يكون الظرف فيه أصغر من مظروفه.

فعلى فرض التحقّق يلزم أن يكون شيء واحد في آن واحد بالنسبة إلى شيء واحد أصغر وأكبر وهو الجمع بين النقيضين ، الممتنع بالبداهة.

أمّا السؤال الثالث : فهو أيضاً محال أو مستلزم للمحال ، ففرض خلقه سبحانه شيئا لا يقدر على إفنائه فرض يستلزم المحال.

فبما أنّ الشيء المذكور أمر ممكن فهو قابل للافناء ولكنّه حيث قيّد بعدم الفناء يجب أن يكون واجباً غير قابل للفناء ، وهذا يعني أن يجتمع في ذلك الشيء حالتان متناقضتان هما : الإمكان والوجوب ، وإن شئت قلت : القابلية للفناء وعدم

ص: 401

القابلية له ، وهو محال.

وبعبارة اُخرى : بما أنّ الشيء المذكور في السؤال المفروض فيه أنّه مخلوق لله سبحانه يجب أن يكون قادراً على إفنائه مع انّا قيّدناه بعدم القابلية للفناء ، فيلزم أن نفترض كونه قابلاً للافناء وغير قابل له في آن واحد.

وممّا ذكرناه هنا يتبيّن حال كل مورد من هذا القبيل مثل أن يخلق اللّه جسماً لا يقدر على تحريكه ، فإنّ هذا من باب « الجمع بين المتناقضين » إذ بما أنّ ذلك الجسم مخلوق متناه يجب أن يكون قابلاً للتحريك ، وفي الوقت نفسه نفترض أنّه غير قادر على تحريكه.

فيكون السائل في هذا السؤال قد افترض إمكان تحريكه وعدمه ، وافترض كذلك قدرته وعدم قدرته على ذلك.

وعلى الجملة فهذه الفروض وأمثالها ممّا تدور على الألسن لا تضرّ بعموم القدرة ، ولا توجب تحديداً فيها بل المفروض في كل من هذه الأسئلة أمر محال ذاتاً وهو خارج عن محل البحث.

الثامن والتسعون : « القاهر »

وقد جاء القاهر في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال سبحانه : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / 18 ).

وقال سبحانه : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) ( الأنعام / 61 ).

ص: 402

التاسع والتسعون : « القهّار »

وقد ورد في القرآن في موارد ستّة ووقع اسماً له سبحانه فيها وقورن مع اسم « الواحد ».

وقال سبحانه : ( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / 39 ).

وقال سبحانه : ( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الرعد / 16 ).

وقال سبحانه : ( وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( إبراهيم / 48 ).

وقال سبحانه : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( سورة ص / 65 ).

وقال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الزمر / 4 ).

وقال سبحانه : ( لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر / 16 ).

وبما أنّ الاسمين مشتقّان من مادة واحدة نبحث عنهما في مقام واحد فنقول : « القاهر » و « القهّار » من القهر.

قال ابن فارس : « القهر » يدل على غلبة وعلوّ ، والقاهر : الغالب ، وقُهر ( بصيغة المجهول ) إذا غُلب ، وقال الراغب : القهر : الغلبة والتذليل معاً ويستعمل في كل واحد منهما.

قال عزّ وجلّ : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) أي لا تذلّل ، والظاهر أنّ الذلّة تلازم الغلبة فهي مفهوم إضافي قائم بالغالب والمغلوب والقاهر والمقهور.

قال الصدوق : « القدير » و « القاهر » معناهما أنّ الأشياء لا تطبيق الامتناع منه وممّا يريد الانفاذ فيها (1).

ص: 403


1- التوحيد للصدوق : ص 198.

قال العلاّمة الطباطبائي : « القهر نوع من الغلبة وهو أن يظهر شيء على شيء فيضطرّه إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الأثر كغلبة الماء على النار فيقهرها على الخمود.

فالقاهر من الأسماء التي تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره ، غير أنّ بين قهره تعالى وقهر غيره فرقاً وهو أنّ غيره تعالى من الأشياء انّما يقهر بعضه بعضاً وهما مجتمعان في مرتبة وجودها ، والماء والنار مثلاً موجودان طبيعيان يظهر أثر الأوّل في الثاني ، واللّه سبحانه قاهر لا كقهر الماء على النار بل هو قاهر بالتفوّق والإحاطة على الاطلاق ، فهو تعالى قاهر على عباده لكنّه فوقهم لا كقهر شيء شيئاً وهما متزاملان ، وقد جاء ذلك الاسم في كلا الموضعين في ( سورة الانعام / 16 - 61 ) مقترناً بقوله « فوق عباده » والغالب في موارد استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من اُولي العقل بخلاف الغلبة » (1).

لأجل ذلك صدَّر الآية الاُولى بقوله سبحانه : ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الأنعام / 17 ).

كما أنّه سبحانه يقول : في ذيل الآية الاُخرى : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) ( الأنعام / 61 ).

وإنّ استسلام الإنسان للخير والضرّ والموت آية كونه قاهراً على العباد.

ثمّ إنّه قال سبحانه : ( الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) ولم يقل « القاهر عباده » وسيوافيك وجهه. ومن عجيب القول استدلال الحنابلة بهذه الآيات على أنّ لله جهة وهي الفوقيّة الذاتية ، مع أنّ الملاك في كون الشيء قاهراً والشيء الآخر مقهوراً وذليلاً هو قهّاريّته وقدرته الواسعة ، لا كونه واقعاً في أفق عال من حيث الحسّ والجهة ،

ص: 404


1- الميزان : ج 7 ، ص 33 - 34 بتلخيص منّا.

والفوقيّة في الآية نظير ما في سائر الآيات مثل قوله : ( وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ( آل عمران / 55 ).

قال : ( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) ( الأعراف / 127 ). غير أنّ الفوقيّة فيهما معنوية اعتبارية ، والفوقية في المقام تكوينيّة نابعة من كون أحدهما علّة والآخر معلولاً.

ولعلّ استعمال القاهر مع فوق في كلتا الآيتين لأجل الاشارة إلى أنّ القاهر والمقهور ليسا في درجة من الوجود ، بل القاهر فوق المقهور في الوجود والكينونة ، وهو المالك للمقهور ، لما للقاهر من وجود وخصوصيّة ، فالقهر ينبع من كون أحدهما مالكاً والآخر مملوكاً ، ملكية ناشئة من الخلق والإيجاد ، لا الوضع والاعتبار.

والظاهر أنّ « القهّار » صيغة مبالغة من « القاهر » والفرق بينهما هو الفارق بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة وربّما يقال : إنّ القهّار اسم له تعالى باعتبار ذاتيّة غلبته على خلقه واستيلائه على جميع الموجودات ، والقاهر اسم له تعالى باعتبار إعمال تلك الصفة في عالم الفعل (1).

ولم يعلم وجه هذا الفرق. قال أمير المؤمنين علیه السلام : « يا من توحّد بالعزّ والبقاء وقهر عباده بالموت والفناء » (2).

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فالقهَّار من العباد من قهر أعدائه ، وأعدى عدوّه نفسه التي بين جنبيه فإذا قهر شهوته وغضبه فقد قهر أعدائه ، وفي ذلك إحياء لروحه (3).

ص: 405


1- شرح الأسماء الحسنى للسيد حسين الهمداني : ص 86.
2- دعاء الصباح.
3- لوامع البينات للرازي : ص 223.
المائة : « القدّوس »

وقد جاء القدُّوس في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال سبحانه : ( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) ( الحشر / 23 ).

وقال سبحانه : ( يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) ( الجمعة / 1 ).

كما أنّه جاء المقدَّس مذكّراً ومؤنّثاً في موارد ثلاثة ووقع وصفاً للوادي والأرض.

قال سبحانه : ( إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) ( النازعات / 16 ).

وقال سبحانه : ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) ( طه / 12 ).

وقال سبحانه : ( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ) ( المائدة / 21 ). ومن ملاحظة مجموع الآيات ، يعرف معناه.

وهو كما قال ابن فارس : شيء يدلّ على الطهر ، والأرض المقدّسة المطهّرة ، وتسمّى الجنّة حظيرة القدس ، وجبرئيل « روح القدس » ووصف اللّه تعالى ذاته بالقدّوس بذلك المعنى لأنّه منزّه عن الأضداد والأنداد والصاحبة والولد. تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

فالظاهر ممّا ورد من هذه المادة في القرآن الكريم هو الطهارة من القذارة المعنويّة والنزاهة عمّا لا يناسب ساحة الشيء. قال حكاية عن الملائكة : ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ( البقرة / 30 ). والظاهر أنّ التسبيح والتقديس في الآية بمعنى واحد ، وهو تنزيهه عن الشرك والمثل ، وكل ما يعدّ نقصاً.

وهناك نكتة لافتة للنظر وهو أنّ اسم القُدُّوس ورد بعد إسم الملك في الآيتين

ص: 406

ولعلّه لبيان أنّ كونه تعالى ملكاً يفارق كون غيره ملكاً ، فالملوكيّة جُبِلت على الظلم والتعدّي والإفساد.

قال سبحانه : ( إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) ( النمل / 34 ).

وقال سبحانه : ( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) ( الكهف / 79 ).

فذكره مع اسم « القدُّوس » لتبيين نزاهته من كل ما ينسب إلى الملوك من الأفعال والصفات ، ثمّ إنّ اسم القدُّوس يدلّ على تعاليه عن كل ما لا يناسب ساحته فيندرج تحته الصفات السلبية التي ذكرها المتكلّمون في كتبهم وهي :

1 - واحد ليس له نظير ولا مثيل.

2 - ليس بجسم ولا في جهة ولا في محلّ ولا حالّ ومتحد.

3 - ليس محلاً للحوادث.

4 - لا تقوم اللَّذة والألم بذاته.

5 - لا تتعلّق به الرؤية.

6 - ليست حقيقته معلومة لغيره بكنهه وبالتالي ليس جوهراً ولا عرضاً.

وقد برهن المتكلّمون على نفي هذه الصفات عن ساحته ببراهين رصينة من أراد فليرجع إليها (1).

ص: 407


1- لاحظ « الالهيات » : ص 453 - 487 محاضراتنا بقلم الفاضل الشيخ حسن مكي العاملي.
المائة والواحد : « القريب »

وقد استعمل القريب مرفوعاً ومنصوباً في الذكر الحكيم 26 مّرة ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثلاثة.

قال سبحانه : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ( البقرة / 186 ).

وقال سبحانه : ( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ) ( هود / 61 ).

وقال سبحانه : ( وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) ( سبأ / 50 ).

ولأجل المناسبة بين قربه سبحانه وسماع دعاء العبد ضمّ إليه وصف المجيب تارة والسميع اُخرى وقد مرّ تفسير ذلك الاسم عند البحث عن اسم « الأقرب » فلاحظ.

المائة والثاني : « القويّ »

وقد جاء لفظ « القويّ » في الذكر الحكيم معرّفاً ومنكراً 11 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في 8 موارد.

قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / 52 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) ( هود / 66 ).

وقال سبحانه : ( وَلَيَنصُرَنَّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحج / 40 ).

إلى غير ذلك من الآيات (1).

وقد استعمل تارة مع اسم « العزيز » واُخرى مع « شديد العقاب ».

ص: 408


1- لاحظ ( غافر / 22 ) ، ( الشورى / 19 ) ، ( الحديد / 25 ) ، ( المجادلة / 21 ) ، ( الاحزاب / 25 ).

وأمّا معناه فقد ذكر ابن فارس له معنيان فقال : « يدل أحدهما على شدّة وخلاف ضعف ، والآخر على خلاف هذا وعلى قلّة خير ، فالأوّل القوّة والقوي خلاف الضعيف » (1).

وقال الراغب : القوّة تستعمل تارة في معنى القدرة نحو قوله : ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ) وتارة للتهيّؤ الموجود في الشيء نحو أن يقال : النوى بالقوّة نخل أي متهيّئ ومترشح أن يكون منه ذلك.

الظاهر أنّ القوّة لا ترادف القدرة المطلقة بل المراد هو المرتبة الشديدة ، سواء أريد منه القوّة البدنيّة نحو قوله : ( وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) أو القدرة القلبية مثل قوله ( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) أي بقوّة قلب ، أو القوّة الخارجيّة ، مثل قوله ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ) .

والمراد المال والجند وقال : ( نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ) ، وعلى هذا يعود معنى القوّة إلى القدرة التامّة التي لا يعارضها شيء ، ولأجل ذلك قورن مع « شديد » تارة و « العزيز » اُخرى ، فمعنى قوله : ( قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) : انّه سبحانه قويّ لا يضعف عن أخذهم ، شديد العقاب إذا أخذ.

قال الصدوق : « القويّ معناه معروف وهو القويّ بلا معاناة ولا استعانة » (2).

قال الرازي : « اتّفق الخائضون في تفسير أسماء اللّه على أنّ القوّة هنا عبارة عن كمال القوّة ، كما أنّ المتانة عبارة عن كمال القوّة فعلى هذا ، « القوّة المتينة » اسم للقدرة البالغة في الكمال إلى أقصى الغايات ».

ثمّ قال : « وعندي أنّ كمال حال الشيء في أن يؤثّر ، فيسمّى قوّة وكمال حال

ص: 409


1- الأصل نادر الاستعمال.
2- التوحيد : ص 210.

الشيء أن لا يقبل الأثر من الغير فيسمّى أيضاً قوّة ، وذلك لأنّ الإنسان الذي يقوى على أن يصرع الناس يسمّى قويّاً شديداً والإنسان الذي لا ينصرع من أحد يسمّى أيضاً قوياً ، وبهذا التفسير يسمّى الحجر والحديد قويّاً » (1).

أقول : الظاهر أنّ ما ذكره من التفصيل للقوّة تحليل فلسفي ، والمتبادر من القوّة هو القدرة التامّة. نعم لازم كونه كذلك أن يكون مؤثّراً في الممكنات ، وأن لا يؤثّر فيه شيء ، لأنّ التأثّر من الغير آية الضعف ، فهو المؤثّر في كل شيء ، ولا يتأثّر من كل شيء ، والظاهر أنّ اطلاق القويّ على اللّه في الآيات بالاعتبار الأوّل.

يقول سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / 58 ).

ويقول سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / 52 ).

فإنّ شدّة العقاب آية التأثير في الغير وقال : ( وَكَفَى اللّهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) ( الأحزاب / 25 ). فالغلبة في القتال آية القوّة. المائة والثالث : « القيُّوم »

قدورد لفظ « القيّوم » في الكتاب العزيز 3 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في جميع الموارد.

قال سبحانه : ( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) ( البقرة / 255 ).

وقال : ( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ ) ( آل عمران / 2 و 3 ).

ص: 410


1- لوامع البينات : ص 294.

وقال سبحانه : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) ( طه / 111 ).

وأمّا معناه فقد قال الراغب : « القيّوم » القائم الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه ، وذلك هو المعنى المذكور في قوله : ( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ( طه / 50 ).

ففي قوله : ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) ( الرعد / 33 ).

قال الصدوق : « القيّوم » و « القيّام » هما فيعول وفيعال من قمت بالشيء ، إذا ولّيته بنفسك وتولّيت حفظه وإصلاحه وتقديره.

وفسّر الرازي كونه قيّوماً ب « قيام الممكنات بأسرها به ، فهو قائم بالذات وغيره قائم بالغير ».

قال العلاّمة الطباطبائي : « القيّوم من القيام ، وصف يدل على المبالغة ، والقيام هو حفظ الشيء ، وفعله ، وتدبيره ، وتربيته ، والمراقبة عليه ، والقدرة عليه ، كلّ ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب ، للملازمة العاديّة بين الامتثال وهذه الاُمور ، وقد أثبت اللّه تعالى أصل القيام - باُمور خلقه - لنفسه ».

قال سبحانه : ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) .

وقال سبحانه : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( آل عمران / 18 ).

فأفاد أنّه قائم على الموجودات بالعدل ، فلا يعطي ولا يمنع شيئاً إلاّ بالعدل باعطاء كل شيء ما يستحقّه ، وإنّ القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين ، فبعزّته يقوم على كل شيء ، وبحكمته يعدل.

وبعبارة اُخرى لمّا كان تعالى هو المبدئ الذي يبتدئ منه وجود كل شيء

ص: 411

وأوصافه وآثاره ، ولا مبدئ سواه ، إلاّ وهو ينتهي إليه ، فهو القائم على كل شيء من كل جهة ، القيام الذي لا يشوبه فتور وخلل ، وليس ذلك لغيره قط إلاّ بإذنه ومشيئته (1).

ثمّ إنّ كونه سبحانه قيّوماً وقائماً بكل شيء لا ينافي كون الموجودات الامكانية ذا آثار وخصائص وأفعال وأعمال تنسب إليها على وجه الاضطرار كالحرارة إلى النار أو على وجه الاختيار كالافعال الاختيارية للإنسان ، فإنّ قيام هذه الاُمور بآثارها وأفعالها ليس بنفسها وإنّما هي آثار لها باذنه سبحانه ومشيئته ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ نسبة الوجودات الإمكانية إلى الواجب ، نسبة المعاني الحرفيّة إلى الاسميّة ، فلو غضّ النظر عن المعنى الاسمي فلا يبقى لها أثر في الذهن والخارج.

وبذلك يظهر أنّ اسم « القيّوم » اُمّ الأسماء الإضافية الثابتة له تعالى جميعاً والمراد منها الأسماء التي تدلّ على معان خارجة عن الذات كالخالق والرازق والمبدئ والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها.

وبعبارة اُخرى : إنّما هو اُمّ لصفاته الفعلية جميعاً.

ويقول الرازي : إنّ قوله الحي القيّوم كالينبوع لجميع مباحث العلم الالهي ولعلّه يشير بذلك إلى أنّ قيام الممكنات به يستلزم حضورها عنده ، وحضورها لديه يستلزم علمه به كما يستلزم تدبيره و ...

ص: 412


1- الميزان : ج 2 ، ص 330.

حرف الكاف

المائة والرابع : « الكافي »

قد ورد في الذكر الحكيم مرّة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى : ( أَلَيْسَ اللّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ( الزمر / 36 ).

أمّا معناه ، فقال ابن فارس : يدل على « الحسب » الذي لامستزاد فيه وهذا هو المتبادر من سائر مشتقّاته في القرآن وغيره ، وقال : ( وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) ( الفرقان / 31 ).

قال الراغب : الكفاية ما فيه سد الخلّة وبلوغ المراد من الأمر وهو سبحانه الكافي في اُمور العبد ، وهو يقوم بكلّ ما يحتاج إليه العبد ، ولو يخوّفونك أيّها النبي ، فاللّه هو الكافي ، قال سبحانه : ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ( البقرة / 137 ).

المائة والخامس : « الكبير »

قد ورد لفظ « الكبير » مرفوعاً ومنصوباً 36 مرّة ، وقع وصفاً له سبحانه في موارد ستّة ، وإقترن باسم « المتعال » تارة و « العلي » اُخرى.

قال سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ ) ( الرعد / 9 ).

ص: 413

وقال سبحانه : ( وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( الحج / 62 ) (1).

وأمّا معناه : فقد قال ابن فارس : يدل على خلاف الصغر ، والكِبْر - بكسر الكاف وسكون الباء - معظم الأمر ، قوله عزّ وجلّ : ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ ) ( النور / 11 ) أي معظم أمره ، وأمّا الكبر - بضم الكاف - فهو القعيد ، يقال : الولاء للكبر يراد به أقعد القوم في النسب وهو الأقرب إلى الأب الأكبر.

قال الراغب : « الكبير والصغير من الأسماء المتضايفة التي تقال عند اعتبار بعضها ببعض ويستعملان في الكمّية المتّصلة كالأجسام وذلك كالكثير والقليل ، وفي الكميّة المنفصلة كالعدد ، وثمّ استعير للمتعالي فيطلق على ما اعتبر فيه المنزلة والرفعة نحو « قل أي شيء أكبر شهادة ؟ قل اللّه شهيد بيني وبينكم » ونحو الكبير المتعال ، ومنه قوله : « كذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها » أي رؤسهائها.

أقول : « إنّ اقتران اسم « المتعال » و « العلي » بالكبير ، يعرب عن كون الملاك في توصيفه سبحانه هو الرفعة والمنزلة ، وكل كمال يتصوّر.

والصدوق فسّره بالسيّد قائلاً : بأنّ سيد القوم كبيرهم ، ولكن مراده ما ذكرناه ، وقال : « الكبرياء » اسم التكبّر والتعظّم ، وقال العلامة الطباطبائي : « والذي يناسب ساحة قدسه تعالى من معنى الكبرياء أنّه تعالى يملك كل كمال لشيء ويحيط به ، فهو تعالى كبير أي له كمال كل ذي كمال وزيادة » (2).

ولأجل علو منزلته ورفعتها ، وقع علّة لكون الحكم له دون غيره قال : ( وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالحُكْمُ للهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) ( غافر / 12 ).

ص: 414


1- لاحظ أيضا ( النساء / 34 ) ، ( لقمان / 30 ) ، ( سبأ / 32 ) ، ( غافر / 12 ).
2- الميزان : ج 11 ، ص 338.
المائة والسادس : « الكريم »

قد ورد في الذكر الحكيم مرفوعاً ومنصوباً 26 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثلاثة :

قال سبحانه : ( فَتَعَالَى اللّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) ( المؤمنون / 116 ) ، وقال سبحانه : ( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ( النمل / 40 ) ، وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ( الانفطار / 6 ).

وأمّا معناه فقال ابن فارس : فهو شرف الشيء في نفسه أو شرف في خلق من الأخلاق يقال رجل كريم وفرس كريم. الكرم في الخُلق يقال هو الصفح عن ذنب المذنب. قال عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة : الكريم الصفوح واللّه تعالى هو الكريم الصفوح عن ذنوب عباده المؤمنين.

قال الراغب : إذا وصف اللّه تعالى به فهو اسم لإحسانه وانفاقه المتظاهر نحو قوله : ( إِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه.

وما ذكره هو الظاهر في قوله : « غنيّ كريم » دون سائر الآيات ، وكيف وقد وصف اُمور كثيرة بمعنى واحد.

وذلك كالرزق نحو : ( وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) ( الأنفال / 4 ) والملك نحو : ( إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) ( يوسف / 31 ) ، والمقام نحو : ( وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) ( الشعراء / 58 ) ، والرسول نحو : ( رَسُولٌ كَرِيمٌ ) ( الدخان / 17 ) ، والكتاب نحو : ( أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) ( النمل / 29 ). والتوصيف في الجميع بمعنى واحد.

ولذلك لجأ الصدوق إلى ذكر معنيين له ففسّره تارة بالعزيز ، يقال : فلان أكرم عليّ من فلان أي أعز منه ، ومنه قوله عزّ وجلّ : ( لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) واُخرى بالجواد

ص: 415

المتفضّل يقال رجل كريم أي جواد.

والظاهر أنّ الكريم له معنى واحد وهو ما نبّه إليه ابن فارس أعني الشرف في الذات أو في الخلق ، والأنعام والجود من مظاهره ، كما أنّ الصفح عن العدو بعد المقدرة عليه من آثاره ، وإلى ذلك يرجع ما ذكره بعضهم في تفسيره بأنّه كون الشيء تامّاً بحسب مرتبته واللّه سبحانه كريم باعتبار تماميّته في الوهيّته ذاتاً وصفة وفعلاً.

وأمّا توصيف الكافر بالكريم في قوله سبحانه : ( ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) ( الدخان / 49 ). فإنّما هو للاستهزاء تشديداً لعذابه ، فقد كان يرى في الدنيا لنفسه عزّة وكرامة لا تفارقانه كما يظهر ممّا حكى اللّه سبحانه من قوله : ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى ) ( فصّلت / 50 ).

ص: 416

حرف اللام

المائة والسابع : « اللطيف »
اشارة

وقد ورد في الذكر الحكيم ستّ مرّات ووقع في الجميع وصفاً له سبحانه وقورن ب « الخبير » تارة و « العليم الحكيم » تارة اُخرى.

قال سبحانه : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الانعام / 103 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) ( يوسف / 100 ).

وقال سبحانه : ( فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) ( الحج / 63 ).

وقال سبحانه : ( فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان / 16 ).

وقال سبحانه : ( اللّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) ( الشورى / 19 ).

وقال سبحانه : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الملك / 14 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) ( الأحزاب / 34 ).

أمّا معناه فالظاهر من ابن فارس أنّ له معنيين أحدهما « الرفق » والثاني « صغر

ص: 417

في الشيء » (1).

فمن الأوّل قوله : ( اللّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ... ) .

وأمّا الثاني فالظاهر أنّ المراد من الصغر في الشيء هو كونه دقيقاً فوق الحسّ. ولأجل ذلك علّل سبحانه قوله : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) بكونه لطيفاً كما تقدّم وربّما يتطوّر ويستعمل في النافذ في الأشياء لأنَّ الشيء الصغير ينفذ في المجاري والثقوب الصغار. ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه علّل علمه بما خلق بكونه لطيفاً ، وقال سبحانه : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الملك / 14 ) وعليه فيصحّ تفسيره بكونه مجرّداً أو ما هو قريب منه ويكون كناية عن حضوره وإحاطته بباطن الأشياء وظاهرها ، وربّما يكنّى به عن تعاطي الاُمور الدقيقة كما في قوله سبحانه : ( فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) ( الحج / 63 ) ، وعليه يحمل قوله سبحانه : ( فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ) ( الكهف / 19 ) أي يعمل بلطف ودقّة.

هذا على القول بأنّ لمصدر « اللطيف » معنيين : الرفق والدّقة ، ويمكن ارجاع المعنى الأوّل إلى الثاني أيضاً لأنّ الرأفة والمحبّة رهن تعاطي الاُمور الدقيقة حتى تستهوي القلوب.

وعلى كل حال فاللّه سبحانه « لطيف » أي دقيق لا يدرك ، ويتعاطى الاُمور الدقيقة فيخلق أشياء فوق الحواس ، لطيف أي رؤوف بأعمال الاُمور الدقيقة وهكذا ، فتوصف به الذات كما يوصف به الفعل.

قال الرازي : « إنّ اللطيف له تفاسير أربعة :

1 - إنّ الشيء الصغير الذي لا يحسّ به لغاية صغره يسمّى لطيفاً ، واللّه

ص: 418


1- يظهر من القاموس أنه إذا أخذ « لطف » من باب « نصر » يكون بمعنى البرّ والاحسان ، وإذا اخذ من باب « كرم » يكون بمعنى صغر ودقة.

سبحانه لمّا كان منزّها عن الجسميّة والجهة لم يحسّ به ، فأطلقوا اسم الملزوم على اللازم ، فوصفوه تعالى بأنّه لطيف أي غير محسوس ، وكونه لطيفاً بهذا الاعتبار يكون من صفات التنزيه.

2 - اللطيف هو العالم بدقائق الاُمور وغوامضها ، وعلى هذا التفسير يكون اللطف عبارة عن سعة علمه فيكون من الصفات الذاتية.

3 - اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ويهيء مصالحهم من حيث لا يحتسبون ، ومنه قوله سبحانه : ( اللّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ) .

4 - اللطيف من يعلم حقائق المصالح وغوامضها ثم يسلك في إيصالها إلى مستحقها سبيل الرفق دون العنف.

فإذا اجتمع هذا العلم وهذا العمل تم معنى اللطف » (1).

ولا يخفى أنّ ما ذكره من المعاني الأربعة من لوازم معنى اللطيف وهو الدقيق أو من يتعاطى الأعمال الدقيقة واللّغة العربية خصيصتها التطوّر واشتقاق معنى من معنى بمناسبة فطرية أو ذوقيّة ، فمعنى اللطيف وإن لم يمكن تحديده بوجه كامل ، ولكن المراد منه واضح في الآيات.

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فلو فسّر اللطيف بالرفق فحظّه الرفق بعباد اللّه كاللطف بهم في الدعوة إلى اللّه كما قال سبحانه : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا ) ( طه / 44 ).

فإن فسّر بتعاطي الأعمال الدقيقة فحظّه هو الدقة في الأعمال والأقوال وترك التساهل والمسامحة.

ص: 419


1- لوامع البينات : ص 246.
كلام في رؤيته سبحانه

قد وقفت على أنّه سبحانه علّل قوله : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) بكونه لطيفاً خبيراً ، فاللطيف تعليل للحكم السلبي ، والخبير تعليل للحكم الإيجابي ، وعلى ذلك فاللّه سبحانه فوق أن يكون مرئيّاً للأبصار ، محاطاً بالجهة والمكان ، فمن كان هذا خصيصته ، لا يرى في الدنيا والآخرة.

ولكن الأسف إنّ هذا الأصل العقلي قد وقع مورد نقاش بين المسلمين فذهبت طائفة إلى امكان رؤيته في الدنيا والآخرة كما ذهبت طائفة اُخرى إلى التفصيل وهو أنّه سبحانه لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة تبعاً للحديث النبوي : « إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر » (1) وإليك التفصيل.

اتّفقت العدلية على أنه سبحانه ليس جسماً ولا له جهة ، وبالتالي لا يمكن رؤيته لا في الدنيا ولا في الاخرة ، وأمّا غيرهم فالمجسّمة الذين يصفون اللّه سبحانه بالجسم ويثبتون له الجهة جوّزوا رؤيته في الدارين.

وأمّا الأشاعرة فهم يعدّون أنفسهم من أهل التنزيه ولكنّهم يقولون بالرؤية يوم القيامة فقط (2).

وقد ذكر الإمام أبو الحسن الأشعري أقوالاً في الرؤية تربو على تسعة عشر قولاً ، غير أنّ أكثرها سخافات ومن عجيب ما جاء في خلال تلك الأقوال : إنّ « ضراراً » و « حفصا الفرد » يقولان : إنّ اللّه لا يرى بالأبصار ، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسّة سادسة غير حواسّنا فندركه بها.

قال الحسين النجّار : إنّه يجوز أن يحوّل العين إلى القلب ويجعل لها قوّة

ص: 420


1- مسند أحمد : 3 / 16.
2- المواقف : ج 2 ، ص 368.

العلم فيعلم بها ويكون ذلك العلم رؤية له ( أي علماً له ) (1).

وفي القولين الأخيرين محاولة لتصحيح الرؤية مع التحفّظ على التنزيه ، ولكنّها غير ناجعة لأنّ الحسّ السادس إذا كان حسّا ، لا يتعلّق إلا بالمادّة والمادّيّات ، واللّه سبحانه فوقها ، وأمّا تحوّل العين إلى القلب وتصحيح الرؤية بالعلم فهو خارج عن البحث ، فإنّ البحث إنّما هو رؤية اللّه بالعيون والأبصار المتعارفة لا بالقلب. فالمعتزلة والخوارج وطوائف من المرجئة والإمامية والزيديّة ينكرونها وأهل الحديث والأشاعرة يثبتونها ولولا ظواهر بعض الآيات والأحاديث الواردة في المقام ، لالتحقت الأشاعرة بالعدليّة في نفي الرؤية ، ولكنّها صدّتهم عن التنزية في المقام.

ما هي حقيقة الرؤية ؟

إنّ في الرؤية قولين معروفين :

1 - انعكاس صورة المرئيّ بواسطة الهواء الشفّاف الذي لا لون له فلا يستر ما ورائه إلى الرطوبة الجليدية التي في العين وانطباعها في جزء منها ، وذلك الجزء الذي تنطبع فيه الصورة ، زاوية رأس مخروط متوّهم ، لا وجود له أصلاً ، قاعدته سطح المرئيّ ، ورأسه عند الباصرة (2).

2 - يخرج من العين جسم شعاعيّ على هيئة المخروط المتحقّق ، رأسه على العين وقاعدته تلي المبصر ، والإدراك التام إنّما يحصل من الموضع الذي هو موضع سهم المخروط.

هذان القولان يتعلّقان بالقدماء من الطبيعيين.

والأوّل لمدرسة أرسطو ، والثاني لغيره ، وقد كشف العلم الحديث عن حقيقة

ص: 421


1- مقالات الإسلاميين : ص 261 - 265 و 314.
2- مقالات الإسلاميين : ص 321.

الرؤية بعد دراسة تركيب العين وأجهزتها ، وحداهم البحث إلى دعم القول الأوّل لكن بصورة أدق ، وعلى ذلك فالرؤية بالأبصار والعيون المتعارفة لا تتحقّق إلاّ أن يكون المرئيّ في جهة ومكان ومسافة خاصّة بينه وبين الرائي ، ولا محيص في تحقّق الرؤية عن المقابلة ، وفي ضوء ذلك نحكم بامتناع وقوع الرؤية على اللّه سبحانه لاستلزامه كونه ذا جهة ومكان خاص حتى تتحقّق الرؤية ، وما ذكرناه وإن كان كافياً في إبطال الرؤية ولكن تكميلاً للبحث نأتي بأدلّة المنكرين وهو دليل واحد يقرّر بوجوه.

تقرير أدلة المنكرين بوجوه أربعة :

« إنّ اللّه تعالى ليس في جهة ولا في مكان بدليل أنّ ما كان في الجهة والمكان مفتقر إليهما وهو محال عليه. واللّه تعالى ليس بمرئيّ بدليل أنّ كل مرئي لابد أن يكون في جهة (1).

وكل من نفى الرؤية يعتمد على ذلك البرهان وحاصله أنّ الرؤية إنّما تصحّ لمن كان مقابلاً أو في حكم المقابل والمقابلة إنّما تكون في حقّ الأجسام ذوات الجهة واللّه تعالى ليس في جهة فلا يكون مرئياً.

ويمكن تقرير البرهان بصورة اُخرى وهو أنّ الرؤية إمّا أن تقع على الذات كلّها أو على بعضها ، فعلى الأوّل يلزم أن يكون محدوداً متناهياً محصوراً شاغلاً لناحية من النواحي وخلوّ النواحي الاخرى منه تعالى وذلك مستحيل ، وإمّا أن تقع على بعض الذات فيلزم أيضا أن يكون مركبّاً متحيّزاً ذا جهة إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة الباطلة المرفوضة في حقّه تعالى.

هذا ويمكن تقريره بوجه ثالث هو أنّ الرؤية بأجهزة العين نوع إشارة بالحدقة وهو سبحانه منزّه عن الإشارة.

ص: 422


1- مجموعة الرسائل العشر ، المسئلة 16 - 17.

وبتقرير رابع : إنّ الرؤية لا تتحقّق إلاّ بانبعاث أشعّة من المرئيّ إلى أجهزة العين وهو يستلزم أن يكون سبحانه جسماً ذات أبعاد ومعرضاً لعوارض وأحكام جسمانيّة وهو المنزّه عن كلّ ذلك (1).

وهذه التقارير الأربعة تعتمد لبّاً على أمر واحد : وهو انّ تجويز الرؤية يستلزم كونه جسماً أو جسمانيّاً غير أنّ الطرق مختلفة ، والأوّل يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم أن تكون ذا جهة وحيّز ، والثاني يعتمد على كونه سبحانه متناهية إذا وقعت الرؤية على تمام الذات أو مركّبة إذا وقعت على بعضها ، والثالث يعتمد على أنّها تستلزم الإشارة ، وهو فوق أن يقع في إطارها ، والرابع يعتمد على أنّها تستلزم أن يكون جسماً وذا عوارض جسمانيّة.

والحاصل انّ إثبات الرؤية والأبصار بغير مقابلة وجهة مع كون الرؤية بالعيون والأبصار كالجمع بين وجود الشيء وعدمه نظير تصوّر كون المربّع فاقداً لبعض أضلاعه وهو في الوقت نفسه مربّع تام.

وما ربّما يظهر من بعض محقّقي الأشاعرة من الجمع بين الرؤية وعدم الجهة وما يشابهها محاولة باطلة (2) لا تليق أن تسطّر.

وربّما يتصوّر أنّ كون ما في الآخرة يغاير ما في الدنيا ، فلعلّ الرؤية هناك متحقّقة بلا جهة واشارة ، وهذا أشبه بالسفسطة ، فإنّ المراد من المغايرة هو كون ما في الآخرة أكمل ممّا في الدنيا ، لا المغايرة من حيث الماهيّة والواقعيّة ، والقواعد العقليّة لا تخصّص بل هي سائدة في الدارين.

ص: 423


1- لاحظ أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ص 82 - 83 ، واللوامع الالهية : ص 81 - 82 وقواعد المرام في علم الكلام - للشيخ ميثم بن على البحراني المتوفّى عام 689 - وكشف المراد : ص 182.
2- لاحظ شرح التجريد للفاضل القوشجي.

القرآن يتلقى الرؤية أمراً منكراً إنّ الدقّة في الآيات الواردة حول الرؤية وسؤال بني اسرائيل إيّاها من نبيّهم يقف على أنّ القرآن يقابلها بالاستنكار الشديد فيتلقّاها أمراً منكراً.

1 - قال سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) ( البقرة / 55 ).

2 - قال سبحانه : ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ... ) ( النساء / 153 ).

3 - وقال سبحانه : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / 155 ).

4 - وقال سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) ( الأعراف / 143 ).

ومن أمعن في هذه الآيات من دون رأي مسبق يقف على أنّ القرآن يستنكر رؤية اللّه ويقابل من يطلبها ، بالصاعقة والرجفة واللّوم ، فمع هذه النصوص كيف يمكن لنا القول بجواز رؤيتها في الدنيا والآخرة ، أو في خصوص الآخرة ؟ فإنّ الأحكام العقليّة لا تقبل التخصيص ، فالجمع بين الضدين أو النقيضين محال في الدارين ، وهكذا القواعد الرياضيّة صادقة فيهما ، فهي لا تتخلّف في ظرف من الظروف وإلاّ صارت قضايا مشكوكة غير منتجة.

ص: 424

سبحانك أنت القائل : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) .

سبحانك أنت القائل : ( لَن تَرَانِي - يا موسى - ) مقروناً بلن للتأبيد في النفي.

سبحانك أنت القائل : ( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) .

إنّ الذين يتمنّون رؤيته في الدنيا والآخرة إنّما يتمنّون أمراً محالاً غافلين أنّ العيون لا تدركه بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، فهو قريب من الأشياء ، غير ملابس ، بعيد عنها غير مبائن (1).

إنّ المصرّين على جواز الرؤية يتخيّلون أنّها عقيدة إسلامية وردت في الكتاب والسنّة ولكنهم غفلوا عن أنّها طرحت من قبل الأحبار والرهبان بتدليس خاص ، فهم الأساس لهذه المسائل التي لا تجتمع مع قداسته وتنزيهه سبحانه ، فهذا هو العهد العتيق مليء بالأخبار عن رؤيته تعالى وإليك مقتطفات منه :

1 - « رأيت السيّد جالساً على كرسي عال ... فقلت : ويل لي لأنّ عينيّ قد رأتا الملك ربّ الجنود » ( أشعياء / 6 : 1 - 6 ). والمقصود من السيّد هو اللّه جلّ ذكره.

2 - « قد رأيت الربّ جالساً على كرسيّه وكل جند البحار وقوف لديه » ( الملوك : الأوّل / 22 ).

ومن أراد التبسّط في ذلك فليرجع إلى سفر التكوين قصة آدم وحواء وقصة يعقوب وإبراهيم ترى فيها أشياء واُموراً ممّا يندى له الجبين ويخجل القلم عن الإشارة إليه.

غير أنّ المغفلين من أهل الحديث أخذوا بالأحاديث الموضوعة على وفق ما جاء في العهدين حقائق راهنة ، فاتخذوا الرؤية عقيدة إسلامية شوّهوا بها المذهب.

ص: 425


1- نهج البلاغة : الخطبة 174.
أدلة القائلين بالرؤية
اشارة

إنّ القائلين بالرؤية استدلّوا بآيتين :

1 - قوله سبحانه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) ( القيامة / 22 - 25 ). وقد شغلت هذه الآية بال الأشاعرة والمعتزلة.

المثبّتون يصرّون على أنّ النظر في « الناظرة » بمعنى الرؤية ، والنافون يصرّون بأنّه بمعنى الانتظار ، والفريقان يتصارعان في تفسير الآية مستشهدين ببعض الأشعار والجمل.

غير انّا نضرب على الكلّ صفحاً لأنّ البحث فيهما يستدعي تفصيلاً ، ولكن نلفت نظر المستدلّين بها إلى أمرين ولو تدبّروا فيهما تدبر إنسان حر غير متأثّر بآراء قومه ونحلته ، لعرفوا أنّ الآية لا تدل على مقصودهم بتاتاً.

1 - ترى أنّه سبحانه يقول : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) فينسب النظر إلى الوجوه لا العيون ، فلو كان المراد أنّ أهل الجنة ينظرون إليه سبحانه ويرونه فلماذا نسب الرؤية إلى الوجوه مع أنّه قائم بالعيون وهذا يدلّ على أنّ « ناظرة » في الآية وإن كانت بمعنى الرؤية لكنها تهدف إلى معنى آخر غير الرؤية الحسّيّة ، وإنّ النظر في المقام كنظر الفقير إلى الغني ، والخادم إلى مخدومه ، والمرؤوس إلى رئيسه فالكل ينظرون إلى أسيادهم لكن نظراً معنوياً لا حسّياً.

2 - إنّ الآيات تشتمل على جمل متقابلة ، فلو كان هناك إجمال في احدى الجمل يصح تفسيره بمقابله ومقارنه الواضح ، وإليك مقارنة هذه الجمل.

أ - « وجوه يومئذ ناضرة »

يقابلها قوله : « وجوه يومئذ باسرة »

ب - « إلى ربّها ناظرة »

يقابلها قوله : « تظن أن يفعل بها فاقرة ».

فلو كان هناك إبهام في أحد المتقابلين ، يرفع بالمقابل إبهام المقابل الآخر ،

ص: 426

فهلم معي نستوضح معنى « إلى ربّها ناظرة ».

فهل المقصود الجدّي هو النظر والرؤية ؟

أو هو التوقّع والانتظار ؟

فيمكن رفع الابهام وامعان النظر في مقابله أعني : « تظن أن يفعل بها فاقرة » فإنّ مفاده أنّ الطائفة العاصية تتوقّع نزول عذاب يكسر فقارها ويقصم ظهرها ، فيكون ذلك قرينة على أنّ المراد من مقابله خلاف ذلك ، وأنّ هؤلاء المطيعين يتوقّعون خلاف ما تتوقّعه الطائفة الاُخرى يتوقعون فضله وكرمه ورحمته وأين هذا من الرؤية ؟

بذلك يظهر أنّ التركيز على الوجوه دون العيون لأجل إفادة هذا المعنى ، أي أنّ وجوها تنتظر العذاب ، وأن وجوهاً متوجهةً إلى الباري تنتظر الرحمة.

وهذا نظير قول القائل :

إنّي إليك لما وعدت لناظر *** نظر الفقير إلى الغني الموسر

ويقال : أنظر إلى اللّه ثمّ إليك.

فإنّ النظر في هذه الموارد وإن كان بمعنى الرؤية ، ولكنّها كناية عن انتظار الرحمة ، فقول التلميذ لاُستاذه ، والولد لوالده ، والخادم لسيده : « أنا أنظر إليك » بهذا المعنى.

وقال آخر :

وجوه ناظرات يوم بدر *** إلى الرحمان يأتي بالفلاح

أي منتظرات لإتيانه تعالى بالنصرة والفلاح.

وقال أيضاً :

كل الخلائق ينظرون سجاله *** نظر الحجيج الى طلوع هلال

أي ينتظرون عطاياه انتظار الحجّاج لظهور الهلال وطلوعه.

ص: 427

حتى لو كان النظر في الآية بمعنى الانتظار ، أو بمعنى الرؤية ، لا تدلّ على رؤيته سبحانه يوم القيامة ، بل ليست بصدد هذا الأمر أصلاً ، ولا فرق بين تفسير الكلمة بالنظر ، أو الانتظار.

وما ربّما يتصوّره البعض من أنّ « ناظرة » لو كانت بمعنى الرؤية تمّت دلالة الآية ، ولو كانت بمعنى الانتظار لم تتم ولم تدل ، كلام سطحي ينمّ عن عدم تعمّق في السياق الذي جاءت به الآية كما ستعرف.

وخلاصة القول : إنّ الآية - سواء من النظر فيها بمعنى الانتظار أو الرؤية - تهدف أمراً آخر ، لا ارتباط له بمسألة الرؤية أصلاً ، ولا يعرف هذا إلاّ بمقارنة الآية المذكورة بالآيات المقابلة لها.

فإنّ الآية الثانية أي ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) يبيّن ما هو المتوقّع عند المؤمنين كما أنّ الآية الرابعة أي ( تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) يبين ما هو المتوقع عند العاصين ، فحيث كان المقصود في الآية الرابعة هو توقّع العصاة للعذاب الإلهي كان المقصود في الآية الثانية ( بحكم التقابل ) هو توقّع المطيعين المتّقين الرحمة الإلهية ، وهذا هو هدف الآية الثانية ، فتفسير النظر برؤية جماله وذاته غريب عن مرمى الآية وهدفها.

إذا عرفت هذا فلا يتفاوت بأن يفسر « ناظرة » بمعنى الانتظار ، فيكون معناه المطابقي هو انتظار رحمته بدل انتظار عذابه ، أو يفسّر بالرؤية فيكون المراد منه - بالمآل - انتظار الرحمة ، لأنّ الرؤية في هذه الموارد تكون كناية عن انتظار الرحمة ، وتوقع اللطف من الجانب الآخر.

يقال : فلان ينظر إلى يد فلان ، ويراد منه أنّه معدم محتاج ، ليس عنده شيء ، وإنّما يتوقع أن يعطيه ذلك الشخص ، فما أعطاه ملكه ، وما منعه حرم منه.

وهذا ممّا درج عليه الناس في محاوراتهم العرفية اليوميّة إذ يقول أحدنا لصديقه الذي يتوقّع منه المعونة والمدد :

ص: 428

« إنّما ننظر إلى اللّه ثم إليك ».

وهذا مؤلّف « أقرب الموارد » عند ما يذكر هذا المثال يفسّره بقوله : « إنّما أتوقع فضل اللّه ثم فضلك ».

فالكلام هو عن توقّع الرحمة ووصولها وشمولها وعدم توقّعها ووصولها وشمولها.

ولنا في الكتاب العزيز نظير لهذا ، إذ يقول سبحانه :

( وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ ) ، فكل هذا كناية عن طردهم عن ساحته ، ويشعر بذلك قوله في الآية المتقدمة عليها ( بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ) .

فالآيتان بهذا الشكل من حيث الموضوع والحكم.

من أوفى بعهده واتقى ; يحبّه اللّه.

ومن اشترى بعهد اللّه وإيمانه ; لا يكلّمهم اللّه ولا ينظر إليهم.

فبقرينة المقابلة بين الجزئين يعلم أنّ المرا د هو حبّه سبحانه المستلزم للجزاء الحسن ، وعدم حبّه المستلزم للجزاء السيء.

فالمراد ب « لا ينظر إليهم » ليس هو عدم رؤية اللّه لهم ومشاهدتهم ، فالرؤية وعدم الرؤية ليست أمراً مجدياً أو ضارّاً إنّما ايصال الرحمة وعدم ايصالها للشخص هو النافع أو المضرّ بحاله ، فيكون جملة « لا ينظر إليهم » كناية عن عدم اللطف والرحمة.

وهذه الآية شغلت - مع الأسف - بال المعتزلة والأشاعرة قروناً عديدة فركّزوا البحث في تحديد معنى « ناظرة » وانّها بمعنى الانتظار أو الرؤية ، فكلّ استظهر مايطابق مختاره ، وقد غفلوا عن مفتاح حل المشكلة ، وأنّه يجب ملاحظة الآية من حيث السياق والهدف والقرائن الحافة بها.

ص: 429

هذا ويؤيّد ما ذكرناه من أنّ النظر ولو كان بمعنى الرؤية ليس المقصود منه الرؤية البصريّة الحسّيّة بل المراد هو الكناية عن انتظار الرحمة الإلهية ، وتقديم المفعول وهو « إلى ربّها » على العامل وهو « ناظرة » نظير قوله تعالى : ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ ) ونظائرها ، فإنّ تقديم المفعول يدل على معنى الاختصاص لأنّ الإنسان لا يتوقّع هنا إلاّ رحمة اللّه وعنايته ولطفه ، وأمّا النظر بمعنى الرؤية ، فلا ينحصر باللّه لأنّ الناس ينظرون إلى غير اللّه أيضاً كما تدلّ عليه آيات وروايات.

قال الزمخشري : « معلوم أنّهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ، ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلّهم ، فإنّ المؤمنين نظّارة ذلك اليوم لأنّهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فاختصاصه بنظرهم إليه - لو كان منظوراً - محالٌ فوجب حمله على معنى يصحّ معه الاختصاص ، والذي يصحّ معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ، ما يصنع بي تريد معنى التوقّع والرجاء ومنه قول القائل :

وإذا نظرت إليك من ملك *** والبحر دونك زدتني نعما (1)

نعم أورد عليه صاحب « الإنتصاف » بقوله :

« إنّ المتمتّع برؤية جمال وجه اللّه تعالى لا يصرف عنه طرفه ، ولا يؤثّر عليه غيره ولا يعدل به - عزّ وعلى - منظوراً سواه ، وحقيق له أن يحصر رؤيته إلى من ليس كمثله شيء ، ونحن نشاهد العاشق في الدنيا إذا أظفرته برؤية محبوبه لم يصرف عنه لحظة ، ولم يؤثر عليه ، فكيف بالمحبّ منه عزّ وجلّ إذا أحظاه للنظر إلى وجهه الكريم » (2).

أقول : لو صحّ ما ذكره صاحب « الإنتصاف » وإنّ النظر إنّما هو بمعنى الرؤية البصرية الحسّيّة ، وإنّ المؤمن ينظر إلى اللّه سبحانه ، وإنّ جمال اللّه تعالى يجذبه ،

ص: 430


1- الكشاف : ج 4 ، ص 165.
2- نفس المصدر.

لزم قصر النظر يوم القيامة عليه سبحانه لأنّه لا يعدل به غيره ، ولزم أن لا ينظر إلى سواه لأنّ غيره في مقابله ليس بديعاً ولا جميلاً جاذباً مع انّا نرى أنّ الآيات والروايات تتحدّث عن نظر الإنسان في ذلك اليوم إلى أشياء غيره تعالى كما هو واضح لمن أمعن النظر في الآيات الواردة حول الجنّة وأهلها وقصورها وحورها وفواكهها و ... فعلى قول صاحب « الانتصاف » يترك كل ذلك سدى ولا ينصرف المؤمن من رؤية اللّه إلى غيرها وهو كما ترى.

2 - الآية الثانية :

قال تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ... ) .

وجه الاستدلال انّه لو كانت الرؤية ممتنعة لكان موسى واقفاً عليه وعندئذ لما أقدم على السؤال والسؤال دليل على الامكان (1).

والجواب يتوقّف على بيان اُمور :

1 - هل كان هناك ميقات واحد أو ميقاتان ؟

جاءت قصّة ميقات موسى في آيتين :

الأولى : قوله سبحانه : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / 155 ).

الثانية : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ

ص: 431


1- شرح التجريد للقوشجي : ص 329.

جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) ( الأعراف / 143 ).

فعندئذ يجب امعان النظر في أنّه هل كان هناك ميقاتان أو ميقات واحد ذو شأن خاص. قال سبحانه : ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) ( الأعراف / 142 ).

وقال سبحانه : ( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( البقرة / 51 - 52 ).

فهاتان الآيتان تعرضان عن ميقات واحد وأنّه كان في بدء الأمر ثلاثين ليلة ثم تمّم بعشر ، ولو كان هناك ميقات آخر مثله أو أزيد أو أقل كان المناسب ذكره والتنويه به.

2 - هل مات القوم بالصاعقة أو الرجفة ؟

إذا كان هناك ميقات واحد وقد هلك فيها قوم موسى بعذاب اللّه ، فما كان السبب في موتهم هل كان هو الرجفة أو الصاعقة ؟ نرى أنّه سبحانه نسب موتهم في بعض الآيات إلى الصاعقة ( البقرة / 55 والنساء / 153 ) وفي البعض الآخر إلى الرجفة ( الأعراف / 155 ).

والجواب : إنّ المراد بالرجفة رجفة الصاعقة ، لا الرجفة في أبدانهم وله نظير في القرآن الكريم ، مثلاً يقول في قوم صالح : ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) ( الأعراف / 78 ).

وقال فيهم أيضاً : ( فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( فصّلت / 17 ).

ص: 432

والصواعق السماوية لا تخلو من صيحة هائلة تقارنها ولا ينفك ذلك غالباً عن رجفة الأرض وهي نتيجة الاهتزاز الجوي الشديد ، فالظاهر أنّ عذابهم كان بصاعقة سماوية اقترنت بصيحة هائلة ورجفة في الأرض فأصبحوا في دارهم أي في بلدهم جاثمين ساقطين على وجوههم وركبهم.

3 - هل كان هناك سؤالان أو سؤال واحد ؟

إنّ الكليم لمّا أخبر قومه بأنّ اللّه كلّمه وقرّبه وناجاه ، قالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه فخرج بهم إلى طور سيناء ، وسأل ربّه أن يكلّمه فلمّا سمعوا كلامه قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة ، وعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم وعتوّهم واستكبارهم.

وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً ) ( البقرة / 55 ).

وقوله : ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) ( النساء / 153 ).

وقوله : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ... ) .

كل هذه الآيات راجعة إلى هذه الحادثة أي سؤال قوم موسى منه أن يريهم ربّهم ثمّ إنّ الكليم طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع إليهم ، فلربّما قالوا : إنَّك لم تك صادقاً في قولك : إنّ اللّه يكلّمك ، ذهبت بهم فقتلتهم ، فعند ذلك أحياهم اللّه وبعثهم معه ، وإلى هذا الطلب يشير قول الكليم في الآية الثالثة :

( رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ ... ) .

ثمّ إنّ قومه بعد الإحياء وقفوا على أنّه لا يمكنهم رؤيته سبحانه ، فطلبوا منه أن

ص: 433

يسأل موسى الرؤية لنفسه لا لهم حتى تحل رؤيته لله مكان رؤيتهم فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية أو يسمعوا كلامه بأنّه لا يرى ، وعندئذ أقدم الكليم على السؤال تكبيتاً لهؤلاء واسكاتاً لهم ، وبما أنّه لم يقدم إلاّ إثر الإصرار من جانبهم لم يوجّه إلى الكليم من جانبه سبحانه أي لوم وعتاب أو مؤاخذة وعذاب بل اكتفى بقوله : ( لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ ... ) .

وبعبارة اُخرى إنّ موسى كان من أعلم الناس باللّه وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز ، ولكن ما كان طلب الرؤية إلاّ لتكبيت هؤلاء الذين وصفهم بأنّهم سفهاء وتبرّأ من فعلهم ، فبما أنّهم لجّوا وتمادوا وقالوا بأنّهم لا يؤمنون به حتى يراه موسى ويخبرهم به أو يسمعوا النص من عند اللّه باستحالة ذلك وهو قوله « لن تراني » فطلب موسى الرؤية ليسمعوا كلامه ويزول ما دخلهم من الشبهة ، ولأجل ذلك قال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) ولم يقل ( ربّ أَرهم ينظروا إليك ).

ويؤيّد تعدّد السؤال مع كون الميقات واحد ، أمران :

1 - إنّ الرجفة عمّت جميع الحاضرين في الميقات إلاّ موسى نفسه فانّه لم يصبه شيء بل شاهد باُمّ عينيه أنّهم ماتوا إثر نزول العذاب.

قال سبحانه : ( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ... ) فإنّ الظاهر من ترتّب « قال » على قوله « فلمّا أخذتهم » إنّ موسى لم يصبه شيء حتى الاغماء والغشيان بل قال ما قال بعد موتهم بلا فصل.

وأمّا عند ما تصدّى موسى نفسه للسؤال وقال أرني أنظر إليك ، كانت نتيجة ذلك سقوطه صعقاً ثمَّ إفاقته وتوبته وإنابته ، فأصابه شيء لم يصبه عند السؤال الأوّل.

وحاصل هذا الوجه أنّه يمكن استكشاف تعدّد الواقعة باختلاف الأثر وهو كونه علیه السلام سالماً غير مصاب بشيء في الواقعة الاُولى وكونه صعقاً في الواقعة الثانية ، وهذا يكشف عن تعدّد السؤال.

ص: 434

2 - نرى أنّه سبحانه يذكر سؤال القوم مع نزول الصاعقة والرجفة ، ويذكر السؤال الثاني بتجلّي الرب على الجبل وصيرورته دكّاً وسقوط موسى صعقاً ، ثمّ إفاقته وإنابته من دون ذكر لطروء شيء على قوم موسى ، فالقول بوحدة الواقعتين لا ينسجم مع ظواهر هذه الآيات.

ما وجه تقديم سؤال موسى على سؤال قومه ؟

إنّ هذا التقرير يعرب عن أنّ قوم موسى تقدّموا بالسؤال أوّلاً فأخذتهم الصاعقة فبعدما أحياهم سبحانه تقدّم موسى إلى السؤال ثانياً بإلحاح قومه حتى يرى موسى ربّه أو يُسمِع لهم كلام الرب بأنّه لا يمكن رؤيته ، وعلى هذا كان الأليق تقديم سؤال القوم على سؤال موسى مع أنّ المصحف الكريم حكى سؤال موسى أوّلاً بقوله : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) ( الأعراف / 143 ).

ثمّ حكى سؤال قومه في الآية رقم 155 من تلك السورة أعني قوله : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا ... أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ... ) فما هو السر في تقديم ما حقّه التأخير ؟

والجواب : إنّ تقطيع القصة الواحدة إلى قصص متعدّدة والانتقال من حديث إلى آخر لحكمة في ذلك غير عزيز ولا غريب في القرآن الكريم ، وليس القرآن كتاب قصّة حتى يعاب بالانتقال قبل تمامه ، وإنّما هو كتاب هداية ودلالة وحكمة ، يأخذ من القصص ما يهمّه (1).

وبعبارة اُخرى : إنّ العود إلى ذلك الجزء في آخر القصة بتفصيل وتبيين لأجل إظهار العناية به من جميع أجزاء القصة ، واللّه سبحانه ذكره في الأثناء بما أنّه جزء من القصة ، ولأجل حفظ التسلسل والترابط بين أجزائها ثمّ عاد إليه بعد الانتهاء من بيان

ص: 435


1- الميزان : ج 8 ، ص 285.

القصة لاستعراضه بنحو مشروح ، وذلك لأجل إبراز العناية بهذا الجانب من القصة فانّها كانت مسألة هامّة وكبيرة في حياة أكابر بني اسرائيل حيث جرت عليهم ما جرت ، وأنّه لولا دعاء موسى لما عادت الحياة إليهم.

وعلى هذا فلا دلالة في سؤال موسى على امكان الرؤية بعد كونه بسبب إصرار القوم وإلحاحهم ، وكان إقدامه لأجل تكبيتهم واسكاتهم.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من تعدد السؤال هو الظاهر من الحديث المروي عن علي بن موسى الرضا علیه السلام قال : إنّ كليم اللّه رجع إلى قومه ، فأخبرهم أنّ اللّه عزّ وجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، فلمّا جاء بهم إلى الميقات وسمعوا كلامه ، قالوا : لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلام اللّه حتى نرى اللّه جهرة ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم بعث اللّه عزّ وجلّ عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا ، ثم أحياهم سبحانه بطلب من موسى ، فقالوا : إنّك لو سألت اللّه أن يريك أن تنظر إليه لأجابك ، وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته فقال موسى : يا قوم إنّ اللّه لا يرى بالأبصار ولا كيفيّة له ، وإنّما يعرف بآياته ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى يا ربّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل ، فأوحى اللّه إليه يا موسى إسألني ما سألوك ولن اُوآخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى : ربّ أرني أنظر إليك (1).

كلام لصاحب « الكشّاف »

وهناك كلام ذكره علاّمة المعتزلة « الشيخ محمود الزمخشري » صاحب الكشّاف ، والجواب عن الاستدلال بالآية مبني على وحدة السؤال هذا نصّه :

« ما كان طلب الرؤية إلاّ لتكبيت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلاّلاً وتبرّأ من فعلهم وليلقمهم الحجر ، وذلك انّهم حينما طلبوا الرؤية أنكر عليهم ، وأعلمهم

ص: 436


1- التوحيد للصدوق ، باب ما جاء في الرؤية ، الحديث 23 ، نقلناه ملخّصاً.

الخطأ ونبّههم على الحق ، فلجّوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا : « لابد ولن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة ». فأراد أن يسمعوا النص من عند اللّه باستحالة ذلك وهو قوله : « لن تراني » ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ، فلذلك قال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) .

فان قلت : فهلاّ قال « أَرهم ينظروا إليك » ، قلت لأنّ اللّه إنّما كلّم موسى علیه السلام وهم يسمعون ، فلمّا سمعوا كلام ربّ العزّة أرادوا أن يرَ موسى ذاته فيبصرونه معه كما أسمعه كلامه فسمعوا منه ، إرادة مبنيّة على قياس فاسد (1). فلذلك قال موسى : ( أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) .

ولأنّه إذا ضُجِر عمّا طلب ، وأنكر عليه مع كونه نبيّاً ، وقيل له « لن يكون » ذلك « كان غيره أولى بالإنكار ، ولأنّ الرسول إمام اُمّته فكان ما يخاطب به راجعاً إليهم أيضاً.

ثمّ إنّ قوله ( أَنظُرْ إِلَيْكَ ) صريح في التشبيه والتجسيم وجلّ موسى أن يكون مجسّماً أو مشبّهاً وهذا دليل على أنّه ذكر ذلك ترجمة من مقترحهم وحكايةً لقولهم وجَلّ صاحبُ الجمل من أن يجعل اللّه منظوراً إليه ، مقابلاً بحاسّة البصر ، فكيف بمن هو أعرف في معرفة اللّه من المتكلّمين والفلاسفة ؟

فان قلت : ما معنى « لن » ؟ قلت : « تأكيد النفي الذي تعطيه « لا » ، وذلك لأنّ « لا » تنفي المستقبل تقول : لا أفعل غداً ، وإذا أكدت نفيها قلت : لن أفعل غداً ، والمعنى أنّ فعله ينافي حالي كقوله : « لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له » فقوله : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) نفي للرؤية فيما يستقبل « ولن ترانى » تأكيد وبيان لأنّ الرؤية منافية لصفاته » (2).

ص: 437


1- وهذا القياس عبارة عن أنّهم كما سمعوا صوته عن طريق موسى ، يمكن لهم رؤية ذاته عن طريق رؤية موسى أيضاً قياساً فاسداً.
2- الكشّاف - تفسير سورة الاعراف - : ج 1 ، ص 573 - 574.

وهذا الجواب مبنيّ على وحدة السؤال بشهادة قوله : « فان قلت فهلاّ قال أرهم ينظروا إليك ... » فهذا يعرب عن أنّه لم يتقدّم سؤال من بني اسرائيل حول رؤية اللّه ، إذ لو تقدّم السؤال وترتب عليه نزول الصاعقة والرجفة ; لما كان هناك مورد للسؤال بقوله : « أَرهم ينظروا إليك » لمّا رأى أنّ طلب الرؤية لهم استعقب نزول العذاب ، ولم يبق إلاّ السؤال لنفسه نيابة عنهم حتى يترتب عليه أحد الأمرين أمّا الرؤية أو الردّ ويتمّ الحجة على القوم ، وإن كان القوم لا يأملون إلاّ الشقّ الأوّل.

وعلى كل تقدير سواء كان هناك سؤالان أم كان سؤال واحد فليس في سؤال موسى دلالة على امكان الرؤية بعد كون سؤاله لأجل قومه وإثر إصرارهم والحاحهم.

ثمّ إنّ الأشاعرة استدلّت بقوله سبحانه : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) من جهة اُخرى قالوا : « إنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل وهو أمر ممكن في نفسه ، والمعلّق على الممكن ممكن ، لأنّ معنى التعليق أنّ المعلّق يقع على تقدير وقوع المعلّق عليه ، والمحال في نفسه لا يقع على شيء من التقادير.

والجواب : إنّ الاستدلال مبني على أن يكون المراد من قوله : ( فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ) هو امكان الاستقرار ولا شك انّه أمر ممكن ، والمعلّق على الأمر الممكن أيضاً ممكن.

ولكن الظاهر أنّ المراد هو استقراره بعد التجلّي والمفروض انّه لم يستقر بعد ذلك بدليل قوله سبحانه : ( جَعَلَهُ دَكًّا ) وهذا نظير قولك : « أنا أعطيك هذا الكتاب إن صلّيت » فالمراد هو قيام المخاطب بها بالفعل ، لا امكان قيامه.

وهذا الاستدلال من الأشاعرة من غرائب الاستدلال.

ص: 438

الرؤية القلبيّة

ثم إنّ للعلاّمة الطباطبائي نظرية في معنى الرؤية نذكرها هنا ملخّصة :

يقول العلاّمة : « والذي يعطيه التدبّر انّ حديث الرؤية والنظر الذي وقع في الآية إذا عرضناه على الفهم العامّي المتعارف حمله على رؤية العين ونظر الأبصار الذي يهيّئ للباصر صورة مماثلة لصورة الجسم المبصر في شكله ولونه.

وبالجملة ، هذا الذي نسمّيه الابصار الطبيعي يحتاج إلى مادة جسمية في المبصر والباصر جميعاً وهذا لا شك فيه.

والتعليم القرآني يعطي اعطاءً ضرورياً إنّ اللّه تعالى لا يماثله شيء بوجه من الوجوه في خارج ولا ذهن البتة.

وما هذا شأنه لا يتعلّق به الابصار بالمعنى الذي نجده من أنفسنا البتة ، ولا تنطبق عليه صورة ذهنية لا في الدنيا ولا في الآخرة ضرورة.

وقد أطلق اللّه الرؤية وما يقرب منها في موارد كثيرة من كلامه فتارة أثبتها ، وتارة نفاها.

فربّما تفسّر الرؤية بحصول العلم الضروري لمبالغة في الظهور ونحوها كما قيل.

وفيه انّا لا نسمّي كل علم ضروري رؤية. مثلاً إنّا نعلم علماً ضروريّاً بوجود « لندن » ولم نرها ولا نسمّيه رؤية.

وأوضح من هذا علمنا الضروري بالبديهيات الأوّلية التي هي بكلتيها غير مادّيّة ولا محسوسة ، مثل قولنا « الواحد نصف الاثنين » فإنّها علوم ضرورية يصحّ اطلاق العلم عليها ، ولا يصحّ اطلاق الرؤية عليها البتة.

نعم بين معلوماتنا ما لا نتوقّف في إطلاق الرؤية عليه واستعمالها فيه ، نقول : وأراني اُريد كذا وأكره كذا واُحبّ كذا.

ص: 439

وتسمية هذا القسم من العلم الذي يجد فيه الإنسان نفس المعلوم بواقعيته الخارجية رؤية مطرّدة.

واللّه سبحانه في ما أثبت من الرؤية يذكر معها خصوصيّات ويضم إليها ضمائم يدلّنا على أنّ المراد بالرؤية هذا القسم من العلم الذي نسمّيه في ما عندنا أيضاً رؤية كما في قوله : ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) ( فصّلت / 53 و 54 ).

حيث أثبت أوّلاً : انّه على كل شيء حاضر ومشهود له ، لا يختصّ بجهة دون جهة ، وبمكان دون مكان ، وبشيء دون شيء بل شهيد على كل شيء ، محيط بكل شيء ، لو وجده شيء لوجده على ظاهر كل شيء وباطنه ومع نفس وجدانه وعلى نفسه.

وثانياً يثبت على هذه السمة لقاؤه ، لو كان هناك لقاء لا على نحو اللقاء الحسّي الذي لا يتأتّى البتة إلاّ بمواجهة جسمانية وتعيّن جهة ومكان وزمان.

وبهذا يشعر ما في قوله : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) ( النجم / 11 ) من نسبة الرؤية إلى الفؤاد الذي لا شبهة في كون المراد به هو النفس الإنسانية الشاعرة دون اللحم الصنوبري المعلّق على يسار الصدر داخلاً.

ونظير ذلك قوله تعالى : ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) ( المطفّفين / 14 و 15 ).

دلّ على أنّ الذي يحجبهم عنه تعالى رين المعاصي والذنوب التي اكتسبوها فحال بين قلوبهم أي أنفسهم وبين ربّهم فحجبهم عن تشريف المشاهدة ، لولا المعاصي لرأوه بقلوبهم أي أنفسهم لا بأبصارهم وأحداقهم.

فبهذه الوجوه يظهر أنّه تعالى يثبت في كلامه قسماً من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسيّة وهي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسيّة أو فكرية ، وانّ للإنسان شعوراً بربّه غير ما يعتقد بوجوده من

ص: 440

طريق الفكر واستخدام الدليل ، بل يجده وجداناً من غير أن يحجبه عنه حاجب ، ولا يجرّه إلى الغفلة عنه إلاّ اشتغاله بنفسه وبمعاصيه التي اكتسبها ، وهي مع ذلك غفلة عن أمر موجود مشهود لا زوال علم بالكلّية ومن أصله ، فليس في كلامه تعالى ما يشعر بذلك البتة ، بل عبّر عن هذا الجهل بالغفلة وهي زوال « العلم بالعلم » لا زوال أصل « العلم ».

فهذا ما يبيّنه كلامه سبحانه ويؤيّده العقل بساطع براهينه والذي ينجلي من كلامه تعالى أنّ هذا العلم المسمّى بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد اللّه يوم القيامة.

فهناك موطن التشرّف بهذا التشريف ، وأمّا في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه ، ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية فهو سالك لطريق اللقاء والعلم الضروري بآيات ربّه كادح إلى ربه كدحاً ليلاقيه ، فهو ما زال في طريق هذا العلم لن يتم له حتى يلاقي ربّه.

فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته اللّه تعالى لنفسه وسمّاه رؤية ولقاء ، ولا يهمّنا البحث من أنّها على نحو الحقيقة أو المجاز ، فإنّ القرائن كما عرفت قائمة على إرادة ذلك فان كانت حقيقة كانت قرائن معيّنة ، وإن كانت مجازاً كانت صارفة ، والقرآن الكريم أوّل كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع ، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم باللّه وتخلو عنه الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل ، فإنّ العلم الحضوري عندهم كان منحصراً في علم الشيء بنفسه حتى كشف عنه في الإسلام فللقرآن المنّة في تنقيح المعارف الإلهية (1) انتهى.

وما ذكره ( قدس اللّه سره ) متين وقد سبقه إليه العرفاء الشامخون في تفسير

ص: 441


1- الميزان : ج 8 ، ص 249 - 253 ، طبعة طهران. وأذكر كلام سيّد الموحدين أمير المؤمنين حيث قال : تدركه القلوب بحقائق الإيمان نهج البلاغة : الخطبة 174.

« لقاء اللّه » ، وحاصل هذا الجواب هو تعميم « العلم الحضوري » إلى علم الإنسان بنفسه وعلمه بعلّته التي هو قائم بها.

فالإنسان في ذلك المشهد الاُخروي يجد حضوره عند خالقه وبارئه ، وذلك لأنّه لا حقيقة للمعلول إلاّ قوامه بعلّته ، وتعلّقه به كتعلّق المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فالإنسان في ذلك المشهد لأجل كما له يجد ذلك التعلّق ، ويجد نفسه حاضراً عند بارئه حضوراً حقيقياً لا حصولياً ، فكم فرق بين أن يتصوّر الإنسان تعلّقه بعلّته ، أو ينتزع صورة من علّته فيصل إليه ببركة الصورة ، وبين أن يجد تلك الواقعية بوجودها الخارجي ، فذلك الحضور والشهود شهود بعين القلب ، وحضور بتمام الوجود لا يصل إليه إلاّ الأوحديّ في الدنيا ، وكما يصل أكثر المؤمنين في العالم الآخر وثبوت الرؤية بهذا المعنى لا تضر بالعدلية ولا تنافي مسلكهم ، وإنّما الكلام في الرؤية بالمعنى العرفي.

ونختم المقال بالمروي عن سيّد الموحّدين في مناجاته المعروفة بالمناجاة الشعبانية يقول : « إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك ، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة ... . ».

ص: 442

حرف الميم

المائة والثامن : « المؤمن »

وقد ورد لفظ « المؤمن » في القرآن 22 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في مورد واحد.

قال : ( اللّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ ) ( الحشر / 23 ).

ذكر ابن فارس : إنّ لمادته معنيين متقاربين ، أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة ومعناها سكون القلب ، والآخر التصديق ، ويظهر من « الراغب » إرجاع المعنيين إلى معنى واحد قال : أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف. و « الأمن » و « الأمانة » و « الأمان » في الأصل مصادر.

وكأنّه يريد إرجاع المعنى الثاني أي التصديق إلى المعنى الأوّل وهو طمأنينة النفس وزوال الخوف ، وعلى كل تقدير فقد استعمل القرآن هذه المادة في المعنيين المذكورين قال حاكياً عن ولد يعقوب : ( وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ) أي بمصدّق لنا ، وكما قال : ( وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ) أي أعطاهم الأمان الذي هو ضد الاخافة ، وربّما يقال في إرجاع التصديق إلى المعنى الأوّل أي الأمان هو انّ المتكلم يخاف أن يكذّبه السامع فإذا صدّقه وآمن له ، فقد أزال ذلك الخوف عنه فسمّي التصديق إيماناً.

والظاهر أنّ المراد من المؤمن في الآية الذي وقع وصفاً له سبحانه هو « معطي الأمان » لعباده حيث يؤمّنهم عن العذاب في الدنيا والآخرة ، قال : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ

ص: 443

لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ( الأنبياء / 101 - 103 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ( فصّلت / 30 ).

ويمكن أن يقال : إنّ المؤمن بمعنى المصدّق فهو سبحانه يصدّق أوليائه بالمعاجز والكرامات.

وأمّا حظ العبد من هذا الإسم فهو أن يؤمّن الخلق كلّهم من جانبه خصوصاً من كان له صلة به ، قال النبي : « المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه » وقد روي أنّه قال : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر ، فليؤمّن جاره بوائقه » (1).

هذا إذا كان مأخوذاً من الأمان بمعنى معطيه ، وأمّا إذا كان من الايمان بمعنى التصديق فحظّه هو الإيمان باللّه ورسله وكتبه وكل ما اُنزل من اللّه سبحانه.

المائة والتاسع : « مالك الملك »

وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( آل عمران / 26 ).

أمّا معناه فقد قال ابن فارس : « يدلّ على قوّة في الشيء وصحّة ، يقال : أملك عجينه أي قوّى عجنه وشدّه ، ثم اشتق منه ما يقال ملك الإنسان الشيء يملكه ملكاً

ص: 444


1- نقله الرازي في لوامع البيّنات : ص 91.

والاسم الملك - بكسر الميم - لأنّ يده فيه قويّة صحيحة ، فالملك - بكسر الميم - ما ملك من مال.

أقول : قد اشتق من هذه المادة الألفاظ التالية :

1 - المُلك - بضم الميم -.

2 - المِلك - بكسرها -.

3 - الملِك - بكسر اللام -.

4 - المالك.

5 - المليك.

6 - المَلك - بفتح الميم وسكون اللام -.

7 - الملكوت.

وقد ورد الكل في الذكر الحكيم غير الملك - بكسر الميم - ولا بأس بتوضيح مفاد الكل من خلال الدقّة في الآيات المشتملة عليها.

قد عرفت أنّ المعنى الأصلي الجذري لمادة هذه الكلمات هو القوّة والقدرة فاشتقاق هذه الكلمات من ذلك المبدأ بهذا المعنى باعتبار معان طارئة عليها ونسب مضافة إليها.

أمّا الملك - بضم الميم - فهي عبارة عن السلطة سواء كان على الناس أم على الأشياء ، لكن السلطة على الناس مبدأ للسياسة والتدبير في ُامورهم وشؤونهم ، والسلطة على الشيء مبدأ للتصرف فيه بالبيع والهبة ، فالجامع بينهما هو السلطة ، ولها في كل مورد أثر خاص ، والمتبادر من الملك - بالضم - الوارد في القرآن الكريم 42 مرّة هو ذاك وإليك بعض الآيات :

( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) ( البقرة / 102 ).

ص: 445

( قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا ) ( البقرة / 247 ).

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ المُلْكَ ) ( البقرة / 258 ).

( قَوْلُهُ الحَقُّ وَلَهُ المُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ) ( الأنعام / 73 ).

( لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر / 16 ).

والآيات تعرب عن معنى الكلمة وهو وجود السلطة والقدرة على التصرّف.

وأمّا الملك - بكسر الميم - فيراد منه الشيء المملوك نظير قول القائل : « السكة ضرب الأمير » أي مضروبه ، ولا يتّصف الشيء بالمملوكية إلاّ إذا كانت هناك رابطة تكوينيّة أو وضعية بينه وبين الشخص ، أمّا الرابطة التكوينية ككون الإنسان مالكاً لجوارحه وفيء ظلّه له السلطة على القبض والبسط والاستعمال والترك ، وإذا كانت الرابطة تكوينيّة واقعيّة حقيقية ، فلا تتغير ولا تنعدم عبر الزمان إلاّ بموت الإنسان وانعدامه ، وأمّا الرابطة الوضعيّة الاعتباريّة ، فكما إذا استولى على شيء من باب الحيازة فيرى نفسه أولى به من غيره ، ولأجله يقوم بهبته وبيعه وتبديله ، وبما أنّ الرابطة وضعيّة اعتباريّة تكون خاضعة للتبدّل والتحوّل ، ولعلّ مبدأ الانتقال إلى الرابطة الوضعية ، هي الرابطة التكوينية الموجودة بين الإنسان وأعضائه ، فاعتبرت بين الإنسان وما استولى عليه محاكاة للتكوينية من الرابطة.

أمّا المَلِك - بفتح الميم وكسر اللام - فهو وصف من المُلك - بضم الميم - أي القادر الواسع القدرة الذي له السياسة والتدبير ، فبما أنّ له السلطة على شؤون الناس والسياسة يطلق عليه المَلِك فهو المتصرّف بالأمر والنهي في المجتمع ، وهذا هو المتبادر من لفظ الملك في الآيات التي ورد فيها ، قال سبحانه : ( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) ( الكهف / 79 ).

وقال سبحانه : ( إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) ( البقرة / 246 ).

ص: 446

ولمّا كان أصحاب السلطة عبر القرون غالباً غير ملتزمين بالعدل والإنصاف ، قال سبحانه حاكياً عن ملكة سبأ : ( إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) ( النمل / 34 ).

وأمّا المالك فهو صيغة الفاعل فهو من بيده « الملك » - بالضم - أو الملك - بالكسر - فاللّه سبحانه مالك المُلك - بضم الميم - كما أنّه مالك الملك - بالكسر - ومالكيّته للأشياء لا ينافي ملكية الناس لها لإختلاف الرابطتين جوهراً وحقيقة ، فاللّه سبحانه مالك للسماء والأرض وما فيهما مالكية تكوينية بإيجادها وابداعها لكن مالكية الإنسان لما يحوزه أو يكسبه مالكية اعتبارية اعتبرت مضاهية للرابطة الموجودة بين الإنسان وأعضائه.

وأمّا المليك فهي صيغة مبالغة من المَلِك - بكسر اللام -.

قال تعالى : ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) ( القمر / 55 ).

وأمّا « الملكوت » فهو المُلك - بضم الميم - أضيف إليه الواو والتاء للمبالغة كالطاغوت والجبروت بالنسبة إلى الطغيان والجبر ، والمتدبّر في الآيات الواردة حول هذا اللفظ يقف على أنّ المراد هو وجود الأشياء من حيث انتسابها إلى اللّه سبحانه وقيامها به وهذا أمر لا يقبل الشركة ويختصّ به سبحانه وحده.

قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام / 75 ).

وقال سبحانه : ( أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ ) ( الأعراف / 185 ).

والمراد منه حسب ما يعطيه التدبّر في الآيات الواردة في قصّة الخليل هو مشاهدة العالم من جهة استنادها إلى اللّه سبحانه استناداً لا يقبل الشركة ، ولأجل ذلك افترض الخليل لأجل الإحتجاج على الخصم ، أرباباً نسب إليهم في الظاهر تدبير العالم من كوكب زاهر وقمر بازغ وشمس مضيئة لأجل إفحام المخاطب ، ثم عدل

ص: 447

عنها لأجل اُفولها وغيبوبتها عن الإنسان المربوب وتوجّه إلى الرب الحقيقي وقال : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( الانعام / 79 ).

وأمّا الملك - بفتح الميم وسكون اللام - فقد جاء في قوله سبحانه : ( مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ) ( طه / 87 ) فهو مصدر ملك يملك ، والمراد ما أخلفنا الوعد حسب ما كنا نملك من أمرنا.

هذا ما يرجع إلى تفسير هذه الأسماء السبعة على وجه الإجمال ، فلنرجع إلى تفسير « مالك الملك » الذي عقدنا البحث لأجل ذلك الاسم وإن اتّضح معناه بالبحث السابق.

قد عرفت أنّ المُلك - بضم الميم - هو السلطة والقدرة سواء تعلّق بالناس أو تعلّق بالشيء ، فاللّه سبحانه بما أنّه مبدع للعالم ، موجد للسماء والأرض وما بينهما يكون الكل ملكاً له سبحانه ملكية تكوينية ، وكونه مالكاً لما خلق يستلزم كونه ذا سلطة وقدرة عليه ، فينتج انّه سبحانه مالك الملك - بالضم - وله الايتاء لمن شاء والنزع ممّن شاء.

قال سبحانه : ( أَنْ آتَاهُ اللّهُ المُلْكَ ) ( البقرة / 258 ).

وقال سبحانه : ( وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) ( النساء / 54 ).

وقال سبحانه : ( كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ... وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) ( الدخان / 25 - 28 ).

فالملك بمعنى السلطة بالذات موهبة إلهية للمجتمع الإنساني ، فلو كان المتقلّد للرئاسة دائناً بدين الحق ، حابساً نفسه على ذات اللّه ، قائماً بالقسط بين الاُمّة تكون راية العدل خفّاقة ، وأبواب العلم منفتحة ، فتعيش الاُمّة في ظلّها في صلاح وفلاح.

ص: 448

وأمّا إذا كان ذلك السلاح بيد إنسان سيئ السيرة خبيث النيّة فينزوي الحق وينتشر الباطل وتصبح الحياة رهينة للمصاعب والمآسي ، فاللّه سبحانه يمدح نفسه بأنّه « مالك الملك » فهو بهذا المعنى أي أنّه مالك تلك النعمة الثمينة كسائر النعم التي تقع على وجهين.

وأمّا قوله سبحانه : ( تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( آل عمران / 26 ) فلا يهدف إلى إنّ كلاًّ من الايتاء والنزع جزافيّ كيف وهو سبحانه حكيم منزّه عن العبث والجزاف.

قال سبحانه : ( لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ) ( الأنبياء / 17 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) ( ص / 27 ).

بل المراد أنّه سبحانه غير مجبور على أي من الإيتاء والنزع ، فلا ينافي أن يكون كل منهما لمصلحة خاصّة عائدة على الاُمّة ...

المائة والعاشر : « مالك يوم الدين »

قد ورد هذا الاسم في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ( الفاتحة / 2 - 4 ).

قرأ عاصم والكسائي وخلف ويعقوب الحضرمي بالالف والباقون « ملك » بغير ألف.

ثمّ اختلفوا في أنّ أي القرائتين أمدح ، فذكر كل من الطائفتين وجوهاً لترجيح

ص: 449

قرائته على الآخر نذكر بعضها ، فمن قرأ بالألف قال :

1 - إنّ هذه الصفة أمدح لأنّه لا يكون مالكاً للشيء إلاّ وهو يملكه ، وهذا بخلاف ما إذا كان ملكاً للشيء فربّما لا يملكه كما يقال « ملك العرب والروم » وإن كان لا يملكهم.

2 - قد يدخل في المالك ما لا يصحّ دخوله في الملك - بكسر اللام - يقال فلان مالك الدراهم ولا يقال ملك الدراهم ، فالوصف بالمالك أعمّ من الوصف بالملك.

3 - واللّه مالك كل شيء وقد وصف نفسه بأنّه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء ، فوصفه بالمالك أبلغ في الثناء والمدح من وصفه بالملك.

احتجّ من قرأ بغير الألف بوجوه :

1 - إنّ هذه الصفة أمدح لأنّه لا يكون إلاّ مع التعظيم والاحتواء على الجمع الكثير.

2 - إنّ الملك الذي يملك الكثير من الأشياء ويشاركه غيره من الناس في ملكه بالحكم عليه ، وعليه كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً ، وإنّما قال تعالى مالك الملك لأنّه تعالى يملك ملوك الدنيا وما ملكوا ، ومعناه أنّه يملك ملك الدنيا فيعطي الملك فيها من يشاء.

ولا يخفى أنّ هذه الوجوه قابلة للنقاش ولكل من القراءتين دليل قرآني.

أمّا الأوّل فقد قال سبحانه : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ ) ( الإنفطار / 17 - 19 ) لأنّ قولك « الأمر له » عبارة اُخرى عن كونه مالك الأمر وبعبارة اُخرى إنّ مقتضى كونه بمنزلة الاستثناء من الآية المتقدّمة أعني ( لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ ) إنّه سبحانه مالك الأمر في ذلك اليوم.

كما أنّه يؤيّد القراءة الثانية قوله سبحانه : ( لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر / 16 ).

ص: 450

وقال سبحانه : ( فَتَعَالَى اللّهُ المَلِكُ الحَقُّ ) ( طه / 114 ).

وقال سبحانه : ( المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ ... ) ( الحشر / 23 ).

وقال سبحانه : ( مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ ) ( الناس / 2 و 3 ).

فلا يصحّ ترجيح واحد على الآخر بهذه الوجوه لأنّ لكل من القراءتين شاهداً قرآنياً ، فلابدّ من الترجيح بالتتبع في القراءة المرويّة عن النبي (ص) بطريق أصحّ. المائة والحادي عشر : « المبين »

قد ورد لفظ « المبين » في الذكر الحكيم 106 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في آية واحدة ، قال تعالى : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور / 25 ).

قال ابن فارس : « بان الشيء وأبان إذا اتّضح وانكشف ، وفلان أبين من فلان أي أوضح كلاماً منه ، وبهذا المعنى وقع وصفاً في القرآن لاُمور مثل : العدوّ ، والكتاب ، والضلال ، والبلاغ ، والسحر ، والفوز ، والثعبان ، والساحر ، والسلطان ، والقرآن ، والشهاب ، والإمام ، والنظير ، والخصيم ، واللسان ، والخسران ، والافك ، والشيء ، والنذير ، والبلاء ، والظالم ، والرسول ، والدخان ، والاُفق ، والاثم ، والنور ، والفتح.

وأمّا توضيح الآية فالمراد بالدين الجزاء كما في قوله : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ( الحمد / 4 ).

وتوفية الشيء بذله تامّاً كاملاً والمعنى أنّ اللّه يعطيهم يوم القيامة جزاءهم الحق إعطاءً تامّاً كاملاً ، وأمّا قوله : ( وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) فهو من غرر الآيات القرآنية التي تفسّر معرفة اللّه وتنبئ عن أنّه تعالى هو الحق الواضح الذي يسهل الوصول إليه والتعرف عليه الذي لا سترة عليه بوجه من الوجوه ، وعلى أي تقدير من التقادير فهو أبده البديهيات التي لا يتعلّق بها جهل ، لكن البديهي ربّما

ص: 451

يغفل عنه فالعلم به تعالى يرجع إلى ارتفاع الغفلة عنه الذي ربّما يعبر عنه ب « العلم بالعلم » وهذا هو الذي يبدو لهم يوم الحق ( القيامة ) فيعلمون أنّ اللّه هو الحقّ المبين (1).

فاللّه سبحانه حق لا يشوبه باطل ، وجوده بيّن بالفطرة التي فطر الناس عليها ، مبين بآثاره وأفعاله ، مبين بوجوده ، وفي كلمات أئمّة أهل البيت درر مضيئة في هذا المجال نأتي ببعضها.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : « يا من دلّ على ذاته بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته » (2).

وقال الإمام السبط الحسين بن علي علیه السلام :

« كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ، عميت عين لا تر لك عليها رقيباً » (3).

وربّما يفسّر « المبين » بأنّه من الإبانة باعتبار إبانة خلقه كلاًّ من الآخر فصاروا أنواعاً وأصنافاً وأشخاصاً بحيث لم يكن ولا يكون فردان من كل صنف متّحدين من جميع الجهات حتى يشتبه أحدهما بالآخر (4).

والتفسير مبني على أخذه من « البين » بمعنى البينونة ، وهو لا يلائم مفاد الآية وسياقها.

ص: 452


1- الميزان : ج 15 ، ص 103.
2- من دعائه علیه السلام بعد طلوع الفجر المعروف بدعاء الصباح.
3- من دعاء الإمام الحسين علیه السلام يوم عرفة.
4- شرح الأسماء الحسنى للسيد حسين الهمداني : ص 36.
المائة والثاني عشر : « المُتَعال »

وقد ورد « المتعال » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ ) ( الرعد / 9 ).

وأمّا معناه فهو من العلو بمعنى السمو والارتفاع ، يقال تعالى النهار أي ارتفع.

والمتعال صفة من التعالي وهو المبالغة في العلوّ كما يدل عليه قوله : ( تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ) ( الاسراء / 43 ).

فإنّ قوله علوّاً كبيراً مفعول مطلق لقوله سبحانه موضوع في محل قولنا تعالياً وهو سبحانه عليّ ومتعال ، أمّا أنّه عليّ فلأن العلوّ هو التسلط واللّه متسلّط على كل شيء ، وأمّا أنّه متعال فلأنّ له غاية العلو ، فهو العال غاية العلوّ.

ثمّ إنّ الهدف من توصيفه سبحانه بالأسماء الثلاثة في الآية هو التركيز على أنّه سبحانه محيط بكل شيء ( عالم الغيب والشهادة ) يملك كل كمال ( الكبير ) المتسلّط على كل شيء ولا يتسلّط عليه شيء ، فهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة ، ولا يغلبه غيب حتى يعزب عن علمه شيء ، لأنّه جامع لكل كمال ، ومتسلّط على كل شيء (1).

ثمّ إنّ هناك احتمالاً آخر وهو أنّ المقصود من المتعال هو تعاليه عن كل عيب ونقص وعن كل شريك وند ، عمّا يجول في فكر المشركين والكافرين ، ويؤيّد ذلك انّ فعل هذا الوصف جاء في القرآن الكريم 14 مرّة واُريد منه ذلك ، قال سبحانه :

( وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنعام / 100 ) (2).

ص: 453


1- الميزان : ج 1 ، ص 337 - 338.
2- وفي آيات : (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(الأعراف/190، یونس/18، النحل/1و3، المؤمنون/92، النمل / 63، القصص / 68 ، الروم / 40 ، الزمر / 67 ). وهذا المعنی يعد فرعاً للمعنی الكلّي الذي فسّر به في تفسير «المیزان»
المائة والثالث عشر : « المتكبّر »

وقد ورد ذلك اللفظ في القرآن 3 مرّات ووقع في مورد واحد وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر / 23 ). وهو مأخوذ من الكبر - بسكون الباء - (1) بمعنى العظمة ، ومثله الكبرياء ، ومعنى المتكبّر هو من تلبّس بالكبرياء وظهر بها ، وإذا كان الكبر هو الحالة التي يوجب إعجاب المرء بنفسه ورؤية ذاته أكبر من غيره ، لا ترى لذلك الوصف حقيقة إلاّ في ذاته سبحانه.

قال الغزالي : « المتكبّر هو الذي يرى الكل حقيراً بالاضافة إلى ذاته ، فلا يرى العظمة والكبرياء إلاّ لنفسه ، وينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد ، فان كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبّر حقّاً وكان صاحبها محقّاً في ذلك التكبّر ، ولا يتصوّر ذلك على الاطلاق إلاّ في حق اللّه سبحانه وتعالى ، ولئن كانت تلك الرؤية باطلة ولم يكن ما يراه من التفرد بالعظمة كما يراه ; كان التكبّر باطلاً مذموماً ، وقد نقل عن النبي صلی اللّه علیه و آله حاكياً عن ربّ العزّة جلّ جلاله : « الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ، من نازعني واحداً منهما قذفته في النار » (2) وعلى ذلك فالتكبّر صفة مدح وكمال في حقّه سبحانه وفي حقّ غيره صفة نقص واختلال.

ثمّ إنّ بعض أهل العربية زعم أنّ باب التفعّل بمعنى التكلف دائماً ، فوقع في تفسير ذلك الاسم في حيص وبيص ، والحق انّه ليس أصلاً دائميّاً بل ربّما يجيء بمعنى اظهار المبدأ كما هو الحال في باب التفاعل.

ص: 454


1- لا من الكبر - بفتح الباء - وهو الهرم والطعن في السن.
2- معنى الحديث أنّ العظمة له سبحانه والكبرياء عبارة عن إراءتها كما هو الحال في المتكبّر.

وأمّا حظ العبد من ذلك الاسم فهو أن يتكبّر عمّا سوى الحق تعالى فلا يطلب في عمله سواه حتى يكون هو الغاية دون غيره.

ثمّ إنّ رأس المعاصي ومبدأها هو التكبّر على الحق سواء كان هو اللّه سبحانه أم كان أنبيائه ورسله أم كتبه وزبره ، فلا يعصي العاصي إلاّ عن طغيان وتكبّر وإن لم يحس به في نفسه وهو أوّل ما عصي به الرحمان.

قال سبحانه : ( إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 34 ).

وقال سبحانه : ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ ) ( القصص / 39 ).

وللإمام أمير المؤمنين علیه السلام كلمة في الكبر نأتي بها ، قال علیه السلام :

« الحمد لله الذي لبس العزّ والكبرياء واختارهما لنفسه دون خلقه وجعلهما حمى وحرماً على غيره ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عبادة ، ثم اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ليميّز المتواضعين منهم من المستكبرين ... ( إلى أن ذكر إبليس فقال ) ... اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه وتعصّب عليه لأصله ، فعدو اللّه إمام المتعصبين وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية ، ونازع اللّه رداء الجبرية ، وادّرع لباس التعزّز ، وخلع قناع التذلّل ، ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبّره ، ووضعه بترفّعه ، فجعله في الدنيا مدحوراً وأعدّ له في الآخرة سعيراً » (1).

ص: 455


1- نهج البلاغة : خطبة 192.
المائة والرابع عشر : « المتين »

وقد ورد المتين في الذكر الحكيم 3 مرّات ووقع في مورد واحد وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / 57 و 58 ).

و « المتين » من المتن قال ابن فارس : وهو في الأصل بمعنى الصلابة في الشيء مع امتداد وطول ، والمتنان من الإنسان مكتنفاً الصلب من عصب ولحم.

والظاهر أنّ الامتداد والطول ليس جزء لمعناه وإنّما هو من لوازم الجري حيث يطلق على الأرض الصلبة أو على ما يكتنف الصلب من عصب ولحم ، فلو اطلق على الحبل المستحكم « المتين » فهو من هذا الباب.

وجعل الرازي الأصل للمتن هو الظهر ، قال : أمّا المتين فهو الشديد واشتقاقه من المتانة وهي الصلابة لغة ، مأخوذاً من المتن وهو الظهر لأنّ استمساك أكثر الحيوان أن يكون بالظهر ، ولهذا سمّيت القوّة باسم الظهر وباسم المتين.

قال تعالى : ( وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء / 88 ) ويقال كلام متين إذا كان قوّياً (1).

وعلى كل تقدير فسواء كان الأصل هو الصلابة كما عليه ابن فارس أو الظهر كما عليه الرازي ، فلا يصحّ توصيفه سبحانه بواحد من المعنيين ، فوجب حمله على لازمه وهو الموجود الذي لا يتأثّر بالغير.

وقد عرفت أنّ القوّة لا ترادف القدرة المطلقة بل المراد المرتبة الشديدة منها فعلى ذلك يكون القويّ في الآية مرادفاً لقوله : ( ذُو الْقُوَّةِ ) كما يكون المتين تأكيداً له بمعنى أنّه لا يغلب ولا يتأثّر من غيره فيكون مرادفاً لقولنا واجب الوجود لذاته.

ص: 456


1- لوامع البينات : ص 295.
المائة والخامس عشر : « المجيب »

وقد ورد كل من المجيب والمجيبين مرّة واحدة ووقعا وصفين له سبحانه.

قال سبحانه : ( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ) ( هود / 61 ).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ ) ( الصافّات / 75 ).

وهو من « الجوب » وهو في الأصل بمعنى خرق الشيء ، ولعلّ استعماله في الجواب والإجابة بما انّه خرق للسكوت ، ولكن « ابن فارس » قال : له أصل ( معنى ) آخر وهو مراجعة الكلام ، يقال كلّمه فأجابه جواباً.

وعلى كل تقدير فهو وصف فعل لله سبحانه فهو يجيب سؤال عبيده ليس إجابته بالكلام وإنّما هو باعطاء سؤلهم ، فهو اسم له تعالى باعتبار إعطائه طلب السائلين :

قال سبحانه : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ( البقرة / 186 ).

نعم للإجابة شروط مقرّرة في أبحاث الدعاء فليس الإجابة محرّرة من كل شرط.

المائة والسادس عشر : « المجيد »

قد ورد « المجيد » في الذكر الحكيم 4 مرّات ووقع في موردين اسماً له سبحانه كما أنّه وقع في موردين آخرين وصفاً للقرآن الكريم.

قال سبحانه : ( رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) ( هود / 73 ).

وقال : ( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ ) ( البروج / 14 و 15 ).

وقال في وصف القرآن : ( ق * وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ ) ( ق / 1 ).

وقال : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ( البروج / 21 و 22 ).

ص: 457

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : فهو في الأصل يدل على بلوغ النهاية ولا يكون إلاّ في محمود منه « المجد » : بلوغ النهاية في الكرم ، واللّه « الماجد » و « المجيد » لا كرمَ فوق كرمه ، وتقول العرب : « ماجد فلان فلاناً : فاخره ».

وقال الراغب : « المجد » السعة في الكرم والجلال ولو وصف به القرآن الكريم فلأجل كثرة ما يتضمّن من المكارم الدنيويّة والاُخروية ، وبما أنّ كثرة المباني تدلّ على كثرة المعاني فيكون المجيد مبالغة في المجد ، فالمجيد اسم له تعالى باعتبار رفعة ذاته وصفاته أو سعة كرمه وإحسانه حيث لا يتمكّن أحد من بلوغ تلك الرفعة.

المائة والسابع عشر : « المحيط »

وقد جاء المحيط في القرآن الكريم 9 مرّات ووقع وصفاً له في موارد ثمانية.

قال سبحانه : ( وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 19 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) ( آل عمران / 120 ).

وقال سبحانه : ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ) ( البروج / 19 و 20 ).

والكلمة من الحوط وهو الإطافة بالشيء ، ويطلق الحائط على الجدار الذي يحوط بالمكان ، والمراد من هذا الوصف سعة وجوده سبحانه حيث لا يحدّه شيء بل كل شيء محاط له وقد أحاط بكل شيء علماً.

ثمّ إنّ الظاهر من الايات أنّه سبحانه بذاته ووجوده محيط بالأشياء ، كما أنّه محيط بعلمه أيضاً ، غير أنّ من يثبت لله سبحانه جهة فوق العرش يؤوّل هذه الآيات بالاحاطة العلمية ، وقد ذكرنا كلمة « أحمد بن حنبل » عند البحث عن اسم « القريب ».

قال سبحانه : ( وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 19 ).

ص: 458

وقال سبحانه : ( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) ( فصّلت / 54 ).

والعجب أنّ الرازي يفسّر الآية الثانية بقوله أنّه أحاط بكل شيء علماً (1).

المائة والثامن عشر : « المحيي »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرتين ووقع وصفاً له فيهما.

قال سبحانه : ( فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الروم / 50 ).

وقال سبحانه : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( فصّلت / 39 ).

وعلى ذلك فالمحيي من صفات الفعل ، فهو يحيي الأرض بعد موتها كما يحيي الإنسان يوم القيامة كذلك.

وقد عطفت الإحياء على الإماتة في غير واحد من الآيات.

وقال سبحانه حاكياً عن إبراهيم : ( وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ) ( الشعراء / 81 ).

وقال سبحانه : ( وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) ( البقرة / 28 ).

ثمّ إنّ الإحياء والإماتة منصرفان إلى الجسمانية منهما ، وربّما يطلق على غيرها.

قال سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ) ( الأنعام / 122 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ ) ( فاطر / 22 ).

وعلى ذلك فالإحياء والإماتة باقسامهما من اللّه سبحانه يفاضان منه إلى عباده

ص: 459


1- لوامع البيّنات : ص 358.

ومخلوقاته عن طريق الأسباب والعلل ، فالاعتراف بأنّه هو المحيي والمميت ليس انكاراً لقاعدة السببية والعلّية ، فاللّه سبحانه كما هو المميت ، فملك الموت أيضاً مميتٌ وكذلك الملائكة.

قال سبحانه : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) ( السجدة / 11 ). كما أنّ هناك رسلاً غيبيّة يقومون بهذا العمل.

قال سبحانه : ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) ( الأعراف / 37 ).

وقد ذكرنا ذلك غير مرّة.

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن يحيي قلبه بذكره وعبادته وإماتة الغزائز العادية بكبح جماحها.

المائة والتاسع عشر : « المستعان »

وقد ورد « المستعان » في الذكر الحكيم ووقع وصفاً له سبحانه مرّتين.

قال تعالى : ( وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) ( يوسف / 18 ).

وقال سبحانه : ( قَالَ رَبِّ احْكُم بِالحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) ( الأنبياء / 112 ).

و « المستعان » صيغة مفعول من « استعان » بمعنى طَلَبَ العون.

قال الراغب : وهو بمعنى المعاونة والمظاهرة.

قال سبحانه : ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) ( الكهف / 95 ) و ( أَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) ( الفرقان / 4 ) والاستعانة : طلب العون.

قال سبحانه : ( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) .

ص: 460

وتقديم اسم الجلالة على ذاك الاسم أو تقديم « ربّنا » عليه لإفادة الحصر التي يفيده قولنا : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ( الحمد / 4 ). ومعناه أنّه لا يستعين أحد غيره إلاّ خاب عن مراده فهو المستعان لا غير.

نعم هذا الحصر لا ينافي الاستعانة بالغير بما أنّ أعانته منتهية إلى اللّه سبحانه فالاستعانة من الأسباب والعلل الظاهرية ، أو الإستعانة بالأرواح المقدّسة بمعنى أنّه هو الذي جعلها أسباباً وفاض عليها وصف السببية كيف وقد أمر به سبحانه إيماءً واشارةً ووضوحاً وتصريحاً.

قال سبحانه حاكياً عن ذي القرنين : ( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) ( الكهف / 95 ). وقال سبحانه : ( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ( البقرة / 153 ).

وهذا أصل مطّرد في كل اسم مختص باللّه سبحانه ، فهو الواجد لكمال حقيقته ولو وصف به الغير فإنّما يوصف بتسبيب وإفاضة منه ، فهو المستعان حقيقة واستقلالاً وغيره يستعان منه إلاّ بتسبيب منه ، وهو غير مستقل في الإعانة والنصر.

وأمّا حظّ العبد من ذلك الاسم ، هو التعاون في التقوى والتجنّب عنه في الإثم والعدوان ، قال سبحانه : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) ( المائدة / 2 ).

المائة والعشرون : « المصوّر »
اشارة

وقد ورد هذا اللفظ في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال : ( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الحشر / 24 ).

ص: 461

و « المصوّر » من الصورة وهي صورة كل مخلوق وهيئته التي خلق عليها (1).

قال الراغب : « الصورة » ما ينتقش بها الأعيان ويتميّز بها عن غيرها ، وهي بين محسوس ومعقول ، والمحسوس كصورة الإنسان والفرس والحمار بالمعاينة ، والمعقول الصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والرؤية والمعاني التي خصّ بها شيء بشيء.

يلاحظ عليه : انّ تقسيم الصورة إلى القسمين تقسيم فلسفي خارج عن اطار المعنى اللغوي للفظ ، وقد جرّه إلى هذا التقسيم تصحيح ما روي عن النبي أنّه قال : « إنّ اللّه خلق آدم على صورته » بناءً على أنّ الضمير المجرور يرجع إلى اللّه ، وسيوافيك تفسير الحديث بوجهين.

والظاهر أنّ المراد من المبدأ في المصوّر هو الصورة الحسّية التي اُشير إليها في كثير من الآيات.

قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ) ( آل عمران / 6 ).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) ( الأعراف / 11 ).

وقال سبحانه : ( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ) ( غافر / 64 ).

نعم كان تصوير آدم على وجه الكمال ملازما لكونه ذا صورة عقليّة مدركة

ص: 462


1- الظاهر من صاحب المقاييس انّ الصورة مأخوذة من صور ، ويؤيّده كون الواو ظاهرة في مشتقاته ك ( المصوّر ، المصور ، التصوير ، الصور ) غير أنّ الرازي قال : الصورة مأخوذة من صار يصير ، ومنه قولهم « إلى ماذا صار أمرك » ... وصورة الشيء هو الجزء الذي باعتباره يكون الشيء حاصلاً كائناً لا محالة فلا جرم كانت الصورة منتهي الأمر ومصيره ( لوامع البيّنات : ص 209 ) ولا يخفى بعده وليس من الممتنع أن يكون لمادة « صور » معان مختلفة منها الامالة ومنه قوله تعالى ( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) ومنه « أصور » بمعنى مائل العين ، ومنها « الصورة » الهيئة التي يخلق الشيء عليها ).

بالبصيرة ، وهو غير كون الصورة موضوعة للأعمّ من الحسّيّة والعقليّة.

وكونه سبحانه هو المصوّر دون غيره لا ينافي تدخّل الأسباب المادّيّة والصفات الموروثة في التصوير ، فإنّها من جنوده سبحانه تعمل بإرادته ومشيئته وتأثير الكل ينتهي إليه فهو المصوّر حقيقة ، وغيره من العلل الطوليّة والعرضيّة مصوّرة بإذنه ومشيئته.

تفسير الحديث النبوي

روى الفريقان عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّ اللّه خلق آدم على صورته » فأخذ بظاهره المشبّهة ، فتخيّلوا أنّ لله سبحانه صورة غير أنّ الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيت تفسّر الحديث بوجهين مختلفين وإليك بيانهما :

1 - قال « محمد بن مسلم » : سألت أبا جعفر علیه السلام عمّا يروون أنّ اللّه عزّ وجلّ خلق آدم على صورته ، فقال : هي صورة محدثة مخلوقة اصطفاها اللّه واختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه ، فقال سبحانه : ( بَيْتِيَ ) ( البقرة / 125 ). وقال سبحانه : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) ( الحجر / 29 ) (1).

وعلى هذا يرجع الضمير إلى اللّه تعالى وتكون الإضافة تشريفية.

2 - قال « الحسين بن خالد » قلت للرضا علیه السلام : يابن رسول اللّه إنّ الناس يروون أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّ اللّه خلق آدم على صورته » فقال : قاتهلم اللّه لقد حذفوا أوّل الحديث : إنّ رسول اللّه مرّ برجلين يتسابّان فسمع أحدهما يقول لصاحبه : « قبّح اللّه وجهك ووجه من يشبهك » فقال صلی اللّه علیه و آله : « يا عبد اللّه لا تقل هذا لأخيك ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ خلق آدم على

ص: 463


1- التوحيد للصدوق : باب أنّه عزّ وجلّ ليس بجسم ولا صورة ، الحديث 18 ، ص 103.

صورته » (1).

وعلى هذا فالضمير المجرور يرجع إلى الذي وجّه إليه السب المحذوف عن صدر الحديث ، وهناك وجوه اُخر لتفسير الحديث لاحظ « التوحيد » للصدوق وغيره من الكتب. المائة والواحد والعشرون : « المقتدر »

وقد ورد لفظ « المقتدر » في القرآن 3 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى : ( كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ ) ( القمر / 42 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) ( القمر / 54 و 55 ).

وقال سبحانه : ( وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) ( الكهف / 45 ).

وجاء بصيغة الجمع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ ) ( الزخرف / 42 ). وهو يعادل « القادر » و « القدير » في المعنى غير أنّه أبلغ في ثبوت المبدأ كما أنّه يدل على الاختيار ، وكلا الأمرين من مقتضيات باب الافتعال.

قال سبحانه : ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ( البقرة / 286 ).

المائة والثاني والعشرون : « المقيت »

وقد ورد في الذكر الحكيم لفظ « المقيت » مرّة واحدة وجرى وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً

ص: 464


1- التوحيد باب تفسير قوله ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) الحديث 711 ص 153.

سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا ) ( النساء / 85 ).

والكلمة مشتقة من « القوت » قال ابن فارس : « يدل على امساك وحفظ وقدرة على الشيء ، ومن ذلك قوله تعالى : ( وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا ) أي حافظاً له شاهداً عليه وقادراً على ما أراد. قال الشاعر :

وذي ضعن كففت النفس عنه

وكنت على إسائته مقيتا

ومن الباب « القوت » ما يمسك الرمق ، وإنّما سمّي قوتاً لأنّه مساك البدن وقوّته (1).

فإذا كان أصله هو الامساك والحفظ فيصحّ تفسيره بالحفيظ والشهيد لملازمة الإمساك له ، فيكون متّحداً مع بعض أسمائه في المعنى كالحفيظ والشهيد.

قال الصدوق : « المقيت » معناه الحافظ الرقيب ، ويقال : بل هو القدير (2).

المائة والثالث والعشرون : « الملك »

وقد ورد لفظ « الملك » في الذكر الحكيم 11 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في 5 موارد.

قال سبحانه : ( فَتَعَالَى اللّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) ( طه / 114 ).

وقال سبحانه : ( فَتَعَالَى اللّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) ( المؤمنون / 116 ).

وقال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ

ص: 465


1- مقائيس اللغة : ج 5 ، ص 36.
2- التوحيد : ص 213.

المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ ) ( الحشر / 23 ) (1).

وقد تقدّم الكلام في معنى الملك عند البحث عن اسم « مالك الملك » فلاحظ.

وقال نقلاً عن ملكة سبأ : ( قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا ) ( النمل / 34 ).

نعم هذه الملازمة غالبية ، وهناك ملوك يعرّفهم القرآن بالقدس والنزاهة قال سبحانه : ( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) ( المائدة / 20 ).

والمراد من الملوك في الآية ، الأنبياء الذين ملكوا الأمر وتسلّموه بأمر من اللّه وتسنّدوا على منصّة الحكم كداود وسليمان (ع) ولا بأس بتوصيف اُمّة بني اسرائيل بهذا الوصف باعتبار انّ بعضهم كانوا ملوكاً تسرية لحكم البعض إلى الكل.

المائة والرابع والعشرون : « المولى »

وقد جاء لفظ المولى في الذكر الحكيم 18 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في 12 مورداً.

قال سبحانه : ( وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) ( الأنفال / 40 ).

وقال سبحانه : ( وَاعْتَصِمُوا بِاللّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) ( الحج / 78 ).

وقال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ) ( محمّد / 11 ).

ص: 466


1- لاحظ : الجمعة / 1 ، الناس / 2.

وقال سبحانه : ( بَلِ اللّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) ( آل عمران / 150 ) (1).

وأمّا معناه فقد ذكر « ابن فارس » إنّ معنى ( الولي ) هو القرب ، يقال : « تباعد بعد ولي » أي قرب ، ويطلق « المولى » على المعتق - بالكسر - والمعتق والصاحب والحليف وابن العم والناصر والجار كل هؤلاء من الولي وهو القرب ... وفلان أولى بكذا أي أحرى به وأجدر.

والظاهر أنّ قرب أحد من أحد يكون سبباً لأولوّية أحدهما بالآخر ، وعلى ذلك فليس للمولى إلاّ معنى واحد وهو الأحرى والأجدر وله مصاديق مختلفة.

ثمّ إنّ بعض من تكلّم في مفاد « حديث الغدير » المشتمل على لفظ « المولى » أراد التشكيك في دلالته قائلاً بأنّ المولى يستعمل مضافاً إلى معنى « الأولى » و « الولي » في معان اُخرى ، كالرب والعم ، وابن العم والمعتِق ، والمعتَق والعبدُ ، والمالُ والحليفُ ، والجار والتابع و ...

وعند ذلك يكون الحديث غير صريح الدلالة ، وقد خفي عن المشكّك أنّه ليس للمولى إلاّ معنى واحد وهو الأولى الذي هو الولي بمعنى واحد ، وأمّا غيره فإنّما هو من مصاديقه وموارده ، وأوّل من نبّه بذلك « ابن البطريق » في عمدته (2).

وتبعه شيخنا « الأميني » في غديره وبذلك خرج لفظ « المولى » عن كونه مشتركاً بين سبعة وعشرين معنى إلى كونه ذا معنى واحد ، قال « الأميني » : الذي نرتأيه بعد الخوض في غمار اللغة ومجاميع الأدب وجوامع العربية ، إنّ المعنى الحقيقي من معاني المولى ليس إلاّ الأولى بالشيء ، وهو الجامع لهاتيك المعاني جمعاء ومأخوذ في كل منها بنوع من العناية ، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلاّ

ص: 467


1- لاحظ : البقرة / 286 ، الأنفال / 40 ، الأنعام / 62 ، التوبة / 51 ، الحج / 78 ، التحريم / 2 و 4.
2- راجع العمدة : 112 - 113.

بمناسبة هذا المعنى :

1 - فالربّ سبحانه هو أولى بخلقه من أي قاهر عليهم.

2 - والعمّ أولى الناس بكلاءة ابن أخيه والحنان عليه وهو القائم مقام والده.

3 - وابن العمّ أولى بمعاضدة ابن عمه لأنّهما غصنا شجرة واحدة.

4 - والمعتق - بالكسر - أولى بالتفضّل على من أعتقه من غيره.

5 - والمعتق - بالفتح - أولى بأن يعرف جميل من أعتقه ويشكره بالخضوع والطاعة.

6 - والعبد أولى أيضاً بالانقياد لمولاه من غيره وهو واجبه الذي نيطت سعادته به.

7 - والمالك أولى بكلاءة مملوكه والتصرّف فيه.

8 - والتابع أولى بمناصرة متبوعه ممّن لا يتبعه.

9 - والجار أولى بالقيام بحفظ حقوق الجوار من البعداء.

10 - والحليف أولى بالنهوض بما حالفه ودفعه عادية الجور عنه ... (1).

فإذا كان الأمر كذلك فالأولويّة لا تتحقّق إلاّ بوجود ملاك يصحّ معه توصيفه بها حسب اختلاف الموارد ، فاللّه سبحانه أولى بالمؤمنين وجميع عباده لأجل كونه خالقاً لهم ، مخرجاً لهم من العدم إلى الوجود ، فله الولاية الحقيقية ، كما أنّ النبي والولي أولى بالمؤمنين من أنفسهم لكونهما منصوبين من جانب من له الولاية الحقيقية حيث نصبا لصيانة العباد عمّا يخالف ولايته سبحانه على العباد.

فقال سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ( المائدة / 55 ).

ص: 468


1- الغدير : ج 1 ، ص 369.

فالرسول ومن جاء بعده خلفاءه تعالى في الولاية لاشركاءه ، سبحانه أن يكون له ولي من الذلّ تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

وبذلك يظهر وضع سائر المِلاكات والمناطات من اللحمة والجوار ، والخدمة والإحسان والوحدة في الدين.

قال سبحانه : ( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) ولأجل عدم وجود هذا الملاك بين المؤمن والكافر نفى الولاية بينهم وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ) ( المائدة / 51 ).

وعلى ذلك فالولاية الحقيقية التكوينية القائمة بالخلق والإيجاد لله سبحانه وغيرها ولاية تشريعية إلهية أو عقلائية ، ولكن ليس ثبوت الولاية فوضى بل يتبع ملاكاً تكوينياً أو إعتبارياً نابعاً من التكوين.

المائة والخامس والعشرون : « المهيمن »

وقد ورد لفظ « المهيمن » في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في آية وللقرآن في آية اُخرى.

قال سبحانه : ( المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ ) ( الحشر / 23 ).

وقال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ... ) ( المائدة / 48 ).

ويتخيّل في بادي النظر أنّ اللفظ مشتق من « همن » مع أنّه ليس كذلك إذ لم يرد في اللغة العربية « همن » وإنّما هو مشتق من أمن فبدّل الهمزة هاء.

قال الطبرسي : « أصل مهيمن : مؤيمن فقلبت الهمزة هاء كما قيل : في أرقت

ص: 469

الماء « هرقت » ، وقد صرف وقيل هيمن الرجل إذا ارتقب وحفظ وشهد ، ويهيمن هيمنة ، وعلى هذا يكون وزنه مفعيل مثل « مسيطر » و « مبيطر » ، وعلى هذا فيكون معنى « المهيمن » موجد الأمن والأمان ، فيكون ملازماً للرقابة والحفظ والشهادة فلو فسّر بالشاهد والحفيظ والرقيب كان تفسيراً باللازم.

وعلى ذلك فاللّه سبحانه هو الفائق المسيطر على العباد كما أنّ القرآن مسيطر على الكتب السماوية عامّة إذ به يعرف صدق ما في الكتب السماوية الاُخرى.

قال سبحانه : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( النمل / 76 ).

ص: 470

حرف النون

المائة والسادس والعشرون : « النصير »

وقد جاء النصير في الذكر الحكيم 24 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في موارد أربعة.

قال سبحانه : ( وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) ( الأنفال / 40 ).

وقال سبحانه : ( وَاعْتَصِمُوا بِاللّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) ( الحج / 78 ).

وقال سبحانه : ( وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) ( الفرقان / 31 ).

وقال سبحانه : ( وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ) ( النساء / 45 ).

والنصير مبالغة في النصر بمعنى العون ، قال الصدوق : « الناصر والنصير بمعنى واحد ، والنصرة حسن المعونة » (1).

فهو سبحانه ينصر أنبيائه وأوليائه :

قال تعالى : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ( غافر / 51 ).

وقال تعالى : ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّ ) ( آل عمران / 123 ).

وقال تعالى : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ

ص: 471


1- التوحيد : ص 214.

حُنَيْنٍ ... ) ( التوبة / 25 ). بل ينصر عباده في سبل الحياة نصراً مادّيّاً ونصراً معنوياً غير أنّ العباد بين شاكر وكافر ، وقليل من عباده الشكور.

المائة والسابع والعشرون : « النور »

وقد جاء النور في الذكر الحكيم معرفاً ومنكراً ، مضافاً وغير مضاف 41 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في آية واحدة وهي آية النور.

قال سبحانه : ( اللّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( النور / 35 ).

وأمّا معناه فهو حسب ما صرّح به « ابن فارس » يدلّ على الإضاءة ويطلق على الضوء المنتشر الذي يعين على الأبصار والمتبادر منه ما انتشر من الأجسام النيّرة كالقمرين والنجوم والمصابيح ، غير أنّه يستعار لكل ما يضيء طريق السعادة ، ولأجل ذلك اطلق النور على النبي الأكرم.

قال سبحانه : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( المائدة / 15 ).

وعلى التوارة قال سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ) ( المائدة / 44 ).

وعلى الإيمان قال سبحانه : ( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) ( البقرة / 257 ).

وعلى القرآن قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) ( النساء / 174 ).

ص: 472

إلى غير ذلك ممّا استعمل فيه النور ، واستعير لغير النور الحسّي لاشتراكهما في الأثر ، وهذا هو الأصل في الاستعارة والتوسّع في الاستعمال.

ولا شك انّ المراد من كون سبحانه نوراً ليس هو النور الحسّي بضرورة العقل والكتاب قال سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ( الشورى / 11 ). وإنّما المراد هو النور غير الحسّي.

بيان : إنّ الوجود سواء كان واجباً أو ممكناً نور لكون الوجود في كلتا المرتبتين ظاهراً بنفسه ومظهراً لغيره.

أمّا الوجود الامكاني فيظهر به الماهيات فتحقّق به الإنسانية والحيوانية والنباتية والجمادية ، كما أنّ الوجود الواجب - مع كونه ظاهراً بنفسه لأجل كونه وجوداً - مظهر لغيره ، فانّ العوالم الامكانية متحقّقة به.

وعلى ضوء ذلك فينطبق حد النور الحسّي ( الظاهر بنفسه ، المظهر لغيره ) على الوجود في جميع مراتبه ودرجاته ، غير أنّه كما أنّ للنور الحسّي مراتب ودرجات فهكذا للنور المعنوي أي الوجود مراتب ودراجات ، فإنّ نسبة العوالم الامكانية إلى وجود الواجب كنسبة المعاني الحرفية إلى المعنى الاسمي ، فلو كان للمعنى الحرفي مفهوم في الذهن وتحقّق في الخارج ودلالة في عالم الوضع فإنّما هو ببركة المعنى الاسمي في المراحل الثلاث ، ومثله الوجود الامكاني فلو كان له ظهور بنفسه واظهار لغيره أعني الماهيات ، فإنّما هو بفضل صلته وقوامه بالواجب ، ولولا تلك الصلة لكانت العوالم الامكانية والمعدومات سواسية ، فعليه فاللّه سبحانه نور السموات والأرض بالحق والحقيقة لا بالمجاز ، ومن فسّره بمنوّر السموات فقد سلب عنه البلاغة العليا وأدرجه في العاديات من الكلام.

قال « العلاّمة الطباطبائي » : « وإذا كان وجود الشيء هو الذي يظهر به ( نفسه ) لغيره من الأشياء كان مصداقاً تامّاً للنور ، ثم لمّا كانت الأشياء الممكنة الوجود إنّما

ص: 473

هي موجودة بايجاد اللّه تعالى كان هو المصداق الأتمّ للنور ، فهناك وجود ونور يتّصف به الأشياء وهو وجودها ونورها المستعار المأخوذ منه تعالى ، ووجود ونور قائم بذاته يوجد وتستنير به الأشياء ، فهو سبحانه نور تظهر به السموات والأرض وهذا هو المراد بقوله : ( اللّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) حيث اُضيف النور إلى السموات والأرض ثمّ حمل على اسم الجلالة ، ومن ذلك يستفاد أنّه تعالى غير مجهول لشيء من الأشياء إذ ظهور كل شيء لنفسه أو لغيره إنّما هو بإظهاره تعالى ، فهو الظاهر بذاته له قبله ، وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) ( النور / 41 ) إذ لا معنى للعلم بالتسبيح والصلاة مع الجهل بمن يصلّون له ويسبّحون ، فهو نظير قوله : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) ( الاسراء / 44 ) (1).

وقال الإمام الطاهر أبو الشهداء الحسين بن علي علیهماالسلام : « أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ... ».

ص: 474


1- الميزان : ج 15 ، ص 122.

حرف الواو

المائة والثامن والعشرون : « الواحد »
اشارة

قد ورد لفظ الواحد في الذكر الحكيم 30 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في 21 مورداً.

قال سبحانه : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / 163 ).

وقال سبحانه : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) ( المائدة / 73 ).

وقال سبحانه : ( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / 39 ).

وقال تعالى : ( لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) ( النحل / 51 ).

وأمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : يدل على الإنفراد من تلك الوحدة وهو واحد قبيلته إذا لم يكن فيهم مثله ، قال :

يا واحد العرب الذي *** ما في الأنام له نظير

ويستفاد من الإمعان في الآيات المذكورة أنّ الواحد يهدف إلى نفي النظير والمثل والكثرة العددية بشهادة قوله سبحانه : ( لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) ومثله قوله : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) وبذلك يعلم صحّة التفريق بين « الواحد » و « الأحد » وانّ « الواحد » بمعنى نفي الكثرة العددية و « الأحد » بمعنى نفي التركيب.

ص: 475

ثمّ إنّ للتوحيد مراتب تربو على تسع.

1 - التوحيد في الذات بمعنى أنّه واحد ليس له نظير ومثيل.

2 - التوحيد في الذات بمعنى أنّه بسيط لا جزء له خارجاً ولا ذهناً.

3 - التوحيد في الصفات بمعنى أنّه صفاته عين ذاته لا زائدة عليه.

4 - التوحيد في الخالقية بمعنى أنّه لا خالق سوى اللّه.

5 - التوحيد في الربوبيّة بمعنى أنّه المدبّر للكون والإنسان.

6 - التوحيد في الحاكمية بمعنى أنّه لا ولاية لأحد على أحد إلاّ لله سبحانه.

7 - التوحيد في الطاعة بمعنى أنّ حق الطاعة منحصر في اللّه سبحانه ولا مطاع غيره.

8 - التوحيد في التشريع بمعنى انحصار حق التقنين والتشريع في اللّه سبحانه.

9 - التوحيد في العبادة بمعنى أنّه لا معبود سوى اللّه سبحانه (1).

وهل توصيفه بالواحدية في هذه الآيات تهدف إلى الجميع أو أنّها تهدف إلى المرتبة الاُولى وهي كونه بحيث لا نظير له ، والإذعان بواحد من الأمرين يتوقّف على إمعان النظر في جميع الآيات التي ورد فيها توصيفه بهذا الوصف حتى تنصرف حسب القرائن إلى واحد منها أو إلى جميعها.

إنّ لجميع مراتب التوحيد أدلّة عقلية وآيات قرآنية تثبتها بوضوح ، ويمكن أن يقال : إنّ توصيفه سبحانه بالواحد في الآيات الواردة لرد مزعمة النصارى تهدف إلى التوحيد بمعنى نفي المثيل والنظير وما ورد في مجال التفدية والأصنام والأوثان ، أو نفي التدبير عن غيره سبحانه يهدف إلى التوحيد في العبادة أو الربوبية والتدبير ،

ص: 476


1- قد بسطنا الكلام حول هذه المراتب في الجزء الاول من هذه الموسوعة فلاحظ.

غير انّا نبحث في المقام عن معنى كونه واحداً لا نظير له على وجه الإجمال.

معنى كونه واحداً

الوحدة على قسمين :

1 - الوحدة العددية : وهي عبارة عن كون الشيء واقعاً تحت مفهوم عام وجد منه مصداق واحد ، وذلك مثل مفهوم الشمس الذي هو مفهوم وسيع قابل للإنطباق على كثير ، غير أنّه لم يوجد في عالم الحسّ منه إلاّ مصداق واحد مع إمكان وجود مصاديق كثيرة له ، وهذا هو المصطلح عليه ب « الواحد العددي ».

2 - الوحدة الحقيقة : وهي عبارة عن كون الموجود لا ثاني له ، بمعنى أنّه لا يقبل الاثنينيّة ولا التكرّر والتكثّر وذلك كصرف الشيء المجرد عن كل خليط ، مثلاً الوجود المطلق عن كل قيد ، واحد بالوحدة الحقّة ، لأنّه لا ثاني له لأنّ المفروض ثانياً بما أنّه لا يتميّز عن الأوّل لا يمكن أن يعد شيئاً آخر بل يرجع إلى الوجود الأوّل.

وعلى ضوء ذلك ، فالمراد من كون الشمس واحدة هو أنّها واحدة لا اثنتان ولا ثلاثة و ... ولكن المراد ، من كون الوجود المطلق ، منزّهاً عن كل قيد واحد ، أنّه لا ثاني له ولا مثيل ولا شبيه ولا نظير ، أي لا تتعقّل له الاثنينيّة والكثرة لأنّ ما فرضته ثانياً ، بحكم أنّه منزّه عن كل قيد وخليط يكون مثل الأوّل ، فلا يتميّز ولا يتشخّص.

والمراد من كونه سبحانه واحداً ، هو الواحد بالمعنى الثاني ، أي ليس له ثان ، ولا تتصوّر له الاثنينيّة والتعدّد.

ولأجل ذلك يقول سبحانه في تبيين هذه الوحدة ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) أي واحد لا نظير له.

والعجب انّ الإمام أمير المؤمنين علياً علیه السلام قام بتفسير كونه تعالى

ص: 477

واحداً ، عندما كان بريق السيوف يشد إليه العيون ، وضربات الطرفين تنتزع النفوس والأرواح في معركة ( الجمل ) ، فأحسّ علیه السلام بأنّ تحكيم العقيدة وصرف الوقت في تبيينها ليس بأقل أهميّة عن خوض المعارك ضد أهل الباطل :

روى الصدوق أنّ أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين علیه السلام فقال : يا أمير المؤمنين أتقول : إنَّ اللّه واحد ، قال فحمل الناس عليه ، وقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب ، فقال أمير المؤمنين : « دعوه ، فإنَّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم » ... ثمّ قال شارحاً ما سأل عنه الأعرابي : « وقول القائل واحد ، يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنَّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنَّه كفر من قال « ثالث ثلاثة ».

ثم قال : « معنى هو واحد : أنّه ليس له في الأشياء شَبَه ، كذلك ربّنا. وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحَدِيُّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ » (1).

فالإمام علیه السلام لم يكتف ببيان المقصود من توصيفه سبحانه بأنّه واحد ، بل أشار إلى معنى آخر من معاني توحيده وهو كونه أحَدِيّ الذات ، الذي يهدف إلى كونه بسيطاً لا جزء له في الخارج والذهن. وهذا المعنى هو الذي نطرحه على بساط البحث في القسم الثاني من التوحيد الذاتي.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى بيان البراهين العقليّة على توحيده سبحانه بمعنى كونه واحداً لا ثاني له.

ص: 478


1- توحيد الصدوق : ص 83 - 84.
أدلّة الوحدانية
1 - التعدّد يستلزم التركيب

لو كان هناك واجب وجود آخر لتشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود ، ولابدّ من تميّز أحدهما عن الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك ، كما هو الحال في كل مِثْلين ، وذلك يستلزم تركّب كل منهما من شيئين : أحدهما يرجع إلى ما به الإشتراك ، والآخر إلى ما به الإمتياز ، والمركّب بما أنّه محتاج إلى أجزائه لا يكون متّصفاً بوجوب الوجود ، بل يكون - لأجل الحاجة - ممكناً ، وهو خلاف الفرض.

وباختصار ، لو كان في الوجود واجبان للزم إمكانهما وذلك أنّهما يشتركان في وجوب الوجود فإن لم يتميّزا لم تحصل الإثنينيّة ، وإن تميّزا لزم تركّب كل واحد منهما ممّا به المشاركة وما به الممايزة ، وكل مركّب ممكن فيكونان ممكنين ، وهذا خلاف الفرض.

وهناك شبهة لابن كمّونة أحد المتفلسفة يقول : والعقل لا يأبى بأوّل نظرة أن يكون هناك هويّتان بسيطتان مجهولتا الكنهه ، مختلفتان بتمام الذات البسيطة ويكون حمل وجوب الوجود عليهما قولاً عرضيّاً (1).

وقد اُجيب عنه بأجوبة كثيرة أحدها ما ذكره صدر المتألّهين في المبدأ والمعاد وغيرهما : إنّ مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق بالذات ، وبالجملة ما منه الحكاية ، وبذلك المعنى مع قطع النظر عن أيّة حيثيّة كانت ، لا يمكن أن تكون حقائق متخالفة بما هي متخالفة.

وبالجملة : الاُمور المتخالفة من حيث كونها متخالفة بلا حيثيّة جامعة فيها لا تكون مصداقاً لحكم واحد ، ومحكياً عنها به. نعم يجوز ذلك إذا كانت الاُمور متماثلة من جهة كونها متماثلة كالحكم على زيد وعمرو بالإنسانيّة من جهة

ص: 479


1- يريد العرض بمعنى الخارج المحمول ، لا المحول بالضميمة.

اشتراكهما في تمام الماهية لا من حيث عوارضها المختلفة (1). فما فرضه ابن كمّونة ، فرض محال.

2 - الوجود اللامتناهي لا يقبل التعدّد

هذا البرهان مؤلّف من صغرى وكبرى ، والنتيجة هي وحدة الواجب وعدم إمكان تعدّده. وإليك صورة القياس حتى نبرهن على كل من صغراه وكبراه.

وجود الواجب غير متناه.

وكل غير متناه واحد لا يقبل التعدّد.

فالنتيجة : وجود الواجب واحدٌ لا يقبل التعدّد.

وإليك البرهنة على كل من المقدّمتين.

أمّا الصغرى : فإنَّ محدودية الموجود ملازمة لتلبُّسه بالعدم. ولأجل تقريب هذا المعنى لاحظ الكتاب الموضوع بحجم خاص ، فإنّك إذا نظرت إلى أي طرف من أطرافه ترى أنّه ينتهي إليه وينعدم بعده ، ولا فرق في ذلك بين صغير الموجودات وكبيرها ، حتى إنَّ جبال الهملايا مع عظمتها محدودة لا نرى أي أثر للجبل بعد حدّه. وهذه خصيصية كل موجود متناه زماناً أو مكاناً أو غير ذلك ، فالمحدوديّة والتلبّس بالعدم متلازمان.

وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبار ذاته سبحانه محدودة ، لأنّ لازم المحدوديّة الإنعدام بعد الحد كما عرفت ، وما هو كذلك لا يكون حقّاً مطلقاً مئة بالمئة بل يلابسه الباطل والإنعدام ، مع أنَّ اللّه تعالى هو الحق المطلق الذي لا يدخله باطل ، والقرآن الكريم يصف وجوده سبحانه بالحق المطلق وغيره بالباطل ، وما هذا إلاّ لأنّ وجود غيره وجود متلبّس بالعدم والفناء وأمّا وجود اللّه

ص: 480


1- شرح الأسماء الحسنى : ص 128.

تعالى فطارد لكل عدم وبطلان. قال عزّ من قائل : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( الحج / 62 ).

وبتقرير آخر : إنَّ عوامل المحدودية تتمحور في الاُمور التالية :

1 - كون الشيء محدوداً بالماهيّة ومزدوجاً بها ، فإنّها حد وجود الشيء والوجود المطلق بلا ماهية غير محدَّد ولا مقيّد وإنّما يتحدّد بالماهية.

2 - كون الشيء واقعاً في إطار الزمان ، فهذا الكم المتّصل ( الزمان ) يحدّد وجود الشيء في زمان دون آخر.

3 - كون الشيء في حيز المكان ، وهو أيضاً يحدّد وجود الشيء ويخصّه بمكان دون آخر.

وغير ذلك من أسباب التحديد والتضييق. واللّه سبحانه وجود مطلق غير محدّد بالماهيّة إذ لا ماهيّة له كما سيوافيك البحث عنه ، كما لا يحويه زمان ولا مكان ، فتكون عوامل التناهي معدودمة فيه ، فلا يتصوّر لوجوده حدّ ولا قيد ولا يصحّ أن يوصف بكونه موجوداً في زمان دون آخر أو مكان دون آخر ، بل وجوده أعلى وأنبَل من أن يتحدّد بشيء من عوامل التناهي.

وأمّا الكبرى : فهي واضحة بأدنى تأمّل ، وذلك لأنّ فرض تعدّد اللامتناهي يستلزم أن نعتبر كل واحد منهما متناهياً من بعض الجهات حتى يصح لنا أن نقول هذا غير ذاك. ولا يقال هذا إلاّ إذا كان كل واحد متميّزاً عن الآخر ، والتَّمَيّز يستلزم أن لا يوجد الأوّل حيث يوجد الثاني ، وكذا العكس. وهذه هي « المحدوديّة » وعين « التناهي » ، والمفروض أنّه سبحانه غير محدود ولا متناه.

واللّه سبحانه لأجل كونه موجوداً غير محدود ، يصف نفسه في الذكر الحكيم ب ( الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الرعد / 16 ) ، وما ذلك إلاّ لأن المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه ، فإذا كان قاهراً من كل الجهات لم تتحكّم فيه

ص: 481

الحدود ، فكأنّ اللامحدوديّة تلازم وصف القاهرية ، وقد عرفت أنَّ ما لا حدّ له يكون واحداً لا يقبل التعدّد ، فقوله سبحانه وهو الواحد القهار ، من قبيل ذكر الشيء مع البيّنة والبرهان.

قال العلاّمة ( الطباطبائي ) : « القرآن ينفي في تعاليمه الوحدة العددية عن الإله جلّ ذكره ، فإنّ هذه الوحدة لا تتم إلاّ بتميّز هذا الواحد ، من ذلك الواحد بالمحدودية التي تقهره. مثال ذلك ماء الحوض إذا فرّغناه في أوان كثيرة يصير ماءُ كلّ إناء ماءً واحداً غير الماء الواحد الذي في الإناء الآخر ، وإنّما صار ماءً واحداً يتميّز عمّا في الآخر لكون ما في الآخر مسلوباً عنه غير مجتمع معه ، وكذلك هذا الإنسان إنّما صار إنساناً واحداً لأنّه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر ، وهذا إنْ دلّ فإنّما يدلّ على أنَّ الوحدة العددية إنّما تتحقّق بالمقهورية والمسلوبية أي قاهرية الحدود ، فإذا كان سبحانه قاهراً غير مقهور وغالباً لا يغلبه شيء لم تتصوّر في حقّه وحدة عددية ، ولأجل ذلك نرى أنَّهُ سبحانه عند ما يصف نفسه بالواحدية يتبعها بصفة القاهرية حتى تكون الثانية دليلاً على الاُولى ، قال سبحانه :

( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / 39 ) ، وقال : ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ، وقال سبحانه : ( لَوْ أَرَادَ اللّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الزمر / 4 ).

وباختصار : انَّ كلاً من الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع ، أو الوحدة النوعية كالإنسان الذي هو نوع واحد في مقابل الأنواع الكثيرة ، مقهور بالحد الذي يميّز الفرد عن الآخر والنوع عن مثله ، فإذا كان تعالى لا يقهره شيء وهو القاهر فوق كل شيء ، فليس بمحدود في شيء ، فهو موجود لا يشوبه عدم ، وحق لا يعرضه بطلان ، وحي لا يخالطه موت ، وعليم لا يدبّ إليه جهل ، وقادر لا يغلبه عجز ، وعزيز لا يتطرّق إليه ظلم ، فله تعالى من كل كمال محضة » (1).

ص: 482


1- الميزان : ج 6 ، ص 88 و 89 بتلخيص.

ومن عجيب البيان ما نقل عن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا علیهماالسلام في هذا المجال في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء ، وقال في ضمن تحميده سبحانه :

« لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلى حَدِّه ، ولا له مِثْلٌ فيُعرَفُ مثله » (1).

ترى أنَّ الإمام علیه السلام بعد ما نفى الحد عن اللّه ، أتى بنفي المِثْل له سبحانه ، لارتباط وملازمة بين اللامحدودية ونفي المثيل ، والتقرير ما قد عرفت.

3 - صِرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر

إنَّ هذا البرهان مركّب من صغرى وكبرى على الشكل التالي :

اللّه سبحانه وجود صِرْف.

وكل وجود صرف واحد لا يتثنّى ولا يتكرّر.

فالنتيجة : اللّه سبحانه واحدٌ لا يتثنَّى ولا يتكرَّر.

أمّا الصغرى فإليك بيانها :

أثبتت البراهين الفلسفية أنَّهُ سبحانه منزَّه عن الماهية التي تحد وجوده ، وتحليله يحتاج إلى بيان دور الماهية في وجود الشيء فنقول : كل ما يقع في اُفق النظر من الموجودات الإمكانية فهو مؤلّف من وجود هو رمز عينيّته في الخارج ، وماهيّة تحد الوجود وتبيّن مرتبته في عالم الشهود والخارج. مثلاً : الزَّهرة الماثلة أمام أعيننا لها وجود به تتمثّل أمام نظرنا ، ولها ماهية تحدّدها بحد النباتية ، وتميزّها عن الجماد والحيوان ، ولأجل ذلك الحد نحكم عليها أنّها قد ارتقت من عالم الجماد ولم تصل بعد إلى عالم الحيوان. وبذلك تعرف أنّ واقعيّة الماهيّة هي واقعيّة التحديد. هذا من جانب.

ص: 483


1- توحيد الصدوق ، ص 33.

ومن جانب آخر ، الماهيّة إذا لوحظت من حيث هي هي ، فهي غير الوجود كما هي غير العدم ، بشهادة أنّها توصف بالأوّل تارة وبالثاني اُخرى ، ويقال : النبات موجود ، كما يقال : غير موجود. وهذا يوضح أن مقام الحد والماهيّة مقام التخلية عن الوجود والعدم ، بمعنى أنّ الإنسان عند النظر إلى ذات الشيء يراه عارياً عن كل من الوجود والعدم ، ثم يصفه في الدرجة الثانية بأحدهما. وأمّا وجه كون الشيء في مقام الذات غير موجود ولا معدوم ، فلأجل أنّه لو كان في مقام الذات والماهية موجوداً ، سواء كان الوجود جزْءَه أو عَيْنه يكون الوجود نابعاً من ذاته ، وما هذا شأنه يكون واجب الوجود ، يمتنع عروض العدم عليه ، كما أنّه لو كان في ذلك المقام معدوماً ، سواء كان العدم جزءه أو عينه يكون العدم نفس ذاته ، وما هذا شأنه يمتنع عليه عروض الوجود. فلأجل تصحيح عروض كل من الوجود والعدم لا مناص عن كون الشيء في مقام الذات خالياً عن كلا الأمرين حتى يصحّ كونه معروضاً لأحدهما. وإلى هذا يهدف قول الفلاسفة : « الماهيّة من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة ». ومع هذا كلِّه فهي في الخارج لا تخلو إما أنْ تكون موجودة أو معدومة. فالنبات والحيوان والإنسان في الخارج لا يفارق أحد الوصفين. وبهذا تبيّن أنَّ اتّصاف الماهية بأحد الأمرين يتوقّف على علّة ، لكن اتّصافها بالوجود يتوقّف على علّة موجودة ، ويكفي في اتّصافها بالعدم ، عدم العلّة الموجدة. فاتّصاف الماهيات بالأعدام الأزلية خفيف المؤونة ، بخلاف اتّصافها بالوجود فإنّه رهن وجود علّة حقيقية خارجية.

وعلى ضوء هذا البيان يتّضح أنّه سبحانه منزَّه عن التحديد والماهيّة وإلاّ لزم أنْ يحتاج في اتّصاف ماهيته بالوجود إلى علّة (1). وما هذا شأنه لا يكون واجباً بل يكون ممكناً. وهذا يجرّنا إلى القول بأنّه سبحانه صرف الوجود المنزّه عن كل حد.

ص: 484


1- وهنا يبحث عن العلّة ما هي ؟ أهي نفس الوجود العارض على الماهية أو وجود آخر. فإن كان الأوّل لزم الدور ، وإن كان الثاني لزم التسلسل. والتفصيل يؤخذ من محلّه. لاحظ الأسفار : ج 1. فصل في أنّه سبحانه صِرْف الوجود.
وأمّا الكبرى فإليك بيانها :

إنّ كل حقيقة من الحقائق إذا تجرّدت عن أي خليط وصارت صرف الشيء لا يمكن أن تتثنّى وتتعدّد ، من غير فرق بين أن يكون صرف الوجود أو يكون وجوداً مقروناً بالماهيّة كالماء والتراب وغيرهما ، فإنَّ كل واحد منها إذا لوحظ بما هو هو عارياً عن كل شيء سواه لا يتكرّر ولا يتعدّد ، فالماء بما هو ماء لا يتصور له التعدّد إلاّ إذا تعدّد ظرفه أو زمانه أو غير ذلك من عوامل التعدّد والتميّز.

فالماء الصرف والبياض الصرف والسواد الصرف ، وكل شيء صرف ، في هذا الأمر سواسيه ، فالتعدّد والاثْنَيْنيّة رهن اختلاط الشيء مع غيره.

وعلى هذا ، فإذا كان سبحانه - بحكم أنّه لا ماهيّة له - وجوداً صرفاً ، لا يتطرّق إليه التعدّد ، لأنّه فرع التميّز ، والتميّز فرع وجود غَيْريّة فيه ، والمفروض خُلُوّه عن كل مغاير سواه ، فالوجود المطلق والتحقّق بلا لون ولا تحديد ، والعاري عن كل خصوصيّة ومغايرة ، كلّما فرضتَ له ثانياً يكون نفس الأوّل ، لا شيئاً غيره ، فاللّه سبحانه بحكم الصغرى صرف الوجود ، والصرف لا يتعدّد ولا يتثنّى. فينتج : أنَّ اللّه سبحانه واحدٌ لا يتثنّى ولا يتعدّد.

خرافة التثليث : الأب والابن وروح القدس

قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام والغموض كما تعاني منها عقيدة التثليث في المسيحية.

إنّ كلمات المسيحين في كتبهم الكلامية تحكي عن أنَّ الإعتقاد بالتثليث من المسائل الأساسية التي تبنى عليها عقيدتهم ، ولا مناص لأي مسيحي من الإعتقاد به ، وفي الوقت نفسه يعتقدون بأنّه من المسائل التعبّديّة التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي ، لأنّ التصوّرات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهمه ، كما أنّ المقاييس التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث ، لأنّ حقيقته

ص: 485

حسب زعمهم فوق المقاييس الماديّة.

هذا ومع تكريزهم على التثليث في جميع أدوارهم وعصورهم يعتبرون أنفسهم موحّدين غير مشركين ، وأنَّ الإله في عين كونه واحداً ثلاثة ، ومع كونه ثلاثة واحدٌ أيضاً. وقد عجزوا عن تفسير الجمع بين هذين النقيضين ، الذي تشهد بداهة العقل على بطلانه وأقصى ما عندهم ما يلي :

إنَّ تجارب البشر مقصورة على المحدود ، فإذا قال اللّه بأنَّ طبيعته غير محدودة تتألّف من ثلاثة أشخاص لزم قبول ذلك ، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك وإن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه ، بل يكفي في ذلك ورود الوحي به ، وإنَّ هؤلاء الثلاثة يشكّلون بصورة جماعية « الطبيعة الإلهية اللامحدودة » وكل واحد منهم في عين تشخّصه وتميزّه عن الآخرين ، ليس بمنفصل ولا متميّز عنهم ، رغم أنّه ليست بينهم أية شركة في الاُلوهية ، بل كل واحد منهم إله مستقل بذاته ومالك بانفراده لكامل الاُلوهية ، فالأب مالك بانفراده لتمام الاُلوهيّة وكاملها من دون نقصان ، والإبن كذلك مالك بانفراده لتمام الاُلوهيّة ، وروح القدس هو أيضاً مالك بانفراده لكمال الألوهيّة ، وانّ الألوهيّة في كل واحد متحقّقة بتمامها دون نقصان.

هذه العبارات وما يشابهها توحي بأنّهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الإستدلال والبرهنة العقلية ، وأنّها بالتالي « منطقة محرّمة على العقل » ، فلا يصل إليها العقل بجناح الاستدلال ، بل المستند في ذلك هو الوحي والنقل.

ويلاحظ عليه أوّلاً : وجود التناقض الواضح في هذا التوجيه الذي تلوكه أشداق البطارقة ومن فوقهم أو دونهم من القسّيسين ، إذ من جانب يعرّفون كل واحد من الآلهة الثلاثة بأنّه متشخّص ومتميّز عن البقية ، وفي الوقت نفسه يعتبرون الجميع واحداً حقيقة لا مجازاً. أفيمكن الاعتقاد بشيء يضاد بداهة العقل ، فإنَّ التَمَيّز والتشخص آية التعدّد ، والوحدة الحقيقية آية رفعهما ، فكيف يجتمعان ؟

ص: 486

وباختصار ، انّ « البابا » وأنصاره وأعوانه لا مناص أمامهم إلاّ الإنسلاك في أحد الصفّين التاليين : صف التوحيد وأنّه لا إله إلاّ إله واحد ، فيجب رفض التثليث ، أو صفّ الشرك والأخذ بالتثليث ورفض التوحيد. ولا يمكن الجمع بينهما.

ثانياً : إنّ عالم ما وراء الطبيعة وإن كان لا يقاس بالاُمور المادّية المألوفة ، لكن ليس معناه أنَّ ذلك العالم فوضوي ، وغير خاضع للمعايير العقليّة البحتة ، وذلك لأنّ هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش والجدل ، وعالم المادة وما وراؤه بالنسبة إليها سيّان ، ومسألة امتناع اجتماع النقيضين وامتناع ارتفاعهما واستحالة الدور والتسلسل وحاجة الممكن إلى العلّة ، من تلك القواعد العامّة السائدة على عالمي المادة والمعنى.

فإذا بطلت مسألة التثليث في ضوء العقل فلا مجال للإعتقاد بها. وأمّا الاستدلال عليها من طريق الأناجيل الرائجة فمردود بأنّها ليست كتباً سماوية ، بل تدلّ طريقة كتابتها على أنّها اُلّفت بعد رفع المسيح إلى اللّه سبحانه أو بعد صلبه على زعم المسيحيين ، والشاهد أنّه وردت في آخر الأناجيل الأربعة كيفيّة صلبه ودفنه ثم عروجه إلى السماء. واحتمال إلحاق القسم الأخير له يوجب سقوطه عن الاعتبار ، لاحتمال تطرّق التحريف إلى غير الأخير أيضاً.

ثالثاً : إنّهم يعرّفون الثالوث المقدس بقولهم : « الطبيعة الإلهية تتألّف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر ، أي الأب والابن وروح القدس ، والأبّ هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن ، والابن هو الفادي ، وروح القدس هو المطهر. وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة وعمل واحد ».

فنسأل : ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة فإنّ لها صورتين لا تناسب أيّة واحدة منهما ساحته سبحانه :

1 - أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجوداً مستقلاً عن الآخر بحيث

ص: 487

يظهر كل واحد منها في تشخّص ووجود خاص ، ويكون لكل واحد من هذه الأقانيم أصل مستقل وشخصيّة خاصّة متميّزة عمّا سواها.

لكن هذا شبيه الشرك الجاهلي الذي كان سائداً في عصر الجاهلية وقد تجلّى في النصرانية بصورة التثليث. وقد وافتك أدلّة وحدانية اللّه سبحانه.

2 - أن تكون الأقانيم الثلاثة موجودة بوجود واحد ، فيكون الإله هو المركّب من هذه الاُمور الثلاثة ، وهذا هو القول بالتركيب ، وسيوافيك أنّه سبحانه بسيط غير مركّب ، لأنّ المركّب يحتاج في تحقّقه إلى أجزائه ، والمحتاج ممكن غير واجب.

هذا هي الإشكالات الأساسية المتوجّهة إلى القول بالتثليث.

تسرّب خرافة التثليث إلى النصرانية

إنَّ التاريخ البشري يرينا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء - بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم - إلى الشرك والوثنيّة ، تحت تأثير المضلّين ، وبذلك كانوا ينحرفون عن جادّة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي والغاية القصوى لبعثهم ، إنَّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب موسى علیه السلام ، أفضل نموذج لما ذكرناه ، وهو ممّا أثبته القرآن والتاريخ. وعلى هذا فلا داعي إلى العجب إذا رأينا تسرّب خرافة التثليث إلى العقيدة النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح علیه السلام وغيابه عن أتباعه.

إنّ مرور الزمن رسّخ موضوع التثليث وعمّق في قلوب النصارى وعقولهم ، بحيث لم يستطع أكبر مصلح مسيحي - أعني لوثر - الذي هذّب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير والخرافات ، وأسّس المذهب البروتستاني ، أن يبعد مذهبه عن هذه الخرافة.

إنَّ القرآن الكريم يصرّح بأن التثليث دخل النصرانية بعد رفع المسيح من المذاهب السابقة عليها ، حيث يقول تعالى : ( وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ

ص: 488

ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) ( التوبة / 30 ).

لقد أثبتت الأبحاث التاريخية أنَّ هذا التثليث كان في الديانة البَرَهْمانية قبل ميلاد السيد المسيح بمئات السنين. فقد تجلّى الرب الأزلي الأبدي لديهم في ثلاثة مظاهر وآلهة :

1 - بَرَاهما ( الخالق ).

2 - فيشنو ( الواقي ).

3 - سيفا ( الهادم ).

وقد تسرّبت من هذه الديانة البراهمانيّة إلى الديانة الهندوكيّة ، ويوضّح الهندوس هذه الاُمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي :

« براهما » هو المبتدئ بإيجاد الخلق ، وهو دائماً الخالق اللاهوتي ، ويسمّى بالأب.

« فيشنو » هو الواقي الذي يسمّى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.

« سيفا » هو المُفْنِي الهادم المعيد للكون إلى سيرته الاُولى.

وبذلك يظهر قوّة ما ذكره الفيلسوف الفرنسي « غستاف لوبون » قال : « لقد واصلت المسيحيّة تطورها في القرون الخمسة الاُولى من حياتها ، مع أخذ ما تيسّر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية ، وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الاُوروبية حوالي القرن الأوّل الميلادي ، فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوّناً من الأب والإبن وروح القدس ، مكان التثليث القديم المكوّن من « نروبي تر » و « وزنون » و « نرو » (1).

ص: 489


1- قصة الحضارة.
القرآن ونفي التثليث

إنَّ القرآن الكريم يذكر التثليث ويبطله بأوضح البراهين وأجلاها ، يقول : ( مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) ( المائدة / 75 ). وهذه الآية تبطل اُلوهيّة المسيح واُمّه ، التي كانت معرضاً لهذه الفكرة الباطلة ، بحجّة أنّ شأن المسيح شأنُ بقية الأنبياء وشأن الاُمّ شأن بقية الناس ، يأكلان الطعام ، فليس بين المسيح واُمّه وبين غيرهما من الأنبياء والرسل وسائر الناس أي فرق وتفاوت ، فالكل كانوا يأكلون عندما يجوعون ويتناولون الطعام كلّما أحسّوا بالحاجة إليه. وهذا العمل منضمّاً إلى الحاجة إلى الطعام آية المخلوقيّة.

ولا يقتصر القرآن على هذا البرهان ، بل يستدل على نفي اُلوهيّة المسيح بطريق آخر ، وهو قدرته سبحانه على إهلاك المسيح واُمّه ومن في الأرض جميعاً ، والقابل للهلاك لا يكون إلهاً واجب الوجود.

يقول سبحانه : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ) ( المائدة / 17 ). وهذه الآية ناقشت اُلوهيّة المسيح وأبطلتها عن طريق قدرته سبحانه على إهلاكه. ويظهر من سائر الآيات أنَّ اُلوهيّته كانت مطروحة بصورة التثليث ، قال سبحانه : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) ( المائدة / 73 ).

وعلى كل تقدير ، فقدرته سبحانه على إهلاك المسيح علیه السلام أدل دليل على كونه بشراً ضعيفاً ، وعدم كونه إلهاً ، سواء طرح بصورة التثليث أو غيره.

ثم إنَّ القرآن الكريم كما يُفَنّد مزعمة كون عيسى بن مريم إلهاً ابناً لله في الآيات المتقدّمة ، يرد استحالة الابن عليه تعالى أيضاً على وجه الإطلاق سواء كان عيسى هو الابن أو غيره ، بالبيانات التالية :

ص: 490

1 - إنَّ حقيقة البنوّة هو أن يجزّئ واحد من الموجودات الحيّة شيئاً من نفسه ثم يجعله بالتربية التدريجية فرداً آخر من نوعة مماثلاً لنفسه يترتّب عليه من الخواص والآثار ما كان يترتّب على الأصل ، كالحيوان يفصل من نفسه النطفة ، ثم يأخذ في تربيتها حتى تصير حيواناً. ومن المعلوم أنّه محال في حقّه سبحانه ، لاستلزامه كونه سبحانه جسماً مادّياً له الحركة والزمان والمكان والتركّب (1).

2 - إنّ لإطلاق اُلوهيّته وخالقيته وربوبيته على ما سواه لازم أن يكون هو القائم بالنفس وغيره قائماً به ، فكيف يمكن فرض شيء غيره يكون له من الذات والأوصاف والأحكام ما له سبحانه من غير افتقار إليه ؟

3 - إنّ تجويز الاستيلاد عليه سبحانه يستلزم جواز الفعل التدريجي عليه ، وهو يستلزم دخوله تحت ناموس المادّة والحركة وهو خلف ، بل يقع ما شاء دفعة واحدة من غير مهلة ولا تدريج.

والدقّة في الآيتين التاليتين يفيد كل ما ذكرنا ، قال سبحانه :

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( البقرة / 116 و 117 ).

فقوله سبحانه ( اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا ) إشارة إلى الأمر الأوّل.

وقوله سبحانه : ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) ، إشارة إلى الأمر الثاني.

وقوله سبحانه : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى ... ) ، إشارة إلى الأمر الثالث (2).

ص: 491


1- ستوافيك أدلة استحالة كونه جسماً أو جسمانياً وما يستتبعانه من الزمان والمكان والحركة.
2- لاحظ الميزان : ج 3 ، ص 287.

إنَّ القرآن الكريم يفنّد مزعمة « التثليث » ببراهين عقليّة اُخرى ، فمن أراد الوقوف على الآيات الواردة في هذا المجال وتفسيرها ، فليرجع إلى الموسوعات القرآنية.

المائة والتاسع والعشرون : « الواسع »

قد ورد لفظ الواسع في الذكر الحكيم 9 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثمانية.

قال سبحانه : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة / 115 ).

وقال سبحانه : ( وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة / 247 ).

وقال سبحانه : ( ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( المائدة / 54 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ ) ( النجم / 32 ).

أمّا معناه فقد قال ابن فارس : هو كلمة تدل على خلاف الضيق والعسر ، والوسع : الغنى ، واللّه الواسع أي الغني ، والوسع : الجدة ( الطاقة ).

أقول : لا شكّ إنّ الوسع خلاف الضيق ويختلف متعلّقه حسب المقامات.

ففي ما يقول سبحانه : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) ثمّ يعلّله انّ اللّه واسع عليم يتبادر منه سعة وجوده وحضوره في جميع الأمكنة ، فأينما يولّي الإنسان وجهه فقد توجّه إلى اللّه سبحانه ، كما أنّه يتبادر منه في الموارد التالية سعة وصفه وفعله :

قال سبحانه : ( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) ( طه / 98 ) و ( أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) ( الطلاق / 12 ) و ( رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) ( الأعراف / 156 ) فَاللّهُ سُبْحانَهُ

ص: 492

واسع الوجود والذات ، واسع الفعل ، فلا يحدّ ذاته شيء ، كما لا يحدّ وصفه شيء ، ولا يحد فعله شيء.

المائة والثلاثون : « الوالي »

قد ورد لفظ « وال » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ) ( الرعد / 11 ).

وهو مأخوذ من الولي بمعنى القرب وقد تقدّم تفسيره عند البحث عن اسم المولى.

وذكرنا كيفيّة اشتقاق سائر المعاني منه ، وقلنا : إنّ قرب إنسان من إنسان يحدث أولويّة أحدهما بالنسبة إلى الآخر ، وإنَّ المولى والولي والوالي بمعنى واحد أي القائم بالأمر ، وعلى هذا فالمراد من الوالي هو متولّي الأمر ، وإذا أراد اللّه بقوم سوء فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال أي من ولي يباشر أمرهم ، ويدفع عنهم البلاء ، وبعبارة أُخرى فإذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم إلاّ اللّه سبحانه لم يكن هناك أحد يردّ ما أراد اللّه بهم من سوء.

المائة والواحد والثلاثون : « الودود »

قد ورد لفظ « الودود » في الذكر الحكيم مرّتين ووقعا وصفاً له سبحانه.

وقال سبحانه : ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) ( هود / 90 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) ( البروج / 13 و 14 ).

وأمّا معناه فقدذكر ابن فارس : إنّه يدلّ على المحبّة.

ص: 493

« والودود » على وزن فعول ، أمّا بمعنى المفعول فيرجع معناه أنّه سبحانه محبوب للأولياء والمؤمنين ، أو بمعنى الفاعل ك « غفور » بمعنى « غافر » ويرجع معناه إلى أنّه سبحانه يودّ عباده الصالحين ويحبّهم ، والمناسب لإسم الرحيم كونه بمعنى الفاعل كما هو المناسب أيضاً لإسم الغفور وقد عرفت اقترانه في الآيتين بالإسمين.

وأمّا حظّ العبد من ذلك الاسم فله أن يتّسم باسمه فيكتسب ودّاً بين الناس بالأعمال الصالحة.

قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) ( مريم / 96 ). المائة والثاني والثلاثون : « الوكيل »

قد ورد لفظ الوكيل في الذكر الحكيم 24 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في 14 مورد.

قال سبحانه : ( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران / 173 ).

وقال سبحانه : ( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( الأنعام / 102 ).

وقال سبحانه : ( وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ) ( النساء / 132 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) ( الأسراء / 65 ).

إلى غير ذلك من الآيات الوارد فيها هذا الإسم.

وأمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : فهو في الأصل يدل على إعتماد غيرك في أمرك ، وسمّي الوكيل وكيلاً لأنه يوكل إليه الأمر ، وقال « الراغب » : التوكيل أن تعتمد

ص: 494

على غيرك وتجعله نائباً عنك ، والوكيل فعيل بمعنى مفعول.

قال تعالى وكفى باللّه وكيلاً أي اكتف به أن يتولّى أمرك ويتوكّل لك.

ثُمَّ إنّ كونه سبحانه وكيلاً ليس بمعنى كونه نائباً عن العباد في الأفعال ولا بمعنى الاعتماد عليه ، بل هو معنى أقوى وأشدّ من ذلك وهو إيكال الأمر إليه لكونه سبحانه وحده كافياً في إنجاز الأمر.

قال سبحانه ناقلاً عن لسان الأولياء : ( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران / 173 ).

ثُمَّ إنّه ربّما يستعمل ببعض المناسبات في معنى الحفيظ.

قال سبحانه : ( اللّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) ( الشورى / 6 ) ، كما أنّه ربّما يستعمل في المسيطر.

قال سبحانه : ( وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) ( الزمر / 41 ).

قال العلاّمة الطباطبائي في تفسير قوله : ( وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) ( الاسراء / 65 ).

أي قائماً على نفوسهم وأعمالهم ، حافظاً لمنافعهم ، ومتولّياً لاُمورهم ، فإنّ الوكيل هو الكافل لاُمور الغير ، القائم مقامه في تدبيرها وإدارة رحاها (1).

ثُمَّ إنّ وكالة إنسان لإنسان تقوم بأمرين :

الأوّل : إنصراف الموكّل عن المباشرة إمّا لعجزه وإمّا لصارف آخر.

الثاني : كون الموكول إليه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والبراعة والنزاهة عن الخيانة.

ص: 495


1- الميزان : ج 13 ، ص 156.

وأمّا ايكال الإنسان الاُمور إلى اللّه سبحانه فهو مبني على اعترافه بالعجز بالقيام أوّلاً وكونه عالماً وقادراً ورحيماً ثانياً وهذه الصفات وهذا النحو غير حاصل إلاّ لله سبحانه الحي ، فلا جرم أن يكون وكيلاً بمعنى أنّ العباد العارفين يفوّضون اُمورهم إليه.

قال سبحانه : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) ( الفرقان / 58 ).

وقال سبحانه : ( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) ( الطلاق / 3 ).

ثُمَّ إنّ إيكال الأمر إليه ليس بمعنى عدم القيام بفعل ، بل معناه أنّه يجب على العبد بذل ما في مقدرته من الأفعال والأعمال ثُمَّ إيكال الأمر إليه حتى تصل إلى النتيجة ، ولأجل ذلك ورد الأمر بالتوكّل في الحروب والمغازي التي يجب للإنسان بذل ما يملك من النفس والنفيس فيها.

قال سبحانه : ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران / 121 و 122 ).

المائة والثالث والثلاثون : « الولي »

قد ورد هذا اللفظ في الذكر الحكيم مضافاً وغير مضاف 44 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه 35 مرّة منطوقاً ومفهوماً.

قال سبحانه : ( وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ) ( النساء / 45 ). هذا على وجه المنطوق.

وأمّا على وجه المفهوم فقد قال سبحانه : ( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ) ( السجدة / 4 ).

وقد مضى معنى « الولي » عند البحث عن اسم « المولى » فلاحظ.

ص: 496

المائة والرابع والثلاثون : « الوهّاب »

قد ورد لفظ « الوهّاب » في الذكر الحكيم 3 مرّات.

قال سبحانه : ( وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ( آل عمران / 8 ).

وقال سبحانه : ( أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) ( ص / 9 ).

وقال سبحانه : ( وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ( ص / 35 ).

قال الراغب : واللفظ من الهبة وهي أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض.

قال تعالى : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ) ( الأنعام / 84 ) و ( الأنبياء / 72 ) ، ( الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) ( إبراهيم / 39 ) ويوصف اللّه بالواهب والوهّاب بمعنى أنّه يعطي كلاًّ على استحقاقه.

إنّ الهبة لها ركنان : الأوّل التمليك ، والآخر كونه بغير عوض وهو فعل لله سبحانه على الحقيقة لأنّه مالك الملك والملكوت بإيجاده ، وأمّا غيره فإنّما يملك بتمليك منه وملكيته في طول ملكيته سبحانه. هذا حال الركن الأوّل.

وأمّا الركن الثاني فكل ما يتّفق أن يهب الإنسان ولا يطلب عوضاً وعلى الأقل المدح في العاجل والثواب في الآجل ، أو لإرضاء العواطف الإنسانية.

نعم هو صادق في حقّه سبحانه الغني عن كلّ شيء.

قال سبحانه : ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) ( الفرقان / 77 ).

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن لا يعتمد على الدنيا وما فيها ، ويهب ما يملك على النحو الذي أمر به الذكر الحكيم وقال سبحانه : ( الَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) ( الفرقان / 67 ).

ص: 497

ص: 498

حرف الهاء

المائة والخامس والثلاثون : « الهادي »
اشارة

وقد ورد لفظ الهادي في القرآن الكريم 10 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في موردين :

قال سبحانه : ( وَإِنَّ اللّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الحج / 54 ).

وقال سبحانه : ( وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) ( الفرقان / 31 ).

وربّما يستفاد من بعض الآيات عن طريق المفهوم مثل قوله سبحانه : ( وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ( الرعد / 33 ) وغيره.

إنّ الهداية الإلهية من المسائل الهامّة التي اهتمّ بها القرآن اهتماماً بالغاً.

وربّما يتبادر في بادئ النظر منها التعارض والتخالف ، ومبدأ هذا هو الاكتفاء بآية واحدة والغض عن سائر الآيات الواردة في الكتاب العزيز ، فلا تحل عقدة هذه المسألة وأمثالها إلاّ بجمع الآيات في مورد واحد واستنطاقها حتى يشهد بعضها على بعض ، ولأجل أهمّيّة هذه المسألة نفيض الكلام فيها على وجه الاختصار حتى يظهر معنى قوله سبحانه : ( وَإِنَّ اللّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) .

ص: 499

ما معنى كون الهداية والضلالة بيده سبحانه ؟

دلّت الآيات القرآنية على أنَّ الهداية والضلالة بيده سبحانه ، فهو يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء. وقد وقع بعض الناس في شبهة الجبر وقالوا : إذا كان أمر الهداية مرتبطاً بمشيئته ، فلا يكون للعبد دور لا في الهداية ولا في الضلالة ، فالضال يعصي بلا اختيار ، والمهتدي يطيع كذلك وهذا بالجبر ، أشبه منه بالإختيار.

قال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم / 4 ).

وقال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( النحل / 93 ).

وقال سبحانه : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) ( فاطر / 8 ).

ولنا نقاش وجواب ، فنقول : إنّ تحليل أمر الهداية والضلالة الذي ورد في القرآن الكريم من المسائل الدقيقة المتشعّبة الأبحاث ولا يقف على المحصّل من الآيات إلاّ من فسّرها عن طريق التفسير الموضوعي ، بمعنى جمع كل ما ورد في هذين المجالين في مقام واحد ، ثم تفسير المجموع باتّخاذ البعض قرينة على البعض الآخر. وبما أنَّ هذا المنهج من البحث لا يناسب وضع الكتاب ، نكتفي بما تمسّك به الجبريّون في المقام من الآيات لإثبات الجبر ، وبتفسيرها وتحليلها يسقط أهم ما تسلّحوا به من العصور الاُولى.

حقيقة الجواب تتّضح في التفريق بين الهداية العامّة التي عليها تبتنى مسألة الجبر والإختيار ، والهداية الخاصّة التي لاتمت إلى هذه المسألة بصلة.

ص: 500

الهداية العامّة

الهداية العامّة من اللّه سبحانه تعمّ كل الموجودات عاقلها وغير عاقلها ، وهي على قسمين :

أ - الهداية العامة التكوينيّة : والمراد منها خلق كل شيء وتجهيزه بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها ، قال سبحانه حاكياً كلام النبي موسى علیه السلام : ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ( طه / 50 ).

ومنح كلّ موجود إمكانية توصله إلى الكمال ، فالنبات مجهّز بأدقّ الأجهزة التي توصله في ظروف خاصة إلى تفتّح طاقاته ; فالحبّة المستورة تحت الأرض ترعاها أجهزة داخلية وعوامل خارجية كالماء والنور إلى أن تصير شجرة مثمرة معطاءة. ومثله الحيوان والإنسان ، فهذه الهداية عامّة لجميع الأشياء ليس فيها تبعيض وتمييز.

قال سبحانه : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) ( الأعلى / 1 - 3 ).

وقال سبحانه : ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) ( البلد / 8 - 10 ).

وقال سبحانه : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) ( الشمس / 7 و 8 ).

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول الهداية التكوينية التي ترجع حقيقتها إلى الهداية النابعة من حاق ذات الشيء بما أودع اللّه فيه من الأجهزة والإلهامات التي توصله إلى الغاية المنشودة والطريق المَهْيع ، من غير فرق بين المؤمن والكافر. قال سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) ( الروم / 30 ).

ص: 501

فهذا الفيض الإلهي الذي يأخذ بيد كل ممكن في النظام ، عام لا يختص بموجود دون موجود ، غير أنّ كيفية الهداية والأجهزة الهادية لكل موجود تختلف حسب اختلاف درجات وجوده. وقد أسماه سبحانه في بعض الموجودات « الوحي » وقال سبحانه : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( النحل / 68 و 69 ).

ومن الهداية التكوينية في الإنسان العقل الموهوب له ، الذي يرشده إلى معالم الخير والصلاح ، وما ورد في الذكر الحكيم من الآيات الحادثة على التعقّل والتفكّر والتدبّر خير دليل على وجود هذه الهداية العامّة في أفراد الإنسان وإن كان قسم منه لا يستضيء بنور العقل ولا يهتدي بالتفكّر والتدبّر.

ب - الهداية العامّة التشريعية : إذا كانت الهداية التكوينية العامّة أمراً نابعاً من ذات الشيء بما أودع اللّه فيه من أجهزة تسوقه إلى الخير والكمال ، فالهداية التشريعية العامّة عبارة عن الهداية الشاملة للموجود العاقل المدرك ، المفاضة عليه بتوسّط عوامل خارجة عن ذاته ، وذلك كالأنبياء والرسل والكتب السماوية وأوصياء الرسل وخلفائهم والعلماء والمصلحين وغير ذلك من أدوات الهداية التشريعية العامّة التي تعمّ جميع المكلّفين. قال سبحانه : ( وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) ( فاطر / 24 ).

وقال سبحانه : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ( الحديد / 25 ).

وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ( النساء / 59 ).

ص: 502

وقال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ( الأنبياء / 7 ). وأهل الذكر في المجتمع اليهودي هم الأحبار ، والمجتمع المسيحي هم الرُهْبان.

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في القرآن الكريم التي تشير إلى أنَّه سبحانه هدى الإنسان ببعث الرسل ، وإنزال الكتب ، ودعوته إلى إطاعة أُولي الأمر والرجوع إلى أهل الذكر.

قال سبحانه مصرّحاً بأنَّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله هو الهادي لجميع أُمّته : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الشورى / 52 ).

وقال سبحانه في هداية القرآن إلى الطريق الأقوم : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) ( الأسراء / 9 ).

هذا ، وإنّ مقتضى الحِكْمَة الإلهية أن يعمّ هذا القسم من الهداية العامّة جميع البشر ، ولا يختصّ بجيل دون جيل ولا طائفة دون طائفة.

والهداية العامّة بكلا قسميها في مورد الإنسان ، ملاك الجبر والإختيار ، فلو عمّت هدايته التكوينية والتشريعية في خصوص الإنسان كل فرد منه لارتفع الجبر ، وساد الإختيار ، لأنَّ لكل إنسان أن يهتدي بعقله وما حَفَّهُ سبحانه به من عوامل الهداية من الأنبياء والرسل والمزامير والكتب وغير ذلك.

ولو كانت الهداية المذكورة خاصّة بأُناس دون آخرين ، وأنَّه سبحانه هدى أُمّة ولم يهدِ أُخرى ، لكان لتوهّم الجبر مجال وهو وَهْم واه ، كيف وقد قال سبحانه : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) ( الأسراء / 15 ). وقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص / 59 ). وغير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنَّ نزول العذاب كان بعد بعث الرسول وشمول الهداية العامّة للمُعَذّبين والهالكين ، وبالتالي يدلّ على أنَّ من لم تبلغه تلك الهداية لا يكون مسؤولاً إلاّ بمقدار ما يدلّ عليه عقله ويرشده إليه لبّه.

ص: 503

الهداية الخاصّة

وهناك هداية خاصّة تختصّ بجملة من الأفراد الذين استضاؤا بنور الهداية العامّة تكوينها وتشريعها ، فتشملهم العناية الخاصّة منه سبحانه.

ومعنى هذه الهداية هو تسديدهم في مزالق الحياة إلى سبل النجاة ، وتوفيقهم للتزوّد بصالح الأعمال ، ويكون معنى الإضلال في هذه المرحلة هو منعهم من هذه المواهب ، وخذلانهم في الحياة ، ويدلّ على ذلك ( إنَّ هذه الهداية خاصة لمن استفاد من الهداية الاُولى ) ، قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) ( الرعد / 27 ). فعلّق الهداية على من اتّصف بالإنابة والتوجّه إلى اللّه سبحانه.

وقال سبحانه : ( اللّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ) ( الشورى / 13 ).

وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ) ( العنكبوت / 29 ). فمن أراد وجه اللّه سبحانه يمدّه بالهداية إلى سبله.

وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ) ( محمد / 17 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) ( الكهف / 13 و 14 ).

وكما أنَّه علّق الهداية هنا على من جعل نفسه في مهب العناية الخاصّة ، علّق الضلالة في كثير من الآيات على صفات تشعر باستحقاقه الضلال والحرمان من الهداية الخاصّة.

قال سبحانه : ( وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( الجمعة / 5 ).

وقال سبحانه : ( وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ) ( إبراهيم / 27 ).

ص: 504

وقال سبحانه : ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) ( البقرة / 26 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ) ( النساء / 168 و 169 ).

وقال سبحانه : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( الصف / 5 ).

فالمراد من الإضلال هو عدم الهداية لأجل عدم استحقاق العناية والتوفيق الخاص ، لأنّهم كانوا ظالمين وفاسقين ، كافرين ومنحرفين عن الحق. وبالمراجعة إلى الآيات الواردة حول الهداية والضلالة يظهر أنَّه سبحانه لم ينسب في كلامه إلى نفسه إضلالاً إلاّ ما كان مسبوقاً بظلم من العبد أو فسق أو كفر أو تكذيب ونظائرها التي استوجبت قطع العناية الخاصّة وحِرمانه منها.

إذا عرفت ما ذكرنا ، تقف على أنَّ الهداية العامّة التي بها تناط مسألة الجبر والإختيار عامّة شاملة لجميع الأفراد ، ففي وسع كل إنسان أن يهتدي بهداها. وأمّا الهداية الخاصة والعِناية الزائدة فتختصّ بطائفة المنيبين والمستفيدين من الهداية الاُولى. فما جاء في كلام المستدل من الآيات من تعليق الهداية والضلالة على مشيئته سبحانه ناظرٌ إلى القسم الثاني لا الأوّل.

أمّا القسم الأوّل فلأنّ المشيئة الإلهية تعلّقت على عمومها بكل مكلّف بل بكل إنسان ، وأمّا الهداية فقد تعلّقت مشيئته بشمولها لصنف دون صنف ، ولم تكن مشيئته مشيئة جزافية ، بل المِلاك في شمولها لصنف خاص هو قابليته لشمول تلك الهداية ، لأنَّه قد استفاد من الهدايتين التكوينية والتشريعية العامّتين ، فاستحقّ بذلك اللطف الزائد.

كما أنَّ عدم شمولها لصنف خاص ما هو إلاّ لأجل اتّصافهم بصفات رديئة لا يستحقّون معها تلك العِناية الزائدة.

ص: 505

ولأجل ذلك نرى أنَّه سبحانه بعد ما يقول : ( فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) ، يذيّله بقوله : ( وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم / 4 ) ، مشعراً بأنَّ الإضلال والهداية كانا على وفاق الحكمة ، فهذا استحقّ الإضلال وذاك استحقّ الهداية.

بقي هنا سؤال ، وهو إنَّ هناك جملة من الآيات تعرب عن عدم تعلّق مشيئته سبحانه بهداية الكل ، قال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ ) ( الأنعام / 35 ).

وقال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ) ( الأنعام / 107 ).

وقال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ) ( يونس / 99 ).

وقال سبحانه : ( وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) ( النحل / 9 ).

وقال سبحانه : ( وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) ( السجدة / 13 ).

والجواب : إنَّ هذه الآيات ناظرة إلى الهداية الجبرية بحيث تسلب عن الإنسان الإختيار والحرية فلا يقدر على الطرف المقابل ، ولمّا كان مثل هذه الهداية الخارجة عن الإختيار منافياً لحكمته سبحانه ، ولا يوجب رفع منزلة الإنسان ، نفى تَعَلُّق مشيئته بها ، وإِنَّما يُقَدَّرُ الإيمان الذي يستند إلى اختيار المرء ، لا إلى الجبر.

* * *

بلغ الكلام هنا صبيحة يوم الثلاثاء ثاني ربيع الأوّل عام 1410 ه ق بيد مؤلّفه « جعفر السبحاني » ابن الفقيه الشيخ « محمد حسين السبحاني » عاملهما اللّه بلطفه الخفي.

ص: 506

الفهارس

اشارة

1- فهرس الموضوعات

2- فهرس المصادر

ص: 507

فهرس الكتاب

الموضوع / رقم الصحفة

مقدّمة ... 3

التفكّر العقلي والاستدلال المنطقي في الذكر الحكيم ... 5

الاختلاف في الأسماء والصفات سبب تعدّد الديانات ... 6

الإنسان يأنس المحاكاة والتشبيه ... 7

المشبّهة ... 8

المعطّلة ... 9

المعطّلة بثوبها الجديد ... 12

بين التشبيه والتعطيل ... 19

الإستدلال بالأقيسة العقليّة المنطقيّة ... 21

مطالعة الكون وآيات وجوده ... 24

المعرفة عن طريق الوحي ... 25

المعرفة عن طريق الكشف والشهود ... 25

أسماؤه وصفاته في القرآن الكريم ، الفرق بين الإسم والصفة ... 31

ما هو المختار في الفرق بين أسماءه وصفاته ... 33

الأسماء والصفات عند أهل المعرفة ... 33

هل الإسم نفس المسمّى أو غيره ... 35

بيان آخر لوحدة الاسم والمسمّى ... 39

هل اسماؤه توقيفية أو لا ؟ ... 42

الروايات وتوقيفية الأسماء ... 47

بساطة الذات وكثرة الأسماء ... 48

بيان آخر لوحدة الصفات ... 52

ص: 508

الموضوع / رقم الصحفة

تقسيم صفاته إلى الجماليّة والجلاليّة ... 53

تقسيم صفاته إلى الذاتيّة والفعليّة ... 55

تعريف آخر للذاتية والفعلية ... 57

تقسيم صفاته إلى نفسية وإضافية ... 57

تقسيم آخر منسوب إلى أهل المعرفه ... 58

تقسيم صفاته إلى الذاتية والخبرية ، تقسيمها إلى صفات اللطف والقهر ... 59

الأسماء العامّة والخاصّة ... 60

هل الإسم الأعظم من قبيل الألفاظ ؟ ... 60

صفاته عين ذاته لا زائدة عليه ... 63

أدلّة القائلين بعينية صفاته مع ذاته ... 66

الإرادة صفة الذات أو صفة الفعل ؟ رأي المعتزلة في الإرادة ، الإرادة : الشوق النفسائي ... 71

الإرادة هي العزم والجزم ، الإرادة الإمكانية تلازم الحدوث ... 72

الإرادة ملاك الإختيار ... 72

هل الإرادة صفة الذات أو صفة الفعل ؟ ... 74

الإشكال الأوّل : الإرادة أمر تدريجي حادث ... 75

إرادته سبحانه ، علمه بالذات ... 75

إرادته سبحانه ابتهاجه بفعله ... 77

الإرادة : إعمال القدرة ... 77

إرادته ، كونه مختاراً بالذات ... 78

ص: 509

الموضوع / رقم الصحفة

الإشكال الثاني : الروايات تعدّ الإرادة من صفات الفعل ... 80

عصر الإمام الكاظم علیه السلام والمذاهب الكلامية ... 84

الإشكال الثالث : الإرادة يرد عليها النفي والإثبات ... 85

الإشكال الرابع : لو كانت الإرادة صفة للذات لزم قدم العالم ... 87

ما هو المراد من الحدوث الزماني للعالم ؟ ... 89

تكلّمه وكلامه سبحانه ... 95

نظرية المعتزلة ... 97

نظرية الحكماء ... 98

نظرية الأشاعرة ... 99

أسماؤه في القرآن والسنّة ... 105

أسماؤه في أحاديث أهل البيت علیهم السلام ... 106

أسماؤه سبحانه في أحاديث أهل السنّة ... 107

تفسير أسمائه الواردة في القرآن الكريم ... 109

حرف الالف ، الإله ، لفظ الجلالة عربي أو عبري ... 109

لفظ الجلالة مشتق أو لا ؟ ... 110

« اللّهمّ » مكان « اللّه » ... 112

ما هو المقصود من « الإله » في الذكر الحكيم ... 113

خاتمة المطاف ... 121

الأحد ... 121

الأوّل والآخر ... 126

الأعلى ... 128

ص: 510

الموضوع / رقم الصحفة

الأعلم ... 131

الأكرم ... 132

أرحم الراحمين ... 133

أحكم الحاكمين ... 134

أحسن الخالقين ... 135

أسرع الحاسبين ، أهل التقوى وأهل المغفرة ... 137

الأبقى ... 138

الأقرب ... 139

الإحاطة القيوميّة لا الإحاطة المكانيّة ... 146

ما هو المقصود من الأقربية ؟ ... 149

حرف الباء ، البارئ ... 151

الباطن والظاهر ... 152

البديع ... 154

البر ... 155

البصير والسميع ... 157

تفسير كونه سميعاً وبصيراً ... 160

حرف التاء ، التوّاب ... 165

حرف الجيم ، الجبّار ... 167

الجبّار : العالي الذي لا ينال ، الجبار : العظيم الشأن في الملك ... 168

الجبّار : من يصلح الشيء بضرب من القهر ... 169

ص: 511

الموضوع / رقم الصحفة

الجامع ... 170

حرف الحاء ... 171

الحسيب ... 171

الحفيظ ... 172

الحفيّ... 173

الحكيم ... 174

الحكيم : المتقن فعله ... 177

الحكيم : المنزّه عن فعل ما لا ينبغي ... 178

ما هو المراد من الحسن والقبح العقليين ... 179

العقل النظري والعقل العملي ... 181

الحكمة العمليّة وقضاياها الواضحة ... 182

الانسان وقوى الخير والشر ... 186

الاُصول الأخلاقية الثابتة ، الاُصول الثابتة في الشرائع السماوية ... 187

القرآن وكونه سبحانه حكيماً ... 188

الحق ... 189

توصيف الفعل بالحق ، أفعاله سبحانه معلّلة بالأغراض ... 194

الحليم ... 197

الحميد ... 199

الحيّ ... 200

الحياة ومراتبها ... 202

حرف الخاء ، الخالق ... 209

الخلاّق ، الخبير ... 217

ص: 512

الموضوع / رقم الصحفة

الخير ... 219

النظرة الأنانية إلى الظواهر ... 220

الشر أمر انتزاعي قياسي نسبي ... 223

المصائب وسيلة لتفجير القابليات ... 225

المصائب والبلايا جرس إنذار ... 228

البلايا سبب للعودة إلى الحق ... 230

خير الحاكمين ... 232

خير الراحمين ، خير الرازقين ... 233

خير الغافرين ، خير الفاتحين ، خير الفاصلين ... 234

خير الماكرين ... 236

خير المنزلين ... 237

خير الناصرين ، خير الوارثين ... 239

خير حافظاً ... 240

حرف الذال ، ذوانتقام ... 243

ذو الجلال والإكرام ... 247

ذو الرحمة ... 248

ذو العرش ... 249

ذو عقاب ... 250

ذو القوّة ... 251

ذو المعارج ... 252

ذو مغفرة ... 253

ص: 513

الموضوع / رقم الصحفة

حرف الراء ، ربّ العرش ... 255

الرحمن والرحيم ... 264

الرؤوف ... 268

الرزّاق ... 269

رفيع الدرجات ... 272

الرقيب ... 273

حرف السين ، سريع الحساب ... 275

سريع العقاب ... 278

السلام ... 279

حرف الشين ، الشاكر ... 283

الشكور ، شديد العقاب ... 285

شديد العذاب ، شديد المحال ... 286

الشهيد ... 287

حرف الصاد ، الصمد ... 291

حرف الظاء ، الظاهر ... 295

حرف العين ، عالم الغيب والشهادة ... 295

عالم غيب السموات والأرض ، علاّم الغيوب ... 297

ص: 514

الموضوع / رقم الصحفة

العليم ... 298

العلم ... 299

ما هي حقيقة العلم ... 301

نماذج من العلم الحضوري ... 303

مفهوم الإنسان الكلّي ... 306

مفهوم الجنس والنوع ... 307

تعريف العلم بوجه آخر ... 311

علمه سبحانه بذاته ... 312

العلم بالذات يستلزم التغاير بين العلم والمعلوم ... 314

علمه سبحانه بالأشياء قبل الإيجاد ... 316

بسيط الحقيقة كلّ الأشياء ... 321

علمه سبحانه بالأشياء بعد الإيجاد ، قيام الأشياء به يستلزم علمه بها ... 326

سعة وجوده دليل على علمه بالأشياء ... 328

إتقان المصنوع دليل علمه ... 330

مراتب علمه سبحانه ... 335

القضاء من مراتب علمه ... 338

شمول علمه تعالى للجزئيات ... 339

إثبات علمه سبحانه بالجزئيات ... 341

حضور الممكن لدى الواجب في كل حين ... 341

التعبير القرآني الرفيع عن سعة علمه ... 346

دلائل النافين لعلمه سبحانه بالجزئيات ... 347

العلم بالجزئيات يلازم التغيّر في علمه ... 347

العلم بالجزئيات يستلزم الكثرة في الذات ... 351

انقلاب الممكن واجباً ... 351

ص: 515

الموضوع / رقم الصحفة

العظيم ... 353

العزيز ... 354

العفو ... 357

العليّ ... 360

حرف الغين ، غافر الذنب ... 363

الغالب ... 364

الغفّار ... 365

الغنيّ ... 366

الغفور ... 367

حرف الفاء ، الفاطر ... 369

فالق الإصباح ... 371

فالق الحبّ والنّوى ... 372

الفتّاح ... 374

حرف القاف ، القائم على كل نفس بما كسب ... 377

قابل التوب ، القادر ... 378

القدير ... 379

تعريف القدرة ... 380

دلائل قدرته سبحانه ، الفطرة ... 382

ص: 516

الموضوع / رقم الصحفة

مطالعة النظام الكوني ... 382

معطي الكمال لا يكون فاقداً له ... 383

سعة قدرته لكلّ شيء ... 384

تحليل القول بعموم القدرة الإلهية ... 386

عدم قدرته على فعل القبيح ... 389

عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه ... 390

عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد ... 392

عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد ... 394

سعة القدرة بمعنيين ... 396

القاهر ... 402

القهّار ... 403

القدّوس ... 406

القريب ، القويّ... 408

القيّوم ... 410

حرف الكاف ، الكافي ، الكبير ... 413

الكريم ... 415

حرف اللام ، اللطيف ... 417

كلام في رؤيته سبحانه ... 420

ما هي حقيقة الرؤية ؟ ... 421

تقرير أدلة المنكرين بوجوه أربعة ... 422

ص: 517

الموضوع / رقم الصحفة

القرآن يتلقّى الرؤية أمراً منكراً ... 424

أدلة القائلين بالرؤية ... 426

كلام لصاحب الكشّاف ... 436

الرؤية القلبية ... 439

حرف الميم ، المؤمن ... 443

مالك الملك ... 444

مالك يوم الدين ... 449

المبين ... 451

المتَعال ... 453

المتكبّر ... 454

المتين ... 456

المجيب ، المجيد ... 457

المحيط ... 458

المحيي ... 459

المستعان ... 460

المصوّر ... 461

المقتدر ... 464

المقيت ... 464

الملك ... 465

المولى ... 466

المهيمن ... 469

ص: 518

الموضوع / رقم الصحفة

حرف النون ، النصير ... 471

النور ... 472

حرف الواو ، الواحد ... 475

معنى كونه واحداً ... 477

أدلّة الوحدانية ، التعدد يستلزم التركيب ... 479

الوجود اللامتناهي لا يقبل التعدّد ... 480

صرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر ... 483

خرافة التثليث : الأب والابن وروح القدس ... 485

تسرّب خرافة التثليث إلى النصرانية ... 488

القرآن ونفي التثليث ... 490

الواسع ... 492

الوالي ، الودود ... 493

الوكيل ... 494

الولي ... 496

الوهّاب ... 497

حرف الهاء ، الهادي ... 499

ما معنى كون الهداية والضلالة بيده سبحانه ... 500

الهداية العامّة ... 501

الهداية الخاصّة ... 504

ص: 519

ص: 520

فهرس المصادر والمراجع

بعد القرآن الكريم

1 - الإبانة : الأشعري : أبو الحسن ( 260 - 324 ه ) طبع الجامعة الإسلامية ، المدينة المنورة - 1970 م.

2 - الإحتجاج : الطبرسي : أبو منصور أحمد بن علي - من أعلام القرن السادس - طبع الأعلمي ، بيروت - 1403 ه.

3 - الإرشاد : الشيخ المفيد : محمد بن محمد بن لقمان ( 336 - 413 ه ) طبع قم - 1402 ه.

4 - إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين : جمال الدين الفاضل المقداد ( ت 826 ه ) طبع مكتبة المرعشي - 1405 ه.

5 - أسرار الحكم : الحكيم السبزواري ( 1214 - 1289 ه ) الطبع الحجري.

6 - الأسفار : صدر المتألّهين : صدر الدين محمد الشيرازي ( 970 - 1050 ه ) طبع مكتبة المصطفوي - قم.

7 - الإقتصاد الهادي إلى سبيل الرشاد : الشيخ الطوسي ( 385 - 460 ه ) طبع طهران.

8 - اللّه خالق الكون : جعفر الهادي ، دار الأضواء ، بيروت - 1406 ه.

ص: 521

9 - اللّه يتجلّى في عصر العلم : بول كلارنس ابرسوله ، طبع بيروت.

10 - الإلهيات : الشيخ حسن محمد مكي العاملي من محاضرات الاُستاذ الشيخ جعفر السبحاني ، الدار الإسلاميّة ، بيروت - 1410 ه.

11 - الأمالي : الطوسي : محمد بن الحسن ( 385 - 460 ه ) مؤسسة الوفاء ، بيروت - 1401 ه.

12 - أنوار الملكوت في شرح الياقوت : العلاّمة الحلي ( 648 - 726 ه ) طبع إيران.

13 - أوائل المقالات : الشيخ المفيد : محمد بن محمد بن لقمان ( 336 - 413 ه ) تبريز - مكتبة حقيقت.

14 - بحار الأنوار : المجلسي : محمد باقر ( 1037 - 1110 ه ) ، مؤسسة الوفاء بيروت - 1403 ه.

15 - بحوث في الملل والنحل : السبحاني : جعفر بن محمد حسين ( 1347 ه مؤلف هذا الكتاب ) مطبعة الخيام ، قم - 1408 ه.

16 - تاريخ دمشق : ابن عساكر : أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي ( 500 - 571 ه ) طبع دار التعارف ، بيروت.

17 - تأويل مختلف الحديث : أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة ( 213 - 276 ه ) ، دار الجيل ، بيروت - 1393 ه.

18 - التبصير في الدين : الإسفرايني : أبو المظفر ( ت 471 ه ) بيروت 1403 ه.

19 - تبيين كذب المفترى : ابن عساكر : أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي ( 500 - 571 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1404 ه.

ص: 522

20 - تصحيح الإعتقاد : الشيخ المفيد : محمد بن محمد بن لقمان ( 336 - 413 ه ) تبريز ، مكتبة حقيقت.

21 - التوحيد : الصدوق : محمد بن بابويه ( 306 - 381 ه ) طهران - طبع مكتبة الصدوق.

22 - درر الفوائد : الشيخ محمد تقي الآملي ( 1304 - 1389 ه ) قم - طبع مؤسسة إسماعيليان.

23 - الرجال : الكشي : أبو عمرو - من علماء القرن الرابع - كربلاء ، العراق ، مؤسسة الأعلمي.

24 - رحلة ابن بطوطة : ابن بطوطة ، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان - 1407 ه.

25 - سرمايه ايمان : عبد الرزاق اللاهيجي طبع حجر - 1310 ه ، إيران.

26 - السلفية مرحلة زمينة مباركة لامذهب اسلامي : الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي السوري.

27 - السنة : أحمد بن حنبل ( ت 242 ه ) دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان 1405 ه.

28 - السيرة النبوية : ابن هشام ( ت 213 ه أو 218 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

29 - شرح الأسماء الحسنى : السيد حسين الهمداني المعاصر.

30 - شرح الأسماء الحسنى : الحكيم السبزواري ( 1214 - 1289 ه ).

31 - شرح الاُصول الخمسة : عبد الجبار القاضي المعتزلي ( ت 415 ه ) طبع مصر.

ص: 523

32 - شرح التجريد : علاء الدين القوشچي ، الطبع الحجري ، تبريز - 1307 ه.

33 - شرح المقاصد : سعد الدين التفتازاني ( ت 792 ه ) طبع مصر.

34 - شرح المنظومة : الحكيم السبزواري ، طبع حجر ، طهران.

35 - شرح المواقف : السيد الشريف : علي بن محمد الجرجاني ( ت 816 ه ) مطبعة السعادة مصر - 1325 ه.

36 - الصحيح : الترمذي : أبو عيسى محمد بن عيسى بن سوره ( 209 - 279 ه ) طبع دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

37 - العقائد : الصدوق : محمد بن علي بن بابويه ( 306 - 381 ه ) إيران مطبعة آفتاب - 1371 ه.

38 - على اطلال المذهب المادي : فريد وجدي في أربعة أجزاء - طبع مصر.

39 - علاقة الإثبات والتفويض : الدكتور رضا بن نعسان معطي ، مكة المكرمة - 1401 ه.

40 - العمدة : ابن البطريق : يحيى بن الحسن الأسدي الحلي ( 533 - 600 ه ) مؤسسة النشر الإسلامي ، قم - 1407 ه.

41 - غاية المرام : السيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل البحراني ( ت 1107 ه ) طبعة حجر - 1272 ه.

42 - الغدير : الأميني : عبد الحسين ( 1320 - 1390 ه ) ، 11 جزء ، بيروت 1387 ه.

43 - فتح الباري : ابن حجر : شهاب الدين أحمد العسقلاني ( ت 852 ه ) ، إحياء التراث العربي - بيروت.

ص: 524

44 - الفرائد : الشيخ الأنصاري ( 1212 - 1281 ه ) ، الطبع الحجري - ايران.

45 - قصة الحضارة : ول وايريل ديورانت ، دار الجيل ، بيروت - 1408 ه.

46 - قواعد المرام في علم الكلام : الشيخ ميثم بن علي البحراني ( 636 - 699 ه ) تحقيق الأشكوري ، طبع مكتبة المرعشي - 1406 ه.

47 - كاشف الأسماء في شرح الأسماء الحسنى : السيد عماد الدين ( ت 1110 ه ) الطبع الحجري.

48 - الكافي : الكليني : محمد بن يعقوب ( ت 329 ه ) طهران ، 8 أجزاء 1388 ه.

49 - الكشّاف : الزمخشري : أبو القاسم جار اللّه محمود بن عمر ( 467 - 538 ه ) دار المعرفة ، بيروت - لبنان.

50 - كشف الفوائد : العلامة الحلّي : الحسن بن يوسف بن مطهر ( 648 - 726 ه ) الطبع الحجري.

51 - كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد : العلامة الحلي : الحسن بن يوسف بن علي بن مطهر ، مطبعة العرفان ، صيدا - 1353 ه.

52 - گوهر مراد : عبد الرزاق اللاهيجي ( ت 1075 ه ) طهران - 1377 ه طبع حجر.

53 - لسان العرب : العلاّمة ابن منظور : جمال الدين محمد بن مكرم ( 630 - 711 ه ) قم - ايران - 1405 ه.

54 - اللمع : الشيخ الأشعري : أبو الحسن ( 260 - 324 ه ) ، مطبعة مضر 1955 م.

55 - لوامع البينات : الرازي : فخر الدين محمد بن عمر

ص: 525

الخطيب ( 544 - 606 ه ) القاهرة - 1396 ه.

56 - اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية : جمال الدين مقداد بن عبد اللّه الأسدي السيوري الحلي ( ت 826 ه ) مطبعة شفق ، تبريز ايران - 1397 ه.

57 - ماذا خسر العالم : الندوي السيد أبو الحسن علي الحسيني ، دار الكتاب العربي ، بيروت - 1385 ه.

58 - مجمع البيان في تفسير القرآن : الشيخ الطبرسي : أبو علي الفضل بن الحسن ( 471 - 548 ه ) دار المعرفة - بيروت لبنان - 1408 ه.

59 - مجموعة الرسائل الكبرى : ابن تيمية : أحمد بن عبد الحليم ( 661 - 728 ه ) مصر - 1385 ه.

60 - المحاسن : البرقي : أحمد بن محمد بن خالد ( م 274 ه ) طهران.

61 - مسند الإمام الكاظم علیه السلام : الشيخ عزيز اللّه العطاردي ، مشهد 1409 ه.

62 - معجم مقاييس اللغة : أبي الحسين : أحمد بن فارس بن زكريا ( ت 395 ه ) القاهرة - 1366 ه.

63 - مفاتيح الغيب : الرازي : فخر الدين محمد بن عمر الخطيب ( 544 - 606 ه ) طبع مصر في ثمانية أجزاء.

64 - المفردات : أبو القاسم : الحسين بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب الإصفهاني ( ت 502 ه ) مطبعة الميمنية ، القاهرة - 1324 ه.

65 - مقالات الإسلاميين : الأشعري : أبو الحسن ( 260 - 324 ه ) المانيا 1400 ه.

66 - الملل والنحل : الشهرستاني : محمد بن عبد الكريم ( 479 - 548 ه )

ص: 526

دار المعرفة ، بيروت.

67 - المواقف : القاضي عضد الدين عبد الرحمان الايجي ( ت 756 ه ) مطبعة السعادة ، مصر - 1325 ه.

68 - الميزان : العلاّمة الطباطبائي : محمد حسين ( 1321 - 1402 ه ) مؤسسة الاعلمي ، بيروت لبنان - 1403 ه.

69 - نهاية الاقدام : الشهرستاني : محمد بن عبد الكريم ( ت 548 ه ) طبع مصر.

70 - نهاية الحكمة : الطباطبائي : محمد حسين ( 1321 - 1402 ه ) قم 1404 ه.

71 - نهاية الدراية : الصدر : السيد حسن ( 1272 - 1354 ه ) الهند ، لكهنو 1324 ه.

72 - نهج البلاغة : الجامع الرضي : محمد بن الحسين ( 359 - 406 ه ) طبع مصر ، مطبعة الإستقامة ، مع شرح الشيخ محمد عبده.

73 - نور الثقلين : العلاّمة عبد علي بن جمعه العروسي الحويزي ( ت 112 ه ) مطبعة الحكمة ، قم - 1383 ه.

74 - وسائل الشيعة : الحر العاملي : محمد بن الحسن ( 1033 - 1104 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1403 ه.

إلى غير ذلك من الرسائل والكتب التي رجعنا إليها عند التأليف.

والحمد لله رب العالمين

ص: 527

المجلد 7

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 2

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1426 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-357-223-4

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء السابع

يبحث عن شخصية النبي الأكرم صلی اللّه عليه وآله وسلم وحياته في القرآن الكريم

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 2

بسم اللّه الرحمن الرحيم

عواطف ساخنة ومشاعر تقدير

من أرض الذكريات الإسلاميّة : الحبشة ( أثيوبيا )

وصلنا كتاب من العالم الجليل الاُستاذ محمد كمال آدم المدرس في مدرسة أهل البيت يحمل في طيّاته عواطف ساخنة ، حول « سلسلة مفاهيم القرآن » وما فيها من بحوث في التوحيد والنبوّة ، وقد وجد فيها صاحب الرسالة ما يعالج مشاكل العصر التي تثيره الأقلّيّات الدينية في تلك الديار وإليك بعض ما ورد في الكتاب :

حضرة العالم العلاّمة والحجّة الفهّامة ، الاُستاذ جعفر سبحاني أطال اللّه بقاءه ذخراً للاسلام والمسلمين.

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

يسرّني غاية السرور ومزيد الفرحة أن تصل رسالتي هذه إليكم ، وأنتم في تمام الصحّة والعافية وأتمنّى لكم النجاح والتوفيق في كل أعمالكم.

سيدي العزيز أنا أخوكم المسلم الأثيوبي محمد كمال آدم المدرس في مدرسة أهل البيت وإنّي أحد المتولّعين بمطالعة مؤلّفاتكم الكثيرة المفيدة ، والرائعة ، التي قمتم بتأليفها لمعالجة المسائل الإسلامية معالجة جديدة والدفاع عن حوزة الدين الإسلامي ، في جميع جهات المعركة الفكرية مع الأعداء ، فأوّل ما ظفرت به من مؤلّفاتكم هو كتاب « معالم التوحيد في القرآن الكريم » فطالعته سطراً بعد سطر فأثلج صدري بالفرح والسرور ، والخطبة والحبور ، وألفيته قد انطبق على مسمّاه اسمه ، وتناسب تركيبه ورسمه.

ص: 3

حقّاً إنّ هذا الكتاب يُسحر الألباب ويجذب الأحباب ، يحقِّقُ ويبيِّن الصواب ، ويفحم المتقوّل الكذّاب ، حيث يقوم بتوضيح التوحيد الخالص ، ويفنِّد مزاعم من يشوّهون مفاهيم الدين الإسلامي ويقومون بتكفير اخوانهم المسلمين. فقد جمع بين دفّتيه دراسات كثيرة ومناقشات عديدة ، فيا بشراكم انّكم من الذين أدركوا حقيقة الدين الإسلامي ، وحملتهم غيرتهم على دينهم إلى أن يطلعوا الآخرين على ثمرات الحقائق فجزاكم اللّه خير الجزاء.

اُستاذي الحبيب نحن في أثيوبيا نفتخر بكم وبمؤلّفاتكم القيّمة وأستشعر شعوراً بأنّكم الحجّة والبرهان للدفاع عن الدين الإسلامي في هذا الزمان ، متّعنا اللّه بكم ووفّقنا لرؤيتكم.

وأخيراً نرجوا أن تزوّدنا بمعلومات يكشف عن عدد مؤلّفاتكم لنكون قادرين على متابعتها وجمعها ، ونحن واثقون بأنّكم تحققون مطلبنا هذا في أسرع وقت ممكن ، واللّه يجزيكم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ودمتم في رعاية اللّه وحفظه وتقبّلوا فائق تحيّاتنا.

أديس أبابا - أثيوبيا

محمد كمال آدم

28 / 12 / 1411 ه

الموافق 10 / 7 / 1991 م

ص: 4

تقدير واكبار

تفضل به الاُستاذ المجاهد والكاتب القدير : الشيخ حسن الصفار

من علماء المنطقة الشرقية في الجزيرة العربية ( قطيف ) حيّاه اللّه وبيّاه

سماحة العلاّمة الحجة الشيخ جعفر السبحاني ... حفظه اللّه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ... ومما جاء فيه :

كما أنّ الجيش في ميدان القتال يحتاج إلى دعم وامداد بالمؤنة والعتاد « الوجستيك » كذلك الدعاة إلى اللّه وطلائع الحركة الإسلامية ، هم في أمسِّ الحاجة إلى من يرفدهم بالفكر العميق ، والدراسات العلمية والبحوث الهادفة عن قضايا العقيدة ومفاهيم الإسلام.

فالاُمّة الإسلامية تخوض اليوم صراعاً حضارياً ، فكريّاً ضارياً حيث يخشى الإستكبار العالمي من أن تعود للاُمّة ثقتها بدينها ، وتبني صرح الحضارة الإسلامية من جديد على أنقاض الحضارة الماديّة التي ذاق الإنسان ويلاتها ، واتّضح لدية فسادها وانحطاطها.

إنّ العدوان العسكري والحرب المفروضة التي شنّت على الجمهوريّة الإسلاميّة وحملات الإرهاب ، والقمع الشرسة التي يواجهها المؤمنون الرساليون في كل مكان ، واعاصير الإعلام المضلّل المناوئ للثورة والحركة الإسلامية ... هذه كلّها مظاهر ووسائل للمعركة الرئيسية والصراع الحقيقي بين الحضارة الإسلامية المرتقبة ، والحضارة المادية المنحرفة.

وإذا كانت القيادة الميدانيّة ، والإدارة اليومية لشؤون التحرّك والصراع مع الأعداء تأخذ كل وقت وجهد العلماء والمفكّرين الإسلاميين الواعين ، فإنّ ذلك سيترك فراغاً خطيراً في مجال الدراسات العلمية العقائدية والعطاء الفكري.

ص: 5

فلابدّ وأن تتوجّه ثلّة من العلماء والمفكّرين العارفين بأبعاد الصراع الحضاري ، والمدركين لتطلّعات الاُمّة ، ليقوموا بدور الإمداد والدعم الفكري والعلمي ، خلف جبهة الصراع العسكري والسياسي والإعلامي.

وسماحتكم هو في طليعة من يطمئن ويعتمد عليه لملء هذا الفراغ الكبير وسدّ هذه الحاجة الماسَّة.

إنّ اهتمامكم باصدار البحوث العقائدية والفكرية الرائعة ليشكّل سنداً ودعماً ضرورياً لكل الرساليين المجاهدين لإعلاء كلمة اللّه وانقاذ العالم من حضيض الإنحطاط المادّي.

لقد قرأت العديد من أجزاء موسوعتكم ( التفسير الموضوعي للقرآن ) وبحثكم القيّم حول ( التوحيد والشرك ) فوجدت فيها الضالّة المنشودة من حيث الفكر العميق ، والشموليّة الدقيقة والطرح الهادئ الموضوعي فشكر اللّه سعيكم وأدام توفيقكم ونفع المسلمين بفيض علمكم.

أرجو أن تتابعوا كتاباتكم وبحوثكم في مجال التفسير الموضوعي للقرآن كما أرى ضرورة الإسراع في ترجمة هذه البحوث إلى اللغات العالمية الحية ، وخاصّة اللغة الإنكليزية ، فهناك الكثيرون من المسلمين ممّن لا يجيدون اللغة العربية ، يتطلّعون بفارغ الشوق إلى مثل هذه الدراسات العلمية ، كما أنّ بعض مفكّري الغرب والشرق يهمّهم الإطّلاع على مفاهيم الإسلام من بعد ما لفتت الثورة الإسلامية المباركة أنظارهم نحو الإسلام.

أسأل اللّه لكم دوام الصحّة والنشاط ولكلّ العاملين المؤمنين التوفيق والنجاح.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

حسن موسى الصفار

القطيف

ص: 6

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

شخصية النبي محمد صلی اللّه علیه و آله وسيرته في القرآن الكريم

كانت حياة النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله منذ ولادته ونعومة أظفاره ، وحتى ساعة رحلته ، ولقائه ربّه ، طافحة بالحوادث ، زاخرة بالوقائع ، وقد لفتت تلك الحوادث والوقائع أنظار المفكّرين والباحثين ودفعتهم إلى ضبط كلّ جليل ودقيق منها ، وهم بين مؤمن بدينه ورسالته ، وشريعته وكتابه ، ومنكر لصلته باللّه سبحانه وبعثته من قبله ولكن مذعن بشخصيته الفذَّة ، وحياته المثالية ، فلا تجد شخصية في التاريخ وقعت محطّاً للبحث والدراسة ، ولفتت نظر الباحثين كشخصية رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله .

ولو اُتيح لإنسان أن يقوم باستقصاء ما أُلِّف حول حياته طيلة هذه القرون ، أو ما جادت به القرائح من القصائد والأراجيز ، لعثر على مكتبة ضخمة حافلة بآلاف الكتب والرسائل ، والدواوين ، ولاُذعن - عندئذٍ - كلّ قريب وبعيد ، وكل صديق ومناوئ بأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نسيج وحده ، لم تسمع اُذنُ الدنيا بأحد مثله ولم تر عين الدهر نظيراً له.

وقد خدم المؤرخون الاُمّة الاسلاميّة بل البشريّة جمعاء بتآليفهم وتصانيفهم حول حياته وشخصيّته وجهوده ومساعيه في سبيل إنقاذ البشريّة من أغلال الوثنيّة

ص: 7

والجنوح إلى كلّ معبود سوى اللّه تعالى ، غير أنَّ نظر كلّ مؤلِّف كان إلى زاوية خاصّة من زوايا حياته ، والى بعد واحد من أبعاد سيرته.

فمن باحث عن أخلاقه المثاليّة ، ورأفته ، وعبادته وتهجّده ، وحسن سلوكه مع الناس ، وأمانته التي أقرَّ بها العدو والصديق.

إلى آخر يهتمَّ ببيان كيفيّة نزول الوحي عليه ، وقيامه - بمفرده - بنشر دعوته ، والإجهار برسالته ، والصمود في سبيل عقيدته ، وتحمّل المشقّة كالجبل الراسخ لا تحرّكه العواصف.

إلى ثالث يُلقي الضوء على الجانب السياسي من حياته ، فيجمع رسائله الموجّهة إلى الملوك والساسة ورؤساء القبائل ، كوثائق وكتب سياسية.

إلى رابع أعجبه ذكر مغازيه وبعثه للسرايا ، وجهاده ضدّ المشركين والمنافقين والخونة من أهل الكتاب.

إلى خامس ركّز اهتمامه على الجليل والدقيق من حياته من دون أن يجنح لجانب دون جانب لكنّه جمع وحشّد من دون تحقيق ولا تنقيب ، فكتب كلّ ما عثر عليه في هذه المجالات.

شكر اللّه مساعي الجميع حيث خدموا البشريّة ببحثهم عن هذه الفريدة وهذه الحلقة الأخيرة من سلسلة الأنبياء والمرسلين ، الّتي خصّها اللّه سبحانه بكتابه الخاتم ، ودينه الخالد ، وشريعته الأبديّة.

ولقد استند هؤلاء في تصوير حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ووصف ما جرى عليه قبل البعثة ، وبعدها ، أو ما واجهه من الأحداث والوقائع ، إلى الروايات المرويّة عن الصحابة والتابعين الذين شاهدوا نور الرسالة كما شاهدوا القضايا والحوادث باُمّ أعينهم.

ولكن هناك طريقاً آخر أمثل وأشرف من الطريق الأوّل لم يهتم به الباحثون اهتماماً كافياً ولازماً ، وان التفتوا إليه في بعض الأحيان ، وهو الإستضاءة - في

ص: 8

تدوين معالم حياته - بكتاب اللّه الكريم ، المنزّل على قلبه ، ففيه تصريحات بمعالم حياته ، وإشارات إلى خصوصيّاتها.

والقرآن الكريم وان لم يكن كتاب تاريخ ، بل هو كما وصف نفسه ( هُدًى لِّلنَّاسِ ) أي كتاب هدي لجميع الناس إلى أن تقوم الساعة ، ولكنّه ربّما يتعرّض في بعض المناسبات لخصوصيّات حياته وأفعاله ، وجهوده ومساعيه ، ومن خلال ذلك يستطيع الإنسان المتتبّع أن يستخرج صورة وضّاءة لحياته بالتدبّر في هذا القسم من الآيات ويقف على خلقه وسلوكه وسائر شؤونه ، وبالتالي تتجلّى لناحياته من أوثق المصادر وأمتنها ، فيرى القارئ صورته في مرآة القرآن كما ترى سيرته في ثنايا الكتب والسير ، مع الفارق الكبير بين الصورتين ، والمرآتين.

وهذا ما نقوم به في هذا الجزء من موسوعتنا القرآنية « مفاهيم القرآن » ونحن نعترف بأنّ هذا عبء لا يقوم به إلاّ لجنة تفسيريّة تتناول الموضوع بصورة شاملة وموسّعة ومعمّقة غير أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور ، وما نقوم به عمل فردي ليس له من المزايا ما للعمل الجماعي ، ولكن « ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ». وتوخّياً للتسهيل ، خصّصنا لكلّ موضوع وما يناسبه فصلاً.

وفي الختام نتقدّم بالشكر الجزيل ، إلى العالم الجليل والكاتب القدير ، الشيخ محسن آل عصور - حفظه اللّه - حيث ساعدنا في تأليف هذه الجزء وتحريره وترصيفه وتقريره حتى خرج بهذه الصورة البهيّة. شكر اللّه مساعيه الجميل.

نسأله سبحانه أن يوفّقنا في هذا السبيل ويصوننا عن الزلل والخطأ في فهم كتابه إنّه مجيب الدعاء. ويكتب التوفيق لكلّ مجاهد في سبيل القرآن ، ومخلص في خدمة الذكر الحكيم.

قم - مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

جعفر السبحاني

ص: 9

ص: 10

(1) بشائره في الكتب السماويّة

اشارة

لقد تعلّقت مشيئة اللّه الحكيمة ببعث رجال صالحين لإنقاذ البشرية من الجهالة والضلالة ، وسوقهم إلى مرافئ السعادة ، وأنزل عليهم شرائع فيها أحكامه وتعاليمه ، وهذه الشرائع وإن كانت تختلف بعضها عن البعض الآخر ، لكنّها تتّحد جوهراً وحقيقة ، ولو أنّها تفترق صورة وشكلاً كما يشير إليه قوله سبحانه : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلامُ ) ( آل عمران / 19 ). وقوله : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران / 67 ) (1).

فالدين النازل من اللّه سبحانه إلى كافّة البشر في جميع الأجيال والقرون أمر واحد ، وهو الإسلام ، وقد اُمر بتبليغه جميع رسله وأنبيائه من غير فرق بين السالفين واللاّحقين.

هذا وقد يتفنّن القرآن الكريم في التعبير عن وحدة الشرائع من حيث الاُصول والمبادئ واختلافها شكليّاً بتصوير الدين نهراً كبيراً يجري فيه ماء الحياة المعنويّة ، والاُمم كلّها قاطنة على ضفَّة هذا النهر يردونه ويصدرون عنه ، وينهلون منه حسب حاجاتهم واقتضاء ظروفهم ، وكل ظرف يستدعي حكماً فرعيّاً خاصّاً.

قال سبحانه :

( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ( المائدة / 48 ).

فالحقيقة ماء عذب ، والاختلاف في المشرعة والمنهل ، والطريقة والمنهاج.

ص: 11


1- لاحظ سورة البقرة / 132 والزخرف / 28.

إنّ وحدة الشرائع جوهراً ، واختلافها شكلاً وعَرْضا ، لا تعني ما يلوكه بعض الملاحدة من جواز التديّن بكلّ شريعة نازلة من اللّه سبحانه إلى اُمّة من الاُمم في العصور السابقة حتى أنّه يسوّغ التديّن بشريعة إبراهيم في زمن بعثة الكليم ، أو التمسّك بشريعة اليهود في عهد المسيح ، أو التديّن بالشرائع السابقة في عهد بعثة النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله ، بل المفروض على كلّ اُمّة أن تتمسّك بالشريعة التي جاء بها نبيّها ، فلا يجوز لليهود سوى تطبيق التوراة ، ولا للنصارى سوى العمل بما جاء به المسيح ، ولا للاُمّة المتأخّرة عنهما إلاّ العمل بالقرآن والسنّة النبويّة ، وذلك لأنّ للشكل والعَرْض سهماً وافراً في إسعاد الاُمّة ورقيّها ، فلكلّ اُمّة قابليات ومواهب فلا تسعدها إلاّ الشريعة التي تناسبها وتتجاوب معها.

فربّ اُمّة متحضّرة تناسبها سنن وانظمة خاصّة لا تناسب اُمّة اُخرى لم تبلغ شأنها في التكامل والتحضّر.

وهذا هو السبب في إختلاف الشرائع السماويّة في برامجها العباديّة والإجتماعيّة والسياسيّة والإقتصاديّة ، فكانت كلّ شريعة كاملة بالنسبة إلى الأمّة التي نزلت لهدايتها وإسعادها ، ولكنّها لا تتجاوب مع حاجات الاُمم المتأخّرة ولا تكفي لإحياء قابلياتها وترشيد مواهبها ، فكأنَّ الاُمم التي خُصّت بالشرائع الالهيّة تلاميذ صفوف مدرسة واحدة ، وكلّ شريعة برنامج لصفّ خاصّ ، فما زالت البشريّة ترتقي من صفّ إلى صفّ ، وتتلقّى شريعة بعد شريعة ، حتّى تنتهي إلى الصفّ النهائي والشريعة الأخيرة التي لا شريعة بعدها ، وقد أوضحنا حقيقة ذلك الأمر عند البحث عن الخاتمية (1).

أخذ الميثاق من النبيين على الإيمان به ونصره

إنّ وحدة الشرائع في الجوهر والحقيقة أدَّت إلى أخذ الميثاق من النبيين بأنّه سبحانه مهما آتاهم الكتاب والحكمة ، وجاءهم رسول مصدّق لما معهم ، يجب

ص: 12


1- لاحظ مفاهيم القرآن ج 3 ص 119 - 123.

عليهم الإيمان به ونصره ، بل أخذ الإصر من اُممهم على ذلك ، فكان من وظائف كل رسول تصديق النبي اللاحق والإيمان به ، ونصره ، عن طريق التبشير به وأمر اُمّته بالتصديق به ومؤازرته - إذا أدركوه - فعلى ذلك أخذ سبحانه من إبراهيم الخليل ذلك العهد بالنسبة إلى الكليم ، ومن الكليم بالنسبة إلى المسيح ، ومنه على النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله ، ومن جهة اُخرى أخذ الميثاق من الجميع على الإيمان بنبوّة النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله ، ونصره ، والتبشير به ، ودعوة اُممهم إلى تصديق دعوته والإقرار بها.

والمعاصرون للأنبياء السابقين وان لم يدركوا عصر النبي الأكرم غير أنّ ذلك الهتاف العالمي وصل إلى أخلافهم وأولادهم فوجب عليهم تلبية النبي الخاتم بوصيّة من أنبيائهم ، وهذا هو المتبادر من قوله سبحانه :

( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) ( آل عمران / 81 ).

ظهور الآية فيما ذكرناه من أخذ الميثاق من كلّ متقدّم للمتأخّر ، ومن الجميع للأخير يتوقّف على تفسير الآية وتحليلها جملة بعد جملة :

1 - قوله : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ) .

إنّ المراد من النبيين هم المأخوذ منهم الميثاق ، ويدلّ على ذلك قوله : ( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) .

غير أنّ النبي الواقع في أوّل السلسلة يتمحّض في أنّهُ من أخذ منه الميثاق كنوح علیه السلام فإنّه من بُدء به نزول الشريعة ، وهداية الناس وتعريفهم بوظائفهم وتكاليفهم السماوية ، كما أنّ النبي الواقع في آخر السلسلة يتمحّض في أنّه ممّن اُخذ له الميثاق لأنّ المفروض أنّه لا نبيّ بعده.

ص: 13

وأمّا الأنبياء الواقعون في ثنايا السلسلة فهم من جهة أخذ منهم الميثاق ومأخوذ لهم الميثاق.

فالكليم مأخوذ منه الميثاق للمسيح ومأخوذ له الميثاق من الخليل وهكذا.

2 - قوله سبحانه : ( لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ) .

إنّ « ما » في هذه الجملة أشبه بالشرطيّة من الموصولة لوجود « اللام » في جزائها والمعنى : مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثُمَّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه.

والآية تهدف إلى أنّ اللّه سبحانه أخذ من الأنبياء الميثاق بأنّه لو جاء رسول إليهم مصدّق لدعوتهم إلى التوحيد ورفض الوثنيّة والإقرار بعبوديّة الكلّ لله تعالى ، يلزم عليهم أمران :

الأوّل : الإيمان بهذا الرسول المُقْبِل.

الثاني : نصره.

فكأنّ إيتاء الكتاب والحكمة يلازم - عند تطابق الدعوتين - الإيمان بالداعي اللاحق ونصرته ، وعلى ذلك فالضمير المجرور والمنصوب في قوله : ( لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ) عائدان إلى الرسول المُقبِل.

3 - قوله سبحانه : ( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) .

يعرب هذا عن أنّه سبحانه لم يأخذ الميثاق من النبيّين وحدهم بل فرض عليهم أخذ الميثاق من اُممهم على ذلك ، ولأجل ذلك يخاطبهم بقوله : ( أَأَقْرَرْتُمْ ) أنتم يا معشر النبيين ، وهل أخذتم على ذلك عهدي ؟ فأجابوا بالإقرار.

وإنّما اقتصر في الجواب بإقرار الأنبياء فقط ، ولم يذكر أخذ الإصر من اُممهم للإكتفاء بقوله : ( فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) لظهور الشهادة في أنّها على

ص: 14

الغير ، فإذا كان اللّه سبحانه مع أنبيائه شهوداً فيجب أن يكون هناك مشهوداً عليهم وهو اُممهم.

فظهر أنّ الآية تهدف إلى أخذ العهد والإصر من الأنبياء ، واُممهم على الإيمان والنصرة.

فإذا راجعنا القرآن الكريم نرى أنّ المسيح قام بمسؤوليته الكبيرة حيث بشّر بالنبيّ وقال - كما حكى عنه سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ( الصف / 6 ).

وليس المسيح نسيج وحده في هذا المجال بل الأنبياء السابقون قاموا بنفس هذه الوظيفة ، يقول سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( البقرة / 146 ).

والضمير في « يعرفونه » يرجع إلى النبيّ الأكرم وهو المفهوم من سياق الآية بشهادة تشبيه عرفانهم إيّاه بعرفان أبنائهم.

وما زعمه بعض المفسّرين من أنّ الضمير راجع إلى الكتاب الوارد في الآية لا يناسب هذا التشبيه ، والآية بصدد بيان أنّهم يعرفون النبيّ بما في كتبهم من البشارة به ، ومن نعوته وأوصافه وصفاته التي لا تنطبق على غيره ، وبما ظهر من آياته وآثار هدايته ، كما يعرفون أبناءهم الذين يتولّون تربيتهم وحياطتهم حتّى لا يفوتهم من أمرهم شيء ، قال عبد اللّه بن سلام - وكان من علماء اليهود وأحبارهم - : أنا أعلم به منّي بابني (1).

فالمراد من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، وكانت الأغلبية في المدينة اليهود ، والآية تعرب من أنّ الكليم قام بنفس ما قام به المسيح من التعريف بالنبيّ الخاتم حتّى عرّفهم النبيّ الخاتم بعلائم واضحة عرفته به اُمّتهُ عرفانَها بأبنائها.

ص: 15


1- المنار ج 2 ص 20.

وعلى ضوء ذلك فالدّين السماوي دين موحّد ، والمبلِّغون له رجال صالحون ، متلاحقون ، موحّدون في الهدف والغاية ، مختلفون في الشريعة والمنهل ، والجميع يبشّرون بالحلقات التالية بأمانة وصدق وإخلاص.

وهذه الآية وان كانت تركّز على أخذ الميثاق من السابقين على اللاحقين ولكن الآية التالية تعرب بفحوى الكلام على أنّ المتأخّر أيضاً كان مأموراً بتصديق السابق ، ولأجل ذلك قال المسيح عند بعثته :

( مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ( الصف / 6 ).

وقد أمر النبيّ اُمتّه بالإيمان بما اُنزل على من سبقه من الأنبياء ، وقال سبحانه :

( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران / 84 ).

ثمّ إنّ القرآن الكريم يذكر ذلك الميثاق في آية اُخرى على وجه الاختصار ويقول : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ (1) وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) ( الأحزاب / 7 ).

ص: 16


1- وقد ذكر سبحانه النبيين بلفظ عام يشمل الجميع ثمّ سمّى خمسة منهم بأسمائهم بالعطف عليهم ، ولم يخصّهم بالذكر إلاّ لعظمة شأنهم ورفعة مكانتهم ، فإنّهم أصحاب الشرائع ، وقد عدّهم على ترتيب زمانهم لكن قدّم النبي وهو آخرهم زماناً لفضله وشرفه ، وتقدّمه على الجميع ، وسمّى هذا الميثاق بالميثاق الغليظ ، إذ به تستقر كلمة التوحيد ورفض الوثنية في المجتمع البشري ، فلو لم يؤمن نبي سابق باللاحق ولم ينصره ، كما أنّه لم يصدّق نبي لاحق النبي السابق لفشلت الدعوة الإلهية من الإنتشار وسادت الفوضى في الدين. وفي الآية إحتمال آخر ، وهي إنّها ناظرة إلى ميثاق آخر مأخوذ من الأنبياء وهو أخذ الوحي من اللّه وأدائه إلى الناس من دون تصرّف ، ويشهد على ذلك قول الإمام عليّ علیه السلام في حقّهم : « واصطفى سبحانه من ولده أنبياء ، أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ».نهج البلاغة ، الخطبة / 1.

إنّ إضافة الميثاق إلى النبيّين ( ميثاقهم ) يعرب عن كون المراد الميثاق هو الميثاق الخاص بهم ، كما أنّ ذكرهم بوصف النبوّة مشعر بذلك فهناك ميثاقان :

ميثاق مأخوذ من عامّة البشر وهو الذي يشير إليه قوله : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ) ( الأعراف / 172 ).

وميثاق مأخوذ من النبيّين خاصّة بما أنّهم أنبياء وهو الذي تدل عليه الآية وهي وإن كانت ساكتة عن متعلّق الميثاق لكن تبيّنه الآية السابقة ، وهو أخذ الميثاق من النبيّين عامّة على أنّه إذا جاءهم رسول مصدّق لما معهم ، يفرض عليهم الإيمان به والنصرة له.

هذا وإنّ الهدف الأسمى من فرض الإيمان والنصرة هو تأييد بعضهم ببعض حتّى تستقرّ في ظل وحدة الكلمة ، كلمة التوحيد في المجتمع البشري ويكون الدّين كلّه لله سبحانه كما قال : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) ( الأنبياء / 92 ). وقال : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ... ) ( الشورى / 13 ).

ولأجل اتّفاق الأنبياء في الهدف والغرض يعدّ سبحانه قوم نوح مكذّبين للمرسلين ، وقال : ( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ ) ( الشعراء / 105 و 106 ).

مع أنّهم لم يكذّبوا إلاّ واحد منهم وهو نوح علیه السلام ، وذلك لأجل أنّ دعوتهم واحدة وكلمتهم متّفقة على التوحيد ، فيكون المكذّب للواحد منهم ، مكذّباً للجميع ، ولذا عدّ اللّه سبحانه الإيمان ببعض رسله دون بعض ، كفراً بالجميع ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ

ص: 17

حَقًّا ) ( النساء / 150 - 151 ) (1).

وبما أنّ رسالة النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله رسالة عالميّة خاتمة لجميع الرسالات اُخذ من جميع الأنبياء الميثاق على الايمان به ، ونصرته ، والتبشير به ليسدَّ باب العذر على جميع الاُمم حتّى يتظلّل الكلّ تحت لواء رسالته ويسيّر البشر عامّة تحت قيادته إلى السعادة.

ويشهد على ما ذكرنا ما روي عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام قال : « إنّ اللّه أخَذَ الميثاق على الأنبياء قَبْلَ نبيّنا أن يخبروا اُممهم بمبعثه ورفعته ويبشّروهم به ويأمروهم بتصديقه » (2).

ورويا الطبري والسيوطي عن عليّ علیه السلام أنّه قال : « لم يبعث اللّه نبيّاً آدم فمن بعده إلاّ أخذ عليه العهد في محمّد ، لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه ، وأمره بأن يأخذ العهد على قومه » ثمّ تلى هذه الآية : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ... ) (3).

ويظهر من بعض الروايات أنّه أخذ الميثاق منهم على وصيّ النبيّ الخاتم.

روى الحديث المحدّث البحراني عن الصادق علیه السلام أنّه قال :

لم يبعث اللّه نبيّاً ولا رسولاً إلاّ وأخذ عليه الميثاق لمحمّد صلی اللّه علیه و آله بالنبوّة ولعليّ علیه السلام بالإمامة (4).

وتخصيص الميثاق في هذه الروايات بالإيمان بالنبي الخاتم لا ينافي ما ذكرنا من عموميّة مفاد الآية ، وأنّها تعمّ جميع الأنبياء فالمتقدّم منهم كان مفروضاً عليه التبشير بالمتأخّر عن طريق الإيمان به ودعوة اُمّته إلى نصرته ، واقتفائه كائناً من كان ،

ص: 18


1- الميزان ج 19 ص 321.
2- مجمع البيان ج 2 ص 468 ( طبع صيدا ).
3- تفسير الطبري ج 3 ص 237 ، والدر المنثور ج 2 ص 27 ، ورواه الرازي في مفاتيح الغيب ج 2 ص 507 ( طبع مصر ) ، والطبرسي في مجمعه ج 2 ص 468.
4- تفسير البرهان ج 1 ص 294.

لكن وجه التخصيص في تلك الروايات بالنبي الخاتم ، لأجل وقوعه آخر السلسلة وبه ختم باب وحي السماء إلى الأرض ، فكأنَّ الكلّ بعثوا للتبشير به والدعوة إلى الإيمان به ونصرته.

بشائر النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله في الكتب السماويّة

لا تجد إنساناً سالماً في نفسه وفكره يقبل دعاوي الآخرين بلا دليل يثبتها ، وهذا أمر بديهي فطري جُبِل الإنسان عليه ، يقول الشيخ الرئيس : « من قبل دعوى المدّعي بلا بيّنة وبرهان فقد خرج عن الفطرة الإسلامية » (1).

على هذا فيجب أن تقترن دعوى النبوّة بدليل يثبت صحّتها وإلاّ كانت دعوى فارغة غير قابلة للإذعان والقبول ، لكن طرق التعرّف على صدق الدعوى ثلاث :

1 - التحدّي بالأمر الخارق للعادة على الشرائط المقرّرة في محلّه ( الإعجاز ).

2 - تصديق النبيّ السابق بنبوّة النبيّ اللاحق.

3 - جمع القرائن والشواهد من حالات المدّعي ، والمؤمنين به ومنهجه والأداة التي استعان بها في نشر رسالته ، إلى غير ذلك من القرائن التي تفيد العلم بكيفيّة دعوى المدّعي صدقاً وكذباً.

وقد استدلّ القرآن على صدق النبي الخاتم بتنصيص أنبياء الاُمم على نبوّته ، وقد عرفت تنصيص المسيح عليه بالاسم والتبشير به (2) كما عرفت انّ سماته الواردة في العهدين كانت في الكثرة والوفور إلى درجة كانت الاُمم تعرفه على وجه دقيق كما تعرف أبناءها (3).

وقد صرّح القرآن بأنّ أهل الكتاب يجدون اسم النبي الأكرم ( صلى اللّه عليه وآله

ص: 19


1- نقله سيدنا الاُستاذ الإمام القائد الراحل في درسه ولم يذكر مصدره.
2- الصف / 6.
3- البقرة / 46.

وسلم ) مكتوباً في التوراة والإنجيل ، قال عزّ من قائل :

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ) ( الأعراف / 157 ).

وقد آمن كثير من اليهود والنصارى بنبوّة النبيّ الخاتم صلی اللّه علیه و آله في حياته ومماته لصراحة البشائر الواردة في التوراة والإنجيل ، بل لم يقتصر سبحانه على ذكر اسمه وسماته في العهدين ، بل ذكر سمات أصحابه وقال :

( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح / 29 ).

كما لم يقتصر على أخذ العهد من النبيين ببيان البشائر به ، بل أخذ الميثاق من أهل الكتاب على تبيين بشائره للناس وعدم كتمانها ، قال سبحانه :

( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) ( آل عمران / 187 ).

وهذه الآية تؤيّد ما استظهرناه من قوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ... وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ... ) وإنّ أخذ الميثاق لم يكن مختصّاً بالأنبياء ، بل أخذ سبحانه الميثاق من اُممهم بواسطتهم ، وممّا أخذ منهم الميثاق عليه هو تبيين سمات الرسول الخاتم صلی اللّه علیه و آله وعدم كتمانها.

وقد كان ظهور النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله بين الاُمّيين على وجه كان اليهود يستفتحون به على مشركي الأوس والخزرج ، وكانوا يقولون لمن ينابذهم : هذا نبيّ قد أطلّ زمانه ينصرنا عليكم ، قال سبحانه :

ص: 20

( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 89 ).

روى الطبرسي عن معاذ بن جبل ، وبشر بن البراء : إنّهما خاطبا معشر اليهود وقالا لهم : اتّقوا اللّه وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك ، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث ، فقال سلام بن مسلم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، ما هو بالذي كنّا نذكر لكم ، فنزلت هذه الآية (1).

وعن الإمام جعفر الصادق علیه السلام أنّه لما كثر الحيّان ( الأوس والخزرج ) بالمدينة ، كانوا يتناولون أموال اليهود ، فكانت اليهود تقول لهم : أمّا لو بعث محمد لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا ، فلمّا بعث اللّه محمداً صلی اللّه علیه و آله آمنت به الأنصار ، وكفرت به اليهود ، وهو قوله تعالى :

( وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) (2).

وبالرغم من أخذ الميثاق من الاُمم ، وبالرغم من تعرّف تلك الاُمم على النبي الخاتم ، عمد أصحاب الأهواء منهم إلى كتمان البشائر به ، واخفاء علائمه ، وسماته الواردة في كتبهم كما يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( البقرة / 174 ).

وقال سبحانه :

( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) ( البقرة / 159 ).

والمعنيّ بالآية نظراء كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وابن صوريا وغيرهم

ص: 21


1- مجمع البيان ج 1 ص 158.
2- تفسير العياشي ج 1 ص 50.

من علماء اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد صلی اللّه علیه و آله ونبوّته وهم يجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل مثبّتاً فيهما.

قال (1) العلاّمة الطباطبائي : المراد بالكتمان وهو الإخفاء أعمّ من كتمان أصل الآية وعدم إظهارها للناس ، أو كتمان دلالتها بالتأويل ، أو صرف الدلالة بالتوجيه كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوّة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه ، وما يعلم به الناس يؤوّلونه بصرفه عنه صلی اللّه علیه و آله (2).

وقال سبحانه :

( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) .

والضمير في « لتبيّننّه » إمّا عائد إلى النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله المفهوم من سياق الآية ، أو إلى الكتاب المذكور قلبه ، وعلى كل تقدير يدخل في الآية ، بيان أمر النبي لأنّه في الكتاب ، والظاهر أنّ الآية مطلقة تعمّ كل ما يكتمونه من بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات. النبي الأكرم ودعاء الخليل

أمر سبحانه إبراهيم الخليل بتعمير بيته ، وقد قام الخليل بما اُمر ، وبمساهمة فعليّة من ابنه « إسماعيل » وقد حكى سبحانه دعاءه عند قيامه بهذا العمل وقال :

( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ

ص: 22


1- مجمع البيان ج 1 ص 195.
2- الميزان ج 1 ص 394.

الحَكِيمُ ) ( البقرة / 127 - 129 ).

فقد دعا إبراهيم لذرّيته من نسل إسماعيل القاطنين في مكّة وحواليها ، ولم يبعث سبحانه من تتوفّر هذه الأوصاف الواردة في الآية من تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة والتزكية سوى النبي الأكرم محمد صلی اللّه علیه و آله .

والآية تدلّ على أنّ إبراهيم واسماعيل دعيا لنبيّنا بجميع شرائط النبوّة لأنّ تحت التلاوة الأداء ، وتحت التعليم البيان ، وتحت الحكمة السنّة ، ودعوا لاُمّته باللطف الذي لأجله تمسّكوا بكتابه وشرعه فصاروا أزكياء ، وبما أنّ المرافق والمشارك في الدعاء مع إبراهيم هو ابنه ، فيجب أن يكون النبي من نسل إبراهيم من طريق ابنه ، ولم يكن في ولد إسماعيل نبيّ غير نبيّنا صلی اللّه علیه و آله سيّد الأنبياء.

وقد استجاب اللّه سبحانه دعاء الخليل وابنه إذ بعث في ذرّيته رسولاً وقال :

( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( آل عمران / 164 ).

وقال تعالى : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة / 2 ).

ولقد نقَّب علماء الإسلام في العهدين ( التوراة والإنجيل ) وجمعوا البشارات الواردة فيهما على وجه التفصيل ، ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى الكتب المعدّة لذلك (1). ونحن نعرض عن نقل تلكم البشائر في هذه الصحائف لأنّ نقلها يوجب الاسهاب في الكلام والخروج عن وضع المقال.

ص: 23


1- مثل أنيس الأعلام في نصرة الإسلام لفخر الاسلام الشيخ محمد صادق ، في ستة أجزاء واظهار الحق تأليف الشيخ رحمة اللّه الهندي وهو كتاب ممتع ، والهدى إلى دين المصطفى تأليف الشيخ العلاّمة محمد جواد البلاغي ، وفي كتاب بشارات العهدين غنى وكفاية.

ص: 24

(2) ثقافة قومه وحضارة بيئته

اشارة

إنّ الإنسان مهما بلغ من الكمال لا يستطيع أن يجرّد نفسه وفكره ، ومنهجه الإصلاحي عن معطيات بيئته ، فهو يتأثّر عن لا شعور بثقافة قومه ، وحضارة موطنه ، ولكن إذا راجعنا تفكير إنسان وشخصيته فوجدناها منقطعة عن تأثيرات الظروف التي نشأ فيها ، ومباينة لمقتضياتها ، بل كانت على النقيض منها ، فتكشف أنّ لما جاء به من التشريع والتقنين ولما قدّمه إلى اُمّته من مبادئ الإصلاح خلفيّة سماويّة غير خاضعة لثقافة قومه ، وتقاليد قبيلته.

وهذا نجده في ما حمله رسول الإسلام إلى قومه والى البشرية جمعاء من عقائد واخلاق وتشريعات.

وللوقوف على هذه الحقيقة نقدّم عرضاً خاطفاً عن حياة العرب في عصره قبل ميلاده وبعده ، ومن المعلوم أنّ الإسهاب في ذلك يتوقّف على الغور في التاريخ والسيرة وهو خارج عن هدفنا ، بل نقدّم موجزاً ممّا يذكره القرآن عن حياتهم المنحطّة البعيدة عن الحضارة ، وستقف أيّها القارئ الكريم من خلال ذلك على أنّ الذي جاء به رسول الإسلام الكريم ، من عقائد وأخلاق وسنن ، تضاد مقتضيات ظروفه ، فهو بدل أن يؤكّد تفكير قومه وطقوس قبيلته وتقاليد وسطه الذي كان يعيش فيه ، بدأ يكافحها ويفنّدها بالإسلوب المنطقي.

لقد نشأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين قومه وقد كانوا منقطعين عن الأنبياء وبرامجهم حيث لم يبعث فيهم نبيّ ، قال سبحانه في هذا الصدد :

ص: 25

( وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( القصص / 46 ).

يقول تعالى :

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) ( السجدة / 3 ).

وقال سبحانه :

( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) ( يس / 6 ).

وهذه الآيات تعرب من أنّ اُمّ القرى وما حولها لم يبعث فيها أي بشير أو نذير ، والآيات تعني هذه المناطق والقاطنين فيها ، ولا تعني العرب البائدة التي بعث فيها أنبياء عظام كهود وصالح وشعيب ، ولا عامّة المناطق في الجزيرة العربيّة ولا عامّة القبائل من القحطانيين والعدنايين ، وقد كان فيهم بشير ونذير كخالدبن سنان العبسي وحنظلة على ما في بعض الروايات والأخبار.

ومن المعلوم أنّ الاُمّة البعيدة عن تعاليم السماء خصوصاً في العصور البعيدة التي كانت المواصلات فيها ضعيفة بين الاُمم ، وكانت عقلية البشر في غالب المناطق قاصرة عن تنظيم برنامج ناجح للحياة الإنسانية ، فحياتهم لا تتعدّى عن حياة الحيوانات بل الوحوش في الغابات ، ولا يكون لهم من الإنسانية شيء إلاّ صورتها ، ولا من الحضارة إلاّ رسمها.

وهذا هو القرآن يصفهم بأنّهم كانوا على شفا حفرة من النار ، ولم يكن بين سقوطهم واقتحافهم فيها إلاّ خطوات ودقائق بل لحظات لولا أنّ النبيّ الأكرم أنقذهم من النار ، قال تعالى :

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ) ( آل عمران / 103 ).

ص: 26

وقد تضمّن قوله سبحانه : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ ) استعارة بليغة حيث صوّر قوم النبيّ كالساقطين في قعر هوَّةِ سحيقة لا يقدورن على الخروج ، وفي يد النبيّ حبل ألقاه في قعر تلك الهوّة يدعوهم إلى التمسّك به حتّى يستنقذهم من الهلكة.

هذا ما يصف به القرآن الكريم بيئة النبيّ وعقلية عشيرته ، على الوجه الكلّي ، ولكنّه يصفهم في الآيات الأُخر بالإنحطاط والإنهيار بشكل مفصّل.

وإليك بيان ذلك في ضوء الآيات القرآنية.

1 - الشرك أو الدين السائد

كان الدين السائد في العرب في الجزيرة العربية عامّة ، ومنطقة أُمُ القرى خاصّة ، هو الشرك باللّه سبحانه ، فهم وإن كانوا موحّدين في مسألة الخالقيّة ، وكان شعارهم هو أنّ اللّه هو الخالق للسماوات والأرض ، ولكنّهم كانوا مشركين في المراحل الاُخرى للتوحيد.

أمّا كونهم موحّدين في مجال الخالقيّة فلقوله سبحانه : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) ( لقمان / 25 ) (1).

وأمّا كونهم مشركين في المراتب الاُخرى للتوحيد فيكفي في ذلك كونهم مشركين في أمر الربوبية ( تدبير العالم ) هو أنّ الوثنية دخلت مكّة وضواحيها ، بهذا اللون من الشرك ( الشرك في الربوبية ).

روى ابن هشام عن بعض أهل العلم أنّه قال : « كان عمرو بن لُحَي أوّل من أدخل الوثنية إلى مكّة ونواحيها ، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام اُناساً يعبدون الأوثان وعندما سألهم عمّا يفعلون ، قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها ، فتمطرنا ، ونستنصرها ، فتنصرنا ، فقال لهم : أفلا تعطونني منها فأسير بها إلى أرض

ص: 27


1- ولهذا المضمون آيات اُخر لاحظ العنكبوت / 61 ، الزمر / 38 ، والزخرف / 9 و 78.

العرب فيعبدوه ، فاستصحب معه إلى مكّة صنماً باسم « هبل » ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعى الناس إلى عبادتها » (1).

وأمّا الشرك في العبادة : فقد كان يعمّهم قاطبة إلاّ أُناساً لا يتجاوز عددهم عن عدد الأصابع ، فالأغلبيّة الساحقة كانوا يعبدون الأصنام مكان عبادته سبحانه زاعمين أنّ عبادتهم تقرّبهم إلى اللّه ، قال سبحانه :

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الزمر / 3 ).

والقرآن شدّد النكير على فكرة الشرك أكثر من كل شيء ، وفنّدها بأساليب علميّة وعقليّة ، ولقد صوّر واقع الشرك ووضع المشرك ببعض التشبيهات البليغة التي تقع في النفوس بأحسن الوجوه قال سبحانه :

( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ( العنكبوت / 41 ).

وقال تعالى :

( وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) ( الحجّ / 31 ).

فالمعتمد على الحجر ، والخشب الذي لا يبصر ، ولا يسمع ، ولا ينفع ، ولا يضرّ ، كالمعتمد على بيت العنكبوت الذي تخرقه قطرة ماء ، وتحرقه شعلة نار وتكسحه هبّة ريح.

2 - إنكار الحياة بعد الموت

الإعتقاد بالحياة بعد الموت هو الرصيد الكامل للتديّن ، وتطبيق العمل على الشريعة ، ولكن العرب كانت تنزعج من نداء الدعوة إلى الإيمان بها ، لأنّ الإيمان

ص: 28


1- السيرة النبويّة لابن هشام ج 1 ص 79.

بالحياة المستجدة ، يستدعي كبح جماح الشهوات ، ووضع السدود والعوائق دون المطامح والمطامع ، وأين هذا من نزعة الاُمّة المتطرّفة التي لا تهمّها إلاّ غرائزها الطاغية ورغباتها الجامحة.

وبما أنّ ذكر الموت والحياة بعده يلازمان الحساب والجزاء ، لهذا كان العرب يقابلون النبيّ بالسبّ والشتم واتّهامه بالجنون ، لأجل إنبائه عن أمر غير مقبول ، وحادث غير معقول ، قال سبحانه :

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ) ( سبأ / 7 - 8 )

3 - عقيدتهم في الملائكة والجنّ

ومن عقائدهم : إنّ الملائكة بنات اللّه سبحانه ، وفي الوقت نفسه كانوا يكرهون البنات لأنفسهم ، يقول سبحانه :

( أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا المَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ( الصافّات / 149 - 154 ).

والآية ترد عليهم وتفنّد عقيدتهم بوجوه :

1 - إنّ تصوير الملائكة بناتاً لله سبحانه يستلزم تفضيلهم عليه سبحانه - حسب عيقدتهم - لأنّهم يفضلّون البنين على البنات ، ويشمئزون منهنّ ، ويئدونهنّ ، فكيف تجعلون البنات لله وإليه أشار بقوله سبحانه :

( أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) ؟.

2 - إنّهم يقولون شيئاً لم يشاهدوه ، فمتى شاهدوا الأُنثويّة للملائكة ؟ وإليه

ص: 29

يشير بقوله : ( أَمْ خَلَقْنَا المَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ) ؟.

3 - إنّ توصيف الملائكة بناتاً لله يستدعي أنّه سبحانه ولدهنّ وهو منزّه عن الإيلاد والاستيلاد ، وإليه يشير قوله : ( لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) .

ثمّ إنّهم كانوا يتخيّلون وجود نسب بين اللّه والجنّ ، والوحي يحكي ذلك على وجه الإجمال قوله سبحانه :

( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) ( الصافات / 158 ).

وقد ذكر المفسّرون وجوهاً مختلفة لتبيين ذلك النسب أظهرها بالاعتبار أنّهم قالوا : صاهر اللّه الجنّ فوجدت الملائكة تعالى اللّه عن قولهم (1).

4 - سيادة الخرافات

إنّ الأمّة البعيدة عن تعاليم السماء ، وهداية الأنبياء يعيشون غالباً في خِضمِّ الخرافة ، ويستسلمون في مجال العقيدة إلى الأساطير والقصص الخرافية ، وكذلك كانت الأمّة العربية عصر نزول القرآن ، فقد كانت غارقة في الخرافات والأساطير ، وقد جمع « الآلوسي » تقاليدهم الإجتماعية ، وطقوسهم الدينيّة في كتابه « بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب » حيث يجد القارئ فيها تلاَّ من الأوهام والخرافات ، وقد ذكر القرآن الكريم نماذج من عقائدهم ، ونحن نشير إلى بعض ما وقفنا عليه في القرآن.

أ - كانت العرب في عصر حياة النبي قبل البعثة تحكم على بعض الأصناف من الأنعام بأحكام خاصّة تنشأ عن نيّة التكريم وقصد التحرير لها ، غير أنّ تلك الأحكام كانت تؤدِّي إلى الإضرار بالحيوان ، وتلفه وموته عن جوع وعطش ، وقد حكى سبحانه تلك الأحكام عنهم وقال : ( مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ

ص: 30


1- مجمع البيان ج 4 ص 46.

الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ( المائدة / 103 ).

والآية تعرب من أنّهم كانوا ينسبون أحكامهم في هذه الحيوانات والأنعام الأربعة إلى اللّه سبحانه ، ولأجل ذلك وصف سبحانه تلك النسبة بالإفتراء عليه ، وثلاثة منها أعني « البحيرة » و « السائبة » و « الحامي » من الإبل ، والوصيلة من الشاة ، وقد اختلف المفسّرون في تفسير هذه الكلمات ، ولكن الجميع يشتركون في أنّ الأحكام المترتبة عليها كانت مبنية على تحريرها والعطف عليها ، ونحن نذكر تفسيراً واحداً لهذه الكلمات ، ومن أراد التبسّط والتوسّع فليرجع إلى كتب التفسير.

1 - البحيرة : هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، وكان آخرها ذكراً ، شقُّوا اُذنها شقّاً واسعاً وامتنعوا من ركوبها ونحرها ، ولا تطرد عن ماء ، ولا تمنع عن مرعى ، فإذا لقيها المعيي لم يركبها.

2 - السائبة : وهي ما كانوا يسيبونه من الإبل ، فإذا نذر الرجل للقدوم من السفر أو للبرء من علّة أو ما أشبه ذلك ، قال : ناقتي سائبة ، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها ، ولا تطرد عن ماء ولا تمنع عن مرعى.

3 - الحامي : وهو الذكر من الإبل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن ، قالوا : قد حمى ظهره ، فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.

4 - الوصيلة : وهي في الغنم ، كانت الشاة إذا ولدت اُنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم ، فإن ولدت ذكراً واُنثى ، قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم (1).

وقد أشار القرآن إلى أنّ الدافع لإتّباع هذه الأحكام حتّى بعد نزول الوحي هو تقليد الآباء ، وقد أشار إليه بقوله : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ

ص: 31


1- مجمع البيان ج 2 ص 352 ، ولم نذكر سائر التفاسير لاشتراك الجميع في أنّ الأحكام كانت مبتنية على تسريحها واظهار العطف لها.

قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( المائدة / 4 ).

ثمّ إنّ هذه الأحكام وإن كانت لغاية تسريحها وإظهار العطف عليها لكنّها كانت تؤدّي بالمآل إلى موتها وهلاكها عن جوع وعطش ، لأنّ تسريحها في البوادي والصحاري من دون حماية راع ولا رائد كان ينقلب إلى هلاكها.

ب - إنّ القرآن الكريم يحكي عن العرب المعاصرين لنزول الوحي خرافة أُخرى في مجال الأطعمة إذ قال سبحانه :

( وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ( الأنعام / 136 ).

والآية تحكي من أنّ المشركين كانوا يخرجون من الزرع والمواشي نصيباً لله ونصيباً للأوثان ، فما كان للأصنام لا يصل إلى اللّه ، وما كان لله فهو يصل إلى الأصنام.

وقد إختلف المفسّرون في كيفيّة هذا التقسيم الجائر فنذكر تفسيراً واحداً.

قالوا : إنّهم كانوا يزرعون لله زرعاً ، وللأصنام زرعاً ، وكان إذا زكى الزرع الذي زرعوه لله ، ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام ، جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه إليها ، ويقولون : إنّ اللّه غني ، والأصنام أحوج ، وان زكى الزرع الذي جعلوه للأصنام ، ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله ، لم يجعلوا منه شيئاً لله ، وقالوا : هو غنيّ ، وكانوا يقسّمون النعم فيجعلون بعضه لله ، وبعضه للأصنام ، فما كان لله أطعموه الضيفان ، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم (1).

ج - ومن تقاليدهم : إنّه إذا ولدت الأنعام حيّاً يجعلونه للذكور ويحرمون النساء منه ، واذا ما ولد ميّتاً أشركوا النساء والرجال ، وإليه يشير قوله سبحانه :

ص: 32


1- مجمع البيان ج 2 ص 370.

( وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ( الأنعام / 139 ).

وعلى ضوء الآية فأجنّة البحائر والسيب كانت مختصّة بالرجال إذا ولدت حيّة ، واذا ولدت ميّتةً أكله الرجال والنساء ، فما وجه هذا التقسيم غير التفكير الخرافي ؟

د - كانوا يقسّمون الأنعام إلى طوائف ، فطائفة يجعلونها لآلهتهم واوثانهم ، وطائفة يحرّمون الركوب عليها ، وهي السائبة والبحيرة والحامي ، وطائفة لا يذكرون اسم اللّه عليها.

كل ذلك تقاليد باطلة ردّها الوحي الإلهي بقوله : ( وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) ( المائدة / 138 ).

والحجر بمعنى الحرام وهو ما خصّوه بآلهتهم ولا يطعمونه إلاّ من شاؤوا.

هذا بعض ما وقفنا عليه من تقاليد العرب الخرافية الباطلة قبل الإسلام وحين ظهوره ممّا جاء ذكره في القرآن الكريم.

* * *

5 - ثقافة قومه

يصف القرآن الكريم قوم النبي صلی اللّه علیه و آله بل القاطنين في اُمّ القرى ومن حولها بالاُمّية ويقول :

( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) ( الجمعة / 2 ).

وقال : ( ... لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا

ص: 33

فَقَدِ اهْتَدَوا ... ) ( آل عمران / 20 ).

وقد بلغت الاُمّيّة عند العرب إلى حد اشتهروا بذلك حتّى وصفهم أهل الكتاب بها كما يحكي عنه سبحانه بقوله :

( ... وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) ( آل عمران / 75 ).

والاُمّيّون جمع الاُمّي وهو المنسوب إلى الاُم ، قال الزجّاج : الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب ، قال عليه الصلاة والسلام : إنّا اُمّة اُمّيّة لا نكتب ولا نحسب (1).

فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون والنبي صلی اللّه علیه و آله كان كذلك ، فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّيّاً (2).

وقال البيضاوي : الاُمّي من لا يكتب ولا يقرأ.

قال ابن فارس : الاُمّي في اللّغة ، المنسوب إلى ما عليه جبلّة الناس لا يكتب فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه (3).

والزمخشري يفسّر قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) ( البقرة / 78 ). بأنّهم لا يحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة ويتحقّقوا ما فيها.

هذا هو معنى الاُمّي وقد أصفقت عليه أئمّة اللّغة في جميع الأعصار إلى أن جاء الدكتور عبد اللطيف الهندي فزعم للاُمّي معان اُخرى لا توافق ما اتّفقت عليه أئمّة اللّغة ، وسنذكر اراءه الساقطة في معنى « الأُمّي » عند البحث عن أوصاف النبي ، ومنها أنّه « اُمّي » فانتظر.

ص: 34


1- ايعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه ج 1 ص 327 عن النبي أنّه قال : إنّا اُمّة ...
2- مفاتيح الغيب ج 4 ص 309.
3- مقاييس اللغة ج 1 ص 218.

والعرب في اُمّ القرى وما حولها كانت اُمّيّة لا تقرأ ولا تكتب ، وقد نشأ النبيّ بينهم ، ويؤيّد ذلكَ ما ذكره الإمام البلاذري في « فتوح البلدان » حيث أتى بأسماء الذين كانوا عارفين بالقراءة والكتابة فما تجاوز عن سبعة عشر رجلاً في مكّة ، وعن أحد عشر نفراً في يثرب (1).

وعلى ضوء ذلك فالسائد على تلك المنطقة كانت هي الاُمّيّة المطلقة إلاّ من شذّ.

نعم ، ما ذكرنا من سيادة الاُمّيّة على العرب لا ينافي وجود الحضارة في عرب اليمن حيث كانوا على أحسن ما يكون من المدنيّة ، فقد بنوا القصور المشهورة ، وشيّدوا الحصون ، وكانت لهم مدن عظيمة ، قال في كتابه الكريم :

( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) ( سبأ / 15 ).

وكان لهم ملوك واقيال دوّخوا البلاد ، واستولوا على كثير من أقطار الأرض ، ولكن تلك الحضارة زالت وبادت بسيل العرم ، قال سبحانه :

( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ) ( سبأ / 16 و 17 ).

وأمّا بنو عدنان ومن جاورهم من عرب اليمن فقد اختلّ أمرهم وتغيّر حالهم بعد أن فرّقهم حادث سيل العرم ، فمن ذلك اليوم فشى الجهل بينهم ، وقلّ العلم فيهم ، واضاعوا صنائعهم وتشتّتوا في الأطراف والأكناف ، ووقع التنازع والتشاجر بين القبائل ، وتكاثرت البغضاء بينهم ، فلم يبق عندهم علم منزل ، ولا شريعة موروثة من نبي ، ولا العلوم كالحساب والطب ، وانحصر عملهم بما سمحت قرائحهم من الشعر والخطب ، أو ما حفظوه من أنسابهم وايامهم ، أو ما احتاجوا

ص: 35


1- فتوح البلدان ص 457.

إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم وصنع آلات الحرب وغير ذلك (1).

فالمثقّف عندهم من جادت قريحته بالشعر ، أو قدر على إلقاء الخطب والوصايا ارتجالاً ، أو من عرف أنساب الناس ، أو عرف أخبار الاُمم وبالأخص أيام العرب.

نعم كان عند بعض العرب علم الفراسة والكهانة والعرافة ، ويراد من الأوّل من يستدل بهيئة الإنسان واشكاله والوانه واقواله على أخلاقه وسجاياه وفضائله ورذائله ، ولعلّه إليه يشير قوله سبحانه :

( تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ) ( البقرة / 273 ).

( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) ( محمد / 30 ).

ويراد من الثاني من يتنبّأ بما سيقع من الحوادث في الأرض.

والعرّافة هو قسم من الكهانة ، لكنّها تختصّ بالاُمور الماضية وكأنّه يستدل ببعض الحوادث الغابرة على الحوادث القادمة.

هذا هو عرض خاطف عن ثقافة قوم النبي عصر نزول القرآن أتينا به ليكون دليلاً واضحاً على انقطاع شريعة النبي عن تعاليم بيئته وتقاليدها.

والقرآن الكريم يصف ذلك العصر في غير واحد من الآيات بالجاهليّة ، يقول سبحانه : ( أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) ( المائدة / 50 ).

ويقول سبحانه : ( يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران / 154 ).

ويقول سبحانه : ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ) ( الأحزاب / 33 ).

ويقول تعالى : ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ ) ( الفتح / 26 ).

ص: 36


1- بلوغ الارب ج 3 ص 80 - 81 ، ومن أراد أن يقف على ثقافة العرب عامّة ، قحطانيهم وعدنانيهم ، فليرجع إلى ذلك الكتاب.

وأغلب المفسّرين يفسّرون الجاهليّة بفساد العقيدة في جانب الدين فقط ، ولكنّه تخصيص بلا جهة ، فكان القوم يفقدون العلم الناجع كما يفقدون الدين الصحيح.

6 - الإنهيار الخلقي

طبيعة العيش في الصحراء تفرض على الإنسان نزاهة خاصّة في الخلق ، تصون نفسه عن الإنهيار الخلقي ، ولأجل ذلك نرى أنّ الفساد في المناطق المتحضّرة أكثر منها في البدو وسكّان الصحاري.

وقد كان من المترقّب من سكنة أُمّ القرى وما حولها النزاهة عن المجون والفساد ، غير أنّ في الآيات القرآنية أخباراً عن شيوع الفساد الخلقي بينهم.

فهذا القرآن الكريم يركّز على النهي عن الفحشاء ظاهره وباطنه ، والفحشاء وإن فسّر بما عظم قبحه من الأفعال والأقوال الذميمة ولكنها منصرفة إلى الزنا وكناية عنها ، قال سبحانه :

( إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ) ( النساء / 19 ).

وقال سبحانه : ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ ) ( النساء / 15 ).

وقال سبحانه : ( وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ) ( الطلاق / 1 ).

وكل هذا يعرف عن شيوع هذا العمل الشنيع المنكر بينهم.

فإنّنا نرى أنّ اللّه سبحانه ينهي عن إتخاذ الخدن ويقول :

( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ... ) ( النساء / 25 ).

ويقرب منها قوله في سورة المائدة ، الآية 5.

و « الأخدان » جمع « خدن » وهو يطلق على الصاحب والصاحبة بأن يكون

ص: 37

للمرأة صاحب أو خليل يزني بها سرّاً ، وهكذا في جانب الرجل ، فالخدن يطلق على الذكر والأُنثى ، وكان الزنا في الجاهلية على قسمين : سرّ وعلانية ، عامّ وخاصّ.

فالخاص السري هو أن يكون للمرأة خدن يزني بها سرّاً ، ولا تبذل نفسها لكلّ أحد.

والعام الجهري هو المراد بالسفاح كما قال ابن عبّاس وهو البغاء.

وكان البغاء من الإماء وكنّ ينصبن الرايات الحمر لتعرف منازلهن وبيوتهن.

روى ابن عبّاس : إنّ أهل الجاهلية كانوا يحرّمون ما ظهر من الزنا ، ويقولون : إنّه لوم ، ويستحلّون ما خفي ويقولون : لا بأس به ، ولتحريم القسمين يشير قوله سبحانه :

( وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) ( الأنعام / 151 ) (1).

وممّا يعرب عن رسوخ الإنحلال الخلقي فيهم ما نقله « تميم بن جراشة » وهو ثقفي ، قال قدمت على النبي صلی اللّه علیه و آله في وفد ثقيف ، فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط ، فقال : اكتبوا ما بدا لكم ، ثمّ ائتوني به ، فسألناه في كتابه أن يحلّ لنا الربا والزنا ، فأبى عليّ رضی اللّه عنه أن يكتب لنا ، فسألناه خالد بن سعيد بن العاص ، فقال له عليّ : تدري ما تكتب ؟ قال : اكتب ما قالوا ورسول اللّه أولى بأمره ، فذهبنا بالكتاب إلى رسول اللّه ، فقال للقارئ إقرأ ، فلمّا انتهى إلى الربا ، فقال : ضع يدي عليها في الكتاب ، فوضع يده ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ... ) ( البقرة / 278 ). ثمّ محاها ، وألقيت عليها السكينة فما راجعناه ، فلمّا بلغ الزنا ، وضع يده عليها ، وقال :

ص: 38


1- المنار ج 5 ص 22 ، وزاد في المصدر قوله : وهذان النوعان معروفان الآن في بلاد الافرنج والبلاد التي تقلّد الافرنج في شرور مدنيّتهم كمصر ووالاستانة وبعض بلاد الهند ، ويسمّي المصريون الخدن الرفيق ، ومن هؤلاء الافرنج والمتفرنجون من هم كأهل الجاهلية يستحسنون الزنا السرّي ، ويستقبحون الجهري.

( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) ( الاسراء / 32 ).

ثمّ محاها وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا (1).

وممّا يدل على الإنحلال الخلقي في أمر النساء قوله سبحانه :

( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ... ) ( النور / 33 ).

فالآية تعرب عن الإنهيار الخلقي الذي كان يعاني منه بعضهم حتّى بعد هجرة النبي صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة ، وقد رووا : إنّ عبد اللّه بن أُبي كان له ستّ جوارٍ كان يكرههنّ على الكسب عن طريق الزنا ، فلمّا نزل تحريم الزنا ، أتين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فشكين إليه ، فنزلت الآية (2).

7 - معاقرة الخمور وإرتياد نواديها

كان الاستهتار بمعاقرة الخمور رائجاً بين العرب منذ زمن بعيد ، وقد بلغ شغفهم بها حتّى أنّهم جعلوها أحد الأطيبين مع أنّ النبي الأكرم كان قد حرّم الخمر حتّى قبل هجرته إلى المدينة ، ولكنّه لم يتحقّق ما أمر به إلاّ بعد مضي سنوات من هجرته ، ونزول آيات مختلفة الاُسلوب متنوّعة البيان وإليك بيان هذا التدرّج :

1 - قال سبحانه : ( وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ( النحل / 67 ) والآية مكّيّة نزلت في ظروف قاسية لا تتحمّل إنذاراً أكثر وأشد من هذا ، ولهذا اكتفى فيه بعد اتّخاذ السكر ضد الرزق الحسن.

ص: 39


1- اُسد الغابة ج 1 ص 216 ترجمة تميم بن جراشة.
2- مجمع البيان ج 4 ص 141.

2 - قال سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) ( البقرة / 219 ).

فالآية تشير إلى أنّه لو كان هناك لذّة وطرب لشارب الخمر ، أو مال للاعب الميسر حيث يفوز به من غير كدّ ولا مشقّة ، ولكن إثمهما أكبر من نفعهما.

فلأجل ذلك يجب ترك النفع القليل في مقابل الضرر الكبير ، والآية مدنيّة كافية في التحريم ، وذلك لأنّها تصرّح بوجود الإثم في الخمر والميسر ، وقد حرّم الوحي الإلهي الإثم على وجه القطع واليقين قبل هجرة النبي ، قال سبحانه :

( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ ) ( الأعراف / 33 ).

وأي بيان أوضح لتحريم الخمر إذا قرنت الآيتان : الواحدة إلى الأُخرى ؟ فالآية الأُولى تحقّق الصغرى وهو أنّ الخمر إثم ، والآية الثانية تصرّح بالكبرى ، وهي أنّ اللّه سبحانه حرّم الإثم ، فيستنتج منهما أنّه سبحانه حرّم الخمر.

والعجب انّ القوم ( مع أَنَّ الآية الثانية التي تحرّم الإثم على وجه الحتم والبت نزلت بمكّة ) ، لم يتنزّهوا من هذا العمل المزيل للعقل ، والمضاد للكرامة الإنسانية ، فكانوا يشربون الخمر في نواديهم حتّى وافاهم الوحي الإلهي بتحريم الصلاة وهم في حال السكر ، إذ قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) ( النساء / 43 ).

وهذه الآيات الثلاث التي تعرّفت عليها تلقّاها بعض الصحابة بأنّها ليست بياناً وافياً ، فظلّ يترصّد البيان الأوفى حتّى وافى الوحي الإلهي ، وقال سبحانه : ( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) ؟ ( المائدة / 90 و 91 ).

ص: 40

ولمّا أخبر النبي عن نزول الوحي وتلا الآيتين إرتفعت أصواتهم بقولهم : اتنهينا ، اتنهينا.

وكلّ هذا يعرف عن رسوخ هذه العادة الشنيعة وهذا العمل القبيح في المجتمع العربي آنذاك إلى درجة انّ النبي صلی اللّه علیه و آله لم يستطع - تحت ضغط الظروف - أن يقطع مادة الفساد منذ هبوطه أرض المدينة دفعة واحدة ، بل تدرّج في تحقيق التحريم ، وترسيخه في أذهانهم ونفوسهم.

رووا أصحاب السنن والمسانيد أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال عمر : اللّهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية التي في البقرة : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ) قال فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللّهمّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية التي في سورة النساء : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ) فكان منادي الرسول صلی اللّه علیه و آله إذا اُقيمت الصلاة ينادي ألا يقربنّ الصلاة سكران ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللّهمّ بيّن لنا بياناً شافياً ، فنزلت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .

قال عمر : اتنهينا ، اتنهينا (1).

ويظهر ممّا رواه ابن هشام عن بعض أهل العلم : انّ نهي الرسول عن الخمر كان مشهوراً عندما كان مقيماً بمكّة بين ظهراني قريش ، وخرج الأعشى إلى رسول اللّه يريد الإسلام ومعه قصيدته المعروفة في مدح النبي التي مستهلّها :

الم تغتمض عينك ليلة أرمدا *** وبتّ كما بات السليم مسهّدا

وما ذاك من عشق النساء وإنّما *** تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا

ص: 41


1- سنن أبي داود ج 2 ص 128 ، مسند أحمد ج 1 ص 153 ، سنن النسائي ج 8 ص 187 ، مستدرك الحاكم ج 2 ص 278 ، إلى غير ذلك من المصادر.

إلى أن قال :

فإيّاك والميتات لاتقربنها *** لا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا

و لاتقربنَّ حرّة كان سرها *** عليك حراماً فانكحن أو تأبّدا (1)

فلمّا كان بمكّة أو قريباً منها إعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنّه يريد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للسلم فقال له : يا أبا بصير إنّه حرّم الزنا ، فقال الأعشى : واللّه إنّ ذلك لأمر ما لي فيه من ارب ، فقال له يا أبا بصير :

فإنّه يحرّم الخمر ، فقال الأعشى :

أمّا هذه فو اللّه إنّ في النفس منها لعلالات ، ولكنّي منصرف فاتروى منها عامي هذا ، ثم آتيه فاُسلم ، فانصرف فمات في عامه هذا ، ولم يعد إلى رسول اللّه (2).

وببالي انّه جاء في بعض المصادر أنّه قيل له : إنّه يحرّم الأطيبين والمراد بهما الخمر والزنا ، وقد عرفت أنّه مع ما رأى من نور النبوّة ودخل عليه من بصيص الإيمان لم يتحمّل ترك الخمر ، فعاد ليتروّى منها ، ليعود بعد عام إلى المدينة ، ولكن وافاه الأجل قبل أن يسلم.

وهذا مَثل آخر يعرب عن ترسّخ هذه العادة القبيحة في ذلك المجتمع.

8 - وأد البنات

أوّل من لطّخ يده بدم البنات البريئات هم العرب الجاهليّون ، فقد كانوا يئدون بناتهم لأعذار مختلفة واهية ، فتارة يتذرّعون بخشية الإملاق ، والاُخرى يتجنّون بحجّة

ص: 42


1- الأرمد : الذي يشتكي عينيه من الرمد ، والسليم : الملدوغ ، والمسهّد : الذي منع من النوم ، والمهدد - على وزن معلل - : اسم امرأة ، وتأبّد : أي تعزّب وابتعد عن النساء.
2- السيرة النبوية ج 1 ص 386.

الاجتناب عن العار ، وقد حكى سبحانه عقيدة العرب في بناتهم ووأدهنّ في آيات نذكر ما يلي :

( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ( النحل / 58 و 59 ).

والآية تصوّر احساس القوم وإنفعالهم عندما كان أحدهم يبشّر بولادة أُنثى له ، فكان يتجهّم وجهه ويتغيّر إلى السواد ، ويظهر فيه أثر الحزن والكراهة ، والقوم يكرهون الاُنثى مع أنّهم جعلوها لله سبحانه (1) ، ثمّ لم يزل الحزن يتزايد فيمتلئ الشخص غيظاً ، وعند ذلك يستخفي من القوم الذي يستخبرونه عمّا ولد له ، إستنكافاً منه ، وخجلاً ممّا بشّر به من الاُنثى ، ثمّ هو ينكر في أمر البنت المولودة له أيحفظها على ذل وهوان ، أم يخفيها في التراب ، ويدفنها حيّة وهذا هو الوأد ( أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي في قتل البنات البريئات المظلومات.

ثمّ إنّه سبحانه يحارب بشدّة هذا العمل الإجرامي في بعض الآيات ويقول :

( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) ( الإسراء / 31 ).

فاللّه سبحانه هو المتكفّل برزقهم ورزق أولادهم وقتلهم خطأ عظيم عند اللّه.

وقال سبحانه : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ( الأنعام / 151 )

ويؤكّد القرآن على تحريم قتل هذه البنات المظلومات بأنّ المؤودة سيسأل منها يوم القيامة ، قال سبحانه : ( وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ) ( التكوير / 8 ).

ص: 43


1- إشارة إلى قوله سبحانه : ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ) ( النجم / 21 و 22 ).

وقد ذكر أصحاب السير بعض الدوافع التي دفعت العرب إلى اتّخاذ مثل هذا الموقف الظالم بشأن تلك البريئات لا يسع المجال لنقلها ، ولكن يظهر ممّا نقله صعصعة بن ناجية - جد الفرزدق - : إنّ ذلك العمل الإجرامي كان شائعاً ورائجاً في غير واحدة من القبائل آنذاك ، وإليك البيان :

إنّ صعصعة بن ناجية بن عقال كان يفدّي المؤودة من القتل ، ولمّا أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : يا رسول اللّه إنّي كنت أعمل عملاً في الجاهلية ، أفينبغي ذلك اليوم ؟ قال : وما عملك ؟ فقال : إنّه حضر ولادة امرأة من العرب بنتاً ، فأراد أبوها أن يئدها ، قال فقلت له : أتبيعها ؟ قال : وهل تبيع العرب أولادها ؟ قال : قلت إنّما أشتري حياتها ولا أشتري رقّها ، فاشتريتها منه بناقتين عشراوين وجمل ، وقد صارت لي سُنَّة في العرب على أن أشتري ما يئدونه بذلك فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا مؤودة وقد أنقذتها.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لك أجره إذ منّ اللّه عليك بالإسلام (1).

وقد ذكر الفرزدق احياء جدّه للمؤودات في كثير من شعره كما قال :

ومنّا الذي منع الوائدات *** وأحيى الوئيد فلم يؤدد (2)

ويعرب عن شيوع هذه العادة الوحشيّة والمروّعة قوله سبحانه :

( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) ( الأنعام / 137 ).

وكذا قوله : ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ( الأنعام / 140 ).

ص: 44


1- بلوغ الارب ج 3 ص 44.
2- المصدر نفسه.

9 - أكل الخبائث من الدماء والحشرات

كانت العرب تأكل لحوم الأنعام وغيرها من الحيوانات كالفأر والضب الوزغ ، وتأكل من الأنعام ما قتلته بذبح ونحوه ، وتأكل الميتة بجميع أقسامها أعني المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردّية والنطيحة ، وما أكل السبع ، وكانوا يملؤون الأمعاء من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف ، وكانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال وشربوا ما يسيل منها من الدماء.

هذا ورغم أنّه مضى على ظهور التشريع الإسلامي إلى الآن أربعة عشر قرناً كثيراً من الاُمم غير المسلمة تأكل أصناف الحيوانات حتّى الكلب والهر ، بل والديدان والأصداف ، وقد إتّخذ الإسلام بين هذا وذاك طريقاً وسطاً ، فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من بني الإنسان ، فحلّل من البهائم الضأن والمعز والبقر والإبل ، وكرّه أكل لحوم الفرس والحمار ، وحلّل من الطيور غير ذات الجوارح ممّا له حوصلة ودفيف ولا مخلب له ، كما حلّل من لحوم البحر بعض أنواع السمك ، واشترط في كل واحد من هذه اللحوم نوعاً من التذكية.

والإمعان في الآية التالية يقودنا إلى أنّ العرب كانت تفقد نظام التغذية ، أو كانت تتغذّى من كلّ ما وقعت عليه يدها من اللحوم ، كما أنّها كانت تفقد الطريقة الصحيحة لذبح الحيوان ، فكانوا يقتلونه بالتعذيب بدل ذبحه ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) ( المائدة / 3 ).

فقد كانوا ينتفعون من الميتة والدم ولحم الخنزير والمذبوح باسم الأصنام والأوثان.

كما كانوا يستفيدون من « المنخنقة » وهي التي تدخل رأسها بين شعبتين من

ص: 45

شجرة فتختنق فتموت أو تخنق بحبل الصائد ، « والموقوذة » وهي التي تضرب حتّى تموت ، « والمترديّة » وهي التي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر ، « والنطيحة » وهي التي ينطحها غيرها فتموت.

10 - التقسيم بالأزلام

كان التقسيم بالأزلام ميسّراً رائجاً بينهم ، وكان لهذا العمل صبغة الدين ، وقد إختلفوا في تفسيره على قولين :

1 - قالوا : المراد طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفائلون بها في أسفارهم ، وابتداء أُمورهم ، وهي سهام كانت في الجاهليّة مكتوب على بعضها : « أمرني ربّي » ، وعلى بعضها « نهاني ربّي » ، وبعضها غفل لم يكتب عليه شيء ، فإذا أرادوا سفراً أو أمراً يهتمّون به ، ضربوا على تلك القداح ، فإن خرج السهم الذي عليه « أمرني ربّي » ، مضى الرجل في حاجته ، وإن خرج الذي عليه « نهاني ربّي » لم يمض ، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعاد.

2 - روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين كيفيّة التقسيم بالأزلام بشكل آخر ، فقال :

إنّ الأزلام عشرة ، سبعة لها انصباء وثلاثة لا انصباء لها ، فالتي لها انصباء : الفذ ، التوأم ، المسبل ، النافس ، الحلس ، الرقيب ، المعلى. فالفذ له سهم ، والتوأم له سهمان ، والمسبل له ثلاثة أسهم ، والنافس له أربعة أسهم ، والحلس له خمسة أسهم ، والرقيب له ستّة أسهم ، والمعلى له سبعة أسهم.

والتي لا انصباء لها : السفيح والمنيح والوغد.

وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّئونه أجزاء ، ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام ، ويدفعونه إلى رجل ، وثمن الجزور على من تخرج له « التي لا انصباء لها »

ص: 46

وهو القمار ، فحرّمه اللّه تعالى (1).

والتفسير الثاني أنسب لكون البحث في الآية عن اللحوم المحرّمة.

11 - النسيء في الأشهر الحرم

لقد شاع في الألسن انّ العرب لمّا كانوا أصحاب غارات وحروب وكان استمرار الحروب والغارات مانعاً عن إدارة شؤون المعاش ، عمدوا إلى تحريم القتال والحرب في الأشهر الأربعة المعروفة بالأشهر الحرم أعني : « رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرّم ».

والظاهر من بعض الآيات أنّ التحريم هذا كان مستنداً إلى تشريع سماوي ، كما هو المستفاد من قول اللّه تعالى :

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) ( التوبة / 36 ).

فإنّ قوله ( ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) إشارة إلى أنّه جزء من الدّين القيّم لا من طقوس العرب الجاهلي ، ولعلّه كان سنّة من سنن النبي إبراهيم ورثتها عنه العرب.

وعلى كلّ تقدير فقد كان العرب يتدخّلون في هذا التشريع الإلهي فيؤخّرون الحرمة من الشهر الحرام إلى بعض الأشهر غير المحرّمة.

وبعبارة اُخرى كانوا يؤخّرون الحرمة ، ولا يبطلونها برفعها من أساسها واصلها حفاظاً على السنّة الموروثة عن أسلافهم عن النبي إبراهيم علیه السلام .

فمثلاً كانوا يؤخّرون تحريم محرّم إلى صفر ، فيحرّمون الحرب في صفر

ص: 47


1- مجمع البيان ج 2 ص 158 وما أشبه التقسيم بالأزلام بالعمل المعروف في عصرنا ب « اليانصيب الوطني ».

ويستحلّونها في محرّم فيمكثون على ذلك زماناً ثمّ يزول التحريم عن صفر ويعود إلى محرّم ، وهذا هو المعنى بالنسيء ( أي التأخير ).

وكان الدافع وراء هذا النسيء هو انّهم أصحاب حروب وغارات ، فكان يشقّ عليهم أن يمتنعوا عن القتال ثلاثة أشهر متوالية وهي : ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم ، ولا يغزون فيها ، ولهذا كانوا يؤخّرون تحريم الحرب في محرّم إلى شهر صفر ، قال سبحانه :

( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( التوبة / 37 ).

روى أهل السير أنّه صلی اللّه علیه و آله قال في خطبة حجّة الوداع :

« ألا وانّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ، ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب مضربين جمادى وشعبان » (1).

والحديث يعرب عن شكل آخر للنسيء غير ما ذكرناه فإنّ ما ذكرناه كان مختصاً بتأخير حكم الحرب من محرّم إلى صفر ، ولكن النسيء المستفاد من الحديث على وجه آخر وهو انّ المشركين كانوا يحجّون في كل شهر عامين فحجّوا في ذي الحجة عامين ، وحجّوا في محرّم عامين ، ثمّ حجوا في صفر عامين ، وكذا في بقيّة الشهور اللاحقة حتّى إذا وافقت الحجّ التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة ثمّ حجّ النبي صلی اللّه علیه و آله في العام القادم حجّة الوداع ، فوافقت في ذي الحجة ، فعند ذلك قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « ألا انّ الزمان قد استدار كهيئته ».

ص: 48


1- مجمع البيان ج 3 ص 22.

12 - الربا ذلك الاستغلال الجائر

كان العرب الجاهليّون يرون البيع والربا متماثلين ، ويقولون : « إنّما البيع مثل الربا » فيضفون الشرعيّة على الربا كإضفائها على البيع ، ولكن شتّان ما بين البيع والربا ، فإنّ الثاني ينشر القسوة والخسارة ، ويورث البغض والعداوة ، ويفسد الأمن والاستقرار ، ويهيء النفوس للانتقام بأية وسيلة ممكنة ويدعو إلى الفرقة والاختلاف سواء كان الربا مأخوذاً من قبل الفرد أو مأخوذ من جانب الدولة.

وفي الثاني من المفاسد ما لا يخفى إذ أدنى ما يترتّب عليه تكديس الثروة العامّة ، وتراكمها في جانب ، وتفشّي الفقر والحرمان في الجانب الآخر ، وظهور الهوّة السحيقة بين المعسرين والموسيرين بما لا يسدّه شيء.

ولسنا هنا بصدد بيان هذه المفاسد والمساوئ ، لكن الهدف هو الإشارة إلى أنّ الربا كان من دعائم الاقتصاد الجاهلي ، والقرآن نزل يوبّخ العرب على ذلك بوجه لا مثيل له ، ويقول سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة / 278 و 279 ).

ويقول سبحانه : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ( البقرة / 275 ).

والآية تشبّه آكل الربا بالممسوس المجنون ، فكما أنّه لأجل اختلال قوّته المميّزة لا يفرّق بين الحسن والقبح ، والنافع والضار ، والخير والشر ، فهكذا حال المرابي عند أخذ الربا ، فلأجل ذلك عاد لا يفرّق بين الربا والبيع ، ويقول : ( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) مع أنّ الذي تدعو إليه الفطرة وتقوم عليه الحياة الإجتماعية للإنسان ، هو أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه ، بما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه.

ص: 49

وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه ، مع زيادة فهذا شيء يخالف قضاء الفطرة وأساس المعيشة ، فإنّ ذلك يؤدِّي من جانب المرابي إلى إختلاس مال المدين ، وتجمّعه عند المرابي وهذا المال لا يزال ينمو ويزيد ، ولا ينمو إلاّ من مال الغير ، فهو في الانتقاص والانفصال من جانب ، وفي الزيادة والانضمام من جانب آخر ، ونتيجة ذلك هو ظهور الاختلاف الطبقي الهائل الذي يؤول إلى انقسام المجتمع إلى طبقتين : طبقة ثريّة تملك كل شيء ، وطبقة فقيرة تفقد كل شيء ، والأُولى تعاني من البطنة ، والثانية تتضرر من السغب.

خاتمة المطاف

اشارة

ونختم البحث بما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره من أنّه قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس - وهما من الخزرج - وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهوراً طويلة ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث ، وكانت الأوس على الخزرج ، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس ، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعُتبة بن ربيعة ، فنزل عليه فقال له : إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة : بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء.

قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟

قال له عتبة : خرج فينا رجل يدّعي أنّه « رسول اللّه » سفَّه أحلامَنا وسبَّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرّق جماعتنا.

فقال له أسعد : من هو منكم ؟

قال : ابن عبد اللّه بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم : النضير وقريظة وقينقاع : انّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة يكون مهجره المدينة لنقتلنّكم به يا معشر العرب.

ص: 50

فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود.

فقال : فأين هو ؟ قال : جالس في الحجر وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ في الموسم فلا تسمع منه ولا تكلَّمه فإنّه ساحر يسحرك بكلامه ، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد : فكيف أصنع وأنا معتمر ؟ لابدّ أن أطوف بالبيت ، فقال له : ضع في أُذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد وقد حشّى اُذنيه من القطن ، فطاف بالبيت ورسوله اللّه صلی اللّه علیه و آله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم فنظر إليه فجأة.

فلمّا كان الشوط الثاني قال في نفسه : ما أجد أجهل منّي أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أعرفه حتّى أرجع إلى قومي فأخبرهم ، ثمّ أخذ القطن من اُذنيه ورمى به ، وقال لرسول اللّه : « أنعم صباحاً » فرفع رسول اللّه رأسه إليه وقال : قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا ، تحيّة أهل الجنّة : السلام عليكم.

فقال أسعد : إنّ عهدي بهذا لقريب ، إلى ما تدعو يا محمّد ؟

فقال صلی اللّه علیه و آله : إلى شهادة اَن لاَ إلَه إلاّ اللّه وإنّي رسولُ اللّه وأدعوكم :

1 - أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.

2 - وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.

3 - وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.

4 - وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

5 - وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.

6 - وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.

7 - وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالمِيزَانَ بِالْقِسْطِ.

ص: 51

8 - لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا.

9 - وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى.

10 - وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( الأنعام / 151 و 152 ).

فلمّا سمع أسعد هذا قال : أشهد أنْ لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له وإنّك رسول اللّه ، يا رسول اللّه بأبي أنت وأُمّي ، أنا من أهل يثرب من الخزرج ، بيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها اللّه بك ، فلا أحد أعزّ منك ، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن ينعم اللّه لنا أمرنا فيه ، واللّه يا رسول اللّه لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك ، كانوا يبشّروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك ، وعندنا مقامك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، واللّه ما جئت إلاّ لنطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا اللّه بأفضل ممّا أتيت له ... (1).

إنّ هذا النص التاريخي يدفعنا إلى القول بأنّ رئيس الخزرج كان قد وقف على داء قومه العيّاء ، ودوائه الناجع ، وإنّ قومه لن يسعدوا أبداً بالتحالف مع هذا وذاك وشن الغارات وإن انتصروا على الأوس ، وإنّما يسعدون إذا رجعوا إلى مكارم الأخلاق ، وتحلّوا بفضائلها التي جاءت أُصولها في هاتين الآيتين اللتين تلاهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حجر إسماعيل.

عرف وافد الخزرج على أنّ مجتمع يثرب ومن والاه قد أشرفوا على الدمار والإنهيار ، لأجل أنّهم غارقين في غمرات الشرك ، ووأد البنات ، واقتراف الفواحش ، وقتل النفس المحترمة ، وأكل مال اليتيم ، وبخس الأموال عند الكيل والتوزين ، وترك العدل والقسط في القول والعمل ، ونقض عهود اللّه إلى غير ذلك من الأعمال السيئة فلا يصلحهم إلاّ إذا خرجوا عن شراك هذه المهالك والموبقات.

ص: 52


1- أعلام الورى بأعلام الهدى ، ص 57 ، وللقصة ذيل جدير بالمطالعة وقد أخذنا منها موضع الحاجة.

فخرج إلى يثرب ومعه مبعوث من قبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعني « مُصعبَ بن عُمير » فبشّر أهل يثرب بما عرف من الحقّ ، وصار ذلك تمهيداً لقدوم الرسول الأكرم إلى بلده ، بعد ما بعثوا وفوداً إلى مكّة ليتعرّفوا على رسول اللّه ويبايعوه على ما هو مذكور في السيرة والتاريخ.

فنقول : كان هذا هو موطن النبي ودار ولادته وهذه هي ثقافة قومه وحضارة بيئته ، وهذه صفاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ، وهذه هي علومهم ومعارفهم ، حروبهم وغاراتهم ، عطفهم وحنانهم ، كل ذلك يعرب عن إنحطاط حضاري ، وإنحلال خلقي ، كاد أن يؤدي بهم إلى الهلاك والدمار لو لا أن شاء اللّه حياتهم الجديدة وميلادهم الحديث.

وأين هذا ممّا جاء به القرآن الكريم والسنّة النبويّة من الدعوة إلى التوحيد ، ورفض الأصنام والأوثان ، وحرمة النفوس ، والأعراض والأموال ، والدعوة إلى العلم ، والقراءة والكتابة ، والحث على العدل والقسط في القول والعمل ، والتجنّب عن الدعارة والفحشاء ، ومعاقرة الخمر والميسر ، فلو دلّ ذلك على شيء فإنّما يدل على أنّ ما جاء به من الأُصول لا يمتّ إلى بيئته بصلة.

هذا ما في الذكر الحكيم حول الوضع الإجتماعي والثقافي والعقائدي والعسكري للعرب في العصر الجاهلي وما كانوا عليه من حيرة وضلال ، وسقوط وانهيار ، فهلمّ معي ندرس وضع العرب الجاهلي عن طريق آخر وهو الإمعان في كلمات الإمام أمير المؤمنين عليّ علیه السلام الذي عاين الوضع الجاهلي بأُمّ عينيه ، فقد قام الإمام في خطبه ورسائله وقصار كلماته ببيان أحوال العرب قبل البعثة ، وما كان يسودهم من الوضع المؤسف ، وبما أنّ الإمام هو الصادق المصدّق ، نقتطف من كلامه في مجال الخطب والرسائل والكلم القصار ما يمتّ إلى الموضوع بصلة ، وفي ذلك غنى وكفاية لمن أراد الحقّ :

ص: 53

أ - الفوضويّة العقائديّة

1 - « وَأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقةٌ ، وَأهْواءٌ مُنتَشِرَةٌ ، وَطَرائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ للهِ بِخَلْقِهِ ، اَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ اَوْ مُشِيرٍ إلَى غَيْرِهِ ، فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَاَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الجَهَالَةِ » (1).

2 - « بَعَثَهُ والنَّاسُ ضُلاَّلٌ فِي حَيْرَةٍ ، وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ ، واسْتَزَلَّتْهُمُ الكِبْرِيَاءُ ، واسْتَخَفَّتْهُمُ الجَاهِلِيَّةُ الجَهْلاَءُ ، حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ ، وَبَلاَء مِنَ الجَهْلِ فَبَالَغَ صلی اللّه علیه و آله فِي النَّصِيْحَةِ ومضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ وَدَعَا اِلَى الحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ » (2).

3 - « والنَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَزَمَ فِيْهَا حَبْلُ الدِّينِ ، وتزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ ، وتشَتَّتَ الأَمْرُ ، وَضَاقَ المَخْرَجُ ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ ، فَالهُدَى خَامِلٌ ، وَالعَمَى شَامِلٌ ، عُصِيَ الرَّحْمنُ ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ ، وَخُذِلَ الاِيمَانُ ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ ، وتنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ ، وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ. اَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ ، بِهِمْ سَارَتْ اَعْلاَمُهُ ، وقامَ لِوَاؤُهُ. فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِاَخْفَافِهَا ، وَوَطِئَتْهُمْ بِاَظْلاَفِهَا ، وقامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا ، فَهُمْ فِيْهَا تَائِهُونَ ، حَائِرُونَ ، جَاهِلُونَ ، مَفْتُونُونَ ، في خَيْرِ دَارٍ وَشَرِّ جِيْرَانٍ ، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ ، بِاَرْض عَالِمِهَا مُلْجَمٌ ، وَجَاهِلُهَا مُكْرَمٌ » (3).

4 - « واشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورسُولُهُ ، ابْتَعَثَهُ والنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ ، وَيَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ ، قَدْ قَادَتْهُمْ اَزِمَّةُ الحَيْنِ ، واسْتَغْلَقَتْ عَلَى اَفْئِدَتِهِمْ اَقْفَالُ الرَّيْنِ » (4).

ص: 54


1- نهج البلاغة ، الخطبة 1.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 95.
3- نهج البلاغة ، الخطبة 2.
4- نهج البلاغة ، الخطبة 191.

5 - « ثُمَّ اِنَّ اللّه سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلی اللّه علیه و آله بِالحَقِّ حِيْنَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الاِنْقِطَاعُ ، واقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الإِطِّلاعُ ، واظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ اِشْرَاقٍ ، وقَامَتْ بِاَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ ، وَخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ ، وازِفَ مِنْهَا قِيادٌ ، فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا ، وَاقْتِرَاب مِنْ اَشْرَاطِهَا ، وتصَرُّم مِنْ اَهْلِهَا ، وانْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا ، وانْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا ، وَعَفَاءٍ مِنْ اَعْلاَمِهَا ، وتكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا ، وقِصَرٍ مِنْ طُولِهَا ، جَعَلَهُ اللّهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ ، وَكَرَامَةً لاُِمَّتِهِ ، وربِيعاً لاَِهْلِ زَمَانِهِ ، ورفْعَةً لاَِعْوَانِهِ ، وَشَرَفاً لاَِنْصَارِهِ » (1).

ب - الوضع الإجتماعي في العصر الجاهلي

6 - « اَرْسَلَهُ عَلَى حِيْنِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَطُوْلِ هَجْعَةٍ مِنَ الاُمَمِ ، واعْتِزَام مِنَ الفِتَنَ وانْتِشَارٍ مِنَ الاُمُورِ ، وتلَظٍّ مِنَ الحُرُوبِ ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ، ظَاهِرَةُ الغُرُورِ ، عَلَى حِيْنِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا ، وايَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا ، واغْوِرَاءٍ مِنْ مَائِهَا ، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الهُدَى ، وَظَهَرَتْ اَعْلاَمُ الرَّدَى ، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لاَِهْلِهَا ، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهِا ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ ، وَطَعَامُهَا الجِيْفَةُ ، وَشِعَارُهَا الخَوْفُ ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ ، فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللّهِ وَاذْكُرُوا تِيْكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ واخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ » (2).

ج - المستوى الثقافي لأهل الجاهلية

7 - « وَلاَتَكُونُوا كَجُفَاةِ الجَاهِلِيَّةِ ، لاَ فِي الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ ، وَلاَ عَنِ اللّه يَعْقِلُونَ ، كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي اَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً ويخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً » (3).

ص: 55


1- نهج البلاغة ، الخطبة 198.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 89.
3- نهج البلاغة ، الخطبة 166.

8 - « اَمَّا بَعْدُ فَاِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلی اللّه علیه و آله وَلَيْسَ اَحَدٌ مِنَ العَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً ، وَلاَيَدَّعِي نُبُوَّةً ، وَلاَ وَحْياً » (1).

د - سيادة الوثنية

9 - « فَبَعَثَ اللّه مُحَمَّداً صلی اللّه علیه و آله بِالحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ اِلَى عِبَادَتِهِ ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ اِلَى طَاعَتِهِ بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَاَحْكَمَهُ » (2).

10 - « بَعَثَهُ حِينَ لاَعَلَمٌ قَائِمٌ ، وَلاَ مَنَارٌ سَاطِعٌ ، وَلاَ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ » (3).

ه - العصبية الجاهليّة

11 - « اَضَاءَتْ بِهِ البِلاَدُ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ المُظْلِمَةِ ، والجَهَالَةِ الغَالِبَةِ ، وَالجَفْوَةِ الجَافِيَةِ ، وَالنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الحَرِيمَ وَيسْتَدِلُّونَ الحَكِيمَ ، وَيحْيَونَ عَلَى فَتْرَةٍ ، وَيَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَة » (4).

و - مأكلهم ومشربهم

12 - « اِنَّ اللّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلی اللّه علیه و آله نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ ، وَاَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ ، وَاَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَفِي شَرِّ دَارٍ ، مُنْيِخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ ، وَحَيَّاتٍ صُمٍّ ، تَشْرَبُونَ الكَدِرَ ، وَتأْكُلُونَ الجَشِبَ وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ،

ص: 56


1- نهج البلاغة ، الخطبة 104 و 33.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 147.
3- نهج البلاغة ، الخطبة 196.
4- نهج البلاغة ، الخطبة 151.

وَتَقْطَعُونَ اَرْحَامَكُمْ ، الاَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ ، والآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ » (1).

ز - مكانة المرأة في الجاهلية

13 - كلامه في المرأة الجاهلية مخاطباً عسكره قبل لقاء العدوّ بصفّين : « وَلاَ تَهِيْجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً وَاِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ ، وَسَبَبْنَ اُمَرَاءَكُمْ ، فَاِنَّهُنَ ضَعِيفَاتُ القُوَى والاَنْفُسِ والعُقُولِ ، اِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وَاِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ المَرْأَةَ فِي الجَاهِلِيَّةِ بِالفَهْرِ ، أَوِ الهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ » (2).

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )

ص: 57


1- نهج البلاغة ، الخطبة 26.
2- نهج البلاغة ، الكتاب رقم 14 من وصيّته له علیه السلام .

ص: 58

(3) ميلاد النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله أو تبلّج النور في الظلام الحالك

اشارة

إنّ التعرّف على حياة النبي يتوقّف على دراسة مراحل ثلاث تشكّل فصول عمره المبارك وهي :

1 - من ولادته إلى بعثته.

2 - من بعثته إلى هجرته.

3 - من هجرته إلى رحلته.

إنّ أصحاب السير والتواريخ درسوا الفصول الثلاثة على ضوء الروايات والأحاديث التي تلقّوها عن الصحابة والتابعين ، ونحن ندرسها على ضوء القرآن الكريم ، فنقول :

اتّفق المؤرخون على أنّ النبي الأكرم ولد عام الفيل ، وهي السنة الّتي عمد أبرهة إلى تدمير الكعبة وهدمها ولكنّه باء بالفشل وهلك هو وجنوده بأبابيل ، كما يحكي عنه قوله سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ) ( الفيل / 1 - 5 ).

ومن أراد الوقوف على تفصيل القصّة فعليه المراجعة إلى كتب السيرة والتفسير والتاريخ.

ص: 59

ويظهر ممّا أخرجه مسلم أنّ هذا اليوم يوم مبارك ، قال : إنّ أعربياً قال : يا رسول اللّه ما تقول في صوم يوم الإثنين ؟ فقال : ذلك يوم ولدت فيه ، واُنزل عليّ فيه (1).

لم يذكر القرآن ما يرجع إلى المرحلة الاُولى من حياته إلاّ شيئاً قليلاً نشير إليها إجمالاً :

1 - عاش يتيماً فآواه سبحانه.

2 - كان ضالاًّ فهداه.

3 - كان عائلاً فأغناه.

4 - كما ذكر أسماءه في غير واحد من السور.

5 - جاءت البشارة باسمه « أحمد » في الإنجيل.

6 - كان أُمّياً لم يدرس ولم يقرأ ولم يكتب.

7 - كان قبل البعثة مؤمناً موحّداً عابداً لله فقط.

فإليك البحث عن هذه الاُمور واحد بعد آخر :

1 - الإيواء بعد اليُتمْ

ولد النبيّ الأكرم من والدين كريمين فوالده عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم.

واتّفقت الإماميّة والزيديّة وجملة من محقّقي السنّة على أنّه كان موحّداً مؤمناً.

ويستدل من صفاته المحمودة ، وفضائله المرموقة ، والأشعار المأثورة ، على

ص: 60


1- مسند أحمد ، ج 5 ص 297 - 299 ، والسنن الكبرى للبيهقي ج 4 ص 293 ، وصحيح مسلم - كتاب الصيام باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ج 1 ص 97.

أنّه كان على خط التوحيد وعلى دين آبائه ، نقل المؤرّخون : إنّ عبد اللّه بن عبد المطلب أقبل من الشام في عِيرٍ لقريش فنزل بالمدينة وهو مريض ، فأقام بها حتّى توفّي ودفن في دار النابغة في الدار الصغرى إذا دخلت الدار عن يسارك ، وليس بين أصحابنا فيه اختلاف (1).

وقد مات رضی اللّه عنه والنبي جنين في بطن أُمّه.

وأمّا والدته فهي « آمنة بنت وهب » خرجت مع النبي وهو ابن خمس أو ستّ سنين ونزلت بالمدينة تزور أخوال جدّه ، وهم بنو عدي بن النجار ، ومعها أُمُّ أيمن فأقامت عندهم ، ولمّا خافت على ولدها من اليهود خرجت من المدينة ، فلمّا وصلت إلى الإبواء توفّيت ودفنت فيها (2).

وبذلك ولد النبي يتيماً وعاش يتيماً وإليه يشير قوله سبحانه ويقول :

( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ) ؟ ( الضحى / 6 ).

ولعلّ الحكمة في تولّده ونشوئه يتيماً أحد الأُمور التالية أو جميعها :

أ - إنّ هذا الطفل سيلقى عليه في مستقبل حياته قولاً ثقيلاً كما يقول سبحانه :

( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) ( المزمّل / 5 ).

وأيّ قول أثقل من هداية الأُمّة الأُمّيّة إلى معالم السعادة ، ولا يقوم بهذا العبء الثقيل إلاّ الأمثل فالأمثل من الشخصيات التي ملأ روحها الصمود والثبات ، ولا تحصل تلك الحالة إلاّ بعد تذوّق مرارة الدهور ومآسي الأيّام حتّى يقع في بوتقة الأحداث ويخرج مؤهّلاً لحمل عبء الرسالة وهداية النّاس ، وقد صار كزبر الحديد ، عركته المحن ، وحنَّكته التجارب.

ب - ولد يتيماً ونشأ يتيماً حتّى يقف على الوضع المأساوي السائد على الأيتام

ص: 61


1- تاريخ الطبري ج 1 ص 8.
2- الاتحاف للبشراوي ص 144 ، سيرة زيني دحلان ، بهامش السيرة الحلبية ج 1 ص 57.

في عامّة الأجيال ، ولأجل ذلك يترتّب على قوله : ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ) قوله : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) .

ج - ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام : « إنّ اللّه عزّ وجلّ أيْتَمَ نَبِيَّه لِئَلاّ يكون لأحدٍ عَلَيْهَ طَاعَة » (1).

وروي عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه قال : « لئلاّ يجب عليه حق لمخلوق » (2).

2 - الهداية بعد الضلالة

نعم ربّما يفسّر اليتيم في الآية الكريمة بالوحيد كما يقال الدرّة اليتيمة ولكنّه لا يناسب قوله : ( فَآوَى ) كما أنّه لا يناسب مع ما رتّب عليه من عدم قهر اليتيم.

الضلالة ضد الهداية فماذا يراد من الضلالة في الآية ؟

هل يراد أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان في فترة من عمره مضطرب العقائد ، منحرف السلوك ، ولم يكن على طريق واضح مطمئن ثم هداه اللّه بالأمر الذي أوحى به إليه ؟ أو أنّ المراد من الضلالة ، وهو الضلالة الذاتية التي تعمّ كُلّ الموجودات الحيّة من النبات والحيوان والإنسان ، لولا هداية اللّه تبارك وتعالى التي اُشير إليها في قوله سبحانه :

( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ( طه / 50 ). وقال : ( وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) ( الأعلى / 3 ).

والنبات بما هو موجود ممكن ، ضالّ لا يهدي إلى طريق إلاّ بهداية اللّه تبارك وتعالى ، وكذلك الحشرات والحيوانات ، فالنحل بوحي منه سبحانه يسلك سبيل الكمال ، كما أنّ الحيوان بهداية منه سبحانه يقف على طريق الحياة ، والإنسان بما

ص: 62


1- علل الشرايع ج 1 ص 131.
2- عيون أخبار الرضا ص 210.

أنّه ممكن ضالّ فاقد للهداية ، وإنّما يعرف طرق السعادة بهداية منه سبحانه ، وعلى ذلك فالآية تشير إلى الضلالة الذاتية التي هي من لوزام وجود الإنسان الممكن ولا يمكن تحديد ذلك بوقت دون وقت ، بل الإنسان منذ أن خرج من بطن أُمّه يُولَد ضالاًّ ، واللّه سبحانه في الآية المتقدّمة يشير إلى ذاك النوع من الضلالة.

ويؤيّده أنّ مدار البحث في الآيات ما يرجع إلى أيّام طفوليته وصباه فتفسيرها بالضلالة بمعنى الحيرة في العقيدة ، وضلال الشعاب التي تتبلور في أيام الشباب وما بعده بعيد عن سياق الآيات ويخالف ما هو المعلوم من حال النبي انّه كان موحّداً مؤمناً منذ طفولته إلى شبابه إلى أن أوحى اللّه إليه سبحانه.

إنّ الضلالة تطلق على معنيين يجمعهما فقد الهداية :

الأول : هيئة نفسانيّة تحيط بالقلب فيكفر باللّه سبحانه ، وآياته ، وبيّناته ، وأنبيائه ، ورسله ، أو ببعض منها ، فالضلالة في الكفّار والمنافقين من هذا القسم ، فهم منحرفون في التصوّرات والعقائد ، منحرفون في السلوك والأوضاع.

الثاني : فقد الهداية مع كونه لائقاً بها غير أنّه يكون باب الهداية مسدوداً في وجهه كما هو الحال في الأطفال والأحداث فهؤلاء في أوان حياتهم يفقدون الهداية لولا أنّ اللّه سبحانه يريهم الطريق من طرق الفطرة وهداية العقل ثمّ الشرع.

فالنبي كان ضالاًّ بهذا المعنى أي كان يفقد الهداية الذاتية وإنّما هداه اللّه سبحانه منذ أن تعلّقت مشيئته بهدايته ، وربّما يذكر مبدأها الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في بعض كلماته وقال : « ولقد قرن اللّه من لدن إن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ليلاً ونهاراً » (1).

فوزان قوله تعالى : ( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ) وزان قوله سبحانه : ( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) وقوله : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

ص: 63


1- نهج البلاغة الخطبة 117 ( طبع عبده ).

الصَّالِحَاتِ ) ( العصر / 2 و 3 ).

فليس الخسران في الآية أمراً وجوديّاً مثل الخسران الموجود في الكافر والمنافق فإنّ الخسران فيهما ينقلب إلى أمر وجودي وهيئة ظلمانيّة في النفس والروح ، بل المراد هو عدم الهداية الذاتية لغرض إنّ كلّ إنسان ممكن ، وكلّ ممكن غير واجد لشيء من صميم ذاته ، وإنّما يجد ما يجد من جانبه سبحانه.

نعم ، لو عاش وصار شابّاً وكهلاً وأنكر آيات اللّه ، ودلائل وجوده ، وأنبيائه ، ورسله ، فعند ذلك يتبدّل الخسران بمعنى فقد الهداية إلى هيئة ظلمانيّة تحدق بالقلب وتظلمه. فالضلالة بالمعنى الأوّل تقارن وجود الإنسان منذ أن يفتح عينه على الحياة ، وبالمعنى الثاني تكون مكتسبة.

فتحصل من هذا البحث : انّ الآية لاتمت بحيرة العقيدة ، وضلال الشعاب في فترة من العمر حتّى يستدل بها عليه كونه كافراً قبل البعثة أو في برهة من حياته ، ويحقّق هذا المعنى ويثبّته بوضوح انّ السورة بموضوعها وتعبيرها تعكس لمسة من حنان ، ونسمة من رحمة ، وطائف من ودّ ، وكلّها تسلية وترويج وتطمين للنبي ، وانّه سبحانه قام بأمر حياته وهدايته من أوان يتمه وفقده لأبيه ، وهذا يجر إلى القول بأنّه ناظر إلى الهداية أوان الحياة بعد طروء اليتم عليه ، وعندئذ فالضلالة تعتبر أمراً عدميّاً لا أمراً وجوديّاً.

3 - الإغناء بعد العيلولة

يذكر سبحانه من مننه الكبرى على النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله انّه كان فقيراً فأغناه اللّه تعالى بالكسب.

روى ابن هشام : كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إيّاه بشيء تجعله لهم ، فكانت قريش قوماً تجّاراً فلمّا بلغها عن رسول اللّه ما بلغها من صدق حديثه ، وعظم أمانته ، وكرم أخلاقه بعثت

ص: 64

إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجّار مع غلام لها يقال له « ميسرة » ، فقبله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منها وخرج في مالها ذلك ، وخرج معها غلامها « ميسرة » حتّى قدم الشام ، ثمّ باع رسول اللّه سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري (1).

ويظهر ممّا رواه أبو الحسن البكري في كتاب الأنوار ، انّ عمّه أبا طالب هو الذي أرشده إلى هذا الأمر وأنّه قال لابن أخيه : إنّ هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها أكثر النّاس ، وهي تعطي مالها سائر من يسألها التجارة ويسافرون ، فهل لك يا ابن أخي أن تمضي معي إليها ، ونسألها أن تعطيك مالاً تتّجر فيه ؟ فقال : نعم (2).

وقد صرّح أبو طالب في خطبته خديجة لابن أخيه بأنّه عائل مُقلّ ، فقال : هذا محمّد بن عبد اللّه لا يوازن برجل من قريش إلاّ رجّح عليه ، ولا يقاس بأحد منهم إلاّ عظم عنه ، وإن كان في المال مقلاًّ ، فانّ المال ورق حائل ، وظلّ زائل (3) ، وهذا يعرب وقت الإغناء ، وانّه تحقّق بعد الاتّجار بمال خديجة.

فهذه الآيات الثلاث تعرب عن الودّ ، والحبّ ، والرحمة والإيناس التي عمّ النبي في أوان حياته والكل ظاهر من خلال الآيات الثلاث :

( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى )

4 - تسميته بمحمّد وأحمد

اشارة

إنّ القرآن الكريم يتفنّن في توصيف النبي وذكره بل في تسميته والإيماء إليه.

فتارة يشير إليه بإحدى الصفات العامّة الشاملة لكل إنسان كما في قوله

ص: 65


1- السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 199.
2- بحار الأنوار ج 16 ص 22.
3- المصدر نفسه ص 6 نقلاً من مناقب ابن شهر آشوب ج 1 ص 26.

سبحانه : ( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) ( النجم / 10 ).

وفي إضافة العبد إلى نفسه إلماع إلى تكريمه وتقرّبه منه.

وأُخرى يخاطبه بالألقاب الخاصّة بأنبيائه ورسله فيقول : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) أو ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ) .

وثالثة يخصّه بإسميه اللّذين يدعى بهما في الإسلام أعني « محمداً » و « أحمد ».

أمّا الأول فقد جاء في مواضع أربعة من القرآن :

1 - ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ( الأحزاب / 40 ).

2 - ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) ( آل عمران / 144 ).

3 - ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) ( محمد / 2 ).

4 - ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) ( الفتح / 29 ).

وأمّا الثاني فقد جاء في موضع واحد حيث يقول سبحانه :

( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ( الصف / 6 ).

وليس الرسول بدعاً من بين الرسل في كونه ذا اسمين ، فقد سبقه في ذلك ثلّة من الأنبياء كيوشع بن نون وهو ذو الكفل في القرآن ، ويعقوب بن إسحاق وهو إسرائيل ، ويونس وهو ذو النون في القرآن ، وعيسى وهو المسيح.

ويظهر من الروايات المتضافرة انّ اسمهُ في السماء أحمد ، فقد جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ممّا سألوه انّه لم سمّيت محمداً

ص: 66

وأحمد و ... ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : أمّا محمّد فإنّي محمود في الأرض ، وأمّا أحمد فإنّي محمود في السماء (1).

والمراد من السماء عالم الوحي ويؤيّده ما دلّت عليه آية الصف من تبشير المسيح بمعنى نبيّ اسمه أحمد.

« أحمد » من أسمائه صلی اللّه علیه و آله

لا ريب في أنّ أحمد أحد أسمائه المعروفة ولا يتردّد في تسميته به من له تتبّع في سيرته وتاريخ حياته ، وهذا أبو طالب شيخ الأباطح يذكره في أشعاره بهذا الإسم.

قال أبو طالب :

أَلا إنّ خير الناس نفساً ووالداً *** إذا عدّ سادات البريّة أحمد (2)

وقال ابن هشام : ولمّا خشى أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه ، قال قصيدته التي تعوّذ فيها بحرم مكّة وبمكانه منها ، وتودّد أشراف قومه ، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من أنّه غير مسلّم رسول اللّه ولا تاركه بشيء أبداً حتّى يهلك دونه ، ومن تلك القصيدة قوله :

لعمري لقد كلّفت وجداً بأحمد *** وأحببته حبّ الحبيب المواصل

فلا زال في الدّنيا جمالاً لأهلها *** وزيناً لمن والاه ربّ المشاكل

فأصبح فينا أحمد في أرومة *** تقصّر عنها سورة المتطاول

وقال « حسان بن ثابت » شاعر عهد الرسالة في رثاء النبي صلی اللّه علیه و آله :

ص: 67


1- علل الشرايع ص 53.
2- ديوان أبي طالب ص 13.

مفجعة قد سفّها فقد أحمد *** فظلّت لآلاء الرسول تعدد

أطالت وقوفاً تذرف العين جحده *** على طلل القبر الذي فيه أحمد (1)

إلى غير ذلك من القصائد التي طفحت باسمه صلی اللّه علیه و آله « أحمد » وقد أوعزنا إلى جملة منها في « مفاهيم القرآن » (2).

5 - تبشير المسيح بالنبي باسم « أحمد »

اشارة

أخبر القرآن الكريم بأنّ المسيح يوم بعث إلى بني إسرائيل بشّر بالنبي الخاتم باسمه أحمد وقال :

( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... )

ثمّ إنّ رجال الكنائس أمام هذه البشارة على قولين :

تارة يقولون : إنّ المسيح بشّر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد وهذا لا ينطبق على نبي الإسلام ، فإنّ اسمه محمّد بنص القران واتّفاق المسلمين.

وأُخرى ينكرون أصل وجود البشارة في الأناجيل ، وإنّه لم يرد أيّ تبشير بهذا.

والوجه الأوّل من السقوط والردائة بمرحلة لا يستحقّ الجواب ، فقد عرفت أنّ القرآن كما أسماه محمّداً سمّاه أحمد ، وايضاً كما عرفت انّ الرسول صلی اللّه علیه و آله يدعى منذ نعومة أظفاره بكلا الاسمين وقد أطراه الشعراء وفي مقدّمتهم عمّه البارّ في قصائدهم واسموه بأحمد (3).

والمهم هو القول الثاني ، ولكن إنكاره لجاج وعناد ، وهنا نذكر مورداً واحداً :

ص: 68


1- السيرة النبويّة ج 1 ص 272.
2- السيرة النبوية ج 2 ص 667 و 669.
3- مفاهيم القرآن ج 3 ص 550 - 556.

قد وردت هذه البشارة في أبواب إنجيل يوحنّا ونحن ننقلها عن التراجم العربية المطبوعة عام 1821 م وسنة 1831 م وسنة 1844 م في مدينة « لندن » فالباب الرابع عشر من إنجيل يوحنّا يتضمّن العبارات التالية :

1 - « إنْ كُنْتُم تُحِبُّونِي فَاحفَظُوا وَصَايَاي » (15).

2 - « واَنَا اَطْلبُ مِنَ الأبِ فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معُكمْ إلى الأبد » (16).

3 - « روح الحَقّ الَّذي لَنْ يطيق العالم أن يقبله لأنّه ليس يراه ولا يعرفه وأنتم تعرفونه لأنّه مقيم عندكم وهو ثابت فيكم » (17).

4 - « والفارقليط ، روح القدس ، الذي يرسله الأب بإسمي هو يعلّمكم كل شيء وهو يذكّركم كلّما قلته لكم » (26).

5 - « والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون » (30).

وفي الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنّا هكذا :

1 - « إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب ، روح الحقّ الذي من الأب ينبثق هو يشهد لأجلي » (26).

2 - « وأنتم تشهدون لأنّكم معي من الإبتداء » (27).

وفي الباب السادس عشر من انجيل يوحنّا جاءت العبارات التالية :

1 - « لكنّي أقول لكم الحق انّه خير لكم أن أنطلق لأنّي إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأمّا إن انطلقت أرسلته إليكم » (7).

2 - « فاذا جاء ذلك فهو يوبّخ العالم على خطيّة وعلى برّ وعلى حكم » (8).

3 - « أمّا على الخطية فلأنّهم لم يؤمنوا بي » (9).

4 - « وامّا على البر فلانّي منطلق إلى الأب ولستم تروني بعد » (10).

ص: 69

5 - « وأمّا على الحكم فإنّ اركون (1) هذا العالم قددين » (11).

6 - « وانّ لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنّكم لستم تطيقون حمله الآن » (12).

7 - « واذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلّمكم جميع الحق لأنّه ليس ينطق من عنده بل يتكلّم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي » (13).

8 - « وهو يمجّدني لأنّه يأخذ ممّا هو لي ويخبركم » (14).

9 - « جميع ما هو للأب فهو لي فمن أجل هذا قلت إنّ ممّا هو لي يأخذ ويخبركم » (15).

قبل تبيين الإستدلال على دلالة هذه الجمل على البشارة بأحمد ، نقدّم ذكر أمرين.

1 - أجمع المؤرّخون على أنّ الأناجيل الثلاثة غير « متّي » كتبت من أوّل يومها باللّغة اليونانيّة ، وأمّا إنجيل متّي فكان عبرياً من أوّل إنشائه ، وعلى هذا فالمسيح بشّر بما بشر - في إنجيل يوحنّا - باللّغة العبرية ، وإنّما نقله إلى اليونانيّة كاتب الإنجيل الرابع يوحنّا وكان عليه التحفّظ على اللفظ الذي تكلّم به المسيح في مورد المبشّر به ، لأنّ القاعدة الصحيحة عدم تغيير الاعلام والإتيان بنصّها الأصلي لاترجمة معناه ، ولكن « يوحنّا » لم يراجع هذا الأصل وترجمه إلى اليونانيّة ، فضاع لفظه الأصلي الذي تكلّم به المسيح وبقيت ترجمته ، فاللفظ العبراني الذي قاله عيسى علیه السلام مفقود ، واللفظ اليوناني الموجود ترجمة.

وفي غبّ ذلك حصل الإختلاف في المراد منه ، ثمّ مترجموا العربية عرّبوا اللّفظ اليوناني ب « فارقليط ».

وأمّا اللفظ اليوناني الذي وضعه الكاتب يوحنّا مكان اللفظ العبري ، فهو مردّد بين كونه « باراكلي طوس » الذي هو بمعنى المُعزّي والمسلِّي والمعين والوكيل ، أو « بيركلوطوس » الذي هو بمعنى المحمود الذي يرادف أحمد ، ولأجل تقارب

ص: 70


1- وفي الترجمة المطبوعة في بيروت « رئيس هذا العالم ».

الكلمتين في الكتابة ، والتلفّظ ، والسماع ، حصل التردّد في المبشّر به ، ومفسّروا إنجيل يوحنّا يصرّون على الأوّل ، وادعوا أنّ المراد منه هو روح القدس وانّه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقد المسيح كما ذكر في كتاب « أعمال الرسل » (1).

وإليك نصّه : « لمّا حضر يوم الخمسين ( بعد عروج المسيح أو صلبه على زعمهم ) كان الجميع معها بنفس واحدة ، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة ملأ كل البيت ، حيث كانوا جالسين وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنّها من نار ، واستقرّت على كل واحد منهم ، وامتلأ الجميع من روح القدس وابتدؤا يتكلّمون بالسنة اُخرى ، كما أعطاهم الروح أن ينطقوا ».

ولكن القرائن المفيدة للقطع واليقين تفيد انّ المراد منه هو الأوّل ، وانّ المسيح بصدد التبشير عن ظهور نبي في مستقبل الأيّام واليك بيان هذه القرائن :

1 - إنّ المسيح قال : « إن كنتم تحبّوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ».

إنّ هذا الخطاب يناسب أن يكون المبشّر به نبيّاً من الأنبياء ، إذ لو كان « فارقليط » عبارة عن الروح النازل يوم الدار لما كان هناك حاجة إلى هذا التأكيد ، لأنّ تأثيره في القلوب تأثير تكويني - كما عرفت من النّص - لا يمكن لأحد التخلّف عنه ولا يبقى في القلوب معه شك ، وهذا بخلاف تأثير النبي فإنّه يؤثّر ببيانه وكلامه في القلوب ، وهو يختلف حسب اختلاف طبائع المخالفين واستعدادهم ، ولأجل ذلك أصرّ على الإيمان به في بعض جمله وهو :

« والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون به ».

وقد عرفت ممّا نقلناه من كتاب أعمال الرسل انّ تأثير روح القدس كان تأثيراً تكوينيّاً غير خاضع لإرادة الإنسان.

ص: 71


1- أعمال الرسل ، الإصحاح الثاني : الجمل1 - 4.

2 - إنّه وصف المبشّر به بلفظ « آخر » وهذا لا يناسب كون المبشّر به روح القدس لعدم تعدّده واتّحاده بالأب والابن اتّحاداً حقيقيّاً ، فلا يقال في حقّه « فارقليط » آخر ، بخلاف الأنبياء فإنّهم يجيئون واحداً بعد الآخر في فترة بعد فترة.

3 - إنّ المسيح قال : « هو يذكّركم كلّما قلته لكم ».

إنّ من البعيد نسيان الحواريين تعاليم المسيح في مدة لا تزيد على خمسين يوماً حتى يذكّرهم روح القدس ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ المراد هو النبي الخاتم الذي ظهر بعد مضي قرون ستّة ، وقد لعبت الأهواء بتعاليم الأنبياء وحرّفت الكنائس والرهبان ما جاء به المسيح علیه السلام .

4 - إنّ المسيح قال : « هو يشهد لأجلي » فلو كان المراد هو نزول الروح يوم الدار بعد خمسين يوماً كانت هذه الشهادة لغواً لعدم حاجة التلاميذ إلى شهادته لأنّهم كانوا يعرفون المسيح حق المعرفة ، والمنكرون للمسيح لم تحضرهم تلك الروح ، وهذا بخلاف ما إذا اُريد منه النبي المبشّربه فإنّ نبيّنا شهد للمسيح وصدّقه ونزّهه عن ادعاء الالوهيّة كما أبرأ اُمّه من تهمة الزنا ، وهذا واضح لمن تدبّر آيات الذكر الحكيم.

5 - إنّ المسيح قال : « إن لم أنطلق ، لم يأتكم الفارقليط ، فأمّا إن انطلقت أرسلته إليكم ».

فعلّق مجيئه بذهاب نفسه مع أنّ مجيء الروح غير معلّق على ذهاب المسيح بشهادة أنّه ئنزل على الحواريين في حضور المسيح ، لمّا أرسلهم إلى الأطراف والأكناف فنزوله ليس مشروط بذهابه ، فلابد أن يكون المراد منه شخص يكون مجيئه موقوفاً على ذهاب المسيح كما هو الحال في النبي الخاتم لأنّه جاء بعد ذهاب المسيح ، وكان مجيئه موقوفاً على ذهابه لأنّ وجود رسولين ذوي شريعتين مستقلّتين في زمان واحد غير جائز ، بخلاف ما إذا كان الآخر متبعاً لشريعة الأوّل أو يكون كل من الرسل متبعاً لشريعة واحدة فيجوز في هذه الصورة وجود اثنين أو أكثر في زمان

ص: 72

واحد ومكان واحد كما ثبت وجودهم بين زمان « الكليم » و « المسيح ».

6 - قال المسيح : « إنّه يوبّخ العالم ».

وهذا لا ينطبق إلاّ على نبي الإسلام لأنّه وبّخ العالم من المشركين واليهود والنصارى توبيخاً لا يشك فيه إلاّ معاند متكبّر بخلاف الروح النازل يوم الدار ، إذ لم يكن هناك وجه للتوبيخ لأنّه لميكن هناك مخالفين للمنهج الصحيح.

7 - قال المسيح :

« إنّ لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنّكم لستم تطيقون حمله الآن ».

هذا يعرب من أنّ فارقليط يأتي بأحكام لم يكونوا يطيقونها زمان تكلّم المسيح ، هذا لا ينطبق على نزول الروح يوم الدار ، لأنّه ما زاد حكماً على أحكام المسيح وأي أمر حصل لهم أزيد من أقواله إلى زمان صعوده ؟

نعم بعد نزول هذا الروح أسقطوا جميع أحكام التوراة ما عدا بعض الأحكام العشرة المذكورة في الباب العشرين من سفر الخروج وأحلّوا جميع المحرّمات.

وهذا بخلاف ما إذا اُريد نبي يزيد في شريعته أحكاماً إلى أحكام موروثة من المسيح ويثقل حملها على المكلّفين ، ضعفاء الإيمان.

8 - إنّ المسيح قال : « لأنّه ليس ينطق من عنده بل يتكلّم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي ».

هذا يعرب من أنّ فارقليط سيواجه التكذيب فسوف يكذّبه بنو اسرائيل فأراد دعم دعوته وانّه صادق في كل ما يقول ولا مجال لمظنّة التكذيب في حق الروح النازل يوم الدار ، على أنّ الروح أحد الثلاثة وبوجه نفسه سبحانه ، فلا معنى لقوله بل يتكلّم بما يسمع ، وهذا بخلاف أن يراد منه نبي من الأنبياء الذين لا يتكلّمون إلاّ بوحي منه ، قال سبحانه :

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) ( النجم / 3 و 4 ).

ص: 73

هذه القرائن وغيرها ممّا يظهر للقارئ بعد التدبّر فيما ورد في الإصحاحات الثلاث ( الرابع عشر ، الخامس عشر ، والسادس عشر ) ، تفيد القطع واليقين بأن المبشّر به هو نبي لا غير » (1).

وممّا يؤيد ذلك انّ المراد من « الفارقليط » هو النبي هو ما ذكره مؤرّخوا المسيحيين أنّ بعض الناس قبل ظهور النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ادّعى أنّه هو الفارقليط الموعود قالوا : إنّ « منتنس » المسيحي الذي كان في القرن الثاني من الميلاد وكان مرتاضاً شديداً ادّعى في قرب سنة 177 من الميلاد أنّه هو الفارقليط الموعود الذي وعد بمجيئه عيسى علیه السلام وتبعه اُناس كثير وهذا يعرب عن أنّ المتبادر من الفارقليط في القرون الاُولى المسيحية هو النبي المبشّر به. وعن صاحب « لب التواريخ » : إنّ اليهود المسيحيين من معاصري محمّد صلی اللّه علیه و آله كانوا منتظرين لنبي وكان هذا سبباً لرجوع عدّة من المسيحيين إلى محمد صلی اللّه علیه و آله الذي ادّعى انّه هو ذاك المنتظر.

إنجيل « برنابا » والتبشير بالنبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله

إنّ الكتاب الذي جاء به المسيح علیه السلام كان كتاباً واحداً وهو عبارة عن هديه والأحكام التي جاء بها وبشارته بمن يجيء بعده ، وإنّما كثرت الأناجيل لأنّ كل من كتب سيرته سمّاه إنجيلاً لاشتماله على ما بشّر وهدى به الناس ، ومن تلك الأناجيل ، إنجيل برنابا ، و « برنابا » حواري من أنصار المسيح الذين يلقّبهم رجال الكنيسة بالرسل ، صحبه بولس زمناً بل هو الذي عرّف التلاميذ ببولس بعد ما اهتدى بولس ورجع إلى اُورشليم ولم يكن من هذا الإنجيل أثر في المجتمع المسيحي حتى عُثِرَ في اُروبا على نسخة منه منذ قرابة ثلاثة قرون وهذا هو الإنجيل الذي حرّم

ص: 74


1- لاحظ في الوقوف على تلك القرائن وغيرها اظهار الحق ج 2 ص 283 - 287 ، وانيس الاعلام في نصرة الإسلام ج 5 ص 179 - 239 ، ولمؤلّف الكتاب الأخير قصّة عجيبة حول الوقوف على مفاد « فارقليط » التي صارت سبباً لاستبصاره ، فراجعه.

قرائته « جلاسيوس الأوّل في أواخر القرن الخامس للميلاد » وهذا الإنجيل يباين الأناجيل الأربعة في النقاط التالية :

1 - ينكر الوهية المسيح وكونه ابن اللّه.

2 - يعرف الذبيح بأنّه إسماعيل لا إسحاق.

3 - وإنّ المسيح المنتظر هو محمّد صلی اللّه علیه و آله وقد ذكر محمداً باللفظ الصريح في فصول وافية الذيول.

4 - إنّ المسيح لم يصلب بل حمل إلى السماء وإنّ الذي صلب إنّما كان « يهوذا » الخائن فجاء مطابقاً للقرآن ، قد قام بترجمته من الإنجليزية إلى العربية الدكتور خليل سعادة وقدّم له مقدّمة نافعة وطبع في مطبعة المنار بتقديم السيد محمد رشيد رضا عام 1326 ه ق.

روى البيهقي : قال أبو زكريا : ولنبيّنا صلی اللّه علیه و آله خمسة أسماء في القرآن : محمد ، واحمد ، وعبد اللّه ، وطه ، ويس.

قال اللّه عزّ وجلّ في ذكر محمّد : ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ ... ) وقال : ( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... ) وقال اللّه عزّ وجلّ في ذكر عبد اللّه : ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عبد اللّه يَدْعُوهُ ) - يعني النبي صلی اللّه علیه و آله ليلة الجن - ( كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) ( الجن / 19 ).

وإنّما كانوا يقعون بعضهم على بعض ، كما أنّ اللبد يتّخذ من الصوف ، فيوضع بعضه على بعض فيصير لبداً ، وقال عزّ وجلّ : ( طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) ( طه / 1 و 2 ) والقرآن إنّما نزل على رسول اللّه دون غيره ، وقال عزّ وجلّ : ( يس ) يعني يا إنسان والإنسان هنا العاقل وهو محمد ، إنّك لمن المرسلين.

ثمّ قال : قلت وزاد غيره من أهل العلم ، فقال : سمّاه اللّه تعالى في القرآن : رسولاً ، نبيّاً ، اُمّيّاً. وسمّاه : شاهداً ، ومبشّراً ، ونذيراً ، وداعياً إلى اللّه باذنه ،

ص: 75

وسراجاً منيراً. وسمّاه : رؤوفاً رحيماً. وسمّاه : نذيراً مبيناً. وسمّاه : مذكّراً ، وجعله رحمة ، ونعمة ، وهادياً. وسمّاه : عبداً صلی اللّه علیه و آله كثيراً (1).

أقول : والمراد من الإسم هنا أعم من الوصف ، فإنّ كثيراً منها صفاته - صلوات اللّه عليه - لا إسمه بمعنى العلم.

وروى أيضاً بسنده عن محمّد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : إنّ لي أسماء.

أنا محمد ، أنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد (2).

قال العلماء : « كثرة الأسماء دالّة على عظم المسمّى ورفعته وذلك للعناية به وبشأنه ولذلك ترى المسمّيات في كلام العرب أكثرها محاولة واعتناء ».

قال النواوي : وغالب هذه الأسماء التي ذكروها إنّما هي صفات كالعاقب والحاشر ، فإطلاق الإسم عليها مجاز ، ونقل الغزالي : « الإتّفاق على أنّه لا يجوز أن نسمّي رسول اللّه باسم لم يسمّه به أبوه ولا سمّا به نفسه الشريفة » أقرّه الحافظ ابن حجر في « الفتح » على ذلك (3).

قلت : ما ادعاه من الاتّفاق غير ثابت ، والمسألة غير معنونة في كلام الكثير فكيف يمكن ادّعاء الاتّفاق عليه ، وكلّ صفة تنبثق عن تكريمه وتوقيره وكان ( صلّى

ص: 76


1- دلائل النبوّة ج 1 ص 159 - 160.
2- دلائل النبوّة ج 1 ص 152. واخرجه البخاري كما في التعليقة في كتاب المناقب ، باب ما جاء في أسماء رسول اللّه.
3- دلائل النبوّة ج 1 ص 155 ، في التعليقة : إنّ جماعة أفردوا أسماء رسول اللّه بالتصنيف منهم بدر الدين البلقيني ، وكانت قصيدته الميميّة بديعة لم ينسج على منوالها ناسج ، ورتّب السيوطي أسماءه على حروف المعجم في كتابه « الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة ».

اللّه عليه وآله وسلّم ) واجداً لمبدئها فيصحّ توصيفه به.

روى البيهقي عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه عزّ وجلّ قسّم الخلق قسمين ، فجعلني في خيرهما قسماً ، وذلك قوله : ( وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ ) و ( أَصْحَابُ الشِّمَالِ ) فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين. ثم جعل القسمين ثلاثاً ، فجعلني في خيرها ثلثاً ، فذلك قوله تعالى : ( فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ ) ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) . فأنا من السابقين ، وأنا خير السابقين. ثمّ جعل الأثلاث : قبائل ، فجعلني في خيرها قبيلة ، وذلك قول اللّه تعالى : ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) وأنا أتقى ولد آدم ، وأكرمهم على اللّه ولا فخر ، ثمّ جعل القبائل بيوتاً ، فجعلني في خيرها بيتاً ، وذلك قوله عزّ وجلّ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) فأنا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب (1).

6 - اُمّيّة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله

اشارة

القرآن الكريم يصف النبي في غير واحد من الآيات بالاُمّية ويقول : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... ) ( الأعراف / 157 ).

فقد وصف سبحانه نبيّه في هذه الآية بخصال عشر وهي أنّه :

1 - رسول ، 2 - نبي ، 3 - اُمّي ، 4 - مكتوب اسمه في التوارة والإنجيل ، 5 - منعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف ، 6 - وينهى عن المنكر ، 7 - ويحل لهم الطيبات ، 8 - ويحرّم عليهم الخبائث ، 9 - ويضع عنهم إصرهم ، 10 - ويضع عنهم الأغلال التي كانت عليهم.

ص: 77


1- دلائل النبوّة ج 1 ص 170 و 171.

ويقول سبحانه أيضاً : ( فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( الأعراف / 158 ).

وقد عرفت أنّه سبحانه يصف قوم النبي بالأُمّيين بل العرب جميعاً بهذا الوصف ، كما تعرّفت على معنى الأُمّي عند البحث عن ثقافة قوم النبي وحضارتهم ، فلا حاجة إلى إعادة البحث عن معنى الاُمّي وذكر نصوص أئمّة اللّغة إنّما المهم في المقام نقد الآراء الشاذة في تفسير الاُمّي ، وإليك البحث عنها واحداً بعد آخر :

أ - الأُمّي منسوب إلى أُمّ القرى

ربّما يقال : إنّ الأُمّي هو المنسوب إلى « أُمّ القرى » وهي علم من أعلام مكّة كما يشير إليه قوله سبحانه :

( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الشورى / 7 ).

وعلى ذلك فلا يدل على أنّ النبي كان أُمّيّاً بمعنى أنّه لا يقرأ ولا يكتب.

يلاحظ عليه :

أوّلاً : انّ أُمّ القرى ليست من أعلام مكّة وإنّما هي كلّية لها مصاديق ، منها مكّة المكرّمة ، يقول سبحانه :

( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص / 59 ). أي حتّى يبعث في أُمّ القرى وعاصمتها رسولاً.

قال ابن فارس في المقاييس : « كل مدينة هي أُمّ ما حولها من القرى ».

ثانياً : لو صحّ كونها من أعلام مكّة ، فالصحيح عند النسبة إليها « هو القروي » لا « الأُمّي » (1).

ص: 78


1- راجع شرح ابن عقيل ج 2 ص 391 عند البحث عن « ياء » النسب.

ثالثاً : لو كان المراد من الأُمّي هو المنسوب إلى أُمّ القرى لكان الإتيان به في ثنايا الخصال العشر إقحاماً بلا وجه واقتضاباً بلا جهة ، بخلاف ما إذا قلنا بأنّه إيعاز إلى أُمّيّته وعدم قراءته وكتابته ولكن في الوقت نفسه جاء بكتاب عجز كلُّ البلغاء عن معارضته ، واخرسّ الفصحاء عن مباراته.

وعلى الجملة انّ توصيف النبي بالأُمّي وقومه بالأُمّيين ، إيعاز إلى هذه النكتة ، وانّ هذا النبي خرج من قوم غير قارئين ولا كاتبين ولا متحضّرين كما هو أيضاً غير قارئ ولا كاتب ، ومع ذلك أتى بشريعة متقنة وسنن محكمة وكتاب بديع بلا بديل.

ب - الأُمّي غير المنتحل لملّة أو كتاب سماوي

وربّما يقال : إنّ الأُمّي هو غير المنتحل لملّة أو كتاب من الكتب السماوية ولو أطلق على العرب أنّهم أُمّيون فالمراد أنّهم غير منتحلين لكتاب من الكتب السماوية ويدل على ذلك أنّه سبحانه يجعل أهل الكتاب في مقابل الأُمّيين ويقول :

( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ( آل عمران / 20 ).

يلاحظ عليه : أنّ توصيف العرب بالاُميّيين لا لأجل عدم إنتحالهم لملّة أو كتاب سماوي بل لأجل عدم إقتدارهم على القراءة والكتابة ، فقد كانت الاُمّية بهذا المعنى سائدة عليهم كما كان التعرّف عليهما هو الغالب على أهل الكتاب ، فصحّ لأجل ذلك التقابل بين أهل الكتاب والأُمّيين ويعود معنى الآية : « قل » للطائفتين الأُمّيين غير القارئين والكاتبين وأهل الكتاب الذين لهم اقتدار بهما.

والذي يدل على أنّ هذا هو ملاك التقابل هو أنّه سبحانه يصف بعض أهل الكتاب بالاُميّة ويقول : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) ( البقرة / 78 ).

ص: 79

فالآية بحكم رجوع الضمير « ومنهم » إلى اليهود تقسّم اليهود إلى طائفتين :

طائفة يعلمون الكتاب لثقافتهم وتمكّنهم من القراءة والكتابة وبالتالي تمكّنهم من التطلّع على التوراة والإستفادة منها.

وطائفة فاقدة للثقافة وغير قادرة على القراءة والكتابة وبالتالي جاهلين بكتابهم الذي نزل بلسانهم والجهل بلغتهم قراءة وكتابة يلازم جهلهم بسائر اللغات غالباً خصوصاً في بيئة اليهود الذين يقدّمون تعليم لغتهم على سائر اللغات.

فلو كان الاُمّي بمعنى غير المنتحل لكتاب ولا ملّة فما معنى تقسيم أهل الكتاب إلى طائفيتن أُمّي وغير أُمّي ؟.

ج - الاُمّي من لا يعرف المتون السامية

الأُمّي عبارة عمّن لم يعرف المتون العتيقة السامية التي كتبت بها زبر الأوّلين من التوارة والإنجيل وإن كان عالماً بسائر اللغات قادراً بقرائتها وكتابتها يقول سبحانه :

( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) .

فإنّ قوله : « لا يعلمون الكتاب » جملة تفسيريّة لقوله « أُمّيون » فالأُمّي من لا يحسن تلاوة الإنجيل والتوراة.

يلاحظ عليه : أنّ إرادة المعنى المذكور من « الأُمّيّين » في الآية لا يثبت أنّ الأُمّي عبارة عمّن لا يعرف اللّغة السامية بل الأُمّي من لا يعرف القراءة والكتابة وذلك يختلف حسب البيئة والظروف.

ففي العصور التي سادت فيها اللّغة السامية التي بها تكتب الدواوين والرسائل ، وعليها لغة دينهم وكتابهم ، يكون الاُمّي عبارة عمّن لا يعرف تلك اللغة ، - وبحسب الطبع - من كان جاهلاً في أمثال تلك الظروف بلغته الواجبة الضرورية ،

ص: 80

يكون جاهلاً لسائر اللغات أيضاً ، وعلى ذلك فليس للأُمّي إلاّ معنى واحد وله مصاديق وأفراد حسب الظروف التي تستعمل الكلمة فيها ، واطلاقه في الآية على من لم يعرف اللغات السامية لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لخصوص هذا المعنى ، كما أنّ إطلاق الإنسان وإرادة فرد منه بالقرينة لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لذلك الفرد.

هذا هو خلاصة المقال في وصف الاُمّي الذي جاء توصيف النبي به في الذكر الحكيم وهناك آيات أُخر تثبت ذلك المعنى ( اُمّية النبي ) قال سبحانه :

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت / 48 ).

فالآية بحكم وقوع النكرة فيها في سياق النفي تفيد شمول السلب وعمومه لتلاوة أي كتاب وممارسة أية كتابة.

ثم إنّه سبحانه علّل هذا السلب بأنّه خير عون لنفي ريب المبطلين وشك المشكّكين إذ لو كان النبي صلی اللّه علیه و آله ممارساً للقراءة والكتابة قبل البعثة ، لاتّهمه اليهود والنصارى والمشركون بأنّ الشريعة التي جاء بها تلقّاها عن طريق قراءة الصحف وتلاوتها ، ولأجل صد هذا الريب وقلع جذور هذا الشك لم يُمكّن نبيّه عن تعلّم الكتابة والقراءة حتّى يكون ذا بيّنة قويّة على أنّ شريعته شريعة سماوية.

ومع أنّ النبي الأكرم عاش أربعين سنة بلا ممارسة للكتابة والقراءة فقد اتّهمه بعض المعاندين بأنّ قرآنه استنساخ منه لما تملى عليه ، قال سبحانه :

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان / 4 و 5 ).

وكان المعاند يبثّ بذر هذا الشك حتّى وافاه الوحي الإلهي بالنقد والرد بقوله

ص: 81

سبحانه :

( قُل لَّوْ شَاءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس / 16 ).

ومعنى الآية إنّكم أيّها العرب تحيطون بتاريخ حياتي ، فقد لبثت فيكم عمراً يناهز الأربعين فهل رأيتموني أقرأ كتاباً أو أخطّ صحيفة ، فكيف ترمونني بالإفك الشائن بأنّه أساطير الأوّلين التي اكتتبتها وافتريتها على اللّه وأعانني على ذلك قوم آخرون ؟ فإذا كنتم واقفين على سيرتي وحياتي في الفترة الماضية فاعلموا أنّه منزّل من اللّه سبحانه كما أمر اللّه نبيّه أن يجبهم بقوله :

( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / 6 )

نعم ربّما يقال بأنّ قوله : ( مَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ ) لا يدل على أنّ النبي كان أُمّياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب ، وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه (1).

يلاحظ عليه : أنّ التعليل الوارد في الآية إنّما يصحّ وقوعه علّة لصدر الآية إذا كان النبي غير مستطيع لأن يقرأ ويكتب لا أن يكون عالماً بهما وإن لم يمارسهما ، وذلك لأنّ التعليل بصدد إزالة الشك والريب في أنّه كتاب سماوي وليس من صنع النبي ولا يمت إليه بصلة وذلك إنّما يتحقّق إذا كان النبي أُمّياً محضاً غير قادر عليهما لا ما إذا كان عارفاً بهما ولكن تركهما لمصلحة أو لعلّة أُخرى.

* * *

ص: 82


1- التبيان في تفسير القرآن ج 8 ص 216 ، طبع بيروت. ويظهر من الآلوسي في تفسيره أنّه إعتمد على هذا.
وضع النبي بعد البعثة

اتّفق المحقّقون من السنّة والشيعة على أنّه كان أُمّياً قبل البعثة لا يحسن الكتابة والقراءة ، وأمّا وضعه بعد البعثة وانّه هل بقي على ما كان عليه قبلها أو تغيّر وضعه وصار عارفاً بالكتابة والقراءة ، وعلى فرض ثبوت معرفته بهما فهل مارسهما في بعض الفترات من عمره أو لا ؟ فهذه بحوث خارجة عن موضوع بحثنا لأنّ البحث في حياته وسيرته قبل البعثة وما ذكر يرجع إلى سيرته بعدها ، ولعلّنا نرجع إلى تلك المسألة في المستقبل.

* * *

7 - إيمان النبي قبل البعثة

اشارة

لم يشك أحد من أهل التاريخ والسير في انّ النبي الأكرم كان على خط التوحيد قبل البعثة ويدل عليه مأثورات كثيرة والمسألة إتفاقية بين المسلمين ولا تحتاج إلى اطناب ، وقد دلّت الآثار على أنّه كان يكافح الوثنيّة منذ نعومة أظفاره ومن إبّان طفوليته وشبابه.

روى صاحب المنتقى : انّ النبي لمّا تمّ له ثلاث سنين ، قال يوماً لوالدته أي مرضعته « حليمة السعديّة » : ما لي لا أرى أخويّ بالنهار ؟ قالت له : يا بُنيّ إنّهما يرعيان غنيمات.

قال : فما لي لا أخرج معهما ؟

قالت له : أتحبّ ذلك ؟

قال : نعم.

قالت حليمة السعدية : فلمّا أصبح محمّد دهّنته وكحّلته وعلّقت في عنقه

ص: 83

خيطاً فيه جزع يماني فنزعه ثمّ قال لأُمّه : « مهلاً يا أُمّاه فإنّ معي من يحفظني » (1).

ونكتفي في المقام بهذا المقدار وقد بسطنا الكلام في المأثورات حول توحيده وإيمانه في محلّه (2).

إنّما المهم تعيين الشريعة التي كان يطبّقها في أعماله الفردية والإجتماعية العبادية وغيرها.

الشريعة التي كان يتعبّد بها قبل البعثة

أمّا الشريعة التي كان يطبقها في أعماله فقد إختلفت الأنظار فيه وانتهت إلى أقوال واحتمالات :

1 - إنّه لم يكن يتعبّد بشريعة من الشرائع وإنّما يكتفي في أعماله الفردية والإجتماعية بما يوحي إليه عقله.

وهذا القول لا يُعرَّج عليه ، إذ لم تكن أعماله منحصرة في المستقلاّت العقليّة كالاجتناب عن البغي والظلم والتحنّن على اليتيم ، والعطف على المسكين ، بل كانت له أعمال عبادية لا تصحّ بدون الركون إلى شريعة لأنّه كان يخرج في شهر رمضان إلى « حراء » فيعتكف فيه وهل يمكن الاعتكاف بدون الاعتماد على شريعة ، وقد رويت عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام إنّه حجّ عشرين حجّة مستتراً (3) ولم يكن البيع والربا ولا الخل والخمر ولا المذكّى والميتة ولا النكاح والسفاح عنده سواسية ، فطبيعة الحال تقتضي أن يكون عارفاً بأحكام عباداته وأفعاله.

ص: 84


1- المنتقى للكازروني ، الباب الثاني من القسم الثاني ، ونقله المجلسي في البحار ج 15 ، ص 392.
2- لاحظ « مفاهيم القرآن » ج 5 ص 351 - 352.
3- الوسائل ج 8 ، الباب45 ص 87 - 88.

2 - إنّه كان يعمل بشريعة إبراهيم وسننه وطقوسه المعروفة وهذا هو الذي كان السيّد العلاّمة الطباطبائي يستظهره كأحقّ الأقوال بشهادة أنّ أجداد النبي واُسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربية كانوا على دين إبراهيم ولم ينقل أحد من أهل السير تهوّدهم أو تنصّرهم.

ويتوجّه على هذا القول : إنّ لازم ذلك كونه عاملاً بالشريعة المنسوخة فإنّ الشريعتين اللاحقتين كشريعة الكليم والمسيح نسختا تلك الشريعة ، إلاّ أن يقال : إنّ سنن إبراهيم علیه السلام وطقوسه كانت باقية على ما هي عليها في الشرائع اللاحقة لها ، وإنّما انقضت نبوّته ، ولكن شريعته كانت باقية في غضون الشرائع اللاحقة ، ولأجل ذلك صارت الشريعة الإبراهيمية هي الأساس للشرائع اللاحقة وإنّما زيد عليها في الفترات اللاحقة أحكام وأُصول أُخر جاء بها الكليم ، أو المسيح أو النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

نعم يبقى على هذا القول إشكال آخر وهو أنّه لازم هذا القول أن يكون النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله جزء من أُمّة إبراهيم علیه السلام تابعاً له ، واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً ولم يخصّ أحد تفضيله على سائر الأنبياء بوقت دون وقت ، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات فلاحظ وتأمّل.

3 - أن يكون تابعاً للشريعة الأخيرة وهي شريعة المسيح ، وإمّا شريعة الكليم فلا شك أنّها كانت منسوخة بالشريعة اللاحقة ، ولكن هذا الاحتمال مبني على أن يكون النبي واقفاً بشريعة المسيح ولم يكن له طريق إلاّ مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم ، وحياته صلی اللّه علیه و آله لا تنسجم مع هذا الإحتمال ، إذ لم يتعلّم منهم شيئاً ولم يسألهم.

4 - إنّه كان يعمل حسب ما يُلهم ويوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم مخالفاً ، وسواء أكان مطابقاً لما بعث عليه من الشريعة فيما بعد أم لا ؟ وهذا هو أظهر الأقوال ، ويؤيّد ذلك ما نقل عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال :

ص: 85

« لَقَدْ قَرَنَ اللّه بِهِ مِنْ لَدُنْ اَنْ كَانَ فَطيماً اَعْظَمَ مَلك مِنْ مَلائِكتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَريقَ المَكَارِم وَمحَاسِنَ اَخْلاَقِ العَالم لَيْلِهِ ونَهارِهِ وَلَقَدْ كنْتُ اَتَّبَعهُ اتِّباعَ الفَصِيلِ اثرَ أُمِّهِ ، يَرْفَعُ لِي في كُلِّ يوْمٍ منْ أخْلاَقِهِ علماً فاَراه وَلا يَرَاه غَيرِي » (1).

وعلى ذلك لا جدوى من البحث بعد ما كان العمل على ضوء ما يلهم ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه أنعم على المسيح ويحيى بالنبوّة أيام صغرهما قال سبحانه حاكياً عن المسيح :

( قَالَ إِنِّي عبد اللّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) ( مريم / 30 ).

وقال سبحانه مخاطباً يحيى :

( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا ) ( مريم / 12 ).

ولازم ذلك ، إنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان يُلْهم منذ صباه إلى أن بعثه اللّه سبحانه نبيّاً وهادياً للبشر وليس ذلك أمراً غريباً ، وتؤيّد ذلك المأثورات المتضافرات في بدء نزول الوحي عليه فكان له الرؤية الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح ، ثمّ حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه - وهو التعبّد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء ، فجاءه الملك وقال : « اقرأ » (2).

خاتمة المطاف

نحن مهما جهلنا بشيء فلا يليق بنا الجهل بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله

ص: 86


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 187 طبعة عبده.
2- صحيح البخاري ج 1 ص 3 ، باب بدء الوحي إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والسيرة النبوية ج 1 ص 234.

إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس ، ولا يفاض إلاّ لمن له مقدرة روحيّة عظيمة ولا يتهيّب عندما يتمثّل له رسول الرب وأمين الوحي ويميّز بين وحي الحقّ وكلامه ووسوسة الشياطين وإلقاءاتهم ، ومن المعلوم أنّه عبء فادح ومسؤولية عظمى ، لا يحملها إلاّ من وقع تحت رعاية اللّه وتربيته ، ولا تتحقّق تلك الغاية إلاّ باقتران ملك من ملائكته يرشده إلى معالم الهداية ، ويصونه من صباه إلى شبابه إلى كهولته عن كل سوء وخطأ حتّى تستعدّ نفسه لتمثّل أمين الوحي وتحمّل كلامه سبحانه. وهذا ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين في كلامه السابق فلاحظ.

ص: 87

ص: 88

(4) الوحي في القرآن الكريم

اشارة

لقد تعرّفت على حياة النبي صلی اللّه علیه و آله قبل البعثة وما ورد حولها من الآيات في القرآن الكريم ، وبذلك تمّ بيان ما يرجع إلى الشطر الأوّل من حياته ، وتسلسل البحث يدفعنا إلى البحث عن الشطر الثاني من حياته وهو ما يرجع إلى الحوادث التي مرّت عليه بعد البعثة ونزول الوحي عليه قبل هجرته إلى المدينة المنوّرة ، وقد أقام بعد أن حباه اللّه بالنبوّة والرسالة قرابة ثلاثة عشر سنة يقود فيها أُمّته إلى الصلاح والفلاح بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن.

ولمّا ضاق عليه الأمر في موطنه الأوّل ودارت عليه الدوائر من قبل أعدائه وأعداء رسالته إضطرّ إلى مغادرة موطنه وألقى رحاله في مهجره أعني المدينة المنورة وبقي فيها زهاء عشر سنين إلى أن اختاره اللّه سبحانه إلى جواره ، وبذلك طويت صفحات عمره المشرقة ، وبقيت آثارها لامعة في سماء الإنسانيّة مشعلاً للهداية على مرّ العصور والتاريخ ، وقد إجتازت مراحل ثلاثة :

1 - حياته قبل البعثة.

2 - حياته بعد البعثة إلى الهجرة.

3 - حياته بعد الهجرة حتى الإرتحال إلى الرفيق الأعلى.

فها نحن في رحاب المرحلة الثانية من مراحل حياته الشريفة وجاءت الحوادث في هذه المرحلة تترى وتقارع شخصيّته الصامدة وقبل أن نخوض في تحليل هذه

ص: 89

الحوادث حسب التسلسل التاريخي على ضوء ما نستفيده من القرآن الكريم ونستوحيه من خلال آياته ; نذكر حادثة نزول الوحي عليه وتكليله بوسام النبوّة التي هي من هبات اللّه تعالى الجسيمة يمنحها لمن يشاء من عباده ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .

الوحي لغة واصطلاحاً

اشارة

الوحي في اللّغة هو الإلقاء في خفاء.نصّ على ذلك ابن فارس في المقاييس ، ثم إنّ أئمّة اللّغة وإن ذكروا للوحي معان مختلفة لكن الجميع يرجع إلى أصل واحد وهو تعليم الغير بخفاء ، قال ابن منظور : الوحي : الإشارة ، والكتابة ، والرسالة ، والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك يقال وحيت إليه الكلام ، والمستفاد من كلماتهم : انّ الوحي هو الإعلام بخفاء بطريق من الطرق والعنصر المقوّم لمعنى الوحي هو الخفاء ، وأمّا غيره كالسرعة على ما في مفردات الراغب فليس بمقوّم لمعنى الوحي ، كما أَنّ الإشارة والكتابة والإلهام إلى القلب كلّها من طرق الوحي ووسائله.

وقد أُستعمل الوحي في القرآن الكريم في موارد مختلفة كلّها مصاديق وموارد لهذا المعنى الجامع وان شئت قلت من قبيل تطبيق المعنى الكلّي على مصاديقه المختلفة المتنوّعة ، واليك البيان :

1 - تقدير الخلقة بالسنن والقوانين :

قال سبحانه : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ

ص: 90

سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) ( فصّلت / 11 و 12 ).

فقوله سبحانه : ( وَأَوْحَى فِي كُلِّ أَمْرَهَا ) يحتمل وجهين :

( الأوّل ) : أودع في كل سماء السنن والأنظمة الكونية وقدّر عليها دوامها إلى أجل معيّن. وبما أنّ السماوات تلقّت هذه السنن والنظم بالإشارة في خلقتها استعير في التعبير لفظ الوحي.

( الثاني ) : إنّ الشعور والإدراك ساريان في جميع مراتب الوجود من أعلاه كواجبه إلى أدناه كالهيولي في عالم التكوين ، ولكن كل حسب درجته ومرتبته ، فالسماوات تلقّت ما أوحى إليها سبحانه بخفاء فقامت بامتثاله ما أوحى إليها من الوظائف.

ومن هذا القبيل قوله سبحانه : ( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) ( الزلزلة / 1 - 5 ).

2 - الإدراك بالغريزة :

قال سبحانه : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) ( النحل / 68 و 69 ).

فالأعمال المدهشة الخلاّبة للعقول التي تقوم بها النحل في صنع بيوته والقيام بشؤون وظائفها ثم التجوّل بين البساتين ، ومص رحيق الأنهار ، ثمّ إيداعها في صفائح الشهد ، شيء تتعلّمه بإيحاء من اللّه سبحانه وذلك بإيداع الغرائز الكفيلة بذلك ، وبما أنّ تأثّر النحل بها بخفاء وبلا إلتفات من الشعور والإدراك اُطلق عليه لفظ الوحي.

ويحتمل أيضاً هناك معنى آخر ذكرناه في الوحي إلى السماء.

ص: 91

3 - الإلهام والإلقاء في القلب :

وقد استعمل الوحي في الإلقاء إلى القلب في موارد في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ) ( القصص / 7 ).

ومنها قوله : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) ( المائدة / 111 ).

ومنها قوله تعالى في شأن يوسف علیه السلام عِندما جعلوه في غيابت الجبّ ، قال سبحانه :

( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( يوسف / 15 ).

إلى غير ذلك من الموارد.

4 - الإشارة :

قال سبحانه : ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) ( مريم / 11 ).

وبما أنّه استخدم الإشارة في تفهيم مراده فأشبه فعله إلقاء الكلام بخفاء فصار ذلك مصحّحاً لاستعمال لفظ الوحي.

5 - الإلقاءات الشيطانيّة :

قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) ( الأنعام / 112 ).

ويعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرنا فيما سبق.

ص: 92

6 - كلام اللّه المنزّل على نبي من أنبيائه :

قال سبحانه : ( كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللّهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الشورى / 3 ).

وقد عرّف هذا النوع من الوحي بأنّه تعليمه تعالى من اصطفاه من عباده كلّما أراد اطّلاعه على ألوان الهداية واشكال العلم ولكن بطريقة خفيّة غير معتادة للبشر.

وحصيلة البحث : انّ للوحي معنى واحداً وله مصاديق متنوّعة وليست هي بمعان متكثّرة ، وإنّ حقيقة الوحي تعليم غيبي لمن اصطفاه سبحانه من عباده ، لا يشابه الطرق المألوفة بين العباد ، وإن أردت المزيد من الإطّلاع فإليك البيان التالي :

قنوان المعرفة الثلاثة :

اشارة

إنّ أمام الإنسان طرق ثلاثة للوصول إلى مقاصده :

الطريق الأوّل - يستفيد منه جموع الناس غالباً - بينما يستفيد طائفة خاصّة منهم من الطريق الثاني ، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلاّ أفراد معدودين تكاملت عقولهم وتسامت أرواحهم وهي كالتالي :

1 - الطريق الحسّي والتجربي :

والمقصود منه الإدراكات والمعلومات الواردة إلى الذهن عن طريق الحواس الظاهريّة أو بفضل التجربة التي أسّست الحضارة المعاصرة عليها.

2 - الطريق التعقّلي النظري :

إنّ المفكّرين يتوصّلون إلى كشف الاُمور الخارجة عن إطار الحسّ والتجربة عن طريق الإستدلال واعمال النظر وانهاء المجهولات إلى البديهيات ، وقد توصّل

ص: 93

البشر بهذا الطريق إلى المسائل الفلسفيّة الكلّية وما يضاهيها.

3 - طريق الإلهام :

وهذا هو الطريق الثالث وهو فوق نطاق الحس والتعقّل. إنّه نوع جديد من المعرفة ، ونمط متميّز من إدراك الحقائق ليس محالاً من وجهة نظر العلم ، وإن كان يصعب على أصحاب الإتجاه المادي قبوله لكونه طريقاً خارجاً عن إطار الحسّ والتعقّل.

إنّ طريق التعرّف على حقائق الكون - في منهج المادّيين واصحاب النزعة المادّية - ينحصر في قناتين لا غير وهما اللّذان سبق ذكرهما ، في حين إنّ هناك حسب نظر الإلهيين قناة ثالثة أيضاً.

إنّ هذا الطريق الثالث أقوى اُسساً وأوسع آفاقاً عند من يدّعون الرسالة والنبوّة من جانب اللّه سبحانه ، وأنّ نفوس اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاءً وطراوة وزهواً.

كلّما حصل ارتباط بين اللّه سبحانه وفرد من أفراد النوع الإنساني على نحو تلقّي الحقائق من دون توسيط الحواس وأعمال الفكر يسمّى بالإلهام تارة والإشراق اُخرى ، وكلّما نتجت من هذا الإرتباط سلسلة تعاليم عامّة يطلق عليها اسم الوحي ويسمّى المتلقّي نبيّاً ، ومن هنا اعتبر العلماء « الوحي » الطريقة المطمئنّة الوحيدة إلى المعرفة العامّة.

أنواع الوحي وأقسامه :

اشارة

إنّ النبي تارة يتلقّى الوحي على نحو الإلهام في القلب ، واُخرى يسمع عبارات وكلمات من وراء حجاب كسماع موسى علیه السلام كلام اللّه سبحانه في الطور ، وثالثة تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار كرؤيا إبراهيم

ص: 94

الخليل علیه السلام ذبح ولده إسماعيل ، وقد ينزل عليه ملك من جانب اللّه تعالى معه كلامه سبحانه وهو الذي يسمّى بالروح الأمين.

وإلى الطرق الثلاثة : « سوى الرؤيا » اُشير بقوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) والى نزول الملك بقوله : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) وأمّا الرؤيا الصادقة فيكفي في ذلك قوله سبحانه حاكياً عن الخليل علیه السلام : ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) ( الصافّات / 102 ).

فلو لم تكن رؤيا الخليل إدراكاً قطعيّاً واتّضح بها وجه الحقيقة كفلق الصبح لما أخبر ولده بها ولما أجابه الولد بالإمتثال طائعاً. نعم اُشير إلى الملك الحامل لكلام اللّه سبحانه بقوله : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / 193 و 194 ).

إنّ هناك من يحاول أن يفسّر الوحي بالاُصول المادّية والطرق الحسّية ولهم في ذلك آراء ونظريات يشبه كثيرها بكلام بعض المشركين في تقييم الوحي والقرآن الكريم ، وإليك بيان هذه النظريات واحدة تلو الاُخرى.

1 - الوحي وليد النبوغ :

ويقولون : يتميّز بين أفراد الإنسان المتحضّر أشخاص يملكون فطرة سليمة ، وعقولاً مشرقة تهديهم إلى ما فيه صلاح المجتمع وسعادة الإنسان ، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع وعمارة الدنيا ، والإنسان المتصدّي لهذه الوظيفة هو النبي ، والفكر المترشّح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي ، والقوانين التي يسنّها لصلاح المجتمع هي الدين ، والروح الأمين ( جبرئيل ) هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه السنن والقوانين إلى مراكز إدراكه ، والكتاب السماوي هو كتابه الذي يتضمّن تلك السنن والقوانين ، والملائكة التي تؤيّده في حلّه وترحاله هي القوى الطبيعية ،

ص: 95

والشيطان الذي ينابذه وينادده هي النفس الأمّارة بالسوء.

أقول : إنّ تفسير النبوّة بالنبوغ وإن صيغ في قالب علمي جديد ليس نظرية جديدة بحدّ ذاتها ، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر المشركين المعاصرين للنبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله فإنّهم كانوا يحسّون بحالة الإنجذاب للقرآن وبلاغته الخلاّبة فينسبونه إلى الشعر ويصفون قائله بالشاعر ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / 5 ).

ويجيبهم القرآن بقوله : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / 69 ).

إنّ هذه النظرية إبتنت على إنكار ماوراء الطبيعة فصار الوجود عندهم مساوقاً للمادّة فلم يجدوا منتدحاً عن تفسير الوحي بما جاء في هذه النظرية.

إنّا إذا سبرنا تاريخ المصلحين في العالم نجدهم على فئتين.

فئة تتكلّم باسم الدين الإلهي وتخبر عن اللّه سبحانه وينسب كل ما يأمر وينهي إلى عالم الغيب ولا يرى لنفسه شأناً سوى كونه مبلّغاً لرسالات اللّه ومؤدّيا لبلاغها وإنذارها.

وفئة تتكلّم باسم المصلح الإجتماعي وينسب كل ما يتفوّه به إلى بنات فكره وعقله ، فلو صحّت تلك النظرية لما كان لهذا التقسيم مفهوم صحيح وعندئذ يتساءل : لماذا نسبت الفئة الاُولى ما جاؤوا به من التعاليم إلى عالم الغيب مع أنّه من ومضات فكرتهم هذا ، ومن جانب آخر : انّ المصلحين بإسم الأنبياء كانوا رجالاً صادقين وصالحين لم يبدر منهم ما ينافي صدقهم وصلاحهم ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّهم كانوا يحسّون من صميم ذاتهم بأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه.

إنّ هذه النظرية التي تفسّر الوحي بالنبوغ وتوسّم الأنبياء بالنوابغ لم تدرس أحوال النوابغ والعلل والمبادئ التي يرتكز عليها النبوغ حتّى تقف على أنّ أحوال

ص: 96

الأنبياء على طرف نقيض من أحوال النوابغ ، فإنّ أفكار النوابغ تتوقّد وتزدهر تحت لواء المجتمعات الراقية ، وتحت ظل الحضارات الإنسانية ، وأمّا المجتمعات المتخلّفة فلو كانت تمتلك نوابغاً بالذات لاُخمد فيها ذكاؤهم وبارت فيها فطنتهم.

وأمّا الظروف التي كان يعيش فيها الأنبياء خصوصاً النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله فقد كانت على نقيض هذا الجانب ، فقد بعث صلی اللّه علیه و آله بين قوم يغطّون في سبات التخلّف والإنحطاط ، فكيف يمكن تفسير النبوّة الخاتمة بالنبوغ مع هذا البون الشاسع بين ظروف النوابغ وظروف خاتم المرسلين صلی اللّه علیه و آله .

أضف إلى ذلك : انّ النوابغ تسودهم العزلة والانزواء مع أنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان بين الناس يعيش معهم في حياتهم الإجتماعية وإن لم يكن على سيرتهم وسلوكهم ، فقد قضى عمره في الرعي والتجارة إلى أن بعثه اللّه سبحانه نبيّاً لهداية الاُمّة.

وأنّى للنوابغ الكتاب الذي حارت فيه العقول وخرست الألسن عن النطق بمثله ؟ وأين لهم هذه النظم والتشريعات الحيّة النابضة التي تتلائم وتنسجم مع جميع الحضارات الإنسانية ، فهي كما وصفها شبلي شمّيل اللبناني المتوفّى عام 1335 ه ق في رسالته إلى صاحب المنار :

إلى السيّد محمد رشيد رضا صاحب ( المنار ) :

أنت تنظر إلى محمّد كنبيّ وتجعله عظيماً ، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم ، ونحن وإن كنّا في الاعتقاد على طرفيّ نقيض ، فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول ، وذلك أوثق لنا لعرى المودّة ( الحق أولى أن يقال ) :

دع من محمّد في صدى قرآنه *** ما قد نحاء للحمة الغايات

إنّي وإن أك قد كفرت بدينه *** هل أكفرن بمحكم الآيات ؟

أو ما حوت في ناصع الألفاظ من *** حكم روادع للهوى وعظات

ص: 97

وشرايع لو أنّهم عقلوا بها *** ما قيّدوا العمران بالعادات ؟

نعم المدبّر والحكيم وإنّه *** ربّ الفصاحة مصطفى الكلمات

رجل الحجى رجل السياسة والدهاء *** بطل حليف النصر في الغارات

ببلاغة القرآن قد خلب النهى *** وبسيفه أنحى على الهامات

من دونه الأبطال في كل الورى *** من سابق أو غائب أو آت

2 - الوحي ثمرة الأحوال الروحيّة :

هذه النظرية هي التي يعتمد عليها المستشرقون في تحليل نبوّة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وفسّرها من بينهم « اميل درمنغام » ، وخلاصتها :

إنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج ، وذلك إنّ سريرته الطاهرة ، وقوّة إيمانه باللّه ، والإعتقاد بوجوب عبادته ، وترك ما سواها من عبادة وثنيّة وتقاليد وراثيّة موبوءة ، يحدث في عقله الباطن ، الرؤى والأحوال الروحيّة فيتصوّر ما يعتقد وجوبه ، إرشاداً إليه ، نازلاً عليه من السماء بدون وساطة ، أو يتمثّل له رجل يلقّنه ذلك ، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب ، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنّه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند جميع الأنبياء ، فكلّما يخبر به النبي انّه كلام اُلقى في روعه ، أو ملك ألقاه على سمعه ، فهو خبر صادق عنده (1).

نبوّة أو أضغاث أحلام ؟!

وممّا يلاحظ على تلك النظرية إنّها ليست بشيء جديد وإن كانت ربّما تنطلي

ص: 98


1- الوحي المحمدي ص 66.

على السذج من الناس بأنّها نظرية جديدة ذات قيمة علمية.

إنّ الذكر الحكيم يحكي لنا مقالة المشركين في سالف عهدهم في حقّ النبي الأكرم وكتابه حيث كا نوا يحلّلون نبوّته والوحي المنزّل عليه ، بأنّها أضغاث أحلام ، قال تعالى حاكياً عنهم : ( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أي أنّ ما يحكيه عن اللّه تبارك وتعالى إنّما هو وحي الأحلام يجري على لسانه ، وعلى ذلك فليست تلك النظرية إلاّ تفسير للنبوّة بالجنون الذي هو في مرتبة عالية وشديدة من تجلّي النزعات الخيالية فاستغلّه المستشرقون ، واستعرضوه بثوب جديد يوهم السذّج أنّها تحليل علمي بني على أساس علمي رصين ، ولكن المساكين غير واقفين على أنّه نفس النظرية الجاهلية التي جوبه بها النبي حيث قالوا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / 6 ).

وقد حكيت هذه التهمة عن لسان المشركين في غير سورة. سبحانك يا رب ما أعظم جناية الإنسان على الصالحين البالغين ، ذروة الكمال في العقل والدراية حتى وسمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبطة وأُخرى بالمسّ والجنون.

ص: 99

ص: 100

(5) بعثته ونزول الوحي إليه

اشارة

« بَعَثَ اللّهُ سُبْحانَهُ نَبِيَّهُ الأَكْرَم عَلَى حِينِ فَتَرةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَطُولِ هَجعَةٍ مِنَ الاُمَمِ ، وَاعْتِزَام مِنَ الفِتَنِ وَانتِشَارٍ مِنَ الأُمُورِ ، وَتَلَظٍّ مِنَ الحُروبِ ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ، ظَاهِرةُ الغُرورِ ، عَلى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا ، وإياسٍ مِن ثَمرِهَا ، وَاغوِرَار مِنْ مَائِهَا ، قَدْ دَرَسَتْ مَنَار الهُدى ، وَظَهَرتْ اَعلامُ الرَّدى ، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأَهْلِهَا ، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبَها ، ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ ، وَطَعَامُهَا الجِيفَةُ ، وَشِعارُهَا الخَوْفُ ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ » (1).

بعث على رأس الأربعين من عمره ، وبُشّر بالنبوّة والرسالة ، وأمّا الشهر الذي بعث فيه ، ففيه أقوال وآراء ، فالشيعة الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت علیهم السلام على أنّه صلی اللّه علیه و آله بعث في سبع وعشرين من رجب.

روى الكليني عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فإنّه اليوم الذي نزلت فيه النبوّة على محمّد صلی اللّه علیه و آله (2).

وروى أيضاً عن الإمام الكاظم علیه السلام أنّه قال : بعث اللّه عزّ وجلّ محمّداً رحمة للعالمين في سبع وعشرين من رجب(3) .

روى المفيد عن الإمام الصادق علیه السلام قال : في اليوم السابع والعشرين من رحب نزلت النبوّة على رسول اللّه ، إلى غير ذلك من الروايات (4).

وأمّا غيرهم فمن قائل بأنّه بعث في سبعة عشر من شهر رمضان أو ثمانية عشر أو أربع وعشرين من هذا الشهر أو في الثاني عشر من ربيع الأوّل.

ص: 101


1- إقتباس من كلام الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة الخطبة 85 ، طبعة عبده.
2- البحار ج 18 ص 189 - نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.
3- البحار ج 18 ص 189 - نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.
4- البحار ج 18 ص 189 - نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.

وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت ، كيف وهم نجوم الهدى ومصابيح الدجى وأحد الثقلين الذين تركهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعده ، فيجب علينا الوقوف دون نظرهم ولا نجتازه ، نعم دلّ الذكر الحكيم على أنّ القرآن نزل في شهر رمضان قال سبحانه : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... ) ( البقرة / 185 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ( القدر / 1 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) ( الدخان / 3 ).

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على نزوله في شهر رمضان.

والإستدلال بهذه الآيات على أنّه صلی اللّه علیه و آله بعث في شهر رمضان مبني على إقتران البشارة بالنبوّة ، بنزول القرآن وهو بعد غير ثابت ، فلو قلنا بالتفكيك وانّه بعث في شهر رجب ، وبشّر بالنبوّة فيه ، ونزل القرآن في شهر رمضان ، لما كان هناك منافاة بين بعثته في رجب ، ونزول القرآن في شهر رمضان.

ويؤيّد ذلك أي عدم اقتران النبوّة بنزول القرآن ما نقله غير واحد عن عائشة : إنّ أوّل ما بدء به رسول اللّه من النبوّة حين أراد اللّه كرامته ، الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رؤيا في نومه إلاّ جاءت كفلق الصبح ، قالت : وحبّب اللّه تعالى إليه الخلوة ، فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يخلو وحده (1).

لكن الظاهر من ذيل ما روته عائشة أنّ النبوّة كانت مقترنة بنزول الوحي والقرآن الكريم ، ولنذكر نص الحديث بتمامه ثمّ نذيّله ببيان بعض الملاحظات حوله.روى البخاري : « كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يخلو بغار حراء ، فيتحنّث فيه وهو التعبّد في الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاء الحقّ وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : اقرأ. قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثمّ أرسلني فقال : اقرأ ، قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني

ص: 102


1- صحيح البخاري ج 1 ص 3 ، السيرة النبوية ج 1 ص 334.

فقال : إقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطّني الثالثة ثمّ أرسلني ، فقال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) (1).

وفي هذه الرواية تأمّلات واضحة :

1 - ما هو المبرّر لجبرئيل أن يروّع النبي الأعظم ، وأن يؤذيه بالعصر إلى حدٍّ أنّه يظن انّه الموت ؟ يفعل به ذلك وهو يراه عاجزاً عن القيام بما يأمره به ، ولا يرحمه ولا يلين معه ؟

2 - لماذا يفعل ذلك ثلاث مرات لا أكثر ولا أقل ؟

3 - لماذا صدّقه في الثالثة ، لا في المرّة الاُولى ولا الثانية مع أنّه يعلم أنّ النبي لا يكذب ؟

4 - هل السند الذي روى به البخاري قابل للإحتجاج مع أنّ فيه الزهري وعروة.

أمّا الزهري فهو الذي عرف بعمالته للحكام ، وإرتزاقه من موائدهم ، وكان كاتباً لهشام بن عبد الملك ومعلّماً لأولاده ، وجلس هو وعروة في مسجد المدينة فنالا من علي ، فبلغ ذلك السجاد علیه السلام حتى وقف عليهما فقال : أمّا أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك ، فحُكِم لأبي على أبيك ، وأمّا أنت يا زهري فلو كنت أنا وأنت بمكّة لأريتك كن أبيك (2).

أمّا عروة بن الزبير الذي حكم عليه ابن عمر بالنفاق وعدّه الاسكافي من التابعيين الذين يضعون أخباراً قبيحة في عليّ علیه السلام (3).

نعم رواه ابن هشام والطبري في تفسيره وتاريخه (4) بسند آخر ينتهي إلى

ص: 103


1- صحيح البخاري ج 1 ص 3.
2- أي بيت أبيك.
3- الصحيح من سيرة النبي الأعظم ص 223.
4- السيرة النبوية ج 1 ص 235 ، تفسير الطبري ج 30 ص 162 ، وتاريخه ج 3 ص 353.

أشخاص يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرم ودونك أسماؤهم :

1 - عبيد بن عمير ، ترجمه ابن الاثير ، قال : ذكر البخاري أنّه رأى النبي وذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي وهو معدود من كبار التابعين يروي عن عمر وغيره (1).

2 - عبد اللّه بن شداد ، ترجمه ابن الأثير وقال : ولد على عهد النبي ، روى عن أبيه وعن عمر وعليّ (2).

3 - عائشة ، زوجة النبي ، حيث تفرّدت بنقل هذا الحديث ومن المستبعد جداً أن لا يحدّث النبي هذا الحديث غيرها مع تلهف غيرها إلى سماع أمثال هذا الحديث.

نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكري علیه السلام ونقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه (3) أو المجلسي في بحاره (4).

لكن الكلام في صحّة نسبة التفسير الموجود إلى الإمام العسكري علیه السلام وأمّا المناقب فإنّه يورد الأحاديث والتواريخ مرسلة لا مسندة ، والمجلسي اعتمد على هذه المصادر التي عرفت حالها.

وبذلك يظهر أنّه لا دليل على أنّ البشارة بالنبوّة كانت مقترنة بنزول القرآن ، وبذلك ينسجم نزول القرآن في شهر رمضان مع كون البعثة في شهر رجب ، نعم أورد العلاّمة الطباطبائي على هذه النظرية بقوله : إذا بعث النبي في اليوم الثاني والعشرين من شهر رجب وبينه وبين شهر رمضان أكثر من ثلاثين يوماً فكيف تخلو البعثة في هذه المدّة من نزول القرآن ؟ على أنّ سورة العلق أوّل سورة نزلت على رسول اللّه وأنّها

ص: 104


1- اُسد الغابة ج 3 ص 353.
2- نفس المصدر ج 4 ص 183.
3- مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 40 - 44.
4- بحار الأنوار ج 18 ص 196.

نزلت بمصاحبة البعثة (1).

يلاحظ على ما ذكر :

1 - انّ الوجه الأوّل من كلامه مجرّد استبعاد ، فأي إشكال في أن يكون النبي قد بشّر بالنبوّة ونزِّل القرآن بعد شهر وبضعة أيام.

2 - وأمّا الوجه الثاني فلأنّ الروايات نطقت بأنّها أوّل سورة نزلت وليس فيها ما يدلّ على اقتران نزولها بأوّل عهد البعثة.

سؤال وإجابة :

إذا كان القرآن نازلاً في شهر رمضان فإنّ معناه أنّ مجموعه نزل في هذا الشهر مع أنّه نزل قرابة مدّة ثلاثة وعشرين سنة فكيف التوفيق بين هذين الأمرين ؟

وأمّا الإجابة فقد اُجيب عنه بأجوبة نذكرها واحداً تلو الآخر.

الأوّل : إنّ للقرآن نزولين : نزول دفعي وقد عبّر عنه بلفظ الإنزال الدال على الدفعة ، ونزول تدريجي وهو الذي يعبّر عنه بالتنزيل. قال سبحانه : ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ( هود / 1 ) فإنّ هذا الإحكام في مقابل التفصيل ، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً ، وقطعة قطعة ، والإحكام كونه على وجه لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض ، لرجوعه إلى معنى واحد ، لا أجزاء ولا فصول فيه ، فعلى ذلك فالقرآن نزل دفعة واحدة على قلب النبي الأعظم ، ثم صار ينزل تدريجياً حسب المناسبات والوقائع والأحداث (2).

وعلى ذلك فلا مانع من نزول جميع القرآن في شهر رمضان نزولاً دفعياً ، ثمّ نزوله نحو ما في بضعة وعشرين سنة.

ص: 105


1- تفسير الميزان ج 2 ص 13.
2- الميزان ج 2 ص 14 - 16.

ويلاحظ عليه : أنّ ما ذكره مبني على الفرق بين « الإنزال » و « التنزيل » ، وإنّ الأوّل عبارة عن النزول الدفعي ، والثاني عن النزول التدريجي مع أنّه لا دليل عليه ، فإنّ الثاني أيضاً استعمل في النزول الدفعي. قال تعالى حاكياً عن المشركين : ( وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) ( الاسراء / 93 ).

وقال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان / 32 ) فلو كان التنزيل هو النزول التدريجي فلماذا وصفه بقوله : « جملة واحدة ... ».

الثاني : إنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى البيت المعمور حسب ما نطقت به الروايات الكثيرة ثمّ صار ينزل تدريجياً على الرسول الأعظم.

روى حفص بن غياث عن الإمام الصادق علیه السلام قال سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) وإنّما اُنزل في عشرين بين أوّله وآخره ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام « نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثمّ نزل في طول عشرين سنة » (1).

ولو صحّت الرواية يجب التعبّد بها ، وإلاّ فما معنى نزول القرآن الذي هو هدى للناس إلى البيت المعمور ، وأي صلة بهذا النزول بهداية الناس الذي يتكلّم عنه القرآن ويقول : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) ؟

قال الشيخ المفيد :

« الذي ذهب إليه أبو جعفر (2) حديث واحد لا يوجب علماً ولا عملاً ونزول

ص: 106


1- البرهان في تفسير القرآن ج 1 ص 182 ، والدر المنثور ج 6 ص 370.
2- مراده الصدوق ، وقد ذهب إلى أنّ القرآن قد نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور ، ثمّ انزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة.

القرآن على الأسباب الحادثة حالاً لا يدلّ على خلاف ما تضمّنه الحديث ، وذلك انّه قد تضمّن حكم ما حدث ، وذكر ما جرى على وجهه ، وذلك لا يكون على الحقيقة إلاّ لحدوثه عند السبب ، ... الخ.

ثمّ استعرض آيات كثيرة نزلت لحوادث متجددة (1).

الثالث : إنّ القرآن يطلق على الكلّ والجزء ، فمن الممكن أن يكون المراد بنزول القرآن في شهر رمضان هو شروع نزوله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر ، فكما يصحّ نسبة النزول إليه في شهر رمضان إذا نزل جملة واحدة ، تصحّ نسبتة إليه إذا نزل أوّل جزء منه في شهر رمضان واستمرّ نزوله في الأشهر القادمة طيلة حياة النبي.

فيقال : نزل القرآن في شهر رمضان أي بدأ نزوله في هذا الشهر ، وله نظائر في العرف ، فلو بدأ فيضان الماء في المسيل يقال جرى السيل في يوم كذا وإن استمرّ جريانه وفيضانه عدّة أيام.

وهذا هو الظاهر من صاحب « المنار » حيث يقول : وأمّا معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنّ المعروف باليقين أنّ القرآن نزل منجّماً في مدّة البعثة كلّها ، فهو أنّ إبتداء نزوله كان في رمضان ، ذلك في ليلة منه سمّيت ليلة القدر أي الشرف ، والليلة المباركة كما في آيات اُخرى. وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه ، على أنّ لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كلّه ويطلق على بعضه.

الرابع : إنّ جملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة ، لكن لمّا نزلت سورة الحمد بها وهي تشتمل على جلِّ معارف القرآن ، فكأنّ القرآن اُنزل فيه جميعاً فصحّ أن يقال : إنّا اَنزلناه في ليلة القدر.

يلاحظ عليه : أنّه لو كانت سورة الحمد أوّل سورة نزلت على رسول اللّه لكان حق الكلام أن يقال : قل بسم اللّه الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، أو يقال :

ص: 107


1- تصحيح الإعتقاد ص 58.

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، قل : الحمد لله ربّ العالمين (1).

وهذا يعرب عن أنّ سورة الحمد ليست أوّل سورة نزلت على النبي.

هذه هي الوجوه التي ذكرها المفسّرون المحقّقون والثالث هو الأقوى.

أوّل ما نزل على رسول اللّه :

ذكر أكثر المفسّرين أنّ أوّل سورة نزلت على رسول اللّه هي سورة العلق ، وتدل عليه روايات أئمّة أهل البيت. روى الكليني عن الصادق علیه السلام قال : أوّل ما نزل على رسول اللّه ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... ) وآخر سورة هو قوله : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ ... ) ومثله عن الإمام الرضا علیه السلام (2).

ولعلّ المراد نزول آيات خمس من أوّلها لا جميع السورة.

لأنّ قوله سبحانه في نفس تلك السورة : ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى ... ) لا يناسب أن تكون أوّل ما نزل ، بل هو حاك عن وجود تشريع للصلاة ، ووجود من يقيمها حتّى واجه نهي بعض المشركين ، وهذا لا يتّفق مع كونه أوّل ما نزل.

أساطير وخرافات

دلّت الأدلة العقلية والآيات القرآنية على أنّ الأنبياء مصونون عن الخطأ والإشتباه في تلقّي الوحي أوّلاً ، وضبطه ثانياً ، وإبلاغه ثالثاً وأنّهم لا يشكّون فيما يلقى في روعهم من أنّه ربّ العالمين وأنّ ما يعاينونه رسول إله العالمين ، والكلام كلامه ، لا يشكّون في ذلك طرفة عين ولا يتردّدون بل يتلقّونه بنفس مطمئنة.

ص: 108


1- الميزان ج 2 ص 21 - 22.
2- البرهان في تفسير القرآن ج 1 المقدّمة الباب الخامس عشر ص 29 ، وتاريخ القرآن للزنجاني ص 30.

هذا هو القرآن الكريم يذكر كيفيّة بدء نزول الوحي إلى موسى وإنّه تلقّاه بلا تردّد ولا تريّث. بذكره في سور مختلفة :

يقول : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * ... اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ) ( طه / 11 - 35 ).

ترى أنّ الكليم عندما فُوجئ بنزول الوحي ، تلقّاه بصدر رحب ، ولم يتردّد في أنّه وحيه سبحانه وأمره ، ولذلك سأل سبحانه أن يشرح له صدره ، وييسر له أمره ، ويحلّ العقدة التي في لسانه ، ويجعل له وزيراً من أهله ، يشدّ به أزره ويشركه في أمره.

يقول سبحانه : ( فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللّهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل / 8 - 9 ).

وجاءت هذه القصة في سورة القصص على وفق ما وردت في السورتين (1).

ومن لاحظ هذه الآيات يقف على أنّ موقف الأنبياء من الوحي هو موقف الإنسان المتيقّن المطمئنّ إليه ، وهذه خاصّة تعمّ جميع الأنبياء علیهم السلام .

نرى أنّه سبحانه يذكر رؤية النبي الأكرم ، ومواجهته لمعلّمه الذي وصفه القرآن ب « شديد القوى ».

يقول : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ

ص: 109


1- القصص 29 - 35.

مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ) ( النجم / 4 - 12 ).

فأي كلمة أصرح في توصيف إيمان النبي واذعانه في مجال الوحي ومواجهة أمينه من قوله سبحانه : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) أي صدق القلب عمل العين. ويحتمل أن يكون المراد ، ما رآه الفؤاد.

قال العلاّمة الطباطبائي :

فالمراد بالفؤاد ، فؤاد النبي صلی اللّه علیه و آله وضمير الفاعل في « ما رأى » راجع إلى الفؤاد ، والرؤيا رؤيته ولابدع في نسبة الرؤية وهي مشاهدة العيان إلى الفؤاد ، فإنّ للإنسان نوعاً من الإدراك الشهودي وراء الإدراك بإحدى الحواسّ الظاهرة ، والتخيّل والتفكّر بالقوى الباطنة كما أنّنا نشاهد من أنفسنا أنّنا نرى وليست هذه المشاهدة العيانية رؤية بالبصر ولا معلوماً بالفكر ، وكذا نرى من أنفسنا أنّنا نسمع ونشمّ ونذوق ونلمس ، ونشاهد أنّنا نتخيّل ونتفكّر ، وليست هذه الرؤية ببصر أو بشيء من الحواسّ الظاهرة أو الباطنة (1).

فاللّه سبحانه يؤيّد صدق النبي فيما يدّعيه من الوحي ورؤية آيات اللّه الكبرى ، سواء كانت بالعين أو بالفؤاد.

وعلى كل تقدير فهذه الآيات وغيرها تدلّ على أنّ الأنبياء وغيرهم لا يشكّون ولا يتردّدون فيما يواجهون من الاُمور الغيبيّة.

وعلى ضوء ذلك تقف على أنّ ما ملأ كتب السيرة وبعض التفاسير في مجال بدء الوحي وأنّه تردّد النبي وشكّ عندما بشّر بالنبوّة وشاهد ملك الوحي وامتلأ روعاً وخوفاً إلى حدّ حاول أن يلقي نفسه من شاهق ، وعاد إلى البيت فكلّم زوجته فيما واجهه ، وعادت زوجته تسلّيه وتقنعه بأنّه رسول ربّ العالمين ، وإنّ ما رآه ليس إلاّ أمراً حقّاً.

إذ كل ذلك أساطير وخرافات ، تناقض البراهين العقليّة وما يتلقّاه الإنسان

ص: 110


1- الميزان ج 19 ص 30.

من قصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم ، وقد دسّها الأحبار والرهبان وسماسرة الحديث والقصّاصون في كتب القصص والسير والحديث ، ونحن نكتفي في المقام بما ذكره البخاري في صحيحه وابن هشام في سيرته ، فإنّ استقصاء كل ما ورد حول هذا الموضوع من الروايات المدسوسة يدفع بنا إلى تأليف رسالة مفردة ، ولكن فيما ذكرنا غنىً وكفاية. قال البخاري :

( بعد ذكر نزول أمين الوحي عليه في جبل حراء ) « فرجع بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد ( رضي اللّه عنها ) فقال : زمّلوني زمّلوني ، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة - واخبرها الخبر - لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة : كلاّ واللّه ما يخزيك اللّه أبداً إنّك لتصل الرحم ، وتحمل الكل وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحقّ ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة ، وكان أمرئً تنصّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء اللّه أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت له خديجة يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل اللّه على موسى يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمخرجي هم ؟ قال : نعم ، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلاّ عودي ، وان يدركني يومك ، أنصرك نصراً مؤزّراً ثم لم ينشب (1) ورقة أن توفّي وفتر الوحي » (2).

هذا ما لدى البخاري ، وأمّا صاحب السيرة النبوية فبعدما ذكر مسألة الغتّ ينقل عن النبي أنّه قال :

« فخرجت حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول :

ص: 111


1- أي لم يلبث.
2- صحيح البخاري ج 1 ص 3.

يا محمد ، أنت رسول اللّه وأنا جبرئيل ، قال : فوقفت أنظر إليه ، فما أتقدّم وما أتأخّر ، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء ، قال : فلا أنظر في ناحية منها إلاّ رأيته كذلك ، فما زلت واقفاً ، ما أتقدّم أمامي ، وما أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا على مكّة ورجعوا إليها ، وأنا واقف في مكاني ذلك ، ثم انصرف عنّي وانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها ، فقالت : يا أبا القاسم ، أين كنت ؟ فو اللّه لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكّة ورجعوا إليّ ، ثمّ حدّثتها بالذي رأيت ، فقالت : أبشر يا ابن عمّ واثبت ، فو الذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الاُمّة ».

ثمّ يذكر انطلاق خديجة إلى ورقة بن نوفل ، وما أجابها به ورقة بنفس النص الذي ذكره البخاري ثمّ يذكر لقاء النبي ورقة بن نوفل ، وهو يطوف بالكعبة ، فسأله ورقة بما رأى وسمع ، فأخبره النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فقال له ورقة : والذي نفسي بيده إنّك لنبيّ هذه الاُمّة.

ثمّ عقبه بذكر ما قامت به خديجة من إمتحان صدق نبوّته فذكر أنّها قالت لرسول اللّه : أي ابن عمّ ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا إذا جاءك ؟ قال : نعم. قالت : فإذا جاءك فاخبرني به ، فجاءه جبرئيل ، فقال رسول اللّه لخديجة : هذا جبرئيل قد جائني ، قالت : قم يا بن عمّ فاجلس على فخذي اليسرى ، قال : فقام رسول اللّه فجلس عليها ، قالت : هل ترى ؟ قال : نعم ، قالت : فتحوّل فاجلس على فخذي اليمنى ، فجلس على فخذها اليمنى ، فقالت : هل تراه ؟ قال : نعم ، قالت : فتحوّل واجلس في حجري ، فتحوّل فجلس في حجرها ، قالت هل تراه ، قال : نعم ، فتحسّرت وألقت خمارها ورسول اللّه جالس في حجرها ، ثم قالت له : هل تراه ؟ قال : لا.

قالت : يا ابن عم اثبت وابشر ، فو اللّه هذا ملك وما هذا بشيطان (1).

وقال الطبري - بعد ما ذكر نزول جبرئيل إليه وتعليم آيات من سورة العلق -

ص: 112


1- السيرة النبوية ج 1 ص 237 - 239 ، وتاريخ الطبري ج 2 ص 49 - 50.

ثمّ دخلت على خديجة وقلت : زمّلوني زمّلوني حتى ذهب عنّي الروع ، ثمّ أتاني وقال : يا محمد ، أنت رسول اللّه.

قال : لقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل فتبدّى لي حين هممت بذلك ، فقال : يا محمد ، أنا جبرئيل وأنت رسول اللّه ، ثمّ قال : إقرأ ، قلت : ما اقرأ ؟ قال : فأخذني فغتني ثلاث مرات حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ قال : اقرأ باسم ربّك الذي خلق ، فقرأت فأتيت خديجة ، فقلت : لقد أشفقت على نفسي ، فأخبرتها خبري فقالت : ابشر فو اللّه لا يخزيك اللّه أبداً ، وواللّه إنّك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتؤدّي الأمانة ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحقّ ، ثمّ انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد ، فقالت : اسمع من ابن أخيك ، فسألني فأخبرته خبري ، فقال : هذا الناموس الذي اُنزل على موسى بن عمران ... .

نظرة تحليلية حول هذه النصوص :

إنّ هذه النصوص التاريخية التي نقلها المشايخ كالبخاري وابن هشام والطبري ، وتلقّاها الآخرون من بعدهم على أنّها حادثة متسالم عليها تضاد ما يستشفه الإنسان من التدبّر في حالات الأنبياء في القرآن الكريم وتناقض البديهة العقلية ، وإليك بيان ما فيها من نقاط الضعف وعلائم الجعل والتهافت :

1 - إنّ النبوّة كما عرفت منصب إلهي لا يفيضه اللّه إلاّ على من امتلك زخماً هائلاً من القدرات الروحية والقوى النفسية العالية حتّى يقوى على معاينة الوحي ، ومشاهدة الملائكة ، فعندئذٍ فلا معنى لما ذكره البخاري : « لقد خشيت على نفسي » أفيمكن أن ينزل الوحي الإلهي على من لا يفرّق بين لقاء الملك ، ولقاء الجنّ ومكالمتهما حتى يخشى على نفسه الجنون أو الموت ؟

2 - وأسوأ منه ما ذكره الطبري من أنّه صلی اللّه علیه و آله همّ أن يرمي بنفسه من شاهق من جبل ، فندم عليه ورجع عنه حين سمع كلام جبرئيل يا محمد أنا جبرئيل.

ص: 113

إنّ هذا الكلام يعرب من أنّ نفسه صلی اللّه علیه و آله لم تكن نفساً مستعدّة لتحمّل الوحي على حدٍّ ، همّ أن يقتل نفسه بالإلقاء من حالق ، وهل هذا هو إلاّ نفس الجنون الذي كان المشركون يصفونه به طيلة بعثته ، فوا عجباً نسمعه من أعوانه وانصاره ومن لسان زوجته.

3 - إنّ قول خديجة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كلاّ واللّه ما يخزيك اللّه أبداً ، تعرب من أنّها كانت أوثق إيماناً بنبوّته من نفس الرسول. فهل يمكن التفوّه بذلك ، وما حاجة النبي الأعظم الذي قال تعالى في حقّه : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) ( النساء / 113 ) إلى هذا التسلّي ؟

وهل يصحّ ويتعقّل للنبيّ أن يشكّ في رسالة نفسه حتى يستفتي زوجته فيزول شكّه بتصديقها ؟

4 - ذكر البخاري : انّ خديجة انطلقت مع رسول اللّه إلى ورقة ، فأخبره رسول اللّه بما وقع ، فأجاب ورقة بما ذكره ، وانّ ما نزل عليه هو الناموس الذي نزّله اللّه على موسى.

ومعنى هذا أن يكون ورقة أعلم بالسرّ المودع في قلب رسول اللّه من نفسه ، كما أنّ معنى ذلك انّ كلاًّ من الزوجين كانا شاكّين في صحّة الرسالة ، فانطلقا إلى متنصّر وقرأ وريقات من العهدين حتى يستفتياه ليزيل عنهما حجاب الشكّ وغشاوة الريب.

5 - إنّ معنى ما ذكره البخاري من أنّ ورقة أخبر النبي بأنّه : يسخر منك قومك ، وتعجّب الرسول من هذا الكلام وقال : أوَ مخرجي هم ؟ كون المرسل إليه أعلم من الرسول وأفضل منه.

6 - إنّ ما ذكره ابن هشام من « انّ الرسول كلّما رفع رأسه إلى السماء لينظر ما رأى إلاّ رجلاً صافّاً قدميه في اُفق السماء ، فلا ينظر في ناحية من السماء إلاّ رآه فيها » يشبه كلام المصابين في عقولهم وشعورهم ، والمختلّين في أفكارهم ، فلا يرون في

ص: 114

كل جهة إلاّ الصورة المتخيّلة ، لطغيانها على مخيّلتهم وشعورهم ، أعاذنا اللّه من إكالة الشنائع بمقام النبوّة ، بنحو لا يليق بساحة العاديين من الناس فضلاً عن النبي الأكرم خاتم النبّيين.

7 - انظر إلى امتحان خديجة لبرهان النبوّة فإنّ ظاهرها أنّها كانت شاكّة في نبوّة زوجها ، ولكنّها استحصلت اليقين على الوجه الذي سمعته في كلام ابن هشام والطبري ، ولكن أي صلة بين رفع الخمار والقائه وعدم رؤية جبرئيل ، وهل لرفع الخمار وتعرية شعر الرأس تأثير في غياب أمين الوحي عن البيت ؟

نرى أنّه سبحانه ينقل في غير سورة من سور القرآن الكريم مكالمة الملائكة زوجة الخليل وتبشيرها بالولد. فهل يمكن لنا أن نقول بعد ذلك : إنّ زوجة الخليل لو كانت مكشوفة الرأس لامتنعت الملائكة من دخول بيت الخليل علیه السلام (1).

8 - إنّ ورقة بن نوفل على حدّ تصريح نصّ الرواية كان بادي بدئه نصرانيّاً بعد ما كان مشركاً ، فمقتضى الحال أن يشبّه الرسول الأعظم بالمسيح الذي كان يعتقد بنبوّته ، لا بالكليم. أو ليس هذا يعرب عن لعب يد الأحبار في الخفاء في اصطناع هذه الأحاديث ودورهم في تشويش صفاء رسالة الرسول الأعظم بأمثال هذه الأساطير والمهاترات والخرافات ؟

9 - نحن على ثقة ويقين بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله إلاّ الأمثل والأكمل فالأكمل من الناس ، ولا يقوم بأعباء مهامّها إلاّ من امتلك قدرة روحيّة خاصّة تبعث في نفسه الإذعان والتسليم ، والإنقياد حينما يتمثّل له رسول ربّه وأمين وحيه ، فلا تأخذه المسكنة ولا يستولي عليه الخوف عند سماع كلامه ووحيه ، وقد درسنا وضع الكليم عندما فوجئ بالوحي فما حاق به الروع ولا أحاط به الخوف ، ولا همّ بإلقاء نفسه ... إلى غير ذلك ممّا ورد في هذه الروايات ، وبما أنّ القرآن هو المرجع الفصل في تمييز الصحيح من الزائف في جملة هذه الروايات ، يحتّم علينا إعراض

ص: 115


1- لاحظ هود / 71 - 73 ، الذاريات / 29.

الصفح عنها ، وضربها عرض الجدار ، مضافاً إلى ما فيها من التناقض والإختلاف في حكاية القصّة كما هو معلوم لمن تدبّر فيها وتأمّل نصّها.

فرية إنقطاع الوحي وفتوره

وقفت على ما في الروايات السابقة من الوضع والدسّ بهدف تشويه صفاء صورة رسالة النبي الأكرم فهلمّ معي نتناول فريّة اُخرى حيكت على المنوال السابق ، وللغاية نفسها ، وهي مسألة إنقطاع الوحي بعد نزول آيات من سورة العلق ، أو سورة المدّثّر ، أو سورة الحمد على إختلاف في أوّل سورة نزلت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد حازت هذه الفريّة على نصيب من الإهتمام والتقدير في كتب السيرة والتفسير حتى إنّ الدكتور محمد حسين هيكل ، أرسلها إرسال المسلّمات في كتابه بقوله : « انتظر هداية الوحي إيّاه في أمره ، وإنارة سبيله ، فإذا الوحي يفتر ، واذا جبرئيل لا ينزل عليه ، ... إلى أن قال : وقد روي أنّ خديجة قالت له : ما أرى ربّك إلاّ قد قلاك ، وتولاّه الخوف والوجل ، فهما يبعثانه من جديد ، يطوي الجبال وينقطع في حراء يرتفع بكل نفسه ابتغاء وجه ربّه ، يسأله : لم قلاه بعد أن اصطفاه ، ولم تكن خديجة بأقلّ منه إشفاقاً ووجلاً ويتمنّى الموت صادقاً لولا أنّه كان يشعر بما اُمر به ، فيرجع إلى نفسه ، ثمّ إلى ربّه ، ولقد قيل : إنّه فكّر في أن يلقي بنفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس وأيّ خير في الحياة ، وهذا أكبر عمله فيها يدوي وينقضي ، وانّه لذلك تساور هذه المخاوف ، إذ جاءه الوحي بعد طول فتوره إذ نزل عليه بقوله تعالى : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( سورة الضحى ) (1).

هذا ما يذكره رجل مثقّف في القرن العشرين في حقّ النبي الأكرم ، فما ظنّك

ص: 116


1- حياة محمد صلی اللّه علیه و آله ص 138.

بغيره ممّن سبقه من الذين يتعبّدون بالروايات ولا يحيدون عن شاذّها وسقيمها قيد أنملة وقدر شعرة ، واصل هذه الفرية يرجع إلى كتب السيرة والتفسير ، وإليك ما يذكره واحد من اُولئك من أمثال الطبري حيث يصرّح في تفسيره بما نصّه :

1 - عن ابن زيد : إنّ هذه السورة نزلت على رسول اللّه تكذيباً من اللّه قريشاً في قيلهم لرسول اللّه لمّا أبطأ عليه الوحي : « قد ودّع محمداً ربّه وقلاه ».

2 - عن ابن عبد اللّه : لمّا أبطأ جبرئيل على رسول اللّه ، فقالت امرأة من أهله أو من قومه : ودّع الشيطان محمداً ، فأنزل اللّه عليه : ( وَالضُّحَى ... - إلى قوله - مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .

3 - عن جندب البجلي : أبطأ جبرئيل على النبي حتّى قال المشركون ودّع محمداً ربّه ، فأنزل اللّه : ( وَالضُّحَى ... ) ، وعنه قالت امرأة لرسول اللّه : ما أرى صاحبك إلاّ قد أبطأ عنك ، فنزلت هذه الآية.

وفي رواية اُخرى عنه : ما أرى شيطانك إلاّ قد تركك.

4 - عن عبد اللّه بن شدّاد : إنّ خديجة قالت للنبي : ما أرى ربّك إلاّ قد قَلاك ، فأنزل اللّه ( وَالضُّحَى ) .

5 - وعن قتادة : إنّ جبرئيل أبطأ عليه بالوحي ، فقال ناس من الناس : ما نرى صاحبك إلاّ قد قلاك فودّعك ، فأنزل اللّه : ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .

6 - عن ضحّاك : مكث جبرئيل عن محمّد ، فقال المشركون : قد ودّعه ربّه.

7 - عن ابن عروة ، عن أبيه قال : أبطأ جبرئيل على النبي ، فجزع جزعاً شديداً ، وقالت خديجة : أرى ربّك قد قلاك ، ممّا نرى من جزعك ، قالت : فنزلت ( وَالضُّحَى ) (1).

يلاحظ على هذه الروايات وعلى فرية فترة إنقطاع الوحي عدّة اُمور :

1 - إنّ هذه الروايات التي ملأت التفاسير وكتب السير ، رويت عن اُناس

ص: 117


1- تفسير الطبري ج 30 ص 148.

لا يركن إليهم كقتادة والضحّاك فإنّهما كانا يأخذان تفسير القرآن عن أهل الكتاب (1). وجلّها بل كلّها مرسلة غير مسندة إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله .

2 - إنّها اختلفت في القائل الذي شَمِت برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقوله : « ودّعك ربّك » فربّما يسند إلى امرأة من أهله أو قومه واخرى إلى المشركين ، وثالثة إلى طائفة من الناس ، ورابعة إلى زوجته خديجة.

إنّ نسبة هذا القول إلى زوجته الطاهرة التي آمنت به يوم بعثته ، وقد عرفت فضائله وملكاته النفسيّة عن كثب ، بعيداً جداً.

3 - إنّها إختلفت في مدة الفترة. قال ابن جريج : احتبس عنه الوحي اثنى عشر يوماً ، وقال ابن عباس : خمسة عشر يوماً ، وقيل : خمسة وعشرين يوماً ، وقال مقاتل : أربعين يوماً (2) ، وفي فتح الباري : انّه كان ثلاث سنين (3) كما في السيرة الحلبية وفيها أيضاً : إنّها كانت سنتين ونصفاً ، وعلى قول : سنتين ، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة التي تحكي عن اضطراب في الرواية والنقل.

4 - إختلفت الرواية في سبب الفترة وانقطاع الوحي.فتارة زعموا أنّ سببها هو أنّ اليهود سألوا رسول اللّه عن مسائل ثلاث : عن أصحاب الكهف وعن الروح وعن قصّة ذي القرنين ، فقال صلی اللّه علیه و آله : سأخبركم غداً ولم يستثنِ ، فاحتبس عنه الوحي ، فقال المشركون ما قالوا ، فنزلت (4).

واُخرى قالوا : إنّ عثمان أهدى إليه عنقود عنب ، وقيل : عذق تمر ، فجاء سائل فأعطاه ، ثمّ اشتراه عثمان بدرهم ، فقدّمه إليه صلی اللّه علیه و آله

ص: 118


1- لاحظ آلاء الرحمن في تفسير القرآن ، ج 1 ، ص 46 ، يقول : إنّ الضحّاك بن مزاحم فقد ضعّفه يحيى بن سعيد ، وكان يروي عن ابن عباس ، وانكر ملاقاته له حتى قيل : إنّه ما رآه قط ، وأمّا قتادة فقد ذكروا : انّه مدلّس.
2- تفسير القرطبي ج 20 ص 92.
3- السيرة الحلبية ج 1 ص 262.
4- روح المعاني ج 10 ص 157 ، نقله عن جمع من المفسرين.

ثانياً ، ثمّ عاد السائل فأعطى وهكذا ثلاث مرّات ، فقال صلی اللّه علیه و آله ملاطفاً لا غضبان : أسائل أنت يا فلان أم تاجر ؟ فتأخّر الوحي أيّاماً فاستوحش فنزلت.

وثالثة : رووا عن ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من حديث خولة ، وكانت تخدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن جرواً دخل تحت سرير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فمات ولم تشعر به ، فمكث رسول اللّه أربعة أيّام لا ينزل عليه الوحي ، فقال : يا خولة ! ما حدث في بيت رسول اللّه ؟ جبرئيل لا يأتيني ! فقلت يا نبي اللّه ما أتى علينا يوم خير من هذا اليوم ، فأخذ برده فلبسها وخرج ، فقلت في نفسي لو هيّأت البيت وكنسته ، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بدا لي الجرو ميّتاً ، فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار ، فجاء النبي ترعد لحيته ، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة ، فقال يا خولة دثّريني ، فأنزل اللّه تعالى : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) (1).

ورابعة : انّ المسلمين قالوا : يا رسول اللّه مالك لا ينزل عليك الوحي ؟ فقال : وكيف ينزل عليّ وأنتم لا تنقّون رواجبكم ، وفي رواية : براجمكم ، ولا تقصّون أظفاركم ، ولا تأخذون من شواربكم ، فنزل جبرئيل بهذه السورة ، فقال النبي : ما جئت حتى اشتقت إليك ، فقال جبرئيل : وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً ، ولكنّي عبد مأمور ، ثمّ أنزل عليه : ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ) ( مريم / 64 ) (2).

إنّ الإضطراب في أسباب فتور الوحي يعرب عن عدم صحّة الرواية.

أمّا الأوّل : فلو صحّ فيلزم كون زمان إنقطاع الوحي في العام السابع من البعثة لأنّ قريشاً أرسلت النضر بن الحارث وابن أبي معيط إلى أحبار اليهود يسألانهم عن النبي الأكرم ، وقالا لهم : إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، فقالت لهم أحبار اليهود : سلوهُ عن ثلاث نأمركم بهنّ ، فجاؤوا إلى رسول اللّه ، وقالوا : يا محمّد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ، قد كانت لهم قصّة عجب ،

ص: 119


1- روح المعاني ج 10 ص 157.
2- تفسير القرطبي ج 20 ص 93 ، ومجمع البيان ج 10 ص 55 ( طبع صيدا ).

وعن رجل كان طوّافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أخبركم بما سألتم عنه غداً ولم يستثن ، فانصرفوا عنه (1).

نحن ننزّه ساحة النبي الأكرم الذي نشأ نشأة الأنبياء في عالم مليء بالطهر والقداسة ، أن يخبرهم على وجه قاطع بأنّه سيجيبهم غداً على أسئلتهم تلك فمن أين علم أنّه سبحانه ينزل الوحي عليه غداً ؟ أو أنّه سبحانه يجيب عن أسئلتهم عن طريق الوحي ؟

وأمّا الثاني : فهو أشبه بالقصص الموضوعة ، فهل من المعتاد أن يباع عنقود عنب ثلاث مرّات في السوق ، ومثله عذق تمر ؟ ولعلّ الجاعل كان يهدف إلى إختلاق الفضائل لعثمان فحسب أنّ هذا الموضع مناسب له.

وأمّا الثالث : فبعيد جدّاً ، إذ كيف يمكن أن يموت الجرو تحت سرير النبي أو في زاوية من البيت ولا يلتفت إليه ؟ على أنّ ظاهر الرواية أنّ إنقطاع الوحي كان بعد تلقّي النبي لنزول الوحي مدّة مديدة حيث إنّ خولة قالت : « وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة » فإنّ ذلك يعرب عن أنّ الحادثة كانت في أزمنة متأخّرة من بدء البعثة ، مع أنّ المشهور انّها كانت في بدء البعثة - أي بعد نزول سورة العلق أو آيات منها -.

وأمّا الرابع : فهو أشبه بحمل النبي وزر الغير ، فإنّ عدم قصّ المسلمين شواربهم ، أو عدم تنظيف رواجبهم لا يكون سبباً لإنقطاع الوحي ، قال سبحانه : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ( الأنعام / 164 ).

هذه الوجوه كلّها تدفع بنا إلى القول : بأنّ مسألة انقطاع الوحي فرية تاريخيّة صنعتها يد الجعل والوضع لغاية أو غايات خاصّة ، ولم يكن هناك أيّة فترة ، وإنّما المسألة كانت بصورة اُخرى :

ص: 120


1- السيرة النبويّة لإبن هشام ج 1 ، ص 301.

هي أنّه تعلّقت مشيئته سبحانه على نزول الوحي نجوماً - أي فترة بعد فترة - حسب المقتضيات والأسباب الموجبة لنزوله أوّلاً ، وتثبيت فؤاد النبي بذلك ثانياً ، قال سبحانه مشيراً إلى مشيئته الحكيمة :

( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) ( الأسراء / 106 ). وقال سبحانه مشيراً إلى أنّ من بواعث نزول الوحي تدريجيّاً كونه سبباً لتثبيت فؤاده : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان / 32 ) فعلى ضوء ذلك لم يكن هناك إلاّ مسألة طبيعية على صعيد الوحي وهو نزوله تدريجيّاً لا دفعة واحدة ، غير أنّ المشركين الجاهلين بمشيئته سبحانه وأسرار نزول الوحي تدريجيّاً ، كانوا يترقّبون نزول الوحي عليه دوماً وفي كل يوم وساعة ، أو نزول مجموع الشريعة دفعة واحدة كما نزلت التوراة على موسى. قال سبحانه : ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) ( الأعراف / 145 ). فلمّا شاهدوا خلاف ما كانوا يترقّبونه من مدّعي النبوّة إنصرفوا إلى اتّهام النبي بأنّه ودّعه ربّه الذي ينزّل عليه الوحي أو الشيطان الذي يلهمه على حدّ تعبيرهم.

فحصيلة البحث : انّه لم يكن هناك إنقطاع ولا فتور ولا سبب من الأسباب المذكورة في الروايات بل كان مجرّد توهّم توهّموه.

ثُمّ إنّ المعروف بين المفسّرين أنّ سورة الضحى حسب الترتيب النزولي ، السورة الحادية عشرة ، وكانت الاُولى هي العلق ، فالقلم ، فالمزّمّل ، فالمدّثّر ، فلهب ، فالتكوير ، فالأعلى ، فالإنشراح ، فالعصر ، فالفجر ، فالضحى (1).

والظاهر ممّن ينقل مسألة إنقطاع الوحي وفتوره أنّها نزلت في بدء الوحي بعد إنقطاعه أي نزل بعد العلق أو بعد المدثّر مع أنّها نزلت متأخّرة ، وكان الوحي ينزل على النبي تترى حسب مقتضيات الظروف والمناسبات والوقائع والأحداث.

ص: 121


1- تاريخ القرآن للزنجاني ص 36.

نعم ذكر اليعقوبي أنّ سورة « الضحى » هي السورة الثالثة ، ولعلّه متفرّد في ذلك القول (1).

مراحل الدعوة الثلاث

اشارة

نزل الأمين جبرئيل مبشّراً النبي الأكرم بالنبوّة والرسالة ، وألقى على عاتقه مقاليد مهامّها هداية الاُمّة ، التي يصوّرها قوله سبحانه : ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) ( المزّمّل / 5 ).

وقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) ( المدّثّر / 1 - 3 ) وأيّ مسؤولية أثقل من مسؤولية هداية الاُمّة الغارقة في ظلمات الجهل وأوحال عبادة الأصنام والأوثان ، المنغمسة في الدنيا ، المعرضة عن الآخرة ، فقام الرسول مؤدّياً رسالته مستضيئاً بهدى الوحي قد قطعت رسالته مراحل ثلاث حتّى تكلّلت بالنجاح وبلغت الغاية المنشودة ، وإليك تبيين هذه المراحل التي أشار إليها القرآن الكريم في مواضع متفرّقة.

المرحلة الاُولى : السرّية في الدعوة
اشارة

إتّخذ الرسول الدعوة السرّية خطوة اُولى خطاها في سبيل تحقيق إنجاح الدعوة الإلهيّة ، ولم يكن الغرض من التركيز على السرّيّة في الدعوة الخوف على نفسه وصيانتها من كيد الأعداء ، بل هذه هي الخطّة الرائجة بين الدعاة المخلصين ، فلا يجهرون بالدعوة ، ولا يعلنونها بادئ بدء ، بل يبدأون بعرض الدعوة سرّاً على الأفراد الذين يطمئنّون لهم - ولأجل ذلك - بدأ الرسول صلی اللّه علیه و آله بالدعوة السرّية إلى الاسلام فدخل تحتها عدّة من الشباب ، فتعلّموا الفرائض والسنن سرّاً وكانوا يذهبون إلى شعاب مكّة فيقيمون الفرائض فيها.

ص: 122


1- تاريخ اليعقوبي ج 2 ، ص 33.

وهذه الثلّة القليلة الّتي تشرّفت باعتناق الإسلام ، هم الذين يعبّر عنهم القرآن الكريم بقوله : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ ) ( الواقعة / 10 و 11 ).

فكان النبي الأكرم يعرض دعوته على من يتفرّس فيه علائم قبول الإسلام ولذلك لمّا هبط من غار حراء عرضه على زوجته خديجة وابن عمّه علي ، وقد تمكّن الإسلام بذلك في قلوب عدّة سجّلت أسماؤهم في التاريخ (1) مثل زيد بن حارثة وعثمان بن مظعون وقدامة بن مظعون وغيرهم. يقول ابن هشام في تفسير قوله : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) أي بما جاءك من اللّه من نعمته وكرامته ، من النبوّة فحدّث أي اذكرها ، فادع إليها ، فجعل رسول اللّه يذكر ما أنعم اللّه به عليه وعلى العباد به من النبوّة سرّاً إلى من يطمئنّ إليه من أهله (2).

وليس في الذكر الحكيم آية تكشف عن أحداث هذه المرحلة غير ما ذكرنا من الآيتين ، فمن أراد التفصيل فيجب عليه أن يرجع إلى كتب السيرة النبويّة ، ولنكتف ببعض ما جاء في المقام.

1 - روى ابن هشام عن ابن إسحاق أنّه ذكر بعض أهل العلم : انّ رسول اللّه كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من أبيه ومن جميع أعمامه وسائر قومه فإذا أمسيا رجعا ومكثا كذلك ما شاء اللّه أن يمكثا ... ثم أسلم زيد بن حارثة وكان أوّل ذكر أسلم وصلّى بعد علي بن أبي طالب (3).

2 - روى الطبري عن جابر قال : بعث النبي يوم الاثنين وصلّى علي يوم الثلاثاء ، وروي عن زيد بن أرقم قال : أوّل من أسلم مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علي بن أبي طالب ، ويقول علي : أنا عبد اللّه وأخو رسوله أنا الصّدّيق الأكبر

ص: 123


1- السيرة النبوية ج 1 ص 247 - 262.
2- السيرة النبويّة ج 1 ص 243.
3- السيرة النبويّة ج 1 ص 246.

لا يقولها بعدي إلاّ كاذب مفتر صلّيتُ مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين (1).

ولعلّ بعض هذه السنين يرجع إلى ما قبل البعثة حيث إنّ الرسول كان يتعبّد لله سبحانه في غار حراء في كل سنة.

3 - يقول ابن إسحاق : وكان أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا صلّوا ذهبوا في الشعاب فاستخْفوا بصلاتهم من قومهم ، فبينا سعد بن أبي وقّاص في نفر من أصحاب رسول اللّه في شعب من شعاب مكّة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون ، فناكروهم ، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقّاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحى بعير ، فشجَّه ، فكان أوّل دم أهريق في الإسلام (2).

اتّخاذ النبي دار الأرقم مركزاً لنشر الدعوة.

كان النبي يؤدّي رسالته مستخفياً من قريش بمكّة ويعرض الإسلام لمن يطمئن إليه ، وقد ألجأته الظروف إلى اتّخاذ بيت لتبليغ تعاليمه ، وإقامة المؤمنين فيها فرائضهم ، وقد وقع الإختيار على دار الأرقم بمكّة على الصفا (3) مركزاً لهذه المهمّة فدخل صلی اللّه علیه و آله وأصحابه مستخفين فيها بعد وقوع الصدام بين سعد ابن أبي وقّاص وبعض المشركين ، فكان صلی اللّه علیه و آله وأصحابه يقيمون الصلاة بها ويعبدون اللّه فيها إلى أن أمره اللّه تعالى بالإعلان عنها ، فامتثل صادعاً بما اُمر ، وقد اختلفت كلمة أصحاب السيرة في مدّة هذه المرحلة بين ثلاث سنين إلى خمس سنين ، كما اختلفوا في مدّة اقامتهم في دار زيد بن الأرقم بين كونه

ص: 124


1- تاريخ الطبري ج 2 ص 56 ، وفيه نصوص اُخرى على أنّه علیه السلام أوّل من آمن برسول اللّه.
2- السيرة النبويّة ج 1 ، ص 262.
3- هي المعروفه الآن بدار الخيزران عند الصفا ، اشتراها الخليفة المنصور وأعطاها ولده المهدي ، ثمّ أعطاها المهدي للخيزران اُمّ ولديه : موسى الهادي وهارون الرشيد. لاحظ : السيرة الحلبيّة ج 3. ص 283.

شهراً أو أزيد ، كما اختلفت كلمتهم في عدد المؤمنين بالنبي في تلك المرحلة فقد أنهاه ابن هشام في سيرته معتمداً على سيرة ابن إسحاق بما يربو على خمسين بين رجل وامرأة وإن كان الأكثر هم الرجال ، ولأجل أن يقف القارئ على هؤلاء الأشخاص وأسمائهم نستعرض ذكرهم إجمالاً على النحو التالي.

1 - خديجة بنت خويلد ( زوجة النبي ). 2 - علي بن أبي طالب. 3 - زيد بن حارثة. 4 - أبو بكر. 5 - عثمان بن عفّان. 6 - عبد الرحمن بن عوف. 7 - الزبير بن العوّام. 8 - سعد بن أبي وقّاص. 9 - طلحة بن عبيد اللّه. 10 - أبو عبيدة. 11 - أبو سلمة. 12 - أرقم. 13 - قدامة بن مظعون. 14 - عبد اللّه بن مظعون. 15 - عبيدة بن الحارث. 16 - سعيد بن زيد. 17 - امرأته ( فاطمة بنت الخطاب ). 18 - أسماء بنت أبي بكر. 19 - خباب بن الأرت. 20 - عمير بن أبي وقاص. 21 - عبد اللّه بن مسعود. 22 - مسعود بن القارئ. 23 - سليط بن عمرو. 24 - حاطب بن عمرو. 25 - عيّاش بن أبي ربيعة. 26 - أسماء بنت سلامة. 27 - خنيس بن حذافة. 28 - عامر بن ربيعة. 29 - عبد اللّه بن جحش. 30 - أبو أحمد بن جحش. 31 - جعفر بن أبي طالب. 32 - أسماء بنت عميس. 33 - حاطب بن الحارث. 34 - حطّاب بن الحارث 35 - معمّر بن الحارث. 36 - سائب بن عثمان بن مظعون. 37 - مطلب بن أزهر. 38 - زوجته ( رملة بنت أبي عوف ). 39 - نعيم بن عبد اللّه. 40 - عامر بن فهيرة. 41 - خالد بن سعيد. 42 - اُميّة بنت خلف. 43 - أبو حذيفة. 44 - واقد بن عبد اللّه. 45 - خالد بن بكير. 46 - عامر بن بكير. 47 - عاقل بن بكير. 48 - اياس بن بكير. 49 - عمّار بن ياسر 50 - صهيب بن سنان (1).

هذا ما ذكره ابن هشام ، وقد ذكر في ثنايا كلامه ممّن آمن في تلك الفترة عائشة بنت أبي بكر ، وهو غير صحيح جدّاً لأنّها ولدت في السنة الرابعة من البعثة ، وقد عقد عليها النبي في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين وهي بنت ست سنين ، وبنى بها رسول

ص: 125


1- السيرة النبويّة ، ج 1 ، ص 262.

اللّه وهي بنت تسع بالمدينة في شوال في السنة الاُولى من الهجرة ، فكيف تكون من المؤمنات في المرحلة السرّية ؟ (1).

أضف إلى ذلك انّ أبا ذر من السابقين إلى الإسلام وقد أخرج ابن سعد في الطبقات عن طريق أبي ذر ، قال : كنت في الإسلام خامساً ، وفي لفظ أبي عمرو وابن الاثير : « أسلم بعد أربعة » ، وفي لفظ آخر يقال : « أسلم بعد ثلاثة » ، ويقال : « بعد أربعة » ، وفي لفظ الحاكم : « كنت رابع الإسلام أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع » ، وفي لفظ أبي نعيم : « كنت رابع الإسلام ، أسلم قبلي ثلاثة وأنا الرابع » ، وفي لفظ المناوي : « أنا رابع الإسلام » ، وفي لفظ ابن سعد من طريق ابن أبي وضّاح البصري : « كان إسلام أبي ذر رابعاً أو خامساً » (2).

وقد ذكر الشيخان في الصحيحين وابن سعد في طبقاته كيفيّة إسلامه ومن أراد فليرجع إليهما.

المرحلة الثانية : دعوة الأقربين

إجتازت الدعوة المحمّدية المرحلة السرّية إلى مرحلة ثانية بعد ما آمن به جماعة من قريش وغيرهم ودخل الناس في الإسلام آحاداً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكّة ، فتحدّث به القريب والنائي ، فعندئذٍ أمر سبحانه بدعوة الأقربين ، بقوله : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) ( الشعراء / 214 - 216 ).

إنّ المعاجلة والمسارعة لدعوة العشيرة الأقربين قبل البدء بإعلان الدعوة العامّة يمكن أن يكون فيها سرّ إجتماعي وتوضيحه بما يلي :

ص: 126


1- لاحظ : أعلام النساء ج 3 ص 11 نقلاً عن طبقات ابن سعد وسنن النسائي وصحيح البخاري وشرح الزرقاني على المواهب والسمط الثمين.
2- الغدير ج 8 ص 308 - 309.

أوّلاً : إنّ النبي الأكرم كان مطّلعاً على أنّ قومه سوف يجابهونه بالعنف والشدّة ويتآمرون للقضاء عليه قبل تمكّنه من تحقيق اُمنيته ، فصيانة الدعوة من مكائد الأعداء مرهونة بوجود قوّة داخلية تحصّنها من غوائلهم ولا يمكن تصوّرها إلاّ في قومه وعشيرته من آل هاشم.

وثانياً : إنّ إنقياد قومه لدعوته وعشيرته لدعوته لدليل واضح على قداسته ونزاهته وصدق كلامه وانّهم ما رأوا منه إلا الصدق والصلاح طيلة أربعين سنة فأجابوا دعوته وصدّقوا كلامه. فإنّ الإنسان مهما كان فطناً مهتمّاً بستر عيوبه وزلاّته لا يتمكّن من سترها عن بطانته وخاصّته ، فإيمان البطانة وقبولهم دعوته دليل واضح على صفاء سريرته ، فلأجل ذلك بدأ بدعوة العشيرة قبل إعلان الدعوة العامّة ، وهذا بطبيعة الحال يكون مؤثّراً في إعداد الأرضية الصالحة لقبول المرحلة الاُخرى. وبعبارة ثانية : إنّ ضمان نجاح المصلحين في الدعوة العامّة يكمن في نجاحهم في دعوة اُسرتهم ، فلو افترضنا أنّ الداعي لم ينجح في دعوة اُسرته ، يكون حظّ نجاحه في الدعوة العامّة طفيفاً لأنّ رفض الاُسرة لدعوة المصلح وعدم إيمانها به ، سوف يتّخذ ذريعة إلى تقوّل الآخرين وسخريتهم بأنّه لو كان الصادع محقّاً في كلامه فاُسرته أولى بقبول دعوته.

وقد نقل المفسّرون وأهل السير في تفسير قوله سبحانه : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) كيفيّة دعوة الاُسرة ، وإليك نصّ ما ذكره الطبري في تاريخه عن عليّ علیه السلام : لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه فقال لي : يا علي ! إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أنّي متى أبدأهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمّمت عليه حتى جاءني جبرئيل ، فقال : يا محمد إنّك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك ، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عِسّاً من لبن ثم إجمع لي بني عبد المطلب (1) ، حتى اُكلّمهم واُبلّغهم ما اُمرت به ، ففعلت ما أمرني به ثمّ دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ، فلمّا إجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي

ص: 127


1- وفي البداية والنهاية ج 3 ص 40 « بني هاشم » وهو الأصح.

صنعت لهم ، فجئت به ، فلمّا وضعته تناول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حذية من اللحم فشقّها بأسنانه ثمّ ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال : خذوا باسم اللّه ، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم ، ثمّ قال : اسق القوم ، فجئتهم بذلك العس ، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً ، وأيم اللّه إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله ، فلمّا أراد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم ، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال في الغد : يا علي إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن اُكلّمهم ، فعد لنا بمثل ما صنعت ثمّ اجمعهم - إلى أن قال - : ففعلت ، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ، ثمّ قال : اسقهم ، فجئتهم بذلك العس ، فشربوا حتى رووا منه جميعاً ، ثمّ تكلّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : يا بني عبد المطلب إنّي واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت - وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمضهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً - : أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه ؟ فأخذ برقبتي ثمّ قال : إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ، قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (1).

هذا هو النصّ الذي رواه الطبري حول حادثة بدء الدعوة وقد ذكره غيره ، فمن أراد الوقوف على مصادر الحديث فليرجع إلى كتاب الغدير (2).

إنّ الحديث يستفاد منه اُمور عن تاريخ بدء الدعوة نشير إليها بالنقاط التالية :

1 - إنّ الخلافة تتمشّى مع النبوّة جنباً إلى جنب وإنّهما لا يفترقان أبداً لأنّ النبيّ يوم صدع بالرسالة أعلن خلافة عليّ علیه السلام وكانت الخلافة تعدّ إكمالاً

ص: 128


1- تاريخ الطبري ج 1 ص 63.
2- الغدير ج 2 ص 278 - 284.

لوظائف الرسالة وإنّ الخليفة يقوم بتكميل وظائف النبي حيث يبيّن ما أجمله ويفصّل ما أوجزه.

2 - إنّ عليّاً في ذاك اليوم وإن كان صغيراً لا يتجاوز عمره الحلم لكنّه كان في القوّة والمقدرة على حدّ قام بتضييف مجموعة كبيرة تربو على أربعين نفراً فقد صنع لهم طعاماً ودعاهم إلى الضيافة ، وهذا العمل كما يكشف عن مرحلة من النضوج البدني يكشف عن تفتّح عقله وشعوره حيث قام بأمر لا يقوم بأعبائه إلاّ الرجال الكبار.

3 - إنّ الطبري في تاريخه نقل القصّة كما مرّ ولكنّه جنى على الحقيقة في تفسيره ، فذكر القصة ولكنّه عندما وصل إلى قوله صلی اللّه علیه و آله : فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي حرّفه وجاء مكانه بقوله : « فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا » (1).

فما معنى هذا التحريف أهكذا تصان الأمانة التاريخية ويتحفّظ في نقل الحديث ؟!

وإن تعجب فعجب عمل ابن كثير فإنّه وضع تاريخه على غرار تاريخ الطبري حذو النعل بالنعل ، ولكنّه لمّا وصل إلى هذا المقام من تاريخه أعرض عن نقل نصّ الطبري في تاريخه واعتمد على النصّ الذي ذكره الطبري في تفسيره ، وما هذا إلاّ لأنّه رآه دليلاً قاطعاً على خلافة علي ووصايته ، وأعجب منه عمل محمد حسين هيكل في تاريخه فإنّه ارتكب جناية مفضوحة وأثبت الحديث في الطبعة الاُولى من كتابه واكتفى منه بسؤال النبي بقوله : « فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم » واغفل ذكر جواب النبي لعلي عندما قام ، ولم يذكر منه شيئاً ، لكنّه في الطبعة الثانية أسقط جميع ما يرجع إلى أمير المؤمنين من كلام

ص: 129


1- تفسير الطبري ج 19 ص 74 ، وقد رواه العلاّمة الأميني في غديره : 2 / 279 - 284. والعلامة السيد جعفر مرتضی في كتابه: الصحيح من سيرة النبي ج 2 ص 12 عن مصادر كثيرة تعرب عن تضافر الرواية وتواترها.

النبي (1).

4 - إنّ ابن تيميّة لمّا رأى دلالة الحديث على خلافة الإمام علي علیه السلام عكف على المناقشة في سند الحديث ، وانّه يشتمل في رواية الطبري على أبي مريم الكوفي ، وهو مجمع على تركه ، وقال أحمد : ليس بثقة ، واتّهمه ابن المديني بوضع الحديث (2).

ولكنّه ترك توثيق الآخرين لأبي مريم ، فقد قال ابن عدي : سمعت ابن عقدة يثني على أبي مريم ويطريه وتجاوز الحدّ في مدحه ، واثنى عليه شعبة ، وقال الذهبي : كان ذا اعتناء بالعلم وبالرجال (3).

وأظنّ إنّ تضعيف الرجل لغاية تشيّعه وحبّه للوصي ، فإنّ التشيّع بالمعنى العام ( من يحب عليّاً ويبغض أعدائه الذين خرجوا عليه في حروبه الثلاثة ) أحد المضعّفات عند القوم ، ومع ذلك فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن الشيعة كثيراً ، وقد قام العلاّمة السيد عبد الحسين شرف الدين بوضع قائمة لأسماء ، من روى عنهم الشيخان وغيرهما في صحيحيهما من الشيعة (4).

على أنّ أحمد قد روى الحديث بسند آخر وجميع رجاله رجال صحاح بلا كلام ، وهم عفّان بن مسلم ، عن أبي عوانه ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي صادق ( مسلم الكوفي ) ، عن ربيعة بن ناجذ (5) وبهذا السند والمتن أخرجه الطبري في تاريخه وغيره (6).

ص: 130


1- لاحظ حياة محمد صلی اللّه علیه و آله الطبعة الاُولى : ص 104 - والطبعات الاُخر : ص 142.
2- منهاج السنّة ج 4 ص 81.
3- الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج 2 ص 14.
4- المراجعات : ص 42 - 105 ، وما جاء فيها يشكّل رسالة أسماها شيخ الأزهر سليم البشري : « أسناد الشيعة في أسناد السنة ».
5- مسند أحمد ج 1 ص 159.
6- تاريخ الطبري ج 2 ص 63.

5 - وهناك مناقشات أو مشاغبات لابن تيميّة حول الحديث نبعت من موقفه تجاه فضائل الإمام أمير المؤمنين ، فإنّه يردّ كثيراً من فضائل علي علیه السلام ويضعّفه جزافاً وممّا قال في حق الحديث :

« إنّ مجرّد الإجابة للمعاونة على هذا الأمر لا يوجب أن يكون المجيب وصيّاً وخليفة بعده ، فإنّ جميع المؤمنين أجابوه إلى الإسلام وأعانوه على هذا الأمر ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيله ، كما أنّه لو أجابه الأربعون أو جماعة منهم فهل يمكن أن يكون الكل خليفة له ؟ » (1).

إنّ هذا الإشكال يرجع إلى أمرين :

الأوّل : إنّ مجرّد الإجابة للمعاونة لا يلازم أن يكون المجيب وصيّاً ، ولكنّه غفلة عن التدبّر في الرواية ، فإنّه لم يجعل مطلق الإجابة دليلاً على كون المجيب وصيّاً حتى يقال : إنّ جميع المؤمنين أجابوا إلى الإسلام بل جعل الإجابة من العشيرة فقط علّة للوصاية ، فلا يشمل المؤمنين الخارجين عن دائرة إطارهم.

الثاني : لو افترضنا انّ الكل أجابوه ، فهل يكون الكل خليفة ؟

والجواب : انّ النبي الأكرم كان مطّلعاً على أنّه لا يجيبه غير علي ، لأنّهم لم يكونوا مطّلعين على مبادئ رسالته ، وخصوصيّات شريعته ، فلا يبادرون بالإجابة بخلاف عليّ علیه السلام فإنّه قد نشأ وتربّى في أحضان النبي وتغذّى بلبانه ، وقد صلّى مع النبي قبل الناس بسنين ، فكان سبقه أمراً طبيعيّاً بالنسبة له.

إنّ كتب السيرة تذكر أنّه صلی اللّه علیه و آله خاطبهم في هذا الإجتماع بقوله : « إنّ الرائد لا يكذب أهله ، واللّه لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم ، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم ، واللّه الذي لا إله إلاّ هو ، إنّي لرسول اللّه إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة ، واللّه لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبنّ بما تعملون ، ولتجزونّ بالإحسان إحساناً ، وبالسوء سوءاً ، فإنّها الجنّة أبداً

ص: 131


1- منهاج السنة : ص 83.

ولنار أبداً. يا بني عبد المطلب ما أعلم شابّاً جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به إنّي قدجئتكم بخير الدنيا والآخرة » ، فتكلّم القوم كلاماً ليّناً غير أبي لهب ، فإنّه قال : « يا بني عبد المطلب هذه واللّه لسوأة خذوا على يديه وامنعوه عن هذا الأمر بحبس أو غيره قبل أن يأخذ على يده غيركم ، فإن التمسوه حينئذ ذلّلتم وإن منعتموه قتلتم » ، فقالت اُخته صفيّة عمّة رسول اللّه اُمّ الزبير : « أي أخي ! أيحسن بك خذلان ابن أخيك ؟ فو اللّه ما زال العلماء يخبرون أنّه يخرج من ضئضئ ( الأصل ) عبد المطلب نبي فهو هو » قال أبولهب : « هذا واللّه الباطل والأماني ، وكلام النساء في الحجال ، فإذا قامت بطون قريش وقامت العرب معها بالكلاب فما قوّتنا بهم ؟ فو اللّه ما نحن عندهم إلاّ أكلة رأس » ، فقال أبوطالب : « واللّه لنمنعنّه ما بقينا » (1).

وهل النبي خطب بهذه الخطبة في الدعوة الاُولى أو الثانية ؟ فلو صحّت فهي بالدعوة الاُولى ألصق لما تضافر أنّ أبا لهب لم يكن مدعوّاً في الدعوة الثانية ، ويظهر من سيرة زيني دحلان أنّه خطب بها في الدعوة الاُولى فلمّا أصبح رسول اللّه بعث إلى بني عبد المطلب فحضروا وكان فيهم أبو لهب ، فلمّا أخبرهم بما أنزل اللّه عليه ، أسمعه أبو لهب ما يكره وقال : تبّاً لك ، ألهذا جمعتنا ؟ وأخذ حجراً ليرمي به ، وقال : ما رأيت أحداً جاء بني أبيه وقومه بأشرّ ممّا جئتهم به ، فسكت رسول اللّه ولم يتكلّم في ذلك المجلس.

الدعوة العامة وكسح العراقيل الماثلة أمامه

كان للدعوة السرية أوّلاً ودعوة الاُسرة ثانياً دور خاص في استقطاب لفيف من الناس واستمالة قلوب طائفة منهم إلى الإسلام ، وقد أوجد هذا الإقبال أرضيةً صالحةً لمرحلة ثالثة من الدعوة وهي التي يصحّ وصفها بالدعوة العامّة ، وكانت تهدف إلى توسيع نطاقها ، فقام النبي الأكرم بها إمتثالاً لقوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ) ( الحجر / 94 ).

ص: 132


1- سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبيّة ج 1 ص 194.

إنّ هذه الآية تناسب الدعوة العامّة بقرينة قوله : ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ) ( الحجر / 95 ).

نقل الطبري عن سعيد بن جبير أسماء المستهزئين برسول اللّه وهم خمسة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وابو زمعة ، والحرث بن عيطلة ، والأسود بن قيس ، وكلّهم هلكوا قبل بدر (1).

وقد حكى أصحاب السير خطبة النبي في بدء تلك المرحلة ، قالوا :

1 - دعا النبي جميع قريش وهو قائم على الصفا وقال : إن أخبرتكم انّ خيلاً تخرج من صفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذّبوني ؟ قالوا : واللّه ما جرّبنا عليك كذباً ، فقال : « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار فإنّي لا أغني عنكم من اللّه شيئاً إنّي لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد ».

2 - وفي رواية : « إنّ مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف : يا صباحاه ! يا صباحاه ! أتيتم أتيتم أنا النذير العريان (2) الذي ظهر صدقه » (3).

3 - وفي رواية : دعا قريشاً فخصّ وعمّ وقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني زهرة أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار ، يا صفيّة عمّة محمد أنقذي

ص: 133


1- تفسير الطبري ج 14 ص 49.
2- العريان : الذي أقبل عرياناً ينذر بالعدو. إنّه لا يتّهم بخلاف الذي لم يجرّد فإنّه قد يتّهم والمعنى أنا النذير الذي لا أتّهم.
3- سيرة زيني دحلان ، على هامش السيرة الحلبيّة ج 1 ص 194 - 195 ، والبداية والنهاية ج 3 ص 38 ، وتاريخ الخميس ج 1 ص 288.

نفسك من النار ، فإنّي لا أملك لكم من اللّه شيئاً (1).

ولو كان المراد من فاطمة هي فاطمة بنت النبي فالرواية بأجمعها أو خصوص هذه الجملة موضوعة لأنّها ولدت في السنة الخامسة من الهجرة ، وقد جاء في تاريخ الخميس توصيفها ب - ( بنت محمد ) حيث قال : « يا صفيّة بنت عبد المطلب ، يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنكم من اللّه شيئاً ، سلاني من مالي ما شئتم ».

ولذلك احتمل زيني دحلان أنّ فاطمة من خلط الرواة وانّما ذكرت في حديث آخر وقع بالمدينة جاء فيه الزوجات والبنات وقال لهن : « لا أغني عنكنّ من اللّه شيئاً » حثّاً لهنّ على صالح الأعمال.

ص: 134


1- تاريخ الخميس ج 1 ص 288 ، وسيرة زيني دحلان على هامش السيرة الحلبية ج 1 ص 193.

(6) الإيجابيات والسلبيات تجاه الدعوة المحمّدية

اشارة

لم تكن الدعوة المحمّدية بدعاً من الرسالات السماويّة ، فقد واجهت ما واجهته سائر الرسالات فحظيت بالقبول من بعض ، بينما حاربتها الأكثرية الساحقة ، شأنها شأن ما سلفها من الدعوات الإصلاحية حذو القذة بالقذّة ، ومن سَبَر تاريخ الأنبياء وتاريخ الدعوات الإصلاحية بإمعان يقف على أنّ النجاح لم يكن حليفهم خصوصاً في الوهلة الاُولى من دعوتهم بل كان الناس على مفرق طريقين ، فهم بين مؤمن بالدعوة ومصدّق لها ومستنفد طاقته في سبيلها ومضحٍّ بنفسه ونفيسه ، ومكذّب عنود يضع في طريق دعوة المصلحين الموانع والعراقيل الكفيلة بصدّهم عمّا يطمحون إليه من الغايات المنشودة.

وكانت هذه المجابهة والمحاربة المستميتة مع المصلحين وليدة حالة من الجهل والإنحطاط الفكري والثقافي ، وكلّما كان القوم أبعد غوراً في تعصّبهم لآبائهم وأجدادهم وما كانوا يدينون به من العقائد الشنيعة والسخيفة كانت المكافحة أشدّ والمنابذة أقوى.

ولمّا كانت الدعوة الإصلاحية سواء كانت سماوية أم أرضية ، وضعية تؤدّي إلى تفويت مصالح بعض الطبقات الخاصّة كالإقطاعيين وذووا رؤوس الأموال الطائلة ، لم تحظ الدعوة في أغلب صورها وحالاتها بقبول الرأي العام ، وهذه هي الظاهرة المألوفة غالباً ، فترى أنّ المسيطرين على المجتمع في كافّة الأجيال والأحقاب كانوا على طرف نقيض من الدعوة الإصلاحية ، وكان التصويب بالإذعان والإيمان مختصّاً بالطبقة المحرومة المقهورة المستضعفة.

ص: 135

هذا هو جون. اف.كندي الذي تربّع على منصّة الحكم بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1960 م ، بعد أن انتخب رئيساً بالغالبية العظمى ، فلقد كان صاحب نظرة خاصّة في الملوّنين الأمريكيين ، وكان بصدد اصلاح حياتهم المليئة بالبؤس والشقاء عن طريق منحهم بعض الحقوق والحريات استلهاماً من الفطرة الإنسانية ، ولكن ما أن طلع نجمه إلاّ وقد اُغتيل من جانب المتعصّبين العنصريين بشكل لم يعهد التاريخ له مثيل إلاّ القليل النادر ، فعلى الرغم من عظمة جهاز الاستخبارات الأمريكية وسطوته لم يعرف قاتله ولم يعثر له على أثر أو خبر يذكر ، وكان التخطيط قد دبّر ليلاً.

وتصوّر لنا هذه الظاهرة في محكية عن قوم نوح بقوله تعالى : ( فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) ( هود / 27 ).

هذه هي الظاهرة الملموسة في حياة الأنبياء وما لا قوّه في سبيل انجاح دعوتهم ، وعلى ضوء ذلك فلا ينتابك العجب عندما تلقي بنظرة خاطفة على حياة الرسول صلی اللّه علیه و آله في بدء دعوته حيث كان الإيمان والانطواء تحت راية الرسالة مختصّاً برجال أحرار الفطرة أصفياء الطوية لم يعم بريق زخارف الدنيا وزينتها بصائرهم فلبّوا دعوة الرسول بصدر رحب.

إذا عرفت ذلك فلنركز على أمرين :

1 - ما هي الدوافع الروحيّة الباعثة على مخالفة النّبي الأكرم ؟

2 - ماذا كان ردود فعل لهذه الدوافع ؟

ص: 136

الف : العراقيل والموانع تجاه دعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله

ظلّ النبي الأكرم في موطنه قرابة ثلاثة عشر عاماً ولم يكن النصر حليفه وما كان ذلك إلاّ نتيجة الموانع والعراقيل التي حيكت ضدّه ، وإليك لمحة خاطفة عنها :

1 - إنّ الرسالة المحمدية كسائر الرسالات الإلهية كانت تهدف إلى انتشال المستضعفين من حضيض التخلّف المادي والمعنوي والرقي بهم إلى حالة الإزدهار الحضاري ، ومن المعلوم أنّ تلك الخطّة ما كانت تنسجم مع مطامع أصحاب السلطة والثروة الذين يسيطرون على المجتمع بسطوتهم وجبروتهم ويمتصّون دماء المحرومين بلا هوادة ، يقول سبحانه :

( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) ( الأنعام / 52 ).

روى الثعلبي في تفسيره باسناده عن عبد اللّه بن مسعود ، قال : مرّ الملأ من قريش على رسول اللّه وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين وقالوا : يا محمد ! أرضيت بهؤلاء من قومك ، أفنحن نكون تبعاً لهم ، أهؤلاء الذين منّ اللّه عليهم ؟ اطردهم عنك ولعلّك إن طردتهم اتّبعناك (1).

2 - التعصّب المقيت لسيرة الآباء والأجداد أمر جبلي للبشر يتنامى في اطار حياتهم القبلية ، وكانت دعوة النبي على خلاف سيرتهم ولذلك اهتمّوا بمكافحته ومنازعته قائلين : بأنّ دعوتك تضاد سيرة آبائنا ، ولم يكتفوا بذلك حتى استدلّوا على صحّة سيرتهم بأنّه لولا مشيئة اللّه سبحانه لما عبد الآباء الأصنام والأوثان ، يقول سبحانه حاكياً عنهم : ( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ

ص: 137


1- مجمع البيان ج 2 ص 305 ، طبع صيدا.

وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ المُبِينُ ) ( النحل / 35 ) ، وقال سبحانه : ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) ( الزخرف / 22 ) ويظهر من غير واحد من الآيات أنّ تلك الظاهرة الروحية لم تزل تعرقل خطى الدعوة في أكثر الرسالات السماوية ، قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ( الزخرف / 23 و 24 ).

3 - لقد كانت الاُمّية والإنحطاط الثقافي متفشّية في شبه الجزيرة العربية آنذاك خصوصاً في أُمّ القرى وما حولها ، فكانت العقلية الإنسانية التي تميّز الحق من الباطل والصالح من الفاسد متدهورة جدّاً. وهذا هو البلاذري يعكس لنا صورة هذا التدهور الثقافي بقوله في كتابه :

« دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب : عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ... » (1).

وقال ابن خلدون :

« إنّ عهد قريش بالكتابة والخط العربي لم يكن بعيداً بل كان حديثاً وقريباً بعهد الرسول وقد تعرّفوا عليها قبيل ظهور الإسلام » (2).

فإذا كان هذا مبلغ تعرّفهم على الكتابة والقراءة ، فليكن هذا مقياساً لثقافتهم ومدى ازدهار قواهم العقلية.

4 - ارتكزت الدعوة المحمّدية على دعامتين أصيلتين :

أ - اختصاص العبودية لله سبحانه ورفض عبادة غيره.

ص: 138


1- فتوح البلدان : ص 57.
2- مقدمة ابن خلدون : ص 348.

ب - الاعتقاد بيوم الحساب وأنّ وراء الحياة الدنيوية ، حياة اُخرى تجزى فيها كل نفس بما عملت من خير وشر ، وانّ الناس في ذلك اليوم على فئتين : فئة ضاحكة مستبشرة وفئة بائسة مكفهرّة ، وانّ الظالمين والمتجاوزين سوف يحاسبون فيها أشدّ الحساب ودقيقه.

يقول سبحانه : ( فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) ( عبس / 33 - 42 ).

ويقول عزّ اسمه في سورة اُخرى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ ) ( الحج / 1 و 2 ).

كانت هذه الندءات الربّانيّة تبعث الرعب والهلع في قلوب المشركين ، لأنّهم يجدون أنفسهم أمام عذاب أليم لا مناصّ منه ولا مفرّ عنه ، وبما أنّهم كانوا يعانون من تبنّي هذه الفكرة بل من سماعها واحتمال صدقها ، فجنحوا إلى إراحة أنفسهم من هذا العذاب الآجل بإنكار الدعوة وتكذيبها من الأساس.

إنّ هؤلاء الجناة كانوا معتادين أن ينحروا للأصنام طلباً لمحو سيئاتهم ثم تتركهم في القتل والنهب وارتكاب الفحشاء وغيرها في مستقبل حياتهم ، وأمّا الدعوة التي لا تقبل الرشوة والمهادنة وترفض القرابين والنحور فلا تحقّق أملهم ولا تلقي إليهم بالضوء الأخضر حتّى يقترفوا ما يشاؤوا.

5 - إنّ المترفين والملأ كانوا يكافحون دعوة الأنبياء وينابذونها والقرآن قد سجّل أعمالهم الإجرامية في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ) ( الأعراف / 88 ).

ص: 139

ويقول سبحانه في حق المترفين : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاِّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ( سبأ / 34 ).

إنّ طبيعة الترف وانبساط النعمة والعيش الرغيد تؤدّي إلى الجموح والطغيان والتغافل عن كل ما من شأنه أن يحول بينه وبين شهواته وميوله وغرائزه ، يقول سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ) ( العلق / 6 و 7 ).

أين هذه الفكرة من طبيعة الشريعة السماوية التي تفرض على الإنسان الاعتدال في الشهوات وسلوك الجادة القويمة ، فلا ينسفها من رأس ولا يرخي لها العنان.

فلأجل ذلك نرى أنّ الملأ في عصر النبي صلی اللّه علیه و آله وأصحاب المجون والترف عارضوا النبي صلی اللّه علیه و آله وخالفوا لمّا رأوا أنّه يريد أن يضع حدوداً في طريق ميولهم والحيلولة دون اشباع نهم غرائزهم المستعرة ، فلذلك قاموا بتكثيف الجهود في وجه الدعوة المحمّدية.

6 - إنّ الحسد والتنافس والتنازع من العوامل التي تصطنع حجباً أمام البصائر فلا تتمكّن من رؤية الحقائق على ما هي عليه ومثله الكبر والغرور فيصدّان الإنسان عن رؤية الحقيقة بل يبعثان إلى اختلاف أعذار واهية للتنكّب عن قبول الحقّ والإذعان به ، فنحن نرى ذلك العامل في وجه الدعوة النبويّة حيث انّ قريشاً كانت تشعر بأنّ النبوّة مقام شامخ إلهي يستعقب عزّة الصادع بها وقومها على القبائل الاُخر ، فكان ذلك رادعاً عن قبول عدّة من أكابر قريش الدعوة الإلهيّة قائلين : لماذا لم ينزل هذا القرآن على الوليد بن المغيرة وهو أحقّ به من النبي بزعمهم.

يقول سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) ( الزخرف / 31 و 32 ).

هذه هي الموانع التي اصطنعتها قريش في وجه الرسول صلی اللّه علیه و آله

ص: 140

وسلم للحيلولة دون بلوغ أهدافه التي كان يطمح لإقرارها وتثبيت اُسسها في برهة زمنية قياسية ، فكانت لهم ردود فعل مثبّطة نشير إليها.

قد وقفت على الدوافع الروحية الباعثة على مخالفة النبي الأكرم غير أنّها تبلورت في الاُمور التالية :

1 - إكالة التهم للنبيّ صلی اللّه علیه و آله .

2 - الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية.

3 - الاقتراحات الباطلة كشروط لقبول الرسالة.

4 - ايقاع الأذى على النّبي صلی اللّه علیه و آله وأصحابه.

وإليك بيان هذه الاُمور واحداً تلو الآخر حسبما يستفاد من آيات القرآن الكريم :

ص: 141

الف - اكالة التهم للنبيّ صلی اللّه علیه و آله

كان اسلوب تحطيم الشخصيات عن طريق إكالة التّهم إليهم أقدم حربة بيد الجهّال يطعنون بها على المصلحين ، وقد إستعملها مشركوا عصر الرسالة في بدء الدعوة ولم تكن الفرص تسنح لهم بقتله واغتياله ، فحاولوا إغتيال شخصيّته ليسقطوه عن أعين الناس ، فإنّ نجاح المصلح في نشر دعوته يكمن في اتّسامه بالقداسة والطهارة والعقلية الرزينة ، فلو افتقد المصلح تلك - السمات عن طريق الاتّهام بما يضادها - ذهب سعيه أدراج الرياح وأصبحت جهوده سدى ، فلأجل ذلك إختارت قريش القيام بشن حرب نفسيّة ضروس لا هوادة فيها للحطّ من قيمته وكرامته والحيلولة دون نفوذ كلمته.

ولكنّهم مهما بذلوا من جهود لإنجاح مؤامراتهم لم تتجاوز تهمهم عن الكهانة والسحر والجنون وأشباهها لأنّ النّبي قد كان في الطهارة النفسيّة والأمانة المالية وسائر الصفات الكريمة على حدّ حال دون إلصاق تهم اُخرى به ككونه خائناً سارقاً قاتلاً غير عفيف ، وهذا أحد الدلائل البارزة المشرقة على أنّه كان فوق التهم المشينة المزرية ، وكانت حياته طيلة أربعين سنة مقرونة بالصلاح والفلاح والأمانة ، ولو كانت هناك أرضية صالحة لتوصيف النبيّ بها ، لما أمسكوا عنها.

نعم قام العدو باتّهامه باُمور يشكل اثباتها كما يشكل نفيها عن المتهم ، وهذه هي الطريقة المألوفة عند بني الشياطين لمس كرامة المصلحين حيث يشنّون عليهم بمثل هذه التّهم لغاية إسقاطهم عن أعين النّاس. يقول سبحانه : ( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) ( الذاريات / 52 ).

ص: 142

هكذا كانت سيرة الأعداء في طرد المصلحين عن الساحة.

ثمّ إنّ التّهم الّتي حكاها القرآن عن لسان أعداء النبيّ تتلخّص في العناوين التالية :

1 - الكهانة : وهي في اللغة عبارة عن اتّصال الإنسان بالجن ليتلقّى منهم أنباء الماضين وأخبار اللاّحقين ومن خلالها يتمكّن من التنبّؤ بالمستقبل ، يقول سبحانه مشيراً إلى تلك التّهمة وردّها : ( وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) ( الحاقة / 42 ).

2 - السحر : وهو قوّة نفسانيّة للساحر يقدر معها على إنجاز اُمور خارقة للعادة مموّهة ، ومن تلك الاُمور التفريق بين المرء وزوجته والوالد وولده بل بين أفراد العائلة كافّة. قال سبحانه : ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص / 4 ).

3 - المسحورية : والمراد منه تأثّره بسحر الآخرين ، وإنّ هناك ساحراً أو سحرة سحروا النبيّ وأثّروا فيه. يقول سبحانه حاكياً عن المشركين : ( إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ) ( الفرقان / 8 ). ثمّ يردّه بقوله سبحانه : ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) ( الفرقان / 9 ) والمراد من قوله ( ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ ) أي وصفوك بالمسحورية ، وقد اتّهم بنفس تلك التهمة النبيّ صالح. قال سبحانه حاكياً عن أعدائه : ( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ ) ( الشعراء / 153 ) وممّا يجدر ذكره أنّ اتّهام النبيّ بالمسحورية ليست تهمة مستقلّة تغاير الجنون جوهراً بل هي نفس التهمة ولكنّها صيغت بلفظ أكثر أدباً ، وهذه شيمة الدهاة حيث يمزجون السم بالعسل.

4 - الجنون : ومفهومه غني عن البيان وقد مضى أنّها تهمة شائعة تُلصق بالمصلحين من جانب خصومهم من غير فرق بين النبيّ وغيره ، وبين نبيّنا وسائر الأنبياء كما عرفت (1). قال سبحانه نقلاً عن المشركين : ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / 6 ) ، قال تعالى : ( وَمَا صَاحِبُكُم

ص: 143


1- الذاريات / 52.

بِمَجْنُونٍ ) ( التكوير / 22 ) ، وقال عزّ من قائل : ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ) ( الطور / 29 ) والمبرّر لهم بوصفه بالجنون ومؤاخذتهم له ، وقوفه لوحده في وجه الرأي العام المتمثّل في الشرك. والسذّج من النّاس يصفون من يتبنّى الفكر الذي لا يوافقه عليه الرأي العام وهو يريد تطبيقه في المجتمع ، بأَنّه مجنون لا يعرف قدر نفسه ومنزلته وسوف يهدر دمه لا محالة.

ما أسخف هذه التهم إذ كيف يتّهمون من هو أرجحهم عقلاً وأبينهم قولاً منذ ترعرع إلى أن بلغ أشدّه بالجنون والكهانة مضافاً إلى ما في هذا من التناقض والإضطراب ، فإنّ الكهنة كانوا من الطبقة العليا بين الناس يرجع إليهم القوم في المشاكل والمعضلات وأين هو من الجنون ؟ فكيف جمعوا بين كونه كاهناً ومجنوناً ؟

ولقد لمسنا ذلك في حياتنا القصيرة في مجتمعنا ورأينا كيف رمي رجال الإصلاح بنظائر هذه التهم وما ذلك إلاّ لأنّهم قاموا في وجه المستعمرين والناهبين لثروة أقطار العالم الإسلامي ، فما كان نصيبهم جرّاء مقاومتهم تلك ، إلاّ اتّهامهم بالجنون والتدهور العقلي ، والغربة عن الواقع والحياة.

5 - التعلّم من الغير : إنّ أعداء النبيّ من قريش وغيرهم وقفوا على مدى عظمة تعاليمه وسموّها ، ولكن الحالة النفسية قد صدّتهم عن تصديق قوله والإذعان برسالته الإلهية وانتسابه إلى الوحي والسماء ، فقاموا بتزوير آخر وهو اأنّه مُعَلّم ، قد تلقّى تعاليمه من غيره. يقول سبحانه : ( وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) ( الدخان / 13 و 14 ).

وأمّا من هو المعلّم الذي كان قد علّم النبي وغذّاه بتلك المبادئ والقيم فلم يذكروه ، ولكن إقتران هذه التهمة بتهمة الجنون يدلّ على أنّ المعلّم المزعوم هو الجن فهو عن طريق صلته بهم تلقّى رسالته عنهم - وبالتالي - اُصيب في عقله فصار معلّماً مجنوناً بزعمهم.

وهناك إحتمال آخر وهو أنّه تلقّى مبادئه عن بشر آخر ، وقد اُشير إليه في قوله

ص: 144

سبحانه : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل / 103 ).

قال ابن عباس : قالت قريش : إنّما يعلّمه بلعام ( وكان قينا بمكّة روميّاً نصرانياً ) وقال الضحّاك : أرادوا به سلمان الفارسي (1) قالوا إنّه يتعلّم القصص منه ، وقال مجاهد وقتاده : أرادوا به عبداً لبني الحضرمي روميّاً يقال له يعيش أو عائش صاحب كتاب ، أسلم وحسن إسلامه ، وقال عبد اللّه بن مسلم : كان غلامان في الجاهلية نصرانيّان من أهل عين التمر ، اسم أحدهما يسار واسم الآخر خير ، كانا صيقلين يقرءان كتاباً لهما بلسانهم وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ربّما مرّ بهما واستمع لقراءتهما ، فقالوا : إنّما يتعلّم منهما ، ثم ألزمهم اللّه تعالى الحجّة وأكذبهم بأن قال : لسان الذي يضيفون إليه التعليم ويميلون إليه القول ، أعجميّة لا يفصح ولا يتكلّم بالعربية ، فكيف يتعلّم منه من هو في أعلى طبقات البيان ؟ وهذا القرآن بلسان عربي مبين ، فإذا كانت العرب تعجز عن الإتيان بمثله وهو بلغتهم فكيف يأتي الأعجمي بمثله (2) ؟

قال ابن هشام : قالوا : إنّما يعلّمه رجل باليمامة يقال له الرحمان ولن نؤمن به أبداً ، فنزل قوله سبحانه : ( كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ) ( الرعد / 30 ) (3).

روى ابن هشام : إنّ النضر بن الحارث كان إذا جلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مجلساً ، فدعا فيه إلى اللّه تعالى وتلا فيه القرآن ، وحذّر فيه قريشاً ما أصاب الاُمم الخالية ، خلّفه في مجلسه إذا قام ، فحدّثهم عن رستم واسفنديار وملوك فارس ثم يقول : واللّه ما محمد بأحسن حديثاً منّي وما حديثه إلاّ أساطير

ص: 145


1- كيف يقول ذلك مع أنّ سلمان أدرك النبي في مهجره ، لا في موطنه.
2- مجمع البيان ج 3 ص 386.
3- السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 331.

الأوّلين ، اكتتبها كما اكتتبتها ، فأنزل اللّه فيه : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / 5 و 6 ).

ونزل فيه : ( وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( الجاثية / 7 ) (1).

6 - كذّاب : وما وصفوه به إلاّ لأجل أنّه كان يكافح عقيدتهم ويقارع دينهم. قال سبحانه حاكياً عنهم تلك التهمة : ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص / 4 ).

فلماذا لا يكون عندهم كذّاباً وقد رفض الآلهة المتعدّدة وجعلها إلهاً واحداً. قال سبحانه حاكياً عنهم : ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص / 5 ).

7 - مفتر : وإنّما وصفوه به لأنّه ينسب تعاليمه إلى السماء. يقول سبحانه حاكياً عنهم : ( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( النحل / 101 ) ويقول أيضاً : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ) ( الفرقان / 4 ). وهذه الآية تعبّر عن أنّهم كانوا يتّهمونه بأنَّ القرآن ليس من صنعه وحده بل هناك قوم أعانوه عليه ، فربّما كانوا يفسّرونه بشكل آخر وهو انّ القرآن ليس شيئاً جديداً بل هي أساطير الأوّلين تملى عليه بكرة وأصيلاً ، كما قال سبحانه : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) .

وقد أدحض الوحي هذه التهمة وكشف عن زيفها بأمرين :

الأوّل : لو صحّ قولكم إنّ هذا الكتاب من صنع محمد فنسبه إلى الوحي فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، فإنّه لبشر مثلكم وانتم بشر مثله. قال سبحانه :

ص: 146


1- السيرة النبويّة لابن هشام : 1 ص 357.

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ( هود / 13 و 14 ).

الثاني : كيف تقولون بأنّه استنسخ هذه الأساطير بإملاء الغير مع أنّه ما تلى كتاباً ، ولا خطّ صحيفة ، فكيف تتّهمونه بالاستنساخ والاستكتاب ؟ قال سبحانه : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ ) ( العنكبوت / 48 و 49 ).

8 - مفتر أو مجنون : - على ترديد بينهما - ربّما كان القوم يتردّدون في توصيف النبي بين كونه عاقلاً مفترياً على اللّه سبحانه أو مجنوناً معدم العقل والشعور ، وهذه شيمة الدهاة في استنقاص فضل الأشخاص حيث يكيلون التهم على مخالفيهم الأقوياء بلسان التردّد وعدم الجزم ، لدفع نسبة شناعة التهمة عن أنفسهم كما يحكي عنهم سبحانه : ( أَفْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) ( سبأ / 8 ).

9 - شاعر : إنّ القوم كانوا اُسود الفصاحة وفرسان البلاغة وقد أدركوا بفطرتهم سموّ القرآن وعلوّ مرتبته في ذلك المجال ، ومن جانب كانوا في العداء والحسد على مرتبة صدّتهم عن الاعتراف بكونه كتاباً منزّلاً من السماء ، حاولوا أن يفسّروه بالشعر فوصفوه بالشاعر وقالوا : ( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ ) ( الطور / 30 ) وحاصل هذه التهمة انّه شاعر و « أعذب الشعر أكذبه » ، فلنصبر عليه ولنتربّص به صروف الدهر واحداثه فسيكون حاله حال زهير والنابغة وأضرابهم ممّن انقرضوا وصاروا كأمس الدابر.

وقد ردّ سبحانه على تلك التهمة يأمر نبيّه بقوله : ( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) ( الطور / 31 - 34 ).

ص: 147

إنّ اللّه سبحانه أمر النبي أن يتهدّدهم ويتوعّدهم باُمور :

أ - ( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ ) : انتظروا وتمهّلوا في ريب المنون فإنّي متربّص معكم منتظر قضاء اللّه فيّ وفيكم وستعلمون لمن تكون حسن العاقبة والظفر في الدّنيا والآخرة.

ب - ( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَذَا ) ؟ أي هل تأمرهم عقولهم بنشر هذه التّهمة ، فإنّ التهم الثلاث لا تجتمع بحسب مدّعاهم في آن واحد ، فإنّ المجنون من زال تعقّله وإدراكه ، فكيف يقوى على إنشاء الشعر الرصين ، وكيف يكون قوله حجّة في الإخبار عن المغيّبات ؟.

وقصارى القول : إنّ هؤلاء المتحاملين كانوا قد فقدوا رشدهم فأخذوا يتخبّطون في تهمهم وكلامهم من دون وعي.

ج - ( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) : بل الحقّ ، إنّ الذي حملهم على ما يقولون هو عنادهم وعتوّهم عن الحقّ وطغيانهم.

د - ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ) أي أنّ عقولهم لم تأمرهم بهذا ولم تدعهم إليه بل حملهم الطغيان على تكذيبك ، ولأجل ذلك يقولون : افتعل القرآن من تلقاء نفسه.

ه - ( بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ ) أي قصارى القول : إنّهم لا يؤمنون ولا يصدّقون بذلك عناداً وحسداً واستكباراً ، وإنّما هذه تهم اتّخذوها ذريعة إلى التمويه وستروا بها عداءهم وعنادهم.

و - ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) أي إن كان شاعراً فلديكم الشعراء الفصحاء ، أو كاهناً فلديكم الكهّان الأذكياء ، وإن كان قد تقوّله فلديكم الخطباء الّذين يحضرون الخطب ويجيدون إنشاء القول في كلّ فنون الكلام ، فليأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين فيما يزعمون ، فإنّ أسباب التحدّي بالقول متوفّرة لديكم كما هي متوّفّرة لديه ، بل فيكم من طالت مزاولته للخطب والأشعار وكثرة الممارسة لأساليب النظم والنثر وحفظ أيّام العرب ووقائعها أكثر من محمّد ( صلى اللّه عليه وآله

ص: 148

وسلم ) (1).

وقال سبحانه ردّاً على هذه الفرية : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / 69 ) فأين القرآن من الشعر وأين محمّد من الشعراء ؟.

10 - أضغاث أحلام : والمراد منه تخاليط أحلام رآها في المنام ، ويحكي عنهم سبحانه بقوله : ( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / 3 - 5 ).

بيّن سبحانه في هاتين الآيتين اقتسامهم القول في النبيّ ، فقال بعضهم أخلاط أحلام قد رآها في النوم ، وقال آخرون : بل إختلقه من تلقاء نفسه ونسبه إلى اللّه ، وقال قوم : بل هو شاعر وما أتى به شعر ، يخيّل إلى السامع معاني لا حقيقة لها ، مضافاً إلى أنّهم استبعدوا أن يكون بشر مثلهم نبيّاً.

وهذا الإضطراب والتردّد في القول دأب المحجوج المغلوب على أمره ، لا يتردّد إلاّ بين باطل وأبطل ويتذبذب بين فاسد وأفسد منه.

فلو بنى على تحليل القرآن بواحد من هذه الوجوه ، فكونه سحراً - مع كونه فاسداً - أقرب من كونه أضغاث أحلام ، فأين هذا النظم البديع من تخاليط الكلام التي لا تضبط ؟ وادّعاء كونها مفتريات أبعد وأبعد ، لأنّه صلی اللّه علیه و آله قد اشتهر بالأمانة والصدق ، مضافاً إلى أنّهم أعرف النّاس بالفرق بين النظم والنثر ، فكيف يصفونه بالشعر ؟ كما أنّهم يفرّقون بين الغايات التي يصاغ له الشعر والغايات التي يشدها القرآن كيف يتّهمونه بالشعر مع أنّهم يعلمون أنّه لم ينشد شعراً وما اجتمع بالشعراء ولا حام حوله مدى أربعين سنة ؟ (2).

ص: 149


1- تفسير المراغي : ج 25 ص 32.
2- تفسير المراغي : ج 17 ص 7.

إنّ المتمعّن في أحوال النبيّ ينتهي من خلال هذه التهم إلى أنّه كان رجلاً صالحاً طاهراً ديّناً عفيفاً نقي الجيب مأموناً على المال والعرض والنفس ، لم يدنّس نفسه بفاحشة ولم يتجاوز حقّ أحد قط بل كانت حياته حياة إنسان مثالي ، فلأجل ذلك لم يجد الأعداء سبيلاً إلى رميه بهذه التهم ، فحاولوا أن يتّهموه باُمور نفسيّة يعسر إثباتها كما يعسر نفيها ، وأمّا انّهم كيف اتّهموه بالسحر ؟ فيقول ابن هشام :

« إنّ الوليد بن المغيرة إجتمع إليه نفر من قريش فقال : إنّه قد حضر الموسم ، وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضاً ، ويرد قولكم بعضه بعضاً ، قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل وأقم لنا رأياً نقول به ، قال : بل أنتم فقولوا وأسمع ، قالوا : نقول كاهن ، قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه ، قالوا : فنقول مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته ، قالوا فنقول : شاعر ، قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر ، قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحّار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم ، قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : واللّه إنّ لقوله لحلاوة ، وإنّ أصله لعذق ، وإنّ فرعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلاّ عرف أنّه باطل ، وانّ أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته. فتفرّقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل النّاس حين قدموا الموسم ، لا يمرّ بهم أحد إلاّ حذّروه إيّاه ، وذكروا لهم أمره. فأنزل اللّه تعالى في الوليد بن المغيرة في ذلك من قوله : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ) أي خصيماً ( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ) ( المدّثّر / 11 - 25 ).

ص: 150

وأنزل اللّه في النفر الذين كانوا يصنّفون القول في رسول اللّه وفيما جاء به من اللّه تعالى : ( كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الحجر / 90 - 93 ) (1).

* * *

ص: 151


1- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 1 ص 270.

ب - الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية

اشارة

قد اطّلعت على الظنون والشبهات التي نسجها القوم على منوال التّهم وعرفت إجابة القرآن عنها ، فهلمّ معي ندرس إستنكارات القوم الباطلة التي جعلوها سدّاً في وجه الإذعان برسالته ، وهاتيك الإحتجاجات وإن كانت قد صدرت من أفواه رجال طعنوا في السن ولكنّها أشبه شيء بمنطق الّذين لا يعون ما يقولونه وإليك سردها واحدة واحدة :

1 - لماذا لم ينزل القرآن على رجل مُثْرٍ ؟!

إنّ الوليد بن المغيرة كان رجلاً مثرياً معروفاً في مكّة ومثله عروة بن مسعود الثقفي في الطائف ، فكان من حججهم الواهية على النّبي أنّه لماذا لم ينزل ما تدّعيه من القرآن عليهما ونزل عليك ؟ فهما مثريان وأنت معوز فقير ، فبما أنّ الرجلين كانا عظيمي قومهما ومن أصحاب الأموال الطائلة في البلدين ، فدخلت الشبهة عليهم حتّى اعتقدوا أنّ من كان كذلك فهو أولى بالنبوّة. قال سبحانه حاكياً عنهم : ( لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف / 31 ) فهؤلاء وإن كانوا صادقين في أنّ شأن القرآن أن ينزل على من له مكانة مرموقة يمتاز بها عن الآخرين ، ولكنّهم أخطأوا في جعل السموّ والعظمة في الثروة والمال لأنّ نزول الوحي رهن كون المنزول عليه رجلاً تقيّاً طاهر النفس ، صامداً في تحمّل أعباء الرسالة الإلهيّة ، لا يخاف من مواجهة الملك ، ولا يخفى عليك أنّه لا صلة لهذه الشروط بالغنى والفقر ، أو الثروة وخلّو اليد ، والقرآن يردّ على تلك الفرية بقوله : ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ

ص: 152

بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) ( الزخرف / 32 ) والمعنى أنّهم لا يملكون النبوّة الّتي هي رحمة اللّه ولطفه الّذي يختصّ به من يشاء من عباده حتّى يمنعوك منها ، فيعطوها من شاؤوا ، فهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوّة بمراحل وهو معيشتهم في الحياة الدّنيا فنحن قسّمناها بينهم ، فكيف يتدخّلون فيما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدّر قدره ، ألا وهي النبوّة الّتي هي من شؤون الباري جلّ وعلا ؟

2 - الرسالة الإلهيّة فوق طاقة البشر

كان عرب الجاهليّة يزعمون : انّ الرسالة الإلهيّة فوق قدرة البشر وإنّما هي شؤون الملك ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ) ( الأنبياء / 3 ) وقال سبحانه : ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ) ( الاسراء / 94 ) ويظهر من غير واحد من الآيات إنّ تلك الظاهرة الفكرية كانت تدور في أذهان أقوام نوح وثمود وعاد من قبل ، حيث اعترضوا على رسلهم بأنّهم بشر مثلهم ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ( إبراهيم / 10 و 11 ) ويلوح من بعض الآيات إنّ بعض اليهود المعاصرين للنبيّ الأكرم كانوا يتذرّعون بهذه الحجّة الواهية كما يحكي عنهم بقوله : ( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) يقولون ذلك بصلافة ووقاحة في الوقت الذي كانوا يعتقدون بنبوّة موسى وكتابه ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ) ( الأنعام / 91 ).

والقوم على جهل بسر لزوم كون الرسول بشراً لا ملكاً ، ولو كانوا على إحاطة به ومنصفين في الحكم لما احتجّوا بمثل تلك الحجّة الواهية ، إذ يترتّب على وجود المماثلة النوعية بين الرسول والمرسل إليه ما لا يترتّب على عدمها وذلك لاُمور :

ص: 153

أوّلاً : المسانخة والمماثلة أساس ترتكز عليه القيادة ، فلو عدمت لانتّفت الغاية المنشودة ، فإنّ القائد إذا كان مشاكلاً للمقود يكون واقفاً على حدود طاقات المرسل إليهم وغرائزهم وطبائعهم وميولهم ، فيبادر إلى معالجة ما يعانونه من تخلّف وجهل وانحطاط كما يقوم بتنمية طاقاتهم واستعداداتهم في مجالي المادة والمعنى ، إذ يحسّ منهم ما يحسّ من نفسه ، فأين طبيعة الملك من فطرة الإنسان ، فالملك مخلوق على نمط خاص لا يحيد عنه فلا يتمكّن من العصيان ، وأمّا البشر فقد خلق مخيّراً بين الطاعة والمخالفة إن شاء إمتثل وآمن ، وإن شاء إرتدّ وكفر.

وبعبارة ثانية : إنّ الإنسان جبل على غرائز متضادّة سائدة عليه ، ففيه الشهوة والغضب وهما من الميول السفلية في كيان ذاته ، كما فيه الميول العلوية التي تجرّه إلى الخير والإحسان والتجافي عن الطبيعة والتوجّه إلى ما وراءها ، فالإنسان المثالي هو من يقوم بتعديل تلك الفطريّات المتضادّة ، وامّا الملك فقد جبل على سلوك الخير والطاعة ، فلا يقدر على الخلاف والعصيان ، فهل يدرك هذا الموجود المفارق موقف الإنسان الذي خلق هلوعاً.

وثانياً : إنّ القائد كما يهدي بكلامه ومقاله ، يهدي بفعله وعمله ، فهو قدوة في مجالي القول والعمل ، والدعوة بالفعل أرسخ في القلوب من الدعوة بالقول ، وهذا يقتضي وجود السنخية بين الرسول والمرسل إليهم حتّى يكون الرسول في الغرائز الباعثة إلى الشرّ والعصيان ، مثل المرسل إليهم في ذلك المجال ، وبالتالي يكون سلوكه طريق الخير والصلاح حجّة على المرسل إليهم ، ولولا السنخيّة لما تمّت الحجّة وبقى مجال للإعتراض. (1)

وإلى بعض ما ذكرنا يمكن أن يشير قوله سبحانه : ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً * قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً ) ( الأسراء / 94 و 95 ) أي لو وجد

ص: 154


1- نهج البلاغة : الكتاب رقم 45.

في الأرض ملائكة يمشون كما يمشي البشر ، ويقيمون فيها كما يقيم ويسهل الإجتماع يهم ، وتلقّي الشرائع منهم ، لنزّلنا عليهم من السماء رسلاً من الملائكة للهداية والإرشاد وتعليم الناس ما يجب عليهم تعلّمه ، ولكن طبيعة الملك لا تصلح للإجتماع بالبشر ، فلا يسهل عليهم التخاطب والتفاهم معهم ، لبعد ما بين الملك وبينهم ، ومن ثمّ لم نبعث ملائكة ، بل بعثنا خواص البشر ، لأنّ اللّه قدوهبهم نفوساً زكيّة ، وأيّدهم بأرواح قدسية ، وجعل لهم ناحية ملكية بها يستطيعون أن يتلقّوا من الملائكة ، وناحية بشرية بها يبلّغون رسالات ربّهم إلى عباده (1).

وقد نبّه سبحانه إلى عظيم هذه الحكمة وجليل تلك النعمة بقوله : ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ... ) ( آل عمران / 164 ) وقوله : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / 128 ). وقوله : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة / 151 ) إلى غير ذلك من الآيات التي وقع التنصيص فيها بكون الرسول من جنس البشر.

3 - نبذ سنّة الآباء :

التشبّث بسيرة الآباء من الاُمور الجبلية للبشر ، خصوصاً فيمن يعيش في واحات الصحراء بعيداً عن الحضارة واسبابها ، فقد كان العرب متعصّبين على مسلك آبائهم تعصّباً حال بينهم وبين الإيمان بالرسول بحجّة انّه يدعوا إلى خلاف سيرة آبائهم ، وفي ذلك يقول سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( المائدة / 104 ) وقد عرفت الكلام في ذلك عند البحث عن الدوافع الروحيّة التي منعتهم عن الإيمان إجمالاً.

ص: 155


1- تفسير المراغي : ج 15 ص 97.

وعلى ضوء ذلك كانوا يتعجّبون من جعل الآلهة المتعدّدة إلهاً واحداً ، فقدكان للعرب أصنام منصوبة على سطح الكعبة ، كاللات والعزّى وهبل ، ويعكفون على عبادتها ، فقال لهم النبي : يا معشر العرب ، أدعوكم إلى عبادة اللّه ، وخلع الأنداد والأصنام ، وأدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، فقالوا : أنَدَع ثلاث مائة وستين إلهاً ونعبد إلهاً واحداً ، وإليه الإشارة في قوله سبحانه : ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص / 4 و 5 ) (1).

روى المفسّرون أنّ أشراف قريش وهم خمسة وعشرون منهم : الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم ، وأبوجهل ، واُبي واُميّة ابنا خلف ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والنضر بن الحارث ، أتوا أبا طالب ، وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فإنّه سفّه أحلامنا وشتم آلهتنا ، فدعا أبو طالب رسول اللّه وقال : يا بن أخي هؤلاء قومك يسألونك ، فقال : ماذا يسألونني ؟ قالوا : دعنا وآلهتنا ، ندعك والهك ، فقال : أتعطوني كلمة تملكون بها العرب والعجم ؟ فقال أبو جهل : لله أبوك ، نعطيك ذلك عشر أمثالها ، فقال : قولوا لا إله إلاّ اللّه ، فقاموا وقالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً ، وروي أنّ النبي استعبر ثمّ قال : يا عمّ واللّه لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو اُقتل دونه ، فقال له أبو طالب : امض لأمرك فواللّه لا أخذلُك أبداً (2).

4 - الدعوة إلى الحياة الاُخروية

كانت عرب الجاهلية خصوصاً المترفين منهم يخافون من سماع أخبار البعث والنشور ، وانّ الإنسان سيبعث بعد موته ويحاسب ويجزى حسب أعماله ، وكان

ص: 156


1- مناقب ابن شهر آشوب : ج 1 ص 49 ، بحار الأنوار : ج 18 ص 115 ، ولاحظ تاريخ الطبري : ج 2 ص 66.
2- مجمع البيان : ج 8 ص 465.

هذا أحد الدوافع للإعراض عن الدعوة ، وقد جاء في الذكر الحكيم ما ذكروه في هذا المجال من الحجج الواهية ، وسنوافيك به عند البحث عن المعاد في الذكر الحكيم ونكتفي في هذا المقام ببعض الآيات ، فقال سبحانه : ( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( السجدة / 10 ) ، وقال سبحانه : ( وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) ( الإسراء / 98 ) ، وقال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( سبأ / 7 ).

وتعرب الآية الاُولى عن أنّهم كانوا يظنّون إنّ الموت إفناء للإنسان واعدام واضمحلال له ، فكيف يمكن إحياؤه ثانياً ؟ والقرآن يجيب عنه بقوله سبحانه : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ( السجدة / 11 ). إنّ الوفاء في الآية بمعنى الأخذ ، وحاصل الجواب : انّ ملك الموت الذي وكّل بكم يأخذكم فلا تضلّون في الأرض ثمّ إلى ربّكم ترجعون.

وبعبارة ثانية : إنّ الإنسان مركّب من جسم وروح فما يبقى في الأرض هو جسمه وليس حقيقته وواقعيّته ، وأمّا حقيقة الإنسان فهي روحه ونفسه وهي محفوظة عندنا يأخذها ملك الموت فما بقي فهو غير حقيقته ، وما هو واقعية الإنسان ( الروح ) ، والنفس فهي محفوظة عند اللّه غير ضالة في الأرض.

قال العلاّمة الطباطبائي : « أمر سبحانه رسوله أن يجيب عن حجّتهم المبنيّة على الاسبتعاد بأنّ حقيقة الموت ليس بطلاناً لكم وضلالاً منكم في الأرض ، بل ملك الموت الموكّل بكم يأخذكم تامّين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من الأبدان ، وأرواحكم تمام حقيقتكم ، فأنتم أي ما يعني لفطة « كم » محفوظون لا يضل منكم شيء من الأرض ، وإنّما تضلّ الأبدان وتتغيّر من حال إلى حال ، وقد كانت في معرض التغيّر من أوّل كينونتها ، ثمّ إنّكم محفوظون حتّى ترجعوا إلى ربّكم بالبعث ورجوع الأرواح إلى أجسادها » (1).

ص: 157


1- الميزان : ج 16 ص 252.

وتعرب الآية الثانية عن أنّ سبب الإنكار هو تخيّل قصور القدرة وعدم إمكان البعث ، فكيف يمكن إحياء العظام الرميمة ؟ فردّ عليه سبحانه بقوله : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) ( الإسراء / 99 ) فليس إحياء العظام الرميمة أكبر وأعظم من خلق السموات والأرض ، فالقادر على خلقهما قادر على إحيائهم من جديد (1).

5 - طلب المشاركة في امتيازات النبوّة

كان المشركون - لأجل قصور معارفهم عن درك مقام النبوّة السامي ، يطلبون المشاركة في أمر النبوّة ، فكان الوليد بن المغيرة يقول : لو كانت النبوّة حقّاً لكنت أولى بها منك ، لأنّي أكبر سنّا واكثر منك مالاً ! وقال أبوجهل : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى صرنا كفرسي رهان. قالوا منّا نبيّ يوحى إليه ، واللّه لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه (2).

وإلى هذه الحجّة الواهية يشير قوله سبحانه حاكياً عنهم : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ) ( الأنعام / 124 ).

إنّ كلامهم هذا ينمّ عن حقد دفين وعناد مستبطن فردّ عليهم سبحانه بقوله : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الأنعام / 124 ). فهو سبحانه أعلم منهم ومن جميع الخلق بمن يصلح لتنفيذ رسالاته ، ويعلم من له الأهلية بتحمّل أعباء الرسالة.

6 - المطالبة بمثل ما اُوتي سائر الرسل

كان المشركون المتواجدون في عصر الرسالة بلغ مسامعهم بأنّ الكليم موسى

ص: 158


1- قد جمعنا مجموع شبهاتهم الواهية في إمكان المعاد وتحقّقه في الجزء المختص بالمعاد وقد إكتفينا بهذا المقدار هنا روماً للإختصار.
2- مجمع البيان : ج 2 ص 362 ( ط صيدا ).

بعث بمعاجز مثل العصا إذا رمى بها في مجال التحدّي تنقلب ثعباناً ، وبإدخال اليد في الجيب إذا أخرجها منه تكون بيضاء للناظرين ، فاعترضوا عليه صلی اللّه علیه و آله بأنّه يجب أن تكون حجّة رسالته كحجج الكليم موسى علیه السلام وقد حكى ذلك منهم سبحانه بقوله : ( فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ) ( القصص / 48 ).

وفي آية اُخرى : ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأنعام / 37 ). وربّما يحتجّ بهذا الإعتراض من في قلبه مرض من المستشرقين ، فيجب علينا تناوله بشيء من الدراسة والتحليل لرفع ما فيه من الإيهام والإبهام وذلك من خلال جوابين مستفادين من القرآن الكريم :

أ - إنّ هذا الإعتراض كان لمحض إختلاق المعاذير ، والشاهد على ذلك انّ هؤلاء المشركين وصفوا ما اُوتي الكليم بالسحر أيضاً ، فقد روى المفسّرون أنّ المشركين بعثوا رهطاً إلى رؤوس اليهود في عيد لهم فسألوهم عنه صلی اللّه علیه و آله فأخبروهم بنعته وصفته في كتابهم التوراة ، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا عند ذلك : ( سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) وإليه يشير قوله سبحانه : ( أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) ( القصص / 48 ).

ويظهر من الآيات الواردة بعد هذه الآية أنّهم رجعوا إلى أهل الكتاب واستفتوهم في أمره وعرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه ، فأجابوا عنه بتصديقه والإيمان به ، فساء ذلك المشركين واُغلظ عليهم بالقول واعرض الكتابيّون عنهم وقالوا : سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. قال سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ... وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ ) ( القصص / 52 - 55 ) (1).

ص: 159


1- لاحظ التفاسير.

ب - إنّ هؤلاء جاهلون بالحكمة في إختلاف المعاجز والآيات التي تنزل على أنبياء اللّه تعالى ويزعمون أنّه يجب أن تكون معاجز الجميع على حد سواء مع أنّ المصالح تقتضي أن تختلف معاجز الأنبياء ذاتاً وسنخاً حتى تتم الحجّة على المرسل إليهم ، وتفصيل القول في ذلك إنّه يجب أن تكون معجزة كل نبي مجانسة للفن الرائج في عصره حتى إذا عرضت على مهرة ذلك الفن وخبرائه ، أذعنوا بتفوّقه على قدراتهم وطاقاتهم ، والذي جاء به مدّعي النبوّة فوق حدود العلم والفن الذي تمرّسوا فيه ، وهذا يقتضي كون المعجزة مسانخة لما برعوا فيه في ذلك العصر إذ لوكان مغايراً ومفارقاً لما تمّت الحجة ولما اُلزموا بها إذ بوسعهم أن يعترضوا ويقولون : لا خبرة بشأن ما اُتيت به ، فكيف لنا التحدّي والمناجزة أو التصديق بأنّ ما جئت به معجزة إلهية تفوق قدرة البشر ، فاقتضت المصلحة تسانخ المعاجز للفنون الرائجة في عصر كل نبي.

وقد بلغ فن السحر والشعبذة في عصر الكليم موسى الذروة والقمّة كما اكتسب الطب في عصر المسيح أهميّة بالغة ، فجاء الكليم موسى بالعصا واليد البيضاء فأبطل سحرهم وأثبت أنّ ما أتى به معجزة تفوق حد السحر وإن كان بينهما مشاكلة في الصورة ولكنّها تباينه بالذات ، كما أنّ المسيح بابراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى كان قد أثبت أنّ ما أتى به فوق علمهم وطاقتهم وبراعتهم ، وخارج عن الموازين الطبيعية التي كانوا يعتمدونها في الإبراء والمداواة.

فنفس تلك المصلحة تتطلّب أن تكون معجزة النبي الأكرم مشابهة لما برع فيه العرب في العصر الجاهلي لأنّه كان قدراج بينهم إنشاء الخطب البليغة الفصيحة ونظم الشعر والتحدّي بينهم في ذلك ، فجاء بكتاب متحدّياً بصريح نصّه : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 23 و 24 ).

وإلى هذا الجواب يشير قوله سبحانه في ذيل الآية التي نبحث عنها :

ص: 160

( قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا (1) أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( القصص / 49 ).

ويدلّ على هذه الحقيقة مضافاً إلى ذلك ما روي عن أبي السكيت أنّه قال لأبي الحسن الرضا علیه السلام :

« لماذا بعث اللّه موسى بن عمران علیه السلام بالعصا ، ويده البيضاء ، وآلة السحر ؟ وبعث عيسى بآلة الطب ؟ وبعث محمداً - صلى اللّه عليه وآله وسلّم وعلى جميع الأنبياء - بالكلام والخطب ؟.

فقال أبو الحسن علیه السلام : إنّ اللّه لمّا بعث موسى علیه السلام كان الغالب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن في وسعهم مثله ، وما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجة عليهم. وانّ اللّه بعث عيسى علیه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات ، واحتاج النّاس إلى الطب ، فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيى لهم الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللّه ، وأثبت به الحجّة عليهم.

وانّ اللّه بعث محمد صلی اللّه علیه و آله في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام. وأظنّه قال : الشعر ، فأتاهم من عند اللّه من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجّة عليهم » (2).

أضف إلى ذلك انّ نبوّة الرسول الأكرم نبوّة خالدة ورسالته رسالة أبدية فهو خاتم الأنبياء والمرسلين كما أنّ كتابه خاتم الكتب ، ورسالته خاتمة الرسالات ، فيجب أن تقترن الرسالة الأبديّة بمعجزة خالدة حتّى تتمّ الحجّة على مرّ الأجيال والعصور ، ولا يختلق الجاهل عذراً يبرّر له رفضه لتلك الرسالة بعد رحيل الصادع بها ، وتباعد العهد وطول الشقّة الزمنيّة.

ص: 161


1- الضمير راجع إلى التوراة والقرآن.
2- الكافي : ج 1 « كتاب العقل والجهل » الرواية 20.

كلّ ذلك كان حافزاً لدعم دعوة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالقرآن الكريم الّذي ما أفلت أنواره منذ أن بزغ نجمه في أوّل مرّة.

7 - لماذا لا ينزلّ عليه ملك ؟!

وهذا الإعتراض يحكيه عنهم قوله سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) ( الأنعام / 8 ) وما كانوا يقصدون به أنّه لماذا لا ينزل الملك إليه صلی اللّه علیه و آله فإنّه كان يدّعي نزول الملك عليه والقرآن أيضاً يصدّقه في ذلك بقوله : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / 193 و 194 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) ( التكوير / 19 - 21 ) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ الوحي ينزل على النّبيّ بتوسّط الملك ، ومع هذا التصريح فما معنى قوله : ( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) ؟.

أقول : إنّ الاقتراحات الّتي تقدّم بها المشركون في نزول الملك معه أو إليه كانت على أنحاء :

الأوّل : إنّهم كانوا يطلبون المشاركة في امتيازات مقام النبوّة ويقولون : إنّه لو صحّ نزول الملك على النبيّ فلماذا لا ينزل علينا مباشرة على جهة الاستقلال ؟ وقد ورد في ذلك آيات نحو قوله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ) ( الفرقان / 21 ) وقال سبحانه : ( إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ( فصّلت / 14 ).

إنّ هذا القسم من الآيات مبني على إعتقادهم بأنّه لا يصحّ لأحد من البشر ولو كان أرقاهم عقلاً وخلقاً وأدباً أن يكون رسولاً وواسطة بين اللّه وعباده ، لأنّهم يأكلون ويشربون وفي ذلك قال سبحانه حاكياً عنهم : ( مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا

ص: 162

لَّخَاسِرُونَ ) ( المؤمنون / 33 - 34 ).

الثاني : كانوا يطلبون أن ينزل مع النبيّ ملك يصدّقه ، وقد ورد هذا المعنى في عدّة آيات ، قال سبحانه : ( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ) ( الفرقان / 7 ) فالغاية من نزول الملك إلى النبي كونه نذيراً معه ومصدّقاً له ، قال سبحانه : ( فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) ( الزخرف / 53 ) وقال سبحانه : ( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( هود / 12 ).

وعلى ذلك يحمل قوله سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ ) ( الأنعام / 8 ).

ويحتمل أن يكون المراد مشاهدة الملك معه فقط سواء أنذر معه أو لا ؟ فيدخل في القسم الثالث الآتي.

ثمّ إنّ إنزال الملك مع النبيّ ليصدّق دعوته وينذر معه يتصوّر على وجهين :

أ - أن ينزل الملك بصورته الواقعية - وسيوافيك في القسم الثالث - إنّ نتيجة ذلك هو موت المنذرين لأنّهم لا يحتملون رؤيته ومشاهدته بحسب طاقتهم البشريّة إلاّ بالانسلاخ عن الماديّة والإنتقال إلى مرحلة أعلى منها.

ب - أن ينزل الملك لا بصورته الواقعيّة بل يتمثّل بصورة إنسان وهذا لا يفيد شيئاً لأنّهم باستطاعتهم أن يتّهمونه بأنّه بشر مثل النبيّ وليس بملك.

وبعبارة اُخرى : لو جعله ملكاً في صورة بشر لجزموا ببشريّته لأنّهم لا يدركون منه إلاّ صورته الظاهرية وصفاته البشريّة التي تمثّل بها ، وحينئذ لا يصدّقونه ويرجع الأمر كما كان في بادئ ذي بدء ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) ( الأنعام / 9 ) أي لكان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما

ص: 163

لحق ، وهذا إحتجاج عليهم بأنّ الّذي طلبوه لا يزيدهم بياناً بل يكون الأمر عبثاً ولغواً لا طائل وراءه (1).

الثالث : كانوا يطلبون مشاهدة الملك عياناً على أن يكون الإتيان بالملك ، احدى معاجزه مثل قوله سبحانه : ( أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) ( الإسراء / 92 ) ، قال سبحانه : ( لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ( الحجر / 7 ) ، قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام / 111 ).

ويردّ القرآن على هذا الاحتجاج : ( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ ) ( الأنعام / 8 ) أي يكون هلاكهم قطعيّاً على ما يوضّحه النص التالي :

إنّ نفوس المتوغّلين في عالم المادّة لا تطيق مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم واختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرف الملائكة فلو إرتفع الناس إلى المرتبة الوجودية للملائكة لم يكن ذلك إلاّ إنتقالاً منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراءها وهو الموت كما قال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ) ( الفرقان / 21 و 22 ) (2). قال ابن عباس : ولو أتاهم ملك في صورته لأهلكناهم ثمّ لا يؤخّرون (3).

8 - التفاؤل بغلبة فارس على الروم

قد نشبت حرب دامية بين الروم والفرس ، والنبيّ والمسلمون بمكّة حوالي سنة سبع من البعثة ، فغلبت الفرس على الروم فتفألت بذلك قريش بحجّة أنّ الفرس

ص: 164


1- مجمع البيان : ج 2 ص 76 و 77.
2- الميزان : ج 7 ص 16.
3- دلائل النبوّة للبيهقي : ج 2 ص 332.

وثنيّون والروم أهل كتاب فقالوا : الروم أهل كتاب وقد غلبتهم الفرس وأنتم تزعمون أنّكم ستغلبون بالكتاب الّذي اُنزل على نبيكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم ، فأنزل اللّه سبحانه : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ( الروم / 1 - 5 ).

والآية تتضمن خبراً غيبياً بل خبرين حيث يخبر عن غلبة الروم على الفرس أوّلاً في بضع سنين أي في مدة لا تتجاوز تسع سنين ، وانّه في ذلك اليوم ينزل النصر على المؤمنين أيضاً وقد تحقّق الخبران يوم ظهر المسلمون على مشركي قريش يوم بدر. قال عطية : وسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك فقال : التقينا مع رسول اللّه ومشركي العرب ، والتقت الروم وفارس فنصرنا اللّه على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على المجوس ففرحنا بنصر اللّه إيّانا على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على المجوس ، وذلك قوله : ( يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللّهِ ) (1).

9 - طلب رفع العذاب

لمّا رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الناس إدباراً فقال : اللّهمّ سبع كسبع يوسف ، فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام ، فجاءه أبوسفيان وناس من أهل مكّة فقالوا : يا محمّد ، إنّك تزعم أنّك بعثت رحمة وأنّ قومك قدهلكوا فادع اللّه لهم ، فدعا رسول اللّه فسقوا فأطبقت عليهم سبعاً ، فشكى الناس كثرة المطر ، فقال : اللّهمّ حوالينا ولا علينا ، فانحدرت السحابة عن رأسه فسقى الناس حولهم (2).

وروى السيوطي : انّ قريشاً لمّا استعصيت على رسول اللّه وأبطأؤا عن الإسلام قال : اللّهمّ أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم جهد وقحط حتّى أكلوا العظام

ص: 165


1- مجمع البيان : ج 4 ص 295.
2- دلائل النبوّة : ج 2 ص 326.

فجعل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع فأنزل اللّه : ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( الدخان / 10 و 11 ) فاُتي النبيّ فقيل : يا رسول اللّه استسق اللّه لمضر ، فاستسقى لهم فسقوا فأنزل اللّه : ( إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ) ( الدخان / 15 ) ، فلمّا أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل اللّه : ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ ) ( الدخان / 16 ) فانتقم اللّه منهم يوم بدر (1).

10 - كيف يمكن إحياء العظام البالية ؟

مشى اُبيّ بن خلف إلى رسول اللّه بعظم بال قد اُرفت فقال : يا محمّد إنّك تزعم أنّ اللّه يبعث هذا بعدما أرم ؟ ثمّ فتّه بيده ، ثمّ نفخه في الريح ، فقال رسول اللّه : نعم أنا أقول ذلك ، يبعثه اللّه وإيّاك بعدما تكون هكذا ثمّ يدخلك اللّه النار ، فأنزل اللّه تعالى فيه : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) ( يس / 78 - 80 ) (2).

11 - هل المسيح حصب جهنّم ؟!

جلس رسول اللّه مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث ، حتّى جلس معهم في المجلس وفي المجلس غير واحد من رجال قريش فتكلّم رسول اللّه ، فعرض له النضر بن الحارث ، فكلّمه رسول اللّه حتّى أفحمه ثمّ تلى عليه وعليهم : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ

ص: 166


1- الدر المنثور : ج 6 ص 28.
2- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 1 ص 361 و 362. وسيوافيك جميع حججهم الواهية حول المعاد في الجزء المختص به بإذن اللّه ، ولذلك آثرنا في المقام الإختصار.

هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) ( الأنبياء / 98 - 100 ).

فأقبل عبد اللّه بن الزبعري السهمي حتّى جلس فقال الوليد بن مغيرة لعبد اللّه ابن الزبعري : واللّه قد زعم محمّد إنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنّم. فقال عبد اللّه بن الزبعري : أمّا واللّه لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمداً أكلُّ ما يعبد من دون اللّه في جهنّم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيراً ، والنّصارى تعبد عيسى بن مريم ، فعجب الوليد ومع من كان معه في المجلس من قول عبد اللّه بن الزبعري ورأوا أنّه قد احتجّ وخاصم فذكر ذلك لرسول اللّه من قول ابن الزبعري ... فأنزل اللّه تعالى عليه : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) ( الأنبياء / 101 و 102 ) أي عيسى بن مريم وعزيراً ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة اللّه فاتّخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون اللّه.

فنزل فيما يذكرون أنّهم يعبدون الملائكة ، وإنّهنَّ بنات اللّه : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ... - إلى قوله - وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) ( الأنبياء / 26 - 29 ).

ونزل في ما ذكر من أمر عيسى بن مريم أنّه يعبد من دون اللّه. وعجب الوليد ومن حضر من حجّته وخصومه ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ... إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) ( الزخرف / 57 و 59 - 61 ).

* * *

ص: 167

خاتمة المطاف : دعاء النّبيّ على سبعة من قريش

استقبل رسول اللّه البيت فدعا على نفر من قريش سبعة فيهم أبو جهل ، واُميّة ابن خلف ، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن أبي معيط ، قال عبد اللّه بن مسعود اُقسم باللّه لقد رأيتهم صرعى على بدر ، قد غيّرتهم الشمس وكان يوماً حارّاً (1).

وقد نزلت آيات في حقّهم وحقّ غيرهم تقدّم بعضها وإليك البقية الباقية منها :

1 - لمّا أرادت قريش البطش بالنبيّ أخذوا يتناولونه بالنبز واللمز والهمز وصور الاستهزاء المختلفة وجعل القرآن ينزل في قريش يخبر عن أعمالهم وعدائهم ، فمنهم من سمّي لنا ، ومنهم من لم يسمّ ، وممّن سمّي لنا من قريش عمّه أبو لهب بن عبد المطلب وامرأته اُم جميل بنت حرب بن اُميّة ، حمّالة الحطب ، وإنّما سمّاها اللّه تعالى حمّالة الحطب ، لأنّها كانت - تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - حيث يمرّ ، فأنزل اللّه تعالى فيهما : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) (2).

2 - إنّ اُميّة بن خلف كان إذا رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهمزه ولمزه ، فأنزل اللّه تعالى فيه : ( وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ * نَارُ اللّهِ المُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ) ( الهمزة / 1 - 9 ) (3).

ص: 168


1- دلائل النبوة : ج 2 ص 335.
2- السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ص 355.
3- المصدر السابق : ج 1 ص 356.

3 - لقى أبو جهل بن هشام رسول اللّه فقال له : واللّه يا محمّد لتتركنّ سب آلهتنا أو لنسبنّ إلهك الذي تعبد ، فأنزل اللّه تعالى : ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( الأنعام / 108 ) (1).

لمّا نزل قوله سبحانه : ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) ( المدثر / 26 - 30 ) ، قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم اُمّهاتكم أتسمعون ابن أبي كبيشة يخبركم بأنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم الشجعان ، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنّم ، فقال أبو الأسد الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر ، عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني ، فاكفوني أنتم اثنين ، فنزل قوله : ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ) ( المدثر / 31 ) (2).

لمّا ذكر اللّه عزّ وجلّ شجرة الزقوم ترهيباً بها وقال : ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجَحِيمِ ) ( الصافات / 62 - 68 ).

قال أبو جهل : يا معشر قريش ، هل تدرون ما شجرة الزّقوم الّتي يخوّفكم بها محمّد ؟ قالوا : لا ، قال : عجوة يثرب بالزبد ، واللّه لئن استمكنّا منها لنتزقمنّها تزقّماً. فأنزل اللّه تعالى فيه : ( إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الحَمِيمِ ) ( الدخان / 43 - 46 ).

ص: 169


1- المصد السابق : ج 1 ص 357.
2- لاحظ مجمع البيان : ج 5 ص 388. والميزان : ج 20 ص 2. والمقصود ما أخبرنا عن عدّتهم انّها تسعة عشر إلاّ ليكون فتنة للذين كفروا ، وفي الوقت نفسه يكون سبباً لاستيقان أهل الكتاب ، لأنّهم يجدونه موافقًا لما جاء في كتابهم كما يكون سبباً لزيادة إيمان المؤمنين بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك.

قال ابن هشام : المهل كلّ شيء أذبته من نحاس أو رصاص ، أو ما أشبه ذلك ، فيما أخبرني أبا عبيدة : قال : كان عبد اللّه بن مسعود والياً لعمر بن الخطاب على بيت مال الكوفة وأنّه أمر يوماً بفضة فاُذيبت فجعلت تلوّن ألواناً ، فقال : هل بالباب من أحد ؟ قالوا : نعم. قال : فاُدخلوهم ، فاُدخلوا ، فقال : إنّ أدنى ما أنتم راوون شبهاً بالمهل كهذا (1).

4 - إنّ اُبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط كانا متصافيين ، حسناً ما بينهما ، فكان عقبة قد جلس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسمع منه ، فبلغ ذلك اُبيّاً ، فأتى عقبة فقال ( له ) : ألم يبلغني إنّك جالست محمّداً وسمعت منه وجهي من وجهك حرام أن اُكلّمك - واستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه ، أو لم تأته فتتفل في وجهه. ففعل ذلك عدو اللّه عقبة بن أبي معيط لعنه اللّه. فأنزل اللّه تعالى فيهما : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ... ) إلى وقوله تعالى : ( لِلإِنسَانِ خَذُولاً ) ( الفرقان / 27 - 29 ).

5 - ابن أخنس بن شريف الذهبي حليف بني زهرة ، كان من أشراف القوم وممّن يستمع منه ، وكان يصيب من رسول اللّه ويرد عليه ، فأنزل اللّه تعالى فيه : ( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) ( القلم / 10 - 13 ).

قال ابن هشام : ولم يقل « زنيم » لعيب في نسبه وإنّ اللّه لا يعيب أحداً بنسب ولكنّه حقّق بذلك نعته ليعرف. والزنيم : العديد ( الدعيّ ) للقوم (2).

6 - إنّ العاص بن وائل كان من أعداء النبيّ وكان خبّاب بن الأرتّ ، صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قيناً بمكّة يعمل السيوف ، وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفاً عملها له حتى كان عليه مال ، فجاءه يتقاضى ، فقال له

ص: 170


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 362 و 363.
2- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 1 ص 360.

يا خبّاب أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أنّ في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب ، أو فضّة ، أو ثياب ، أو خدم. قال خبّاب : بلى. قال : فانظرني إلى يوم القيامة يا خبّاب حتى أرجع إلى تلك الدار فاقضيك هنالك حقّك ، فواللّه لا تكون أنت وصاحبك يا خبّاب آثر عند اللّه منّي ، ولا أعظم حظّاً في ذلك. فأنزل اللّه تعالى فيه : ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ) ( مريم / 77 - 80 ).

7 - وقف الوليد بن المغيرة مع رسول اللّه ورسول اللّه يكلّمه وقد طمع في إسلامه ، فبينما هو في ذلك إذ مرّ به ابن اُم مكتوم الأعمى فكلّم الأعمى رسول اللّه وجعل يستقرئه القرآن ، فشقّ ذلك منه على رسول اللّه حتى اُضجره وذلك انّه شغله عمّا كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه ، فلمّا أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه ، فأنزل اللّه تعالى فيه : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ) ( عبس / 1 - 12 ) (1).

وما ذكره ابن هشام وغيره وان كان ينطبق على ظاهر الآيات ولكنّه لا يتفق مع خلق النبي الذي وصفه سبحانه بقول : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

وفي بعض الروايات إنّ العباس المتولّي ، رجل من بني اُميّة ، كان عند النبي فدخل على النبي ابن اُم مكتوم فعبس الرجل وقبض وجهه فنزلت الآيات.

قال العلاّمة الطباطبائي : وليست الآيات ظاهرة الدلالة على أنّ المراد بها هو النبي صلی اللّه علیه و آله بل خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه ، بل فيها ما يدل على أنّ المعني بها غيره ، لأنّ العبوس ليس من صفات النبي ( صلى اللّه عليه

ص: 171


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 363 ، وأكثر التفاسير نقلوا هذا المضمون.

وآله وسلم ) مع الأعداء فضلاً عن المؤمنين به والموالين له ، وعلى كلّ تقدير ، فإنّ توصيفه بأنّه يميل للأغنياء ويعرض عن الفقراء لا يتناسب مع أخلاقه الكريمة كما عن المرتضى رحمه اللّه .

وقد أوضحنا الحال في الجزء الخامس من هذه الموسوعة (1).

8 - كان العاص بن وائل السهمي - إذا ذكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - قال : دعوه ، فإنّما هو رجل أبتر لا عقب له ، لو مات لانقطع ذكره واسترحتم منه ، فأنزل اللّه في ذلك : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) ما هو خير لك من الدنيا وما فيها ، والكوثر : العظيم.

إنّ هذه الآية تتضمّن خبراً غيبيّاً وهو أنّه سيكثر نسل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وإنّ تعيير العدو يرجع إلى نفسه ، وعلى الرغم من أنّ أهل بيته لاقوا من الاُمّة ما لاقوا من القتل والتشريد والتنكيل ، ومع ذلك نجد نسل الرسول قد بلغ من التصّور ما بلغ. قال الرازي : « فانظر كم قتل من أهل البيت ثمّ العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بين اُميّة في الدنيا أحد يعبأ به ، ثمّ انظر كم فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا علیهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم » (2).

هذا ما يقوله الرازي في القرن السابع أو أواخر القرن السادس ، ونحن في أوائل القرن الخامس عشر ، وقد ملأ العالم نسل البتول ، وهذه بلاد المغرب وتونس والجزائر ومصر والشام وتركيا وايران والعراق زاخرة بالشرفاء من أبناء الرسول صلی اللّه علیه و آله فصدق قول اللّه العلي العظيم : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) .

إنّ منصب نقابة الطالبين في عصر الرضا علیه السلام وبعده إلى عصر الشريف الرضي الذي تصدّر هذا المنصب عام 380 ه ، لأوضح دليل على كثرة

ص: 172


1- مفاهيم القرآن : ج 5 ص 130 عند البحث عن عصمة النبي.
2- مفاتيح الغيب : ج 8 ص 498 ( طبع مصر - 1308 ).

الطالبيين من نسل البتول إلى حد عيّن لهم نقيب كالإمام الرضا والشريف الرضي ، والمسؤولية الملقاة على عاتقه ، ضبط مواليدهم ووفياتهم وأنسابهم والقيام بمهام اُمورهم وهدايتهم وإرشادهم إلى ما فيه صلاح دنياهم وآخرتهم على حد ما ذكره الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية (1).

ص: 173


1- الأحكام السلطانية : ص 82 - 86.

ج - الإقتراحات الباطلة لقبول الرسالة

اشارة

الدارج والمألوف بين الدبلوماسيين إذا كانوا بصدد رفع ما بينهم من خصومة ومرافعة ، هو الجلوس على طاولة المفاوضات وإبداء بعض التنازلات عن المصالح الجزئية لقاء الحفاظ على مصالح اُخرى أكثر أهميّة بالنسبة لهم مع سعيهم الحثيث للحفاظ على حرمة الاُصول المبدئية للطرفين.

ولكن القوم لتشبّثهم بما كانوا عليه ، وغربتهم عن العلم باُصول دعوة الأنبياء وأهدافها السامية ، كانوا يطلبون من النبي صلی اللّه علیه و آله اُموراً مختلفة : منها ما يضاد الاُصول التي بنيت عليها الشرائع السماوية ، ومنها ما يدخل في المحالات بالذات ، ومنها ما هو خارج عن نطاق وظائف الرسل والأنبياء ، ولا يمت بصدق دعوتهم ورسالتهم ، وإليك جملة من هذه الطلبات التي تقدّموا بها على ضوء الكتاب العزيز :

1 - التشريك في العبادة

روى المفسرون أنّ نفراً من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي ، والعاص ابن أبي وائل ، والوليد بن المغيرة وغيرهم ، قالوا : اتبع ديننا نتبع دينك ، ونشركك في أمرنا كلّه ، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيراً ممّا بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظّنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيراً ممّا في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظّك منه ، فقال صلی اللّه علیه و آله : معاذ اللّه أن اُشرك به غيره. قالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك فقال : حتى انظر ما يأتي من عند ربي ، فنزل : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) فعدل رسول اللّه

ص: 174

صلی اللّه علیه و آله إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش ، فقام على رؤوسهم ، ثمّ قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا عند ذلك ، فآذوه وآذوا أصحابه ، قال ابن عباس : وفيهم نزل قوله : ( قُلْ أَفَغَيْرَ اللّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ ) ( الزمر / 64 ) (1).

وروى أبو حفص الصائغ عن جعفر بن محمد علیهماالسلام قالوا : نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة ، فأنزل اللّه عليه : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ... ) (2).

نظراً لابتعاد هؤلاء عن النبوّة والأنبياء يخالون أنّ برامج الأنبياء في رسالاتهم برامج بشرية يسوغ لهم المساومة فيها وإبداء التنازلات عنها ، ولأجل ذلك نزل الوحي رادّاً على تلك الفكرة الخاطئة وقال : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) .

إنّ الدعوة إلى التوحيد في العبادة ورفض عبادة الغير هو الحجر الأساس الذي تهدف إليه الدعوة الإلهية المتمثّلة في رسالات الأنبياء ، ولم يبعث نبي قط إلاّ وكان هذا هو المحور المهمّ في صلب دعوته ، فكيف يخوّل له التنازل عن هذا الأصل الأصيل. قال سبحانه : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ( النحل / 36 ).

ويعرب أيضاً عن وجود مثل هذا الاقتراح قوله سبحانه : ( وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) ( الأسراء / 73 - 75 ).

هذه الآيات تفصح عن شدة مكر المشركين وتماديهم في إنكار التوحيد حيث

ص: 175


1- مجمع البيان : ج 5 ، ص 252.
2- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 1 ص 362 ، بحار الأنوار : ج 7 ص 239.

أرادوا أن يفتنوا النبي صلی اللّه علیه و آله عن بعض ما اُوحي إليه أن يميل إلى الركون إليهم بعض الميل ، ولكنّهم لم يحظوا بما كانوا يصبون إليه ويرمون تحقيقه من ميل النبي إليهم وافتتانه عن بعض ما اُوحي إليه والشاهد على ذلك أمران :

1 - قوله سبحانه : ( وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) وهو صريح في أنّه لم يتحقّق الإفتتان.

2 - قوله عزّ وجلّ : ( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ) والمراد من التثبيت هو العصمة ولأجل ذلك قال : ( لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ) ولم يقل : « كنت » والمراد القرب من الركون وإنّه لولا التثبيت لقرب ركونه إليهم ولكنّه لم يحصل القرب فضلاً عن الركون لأجل التثبّت.

2 - تبديل القرآن بغيره

وقد كان من جملة الإقتراحات التي قدّمت للنبي صلی اللّه علیه و آله أزاء قبول دعوته هو تبديل القرآن لأنّه يشتمل على تخطئة ما كانوا هم وآباؤهم عليه من الإعتقاد والعمل ، فاقترحوا عليه أن يأتي بقرآن خالي من ذلك ، قال سبحانه في محكية عنهم : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ) ( يونس / 15 ).

وهذا الإقتراح على غرار ما سبق ينبع عن جهل بمبادئ النبوّة والرسالة التي يتحمّلها الرسول من خلال دعوته وابلاغه وليس له حق في تحويره وابداله بل هو مأمور لا تتجاوز وظيفته حد الإبلاغ.قال سبحانه مشيراً إلى هذا الجواب : ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) ( يونس / 15 ).

فهذه الآية تفسّر حقيقة النبوّة وتبيّن حدود وظيفة النبي ، فإنّه خاضع للوحي وليس له إِلاّ إبلاغ ما يوحى إليه وإنّ تبديل الموحى إليه عمل إجرامي لا يغتفر

ص: 176

وعصيان للرب موجب للثبور والخسران.

ثمّ إنّه سبحانه يرشد النبي إلى أن يستدل عليهم بأنّ القرآن ليس كلامه وإنّما هو وحي يوحى إليه من خلال تسليط الضوء على سيرته بينهم حيث عاش فيهم عمراً ولم يسمعوا منه شيئاً ممّا يشبه القرآن ، فلو كان القرآن حصيلة فكره ونتاج عقله لبدر منه شيء طيلة أربعين سنة من عمره المنصرم إذ ( مَا أَضْمَرَ أحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظَهَرَ في صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ ) (1).

فامساكه في هذه الحقب والأعوام عن التفوّه بما يماثل ذلك لأوضح دليل على أنّه وحي اُوحى إليه في حاضر دعوته فكيف تقترحون عليه أن يأتي بقرآن غيره هذا إذ ليس القرآن رهن إشارته وطوع اختياره وارادته حتى يأتي بطائفة منه ويعزف عن طائفة اُخرى واليه يشير قوله سبحانه :

( قُل لَّوْ شَاءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس / 16 ).

فهؤلاء القوم مرضى القلوب والضمائر وضعفاء العقول والبصائر ، يقترحون على الطبيب الإلهي أن يكتب لهم الوصفة العلاجية لدائهم المزمن حسبما تشتهي أنفسهم واهواؤهم.

3 - شروط تعجيزية

قد بلغ عناد القوم ولجاجهم في وجه الدعوة المحمديّة حدّاً كانوا يقترحون عليه اُموراً تارةً تدخل في حيّز المستحيلات ولا تتعلّق بها القدرة وإن بلغت ما بلغت ، واُخرى اُموراً ممكنة ولكنّها خارجة عن نطاق وظائف النبي في دعوته ورسالته وتضاد أهدافها ولا تمت بالاستدلال على صدقها بصلة ولا تعد دليلاً على

ص: 177


1- مقتبس من كلام لأمير المؤمنين علي علیه السلام في قصار حكمه ( رقم 26 ) من نهج البلاغة.

ربانيّة رسالته (1).

وقد تعرّض القرآن الكريم لهذه الشروط المستحيلة أو الصعبة بأشكالها المختلفة في ضمن الآيات التالية :

( وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ :

1 - حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا

2 - أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا

3 - أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا

4 - أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ

5 - وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً

6 - أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ

7 - أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ

8 - وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) .

هذا تصوير لجملة شروط القوم ، وامّا الجواب عنها فقد أوجزه في كلمتين :

1 - ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي

2 - هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ) ( الأسراء / 90 - 93 )

هذه مطالبهم وإليك تفصيل القول فيها :

إنّ هذه المطالب بين محال لا تدخل في نطاق القدرة ، وبين ما هو خارج عن وظيفة الرسول ورسالته ، وبين ما هو يضادّ أهداف دعوته ، أو لا يمت بصلة إلى صدق دعوته ، كما سبق ذكره ، وإليك بيانها بمزيد من التفصيل :

ص: 178


1- لاحظ السيرة النبويّة : ج 1 ص 296 و 297 و 309.

أمّا الأول : أعني تفجير الينبوع من الأرض فهو يحتمل معنيين :

1 - أن يفجّر الينبوع من الأرض وفق رغبتهم لنفسه حتى يكون رجلاً ثريّاً.

2 - أن يفجّر الينبوع من الأرض لأجل هؤلاء حتى تصبح أراضيهم ومراتعهم مخضرّة مزهرة يانعة الثمار.

أمّا الإحتمال الأول : فلا يعد دليلاً على صدق الدعوة ، ولو اُريد الثاني فهو على خلاف السنّة الإلهية فقد تعلّقت مشيئته الحكيمة بتحصيل هذه المواهب المادّية عن طريق الكدح والجد في ظل أعمال الطاقات البشرية ، بالإضافة إلى أنّه خارج عن وظائف الرسالة ، فإنّ الأنبياء قد بعثوا لهداية الناس إلى ما فيه سعادتهم في الدارين باراءة الطريق الموصل إليها ، وأمّا القيام بتفجير الينبوع من الأرض فهو أمر خوّل إلى الناس أنفسهم.

وأمّا الثاني : فهو أن يكون للنبيّ جنّة من نخيل وعنب تجري الأنهار خلالها فلا صلة له بصدق الدعوة إذ أقصى ما يستدلّ به على أنّه رجل عاقل عارف بشؤون الفلاحة والتجارة أو رجل له مكانة مرموقة في المجتمع ولا تدلّ كثرة الأموال والإنتعاش الإقتصادي على صدق الدعوة ، وقد مرّ تحقيق ذلك في تفسير قوله : ( لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) .

وأمّا الثالث : أعني إسقاط السماء على رؤوسهم فهو يضادّ هدف الدعوة ، لأنّه صلی اللّه علیه و آله بعث لهداية الناس ورحمة بهم لا لإهلاكهم ، نعم يمكن تصوّر ذلك إذا تمّت الحجّة عليهم ولم يبق لهم عذر في عدم قبول الدعوة ، فربّما يشملهم العذاب وهو خارج عن موضوع البحث.

أمّا الرابع : أعني الإتيان باللّه فهو طلب أمر محال ، فهؤلاء كانوا يطلبون رؤية اللّه سبحانه قبيلاً ومواجهة. واللّه فوق الزمان والمكان لا يحيط به شيء ، ولا يمكن أن تراه العيون بمشاهدة الأبصار وإنّما تراه القلوب بحقائق الإيمان.

ص: 179

وأمّا الخامس : أعني الإتيان بالملائكة قبيلاً ومشاهدتهم بانقلاب الغيب شهوداً فهو من المعاجز التي لو تحقّقت ولم يترتب عليها منهم إيمان واذعان لعمّهم العذاب ولا ينظرون ، وقد مرّ ذلك في تفسير قوله : ( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ ) ( الأنعام / 8 ).

وأمّا السادس : وهو أن يكون له بيت من ذهب فلا صلة له بصدق الدعوة.

وأمّا السابع : وهو الرقي في السماء فهو أشبه باقتراح الصبيان ولو فرض تحققه عن طريق الإعجاز لما آمنوا به بشهادة قولهم في الإقتراح الثامن : ( وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) . حيث صرحوا بأنّ رقيه في السماء غير كاف في إيمانهم وإذعانهم بل يجب أن يقترح عليه أمراً ثامناً وهو أن ينزل عليهم كتاباً يقرؤونه ، ولعلّ مقصودهم أن ينزّل كتاباً فيه اسمه ورسالته.

إنّ هذه الإقتراحات التعجيزية أوضح شاهد على أنّ القوم لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة وتحرّي الواقع والصدق ، ولو افترضنا النبي قد امتثل لبعض اقتراحاتهم الممكنة لوجدناهم يأتون بحجج واهية اُخرى بقصد التعجيز لا غير ، ولأجل ذلك يقول سبحانه في حق هؤلاء وأشباههم : ( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ( الأنعام / 7 ).

ويقول سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا ) ( الرعد / 31 ). وهذه الآية ونظائرها تدلل بشواهد صادقة لا يشوبها الريب على أنّ القوم لم يكونوا بصدد الوقوف على الحقيقة واستكشافها ولأجل ذلك كانوا يقترحون على النبي اُموراً تنم عن روح العناد والمكابرة ، وأمّا الذكر الحكيم فقد أجاب عنه بوجهين :

1 - ( سُبْحَانَ رَبِّي ... ) ولعلّه جواب عن قولهم أو يأتي باللّه ، واللّه سبحانه منزّه عن المادّة وآثارها وليس للبشر تصحّ رؤيته بحاسة الأبصار. قال سبحانه : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / 103 ).

ص: 180

2 - ( هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ) ومعناه أنّه بشر مأمور لا يستطيع القيام بالممكن من هذه الاُمور إلاّ بإذنه سبحانه ، شأن كل رسول في إنجاز رسالته.

وبعبارة اُخرى إنّكم إن كنتم تطلبون هذه الاُمور منّي بما أنا بشر ، فالممكن منها خارج عن إطار قدرة البشر ، وإن كنتم تطلبون مني بما إنني رسول مبلغ فلا أستطيع التصرف بلا إذن ورخصة منه سبحانه ، وعلى كل تقدير فهؤلاء الجهلة المجادلون ما كانوا ليؤمنوا ولو جاءهم النبي بأضعاف ما لم يطلبوا به. قال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام / 111 ).

والمراد من قوله : ( إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ ) هو المشيئة القاهرة التي تجبر الناس على الإيمان بالرسالة ، وعندئذ لا يقام لمثل هذا الإيمان وزن ولا قيمة (1).

* * *

4 - طلب طرد الفقراء

روى الثعلبي باسناده عن عبد اللّه بن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول اللّه وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين ، فقال : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك أفنحن نكون تبعاً لهم ؟ أهؤلاء الذين منَّ اللّه عليهم ؟ أطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك ، فأنزل اللّه تعالى : ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ... ) (2).

ص: 181


1- لقد بسطنا الكلام في الجزء الرابع من هذه الموسوعة في تحديد الشروط التي يجب للنبي دونها القيام بالمعجزة وبيّنّاه في مفاد الآيات النافية للإعجاز ، لاحظ : ص 95 - 154 من ذلك الجزء.
2- مجمع البيان : ج 4 ص 305.

قال ابن هشام : وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا جلس في المسجد وجلس إليه المستضعفون من أصحابه : خباب وعمّار وابو فكيهة يسار مولى صفوان بن اُميّة بن محرث وصهيب وأشباههم من المسلمين ، هزأت بهم قريش وقال بعضهم لبعض : هؤلاء أصحابه كما ترون ، أهؤلاء منّ اللّه عليهم من بيننا بالهدى والحق ؟ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه ، وما خصّهم اللّه به دوننا ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنعام / 52 - 54 ) (1).

وقد ذكر في شأن نزول الآية وجه آخر يناسب كونها مدنيّة لا مكيّة ، علماً بأنّ جميع آيات السورة مكيّة وهذا يبعد أن تكون هذه الآية وحدها مدنيّة مع أنّ لحن الآية يناسب كونها مكّية.

ومثله قوله سبحانه : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف / 28 ).

والسورة مكيّة ومفاد الآية يشبه مفاد الآيات المكيّة ، وقد ذكر في شأن نزولها أيضاً ما يعرب عن كونها مدنيّة ، وإليك النص الدال على ذلك :

روى السيوطي في الدر المنثور : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي قاعداً مع بلال وصهيب وعمّار وخباب في اُناس ضعفاء من المؤمنين فلمّا رأوهم حقّروهم ، فأتوه فخلوا به فقالوا : إنّا نحب أن تجعل

ص: 182


1- السيرة النبويّة ، لابن هشام : ج 1 ص 392 و 393.

لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلاً ، فإنّ وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمه معنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت ، قال نعم ، قالوا : فاُكتب لنا عليك بذلك كتاباً ، فدعا بالصحيفة ودعا عليّا ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية : ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) إلى قوله ( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فألقى رسول اللّه الصحيفة من يده ، فأتيناه وهو يقول : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فكنّا نقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل اللّه : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) قال : فكان رسول اللّه يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم (1).

يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد : « إستفاضت الروايات على نزول سورة الأنعام دفعةً ، هذا والتأمل في سياق الآيات لا يبقي ريباً أنّ هذه الروايات إنّما هي من قبيل ما نسمّيه تطبيقاً ، بمعنى أنّهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الإنطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله فعدّوا القصّة سبباً لنزول الآية لا بمعنى أنّ الآية انّما نزلت وحدها دفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها ، بل بمعنى أنّ الآية يرتفع بها ما يطرء من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله : ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ... ) الآية ، فإنّ الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنّها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبي صلی اللّه علیه و آله واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّة بعد كرّة وعنده في كل مرّة عدّة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون الآية إنعطاف إلى هذه الإقتراحات أو بعضها (2).

ص: 183


1- الدر المنثور : ج 3 ص 13 ، ونقله في مجمع البيان عند تفسير الآيتين فلاحظ.
2- الميزان : ج 7 ص 110 بتصرّف يسير.

ويضيف قائلاً : « إنّ ما اقترح المشركون على النبي نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم على رسلهم من أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء والفقراء من المؤمنين تعزّزاً وتكبّرا وقد حكى اللّه سبحانه عن قوم نوح فيما حكى من محاجّته علیه السلام حجاجاً يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى : ( فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) إلى أن قال : ( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( هود / 27 و 29 و 30 ) (1).

ص: 184


1- الميزان : ج 7 ص 110 بتصرّف يسير.

د - تعذيب النبيّ وأصحابه

اشارة

قد كان إيقاع الأذى على الدعاة المصلحين من سنن المجتمعات الجاهلية حيث قد كان أهلها يخالونهم أعداء لأنفسهم ومصالحهم فكانوا يقابلونهم بالإيذاء والشتم والضرب والقتل فلم يكن النبي فيما لاقاه من الأذى والسب والتنكيل به وبأصحابه بدعاً من الاُمور.

وقد أدار المشركون رحى الشر عليهم طيلة لبثهم في مكة فجاء الوحي يحثّهم على الصبر والثبات بتعابير وأساليب مختلفة وإليك توضيح ذلك :

1 - نزل الوحي مسلّياً بقوله : ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المُرْسَلِينَ ) ( الأنعام / 34 ) وقوله : ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ( النحل / 127 ).

2 - ومحفزاً تارة اُخرى بتذكيره صلی اللّه علیه و آله بجَلَد أولى العزم في إداء رسالاتهم بقوله : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) ( الأحقاف / 35 ).

3 - وثالثة داعياً له صلی اللّه علیه و آله تفويض الأمر إلى اللّه والتريّث حتى يأتي موعده بقوله : ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس / 109 ).

4 - ورابعاً مروّضا له صلی اللّه علیه و آله في قبال ما يكال إليه من

ص: 185

صنوف الايذاء بقوله : ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً ) ( المزمل / 10 ).

5 - وخامساً منبّهاً له صلی اللّه علیه و آله بتجنب ما وقع فيه النبيّ يونس بقوله سبحانه : ( وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) ( القلم / 48 ).

فهذه الآيات ونظائرها تعرب عن عظم درجة الايذاء والوصب الذي عاناه النبي في سبيل إرساء قواعد دعوته حيث قابلها برحابة صدر وسعة نفس ، وعلى الرغم من كل ذلك فلم تتحرك شفتاه بطلب إنزال العذاب عليهم. سواء عندما كان في مكة أم بعد مغادرتها إلى المدينة فكان يقابل تزمّت قومه وعنادهم بالحكمة والموعظة الحسنة ما وجد لذلك سبيلاً.

المضطهدون في صدر البعثة

وقد جاء في كتب السيرة أسماء الذين عذّبوا بيد قريش من صحابة النبي الأكرم وعلى رأسهم « ياسر » و « سميّة » أبوا عمّار ، و « صهيب » و « بلال » و « خباب » وقد اُستشهد أبو عمّار واُمّ عمّار بتعذيب المشركين وأمّا عمّار فقد أعطاهم بلسانه ما أرادوا منه وبقي قلبه مطمئن بالإيمان وعندما جاء خبر تعذيب قريش لنبي الإسلام صلی اللّه علیه و آله فلم يزل يلهج بهم ويدعو لهم ويقول : اصبروا آل ياسر موعدكم الجنّة ، ويقول : أبشروا آل ياسر موعدكم الجنّة ، ويقول : اللّهمّ اغفر لآل ياسر وقد فعل.

يقول ابن هشام : وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار وأبيه واُمّه وكانوا أوّل أهل بيت في الإسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة فيمر بهم رسول اللّه فيقول : صبراً آل ياسر موعدكم الجنّة. صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة (1).

ص: 186


1- سيرة ابن هشام : ج 1 ص 319 - 320.

يروي أبو نعيم عن عثمان بن عفان قال : لقيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالبطحاء فأخذ بيدي فانطلقت معه ، فمرّ بعمّار واُمّ عمار وهم يعذّبون ، فقال : صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة.

وروى أيضاً عن مجاهد : أوّل من أظهر الإسلام سبعة ، فعدّ منهم عمّار وسميّة - اُمّ عمّار -.

وكانوا يلبسونهم أدراع الحديد ثمّ يسحبونهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء اللّه أن يبلغ من حر الحديد والشمس ، فلمّا كان من العشيّ أتاهم أبوجهل - لعنه اللّه - ومعه حربة فجعل يشتمهم ويوبّخهم (1).

ثمّ إنّ المشركين أصابوا عمّار بن ياسر فعذّبوه ثمّ تركوه ( لأنّه أعطاهم ما يطلبون ) فرجع إلى رسول اللّه فحدّثه بالذي لقي من قريش.

وفي رواية : أخذ بنو المغيرة فغطّوه في بئر ميمون وقالوا : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره.

وفي رواية ثالثة : أخذ المشركون عمّار بن ياسر فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا ، فشكى ذلك إلى النبي ، فقال النبي : كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئناً بالإيمان ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : فإن عادوا فعد ، فنزل قوله سبحانه : ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النحل / 106 ).

فأخبر اللّه سبحانه أنّه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من اللّه وله عذاب أليم ، وأمّا من أكره وتكلّم بها لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه ، لأنّ اللّه سبحانه إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم (2).

ص: 187


1- حلية الأولياء : ج 1 ص 140.
2- تفسير الطبري : الجزء 14 ، ص 122.

لقد تطرّق إلى بعض القلوب أنّ عمّاراً كفر ، فقال النبي : إنّ عمّاراً مِلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، وجاء عمّار إلى رسول اللّه وهو يبكي ، فقال : ما وراءك ؟ فقال : شر يا رسول اللّه ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ويقول : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ، وأضاف الطبرسي أنّ ياسراً وسميّة أبوي عمّار أوّل شهيدين في الإسلام (1).

إنّ الأساليب التي أنتهجتها وتبنّتها قريش لشل حركة تقدم الدعوة النبويّة لمّا أضحت فاشلة ، أضطرّت إلى اللجوء إلى أسلوب آخر وهو اثارة الضوضاء والضجيج ، للحيلولة دون بلوغ القرآن إلى مسامع الناس.

إثارة الضوضاء عند تلاوة النبي للقرآن

كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي وكانت العرب تعرف بفطرتها أنّه كلام فوق كلام البشر ، وأنّ له لحلاوة وأن عليه لطلاوة وأنّ أعلاه لمثمر وأن أسفله لمغدق وأنّه يعلو وما يعلى عليه (2).

هكذا وصف القرآن بعض أعداء النبي ، وقد كانت الشباب من قريش وغيره يدركون حلاوة القرآن بذوقهم السليم فيندفعون إلى الإعتناق به حيث كان القرآن يأخذ بمجامع قلوبهم ويوردهم المنهل العذب من الإيمان ، فلم ير أعداء النبي بدّاً من نهي العرب عن الاستماع إليه وقد كان النبي يجهر بالقرآن في الأشهر الحرم في المسجد الحرام ، فاحتالوا بالمكاء والتصفير والتخليط في المنطق على رسول اللّه حتى لا يسمع صوته ولا يعلم كلامه ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ( فصّلت / 26 ). حتى يصدّوا بذلك

ص: 188


1- مجمع البيان : ج 3 ص 388.
2- اقتباس من كلام الوليد بن المغيرة ، راجع مجمع البيان : ج 5 ص 387 ، والسيرة النبويّة : ج 5 ص 382.

من اَراد استماعه ، فإذا لم يسمع ولم يفهم لا يتبعه فيغلبون بذلك محمداً (1). فأوعدهم اللّه سبحانه بقوله : ( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ولقد تحقّق وعده سبحانه في الدنيا يوم بدر فقتل منهم من قتل وأسر منهم من اُسر ، فنالوا جزاء أعمالهم ، وبقي عليهم العذاب الأكبر الذي يجزون به في يوم البعث. يقول سبحانه : ( ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) ( فصّلت / 27 و 28 ).

العذر الأخير للإمتناع عن قبول الدعوة

وأقصى ما كان عند قريش من العذر لتبرير عملهم وعدم إعتناقهم لدين النبي ، هو أنّهم كانوا يخافون من مشركي الجزيرة العربيّة حيث إنّهم كانوا على خلاف التوحيد بل على عبادة الأصنام ، فقالوا : لو اعتنقنا دين محمد صلی اللّه علیه و آله ورفضنا الأصنام والأوثان ، لثار الجميع علينا ، وهذا ما يحكيه عنهم قوله سبحانه : ( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ... ) ( القصص / 57 ) والآية تعطي أنّهم كانوا واقفين على أنّ دين النبي حق ولكن الذي منعهم عن اتباع الهدى مخافة أن تتخطّفهم العرب من أرضهم وليس لهم طاقة بهم (2).

فردّه الوحي بأنّ اللّه سبحانه جعل بهم مكّة دار أمن وأمان ودفع ضرّ الناس عنهم عندما كانوا مشركين فإذا آمنوا واعتنقوا دين اللّه يعمّهم الأمن والسلامة أيضاً لأنّهم في حالة الإيمان أقرب إلى اللّه سبحانه من حالة الكفر ، فالخالق الذي قطع أيدي الأشرار عن بلدهم قادر في كلتا الحالتين ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( ... أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ

ص: 189


1- تفسير الطبري الجزء 24 ص 72.
2- التخطّف : أخذ الشيء على وجه الإضطراب من كل وجه ، والمصطلح الدارج هو الإختطاف.

أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( القصص / 57 ).

كان على هؤلاء أن يعتبروا بأقوام متمرّدين الذين أعطوا المعيشة الواسعة ، فلم يعرفوا حق النعمة وكفروا فعمّهم الهلاك وهذه ديار عاد وثمود وقوم لوط صارت خالية عن أهلها وهي قريبة منهم ، فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف وهو موضع بين اليمن والشمال وديار ثمود بوادي القرى ، وديار لوط بسدوم وكانت قريش تمر بهذه المواضع في تجارتها ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ (1) مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص / 58 ).

هذا آخر ما كان عندهم من المبرّرات لعدم الإيمان بالدّعوة.

خرافة الغرانيق

كان اللازم علينا ضرب الصفح عن تناول هذه الخرافة التاريخية بالبحث لأَنّا قد اعتمدنا في سرد حوادث السيرة النبوية وفق ما ورد في القرآن الكريم ، فما جاء في خلال آياته نذكره وما لم يرد نتركه إلى كتب السيرة والتاريخ ، غير أنّ هذه القصة لمّا الصقت بساحة القرآن الكريم القدسيّة بالإستناد إلى بعض الآيات الموهمة لذلك كذباً وزوراً ، فصارت ذريعة في الآونه الأخيرة بيد أعداء الدين من المستشرقين ك « بروكلمان » في كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية ، ص 34 ، وكتاب « الإسلام » لفرويد هيوم ، لزم علينا التطرّق لتلك الخرافة وتحليلها تحليلاً علميّاً مؤيّداً بالبرهان الرصين والحجّة الدّامغة حتى لا يبقى لمشكك شكّ ولا لمريب ريب إلاّ من أخذته العصبية العمياء فأنّها داء لا علاج له ، خصوصاً ما نشاهده في المؤامرة الأخيرة التي حاكتها بريطانيا وغيرها من أذناب الكفر العالمي حيث زمّروا وطبّلوا لكتاب « الآيات الشيطانية » لمؤلّفه « سلمان رشدي » ومنحوا له جائزة أدبية في ذلك المجال ، والرجل

ص: 190


1- البطر : الطغيان عن النعمة.

هندي الأصل بريطاني الجنسيّة والدراسة وقد ترجم الكتاب بإيعاز من الدول المستعمرة إلى أكثر اللغات العالميّة مع أنّه ليس بكتاب أدبي ولا علمي ولا تاريخي ، بل أشبه بأضغاث أحلام نسجها الخيال وروّج لها الإستعمار ، وإليك القصّة على وجه الإجمال :

« جلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من اللّه شيء فينفروا عن ، فأنزل اللّه عليه : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) فقرأه رسول اللّه حتى إذا بلغ ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ) ألقى عليه الشيطان كلمتين :

« تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ لَشَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْجَى » فتكلّم بها ثمّ مضى فقرأ السورة كلّها فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه ، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود ، فرضوا بما تكلّم به ، وقالوا : قد عرفنا أنّ اللّه يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكنّ آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، إذ جعلت لها نصيباً ، فنحن معك. قالا ( محمد بن كعب القرظي ومحمد ابن قيس ) : فلمّا أمسى أتاه جبرئيل علیه السلام فعرض عليه السورة فلمّا بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه ، قال : ما جئتك بهاتين ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إفتريت على اللّه وقلت على اللّه ما لم يقل !! فأوحى اللّه عليه : ( كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ... ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) . فما زال مغموماً مهموماً حتّى نزلت عليه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / 52 ) ، قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة : إنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم ، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هم أحبّ إلينا ، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ اللّه ما يلقي الشيطان » (1).

ص: 191


1- تفسير الطبري الجزء 17 ، ص 131.

وتحقيق القوم في تلك القصّة يتوقّف على البحث عن سند الرواية التي أوردها الطبري في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور أوّلاً ، ودراسة متنها وعرضه على العقل والقرآن ثانياً لكي يتجلّى الحق بأجلى مظاهره.

تحليل سند الرواية
اشارة

إنّ هذه الروايات لا يمكن الإحتجاج بها لوجهين :

الأوّل : إنّ أسانيدها تنتهي إلى التابعين الذين لم يدركوا النبي صلی اللّه علیه و آله .

من أمثال :

1 - محمد بن كعب القرظي 2 - محمد بن قيس 3 - أبو العالية 4 - سعيد بن جبير 5 - الضحّاك 6 - ابن شهاب.

ولم يدرك واحد منهم النبي قطّ وهم قد ساقوا القصّة من دون أن يذكروا الواسطة بينهم وبينه ، وإليك نصوص علماء الرجال في حقّهم :

الف - محمد بن كعب القرظي

قال ابن حجر : قال العجلي : مدني تابعي ... ، وقال البخاري : إنّ أباه كان ممّن لم يَثْبُت يوم قريظة فترك ، وما نقل من قتيبة من أنّه ولد في عهد النبي لا حقيقة له. إنّما الذي ولد في عهده ، هو أبوه ، وقد ذكروا انّه كان من سبي قريظة ممّن لم يحتلم ولم ينبت فخلّوا سبيله ، حكي ذلك البخاري في ترجمة محمد ، ويدلّ على ذلك إنّه مات سنة 108 ه ق وقيل : 117 ه ق وهو ابن ثمان وسبعين سنة ، وجاء عن النبي صلی اللّه علیه و آله من طرق أنّه قال : يخرج من أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون بعده. قال ربيعة : فكنّا نقول : هو محمد بن كعب ، والكاهنان قريظة والنضير - إلى أن يقول - :

ص: 192

... فكان يقص في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف ، فمات هو وجماعة معه (1).

ب - محمد بن قيس

وهو محمد بن قيس المدني قاض عمر بن عبد العزيز ، روى عن أبي هريرة وجابر ، ويقال : مرسل ، توفّي أيام الوليد بن يزيد. روى عنه أبو معشر - قال ابن معين : ليس بشيء لا يروى عنه (2).

ج - ابن شهاب

وهو محمد بن مسلم الزهري - كان يدلّس في النادر - وهو أحد التابعين بالمدينة ، وقال ابن حجر محمد بن مسلم بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن شهاب ابن عبد اللّه بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري وكنيته أبو بكر وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين [ بعد المائة ] وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين (3).

د - أبو العالية

وهو رفيع بن مهران الرياحي أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي بسنتين ودخل على أبي بكر وصلّى خلف عمر ... حتى قيل : إنّه أدرك عليّاً ولم يسمع منه (4).

ص: 193


1- تهذيب التهذيب ج 9 ص 421.
2- تهذيب التهذيب ج 9 ص 414.
3- ميزان الإعتدال ج 4 ص 40 ، وتقريب التهذيب ج 2 ص 207 ، ووفيات الاعلام ج 4 برقم 563.
4- تهذيب التهذيب ج 3 ص 384.
ه - سعيد بن جبير

فهو سعيد بن جبير الكوفي روى عن ابن عباس وابن الزبير وغيره ، قتله الحجاج صبراً سنة 95 (1).

و - الضحّاك

وهو الضحّاك بن عثمان. قال أبو زرعة : ليس بقوي ، وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به. مات بالمدينة سنة ثلاث وخمسين (2).

هؤلاء الذين ينتهي إليهم السند كلّهم تابعون ، نعم رواه الطبري أيضاً عن ابن عباس فهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين - مات سنة ثمان وستين بالطائف وهو أحد المكثرين من الصحابة ، ولكنّه لم يكن حاضراً في زمن القصة بل لم يكن متولّداً فيه ( لأنّ تاريخها يرجع إلى السنة الخامسة من البعثة وهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ) فتكون روايته مقطوعة.

وعلى كل تقدير فكل ما رواه الطبري في هذا المجال مراسيل أو مقطوعات لا يمكن الإحتجاج بها.

الثاني : إنّ الأسانيد تشتمل على رجال ضعاف لا يمكن الإحتجاج بهم سوى طريق سعيد بن جبير وقد عرفت أنّه أيضاً مرسل.

هذا ما لدى الطبري في تفسيره وأمّا ما نقله السيوطي فلا يقصر عمّا نقله الطبري في الضعف والإرسال ، وقد رواه عن « أبي صالح » وأبي بكر بن عبد الرحمان ابن الحارث و « السدى » أيضاً.

ص: 194


1- تهذيب التهذيب ج 4 ص 11.
2- تهذيب التهذيب ج 4 ص 447.

أمّا الأوّل فهو مشترك بين 19 شخصاً لم يرو واحد منهم عن النبي فالجلّ لولا الكل تابعون (1).

وأمّا الثاني فهو أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث ولد في خلافة عمر (2).

وأمّا الثالث فهو محمد بن مروان تابعي. قال ابن معين : ليس بثقه ، قال ابن غير : ليس بشيء وكان كذّاباً (3).

نعم رواه أيضاً عن سعيد بن جبير وابن عباس وقد عرفت حالهما ، ورواه عن السدي وهو أيضاً تابعي.

مضافاً إلى إشتمال الإسناد على رجال ضعاف ، وأمّا ذكره السيوطي من أنّه أخرج الطبراني والبزاز وابن مردويه والضياء في المختار بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فهو غير صحيح لما عرفت من أنّ المرسل والمقطوع لا يوصفان بالصحة على الإطلاق ولو وصفا بالصحّة فالمراد هو الصحّة النسبية ، فلا يحتج بها.

إنّ علماء الإسلام وأهل العلم والدراية من المسلمين ، قد أشبعوا هذه الرواية نقضاً وردّاً وإبراماً فوصفها السيد مرتضى : بأنّها خرافة وضعوها (4).

وقال النسفي عند القول بها : غير مرضي. وقال الخازن في تفسيره : إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة ، ولا أسندها ثقة بسند صحيح ، أو سليم متّصل ، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب ، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم ، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها (5).

ص: 195


1- راجع تهذيب التهذيب ، ج 12 ص 130 - 131.
2- تهذيب التهذيب ج 12 ص 130 - 133.
3- تهذيب التهذيب ج 9 ص 436 برقم 719.
4- تنزيه الأنبياء ص 109.
5- الهدى إلى دين المصطفى ج 1 ص 130.

وقال القاضي عياض : إنّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحّة ولا رواه ثقة بسنده سليم متصل ، وإنّما أولع به المفسّرون ، والمؤرّخون ، المولعون بكل غريب ، والمتلقّفون من الصحف كل صحيح وسقيم ، وصدق القاضي بكر بن العلا المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير ، وتعلّق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته ، واضطراب رواياته ، وانقطاع أسناده واختلاف كلماته (1).

وقال أمين الإسلام الطبرسي : أمّا الأحاديث المروية في هذا الباب فهي مطعونة ومضعّفة عند أصحاب الحديث ، وقد تضمّنت ما ينزّه الرسل عنه ، فكيف يجوز ذلك على النبي وقد قال سبحانه : ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) وقال : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى ) .

وأقصى ما يمكن أن يقال : إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لما تلا سورة والنجم وبلغ إلى قوله : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ) علمت قريش من عادته أنّه كان يعيبها ، قال بعض الحاضرين من الكافرين : ( تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى ) فظنّ الجهال أن ذلك من قول النبي صلی اللّه علیه و آله (2).

وقال السيّد الطباطبائي : إنّ الأدلّة القطعية على عصمته تكذّب متنها ، وإن فرضت صحّة سندها ، فمن الواجب تنزيه ساحته المقدّسة عن مثل هذه الخطيئة ، مضافاً إلى أنّ الرواية تنسب إليه أشنع الجهل وأقبحه فقد تلا « تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى » وجهل أنّه ليس من كلام اللّه ، ولانزل به جبرئيل ، وجهل أنّه كفر صريح يوجب الإرتداد ، ودام على جهله ، حتى سجد وسجدوا في آخر السورة ، ولم يتنبّه ثمّ دام على جهله حتى نزل عليه جبرئيل ، وأمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه وأعاد الجملتين وهو مصرّ على جهله ، حتى أنكره عليه جبرئيل ، ثمّ أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع والخطيئة الفاضحة لجميع الأنبياء

ص: 196


1- الشفاء ج 2 ص 126.
2- الطبرسي مجمع البيان ج 4 ص 61 و 62.

والمرسلين وهي قوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) .

لو جاز مثل هذا التصرّف من الشيطان في لسانه بالقائه جملة أو جملتين ، في ثنايا الوحي ، لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي ، فكان من الجائز حينئذ أن تكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان فيلقي نفس هذه الآية ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) فيضعه في لسان النبي وذكره ، فيحسبها من كلام اللّه الذي نزل به جبرئيل كما حسب حديث الغرانيق كذلك - إلى أن قال - وبذلك يرتفع الإعتماد والوثوق بكتاب اللّه من كل جهة ، وتلغى الرسالة والدعوة النبويّة بالكليّة جلّت ساحة الحق من ذلك (1).

هذا كلّه راجع إلى اسناد الرواية وكلمات العلماء بشأنه ، وأمّا ما يرجع إلى متنها فنشير إلى أمرين كل واحد كاف لإبطال الرواية :

تحليل متن الرواية

1 - إنّ هذه الروايات أجمعت على أنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله قرأ سورة والنجم فلمّا بلغ إلى قوله ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ) وسوس إليه الشيطان بهاتين الجملتين ثمّ مضى في التلاوة حتى إذا بلغ آية السجدة في آخر السورة ، سجد وسجد معه المشكرون.

فنقول : إنّ الذين كانوا في المسجد كانوا على قدر من الوعي والدراية فكيف يعقل منهم أنّهم سمعوا هاتين الجملتين ، اللتين تتضمّنان مدح أصنامهم وأوثانهم ، وغاب عن سمعهم ما يتضمّن التنديد والازراء بشأن آلهتهم ، فإنّه قد جاء بعد هاتين الجملتين المدّعيتين قوله سبحانه : ( إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن

ص: 197


1- الطباطبائي : الميزان ج 14 ص 435 و 436.

رَّبِّهِمُ الهُدَى ) ( النجم / 23 ).

فهل يتعقّل أن ينسب إلى أوتاد الفصاحة والبلاغة أنّهم أقنعوا بهاتين الجملتين ، وفاتهم ما تضمّنته الآيات الكثيرة التي أعقبتها.

فهذه حجة بالغة على أنّ واضع القصة كان غافلاً عن تلك الآيات التي ترد على هاتين الجملتين بصلابة.

2 - إنّ وجود التناقض في طيّات الرواية من جهات شتّى دليل واضح على كونها مختلقة حاكتها أيدي القصّاصين.

وأمّا بيان ذلك التناقض فمن وجوه :

أ - تروي الروايات أنّ النبي والمسلمين والمشركين سجدوا إلاّ الوليد ابن المغيرة فإنّه لم يتمكّن من السجود لشيخوخته ، وقيل : مكانه سعيد بن العاص ، وقيل : كلاهما ، وقيل : اُميّة بن خلف ، وقيل : أبو لهب ، وقيل : المطّلب.

ب - تضمّن بعضها أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قرأها وهو قائم يصلّي ، وتضمّن البعض الآخر أنّه قرأها بينما هو جالس في نادي قومه.

ج - يقول بعضها : حدّث بها نفسه ، وآخر : جرت على لسانه.

د - يقول بعضها : انّ النبي صلی اللّه علیه و آله تنبّه لها حين تلاوتها ، والآخر : انّه لم يتنبّه إلى المساء حتى جاء إليه جبرئيل فعرضها عليه ثمّ تبيّن له الخطأ ، إلى غير ذلك من وجوه التناقض التي يقف عليها المتتبع عند التأمّل وامعان النظر في متون الروايات المختلفة التي جمعها ابن جرير والسيوطي في تفسيرهما.

فحصيلة الكلام : إنّ الرواية بشتّى طرقها وصورها لا تصحّ الإحتجاج بها لكون إسنادها مراسيل ومقاطيع من جانب ، وكونها متضاربة المضمون من جانب آخر ، والذي يسقط الرواية عن الحجّية أنّها تنتهي إلى قصّاصين نظير محمد بن كعب

ص: 198

القرظي ومحمد بن قيس ، وهما مولعان بذكر كل صحيح وسقيم في أنديتهم ومجالسهم ، لأنّ لكل غريب لذّة ، ليس في غيره ، خصوصاً أنّ محمد بن كعب ابن بيت يهودي أباد النبي قبيلته ، ولم يبق منه إلاّ نفراً قليلاً ، فمن المحتمل جداً أنّه حاكها على نول الوضع لينتقم من النبي الأكرم وليشوِّه عصمته ، والآفة كل الآفة من هؤلاء المستسلمين مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه.

ثمّ إنّ الآية التي زعمت الرواية أنّها نزلت في تلك الواقعة أعني قوله سبحانه :

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / 52 ). وقد فرغنا من تفسيره في هذه الموسوعة عند البحث عن عصمة الأنبياء فلا نعيد (1).

ص: 199


1- مفاهيم القرآن ج 4 ص 348 - 450.

ص: 200

(7) إسراءه ومعراجه

اشارة

إنّ الأنبياء والرسل هم أوّل من سبروا أعماق الفضاء بأكنافه وآفاقه ، ولو صحّ لنا تسميتهم : « روّاد الفضاء » فهم أولى بإطلاق ذلك الإسم عليهم دون غيرهم ، فقد عرجوا قبل أن يكون هناك أثر لوجود روّاد الفضاء في روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية ، بل لم تكن هناك أية فكرة لتسخير الفضاء أو التجاسر على التفكير به ، وأخطاره في الأذهان ، فقد كانت العلوم الرائجة في تلك العصور تستحيله وتجعله في مصافّ المحالات ، لأنّهم كانوا على القول بإمتناع الخرق والإلتئام في طبقات السماء فهم علیهم السلام أوّل من كسروا حاجز هذه الخرافة وأثبتوا بتطبيقهم العملي عن طريق العروج والاسراء إنّه ليست هناك حجب تخرق ، أو تلتئم بعد الخرق ، بل السماء فضاء رحب ، والكواكب إنّما هي عبارة عن أجرام معلّقة في أرجائه ، تحكمها قوانين الطرد والجذب المركزية ، وإنّ الإنسان بفضل معونة القدرة الغيبية ، يستطيع الافلات من قوّة الجاذبية الأرضية ، كما أنّه يقدر على اختراق الغلاف الكثيف المحيط بالأرض كل ذلك بفضل المواهب السنيّة التي يجلّل بها الخالق جلّ جلاله عبده.

إنّ الاُمنية البعيدة غوراً في تاريخ الفكر الإنساني ، والتي أصبحت في متناول إنسان العصر الحديث بفضل إزدهار ورقي حضارته المادّية ، وتسخير قوى الطبيعة لصالحه ، تحقّقت بالأنبياء واُمناء الغيب بفضل ما حباهم الباري عزّ شأنه به من الوسائل الغيبية للصعود والإرتقاء في أعماق الفضاء الواسع.

وبذلك يفترق عمل الأنبياء في ذلك المجال عن عمل روّاد الفضاء وإن كان الكل مثيراً للإعجاب لأنّهم كانوا يعتمدون على أسباب غيبية لا تخضع للموازين

ص: 201

البشرية ، وهذا بخلاف عمل روّاد الفضاء فإنّهم يستمدّون في تحقيق اُمنيتهم ، بتوسّط الأسباب والعلل الطبيعية والأجهزة الصناعيّة التي عكف على صنعها وإعدادها مئات بل اُلوف من المفكّرين والعباقرة في مختلف العلوم البشرية وبإنفاق المليارات من العملة الصعبة.

هذا هو الذكر الحكيم يصوّر لنا كيفيّة إرتقاء النبي سليمان علیه السلام إلى السماء وسياحته في جوّ الأرض وذلك بتسخير الريح العاصفة له تسير به طواعية تحت أمره حيثما شاء في قوله : ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) ( الأنبياء / 81 ).

فهذه الآية تعرب عن أنّ الريح العاصفة تسير به إلى الأرض التي باركها سبحانه وهي أرض الأنبياء المشار إليها في آية اُخرى : ( إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) ( الأسراء / 1 ).

ومثلها قوله سبحانه : ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) ( ص / 36 ).

والرخاء هو اللين ، ولعلّ المراد بأنّ الريح العاصفة التي من طبيعتها الجموح والإهلاك كانت مطيعة لسليمان تجري بأمره طواعية ذلولاً كما أنّ قوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) أي بمعنى حيث شاء سليمان وقصد ، سواء كان المقصد البقاع المباركة أو غيرها.

كما أنّ هناك آية اُخرى تحدّد لنا مقاطع حركتها الزمنية وكيف انّها كانت في يوم واحد تقوم بقطع مسافة كانت تقطعها وسائل النقل في تلك العصور مدّة شهرين في قوله :

( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ) ( سبأ / 12 ).

فلو افترضنا أنّ وسائل النقل تقطع في كلّ يوم أربعاً وأربعين كيلومتراً على وفق ما هو المتعارف عليه يومذاك ، يكون مجموع مقدار المسافة اليوميّة في امتداد شهر (1320) كيلومتراً ، فإذا كان غدوّها شهراً ورواحها شهراً يكون مجموع المسافة التي كان يقطعها سليمان في يوم واحد تبلغ (2640) كيلومتراً.

ص: 202

والحقّ إنّها كانت كرامة عظيمة كرّمه اللّه سبحانه بها ، وليس سليمان وحيداً في الاختصاص بتلك المكرمة بل تلاه المسيح عيسى بن مريم عند ما اجتمع أجلاف اليهود وجلاوزتهم على قتله حيث رفعه إليه ونجّاه من كيدهم. يقول سبحانه :

( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) ( النساء / 157 و 158 ).

فالآية تتضمّن دعويين :

الاُولى : ما يقوله اليهود وهو قتل المسيح وصلبه.

الثاني : ما يصرّح به القرآن وهو نفي قتله وعدم صلبه بل رفعه.

وبما أنّ متعلّق القتل والصلب هو الوجود الخارجي أي جسم المسيح وروحه فيكون ذلك متعلّق الرفع أيضاً ، فهو رفع بجسمه وروحه ، وبعبارة أكثر وضوحاً إنّه رفع حيّاً لا أنّه قد اُميت ثمّ رفع على ما هو المصرّح به في الأناجيل المحرّفة من موت المسيح ثمّ رفعه بعد اسبوع من صلبه أو أيام قلائل ، فما ربّما يظهر من جنوح بعض المتأخّرين من المفسّرين إلى هذا التفسير ، فهو تفسير بمحض الرأي ومخالف لظاهر الآية فإنّ الاضراب الوارد في قوله تعالى ( بَل رَّفَعَهُ اللّهُ ) لا يكون إضراباً عن قول اليهود إلاّ برفعه حيّاً لا برفعه ميّتاً ، فإنّ هذا الرفع كان لغاية تخليص المسيح من سطوة اليهود سواء مات بعد ذلك أم بقي حيّاً بإبقاء اللّه تعالى له ، وعلى كل تقدير فلا يكون قوله ( بَل رَّفَعَهُ اللّهُ ) إبطالاً لقول اليهود إلاّ إذا رفع حيّاً.

وأمّا قوله سبحانه : ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ( آل عمران / 55 ) ، فليس التوفّي هناك بمعنى الإماتة والإزهاق بل ليس للتوفّي إلاّ معنى واحد وهو القبض والأخذ ، يقال : توفّيت المال منه واستوفيته : إذا أخذته كلّه ، ويقال توفّيت عدد القوم : إذا عددتهم كلّهم ، كما يقال : توفّي فلان

ص: 203

وتوفّاه اللّه إذا قبض (1). وعلى ذلك فليس للتوفّي إلاّ معنى الأخذ وله مصاديق مختلفة ، فالإماتة من مصاديقه كما أنّ النوم بما أنّه نوع أخذ للإنسان مصداق آخر له قال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ) ( الأنعام / 60 ) وعلى ضوء ذلك فمعنى ( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ ) : قابضك من الأرض حيّاً إلى جواري ورافعك من بين أعدائك ، فالآيات متضافرة المضمون على أنّه رفع من الأرض حيّاً إليه سبحانه.

ورفعه من الأرض حيّاً يلازم رفعه إلى السماء ، وبذلك تقف على تفسير قوله سبحانه حيث يحكي عن المسيح قوله : ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / 117 ).

معراج النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله

إنّ الوقوف على إسراء النبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعروجه منه إلى سدرة المنتهى من معاجزه وكراماته التي أثبتهما القرآن الكريم في سورتي الإسراء والنجم ، وتفصيل ما ظهر له فيهما من الآيات يتوقّف على نقل شأنهما في الذكر الحكيم. أمّا الإسراء فقال فيه :

( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) ( الإسراء / 1 ).

1 - إبتدأ سبحانه كلامه بالتسبيح وقال : ( سُبْحَانَ ) (2) وهي كلمة تنزيه لله عزّ

ص: 204


1- لسان العرب : ج 15 ص 400 مادّة « وفى ».
2- سبحان علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر لا يظهر تقديره يسبّح اللّه سبحان ، ثمّ نزل سبحان منزلة الفعل وسدّ مسدّه ودلّ على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداؤه.

اسمه عمّا لا يليق به من الصفات ، وقد يراد به التعجيب ، ولكن الظاهر هو الأوّل.

ولعلّ الوجه في إبتدائها بالتنزيه هو التصريح بتنزيهه سبحانه عن العجز لما سيذكر بعده من الإسراء بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في فترة زمنية قصيرة ، ويمكن أن يكون الوجه إرادة تنزيهه سبحانه عن التجسيم والجهة والرؤية وكل ما لا يليق بعزّ جلاله وصفات كماله ، حتّى لا يتوهّم متوهّم أنّ المقصود من المعراج هو رؤية اللّه تبارك وتعالى في ملكوت عرشه وجبروت سلطانه ، والأوّل أقرب.

2 - الإسراء لغة هو السير في الليل. يقال : سرى بالليل وأسرى بمعنىً ، وأمّا الإتيان بلفظة « ليلاً » مع الإستغناء عنه فيأتي وجهه.

3 - قوله « بعبده » يدل على أنّ الإسراء كان بمجموع الروح والجسد يقظة لا مناماً ولم يطلق العبد في القرآن إلاّ على المجموع منهما. قال سبحانه : ( الحُرُّ بِالحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ) ( البقرة / 178 ) ، وقال سبحانه : ( وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ ) ( البقرة / 221 ).

إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها لفظ العبد والتي تناهز 28 آية ، ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه ابتدأ السورة بالتنزيه فقال : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ... ) خصوصاً إذا قلنا بأنّه للتعجّب فإنّه يكون في الاُمور العظام الخارقة للعادة ، ولو كان الإسراء بمجرّد الروح ، مناماً لم يكن فيه كبير شأن ولم يكن مستعظماً ، وما ورد في المقام من الروايات المنتهية إلى أمثال معاوية ابن أبي سفيان بأنّه قال : كان رؤيا من اللّه صادقة ، مرفوض فإنّ معاوية يومئذٍ كان من المشركين لا يقبل خبره في مثل هذا ، ومثله ما روي عن عائشة زوجة النبي بأنّه قال : ما فقد جسد رسول اللّه ولكن اُسري بروحه ، فإنّ عائشة يومئذٍ كانت صغيرة ولم تكن زوجة رسول اللّه ، بل لم تولد بعد على إحتمال ، وهناك كلام لأبي جعفر الطبري في تفسيره نقتطف منه ما يلي :

« الصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إنّ اللّه أسرى بعبده محمد ( صلّى

ص: 205

اللّه عليه وآله وسلّم ) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر اللّه عباده وكما تضافرت به الأخبار عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ اللّه حمله على البراق حتى أتى به فصلّى هناك بمن صلّى من الأنبياء والرسل فأراه ما أراه من الآيات ، ولا معنى لقول من قال : اُسري بروحه دون جسده ، لأنّ هذا الإسراء لا يشكّل دليلاً على نبوّته ولا حجّة له على رسالته ، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك. إذ لم يكن منكراً عندهم ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة ، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل ؟ وبعد ، فإنّ اللّه إنّما أخبر في كتابه أنّه أسرى بعبده ولم يخبرنا أنّه أسرى بروح عبده ، فليس جائزاً لأحد أن يتعدّى ما قال اللّه إلى غيره - [ مضافاً ] إلى أنّ الأدلّة الواضحة والأخبار المتداولة عن رسول اللّه اُسري به على دابة يقال لها البراق ، فلو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق ، إذ كانت الدواب لا تحمل إلاّ الأجساد (1).

4 - ( لَيْلاً ) وهو يدل على أنّ الإسراء في بعض الليل كما يفيده التنكير فلا يستفاد ذلك من لفظ الإسراء ، فإنّه يدل على صرف كونه في الليل.

قال الزمخشري : إنّ تنكير « ليلاً » للدلالة على أنّه اُسرى به بعض الليل من مكّة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك إنّ التنكير قد دلّ على معنى البعضيّة ويشهد لذلك قراءة عبد اللّه بن حذيفة : « من الليل » أي بعض الليل ، كقوله : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ) ( أي من بعضه ) (2). ثمّ إنّ الحركة بهذه السرعة ممكنة في نفسها ، فقد جاء في القرآن أنّ الرياح كانت تسير بسليمان إلى المواقع البعيدة ، في الأوقات الزمنية القليلة كما مرّ.

وحكى سبحانه عن الذي كان عنده علم من الكتاب أنّه أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر ، حيث قال : ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ

ص: 206


1- تفسير الطبري : ج 15 ص 130.
2- الكشّاف : ج 2 ص 223 ( طبع مصر ).

هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) ( النمل / 40 ).

فإذا أجاز هذا لدى طائفة من الناس ، ممّن سبقه ، صحّ وقوعه منه (1).

وها نحن في كل يوم نشاهد من صنوف المخترعات في ميادين النقل والمواصلات ما يتمكّن بواسطتها من قطع المسافات الشاسعة كالطائرات التي تجتاز المحيطات في ساعات قلائل وينتقل من قارة إلى قارة ومن قطر إلى قطر بيسر وسهولة ، وهذا ليدفعنا إلى الإعتقاد الجازم بشهادة العيان بأنّ ما جاء في هذه الرحلة الخارقة لقوانين الطبيعة ليس أمراً عزيز الحصول أو مستحيلاً ، فإذا كان هذا بوسع الإنسان بحسب طاقاته المحدودة وهو الذي خلق ضعيفاً ، فاللّه سبحانه أقدر عليه وعلى غيره من كل أحد ( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) .

5 - ( مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى ) وهذه الجملة تعرب عن تحديد بدء السير ومنتهاه ، وأنّه ابتدأ من المسجد الحرام وانتهى إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس بقرينة قوله : ( الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) والقصى العبد ، وسمّي المسجد الأقصى به لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان النبي ومن معه من المخاطبين وهو مكّة التي فيها « المسجد الحرام ».

وذهب أكثر المفسّرين إلى أنّه اُسري به من دار اُم هاني اُخت علي بن أبي طالب وزوجها هبيرة بن أبي لهب المخزومي ، وكان صلی اللّه علیه و آله نائماً تلك الليلة في بيتها ، وأنّ المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة ، والحرم كلّها مسجد (2).

وقال بعضهم : إنّما اُسري به من شعب أبي طالب.

والوجه الأوّل هو الأوفق بظاهر الكتاب ومع ذلك يمكن تصحيح الوجهين الأخيرين بوجهين :

ص: 207


1- تفسير المراغي : ج 15 ، ص 6 ، بتصرّف يسير.
2- مجمع البيان : ج 6 ص 399.

الأوّل : إنّه لو كان في المكان الوسيع شيء معروف ومتبرّك يطلق اسمه على جميع المكان ، نظير ذلك مسجد الشجرة حيث يطلق ويراد منه ذو الحليفة ، ومشهد الإمام عليّ علیه السلام يطلق ويراد منه النجف برمّتها ، إلى غير ذلك ، ومن الممكن أن يكون المراد من المسجد الحرام ، الحرم كلّه بالملاك المذكور فيشمل مكّة والبيت الذي اُسري منه النبي أو الشعب الذي كان النبي لاجئاً إليه يومذاك.

الثاني : أن يكون الإسراء قد حدث مرّتين أحدهما من المسجد الحرام والآخر من بيت أم هاني أو من الشعب ، ويؤيّد ذلك ما رواه الكليني أنّه سأل أبو بصير أبا عبد اللّه علیه السلام فقال : جعلت فداك وكم عرج برسول اللّه ؟ فقال : مرّتين (1).

6 - ( الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) أي جعلنا البركة فيما حوله من الأشجار والثمار والنبات والأمن والخصب حتّى لا يحتاجون إلى أن يجلب إليهم من موضع آخر. أضف إلى ذلك انّه سبحانه جعله مقر الأنبياء ومهبط الملائكة ، فقد اجتمعت فيه بركات وخيرات الدين والدنيا.

7 - ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) والجملة متكفّلة ببيان الهدف من الإسراء وهو إراءة عجائب الآيات وغرائب الصنع ، ومنها إسراءه في ليلة واحدة من مكّة إلى المسجد الأقصى ، وهي فترة قياسية خارقة للعادة.

فلو كان المسجد الأقصى منتهى سيره في ذلك الإسراء ، فيكون المراد من الآيات التي أراه اللّه سبحانه إيّاها مجرّد ما رأته عيناه في طريقة إلى المسجد الأقصى وما فيه من مقامات الأنبياء وقبورهم وآثارهم.

وأمّا إذا كان العروج إلى السماء متّصلاً بذلك الإسراء فيتّسع نطاق الآيات ، وفي السياق دلالة على عظمة هذه الآيات التي كشف له عنها اللّه سبحانه ، وحيث أراه بعضها لا كلّها ، وفيه تصريح بأنّ الهدف هو إراءة الآيات الكونية الباهرة ليرجع

ص: 208


1- نور الثقلين : ج 3 ص 98.

النبي من إسرائه بصدر منشرح وقلب متفتّح قد انعكست فيه آيات العظمة وسبحات الجلال والجمال ، وأمّا ما يتخيّل من أنّ الهدف رؤية اللّه سبحانه فهو ممّا حاكته يد الدسّ ونسجته أغراض التزوير.

وفي الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت تنديد بهذا الفكر النابي. روى الصدوق في علل الشرائع : عن ثابت بن دينار ، قال سألت زين العابدين - علي بن الحسين - علیه السلام عن اللّه جلّ جلاله هل يوصف بمكان ؟ فقال : تعالى عن ذلك ، قلنا : فلم أسرى نبيّه إلى السماء ؟ قال : ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.

وفي حديث آخر عن يونس بن عبد الرحمان ، قال : قلت لأبي الحسن موسى ابن جعفر علیهماالسلام : لأيّ علّة عرج اللّه - عزّ وجلّ - نبيّه إلى السماء ومنها إلى سدرة المنتهى ، ومنها إلى حجب النور ، وخاطبه وناجاه هناك ، واللّه لا يوصف بمكان ؟ فقال علیه السلام : إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان ، ولكنّه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف ملائكته وسكّان سماواته ويكرمهم بمشاهدته ويريه من عجائب عظمته ويخبر به بعد هبوطه ، وليس ذلك على ما يقوله المشبّهون. سبحان اللّه وتعالى عمّا يشركون.

8 - ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) وهذا تعليل لإراءة آياته ، ومعناه أنّه سميع لأقوال عباده ، بصير بأفعالهم ، يسمع أقوال من صدّقه أو كذّبه ويبصر أفعالهم.

عروجه إلى السماء

هذا كلّه حول إسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وقد جاء في القرآن في سورة واحدة وهي سورة الإسراء ، وأمّا عروجه إلى السماء فقد تكفّلت ببيانه سورة النجم ، وإليك نصّ ما ورد بشأن ذلك فيها :

ص: 209

قال سبحانه : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى )

( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) ( النجم / 1 - 18 ).

والطائفة الاُولى من الآيات راجعة إلى بدء الدعوة ولا تمتّ إلى حديث المعراج بصلة ، وأمّا الطائفة الثانية فهي مصرّحة بمعراجه صلی اللّه علیه و آله .

ولأجل الوقوف على ما تهدف إليه الآيات يحتّم علينا أن نفسّرها واحدة بعد الاُخرى ، فنقول :

1 - ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) . وهو حلف من اللّه بمخلوقه ، والمراد من الهوى سقوطه للغروب.

2 - ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) أي لم يخرج عن الصراط المستقيم ، والمراد من الصاحب هو النبي ، كما أنّ المراد من الغيّ هو الإعتقاد الفاسد ، أي ما خرج النبي عن الطريق الموصل إلى الغاية المطلوبة ولم يخطئ في إعتقاده ورأيه.

3 - ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى ) المراد بالهوى هوى النفس ورأيها ، ومقتضى ورود النفي على النطق هو نفي الهوى في مطلق نطقه ، إلاّ أنّ ذيله قرينة على أنّ المراد نفي سلطة الهوى في ما يدعوهم إلى اللّه.

4 - ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) أي لا ينطق فيما يدعوكم إلى اللّه عن هوى نفسه ورأيه وليس ذلك إِلاَّ وحياً يوحى إليه من اللّه تعالى.

5 - ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) المراد من شديد القوى هو جبرئيل بقرينة قوله

ص: 210

سبحانه : ( ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) ( التكوير / 20 ) وبذلك يضعف إحتمال كون المراد هو اللّه سبحانه ، والضمير في « علّمه » يرجع إلى الصاحب ، المراد منه النبي صلی اللّه علیه و آله واحتمال رجوعه إلى الوحي أو القرآن ضعيف لإستلزامه تقدير مفعول له مثل قولنا : « علّمه إيّاه » وهو خلاف الظاهر.

6 - ( ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ) المرّة - بكسر الميم - الشدّة وحصافة العقل والرأي ، أي ذو حصافة في عقله ورأيه أو ذو شدّة في جنب اللّه ، واحتمال كون المراد منه هو النبي يستلزم جعله صفة ل « صاحبكم » وهو بعيد ، بل هو صفة لشديد القوى الذي جاء بعده ، وهو أيضاً دليل على أنّ المراد من شديد القوى هو جبرئيل. كما أنّ المراد من قوله « فاستوى » إستقام على صورته الأصليّة التي خلق عليها ، لأنّ جبرئيل كان ينزل على النبي صلی اللّه علیه و آله في صور مختلفة ، ولكنه في بدء الدعوة ظهر له في صورته الأصليّة.

7 - ( وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ) والضمير يرجع إلى شديد القوى ، والمراد منه جبرئيل ، كما أنّ المراد بالاُفُق الأعلى ناحية المشرق من السماء ، لأنّ المشرق مطلّ على المغرب ويحتمل أن يكون المراد اُفق أعلى من السماء من غير اعتبار كونه شرقياً ، والجملة ، هي جملة حالية من ضمير فاستوى.

8 - ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) والضميران راجعان إلى جبرئيل ، والمراد من « الدنوّ » القرب كما أنّ المراد من التدلّي هو الإعتماد على جهة السفل مأخوذ من الدلو ، والمراد قرب جبرئيل متدلّياً من الاُفق الأعلى.

9 - ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) ألقاب مقدار الشيء ، والقوس معروف وهي آلة الرمي ، والمعنى قرب جبرئيل على حدّ لم يبق بينه وبين النبي إلاّ قدر قوسين أو أقلّ.

10 - ( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) والضمير في كلا الفعلين يرجع إلى جبرئيل على نسق رجوع سائر الضمائر إليه. نعم الضمير في « عبده » يرجع إلى اللّه

ص: 211

سبحانه ، والمعنى فأوحى جبرئيل إلى عبد اللّه ما أوحى.

وربّما يحتمل رجوع الضمائر الثلاث إلى اللّه سبحانه ، والمراد فأوحى اللّه بتوسّط جبرئيل إلى عبده ، وهو وإن كان صحيحاً ولكنه على خلاف السياق.

11 - ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) والكذب كما يتّصف به الكلام كذلك يطلق على خطأ القوّة المدركة ، يقال : كذّبته عينه أي أخطأت في رؤيتها ، ونفي الكذب عن الفؤاد كناية عن تنزيهه عن الخطأ ، والمراد من الفؤاد فؤاد النبي ، وضمير الفاعل في « ما رأى » راجع إلى الفؤاد ، والرؤية رؤيته ، ولا إشكال في إسناد الرؤية إلى الفؤاد لأنّه يطلق على شهود النفس رؤيتها.

12 - ( أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ) وهو توبيخ لهم على مماراتهم إيّاه ، حيث إنّه صلی اللّه علیه و آله كان يدّعي رؤية جبرئيل وهم يجادلونه في ما رآه وشاهده ، ولا مجال للمجادلة فيما شوهد بالحسّ والعيان.

إلى هنا تمّت الطائفة الاُولى من الآيات والكلّ يهدف إلى إستعراض قصّة بدء الدعوة أنّ جبرئيل الذي هو شديد القوى كان قد علّمه القرآن ورآه النبي وهو بالاُفق الأعلى ، وقد قرب من النبي متدلّياً إليه فلم يبق بينه وبين النبي إلاّ مسافة قوسين أو أدنى ، وليس هناك بحث عن رؤية النبي لله سبحانه كما لا صلة لهذه الآيات بحديث المعراج وعروجه إلى السماء.

وبالإمعان فيما ذكرنا تظهر اُمور :

أ - إنّ الضمائر من قوله ( عَلَّمَهُ ) إلى قوله : ( إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) كلّها يرجع إلى شديد القوى والمراد منه جبرائيل إلاّ الضمير في ( إِلَى عَبْدِهِ ) فإنّه يرجع إلى اللّه.

وعلى إحتمال ، يرجع الضميران في الفعلين ( فَأَوْحَى ... مَا أَوْحَى ) إلى اللّه سبحانه ، وبعد ذلك لا معنى للإستدلال بهذه الآيات على أنّ النبي رأى ربّه ، والإشتباه إنّما حصل من إرجاع الضمائر الثلاثة من قوله : ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) إلى النبي

ص: 212

الأكرم وأنّ المرادنا منه سبحانه وهو ممّا لا يساعد عليه سياق الآيات.

ب - إنّ الكاتب الإنگليزي « جان. ديون. بورت » فسّر قوله ( دَنَا فَتَدَلَّى ) بأنّ النبي استجاز ربّه للحضور عنده ، فقرب منه إلى حدّ لم يبق بينه وبين ربّه إلاّ قاب قوسين ، وهو غلط كما أوضحناه. أضف إلى ذلك : إنّ هذا القسم من الآيات لا يمتّ إلى حديث المعراج بصلة ، وإنّما هو بصدد بيان حادثة بدء الدعوة ولم يكن هناك يومئذ معراج من النبيّ حتى يستأذن للحضور عند ربّه ، ومنشأ الإشتباه مضافاً إلى ذلك هو إرجاع الضميرين في دنا فتدلّى إلى النبي صلی اللّه علیه و آله .

ج - إنّ بعض المستشرقين يذكر في تفسير الآيات : إنّ النبي قرب من اللّه سبحانه حتى سمع صرير قلمه ووقف على أنّه سبحانه مهتمّ بصيانة حساب عباده ، سمع صرير قلمه ولم ير شخصه ، كل ذلك خلط وخبط ، يفعلون ذلك على الرغم من أنّهم غير متضلّعين في اللغة العربيّة وأساليبها وقواعدها وأسرارها وفي القرآن الكريم وإشاراته ونكاته ، ثمّ يكتبون عن النبي والإسلام والقرآن كل شيء دعتهم إليه أغراضهم ولا علم لهم بشيء منها إلاّ ما لا يلتفت إليه.

إذا وقفت على مفاد الطائفة الاُولى من الآيات نعرج بك على تفسير الطائفة الثانية التي وردت في معراج النبي صلی اللّه علیه و آله وإنّما جاءت بعد الطائفة الاُولى لصلة تامّة بينهما وهو التركيز على أنّ النبي رأى جبرئيل على صورته الواقعيّة في كلتا المرحلتين ، اُولاهما بدء الدعوة حيث رآه بالاُفق الأعلى ، وثانيهما عند المعراج إذ رآه عند سدرة المنتهى التي عندها جنّة المأوى ، ويؤكّد على أنّ الرؤية كانت رؤية صادقة غير خاطئة ، فيركّز على صدق الرؤية في ضمن الطائفة الاُولى بقوله : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) وفي ضمن الطائفة الثانية بقوله : ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) وأنّ الرؤية رؤية واقعيّة غير مشوبة بالزيغ والخطأ ، ثمّ قال سبحانه :

13 - ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) النزلة بناء مرة من النزول فمعناه نزول واحد ، فتدلّ الآية على أنّ هذه قصّة رؤية في نزول آخر ، والآيات السابقة تحكي نزولاً آخر ، ولأجل

ص: 213

ذلك قلنا إنّ الطائفتين تهدف كل منهما إلى قصّة خاصة ، وضمير الفاعل يرجع إلى النبي ، وضمير المفعول لجبرئيل والنزلة نزول جبرئيل إليه ليعرج به إلى السموات.

14 - ( عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى ) وهو ظرف للرؤية ، لا للنزلة والمراد برؤيته رؤيته وهو في صورته الأصليّة ، والمعنى أنّه نزل عليه نزلة اُخرى ، وعرج به إلى السماوات ، ورآه النبي عند سدرة المنتهى وهو في صورته الأصليّة ، والسدر شجر معروف والتاء للوحدة ، والمتنهى كأنّه إسم مكان ، ولعلّ المراد به منتهى السماوات بدليل أنّ جنّة المأوى عنده والجنّة في السماء ، فينتج إنّ سدرة المنتهى في السماء ، وأمّا كون الجنّة في السماء فبدليل قوله : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) ( الذاريات / 22 ) وأمّا ما هو المراد من تلك الشجرة فليس في كلامه سبحانه ما يفسّره ، ويؤيّده قوله : ( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) وسيوافيك تفسيره.

15 - ( عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى ) والمراد هي جنّة الآخرة التي يأوى إليها المؤمنون. قال تعالى : ( فَلَهُمْ جَنَّاتُ المَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( السجدة / 19 ). وهي أيضاً في السماء على ما دلّ عليه قوله : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) .

16 - ( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) غشيان الشيء الإحاطة به ، وما موصولة والمعنى إذ يحيط بالسدرة ما يحيط بها ، وقد أبهم اللّه تعالى حقيقة تلك الشجرة كما أبهم ما يغشاها.

17 - ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) زيغ البصر إدراكه المبصر على غير ما هو عليه ، وطغيانه إدراكه ما لاحقيقة له ، والمراد بالبصر بصر النبي ، والمعنى أنّه لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقة ، ولا أبصر ما لاحقيقة له بل أبصر إبصاراً لا يشوبه الخطأ.

وقال العلاّمة الطباطبائي : إنّ المراد بالإبصار رؤيته بقلبه لا بجارحة العين ، فإنّ المراد بهذا الإبصار ما يعنيه بقوله : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) المشير إلى مماثلة هذه

ص: 214

الرؤية لرؤية النزلة الاُولى التي يقول فيها : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ) (1) غير أنّه لا منافاة بين أن يراه بعينه ويراه بقلبه ، فإنّ الرؤية بالجارحة وسيلة والرؤية الحقيقية بالقلب.

18 - ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) فهو رأى بعض آيات ربّه الكبرى ، ورؤية الآيات نوع رؤية لذيها ولا يمكن رؤية ذي الآية أعني ذاته المقدسة بلا توسيط آية. قال سبحانه : ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) إلى غير ذلك من الآيات المنكرة لإمكان وقوع الرؤية على ذاته عزّ وجلّ ، والإمعان في مجموع الآيات الواردة حول إسرائه وعروجه ينتهي بنا إلى عدّة اُمور :

1 - إنّه قد اُسري بالنبي ليلاً على جهة القطع ، ولكن هل كان عروجه في الليل أيضاً ؟ ليس في الآيات شيء يدل على ذلك ، فلو كان عروجه إلى السماوات متّصلاً بإسرائه فيتّحد معه زماناً.

2 - إنّ النبي اُسري وعرج بروحه وجسده ولم يكن ذلك رؤياً.

3 - بدأ الإسراء من المسجد الحرام أو مكّة المكرمة على ما مرّ ذكره ، وأمّا مبدأ المعراج فلو كان متّصلاً بالإسراء فيكون مبدؤه من المسجد الأقصى.

4 - منتهى الإسراء هو المسجد الأقصى ، وأمّا منتهى المعراج فهو منتهى السماوات كما يفيده قوله : ( عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى ) أي رأى جبرئيل عند شجرة السدرة الواقعة في منتهى السماوات.

5 - كان الغرض من الإسراء والمعراج إراءة الآيات كما يتضمّنه قوله : ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) وقوله : ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) .

6 - إنّ النبي رآى جبرئيل بصورته الأصليّة مرّتين ، مرّة في بدء الدعوة ومرّة في المعراج.

ص: 215


1- الميزان : ج 19 ص 32.

7 - قد دنا جبرئيل من النبي على حد لم يبق بينهما مسافة إلاّ مقدار قاب قوسين أو أدنى.

8 - لم يكن هناك خطأ في تلك الرؤية ، فما أخطأ فؤاده وما زاغ بصره وما طغى.

كل ذلك ممّا تفيده الآيات وبقيت هنا عدّة اُمور لم يرد في كلامه سبحانه ما يوضحه :

الف - ما هو حقيقة شجرة السدرة ؟

ب - بماذا غشى السدرة ؟

ج - ماذا أوحى إلى النبي في بدء الدعوة ؟

فلابدّ في الوقوف على هذه الاُمور من الرجوع إلى الروايات.

ثمّ إنّ الروايات الواردة في الإسراء ومعراج النبي تنقسم جملتها عن أربعة أوجه :

أوّلاً : ما يقطع بصحّتها لتواتر الأخبار به ولإحاطة العلم بصحّته.

ثانياً : ما ورد في ذلك ممّا تجوّزه العقول ولا تأباه الاُصول ، ونحن نجوّزه ثمّ نقطع بأن ذلك كان في يقظته دون منامه.

ثالثاً : ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الاُصول إلاّ أنّه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول ، فالأولى أن نؤوّله إلى ما يطابق الحق والدليل.

رابعاً : ما لا يصحّ ظاهره ولا يمكن تأويله إلاّ بالتعسّف البعيد ، فالأولى أن لا نقبله.

أمّا الأوّل المقطوع به ، فهو أنّه أسرى به.

وأمّا الثاني فمنه ما روي أنّه طاف في السماوات ورأى الأنبياء والعرش وسدرة المنتهى والجنّة والنار ونحو ذلك.

ص: 216

وأمّا الثالث فنحو ما روي أنّه رأى قوماً في الجنّة يتنعّمون فيها وقوماً في النار يعذّبون فيها ، فيحمل على أنّه رأى صفتهم أو أسماءهم.

وأمّا الرابع فنحو ما روي أنّه صلی اللّه علیه و آله كلّم اللّه سبحانه جهرة ورآه وقعد معه على سريره ونحو ذلك ممّا يوجب ظاهره التشبيه ، واللّه سبحانه يتقدّس عن ذلك.

وكذلك ما روي أنّه شقّ بطنه وغسله ، لأنّه صلی اللّه علیه و آله كان طاهراً مطهّراً من كل سوء وعيب ، وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد بالماء (1) ؟

* * *

إستشارة قريش أحبار اليهود في أمر دعوة النبي :

كان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وكان ممّن يؤذي رسول اللّه وينصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة ، وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس ، وأحاديث رستم وإسبنديار ، وكان يقول : أنا واللّه يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فأنا اُحدّثكم أحسن من حديثه ، ثمّ يحدّثهم عن ملوك فارس ورستم وإسبنديار ، ثمّ يقول : بماذا محمد أحسن حديثاً منّي ؟

وهو الذي نزل في حقّه قوله : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللّهُ ... ) ( الأنعام / 93 ).

فلمّا قال ذلك النضر بن الحارث ، بعثته قريش مع عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما : سلاهم عن محمد ، وصفا لهم صفته ، وأخبراهم بقوله ،

ص: 217


1- مجمع البيان : ج 3 ص 395 ( طبع طهران ).

فإنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول اللّه ووصفاً لهم أمره ، وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم : إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، فقال لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرّجل متقوّل ، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان أمرهم ؟ وأنّه قد كان لهم حديث عجب ، وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه ، وسلوه عن الروح ما هي ، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنّه نبي ، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم ، فأقبل النضر بن الحارث وعقبة ابن أبي معيط حتى قد ما مكة على قريش ، وقالا : يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء آمرونا بها فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل متقوّل ، فأروا فيه رأيكم.

فجاءوا رسول اللّه وذكروا الأسئلة حسبما تلقّوه من أحبار يهود ، فوافاه الوحي في الموارد الثلاثة.

أمّا الفتية التي ذهبوا في الدهر الأوّل ، فبيّنتها آيات من سورة الكهف مبتدئة من قوله : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ... ) ومنتهية بقوله : ( قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ) ( الكهف / 26 ).

وأمّا الرجل الطوَّاف الذي قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، فنزل في حقّه آيات من سورة الكهف ، مبتدئة بقوله : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا ) ( الكهف / 83 ) ومنتهية بقوله : ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) ( الكهف / 99 ).

وأمّا الروح فوافاهم الجواب بقوله : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الإسراء / 85 ).

ص: 218

ثمّ إنّ النبي الأكرم لمّا قدم المدينة قالت أحبار اليهود : يا محمد أرأيت قولك ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) إيّانا تريد ، أم قومك ؟ قال : كلاّ ، قالوا : فإنّك تتلو فيما جاءك : « إنّا قد اُوتينا التوراة فيها بيان كل شيء فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّها في علم اللّه قليل ، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه ». قال : فأنزل اللّه تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) أي أنّ التوراة في هذا من علم اللّه قليل (1).

هذا ما رواه ابن هشام في سيرته ، ولكن المروي عن الإمام الصادق علیه السلام يختلف معه في جهات :

الاُولى : إنّ صريح ما ورد في السيرة هو أنّ قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة والمروي عنه علیه السلام أنّ قريشاً بعثوا إلى نجران.

الثانية : إنّ المبعوث على ما في السيرة شخصان ، ولكن المرويّ عنه ثلاثة أشخاص ، والثالث العاص بن وائل.

الثالثة : إنّ المسألة الثالثة على ما في السيرة هو السؤال عن الروح والمروي عنه هو قصّة موسى حين أمره اللّه عزّ وجلّ أن يتبع العالم ويتعلّم منه ، فمن هو ذلك العالم وكيف تبعه وما كانت قصّته معه ؟

الرابعة : صريح السيرة أنّ السؤال كان عن ثلاث مسائل ، والمرويّ عنه أنّ السؤال كان عن أربع مسائل ، والمسألة الرابعة هو السؤال عن وقت الساعة ، فإن ادّعى علمها فهو كاذب ، فإنّ قيام الساعة لا يعلمها إلاَّ اللّه (2).

ويؤيّد كون السؤال عن أمر موسى باتباع العالم إنّ هذه المسائل الثلاث وردت

ص: 219


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 307 و 308.
2- تفسير القمي : ج 2 ص 31.

في سورة الكهف (1) وأمّا السؤال عن الروح فقد ورد في سورة الأسراء ، الآية 85. ولو كان السؤال عن الروح لكان الأنسب الإجابة عن الجميع في سورة واحدة.

وعلى فرض التسليم بذلك فما هو المراد من الروح ، فهل المراد هو روح الإنسان أو جبرئيل ( روح الأمين ) والأقرب هو الثاني ، وذلك بقرينة كون السؤال من هو اليهود ، فقد كان لهم عقيدة خاصة في جبرئيل وكانوا يسمّونه ملك العذاب ، ولأجل ذلك كانوا ينصبون له العداء ، وهم الذين يتهمونه بأنّه خان حيث نقل النبوّة من نسل إسرائيل إلى أولاد إسماعيل ، وقد إشتهر منهم قولهم « خان الأمين » ، وفي الوقت نفسه كانوا يظهرون المودّة لميكائيل ، ولأجل ذلك جاء الوحي مندّداً بهم بقوله : ( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( البقرة / 97 ) وقال : ( مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 98 ) وقال سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / 193 - 194 ).

ووصفه بالأمين لرد إتهام اليهود إياه بالخيانة ، وأنّه نقل النبوّة من نسل إسرائيل إلى أولاد إسماعيل ، وأنّ قولهم « خان الأمين » إفتراء على أمين الوحي.

كل ذلك يعرب عن أنّ اليهود كانوا يكنّون العداء لجبرئيل أو يظهرونه له ، وعند ذلك طرحوا هذا السؤال حتى يعلم لهم موقف النبي ( مدّعي النبوّة ) من عدوّهم ( جبرئيل ) فإن قام بذمّه ، كان من أنصارهم ، وإن مدحه ، قاموا في وجهه ، فنزل الوحي بأنّ الروح من أمر اللّه أي من مظاهر أمره سبحانه ، فهو لا يقوم بما يقوم إلاّ بأمر منه ، فلو قام بإنزال البشارة فبأمره ، ولو جاء بأمر العذاب والإبادة فهو أيضاً من أمره وبذلك يعلم أنّ تفسير الروح بروح الإنسان بعيد عن البيئة التي طرح فيها السؤال ، فإنّ البحث عن الروح وحقيقتها وحدوثها وقدمها يناسب البيئات الفلسفية لا غير.

ص: 220


1- أعني قوله سبحانه : ( إِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ... ) ( الكهف /1. 82 ).

وفد الحبشة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله للإستطلاع على أمر الدعوة :

لمّا بلغ خبر رسول اللّه إلى الحبشة وهم نصارى ، فقدم منهم إلى مكّة عشرون رجلاً ليقفوا على حقيقة الأمر عن كثب ، فوجدوا النبي في المسجد ، فجلسوا إليه وكلّموه وسألوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ، فلمّا فرغوا من مسألة رسول اللّه عمّا أراد ، ودعاهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى اللّه عزّ وجلّ وتلا عليهم القرآن ، فلمّا سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ، ثمّ استجابو لله وآمنوا بالنبيّ وصدّقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره ، فلمّا قاموا عنه إعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم : خيّبكم اللّه من ركب بعثكم من ورائكم من أهل دينكم ، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم ، وصدّقتموه بما قال ، ما نعلم ركباً أحمق منكم ، فقالوا لهم : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً ، وفيهم نزل قوله سبحانه :

( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ ) ( القصص / 52 - 55 ) (1).

إلى هنا تمّ الفراغ من بيان الحوادث المهمّة في الفترة الواقعة بين بعثته وهجرته وبقيت هناك عدّة حوادث يقف عليها من سبر التفاسير ، فتركنا ذكرها روماً للإختصار.

ص: 221


1- السيرة النبويّة ، لابن هشام : ج 1 ص 392 ، مجمع البيان : ج 4 ص 358 ، مع اختلاف يسير بين المصدرين.

ص: 222

(8) في رحاب الهجرة إلى يثرب

اشارة

الهجرة في اللّغة هو الخروج من أرض إلى أرض (1) فلو ترك إنسان أرضاً وانتقل إلى أرضٍ اُخرى لغاية من الغايات ، يقال إنّه هاجر ، ولكنّها في مصطلح القرآن هو الإنتقال من أرض إلى أرض لغاية قدسية كحفظ الإيمان والتمكّن من إقامة الفرائض على وجه تكون قداسة الهدف مقوّماً لمفهوم المهاجرة إلى حدٍّ استعمله النبيّ في ترك المحرّمات ونبذ المعاصي وإن لم يكن هناك إنتقال من مكان إلى مكان ، بل كان هناك إنتقال الرّوح من العصيان إلى الطّاعة. قال : « المهاجر من هجر ما حرّم اللّه عليه » (2).

والهجرة في مصطلح أهل السيرة والتاريخ والتفسير من المسلمين هو هجرة الرسول من موطنه إلى يثرب للتخلّص من مؤامرة قريش على سجنه أو قتله أو نفيه ، وليس الرسول بدعاً في ذلك فقد ذكر القرآن مهاجرة لفيف من الأنبياء.

فهذا هو إبراهيم الخليل لمّا اُلقي في النار ، ونجّاه اللّه سبحانه غادر موطنه ، قال سبحانه حاكياً قصّته :

( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ

ص: 223


1- لسان العرب : مادة « هجر ».
2- جامع الاُصول : ج 1 ص 154.

الصَّالِحِينَ ) ( الصافّات / 97 - 100 ) فنزل الخليل الأراضي المقدّسة ووهبه سبحانه إسحاق ويعقوب. قال تعالى :

( وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا ) ( مريم / 49 ).

وهذا لوط وقد تبع إبراهيم وغادر موطنه كما يحكي عنه قوله سبحانه : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( العنكبوت / 26 ).

وهذا موسى بن عمران فلمّا وقف على أنّ الملأ يأتمرون به ليقتلوه غادر أرض الفراعنة ونزل مدين. يقول سبحانه : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( القصص / 21 ).

وأمّا النبيّ الأكرم فقد خرج في موسم الحج ولقيه فيه نفر من الخزرج فقال لهم : من أنتم ؟ فقالوا : نفر من الخزرج ، قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم. قال : أفلا تجلسون أكلّمكم ؟ قالوا : بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ وعرض عليهم الإسلام ، وتلى عليهم القرآن. قال : وكان ممّا صنع اللّه بهم في الإسلام أنّ اليهود كانوا معهم في بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم ، وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم : إنّ نبيّنا مبعوث الآن قد أظلّ زمانه نتبعهُ فنقتلكم معهُ قتل عاد وإرم ، فلمّا كلّم رسول اللّه اُولئك النفر ودعاهم إلى اللّه ، قال بعضهم لبعض : ياقوم ، تعلموا واللّه إنّه النبيّ الذي توعدكم به اليهود ، فلا تسبقنّكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا : إنّا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّه بك ، فستقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم اللّه عليه فلا رجل أعزّ منك.

ثمّ انصرفوا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله راجعين إلى بلادهم ، وقد آمنوا وصدّقوا. فلمّا قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول اللّه ودعوهم إلى الإسلام ، حتّى فشا فيهم ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلاّ وفيه ذكر لرسول اللّه.

ص: 224

حتّى إذا كان في العام المقبل وأتى الموسم من الخزرجيين اثنا عشر رجلاً بالعقبة ، فبايعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على بيعة النساء (1) وذلك قبل أن تفرض عليهم الحرب ...

يقول عبادة بن الصامت : فبايعنا على أن لا نشرك باللّه شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف. وقال النبيّ : فإن وفّيتم فلكم الجنّة وإن خشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى اللّه عزّ وجلّ إن شاء عذّب وإن شاء غفر ...

ثمّ إنّ النبي بعث إلى يثرب مصعب بن عمير ليعلّمهم القرآن ، وذلك باستدعاء أسعد بن زرارة - أحد رؤساء الخزرجيين - ، فصارت نتيجة ذلك أن وافى النبيّ في العام المقبل في العقبة الثانية وفود من الخزرجيين والأوسيين ، فبايعوا النبيّ في الشعب ...

فتكلّم رسول اللّه ، فتلا القرآن ، ودعا إلى اللّه ، ورغَّب في الإسلام. ثمّ قال اُبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ...

فقام أبو الهيثم بن التيهان ، وقال يا رسول اللّه : إنّ بيننا وبين الرجال حبالاً وإنّا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثمّ أظهرك اللّه أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ قال : فتبسمّ رسول اللّه ثمّ قال : بل الدم بالدم ، والهدم بالهدم (2) أنا منكم وأنتم منّي ، أحارب من حاربتم ، واُسالم من سالمتم ...

ثمّ قال : أخرجوا إليّ منكم اثنيّ عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم ،

ص: 225


1- ذكر اللّه تعالى بيعة النساء في القرآن وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الممتحنة / 12 ). ترى المماثلة بين بيعة الخزرجيّين وبيعة النساء في الموادّ والمضامين.
2- الهدم : الحرمة ، أي ذمتي وحرمتي حرمتكم.

فأخرجوا منهم اثنيّ عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس ...

فلمّا انتشرت مبايعة الأوس والخزرج لرسول اللّه ، خافت قريش على نفسها خصوصاً بعد ما وقفوا على أنّ المعذّبين في مكّة أخذوا يهاجرون إلى يثرب ، فأذعنوا أنّ النبيّ أيضاً سوف يخرج إليهم ويتّخذها مأوى لنفسهِ وأصحابه ، وليشنّ عليهم الحرب وينكّلهم ، فاجتمعوا ...

قال ابن إسحاق : « فلمّا رأت قريش أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم ، عرفوا أنّهم قد نزلوا داراً ، وأصابوا منهم منعة ، فحذروا خروج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليهم ، وعرفوا أنّه قد أجمع لحربهم. فاجتمعوا له في دار الندوة وهي دار قصيّ بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلاّ فيها ، يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين خافوه ...

فتشاوروا فقال قائل منهم : إحبسوه في الحديد واغلقوا عليه باباً ، ثمّ تربّصوا به ما أصاب من الشعراء الذين كانوا قبله : زهيراً والنابغة حتّى يصيبهُ ما أصابهم ، وقال قائل منهم : نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا ، وقال أبوجهل بن هشام : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شابّاً جليداً نسيباً وسيطاً فينا ، ثمّ نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثمّ يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد ، فيقتلوه فنستريح منه ، فإنّهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل جميعاً ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً ، فرضوا منّا بالعقل فعقلناه لهم ، فتفرّق القوم على ذلك وهم مجمعون له ، فأتى جبرئيل وقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. قال فلمّا كان عتمة من الليل إجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه ، فلمّا رآى رسول اللّه مكانهم قال لعلي بن أبي طالب : نم على فراشي وتسبّح ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه ، فخرج عليهم رسول اللّه ، وأخذ اللّه تعالى على أبصارهم عنه ، وجعل القوم يتطلّعون فيرون عليّاً على الفراش متسجّياً ببرد رسول اللّه ، فيقولون : واللّه إنّ هذا لمحمد نائماً عليه ، برده فلم يبرحوا كذلك ، وحتى أصبحوا ، فقام عليّ

ص: 226

رضی اللّه عنه عن الفراش » (1) ... فباؤوا بالفشل وانصرفوا عن إيذاء علي وقتله.

وإلى تلك المؤامرة يشير قوله سبحانه : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) ( الأنفال / 30 ). وفيه تصريح بآرائهم الثلاثة التي أبدوا بها في الندوة ، وأجمعوا على القتل.

عزب عن قريش أنّه سبحانه تعهّد على نفسه نصر أنبيائه ورسله ، فقال سبحانه : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ ) ( الصافّات / 171 - 172 ).

أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّاً أن يتخلّف بعده بمكّة حتّى يؤدّي عن رسول اللّه الأمانة التي كانت عنده للناس ، وليس بمكّة أحد عنده شيء إلاّ وضعه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند علي ، فخرج رسول اللّه عامداً إلى غار بثور (2) وبقى فيها ثلاثاً ، واستنفدت قريش طاقتها في الوقوف على محلّه ، وجعلت مائة ناقة لمن يردّه إليها ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع دليله ( عبد اللّه بن أرقط ) ومعهما أبو بكر فسلك بهما أسفل مكّة ثمّ مضى على الساحل حتّى عارض الطريق أسفل من عسفان حتى قدم قباء باثنتى عشرة ليلة خلّت من شهر ربيع الأوّل يوم الإثنين ، حتّى اشتدّ الضحى وكانت الشمس تعتدل (3).

وإلى هجرته هذه واختفائه في الغار ونزول نصرته سبحانه عليه يشير قوله سبحانه :

( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة / 40 ).

ص: 227


1- السيرة النبوية ، لابن هشام : ج 1 ص 428 - 483.
2- جبل بأسفل مكّة.
3- السيرة النبويّة : ج 1 ص 485 - 492.

والضمير في قوله : ( أَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) يرجع إلى النبيّ بشهادة قوله : ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ) . فما هي النكتة في أفراد الضمير ؟

روى البيهقي عن ابن عباس كان رسول اللّه بمكّة فاُمر بالهجرة واُنزل عليه : ( وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ) ( الإسراء / 80 ) (1).

وقد نقل غير واحد من المفسّرين : إنّ النبيّ لما بلغ في هجرته الجحفة تذكّر موطنه ، فنزل عليه الوحي مبشّراً بأنّه سوف يرد إلى موطنه ويزوره ، قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) ( القصص / 85 ).

روى السيوطي : « لما خرج النبي من مكّة فبلغ الجحفة إشتاق إلى مكّة فأنزل اللّه : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) : إلى مكّة ، وعن علي بن الحسين علیه السلام قال : كل القرآن مكّي أو مدني غير قوله : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) فإنّها اُنزلت على رسول اللّه بالجحفة حين خرج إلى المدينة فلا هي مكّية ولا مدنية ، وكل آية نزلت على رسول اللّه قبل الهجرة فهي مكيّة نزلت بمكة أو بغيرها من البلدان ، وكل آية نزلت بالمدينة بعد الهجرة فإنّها مدنيّة نزلت بالمدينة أو بغيرها من البلدان » (2).

وقد أشار الذكر الحكيم إلى موطنه صلی اللّه علیه و آله بقوله : ( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ) ( محمد / 13 ).

ص: 228


1- دلائل النبوّة : ج 2 ص 516 ، وأخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن ، باب تفسير سورة الإسراء الحديث 3139.
2- الدر المنثور في التفسير بالمأثور : ج 5 ص 139 و 140 ، ومجمع البيان : ج 7 ص 268 و 269.

قدومه صلی اللّه علیه و آله إلى قباء

قدم النبي حسب ما يذكره ابن هشام قباء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل يوم الإثنين حين اشتدّ الضحى وكانت الشمس تعتدل ، وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاثة ليال وأيامها حتى أدّى عن رسول اللّه الودائع التي كانت لرسول اللّه عنده ، حتى إذا فرغ منها لحق برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فأقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ب « قباء » في بني أمر بن عوف يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس ، وأسّس مسجده الذي اُشير إليه في قوله سبحانه : ( لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ) ( التوبة / 108 ) (1).

إطلالة على نشأة التاريخ الهجري

المشهور إنّ أوّل من أرّخ بالتاريخ الهجري هو عمر بن الخطاب. يقول اليعقوبي : « وفيها ( سنة 16 ه ) أرّخ عمر الكتب وأراد أن يكتب التاريخ منذ مولد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثمّ قال : من المبعث ، فأشار عليه علي بن أبي طالب علیه السلام أن يكتبه من الهجرة ، فكتبه من الهجرة (2).

وروى الحاكم عن سعيد بن المسيب أنّه قال : جمع عمر الناس فسألهم من أي يوم يكتب التاريخ ؟ فقال علي بن أبي طالب : من يوم هاجر رسول اللّه ، وترك أرض الشرك ، ففعله عمر رضی اللّه عنه ، هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه (3).

ص: 229


1- مجمع البيان : ج 3 ص 72.
2- تاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 135 ( طبع النجف ).
3- مستدرك الصحيحين ، الحاكم : ج 3 ص 14.

ويظهر من ابن كثير الدمشقي أنّ اليعقوبي والحاكم لخّصا القصة وكانت هي أطول ممّا ذكراه. حيث نقل عن الواقدي أنّه قال :

« وفي الربيع الأوّل من هذه السنة - أعني سنة 16 - كتب عمر بن الخطاب التاريخ وهو أوّل من كتبه.

وأضاف ابن كثير قائلاً : قد ذكرنا سببه في سيرة عمر ، وذلك انّه رفع إلى عمر صكّ مكتوب لرجل على آخر بدين يحلّ عليه في شعبان ، فقال : أي شعبان ؟ أمن هذه السنة أم التي قبلها ، أم التي بعدها ؟ ثمّ جمع الناس فقال : ضعوا للناس شيئاً يعرفون فيه حلول ديونهم ، فيقال : إنّهم أراد بعضهم أن يؤرّخوا كما تؤرّخ الفرس بملوكهم كلّما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الذي بعده فكرهوا ذلك ، ومنهم من قال : أرّخوا بتاريخ الروم من زمان إسكندر فكرهوا ذلك ، ولطوله أيضاً ، وقال قائلون : أرّخوا من مولد رسول اللّه ، وقال آخرون : من مبعثه صلی اللّه علیه و آله ، وأشار علي بن أبي طالب وآخرون أن يؤرّخ من هجرته من مكّة إلى المدينة لظهوره لكل أحد ، فإنّه أظهر من المولد والمبعث ، فاستحسن ذلك عمر والصحابة ، فأمر عمر أن يؤرّخ من هجرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأرّخوا من أوّل تلك السنة من محرّمها ، وعند مالك رحمه اللّه فيما حكاه عن السهيلي (1) وغيره أنّ أوّل السنة من ربيع الأوّل لقدومه صلی اللّه علیه و آله على المدينة ، والجمهور على أنّ أوّل السنة من المحرّم لأنّه أضبط لئلاّ تختلف الشهور ، فإنّ المحرّم أوّل السنة الهلالية العربية (2).

ولكن الجزم والإذعان بصحّة هذه النقول مشكل ، والظاهر أنّ أوّل من أرّخ بالسنة الهجريّة ، هو النبيّ الأكرم حسب تضافر النصوص الموجودة في ثنايا الكتب وما ظفرنا عليه من النصوص تدلّ على كون التأريخ بالهجرة في زمن النبي وبعده.

ص: 230


1- كذا في المصدر والظاهر زيادة كلمة « عن ».
2- البداية والنهاية : ج 7 ص 75 و 76. طبع دار الكتب العلميّة.

1 - ما روي عن الزهري : إنّ رسول اللّه لمّا قدم المدينة مهاجراً أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأوّل (1).

2 - ما رواه الحاكم وصحّحه عن عبد اللّه بن العباس أنّه قال : كان التاريخ في السنة التي قدم فيها رسول اللّه المدينة ، وفيها ولد عبد اللّه بن الزبير (2).

ودلالته على المقصود واضحة ، لأنّه قال : « كان التاريخ في السنة » ولم يقل « من السنة ».

3 - إنّ بعض الصحابة كانوا يعدّون بالأشهر من مهاجرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى أواسط السنة الخامسة ، مثلاً أرّخوا تحويل القبلة على رأس سبعة عشر شهراً ، وفرض رمضان على رأس ثمانية عشر شهراً من هجرة الرسول (3).

4 - ما رواه أبو نعيم عن عهد النبي صلی اللّه علیه و آله لسلمان الفارسي وهو مؤرّخ بسنة تسع للهجرة ، وهو ينقل عن الحسين بن محمد بن عمرو الوثابي : إنّه رأى هذا السجل بشيراز بيد سبط لغسّان بن زاذان بن شاذويه بن ماهبنداز ، وهو أخو سلمان ، وهذا العهد بخط علي بن أبي طالب ، مختوم بخاتم النبي ، فنسخ منه ما صورته :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. هذا كتاب من محمد رسول اللّه - سأله سلمان وصيّة بأخيه ماهبنداز أهل بيته وعقبه ... » وفي آخر العهد : « وكتب علي بن أبي طالب بأمر رسول اللّه في رجب سنة تسع من الهجرة ، وحضره أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرّحمان ، وسعد ، وسعيد ، وسلمان ، وأبوذر ، وعمّار ، وعيينة ، وصهيب ، وبلال ، والمقداد ، وجماعة آخرون من المؤمنين ».

ص: 231


1- فتح الباري : ج 7 ص 208 ، وإرشاد الساري : ج 6 ص 233.
2- مستدرك الصحيحين ، للحاكم النيسابوري : ج 3 ص 13 و 14.
3- تاريخ الخميس : ج 1 ص 368 ، ومن راجع الكتب المؤلّفة حول السيرة يجد ذلك بوضوح ، فإنّ أكثر الحوادث في السنين الاُولى بعد الهجرة مؤّرخة بالشهور.

وذكره أيضاً أبو محمد بن حيّان عن بعض من عني بهذا الشأن : إنّ رهطاً من ولد أخي سلمان بشيراز زعيمهم رجل يقال له ( غسّان ) بن زاذان معهم هذا الكتاب بخط علي بن أبي طالب في يدغسان ، مكتوب في أديم أبيض مختوم بخاتم النبي وخاتم أبي بكر وعلي - رضي اللّه عنهما - على هذا العهد حرفاً بحرف إلاّ أنّه قال : وكتب علي بن أبي طالب ، ولم يذكر عيينة مع الجماعة (1).

ونقل أيضاً عن أبي كثير بن عبد الرحمان بن عبد اللّه بن سلمان الفارسي ، عن أبيه ، عن جدّه أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أملى هذا الكتاب على علي بن أبي طالب رضی اللّه عنه : هذا مافادى محمد بن عبد اللّه رسول اللّه فدى سلمان الفارسي من عثمان بن الأشهل اليهودي ، ثمّ القرظي بغرس ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية ذهب ، فقد برء محمد بن عبد اللّه رسول اللّه لثمن سلمان الفارسي ، وولاّه لمحمد بن عبد اللّه رسول اللّه وأهل بيته فليس لأحد على سلمان سبيل. شهد على ذلك : أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ... وكتب علي بن أبي طالب يوم الإثنين في جمادي الاُولى مهاجر محمد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

5 - كتب خالد بن وليد لأهل دمشق : إنّي قد أمنتهم على دمائهم وأموالهم وكنائسهم ... وفي آخره شهد أبو عبيدة بن الجرّاح وشرحبيل بن حسنة ، وكتب سنة 13 (3).

إلى غير ذلك من النصوص التي جاء بها الفاضل المتتبّع السيّد جعفر مرتضى

ص: 232


1- ذكر أخبار اصبهان : ج 1 ص 53.
2- المصدر السابق : ج 1 ص 52 ، والظاهر أنّ المراد من « المهاجر » هو عام الهجرة لامكانها ، ويؤيّد ذلك : إنّ سلمان عرف الرسول إبّان قدومه بالمدينة وآمن والتحق به ، والظاهر أنّ توصيف أبي بكر بما في الرواية من تلاعب الرواة ، حيث لم يكن يوم ذلك معروفاً به. لاحظ : السيرة النبويّة لابن هشام : ج 1 ص 218 و 219.
3- الأموال لأبي عبيد الثقفي القاسم بن سلام ، - ( المتوفّى 224 ) : ص 297.

العاملي في مقاله في مجلة الهادي (1) وهذا يعرب عن أنّ التاريخ بالهجرة كان قبل الخليفة ، وغاية ما يمكن تصحيح ما ورد بأنّ الخليفة أرّخ بالهجرة هو أنّ النبيّ أرّخ بالهجرة ولم يشتهر بين الناس لقلّة حاجاتهم إلى التاريخ ، فلمّا إنتشر الإسلام خارج الجزيرة مسّت الحاجة إلى تاريخ الكتب والرسائل الواردة من مختلف الأرجاء ، جمع الخليفة صحابة النبي وأشار الإمام بنفس مافعله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وممّا يؤسف له أنّ المسلمين نسوا أمجادهم التاريخية والحضارية التي كرّمهم الإسلام بها ، فعادوا يؤرّخون كتبهم ورسائلهم بالتاريخ المسيحي ، فكأنّهم ( نَسُوا اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) وقد رأيت بعيني رسالة لشيخ الأزهر الشيخ محمود عبد الحليم وقد أرّخها بالتاريخ المسيحي الميلادي ولم يذكر - حتّى في جنبه - التاريخ الهجري ، فإذا كان هذا حال شيخ الأزهر فما ظنّك بغيره ؟

إذا كان ربّ البيت بالدفّ مولعاً *** فشيمة أهل البيت كلّهم رقص

ومن الواجب على المسلمين أن لا يتنازلوا عن أقل شيء ممّا يرجع إلى تاريخهم وحضارتهم ودينهم ، حتى انّ ذكر التاريخ الميلادي جنب التاريخ الهجري نوع ترويج له ومماشاة مع الكفر ، ولم يزل أعداء الدين يتآمرون على الإسلام والمسلمين بمسخ شخصيتهم الإسلاميّة واقتلاع جذور مبادئها ، وقد شهدنا في بلدنا العزيز إيران مثل ذلك عام 1396 ه - ق. فقد قام طاغوت إيران بتبديل التاريخ الإسلامي إلى التاريخ « الشاهنشاهي » المجعول الذي لا سند له ، وفرضه على الناس وعادت الرسائل والكتب الرسمية تؤرّخ به ، وكادت أن ترسّخ في القلوب لولا أن بدّد اللّه شمله وأزال ملكه وحاق به العذاب والبلاء بانتصار الثورة الإسلاميّة عام 1398 ه.ق ( قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) .

ص: 233


1- العدد السادس من السنة الخامسة وهو مقال ممتع.

نزول النبيّ بالمدينة :

خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم الجمعة من ( قبا ) فأدرك الجمعة في بني سالم بن عوف فكانب أوّل جمعة أقامها بالمدينة ، وكان لا يمر على قبيلة إلاّ قالوا أقم عندنا ، فيقول النبيّ خلّوا سبيلها ( الناقة ) فإنّها مأمورة حتّى إذا أتت دار بني مالك بن النجّار ، بركت ناقته على باب مسجده وهو مريد (1) فنزل رسول اللّه فاحتمل أبو أيّوب رحله فوضعه في بيته ، وسأل عن المربد لمن هو ، فقال معاذ بن عفراء : هو لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان لي وسارضيهما منه ، فاتّخذه مسجداً ، فأمر به رسول اللّه أن يبني مسجداً ، ونزل رسول اللّه حتى بنى مسجده ومسكنه ، فعمل فيه رسول اللّه ليرغّب المسلمين في العمل فيه ، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ودأبوا ، فقال قائل من المسلمين :

لئن قعدنا والنبي يعمل *** لذاك منّا العمل المضلّل

وممّن ساهم في بناء المسجد عمّار بن ياسر وقد أثقلوه باللبن ، فقال يا رسول اللّه : قتلوني ، يحمّلون عليّ ما لا يحملون ، قالت اُمّ سلمة زوجة النبي صلی اللّه علیه و آله : فرأيت رسول اللّه ينفض وفرته بيده وكان رجلاً جعداً ، وهو يقول : ويح ابن سميّة ليسوا بالذين يقتلونك إنّما تقتلك الفئة الباغية.

وارتجز علي بن أبي طالب علیه السلام يومئذ :

لا يستوي من يعمّر المساجدا *** يدأب فيه قائماً وقاعداً

ومن يرى عن الغبار حائداً

وقد كان بين أصحاب رسول اللّه من يستنكف العمل ، فهذا الرجز من علي علیه السلام كان بقصد التعريض به ، وقد قال ابن إسحاق : إنّ المقصود به عثمان بن عفّان ، وفي المواهب ، للدنية : إنّ المقصود عثمان بن مظعون.

ص: 234


1- الموضع الذي يجفّف فيه التمر.

فأقام رسول اللّه بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأوّل إلى صفر من السنة التالية حتّى بنى له فيها مسجده ومساكنه ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلاّ أسلم أهلها إلاّ حيّ من الأوس ، فإنّهم أقاموا على شركهم.

ولأجل استتباب الأمن ، واضفاء طابع الوحدة السياسية على القبائل التي تستوطن يثرب وما جاورها كتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتاباً بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرّهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم.

وقد نقل ابن هشام الكتاب برمّته وهو أوّل منشور سياسي أدلى به النبي إبّان نزوله بالمدينة.

ولم يكتف بذلك حتى آخى بين المهاجرين والأنصار ، فقال : تآخوا في اللّه أخوين أخوين ، ثمّ أخذ بيد علي بن أبي طالب ، فقال : هذا أخي ، فكان رسول اللّه سيّد المرسلين وإمام المتّقين ورسول رب العالمين الذي ليس له نظير من العباد وعلي بن أبي طالب علیه السلام أخوين ، وكان حمزة بن عبد المطلب أسد اللّه وأسد رسوله وعمّه وزيد بن حارثة مولى رسول اللّه أخوين ، وإليه أوصى حمزة يوم اُحد حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت ، فهكذا تآخى المهاجرون والأنصار أخوين أخوين.

فلمّا إطمأنّ رسول اللّه بالمدينة والتفّ حوله إخوانه من المهاجرين واجتمع أمر الأنصار ، استحكم أمر الإسلام ، فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام ، وشرع الآذان (1).

ولمّا استحكمت شوكة المسلمين ظهرت من أحبار اليهود العداوة حسداً وضغناً والتحق بهم رجال من الأوس والخزرج فتظاهروا بالإسلام ، ونافقوا في السرّ وكان هواهم مع اليهود.

ص: 235


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 494 - 512.

وكان أحبار اليهود هم الذين يسألون رسول اللّه ويشاغبونه ليلبسوا الحقّ بالباطل ، فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه.

وكان المجتمع اليهودي عبارة عن مجموع قبائل ثلاث :

1 - بني قينقاع.

2 - بني النضير.

3 - بني قريظة.

وكانت تلك القبائل مليئة بالأحبار وهم الذين شنُّوا حرب الاستنزاف الخفيَّة على النبي ، واستمدّوا ممّن إجتمع إليهم من منافقي الأنصار ، وإليك استعراض ما بدر منهم من جدال على ضوء ما ورد في القرآن الكريم.

مجادلة أهل الكتاب

كانت بيئة مكّة قاعدة للشرك والمشركين ولم يكن هناك حبر ولا راهب ، بل ولا يهودي ولا نصراني إلاّ شرذمة قليلة لا تتجاوز عدد الأصابع من أمثال ورقة بن نوفل ، وعثمان بن حويرث اللّذين تنصّرا قبل الإسلام ، وكانت قريش تغط في الكفر والشرك إلاّ اُناس قليل المقتفين أثر الخليل المسمّين بالأحناف (1).

إنّ ما ورد من الآيات حول جدال أهل الكتاب مع النبي ، آيات مدنية تناثر ذكرها في السور الطوال كالبقرة وآل عمران وغيرهما.

كان الجدال محتدماً على قدم وساق في الفترة التي كانت القبائل الثلاث مقيمة في المدينة ، وبعد ما اُزيلوا عنها اُخمدت نار فتنتهم ، وكان أكثر ما جادلوا فيه ما يرجع إلى النبي وعلائمه في العهدين ، ولسنا في هذا المقام بصدد نقل كل حوار

ص: 236


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 222 - 224.

ورد في القرآن الكريم سواء أكانت راجعة إلى الأحبار والرهبان أم إلى غيرهم ، وإنّما الهدف تبيين ما دار بين النبي وبين أحبار اليهود في يثرب قبل إجلائهم وإبادتهم ، وكان الكل في السنين الخمس الاُولى إلى أوان حرب الخندق حيث استأصل نسل اليهود في المدينة ولم يبق منهم أحد إلاّ كعب القرظي (1).

تنبّؤ القرآن عن شدّة عداوة اليهود :

تنبّأ القرآن الكريم عن قسوة اليهود وشدّة عدائهم كالمشركين بينما كان المسيحيون على خلاف ذلك ، فكانوا أقرب الناس مودّة للّذين آمنوا ، قال سبحانه : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ( المائدة 82 - 83 ) ولأجل ذلك نرى أنّه لميسلم من اليهود ولا من أحبارهم إلاّ أقل القليل ، كعبد اللّه بن سلام وكعب الأحبار من الذين دسُّوا بإسلامهم كثيراً من البدع اليهودية بين المسلمين ، بينما نرى أنّه بعد ما إنتشر الإسلام في ربوع الأراضي المسيحية ، دخل المسيحيّون أفواجاً في الإسلام وما ذلك إلاّ لأنّه كان فيهم قسّيسون ورهبان ، مالوا إلى الحق واعتنقوه وصدّقوا به فتبعهم غيرهم.

وهناك سبب آخر لتصلّب اليهود وعدم رضوخهم لدعوة الإسلام ، يتمثّل في حرصهم على زينة الحياة وزبرجها وهو أكبر حجاب بين بصيرة الإنسان ، والحق الذي يجب أن يتّبع ، قال سبحانه :

ص: 237


1- هو والد محمد بن كعب القرظي ، القصّاص الذي ملأت كتب التاريخ والتفسير قصصه ، فتدبّر.

( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة / 96 ).

الدعوة إلى أصل مشترك بين الشرائع السماوية :

إنّ التوحيد في العبادة هو الأصل المشترك الذي قام عليه صرح الشرائع السماوية ، ومن العجب إنّ أهل الكتاب الذي يضفون على أنفسهم أنّهم من أنصار لواء التوحيد ، قد إنحرفوا عن هذا الأصل الأصيل ، فعاد يتّخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون اللّه ، فجاء الوحي يدعوهم إلى العودة إلى هذا الأصل ، والإنضواء تحت رايته الخفّاقة ، قال سبحانه :

( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران / 64 ).

ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من إنحراف اليهود والنصارى عن هذا الأصل المشترك على أبعاده المختلفة ( التوحيد في العبادة - التوحيد في الربوبية ... ) نذكر بعض عقائدهم الخرافية حسبما ورد في القرآن الكريم.

الإعتقاد بمبدأ البنوّة للباري جلّ وعلا :

وقد تمخّض الانحراف عن أصل التوحيد ، وبلغ الذروة حيث اتّخذوا لله ابناً باسم عزير والمسيح وهم يضاهئون بذلك قول الكافرين ، وإليه الإشارة في قوله عزّ وجلّ : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) ( التوية / 30 ).

ص: 238

إنّ اليهود اليوم وإن كانت تنكر تلك النسبة ولا تدين بها ولكنّها كانت موجودة في عصر نزول القرآن ، ولأجل ذلك لم تعترض اليهود على النبيّ الأكرم.

والمستفاد من الآية انّ الإعتقاد بمبدأ البنوّة للباري جلّ وعلا ذات خلفية تاريخية ولعلّ الآية تشير إلى عقيدة التثليث التي كانت تدين بها الهندوكية كما هو الظاهر من آثار آلهتهم المجسّمة المثلّثة (1).

وبما أنّ للتثليث دعامة راسخة في الديانة النصرانية أفاض القرآن القول فيه ، يليق بنا الإسهاب في تناول أطراف هذا الموضوع.

ذاتية التوحيد وظاهرة التثليث :

اشارة

لقد تمثّلت ظاهرة التثليث في الديانة النصرانية عصر نزول القرآن في صور مختلفة تناولها القرآن الكريم بالذكر.

فتارة يقولون المسيح هو اللّه.

واُخرى يصرّحون بالثالوث المقدّس ، وإنّ هناك ثلاث آلهاتٍ بإسم إله الأب ، واله الإبن ، وروح القدس.

وثالثة إنّ المسيح ابن اللّه.

ولعلّ الجميع تعبيرات متنوّعة عن حقيقة واحدة أو أنّها عبارة عن نظريّات مختلفة يتبنّى كلّ واحد منها طائفة منهم وإليك التوضيح.

أ - المسيح هو اللّه :

يقول سبحانه حاكياً عنهم تلك العقيدة : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ

ص: 239


1- لاحظ : الآثار الوثنية في الديانة النصرانية.

المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) ( المائدة / 72 ).

فالآية تعرب عن أنّ المسيح عند طائفة منهم هو الربّ الخالق ، وبعبارة اُخرى : إنّ اللّه إتّحد بالمسيح إتّحاد الذات ، فصارا شيئاً واحداً وصار الناسوت لاهوتاً (1).

والذين يقولون من النصارى : إنّ اللّه هو المسيح ابن مريم هم اليعقوبية ، واللائق بهذا القول هو إنكار التثليث ، ولكنّ لا يخلوا مذهب من مذاهب النصارى منه ، وقد ردّ القرآن على ذلك الزعم بما نقله عن المسيح بأنّه قال : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ... ) فهو يدّل على أنّه عبد مثلهم كما أنّ قوله : ( إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ) يدلّ على أنّ من يجعل لله شريكاً في الوهيّته ، فهو مشرك كافر ، محرّم عليه الجنّة. وفي هذا القول مزيد عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية وأنّه علیه السلام باختياره الصلب فدى بنفسه عنهم ، فهم مغفور لهم ، مرفوع عنهم التكاليف الإلهية ، ومصيرهم إلى الجنة ولا يمسّون ناراً.

كيف يقولون ذلك مع أنّه علیه السلام كان يقول : ( مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) (2).

ب - اللّه ثالث ثلاثة أو الثالوث المقدّس :
اشارة

وكان هناك قسم آخر من الإنحراف عن خط التوحيد يتجسّد في القول بأنّ اللّه ثالث ثلاثة كما يحكيه قوله سبحانه :

( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( المائدة / 73 ) والقائل بهذه

ص: 240


1- مجمع البيان : ج 2 ص 228.
2- التبيان : ج 3 ص 587.

المقالة هم جمهور النصارى من الملكانية واليعقوبية ، والنسطورية والمقصود أنّه أحد الثلاثة : الأب والإبن وروح القدس أي أنّه ينطبق على كل واحد من الثلاثة وهذا لازم قولهم : إنّ الأب إله ، والإبن إله ، والروح إله ، وهو ثلاثة وهو واحد ، ويمثّلون لذلك بقولهم : إنّ زيد بن عمرو إنسان فهناك اُمور ثلاثة هي زيد ، وابن عمرو والإنسان ، وهناك أمر واحد وهو المنعوت بهذه النعوت.

ويلاحط عليه : أنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة ، وإنّ المنعوت إن كان واحداً حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة إعتباريّة غير حقيقيّة ، فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية كما في المثال بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقله.

ولأجل ذلك التجأ دعاة النصارى في الآونة الأخيرة إلى القول بأنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف وهي لا تخضع للموازين العلميّة (1).

وقد ردّ الذكر الحكيم على ذلك بقوله : ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ... ) ببيان أنّ اللّه سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية ، الكثرة بوجه من الوجوه ، فهو تعالى ذاته واحد وإذا اتّصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً ، ولا الصفة إذا اُضيفت إليها أورثت كثرة وتعدّداً ، فهو تعالى أحديّ الذات لا ينقسم لا في خارج ولا في وهم ولا في عقل.

ويستفاد من قوله : ( وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) بحكم الإتيان بلفظ ( منهم ) المشعرة بالتبعيض - ، إنّ هناك طائفة لا يعتقدون بالتثليث ولا يقولون في المسيح إلاّ إنّه عبد اللّه ورسوله كما عليه مسيحيّة الحبشة بعضهم أو جلّهم.

ص: 241


1- الميزان : ج 4 ص 70.
مشكلة الجمع بين التوحيد والتثليث :

إنّ المسيحيّين يعتبرون أنفسهم موّحدين وإنّهم من المقتفين أثر التوحيد الذي جاءت به جميع الشرائع السماوية ، ومن جانب آخر يعتقدون بالتثليث اعتقاداً جازماً ، وهذان لا يجتمعان إلاّ أن يكون أحد الوصفين حقيقيّاً والآخر مجازيّاً ولكنّهم ياللأسف يقولون بكونهما معاً حقيقيين ، ولأجل ذلك أصبحت عندهم : 1 = 3 وهو محال ببداهة العقل.

والقرآن الكريم ينسب التثليث إلى أقوام آخرين كانوا قبل المسيح والمسيحيّة وهؤلاء إنّما اتّبعوا اُولئك ، ولعلّ الثالوث الهندي هو الأصل حيث يعتقدون بأنّ الإله الواحد له مظاهر ثلاثة : « برهما » : « الموجد » ، و « فيشفو » : « الحافظ » ، و « سيفا » : « المميت » فقد دان بتلك العقيدة المسيحيّون بعد رفع المسيح آماداً متطاولة ، ولمّا جاء المتأخّرون منهم ورأوا أنّ الوحدة الحقيقية لا تخضع للكثرة كذلك حاولوا أن يصحّحوه بوجهين :

الأوّل : تفكيك المسائل الدينية عن المسائل العلميّة وأنّ الدين فوق العلم وأن مسألة 1 = 3 وإن كانت باطلة حسب القوانين الرياضية المسلّمة ولكن الدين قبلها ونحن نعتقد بها. ولكنّه عذر أقبح من ذنب فكيف نعتنق ديناً يتصادم مع أوضح الواضحات وأبده البديهيّات.

الثاني : إنّ المعادلة الرياضية السابقة ليست باطلة وذلك لوجود نظائرها في الخارج ، فإنّ الشمس بها جرم ولها نور ولها حرارة ومع ذلك فهي شيء واحد.

وهذا الإستدلال يكشف عن جهل مطبق بحقيقة الوحدة المعتبرة في حقه سبحانه فإنّ المقصود منها في حقّه هو الوحدة الحقيقية التي لا كثرة فيها لا خارجاً ولا ذهناً ولا وهماً وأين هو من وحدة الشمس التي هي وحدة إعتبارية لا حقيقية حيث تتركّب من جرم ونور وحرارة وكل منها ينقسم إلى انقسامات.

وعلى كلّ تقدير فماذا يريدون من قولهم ( إنّه إِله واحد ) وفي الوقت نفسه

ص: 242

ثلاثة ، فهل يريدون أنّ هناك أفراداً متميّزة ومتشخّصة من الإله الصادق هو عليهم صدق الكلي على الأفراد ؟

أو يريدون أنّ هناك فرداً واحداً ذا أجزاء وليس لكل واحد منها إستقلال ولا تشخّص وإنّما يتشكّل الإله من تلك الأجزاء ؟

فالفرض الأوّل يستلزم تعدّد الإله تعدّداً حقيقيّاً وهو لا يجتمع مع التوحيد بحال من الحالات.

والفرض الثاني لا يخلو إمّا أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء واجبة الوجود أو ممكنة ، فعلى الأوّل يلزم منه كثرة الإله ( واجب الوجود ) وهم يدّعون الفرار منه.

وعلى الثاني يلزم أن يكون واجب الوجود محتاجاً في تحقّقه وتشخّصه إلى أجزاء ممكنة وهو كما ترى.

ولأجل ذلك نرى أنّ الذكر الحكيم ينادي ببطلان التثليث بأيّ نحو يمكن أنّ يتصوّر بقوله : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ) ( النساء / 171 ).

إنّ الآية تركّز على أنّ نسبة الإلوهيّة إلى المسيح من آثار الغلوّ في حقه فلو تنزّه القوم عن هذا التمادي الفكريّ المفرط لوقفوا على سمة المثالية فيه ونفوا عنه مقام الإلوهية.

والآية تصف المسيح بالصّفات الخمس :

1 - عيسى ابن مريم 2 - رسول اللّه 3 - كلمته 4 - ألقاها إلى مريم 5 - روح منه. إنّ بعض هذه الصفات المسلّمة في حق المسيح تشهد بعبوديّته وتنفي الوهيّته وإليك مزيد من التوضيح حولها :

ص: 243

1 - عيسى ابن مريم : وقد ورد في الذكر الحكيم ذكره عشر مرّات وبنوّته لمريم التي لا تنفك عن كونه جنيناً رضيعاً في المهد صبيّاً يافعاً و ... لدليل واضح على بشريّته.

2 - رسول اللّه : ومعناه مبعوثه ومرسله وليس نفسه.

3 - كلمة اللّه : وقد أطلق القرآن لفظ الكلمة على المسيح كما أطلقه على جميع الموجودات الإمكانية وقال : ( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ) ( الكهف / 109 ).

وأمّا إطلاق الكلمة على الموجودات الإمكانية لأجل وجود التشابه بين الكلمة والموجود الإمكاني فإنّ الكلمة تكشف عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني فهكذا الموجودات الإمكانية عامّة ، وخلقة المسيح على وجه الإعجاز خاصّة تكشف هي الاُخرى عن علم وقدرة وسيعين وكمال لا متناه يكمن في ذاته سبحانه ولأجل ذلك يعد القرآن المسيح وجميع العوالم الإمكانية كلمات اللّه سبحانه.

4 - ألقاها إلى مريم : إنّ الإلقاء إلى رحم الاُم آية كونه مخلوقاً وقد ذكر تفصيله في سورة مريم ، الآية 16 إلى 36 واختتمها بقوله : ( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ( مريم / 34 ).

5 - وروح منه : إنّ هذا التعبير ربّما وقع دليلاً على تطرّف فكرة الاُلوهيّة في حق المسيح وهم يتخيّلون إنّ ( منه ) تبعيضية ولكنّها إبتدائية مثل قوله سبحانه : ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) ( الجاثية / 13 ) والمعنى انّ السموات وما في الأرض جميعاً ناشئ منه وحاصل من عنده ، ومبتدأ منه ، فذوات الأشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق وكذلك خواصّها وآثارها. قال تعالى : ( اللّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ( الروم / 11 ).

أضف إلى ذلك انّ ذلك التعبير لا يفوق في حق آدم حيث قال : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر / 29 ).

ص: 244

فقد وصف آدم علیه السلام بلفظة « من روحي » ولم يقل أحد بأنّه جزء من الإله.

ثمّ إنّه سبحانه ختم تلك الصفات بقوله : ( فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) .

سمات العبودية في المسيح :

إنّ الذكر الحكيم يستدل على عبوديته بوجوه ثلاثة :

1 - كيفيّة خلق المسيح واُمّه.

2 - طبيعة عيشهما في المجتمع.

3 - تصريح المسيح بعبوديّته.

هذه هي الوجوه التي يستدلّ بها القرآن الكريم على عبوديّته ، أمّا الأوّل فقد بسط الذكر الحكيم في تناولها في سورة مريم كما مرّ وهذه الآيات تلقي الضوء على كيفيّة خلقه إلى أن توّج بالرسالة ، فيقول سبحانه :

( فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ) إلى أن يقول : ( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) .

ولو تمّسك الخصم على عدم بشريته بأنّه ولد من غير أب فهو محجوج بخلقة آدم فقد خلق من غير اُم ووالد ، قال سبحانه : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران / 59 ).

وأمّا الثاني فيلمح إليه ما ورد بأنّ المسيح واُمّه كانا يعيشان شأنهما كشأن سائر بني آدم ولا يحيدان عنها قيد شعرة ، قال سبحانه : ( مَّا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ

ص: 245

الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) ( المائدة / 75 ) فمن الممتنع أن يكون آكل الطعام إله العالمين.

وأمّا الثالث فيشير إليه قوله سبحانه : ( لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ) ( النساء / 172 ).

وليس بوسع إنسان أن ينكر عبادة المسيح وهي آية وجود المعبود له وهناك كلمة قيّمة للإمام الطاهر علي بن موسى الرضا في مناظرته مع الجاثليق ، قال الإمام : يا نصراني واللّه إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد وما ننقم على عيسى شيئاً إلاّ ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق : أفسدت واللّه علمك وضعفت أمرك وما كنت أظن إلاّ إنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضا : وكيف ذلك ؟

قال الجاثليق : من قولك إنّ عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام والصلاة وما أفطر عيسى يوم قط وما نام بليل قط وما زال صائم الدهر قائم الليل.

قال الرضا : فلمن كان يصوم ويصلّي ؟

فخرس الجاثليق وانقطع (1) الحديث.

إنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ المسيح سوف يعترف يوم البعث بعبوديته على رؤوس الأشهاد وانّه لم يأمر قطّ الناس بعبادة نفسه :

( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / 116 ).

ص: 246


1- الاحتجاج : ج 2 ص 203 و 204.

وقال عزّ اسمه حاكياً عنه : ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / 117 ).

ج - المسيح ابن اللّه :

قد طرأت أزمة حادّة على خط التوحيد من قبل المشركين واليهود والنّصارى بزعم وجود الابن أو البنت لله سبحانه ، فتارة جعلوا بينه وبين الجِنَّة نسباً ، واُخرى اتّهموه بأنّه اتّخذ من الملائكة اناثاً ، وثالثة نسبوا إليه الولد بصورة مطلقة ، وقد جاء الجميع في الذكر الحكيم مشفوعاً بالردّ والنقض :

1 - الجن : ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ) ( الصافّات / 158 ).

وأمّا ما هذا النسب ، فيحتمل أن يكون المراد نسب البنوّة والاُبوّة ولأجل ذلك كان جماعة من العرب يعبدون الجن ، كما ورد في قوله سبحانه : ( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ ... ) ( سبأ / 41 ).

2 - الملائكة : ( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ) ( الإسراء / 40 ) ولأجل ذلك كان جماعة أيضاً من العرب تعبد الملائكة ، وبما أنّهم كانوا يتخيّلون الملائكة على أنّهم خلقوا بصور جذّابة جميلة خالوا إنّهم اُناثاً قال سبحانه : ( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ) ( الزخرف / 19 ).

3 - المسيح : وقد اشتهر النصارى بأنّهم جعلوا « المسيح » إبناً لله تعالى ، وهذه الفكرة الخاطئة وإن لم تكن منحصرة فيهم ، بل كان لليهود أيضاً مثل تلك الفكرة في حقّ « عزير » لكن النصارى أكثر ، اشتهاراً بهذه النسبة ، غير نافين عن أنفسهم هذا العار ، واليهود يؤوّلون الفكرة بأنّه ولد فخري لا حقيقي.

والقرآن الكريم يندّد بتلك الفكرة في غير واحد من الآيات مشيراً إلى براهين

ص: 247

عقلية محتاجة إلى التوضيح ، وإليك نقل الآيات مع توضيح مضامينها :

1 - البقرة / 116 - 117 :

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) .

تريك هذه الآية كيف أنّهم نسبوا إلى اللّه ولداً من غير فرق بين أن يكون الناسب يهوديّاً أو مسيحيّاً ، ولكنّ الآيتين تتضمّنان ردّاً لهذه النسبة ، يستفاد من الإمعان في الجمل التالية :

1 - سبحانه. 2 - بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون.

3 - بديع السموات والأرض. 4 - وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.

وإليك شرح هذه الجمل التي يعد كل واحد منها بمثابة ردّ ونقض للفكرة الخاطئة المصرّحة بالبنوّة لله عزّ وجلّ.

أ - « سبحانه » : وهذه الكلمة تفيد تنزيه اللّه سبحانه من كل نقص وعيب وشائنة ، ولأجل ذلك يأتي هذا اللفظ في آية اُخرى بعد بيان تلك النسبة الخاطئة ، قال تعالى : ( قَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) ( يونس / 68 ).

واللفظة تفيد انّ اتّخاذ الولد نقص وعيب على اللّه تعالى ، يجب تنزيهه عنه ، وذلك لأنّ اتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لأجل الإستعانة من الولد أيّام الهرم والكهولة ، أو لأجل إبقاء النسل وإدامته التي تعد نوع بسط وجود للشخصية ، والكل غير لائق بساحته سبحانه.

ويمكن أن يكون اللفظ مشيراً إلى أمر آخر وهو أنّ اتّخاذ الابن فرع التوالد والتناسل وهو من شؤون الموجودات المادية حيث ينتقل جزءً من الأب إلى رحم الاُم فتتّحد نطفة الأب مع البويضة في رحم الاُمّ فتخصّبها فينتج عن ذلك نشأة الجنين واللّه سبحانه أعلى وأجل وأنبل عن أن يكون جسماً أو جسمانيّاً.

ص: 248

ب - ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) :

إنّ هذه الجملة مشعرة ببرهان دامغ وهو أنّ كل ما في الكون قانت لله وخاضع لسلطته ومسخّر ومقهور له ومن هذا شأنه لا يتصوّر أن يكون له ولد وذلك لأنّ الولد يكون مماثلاً للوالد ، فكما هو واجب الوجود يكون الولد مشاطراً له في ذلك ، وما هو كذلك لا يمكن أن يكون مقهوراً ومسخّراً لموجود من الموجودات.

ج - ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) :

أي انّه سبحانه خالق مبدع لهما وما فيهما والمراد من الإبداع هو خلقهما بلا مثال سابق ولا مادّة متقدّمة ، فيكون المجموع مسبوقاً بالعدم ، وما هو كذلك كيف يمكن أن يكون ولداً لله سبحانه ؟ لما عرفت من أنّ الولد يماثل الوالد في الالوهيّة ووجوب الوجود ، وهو لا يجتمع مع كون السموات والأرض وما فيهما مخلوقاً حادثاً مسبوقاً بالعدم.

د - ( وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) :

وهذه الآية تفيد أنّ سنّة اللّه تبارك وتعالى في الإيجاد والإنشاء والخلق ، وأنّه لو أراد إيجاد شيء فإنّه يوجد بلا تريّث أو تلبّث ، ولكنّ الولد إنّما يتكوّن من إلتقاء النطفتين في رحم الاُم ثمّ يتكامل تدريجيّاً على إمتداد أمد بعيد وهذا لا يجتمع مع ما مرّ ذكره في السنّة الحكيمة.

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي جعل الجمل الثلاث مشيرة إلى برهانين ( لا إلى ثلاثة براهين كما أوضحناه ) فقال :

إنّ قوله : ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ... ) يشتمل على برهانين ينفي كلّ منهما الولادة وتحقّق الولد منه سبحانه ، فإنّ اتّخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي ، بعض أجزاء وجوده ويفصله عن نفسه فيصيّره بتربية تدريجية فرداً من نوعه مماثلاً لنفسه ، وهو سبحانه منزّه عن المثل بل كل شيء ممّا في السموات والأرض مملوك له قائم الذات به قانت ذليل عنده ذلّة وجودية فكيف يكون شيء من الأشياء ولداً له

ص: 249

مماثلاً نوعيّاً بالنسبة إليه ؟ وهو سبحانه بديع السموات والأرض ، إنّما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق فلا يشبه شيء من خلقه خلقاً سابقاً ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج والتوّصل بالأسباب إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج ، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتّخاذ الولد ؟ وتحقّقه يحتاج إلى تربية وتدريج فقوله : ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) برهان تام ، وقوله : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) برهان آخر تام (1).

2 - الأنعام / 100 - 102 :

( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنعام / 100 ).

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الأنعام / 101 ).

( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( الأنعام / 102 ).

وفي هذه الآيات إشارات إلى بطلان النظرية القائلة بكون الجن شركاء لله سبحانه وخرق بنين وبنات له بغير علم ، وإليك بيانها :

أ - ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ) : وقد مرّ توضيح تلك الجملة في القسم الأوّل من الآيات.

ب - ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : وقد تقدّم معناه أيضاً.

ج - ( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ) : وهذه الجملة تشير إلى أنّ إتّخاذ الإبن يستلزم اتّخاذ الزوجة حتى يقع جزء من الزوج في رحم الزوجة واللّه

ص: 250


1- الميزان : ج 1 ص 261.

سبحانه منزّه ، عن أن تكون له زوجة.

د - ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) : فإذا كان هو خالق كل شيء ، والكل مخلوق له فلا يتصوّر كون المخلوق ولداً ، لأنّ الولد يشاطر الوالد في الطبيعة والنوعيّة فإذا كان سبحانه واجب الوجود لاستغنى عن العلّة والخالق ولترفّع عن حيز الإمكان ، والمفروض خلافه.

3 - يونس / 68 :

( قَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .

وهذه الآية تشتمل على مثل ما اشتملت عليه الآيات السابقة وإليك تفصيل جملها.

أ - ( سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) : وقد عرفت أنّ إتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لاستعانة به في أيّام الكهولة أو لبسط نفوذ الشخصية ، واللّه غني عن الجميع.

ب - ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) : وفيه إشارة إلى أنّ كل ما في الكون مقهور ومسخّر فكيف يكون شيء منه ولداً له مع لزوم المماثلة بين الولد والوالد.

ج - ( إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) : وهو إشارة اُخرى إلى أنّه إنّما تبنّوا هذه الفكرة تقليداً بلا علم وبرهان ، وقد تقدّم في الآيات السابقة ( بغير علم سبحانه ).

4 - الكهف / 4 و 5 :

( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا * مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ) .

ص: 251

وفي هذه الآية إكتفاء ببرهان واحد وهو أنّ القوم يتفوّهون بذلك بلا علم لهم ولا لآبائهم.

5 - مريم / 35 :

( مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) وفي الآية إشارة إلى برهانين أحدهما قوله ( سُبْحَانَهُ ) والثاني ( إِذَا قَضَى ) ، وقد مرّ تفسيرهما فلا نعيد.

6 - مريم / 88 - 95 :

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ) .

( لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ) .

( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ) .

( أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ) .

( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) .

( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) .

( لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ) .

( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) .

وقد ركّزت الآيات على برهانين :

أحدهما قولهُ : ( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) وهذه الجملة واقعة مكان لفظة ( سُبْحَانَهُ ) في الآيات السابقة.

وثانيهما : قوله : ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) وهو يفيد نفس ما يفيده قوله : ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) في الآيات السابقة والمعنى بعد التطبيق واضح ومحصّله أنّ من في الكون عبد

ص: 252

مسخّر لله سبحانه ، وهو لا يجتمع مع كون واحد منهم ولداً له ، لأنّه يقتضي المماثلة والمشاركة في الوجوب والإستغناء عن العلّة مع أنّ المفروض كونه ممكناً.

7 - الأنبياء / 26 و 27 :

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) .

( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

فلفظة ( سُبْحَانَهُ ) مشيرة إلى أنّ اتّخاذ الولد ملازم للنقص والعيب وهو سبحانه منزّه عنه.

وقوله : ( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) إشارة إلى ما مرّ من أنّ العبودية لا تجتمع مع البنوّة لأنّ مقتضى البنوّة ، المشاركة والمسانخة مع الوالد في الطبيعة ، والمفروض وجوب وجود الوالد فيكون الولد واجباً وهو محال.

8 - المؤمنون / 91 :

( مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ) .

والآية تشير إلى أنّ اتّخاذ الولد ينافي التوحيد والوحدانية لأنّ الولد يجب أن يكون مماثلاً للوالد على نحو ما مرّ ذكره وعندئذ يكون إلهاً مثله ، والمفروض أنّه ليس معه إله.

9 - الزمر / 4 :

( لَّوْ أَرَادَ اللّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) .

وفي الآية إشارة إلى دحض تلك العقيدة المنحرفة باُمور ثلاثة :

أ - ( سُبْحَانَهُ ) .

ص: 253

ب - ( الْوَاحِدُ ) .

ج - ( الْقَهَّارُ ) .

أمّا الأوّل : فدلالته على نفي البنوّة مثل الآيات السابقة.

وأمّا الثاني : أعني كونه واحداً ، فهو يدلّ على نفي البنوّة لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم المماثلة بين الأب والولد ، فيلزم تعدّد الإله وواجب الوجود.

وأمّا الثالث : أعني كونه قهّاراً وغيره مقهوراً عليه فدلالته مثل دلالة قوله : ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) وقوله : ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) وقوله : ( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) وذلك لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم أن يكون له مماثل من ذاته لأنّ الولد يماثل الوالد في النوعية والطبيعة فيلزم أن يكون الولد واجب الوجود ، والمفروض أنّه مقهور ومسخّر لله سبحانه.

وأنت إذا قارنت هذه الآيات بعضها ببعض لوقفت على أنّ الجميع في المادة والمعنى وكيفيّة الإستدلال مصبوب في قالب واحد بينها كمال الإئتلاف والتناسب ، والعبارات الواردة في المقام وإن كانت مختلفة المواضع ولكنّ المؤدّى والمعنى واحد ، وتلك الآيات نزلت على النبيّ في ظروف مختلفة وأجواء متباينة والنبيّ لم يزل بين كونه منهمكاً في الحرب وهادئ البال في الصلح والسلم ومع ذلك يتكلّم على نسق واحد مع كونه أمّيّاً لم يقرأ قطّ ولم يكتب. صدق اللّه العليّ العظيم حيث قال : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء / 82 ).

قسمة ضيزي :

ومن عجائب اُمورهم أنّهم اتّخذوا لأنفسهم البنين ونسبوا إلى اللّه عزّ وجلّ الإناث من الملائكة ، قال سبحانه : ( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا ) ( الإسراء / 40 ).

ص: 254

وقال تعالى : ( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ) ( الزخرف / 16 ).

وقال تعالى : ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ) ( النجم / 21 - 22 ).

ثمّ إنّه سبحانه أبطل ادّعاءهم بكون الملائكة إناثاً وقال : ( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) ( الزخرف / 19 ) فكيف يدّعون ما لم يشهدوه ؟!

إلى هنا تمّ حوار القرآن مع اليهود والنّصارى في اتّخاذه سبحانه ولداً من الإنس والجنّ والملائكة ، وقوّة البرهان القرآني وإتقانه وتعاضد بعضه بعضاً يدلّ على أنّه وحي إلهي نزل به الروح الأمين على قلبه ، وأنّى للإنسان الغارق في الحياة البدائيّة أن يأتي بمثل ذلك لولا كونه مسدّداً بالوحي ، مؤيّداً بالمدد الغيبي منه سبحانه.

وإليك بقية المناظرات الواردة في القرآن الكريم.

اليهود ونقض المواثيق والعهود

اشارة

حطّ النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله رحاله بالمدينة ، والتفّ حوله الأوس والخزرج ، ففشى أمر الإسلام وشاع خبره وذكره بين الناس والقبائل القاطنة بأطراف المدينة ، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار لليهود ينبئ عن إقتراب اُفول شوكتهم في المدينة وما والاها بل في شبه الجزيرة العربية برمّتها.

وكانت اليهود في سابق عهدها تفتخر على سائر الاُمم بأنّها تقتفي أثر التوحيد وأنّ لهم كتاباً سماويّاً يجمع بين دفّتيه الأحكام الإلهية ، ولكنّ تلك المفخرة أو شكت أن تذهب أدراج الرياح بدعوة النبيّ الأكرم الناس كافّة إلى التوحيد الأصيل ونزول القرآن عليه ، فما كانت لهم بعد إذ ذاك ميزة يمتازون بها على العرب.

وكانت اليهود لفرط حبّهم للدنيّا وزبرجها تمكّنوا من السيطرة على مقاليد أزّمة

ص: 255

إدارة التجارة ، وكان وجود الشّقة السحيقة بين الأوس والخزرج ، والنزاعات القبلية بينهما ، خير معين للإنفراد بإدارة دفّة القوافل التجارية ، غير أنّ تلك الأرضية التي فسحت لهم المجال لتسلّم زمام التجارة فيما مضى كادت تنعدم بالاُخوّة الإسلامية التي جاء بها الإسلام ، فصار المتصارعان متصافيين متآخيين متآلفين في مقابل اليهود واطماعهم.

كلّ ذلك صار سبباً لتحفيز اليهود لإثارة الشبهات حول رسالة الرسول الأكرم وبثّ السموم وتشوية معالم الرسالة الجديدة ليضعضعوا أركان الإيمان الفتي في قلوب المؤمنين بالإسلام ، وقد غاب عن خلدهم أنّ سنّة اللّه الحكيمة تتكفّل بنصر رسله. قال سبحانه :

( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر / 51 ).

وإليك نماذج من أسئلتهم وشبهاتهم التي أثاروها حول الرسالة النبويّة :

1 - إفشاء علائم النبوّة :

إنّ أوّل خطوة خطوها لأجل إيقاف مدّ الصحوة الدينية والإيمان برسالة النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله هو إصدار مرسوم يقضي بكتمان علائم نبوّته التي وردت في التوراة حتى لا تقع للمسلمين ذريعة يتمسّكون بها ضدّهم في عزوفهم عن قبول الدعوة ، وهذا ما يحكي عنه الذكر الحكيم بقوله :

1 - ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( البقرة / 76 ).

وروي عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال : كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمد صلی اللّه علیه و آله فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا : لاتخبروهم بما

ص: 256

في التوراة من صفة محمد صلی اللّه علیه و آله فيحاجّوكم به عند ربّكم (1).

وردّ سبحانه عليهم بقوله : ( أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) ( البقرة / 77 ) فاللّه سبحانه يحتجّ بكتابهم عليهم سواء تفوّهوا بسمات النبيّ الأكرم المذكورة في التوراة أم لم يتفوّهوا بها على الرّغم من أنّهم كانوا يستفتحون ويستنصرون على الأوس والخزرج برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل مبعثه فلمّا بعثه اللّه من بين العرب ولم يكن من بني إسرائيل ، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء ابن معرور : يا معشر اليهود اتّقوا اللّه واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك ، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث ، فقال سلام بن مثكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنّا نذكر لكم ، فأنزل اللّه تعالى قوله :

( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 89 ).

2 - السؤال عن الروح الأمين :

إنّ نفراً من أحبار اليهود جاءوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالوا : يا محمداً أخبرنا عن أربع نسألك عنهنّ ، فإن فعلت ذلك اتّبعناك وصدّقناك وامنّا بك ، فقال لهم رسول اللّه : عليكم بذلك عهد اللّه وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدّقنّني ؟ قالوا : نعم ، قال : فسألوا عمّا بدا لكم ... وممّا سألوا عنه نوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقالوا : كيف نومك ؟ فقال : تنام عيني وقلبي يقظان. قالوا : فأخبرنا عمّا حرّم إسرائيل على نفسه ؟ قال : حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها ، فصدّقوه في الإجابة عن هذاين السؤالين ، ثمّ قالوا له : فأخبرنا عن الروح ،

ص: 257


1- مجمع البيان : ج 1 ص 286 ( طبع بيروت ).

قال : أنشدكم باللّه وبأيّامه عند بني إسرائيل هل تعلمونه جبرئيل وهو الذي يأتيني ؟ قالوا : اللّهم نعم ، ولكنّه يا محمد لنا عدوّ وهو ملك إنّما يأتي بالشدّة وسفك الدماء ولولا ذلك لاتّبعناك ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فيهم : ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 97 و 98 ) (1).

وما ذكرنا من شأن النزول يؤيّد ما ذكرناه سابقاً من أنّ المقصود من الروح في قوله سبحانه : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) ( الإسراء / 85 ) هو الروح الأمين لا الروح الإنسانية ، وأنّ ما اُثير حولها في التفاسير المختلفة مبني على تفسير الروح بالروح الإنسانية وهو غير صحيح.

وعلى أي تقدير فنصب العداء لجبرئيل نصب للعداء له سبحانه ، لأنّ جبرئيل مأمور من جانبه ومبلّغ عنه هو وجميع الملائكة : ( لاَّ يَعْصُونَ اللّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم / 6 ).

3 - إنكار نبوّة سليمان علیه السلام :

إنّ رسول اللّه لمّا ذكر سليمان بن داود في المرسلين ، قال بعض أحبارهم : ألا تعجبون من محمد صلی اللّه علیه و آله يزعم أنّ سليمان بن داود كان نبيّاً ، واللّه ما كان إلاّ ساحراً ، فأنزل اللّه تعالى في ذلك : ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ( البقرة / 102 ) (2).

ص: 258


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 543. مجمع البيان : ج 2 ص 324 ( طبع بيروت ).
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 540. مجمع البيان : ج 2 ص 336 ( طبع بيروت ).
4 - كتابه إلى يهود خيبر :

كتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى يهود خيبر بكتاب جاء فيه :

بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمد رسول اللّه صاحب موسى وأخيه والمصدّق لما جاء به موسى على أنّ اللّه قد قال لكم يا معشر أهل التوراة ، وأنّكم لتجدون ذلك في كتابكم : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) .

وإنّي انشدكم باللّه ، وانشدكم بما أنزل عليكم وانشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى ، وانشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله إلاّ أخبرتموني : هل تجدون فيما أنزل اللّه عليكم أن تؤمنوا بمحمد ؟ فإن كنتم لا تجدوني ذلك في كتابكم فلا كره عليكم ( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) فأدعوكم إلى اللّه والى نبيّه (1).

5 - إنكار أخذ الميثاق منهم :

إنّ أحد أحبار اليهود قال لرسول اللّه : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل اللّه عليك من آية بيّنة فنتّبعك لها ، وقد كانوا ينكرون العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبيّ الاُمّي ، فأنزل اللّه سبحانه في ردّهم : ( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة / 99 و 100 ).

ص: 259


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 544 - 545.

ولفظة « كلّما » تفيد التكرّر فيقتضي تكرّر النقض منهم (1).

6 - الإقتراحات التعجيزيّة :

وقد كان اليهود قد تقدّموا بإقتراحات تعجيزيّة على غرار ما بدر من المشركين فقد سألت العرب محمداً صلی اللّه علیه و آله أن يأتيهم باللّه فيروه جهرة ، فنزل قوله سبحانه : ( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) ( البقرة / 108 ).

وقال رافع بن حريملة لرسول اللّه : يا محمد إن كنت رسولاً من اللّه كما تقول فقل لله فيكلّمنا حتى نسمع كلامه ، فنزل قوله سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (2).

7 - تنازع اليهود والنصارى عند الرسول صلی اللّه علیه و آله

لمّا قدم أهل نجران من النصارى على رسول صلی اللّه علیه و آله أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال رافع بن حريملة : ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى وبالإنجيل ، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء ، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة ، فأنزل اللّه في ذلك قولهم :

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( البقرة / 113 ).

ص: 260


1- مجمع البيان : ج 1 ص 327.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 549.

فقوله سبحانه ( وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ) إشارة إلى أنّ كلاّ من الفريقين يتلو في كتابه تصديق ما كفر به ، أي كفر اليهود بعيسى بن مريم وعندهم التوراة فيما أخذ اللّه عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى ، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى علیه السلام من تصديق موسى علیه السلام وما جاء به من التوراة من عند اللّه وكل يكفر بما في يد صاحبه.

وقوله سبحانه : ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) إشارة إلى أنّ مشركي العرب الذّين هم جهّال وليس لهم كتاب ، هكذا قالوا لمحمد صلی اللّه علیه و آله وأصحابه : إنّهم ليسوا على شيء من الدين مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض (1).

وربمّا بلغ تجاسرهم بساحة النبي صلی اللّه علیه و آله ، فطلبوا منه أن يقتدي بإحدى الشريعتين ، قال ابن عباس : إنّ جماعة من اليهود ونصارى نجران ذمّوا أهل الإسلام ، كل فرقة تزعم أنّها أحق بدين اللّه من غيرها ، فقالت اليهود : نبيّنا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب ، وقالت النصارى : نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وكل فريق منهما قالوا للمؤمنين كونوا على ديننا ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، وقيل : إنّ ابن صوريا قال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما الهدى إلاّ ما نحن عليه فاتّبعنا تهتدِ ، وقالت النصارى مثل ذلك ، فأنزل اللّه هذه الآية. ( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ) .

فرّد اللّه عليهم بقوله : ( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( البقرة / 135 ).

8 - التشبّث بالكلمات المتشابهة :

كان اليهود لا يألون جهداً في إثارة القلاقل والفتن والإستهزاء بالنبيّ إلى حدّ

ص: 261


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 549 ، ومجمع البيان : ج 1 ص 359.

يصرّون على إستعمال الكلمات المشتركة بين المعنى الحسن والمعنى القبيح.

فعلى سبيل المثال عندما كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يتحدّث ، كان المسلمون يطلبون منه التأنّي في التحدّث فيقولون « راعنا » بمعنى أمهلنا مشتق من مادّة « رعى » ، فحرّفت اليهود هذه اللفظة ، فقالوا يا محمد راعنا ، وهم يلحدون إلى الرعونة يريدون به النقيصة والوقيعة ومعناه « حمّقنا » ، ولأجل ذلك وافى الوحي وأمر أن يتركوا هذه الكلمة ويستعملوا مكانه « انظرنا » قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( البقرة / 104 ).

وقال العلاّمة الطباطبائي في الآية نهي شديد عن قول « راعنا » وهذه الكلمة ذكرتها آية اُخرى وبيّنت معناها في الجملة وهي قوله تعالى : ( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) ( النساء / 46 ).

ومنه يعلم أنّ اليهود كانوا يريدون بقولهم للنبيّ صلی اللّه علیه و آله راعنا نحواً من معنى قوله : ( اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) ، ولذلك ورد النهي عن خطاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك وحينئذ ينطبق على ما نقل : إنّ المسلمين كانوا يخاطبون النبيّ صلی اللّه علیه و آله بذلك إذا ألقى إليهم كلاماً يقولون « رَاعِنَا يَا رَسُولَ اللّه » يريدون أمهلنا وانظرنا حتّى نفهم ما تقول ، وكانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم ، فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبيّ صلی اللّه علیه و آله بذلك يظهرون التأدّب معه وهم يريدون الشتم ، ومعناه عندهم : اسمع لا أسمعت ، فنزل : ( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا ... ) ونهى اللّه المؤمنين عن الكلمة وأمرهم أن يقولوا ما في معناه وهو : انظرنا ، فقال : ( لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا ) (1).

ص: 262


1- الميزان : ج 1 ص 248.
9 - كتمان الحقائق :

سأل معاذ بن جبل ، وسعد بن معاذ ، وخارجة بن زيد ، نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة ، فكتموهم وأبوا أن يخبروهم عنه ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) ( البقرة / 159 ) (1).

ولو أنّ أحبار اليهود مثل كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وابن صوريا وغيرهم من علماء النصارى بيّنوا للناس ما ورد في التوراة والإنجيل من أوصافه صلی اللّه علیه و آله لعمّ الإسلام شرق العالم وغربه ويا للأسف رجّحوا الإحتفاظ بمناصبهم على ثواب الآخرة.

10 - النبيّ الأكرم وبيت المدارس :

دخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيت المدارس (2) على جماعة من اليهود فدعاهم إلى اللّه ، فقال لهم النعمان بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ قال على ملّة إبراهيم ودينه ، قال : فإنّ إبراهيم كان يهوديّاً. فقال لهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فهلمّا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم. فأبيا عليه ، فأنزل اللّه تعالى فيهما : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) ( آل عمران / 23 و 24 ).

وقد رووا أنّ أحبار اليهود ونصارى نجران إجتمعوا عند رسول اللّه ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلاّ يهوديّاً ، وقالت النصارى من أهل نجران : ما كان إبراهيم

ص: 263


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 551.
2- بيت المدارس : هو بيت اليهود يتدارسون فيه كتابهم.

إلاّ نصرانيّاً ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فيهم : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 65 - 68 ) (1).

إنّ ادّعاءهم بأنّ إبراهيم علیه السلام كان يهوديّاً أو نصرانيّاً نابع عن جهلهم المطبق بحياة إبراهيم ، فكيف يكون إبراهيم يهوديّاً أو نصرانيّاً وهو والد إسحاق الّذي هو والد يعقوب المعروف بيهودا فما ظنّك بكونه نصرانيّاً ؟

11 - الإيمان غدوة والكفر عشيّة :

لمّا رأت اليهود أنّ الإسلام ينتشر شيئاً فشيئاً فحاولوا تشويه سمعته بالتظاهر بالإنتماء إلى الإسلام صباحاً والخروج عنه عشيّة حتّى يلبسوا على المسلمين دينهم ويصيروا مثلهم ، فقال جماعة منهم : تعالوا نؤمن بما اُنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشيّة حتّى نلبس عليهم دينهم لعلّهم يصنعون كما نصنع ويرجعون عن دينه ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( آل عمران / 71 - 73 ).

12 - إتّهام النبيّ بأنّه يُؤَلِّهُ نفسه :

اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول اللّه ( صلى اللّه

ص: 264


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 553.

عليه وآله وسلم ) فدعاهم إلى الإسلام ، فقالوا : أتريد منّا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ وقال رجل من أهل نجران : أو ذاك تريد منّا يا محمد ؟ وإليه تدعونا ؟ فقال رسول اللّه : معاذ اللّه أن أعبد غير اللّه أو آمر بعبادة غيره فما بذلك بعثني اللّه ولا أمرني. فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهما : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ( آل عمران / 79 و 80 ).

ومحصّل ما يستفاد من الآية إنّ البشر الذي آتاه اللّه تعالى الكتاب والحكم والنبوّة كائناً من كان - عيسى كان اُم محمد - إنّما يدعوكم إلى التلبّس بالإيمان واليقين بما في الكتاب الذي تعلّمونه وتدرسونه من اُصول المعارف الإلهيّة والإتّصاف بالملكات والأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها والعمل بالصالحات حتى تنقطعوا بذلك إلى ربّكم وتكونوا به علماء ربّانيين.

ثمّ إنّ الربّاني منسوب إلى الرب ، زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال « لحياني » لكثير اللحية ونحو ذلك ، فمعنى الربّاني شديد الإختصاص بالرب وكثير الإشتغال بعبوديّته وعبادته (1).

13 - سعيهم للوقيعة بين الأنصار :

نزل النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله مدينة يثرب فوجد الأوس والخزرج في شقاق ، فآخى بينهما وجعل الجميع صفّاً واحداً في وجه اليهود ، فشقّ ذلك على الكافرين فحاولوا جاهدين أن يشقّوا عرى وحدتهم بوسائل مختلفة ، فمرّ شاس بن قيس - وكان شيخاً عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد

ص: 265


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 554 ، الميزان : ج 3 ص 276.

الحسد عليهم - على نفر من أصحاب رسول اللّه من الأوس والخزرج ، في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه فغاظه ما رأى من ألفهم وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية ، وقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذا البلاد ، لا واللّه ما لنا معهم إذا إجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتىً شابّاً من اليهود كان معهم ، فقال : أعمد إليهم ، فاجلس معهم ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقوّلوا فيه من الأشعار ، ففعل ذلك الشاب ، فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين ... فبلغ ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين ! اللّه اللّه ! أبدعوى الجاهلية ، وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم اللّه للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم ، فعرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدوّهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ثمّ انصرفوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سامعين مطيعين قد أطفأ اللّه عنهم كيد عدوّ اللّه شاس بن قيس ، فأنزل اللّه تعالى في شاس بن قيس وما صنع : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / 98 و 99 ) (1).

14 - الحط من شأن مَنْ آمن من اليهود :

قد سبق وأن عرفت أنّ اليهود كانوا - وما زالوا - أكثر تعصّباً لقوميتهم ودينهم ولأجل ذلك لم يدخل منهم في الإسلام إلاّ الأقل القليل مثل عبد اللّه بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود معهم ، فخاف الملأ من اليهود أن يدخل الإسلام في سائر البيوت ، فنشروا بينهم : ما آمن بمحمد ولا اتّبعه إلاّ شرارنا ولو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره ،

ص: 266


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 556.

فأنزل اللّه تعالى في ذلك : ( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) ( آل عمران / 113 ).

15 - دعوة المسلمين إلى البخل :

كان الإسلام ينتشر صيته في الربوع والآفاق بفضل ما كان يمتلكه من مبادئ سامية وقيم مثالية وإيثار معتنقيه النفس والنفيس ، فشق ذلك على اليهود فحاولوا خداع المسلمين حتّى يصدّوهم عن البذل في سبيل نصرة الدعوة المحمدية وخوّفوهم بحلول القحط.

قال ابن هشام : كان رجال من اليهود يأتون رجالاً من الأنصار يخالطونهم ينتصحون لهم من أصحاب رسول اللّه ، فيقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم فإنّنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنّكم لا تدرون على ما يكون ، فأنزل اللّه فيهم : ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) ( النساء / 37 ).

16 - تفضيلهم الوثنية على الإسلام :

كانت فكرة تأليب العرب هي الفكرة التي إختمرت في نفوس يهود المدينة خصوصاً بعد غزوة بدر واحد ، فخرجوا من المدينة نازلين بمكة ، فقالت قريش لليهود : يا معشر اليهود إنّكم أهل الكتاب الأوّل وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفَديننا خير أم دينه ؟ قالت اليهود : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه ، فنزل القرآن ردّاً عليهم بقوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ) ( النساء / 51 و 52 ).

وفي موقف اليهود هذا من قريش وتفضيلهم وثنيّتهم على توحيد

ص: 267

محمد صلی اللّه علیه و آله يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ) :

« كان من واجب هؤلاء ألاّ يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش وألاّ يصرّحوا أمام زعماء قريش بأنّ عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي ولو أدّى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطالبهم لأنّ بني إسرائيل الّذين كانوا مدّة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الاُمم الوثنية بإسم الآباء الأقدمين والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم باله واحد في عصور شتّى من الأدوار التاريخية ، كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين ، هذا فضلاً عن أنّهم بإلتجائهم إلى عبدة الأصنام إنّما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام وبالوقوف منهم موقف الخصومة » (1).

17 - إدّعاؤهم أنّهم أحبّاء اللّه وأصفياؤه :

أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جماعة من اليهود فكلّموه وكلّمهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ودعاهم إلى اللّه وحذّرهم نقمته ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( المائدة / 18 ).

18 - إنكارهم نزول كتاب بعد موسى :

دعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اليهود إلى الإسلام ورغّبهم فيه ، وحذّرهم غِيرَ اللّه وعقوبته ، فأبوا عليه وكفروا بما جاءهم به ، فقال لهم معاذ بن

ص: 268


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 562 ، حياة محمد صلی اللّه علیه و آله لهيكل ، ص 328 - 329.

جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب : يا معشر اليهود إتّقو اللّه فواللّه إنّكم لتعلمون أنّه رسول اللّه ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته ، فقال بعضهم : ما قلنا لكم هذا قط وما أنزل اللّه من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده ، فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهما :

( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( المائدة / 19 ) (1).

19 - رجوعهم إلى النبيّ في حكم الرجم :

إنّ أحبار اليهود إجتمعوا في بيت المدارس ، حين قدم رسول اللّه المدينة وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من اليهود قد أحصنت ، فقالوا : إبعثوا بهذا الرّجل وهذه المرأة إلى محمد فسلوه كيف الحكم فيهما ، وولّوه الحكم عليهما فإن عمل فيهما بعمل من التجْبية فاتّبعوه (2) فإنّما هو ملك وصدّقوه ، وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنّه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه ، فأتوه فقالوا : يا محمد ! هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما ، فقد ولّيناك الحكم فيهما ، فمشى رسول اللّه حتّى أتى أحبارهم في بيت المدارس ، فقال : يا معشر اليهود ! أخرجوا إليّ علماؤكم ، فاُخرج له عبد اللّه بن صوريا وغيره ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا ، وقالوا : إنّ عبد اللّه ابن صوريا أعلم من بقى بالتوراة ، فخلي به رسول اللّه وكان غلاماً شابّاً من أحدثهم سنّاً ، فألحّ رسول اللّه عليه المسألة وقال له : أنشدك اللّه واُذكّرك بأيّامه عند بني إسرائيل ، هل تعلم أنّ اللّه حكم في من زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة ؟

ص: 269


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 563 - 564.
2- الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ثمّ تسوّد وجوههما ، ثمّ يحملان على حمارين وتجعل وجوهها من قبل ادبار الحمارين.

قال : اللّهم نعم ! أما واللّه يا أبا القاسم إنّه ليعرفونك أنّك لنبيّ مرسل ولكنّهم يحسدونك ، فخرج رسول اللّه فأمر بهما فرجما في باب مسجده ، ثمّ كفر بعد ذلك ابن صوريا وجحد نبوّة رسول اللّه ، فأنزل اللّه سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة / 41 و 42 ).

ونقل ابن هشام عن ابن إسحاق : إنّه لما حكّموا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيهما ، دعاهم بالتوراة وجلس حبر منهم يتلوها وقد وضع يده على آية الرجم ، فضرب عبد اللّه بن سلام يد الحبر ثمّ قال : هذه يا نبيّ اللّه آية الرجم يأبى أن يتلوها عليك ، فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ويحكم يا معشر يهود ! ما دعاكم إلى ترك حكم اللّه وهو بأيديكم ؟ قال : « فقالوا أما واللّه أنّه قد كان فينا يعمل به ، حتّى زنى رجل منّا بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف فمنعه الملك من الرّجم ثمّ زنى رجل بعده فأراد أن يرجمه فقالوا : لا واللّه حتّى ترجم فلاناً ! فلمّا قالوا له ذلك إجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية وأماتوا ذكر الرجم ، والعمل به ». قال : فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فأنا أوّل من أحيا أمر اللّه وكتابه وعمل به ، ثمّ أمر بهما فرجما عند باب مسجده ، قال عبد اللّه بن عمر : فكنت فيمن رجمهما (1).

ص: 270


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 566.
20 - ظلمهم في الديّة :

كانت قبيلة بني النضير يؤدّون الديّة كاملة وبنو قريظة كانوا يؤدّون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول اللّه ، فنزل قوله سبحانه : ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة / 42 ).

فحملهم رسول اللّه على الحق ذلك وجعل الديّة سواء.

21 - قصدهم الفتنة برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

قال جماعة من اليهود : اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه فإنّما هو بشر ، فأتوه فقالوا له : « يا محمد إنّك قد عرفت انّا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم وإنّا إن إتّبعناك إتّبعتك اليهود ولم يخالفنا وإنّ بيننا وبين بعض قومنا خصومة أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدّقك ؟ » فأبى ذلك رسول اللّه ، فأنزل اللّه فيهم : ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ( المائدة / 49 و 50 ).

22 - إنكار نبوّة المسيح :

مناصبة اليهود العداء للمسيحيين لها جذور متأصّلة في التاريخ فمذ أعلن المسيح بنبوّته ورسالته قامت اليهود في وجهه وأنكروا رسالته ، يقول سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ( الصف / 6 ).

نعم نرى اليوم تحالف اليهود مع المسيحيين لضمان المصالح المشتركة التي

ص: 271

على رأسها وأهمّها القضاء على الإسلام وإبعاده عن المجتمع والحياة ، ولأجل ذلك نرى أنّ البابا قام مؤخّراً بزيارة الكنيست اليهودي في روما وأعلن خلال زيارته له براءة اليهود من دم المسيح من أجل توحيد الصف ودعم الجهود الكفيلة بالقضاء على المسلمين ودينهم ، ولكنّهم في الواقع والحقيقة لا زالوا يكنوّن نفس العداء التاريخي المتأصّل في نفوسهم.

روي أنّ نفراً من اليهود أتوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسألوه عمّن يؤمن به من الرّسل ؟ فقال : اُؤمن باللّه ، فعند ذاك جحدوا نبوّة المسيح وقالوا واللّه ما نعلم أهل دين قطّ أخطأ في الدّنيا والآخرة منكم ولا ديناً شرّاً من دينكم ، فأنزل اللّه : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ) ( المائدة / 59 ) (1).

23 - إشراكهم باللّه عزّ وجلّ :

إنّ العصبية العمياء ربّما تبلغ بالإنسان حدّاً ينكر ما كان يدين به هو وقومه طيلة قرون إنصرمت ، فهؤلاء اليهود المعاصرون كانوا يفتخرون ويتمجّدون بدين التوحيد ، وأنّهم ضحّوا في سبيله نفسهم ونفيسهم ، ولكنّهم لمّا رأوا أنّ النبيّ الأكرم يدعو إلى هذا المبدأ ، ويتّخد منه الحجر الأساس لدعوته ، عادوا ينكرونه ويروّجون الشرك تشفّياً لغيظهم وحنقهم.

أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جماعة من اليهود فقالوا له : يا محمد أما تعلم مع اللّه إله غيره ؟ فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اللّه لا إله إلاّ هو بذلك بعثت وإلى ذلك أدعوا » ، فأنزل اللّه فيهم وفي قولهم : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي

ص: 272


1- السيرة الحلبية : ج 1 ص 567 ، مجمع البيان : ج 3 ص 329 ( طبع بيروت ).

بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام / 19 ) (1).

24 - سؤالهم عن محين الساعة :

تعلّقت مشيئته الحكيمة بكتمان وقت الساعة ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ( لقمان / 34 ) ، ومع ذلك جاء جماعة من اليهود قالوا : أخبرنا متى تقوم الساعة إن كنت نبيّاً ، فنزل قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأعراف / 187 ).

ولم يكن هذا السؤال إلاّ تعنّتاً وعناداً لأنّهم هم الذين ذكروا لقريش : إسألوا محمداً عن وقت الساعة فإن خوّل علمها إلى اللّه سبحانه فاعلموا أنّه نبي ... (2).

هذه نماذج من مناظراتهم ومشاغباتهم التي تنم عن مبلغ لجاجهم وعنادهم وممّا يصوّر لك طبيعتهم.

25 - تهجّمهم على ذات اللّه عزّو جل :

أتى رهط من اليهود إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالوا : يا محمّد هذا اللّه خلق الخلق ، فمن خلق اللّه ؟ فغضب رسول اللّه حتّى انتقع لونه ثمّ ساورهم (3) غضباً لربّه ، فجاءه جبرئيل علیه السلام فسكّنه فقال : خفّض عليك يا محمد وجاءه عن اللّه بجواب ما سألوه عنه : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

ص: 273


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 568.
2- قد ذكرنا تفصيل القصّة في ص 199 - 201.
3- ساورهم : واثبهم وباطشهم.

فلمّا تلاها عليهم ، قالوا : فصف لنا يا محمد كيف خلقه ( اللّه ) ، كيف ذراعه ، كيف عضده ؟ فغضب رسول اللّه أشدّ من غضبه الأوّل وساورهم ، فأتى جبرئيل فقال له مثل ما قال له أوّل مرّة ، وجاءه من اللّه تعالى بجواب ما سألوه يقول اللّه تعالى : ( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الزمر / 67 ).

26 - طلبهم كتاباً من السماء :

إنّ اليهود كانت جاهلة بحكمة نزول القرآن تدريجيّاً وقد ورد النص بها في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان / 32 ).

إنّ في نزول القرآن تدريجيّاً منجّماً حسب الوقائع والأحداث لدلالة واضحة على أنّه وحي إلهي ينزل شيئاً فشيئاً حسب الحاجات وليس شيئاً متعلّماً عن ذي قبل من إنس أو جن ، ولكن جهل اليهود بحكمته دعاهم إلى أن يطلبوا عن رسول اللّه نزول القرآن جملة واحدة من السماء حتّى يروا باُمّ أعينهم أنّه كتاب سماوي اُنزل من عند اللّه سبحانه وهم يضاهئون في هذا الإقتراح قول المشركين في مكّة (1).

أتى جماعة من اليهود رسول اللّه ، فقالوا : يا محمد ! إنّ هذا الذي جئت به لحقّ من عند اللّه فإنّا لا نراه متّسقاً كما تتّسق التوراة ؟ فقال لهم رسول اللّه : أما واللّه لأنّكم لتعرفون أنّه من عند اللّه تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ولو إجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله ما جاءوا به ، فقالوا : يا محمّد أما يعلّمك هذا إنس ولا جن ؟ فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أما واللّه إنّكم تعلمون أنّه من عند اللّه وإنّي لرسول اللّه تجدون ذلك مكتوباً عندكم في التوراة ، فقالوا : يا محمد فإنّ اللّه يصنع لرسول إذا بعثه ما يشاء ويقدر منه على ما أراد ، فأنزل علينا كتاباً من السماء

ص: 274


1- الإسراء / 93 ، وقد مضى تفسيرها.

نقرؤه ونعرفه وإلاّ جئناك بمثل ما تأتي به ، فأنزل اللّه تعالى فيهم وفيما قالوا : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء / 88 ).

27 - تحويل القبلة إلى الكعبة :

كان النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله يصلّي إلى بيت المقدس في المدينة المنوّرة إلى سبعة عشر شهراً (1) من الهجرة ، وكانت اليهود تعيّر المسلمين على تبعيّة قبلتهم ويتفاخرون بذلك عليهم ، فحزن رسول اللّه ذلك فخرج في سواد الليل يقلّب وجهه في السماء ينتظر الوحي من اللّه سبحانه وكشف همّه ، فنزل الوحي بقبلة جديدة ، فقطع تعييرهم وتفاخرهم ، قال سبحانه : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة / 144 ).

وروى الصدوق أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله صلّى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة وتسعة عشر شهراً بالمدينة ثمّ عيّرته اليهود ، فقالوا : إنّك تابع قبلتنا فاغتمّ لذلك غمّا شديداً ، فلمّا كان في بعض الليل خرج يقلّب وجهه في آفاق السماء فلمّا أصبح صلّى الغداة فلمّا صلّى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ ... ) ثمّ أخذ بيد النبي فحوّل وجهه إلى الكعبة وحوّل من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال ، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة ، فبلغ الخبر مسجداً بالمدينة وقد صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو القبلة ، فكان أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فسمّي

ص: 275


1- وفي رواية الفقية كما سيوافيك تسعة عشر شهراً.

ذلك المسجد مسجد القبلتين (1).

وقد أثار هذا الأمر أسئلة واعتراضات من جانب اليهود بل المؤمنين أنفسهم وجاء الذكر الحكيم مجيباً عنها بما يلي :

1 - أتى جماعة من اليهود مثل رفاعة بن قيس وكعب بن الأشرف وغيرهما فقالوا : يا محمد ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنّك على ملّة إبراهيم ودينه أرجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتّبعك ونصدّقك. وإنّما يريدون بذلك فتنته عن دينه ، وهذا هو الإعتراض الذي يتناوله الوحي مشفوعاً بالجواب : ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ) وبعبارة اُخرى إنّ التحوّل كان بأمر من اللّه فكيف يأمر به مع انّه هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه وينسخ ما شرعه ( واليهود من القائلين بامتناع النسخ ) وإن كان بغير أمر اللّه فهو إنحراف عن الصراط المستقيم.

وأمّا الجواب فهو إنّ جعل بيت من البيوت أو بناء من الأبنية قبلة ليس لاقتضاء ذاتي فيه يستحيل التعدّي عنه ، بل جميع الأجسام والأبنية بل جميع الجهات من الشرق والغرب إليه سبحانه على السواء يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى شاء ، وانّ الإعتراض نابع من قلّة عقلهم أو عدم إستقامته في درك حقيقة التشريع.

وإلى هذا الجواب يشير قوله سبحانه : ( قُل للهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( البقرة / 142 ).

2 - لمّا كان المقدّر أن تكون الكعبة هي القبلة الأخيرة فما هو السبب في جعل بيت المقدس قبلة اُولى للمسلمين ؟

والجواب : إنّ المصالح كانت تقتضي أن يصلّي المسلمون إلى القبلة الاُولى في مكّة والمدينة في أوائل البعثة وأوائل الهجرة وذلك لأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله في مكّة المكرمة وبعد الهجرة بقليل كان مبتلى بالمشركين الذين

ص: 276


1- من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 178 ج 3.

لا يصلّون لله سبحانه ولا يعبدونه وإنّما يعبدون الأوثان والأصنام ، فعندئذٍ أمر النبي بالصلاة إلى بيت المقدس ( الذي كان الموحّدون من اليهود والنصارى يصلّون إليه ) حتّى يتميّز الموحّدون عن المشركين ويكون ذلك سمة التوحيد وعلامته ، فكانت الصلاة إلى بيت المقدس وسيلة لتميّز الموّحدين عن المشركين.

ولمّا كانت العرب شديدة الاُلفة بمكّة وقبلتها فأحبّ اللّه تعالى أن يمتحن القوم بغير ما ألفوا ليميّز من يتّبع الرسول عمّن ينقلب على عقبيه.

ولأجل هذين الوجهين ( تميّز الموحّدون عن المشركين وامتحان من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه من العرب الآلفة بمكّة وقبلتها ) أمر المسلمون بالصلاة إلى بيت المقدس مؤقّتاً وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ) ( البقرة / 143 ).

ولعلّ قوله : ( لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) إشارة إلى الوجه الأوّل.

كما أنّ قوله : ( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ) إشارة إلى الوجه الثاني وهو اختبار من يخالف العادة والاُلفة لأجل إمتثال أمر الرسول ، فإنّ مخالفة العادات والتقاليد كبيرة إلاّ على الذين هدى اللّه.

والحاصل إنّ جعل بيت المقدس قبلة لأجل تمحيص المؤمنين من غيرهم وتميّز المطيعين من العاصين والمنقادين من المتمرّدين.

وأمّا العدول عن بيت المقدس إلى الكعبة فقد عرفت أنّه ليس لمكان أو بيتٍ شرفٌ ذاتي بل الحكم يدور مدار المصلحة ، فصارت المصالح مقتضية بأن يتميّز المسلمون من اليهود بتفكيك قبلتهم التي كانوا يصلّون إليها عن قبلة اليهود ، ويميّز المنافق المتظاهر بالإسلام من اليهود عن المؤمن المنقاد الواقعي ، ولأجل ذلك حوّلت القبلة إلى الكعبة.

3 - ما حكم الصلوات التي كان المسلمون قد أدّوها إلى بيت المقدس ؟

ص: 277

والجواب : إنّ القبلة قبلة ما لم تنسخ وإنّ اللّه سبحانه إذا نسخ حكماً نسخه من حين النسخ لا من أصله لرأفته ورحمته بالمؤمنين ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / 143 ).

وأمّا الإقتراح الذي تقدّمت به اليهود إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله من رجوعه إلى القبلة السابقة حتّى يتّبعوه ويصدّقوه فإنّما هو وعد مكذوب لا يتّبعون قبلته إلى آخر الدهر ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( البقرة / 145 ).

والمراد من الإيمان في الآية في قوله : ( مَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) هو العمل. قال ابن عباس : قالوا كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك ؟ وكان قد مات أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وكانا من النقباء.

وبذلك يعلم أنّ ما ذكره سبحانه قبل هذه الآيات من قصّة إبراهيم وأنواع كرامته وكرامة ابنه إسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكّة وللنبيّ والاُمّة المسلمة وبنائهما البيت والأمر بتطهيره للعبادة ، كل ذلك تمهيد لحادثة تغيير القبلة واتّخاذ الكعبة قبلة ، فإنّ تحويل القبلة من أعظم الحوادث الدينية وأهم التشريعات التي قوبل بها الناس بعد هجرة النبيّ إلى المدينة. فكانت محتاجة إلى ترويض النفوس لقبولها.

28 - مباهلة النبيّ نصارى نجران :
اشارة

28 - مباهلة النبيّ نصارى نجران : (1)

لمّا كتب رسول اللّه إلى ملوك العرب والعجم رسائلة التبليغية وبعث رسله إلى

ص: 278


1- نجران في مخاليف اليمن من ناحية مكة ، وبها كان خبر الأخدود واليها تنسب كعبة نجران ، وكانت بيعة ، بها أساقفة مقيمون منهم السيّد والعاقب اللّذان جاءا إلى النبي صلی اللّه علیه و آله في أصحابها ودعاهم إلى المباهلة وبقوا بها حتّى أجلاهم عمر. وقال زيني دحلان : نجران بلدة كبيرة واسعة علی سبع مراحل من مكة إلی جهة اليمن تستمل علی ثلاث وسبعين قرية. مراصد الإطلاع في معرفة الأمكنة والبقاع، مادة (نجران).

الأقوام والقبائل ، أرسل عتبة بن غزوان ، وعبد اللّه بن أبي اُميّة وصهيب بن سنان إلى نجران ونواحيه وكتب معهم (1) إلى أساقفة نجران يدعوهم إلى رفض الأقانيم والأنداد والتزام التوحيد وعبادة اللّه تعالى ، وها نحن نسوق إليك نصّ كتابه :

« بسم إله إبراهيم واسحاق ويعقوب ، من محمّد النبيّ رسول اللّه إلى أسقف نجران ، فإنّي أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد ، وإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم آذنتكم بحرب » (2).

ولمّا قرأ الأسقف الكتاب فزع وارتاع وشاور أهل الحجى والرأي منهم ، فقال شرحبيل وكان ذالبّ ورأي بنجران : قد علمت ما وعد اللّه إبراهيم في ذريّة إسماعيل من النبوّة فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل ؟ وليس لي في النبوّة رأي لو كان أمر من اُمور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.

فبعث الأسقف إلى واحد من بعد واحد من أهل نجران فتشاوروا فكثر اللغط وطال الحوار ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا وفداً يأتي رسول اللّه فيرجع بخبره.

فأوفدوا إليه ستّين راكباً وفيهم ثلاثة عشر رجلاً من أشرافهم وذوو الرأي والحجى منهم وثلاثة يتولّون أمرهم : العاقب إسمه عبد المسيح ، أمير الوفد الذي لا يصدرون إلاّ عن رأيه ، والسيّد وإسمه الأيهم وهو ثمالهم وصاحب رحلهم ، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم الأوّل وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم وهو

ص: 279


1- وكان بخط الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام راجع : صبح الاعشى ج 1 ص 65 ( طبع بيروت ).
2- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 65 ، دلائل النبوّة ج 5 ص 385 ، البداية والنهاية ج 5 ص 53.

الأسقف الأعظم (1).

فجاءوا إلى النبي حتّى دخلوا على رسول اللّه وقت العصر ، فدخلوا المسجد وعليهم ثياب الحبرات (2) وأردية الحرير مختمين بخواتيم الذهب وأظهروا الصليب وأتوا رسول اللّه فسلّموا عليه ، فلم يرد علیهم السلام ولم يكلّمهم ، فانطلقوا يبتغون عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف وكان لهما معرفة بهم فوجدوهما في مجلس من المهاجرين ، فقالوا : إنّ نبيّكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه وسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا ولم يكلّمنا. فما الرأي ؟

فقالا لعلي بن أبي طالب : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ قال : أرى أن يضعوا حللهم هذه ، وخواتيمهم ثمّ يعودون إليه ، ففعلوا ذلك ، فسلّموا فردّ عليهم سلامهم ، ثمّ قال : والذي بعثني بالحق لقد آتيتموني المرّة الاُولى وإنّ إبليس لمعكم (3).

وكانوا قد أتوا معهم بهديّة وهي بُسط إلى النبيّ فيها تماثيل ومسوح ، فصار الناس ينظرون للتماثيل ، فقال : أمّا هذه البسط فلا حاجة لي فيها ، وأمّا هذه المسوح فإن تعطونيها آخذها ، فقالوا : نعم نعطيكها ، ولمّا رأى فقراء المسلمين ما عليه هؤلاء من الزينة والزيّ الحسن ، تشوّقت نفوسهم ، فنزل قوله سبحانه :

( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ( آل عمران / 15 ).

ثمّ أرادوا أن يصلّوا بالمسجد بعد أن حانت وقت صلاتهم ، وذلك بعد العصر فأراد الناس معهم ، فقال النبي : دعوهم ، فاستقبلوا المشرق فصلّوا صلاتهم فلمّا قضوا صلاتهم ناظروه.

ص: 280


1- دلائل النبوّة ج 5 ص 386 ، الدر المنثور ج 2 ص 38 ، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 66.
2- ثوب من ثياب اليمن.
3- السيرة الحلبية ج 3 ص 239.

فقالوا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إلى ما تدعو ؟ فقال إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وإنّي رسول اللّه وإنّ عيسى عبد مخلوق ، يأكل ويشرب ، ويُحدث ، فقالوا : فمن أبوه ؟ فنزل الوحي على رسول اللّه ، فقال : قل لهم : « ما تقولون في آدم أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويُحدث وينكح ؟ فسألهم النبيّ ، فقالوا : نعم ، فقل : فمن أبوه ؟ فبهتوا ، فأنزل اللّه :

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ المُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ( آل عمران / 59 - 61 ).

الدعوة إلى المباهلة

فلأجل ذلك قال لهم رسول اللّه فباهلوني فإن كنت صادقاً اُنزلت اللّعنة عليكم وإن كنت كاذباً اُنزلت عليّ ، فقالوا : « أنصفت » ، فتواعدوا للمباهلة ، فلمّا رجعوا إلى منازلهم ، قال لهم رؤساؤهم - السيّد والعاقب والأيهم - : إن باهلنا بقومه باهلناه فإنّه ليس نبيّاً ، وإن باهلنا بأهل بيته خاصّة لم نباهله فإنّه لا يقدّم أهل بيته إلاّ وهو صادق ، فلمّا أصبحوا جاءوا إلى رسول اللّه ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين ، فقال النصارى من هؤلاء ؟ فقيل لهم : هذا ابن عمه وصهره علي بن أبي طالب وهذه ابنته فاطمة وهذان ابناه الحسن والحسين ، ففزعوا ، فقالوا لرسول اللّه : نعطيك الرّضا فاعفنا من المباهلة ، فصالحهم رسول اللّه على الجزية وانصرف (1).

وروى الطبرسي : ولمّا كان الغد جاء النبي صلی اللّه علیه و آله آخذ بيد علي بن أبي طالب والحسن والحسين علیهم السلام بين يديه يمشيان وفاطمة علیهاالسلام تمشي خلفه ، وخرج النصارى يتقدّمهم أسقفهم فلمّا رأى

ص: 281


1- تفسير القمي ج 1 ص 104.

النبي صلی اللّه علیه و آله قد أقبل بمن معه ، سأل عنهم ، فقيل له : هذا ابن عمّه وزوج ابنته وأحبّ الخلق إليه وهذان ابنا بنته من علي علیه السلام وهذه الجارية بنته فاطمة ، أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه ، وتقدّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فجثا على ركبتيه.

قال أبو الحارثة الأسقف : جثا واللّه كما جثا الأنبياء للمباهلة ، فسكع ولم يقدم على المباهلة ، فقال السيّد : إدن يا أبا حارثة للمباهلة ، فقال : لا ، إنّي لأرى رجلاً جريئاً على المباهلة وأنا أخاف أن يكون صادقاً ولئن كان صادقاً لم يحل واللّه علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء ، فقال الأسقف : يا أبا القاسم إنّا لا نباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به ، فصالحهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على ألفي حلّة من حلل الأواقي قسمة كل حلّة أربعون درهماً فما زاد ونقص فعلى حساب ذلك ، وعلى عارية ثلاثين درعاً ، وثلاثين رمحاً ، وثلاثين فرساً إن كان باليمن كيد ، ورسول اللّه ضامن حتّى يؤديها وكتب لهم بذلك كتاباً.

وروي أنّ الأسقف قال لهم : إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، وقال النبيّ : والذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم الوادي عليهم ناراً ، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلّهم ، قالوا : فلمّا رجع وفد نجران ، لم يلبث السيّد والعاقب إلاّ يسيراً ، حتّى رجعا إلى النبيّ ، وأهدى العاقب له حلّة وعصا وقدحاً ونعلين وأسلما (1).

وهناك كلمة قيّمة للزمخشري يقول فيها :

فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاّ لتبيّن الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختصّ به وبمن يكاذبه فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟

قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث تجرّأ على

ص: 282


1- مجمع البيان : ج 2 ص 762 و 763 ( طبع بيروت ).

تعريض أعزّته وأفلاذ كبده وأحبّ الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتّى يهلك خصمه مع أحبّته وأعزّته هلاك الإستئصال إن تمّت المباهلة. وخصّ الأبناء والنساء لأنّهم أعزّ الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربّما فداهم الرجل بنفسه ، وحارب دونهم حتّى يقتل ، ومن ثمّ كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمّون الذادة عنهم بأرواحهم : « حماة الحقائق » وقدّمهم في الذكر على الأنفس ( في الآية ) لينبّه على لطف مكانهم ، وقرب منزلتهم وليؤذن بأنّهم مقدّمون على الأنفس مفدون بها ، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء علیهم السلام وفيه برهان واضح على صحّة نبوّة النبيّ لأنّه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنّهم أجابوا إلى ذلك (1).

ومن أمعن فيما ورد من سبب النزول وشرحه في كتب الحديث والتفسير يقف على مكرمة وفضيلة عظيمة لأهل البيت علیهم السلام في تلك الحادثة ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب « الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء » للسيّد شرف الدين ( ص 197 - 203 ).

وهناك نكتة اُخرى نقلها الرازي عن بعض معاصريه من الشيعة ولم يناقش في كلامه مع غرامه بنقض المحكمات وهيامه في التشكيكات والشبهات ، قال :

كان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي وكان معلّم الإثنى عشرية وكان يزعم أنّ عليّاً رضی اللّه عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلی اللّه علیه و آله واستدلّ على ذلك بقوله تعالى : ( وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) إذ ليس المراد بقوله ( وَأَنفُسَنَا ) نفس محمد صلی اللّه علیه و آله لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد غيرها ، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان علي بن أبي طالب (رض) فدلّت الآية على أنّ « نفس علي » هي محمد ، ولا يمكن أن يكون المراد إنّ هذه النفس هي عين تلك ، فالمراد إنّ هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك

ص: 283


1- الكشاف : ج 1 ص 327.

يقتضي المساواة في جميع الوجوه ، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوّة وفي حق الفضل لقيام الدلائل على أنّ محمداً عليه الصلاة والسلام كان نبيّاً وما كان علي كذلك ولإنعقاد الإجماع على أنّ محمداً صلی اللّه علیه و آله كان أفضل من علي (رض) فبقى فيما وراءه معمولاً به ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمداً صلی اللّه علیه و آله كان أفضل من سائر الأنبياء علیهم السلام فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء (1).

29 - الخلفيّة التشريعيّة لحرمة الأشهر الحرم :

ربّما نقرأ في بعض الصحف والكتب أنّ عرب الجاهلية هم الذين حرّموا الحرب في الأشهر الحرم واضفوا عليها مسحة قدسية خاصة ، وذلك لأنّهم كانوا متوغّلين في الحروب والغارات وكان تمادي الظاهرة القبليّة الشاذّة موجباً لفكّ عرى الحياة ، ولأجل ذلك استثنوا هذه الأشهر لتقويم أودهم وضمان أمن طرق التجارة وتيسير أمر زيارة الكعبة.

ولكنّها فكرة خاطئة تخالف ما نستلهمه من القرآن الكريم ، فإنّ الظاهر منه أنّ حرمة الأشهر لها جذور دينية وأنّها جزء من صميم الدين القيّم الذي جاء به إبراهيم علیه السلام إلى اُمّته ، قال سبحانه : ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ... ) ( التوبة / 36 ).

فإنّ قوله : ( ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) ربّما يشير إلى أنّ اتّصاف الأربعة بالحرم جزء من الدين القيّم وتشريعاته.

وعلى ذلك الأساس فالنبيّ الأكرم أولى بأن يحافظ على حرمتها ويراعي قدسيّتها ، وبذلك يسهل لك القضاء في الحادثة الدموية التي وقعت في مستهلّ

ص: 284


1- تفسير الرّازي ج 8 ص 81 ( طبع بيروت ).

شهر رجب بيد المسلمين وهي التي استغلّتها قريش للتعيير بالنبيّ والإزدراء به ، وأنّه هدم قدسيّة تلك الأشهر وإراقة الدم فيها ، وإليك نصّ القصة :

بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عبد اللّه بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفلة من بدر الاُولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب لهم كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه ، فيمضي بما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحداً.

فلمّا سار عبد اللّه بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه : إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكّة والطائف ، فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم.

فلمّا نظر عبد اللّه بن جحش في الكتاب قال : سمعاً وطاعة ، ثمّ قال : لأصحابه قد أمرني رسول اللّه أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتّى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع ، فأمّا أنا فماض لأمر رسول اللّه ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلّف منهم أحد.

وسلك إلى الحجاز حتّى إذا كان بمعد فوق « الفرع » يقال له بحران أضلّ سعد بن أبي وقّاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما ، كانا يتعاقبانه ، فتخلّفا عليه في طلبه ومضى عبد اللّه بن جحش وبقيّة أصحابه حتّى نزل بنخلة ، فمرّت به عير لقريش تحمل زبيباً وادماً وتجارة من تجارة قريش ، فيها عمرو بن الحضرمي ، فلمّا رآهم القوم (1) هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم ، فأشرف لهم عكاشة ابن محصن وكان قد حلق رأسه فلمّا رأوه أمنوا وقالوا : عمّار لا بأس عليكم منهم ، وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : (2) واللّه لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم

ص: 285


1- المقصود عير قريش.
2- المقصود المسلمون.

فليمتنعنّ منكم به (1) ولئن قتلتموهم لنقتلنّهم في الشهر الحرام ، فتردّد القوم (2) وهابوا الإقدام عليهم ثمّ شجّعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم فرمى واقد بن عبد اللّه التيمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد اللّه والحكم بن كيسان وأفلت القوم (3) نوفل ابن عبد اللّه فأعجزهم وأقبل عبد اللّه بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين حتّى قدموا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلمّا قدموا على رسول اللّه المدينة ، قال : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فوقّف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً ، فلمّا قال ذلك رسول اللّه ، سقط في أيدي القوم وظنّوا أنّهم قد هلكوا وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا ، وقالت قريش : قد إستحلّ محمّد وأصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال.

وقد توقّع اليهود لأجل هذه الحادثة بالمسلمين الشر ، فلمّا أكثر الناس في ذلك أنزل اللّه على رسوله : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / 217 و 218 ).

والآية الثانية تحكي عن نزول المغفرة لعبد اللّه بن جحش وأصحابه وذلك لأجل أنّهم كانوا ذوو سابقة حسنة وبلاء محمود كما يشير إليه قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 286


1- أي يتحصّنون يالحرم.
2- المقصود هم المسلمون.
3- أي فر من بين أيديهم فلم يتمكنّوا من اللحاق به والقبض عليه.

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ ) .

قال ابن هشام : لمّا تجلّى عن عبد اللّه بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن ( الآية الاُولى ) طمعوا في الأجر ، فقالوا : يا رسول اللّه أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطي فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ... ) .

فلمّا نزل القرآن بهذا وفرّج اللّه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول اللّه العير والأسيرين. وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد اللّه والحكم بن كيسان ( الأسيرين ) ، فقال رسول اللّه : لا نفديكموهما حتّى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإنّا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما ، نقتل صاحبيكم ، فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منهم.

فأمّا الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه واقام عند رسول اللّه حتّى قتل يوم بئر معونة شهيداً ، وأمّا عثمان بن عبد اللّه فلحق بمكّة حتّى مات بها كافراً.

هذا كلّه راجع إلى حكاية القصّة بجزئيّاتها وأمّا تحليل الحادثة وتوضيح الجواب الذي جاءت به الآية الاُولى فهو بالشكل التالي.

لا شك أنّ عمل عبد اللّه بن جحش لم يكن خاضعاً للضوابط العسكرية ، فإنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لم يأمره بالقتال بل أمر بإستطلاع أخبار القوم ونقل أخبارهم إليه ، فقتاله كان عصياناً لأوامر قائده أوّلاً وهتكاً لقداسة الشهر ثانياً ، ولأجل ذلك لمّا جاء إلى النبيّ لم يقبل منه العير والأسيرين وانتظر الوحي الإلهي حتّى وافاه ، وليس من الصحيح أن يؤاخذ الأمير ورئيس القوم بإجرام واحد من قادة عسكره.

وإليه يشير قوله سبحانه : ( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) أي إنّ القتال فيه وإن كان صغيراً في نفسه : أمر كبير مستنكر لعظيم حرمته ، ولكن الذي ينبغي إلفات النظر إليه هو أنّ الناقدين أعني قريشاً قد إرتكبوا جريمة أكبر ممّا إرتكبه ذلك القائد

ص: 287

العسكري وذلك :

1 - إنّهم صدّوا الناس عن سبيل اللّه ومنعوهم عن الطريق الموصل إلى اللّه تعالى وهو الإسلام ، حيث كان المشركون يضطهدون المسلمين ويقتلون من يسلم أو يؤذونه في نفسه وأهله وماله فيمنعونه من الهجرة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله .

2 - إنّهم كفروا باللّه سبحانه.

3 - إنّهم صدّوا عن المسجد الحرام ومنعوا المؤمنين من الحج والإعتمار.

4 - إنّهم أخرجوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمهاجرين.

وكلّ هذه أكبر عند اللّه من قتال المسلمين المشركين في الشهر الحرام.

5 - والفتنة أكبر من القتل أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم كما فعلوا بعمّار بن ياسر وبلال وخبّاب بن الأرت وغيرهم ، أكبر من قتل المشركين.

والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة عن الإسلام لو لم يحفّ بها غيرها من الآثار ، كيف وقد قارنها الصدّ عن سبيل اللّه ، والكفر به ، والصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه ، فمن وقف على فتنة المشركين لضعفاء المسلمين طيلة ثلاث عشرة سنة واستمرارها بعد هجرته في حقّ المستضعفين القاطنين في مكّة ، يقف على أنّ قتل مشرك وأسر نفرين منهم أهون بكثير ممّا إرتكبوه طوال هذه السنين.

وإلى هذا يشير قوله سبحانه :

( وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) .

ص: 288

(9) الإشتباك المسلّح مع اليهود بالمدينة :

1 - إجلاء بني قينقاع من المدينة :

قد وقفت فيما سبق على المناظرات والإجتجاجات التي دارت رحاها بين النبيّ واليهود ، واتّضح لك إنّها لم تكن من اليهود بغرض كشف الحقيقة وإنّما كانت مماراة منهم حتّى يشوّهوا الحقيقة على طلاّبها ويضعوا العراقيل في وجه إنتشار الإسلام وتعاظم قدرة المسلمين ، وقد كان النبيّ الأكرم صابراً على إيذائهم ، ولكنّهم لمّا بلغت جرأتهم إلى حدّ هتكوا عرض امرأة مسلمة وقتلوا رجلاً من المسلمين في سوقهم ، قام النبيّ في وجههم فرفض الميثاق الذي عقدوه بينهم وبين النبيّ لأنّهم بأعمالهم الإجرامية نقضوا بنوده ومضامينه فلم يبقوا له حرمة ، ولكن النبيّ الأكرم أخذ كل طائفة من اليهود بجرمها ولم يأخذ جميع طوائف اليهود بجرم واحدة منها.

فأجلى بني قينقاع لأجل ذينك العملين ( هتك حرمة المرأة المسلمة وقتل مسلم ) وأبقى الطائفتين الاُخريين على حالهما ، فلمّا همّ بنو النضير بقتل النبيّ الأكرم ، أجلاهم بمؤامرتهم وأبقى بني قريظة على حالها في المدينة إلى أن إرتكبت الثالثة جريمة كبيرة ، فجازاهم بعملهم حسبما يوافيك بيانه.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ النبيّ الأكرم كان يحترم العهود والمواثيق المبرمة بينه وبين سائر الملل والنحل وأنّه لو لم تنقض اليهود عهودها ومواثيقها لما خطا النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله خطوة واحدة في طريق

ص: 289

الحرب ضدّهم ، ولأجل ذلك يجب علينا دراسة العوامل التي حفّزت النبي إلى إتّخاذ موقف حازم وصارم في وجه اليهود القاطنين في المدينة ، وقبل إيضاحها نذكر لك نص الميثاق الذي عقده النبيّ صلی اللّه علیه و آله معهم إبّان نزوله المدينة.

روى القمّي في تفسيره : وجاءته اليهود - قريظة والنضير وقينقاع - فقالوا : يا محمّد إلى ما تدعو ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّي رسول اللّه وأنّي الذي تجدونني مكتوباً في التوراة والذي أخبركم به علماؤكم أنّ مخرجي بمكة ومهاجري في هذه الحرّة ، وأخبركم عالم منكم جاءكم من الشام فقال : « تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور لنبيّ يبعث في هذه الحرّة مخرجه بمكة ومهاجره هاهنا ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، يركب الحمار ويلبس الشملة ويجتزي بالكسرة ، في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوّة ، ويضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى ، وهو الضحوك القتّال يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر » فقالوا له : قدسمعنا ما تقول وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك ولا نعين عليك أحداً ولا نتعرّض لأحد من أصحابك ولا تتعرّض لنا ولا لأحد من أصحابنا حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك وأمر قومك ، فأجابهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى ذلك وكتب بينهم كتاباً : ألاّ يعينوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولايد ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية ، لا بليل ولا بنهار ، اللّه بذلك عليهم شهيد ، فإن فعلوا فرسول اللّه في حِلٍّ من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، وأخذ أموالهم. وكتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدّة ، وكان الذي تولّى أمر بني النضير حيّي بن أخطب ، فلمّا رجع إلى منزله قال له اُخوته ( جديّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب ) : ما عندك ؟ قال : هو الذي نجده في التوراة والذي يبشّرنا به علماؤنا ولا أزال له عدوّاً لأنّ النبوّة خرجت من ولد إسحاق ، وصارت في ولد إسماعيل ، ولا نكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً.

وكان الذي ولي أمر قريضة كعب بن أسد ، والذي ولي أمر بني قينقاع مخيريق وكان أكثرهم مالاً وحدائق ، فقال لقومه : تعلمون أنّه النبيّ المبعوث ؟

ص: 290

فهلمّوا نؤمن به ونكون قد أدركنا الكتابين ، فلم تجبه قينقاع إلى ذلك (1).

هذا هو نص الميثاق ، وسنوافيك في هذا البحث وما يتلوه إنّهم كيف ضربوا به عرض الجدار خصوصاً بعد ما بلغهم إنتصار المسلمين على قريش في غزوة بدر فانتابهم الهلع والخوف ، وترقّبوا الخطر المحدق بهم ، وقد بلغ النبيَّ أخبار بني قينقاع ، وما أخذوا يتفوّهون به ضدّه ، فلأجل إتمام الحجة جمعهم رسول اللّه في سوق بني قينقاع بعد نزوله عن بدر ، فقال : يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم اللّه بمثل ما أصاب به قريشاً ، فقالوا له : يا محمّد لا يغرّنّك من نفسك أنّك قتلت نفراً من قريش ، كانوا أغماراً (2) لا يعرفون القتال ، إنّك واللّه لو قاتلتنا لعرفت انّا نحن الناس وإنّك لنتلقى مثلنا ، فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهم : ( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ) ( آل عمران / 12 و 13 ) (3).

وبين ما هم عليه من إظهار العداوة ونقض العهد ، جاءت امرأة نزيعة (4) من العرب تحت رجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع ، وجلست عند صائغ في حُليّ لها ، فجاء رجل من يهود قينقاع فجلس من ورائها ولا تشعر ، فخلّى (5) درعها إلى ظهرها بشوكة ، فلمّا قامت المرأة بدت عورتها ، فضحكوا منها ، فقام إليه رجل من المسلمين فاتّبعه فقتله ، فاجتمعت بنو قينقاع فتحايشوا ، فقتلوا الرجل ونبذوا العهد إلى النبيّ وتحصّنوا في حصنهم (6).

ص: 291


1- البحار ج 19 ص 110 - 111 ( طبع بيروت ).
2- الأغمار جمع الغمر وهو الذي لم يجرّب الاُمور.
3- السيرة النبويّة ج 1 ص 552 ، مجمع البيان ج 2 ص 706 ، المغازي للواقدي ج 1 ص 176.
4- المرأة التي تزوّجت في غير عشيرتها.
5- أي جمع بين طرفي الشيء.
6- المغازي للواقدي ج 1 ص 176 و 177.

فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون ، فحاصرهم رسول اللّه حتّى نزلوا على حكمه.

روى الواقدي : لمّا رجع ( رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ) من بدر حسدوه فأظهروا الغشّ ، فنزل عليه جبرئيل علیه السلام بهذه الآية : ( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ ) ( الأنفال / 58 ).

قال : فلمّا فرغ جبرئيل قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فأنا أخافهم. فسار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذه الآية حتّى نزلوا على حكمه ولرسول اللّه أموالهم ، ولهم الذرّية والنساء (1).

فقام عبد اللّه بن اُبي بن سلول رئيس المنافقين في المدينة بالشفاعة لهم فقال : يا محمّد أحسن في موالي ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فأبطأ عليه رسول اللّه ، فقال : يا محمّد ، أحسن في موالي ، فأعرض عنه ، فأدخل يده في جيب درع رسول اللّه ، فقال له رسول اللّه : أرسلني ، وغضب رسول اللّه حتّى رأوا لوجهه ظللاً ، ثمّ قال : ويحك أرسلني ، قال : لا واللّه لا أرسلك حتّى تحسن في موالي ، أربعمائة حاسر (2) وثلاثمائة دارع ، قد منعوني من الأحمر والأسود ، تحصدهم في غداة واحدة إنّي واللّه أمرؤٌ أخشى الدوائر ، فقال رسول اللّه : هم لك ، فاستعمل رسول اللّه على المدينة في محاصرته إيّاهم بشير بن عبد المنذر ، وكانت محاصرته إيّاهم خمس عشرة ليلة.

وكان لعبادة بن الصامت مثل الحلف الذي كان لهم من عبد اللّه بن اُبي ، فجاء عبادة بن الصامت وقال : يا رسول اللّه أتولّى اللّه ورسوله والمؤمنين ، وأبرأُ من حلف هؤلاء الكفّار وولايتهم ، وفي تلك القصّة نزلت الآيات التالية :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم

ص: 292


1- مغازي الواقدي ج 1 ص 180.
2- الحاسر الذي لا درع له ويقابله الدارع.

مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ) ( المائدة / 51 - 53 ).

فلمّا أصرّ ابن اُبي فيهم تركهم رسول اللّه وأمر بهم أن يجلوا من المدينة.

وروى الواقدي : كان ابن اُبيّ أمرهم أن يتحصّنوا وزعم أنّه سيدخل معهم ، فخذلهم ولم يدخل معهم ، ولزموا حصنهم فما رموا بسهم ، ولا قاتلوا حتّى نزلوا على صلح رسول اللّه وحكمه ، وأموالهم لرسول اللّه ، فلمّا نزلوا وفتحوا حصنهم ، كان محمّد بن مسلمة هو الذي أجلاهم وقبض أموالهم ، وأمر رسول عبادة بن الصامت أن يجليهم ، فقالت قينقاع ، يا أبا الوليد نحن مواليك فعلت هذا بنا ؟

قال لهم عبادة : لمّا حاربتم جئت إلى رسول اللّه فقلت : يا رسول اللّه إنّي أبراُ إليك منهم ومن حلفهم ، وكان ابن اُبي وعبادة بن الصامت منهم بمنزلة واحدة في الحلف ، فقال عبد اللّه بن اُبي : تبرّأت من حلف مواليك ، فقال عبادة : أبا الحبّاب تغيّرت القلوب ومحي الإسلام العهود ، فخرجوا إلى الشام ولحقوا بإذرعات (1) ثمّ هلكوا (2).

ص: 293


1- بلد في أطراف الشام يجاور أرض البلقاء وعمان « معجم البلدان ج 1 ص 162 ).
2- السيرة النبويّة ج 1 ص 47 - 49 ، المغازي للواقدي ج 1 ص 176 - 180.

2 - إجلاء بني النضير

قدم أبو براء ، عامر بن مالك على رسول اللّه المدينة فعرض عليه رسول اللّه الإسلام ودعاه إليه ، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام ، وقال : يا محمّد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى نجد ، فادعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك ، فقال رسول اللّه : إنّي أخشى عليهم أهل نجد ، قال أبو براء : أنا لهم جار ، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك ، فبعث رسول اللّه المنذر بن عمرو في أربعين رجلاً (1) من خيار المسلمين فساروا حتّى نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر ، وحرة بني سليم ، كلا البلدين منها قريب وهي إلى حرّة بني سليم أقرب.

فلمّا نزلوها بعثوا ابن ملحام بكتاب رسول اللّه إلى عامر بن الطفيل ، فلمّا أتاه لم ينظر في كتابه حتّى عدى على الرجل فقتله ، ثمّ استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، وقالوا لن نحفر (2) أبا براء لقد عقد لهم عقداً وجواراً ، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم فأجابوه إلى ذلك ، فخرجوا حتّى غشوا القوم ، فأحاطوا بهم في رحالهم ، فلمّا رأوهم أخذوا سيوفهم ثمّ قاتلوهم حتّى قتلوا من عند آخرهم إلاّ كعب بن زيد فإنّهم تركوه وبه رمق ، فرفع من بين القتلى فقدم المدينة.

وكان في مسير القوم عمرو بن اُميّة الضمري ورجل من الأنصار فلمّا اطّلعا على قتل إخوانهم ، قال عمرو بن اُميّة : نخبر رسول اللّه ، فقال الأنصاري : ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، فقاتل القوم حتّى قتل واُسر عمرو ابن اُميّة ، وأطلقه عامر بن الطفيل وجزّ ناصيته ، فأقبل عمرو بن اُميّة إلى المدينة

ص: 294


1- أو سبعين رجلاً على ما في صحيح البخاري ومسلم.
2- أي لا ننقض عهده.

ولقى في مسيره رجلين من بني عامر وقد سألهما ممّن أنتما ؟ فقالا : من بني عامر فأمهلهما حتّى إذا ناما ، عدى عليهما فقتلهما وهو يرى أنّه أصاب بهما الثأر من بني عامر ، فيما أصابوا من أصحاب رسول اللّه ، فلمّا قدم عمرو بن اُميّة على رسول اللّه فأخبره الخبر ، قال رسول اللّه : لقد قتلت قتيلين لاُدِينهما (1).

خرج رسول اللّه إلى بني النضير يستعينهم في ديّة ذينك القتيلين من « بني عامر » اللذين قتلهما عمرو بن اُميّة الضمري ، فكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف ، فلمّا أتاهم رسول اللّه يستعينهم في أداء الديّة ، قالوا : نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أجبت ممّا استعنت بنا عليه ، ثمّ خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ، ورسول اللّه إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد ، فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيرحنا منه ؟ فانتبذ لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فصعد ليلقي عليه صخرة ورسول اللّه في نفر من أصحابه.

فأتى الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام وخرج إلى المدينة « وكأنّه يريد أن يقضي حاجة وترك أصحابه في مجلسهم » (2) فلمّا إستلبث النبيّ أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه ، فقال : رأيته داخلاً المدينة ، فأقبل أصحاب رسول اللّه حتّى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما أراد اليهود من الغدر إليه ، وأمر رسول اللّه بالتهيّؤ لحربهم ، والسير إليهم ، واستعمل على المدينة ابن اُمّ مكتوم فتحصّنوا في الحصون.

وقد بعث عبد اللّه بن اُبي بعض أصحابه إلى بني النضير ، فقال لهم : إثبتوا وتمنّعوا فإنّا لن نسلّمكم ، إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن اُخرجتم خرجنا معكم ،

ص: 295


1- أي لأدفع ديّتهما ، ووجهه : إنّ القتل وقع بقبيلة بني سليم لا ببني عامر ، فإنّهم وإن لم يدافعوا عن المسلمين وخذلوهم ، ولكنّهم لم يشتركوا في مقاتلتهم ، فكان قتل هذين الرجلين بلا ظلامة اقترفاها ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الرسول كان يقوم بالعدل ولا يأخذه في ذلك شيء من الأهواء.
2- ما بين القوسين ممّا رواه الواقدي.

فتربّصوا ذلك من نصرهم ، ولم يكن وعده إلاّ خداعاً ، وفي ذلك نزل الوحي :

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ * لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( الحشر / 11 - 15 ) ففي هذه الآيات ملاحم وتنبّؤات غيبية كشف عنها الوحي. وإليك الإشارة إليها :

1 - إنّ اليهود لعلاقتهم الشديدة بالحياة لا يجرأون على مقاتلتكم خارج حصونهم ، وإنّما يقاتلونكم متمنّعين بحصونهم ، ويكتفون في ذلك برشقهم بالحجارة ونحوها ، كما أشار إليه قوله : ( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ) .

2 - يستأسدون عند الإجتماع ببعضهم البعض ولكنّهم عند لقاء المسلمين ينتابهم الخوف والرعب والهلع ، ويستفاد ذلك من ضم الآيتين أعني قوله : ( بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) إلى قوله : ( لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللّهِ ) .

3 - إنّهم يتظاهرون بوحدة الكلمة ، ولكنّها وحدة شكلية صورية وقلوبهم شتّى ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) .

ثمّ إنّ الذكر الحكيم يصفهم بأنّهم قوم لا يعقلون ولا يتّخذون العبرة ممّا لاقاه بنو قينقاع ، وإليه يشير قوله : ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ) .

ثمّ إنّ الملاحم الواردة فيما سبق من الآيات لا تنحصر بذلك بل تنبّأت بأنّ وعد النصر من جانب المنافقين وعد خاوٍ ومكذوب لا يفون به ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) .

ص: 296

وقد تنبّأ القرآن بكل ما ذكرنا قبل وقوع النصر وغلبة المسلمين عليهم.

روى البيهقي : إنّ النبيّ مضى لأمر اللّه تعالى فأمر أصحابه فأخذوا السلاح ، ثمّ مضى إليهم وتحصّنت اليهود في دورهم وحصونهم ، فلمّا إنتهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أزقّتهم وحصونهم فأمر بالأدنى فالأدنى من دورهم أن تهدم ، وبالنخل أن تحرق وتقطع ، وكفّ اللّه تعالى أيديهم وأيدي المنافقين فلم ينصرونهم ، وألقى اللّه عزّ وجلّ في قلوب الفريقين الرعب (1).

لم يكن عمل النبي صلی اللّه علیه و آله في هذا المجال إلاّ إيجاداً للرعب في قلوب الكافرين والتعجيل في إستسلامهم ، فإنّ اليهود ما زالوا ولن يزالوا عالقين بالمال والثروة ، ويحبّونهما كحب الأنفس والأولاد ، فلم يكن للنبيّ إلاّ الإضرار ببعض أموالهم وثرواتهم لتلك الغاية ، والشاهد على ذلك أنّ النبيّ لم يقطع إلاّ بعض النخيل ، قوله تعالى : ( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) ( الحشر / 5 ) ، وأمّا الدور التي هدمها النبي فكانت عبارة عن الدور الواقعة خارج الحصن بشهادة أنّهم هدموا دورهم بأيديهم عند مغادرة المدينة ، يقول سبحانه : ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ) ( الحشر / 2 ).

فهذا العمل العسكري من النبي وأصحابه كان عملاً تكتيكيّاً لغاية قصوى ، وهو الإستيلاء عليهم بلا إراقة الدم من الجانبين ، ولولا ذلك ربّما طال الحصار وكان من المتوقّع تحقّق الإشتباك الدموي بين الطرفين. فلما رأوا أنّ النبيّ مصمّم على الإستيلاء عليهم ، سألوه أن يجليهم ويكف عن دماءهم على أنّ لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلاّ السلاح ، فقبل النبيّ ، فاحتملوا من أموالهم ما استقالت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف (2) بابه ، فيضعه على ظهر بعيره

ص: 297


1- دلائل النبوّة ج 3 ص 181 ، والمغازي للواقدي ، ج 1 ص 374 ، والسيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 191.
2- نجاف - على وزن كتاب - : العتبة التي على الباب.

فينطلق به ، فخرجوا من المدينة إلى خيبر وبعضهم صار إلى الشام.

ومن الذين صاروا إلى خيبر سلاَّم بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحُيي بن الأخطب.

والعجب انّهم خرجوا بنساءهم وأبنائهم وأموالهم ومعهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم ، وما هذا إلاّ لأجل إلقاء الستار على خذلانهم فكأنّهم أرادوا بالخروج بهذه الكيفية أنّهم ليسوا بمغلوبين ولا محزونين ، وإنّما يخرجون مع النشاط والسرور لأنّهم ينتقلون إلى أمكنة خصبة بالعطف والحنان (1).

وأمّا الأراضي التي تركوها فجعلها سبحانه نفلاً لرسول اللّه ولم يجعل فيها سهماً لأحد غيره ، قال سبحانه : ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ (2) عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر / 6 - 8 ).

فالآيات الكريمة تحدّد مواضع صرف الأموال التي أفاء اللّه على رسوله ، فذكر مصارفها المتعدّدة فيها ، ولكنّ النبيّ حسب ما ورد في السيرة قسّمها على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار إلاّ سهل بن حنيف وأبا دجانة الأنصاري - سماك بن حرشة - ذَكرا فَقْراً فأعطاهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولم يسلم من بني النضير إلاّ رجلان. أسلما على أموالهما فأحرزاها.

ص: 298


1- قال الواقدي : ومرّوا يضربون بالدفوف ، ويزمّرون بالمزامير ... مظهرين ذلك تجلّداً المغازي للواقدي ج 1 ص 375.
2- فما أوجفتم : أي ما حرّكتم وأتعبتم في السير ، قال سبحانه : ( قُلُوب يَوْمَئِذ وَاجِفَة ) .

وقد نزلت سورة الحشر في هذه القصة واللّه سبحانه يمنّ على المؤمنين ، بأنّه سبحانه سلّطهم على الكافرين عن طريق إيجاد الرعب في قلوبهم ، كما يبيّن بأنّهم جوزوا بسوء أعمالهم ، قال سبحانه :

( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللّهَ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الحشر / 2 - 4 ).

وبإجلاءهم لم تبق في المدينة طائفة من اليهود ، إلاّ قبيلة بني قريظة ، وكان النبي يحترم عهودهم ما داموا حافظين عليها. ولمّا ظهرت منهم بادرة النقض ، أخذهم النبيّ أخذ عزيز مقتدر ، كما سيبيّن في الفصل القادم.

ص: 299

3 - إبادة بني قريظة

اشارة

لقد أجلى النبيّ الأكرم قبيلتي بني قينقاع ، وبني النضير ، وجزاهم بأعمالهم الإجرامية ، وكانت فكرة تأليب العرب على النبي والمسلمين فكرة اختمرت في نفوس رؤساء بني النضير ، وقبلهم بني قينقاع ، نظراء حيي بن أخطب وسلاّم بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي حقيق ، الذين نزلوا حصن خيبر ، فأرادوا درك ثأرهم من المسلمين بتأليب الأحزاب عليهم ، فقدموا إلى قريش ، ودعوهم إلى حرب رسول اللّه وقالوا : إنّا سنكون معكم عليه ، حتّى نستأصله ، وقد سألتهم قريش وقالوا يا معشر يهود : إنّكم أهل الكتاب الأوّل ، وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد. أفديننا خير أم دينه ؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحقّ منه (1).

ولم يكتف زعماء بني النضير بتأليب قريش على النبي الأكرم بل خرجوا إلى غطفان وكلّ من له عند المسلمين ثأر ، حرّضوهم على الأخذ بثأرهم ، ويذكرون لهم متابعة قريش إيّاهم على حرب محمد ، فاتّفقوا على الخروج والحضور في المدينة في يوم واحد ، وأحاطوا المدينة رجالاً وركباناً وقد بلغ عددهم عشرة آلاف ، وكان قد بلغ النبي مؤامرتهم فضرب الخندق على المدينة حتّى يكون كالحصن لها حائلاً بينه وبينهم ، وقد طال الحصار على المدينة قرابة شهر ، ووقع هناك إشتباك بينهم وبين العدوّ على وجه سنذكره في مغازي النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

وقد أدركت الأحزاب المؤلّفة من قريش وغطفان ويهود خيبر وعلى رأسهم حيي بن أخطب أنّ الإنتصار على محمد أمر غير ميسور ، مادام الخندق يحول بينه و

ص: 300


1- قد مرّ نقل هذا الخطأ الفاحش في مناظرات النبيّ مع اليهود ، فلاحظ.

بين العدوّ ، وقد وضع المسلمون الأحجار إلى جانب الخندق ، يرمون بها من أراد العبور ، فعند ذلك قام حيي بن أخطب بمؤامرة اُخرى وهو فتح الطريق لدخول يثرب من ناحية اُخرى ، وهو إقناع بني قريظة ( الطائفة الوحيدة المتبقّاة من اليهود في المدينة ) على رفض عهدها مع محمد ، وانضمامها إلى الأحزاب ، فاجتمع مع أكابر الأحزاب ، وقال : إنّه مقنع بني قريظة بنقض عهد موادعتهم محمداً والمسلمين ، حتّى يقطعوا بذلك المدد والمير عنه ، ويفتحوا الطريق لاجتياز الأحزاب من حصونهم إلى داخل المدينة ، ولمّا سمعت ذلك قريش وقبائل غطفان فرحوا بذلك وزعموا أنّ هذه الخطوة سوف تكون ناجحة ، وأنّها مفتاح الإنتصار ، فخرج حيي بن أخطب حتّى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، ولمّا سمع كعب بحيي بن أخطب ، أغلق دونه باب حصنه ، فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له فناداه حينئذٍ : ويحك يا كعب ، إفتح لي. قال : ويحك يا حيي إنّك رجل مشؤوم ، وإنّي قد عاهدت محمداً ولست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلاّ وفاءً وصدقاً. قال : ويحك إفتح لي اُكلّمك. قال : ما أنا بفاعل. قال : واللّه إن أغلقت دوني إلاّ خوفاً عن جشيشتك أن آكل معك منها ، فعندئذ غضب كعب ففتح له فقال : ويحك يا كعب جئتك بعزّ الدهر وبحر طامّ (1) ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها ، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتّى يستأصلوا محمداً ومن معه. قال : فقال له كعب : جئتني واللّه بذلّ الدهر ، ويحك يا حيي ! فدعني وما أنا عليه ، فإنّي لم أر من محمّد إلاّ صدقاً ووفاءً. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب حتّى سمع له ، على أن أعطاه عهداً ( من اللّه ) وميثاقاً : لئن رجعت قريش وغطفان ، ولم يصيبوا محمّداً أن يدخل معه في حصنه حتّى يصيبه ما أصابه ، فنقض كعب بن أسد عهده ، وبرئ ممّا كان بينه وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وقد بلغ المسلمين نبأ إنضمام قريظة إلى الأحزاب ، فاهتزّوا وخافوا مغبّته فبعث رسول اللّه سعد بن معاذ ، وهو سيد الأوس وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ومعهما لفيف من المسلمين ، فقال : إنطلقوا حتّى تنظروا أحقٌ ما بلغنا عن هؤلاء

ص: 301


1- يشير إلى الأحزاب المؤلّفة.

القوم أم لا ؟ فإن كان حقّاً فألحنوا لي لحناً (1) أعرفه ، ولا تفتّوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا غير ناقضين فأجهروا به للناس ، قال فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم فيما نالوا من رسول اللّه وقالوا : مَن رسول اللّه ؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد ، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه ، وكان رجلاً فيه حدّه ، فقال له سعد بن عبادة : دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أعظم من المشاتمة ، فأقبلا إلى رسول اللّه فسلّموا عليه ، وقالوا : « عضل والقارة » أي غدروا كغدر عضل والقارة ، وأصحاب الرجيع ، فقال رسول اللّه : اللّه أكبر ! أبشروا يا معشر المسلمين. وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف وذلك لأنّهم لو قطعوا المير والمدد وفتحوا الطريق للأحزاب ، لدخلوا المدينة واستأصلوا أهلها ، فما مضى وقت حتّى بدت بوادر النقض فقطعوا المدد والميرة عن المسلمين ، وخرجوا يطيفون في أزقّة المدينة ، يخوّفون النساء والصبيان. قالت صفيّة - وكانت في حصن « حسّان » - : مرّ بنا رجل من اليهود فجعل يطيف بالحصن ، فقلت : يا حسّان ! إنّ هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإنّي واللّه ما آمنه أن يدلّ على عورتنا مَنْ وراءنا من يهود ، وقد شغل عنّا رسول اللّه وأصحابهم ، فانزل إليه فاقتله. قال : يغفر اللّه لك يا ابنة عبد المطلب ! واللّه لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ! قالت : فلمّا قال لي ذلك ، ولم أر عنده شيئاً احتجزت (2) ثمّ أخذت عموداً ثمّ نزلت من الحصن إليه ، فضربته بالعمود ، حتّى قتلته. قالت : فلمّا فرغت منه ، رجعت إلى الحصن (3).

ثمّ إنّه سبحانه سلّط على الأحزاب البرد والريح الشديدة ، وفرّق كلمتهم على وجه سيوافيك تفصيله ، وتفرّقوا وجلوا عن جوانب المدينة ورجعوا إلى أوطانهم من دون أن ينالوا من المسلمين شيئاً. ولم يكن عود الأحزاب بعد فصل الشتاء أمراً غير بعيد في نظر النبي صلی اللّه علیه و آله وبنو قريظة هم الأعداء الغدرة ، ومن الممكن أن يتكرّر التاريخ ويقع المسلمون في مغبّته ، وبينما كان النبيّ يفكر في

ص: 302


1- أي تكلّموا بالإشارة والتعريض ، ولا توهنوا عزائم المسلمين.
2- شددت معجري.
3- السيرة النبويّة لابن هشام ، ج 2 ص 228.

ذلك وقد صلّى الظهر ، جاء جبرئيل وقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ يأمرك بالمسير إلى بني قريظة ، فأمر رسول اللّه مؤذناً فأذّن في الناس من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلّين إلاّ ببني قريظة (1) ولبس رسول اللّه السلاح والمغفر والدرع والبيضة وأخذ قناتاً بيده ، وتقلّد الترس ، وركب فرسه ، وحفّ به أصحابه ، وتلبّسوا السلاح وركبوا الخيل ، وكانت ستّة وثلاثين فرساً ، وكان رسول اللّه قد قاد فرسين وركب واحداً ، وانتهى رسول اللّه إلى بني قريظة ، فنزل على أسفل حرّة بني قريظة ، وكان عليّ علیه السلام قد سبق في نفر من المهاجرين والأنصار ، فيهم أبو قتادة ، وطلع رسول اللّه ، فلّما رأى رسول اللّه عليّاً أمره بأخذ اللواء وكره أن يسمع رسول اللّه أذاهم وشتمهم ، فتقدّمه أسيد بن حضير ، قال : فقال : يا أعداء اللّه لا نبرح حصنكم حتّى تموتوا جوعاً. قال : يا بن الحضير نحن مواليكم دون الخزرج. قال : لا عهد بيني وبينكم ودنا رسول اللّه ، فقال صلی اللّه علیه و آله : يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطواغيت أتشتموني ؟ قالوا : فجعلوا يحلفون بالتوراة التي أنزلت على موسى ما فعلنا وقالوا : نكلّمك ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : نعم. فأنزلوا نباش بن قيس ، وقالوا : يا محمّد ننزل على ما نزلت عليه بنو النضير. لك الأموال والحلقة وتحقن دمائنا ونخرج من بلادكم بالنساء والذراري ولنا ما حملت الإبل إلاّ الحلقة فأبى رسول اللّه وقال : لا إلاّ أن تنزلوا على حكمي. فرجع نباش إلى أصحابه بمقالة رسول اللّه ولمّا وقف القوم على عزم رسول اللّه بنزولهم على حكمه ، عقدوا مجلساً للمشاورة إشترك فيها أكابر القوم ، فاقترح كعب بن أسد عليهم عدّة إقتراحات ، يعرب بعضها عن ضآلة تفكيره ويدلّ البعض الآخر على قسوته ، وإليك تلك الإقتراحات :

1 - الإيمان بما جاء به محمّد صلی اللّه علیه و آله

يا معشر بني قريظة إنّكم لتعلمون أنّ محمداً نبي اللّه وما منعنا من الدخول معه إلاّ الحسد بالعرب ، ولقد كنت كارهاً لنقض العقد والعهد ، ولكنّ البلاء وشؤم

ص: 303


1- قال الواقدي : صار إليهم النبيّ لسبع بقين من ذي القعدة ، فحاصرهم خمسة عشر يوماً ، ثمّ انصرف يوم الخميس سبع خلون من ذي الحجة سنة خمس.

هذا الجالس (1) علينا وعلى قومه ... فتعالوا نصدّقه ونؤمن به ، فنأمن على دمائنا وأبنائنا ونساءنا وأموالنا فنكون بمنزلة من معه ، قالوا لا نكون تبعاً لغيرنا. نحن أهل الكتاب والنبوّة ، فجعل كعب يردّ عليهم الكلام بالنصيحة لهم. قالوا : لا نفارق التوراة ولا ندع ما كنّا عليه من أمر موسى.

2 - قتل النساء والأولاد

إذا كنتم كارهين للإيمان بمحمّد صلی اللّه علیه و آله فهلمّوا نقتل أبناءنا ونساءنا ثمّ نخرج وفي أيدينا السيوف إلى محمّد وأصحابه ، فإن قتلنا قتلنا ، وما وراءنا أمر نهتم به ، وان ظهرنا لنتّخذن النساء والأبناء.

فصاح حيّي بن أخطب وقال : ما ذنب هؤلاء المساكين ؟ وقالت رؤساء اليهود : ما في العيش خير بعد هؤلاء.

3 - الخروج على أصحاب محمّد ليلة السبت

إنّ محمّداً وأصحابه آمنين لنا فيها أن نقاتله ، فنخرج فلعلّنا أن نصيب منه غرّة قالوا نفسد سبتنا وقد عرفت ما أصابنا فيه. قال حيّي : قد دعوتك إلى هذا وقريش وغطفان حضور فأبيت أن تكسر السبت فإن أطاعتني اليهود فعلوا. فصاحت اليهود : لا نكسر السبت. قال نبّاش بن قيس : وكيف نصيب منهم غرّة وأنت ترى أنّ أمرهم كل يوم يشتدّ كانوا أوّل ما يحاصروننا إنّما يقاتلون بالنّهار ويرجعون بالليل ، فهم الآن يبيتون الليل ويظلّون النهار ، فأي غرّة نصيب منهم ؟ هي ملحمة وبلاء كتب علينا ، فاختلفوا وسقط في أيديهم وندموا على ما صنعوا ورقّوا على النساء والصبيان وكنّ يبكين.

وعندئذٍ قال ثعلبة وأسيد إبنا سعيد وأسد بن عبيد عمّهم : يا معشر بني قريظة !

واللّه إنّكم لتعلمون أنّه رسول اللّه ، وأنّ صفته عندنا. حدّثنا بها علماؤنا

ص: 304


1- يعني حيّي بن أخطب وقد وفى بعهده ، بعد تفرّق الأحزاب ، فدخل حصن بني قريظة ليشترك معهم في المصير.

وعلماء بني النضير . هذا أوّلهم يعني حيّي بن أخطب مع جبير بن الهيّبان. أصدق الناس عندنا وهو خبّرنا بصفته عند موته. قالوا : لا نفارق التورة ، فلمّا رآى هؤلاء النفر إباءهم ، نزلوا في الليلة التي في صبحها نزلت قريظة ، فأمنّوا على أنفسهم واهلهم وأموالهم.

اقتراح رابع

واقترح عمرو بن سعد وقال : يا معشر اليهود إنّكم حالفتم محمداً على ما حالفتموه عليه ، أن لا تنصروا عليه أحداً من عدوّه وأن تنصروه ممّن دهمه فنقضتم ذلك العهد الذي كان بينكم وبينه فلم أدخل فيه ولم أشرككم في عذركم ، فإن أبيتم أن تدخلوا معه ، فاثبتوا على اليهوديّة وأعطوا الجزية ، فو اللّه ما أدري يقبلها أم لا ؟ قالوا : نحن لا نقرّ للعرب بخرج في رقابنا يأخذوننا به ، القتل خير من ذلك.

ولمّا طال الحصار وأذعنت بنو قريظة أنّ النبيّ الأكرم لا يتركهم إلاّ أن ينزلوا على حكمه ، بعثوا إلى رسول اللّه حتّى يبعث إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر ، وكان حليف الأوس ليستشيروه في أمرهم ، فأرسله رسول اللّه فلّما رأوه قام إليه الرجال ، وبكت النساء والصبيان ، فرقّ لهم ، وقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمّد ؟ فأشار بيده إلى حلقه ، يعني أنّه الذبح.

ثمّ ندم أبو لبابة من إذاعة سرّ رسول اللّه ، قال : فو اللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنت اللّه ورسوله ، ثمّ انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول اللّه حتّى إرتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال : لا أبرح مكاني هذا حتّى يتوب اللّه عليّ ممّا صنعت ، وعاهد اللّه : أن لا أطأ بني قريظة أبداً ولا اُرى في بلد خنت اللّه ورسوله فيه أبداً ، وفي ذلك نزل قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( الأنفال / 27 ).

فمكث سبعة أيّام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً حتّى خرّ مغشياً عليه ، ثمّ تاب اللّه عليه ، فقيل له يا أبا لبابة قد تيب عليك ، فقال : لا واللّه لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول اللّه هو الذي يحلّني ، فجاءه فحلّه بيده ، ثمّ قال أبو لبابة : إنّ من تمام توبتي أن

ص: 305

أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي ، فقال النبيّ : يجزيك السدس أن تصدّق به.

وقد نزل أيضاً في توبته قوله سبحانه : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / 102 ) (1).

فلمّا أصبحوا ، نزلوا على حكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فتواثبت الأوس ، فقالوا : يا رسول اللّه وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت ( يريدون بني قينقاع - وكانوا حلفاء الخزرج - فسأله إيّاهم عبد اللّه بن أبي ، فوهبهم له ) قال رسول اللّه : ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : نعم. قال رسول اللّه : فذلك إلى سعد بن معاذ ، فلمّا حكّمه رسول اللّه أتاه قومه إلى رسول اللّه ، فلمّا إنتهى سعد إلى رسول اللّه قال - يخاطب الأوسيين - : قوموا إلى سيّدكم ، قالت الأوس - الذين بقوا عند رسول اللّه - : يا أبا عمرو ! إنّ رسول اللّه قد ولاّك الحكم ، فأحسن فيهم واذكر بلاءهم عندك ، فقال سعد بن معاذ : أترضون بحكمي لبني قريظة ؟ قالوا : نعم ، قد رضينا بحكمك وأنت غائب عنّا ، قال سعد : عليكم عهد اللّه وميثاقه أنّ أحكم فيكم ما حكمت. قالوا : نعم ، قال سعد : فإنّي أحكم فيهم أن يقتل من جرت عليه الموسى ، وتسبى النساء والذريّة وتقسّم الأموال ، وفي نقل آخر : أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسّم الأموال وتسبى الذراري والنساء ، ورضي رسول اللّه بحكم سعد (2).

وقال ابن هشام : إنّ بني قريظة طلبوا من النبيّ أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، قال : إنّ علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة : يا كتيبة الإيمان ! وتقدّم هو والزبير بن العوّام ، فقال : واللّه لأذوقنّ ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم ، فقالوا : يا محمّد ننزل على حكم سعد بن معاذ ، واُجري الحكم حسبما رأى سعد.

ص: 306


1- السيرة النويّة ، لابن هشام ، ج 2 ص 237 ، والمغازي للواقدي ج 2 ص 505 ومجمع البيان ج 4 ص 824.
2- المغازي للواقدي ج 2 ص 512.

إنّ المستشرقين قد استغلّوا هذه الواقعة ، فحاولوا أن يتّهموا قضاء سعد بن معاذ بالقسوة والخروج عن العدل ، ولكنّهم نظروا إلى الواقعة بعين واحدة ، فنظروا إلى ما حاق ببني قريظة من الذلّ والخزي ، وقد أحاطت بهم نساؤهم وأطفالهم بالبكاء عليهم ، فزعموا أنّ مقتضى العدل والرحمة هو الإغماض عنهم ، وعن جريمتهم ، ولأجل دعم أنّ العدل والحق كانا يقضيان بما قضى به سعد بن معاذ نشير للاُمور التالية.

لا شك أنّ عواطف سعد وأحاسيسه ومشاعره ومناظر الصبيان ونساء بني قريظة ، وأوضاع رجالهم وملاحظة الرأي العام ( الأوسيين ) ، كان يثير الإشفاق لهم والإغماض عن جريمتهم. كلّ هذه الإعتبارات كانت تقتضي أن تجعل القاضي فريسة العاطفة ، ويبرّئ بني قريظة الجناة الخونة وأن يخفّف من عقوبتهم أكبر قدر ممكن ، لكنّ منطق العقل وحرّية القاضي واستقلاله ، وقبل كلّ شيء مراعاة المصالح العامّة ، قاده إلى الحكم بقتل رجالهم الخونة وسبي نسائهم وأطفالهم ، ولقد استند الحاكم في حكمه إلى الاُمور التالية :

1 - إنّ يهود بني قريظة كانوا قد تعهّدوا للنّبي - عند نزوله بالمدينة - بأنّهم لو تآمروا ضدّ الإسلام والمسلمين وناصروا أعداء التوحيد وألّبوهم على المسلمين ، كان للنبيّ أن يقوم بقتلهم وسبي نسائهم ، وإليك نقل هذه الإتفاقيّة : ... ألاّ يعينوا على رسول اللّه ، ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية لا بليل ولا بنهار. اللّه عليهم بذلك شهيد ، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلّ من سفك دماءهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، وأخذ أموالهم (1).

إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدة وكان الذي تولّى أمر بني النضير : حيي بن أخطب وهو الذي رغّب رئيس بني قريظة على نقض العهد ورفضه ، كما أنّ الذي تولّى أمر بني قريظة هو كعب بن أسد ،

ص: 307


1- بحار الأنوار ج 19 ص 111 ، ونقله الصدوق في كمال الدين ، وأخرجه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره.

الذي نقض عهد النبي وسبّه بمحضر من أصحابه من سعدين وغيرهما.

فلو حكم سعد بن معاذ على قتل رجالهم وسبي نسائهم فإنّما استند إلى هذه الاتفاقية التي تولّى أمرها رؤساؤهم وأكابرهم ، فلو كان سعد حاكماً بغير ما ورد فيها ، فقد بخس حق المسلمين وظلمهم ، فالعدل في القضاء كان يقتضي عدم الخضوع لحكم العاطفة.

2 - ارتكبت بنو قريظة جريمة عظيمة في ظروف حرجة عندما لم يبق بين المسلمين ، وإبادتهم واستئصالهم واستيلاء الأحزاب عليهم ونسفهم من رأس إلاّ خطوة أو خطوتان لولا أنّ اللّه بدّد شمل الكفّار ، وسخّر عليهم الرياح والبرد ، وفرّق كلمتهم ، ونشر فيهم سوء الظن بحلفائهم.

هذا ما قد كان ، ولكنّ التاريخ يمكن أن يعيد نفسه ويرجع الأحزاب في العام القابل أو بعد برهة من الزمن مستمدّين في إستيلائهم من هذا الطابور الخامس المتواجد بين المسلمين ، ولم يكن ذلك الاحتمال أمراً بعيداً في نظر القاضي بل أمراً قريباً جدّاً ، فلو كان حكم عليهم بالعفو لخان بمصالح المسلمين العامّة وجعلهم في دائرة الخطر.

إنّ بني قريظة قد جسّدوا العداوة بين اليهود والمسلمين وأثبتوا أنّ بني إسرائيل لا تطيب نفوسهم إلاّ باستئصال المسلمين ، فلو عادت الأحزاب إلى المدينة من جديد لعادوا إلى مشاركة العرب وقريش في حربهم ضدّ النبي صلی اللّه علیه و آله ، أفهل يمكن للقاضي العادل أن ينظر إلى هذا الاحتمال بعين التساهل ؟!

3 - من المحتمل جداً أنّ سعد ابن معاذ رئيس قبيلة الأوس الموالين ليهود بني قريظة كان واقفاً على قانون العقوبات لدى اليهود. فإنّ التوراة تنصّ على ما يلي :

« حين تقرب من مدينة لكي تحاربها إستدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها ، يكون لك للتسخير ويستعبد لك ،

ص: 308

وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها ، وإذا دفعها الربّ إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف ، وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة كلّ غنيمتها فتغتنمها لنفسك » (1).

4 - والّذي نتصوّره أنّ أكبر أسباب هذا الحكم هو أنّ سعد بن معاذ رأى باُمّ عينيه أنّ رسول اللّه عفا عن بني قينقاع ونزل على طلب الخزرجيين منه العفو منهم ، واكتفى من عقابهم بإخراجهم من المدينة ، ولكنّ تلك الزمرة ما غادرت أراضي الإسلام حتّى بدأت بالمشاغبة والمؤامرة الدنيئة ضد الإسلام ، فذهب كعب بن الأشرف إلى مكّة وأخذ يتباكى دجلاً وخداعاً على قتلى بدر ولم يفتأ عن تأليب قريش ضد الرسول ، وكانت نتيجة تلك المؤامرة وقعة اُحد الّتي استشهد فيها أزيد من سبعين صحابيّاً من خيرة أبناء الإسلام.

هكذا عفا الرسول عن بني النضير المتآمرين واكتفى من عقابهم بمجرّد الإجلاء ، ولكنّهم قابلوا هذا الموقف الإنساني بتأليب القبائل العربية ضد الإسلام ، حتّى أنّهم عقدوا إتّحاداً عسكريّاً فيما بينهم ، وكانت من أخطر المعارك على الإسلام لولا منّه سبحانه وحنكة رسوله وتضحيات أصحابه.

وقد أعطت هاتان الواقعتان للقاضي دروساً كافية ، فوقف على أنّ الإفراج عن بني قريظة - هذه الشرذمة الباغية والطغمة الظالمة - سوف يثير على المسلمين ما كانوا يجتنبون عنه ، فسوف يقومون باتّحاد عسكري أوسع ويؤلّبون العرب على الإسلام.

والّذي يكشف عن إخلاص ونواياه الحسنة أنّ قومه الأوسيين كانوا مصرّين على العفو عن بني قريظة والحنان لهم ، وكان الرئيس أحوج ما يكون إلى تأييد قومه ، وكانت مخالفتهم توجّه إليه أكبر ضربة ، ولكنّ القاضي الحر أدرك أنّ جميع هذه الشفاعات تخالف مصالح الآلاف من المسلمين ، فانطلق من منطق العقل ورفض رضا قومه فأخذ برضا اللّه.

ص: 309


1- التوراة ، سفر التثنية الفصل العشرون / 10 - 14.

4 - غزوة خيبر أو بؤرة الخطر :

اشارة

كانت منطقة خيبر منطقة واسعة خصبة تقع على بعد 176 كيلومتراً من المدينة وكانت تسكنها قبائل من اليهود مشتغلين فيها بالزراعة وجمع الثروة ، وكانوا متسلّحين بأقوى الوسائل الدفاعيّة ، حيث كان عدد نفوسهم يقارب عشرين ألف نسمة بينهم عدد كبير من الأبطال الشجعان (1).

إنّ النبي الأكرم قد أجلى بني قينقاع وبني النضير من المدينة ، وأباد بني قريظة ، وظلّ السلام يخيّم على المدينة وأطرافها ، غير أنّه كان بقرب المسلمين حصن حصين ليهود خيبر ، وهم الذين شجّعوا جميع القبائل العربية على محاربة الحكومة الإسلامية والقضاء عليها ، فلم يكن النبي صلی اللّه علیه و آله أن يضرب الصفح عنهم ولا يفكّر فيهم ، وهم الذين موّنوا جيش العرب بأموالهم ، وثرواتهم ، ووعدوهم بثمار المدينة.

وبما أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قد عقد الصلح مع قريش في السنة السادسة من الهجرة واطمئنّ من جانبهم ، وبما أنّه راسل الملوك والسلاطين ودعاهم جميعاً إلى الإسلام ، فلم يكن من المستبعد أن يستغلّ كسرى وقيصر يهود خيبر فيتعاونوا على القضاء على الإسلام.

ومن هنا رأى النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله أن لا يضيّع هذه الفرصة حيث انّ قريش صالحت رسول اللّه على أن لا تتعاون عليه ، فقد فرغ باله من جانبهم ، فلو دخل هو في محاربة اليهود ، لما ساعدتهم قريش ، ولكن كان من الممكن أن تقوم قبائل النجد بمساعدتهم ، فخطّط رسول اللّه للإستتار ، وفاجأهم على وجه لم يعلموا به حتّى وجدوا جيش المسلمين أمام حصونهم.

ص: 310


1- تاريخ الطبري ، ج 2 ص 46 ، السيرة الحلبية ج 3 ص 36.

غادر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة وأمر أن ينادى فيها بأنّه لا يخرج معي إلاّ راغب في الجهاد ، أمّا الغنيمة فلا ، واستخلف فيها نميلة بن عبد اللّه الليثي ، فأخذ يسير إلى شمال المدينة ، وكان المسلمون يظنّون أنّه يريد غزو قبائل غطفان وقزارة الذين تعاونوا مع قريش في معركة الأحزاب ، ولكنّه عندما وصل أرض الرجيع ، عرّج بجيشه صوب خيبر ، وبهذا قطع الطريق على أيّة إمدادات عسكرية من ناحية الشمال إلى خيبر ، وحال بين قبائل غطفان وقزارة ويهود خيبر ، فعلى الرّغم من أنّ الحصار إمتدّ على اليهود قرابة شهر لم تستطع القبائل المذكورة أن تمدّ حلفاءهم اليهود بأيّ شيء (1).

فلمّا نزل النبيّ صلی اللّه علیه و آله قرب خيبر مع 1600 مقاتل والخيبريّون بين عشرين ألف نسمة ، دعا بهذا الدعاء :

« اللّهم ربّ السموات وما أظللن ، وربّ الأرضين وما أقللن ... نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها » (2).

وهذا الدعاء يكشف عن نوايا النبي وهو يدعو به أمام 1600 من جنوده الشجعان الذين كان كل واحد منهم شعلة وهّاجة من الشوق إلى القتال في سبيل اللّه ، ولكنّ هذا الدعاء أنار الهدف من هذا الغزو وأنّه يطلب خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ثمّ أمر بإحتلال المواقع والمواضع الحسّاسة ليلاً بحيث لم يقف واحد من الخيبريين ، ولا القاطنين في أبراج حصونهم السبعة على قدوم المسلمين ، واحتلالهم القلاع السبع ، وصدّ الطريق على سائر القبائل ، ولمّا طلع الشمس خرج الفلاّحون من الحصن مغادرين بيوتهم إلى مزارعهم وبساتينهم ، ففوجئوا بجيش التوحيد ، فرجعوا إلى حصونهم وهم يقولون : محمد والجيش معه. فبادروا إلى إغلاق أبواب الحصون. ثمّ عقدوا إجتماعاً عسكرياً داخل حصنهم المركزي ، فلمّا رأى رسول اللّه مساحي اليهود ، إستغلّ تلك المنظرة فقال :

ص: 311


1- السيرة النبويّة ج 2 ص 303.
2- الكامل لابن الأثير ج 2 ص 147.

« اللّه أكبر خربت خيبر. إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ».

وقد إتّخذت اللجنة العسكرية قراراً خاصاً ، وهو أن يجعل الأطفال والنساء في واحد من الحصون ، ويجعل الطعام والذخيرة في حصن آخر ، ويستقرّ المقاتلون على الأبراج ويدافعوا عن كل حصن بالأحجار ، ثمّ يخرج الأبطال الصناديد من كلّ حصن ويقاتلون المسلمين خارجه.

كانت هذه خطّة اليهود الدفاعيّة لمواجهة جنود الإسلام ، وقد أصرّوا على تنفيذها حتّى آخر لحظة ، وبهذا التخطيط استطاعوا أن يقاوموا الجيش الإسلامي قرابة شهر كامل ، إلى أن وفّق اللّه تبارك وتعالى المسلمين بفتح هذه القلاع واحدة بعد اُخرى.

فكان أوّل حصن إفتتح حصن ناعم ، ثمّ القموص ( حصن بني أبي الحقيق ) وهكذا سائر الحصون افتتحت واحد بعد الآخر.

ثمّ إنّ الآيات الواردة في هذه الواقعة على قسمين :

قسم نزل في صلح الحديبيّة ، حيث إنّ النبي الأكرم صالح قريشاً ، وكانت تلك المصالحة مرّة في مذاق بعض الأصحاب ، فنزل الوحي بأنّهم سوف يصيبهم مغانم كثيرة يريد بها غنائم خيبر. قال سبحانه :

( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ بِهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الفتح / 19 - 21 ).

وهذه الآيات نزلت في قصّة الحديبيّة ، وبذلك كسب النبي رضا بعض الصحابة الذين كان تهمّهم الغنيمة والفوز بالمال.

فإذا كان المراد من الآية : ( وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ) هو غنائم خيبر يكون المراد من قوله : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) هو قصّة الحديبيّة ، فقد كان للمسلمين في

ص: 312

صلحها فوز عظيم ، وإن لم يقف عليها السطحيون منهم ، كما أنّ المراد من الناس في قوله : ( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ) هو قريش ، وبذلك يعلم أنّ تفسير هاتين الجملتين بغزوة خيبر تفسير على وجه بعيد وإن اختاره أمين الإسلام في مجمعه.

ومن أمعن النظر في سورة الفتح يرى أنّ الجميع على سبيكة واحدة فركّز على قصّة الحديبيّة ويعد الفوز بمغانم كثيرة وليس هو إلاّ غزوة غنائم خيبر.

وقسم آخر نزل عند مغادرة النبي المدينة قاصداً إلى خيبر وهو قوله سبحانه :

( سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الفتح / 15 ).

قال الطبرسي :

« لمّا انصرف المسلمون عام الحديبيّة بالصلح وعدهم اللّه تعالى فتح خيبر وخصّ بغنائمها من شهد الحديبية دون من تخلّف عنها فلمّا انطلقوا إليها ، قال هؤلاء المخلّفون « ذرونا نتبعكم » يريدون بذلك تبديل كلام اللّه ومواعيده لأهل الحديبيّة بغنيمة خيبر خاصّة ، فأرادوا بالمشاركة ابطال هذا النبأ ، ثمّ قال سبحانه :

( قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ ... ) (1).

قصّة فدك والتصالح مع أهالي وادي القرى

لمّا فرغ رسول اللّه من خيبر قذف اللّه الرعب في قلوب أهل « فدك » حين بلغهم ما أوقع اللّه تعالى بأهل خيبر ، فبعثوا إلى رسول اللّه يصالحونه على النصف من فدك فقدمت عليه رسلهم بخيبر ، فقبل ذلك منهم رسول اللّه ، فكانت فدك لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خالصة لأنّه لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب (2).

ص: 313


1- مجمع البيان ج 5 ص 114.
2- السيرة النبويّة لابن هشام ، ج 2 ص 353.

قال سبحانه : ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الحشر / 6 ).

كانت فدك منطقة خصبة كثيرة الخير قرب خيبر وهي تبعد عن المدينة ما يقارب من خمس كيلومترات ، فقد شاء اللّه تبارك وتعالى أن تكون ملكاً مطلقاً للرسول الأكرم يصرفه في مصالح الإسلام والمسلمين حسبما يشاء ، ومن ثمّ وهب رسول اللّه فدكاً لابنته الطاهرة وذلك بعد ما نزل قوله سبحانه :

( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ) ( الإسراء / 26 ).

وأكّد المفسّرون من الشيعة والسنّة على أنّها نزلت في أقرباء رسول اللّه وبالأخص ابنته الزهراء علیهاالسلام فإنّها كانت أقوى مصاديق « ذى القربى » وكان المسلمون يعرفونها بأنّها هي المراد من الآية.

يقول السيوطي :

« كان علي بن الحسين السجّاد علیه السلام في الشام بعد واقعة كربلاء فسأله بعض الشاميين عن نسبه ، فتلى علي بن الحسين علیه السلام تلك الآية للتعريف عن نفسه ، فقال الشامي متعجّباً : وإنّكم القرابة التي أمر اللّه أن يعطى حقّها » ؟! (1).

نعم اختلفوا في أنّ النبي وهب ساعة نزول الآية فدكاً لابنته فاطمة أو لا ؟ فالشيعة على الأوّل ووافقهم جمع من السنّة ، وإن خالف بعضهم الآخر.

ولمّا أراد المأمون العباسي إعادة فدك إلى بني الزهراء كتب إلى المحدّث المعروف عبد اللّه بن موسى وطلب منه أن يرشده في هذا الأمر ، فوافاه الجواب بالإيجاب ، فأعاد المأمون فدكاً إلى أبناء الزهراء وذرّيتها (2).

ص: 314


1- الدر المنثور ج 4 ص 176 ، مجمع البيان : ج 3 ص 411.
2- مجمع البيان ج 3 ص 411 ، وفتوح البلدان ص 46.

وقد جلس المأمون ذات يوم على كرسي خاصّ للإستماع إلى مظالم الناس وشكاياتهم ، فكانت أوّل ما اُعطي له رسالة وصف صاحبها نفسه فيها بأنّه يدافع عن الزهراء ، فقرأ المأمون الرسالة وبكى مدّة ، ثم قال : من هذا المحامي عن الزهراء ، فقام شيخ كبير وقال : أنا هو ذا ، فانقلب مجلس المأمون من مجلس القضاء إلى مجلس الحوار بينه وبين ذلك الشيخ ووجد نفسه محجوجاً لأدلّة الشيخ ، فأمر رئيس ديوانه بالكتابة إلى عامله أن يردّ فدك إلى أبناء الزهراء ، ثمّ وشّحه المأمون بتوقيعه ، وفي ذلك يقول دعبل الخزاعي :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا *** بردّ مأمونٍ هاشمَ فدكاً (1)

و ليست الشيعة بحاجة في ذلك المقام إلى إقامة الدلائل بأنّ فدكاً كانت ملكاً موهوباً لبنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويكفي في ذلك ما قاله الإمام علي علیه السلام في رسالته إلى عثمان بن حنيف عامله بالبصرة :

« بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء ، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم اللّه ! » (2).

لقد بدأ منع بني الزهراء من فدك في عهد الخليفة الأوّل ، وكان الحال على ذلك حتّى تسنّم معاوية سدّة الحكم ، فوّزع فدكاً بين ثلاثة هم مروان ابن الحكم وعمرو بن العثمان وابنه يزيد ، ولمّا ولّى الأمر مروان ابن الحكم ، سيطر على فدك بصورة كاملة ووهبها لابنه عبد العزيز وهو وهبها لولده عمر بن عبد العزيز (3).

وهو أوّل من ردّ فدك إلى بني فاطمة ، ثمّ انتزعها الخلفاء الذين توالوا بعده من أبناء الزهراء ، وكانت بأيديهم حتّى انقرض حكم الأمويين.

ص: 315


1- شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج 16 ص 217.
2- نهج البلاغة ، الكتاب رقم 45.
3- شرح نهج البلاغة : ج 16 ص 216.

وقد اضطرب أمر فدك اضطراباً عجيباً أيام الخلافة العباسية ، فلمّا ولّي أبو العباس السفّاح ردّها على عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ، ثمّ قبضها أبو جعفر من بني الحسن ، ثمّ ردّها محمد المهدي ابنه على ولد فاطمة علیهاالسلام ، ثمّ قبضها موسى الهادي بن المهدي وهارون أخوه ، لأسباب سياسيّة خاصّة ، حتّى وصل الدور إلى المأمون فردّها على الفاطميين أصحابها الشرعيّين ضمن تشريفات خاصة وبصورة رسمية ، ثمّ اضطرب أمر فدك من بعده أيضاً ، فربّما سلبت من أصحابها وربّما ردّت إليهم ، وهكذا تراوحت بين السلب والردّ.

ولقد اُستغلّت فدك في عهد الأمويين والعباسيين في أغراض سياسّية بحتة قبل أن تستغل في أغراض إقتصاديّة.

فلقد كان الخلفاء في صدر الإسلام يحتاجون إلى عائدات فدك المالية مضافاً إلى أنّهم إنتزعوها من يد الإمام علي علیه السلام لغرض سياسي ، ولكن في العصور المتأخّرة عن ذلك كثرت ثروة الخلفاء وزادت زيادة هائلة بحيث لم يكونوا بحاجة إلى عائدات فدك ، ولهذا فإنّ عمر بن عبد العزيز لمّا أعاد فدكاً إلى بني فاطمة إحتجّ عليه بنو اُميّة واعترضوا قائلين : « هجنت فعل الشيخين ، وإن أبيت إلاّ هذا فامسك الأصل واقسم الغلّة » (1).

إنّ دراسة قصّة فدك وما ورد حولها من الأقوال والآراء يحتاج إلى بسط في الكلام وهو خارج عن مقاصد هذه الموسوعة ، وقد أشبعنا الكلام فيها في بعض كتبنا الخاصّة ببيان سيرة الأئمّة الطاهرين وفي مقدّمتهم أمير المؤمنين علي علیه السلام فمن شاء فليرجع إليه.

ص: 316


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 278.

(10) غزوات النّبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله

1 - غزوة بدر

اشارة

ليس الهدف في المقام تبيين غزوات النّبي وسراياه طيلة حياته ، فإنّ ذلك يقع على عاتق كتب السير الوافرة ، وإنمّا الهدف الإشارة إلى الغزوات الّتي قادها بعد هجرته ، ولها جذور في القرآن الكريم ، ولأجل ذلك نقتصر في عرض جهاده في سبيل اللّه على القليل منه الذي جاء ذكره في القرآن الكريم.

ومن أسمى مغازيه وأعظمها أثراً وأكبرها دويّاً غزوة بدر الكبرى التّي وقعت في « وادي بدر » المنسوب إلى « بدر بن يخلد بن نضر بن كنانة » ووادي بدر معروف ، وبينه وبين المدينة قرابة (150) كيلومترا.

بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ أباسفيان بن حرب ، مقبل من الشام في عير عظيمة لقريش ، فيها أموال لهم وتجارة من تجاراتهم ، فيها ثلاثون رجلاً من قريش أو أربعون ، منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص ، فندب المسلمين إليهم وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها ، لعلّ اللّه ينفلكموها (1) هذا ما يذكره أصحاب السير ، وهو بظاهره يكشف عن جانب من جوانب القضيّة ، ولكن كان هناك حافز آخر دفع النبي للتعرّض إلى عير قريش ، وهو أنّ المسلمين في اُمّ القرى ، كانوا يعانون من ضغط المشركين وظلمهم ، فقد كانوا يستبيحون دماءهم ويصادرون أموالهم ويخرجونهم من مساكنهم وديارهم ظلماً وبغياً ، فأراد النبي أن

ص: 317


1- السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 606 - 607 ، ومغازي الواقدي ج 1 ص 20.

يوقف قريشاً على خطورة ما يفعلون ، وأنهّم إذا تمادوا في أعمالهم الإجراميّة في مكّة ، فسوف يقوم المسلمون بقيادة نبيّهم ، بسد منافذ تجارتهم ومصادرة قوافلهم.

فخرج رسول اللّه في ثمان ليال خلون من شهر رمضان واستعمل عمرو بن اُم مكتوم على الصلاة بالناس ، وردّ أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة ، فسلك طريقه من المدينة - وبعد ما قطع منازل - نزل على واد يقال له « ذفران ». وكان أبوسفيان حين دنا من الحجاز يتحسّس الأخبار ويسأل من لقى من الركبان حتّى أصاب خبراً من بعضهم أنّ النّبي قد استنفر أصحابه قاصداً إيّاه وعيره ، فحذر عند ذلك ، فاستأجر « ضمضم بن عمرو الغفاري » فبعثه إلى مكّة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أنّ محمّداً قد عرض لها في أصحابه ، فخرج « ضمضم بن عمرو » سريعاً إلى مكّة ، ودخل وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره ، وقد جدع بعيره ، وحوّل رحله ، وشقّ قميصه ، وهو يقول :

« يا معشر قريش ، اللطيمة ، اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث ، الغوث ».

فتجهّز الناس سراعاً وقالوا : أيظن محمد واصحابه أن تكون ( عيرنا ) كعير ابن الحضري ، كلاّ واللّه ، ليعلمنّ غير ذلك ، فكانوا بين رجلين أمّا خارج وأمّا باعث مكانه رجلاً. وأوعبت قريش ، فخرجوا كلّهم إلى الغزو ، فلم يتخلّف من أشرافها إلاّ أبا لهب فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة.

أقبل أبوسفيان بن حرب ، وتقدّم العير حذراً ، حتّى ورد الماء ، فقال ل « مجدي بن عمرو » : هل أحسست أحداً. فقال : ما رأيت أحداً أنكره ، إلاّ إنّي قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا في شن (1) لهما ، ثم انطلقا ، فأتى أبوسفيان مناخهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففتَّه فإذا فيه النوى ، فقال : هذه واللّه علائف يثرب ، فرجع إلى أصحابه سريعاً ، فضرب وجه عيره عن الطريق وأخذ بها جهة

ص: 318


1- أي قربة ، وهي آلة حمل الماء.

الساحل وترك بدراً يساراً ، وانطلق حتّى أسر ع.

ولمّا رأى أبوسفيان أنّه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش : إنّكم إنّما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجّاها اللّه ، فارجعوا.

فقال أبو جهل بن هشام : واللّه لا نرجع حتى نرد بدراً - وكان بدر موسماً من مواسم العرب ، يجتمع به سوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثاً ، فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها.

فمضت قريش حتّى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي يتوسّط بينها وبين وادي البدر كثيب.

ثمّ إنّ النّبي صلی اللّه علیه و آله أتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش ، فأظهر كل رأيه. فقال عمر بن الخطاب - مهوِّلاً خطورة الموقف - : إنّها واللّه قريش وعزّها ، واللّه ما ذلّت منذ عزّت ، واللّه ما آمنت منذ كفرت ، واللّه لا تسلم عزّها أبداً ، ولتقاتلنّك ، فاتّهب لذلك اُهبته ، وأعد لذلك عدّته (1).

ثمّ قام المقداد بن عمرر ، فقال : « يا رسول اللّه ، أمض لما أراك اللّه ، فنحن معك ، واللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) . ولكن إذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ، فوالّذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى بَرْك الغِماد (2) ، لجادلنا معك من دونه حتّى تبلغه ». فقال له رسول اللّه خيراً ودعا له بخير.

ثمّ قال رسول اللّه : « أشِيروا عليّ أيّها الناس » وإنّما يريد ( رسول اللّه ) الأنصار ، وكان يظن أنّ الأنصار لا تنصره إلاّ في الدار ، وذلك انّهم شرطوا له أن يمنعوه ممّا

ص: 319


1- المغازي ، للواقدي ج 1 ص 48.
2- موضع بناحية اليمن ، وقيل هو أقصى حجر ، وقيل إنّها مدينة في الحبشة.

يمنعون منه أنفسهم وأولادهم ، وعند ذلك قام سعد بن معاذ ، فقال : « أنا اُجيب عن الأنصار ، وكأنّك تريدنا يا رسول اللّه ؟ » قال : « أجل » ; قال :

« فقد آمنّا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق ، وآتيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطّاعة ، فامض يا رسول اللّه لما أردت ، فنحن معك ، فو الّذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلّف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بناعدونا غداً ، وإنّا لصبُرٌ في الحرب ، صُدُق في اللقاء ، لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة اللّه ».

فسرّ رسول اللّه بقول سعد ، ونشّطه ذلك ، ثم قال : « سيروا وابشروا ، فإنّ اللّه تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، واللّه كإنّي الآن أنظر إلى مصارع القوم ».

ثم إنّه سبحانه يشير إلى خروج قريش من مكّة وإصرارهم على إدامة السير إلى وادي بدر ليقيموا هناك أيّاماً يسقون الخمر وتعزف عليهم القيان بقوله سبحانه : ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) ( الأنفال / 47 ).

روى ابن عباس في تفسيرالآية : « لمّا رأى أبوسفيان أنّه أحرز عيره ، أرسل إلى قريش أن ارجعوا ، فقال أبو جهل : واللّه لا نرجع حتّى نرد بدراً ... » (1) وقد تقدّم ذكره.

إنّّ غزوة بدر ، كانت أوّل غزوة قام بها المسلمون ، ولم يكن لهم تدريب في الحرب ، ولأجل ذلك كره فريق من المؤمنين الحرب ، قال سبحانه : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ) ( الأنفا ل / 5 - 6 ).

والآية ظاهرة في كراهة لفيف من المؤمنين للخروج من المدينة عند مغادرتها ، ويحتمل أن تكون إشارة إلى كراهة بعضهم للخروج في مجلس المشورة في منطقة « ذفران » ، وقد تعرّفت على بعض نصوص الكارهين.

ص: 320


1- مجمع البيان ج 2 ص 548.

وكان أكثر المؤمنين يريدون مواجهة العير دون النفير ، مواجهة غير ذات الشوكة ، حتّى يكسبوا الأموال ويجمعوا الغنائم. وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ) ( الأنفال / 7 - 8 ).

وقد عرفت أنّ النّبي قال لهم : « إنّ اللّه تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين » ولكنّ إرادة اللّه سبحانه غلبت على إرادتهم فالتقوا بالنفير دون العير ، لما في ذلك من إظهار للحق ، واعزاز للإسلام ، واستئصال للكافرين ، وإبطال للباطل.

إنتقال الرّسول إلى مكان قريب من بدر

ولمّا وقف الرّسول على أنّ الأنصار مستعدّون للحرب والقتال ، وأنّ حربهم وقتالهم عن رغبة ورضى ، ارتحل الرّسول من « ذفران » وقطع منازل حتّى نزل قريباً من « وادي بدر » ، فركب هو صلی اللّه علیه و آله ورجل من أصحابه يتعرّفان أخبار قريش ، فوقف صلی اللّه علیه و آله على شيخ في المنطقة ، فسأله عن قريش وعن محمّد وأصحابه.

قال الشيخ : إنّه بلغني أنّ محمّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الذّي أخبرني صدق ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا ( فسمّى المكان الّذي به رسول اللّه ) ، وبلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الّذي أخبرني صدق ، فهم اليوم في مكان كذا وكذا ( فسمّى المكان الّذي فيه قريش ) ; ثم انصرف. فلمّا أمسى بعث علي بن أبي طالب مع غيره يلتمسون الخبر له ، فأصابوا راوية (1) لقريش ، وعليها غلامان لهم ، فأتوا بهما فسألوهما ، فقالا : نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء وهؤلاء وراء هذا الكثيب ; فقال لهما رسول اللّه : كم القوم ؟ قالا : كثير ، قال : ما

ص: 321


1- الإبل التي يستقي عليها الماء.

عدّتهم ؟ قالا : لا ندري ، قال : كم ينحرون كل اليوم ؟ قالا : يوماً تسعاً ويوماً عشراً ، فقال رسول اللّه القوم بين التسعمائة والألف. ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ فسمّوا أسماء عدّة منهم ، فأقبل رسول اللّه على النّاس ، فقال : هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.

ولم يكتف النّبي بما وصل اليه من الأخبار ، فأرسل بعض أصحابه حتّى نزل بدراً ، فأناخ إلى تل قريب من الماء ، ثمّ أخذ زقّاً يستقي فيه ، فسمع جاريتين تتنازعان في دين عند « مجدي بن عمرو الجهني » شيخ القبيلة ، فقالت إحداهما للاُخرى : عند ما تأتي العير غداً أو بعد غد ، فأعمل لهم ، ثمّ أقضي الّذي لك ، فقال مجدي : صدقت : ثّم خلص بينهما. فرجع إلى النّبي ، فأخبره بما سمع ، فأذعن النّبي بأنّ موضع العدو قريب وهم وراء الكثيب.

نزول النّبي في وادي بدر

لمّا كانت قلب المياه في بدر ، أسرع النبي بالسير حتّى ينزل ببدر في العدوة الدنيا ، فمضى وكان الوادي ليّناً ولكن قليل الرمل ، وجاءت الأمطار فلبّدت الأرض للنّبي وأصحابه ولم يمنعهم عن السير ، ولكن أصاب قريشاً من المطر ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه ، فخرج رسول اللّه يبادرهم إلى الماء ، حتّى إذا جاء أدنى ماء من بدر ، نزل به.

ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله به : أشيروا عليّ في المنزل. فقال الحبّاب بن المنذر : يا رسول اللّه أرأيت هذا المنزل ، أمنزل أنزلكه اللّه ، فليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال : فإن هذا ليس بمنزل انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم ، فإنّي عالم بها وبقلبها ، بها قليب قد عرفت عذوبة مائه ، وماء كثير لا ينزح ، ثم نبني عليها حوضاً ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل ، ونغور ما سواها من القلب.

ص: 322

فقال رسول اللّه : يا حبّاب أشرت بالرأي ، وبادر القوم إلى الماء حتّى إذا وصلوا إلى ما يريدون نزلوا فيه. ثم أمر بالقلب فغورت ، وبنى حوضاً على القليب الّذي نزل عليه. فملي ماء ثمّ قذفوا فيه الآنية (1).

بناء العريش

فلمّا استقرّ لهم المكان إقترح سعد بن معاذ على النّبي ، فقال : يا نبي اللّه ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونعدّ عندك ركائبك ثم نلقى عدوّنا ، فإن أعزّنا اللّه وأظهرنا على عدوّنا ، كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الاُخرى ، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا ، فقد تخلّف عنك أقوام ، يا نبي اللّه ، ما نحن بأشدّ لك حبّاً منهم ، ولو ظنّوا انّك تلقى حرباً ما تخلّفوا عنك ، يمنعك اللّه بهم ، يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خيراً ، ودعا له بخير ، ثم بنى لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عريش ، فكان فيه (2).

تعليق على تغوير القلب وبناء العريش

هذا ما تذكره كتب السيرة ، ولكن للنظر في كلا الأمرين المذكورين مجالاً ، أمّا تغوير القلب وطمّها ، فهو لا يناسب شأن النبي الأكرم ، فقد كان صلی اللّه علیه و آله يوصي قادة سراياه عندما كان يبعثها باُمور ، ويقول : سيروا باسم اللّه وباللّه ، وفي سبيل اللّه ، وعلى ملّة رسول اللّه ، لا تغلو ، ولا تمثّلوا ، ولا تغدروا ، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا صبيّاً ، ولا امرأة ، ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطرّوا إليها.

وفي رواية اُخرى : ولا تحرقوا النخل ، ولا تغرقوه بالماء ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تحرقوا زرعاً ، لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه (3).

ص: 323


1- السيرة النبويّة ج 1 ص 620 ، مغازي الواقدي ج 1 ص 53.
2- السيرة النبويّة لابن هشام ج 1 ص 620 - 621.
3- الوسائل ج 11 الباب 5 من أبواب جهاد العدو ، الحديث 2 و 3.

فإنّ من يمنع من قطع الشجرة أولى بأن يمنع من طمّ القلب الّتي حفرها رجال الخير لأجل سقاية القوافل الّتي كانت تمرّ من هذا الطريق.

وقد أشار بعض أصحابه في غزوة خيبر أن يمنع جريان الماء إلى قلاع خيبر ، فأبى (1). وقد كانت هذه سيرة وصيّة أمير المومنين فإنّه - صلوات اللّه عليه - ورد صفّين وقد سيطر أصحاب معاوية على الشريعة ، فمنعوا أصحاب علي من الإستقاء ، حتّى أصابهم العطش وضاق الأمر عليهم ، فلم يكن بد من فتح طريق الماء على أصحابه ، فحمل حملة خاطفة مع لفيف من أصحابه على الشريعة فأزال جيش معاوية عنها ، فلمّا إستولى عليها إقترح عليه بعض أصحابه أن يعتدي عليهم بالمثل ، فأبى ، وقال - مخاطباً لعسكره - : خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا الى عسكركم وخلّوا بينهم وبين الماء ، فإنّ اللّه قد نصركم ببغيهم وظلمهم (2).

وأمّا بناء العريش للنّبي الأكرم ، فهو بمعزل من الصّحة ، فإنّ قبوله أمام أصحابه الّذين يضحّون بنفسهم ونفيسهم يثبّط من عزائمهم ، ويخفّف من مثابرتهم ، فإنّهم إذا رأوا باُمّ أعينهم أنّ سيّدهم على حالة إذا رأى بوادر الهزيمة فسيجلس على الركائب وينجي نفسه ويترك أصحابه تحت رحمة عدوّهم ، فلربّما يشكّون في صحّة دعوته ونبوّته ، فلا يصدر مثل ذلك الاقتراح من سيد مثل سعد بن معاذ المعروف بالعقل والحنكة ، ولو صدر منه - على وجه بعيد - فلن يقبله النّبي الأكرم الّذي يصفه علي علیه السلام بقوله : « كان أقرب الناس إلى العدوّ ، وكنّا إذا احمر البأس إتّقينا برسول اللّه » (3).

ص: 324


1- ناسخ التواريخ ج 2 ص 400.
2- وقعة صفّين ص 180.
3- نهج البلاغة : قسم غريب كلامه برقم 9.
إرتحال قريش من مقامهم ونزولهم وادي بدر

قد تعرّفت على أنّ النّبي الأكرم قد أسرع في الإرتحال واستقرّ في وادي بدر قبل أن ينزل العدو من وراء الكثيب ، فارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت ، فلمّا رأى رسول اللّه نزولهم إلى الوادي قال : « اللّهمّ هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذّب رسولك ، اللّهم فنصرك الّذي وعدتني ، اللّهم أحنهم (1) الغداة » (2).

وقال الواقدي : وكان أوّل من طلع زمعة بن الأسود على فرس له ، يتبعه ابنه ، فاستجال بفرسه يريد أن يتبوّأ للقوم منزلاً ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اللّهم إنّك أنزلت عليّ الكتاب وأمرتني بالقتال ، ووعدتني إحدى الطائفتين ، وأنت لا تخلف الميعاد ، اللّهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ... (3).

فلمّا اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي ، فقالوا : أحرز لنا محمداً وأصحابه ، فاستجال بفرسه حول المعسكر ، فصوّب في الوادي وصعد ، يقول : عسى أن يكون لهم مدد أو كمين ، ثمّ رجع فقال : لا مدد ولا كمين ، والقوم ثلاثمائة إن زادوا قليلاً ، ومعهم سبعون بعيراً ، ومعهم فرسان ، ثم قال : يا معشر قريش ، البلايا (4) تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلاّ سيوفهم ، ألا ترونهم خُرّسا لا يتكلّمون ، يتلمّظون تلمّظ الأفاعي ، واللّه ما أرى أن يقتل منهم رجل حتّى يقتل منّا رجلاً ، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم فما خير في العيش بعد ذلك ، فارتأوا رأيكم (5).

ص: 325


1- أي أهلكهم.
2- السيرة النبويّة ، ج 1 ص 621.
3- مغازي الواقدي ، ج 1 ص 29.
4- البلايا : جمع بليه وهي الناقة.
5- السيرة النبويّة ج 1 ص 622 ، والمغازي للواقدي ، ج 1 ص 62.

ولمّا قال الجمحي هذه المقالة أرسلوا أبا اُسامة الجشمي وكان فارساً ، فأطاف بالنّبي وأصحابه ، قال : واللّه ما رأيت جلداً ، ولا عدداً ، ولا حلقة (1) ، ولا كراعاً ، ولكنّي واللّه رأيت قوماً لا يريدون أن يعودوا إلى أهليهم ، قوماً مستميتين ليست لهم منعة ولا ملجأ إلاّ سيوفهم (2).

فلمّا سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في النّاس ، فأتى عتبة بن ربيعة ، فاستدعى منه أن يرجع بالنّاس فلبّى دعوته برحابة ، وأمره بالإنطلاق إلى أبي جهل ، ويستدعي منه نفس ذلك ، فرجع إليه وقال يا أبا الحكم : إنّ عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا ( أي أن ترجع بالنّاس وتترك الحرب ) ، فقال : « واللّه لا نرجع حتّى يحكم اللّه بيننا وبين محمّد. وما بعتبة ما قال ، ولكنّه قد رأى أنّ محمداً وأصحابه أكلة جزور ، وبين أصحابه ابنه ، فقد تخوّفكم عليه ». وبالتّالي أفسد أبو جهل على النّاس الرأي الّذي دعاهم إليه عتبة ، وجرّهم إلى التهلكة والدمار.

الشرارة الّتي أشعلت الحرب

كان القوم يتحاورون حول الحرب ، فبين داع إلى ترك الوادي واللحوق بمكّة ، وترك أمر محمّد إلى ذؤبان العرب (3) ، وبين متردّد يقدّم رجلاً ويؤخّر اُخرى ، ومحرّض يدعو إلى الإقدام والقتال ، فبينما كان القوم على هذه الحالة ، خرج الأسود بن عبد الأسد المخزوفي ، وكان رجلاً سيّئ الخلق ، فقال : أعاهد اللّه لأشربن من حوضهم ، أو لاُهدِّمنّه أو لأموتنّ دونه ، فلمّا خرج ، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب ، فلمّا التقيا ، ضربه حمزة فأطار قدمه بنصف ساقه ، وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً ، ثم حبا إلى الحوض ، حتّى وقع فيه ، يريد أن يبرّ يمينه ، فتبعه حمزة وضربه حتى قتله في الحوض.

ص: 326


1- أي سلاحاً.
2- المغازي ج 1 ص 62.
3- صعاليكهم.

وهذه الحادثة فرضت الحرب على قريش وأبطلت فكرة الرجوع ، فخرج عتبة ابن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن ربيعة ، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة ، فخرج إليه فتية من الأنصار. فقالوا : من أنتم ؟ فقالوا : رهط من الأنصار ، قالوا : ما لنا بكم من حاجة ، ثم نادى مناديهم : يا محمّد ، أخرج إلينا أكفّاءنا من قومنا ، فقال رسول اللّه : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا علي ، فلمّا قاموا ودنوا منهم. قالوا : من أنتم ؟ قال عبيدة : عبيدة ، وقال حمزة : حمزة ، وقال علي : علي. قالوا : نعم أكفّاء كرام ، فبارز عبيدة ، وكان أسن القوم عتبة بن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة ، وبارز عليّ الوليد بن عتبة ، فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وأمّا علي فلم يمهل الوليد أن قتله ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه (1) ، وكرّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة ، فأسرعا قتله ، واحتملا صاحبهما.

ثّم تزاحف النّاس ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصحابه أن لا يحملوا حتّى يأمرهم ، فقال : إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنّبل. ثم عدّل رسول اللّه الصفوف ، وناشد ربّه وقال : « اللّهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لن تعبد » ثم خرج رسول اللّه إلى النّاس فحرّضهم وقال : والّذي نفس محمّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلاّ أدخله اللّه الجنّة.

ثّم إنّ رسول اللّه أخذ حفنةً من الحصباء فاستقبل قريشاً بها ، ثم قال : شاهت الوجوه ، ثم نفحهم بها. وأمر أصحابه فقال : شدّوا ، فكانت الهزيمة ، فقتل اللّه تعالى من قتل من صناديد قريش ، واُسِر من اُسر من أشرافهم وفرّ من فرّ إلى مكّة.

وكان شعار أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم بدر : أحد ، أحد. فكانت الهزيمة لقريش والنّصر للمسلمين.

* * *

ص: 327


1- جرحه جراحة لم يقم معها.
الإعانات الغيبيّة
اشارة

إنّ غزوة بدر من أعظم غزوات النّبي صلی اللّه علیه و آله ، وكان انتصاره فيها معجزة غيبيّة تفضّل بها سبحانه على اُمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله حيث التقى في وادي بدر فئتان غير متكافئتين عدداً وعدّة ، ولقد كان عدد المشركين ثلاثة أضعاف عدد المسلمين ، كان المشكون بين تسعمائة وألف (1) وعدد المسلمين ثلاثمائة وبضع وعلى قول ثلاثمائة وثلاثة عشر لم يكن لدى المسلمين إلاّ فرسان ، وقد تعرّفت على كلمة أبي اُسامة الجشمي رائد القوم ( قريش ) « ... واللّه ما رأيت جلداً ولا عدداً ولا حلقة ولا كراعاً » (2).

ومع ذلك كلّه ، غلبت هذه الفئة القليلة تلك الفئة الكثيرة ، لقوّة إيمانها وتفانيها دون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ودينهم ، وفي ظل إعانات غيبيّة يذكرها القرآن الكريم ، سيوافيك بيانها.

قال سبحانه : ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( آل عمران / 123 ).

نعم ، كانوا أذلاّء ، فصاروا أعزّاء أقوياء بفضله وكرمه. قال سبحانه : ( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون / 8 ) فصاروا أعزّاء بعنايات ربّانية ، وإعانات غيبيّة تكفّل الذكر الحكيم ببيانها ونحن نذكرها إستلهاماً منه ، وتصل أنواعها إلى ثمانية ، وكان لها الدور الهام في إنتصار المسلمين.

ص: 328


1- قال الواقدي : « وخرجت قريش بالجيش يتقاذفون بالحراب ، وخرجوا بتسعمائة وخمسين مقاتلاً ، وقادوا مائة فرس ، وكانت الإبل سبعمائة بعير ، وكان أهل الخيل كلّهم دارع وكانوا مائة ، وكان في الرجالة دروع سوى ذلك » المغازي ، ج 1 ص 39.
2- المغازي ج 1 ص 62.
1 - إراءة العدو قليلاً في المنام

قد رأى النّبي في المنام وقعة بدر ، وأراه سبحانه عدد العدو قليلاً فيه ليصون المسلمين بذلك عن الفشل والتنازع ، قال سبحانه : ( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( الأنفال / 43 ).

إنّ الآية تصرّح بأنّه سبحانه أراهم للنّبي في منامه قليلاً ، وبيّن أنّ سبب ذلك هو منع طروء أمرين بين المسلمين ، أشار إليهما بقوله :

أ - ( لَّفَشِلْتُمْ )

ب - ( وَلَتَنَازَعْتُمْ )

والّذي يلزم الفات النظر إليه هو أنّ اللّه سبحانه ينسب الأمرين إلى المسلمين لا إلى النّبي الأكرم ، وهذا يعرب أنّ إراءة العدو قليلين كان مؤثّراً في عزائم المسلمين لا في عزيمة النّبي الأكرم ، فإنّه ( صلوات اللّه عليه وآله ) كان ثابتاً ، قليلين كانوا أم كثيرين ، وإنّما أراهم النّبي قليلاً حتّى ينقل رؤياه إلى المسلمين حسب ما رآه ، فتشتدّ عزيمتهم وترتفع معنويّاتهم بظنّ انّ أعدائهم أقلاّء.

2 - إراءة كلّ من الفريقين الآخر قليلاً في بدء الحرب

ومن إعاناته تعالى الغيبيّة أنّه سبحانه أرى كل فريق للفريق الآخر - عند إبتداء الحرب - قليلاً ، وقد كانت تكمن في ذلك فلسفة انتصار الحق على الباطل وزهوقه ، فأرى المشركين المؤمنين قليلين ، كما أرى المؤمنين للفريق الآخر كذلك ، حتّى انّ أبا جهل قال : خذوا أصحاب محمّد بالأيدي (1).

ص: 329


1- مجمع البيان ج 2 ص 547.

إنّما أرى المشركين المؤمنين قليلين ، حتّى لا يورث ذلك رُعبا ووحشة في قلوبهم ، وقد مرّ في الإعانة الاُولى أنّه سبحانه فعل ذلك دفعاً للفشل والتّنازع.

وإنّما أرى المؤمنين للمشركين قليلين لئلاّ يتأهّبوا ويستشرسوا في القتال ، ويتخيّلوا أنّهم لا يحتاجون في دفع عدوّهم إلى بذل جهد كبير.

قال سبحانه مشيراً إلى ذلك بقوله : ( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ) ( الأنفال / 44 ) وحاصل الآية أنّه سبحانه قلّل الفريقين في عين الآخر ، ولولا ذلك لانتهى الأمر إلى فشل المسلمين أو إلى فرار العدوّ من المعركة ، بحفظ أنفسهم. وقد تعلّقت مشيئته بإبادتهم.

3 - إراءة المشركين كثرة المؤمنين أثناء القتال

وهناك إعانة غيبيّة ثالثة وهي أنّه سبحانه أرى المؤمنين للمشركين في أثناء القتال كثيرين ، على خلاف ما أراهم إيّاه عند إبتداء القتال.

إنّ المصلحة قد اقتضت أن يُري سبحانه المؤمنين للعدو كثيرين على خلاف ما أراهم عند أوّل الحرب وذلك حتّى يتخيّل العدو أنّه وصل إلى المسلمين مددٌ كانوا بعيدين عن المعركة حتّى تتزعزع بذلك معنويّاتهم ويتقهقروا عن ميدان المعركة بعدما فتك بهم المسلمون بقتل كثيرين منهم وأسر آخرين.

قال سبحانه : ( قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ) ( آل عمران / 13 ).

اُنظر إلى قوله سبحانه : ( يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) فإنّ هذه الجملة ناظرة إلى أثناء الحرب ، وما ورد في الإعانة الغيبيّة الثانية ناظر إلى أوّل الحرب.

ص: 330

4 - إستغاثة المسلمين ونزول الملائكة

إنّ النّبي لمّا نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين استقبل القبلة ، وقال : اللّهم أنجز لي ما وعدتني ، اللّهم إن تهلك هذه العصابة ، لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف ربّه مادّاً ييديه حتّى سقط رداؤه من منكبيه ، فأنزل اللّه تعالى : ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / 9 و 10 ).

لعلّ معنى قوله : ( وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى ) إنّه سبحانه جعل الإمداد بالملائكة بشرى للمسلمين بالنّصر ولتسكن به قلوبهم وتزول الوسوسة عنها ، وإلاّ فملك واحد كاف للتدمير.

أو لعلّ معناها : انّ الإمداد بالملائكة إمداد بالسبب والنصر الحقيقي من جانب المسبّب وهو اللّه العزيز الحكيم ، وليس للسبب أصالة ولا استقلال (1).

ثمّ إنّه سبحانه جعل عدد الملائكة في هذه الآية ألفاً ، مع أنّه سبحانه أمدّ المسلمين - حسب آية اُخرى - بثلاثة آلاف كما في قوله : ( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران / 124 - 126 ).

ولكنّ الاختلاف يرتفع بالإمعان بما في ذيل الآية التّاسعة من سورة الأنفال حيث قال : ( بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) أي مردفين بملائكة اُخرى ، كما يقال أردفت زيداً خلفي ، فيكون المفعول الثاني محذوفاً ، فلو كان عدد الملائكة الاُخرى ألفين ، يصير المجموع ثلاثة ألاف.

ص: 331


1- وقد تكرّر مضمون الآية في سورة آل عمران ، الآية 126.

وهناك وجه آخر لرفع الإختلاف وهو أنّ هذا العدد ( ثلاثة آلاف ) جاء في كلام النّبي عند مخاطبة المسلمين حيث قال : ( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ ) وأمّا عدد الألف فقد جاء في كلامه سبحانه ووعده حيث قال : ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ ) .

والجمع بين الآيتين بأنّه كان في ضمير النّبي أنّه سبحانه ينزّل ثلاثة آلاف ، ولكنّه سبحانه نزّل ألفاً منهم ، وما ذلك إلاّ لأنّ الملائكة لم يقتحموا المعركة اِلاَّ بشكل جزئي كما سيوافيك ، وكان الوعد والعمل به لأجل تثبيتهم وإزالة الوسوسة عنهم.

وأمّا عدد الخمسة آلاف فلم يكن إلاّ وعداً مشروطاً بأنّ المؤمنين لو صبروا على الجهاد واتّقوا معاصي اللّه ومخالفة الرسول ورجع المشركون إليهم فوراً ، فاللّه سبحانه يمددهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين أي معلَّمين.

5 - الإمداد بالنعاس

إنّ الإنسان لا يأخده النوم في حال الخوف ، وقد قيل : الخوف مسهر والأمن منوّم ، فاللّه سبحانه أمدّهم بالنّعاس وهو أوّل النوم قبل أن يثقل ، فقوّاهم - بالإستراحة - على قتال العدو.

6 - الإمداد بنزول المطر

وقد أصابهم المطر - وكانوا أحوج شيء إليه فطهّروا به أبدانهم واغتسلوا من الجنابة ، وزادهم قوّة قلب وسكون نفس وثقة بالنّصر ، وثبّت أقدامهم في الحرب بتلبّد الرّمل.

وإلى الإمدادين : الخامس والسادس يشير قوله سبحانه : ( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ (1)

ص: 332


1- وهو الجنابة.

وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ) ( الأنفال / 11 ).

فإلى فائدة الإمداد بالنّعاس أشار بقوله : ( أَمَنَةً مِّنْهُ ) .

وإلى فوائد نزول المطر المختلفة أشار بقوله :

1 - ( يُطَهِّرَكُم ) 2 - ( يُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) 3 - ( يُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) 4 - ( وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ) .

7 - الإمداد بتثبيت أقدام المؤمنين

وقد كان لنزول الملائكة فائدة اُخرى ، وهي تثبيت أقدام المؤمنين في ميدان الحرب لئلاّ تزلّ أقدامهم عند هجوم العدو ، وكانت ساحة القتال رملاً.

8 - الإمداد بإلقاء الرّعب في قلوب المشركين

وقد أمدّهم سبحانه بإلقاء الرّعب في قلوب الكافرين.

يقول سبحان مشيراً إلى الإمدادين : ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) ( الأنفال / 12 ).

والمراد من « فَوقَ الأعناق » هي الرؤوس ، لأنّها فوق الأعناق ، كما أنّ المراد من قوله : « كُلَّ بَنَان » ، أطراف الأصابع ، ولعلّه سبحانه اكتفى به عن جملة اليد والرّجل.

وأمّا الخطاب ، فيحتمل أن يكون للملائكة ، كما استظهره أكثر المفسّرين ، أو للمؤمنين كما هو الظّاهر ، لما عرفت من أنّ الملائكة لم يقتحموا المعركة ، وإنّما كان نزولهم لأجل تثبيت القلوب.

وأمّا وجه إذلاله سبحانه قريشاً ، وأعزازه المؤمنين ، فقد بيّنه في قوله : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ

ص: 333

وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ) ( الأنفال / 13 و 14 ).

هذه مجموعة الإعانات الغيبيّة التّي شملت المسلمين ، وقد تعلّقت مشيئته سبحانه بإختصاص الإعانات الربّانيّة بالمؤمنين ، والوساوس الشيطانيّة بالمشركين ، فقد ظهر الشيطان ، وتجسّم للكافرين يوم بدر ، وزيّن لهم أعمالهم وخروجهم بطراً ورئاء النّاس ، ثمّ قال لهم بأنّه لا يغلبكم أحد من الناس لكثرة عددكم ، وقوّتكم ، وأنا ناصر لكم ، ودافع عنكم السوء ، ولمّا التقت الفرقتان ، رجع العدو القهقرى منهزماً ، لأنه رأى عناية اللّه سبحانه بالمسلمين.

وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / 48 ).

وقد علّل الشيطان تقهقره بأمرين :

الأوّل : إنّه يرى ما لا تراه قريش أعني الملائكة الّذين جاءوا لنصرة المؤمنين.

الثّاني : إنّه يخاف اللّه.

إختلافهم في الفيء

إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر بما في العسكر ، ممّا جمع النّاس ، فجُمع ، فاختلف المسلمون فيه فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الّذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه : واللّه لولا نحن ما أصبتموه لنحن شغلنا عنكم القوم حتّى أصبتم ما أصبتم ، وقال الّذين يحرسون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : واللّه ما أنتم بأحق به منّا ، واللّه لقد رأينا أن نقتل العدو إذ منحنا اللّه أكتافهم ، وقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه ، فخفنا على رسول اللّه كرّة العدو ، فقمنا دونه ، فما أنتم بأحقّ به منّا.

كان الأولى بالمسلمين أن يفوّضوا أمر الفيء إلى الرّسول أخذاً بالتسليم الّذي

ص: 334

أمر به المسلمون.

سُئل عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا أصحابَ بدر نزلت ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت أخلاقنا ، فنزعه اللّه من أيدينا ، فجعله إلى رسوله ، وقال : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( الأنفال / 1 ) (1).

وروي عن ابن عباس أنّ سبب سؤالهم هو أنّ النّبي قال يوم بدر : من جاء بكذا ، فله كذا ، ومن جاء بأسير ، فله كذا ، فتسارع الشبّان ، وبقي الشيوخ تحت الراية ، فلمّا انقضت الحرب طلب الشبّان ما كان قد نفلهم النّبي به ، فقال الشيوخ : كنّا ردءاً لكم ولو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا وجرى بين أبي اليسر وبين سعد بن معاذ كلام ، فنزع اللّه تعالى الغنائم منهم (2).

ما معنى الأنفال في الآية ؟

الأنفال جمع نفل ، وهو بمعنى الزيادة ، ولو أطلقت على الرواتب من الصلوات وغيرها فلأجل أنّها زيادة على الفريضة ، وربّما تستعمل في العطيّة ، ولعلّ المعنيين متقاربان.

وقد اُطلق هذا اللّفظ في الآية واُريد منه غنائم الحرب ، فيكون مساوياً لقوله سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الأنفال / 41 ) والآيتان نزلتا في غزوة بدر ، وسيوافيك الجمع بين مضمونيهما ، حيث جعلت الاُولى الأنفال لله. والثّانية خصّت الخمس منها لله وللرّسول ولذي القربى ، والطوائف الثلاث الاُخرى ، فانتظر.

ص: 335


1- السيرة النبويّة لابن هشام ج 1 ص 641 - 642.
2- مجمع البيان ، ج 2 ص 518.

وأمّا الغنائم التّي يحصل عليها النّبي عن غير طريق الحرب ، أي بلا إيجاف عليه بخيل ، ولا ركاب ، فيطلق عليها الفيء ، قال سبحانه : ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الحشر / 6 و 7 ).

وقد نزلت الآيتان في أموال كفّار أهل القرى ، وهم بنو النضير وبنو قريظة قرب المدينة ، وفدك. وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم بني النضير للأنصار : إن شئتم قسّمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم ، وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسّم لكم شيء من الغنيمة ، فقال الأنصار : بل نقسّم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ، ولا نشاركهم فيها ، وفيهم نزل قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( الحشر / 9 ).

نعم ربّما تطلق الأنفال ويراد منها غير غنائم الحرب بل معنى يرادف الفيء ، أو شيئاً أوسع منه ، قال الإمام الصادق : « الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ( الفيء ) ، أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، وكلّ أرض خربة ، وبطون الأودية ، فهو لرسول اللّه ، وللإمام من بعده يضعه حيث يشاء ».

وبذلك يعلم أنّ الأنفال بما أنّ له معنى وسيعاً ، يطلق على غنائم الحرب تارة ، وعلى ما يحصل عليه النّبي من غير إيجاف بخيل ولا ركاب ، وثالثاً على معنى أوسع يشمل على بطون الأودية ، ورؤوس الجبال ممّا ورد في الروايات.

ص: 336

الجمع بين مفاد الآيتين

إنّ الآيتين : ( قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَ ... ) .

نزلتا في غزوة بدر ، فعلى ضوء ذلك يكون المراد من الأنفال هو غنائم الحرب ، وقد جعله في الآية الاُولى لله وللرّسول ، وفي الآية الثانية للمسلمين إلاّ الخمس ، فخصّه لله والرسول وذي القربى والطوائف الثلاث الباقية ، فكيف التوفيق بينهما ؟ فهل الآية الثانية ناسخة للاُولى أو لا ؟

والجواب انّه لا تنافي بين الآيتين حتّى تكون الثانية ناسخة للاُولى لا تفيد إلاّ كون أصل ملكها لله وللرّسول من دون أن تتعرّض لكيفيّة التصرّف وجواز الأكل والتمتّع ، وأمّا الآية الثانية فهو يبيّن كيفيّة التصرّف والأكل والتمتع ، وتكون الثانية مبيّنة للاُولى. فأصل الملك في الغنيمة لله والرّسول ، ثمّ ترجع أربعة أخماسها إلى المجاهدين به يمتلكونها ، ويرجع خمس منها إلى اللّه والرّسول وذي القربى وغيرهم (1).

وبعبارة اُخرى : انّ أمرها مفوّض إلى اللّه ورسوله ، ثمّ بيّن سبحانه مصارفها ، وكيفيّة قسمتها في آية الخمس ، ثمّ إنّ التعبير عن الغنائم بالأنفال التّى هي بمعنى الزيادات ، لأجل الإشارة إلى تعليل الحكم بموضوعه ، كأنّه قيل يسألونك عن الغنائم ، وهي زيادات لا مالك لها بين النّاس ، وإذا كان كذلك ، فأجبهم بحكم الزيادات والأنفال ، وقل الأنفال لله والرّسول ، ومنها الغنيمة ، فهي لله والرّسول بالذات ، وإنّما يتمتّع بها المسلمون ، حسب ما ورد في الآية الثانية.

ثمّ إنّ اللام في قوله : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ ) وإن كانت للعهد ، تشير إلى غنائم الحرب ، لكنّها في قوله : ( قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ ) للجنس ، وعليه فكل ما يعدّ زيادة ، فهو لهما بالذات من غير فرق بين غنائم الحرب ، أو ما حصل عليه

ص: 337


1- الوسائل ج 6 كتاب الخمس الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث 1 ص 364.

بغير خيل ولا ركاب ، أو ليس له مالك خاص ، فالأموال الزائدة في المجتمع نظير الديار الخالية ، والقرى البائدة ، ورؤوس الجبال ، وبطون الأودية ، وقطائع الملوك ، وتركة من لا وارث له.

نعم يقسّم قسم خاص من الأنفال بين المقاتلين ، وهو ما أوجفوا عليه بخيل وركاب ، دون الباقي ، وتفصيل الكلام في الفقه.

أخذ الأسرى قبل الدعم والإستقرار

أمر رسول اللّه بقتل أسيرين أعني النضربن حارث وعقبة بن أبي معيط لأعمالهما الإجرامية في مكّة قبل الهجرة وبعدها ، فخافت الأنصار أن يقتل الأسرى ، فقالوا يا رسول اللّه : قتلنا سبعين وهم قومك واُسرتك أتجذّ أصلهم ؟ فخذ يا رسول اللّه منهم الفداء. وقد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش ، ولمّا طلبوه وسألوه ، نزل قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنفال / 67 - 69 ).

إنّ الاثخان في الأرض عبارة عن التغليظ. يقال : ثخن الشيء فهو ثخيبن إذا غلظ فلم يسل ، فكنّي به عن استقرار دينه بين النّاس كاستقرار الشيء الغليظ المنجمد الثّابت بعدما كان رقيقاً سائلاً مخشيّ الزوال بالسيلان ، فالآية تحرّم أخذ الأسرى قبل أن يستقر للمسلمين أمرهم ، ويعرب عن أنّ الهدف من الأمر بقتل الأسرى ، وعدم أخذ الفداء ، لأجل انّ في اطلاق سراحهم قبل الاستقرار مظنّة إجتماعهم ، وتكاثفهم ، ووثوبهم على النّبي ، والمسلمين من جديد ، فيجب إبادتهم واستئصالهم إلى حد الإثخان الذّي لا يخاف معه عن توثّبهم وتكاثفهم مرّة اُخرى.

إنّ اتخاذ الأسرى إنّما يكون خيراً ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل ، ولولاه لانقلب شرّاً ، والّذين يقترحون أخذ الأسرى ،

ص: 338

يريدون عرض الدّنيا ، أعني المال الّذي يأخذونه من الأسرى فداء لهم ، واللّه يريد ثواب الآخرة الباقي.

والعتاب خاص بالصحابة والمسلمون الأوائل دون النّبي ، بشهادة تغيّر لحن الكلام حيث إبتدأه بقوله : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ) وانتهى بالخطاب للمسلمين ( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ) ، والخطاب خاص بهم لا يشمل النّبي ، وحاشا نبيّ العظمة أن يريد عرض الدّنيا.

ومن رديء الكلام ، ما مرّ في تفسير المراغْي وغيره ، من أنّه سبحانه عاتبهم على ما فعلوا بعد بيان سنّة النبيين كما عاتب رسوله (1).

والآية تعرب أنّ السنّة الجارية في الأنبياء الماضيبن هي أنّهم كانوا إذا حاربوا أعداءهم ، وظفروا بهم ينكّلونهم بالقتل لكي يضعفوا أوّلاً ، ويعتبر بهم مَنْ وراءهم ، فيكفّوا عن محادّة اللّه ورسوله ، فكانوا لا يأخذون أسرى حتّى يثخنوا في الأرض ، ويستقرّ دينهم بين النّاس ، وأمّا مسألة المنّ أو الفداء ، فإنّما هو بعدما علا أمر الإسلام ، واستقرّ في الحجاز واليمن : ( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) ( محمد / 4 ) ، فحكم الأسرى قبل الإثخان هو القتل ، وأمّا بعده ، فالحكم هو شدّهم في الحبال ، وسوقهم على الأقدام حتّى يتعامل معهم بأحد الأمرين : المنّ واطلاق السراح ، أو أخذ الفدية.

وبذلك يعلم أنّ الأمر بقتل الأسرى إنّما كان حكماً مؤقّتاً زمنياً مختصّاً بزمن لم يستقر أمر النّبي ولا دينه ، فكان في أخذ الأسرى مظنّة الخوف على بيضة الإسلام ، وأمّا إذا ارتفع ذلك الخوف ، وضرب الإسلام بجرانه (2) في الأرض ، فالحكم السائد هو ما جاء في سورة محمد صلی اللّه علیه و آله من المنّ ، أو أخذ الفداء ، فلربّما يستدلّ بالآية على أنّ الإسلام يسرف في إراقة الدماء ، وقتل النفوس ، لا أصل له ، لأنّ الأمر بالقتل ، وعدم أخذ الأسرى ، كان راجعاً إلى حالة خاصّة ، وهي حالة

ص: 339


1- تفسير المراغي ج 4 ص 36.
2- ضرب الإسلام بجرانه : أي ثبت واستقرّ.

عدم استقرار الإسلام في المنطقة كما كان الحال كذلك في السنوات الاُولى قبل غزوة الأحزاب ، وأمّا بعدها فقد علا أمر النّبي واستقرّ ، فلم تكن حاجة إلى قتل الأسرى ، بل كان السائد هو ما ورد في سورة محمد صلی اللّه علیه و آله من إطلاق سراحهم منّاً عليهم ، أو أخذ الفدية منهم.

بل الظروف في غزوة واحدة كانت مختلفة ، فربّما تسود في السّاعات الاُولى من الحرب حالة عدم الاستقرار والتزلزل ، ومظنّة رجوع العدو ثانياً بعد إطلاق سراحه ، فلا يؤخذ الأسرى ، والحال إنّ الحالات الأخيرة من الحرب كانت على عكس ذلك ، فلم يكن أيّة مظنّة للكرّة ، فيختصّ قتل الأسرى في غزوة واحدة بالسّاعات الاُولى أي ساعات عدم الإستقرار ، ومظنّة الكرة لا الساعات الأخيرة.

ثُمَّ إنّ الآية الثانية أعني قوله : ( لَّوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) يعرب عن عظم المعصية ، أعني أخذ الأسرى قبل الاثخان في الأرض لما فيه من مظنّة زوال الإسلام وكيانه.

كيف ولولا كتاب سابق لمسّ المسلمين ، أو المصرّين على الأخذ عذاب عظيم. وأمّا ما هو هذا الكتاب الّذي سبق ، فقد اُبهم غاية الابهام ، لأنّه أنسب في مقام المعاتبة ليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن ، ولا يتعيّن عنده ، فيهون عنده الأمر. ومن رديء الكلام ما مرّ في غير واحد من التفاسير : قال رسول اللّه : « إن كاد ليمسّنا في خلاف ابن الخطّاب ( حيث كان يقترح القتل خلاف الباقين حيث كانوا يقترحون الأخذ ) عذاب عظيم ، ولو نزل العذاب ما أفلت إلاّ عمر ».

ومعناه شمول العذاب ، للرّسول الأعظم ، وقد سبق من المراغي وغيره : إنّ العتاب عام يعمّ المسلمين والنّبي الأكرم ، مع أنّه سبحانه يقول : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) ( الأنفال / 33 ).

فالّذي يدفع بوجوده العذاب ، صار يُدفع عنه العذاب بوجود غيره. ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) ( الكهف / 5 ).

ص: 340

ثُمَّ إنّه سبحانه يبيح لهم - رحمة منه - ما تسلّط عليه المسلمون من أموال المشركين ، وما أخذوا من الأسرى للفداء ، ويقول : ( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) وحاصل مضمون الآيات الثلاث عبارة عن :

1 - إنّ أخذ الأسرى قبل الاثخان غير مشروع في الشرائع السماويّة.

2 - لولا كتابٌ من اللّه سبق ، لمسّ المسلمين في أخذ الأسرى قبل الاثخان عذاب عظيم.

3 - لقد أباح اللّه سبحانه الجميع من الأموال والأسرى رحمة منه.

الوعد الجميل للأسرى

إنّ فداء كل رجل من المشركين يوم بدر كان أربعين أوقية والأوقية أربعون مثقالاً ، إلاّ العبّاس فإنّ فداءه كان مائة مثقال ، وكان اُخذ منه حين اُسر عشرون أوقية ذهباً ، فقال النّبي صلی اللّه علیه و آله : ذلك غنيمة ففاد نفسك ، وابني أخيك نوفلاً وعقيلاً. فقال : ليس معي شيء. فقال : أين الذّهب الّذي سلّمته إلى أم الفضل وقلت : إن حدث بي حدث فهو لك وللفضل وعبد اللّه وقثم ؟ فقال : من أخبرك بهذا ؟ قال : اللّه تعالى. فقال : أشهد أنّك رسول اللّه ، واللّه ما اطّلع على هذا إلاّ اللّه.

ثمّ إنّه سبحانه - رحمة منه - يعد الأسرى بأنّهم إن آمنوا ، واتبّعوا الحق ، يؤتهم خيراً ممّا اُخذ منهم ، ويغفر لهم ، ولكنّهم إن أرادوا خيانتك بعد اطلاق سراحهم بالفداء ، والعود إلى ما كانوا عليه من العناد والفساد ، فقد خانوا اللّه من قبل ، فأمكنك منهم ، وأقدرك عليهم ، وهو قادر على أن يفعل بهم ذلك ثانياً ، كما يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / 70 - 71 ).

ص: 341

وروي أنّه قدم مال من البحرين يقدر ب « ثمانين » ألفاً ، وقد توضّأ النّبي صلی اللّه علیه و آله لصلاة الظهر ، فما صلّى يومئذ حتّى فرّقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه ، ويحثي ، فأخذ ، فكان العبّاس يقول : هذا خير ممّا اُخذ منّا ، وأرجو المغفرة (1).

ص: 342


1- لاحظ مجمع البيان ج 2 ص 557 - 560 ، والميزان ج 9 ص 136 - 140.

2 - غزوة أحد

اشارة

2 - غزوة أحد (1)

لقد كانت لغزوة « بدر » أصداء في عهد النّبي صلی اللّه علیه و آله وما بعده ، وقد أوجد انتصار النّبي صلی اللّه علیه و آله فيها خوفاً ووجلاً في قلوب المشركين ، خصوصاً بعد ما شاع خبر أنّ النّبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله طرح أجساد قتلى المشركين في القليب ، ووقف عليهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فخاطبهم بقوله : يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً ، فإنّي قد وجدّت ما وعدني ربّي حقّاً. فلمّا قيل لرسول اللّه : أتكلّم قوماً موتى ، أو أتنادي قوماً قد جيفوا ؟ فقال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني.

فلمّا بلغ خبر انتصار النّبي صلی اللّه علیه و آله وهزيمة المشركين إلى مكّة ، ناحت قريش على قتلاها ، ثم منعت النياحة بتاتاً في مكّة ونواحيها حذراً من شماتة المسلمين أوّلاً ، واستنهاضاً لعزائمهم لأخذ الثأر ثانياً ، فإنّ النياحة والبكاء وسكب الدّموع تهبّط العزائم ، وتثبّط الهمم.

وكان الأسود بن عبد المطلب قد اُصيب له ثلاثة من ولده ، وكان يحب أن يبكي على بنيه ، ولكنّه كان يكبح جماح مشاعره حذراً من نقمة قريش ، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة في الليل ، فقال لغلام له وقد ذهب بصره : انظر هل اُحلّ النحب لعلّي أبكي على أولادي ، فإنّ جوفي قد احترق ، فرجع الغلام وقال : إنّما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلّته.

ص: 343


1- وقعت غزوة اُحد يوم السبت لسبع خلون من شوّال في السنة الثالثة من الهجرة.

فعند ذلك أنشأ يقول :

أتبكي أن يضل لها بعير *** ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر ولكن *** على بدر تقاصرت الجدود (1)

باتت قريش على تلك الحالة وصدورهم مليئة بالغيظ والحقد ، وهم بصدر العزم على أخذ الثأر ، وتحيّن الفرصة المناسبة لذلك.

ولأجل ذلك مشى عبد اللّه بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن اُميّة ، في رجال من قريش ممّن اُصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر ، فكلّموا أباسفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إنّ محمّداً قد وتركم ، وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال ( اشارة إلى العير الّتي أقبل بها أبوسفيان من الشام إلى مكّة ) على حربه ، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا ، ففعلوا ، وفي ذلك نزل قوله سبحانه :

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) ( الأنفال / 36 ) (2).

فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ومن أطاعهم من قبائل كنانة ، وأهل تهامة. وكان أبو عزّة عمرو بن عبد اللّه الجمحي قد منّ عليه رسول اللّه يوم بدر ، وكان فقيراً ، ذا عيال وحاجة ، وكان في الأسارى ، فقال : إنّي ذو عيال وحاجة ، فامنن عليّ صلّى اللّه عليك ؛ فمنّ عليه رسول اللّه. فقال له صفوان ابن اُميّة : يا أبا عزّة إنّك إمرؤٌ شاعر ، فأعنّا بلسانك ، فاخرج معنا ؛ فقال : إنّ محمداً قد منّ عليّ ، فلا اُريد أن اظاهر عليه. قال : بلى ، فاعنا بنفسك ، فلك اللّه عليّ إن رجعت أنْ أغنيك ، وإن أصبتَ أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزّة في تهامة.

ص: 344


1- السيرة النبويّة ج 1 ص 648.
2- السيرة النبويّة ج 2 ص 60 ، ومجمع البيان ج 2 ص 832 ، نقلاً عن أبي إسحاق.

خرجت قريش بحدّها وجدّها ، وحديدها وأحابيشها (1) ومن تابعها من بني كنانة ، وأهل تهامة ، وخرجت معهم النساء في الهوادج التماس الحفيظة وألاّ يفرّوا. فخرج أبوسفيان بهند بنت عتبة ، وخرج عكرمة بأمّ حكيم ، وهكذا.

فخرجوا حتّى نزلوا على شفير الوادي مقابل المدينة ، وهم ثلاثة آلاف بمن انضم إليهم ، وكان فيهم من ثقيف مائة رجل ، وخرجوا بعدّة وسلاح كثير ، وقادوا مائتي فرس ، وكان فيهم سبعمائة دارع ، وثلاثة آلاف بعير.

ثم إنّ العباس بن عبد المطلب أخبر النبي صلی اللّه علیه و آله بنيّة القوم ، ومسيرهم نحو المدينة وعددهم وعُدتهم ، فكتب كتاباً وختمه ، واستأجر رجلاً من بني غفار ، واشترط عليه أن يسير ثلاثاً ، فوجد رسول اللّه بقباء ، فدفع إليه الكتاب ، فقرأه عليهم اُبيّ بن كعب ، واستكتم اُبيّاً ما فيه. فدخل منزل سعد بن الربيع ، فأخبره بكتاب العباس ، وجعل سعد يقول : يا رسول اللّه إنّي لأرجو أن يكون في ذلك خير.

فلمّا سمع رسول اللّه نزولهم على شفير الوادي ، شاور قومه في الخروج عن المدينة ، أو البقاء فيها ، فاختلفت آراء أصحابه ، فكان عبد اللّه بن اُبيّ وأصحابه يكرهون الخروج ، فقالوا : يا رسول اللّه أقم بالمدينة لاتخرج إليهم ، فو اللّه ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قطّ إلاّ أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلاّ أصبنا منه.

وكان الشّباب من أصحاب الرّسول يصرّون على الخروج ، ويقولون : « أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون إنّا جبنا عنهم وضعفنا ».

فلمّا رآى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اصرار هم على الخروج. وهم يقولون : ( هي احدى الحسنيين أمّا الشهادة وأمّا الغنيمة ) ، صلّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الجمعة بالنّاس ، ثم وعظهم ، وأمرهم بالجد والجهاد ، ثم صلّى العصر ، وصفّ النّاس له ما بين منبره وحجرته ، فجاء هم سعد بن معاذ ، وأسيد بن

ص: 345


1- الأحابيش من إجتمع إلى العرب وانضمّ إليهم من غيرهم.

حضير ، فقالا للنّاس : قلتم لرسول اللّه ما قلتم ، واستكرهتموه على الخروج ، فردّوا الأمر إليه ، فما أمركم فافعلوه ، فبينا القوم على ذلك ، إذ خرج رسول اللّه قد لبس لامّته ودرعه ، وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم ، فقالوا يا رسول اللّه : استكرهناك ، ولم يكن ذلك لنا ، فإن شئت فاقعد صلّى اللّه عليك ، فقال رسول اللّه : ما ينبغى لنبيّ إذا لبس لامّته أن يضعها حتّى يقاتل ، فخرج في ألف من أصحابه (1).

عودة المنافقين القهقرى إلى المدينة :

كان عبد اللّه بن اُبيّ ممّن أبدى الإصرار على الإقامة في المدينة والتحصّن بها فلمّا رأى أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ترك رأيه وأخذ برأي الآخرين ، فقال : أطاعهم وعصاني ، ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا ، فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النفاق والريب ، وهم ثلث النّاس ، واتّبعهم عبد اللّه بن عمرو ، فقال : ياقوم اُذكّركم اللّه ألاّ تخذلوا قومكم ونبيّكم عندما حضر من عدوّهم ؛ قال عبد اللّه بن اُبىّ : لو نعلم أنّكم تقاتلون لما أسلمناكم ، ولكنّا لا نرى أنّه يكون قتال.

فلمّا استعصوا عليه وأبوا إلاّ الإنصراف عنهم ، قال : أبعدكم اللّه أعداء اللّه ، فسيغني اللّه عنكم نبيّه.

وفي ذلك نزل قوله سبحانه : ( وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران / 167 ).

وقد أوجد رجوع رئيس النفاق في أثناء الطريق شقاقاً وخلافاً بين أصحاب النّبي صلی اللّه علیه و آله على نحوين :

1 - فقال قوم من المسلمين : نقاتل قريشاً ، وقال آخرون : لا نقاتلهم ، وفي ذلك نزل قوله سبحانه ( فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ

ص: 346


1- المغازي للواقدي ، ج 1 ص 213 ، والسيرة النبويّة ج 2 ص 63.

أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) ( النساء / 88 ).

فالآية تشير إلى أنّ المسلمين صاروا في أمر ما صار إليه المنافقون فرقتين مختلفتين ، فمنهم من مال إلى مقالتهم ومنهم من يخالفهم في الرأي.

2 - همّت طائفتان من المسلمين أن تأخذ برأي رئيس النفاق ، ويرجعا في أثناء الطريق ، وهما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران / 121 و 122 ).

نزول رسول اللّه أرض أحد :

لمّا انتهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أحد ، جعل جبل اُحد خلف ظهره ، واستقبل المدينة ، وجعل عينين عن يساره ، وجعل الرماة وهم خمسون رجلاً على عينين (1) عليهم عبد اللّه بن جبير ، فقال لرئيسهم : انضح الخيل عنّا بالنّبل لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا ، فأثبت مكانك لا نؤتين من قبلك.

ثم قام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخطب النّاس وقال : إنّ جهاد العدو شديد ، شديد كربه ، قليل من يصبر عليه ، إلاّ من عزم اللّه رشده ، فإنّ اللّه مع من أطاعه ، وانّ الشيطان مع من عصاه ، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد ، والتمسوا بذلك ما وعدكم اللّه (2).

وكان للمشركين كتيبتان ميمنة عليها خالد بن الوليد ، وميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل. وجعل رسول اللّه ميمنة ، وميسرة ، ودفع لواءه الأعظم إلى مصعب بن

ص: 347


1- جبل باُحد له هضبتان بينهما معبر ينتهي إلى ساحة القتال.
2- راجع المغازي للواقدي ج 1 ص 222 ، وللخطبة صلة.

عمير ، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير ، ولواء الخزرج إلى سعد أو حباب بن المنذر ، والرماة يحمون ظهور هم يرشقون خيل المشركين بالنّبل.

وعند ذلك دنا القوم بعضهم من بعض فقدّمت قريش صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة ، وصفّوا صفوفهم ، وأقاموا النساء خلف الرجال بالأكبار والدفوف ، وهند وصواحبها يحرّضن ويَذْمُرن (1) الرجال ويذكرن من اُصيب ببدر.

وصاح طلحة بن أبي طلحة : مَن لبني عبد الدار ؟ وكانت راية قريش يوم ذلك بأيدي هؤلاء ، فقال علي علیه السلام : هل لك في البراز ؟ قال طلحة : نعم ، فبرزا بين الصفين ، ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جالس تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة ، فالتقيا ، فبدره عليّ ، فضربه على رأسه ، فمضى السيف حتّى فلق هامته حتّى انتهى إلى لحيته ، فوقع طلحة ، وانصرف علي (2).

ثمّ أخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة ، فقتله علي وسقطت الراية ، فأخذها مسافع بن أبي طلحة ، فقتله علي. حتّى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار ، حتّى صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له : صوأب ، فانتهى إليه علي ، فقطع يده اليمنى ، فأخذ اللواء باليسرى ، فضرب يسراه فقطعها ، فاعتنقها باليدين المقطوعتين ، فضربه على رأسه فقتله ، فسقط اللواء ، فأخذته عمرة بنت علقمة الكنانية ، فرفعتها (3).

وقد كان لعليّ علیه السلام مواقف مشهودة كما كان لأبي دجانة ، والزبير بن العوّام ، وفي ظل بطولة هؤلاء ، ولفيف من غيرهم انهزمت قريش هزيمة نكراء لايلوون ، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف ، فلمّا انهزم المشركون تبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حتّى أخرجوهم عن الساحة ثمّ اشتغلوا بعد وضع سيوفهم على الأرض بنهب ما استولوا عليه في معسكرهم.

ص: 348


1- أي يحضضن الرجال باللوم على الفرار.
2- المغازي للواقدي ، ج 1 ص 226.
3- مجمع البيان ج 1 ص 825.

وعند ذلك قال بعض الرماة لبعض : لِمَ تقيمون ههنا في غير شيء ؟ قد هزم اللّه العدو ، وهؤلاء إخوانكم ينهبون معسكرهم ، فادخلوا معسكر المشركين ، فاغنموا مع إخوانكم. فقال بعض الرماة لبعض : ألم تعلموا أنّ رسول اللّه قال لكم : « احموا ظهورنا ، فلا تبرحوا مكانكم ، وإن رأيتمونا نقتل ، فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا غنمنا ، فلا تشركونا » فقال الآخر : لم يرد رسول اللّه هذا ، وقد أذلّ اللّه المشركين وهزمهم ، فادخلوا المعسكر ، فانتهبوا مع إخوانكم ، فلمّا اختلفوا خطبهم أميرهم عبد اللّه بن الجبير ، وأمرهم بأن لايخالفوا لرسول اللّه أمراً ، فعصوا ، فانطلقوا فلم يبق من الرماة مع أميرهم عبد اللّه بن الجبير إلاّ نفراً ما يبلغون العشرة ، واشترك المنطلقون في النهب ، واشتغلوا بما إشتغل به سائر المسلمين.

الهزيمة بعد الإنتصار :

قد كان الإنتصار حليف المسلمين في الغزوة ، ولكن لمّا خالف الرماة أمر رسول اللّه ، وأخلوا مكانهم ، رأى العدو أنّ جبل العينين قد أضحى خالياً من الرماة والمدافعين ، وكان جبل العينين يقع على ضفّتين يتخللهما معبر ، وينتهي مداه إلى المعسكر ، وقد أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بوقوف الرماة على الضفّتين حتّى يمنعوا من دخول العدو من هذا المعبر على ساحة القتال ، والحيلولة دون هجومه عليهم من خلفهم ، ولمّا خالف الرماة باخلائهما ، رأى العدو أنّ الفرصة مساعدة لمباغتة المسلمين ، فأدار خالد بن الوليد ومن معه من وراء المسلمين (1) فورد المعسكر من هذا المعبر على حين غفلة من المسلمين بعد ما قتل من بقي من الرماة فوق الهضبة ، وعند ذلك أثخنوا المسلمين ضرباً وقتلاً ، فألقى كل مسلم ما كان بيده مما انتهب ، وعاد إلى سيفه يسلّه ليقاتل به ولكنّ هيهات هيهات لقد تفرّقت الصفوف ، وتمزّقت الوحدة ، بعد أن كانت تقاتل تحت لواء قيادة قويّة حازمة حكيمة ، وهي الآن أصبحت تقاتل ولا قيادة لها ، فلم يكن عجباً أن ترى مسلماً يضرب مسلماً بسيفه ، وهو لا يكاد يعرفه.

ص: 349


1- ولعلّه نجح لذلك بإدارتهم على ظهر جبل اُحد حتّى دخل المعسكر من هذا المعبر.
النداء بنعي النّبي :
اشارة

والذي زاد في الطّين بلّة وأعان على تمّزق الصفوف ، وتفرّق المسلمين عن ساحة الحرب ، ولجوئهم إلى مخابئ الجبل وثناياه ، سماعهم خبراً مكذوباً يهتف بموت النّبي ، إذ نادى أحد المشركين أنّ محمّداً قد قتل ، فعند ذلك سقط ما في أيدي المسلمين ، وتفرّقوا في كل وجه ، وصعدوا الجبل ، والتجاؤا إلى المخابئ ، فلم يبق إلاّ الأقل القليل من أصحابه.

هذه هي الحالة التّي صار إليها المسلمون. وأمّا المشركون ، فقد امتلأوا فرحاً وطرباً ، واستنهضت هممهم كل يريد أن يشفي غليله بالمساعدة على الإجهاز على النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

وفي هذه المرحلة الرهيبة كيف يتصوّر حال النبيّ ؟ فهو بين تجرّع مرارة جلاء أصحابه من ساحة القتال ، وبين مضض هجوم عدوّه بشراسة وحماسة تجاه موقعه وموضعه الّذي ربض فيه.

فلم يصمد معه في ساحة المعركة إلاّ شرذمة قليلة ، وعلى رأسهم ابن عمّه علي بن أبي طالب ، وأبو دجانة سمّاك بن خرشة ، وكلّما حملت طائفة على رسول اللّه استقبلهم علي علیه السلام ، فدفعهم عنه حتّى تقطّع سيفه ، فدفع إليه رسول اللّه سيفه ذا الفقار ، وانحاز رسول اللّه إلى ناحية جبل اُحد ، فصار القتال من وجه واحد ، فلم يزل علي يقاتلهم حتّى أصابه في رأسه ووجهه ويديه سبعون جراحاً. كان علي يدافع عن ساحة النّبي ، والنّبي يريد اللجوء إلى جانب الجبل ، كان النّبي على هذه الحالة إذ عرفه أحد أصحابه وهو كعب بن مالك ، عرفه من عينيه وهما تزهران من تحت المغفر ، فنادى بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أبشروا ، هذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . فأشار إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أن أنصت (1) وإذا أردت أن تقف عن كثب على حقيقة الحال ، وعلى ما حاق

ص: 350


1- السيرة النبويّة ج 2 ص 83 ، والمغازي للواقدي ج 1 ص 236.

بالمسلمين من محنة وبلاء ، وتقرّق وتشتّت ، وهبوط معنويّاتهم ، وخوار عزائمهم ، فاستمع إلى هذا النص الّذي يرويه لنا ابن هشام حيث يقول :

انتهى أنس بن النضر ، عم أنس بن مالك ، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيداللّه ، في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال : مايجلسكم ؟ قالوا : قتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . قال : فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثم استقبل القوم ، فقاتل حتّى قتل ، وبه سمّي أنس بن مالك (1).

قد كان يوم أحد يوم بلاء ومحنة وتمحيص. أكرم اللّه تعالى فيه من أكرم بالشّهادة ، ومحص فيه من لم يكن له ثبات عزم ، وقوّة شكيمة في الدّفاع عن حريم الإسلام.

ولأجل فرار المسلمين ، وجلائهم ساحة المعركة رشق العدو بالحجارة وجه النّبي صلی اللّه علیه و آله فاثقلوه جراحاً ، فشجوا وجهه ، وكسروا رباعيته ، ولولا أنّ هنالك رجلاً مخلصين لنجدته ، لقضي الأمر ، ولكنّه سبحانه كتب على نفسه نصر المؤمنين ، وإعزاز الرّسول ، وتمكين دعوته.

إنّ النّبي صلی اللّه علیه و آله مشى وحوله لفيف من أصحابه إلى فم الشعب ، فلمّا استقرّ به الحال جاء علي بماء غسل عن وجه النبيّ الدّم ، وصب على رأسه وكان النبيّ يقول : اشتدّ غضب اللّه على من أدمى وجه نبيّه ، ونزع أبو عبيدة بن الجراح حلقتي المغفر من وجه الرّسول ، فسقطت ثنيّتاه. ولمّا وقف المسلمون على أمر النبيّ ، وعلموا موضعه تقاطروا عليه تترى من كل جانب ، والتفّوا حوله.

وأمّا قريش فطارت بنصرها سروراً ، وحسبت نفسها أنّها انتقمت لبدر أشدّ الإنتقام ، حتّى بعد ما وقفوا على أنّ النبيّ حي لم يقتل ، وحينما أراد أبوسفيان الإنصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته فقال : إنّ الحرب سجال يوم بيوم

ص: 351


1- السيرة النبويّة لابن هشام ج 1 ص 83.

أعل هبل - أي أظهر دينك - فأمر رسول اللّه أصحابه أن يقولواً : اللّه أعلى وأجلّ لا سواه ، قتلانا في الجنّة ، وقتلاكم في النار.

وقال أبوسفيان : « إنّ لنا العزّى ولا عزّى لكم ».

فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يجيب أصحابه ويقولوا : « اللّه مولانا ولا مولى لكم ».

ثُمَّ رجعت قريش إلى أثقالهم ، وركّبوا الأثقال ، فتركوا ساحة المعركة. فخرج المسلمون يتبّعون قتلاهم ، فلم يجدوا قتيلاً إلاّ مثلوا به ، إلاّ حنظلة كان أبوه مع المشركين فترك له ، ووجدوا حمزة بن عبد المطلب عم النبيّ قد بقر بطنه ، وحملت كبده ، احتملها وحشي ، وهو قتله ، يذهب بكبده إلى هند بنت عتبة في نذر نذرته حين قتل أباها يوم بدر. وأقبل المسلمون على قتلاهم يدفنونهم ثُمَّ رجعوا إلى المدينة. فلمّا دخل النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى أزقّتها إذا النوح والبكاء في الدور. فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذه نساء الأنصار يبكين على قتلاهنّ. وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين سمع البكاء : لكنّ حمزة لا بواكي له ، واستغفر له. فسمع ذلك سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، ومعاذ بن جبل ، وعبد اللّه بن رواحة ، فمشوا في دورهم ، فجمعوا كل نائحة وباكية كانت بالمدينة للبكاء على حمزة.

وعند ذلك بدت شماتة اليهود وقالوا : لو كان نبيّاً ما ظهروا عليه ، ولا اُصيب منه ما اُصيب. وقال المنافقون للمسلمين : لو كنتم أطعتمونا ما أصاب الذي أصابوا منكم.

ثُمَّ قدم رجل من أهل مكّة على رسول اللّه ، فاستخبرهم عن أبي سفيان وأصحابه ، فقال : نازلتهم ، فسمعتهم يتلاومون يقول بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئاً أصبتم شوكة القوم وحدّهم ، ثمّ تركتموهم ولم تبروهم ، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم ، فلمّا كان الغد من يوم اُحد أذّن مؤذّن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في المسلمين بطلب العدو ، واستنفرهم لمطاردته على أن لايخرج إلاّ من حضر الغزوة ، وخرج المسلمون ، فوقع في روع أبي سفيان أنّ أعداءه جاءوا من المدينة بمدد

ص: 352

جديد ، فخاف لقاءهم ، وبلغ النبيّ صلی اللّه علیه و آله حمراء الأسد (1) فأقام بها ثلاثة أيّام. فكان أبوسفيان وأصحابه بالروحاء ، فمرّ به معبد الخزاعي ، وكان قد مرّ بالنبيّ ومن معه ، فسأل عن شأنهم ، فقال : إنّ محمداً قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرّقون عليكم تحرّقاً ، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنق شيء لم أر مثله.فلمّا سمع أبو سفيان مقالة معبد ، خاف على نفسه وأصحابه ، فشدّ عزيمته على الرجوع قول صفوان بن اُميّة حيث قال : إنّ محمداً واصحابه قد غضبوا ، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان ، فارجعوا ، فرجعوا إلى مكّة.

وقد قتل من المسلمين في ساحة اُحد تسعة وأربعون رجلاً ، وقتل من المشركين ستّة عشر رجلاً (2).

هذه إطلالة سريعة على غزوة اُحد تعرّضنا لذكرها ليكون معيناً على فهم ما ورد حول هذه الغزوة من آيات الذكر الحكيم ، فانّ ما ورد في المغازي والسّيرة بمثابة القرائن التي يستعان بها على رفع إجمال الآيات وما اُبهم معناه منها. وإليك إستعراض ما ورد في الذكر الحكيم مع الاشارة إلى ما يستفاد منها من عبر وعظات :

1 - حنكة النبيّ العسكريّة :

قد أوضحت الخاتمة التي آل إليها مصير المسلمين قيمة ما ألزم به النبيّ الرماة حيث قال : « احموا لنا ظهورنا فإنّا نخاف أن نؤتى من ورائنا ، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه وإن رأيتمونا نهزمهم ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ، ولا تدفعوا عنّا ، اللّهم إنّي اُشهدك عليهم ، واُرشقوا خيلهم بالنّبل ».

ص: 353


1- موضع على ثمانية أميال من المدينة.
2- لاحظ السيرة النبويّة لابن هشام ج 1 ص 85 - 105 ، ومغازي الواقدي ج 1 ، 239 - 249 ، ودلائل النبوة ص 212 - 219 وغيرها.

ولكنّ ياللأسف إنّ الرماة خالفوا الرّسول وعصوه ، فبقيت ثلّة منهم في موقفهم ، ونزل كثير منهم من الجبل للنّهب وجمع الثروة ، حتّى جاء خالد بن الوليد ، فقتل من بقي منهم ، ثّم دخل ساحة المعركة من دون مقاومة تذكر ، فأعمل السيف فيهم.

وهذا إن دَلّ على شيء فإنّما يدلّ على حنكة النبيّ العسكريّة أوّلاً ، وعلى وجود حالة عدم الرضوخ التامّ بين أصحابه لأوامره ثانياً ، حيث أوّلوا أمره صلی اللّه علیه و آله بتأويلات لغاية إشباع نهم شهواتهم بجمع المال ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :

( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 152 ).

وإليك تحليل ما تضمّنته هذه الآية :

أقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ) يدل على أنّه سبحانه وعدهم بالنصر ، ولعلّ النصر هو ما ورد في قوله سبحانه :

( بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) ( آل عمران / 125 ).

نعم وعد سبحانه بالإنتصار بشر طين لا مطلقاً ، وقد ألمحت الآية إليهما في قوله :

1 - ( إِن تَصْبِرُوا ) .

2 - ( وَتَتَّقُوا ) .

ولكنّ الرماة المستقرّين على الهضبة لم يصبروا ، ولم يتّقوا مغبّة مخالفة الرّسول ، فآثروا حطام الدّنيا على الآخرة.

ص: 354

ب - قوله سبحانه : ( حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ... ) يدلّ على أنّه طرأ الفشل عليهم ، وتنازعوا في أمر البقاء والمغادرة ، وعصوا أمر الرّسول ، وكان منهم من يطمح في نيل حطام الدّنيا ، ومنهم من آثر الآخرة وطاعة الرّسول على نيل شهوات الدّنيا.

ج - ولكنّ رحمته الواسعة شملتكم ، فكفّكم عن المشركين بعد ظهور الفشل والتّنازع والمعصية ، وعفى عن عصيانكم كما يدلّ عليه قوله :

( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ) .

د - ليبتليكم : أي كان هذا الخلاف مَحَكّاً قَويّاً لتمييز الطالب للدّنيا عن طالب الآخرة ، بل لتمييز المؤمن عن المنافق ، والمؤمن الراسخ في إيمانه الثّابت على عزيمته ، من المتلوّن السريع الزوال ، ومع ذلك فإنّ اللّه سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال :

( وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) .

2 - تصدّع جيش المسلمين وإنحلال زمامه :

لقد مَرَّ بك أنّ خالد بن الوليد باغت المسلمين من ورائهم ، وقد وضعوا سيوفهم على الأرض ، والتهوا بجمع الغنائم ، فعند ما رأوا سيوف العدو على رؤوسهم ، وبريق أسنّة رماحهم أصابهم الذهول ، وتفرّقوا في كلّ حدب وصوب ، فتركوا ما كان بأيديهم ، وصعدوا الجبل من دون أن يلتفتوا ورائهم إلى النبيّ والمؤمنين ، وأنّهم تركوه أثناء المعركة الطاحنة ، مع أنّ النبيّ كان يدعوهم بقوله : إليّ عباد اللّه ، إليّ عباد اللّه ، إليّ عباد اللّه ، وهم لا يلتفتون ، فعند ذلك ملأت قلوبهم الهموم بعضها أشّد من بعض ، همّ الإنتكاسة غير المرتقبة ، ثمّ همّ فقد الأحبّة والأعزّة ، ثم تعالى صوت الناعي بقتل النبيّ الأكرم ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :

( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا

ص: 355

بِغَمٍّ لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / 153 ) وإليك تحليل ما تضمّنته الآية :

في قوله سبحانه : ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ ) تلويح بفرارهم عن ساحة الحرب كما أنّ قوله : ( وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ) إشارَة إلى النداءات الّتي تعالت من فم النبيّ في تلك الأثناء ، تدعوهم للصمود والثّبات في المعركة :

وقوله : ( فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ) إشارة إلى تراكم الغموم والهموم والآلام على قلوب المسلمين ، وقوله : ( لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ ) إشعار بأنّ الغموم بلغت حدّاً نسوا معه ما فاتهم من الغنائم.

3 - على أعتاب الردّة

لم تكن زلّة القوم منحصرة بالفرار وإخلاء ساحة المعركة ، وترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله بين يدي المشركين ، ومخالفة الرماة أوامره ، بل بلغ أمرهم إلى أبعد من ذلك غوراً ، حيث طرأ على قلوبهم ظنون أهل الجاهليّة ، فظنّوا من الظنون الّتي لا يليق بتصوّرها إلاّ أهل الجاهلية ، حيث انتابتهم حالة من الشكّ ، وإلى ذلك ونحوه يشير قوله سبحانه : ( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( آل عمران / 154 ).

ولأجل الوقوف على المزيد ممّا تضمّنته الآية الشريفة السابقة نتناول التعرّض لها جملة بعد جملة.

1 - ( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ ) .

ص: 356

النّعاس ما يسبق النوم من فتور واسترخاء ، وربّما يسمّى بالنّوم الخفيف ، وقد نزل النّعاس ، وغشى طائفة من القوم ولم يعمّ الجميع بقرينة قوله : ( يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ ) ، وكان هذا النّعاس بمثابة الرحمة بعد الغمّ الذي اعتراهم ، فأزال عنهم الخوف بغلبة النوم ليستردّوا ما فقدوا من القوّة ، وما عرض لهم من إلا رهاق والتّعب والضعف.

وكلمة ( نُّعَاسًا ) يدلّ من قوله ( أَمَنَةً ) للملازمة بين الأمنة والنوم ، وقد قيل : الأمن منوّم والخوف مسهّر ، وأمّا من هؤلاء الّذين غشيهم النّعاس دون غيرهم ؟ فيحتمل أن يكونوا هم الّذين رجعوا إلى رسول اللّه بعد الإنهزام والانكسار لمّا ندموا وتحسّروا ، فهؤلاء بعض القوم ، وهم النادمون على ما فعلوا ، الراجعون إلى النبيّ ، المحتفّون به ، وكان ذلك حينما وصل النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى فم الشعب ، ووقفت تلك الطائفة على أنّ النبيّ لا زال على قيد الحياة لم يقتل ، فرجعوا إليه يتقاطرون تترى.

2 - ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ) وهذه طائفة اُخرى من المؤمنين لا من المنافقين ، فإنّهم فارقوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومن معه في أثناء الطريق وانخذلوا ، ولهم شأن آخر سينبّئ اللّه سبحانه بهم بعد ذلك ، وهذه الطائفة الثانية الموصوفة ب- ( أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ) لم يكرمهم اللّه بما أكرم به الطائفة الاُولى من العفو ، وإثابة الغمّ ثمّ الأمنه والنّعاس ، بل وكّلهم إلى أنفسهم ، ونسوا كلّ شيء ، ولم يهتمّوا إلاّ بأنفسهم.

وهذه الطائفة قد استولى عليهم الخوف ، وذهلوا عن كلّ شيء سواهم ، ولمّا لم يكن الوثوق باللّه ووعده رسوله وصل إلى قرارة أنفسهم ، لأنّهم كانوا مكذّبين للرّسول في قلوبهم لا جرم عظّم الخوف لديهم ، وحقّ عليهم ما وصفهم اللّه به :

أ - ( يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) فكانوا يبطنون في قرارة أنفسهم : « لو كان محمد نبيّاً حقّاً ما سلّط اللّه عليه الكفّار » وهذه مقالة لا يتفوّه بها إلاّ من دان بالكفر.

ص: 357

ب - ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ) والظّاهر أنّ المراد من الأمر هو الظّفر والنّصر في كلا الموردين ، والمقصود من الضمير في ( لَنَا ) هؤلاء بما أنّهم يشكّلون جزءاً من المسلمين وإن لم يكونوا منهم حقيقة ، والمعنى :

يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار والإستهجان : « هَلْ لَنَا مِنَ النَّصْرِ وَالفَتْحِ والظّفر نصيب » ؟! يعنون أنّه ليس للمسلمين ( لنا ) من ذلك شيء ، وإنّ اللّه سبحانه لا ينصر محمّداً صلی اللّه علیه و آله وبما أنّ النّصر وكون الدّين حقّاً كانا متلازمين عندهم ، فاستنتجوا أنّ الدعوة المحمّديّة ليست حقّاً.

ثمّ إنّه سبحانه أجابهم في معرض تناول ذكرهم بقوله :

( إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ ) أي كلّ الاُمور بيده سبحانه حتّى النّصر والهزيمة ، وإليه دعى محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وهو معتقد المسلمين ، ولكن بمقتضى حكمته وسننه الّتي وضعها لتسيير شؤون الخلق ، وربط فيها الأسباب بالمسبّبات ، فهو وإن وعد رسله بقوله :

( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( المجادلة / 21 ).

وقال : ( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) ( الصافّات / 173 ).

ولكنّ تحقّق هذا الوعد مرهون بتوفّر الأسباب الكفيلة بالنصر ، فإنّه سبحانه هو الذي وضع سنّة الأسباب والمسبّبات ، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحقّ والباطل والخير والشر والهداية والضلالة والعدل والظلم ، ولا فرق فيه بين المؤمن والكافر ، والمحبوب والمبغوض ، ومحمد وأبي سفيان ، ولأجل ذلك كلّما توافقت الأسباب العاديّة على تقدّم هذا الدين وظهور المؤمنين كان النصر حليفهم ، وحيث لم تتوافق الأسباب كتحقّق نفاق أو معصية لأمر النبيّ أو فشل أو جزع كانت الغلبة والظهور للمشركين على المؤمنين ، وكذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع النّاس.

وإنّكم أيّها المنضوون تحت لواء المسلمين قد عصيتم أمر الرسول ،

ص: 358

ولم تأتمروا بأمره ، فأخليتم مواقعكم عاصين لأمره وآثرتم حطام الدّنيا والأدنى الخسيس ، ومع ذلك تترقّبون النصر لكم والهزيمة للعدو ! فكيف يقتطف الثمرة من لم يغرس شجرتها أو غرسها ولم يقم بأمرها ؟

ثم إنّه سبحانه بعد هذه الإجابة يأخذ بتبيين ما كان يخامرهم من الأفكار الفاسدة.

ج - ( يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) .

الظّاهر أنّ قولهم : ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ ... ) تفسير للموصول في ( مَّا لا يُبْدُونَ ) والفرق بين ما كانوا يظهرونه وما يضمرونه واضح ، فقد كانوا يتظاهرون بالاستفسار في قولهم : « هل لنا من الأمر شيء » لغاية التشكيك ، وهي وإن كانت فكرة خاطئة ولكن لمّا غلّفت بطابع الإستفسار لم تكن ذات بأس شديد.

ولكنّهم كانوا يخفون قولهم : ( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) يريدون بذلك الاستدلال على بطلان الدعوة المحمّدية بحجّة الانكسار لأنّ النبيّ الأكرم كان يقول : الأمر بيد اللّه وأنا رسوله ، فلو كان ما يدّعيه حقّاً بأنّ الأمر كان بيد اللّه لا بيد الآلهة والأرباب المعبودة بين الناس وكان محمّد من جانبه لعمّنا النصر ، ولكنّه النهاية كانت على العكس من ذلك ، فكيف يمكن أن يكون الأمر بيد اللّه غير مقسّم على الآلهة والأرباب المدبّرة للاُمور بزعمهم.

ولأجل انّ تلك الفكرة كانت فكرة أهل الشرك والوثنيّة سمّاها سبحانه ( ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) .

ولكنّهم تناسوا ما جرت عليه سنّته الحكيمة ، فإنّ الأمر بيد اللّه ولكنّها تجري وفق الأسباب والمسبّبات ، فمن لم يأخذ بأسباب النصر لم يكن حليفه.

ثم إنّه سبحانه أجاب عن تلك الفكرة بوجوه ثلاثة :

ص: 359

الأوّل : ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) فالآجال محدودة والأعمار مؤقتّة بوقت لا تتعدّاه ، فإن قتل من قتل منكم في المعركة ليس دليلاً على عدم كون الأمر بيد اللّه أو أنّ الدعوة المحمّديّة ليست على حق ، بل لأجل القضاء الإلهي الّذي لا مناص من الوقوع في نفوذه وامضائه ، فقد كان في قضائه اضطجاع هؤلاء في هذه المضاجع ، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ، فلا مفرّ من الأجل المسمّى الّذي إذا حان لا يتقدّم ساعة ولا يتأخّر.

الثاني والثالث : ( وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ) أي وقع ما وقع في غزوة اُحد لظهور ما انطوت عليه سريرة كلّ نفس حتّى يتميّز المؤمن من المنافق والمجاهد من المتقاعد ، وقد جرت سنّة اللّه على عموم الابتلاء والتمحيص وهي حاكمة على جميع الاُمم لغاية التمحيص.

نعم ليست الغاية من ابتلائه سبحانه لعباده هو التعرّف لما يكمن في ضمائرهم فإنّه سبحانه عليم بالسرائر مطّلع على الضمائر لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، بل الغاية هي الإبتلاء والتمحيص ووصول كلّ ما بالقوّة إلى الفعل من الكفر والإيمان ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

وحصيلة البحث : انّ هذه الآية تشير إلى فريقين من المسلمين والمؤمنين الملتفّين حول الرسول المتنكّبين عَن المنافقين.

( أحدهما ) : طائفة وهبهم اللّه عزّ وجلّ بعد الغمّ نعاساً أمنة منه لإزالة ما انتابهم من الروع والخوف والتفّوا حول الرسول بعد الندم.

( ثانيهما ) : طائفة شغلتهم أنفسهم لا يتجاوز تفكيرهم نطاق ذاتهم من دون أن يتوجّهوا قيد طرفة صوبَ قائدهم ونبيّهم ، وقد اعترتهم هواجس الجاهليّة الاُولى ، فتارة يتفوّهون بها علانية بنحو من الشك والترديد والاستفسار بقولهم : ( هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْء ) واُخرى بصورة الجزم والقطع واليقين بنحو الاخفاء والاسرار

ص: 360

بقولهم : ( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) .

واللّه سبحانه يجيب عليها :

1 - بأنّ أمر النصر بيد اللّه كما أخبر به النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولكنّه مرهون بعوامل وأسباب غيبيّة واُخرى اكتسابيّة خاصّة ، وأنتم أيّها المعترضون قد فوّتم تحصيل تلك الأسباب والعوامل ، فلا يحق لكم الاعتراض بعد تقصيركم.

2 - بأنّ لكل نفس أجلاً محدّداً لا يتقدّم عليه ولا يتأخّر.

3 - إنّ في هذه النكسة الفادحة تمحيص لما في الصدور والقلوب فقد تميّز به المؤمن المثابر من المتظاهر بالإيمان ، وبذلك يعلم أنّ القول بأنّ الصحبة كافية في تحقيق إتّصاف الرجل بالعدالة والنزاهة والإستقامة شيء لا حقيقة له ولا أساس وقد تحقّق لديك بفضل هذه الآيات أنّ أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إنقسموا إلى طوائف : فمن منافق نكص على عقبيه في أثناء الطريق ولم يشترك في القتال وتذرّع بقولهم : ( لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ) ( آل عمران / 167 ).

ومن مؤمن كابر أمر الرسول وخرج عن طاعته وأخلى ساحة القتال ولكنّه لم تنتابه وتعتريه شبهات وظنون أهل الجاهليّة ، فتاب ورجع إلى النبيّ بعد جلاء المعركة وهم من مصاديق قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) ( الأعراف / 201 ).

ومن متظاهر بالإيمان لم يتمكّن الإيمان من قلبه حقّ التمكّن ، فلمّا حاق به البلاء ورأى الانتكاسة المروّعة الرهيبة ، ارتدّ القهقري وصار يتفوّه بمقولات أهل الشرك والجاهلية.

أضف إلى ذلك ، الطائفة الثالثة الذين رجعوا أثناء الطريق ولم يساهموا النبيّ والمسلمين ، وهؤلاء هم أتباع عبد اللّه بن اُبيّ المنافقون.

ص: 361

أفبعد هذا يصحّ لنا القول بأنّ كلّ صحابي عادل ؟!! وانّ العدل والصحبة متلازمان كلا ومن يذهب إليه فإنّما يجترئ عظيماً.

والذي يعرب عن أنّ بعضهم قد بلغ به الحال إلى المشارفة على أعتاب الرّدة قوله سبحانه : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا ) ( آل عمران / 144 ).

قال أنس بن النضر : في السّاعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر وبلغت القلوب فيها الحناجر ، وحين فشا في النّاس أنّ رسول اللّه قد قتل ، وقال بعض ضعفاء المؤمنين ليت لنا رسولاً إلى عبد اللّه بن اُبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان (1) وقال ناس من أهل النّفاق : إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل. قال أنس : إن كان محمد قد قتل فإنّ ربّ محمّد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ، ثمّ قال : اللّهم إنّي أعتذر إليك ممّا قال هؤلاء ، وأبرأُ إليك ممّا جاء به هؤلاء ، ثمَّ شدّ بسيفه فقاتل حتّى قتل رضی اللّه عنه ، كما مرّ (2).

فمحصّل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب والتوبيخ : إنّ محمّداً صلی اللّه علیه و آله ليس إلاّ رسولاً من اللّه مثل سائر الرّسل ليس شأنه إلاّ تبليغ رسالة ربّه لا يملك من الأمر شيئاً ، وإنّما الأمر لله والدين دينه باق ببقائه ، فما معنى اتّكاء إيمانكم على حياته ، حيث يظهر منكم أنّ لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين ورجعتم إلى أعقابكم القهقري واتّخذتم الغواية بعد الهداية ؟

وهذا السياق أقوى شاهد على أنّهم ظنّوا يوم أُحد بعد أن حمى الوطيس انّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد قتل فانسلّوا عند ذلك وتولّوا عن القتال.

ص: 362


1- مجمع البيان : ج 1 ص 513.
2- لاحظ ص 332.
القصاص بالقسط :

إنّ المشركين لمّا مثّلوا بقتلى المسلمين في اُحد وبحمزة بن عبد المطلب فشقّوا بطنه ، وأخذت هند بنت عتبة كبده فجعلت تلوكه ، وجدعوا أنفه واُذنه ... قال المسلمون : لئن أمكننا اللّه منهم لنمثّلنّ بالأحياء منهم فضلاً عن الأموات ، وفي ذلك نزل قوله سبحانه : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) (1).

وروى السيوطي في الدر المنثور عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم قتل حمزة ومثّل به : لئن ظفرت بقريش لاُمثلنّ بسبعين رجلاً منهم ، فأنزل اللّه : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ) الآية ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « بل نصبر يا ربّ. فصبر ونهى عن المثلة » والظّاهر أنّ الحكاية الاُولى أوثق وذلك لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أجلّ وأعلى شأناً من أن يتمنّى قصاصاً فيه اجحاف وانتقاص بالآخرين.

وروى البيهقي عن محمّد بن كعب القرظي قال : لمّا رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حمزة بالحال التي هو بها حين مثّل به ، قال : لئن ظفرت بقريش لاُمثلنّ بثلاثين منهم ، فلمّا رأى أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما به من الجزع قالوا : لئن ظفرنا بهم لنمثلنّ بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب بأحد ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) إلى آخر السورة فعفا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

والإختلاف بين الحكايتين واضح لكنّ محمّد بن كعب القرظي من بني قريظة الذين تمّت إبادتهم أيام رسول اللّه في المدينة ولم يبق منهم إلاّ قلّة قليلة ، ولا يعبأ بنقله ، ولعلّ غرضه الازدراء بالنبيّ وادّعاء عدم قيامه بمقتضى العدل.

ص: 363


1- مجمع البيان : ج 3 ص 605.
2- دلائل النبوّة ، ج 3 ص 286 ، والسيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 95.

مطاردة العدو :

ثمّ إنّه لمّا بلغ رسول اللّه أنّ العدو بصدد معاودة الكرّة إلى المدينة حتّى يستأصل بقية المسلمين ، فأمر رسول اللّه المؤذّن أن يؤذّن بالخروج إلى مطاردة العدو وأن لا يخرج إلاّ من حضر الأمس في المعركة ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 172 - 175 ).

ويستفاد من جملتها :

( أوّلاً ) : إنّ المؤمن إذا انتابته الهزيمة واعتراه الإنكسار الظاهري لا يصل به الأمر إلى فقد الثقة باللّه سبحانه وتعالى ، فلو تمكّن من معاودة الكرّة لتحقيق الإنتصار لهبّ مسرعاً ولم يقعد به القرح ولا يكون جليس البيت لأجل ملمّة ألمّت به ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ ... ) .

( وثانياً ) : لو بلغهم تأهّب العدوّ لكرّ عليهم ثانياً وجاءت النذر يخوفونهم من بأس العدو ومازادهم إلاّ إيماناً وثقة وانقطاعاً إلى اللّه وقالوا : ( حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) .

( وثالثاً ) : إنّ ما جاءت به النذر من الأنباء إنّما كانت من الشياطين الّذين يخوّفون أولياءهم ، وأمّا المؤمنون فإنّهم قد خرجوا عن نطاق تأثير تلك الإرهاصات النفسيّة.

غزوة اُحد بين السلبيات والإيجابيّات :
اشارة

إنّ غزوة اُحد كسائر الغزوات التي تمخّض عنها ما هو سلبي وما هو إيجابي ، وقد ورد في الذّكر الحكيم آيات تشير إلى جملتها ، وإليك نصوصها مشفوعة بما

ص: 364

يليق بها من التحليل :

قال عزّ وجلّ : ( وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) .

( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) .

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) .

( وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) ( آل عمران / 140 - 143 ).

( مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران / 179 ).

ويستفاد من هذه الآيات ما يلي :

1 - الانتصار والانكسار من سنن اللّه :

إنّ من سنن اللّه تعالى الطبيعية في الاُمم انّه لم يكتب على جبين اُمّة السيادة والإنتصار في جميع الأزمنة والأمكنة ، وكذلك شأن الهزيمة. فهي تعيش بين هذين مقبلة ومدبرة تارة اُخرى كما يشير إليه قوله سبحانه :

( وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ... ) .

2 - التمحيص بالمحنة والبلاء :

إذا كتب النصر على جبين اُمّة على ممرّ الأعصار والدهور لم يتميّز المؤمن عن المنافق والصابر المجاهد عن المتهاون المتقاعد ، وقد كان المسلمون قبل لقاء العدوّ

ص: 365

يتمنّون الموت ولكنّهم فشلوا في الإمتحان عند اللّقاء كما يشير إليه قوله : ( وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ ... ) وقد طبّقت غزوة اُحد ذلك المقياس وقد عرفت ما آل إليه جيش المسلمين حيث إنقسموا إلى ثلاث طوائف أو أكثر ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ... ) وقوله سبحانه : ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) وقال أيضاً : ( مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ... ) .

3 - خُلّص الغزاة شهداء على الأعمال :

وقد بلغ إخلاص بعض الغزاة إلى حدّ جعلهم يتسنّمون درجة الشهادة على الأعمال وهي درجة رفيعة تحتاج إلى بصيرة مثاليّة وكماليّة في القلب حتّى يشهد على سائر إخوانه بخير أو شرّ كما يشير إليه قوله سبحانه : ( وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ) ومع ذلك فربّما يحتمل أن يراد من الشهداء في الآية هو الشهيد في المعركة والمضحّي بنفسه في سبيل إعلاء كلمة الحق.

4 - الجنّة رهن الجهاد والصمود :

إنّ إستحقاق دخول الجنّة لا يكتسب بمجرّد التفوّه بمحض عبارات اللّسان بل يحتاج إلى عظيم جهاد بالنفس والنفيس.

وإليه يشير قوله سبحانه : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) .

هذا ما يستفاد من جملة هذه الآيات ، وهناك طائفة اُخرى من الآيات وردت في شأن تلك الغزوة فيها من العظات والحكم البليغة.

ص: 366

5 - استنهاض الهمم والعزائم :

لا شكّ إنّ الهزيمة والانكسار في الحرب من أعظم عوامل تثبيط العزائم كما أنّ الإنتصار من أقوى عوامل النهوض بها وتتويجها بتاج الإستبسال والبطولة.

وبما أنّ الهزيمة كانت قد لحقت بالمسلمين في خاتمة المعركة فقد كان لها بطبيعة الحال آثار سيّئة مروّعة خصوصاً عند ظهور الأعداء عليهم فهم قد انبروا يحيكون حولها من الأراجيف ، قال علي علیه السلام : « إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره ، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه » (1) فعاد الذكر الحكيم يعالج هذا الداء المزمن الّذي استشرى في نفوس المسلمين وتمكّن في قلوبهم وذلك بإعلامهم بأنّ الموت من سنن اللّه سبحانه الحتميّة وأنّ لكلّ نفس كتاباً مؤجّلاً لا يتخلّف ولا يحيد عنه أبداً ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) ( آل عمران / 145 ).

6 - الاعتبار بالاُمم الماضية :

إنّه سبحانه من أجل رفع معنويّات المسلمين واستنهاض هممهم يذكرّهم بالاُمم الماضية وكيف انّ فئتهم القليلة كانت تغلب الفئات الكثيرة وتجعل الصبر على البلاء دثارها وذلك لأخذ هم بأسباب النّصر من الصمود والمفاداة في سبيل إظهار الحق واعلاء كلمته ، قال سبحانه : ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) ( آل عمران / 146 ).

( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ( آل عمران / 147 ).

ص: 367


1- نهج البلاغة قسم الحكم رقم 2.
7 - إخماد ثائرة الفتنة :

ولمّا رجع المسلمون إلى المدينة بعد أن أصابهم ما أصابهم فوجئوا بشماتة المتقاعدين والمنافقين حيث خاطبوهم بقولهم : لو كنتم معنا لما قتلتم ، وذلك ما يحكيه عنهم سبحانه بقوله : ( الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( آل عمران / 168 ).

وقد ورد ذلك المضمون في موضع آخر من السورة في قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( آل عمران / 156 ).

فهو سبحانه يجيب عن هذه الشبهة باُمور :

أ - ما أشار إليه في قوله : ( قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وحاصله أنّ قولكم « لو أطاعونا ما قتلوا » يعرب عن أنّ القائل يعتقد بأنّ الموت والحياة بيد الانسان ولو صحّ ذلك فليدفع الموت عن نفسه ، مع أنّه سنّة اللّه الحتميّة في جميع الكائنات.

ب - بأنّ موت الإنسان في ساحة القتال مع الشرك ليس موتاً حقيقياً وإنّما هو في حقيقة الأمر ارتحال من دار إلى دار ومن حياة مادّية إلى حياة مثالية وأبدية سرمدية في خاتمة المطاف في جنات النعيم وانّ الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم بما هم فيه من حياة بلا كآبة ووجل ، قال سبحانه :

( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 169 - 171 ).

ثمّ إنّ المستفاد منها أنّ حياة الشهداء حياة حقيقية لها آثار جسمية ولها آثار

ص: 368

روحية ، ومن آثارها الجسميّة هو الرزق ، ومن آثارها النفسية الاستبشار ، فمن زعم أنّ المراد من حياة الشهداء هو خلودهم في صفحة تاريخ أمجاد الشعوب فقد فسّر القرآن تفسيراً مادّياً أعاذنا اللّه تعالى منه ولذلك قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله في جوابه لأبي سفيان - عندما قال : « إنّ الحرب سجال يوم بيوم » - :

« قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار ».

وقال الإمام الحسين حينما أمر أصحابه بالصبر :

« صبراً بني الكرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ، وإنّ أبي حدّثني عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذبت ولا كذّبت » (1).

فما جاء في كلامه علیه السلام صريح في كون الحياة حياة حقيقية.

وهذه الآيات بجملتها قد تناولت غزوة اُحد بجوانبها المختلفة وهناك آيات أخرى أيضاً وردت بالتنديد بالمتقاعدين وباستنهاض هممهم مثل قوله سبحانه : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) ( آل عمران / 139 و 140 ).

ص: 369


1- بلاغة الحسين ص 47.

3 - غزوة الخندق

اشارة

أجلى النبي الأكرم قبيلتي « بني قينقاع » و « بني النضير » من المدينة المنوّرة إلى شمال شبه الجزيرة العربيّة فنزلت عدّة منهم قلاع خيبر ورحلت عدّة اُخرى منهم إلى الشام ولبثتا تتحيّنان الفرص لإدراك ثأرهما من النبيّ وأصحابه والإنقضاض عليهم في عقر دارهم ، وقد كان اليهود أبصر خصوم المسلمين وأشدّهم حنكة وسياسة ، فهم كانوا دعاة التوحيد في شبه الجزيرة العربية ، وكانوا ينافسون المسيحيين في سلطانهم حيث كانوا دعاة التثليث ، وفي خضمّ هذه الظروف فوجئوا ببزوغ نجم شخصيّة محمد صلی اللّه علیه و آله وكتابه الجديد حيث يدعوا إلى التوحيد بعبارات قويّة جذّابة وبمبادئ خلاّبَة تأخذ بمجامع القلوب وتستقطب الأفكار.

ولأجل ذلك اجتمعت كلمتهم على تأليب العرب وإثارة حفائظهم ضدّ محمد صلی اللّه علیه و آله فأرسلوا رسلهم إلى قريش منهم سلاّم بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن أبي الحقيق من بني النضير ، ونفراً من بني وائل حتى قدموا قريشاً فدعوهم إلى حرب رسول اللّه وقالوا : إنّا سنكون معكم حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر اليهود إنّكم أهل الكتاب الاُوّل والعلم وتعلمون اختلافنا ومحمّد ، أفديننا خير أم دينه ؟

قالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق.

اللّه أكبر ما هذه الشراسة والصلافة والوقاحة ! وهم يزعمون أنّهم دعاة التوحيد وهاهم يفضّلون ويرجّحون الوثنيّة على التوحيد بملء فيهم لغاية التشفّي والإنتقام ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ

ص: 370

وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ... ) ( النساء / 51 - 52 ) (1).

فلمّا قالوا ذلك لقريش طاروا فرحاً وامتلأوا سروراً ونشطوا لإنجاح وتلبية ما دعوهم إليه من حرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولمّا تمكّنوا من أخذ الميثاق منهم على الحركة صوب المدينة في وقت مُخصّص ارتحلوا من مكّة إلى شمال الجزيرة فجاءوا إلى غطفان من قيس بن غيلان ومن بني مرّة ، ومن بني فزارة ، ومن أشجع ، ومن سليم ، ومن بني سعد ، ومن أسد التي هي بمجموعها تشكّل بطون غطفان ، وما زالوا بهم يحرّضونهم ويستحثّونهم ويذكرون لهم متابعة قريش إيّاهم على حرب محمد صلی اللّه علیه و آله فاجتمع أمرهم على نصرتهم ووعدهم يهود خيبر على أن يدفعوا إليهم محاصيل نخيلهم طيلة عام واحد ازاء نصرتهم لهم ومعاضدتهم إيّاهم (2).

حفر الخندق واحداثه حول المدينة :

حفر الخندق واحداثه حول المدينة (3) :

ولمّا بلغ رسول اللّه اتّفاق كلمتهم على حربه واجتماع قبائلهم على غزوه ، أخذ يخطّط لكيفيّة الدفاع وصدّ هجوم القبائل عليه في عقر داره. إذ فرق كبير بين غزوتي بدر واُحد وغزوة الخندق ، فإنّ المحاربين في هذه الغزوة المترقبة أشد شراسة وعدداً وعدّة من سلفهم ، ومن أجل ذلك فإنّ الصمود في وجهم يحتاج إلى حنكة عسكرية فائقة وتخطيط حربي متقن فاستشار أصحابه في أمرهم فقال سلمان : يا رسول اللّه إنّ القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة ، قال : فما نصنع ؟ قال : نحفر خندقاً يكون بيننا

ص: 371


1- وقد أشبعنا الكلام في توضيح الآية في الفصل المخصّص بأهل الكتاب فراجع.
2- المغازي للواقدي ج 2 ص 446.
3- عسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم الثلاثاء لثمان مضت من ذي القعدة فحاصروه خمس عشرة وانصرف يوم الأربعاء لسبع بقين سنة خمس ، وقد استعمل على المدينة ابن اُمّ مكتوم.

وبينهم حجاباً فيمكنك منعهم في المطاولة ، ولا يمكنهم أن يأتوا من كل وجه ، فإنّا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا باغتنا العدو نحفر خندقاً فتكون الحرب من مواضع معروفة ، فأمر رسول اللّه بالحفر من ناحية « اُحد » إلى « راتج » وجعل على كل عشرين خطوة وثلاثين خطوة (1) قوماً من المهاجرين يحفرونه ، فحملت المساحي والمعاول وبدأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين بنفسه وأميرالمؤمنين علیه السلام ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعيّ وقال : « لا عيش إلاّ عيش الآخرة اللّهمّ اغفر للأنصار والمهاجرة » فلمّا نظر الناس إلى رسول اللّه يحفر اجتهدوا في الحفر ونقل التراب فلمّا كان في اليوم الثاني بكّروا إلى الحفر ... (2).

ومع ذلك أبطأ عن رسول اللّه وعن المسلمين رجال من المنافقين يستترون بالضعيف من العمل ويتسلّلون إلى أهليهم بغير علم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا إذن ، وأمّا غيرهم من المسلمين فإذا نابته النائبة من الحاجة التي لابدّ له منها يذكر ذلك لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويستأذنه في اللحوق بحاجته ، فيأذن له ، فاذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتساباً له (3).

فخرجت قريش ومن لحق بها من أحابيشها أربعة آلاف فارس وعقدوا اللواء في دار الندوة وقادوا معهم ثمانمائة فرس ، وكان معهم من الظهر ألف وخمسمائة بعير لحمل أمتعتهم ومؤونتهم.

وأمّا من غير قريش فقد خرجت جموح من القبائل ، فبلغ القوم الذين وافوا

ص: 372


1- ولعلّ في النصّ سقط ، ويحتمل أن يكون الصواب بهذا النحو : وجعل على كل عشرين خطوة قوماً من المهاجرين وعلى كل ثلاثين خطوة قوماً من الأنصار ، والوجه في ذلك كثرة عدد الأنصار وقلّة عدد المهاجرين فتأمّل.
2- البحار ج 20 ص 218.
3- السيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 216.

الخندق من قريش وسواهم عشرة آلاف بين راكب وراجل ، فنزلت قريش برومة ووادي العقيق في أحابيشها ومن انضوى إليها من العرب ، وأقبلت غطفان حتى نزلوا بالزغابة بجانب اُحد (1).

وخرج رسول اللّه والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم (2).

بينما كانت قريش وحلفاؤها ترجو أن تلقى المسلمين باُحد ، فلم تجد عنده أحداً فجاوزته إلى المدينة حتى فاجأها الخندق ، ولم تكن عارفة بهذا الاُسلوب من الدفاع ، فرابطوا حول الخندق وعلموا أنّهم لا يستطيعون اقتحامه واجتيازه بعد جهد جهيد ، فاكتفوا بتراشق النبل والسهام عدّة أيّام متوالية وكلّما أراد بطل من أبطال الحلفاء أن يجتاز الخندق ، رُمي بالحجارة والنبل من خلف كثبان الرمل التي نصبت على أطرافه في مواقع المسلمين ، وقد استمرّت الحال على هذا المنوال قرابة خمسة عشر يوماً أو أزيد.

قال المقريزي : كان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبوسفيان بن حرب في أصحابه يوماً وخالد بن الوليد يوماً ويغدو عمرو بن العاص يوماً وهبيرة بن أبي وهب يوماً وعكرمة بن أبي جهل يوماً وضرار بن الخطاب الفهري يوماً ، فلا يزالون يجيلون خيلهم ويتفرّقون مرّة ويجتمعون مرّة اُخرى ويناوشون المسلمين ويقدّمون رماتهم فيرمون ، وإذا أبوسفيان في خيل يطيفون يمضيق من الخندق فرماهم المسلمون.

حتى رجعوا وكان عبّاد بن بشر ألزم الناس لقبّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحرسها وكان « أسيد بن حضير » يحرس في جماعة ، فاذا عمرو بن العاص في نحو المائة يريدون العبور من الخندق فرماهم حتى ولّوا ، وكان المسلمون يتناوبون الحراسة وكانوا في فقر وجوع وكان عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كثيراً ما يطلبان

ص: 373


1- المغازي للواقدي ج 2 ص 444.
2- السيرة النبويّة ج 2 ص 220.

غرّة ومضيقاً من الخندق يقتحمانه فكانت للمسلمين معها وقائع في تلك الليالي (1).

فأقام رسول اللّه والمشركون بضعاً وعشرين ليلة ، فبينما الناس على ذلك من الخوف والبلاء ولم يكن قتال إلاّ الحصار والرمي بالنبل إلاّ أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ ، وعكرمة ابن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب ، وهبيرة بن أبي وهب ، تلبّسوا للقتال وخرجوا على خيولهم حتى مرّوا على منازل بني كنانة ووقفوا فقالوا : تهيئوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون من الفرسان اليوم ، ثم أقبلوا تسرع بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق فقالوا : واللّه إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.

ثم يمّموا شطرهم مكاناً من الخندق ضيّقاً ، فضربوا خيولهم فجالت بهم حتى عبرت الخندق فطلب عمرو بن عبد ودّ البراز مرّة بعد اُخرى إلى أن ارتجز بقوله :

ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجع *** موقف القرن المناجز

ولذاك إنّي لم أزل *** متسرّعاً قبل الهزائز

إنّ الشجاعة في الفتى *** والجود من خير الغرائز (2)

ثمّ قال النبي لأصحابه ثلاث مرّات : أيّكم يبرز لعمرو وأضمن له على اللّه الجنّة ، في كلّ مرّة كان يقوم عليّ فاستدانه وعمّمه بيده ، فلمّا برز قال : « برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه » وقال : « اللّهمّ إنّك أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر وحمزة بن عبد المطلب يوم اُحد وهذا أخي عليّ بن أبي طالب ، ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين » (3).

وقال الواقدي : إنّ المسلمين كأنّ على رؤوسهم الطير لمكان عمرو وشجاعته ، فلمّا استقبله عليّ ارتجز بقوله :

ص: 374


1- امتاع الأسماع ص 241.
2- دلائل النبوّة ج 3 ص 438.
3- بحار الأنوار ج 20 ص 215 نقلاً عن كنز الفوائد للعلامة الكراجكي ص 136.

لا تعجلنّ فقد أتاك *** مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة *** والصدق منجى كلّ فائز

إنّي لأرجو أن اُقيم *** عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء *** يبقى ذكرها عند الهزائز

فقال له عمرو : ومن أنت ؟ قال : أنا عليّ. قال : ابن عبد مناف ؟ فقال : علي ابن أبي طالب. فقال : غيرك يا ابن أخي ومن أعمامك من هو أسنّ منك فأنا أكره أن اهريق دمك.

وقال الواقدي : أقبل عمرو يومئذٍ وهو فارس وعليّ راجل فقال له عليّ علیه السلام : إنّك كنت تقول في الجاهلية : لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلاّ قبلتها ! قال : أجل ! قال علي : فإنّي أدعوك أن تشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه واسلم لله رب العالمين ، قال : يا ابن أخي أخّر هذا عني. قال : فاُخرى ترجع إلى بلادك فإن يكن محمد صادقاً كنت أسعد الناس به ، وإن كان غير ذلك كان الذي تريد ، قال : هذا ما لا تتحدّث به نساء قريش أبداً ، وقد نذرت ما نذرت وحرّمت الدهن ، قال : فالثالثة ؟ قال : البراز ، قال : فضحك عمرو ، ثمّ قال : إنّ هذه الخصلة ما كنت أظن انّ أحداً من العرب يرومني عليها إنّي لأكره أن أقتل مثلك وكان أبوك لي نديماً ، فارجع فأنت غلام حدث وإنّما أردت شيخي قريش أبا بكر وعمر قال ، فقال عليّ علیه السلام : فإنّي أدعوك إلى المبارزة فأنا أحبّ أن أقتلك ، فأسفّ عمرو ونزل وعقل فرسه (1) وسلّ سيفه كأنة شعلة نار ثمّ أقبل نحو عليّ مغضباً ، فأنحى بسيفه على هامّة علي ، فصدّها علي بمجنّه فانقدّ المجن واثبت فيها السيف واصاب رأسه فشجّه ، فعاجله عليّ فضربه على حبل العاتق فسقط وثار العجاج ، وسمع رسول اللّه التكبير فعرف أنّ عليّاً قد قتله ، وعند ذلك خرجت خيلهم منهزمة حتى جاوزت الخندق هاربة ، ثمّ أقبل عليّ نحو رسول اللّه ووجهه يتهلّل ، فقال عمر بن الخطاب هلا استلبته درعه ؟ فإنّه ليس للعرب درع خير منها

ص: 375


1- المغازي للواقدي ج 2 ص 417.

فقال : ضربته فاتقاني بسواده (1) فاستحييت ابن عمي أن استلبه ثمّ أنشد يقول :

نصر الحجارة من سفاهة رأيه *** ونصرت ربّ محمد بصواب

فصددتّ حين تركته متجدّلاً *** كالجذع بين دكادك (2) ورواب

لا تحسبنّ اللّه خاذل دينه *** ونبيّه يا معشر الأحزاب (3)

استبشار المؤمنين وكآبة المشركين :

قد كان الخوف والوجل مستولياً على نفوس المسلمين منذ جاء الأحزاب وحاصروا المدينة ولمّا قتل علي بطل الأحزاب وفارسها وانهزم من كان معه من أبطالهم وذؤبانهم ، حتى انّ عكرمة بن أبي جهل ألقى رمحه يومئذٍ وفرّ ، انقلبت الاُمور رأساً على عقب ، فصار الخوف والهلع نصيب المشركين ومخيّماً عليهم. هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، كان الوقت إذ ذاك شتاءً قارساً برده ، عاصفة رياحه ، يخشى في كل وقت مطره ، فالخيام التي ضربوها أمام يثرب لا تحميهم منها فتيلاً.

ومن ناحية ثالثة وقف أبو سفيان وحلفاؤه على أنّ الخندق مادام حائلاً بينهم وبين المسلمين والأبطال منهم يذودون عنه بالنبال والحجارة ، وما دامت بنو قريظة تمدّ المسلمين بالمؤونه امداداً ، فإنّه من الصعب العسير إحراز النصر عليهم بل بإمكانهم الصمود أمامهم على تلك الحال مدّة مديدة تطول مع الشهور ، والحل الوحيد الذي أصبح أمامهم هو أن ترجع الأحزاب إلى أدراجهم.

ولكن إجتماع هؤلاء الأحزاب على حرب المسلمين مرّة اُخرى ليس بالأمر

ص: 376


1- هكذا في المصدر ولعلّ الصحيح : بسوأته.
2- جمع « دكداك » وهو الرمل اللّين ، و « الروابي » : جمع « رابية » وهي الكدية المرتفعة.
3- السيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 265.

الميسور فإن افلتت الفرصة ربّما لم يسنح لهم الزمان بمثلها في المستقبل.

هذه النهاية التي آل إليها أمر الأحزاب وكانوا في حيرة من أمرهم وغمّة شديدة.

وعند ذلك تفطّن حيي بن أخطب فتيل الفتنة بأنّ في إمكانه أن يتّصل ببني قريظة القاطنين في داخل المدينة ويحرّضهم على نقض عهدهم مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمسلمين ، فعند ذلك تنقطع الميرة والمؤونة والمدد أوّلاً ، وينفتح الطريق لدخول يثرب من قلاع بني قريظة ثانياً.

وخال حيي بن أخطب بأنّه جاء بمكيدة محكمة ، فعرضت فكرته على قريش وغطفان فحبّذاها وسارعا إلى انجازها فذهب بنفسه يريد كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وقد أغلق كعب دونه باب حصنه إذ عرف أنّه حيى بن أخطب ، ولكنّه آخر الأمر فتح باب قلعته واعتنق نظريّته ونقض عهده مع الرسول ، وأوجد ذلك قلقاً شديداً بين المسلمين ، وقد ذكرنا تفصيله عند البحث عن أهل الكتاب ، ولكنّه سبحانه دفع شرّهم بحدوث الاختلاف بين المشركين وبني قريظة فآل الأمر إلى انجلاء الأحزاب من ساحة القتال من دون نتيجة وإليك بيانه :

انقسام المشركين على أنفسهم :

إنّ نعيم بن مسعود أتى رسول اللّه فقال : يا رسول اللّه إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت. فقال رسول اللّه : إنّما أنت فينا رجل واحد فادخل بين القوم خذلانا إن استطعت فإنّ الحرب خدعة ، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم قالوا : صدقت لست عندنا بمتّهم ، فقال لهم : إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم. البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحوّلوا منه إلى غيره ، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه

ص: 377

وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم ، فإن رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان ذلك لحقوا ببلادهم ، وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه ، فقالوا له : أشرت بالرأي.

ثمّ خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : قد عرفتم ودّى لكم وفراقي محمداً وانّه بلغني أمر قد رأيت عليّ حقّاً أن اُبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عنّي ، فقالوا : نفعل. قال : تعلَّموا أنّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمّد وقد أرسلوا إليه : إنّا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثمّ نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم ؟ فأرسل إليهم نعم ، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.

ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان إنّكم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليّ ولا أراكم تتّهموني ، قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمنّهم ، قال : فاكتموا عني ، قالوا : نفعل ، فما أمرك ؟

ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم.

فلمّا كانت ليلة السبت من شوّال سنة خمس أرسل أبو سفيان بن حرب ووجهاء غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل ، فقالوا لهم لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمّداً ، فأجابوا أنّ اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئاً ومع ذلك لسنا بالذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّداً ، فإنّنا نخشى إن اشتدّ عليكم القتال تتركوننا في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك منه ، فلمّا رجعت إليهم الرسل بما قالته بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : واللّه إنّ الذي حدّثكم به نعيم بن مسعود لحق ، فارسلوا إلى بني قريظة : إنّا لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا ، فإن كنتم تريدون

ص: 378

القتال فاخرجوا فقاتلوا ، فقالت بني قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلاّ أن يقاتلوا ، فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك تفرّقوا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين محمّد في بلدكم ، فارسلوا إلى قريش وغطفان : إنّا واللّه لا نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً فأبوا عليهم.

فلمّا كان ليلة السبت بعث اللّه عليهم الريح في ليلة شاتية باردة شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم ، ولمّا انتهى إلى رسول اللّه ما فرّق اللّه من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً.

فذهب حذيفه ورجع بقوله : دخلت في القوم والريح وجنود اللّه تفعل بهم ما تفعل لا تقرّ لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءاً ، فقال أبوسفيان : يا معشر قريش إنّكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف واخلفنا بنو قريظة ولقينا من شدّة الريح ما ترون ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار فارتحلوا فإنّي مرتحل.

وبذلك اختلفت الأحزاب ولم يبق منهم أحد وأصبح الصبح ولم ير منهم شيء ، فرجع المسلمون إلى منازلهم شاكرين.

هذا خلاصة ما أفادته كتب السير والتواريخ (1) وإليك تحليل ما ورد حول تلك الواقعة من الآيات ولا محيص لمفسّر عن الوقوف بما جاء في كتب السيرة فإنّها كالقرائن المنفصلة لفهم معنى ما تضمّنته الآيات الشريفة ونحن نذكر الآيات الواردة حول هذه الغزوة كاملة ثمّ نعقبّها ، بما تسنح به الفرصة من التحليل والتوضيح.

ص: 379


1- راجع السيرة النبويّة ج 2 ، ومغازي الواقدي ج 2 ، وبحار الأنوار ج 20 ، ومجمع البيان ج 4.
غزوة الأحزاب في الذكر الحكيم :
اشارة

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً * لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِّيَجْزِيَ اللّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَرَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللّهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الأحزاب / 9 - 27 ).

ص: 380

1 - إستحواذ القلق عند مرابطة الأحزاب :

إنّ الآية الاُولى ترسم لنا كيفيّة نزول الأحزاب على المدينة وإنّهم جاءوها من أعاليها وأسافلها ، فقد جاءت قبيلة غطفان وبني النضير من الجانب الشرقي للمدينة وهي الجهة العليا وجاءت قريش ومن انضم إليهم من الأحابيش وكنانة من الجانب الغربي وهي الجهة السفلى ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) .

كما أنّها تعكس الحالة النفسية التي عايشها المسلمون أثناء تطويق المدينة وهم على طوائف :

1 - من مالت أبصارهم عن كل شيء فلم تنظر إلاّ إلى عدوّهم مقبلين من كل جانب.

2 - من شخّصت قلوبهم من مكانها ولولا أنّه ضاق الحلقوم عنها إن تخرج لخرجت.

3 - من ظنّ باللّه ظنّ الجاهلية متقوّلين بأنّ الكفّار سيغلبون وسيستولون على المدينة وبالتالي ينمحق الدين وتعود الجاهلية أدراجها الاُولى.

وإلى هذه الحالات الثلاث أشارت الآية بجملها الثلاث :

أ - ( وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ ) .

ب - ( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ ) .

ج - ( وَتَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا ) .

والجملتان الأوّليتان كناية عن مبلغ استحواذ الخوف والهلع عليهم حتى انتقل بهم إلى حالة شبيهة بالإحتضار التي يزيغ فيها البصر وتبلغ القلوب الحناجر.

وأمّا الجملة الثالثة : فلم تكن تشير إلى عموم المسلمين بل تستعرض حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، فهؤلاء ظنّوا باللّه ظنّ الجاهلية ، كما يدل عليه

ص: 381

صريح لفظها حيث تضمّنت ما لفظه :

( وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا ) .

والمراد من قوله : ( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) ضعفاء الإيمان من المسلمين وهم غير طائفة المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر والشرك وإنّما يسمّون محمّداً رسولاً لمكان اظهارهم الإسلام.

وأمّا الوعد الذي وعدهم اللّه ورسوله به هو انه كان يكرّر قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( التوبة / 33 ).

ولو افترضنا نزول الآية بعد غزوة الخندق فقد كان النبي يعد هم أنّه يفتح مدائن كسرى وقيصر خصوصاً عند حفر الخندق على ما في كتب السير والتواريخ (1).

قال ابن هشام :

وعظم عند ذلك البلاء ، واشتدّ الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتّى ظنّ المسلمون كلّ ظنّ ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال بعضهم : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب للتخلّي.

وايم اللّه كانت هذه الغزوة كاُختها أي غزوة اُحد تمحيصاً وغربلة وتمييزاً للمؤمن الواقعي عن المنافق المتظاهر بالإيمان كما تشير إليه الآية الثانية.

( هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ) وإنّما استعمل كلمة هنا لك مع أنّها يشارُ بها إلى البعيد لأنّ الآية نزلت بعد جلاء المعركة وأشار بها إلى زمان مجيء الجنود المتأخّر عن نزولها.

ص: 382


1- السيرة النبويّة لإبن هشام ج 2 ص 219 ، لاحظ محادثة النبي لسلمان عند حفر الخندق.
2 - حياكة الدسائس لفتح الثغرات :

لم يكن عمل المنافقين منحصراً بإثارة القلاقل والارهاصات النفسية على ما مرّ بيانه في كلماتهم بل كان دورهم أوسع من ذلك ، فقد كانوا يقومون بشن حرب نفسيّة تهدف إلى تفريق المسلمين عن الدفاع عن الخندق وكانوا يقولون للمسلمين لا وجه لإقامتكم ها هنا قبال جنود المشركين فالغلبة لهم لا محالة ولا مناص من الفرار.

وكان لفيف منهم يتذرّعون بقولهم ( إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ) أي لا يؤمن عليها من السارق وزحف العدو عليها ، حتّى يتملّصون ويتخلّصون من الخطر الذي يحدق بهم في ساحة المعركة. وكان هذا الكلام واجهة للفرار ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا ) .

3 - المشارفة على أعتاب الردّة :

ولقد بلغ الحال بالمنافقين والذين في قلوبهم مرض في تهاونهم بأمر التمسّك بالدين انّه لو رجع إليهم العدو مرّة ثانية ودخل المدينة من أقطارها وأطرافها ونواحيها ثم سألوهم الرجوع إلى الشرك لأجابوا مسرعين ولم يتوانوا ولم يلبثوا في الاجابة إلاّ زماناً يسيراً بمقدار الطلب والسؤال منهم ، فالمنافقون ومن تبعهم من مرضى القلوب يتظاهرون بالإسلام مادام الرخاء سائداً والأمن حالاًّ فإذا خيّمت الشدّة وحاق بهم البأس لم يلبثوا إلاّ قليلاً دون الرجوع والردّة.

وهذا يعطي لنا درساً إضافيّاً بأنّ النظام الإسلامي يجب أن يرتكز في دعوته وكافّة اُُموره السياسية والإجتماعية والروحية على المؤمنين الصادقين ، والمعتنقين لمبادئه وأحكامه بصدق ويقين وتفان وإخلاص ، يتحاشى عن الركون والإعتماد على المنافقين بل يحذر منهم دائماً ، ويطلب نبذهم من الحياة فإنّهم يَعِدون ولا يوفون ، يبايعون وينقضون ، ويحالفون ويغدرون ، وهذه سجيّتهم وديدنهم ، وإليه يشير

ص: 383

قوله سبحانه :

( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً ) .

وأمّا أنّهم في أي مكان وزمان بايعوا النبى فغير معلوم ، ولعلّ إيمانهم باللّه ورسوله وبما جاء به من الجهاد وحرمة الفرار منه ، نوع عهد لله ورسوله أن لا يولّوا الأدبار ، وعلى كل تقدير فهؤلاء لا يتحمّلون المسؤولية وإن تحمّلوها بادئ بدء ، رفضوها في خاتمة المطاف.

4 - عدم جدوى الفرار :

هؤلاء يتركون ساحة القتال وأطراف الخندق ، لأجل الفرار من خطر الموت والقتل ، غير أنّهم قد جهلوا سنّة اللّه الحكيمة القاضية بأنّه : ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف / 34 ).

وقد ردّت هذه النظرية ( الفرار سبيل النجاة ) في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( آل عمران / 145 ).

وقال سبحانه : ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) ( آل عمران / 154 ).

ويقول في شأن أولئك الذين نكصوا على أعقابهم في معركة الخندق من المسلمين : ( قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) وما ذلك إلاّ لأنّ لكل نفس أجلاً ، مقضيّاً ومحتوماً لا يتأخّر عنه ساعة ولا يتقدّم عنه ، فالفرار على فرض التأثير لا يؤثّر إلاّ قليلاً ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) .

كيف وإنّ الخير والشر تابعان لإرادته سبحانه ، ولا يحول دون نفوذ إرادته شيء ، فإذاً الأولى إيكال الأمر إلى إرادته والتوكّل عليه ، قال سبحانه : ( قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ

ص: 384

وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) .

5 - سعة علمه :

إنّ المنافقين ومن في قلبه مرض من المسلمين ، ما عرفوا اللّه حقّ قدره ، وما عرفوا أسماءه وصفاته ، وإنّه عالم بكل شيء ، ما تكنّه صدورهم وتضمره قلوبهم وتوحيه نفوسهم ، فكيف كلامهم وأعمالهم العلنية ، فقد كانوا يعيقون غيرهم من جنود المسلمين عن الجهاد مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويثبّطونهم ويشغلونهم ليعرضوا عن نصرته وينصرفوا عن القتال ، وكانت اليهود تساندهم في هذا الأمر ويقولون مع نظرائهم من المنافقين : لا تحاربوا وخلّوا محمداً فإنّا نخاف عليكم الهلاك ، ولأجل ذلك ما كانوا يحضرون القتال إلاّ رياءً أو سمعة قدر ما يوهمون أنّهم مع المسلمين ولكنّهم كانوا كارهين لكون قلوبهم مع المشركين ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الأحزاب / 18 ).

6 - جبناء حين البأس ، شجعان حين الأمن

عجيب أمر هؤلاء ومن حذى حذوهم :

فهم حين البأس جبناء ، تدور أعينهم في رؤوسهم وجلاً وخوفاً ، كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيته أسبابه ، فعند ذاك يعذّب لبّه ويشخص بصره فلا يتحرّك طرفه.

وحين اقتسام الغنيمة أشحّاء إذا ظفر بها المؤمنون لا يريدون أن يفوتهم شيء ممّا وصل إلى أيديهم ، وكان الشاعر يشير إليهم :

وفي السلم أعيار جفاءً وغلظة *** وفي الحرب أمثال النساء العواتك

ص: 385

ولهم مع ذلك كذب في القول ومراء في الكلام ، فإذا كان الأمن والرخاء مخيِّما فخروا بمقاماتهم المصطنعة من النجدة والشجاعة والبأس ، وإلى هذه الحالات الثلاثه يشير قوله تعالى :

( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ) .

إلى الحالة الأولى - أي جبنهم في الحرب - يشير قوله : ( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ) أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة ، فهم لا يودّون مساعدتكم ولا نصرتكم لا بنفس ولا نفيس.

وإلى الحاله الثانية يشير قوله : ( أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ ) أي الغنائم.

وإلى الحالة الثالثة يشير قوله : ( فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) .

وفي النهاية كتب على أعمالهم الضئيلة بالإحباط كما في قوله : ( أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ ) .

وفي نهاية المطاف يتناول سبحانه هؤلاء ما هو مفاده : إنّ مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم ، وعظيم الدهشة والحيرة التي أحاطت بهم ، بلغ إلى حدٍ أنّهم يظنّون انّ الأحزاب ما زالت مرابطة في ثكنات معسكرهم في الوقت الذي رحلوا فيه.

والذي يعرب عن عظم ما انتابهم من الوجل ، أنّه لو رجعت الأحزاب تمنّوا أن لو كانوا مقيمين في البادية بعيدين عن المدينة حتّى لا ينالهم أذى أو مكروه ويكتفون بالسؤال عن أخبار من قاوم من جانب المدينة ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً ) .

إنّه سبحانه بعد أن فصّل أحوالهم ، وكشف عّما كنّته صدورهم وما أضمروه ،

ص: 386

أبان لهم طريق الهداية مرّة اُخرى وانّهم لو راموا النجاة والسعادة فليقتدوا برسول اللّه وليجعلوه اُسوة لهم ، قال سبحانه :

( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيرًا ) .

* * *

حال المؤمنين الصادقين في غزوة الأحزاب

ثمّ إنّه سبحانه لما بيّن حال المنافقين ومن في قلبه مرض ، ذكر حال المؤمنين الواقعيين الذين كانوا في الرعيل الأوّل في سوح الجهاد ، وكيف انّهم كانوا على طرفي نقيض من المنافقين ، حيث قال سبحانه : ( وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِّيَجْزِيَ اللّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الأحزاب / 22 - 24 ).

إنّ قوله سبحانه ( هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ ) إشارة إلى ما وعدهم النبي بأنّ الأحزاب ستجتمع شوكتهم عليهم ، فلمّا شاهدوهم تبيّن لهم أنّ ذلك هو الذي وعدهم ، وربّما يقال بأنّ المراد ما وعده اللّه ورسوله من الابتلاء والإمتحان في الآيات التي نزلت في غزوة اُحد في قوله سبحانه ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) ( البقرة / 214 ).

فتحقّقوا من ذلك انّه سيصيبهم ما أصاب الأنبياء والمؤمنين بهم من الشدّة والمحنة التي تزلزل القلوب ، وتدهش النفوس ، فلمّا رأوا الأحزاب أيقنوا أنّه من الوعد الموعود وانّ اللّه سينصرهم على عدوّهم.

ثمّ إنّه سبحانه وصف الكاملين من المؤمنين الذين ثبتوا عند اللقاء ، واحتملوا

ص: 387

البأساء والضرّاء في هذه الغزوة وما قبلها من الغزوات ، بأنّ بعضهم استشهد يوم بدر ويوم اُحد ، وبعض منهم يترقّب أجله ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) .

والنحب : النذر المحكوم بوجوبه ، يقال قضى فلان نحبه ، أي وفى بنذره ، ويعبّر به عمّا انقضى أجله ، ثم إنّه سبحانه يقول : إنّ كلاًّ من المؤمن والمنافق مجزى بأعماله ، قال سبحانه : ( لِّيَجْزِيَ اللّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .

وهو سبحانه استعرض جزاء عمل الصادقين بنحو القطع والجزم بقوله : ( لِّيَجْزِيَ اللّهُ الصَّادِقِينَ ) في الوقت الذي نجد فيه أنّه تناول جزاء المنافقين بقوله : ( وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ ) بالتعليق على المشيئة ، وما ذلك إلاّ لبيان سعة رحمته وفضله ، وأنّه فسح المجال لتوبة من عصاه ، وعلى ذلك يكون معنى الآية يعذّب المنافقين لو شاء تعذيبهم ، فيما لم يتوبوا أو يتوب اللّه عليهم إن تابوا.

خاتمه المطاف :

وفى ختام الآيات يقول أنّه سبحانه : قد صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعزّ جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، وردّ المشركين على أدبارهم ، خائبين مخذولين تختنقهم الغصّة وتؤلمهم الحسرة ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَرَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللّهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) .

النتائج التي تمخّض عنها هذا البحث فهي :

أ - إنّّ في هذه الغزوة تحالفت الوثنية مع اليهود على أن يكون تحمّل أعباء نفقات الحرب على عاتق اليهود وكاهلهم ، ويكون القتال والاصطكاك في ساحة المعركة من نصيب المشركين ، وليس هذا التآمر المشترك هو الأوّل من نوعه بل له

ص: 388

نظائر متعدّدة على امتداد التاريخ الإسلامي ، فقد تحالفت الوثنية مع النصرانية في القرن السادس والسابع الهجريين ، فشنّوا الغارات الشرسة على العالم الإسلامي ، ومزّقوه شر ممزّق ، فقد جاء التتار وهم الوثنية من الجهة الشرقية ، بينما جاءت النصرانية من جانب الغرب فهجموا على البلاد ، وفتكوا بأهلها فتكاً ذريعاً لم يذكر التاريخ له مثيلاً.

ب - إنّ الإنتصار رهن عاملين قويين : أحدها بشري والآخر غيبي.

فأمّا الأوّل وهو القيام بالتخطيط العسكري ، وحفر الخندق ، وحشد القوى بتمام طاقاتها ، وبذل كل ما كانوا يملكونه لصدّ هجوم العدو ولم يكن التخطيط العسكري الذي انتخبه الرسول صلی اللّه علیه و آله منحصراً بحفر الخندق ، بل الرسول صلی اللّه علیه و آله في كسر جبهة الأعداء استعان بالجواسيس وبث العيون وقد كان لنعيم بن مسعود في الفتك بوحدتهم دور هام ، على ما مر بيانه وربّما يوازي عمله عمل أدهى أجهزة الإستخبارات العالمية.

وأمّا الثاني وهو الغيبي فقد سلط اللّه عليهم الريح والبرد القارس ، حتى سلبت عنهم الراحة والاستقرار والقدرة على البقاء ، فهذا حذيفة بن اليمان الذى أرسله الرسول جاسوساً إلى القوم حيث قال له : اذهب فادخل في القوم ، فانظر ماذا يصنعون ولا تحدثن شيئاً ، حتى تأتينا ، قال فذهبت فد خلت في القوم ، والريح وجنود اللّه تفعل بهم ما تفعل ، لا تقرّ لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً ، فقام أبو سفيان فقال : احذروا الجواسيس والعيون ولينظر كل رجل جليسه ، قال حذيفه فالتفتّ إلى عمرو بن العاص فقلت : من أنت ، وهو عن يمينى فقال : عمرو بن العاص ، والتفتّ إلى معاوية بن ابى سفيان فقلت : من أنت فقال : معاوية بن أبى سفيان ، ثم قال أبو سفيان : إنّكم واللّه لستم بدار مقام ، لقد هلك الخف والكراع ( إلى أن قال حذيفه ) فقام أبو سفيان وجلس على بعيره ، وهو معقول ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائمه فما اطلق عقاله إلاّ بعد ما قام (1).

ص: 389


1- المغازي ج 2 ص 489 و 490 ، والسيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 232.

4 - غزوة بني المصطلق

اشارة

بلغ رسول اللّه أنّ بني المصطلق يجمعون له ، وقائدهم « الحارث بن أبي ضرار ». فلمّا سمع بهم خرج إليهم ، حتّى لقيهم على ماء لهم ، يقال له : ( المُرَيسيع ) فتزاحف الناس ، واقتتلوا ، فهزم اللّه بني المصطلق ، وقتل من قتل منهم ، وسبي من سبي ، وقد قتل من أصحاب رسول اللّه رجل اسمه « هشام بن صبابة » قتله رجل من الأنصار خطأً.

فبينا رسول اللّه على ذلك الماء ، وردت واردة الناس ، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار ، يقال له جَهْجاه بن مسعود يقود فرسه ، فازدحم جَهْجاه مع رجل من الأنصار على الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الأنصاري : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين. فلمّا سمع رسول اللّه صرختهما قال : دعوها فإنّها منتنة - يعني إنّها كلمة خبيثة - لأنّها من دعوى الجاهلية ، فإنّ اللّه جعل المؤمنين اُخوة وحزباً واحداً ، فمن دعا في الإسلام بدعوة الجاهليّة يعزّر.

ثمّ لمّا بلغ الأمر إلى عبد اللّه بن اُبيّ بن سلول ، وعنده رهط من قومه ، فيهم : زيد بن أرقم ، وهو غلام حدث ، فقال ابن اُبيّ : أوَ قد فعلوها ، وقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، واللّه ما أعدّنا وجلابيب قريش إلاّ كما قال الأوّل : سَمِّن كلبك يأكلك ! أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل. ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما واللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم. فسمع ذلك

ص: 390

زيد بن أرقم ، فمشى به إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وذلك عند فراغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من عدوّه ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب فقال : مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله. فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه !

وقد مشى عبد اللّه بن اُبيّ بن سلول إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين بلغه انّ زيد بن أرقم قد بلّغه ما سمع منه ، فحلف باللّه : ما قلت ما قال ولا تكلمّت به - وكان في قومه شريفاً عظيماً - فقال من حضر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الأنصار من أصحابه : يا رسول اللّه عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ، ولم يحفظ ما قال الرجل ، حَدَباً على ابن اُبيّ بن سلول ودفعاً عنه.

ولكنّه صلی اللّه علیه و آله وقف على أنّه إن لم يتّخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر ، لذلك أمر أن يؤذّن بين الناس بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل المسلمون فيها ، وعند ذلك جاء أسيد بن حضير وقال : يا نبي اللّه لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال : وأي صاحب يا رسول اللّه ؟ قال : عبد اللّه بن اُبيّ قال : وما قال ؟ قال : زعم أنّه إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ، قال : فأنت يا رسول اللّه واللّه تخرجه منها إن شئت ، هو واللّه الذليل وأنت العزيز. ثمّ قال : يا رسول اللّه ، ارفق به ، فواللّه فقد جاءنا اللّه بك ، وإنّ قومه لينظمون له الخَرز ليتوّجوه ، فإنّه ليرى أنّك قد أستلبته مُلكاً.

ثمّ مشى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالناس يومهم ذلك حتّى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتّى آذتهم الشمس ، ثمّ نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً ، وإنّما فعل ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد اللّه بن اُبيّ.

حطّ المسلمون رحالهم بالمدينة ، وفي تلك الأثناء نزلت آيات تصدّق زيداً ،

ص: 391

وتكذّب عبد اللّه بن اُبي ، حيث قال سبحانه :

( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون / 7 و 8 ).

فلمّا نزلت هذه الآيات حسب قوم أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله آمر بقتله لا محالة ، فعند ذلك ذهب ابنه عبد اللّه - وكان مسلماً حسن الإسلام - فقال : يا رسول اللّه إنّه بلغني أنّك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرْني به ، فأنا اَحمِلُ إليك راَسه ، فواللّهِ لقد علمتْ الخزرجُ ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي ، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي اَنْظُر إلى قاتل عبد اللّه بن أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر ، فأدخل النار. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.

تولّي قوم ابنُ اُبيّ مجازاته :
اشارة

وبعد ذلك كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنِّفونه. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم : كيف ترى يا عمر ، أما واللّه لو قتلته يوم قُلتَ لي اقتله ، لاُرعِدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال : قال عمر : قد واللّه علمت لأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعظم بركة من أمري (1).

وقال الطبرسي : وكان عبد اللّه بن اُبيّ بقرب المدينة ، فلمّا أراد أن يدخلها جاء ابنه عبد اللّه بن عبد اللّه حتّى أناخ على مجامع طرق المدينة. فقال : مالك ويلك ؟ قال : واللّه لا تدخلها إلاّ بإذن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولتعلمنّ اليوم

ص: 392


1- السيرة النبويّة لإبن هشام ج 2 ص 289 - 293.

مَنْ الأعزّ ومن الأذلّ ، فشكا عبد اللّه ابنه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأرسل إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن خلّ عنه يدخل ، فقال : أمّا إذا جاء أمرَ رسول اللّه فنعم (1).

ولمّا نزلت الآيات المتقدّمة وبان كذب عبد اللّه قيل له : إنّه نزل فيك آي شداد ، فاذهب إلى رسول اللّه يستغفر لك ، فلوى رأسه ثمّ قال : آمرتموني أن اُؤمن فقد آمنت ، وآمرتموني أن اُعطي زكاة مالي فقد أعطيت ، فما بقي إلاّ أن أسجد لمحمد ، فعند ذلك نزلت الآيتان التالية :

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( المنافقون / 5 و 6 ).

هذه قصة غزوة بني المصطلق ، وقد رواها أهل السير والمغازي والمفسّرون (2).

والذي يهمّنا من استعراض تلك الغزوة هو الدروس والعظات التي يمكننا أن نستخلصها ، ونستفيدها منها من خلال سيرة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، وإليك عرض تلك النتائج :

1 - التخطيط للإجلاء والمقاطعة الاقتصادية :

لم يكن التخطيط لإجلاء المسلمين عن أوطانهم واماكنهم والمقاطعة الاقتصادية شيئاً حديث النشأة في القرن العشرين ، وإنّما له جذور تمتد على مرّ التاريخ ، فهذا عبد اللّه بن اُبيّ رئيس المنافقين يعد العدّة للتآمر على المسلمين ، ويسعى جاهداً لإجلائهم ، وفرض مقاطعة إقتصادية عليهم ، فلو شاهدنا ما يفعل بنا

ص: 393


1- مجمع البيان ج 10 ص 444 ( طبع بيروت ).
2- لاحظ تفسير الطبري ج 28 ص 70 - 75 ، والدر المنثور ج 5 ص 222 - 226 ، إلى غير ذلك من المصادر.

نحن معاشر المسلمين على أيدى المستعمرين في بيت المقدس ، وسائر بقاع المسلمين الاُخرى في أيّامنا هذه ، فليس هناك محلاًّ للإستغراب والدهشة والتعجّب ، ولكنّ اللّه سبحانه وتعالى أدحض تآمرهم وأبطل أحدوثتهم وردّ كيدهم إلى نحورهم فانقلبوا خاسئين.

قال سبحانه : ( وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( المنافقون / 7 ) وقال سبحانه : ( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) ( المنافقون / 8 ).

ولكنّ ذلك مشروط بالتمسّك بعرى الإيمان ، والإنقطاع الكامل لله عزّ وجل ، والإنقياد المطلق لأوامره ونواهيه.

قال سبحانه : ( وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 139 ) وقال عزّ اسمه : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ( فصّلت / 30 ).

2 - تشتيت الشمل وبثّ التفرقة بين المسلمين :

إنّ عبد اللّه بن اُبيّ ذلك العدو اللدود للمسلمين ، أراد تشتيت شمل المسلمين ، بإثارة ظغائن طائفة من المسلمين على طائفة اُخرى ، حتّى يشتعل فتيل الفتنة ، ويحرق المسلمون بعضهم دمَ بعض بأيديهم ، وتكون الخاتمة لصالح أعدائهم ، حيث قال : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ... .

غير أنّ هذا النهج التآمري لا زال معمولاً به إلى يومنا هذا ، وما انفكّ عنه أعداء الإسلام طرفة عين أبداً ، ومن الصور الجليّة الواضحة لهذا النهج العدائي في يومنا هذا ، بثّ السموم الفكرية في أذهان أبناء الشعوب الإسلامية ، وتأليب بعضهم على بعض ، تحت شعارات قومية ووطنية وعرقية ، فيحفّزون الجذور القومية للترك في قبال الجذور القومية العرقية العربية ، وهكذا بالنسبة لسائر القوميات المتعدّدة التي تدين

ص: 394

بالإسلام على امتداد رقعته الشاسعة.

وبذلك تمكّنوا من الفتك والإجهاز على الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف ، والتي تمكّنت من الظهور بالمسلمين كدولة عظمى في العالم لها سيادتها ، وثقلها في تقرير الأوضاع السياسية في العالم.

3 - حنكة النبي صلی اللّه علیه و آله في اجتياز الأزمة :

في خضمّ ذلك الموقف الحرِج ، أمر النبي صلی اللّه علیه و آله أن يؤذّن في الناس بالرحيل في ساعة لم يألفوا الرحيل فيها ، مع أنّ ابن اُبيّ أسرع بالمثول أمام يديه ، والتنكّر ممّا بدر منه ونسب إليه ، ولكن ذلك لم يؤثّر على قرار النبي صلی اللّه علیه و آله بالرحيل شيئاً ، بل انطلق بالناس يجوب الفيافي والقفار ، طيلة يومهم حتّى أمسوا ، وطيلة ليلتهم حتّى أصبحوا ، وصدر يومهم الثاني حتّى آذتهم الشمس ، فلمّا نزل الناس لم يلبثوا حتّى غلبهم النعاس ، ونسوا حديث ابن اُبيّ ، وهذا يعطي لكل قائد محنّك درساً من لزوم امتصاص ما انتاب نفوسهم من أفكار خاطئة ، واجتثاث جذورها بصرفها إلى اُمور اُخرى ، تستولي على منافذ فكرهم ، فتشذَّ أذهانهم عنهم إلى التشاغل باُمور اُخرى ، ولو لم يقم بذلك لبقيت آثار تلك الرواسب الفكرية في أذهانهم ، ولأثرّت على مستقبل الدعوة ، ووحدة صف المسلمين.

4 - سعة صدر النبي وتريّثه وتلبّثه :

لمّا أطلع زيد بن أرقم النبي صلی اللّه علیه و آله ما قاله عبد اللّه بن اُبيّ ، صدّقه في نقله ، ولمّا مثل ابن اُبيّ بين يديه ، وأنكر ما أبلغه زيد بن أرقم ، فلم يكذّبه ، وربّما كانت هذا الظاهرة التي تمثّل بها النبي في ذلك الموقف ، أمراً مثيراً للتساؤل ، ولأجل ذلك انتهز المنافقون الفرصة لانتقاد النبي ، واتهامه بالتساهل والتواني في القضاء على خصومه ، ولكنّ المنافقين قد غفلوا عن أصل رصين ، واُسّ مكين تبتني عليه الحنكة القياديّة ، وقد قال امير المؤمنين علیه السلام بهذا

ص: 395

الصدد : « آلة الرئاسة سعة الصدر » (1).

وإنّ التسرّع في الحكم والقضاء ، وإن أصاب الواقع لا يخلو من نتائج غير محمودة ، خصوصاً إذا لم يتّضح الأمر بعد لعموم المسلمين ، فقد اختار النبي صلی اللّه علیه و آله التريّث حتّى تنكشف حقيقة المسألة للجميع ، فيكون النبي معذوراً ومحقّاً إذا أخذ في حق ابن اُبيّ حكماً حاسماً.

5 - مقابلة الإساءة بالإحسان :

لمّا أخبر زيد بن أرقم النبي صلی اللّه علیه و آله بما تقوَّل به عبد اللّه ابن اُبيّ ، اقترح عمر بن الخطاب على النبي صلی اللّه علیه و آله أن يقتله ولكنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أجابه بقوله : « فكيف يا عمر ، إذا تحدّث الناس انّ محمداً يقتل أصحابه » ، فقد أبدى النبي صلی اللّه علیه و آله في جوابه هذا حنكة وسياسة رصينة أدحض بذلك المقولة التي تنص على « انّ كل ثورة ستجتث جذور أبطالها ». وعدوّ اللّه عبد اللّه بن اُبيّ وإن لم يكن في واقع أمره مسلماً واقعيّاً ، ولكنّه كان معدوداً منهم ، ومن أشرافهم ، فلو قتله النبي لتسرّب الريب إلى سائر نفوس المسلمين.

وقد جازى النبي صلی اللّه علیه و آله الإساءة بالإحسان ، عند ما جاء ابنه إلى النبي ، وقال : « إنّه بلغني انّك تريد قتل عبد اللّه بن اُبيّ ، فإن كنت لا بدّ فاعلاً فامرني به ... ».

ولكنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أجابه بقوله : بل نترفّق به ، ونحسن صحبته ما بقي معنا.

اُنظر إلى هذه السماحة النبويّة ، وروعة عفوها وجلالها ، فهو يترفّق بمن ناصبه العداء ، واَلّب قلوب أهل المدينة عليه ، فيكون رفقه وعفوه أبعد أثراً عن عقوبته ، لو أنه

ص: 396


1- نهج البلاغة قسم الحكم برقم 176.

عاقبها به ، وعند ذلك توجّه النبي إلى عمر بن الخطاب : كيف ترى يا عمر ، أما واللّه لو قتلته يوم قلت لي : اقتله ، لاُرعِدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.

قال عمر : واللّه علمت لأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعظم بركة من أمري.

وفي الختام انظر إلى كلام ابن عبد اللّه ، فهو على ايجازه يعبّر عن حالة نفسية اصطدمت فيها روح الإنشداد إلى الدين ، والذوبان في كيانه العظيم ، مع وشائج الارتباط العاطفي بوالده ، فلا يمكن له الجمع بينهما ، ولكنّه يعلم أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لا يصدر إلاّ عن الوحي ، ولا يأمر إلاّ بالحق ، وعند ذلك طلب من النبي أن يقوم بنفسه بقتله لو استحقّ القتل ، ولا يفوّض القيام به إلى الغير ، خوفاً من أن تحمله العواطف ، والوشائج إلى قتل قاتل أبيه ، وفي قتل المسلم دخول النار والعذاب المقيم.

6 - العزّة لله ولرسوله :

إنّ عبد اللّه بن اُبيّ أوهم الناس بأنّ العزّة للمشركين والمنافقين ، والذل والهوان للمسلمين والمؤمنين ، ولكنّ الوحي أبطل أوهامه تلك ، بقوله :

( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

فصدق الخبر المخبر ، حتّى وقف ابن عبد اللّه بن اُبيّ على باب المدينة ، فقال لأبيه : واللّه لا تدخلها إلاّ بإذن رسول اللّه ولتعلمنّ اليوم من الأعزّ ، ومن الأذلّ ، فشكى عبد اللّه ابنه إلى رسول اللّه ، فأرسل إليه رسول اللّه : أن خلّي عنه يدخل فقال : أمّا إذا جاء أمر رسول اللّه فنعم.

هذه هي الدروس التي نتلقّاها من وحي سيرة الرسول على ضوء ما ورد في القرآن الكريم.

ص: 397

خاتمة المطاف :

ثمّ إنّ بني المصطلق أسلموا ، فبعث إليهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، حتّى يأخذ الصدقات منهم ، فلمّا سمعوا به ركبوا إليه ، فلمّا سمع بهم هابهم ، فرجع إلى رسول اللّه ، فأخبره : انّ القوم قد همّوا بقتله ، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم. فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتّى همَّ رسول اللّه بأن يغزوهم ، فبينماهم على ذلك قدم وفدهم على رسول اللّه ، فقالوا : يا رسول اللّه سمعنا برسولك حين بعثته إلينا ، فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فانشمر راجعاً ، فبلغنا انّه زعم لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انّا خرجنا إليه لنقتله ، وواللّه ما جئنا لذلك ، فأنزل اللّه تعالى فيه وفيهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ... ) ( الحجرات / 6 و 7 ) (1).

ص: 398


1- السيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 296 ، وتفسير الطبري : ج 26 ص 79 ، والدر المنثور : ج 7 ص 556 - 558.

5 - صلح الحديبيّة

اشارة

إنّ اللّه تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكّة عامهم ذلك ، وهي السنة السادسة من الهجرة. ثمّ استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معهم لإداء فريضة العمرة ، لزيارة بيت اللّه ، وتعظيماً له ، لا لقتال أو جهاد ، فساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، وكانت الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة نفرات.

خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتّى إذا كان بعسفان (1) لقيه « بشر بن سفيان الكعبي » فقال : يا رسول اللّه هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، ولقد لبسوا جلود النمور ، ونزلوا بذي طوى (2) يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم أبداً ، وهذا « خالد بن الوليد » في خيلهم قد قدّموها إلى كراع الغميم (3) ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن اظهر نبي اللّه عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة ، فما تظن قريش ؟ فو اللّه لا أزال اُجاهد على الذي بعثني اللّه به ، حتّى يظهره اللّه ، أو تنفرد هذه السالفة (4).

ثمّ قال : مَنْ رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟

ص: 399


1- عسفان ، منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكّة ، وهي من مكّة على مرحلتين.
2- موضع قرب مكّة.
3- واد أمام عسفان بثمانية أميال.
4- صفحة العنق ، وكنى بإنفرادها عن الموت.

فعندئذ قال رجل من « أسلم » : أنا يا رسول اللّه. فسلك بهم طريقاً وعراً كثير الحجارة بين شعاب ، فلمّا خرجوا منه ، وقد شقّ ذلك على المسلمين ، وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي. أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : اسلكوا ذات اليمين في طريق ، وقد أدّى بهم ذلك الطريق إلى مهبط الحديبيّة. فلما رأت خيل قريش غبار جيش الإسلام ، قد خالفوا عن طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش. وخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسلك حتّى بركت ناقته ، فقالت الناس : خلأت الناقة. قال صلی اللّه علیه و آله : ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكّة ، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إيّاها ، ثمّ أمر الناس بالإنزال. قيل : يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما بالوادي ماء ننزل عليه. فأخرج سهماً من كنانته ، فأعطاه رجلاً من أصحابه ، فنزل به في قليب من تلك القلب ، فغرزه في جوفه حتّى ارتفع بالرواء.

1 - رجال خزاعة بين الرسول صلی اللّه علیه و آله وقريش

نزل رسول اللّه أرض الحديبيّة ، وبينما هو فيها إذ أتاه « بديل بن ورقاء الخزاعي » في رجال من خزاعة ، فكلّموا النبي وسألوه. فقال : إنّه لم يأت يريد حرباً ، وإنّما جاء زائراً للبيت ، ومعظّماً لحرمته ، ثمّ قال لهم نحواً ممّا قال لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنّكم تعجلون على محمد ، إنّ محمداً لم يأت لقتال ، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت ، فاتهموهم وأهانوهم. وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالاً ، فو اللّه لا يدخلها علينا عنوة أبداً ، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب.

2 - مكرز رسول قريش إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله

ثمّ بعثت قريش إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكرز بن حفص ، فلمّا رآه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : هذا رجل غادر ، فلمّا انتهى إلى

ص: 400

رسول اللّه وكلّمه. قال له رسول اللّه مثل ما قاله لرجال خزاعة ، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال.

3 - الحليس رسول ثالث لقريش

ثمّ بعثت قريش رسولاً ثالثاً ، وهو الحليس ، وكان يومئذ سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إنّ هذا من قوم يتألّهون (1) ، فابعثوا الهدي في وجهه حتّى يراه ، فلما رأى الهدي ، وقد أكل أوباره من طول الحبس ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إعظاماً لما رآى ، فقال لهم ذلك. فقالوا له : إجلس فإنّما أنت أعرابي لا علم لك.

فقال الحليس مغضباً : يا معشر قريش ، واللّه ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم ، أيصد عن بيت اللّه من جاء معظّماً له ؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لاُنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له : مه ، كف عنّا يا حليس حتّى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

4 - عروة بن مسعود رسول قريش

وفي المرة الرابعة بعثت قريش عروة بن مسعود الثقفي ، فخرج حتّى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فجلس بين يديه ثمّ قال : يا محمد ، أجمعت أوباش الناس ، ثمّ جئت بهم إلى بيضتك لتفضّها بهم ، إنّها قريش قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم عنوة أبداً.

وكلّمه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنحو ممّا كلّم به الآخرين ، وأخبره انّه لم يأت يريد حرباً. فقام من عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

ص: 401


1- يتعبّدون ويعظّمون أمر الإله.

وقد رأى ما يصنع به أصحابه ، لا يتوضّأ إلاّ ابتدروا وضوءه ، ولا يسقط من شعره شيء إلاّ أخذوه. فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش إنّي قد رأيت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وإنّي واللّه ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوماً لا يسلّمونه بشيء أبداً ، فَروا رأيكم.

5 - رسول النبي إلى قريش

إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعا خراش بن اُميّة الخزاعي ، فبعثه إلى قريش ، وحمله على بعير له ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به جمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأرادوا قتله ، فمنعتهم الأحابيش ، فخلّوا سبيله حتّى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ثمّ إنّ قريشاً بعثوا أربعين أو خمسين رجلاً ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً ، فبينماهم بهذا الصدد ، اُخذوا أخذاً ، فأتى بهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فعفى عنهم ، وخلّى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالحجارة والنبل.

6 - عثمان رسول النبي صلی اللّه علیه و آله إلى قريش

إنّ النبي دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى قريش حتّى يبلّغ عنه أشرافها ما جاء له ، فامتنع من قبوله خوفاً على نفسه ، واقترح على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عثمان بن عفان ، وهو رجل أعزّ بين قريش. فبعثه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أبي سفيان ، وأشراف قريش يخبرهم انّه لم يأت لحرب ، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت ومعظّماً لحرمته ، فانطلق عثمان حتّى أتاهم ، فبلّغهم عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما أرسله به. فقالوا لعثمان حين فرغ من الرسالة : إن

ص: 402

شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال : ما كنت لأفعل حتّى يطوف به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمين أنّ عثمان قد قتل.

بيعة الرضوان

لمّا بلغه خبر قتل عثمان ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا نبرح حتّى نناجز القوم ، فدعى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، ولقد اختلفوا فمن قائل : بأنّهم بايعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الموت ، وآخر : على أن لا يفرّوا.

سهيل بن عمرو رسول قريش إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله

بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقالوا له : ائت محمداً فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلاّ أن يرجع عنّا عامه هذا ، فواللّه لا تحدّث العرب عنّا أنّه دخلها ( مكة ) علينا عنوة أبداً. فأتاه سهيل بن عمرو ، فلمّا رآه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مقبلاً ، قال : قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ، فلمّا انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تكلّم ، فأطال الكلام ، وتراجع ثمّ جرى بينهما الصلح.

عمر ينكر على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الصلح

فلمّا التأم الأمر ، ولم يبق إلاّ الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب ، فأتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول اللّه ؟ قال : بلى. قال : أولسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى. قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى. قال : فعلام نعطي الدنيّة في ديننا ؟ فلمّا بلغ

ص: 403

كلامه رسول اللّه قال صلی اللّه علیه و آله : أنا عبد اللّه ورسوله لن اُخالف أمره ، ولن يضيّعني ! قال : فكان عمر يقول : ما زلت أتصدّق وأصوم واُصلّي وأعتق ، من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلّمت به حتّى رجوت أن يكون خيراً.

بنود الصلح

دعى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علي بن أبي طالب (رض) فقال : اُكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم. فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اُكتب « باسمك اللّهم ». فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اُكتب « باسمك اللّهم » ، فكتبها.

ثمّ قال : هذا ما صالح عليه محمد رسول اللّه سهيل بن عمرو.

فقال سهيل : لو شهدت انّك رسول اللّه لم اُقاتلك ، ولكن اُكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي : اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو.

فقال علي : ما اَمحُو إسمك من النبوة أبداً. فمحاه رسول اللّه بيده.

ثمّ كتب علي بنود الصلح ، وتمّ الإتفاق على اُمور :

1 - وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض.

2 - من أتى محمداً من قريش ولجأ إليه بغير إذن ردّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن كان مع محمد لم يردّوه عليه.

3 - تخيير الناس كافة ، فمن أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل ، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

4 - أن يكون الإسلام ظاهراً في مكه ، لا يكره أحد على دينه ، ولا يؤذى ولا يعيّر.

ص: 404

5 - إنّ محمداً وأصحابه يرجع عنهم عامه هذا ، ثمّ يدخل عليهم في العام القابل مكة ، فيقيم فيها ثلاثة أيام ، ولا يدخل عليهم بسلاح إلاّ سلاح المسافر ، السيوف في القرب.

التاريخ يعيد نفسه :

إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لعلي علیه السلام - بعد ما كتب الكتاب وشهد عليه المهاجرون والأنصار - : « يا علي إنّك أبيت أن تمحو النبوّة من اسمي ، فو الذي بعثني بالحق نبيّاً ، لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها ، وأنت مضيض مضطهد » فلمّا كان يوم صفين ، ورضوا بالحكمين كُتِبَ : « هذا ما اصطلح عليه امير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان » فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنّك امير المؤمنين ما حاربناك ، ولكن أكتب هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. فقال امير المؤمنين علیه السلام : « صدق اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، أخبرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك » ثمّ كتب الكتاب (1).

قال ابن الأثير في وقعة صفين :

حضر عمرو بن العاص عند علي ليكتب الكتاب ، فكتبوا بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه امير المؤمنين ، فقال عمرو : اُكتب اسمه واسم أبيه هو أميركم ، وأمّا أميرنا فلا ، فقال الأحنف : لا تمح إسم امير المؤمنين ، فإنّي أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبداً لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً ، فأبى ذلك علي مليّاً من النهار.

ثم إنّ الأشعث قال : امح هذا الإسم ، فمحاه. فقال علي : اللّه أكبر سنّة بسنّة ، واللّه إنّي لكاتب رسول اللّه يوم الحديبيّة ، فكتبت رسول اللّه ، فقالوا : لست

ص: 405


1- تفسير القمي ج 2 ص 313 و 314.

برسول اللّه ، ولكن اُكتب اسمَك واسم أبيك ، فأمرني رسول اللّه بمحوه. فقلت : لا أستطيع.

فقال : أرنيه ، فأريته ، فمحاه بيده ، وقال : إنّك ستدعى إلى مثلها فتجيب. فقال عمرو : سبحان اللّه أنشبّه بالكفّار ونحن مؤمنون.

فقال علي : يا ابن النابغة ، ومتى لم تكن للفاسقين وليّاً ، وللمؤمنين عدوّاً ؟ فقال عمرو : واللّه لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبداً. فقال علي : إنّي لأرجو أن يطهّر اللّه مجلسي منك ، ومن أشباهك. فكتب هذا ما تقاظى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان (1).

* * *

فبينما رسول اللّه يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، جاء « أبو جندل » ابن سهيل بن عمرو ، يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد كان أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خرجوا وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رآها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلمّا رأوْا مارأوْا من الصلح والرجوع ، وما تحمل عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في نفسه ، دخل على الناس من ذلك أمر عظيم ، حتّى كادوا يهلكون ، فلمّا رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه ، وأخذ بتلبيبه ثمّ قال : يا محمد قد لجّت القضية بينى وببينك قبل أن يأتيك هذا. قال : صدقت. فجعل ينتره بتلبيبه ، ويجرّه ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أاُرد إلى المشركين ، يفتنوني في ديني ؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنّ اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً ، وأعطيناهم على

ص: 406


1- الكامل لابن الأثير ج 3 ص 162.

ذلك ، وأعطونا عهد اللّه ، وإنّا لا نغدر بهم (1).

فلمّا فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ، ورجالاً من المشركين وهم : أبو بكر ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الرحمان بن عوف ، وعبد اللّه بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة ، ومكرز بن حفص وهو يومئد مشرك ، وعلي بن أبي طالب وكتب ، وكان هو كاتب الصحيفة.

نحر الرسول وحلقه :

فلمّا فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الصلح قدم إلى هَدْيِه فنحره ، ثمّ جلس فحلق رأسه ، فلمّا رأى الناس أنّ رسول اللّه قد نحر وحلق ، تواثبوا ينحرون ويحلقون ، غير أنّ بعض الصحابة ، تخلّف عن الحلق والتقصير ، ولأجل الإيعاز إلى أنّ عملهم إنّما هو بمثابة تجاسر على مقام النبوّة ، قال رسول اللّه : رحم اللّه المحلقين. مومياً بذلك على نحو الازدراء بالمتخلفين.

ثم إنّ رسول اللّه رجع إلى المدينة فقال الناس : ألم تقل أنّك تدخل مكّة آمناً ؟ قال : بلى ، أفقلت من عامي هذا ؟ قالوا : لا. قال : فهو كما قال لي جبرئيل علیه السلام (2).

دروس وعبر :

1 - كانت سفرة النبي سفرة سياسيّة هادفة تطمح بالدرجة الاُولى إلى قلب الرأي العام المتأجج ناراً ضد النبي صلی اللّه علیه و آله واتباعه ، ودعوته في نفوس مشركي قريش ، ومن ناحية اُخرى كانت تهدف لإزاحة الستار الذي وضعه رؤوس

ص: 407


1- وسنوافيك الخاتمة التي آل إليها أمر أبي جندل في آخر الفصل فترقب.
2- السيرة النبويّة ج 2 ص 318 - 319.

المشركين على بصائر الناس ، والذي صوّر النبي ، وأتباعه مَردَة على شريعة إبراهيم الحنيفّية ، وأعداء القبلة التي بناها للعبادة.

2 - إنّ النبي أثبت في عقد الصلح مع قريش براعته السياسيّة ، وحنكته القياديّة الفذّة ، حيث أظهر مرونةً لا نظير لها ، حتّى أنّه قبل أن يكتب « باسمك اللّهم » مكان « بسم اللّه الرحمن الرحيم » ، وأن يحذف مقام الرسالة والنبوّة عن اسمه ، وذلك يُنبئ عن أنّه كان مهتمّاً على حفظ الدماء والأنفس ، وإقرار مبادئ الصلح والسلام على ربوع المنطقة ، وإشاعة الأمن في السبل والقفار ، حتّى يتمكّن في ظل تلك الاُمور من بث الدعوة الإسلامية ، فإنّه في ظل تحكيم مبادئ السلام يكون أكثر قدرة وفاعلية لنشر المبادئ السامية.

3 - إعطاء صورة بديعة رائعة لمبدأ الحرية في الإسلام للبرهنة على أنّه لم يقم على أساس الجبر والإلزام ، بشهادة أنّه قبل بالبند الذي ينص على أنّ من فرّ من المسلمين إلى جانب مكّة ، وارتدّ عن الإسلام أن لا يستردّه.

4 - إنّ المستقبل أثبت أنّ المرونة التي أظهرها في القبول بأحد البنود الناصّة على لزوم ردّ من فرّ من مكّة إلى المدينة ، ولو اعتنق الإسلام كانت صائبة ، وإن أثارت حفائظ بعض الصحابة ، ودفعهم إلى القول بأنّه من قبيل تقبّل الدنيّة في طريق الدين (1) ، ولكن المستقبل أثبت خلاف ما خطر في أذهانهم من تصوّرات ، وإليك نص ما صرّح به أهل السير والتاريخ في ذلك :

« لمّا قدم رسول اللّه المدينة فرّ أبو بصيرمن مكة إلى المدينة. فقال رسول اللّه : يا أبا بصير ، إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وانّ اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، فانطلق إلى قومك. قال : يا رسول اللّه أتردّني إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ قال : يا أبا بصير انطلق ، فإنّ اللّه تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً.

ص: 408


1- تعرفت على قائله.

وقد بعثت قريش أزهر بن عبد عوف ، والأخنس إلى رسول اللّه ، وبعث رجلاً من بني عامر ، ومعه مولى لهم ليردّا أبا بصير إلى مكّة.

فانطلق أبو بصير معهما حتّى إذا كان بذي الحليفة (1) جلس إلى جدار ، وجلس معه صاحباه ، فقال أبو بصير : أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر ؟ فقال : نعم. قال : أنظر إليه ؟ قال : أنظر إن شئت. قال : فاستلّه أبو بصير ثم علاه به حتّى قتله ، وخرج المولى سريعاً حتّى أتى رسول اللّه قال : ويحك ما لك ؟ قال : قتل صاحبكم صاحبي ، فو اللّه ما برح حتّى طلع أبو بصير متوشّحاً بالسيف ، حتّى وقف على رسول اللّه. فقال : يا رسول اللّه وفت ذمتك وأدّى اللّه عنك ، أسلمتني بيد القوم ، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيّ ، أو يُعبث بي ، ثمّ خرج أبو بصير حتّى نزل العيس على ساحل البحر بطريق قريش ، التي كانوا يسلكونها إلى الشام ، فبلغ المسلمين الذين كانوا أحتبسوا بمكّة عمل أبي بصير وموقفه ، فخرجوا إلى أبي بصير ، فاجتمعوا إليه منهم قريب من سبعين رجلاً ، وكانوا قد ضيّقوا على قريش لا يظفرون بأحد منهم إلاّ قتلوه ، ولا تمر بهم عير إلاّ أقتطعوها ، حتّى كتبت قريش إلى رسول اللّه تسأل بأرحامها إلاّ آواهم ، فلا حاجة لهم بهم ، فآواهم رسول اللّه ، فقدموا على المدينة ، فاُلغي ذلك البند.

5 - كشف مخالفة بعض الصحابة أمر الرسول في الحلق والتقصير ، عن أنّ اُناساً منهم كانوا يتوانون عن امتثال أمر النبي ويقدّمون آراءهم على التشريع الإلهي الذي كان ينطق به النبي الأكرم.

6 - إنّ عقد الصلح بين النبي وقريش ، أتاح لهم فرصة ثمينة لنشر الإسلام في الجزيرة العربية ، وإرسال الرسل إلى الملوك ، والسلاطين في أطراف العالم ، كدولة الروم والفرس وغيرهما من رؤساء القبائل والبلدان ، حتّى بلغت رسائلهم التبليغيّة إلى تسع وعشرين رسالة أثبتها التاريخ.

ص: 409


1- ذو الحليفة قرية ، بينها وبين المدينة أميال قليلة ، ومنها ميقات أهل المدينة وفيها مسجد الشجرة.

7 - لمّا عقد الرسول الصلح ، اطمأنّ من جانب المشركين في الجهة الجنوبيّة ، وبذلك تمكّن من التفرّغ للجبهة الشماليّة ، فأمر بمحاصرة خيبر ، فاجتث اليهود القاطنين فيها عن بكرة أبيهم.

كل تلك الثمرات التي اجتناها النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله كانت نتيجة عقد الصلح مع المشركين ، وقد أشار الإمام الصادق إلى ذلك بقوله :

« ما كان قضية أعظم بركة منها ».

هذه بعض الدروس والعبر التي نستفيدها من سيرة النبي الأكرم ، وإليك نص ما يتحفنا به كتاب اللّه عزّ وجل بشأن تلك الحادثة التاريخيّة المهمّة حيث صرّح بما نصّه في سورة الفتح (1) ولأجل سهولة التفسير نأتي بالآيات نجوما.

وقعة الحديبيّة في الذكر الحكيم

( سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا * وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا * وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ

ص: 410


1- أكثر المفسرين على أنّ سورة الفتح نزلت حين منصرفه من الحديبية ، ونحن نفسّر ما يمت بهذه الوقعة على وجه الصراحة ، ولأجل ذلك شرعنا بالتفسير من الآية 11 فلاحظ.

تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( الفتح / 11 - 17 ).

نزلت هذه السورة الكريمة حين منصرفه صلی اللّه علیه و آله من الحديبيّة في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، لمّا صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وحالوا بينه وبين قضاء عمرته ، ثمّ مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثمّ يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على كراهة جماعة من الصحابة ، فلمّا نحر هَدْيه حيث احصر ورجع ، أنزل اللّه تعالى هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل هذا الصلح فتحاً لما فيه من المصلحة ، كما سيجي التصريح في قوله سبحانه : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) .

وقد تخلّف عن هذه الغزوة ، المنافقون ، ولمّا عاد المسلمون إلى المدينة ، أخذوا يعتذرون وإليك تحليل معذرتهم.

إعتذار المنافقين عن عدم الحضور

إنّ هذه الآيات تتعرّض لحال الأعراب الذين قعدوا عن المشاركة ولم ينفروا إذ استنفرهم الرسول ، وهم أعراب نواحي المدينة ، وما قعدوا عن المشاركة إلاّ لأنّهم كان يخالون أنّ محمداً وأصحابه لا يرجعون أدراجهم في هذه السفرة ، لأنّهم يذهبون لغزو قريش الذين قتلوا المسلمين قتلاً ذريعاً ، ونكّلوا بهم في عقر دارهم « غزوة اُحد » ولمّا رجع رسول اللّه وأصحابه سالمين ، أخذوا باختلاق المعاذير بقولهم :

( شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) .

إنّه سبحانه يردّ عليهم ، بأنّ الضر والنفع بيد اللّه سبحانه ، حيث ظنّوا انّ التخلّف عن النبي يدفع عنهم الضر أو يعجّل لهم النفع ، والسلامة في الأنفس والأموال ، فقال سبحانه : ( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) .

ص: 411

ثم إنّه سبحانه صرّح بالسبب الواقعي لتخلّفهم فقال : ( بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ) ولأجل أنّهم قوم غير مؤمنين ، فسوف يعذّبون في السعير لقاء ما يرتكبونه في دنياهم ، فقال سبحانه ( وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا * وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .

إنّ النبي لمّا عقد الصلح مع قريش ، وعد المؤمنين بالغنائم الكثيرة في المستقبل ( غنائم خيبر ) ولمّا وصل خبر ذلك إلى المنافقين ، طلبوا من المؤمنين المشاركة لهم في هذه السفرة كما ينص عليه قوله سبحانه : ( سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ) .

والباعث لهم إلى الإصرار من المشاركة ، هو أنّ النبي الأكرم عندما وعد المؤمنين بالغنائم الكثيرة أخبر بعدم مشاركة غيرهم فيها ، فهؤلاء حاولوا بإصرارهم إبطال كلام اللّه ونبيّه كما يقول سبحانه : ( يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ ) .

ثم إنّهم لمّا سمعوا ذلك الجواب اتّهموا المؤمنين بأنهم يحسدونهم كما يحكي ذلك قوله سبحانه : ( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ) ولكنّ الحق انّ اتّهام المؤمنين والنبي بهذه التهمة كلام من لا يعي ما يقول ، والرسول أجلّ من أن يستشعر حسداً تجاه أحد ، كما يقول سبحانه : ( بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) .

إنّه سبحانه وإن حرمهم من غنائم خيبر ولكنّه لسعة رحمته ، وعَدَهُم بأنّ المسلمين سيواجهون قوماً اُولي بأس شديد ، فإن شارك القاعدون منهم ، فإنّه سيكون لهم ما للمسلمين كما يقول :

( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ( أى يقرّون بالإسلام ) فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) .

ص: 412

وهذا أيضاً من عظيم فضل اللّه سبحانه وجزيل كرمه ، فما صدّ عليهم باباً حتّى فتح لهم باباً لأخذ الغنائم وكسب رضاه سبحانه.

وهو أنّهم لو رجعوا عن تخلّفهم ، فإنه سبحانه سيغفر لهم.

وهذه الآيات تشتمل على تنبّؤات غيبيّة نشير إليها :

1 - سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ ...

2 - يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللّهِ

3 - قُل لَّن تَتَّبِعُونَا ...

4 - فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا

5 - سَتُدْعَوْنَ إِلَى ...

وستجي تنبّوآت غيبيّة اُخرى نشير إليها في محلها.

بيعة الرضوان

إنّه سبحانه يشير إلى حادثة بيعة الرضوان التي عرفت تفصيلها في أثناء ذكر قصة صلح الحديبيّة ويقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح / 10 ).

ويقول سبحانه : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / 18 ).

نعم رضى اللّه عن المؤمنين عند المبايعة ، ولكن الرضى إنّما ينتج ويثمر إذا لم يحيدوا عن نهج الصراط السوي ، فثواب كل ما يقوم به المسلم من أعمال حسنة

ص: 413

مشروط بحسن العاقبة ، فلو ارتدّ أو اقترف ما يوجب سخط اللّه عزّ وجل فلا ينفعه عمله.

الوعد بفتحين

إنّه سبحانه وعد المؤمنين بفتحين : فتح قريب ، وفتح مبين.

أمّا الأوّل : فهو ما ذكره في الآية المتقدّمة أعني قوله : ( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / 18 ). وقال : ( فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / 27 ).

وأمّا الثاني : فقد أشار إليه في صدر الآية بقوله : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) .

والظاهر أنّ المراد من الأوّل هو فتح خيبر لأنّه كان أقرب الفتوحات بعد الحديبيّة.

وأمّا الثاني فالمراد منه هو فتح مكّة ، والظاهر من سياق الآيات ، وكلمات المفسّرين أنّ ما يرجع إلى الفتح القريب من الآيات نزل بعد صلح الحديبيّة.

الوعد بمغانم ثلاث :

إنّه سبحانه قد وعد المؤمنين بمغانم ثلاث وإليك الآيات الواردة في هذا الشأن :

1 - ( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) ( الفتح / 19 ).

( وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ) .

2 - ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) ( الفتح / 20 ).

3 - ( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ بِهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الفتح / 21 ).

ص: 414

أمّا المغانم الاُولى : فالمراد منها فتح خيبر بقرينة إتّصاله بقوله : ( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) .

وأمّا قوله : ( وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ) فأيضاً انّه تأكيد لما تقدّم أعني قوله سبحانه : ( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً ) وإنّما ذكره مقدّمة لقوله : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) .

وأمّا الثانية : أعني ما أشار إليه بقوله سبحانه : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) ، فالمراد منه نفس صلح الحديبيّة ، فعدّها سبحانه غنيمة للمسلمين لما ترتّب عليه من الفوائد.

وهذا ظاهر على القول بأنّ الآية نزلت في أثناء عودة النبي صلی اللّه علیه و آله من الحديبيّة إلى المدينة ، والمسلمون وإن لم يستولوا فيها على غنائم مادّية ، لكنّ اكتسبوا غنائم معنويّة أشرنا إليها ولأجله جعل صلح الحديبيّة في عداد الغنائم.

وأمّا قوله : ( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ) فالمراد الجماعة التي بعثوا ليطيفوا بعسكر رسول اللّه ليصيبوا لقريش من أصحابه أحداً ، فاُخذوا فاُوتي بهم رسول اللّه ، فعفى عنهم ، وخلّى سبيلهم ، وقد كانو رموا في عسكر رسول اللّه الحجارة والنبل (1).

وأمّا الثالثة : فهي ما أشار إليه بقوله : ( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ بِهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الفتح / 21 ).

فالظاهر أنّ : ( اُخْرَى ) صفة لموصوف محذوف وهو ( مَغَانِمَ ) والجملة منصوبة على المحل لكونها مفعولة للفعل المتقدّم ( وعدكم اللّه ) ، والتقدير « وَعَدَكُمُ اللّه مَغَانِمَ اُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا بَعْدَ وَلَكِن اللّه اَحَاطَ بِهَا » فما هو المراد من هذه الغنائم ، فلعلّ المراد غنائم قبيلة هوازن ، أو كل الغنائم التي يغنمها المسلمون طيلة جهاد هم في حياة النبي أو بعدها.

ص: 415


1- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 2 ص 314 ، وستجيء الإشارة إليه في الآية 24 أعني قوله : ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ... ) .
نبوءة غيبيّة :

( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً * وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) ( الفتح / 22 - 24 ).

إنّ سورة الفتح اشتملت على أنباء غيبيّة مضى ذكر أكثرها ، والآية الاُولى تتضمن الإشارة إلى واقعة غيبيّة ، فاللّه سبحانه يبشّر عباده المؤمنين بأنّه لو ناجزهم المشركون لولّوا فراراً مهزومين على أعقابهم لا يجدون وليّاً يأخذ بأيديهم ، ويذود عنهم.

ثمّ الآية الثانية تشير إلى سنّة اللّه سبحانه في حق أنبيائه وأوليائه ، وهي أنّ نصرتهم هي سنّة اللّه تبارك وتعالى في أنبيائه والمؤمنين بهم إذا صدقوا وأخلصوا نيّاتهم ، فيظهرهم على أعدائهم ، قال سبحانه : ( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) ( المجادلة / 21 ).

ولأجل أنّ سنّة اللّه سبحانه تقتضي اظهار الأنبياء بمظهر القوّة والغلبة ، فقد كفّ أيدي المشركين عن المؤمنين في معسكر الحديبيّة قبل انعقاد الصلح ، كما كفّ أيدي المؤمنين عنهم بعد أن أظفرهم بهم ، ولعلّ الآية الثالثة تتضمّن الإشارة إلى أنّ قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً ، فاُخذوا أخذاً ، فأتي بهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فعفا عنهم ، وخلّى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالحجارة والنبل » (1).

ص: 416


1- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 2 ص 314 ، مضت هذه الرواية في تفسير الآية : ( وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ) والفرق بين الآيتين ، انّه يذكر هناك كف أيدي الكفار عن المؤمنين ، وفي المقام يذكر كف كلاً من الطائفتين عن الاُخرى.
الأخذ بالحائطة للحفاظ على دماء المؤمنين :

( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) ( الفتح / 25 - 26 ).

الآية الاُولى تشير إلى أمرين :

1 - شدّة قساوة قلوب الكافرين على المؤمنين ، حيث منعوا النبي وأصحابه من المؤمنين عن الدخول إلى المسجد الحرام ، والطواف بالبيت ، ومنع الهَدْيَ أن يبلغ محلّه ، وقد عرفت أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله ساق بدنه وكذا المؤمنون حتى بلغ هديهم سبعين بدناً ، ولمّا بلغوا « ذا الحليفة » ، قلّدوا البدنة التي ساقوها واشعروها ، وأحرموا بالعمرة حتى نزلوا بالحديبية ، ومنعهم المشركون ، فلمّا تمّ الصلح نحروا البدن فيها ، مكان نحره في مكّة لأنّ هَدْيَ العمرة لا يذبح إلاّ بمكة كما أنّ هَدْيَ الحج لا يذبح إلاّ بمنى ، وإلى هذا المعنى أشار قوله سبحانه بقوله : ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) .

والمراد من قوله ( مَعْكُوفًا ) كونه محبوساً من أن يبلغ مَنحره بالقرب من مكّة.

2 - الإشارة إلى أحد أسباب الصلح مضافاً إلى ما عرفت ، وهو أنّه كان بين الكفّار رجال مؤمنون ونساء مؤمنات كانوا يخفون أمرهم ، وما كان جيش المؤمنين يعرفونهم ، فلو اشتبكت الأسنّة لقتلوا بأيدي المسلمين لمحلّ الجهالة بحالهم ،

ص: 417

وبذلك تصيب المسلمين معرّة ومكروه ، وهو قتل المسلم بيد المسلم ، وبالتالي يعيب المشركون المسلمين بأنّهم قتلوا أهل دينهم ، مضافاً إلى أنّه كان يجب عليهم الكفّارة والديّة ، ولأجل هذه الاُمور مجتمعة ، كفّ أيدي المؤمنين عن المشركين ، وانتهى الأمر بالصلح ، لولا ذلك لأمركم بالجهاد ، وإليه الإشارة في قوله تعالى : ( وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .

نعم قضت حكمته بذلك ليدخل في رحمته أُولئك المؤمنين غير المتميّزين ، وينجوبهم من القتل ، ويحفظ جيش المسلمين من لحوق المعرّة والندامة بهم.

ولو كان المؤمنون مميّزين عن الكفّار ، لعذّب الذين كفروا من أهل مكة ، ولكن لم يعذّبهم ( بأيديكم ) رعاية لحرمة من اختلط بهم من المؤمنين وإليه يشير قوله : ( لِّيُدْخِلَ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( الفتح / 25 ). ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى جهة استحقاقهم العذاب ، وهي رسوخ حمّية الجاهلية ، واَنَفَتِها وعاداتها في قلوبهم ، والمراد منها التشبّث ، والتمسّك بما كان عليه آباؤهم ، فقد كانت عادة آبائهم في الجاهلية أن لا يذعنوا لأحد ولا ينقادوا له ، وعلى ذلك أصبحوا بعد ظهور الإسلام ، فكانوا يقولون :

« قد قتل محمد وأصحابه آبائنا وإخواننا ، فلو دخل علينا في منازلنا لتحدّثت العرب إنّهم دخلوا علينا على رغم أنفنا » ، وهذا هو الذي سمّاه تعالى الحميّة الجاهلية ، أي أنفتهم من الإقرار لمحمد بالرسالة ، وحتى الاستفتاح ببسم اللّه الرحمن الرحيم ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ ) .

ولكنّه سبحانه لا يترك المؤمنين وأنفسهم ( فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ ... ) .

ص: 418

استفسارهم عن علّة عدم تحقّق الرؤيا :

قد حدّث رسول اللّه قومه عندما عزم الرحيل لأداء فرض العمرة بأنّه رأى رؤيا انّهم دخلوا المسجد الحرام وحلقوا روؤسهم ، ولكنّهم لمّا رجعوا من الحديبية بعد أن منعوا من زيارة البيت والإطافة به ، قال بعض أصحابه : ألم تقل يا رسول اللّه انّك تدخل مكّة آمنا ؟ قال : بلى ، اَفَقلت لكم من عامي هذا ؟ قالوا : لا. قال : فهو كما قال لي جبرئيل ، وإليه أشار سبحانه بقوله :

( لَّقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / 27 ).

والآية تشير إلى عمرة القضاء التي أتى بها رسول اللّه في السنة التالية للحديبية ، وهي سنة سبع من الهجرة في ذي القعدة الحرام ، وهو الشهر الذي صدّه فيه المشركون عن المسجد الحرام ، فخرج النبي ، ودخل مكّة مع أصحابه معتمرين ، فأقاموا بمكّة ثلاثة أيام ، ثم رجعوا إلى المدينة ، فلمّا قدم رسول اللّه مكة أمر أصحابه ، فقال : اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف ، ليرى المشركون جلدهم وقوّتهم ، وكان أهل مكّة من النساء والصبيان ينظرون إليهم ، وهم يطوفون بالبيت ، وكان عبد اللّه بن رواحة يرتجز بين يدي رسول اللّه متوشّحاً سيفه ، ويقول :

خلوا بني الكفّار عن سبيله *** قد أنزل الرحمن في تنزيله

في صحف تتلى على رسوله *** اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله *** ضرباً يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله *** يا رب إنّي مؤمن لقيله

إنّي رأيت الحق في قبوله (1)

ص: 419


1- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 2 ص 370 - 372 ، ومجمع البيان : ج 9 ص 191 ( طبع بيروت ).

والمراد من قوله : ( فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) هو فتح خيبر ، وتقدمت الإشارة إليه في قوله : ( فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) .

التنبّوء بظهور الإسلام على الدين كلّه :

ثم إنّه سبحانه توطيداً لقلوب المسلمين وطمأنتهم ، تنبّألهم بأنّ رسالة الرسول صلی اللّه علیه و آله ستنتشر في أرجاء العالم وستظهر على الدين كلّه قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ) ( الفتح / 28 ).

وقد جاء هذا التنبّوء في غير موضع من القرآن (1) وهل المراد من ظهوره ، هو ظهوره بالحجّة والبرهان ، وسطوع الدليل ، أو المراد ظهوره بالقهر والغلبة والقوّة ، أو الأعم منهما ، ولعلّ الثالث أوفق ، وذلك كلّما ازدادت المدنيّة ، وتطورت وسائل الإرتباط العالمي بين الشعوب بعضها ببعض ، تجلّت تلك الحقيقة بنحو أكثر وضوحاً ، وهذا يؤيّد دعوى ظهوره بالحجّة والبرهان.

وأمّا ظهوره بالقوّة والقهر مضافاً إلى ذلك ، فهو مرهون بظهور طلائع وتباشير الدولة الحقّة العالمية ، التي وعدت بها رسالة السماء الخاتمة ، وأسمتها بالدولة المهدية ، وقال الإمام الصادق علیه السلام في تفسير الآية : « واللّه ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم فإذا خرج القائم لم يبق كافر باللّه العظيم » (2).

ص: 420


1- لاحظ سورة التوبة الآية - 33 ، والصف الآية - 9.
2- نور الثقلين : ج 2 ص 212.

6 - غزوة ذات السلاسل

اشارة

إنّ غزوة ذات السلاسل بالنحو الذي سيمر عليك ذكره في هذا الفصل انفردت بنقله جملة من أعلام الإمامية ومفاده :

إنّ أعرابياً جاء إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فجثا بين يديه ، وقال له : جئتك لأنصح لك. قال : وما نصيحتك ؟ قال : قوم من العرب قد اجتمعوا بوادي الرمل ، وعملوا على أن يبيتوك بالمدينة. ووصفهم له ، فأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن ينادي بالصلاة جامعة ، فاجتمع المسلمون ، وصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها الناس إنّ هذا عدوّ اللّه وعدوّكم قد عمل على أن يبيتكم فمن لهم ، فقام جماعة من أهل الصفة ، فقالوا : نحن نخرج إليهم يا رسول اللّه فولّ علينا من شئت ، فأقرع بينهم ، فخرجت القرعة على ثمانين رجلاً منهم ومن غيرهم ، فاستدعى أبا بكر ، فقال له : خذ اللواء وامض إلى بني سليم ، فانّهم قريب من الحرة ، فمضى ومعه القوم حتى قارب أرضهم ، وكانت كثيرة الحجارة والشجر ، وهم ببطن الوادي والمنحدر إليه صعب ، فلمّا صار أبو بكر إلى الوادي ، وأراد الانحدار ، خرجوا إليه فهزموه وقتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً ، وانهزم أبو بكر من القوم ، فلمّا قدموا على النبي صلی اللّه علیه و آله عقده لعمر بن الخطاب وبعثه إليهم ، فكمنوا له تحت الحجارة والشجر ، فلمّا ذهب ليهبط خرجوا إليه فهزموه ، فساء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذلك ، فقال له عمرو بن العاص : ابعثني يا رسول اللّه إليهم ، فإنّ الحرب خدعة ، فلعلّي أخدعهم ، فانفذه مع جماعة ووصّاه ، فلمّا صار إلى الوادي خرجوا إليه فهزموه وقتلوا من أصحابه جماعة.

ص: 421

ومكث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أيّاماً يدعو عليهم ثمّ دعى أمير المؤمنين علیه السلام فعقد له ثمّ قال : أرسلته كرّاراً غير فرار ، ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال : « اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي رسولك فاحفظني فيه وافعل به وافعل ... » فدعا له ما شاء وخرج علي بن أبي طالب علیه السلام وخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لتشييعه ، وبلغ معه إلى مسجد الأحزاب ، وعلي علیه السلام على فرس أشقر ، مهلوب عليه بردان يمانيّان ، وفي يده قناة خطّية ، فشيّعه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ودعا له ، وأنفذ معه فيمن أنفذ أبا بكر وعمر وعمرو بن العاص ، فسار بهم نحو العراق متنكّباً للطريق ، حتى ظنّوا أنّه يريد بهم غير ذلك الوجه ، ثمّ أخذ بهم على محجّة غامضة ، فسار بهم حتى استقبل الوادي من فمه ، وكان يسير الليل ويكمن النهار ، فلمّا قرب من الوادي أمر أصحابه أن يعلموا الخيل (1) ووقفهم مكاناً ، وقال : لا تبرحوا وانتبذ أمامهم ، فأقام ناحية منهم.

فلمّا رأى عمرو بن العاص ما صنع لم يشك أنّ الفتح يكون له ، فقال لأبي بكر : أنا أعلم بهذه البلاد من علي علیه السلام ، وفيها ما هو أشد علينا من بني سليم ، وهي الضباع والذئاب ، فإن خرجت علينا خفت أن تقطّعنا ، فكلّمه يخل عنّا نعلوا الوادي ، قال : فانطلق أبو بكر فكلّمه فأطال ، فلم يجبه أمير المؤمنين علیه السلام حرفاً واحداً ، فرجع إليهم فقال : لا واللّه ما أجابني حرفاً واحداً ، فقال عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب : أنت أقوى عليه ، فانطلق عمر فخاطبه ، فصنع به مثل ما صنع بأبي بكر ، فرجع إليهم فأخبرهم انّه لم يجبه ، فقال عمرو بن العاص : إنّه لا ينبغي أن نضيع أنفسنا انطلقوا بنا نعلوا الوادي. فقال له المسلمون : لا واللّه ما نفعل ، أمرنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن نسمع لعلي علیه السلام ونطيع فنترك أمره ونطيع لك ونسمع ، فلم يزالوا كذلك حتى أحسّ أمير المؤمنين علیه السلام بالفجر ، فكبس القوم وهم غارون ، فأمكنه اللّه تعالى منهم ، ونزلت على النبي صلی اللّه علیه و آله ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ... إلى

ص: 422


1- يعلموا الخيل : يعلّقون عليها صوفاً ملوناً في الحرب.

آخرها ) فبشّر النبيّ صلی اللّه علیه و آله أصحابه بالفتح ، وأمرهم أن يستقبلوا أمير المؤمنين علیه السلام ، فاستقبلوه والنبي صلی اللّه علیه و آله يتقدّمهم فقاموا له صفين ، فلمّا أبصر بالنبي صلی اللّه علیه و آله ترجّل له عن فرسه ، فقال له النبيّ صلی اللّه علیه و آله : اركب فإنّ اللّه ورسوله عنك راضيان ، فبكى أمير المؤمنين علیه السلام فرحاً ، فقال له النبيّ صلی اللّه علیه و آله : يا عليّ لولا أنّني اشفق أن تقول فيك طوائف من اُمّتي ما قالت النصارى في المسيح عيسى بن مريم ، لقلت فيك اليوم مقالاً لا تمر بملأ من الناس إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك (1).

وقال أمين الإسلام الطبرسي :

قيل نزلت السورة لمّا بعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله علياً علیه السلام إلى ذات السلاسل فأوقع بهم ، وذلك بعد أن بعث عليهم مراراً غيره من الصحابة ، فرجع كل منهم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهو المروي عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث طويل قال : وسمّيت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنّه أسر منهم وقتل وسبى وشدّ أسراهم في الحبال ، مكتّفين كأنّهم في السلاسل ، ولما نزلت السورة خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الناس ، فصلّى بهم الغداة وقرأ فيها والعاديات ، فلمّا فرغ من صلاته. قال أصحابه : هذه سورة لم نعرفها. فقال رسول اللّه : نعم إنّ علياًّ ظفر بأعداء اللّه ، وبشّرني بذلك جبرئيل علیه السلام في هذه الليلة ، فقدم عليّ علیه السلام بعد أيام بالغنائم والأسارى (2).

* * *

ص: 423


1- الإرشاد للشيخ المفيد : ص 86 - 88 وتفسير فرات : ص 222 إلى 226 ، وتفسير القمي : ج 2 ص 434 - 439 مع زيادات في الأخير ، وقد نقل ما جاء فيه من الفضائل في الشرح الحديدي : ج 9 ص 168 ومناقب المغازي : ص 237 و 238 وغيرهما.
2- مجمع البيان : ج 10 ص 802 - 803 ط بيروت.

هذا ما رواه جمع من أعلام الشيعة الإماميّة إلاّ أنّ ما يذكره أصحاب السير والمغازي (1) من أهل السنّة يغاير ما حكيناه لك ، وهؤلاء لا يتعرّضون بالذكر بتاتاً إلى دور شخصية الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام كما لا يذكرون نزول الآيات في تلك المناسبة ، ومع ذلك يختلفون في تحديد موضع الغزوة والقبيلة المحاربة فيه ، فيسمّيه ابن هشام بأرض بني عذرة ، بينما نجد الواقدي في مغازية يشير إليهم بقوله : إنّ جمعاً من بَلِيّ وقضاعة قد تجمّعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ومن أراد الوقوف على مضانّها ، فليرجع إلى محالها.

السر في انتصار عليّ علیه السلام دون من عداه :

إنّ الحنكة والبراعة الحربيّة التي انتهجها أمير المؤمنين علیه السلام هي التي كفلت له الانتصار حيث تكمن في الأساليب الحربية التي نستعرضها لك فيما يلي :

1 - تغيير مسير الجيش لإيهام العدو بعدم القصد للمباغتة والمهاجمة ، وحتى لا يصل خبرهم إليهم عن طريق أعراب البادية والقبائل المجاورة.

2 - اتّخاذ الليل ستراً وحجاباً عن أعين الجواسيس ، وطلائع المقاتلين ، فقد سار ليلاً واختبأ نهاراً.

3 - المهاجمة ليلاً والمباغتة لهم في عقر دارهم ، وهم غاطّون في سبات الغفلة والنوم.

4 - البأس والحميّة والشجاعة التي أبداها عند الهجوم على مواقعهم حيث لم يترك لهم أي فرصة للمقابلة والدفاع عن أنفسهم ، فلم يكد ينادي المنادي منهم بالاستنفار ، إلاّ وقد كبس القوم برمّتهم ، وسقطوا في أيدي المسلمين.

ص: 424


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 623 - 625 ، والمغازي للواقدي : ج 2 ص 769 - 774.

وأمّا الآيات النازلة في هذه الواقعة ، فعلى حسب ما نقلناه هي سورة العاديات بأكملها بمناسبة تلك الواقعة وإليك تفسير ما تضمنته.

( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ) .

إنّ السياق العام الذي تضمّنته الآيات الشريفة يوحي بأنّ السورة مكّية لكون فواصلها متقاربة ، ولكن المضمون يدل على أنها من السور المدينة ، حيث تتناول الحكاية عن خيل الغزاة ، وقد شرع الجهاد في المدينة.

( وَالْعَادِيَاتِ ) : من العدو وهو الجري بسرعة.

( ضَبْحًا ) : والضبح صوت أنفاس الخيل عند عدوها ، والمعنى لاُقسم بالخيل التي تعدو وهي تضبح.

( فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا ) « الايراء » : إخراج ، « القدح » : الضرب. يقال : قَدَحَ فَأورى : إذا أخرج النار بالقدح ، والمراد الشرر المتطاير الذي ينتج من اصطكاك حوافر الخيل إذا عدت فوق الحجارة والأرض المحصبة.

( فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) الإغارة : الهجوم على العدو بغتة بالخيل ، فأقسم بالخيل الهاجمة على العدو بغتة في وقت الصبح.

( فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ) الإثارة : هو تهييج الغبار ونحوه ، والنقع : الغبار ، والمعنى إطارة الغبار من على وجة الأرض.

( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ) الوسط والتوسّط : بمعنى واحد ، والضمير المجرور يرجع إلى الصبح ، أو إلى النقع ، والمعنى فصرن في وقت الصبح في وسط الجمع ، والمراد منه كتيبة العدو.

( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) الكنود : الكفور ، والآية كقوله : ( إِنَّ الإِنسَانَ

ص: 425

لَكَفُورٌ ) ( الحج / 66 ) وهو إخبار عمّا في طبع الإنسان من اتبّاع الهوى والإنكباب على عرض الدنيا ، وفيه تعريض للقوم المغار عليهم.

( وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) : أي انّ الإنسان على كفرانه بأنعم ربّه شاهد فانّ « الإنسان على نفسه بصيرة ».

( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) : أي إنّ الإنسان لأجل حبّ المال لبخيل شحيح.

( أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ) : أي أفلا يعلم الإنسان أنَّ لكفرانه بنعمة ربّه ، تبعة ستلحقه وسيجازى بها إذا اُخرج ما في القبور من الأبدان ، وحصل ما في الصدور من سرائرها ، وانّ ربهم خبير بسرائرهم ، فيجازيهم بما فيها.

بقي في تقسير الآيات بيان نكتتين :

1 - ما هو سر الحلف بالعاديات ، فالموريات ، فالمغيرات.

2 - ما هي الصلة بين الحلف بها والجواب عن القسم بقوله :

( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) .

إنّ كثيراً من التفاسير تتضمّن سرّ الحلف بها ، ولم يذكر سرّ الصلة بينهما بل أهمله في جميع الأقسام الواردة في القرآن ، وهو أمر عجيب.

أمّا علّة القسم بالاُمور المذكورة ، فلأنّ الخيل أقوى وسيلة للمقاتل المجاهد في سبيل اللّه ، فتضفي له طابع القداسة ، لقداسة غايته ، فإنّ كرامة الوسيلة بكرامة ذيها ، وأمّا القسم بضبحها ، والموريات التي تتطاير من حوافر أرجلها ، فلأنّ هذه الحالات المجتمعة في الخيل عند العدو تبعث الرعب والهلع والخوف في نفوس الأعداء ، فتكون بمجموعها من مقوّمات النصر والغلبة ، والظهور على الكفر ، وهنا يكمن السر في تشريفها وتعظيمها ، واستحقاقها لتكون محلاًّ للقسم.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الخير كلّه في السيف ، وتحت

ص: 426

ظلّ السيف ، ولا يقيم الناس إلاّ السيف ، والسيوف مقاليد الجنّة والنار » (1).

وعنه صلی اللّه علیه و آله أيضاً قال : « إنّ أفضل عمل المؤمنين الجهاد في سبيل اللّه » (2).

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في شرف الجهاد مضافاً إلى قوله سبحانه : ( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) ( الأنفال / 60 ).

هذا برمّته حول سر الحلف بهذه الأشياء ، بقي الحديث عن بيان المناسبة بين القسم بهذه الأشياء والجواب عنها بجملة ( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) فنقول : إنّ قوله سبحانه : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) ( التين / 4 - 6 ).

يشهد بأنّ للإنسان قدرة على السمو إلى أعلى درجات الكمال ، وكذلك له قابلية على الإنحطاط إلى أدنى المستويات كما يشهد بهذين الأمرين قوله : ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ ... ) وقوله : ( إِلاَّ الَّذِينَ ... ) ، وعلى ضوء ذلك ، فالإنسان ربّما يصل عند اتصافه بجملة تلك الملكات السامية إلى درجة يستحق أن يحلف لا به فقط ، بل بخيله وما يطرأ عليه من العوارض المذكورة.

وربّما ينحط عن تلك الرتبة إلى حد يكون فيه جاحداً بكل أنعم ربّه وفضله عليه كما قال سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) وفي آية اُخرى : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ ) ( الحج / 66 ) وفي آية ثالثة : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) ( إبراهيم / 34 ) وفي آية رابعة : ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ) ( الأحزاب / 72 ) وفي نقس تلك السورة : ( وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) (3).

ص: 427


1- وسائل الشيعة : ج 6 ص 45.
2- نهج الفصاحة : ص 120.
3- أنّ دراسة الأقسام الواردة في القرآن البالغ عددها قرابة أربعين حلفاً ، من الأبحاث والدراسات الجديرة بالإهتمام ، وقد كتب ابن القيم كتاباً حولها وأسماه « الأقسام في القرآن » ولكنّه أهمل الجانب المهم منها وهو بيان الصلة بين المقسم به وجوابه. نعم قام ولدي الفاضل المجاهد الشهيد الشيخ أبو القاسم الرزاقي قدس سره بهذه المهمة وأقرده بالتأليف باللغة الفارسية وإنّي أرجو أن يقوم أحد البارعين في اللغتين ، بنقله إلى اللغة العربية ، فإنّه خير كتاب في هذا الموضوع وقد طبع بتقديم منّا أيام حياته ، ولقد لقي ربّه مضرّجاً بدمه أثناء الحرب المفروضة على الشعب المسلم في إيران ، وقد اُسقطت طائرته ، فاستشهد هو وقرابة أربعين شخصاً ، بين عالم وكاتب وسياسي محنّك ، حشرهم اللّه مع النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمة المعصومين علیهم السلام وقد أحرق الحادث قلبي واراق دموعي.

7 - فتح مكّة أو الفتح المبين

اشارة

إنّ أوّل بيت وضع لعبادة اللّه وتوحيده وتقديسه ، هو الكعبة بيت اللّه الحرام ، وقد اندرست آثاره وعفيت رسومه في حادثة الطوفان في زمن نبي اللّه نوح علیه السلام ، ثم بقي على تلك الحال إلى زمن إبراهيم علیه السلام ، فأمره عزّ وجلّ بإقامة قواعده وتشييد أركانه ليكون مثابة للناس وأمناً ، قال سبحانه : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) ( البقره / 125 ).

وقد ظلّ البيت الحرام على تلك الوتيرة مدة مديدة من الزمن حتّى تمكّن الشرك من النفوذ إلى نفوس القاطنين في ضواحيه ، وذلك في زمن قصي بن كلاب (1) وعندما بعث النبي الأكرم كانت الأصنام منصوبة وتحيط بالبيت الحرام ، وتعلوها أعلام الكفر والشرك.

ص: 428


1- لاحظ السيرة النبويّة : ج 1 ص 130 ط بيروت.

ولما وقع إبرام الصلح بين النبي الأكرم ، وقريش عبدة الأوثان وسدنة الكعبة ، واتّفقوا على أن يتجنّبوا كل ما من شأنه إثارة الحرب بينهما طيلة عشرة أعوام ، لم يكن يتبادر في خلد أحد انّ النبي الأكرم سوف تسنح له الفرصة لفتح ذلك الحصن المنيع للشرك ، ويوقعه في شراك الأسر والذلة والمسكنة.

لكنّه سبحانه عندما رجع رسوله صلی اللّه علیه و آله من صلح الحديبية عازماً الدخول إلى المدينة وعده بفتحين :

1 - الفتح القريب.

2 - الفتح المبين.

أمّا الأوّل فقد أشار إليه بقوله : ( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / 18 ) وقال : ( فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / 27 ).

وأمّا الثاني فهو الذي ورد في صدر هذه السورة وقال : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) .

أمّا الفتح القريب فقد سلف أن ذكرنا انّه فتح خيبر.

أمّا الفتح المبين فهو فتح مكّة ، ولم يكن يعلم أحد من الصحابة المراد من ذلك الفتح المبين ، الذي تنبّأ به الوحي قبل مجيئه ، غير أنّه لم تشارف السنتان على الانقضاء بعد نزول تلك الآية إلاّ وقد ظهرت الخيانة من قريش لبنود ذلك الصلح ، وعندها سنحت الفرصة للنبي صلی اللّه علیه و آله بعد أنْ تمكّن من بناء جيش قوي له ، أن ينقض أركان الشرك ويهاجمهم في عقر دارهم.

بيانه

قد كان من بنود الصلح : إنّ من أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ، ودخلت خزاعة في عقد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعهده.

ص: 429

فلمّا كانت الهدنة اغتنمها طائفة من بني بكر ، فخرج نوفل بن معاوية في جمع حتى باغت خزاعة وهم على الوتير ، ماء لهم ، فأصابوا منهم رجلاً واقتتلوا وأعانت قريش بني بكر بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش مَنْ قاتل ، بالليل مستخفياً حتى ساقوا خزاعة إلى الحرام. فلمّا دخلت خزاعة مكّة لجأوا إلى دار « بديل بن ورقاء » ، ودار مولى لهم يقال له « رافع » ، فلمّا تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول اللّه من العهد والميثاق ، وما استحلّوا من خزاعة ، خرج « عمرو بن سالم » الخزاعي حتى قدم على رسول اللّه المدينة ، فدخل المسجد فانتصب قائماً وقال :

يا رب إنّي ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا

كنت لنا أباً وكنا ولْدا *** ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك اللّه نصراً أبدا *** وادع عباد اللّه يأتوا مددا

هم بيتونا بالوتير هجّدا *** وقتلونا ركّعاً وسجّدا

ولما سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شعره ، ووقف على صدق مقاله ، قال : نَصَرْتَ يا عمرو بن سالم.

ثم خرج « بديل بن ورقاء » في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول اللّه المدينة ، فأخبروه بما اُصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ، ومضى « بديل ابن ورقاء » ، وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول اللّه ليشد العقد ، ويزيد في المدّة ، فدخل أبو سفيان المدينة ، فدخل على ابنته اُمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فلمّا ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه طوته عنه ، فقال : يا بنيّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش ، أم رغبت به عني ؟ فقالت : بل هو فراش رسول اللّه ، وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول اللّه ، ثم خرج حتى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكلّمه ، فلم يرد عليه شيئاً ، فتوسّل بجمع من الصحابة أن يشفعوا له عند النبي صلی اللّه علیه و آله ، فلم يجيبوه فآيس منهم ، فركب بعيره وأقفل راجعاً ، فلمّا قدم على قريش قالوا له :

ص: 430

ما وراءك ؟ قال : جئت محمداً ، فكلّمته فو اللّه ما ردّ عليّ شيئاً.

ثم إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعلم الناس بعزمه على المسير لفتح مكة ، ودعاهم لإعداد العدّة لذلك وقال : « اللّهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها ».

كتاب صحابي الى قريش :

لمّا أجمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على المسير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش ، يخبرهم بالذي أجمع عليه أمر رسول اللّه ، من السير إليهم ، ثم أعطاه امرأة تدعى سارة (1) وجعل لها أجراً على أن تبلّغه قريشاً ، فجعلته في رأسها ، ثم فتلت عليها قرونها ، ثم خرجت به ، وأتى رسول اللّه الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوّام - رضي اللّه عنهما - فقال : أدركا امرأة ، قد حملت رسالة حاطب إلى قريش يبلغهم ما أجمعنا عليه ، فخرجا حتى أدركاها بذي الحليفة ، فاستنزلاها ، ففتّشا رحلها ، فلم يجدا شيئاً ، فقال لها علي بن أبي طالب : إنّي أحلف باللّه ، ما كذب رسول اللّه ، وما كذبنا ولتخرجنّ هذا الكتاب أو لنكشفنّك (2).

ص: 431


1- وسارة مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هشام أتت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا. قال : أمهاجرة جئت ؟ قالت : لا. قال : فما جاء بك ؟ قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهب موالي واحتجت حاجة شديدة ، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني. قال : فأين أنت من شبان مكّة ، وكانت مغنيّة نائحة قالت : ما طلب مني بعد وقعة بدر ، فحث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليها بني عبد المطلب ، فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة. لاحظ مجمع البيان : ج 5 ص 269.
2- وفي مجمع البيان : قال لها : اخرجي الكتاب وإلاّ واللّه لاضربنّ عنقك. ( مجمع البيان : ج 5 ص 269 ) وهذا هو الأوفق بمقام العصمة.

فلمّا رأت الجد منه قالت : اعرض ، فأعرض ، فحلّت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه ، فأتى به رسول اللّه ، فدعى رسول اللّه حاطباً فقال : يا حاطب ما حملك على هذا ؟ فقال : يا رسول اللّه : إنّي لمؤمن باللّه ورسوله ما غيّرت ولا بدّلت ، ولكنّي كنت امرءاً ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهر هم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم.

فأنزل اللّه تعالى في حاطب :

1 - ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) .

2 - ( إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) .

3 - ( لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

4 - ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ ) .

5 - ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) .

6 - ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) .

7 - ( عَسَى اللّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللّهُ قَدِيرٌ وَاللّهُ

ص: 432

غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الممتحنة / 1 - 7 ).

المستفاد من الآيات :

إِنّ الآية الاُولى تمنع المسلمين عن اتّخاذ الكافرين أولياءً لهم ، وتشدّد النكير على التقرب إليهم بالمودّة والمحبّة والإخاء ، إلاّ انّها لم تعن بذلك أن لا تكون هناك صلة على الإطلاق بأي نحو كان مع الكافرين ، بل لا تمنع من عقد علاقات تجارية أو سياسية بشرط أن لا تصل إلى حد المودّة الممنوعة.

نعم لو أصبحت تلك العقود والاتفاقات السياسية والتجارية بشقّيها ، سبباً للاضرار بالمصلحة الخاصة أو العامة للمسلمين ، فلا شك في حرمتهما ، وقضية الأندلس خير شاهد لنا في المقام ، وما ترتب ونجم عن أخطاء حكّامها من مصائب وويلات ، قضت على الدولة الإسلامية برّمتها هناك.

ثم إنّ الآية الثانية تلقي بمزيد من الضوء على ذلك الأمر ، فتوضح لنا انّ الكافرين لو سنحت الفرصة لهم للظفر بالمسلمين ، لأصبحوا لكم أعداءً ، ولامتدت سطوتهم إليكم ولأوقعوا فيكم الإيذاء ، وساموكم سوء العذاب ، ولنتاولوكم بألسنتهم بالشتم والسب ، ولودّوا لكم الرجوع عن دينكم.

والآية الثالثة تفيد انّ الوشائج العرقية إنّما تنفعكم يوم القيامة إذا كان صاحبها موحّد العقيدة والمبدأ كما يشير إليه قوله سبحانه : ( لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ... ) .

ولمّا كان هناك احتياج وافتقار إلى اُسوة تكون مثالاً يقتدي به المسلمون في مجالي التولّي والتبرّي ممّن كانوا يعيشون معه ، تناول الوحي هذا الأمر بذكر قضية نبي اللّه إبراهيم علیه السلام ومن معه فقد تبرّؤا من الكافرين ، على الرغم من الصلات العرقية والقبلية التي كانت تربطهم بهم ، قال سبحانه : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ ) .

ص: 433

ثم إنّه سبحانه يستثني في هذه الآية شيئاً وهو : ( إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ ) .

وعندئذٍ يجري الكلام في التنبيه على ما هو المراد بالمستثنى منه فنقول : قد ورد قبل الاستثناء جملتان والاستثناء يرجع الى واحد منهما وهما عبارة عن.

1 - ( أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ ) .

2 - ( إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ) .

وارجاع الاستثناء إلى الجملة الاُولى بعيد عن السياق لأنّ معناه حينئذ : إنّ إبراهيم اُسوة في كل شيء إلاّ في هذا المورد ، وهذا لا يتناسب مع مقام نبوّته ، ومع قوله سبحانه في حقّه : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 68 ).

فإذا كان إبراهيم أولى بأن يتبعه النبي الأكرم ، فكيف لا يكون اُسوة على الاطلاق.

على أنّ الآيات الكريمة الواردة في استغفار إبراهيم تعرب عن أنّ عدته بالاستغفار لأبيه كان عملاً حسناً وواقعاً في محلّه ، وذلك لأنّه وعده عندما يحتمل انّه سيعود إلى فطرته السليمة ، ويقطع أواصره بالوثنية قال سبحانه :

( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) ( التوبة / 114 ).

وهذا يعرب عن أنّ الوعد إنّما كان في زمن كان يؤمل فيه منه الصلاح والرشد ، ولذلك لما استولى اليأس ، وفقد الأمل بتحقّق ذلك الأمر ، تبرّأ منه ، وعلى ذلك يتعيّن القول برجوع الاستثناء إلى الجملة التالية لأنّ مفادها انّ إبراهيم ومن كان معه تبرّأوا من جميع من كان يمت إليهم بصلة في قومهم ، مع انّ إبراهيم لم يتبرّأ من أبيه ، ولأجل ذلك جاء بالاستثناء ومعناه : إنّ إبراهيم وأتباعه قالوا لقومهم : إنّا برءآؤا منكم ، إلاّ إبراهيم ، فلم يتبرّأ من أبيه وهذا هو المستفاد من الآيات.

ص: 434

ثم إنّه سبحانه أعاد حديث الاُسوة لأهمّيته ، وانّه إنّما ينتفع بها المؤمنون أي الذين يرجون ثواب الإيمان باللّه سبحانه ، وما وعد اللّه به المؤمنين في الآخرة ، غير أنّ من رفض حديث الاُسوة ، وتولّى أعداء اللّه ، فإنّما يضر نفسه واللّه سبحانه هو الغني ، وقال : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) .

ولمّا نهاهم عن موالاة الكفّار وإلقاء المودّة ، وكان ذلك عزيزاً على نفوسهم لوجود الوشائج القومية بينهم ، وكانوا يتمنّون أن يجدوا المخلص منه ، أردف ذلك سبحانه انّه عسى أن يجعل بينهم ، وبين الذين عادوهم مودّة ، وقد أنجز سبحانه ذلك بفتح مكّة ، فأسلم كثير منهم ، وتم لهم ما كانوا يريدون من التحابّ والتواد.

وإليه يشير قوله سبحانه : ( عَسَى اللّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللّهُ قَدِيرٌ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .

* * *

المعيار في إبرام المعاهدات مع الكفّار :

لما كان المستفاد من قوله سبحانه في صدر السورة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ) هو قطع جميع العلائق والأواصر بالكفار ، أعقبها بما يخصص مضمون الآية بالقسم المحارب دون مطلق الكافر بقوله عزّ من قائل :

( لاَّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الممتحنة / 8 ).

( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الممتحنة - 9 ).

وهاتان الآيتان تتضمّنان الإلفات إلى ما هو الأصل الرصين ، والمحور الرئيسي

ص: 435

في حدود مشروعية العلاقة مع الدول الخارجية عن إطار دائرة الدولة الإسلامية ، وحصيلة ما يستفاد منهما : إنّ في الكافر أرضية تمهّد السبيل دائماً إليه ، للغدر والخداع والخيانة لعدم وجود رادع نفسي يحول بينه وبين اقتراف ذلك ، والآية الاُولى انطلاقاً من ذلك تحضّ على تجنّب اتّخاذ الكافر وليّاً وحليفاً.

ولكن ربّما يتّصف بعض الكفار بخصائص ، وفضائل إنسانية محدودة تتخلّف معها تلك الظاهرة الغالبة عليهم ، والمتأصّلة في نفوسهم ، وانطلاقاً من ذلك سوّغ الإسلام في حدود معينة عقد روابط وأواصر شكلية معهم سواءً كانت سياسية أم اقتصادية ، ولكن كل ذلك مرهون بتوفّر شرطين :

1 - عدم دخولهم أو مشاركتهم في قتال المسلمين.

2 - عدم إخراجهم المسلمين من ديارهم.

وعند ذلك تتوفّر الأرضية الكفيلة بعقد وشائج البر وأواصر القسط وحفظ الحقوق.

وأمّا إذا أظهروا العداء للمسلمين عن طريق مقاتلتهم ، ومحاربتهم وإخراجهم من أوطانهم ، مصرّين على ذلك ، فعندئذ تحرم موالاتهم ، وإسداء البرّ إليهم بأي نحو من الأنحاء.

قال سيد قطب :

نهى سبحانه أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين ، وأخرجوهم من ديارهم ، وساعدوهم على إخراجهم ، وحكم على الذين يتولّونهم بأنّهم هم الظالمون ، وهو تهديد يجزع منه المؤمن ، ويتّقى أن يدخل في مدلوله المخيف ، وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتّفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية ، وهي أساس شريعته الدولية التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثانية لا بغيرها ، إلاّ وقوع الإعتداء الحربي

ص: 436

وضرورة ردّه ، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة ، وهي تهديد بالاعتداء والوقوف بالقوّة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وهو كذلك اعتداء ، وفيما عدا هذا ، فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس (1).

وعلى ضوء ذلك يستفاد اُمور :

1 - إنّ الآيتين الثامنة والتاسعة مقيدتان لإطلاق الآية الاُولى الواردة في صدر السورة حيث تلفت إلى وجود قسمين من الكفّار بين محارب ومهادن موادع ، فالاُولى تحرم موالاته مطلقاً ، والثانية تجوّز بشروط حدّدت ذلك في إطار البرّ وإبداء القسط وبعبارة اُخرى يجب أن ينحصر التولّي في الملامح الظاهرية والوشائج الشكلية ، كالتجارة والروابط السياسية ، ولا يسوغ موآخاتهم في السرّاء والضرّاء ، وعدّهم إخواناً وأحلافاً ، ولا يباح إليهم بالأسرار ، ولا يكاشفونهم بما يضمرونه ، فإنّ ذلك ممّا لا يليق إلاّ بإبدائه للمؤمنين خاصة.

2 - إنّ بعض المفسّرين زعم أنّ قوله سبحانه : ( فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ ) ( التوبة / 5 ) ناسخ لمضمون الآية الثامنة المتقدّم ذكرها لأنّه يحكم بقتل المشركين بلاهوادة لا يمكن التوفيق بينه وبين ما دلّ على جواز إبرام العقود معهم :

ولكنّه زعم لا محصّل وراءه لأنّ ما ورد في سورة التوبة يختصّ بالمشرك المحارب بشهادة قوله سبحانه : ( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( التوبة / 13 ).

وعلى ذلك فلا تنافي بين الآيتين في المضمون لاختلاف موضوعهما.

3 - إنّ لسان قوله سبحانه : ( لاَّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ ) .

ص: 437


1- في ظلال القرآن ج 28 ص 66.

وإن كان لسان رفع الحظر ، ولكنّه لا يدل على أنّ البر والقسط بهم بعقد الأواصر معهم مباح بالمعنى المصطلح أي ما يقابل الواجب والمستحب وغيرهما ، بل المراد هو كون ذلك جائزاً بالمعنى الأعم ، ولا ينافي كونه واجباً في ظروف خاصة ، ومستحبّاً في ظروف اُخرى وهكذا ، وعلى الحاكم الإسلامي أن يتناول أوضاع المسلمين بالدراسة المتفحّصة ، وينتخب ما هو الأوفق بمصلحة الاُمّة الإسلامية حتى لا يفوت عليهم ما هو الأصلح لحالهم ، والأنسب بوضعهم.

وفي خاتمة المطاف نسترعي التفات القارئ الكريم إلى أنّ عمل بعض الدول الإسلامية التي قامت بعقد اتفاقية صلح مع الكيان الصهيوني الغاصب للقدس ، يضاد ما صرّح القرآن الكريم به في الآيتين المتقدّمتين ، والذي يهوّن الخطب انّ هذه الدول إنّما ترفع شعار الإسلام بالاسم فقط دون امتلاك أي رصيد مضموني منه.

* * *

عود على بدء :

ذكرنا أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان قد أعدّ العدّة لغزو قريش في عقر دارها ، والانتقام منها بوازع القصاص منها ، لخيانتها ونقضها لبنود الميثاق الذي أبرمته مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، واستخلف على المدينة وذلك لعشر مضين من شهر رمضان ، فصام رسول اللّه وصام الناس معه ، ولمّا بلغ حد الترخّص أفطر ، وأفطر أغلب من كان معه (1).

ص: 438


1- وقد روى سماعة عن الإمام الصادق انّه سأله عن الصيام في السفر ، قال : لا صيام في السفر قد صام ناس على عهد رسول اللّه فسمّاهم العصاة فلا صيام في السفر إلاّ الثلاثة أيام التي قال اللّه عز وجلّ في الحج. و في حديث آخر: إنّ رسول اللّه خرج من المدينة إلی مكّة في شهر رمضان، ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلمّا انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشربه وأفطر ، ثمّ أفطر الناس معه وتمّ ناس على صومهم فسمّاهم العصاة ، وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . لاحظ الوسائل : ج7، الباب 1 و 11 من أبواب من يصح فيه الصوم الحديث 1 و 7.

ثم مضى حتى نزل ( مَرّ الظهران ) في عشرة آلاف من المسلمين وقد عميت الأخبار عن قريش ، فلم يأتهم خبر عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولا يدرون ما هو فاعل ، وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء يتحسّسون الأخبار ، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به ، وقد كان العباس بن عبد المطلب قد غادر مكة متوجّهاً إلى المدينة ولقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ببعض الطريق ( الجحفة ) فاصطحبه.

فلمّا نزل رسول اللّه ( مرّ الظهران ) ، قال العباس بن عبد المطلب فقلت : واصباحَ قريش ، واللّه لئن دخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه ، انّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال : فركبت بغلة رسول اللّه البيضاء حتى جئت الأراك فقلت لعلّي : أجد من يخبر قريش بمكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليخرجوا إليه ، فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة ، وآنذاك طرق سمعي كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول : ما رأيت كالليلة نيراناً قط ، ولا عسكراً ، قال : يقول « بديل » : هذه واللّه خزاعة حمشها (1) الحرب ، قال : يقول أبو سفيان : خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها ، قال : فعرفت صوته ، فقلت : يا أبا حنظلة ، فعرف صوتي ، فقال : أبو الفضل ؟! قال : قلت نعم. قال : ما لك ؟ فداك أبي واُمّي قال : ويحك يا أباسفيان هذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الناس واصباح قريش.

قال : فما الحيلة ؟ قال قلت : لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك ، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول اللّه فأستامنه لك.

ص: 439


1- حمشها أي أحرقتها.

قال : فدخلت على رسول اللّه ، وقلت : يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنّي قد آجرته. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اذهب به إلى رحلك ، فاذا أصبحت ائتني به ، فلمّا جاء به إلى رسول اللّه مصبحاً ، قال له رسول اللّه : ويحك أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنّه لا إله إلاّ اللّه. قال : بأبي أنت واُمّي يا رسول اللّه ما أحلمك وأكرمك وأوصلك.

ثم قال العباس بعد كلام دار بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين أبي سفيان : يا رسول اللّه إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً ، قال : نعم ، من دخل دار أبي سفيان كان آمناً ، ومن أغلق بابه كان آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فلمّا أراد أن ينصرف أبو سفيان ، قال رسول اللّه : أجلسه بمضيق الوادي حتى تمرّ به جنود اللّه ويراها.

ثم إنّ أصحاب السيرة ذكروا استعراض جيش رسول اللّه أمام أبي سفيان (1).

قال الواقدي : وعبّأ رسول اللّه أصحابه ومرّت قبائل على قادتها ، والكتائب على راياتها ، فكان أوّل من قدم رسول اللّه خالد بن الوليد في بني سليم وهم ألف ، ثم مرّ على إثره الزبير ابن العوام في خمسمائة ، ومرّ بنو غفار في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبوذر الغفاري ، ثم مضت أسلم في أربعمائة ، ثم مرّت بنو عمرو بن كعب في خمسمائة ، ثم مرّت مزينة في ألف ، ثم مرّت جهينة في ثمانمائة ، ثمّ مرّت بنو ليث وهم مائتان وخمسون ، ثم مرّت أشجع وهم آخر من مرّ في ثلاثمائه.

وكلّما مرّت قبيلة كبروا ثلاثاً عندما حاذوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلمّا مرّ سعد براية النبي صلی اللّه علیه و آله نادى : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ، اليوم أذل اللّه قريشاً.

ص: 440


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 400 - 404.

فأقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى إذا حاذى رسول اللّه ناداه : يا رسول اللّه اُمرت بقتل قومك ؟ زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا قال : يا أبا سفيان : « اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ، اليوم أذلّ اللّه قريشاً » وإنّي انشدك اللّه في قومك فأنت أبّر الناس ، وأرحم الناس ، وأوصل الناس. قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان : يا رسول اللّه ما نأمن سعداً إن يكون منه في قريش صولة. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اليوم يوم المرحمة ، اليوم أعزّ اللّه فيه قريشاً ، ثمّ أمر بدفع الراية إلى علي بن أبي طالب فأخذ عليّ اللواء وذهب بها حتى دخل بها مكة فغرزها عند الركن. وقال أبو سفيان : ما رأيت مثل هذه الكتيبة ، ثم قال : لقد أصبح يا أبالفضل ملك ابن أخيك عظيماً. فقال العباس : ليس بملك ولكنّها نبوّة (1).

ثم إنّ رسول اللّه لما نزل مكّة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت ، فطاف ربّه سبعاً على راحلته. قال الواقدي : « طاف رسول اللّه بالبيت على راحلته ، آخذ بزمامها ، محمد بن مسلمة ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً مرصّصة بالرّصاص ، وكان هبل أعظمها ، وهو وُجاه الكعبة على بابها ، وإيساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح ، فجعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كلّما مر بصنم منها ، يشير بقضيب في يده ويقول :

« جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا » فيقع الصنم لوجهه (2).

فلمّا قضى طوافه وقف على باب الكعبة ، وقد اجتمع له الناس في المسجد فقال : « لا اله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب

ص: 441


1- المغازي للواقدي : ج 2 ص 819 - 822 ، يعرب ذلك أنّه ما أسلم وانّما تفوّه بما تفوّه خوفاً على نفسه وحربه وبقى على هذه الحالة إلى أن لفظت نفسه وهو ابن ثمانية وثمانين وله كلام عند ما أخذ عثمان بيده زمام الحكم. يعرب عن كفره المستتر. لاحظ تاريخ الخلفاء للسيوطي ، وشرح النهج لابن ابي الحديد.
2- المغازي : ج 2 ص 832.

وحده ، ألا كلّ مأثرة ، أو دم ، أو مال يدعى ، فهو تحت قدميّ هاتين إلاّ سدانة البيت وسقاية الحاج ، ألا وفي قتيل الخطأ شبه العمد ، بالسوط والعصا ، ففيه الديّة مغلّظة ، مائة من الإبل ، أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش إنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية. وتعظّمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ، ثم تلا هذه الآية : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ... ) ( الحجرات / 13 ) ، ثم قال : يا معشر قريش ما ترون إنّي فاعل فيكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم. قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء.

ثمّ جلس رسول اللّه في المسجد فقال : أين عثمان بن طلحة ، فدعى له ، فقال : هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم برّ ووفاء ، ثمّ دخل البيت فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم فرأى إبراهيم علیه السلام مصوّراً في يده الأزلام يستقسم بها ، فقال : قاتلهم اللّه جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ، ما شأن إبراهيم والأزلام : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران / 67 ) ، ثمّ أمر بتلك السور كلّها فطمست (1).

مبايعة النساء للنبي صلی اللّه علیه و آله :

صالح رسول اللّه بالحديبية مشركي مكّة على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم ، فجاءت ( سبيعة ) بنت الحرث ، مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي بالحديبية.

فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم ، وكان كافراً : يا محمد اُردد عليّ امرأتي ، فإنّك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزل قوله سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّهُ أَعْلَمُ

ص: 442


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 413 ، والمغازي : ج 2 ص 835. وفي الأخير أورد صلة للخطبة.

بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الممتحنة / 10 ).

ويستفاد من الآية عدّة أحكام :

1 - حرمة إرجاع المؤمنات إلى أزواجهنّ الكافرين كما هو صريح الآية.

2 - لزوم إعطاء مهورهنّ لأزواجهنّ كما هو مفاد قوله : ( وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ) أي ما أنفقوا عليهنّ من المهر.

3 - حرمة العقد على الكافرة كما هو مفاد قوله : ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) والقدر المتيقّن كما هو مورد الآية كونها عابدة الوثن.

4 - جواز طلب المهور من الكفار إذا ارتدّت امرأة ورجعت إلى الكفّار ، كما هو مفاده من قوله : ( وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ ) أي إذا لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفّار مرتدّة ، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر كما يسألونكم مهور نسائهم إذا هاجرن إليكم.

ثمّ إنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله لمّا فرغ من بيعة الرجال وهو على الصفا جاءته النساء يبايعنه ، فنزلت عليه الآية ، فشرط اللّه تعالى في مبايعتهنّ أن يأخذ عليهنّ الشروط الستة المذكورة في الآية ، قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ :

1 - عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئًا.

2 - وَلا يَسْرِقْنَ.

3 - وَلا يَزْنِينَ.

4 - وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ.

ص: 443

5 - وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ.

6 - وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ.

7 - فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الممتحنة / 12 ).

روى المفسّرون : إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله بايعهنّ وكان على الصفا ، وكان عمر أسفل منه ، وهند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة مع النساء خوفاً أن يعرفها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال : اُبايعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئاً. فقالت هند : إنّك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال ، وذلك انّه بايع الرجال يومئذٍ على الإسلام والجهاد فقط ، فقال صلی اللّه علیه و آله : ولا تسرقن. فقالت هند : إنّ أبا سفيان رجل ممسك وإنّي أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحلّ لي أم لا ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعرفها فقال لها : وإنّك لهند بنت عتبة. قالت : نعم فاعف عمّا سلف يا نبي اللّه عفا اللّه عنك. فقال صلی اللّه علیه و آله : ولا تزنين. فقالت هند : أوتزني الحرّة ؟. فتبسّم عمر لما جرى بينه وبينها في الجاهلية ، فقال صلی اللّه علیه و آله : ولا تقتلن أولادكنّ. فقالت هند : ربيّناهم صغاراً ، وقتلتموهم كباراً ، وأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب علیه السلام يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى وتبسّم النبي صلی اللّه علیه و آله ولمّا قال : ولا تأتين ببهتان. فقالت هند : واللّه إنّ البهتان قبيح ، وما تأمرنا إلاّ بالرشد ومكارم الأخلاق ، ولمّا قال : ولا يعصينك في معروف. فقالت هند : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء (1).

ص: 444


1- مجمع البيان : ج 5 ص 276.

8 - غزوة حنين

اشارة

لمّا فتح رسول اللّه مكّة سارت أشراف هوازن بعضها إلى بعض ، وثقيف بعضها إلى بعض ، وقالوا : واللّه ما لاقى محمد قوماً يحسنون القتال ، فاجمعوا أمركم ، فسيروا إليه قبل أن يسير إليكم ، فأجمعت هوازن أمرها وتولّى قيادة حشودها « مالك ابن عوف النصري » وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فلمّا أجمع « مالك » المسير بالناس إلى رسول اللّه ، أمر الناس أن يجيئوا بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حتى نزلوا باوطاس ، واجتمع الناس به ، فعسكروا وأقاموا بها ، والإمداد تأتيهم من كل ناحية.

فلمّا سمع بهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث إليهم « عبد اللّه الأسلمي » ، وأمره أن يدخل في الناس ، فيقيم فيهم حتى يأتيه بخبرهم ، فجاء الرجل بخبر اجتماعهم على حرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأجمع رسول اللّه السير إلى هوازن ليلقاهم ، وذكر له أنّ عند صفوان ابن اُميّة أدراعاً له وسلاحاً ، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك ، فاستعار منه مائة درع ليتقوّى بها على حرب الكفّار ، فأجابه إلى ذلك.

ثمّ خرج رسول اللّه معه ألفان من أهل مكّة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ، وفتح اللّه بهم مكّة فكانوا اثنى عشر ألفاً ، واستعمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عتّاب بن اسيد على مكّة أميراً على من تخلّف عنه من الناس ، ثمّ مضى رسول اللّه يريد لقاء هوازن ، وصادف في الطريق شجرة عظيمة خضراء ذات أنواط يأتيها الناس كل سنة فيعلّقون أسلحتهم عليها ، ويذبحون ويعكفون عندها ، قال الرواي : فتنادينا من جنبات الطريق يا رسول اللّه اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اللّه أكبر قلتم والذي نفس

ص: 445

محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى : ( اجْعَلْ لَنَا إِلَهَاً كَمَا لَهُمْ إلَهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) إنّها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم.

يقول الواقدي : « خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في اثني عشر ألفاً من المسلمين عشرة آلاف من أهل المدينة ، وألفين من أهل مكّة ، فلمّا ابتعد عن مكّة ، قال رجل من أصحابه : « لو لقينا بني شيبان ما بالينا ولا يغلبنا اليوم أحد من قلّة » ولكن لم تغن هذه الكثرة شيئاً ، وهزم المسلمون وفرّوا عن ساحة المعركة ، كما يوافيك ذكره عمّا قريب.

بعث مالك بن عوف عيوناً من هوازن إلى معسكر رسول اللّه ، فأتوا بخبر كثرة جيش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأراد اصطناع خديعة تمكّنه منهم ، فعبّأ أصحابه في وادي حنين ، وهو واد أجوف ذو شعب ومضائق ، وفرّق الناس فيه وأوعز إليهم أن يحملوا على محمد صلی اللّه علیه و آله وأصحابه حملة واحدة عند ما ينحدرون من مضيق الوادي.

يقول جابر بن عبد اللّه لمّا استقبلنا وادي حنين ، انحدرنا في واد من أودية تهامة في عماية الصبح ، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا لنا في شعابه ومضائقه ، وقد أجمعوا وتهيّئوا فما عدوا فو اللّه ما راعنا ونحن إلاّ الكتائب قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد وانهزم الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وانطلق الناس وقد بقي مع النبيّ نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته.

بقى رسول اللّه على دابّته لم ينزل ، إلاّ أنّه جرّد سيفه ، وقد ذكر التاريخ أسماء الذين صمدوا مع رسول اللّه ، أمثال علي والعباس والفضل بن العباس وأبي سفيان ابن الحارث ، وربيعة بن الحارث وأيمن بن عبيد الخزرجي ، واُسامة بن زيد.

قال البرّاء بن عازب : واللّه الذي لا إله إلاّ هو ما ولّى رسول اللّه ولكنّه وقف واستنصر ثمّ نزل وهو يقول :

أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

ص: 446

وكان رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء فيها رأس رمح له طويل أمام الناس إذا أدرك طعن ، قد أكثر في المسلمين القتل ، فشدّ عليه عليّ وأبو دجانة فقطع عليّ يده اليمنى ، وأبو دجانة يده الاُخرى ، واقبلا يضربانه بسيفيهما فسقط صريعاً.

وزاد الهول مصيبة شماتة أبي سفيان وغيره بالمسلمين ، فقد تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغائن ، فقال أبوسفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وانّ الأزلام لمعه في كنانته.

وصرخ في تلك الاثناء جبلة بن حنبل : ألا بطل السحر اليوم.

الانتصار بعد الهزيمة :

أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تلك الآونة عمَّه العباس أن يصرخ ويقول : يا معشر الانصار يا معشر أصحاب السمرة (1) فصار ذلك سبباً لرجوع الفارين من أصحاب الرسول إليه والقتال بين يديه ، فاجتمع جمع غفير حوله ، حاموا رسول اللّه وقاتلوا العدو بضراوة ، فنظر رسول اللّه إلى ساحة المعركة ، وأصحابه يقاتلون ، فقال : الآن حمى الوطيس ، وصارت الحرب طاحنة حتى رأى العدو جمعاً غفيراً من الأسرى مكتّفين عند رسول اللّه ، فعند ذلك انقلبت كفّة النصر لصالح المسلمين.

ومن لطيف ما قيل في تلك الفترة ما أنشدته امرأة مسلمة بقولها :

غلبت خيل اللّه خيل اللات *** وخيله أحق بالثبات

ثمّ إنّه صلی اللّه علیه و آله طلب من العباس ، ليناوله حفنة من الحصى ، فألقى بها في وجوه العدو قائلاً : شاهت الوجوه ، وقد استنهض بذلك

ص: 447


1- السمرة : شجرة الرضوان.

عزائم أصحابه إلى حد ما لبث هوازن ولا ثقيف حتى فرّوا منهزمين لا يلوون على شيء تاركين ورائهم نساءهم وأبناءهم غنيمة للمسلمين ، وقد ذكر أصحاب السير احصاء الغنائم وعدّتها التي استولى عليها المسلمون ، فمن الإبل اثنان وعشرون ألف بعير ، ومن الشياء أربعون الفاً ، ومن الفضة أربعة آلاف اُوقية ، وقد بلغ عدد الأسرى ستة آلاف ، وقد أمر رسول اللّه أن تنقل إلى وادي الجعرانة حتى يأمن المسلمون من مطاردة العدو لهم (1).

نظرة تحليلية على انهزام المسلمين بادئ بدء :

إنّ انهزام المسلمين في بادئ الأمر كان ناجماً عن غرور المسلمين بكثرتهم أوّلاً ، واسطحاب ألفين من المسلمين الجدد الذين أسلموا توّاً في فتح مكّة ولم يرسخ إيمانهم بعد ، فانّ فرارهم عن ساحة الحرب ثبّط عزائم المسلمين القدامى.

أضف إلى ذلك انّهم لم يتّبعوا الخطط العسكرية من إرسال الطلائع والعيون مقدمة الزحف لاستطلاع أحوال العدو ومواقعه ، كيف وهم دخلوا في مضيق حنين في غلس الصباح ، والعدو ترصّد في ثكنات خاصة ، ففاجأوهم بالهجوم عليهم من مكامنهم ، وهم على غفلة من أمرهم ، فلو كانوا قد استعانوا بالعيون والجواسيس لما وقعوا فيما وقعوا فيه ، وكان ذلك ناتجاً عن تقصير من اُمراء السرايا ، وحمَلَة اللواء ، وقصور منهم في أداء وظائفهم التي أوكلها النبي صلی اللّه علیه و آله إليهم الذي كان يرقب الاُمور عن كثب في مؤخّرة الجند ، وإلى ما أشرنا لك يشير قوله سبحانه : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ

ص: 448


1- المغازي : ج 3 ص 889 - 899 ، البداية والنهاية : ج 4 ص 352.

رَّحِيمٌ ) ( التوبة / 25 - 27 ).

محاصرة الطائف :

لمّا انهزم العدو بعد انتصار مؤقّت ، التجأ البقية الباقية من جماعة مالك بن عوف إلى حصن لبني ثقيف بالطائف ، وكان حصناً منيعاً يصعب اختراقه ، فتعقّبهم النبي صلی اللّه علیه و آله حتى ذلك الحصن ، وأحاط بهم غير أنّ رجال ثقيف المتحصّنين كانوا من مهرة الرماة ، فتمكّنوا من إصابة جمع من المسلمين بلغ عددهم ثمانية عشر رجلاً ، فأمر النبي قوّاته بالتراجع عن مرمى النبل ، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة ، وقد أجهد النبي نفسه في خلال تلك المدة في اعمال فنون الحرب المختلفة لاختراق الحصن بالنحو التالي :

1 - أمر أصحابه نقب جدار الطائف بالاحتماء بالدبابات المصنوعةً من جلود البقر ، لكن تلك المحاولة لم تتكلّل بالنجاح ، لأنّ ثقيف ألقت بحمم من الحديد على تلك الدبابات فأحرقتها ، ففرّ من كان تحتها من المسلمين ، فرشقتهم ثقيف بالنبل ، فقتلوا منهم رجالاً.

2 - نصب النبي صلی اللّه علیه و آله المنجنيق بإشارة من سلمان الفارسي بقوله : يا رسول اللّه أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم ، وقد عمل المنجنيق بيده ، فنصبه النبي تجاه حصن الطائف ، أو قدّم المنجنيق يزيد بن زمعة إلى النبي بعد مضي أربعة أيام من قبيلة بني دوس ، إحدى القبائل المقيمة بأسفل مكّة ، فرماهم من دون جدوى لأنّهم قد أعدّوا حصونهم إعداداً يقاوم كل أمثال تلك الأسلحة.

3 - أمر رسول اللّه بقطع شجر الكروم ( العنب ) ، وقد كانت قبيلة ثقيف تفتخر بكروم أرضها على جميع العرب ، فانّها جعلت الطائف واحة كأنّها الجنة وسط هذه الصحارى ، كل ذلك رجاء أن يستسلموا ويتركوا التحصّن في حصونهم ، فلمّا رأى ذلك رجال ثقيف نادوا : يا محمد لِمَ تقطع أموالنا ، فأمّا أن تأخذها إن ظهرت علينا ،

ص: 449

وأمّا أن تدعها لله وللرحم ، فتركها صلی اللّه علیه و آله .

4 - نادى منادى رسول اللّه أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ ، فخرج من الحصن بضعة عشر رجلاً ، وعلم منهم انّ بالحصون من الذخيرة والمؤنة ما يكفل أمداً طويلاً ، فاستشار النبي صلی اللّه علیه و آله نوفل بن معاوية الديلي في المقام عليهم فقال : يا رسول اللّه : ثعلب في حجر ، إنْ أقمت عليه أخذته ، وإن تركته لم يضرّك ، فأذن الرسول بالرحيل ، وقيل : إنّ الرسول صلی اللّه علیه و آله رأى أنّ الحصار سيطول أمده وانّ الجيوش تودّ الرجوع لاقتسام الفيء الذي كسبوه والذي تركوه في الجعرانة ، والأشهر الحرم قد أذنت ولا يجوز فيها قتال ، لذلك آثر أن يرفع الحصار بعد شهر من وقعه ، وكان ذو القعدة قد هلّ ، فرجع بجيشه معتمِراً وذكر انّه متجهّز إلى الطائف إذا انتهت الأشهر الحرم.

وفد هوازن في الجَعرِّانة

وأقفل راجعاً إلى مكة حتى نزل هو والمسلمون الجَعرّانة لاقتسام الغنائم ، وفي تلك الأثناء أتتهم وفد من هوازن وقد أسلموا فقالوا : إنّا أصل وعشيرة وقد أصابنا ما لم يخف عليك ، فامنن علينا منّ اللّه عليك ، وقال زهير : يا رسول اللّه إنّ بين الاُسارى عمّاتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك ، ولو إنّا أرضعنا الحرث بن أبي شمر الغساني ، أو النعمان بن المنذر ليرجونا عطفه وأنت خير المكفولين ، فخيّرهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين نسائهم وأبنائهم ، وبين أموالهم ، فاختاروا نساءهم وأبناءهم.

فقال : أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، فإذا أنا صلّيت بالناس ، فقولوا : إنّا نستشفع برسول اللّه إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول اللّه ، في أبنائنا ونسائنا ، فسأعطيكم وأسأل فيكم ، فلمّا صلّى الظهر فعلوا ما أمرهم به ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، وقال المهاجرون والأنصار : ما كان لنا فهو لرسول اللّه ، وقال الأقرع بن حابس : ما كان لي

ص: 450

ولنبي تميم فلا. وقال عيينة بن حصن : ما كان لي ولفزارة فلا ، وقال عباس بن مرداس : ما كان لي ولسليم فلا ، فقالت بنو سليم : ما كان لنا فهو لرسول اللّه فقال : وهّنتموني.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من تمسّك بحقّه من السبي فله بكل إنسان ستّ فرائض من أوّل شيء نصيبه ، فردّوا على الناس أبناءهم ونساءهم.

وسأل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن مالك بن عوف فقيل : إنّه بالطائف. فقال : أخبِروه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وما له وأعطيته مائة بعير ، فاُخبر مالك بذلك ، فخرج من الطائف سرّاً ولحق برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأسلم وحسن إسلامه واستعمله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل التي حول الطائف ، فأعطاه أهله وماله ومائة بعير ، وكان يقاتل بمن أسلم معه من « ثمالة » و « فهم » و « سلمة » ، فكان يقابل بهم ثقيفاً لا يخرج لهم سرح إلاّ أغار عليه حتى ضيّق عليهم (1).

لمّا فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من رد سبايا حنين إلى أهلها ، ركب جواده واتّبعه الناس يقولون : يا رسول اللّه قسّم علينا فيأنا من الإبل والغنم ، فقام رسول اللّه إلى جنب بعير ، فاجتزّ وبرة من سنامه ، فجعلها بين اصبعيه ثم رفعها قائلاً : واللّه ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدّوا الخياط والمخيط ، فانّ الغلول يكون على أهله عاراً وناراً وشناراً يوم القيامة.

ثم إنّه أعطى المؤلّفة قلوبهم شيئاً كثيراً من الخمس المتعلّق به ، فأعطى أبا سفيان ابن حرب وابنه معاوية لكلّ مائة بعير ، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير ، وهكذا وعندما فرغ من القسمة بينهم ، جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة ، فوقف عليه ، فقال : يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم. فقال رسول اللّه :

ص: 451


1- السيرة النبويّة : ج 2 ص 489 و 490.

أجل فكيف رأيت ؟ فقال : لم أرك عدلت. فغضب النبي صلی اللّه علیه و آله ثم قال : ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ؟ فقال عمر بن الخطاب : يا رسول اللّه ألا أقتله ؟ فقال : لا ، دعه فانّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية (1).

وقد نزل بهذا الصدد عدة آيات منها :

( وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ * وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة / 58 - 60 ).

وقد اختلف المفسّرون في سبب نزولها فمن قائل بأنّها نزلت في حقّ ذي الخويصره وأمثاله ، إلى قائل من أنّها نزلت في حقّ المؤلّفة قلوبهم.

مشادة الأنصار مع النبي

ولمّا أعطى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما أعطى من تلك العطايا لقريش ولقبائل العرب ولم يحظ الأنصار بمثل عطيّتهم وجد جمع من الأنصار في أنفسهم شيئاً ، فأرسلوا منهم سعد بن عبادة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله يستطلع صدق الأمر ، فقال : قسّمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟

ص: 452


1- السيرة النبويّة : ج 2 ص 496 ، البداية والنهاية : ج 4 ص 336 وفيه : دعه فإنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.

قال : يا رسول اللّه ما أنا إلاّ من قومي ، قال : فأجمع لي قومك في هذه الحظيرة ، قال : فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة ، قال : فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا ، وجاء آخرون فردّهم فلمّا اجتمعوا له أتاه سعد فقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ، فأتاهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلاّلاً فهداكم اللّه ؟ وعالة فأغناكم اللّه ؟ وأعداء فألّف اللّه بين قلوبكم ؟

قالوا : بلى ، اللّه ورسوله أمنّ وأفضل ، ثمّ قال : ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول اللّه ؟ لله ولرسوله المنّ والفضل.

قال صلی اللّه علیه و آله : أما واللّه لو شئتم لقلتم فلصَدَقتم ولصدّقتم : أتيتنا مكذّباً فصدّقناك ومخذولاً فنصرناك وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم لعاعة من الدنيا تألّفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم ؟ فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. اللّهمّ إرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.

قال : فبكى القوم حتّى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول اللّه قسماً وحظّاً ثم انصرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتفرّقوا (1).

إلى هنا تمّ الحديث عن فتح مكّة وما أعقبه من الأحداث وقد وصفه سبحانه هكذا :

( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ

ص: 453


1- السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 500 ، البداية والنهاية ج 4 ص 358.

السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) ( الفتح / 1 - 4 ).

وفي الآيات سؤال يستحثّ الجواب عنه وهو أنّه سبحانه جعل فتح مكّة علّة لغفران ما تقدّم من ذنوب النبي وما تأخّر منها ، فيقال :

1 - ما هي المناسبة بين العلّة والمعلول فتح مكّة وغفران الذنوب ، مع أنّه يجب أن يكون بينهما مناسبة ذاتية أو اعتبارية ؟

2 - إنّ النبي الأكرم معصوم من اجتراح الذنوب فما المراد من هذا الذنب ؟

ويجاب عنه : بأنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان متّهماً عند رجال قريش وحلفائها منذ سابق عهدهم به بالكهانة والسحر والجنون والألقاب المزرية المشينة الاُخرى ، وقد سبق أن قلنا بأنّ هذه التهم كانت بمثابة الحرب النفسية لإظهار العداء المقيت بالرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وكان يصعب على النبي صلی اللّه علیه و آله مجابهتها والقضاء عليها وكفّ ألسنة الناس عن التفوّه بها بأي نحو من أنحاء الإعلام المضادّ إلاّ لمن عايشه عن قرب واختبره عن كثب.

ولكنّه صلی اللّه علیه و آله قد منحه اللّه سبحانه ببركة هذا الفتح المبين حيث تمكّن بعد هدم حصون الشرك والوثنية وتطهير الكعبة من آلهة المشركين والاستيلاء على مراكز قوّتهم من الظهور بمظهر العظمة إلى أن تلاشت معه جميع قلاع الشرك وخضعت له الرقاب التي تنصب غروراً وكبرياءً في وجهه.

فأثبت بذلك أنّه منزّه عن الكهانة والسحر والجنون لأنّ المنتسب إلى أحد تلك الأصناف أعجز من أن يقوى على تدبير اُمور نفسه الخاصّة. فكيف يقوم بقيادة جيش جرّار عرمرم يخترق الفيافي والصحارى والقفار على الرغم من كثرة العيون والجواسيس المترصّدة في أنحاء الطرق والمعابر ، ثمّ يباغت العدو في عقر داره وهو في غفلة من أمره فما يلبثوا إلاّ يسيراً حتّى يسلّموا له وتذلّل له أعناق رؤسائهم ، ويبلغ به الأمر إلى

ص: 454

أكثر من ذلك فيواصل زحفه إلى ما وراء مكّة على ثبات من أمره وقوّة وشكيمة.

فالمتصدّي لقيادة تلك الجيوش والتسلّط على ما تمكّن منه بالنحو المتقدّم لابدّ وأن يعد من الرعيل الأوّل من قوّاد الجيوش في العالم وأشدّهم حنكة وحكمة ، فكيف يتبادر إلى الأذهان أمثال تلك الأراجيف إذا كان حاله على ما شاهده الناس به من العظمة والبسالة والحكمة ؟

وتمكّن من خلال هذا الفتح من إزالة كل فرية وتهمة مشينة ألصقها كفّار قريش به أو يمكن أن توصف شخصيته بها في المستقبل ، ولذلك وردت الإشارة إلى ذلك بقوله : ( لِّيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) .

وبذلك يندفع ما تمّ إيراده في السؤالين ، وفي ذلك غنى عن المزيد من الإطالة حيث تبيّن وجود الصلة بين الفتح ومغفرة الذنوب ، كما تبيّن عدم منافاة المغفرة مع العصمة ، فلاحظ.

وفي الختام نقول : إنّه سبحانه قد بشّر النبي الأكرم بالنصر والفتح قبل وقوع الأمر بإنزال سورة النصر. قال سبحانه : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) ( النصر / 1 - 3 ).

لمّا فتح رسول اللّه مكّة قالت العرب : إنّما أظفر محمد بأهل الحرم وقد أجارهم اللّه من أصحاب الفيل فليس لكم به طاقة ، فكان يدخلون في دين اللّه أفواجاً واحداً واحداً ، اثنين اثنين وربّما تدخل القبيلة بأسرها في الإسلام (1).

ص: 455


1- مجمع البيان ، ج 5 ص 553 - 554.

9 - غزوة تبوك

اشارة

كانت بلاد الشام في عصر الرسالة من المناطق التي تخضع لنفوذ إمبراطورية الروم ، وكان شيوخ القبائل تدين بالمذهب المسيحي ، وكانوا أداة طيّعة في أيديها ، ولمّا بلغ أسماع أباطرة الروم خبر استيلاء المسلمين على مكّة ودخول المشركين في الدين الإسلامي أفواجاً ، استشاطوا غضباً وعزموا على حربهم واطفاء نائرتهم ، فأرسلوا إلى رؤساء قبائل « لخم » و « عامله » و « غسّان » و « جذام » يحثّونهم على تكثيف حشودهم وإعداد العدّة لحرب محمد صلی اللّه علیه و آله ومباغتته في عقر داره ليسهل عليهم إخماد أنفاس تلك الدولة الفتيّة ، ولمّا وصل الخبر إلى النبي الأكرم عن طريق القوافل التجارية عزم على حربهم قبل أن يهاجموه ، وكانت تلك الفترة فترة شاع فيها الفقر والشدّة والفاقة.

وقد أمر النبي صلی اللّه علیه و آله بالرحيل في الفصل الذي كانت الثمار فيه على وشك الإيناع.

قال ابن هشام : إنّ رسول اللّه أمر أصحابه بالتهيّؤ وغزو الروم وذلك في زمان من عسرة الناس وشدّة من الحر وجدب من البلاد ، وحين طابت الثمار والناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه وكان رسول اللّه قلّما يخرج لغزوة إلاّ كنّى عنها وأخبر أنّه يريد غير الوجه الذي يقصده إلاّ ما كان من غزوة تبوك ، فإنّه بيّنها للناس لبعد الشقّة وشدّة الزمان ، وكثرة العدو الذي يقصده ليتأهّب الناس لذلك اُهبتهم ، فأمر الناس بالجهاز ، وأخبرهم أنّه يريد الروم.

ولمّا تفرّدت به تلك الغزوة عن سائر الغزوات ببعد الطريق ، والاعتياز إلى مؤن

ص: 456

تكفل حاجة الجند ذهاباً وإيّاباً ، فقد صدرت الأوامر من النبي الأكرم بحشد جميع الإمكانات المتوفّرة لديهم بلا فرق بين الغني والفقير ، ولأجل ذلك ساهم في تدعيم ذلك المجهود الحربي جميع الطبقات والفئات من الرجال والنساء وأصحاب الثروة والعمّال.

وممّن ساهم في تدعيم أمر الجيش عبد الرحمان بن عوف حيث جاء بصرّة من دراهم تملأ الكف ، وفي قبال ذلك أتى من الضعفاء عتبة بن زيد الحارثي بصاع من تمر وقال يا رسول اللّه : عملت في النخل بصاعين فصاعاً تركته لأهلي وصاعاً أقرضته ربّي ، وجاء زيد به أسلم بصدقة ، فقال بعض الناس : إنّ عبد الرحمان رجل يحبّ الرياء ، ويبتغي الذكر بذلك وإنّ اللّه غني عن الصاع من التمر ، فعابوا كلتا الطائفتن : المكثر بالرياء والمقل بالإقلال ، فنزل قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( التوبة / 79 - 80 ).

والحقّ إنّه يوجد في جميع المجتمعات رجال ، لا يحبّون الخير ولا يساهمون فيه ، بل لا يحبّون أن يساهم فيه أحد ويعيبونهم في المساهمة بأي شكل تحقّقت ، فإن ساهم إنسان بالمال الكثير ، يتّهمونه بأنّه يحب الرياء والذكر ، وإن ساهم بمال قليل حقّروه وأهانوه ، هذه شأن تلك الطبقة التي لا يريدون الخير ولا يطلبونه بتاتاً.

تخاذل بعض المؤمنين عن المناصرة

- ومع أنّ الظروف لم تكن مساعدة لحشد الناس بما يقتدر به على حرب العدو الشرس - فقد تمكّن النبي من حشد ثلاثين ألف مقاتل ، ولم يكن لهذا النجاح ( في استنهاض عزائم العرب وجمع قواهم بهذه المثابة ) مثيل في تاريخ العرب ، على

ص: 457

الرغم من الجهود المكثّفة التي كانت يبذلها المنافقون في تثبيط العزائم وإخماد روح الشهادة والفداء في نفوس المسلمين.

وقد ألمح الذكر الحكيم إلى تثاقل جمع من الصحابة ( المؤمنين ) عن الإسهام والمشاركة. قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( التوبة / 38 - 39 ).

وما هو المراد من قوله سبحانه : ( وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) وقد جاءت تلك الجملة في آيات اُخرى أيضاً ؟

قال سبحانه : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ... ) ( المائدة / 54 ) وقال تعالى : ( وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ) ( محمد / 38 ).

وقد فسّرت الآية بأبناء فارس تارة وبأهل اليمن اُخرى وبالذين أسلموا ثالثة ، والحق إنّ الآية تتمتّع عن سعة وعموم تعمّ الطوائف الذين جاءوا بعد نزول الآية ، واتّسموا بما فيها من الصفات ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... ) .

نكوص المنافقين عن القتال

كانت وقعة تبوك محكّاً لتمحيص المسلمين ، وثباتهم على الحق ومفاداتهم الرسول بأنفسهم وأموالهم. كيف وقد كانت المسافة بين المدينة وتبوك تقرب من ستمائة كيلومتراً ، وكانت الركائب المعدّة للمسير تغطّي معشارهم ، وكان زادهم الشعير المسوّس ، والإهالة السخنة والتمر الزهيد ، ففي خضمّ تلك الظروف

ص: 458

العصيبة ، سعى المنافقون لإخماد همم المسلمين ، وكسر شوكتهم ، فكشف اللّه عنهم لقاء تآمرهم على الإسلام ، ما كانوا يبطنونه ويخفونه من ضغائن وأحقاد ، وقد كرّست سورة التوبة ثقلها الأكبر على بيان تآمر اُولئك ، وقد كانوا يتذرّعون بأعذار وترّهات خاوية ، ويستأذنون من النبي للبقاء في المدينة وعدم المساهمة في الجهاد. نعم ما كانوا يعتذرون به لم يكن سبباً حقيقيّاً لتثاقلهم ، وإنّما السبب فيه هو :

1 - علمهم بأنّ النبي لا يصيب غنيمة.

2 - بعد الطريق.

3 - شدّة الحر وحمّارة القيظ.

وقد كشف الوحي عن سرّ تثبّطهم وتثاقلهم وألمع إلى الوجهين الأوّلين بقوله :

( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ( التوبة / 42 ).

وفي هذه الآية إلماع إلى السببين الأوّلين اللّذين عاقاهم عن المساهمة :

1 - يريد أنّه لو كان في ما دعوتهم إليه منفعة قريبة المنال لم يكن في الوصول إليها عناء كبير لاتّبعوك كما يقول : ( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا ) .

2 - لو كان السفر سفراً هيّناً لا تعب فيه لأسرعوا بالنفر إليه إذ حبّ المال أمر طبيعي خصوصاً إذا كانت سهلة المأخذ قريبة المنال كما يقول : ( سَفَرًا قَاصِدًا ) .

ولمّا بعدت عليهم الشقّة أوّلاً ولم يكونوا مطمئنّين بالوصول إلى المال ثانياً انصرفوا عن المساهمة ، ولكنّهم لحفظ مكانتهم بين المسلمين كانوا يحلفون للرسول بعدم استطاعتهم للخروج ، وهم كاذبون في حلفهم كما يقول سبحانه : ( وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) .

ص: 459

وقد ألمع إلى السبب الثالث بقوله : ( فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ) ( التوبة / 81 ).

كان المنافقون يقولون لإخوانهم لا تنفروا في حرّ الصيف واللّه سبحانه فنّد آراءهم وسفّه أحلامهم بأنّ نار جهنّم المعدّة للعصاة أشدّ حرّاً من تلك الأيّام ، لأنّ ذلك الحرّ تحتمله الأجسام وأمّا نار جهنّم فتلفح الوجوه وتنضج الجلود ، وعلى ذلك ينبغي عليهم أن يضحكوا قليلاً وبيكوا كثيراً.

هذه سيرة المنافقين وضعفاء الإيمان في كل عصر يعتذرون في الصيف بشدّة الحرّ ، وفي الشتاء بشدّة البرد ، ولكنّها أعذار ظاهريّة اتّخذوها واجهة لستر ما هو السبب الحقيقي لترك المساهمة.

والتاريخ يعيد نفسه. كان علي علیه السلام يأمر أصحابه بالجهاد ضد العدو وهم يتثاقلون إلى الأرض ، يعتذرون بمثل تلك الأعذار ، يقول الإمام : « فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيّام الصيف ، قلتم : هذه حمارة القيظ أمهلنا يُسَبَّخَ عنّا الحرّ ، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء ، قلتم : هذه صبارّة القرّ أمهلنا ينسلخ عنّا البرد ، أكلّ هذا فراراً من الحرّ والقرّ ، فإذا كنتم من الحرّ والقرّ تفرّون فأنتم واللّه من السيف أفر ، يا أشباه الرجال ولا رجال ! ... » (1).

إلى هنا وقفنا على الأسباب الواقعيّة التي ثبّطت عزائم المنافقين عن المساهمة في الجهاد ، ثمّ إنّهم كانوا ينتحلون الأعذار الواهية ، ليستأذنوا النبي في القعود والتخلّف ، وكان النبي يأذن لهم ، فتزل الوحي وقال : ( عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) ( التوبة / 43 ).

وهل الآية تدلّ على أنّ إذنه صلی اللّه علیه و آله كان على خلاف

ص: 460


1- نهج البلاغة : الخطبة 27.

المصلحة وناجماً عن سوء تدبيره ، وبالتالي كان ذنباً ومعصية ، أو أنّ الآية خرجت لبيان أمر آخر ؟ والصحيح هو الثاني وإليك البيان :

إنّ دراسة الموضوع توقفنا على أنّ إذن رسول اللّه كان مقروناً بالمصلحة إذ لولاه فلا يخلوا حالهم بين أن يكونوا مطيعين أو عاصين ، فلو أطاعوه وساهموا المسلمين لكان ضررهم أكثر من نفعهم لقوله سبحانه : ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ( التوبة / 47 ).

ولأجل أنّ ضررهم كان أكثر من نفعهم ، أمر النبي صلی اللّه علیه و آله أن لا يشاركهم في الجهاد ولو طلبوا منه ، قال سبحانه : ( فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ ) ( التوبة / 83 ).

ولو خالفوا واثّاقلوا إلى الأرض لكان الفساد أعظم ، لأنّ المخالفة الواضحة توجب تهبيط عظمة النبي صلی اللّه علیه و آله عن الأعين وربّما تتّخذ خطة عادية للمنافقين في مجالات اُخر.

ولأجل هذا لمّا استأذنوا أذن لهم وما هذا إلاّ دفعاً للفاسد أو الأفسد.

وبعبارة اُخرى : أنّهم كانوا عازمين على عدم الخروج مع المؤمنين لغزو الروم ، بل كان لهم في غياب النبي صلی اللّه علیه و آله تخطيط ومؤآمرة أبطله النبي صلی اللّه علیه و آله بتخليف عليّ علیه السلام مكانه كما هو مذكور في السيرة ، قال سبحانه : ( وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) ( التوبة / 46 ).

والآية صريحة في أنّهم كانوا عازمين على ترك الخروج وكان الإستئذان نوع تغطية لقبح عملهم فما كانوا يخرجون إلى الجهاد سواء أذن النبي ( صلى اللّه عليه وآله

ص: 461

وسلم ) أم لم يأذن ، لكن صلی اللّه علیه و آله بإذنه حفظ مكانته ومنزلته بين المسلمين.

نعم ، إنّه صلی اللّه علیه و آله بإذنه فوّت مصلحة اُخرى وهو التعرّف على المؤمن وتمييزه عن المنافق ، وتمحيص المطيع عن المتمرّد ولولاه لم يعرف الصديق من العدو عاجلاً.

وليس لحن الآية في مجال تفويت هذه المصلحة لحن العتاب والإعتراض ، بل اُسلوبه اُسلوب عطف وحنان ، وأشبه بإعتراض الولي الحميم على الصديق الوفي ، إذا عامل عدوّه الغاشم بمرونة ولينة ، فيقول بلسان الإعتراض : « لماذا أذنت له ولم تقابله بخشونة حتّى تعرف عدوّك من صديقك ومن وفي لك ممّن خانك. على أنّه وإن فات النبي صلی اللّه علیه و آله معرفة المنافق من هذا الطريق لكنّه لم يفته معرفته من طريق آخر ، صرّح به القرآن في غير هذا المورد ، فإن النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان يعرف المنافق وغيره من المؤمن من طريقين آخرين.

1 - كيفيّة الكلام ، ويعبّر عنه القرآن بلحن القول وذلك إنّ الخائن مهما أصرّ على كتمان خيانته ، تظهر بوادرها في ثنايا كلامه ، قال أمير المؤمنين علیه السلام : « ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » وفي ذلك يقول سبحانه : ( وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) ( محمد / 30 ).

2 - التعرّف عليهم بتعليم منه سبحانه ، قال : ( مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ) ( آل عمران / 179 ) والدقّة في الآية تفيد بأنّ اللّه سبحانه يجتبي من رسله من يشاء ويطلعه على الغيب ، ويعرف من هذا الطريق الخبيث ويميّزه عن الطيّب.

وعلى ذلك فلم يفت النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله شيء وإن فاتته

ص: 462

معرفة المنافق من هذا الطريق ولكنّه وقف عليها من الطريقين الآخرين.

وعلى كل تقدير فاستئذان اُولوا الطول منهم لترك الخروج آية النفاق ، كما أنّ مساهمتهم آية الإيمان ، يقول سبحانه : ( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة / 86 - 89 ).

نعم استثنى سبحانه ذوي الأعذار وهم الضعفاء ، والمرضى والفقراء ، فإنّ هذه الأصناف الثلاثة لا حرج عليهم ولا إثم في قعودهم عن الجهاد الواجب ، قال سبحانه : ( لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى المَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( التوبة / 91 - 93 ).

الاعتذار بالخوف من نساء الروم

ثمّ إنّ بعضهم اعتذر بأنّه يخشى من نساء بني الأصفر فقال : يا رسول اللّه : « إئذن لي ولا تفتني فو اللّه لقد عرف قومي أنّه ما من رجل بأشدّ عجباً بالنساء منّي وإنّي أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر » فأعرض عنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : لقد أذنت لك ، فنزلت في حقّه هذه الآية : ( وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ( التوبة / 49 ).

ص: 463

والمراد أنّه انّما خشي الفتنة من نسائهم ولكن ما سقط فيه من الفتنة أكبر لتخلّفه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجزاؤه جهنّم (1).

ثمّ خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن المدينة وضرب عسكره على ثنية الوداع وخلّف علي بن أبي طالب ( رضوان اللّه عليه ) على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون وقالوا : ما خلّفه إلاّ إستثقالاً له وتخفّفاً منه ، فلمّا قال ذلك المنافقون أخذ علي بن أبي طالب ( رضوان اللّه عليه ) سلاحه ثمّ خرج حتّى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو نازل بالجرف ، فقال : يا نبي اللّه ، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني لأنّك استثقلتني وتخفّفت منّي ، فقال : كذّبوا ، ولكنّي خلّفتك لما تركت ورائي ، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا علي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلاّ انّه لا نبي بعدي ، فرجع علي إلى المدينة ، ومضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على سفره (2).

حديث تخلّف الثلاثة

ثمّ إنّه تخلّف بعضهم لا عن نفاق بل عن توان وهم : كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن اُميّة. فلمّا قدم النبي صلی اللّه علیه و آله المدينة جاءوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم النبي صلی اللّه علیه و آله وتقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم ، فهجرهم الناس حتى الصبيان ، وجاءت نساؤهم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقلن له : يا رسول اللّه نعتزلهم ؟ فقال : لا ولكن لا يقربوكنّ ، فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال ، وكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام ولا يكلّمونهم ، فقال بعضهم لبعض : قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم فهلاّ نتهاجر نحن أيضاً ، فتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان وبقوا على ذلك خمسين

ص: 464


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 516.
2- السيرة النبويّة ج 2 ص 520.

يوماً يتضرّعون إلى اللّه تعالى ، فقبل اللّه توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية (1) :

( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبه / 118 ).

والذي يستفاد من هذا القرار الحاسم الذي أصدره النبي صلی اللّه علیه و آله في شأن اُولئك ، إنّ الدواء الناجع لعلاج كل تصدّع يطرأ على الجبهة الإسلامية يتمثّل في فرض الحصار وتضييق الخناق على العدوّ ليستأصل كلّياً قبل استفحال أواره ، ، واشتداد شوكته.

وبعبارة اُخرى : نستخلص درساً هامّاً لحياتنا في مستقبلها المصيري من موقف النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله هذا وهو أنّه كلّما شعرت القيادة الإسلامية بخطر يترقّب من أقلّية تسكن داخل البلاد الإسلامية ، فإنّه يجب عليها أن تفرض عليها الحصار الإقتصادي وتستنهض عزائم المسلمين للمجابهة الصارمة مع اُولئك ليرتدعوا عن بكرة أبيهم عمّا كانوا عليه من شطط وإيذاء للمسلمين.

نرى في البلاد الإسلامية أقلّيات مذهبية من غير المسلمين وقد بلغوا الذروة في الثروة وجمع المال وامتصّوا دماء المسلمين في عقر دارهم ، واستنفدوا قواهم وسخّروهم لصالح منافعهم الخاصّة على غفلة من أمرهم ، وما هذه الظاهرة إلاّ لأنّ الأكثرية صارت دمية بيد اُولئك لتشتّت المسلمين وإنقسامهم على أمرهم ، فلو قام المسلمون بأعمال السياسة التي قام بها النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله في العام التاسع من الهجرة وضربوا الحصار على تلك الأقلّية بأن يقطعوا الأواصر الإقتصادية مع هؤلاء ، لدحضت مخطّطاتهم ولردّ كيدهم إلى نحورهم.

ص: 465


1- ونقله القمّي في تفسيره بصورة مفصّلة ، ومن أراد فليرجع إلى ج 2 ص 278 - 280 ، لاحظ مجمع البيان ج 3 ص 79.

هذا ما يرجع إلى الأقلّيات المذهبية في داخل البلاد الإسلامية وأمّا القوى الكافرة الخارجة عنها فيجب كبح جماحهم بشكل آخر وهو :

إنّ المسلمين اليوم يملكون زمام الطاقة الحياتية المتمثّلة في النفط والتي تمثّل عصب الحضارة الحديثة ، فلو أنّهم امتنعوا عن إعطاء ثروتهم النفطية للقوى الكبرى ، لتوقّفت واُصيبت الحياة الصناعية والإقتصادية بشكل رهيب. واضطرّت على أثرها للرضوخ للواقع والإعتراف بحقوق المسلمين المشروعة.

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) والتفصيل موكول إلى محل آخر.

مسجد ضرار

كان النبي صلی اللّه علیه و آله على جناح السفر إلى تبوك إذ وفد جماعة من بني غنم ابن عوف وطلبوا منه أن يأتيهم ويصلّي في مسجدهم الذي بنوه في حيّهم وقالوا : إنّا بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحب أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعوا بالبركة ، فقال لهم : إنّي على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم إن شاء اللّه.

فلمّا انصرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من تبوك وأراد الصلاة فيه نزلت عليه آية في شأن المسجد وهي :

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

ص: 466

الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة / 107 - 109 ).

وفي حقيقة الأمر كان إنشاء هذا البناء لأجل غاية خبيثة وأهداف مستبطنة منها بثّ الفرقة والشقاق بين صفوف المسلمين ، ومنها جعل هذا المكان ملجأً لأبي عامر الراهب وهو من أشد محاربي اللّه ورسوله وكان من قصّته أنّه قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح ، فلمّا قدم النبي صلی اللّه علیه و آله المدينة حسده وحزّب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصّر وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي قتل مع النبي صلی اللّه علیه و آله في واقعة اُحد وكان جنباً فغسّلته الملائكة.

وسمّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبا عامر : « الفاسق » ، وقد كان أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا وابنوا مسجداً فإنّي أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود واخرج محمداً صلی اللّه علیه و آله من المدينة ، فكان المنافقون يتوقّعون أن يجيئهم أبو عامر ، فبنوا هذا المسجد لتلك الغاية.

فلمّا نزلت الآية أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الأخشم بهدم المسجد وتحريقه ، وروي أنّه بعث عمّار بن ياسر ووحشي أن يحرقاه وأمر بأن يتّخذ كناسة يلقى فيها الجيف.

وهذه المؤامرة لم تكن الاُولى في تاريخ النبي صلی اللّه علیه و آله فإنّ القوى الكافرة ما برحت تبذل جهودها في البلاد الإسلامية من خلال إنشاء المشاريع الخيرية كالكنائس والمستشفيات وملاجئ الأيتام ومعاهد التربية والتعليم لتأصيل بذور عوامل الإختلاف بين المسلمين ، وتضعيف عقائدهم وافسادهم إلى حد تبلغ بهم فيه إلى مسخ شخصيتهم الإسلامية.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدل على أنّ المشاريع الخيرية أفضل وسيلة للنفوذ إلى أوساط المسلمين وتنفيذ مآربهم العدائية المحاكة ضدّهم.

ص: 467

وفي الواقع أنّ الخطّة التي تنتهجها القوى الكافرة غالباً للقضاء على الإسلام والمسلمين تكمن في إستغلال الصبغة الدينية التي تدين بها الشعوب الإسلامية لضرب الإسلام والإنسانية باسم الإسلام نفسه وتحت شعارات دينية تنبع من أهدافه في ظاهر أمرها.

وقعة تبوك :

فلمّا انتهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى تبوك أتاه صاحب أيله (1) وأهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية ، فكتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهم كتاباً ، فأقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تبوك بضعة عشر ليلة ولم يجد من العدو فيها أثراً فرجع إلى المدينة قافلاً.

تآمر المنافقين على النبي صلی اللّه علیه و آله :

روى المفسّرون أنّ اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند رجوعه من تبوك فأخبر جبرئيل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم ، وعمّار كان يقود دابّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحذيفة يسوقها ، فقال حذيفة اضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحّاهم ، فلمّا نزل قال لحذيفة من عرفت من القوم ؟ قال : لم أعرف منهم أحداً ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّه فلان وفلان حتى عدّهم كلّهم ، فقال حذيفة : ألا تبعث إليهم فتقتلهم ؟ فقال : أكره أن تقول العرب لمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم (2).

روى الواقدي : لمّا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بعض

ص: 468


1- مدينة في فلسطين.
2- مجمع البيان ج 3 ص 46.

الطريق مكر به اُناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق ، فلمّا بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه ، فأخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خبرهم.

فقال للناس : اسلكوا بطن الوادي فإنّه أسهل لكم وأوسع ، فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله العقبة وأمر عمّار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه ، فبينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يسير في العقبة إذ سمع حسيس القوم قد غشّوه ، فغضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأمر حذيفة أن يردّهم ، فرجع حذيفة إليهم وقد رأوا غضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده ، وظنّ القوم انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد اطّلع على مكرهم فانحطّوا من العقبة مسرعين حتّى خالطوا الناس.

وأقبل حذيفة حتّى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فساق به ، فلمّا خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من العقبة نزل الناس فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : يا حذيفة هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم ؟ قال : يا رسول اللّه عرفت راحلة فلان وفلان وكان القوم متلثّمين فلم أبصرهم من أجل ظلمة الليل ، فنزلت في حقّهم هذه الآية :

( يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ) ( التوبة / 64 - 65 ) (1).

ص: 469


1- المغازي للواقدي ج 3 ص 1042 - 1043.

ص: 470

(11) البراءة من المشركين

اشارة

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا فتح مكّة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة ، وكانت سنّة العرب في الحج أنّه من دخل مكّة وطاف البيت في ثيابه لم يحلّ له امساكها ، وكانوا يتصدّقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف ، فكان من وافى مكّة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثم يردّه ، ومن لم يجد عارية ولا كراءً ولم يكن له إلاّ ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً.

فجاءت امرأة من العرب حسناء جميلة فطلبت ثوباً عارية أو كراءً فلم تجده ، فقالوا لها : إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدّقي بها ، فقالت : كيف أتصدّق وليس لي غيرها ؟ فطافت بالبيت عريانة ، وأشرف لها الناس ، فوضعت احدى يديها على قبلها والاُخرى على دبرها ، وقالت شعراً :

اليوم يبدو بعضه أو كلّه *** فما بدا منه فلا أحلّه

فلما فرغت من الطواف ، خطبها جماعة ، فقالت : إنّ لي زوجاً. وكانت سيرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلاّ من قاتله ، ولا يحارب إلاّ من حاربه وأراده ، فكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يقاتل أحداً قد تنحّى عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة البراءة ، وأمره بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلاّ الذين قد عاهدهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم فتح مكّة إلى مدة ، منهم : صفوان بن اُميّة وسهيل بن عمرو ، فقال اللّه عزّ وجلّ : ( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) ثمّ يقتلون حيثما وجدوا بعد.

ص: 471

هذه أشهر السياحة : عشرين من ذي الحجة ومحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر.

فلمّا نزلت الآيات من سورة البراءة دفعها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أبي بكر وأمره أن يخرج إلى مكّة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر ، فلمّا خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : يا محمّد لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك.

فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمير المؤمنين علیه السلام في طلب أبي بكر ، فلحقه بالروحاء وأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : يا رسول اللّه أنزل اللّه فيّ شيئاً ؟ فقال : لا إنّ اللّه أمرني أن لا يؤدّي عني إلاّ أنا أو رجل منّي (1).

هذا مجمل ما روته الشيعة حول حادثة نزول السورة وهو بنفسه جاء في كتب أهل السنّة في مصادر جمّة من حديث وتفسير ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تفسير الطبري والسيوطي في تفسير الآية ، ولكن لإلقاء المزيد من الضوء على تلك الحادثة نبحث عن اُمور :

1 - لماذا لم يحجّ النبي صلی اللّه علیه و آله بنفسه في هذا العام ؟

روى المفسّرون أنّه أقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من تبوك فأراد الحج ، فقيل له : إنّه يحضر المشركون فيطوفون عراة ، فقال : لا أحبّ أن أحجّ حتّى لا يكون ذلك (2).

ويؤيّد ذلك قصة المرأة التي طافت بالبيت الحرام عريانة كما عرفت.

ص: 472


1- تفسير القمي : ج 1 ص 281 - 282.
2- تفسير الطبري ، ج 11 ص 44.

2 - اختلفت الرواية في عدد الآيات التي بعث النبي صلی اللّه علیه و آله عليّاً علیه السلام بها ليقرأها يوم الحجّ الأكبر على المشركين ويرفع الأمان عنهم.

فقد روى الطبري عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا :

بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبا بكر أميراً على الموسم سنة تسع وبعث علي بن أبي طالب رضی اللّه عنه بثلاثين أو أربعين آية من سورة براءة فقرأها على الناس يؤجّل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض ، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة أجّل المشركين عشرين من ذى الحجة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر (1).

وروى السيوطي في الدر المنثور قال : أخرج عبد اللّه بن أحمد بن حنبل في زوائد السند وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي رضی اللّه عنه قال : لمّا نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلی اللّه علیه و آله دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة ثمّ دعاني فقال لي : أدرك أبا بكر فحيث ما لقيته فخذ الكتاب منه (2).

روى البحراني في تفسيره عن مصادر وثيقة ، روايات تنتهي إلى أبي هريرة وأنس وأبي رافع وزيد بن نفيع وابن عمر وابن عباس - واللّفظ للأخير : إنّه لمّا نزل ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ ) إلى تسع آيات أنفذ النبي أبا بكر إلى مكّة لأدائها ، فنزل جبرئيل وقال : إنّه لا يؤدّيها إلاّ أنت أو رجل منك ، فقال النبي لعلي : إركب ناقتي العضباء وإلحق أبا بكر وخذ براءة منه (3).

والرواية الثانية والثالثة أوفق بمضمون الآيات وما يمس بالقضية لا يتجاوز الآية العاشرة وربّما تزيد قليلاً ، مضافاً إلى أنّ الرواية الاُولى فيها من الشذوذ ما لا يخفى ، وسيوافيك أنّ عليّاً علیه السلام قد قرأ يوم النحر لا يوم عرفة وأنّه رفع الأمان عن

ص: 473


1- نفس المصدر السابق.
2- الدر المنثور : ج 10 ص 122.
3- تفسير البرهان ج 2 ص 105.

المشركين منذ يوم التلاوة وكان يوم العاشر من ذي الحجة لا العشرين منه.

وإليك الآيات العشر الواردة في شأن تلك القصة نسوقها إليك لتقف عن كثب على مضمونها وما ورد فيها حول تلك الحادثة :

قال عزّ من قائل : ( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاَّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ ) ( براءة / 1 - 10 ).

3 - لماذا عزل النبي صلی اللّه علیه و آله أبا بكر عن مهمّة التبليغ :

قد تضافرت النصوص على أنّه لمّا نزلت عشر آيات من أوّل سورة براءة دعا النبي صلی اللّه علیه و آله أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة ثّم دعا عليّاً علیه السلام فقال له : أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكّة فاقرأه عليهم ، فخرج علي علیه السلام من المدينة فلحق أبا بكر في الجحفة وأخذ

ص: 474

الكتاب منه ، ورجع أبو بكر إلى المدينة مستاءً فقال للنبي صلی اللّه علیه و آله : أنزل فيّ شيء ؟ قال : لا ، ولكن جبرئيل جاءني فقال : لن يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك (1).

وهناك صور اُخرى للحديث يقرب بعضها من بعض ويتّحد الكل في إفادة معنى واحد لمضمون القصّة.

قال البغوي في تفسيره : لمّا كانت سنة تسع وأراد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يحج قيل له : إنّه يحضر المشركون فيطوفون عراة ، فبعث أبا بكر تلك السنة أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه أربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم ، ثم بعث بعده عليّاً ( كرم اللّه وجهه ) على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذّن بمكّة ومنى وعرفة : أن قد برئت ذمة اللّه وذمّة رسوله من كلّ مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان. فرجع أبو بكر فقال : يا رسول اللّه بأبي أنت واُمّي أنزل في شأني شيء ؟ قال : لا ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلّغ هذا إلاّ رجل من أهلي (2).

وعند الرجوع إلى طرق وأسانيد هذه القصة في المجامع الحديثية والتفسيرية المهمّة يظهر بجلاء وجود تواتر معنوي أو إجمالي لوقوع القصة أعني استرداد الآيات من أبي بكر وتشريف أمير المؤمنين بتبليغها ونزول الوحي المبيّن بأنه لا يبلّغ عنه إلاّ هو أو رجل من أهل بيته وإن اشتملت القصة على بعض الخصوصيّات التي تفرّد بها بعض الطرق والمتون (3).

ص: 475


1- الدر المنثور ج 3 ، ص 209 ، كنز العمال ج 1 ص 247 ، تاريخ ابن كثير ج 5 ص 38.
2- تفسير البغوي : ج 2 ص 267.
3- وقد جمع العلاّمة الأميني كافة صور الحديث بطرقه المختلفة المسندة منها والمرسلة في موسوعته الثمينة الغدير ونقله عن ثلاثة وسبعين محدّثاً ومفسّراً ومؤرّخاً لاحظ ج 6 ص 338 - 350.

وإلى تلك الفضيلة يشير شمس الدين المالكي ( ت 780 ه ) في قصيدته :

وإنّ عليّاً كان سيف رسوله *** وصاحبه السامي لمجد مشيّد

إلى أن قال :

وأرسله عنه الرسول مبلّغاً *** وخصّ بهذا الأمر تخصيص مفرد

وقال هل التبليغ عنّي ينبغي *** لمن ليس عن بيتي من القوم فاقتد (1)

وحينئذ يأتي الكلام على الوازع الذي دفع الوحي الإلهي إلى عزل أبي بكر وتنصيب عليّ علیه السلام مكانه فقد ذكرت في المقام وجوه نشير إليها :

1 - ما ذكره الآلوسي في روح المعاني بقوله : ليس في شيء من الروايات ما يدلّ على أنّ عليّاً علیه السلام هو الخليفة بعد رسول اللّه دون أبي بكر ، وقوله : « لا يبلّغ عنّي غيري أو رجل منّي » سواء كان بوحي أو جار على عادة العرب أن لا يتولّى تقرير العهد ونقضه إلاّ رجل من الأقارب لتنقطع الحجّة بالكلّية (2).

ويؤاخذ عليه :

أوّلاً : بأنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله برّر عزل أبي بكر بأنّه نزل جبرئيل على « أنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك » ولو كانت لما ذكره القائل مسحة من الحق لكان على النبي صلی اللّه علیه و آله أن يقول السنّة الجارية عند العرب هي أن لا ينقض العهد إلاّ عاقده أو رجل من أهل بيته ، مع إنّا نرى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لم يذكره أبداً.

وثانياً : إنّ ابن كثير لم يذكر لتلك السنّة العربية مصدراً ولا خبراً عنها في أيّامهم ومغازيهم ، ولو صحّت السنّة لكانت سنّة عربيّة جاهليّة فما وزنها في الإسلام ؟ وما

ص: 476


1- نفح الطيب ج 4 ص 603.
2- روح المعاني : ج 10 ص 45 ، وقد أخذه عن تفسير ابن كثير ، ج 2 ، ص 331.

هي قيمتها عند النبي ؟ وهو صلی اللّه علیه و آله كان ينسخ كل يوم سنّة جاهليّة وينقض كل حين عادة قوميّة ، وقد قال يوم فتح مكّة : « ألا إنّ كلّ مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج » (1).

وثالثاً : لو افترضنا أنّ هذه السنّة كانت سنّة عربيّة محمودة فهل كان رسول اللّه ذاهلاً عنها وناسياً لها حين سلّم الآيات بيد أبي بكر وأرسله وخرج إلى طريق مكّة ؟ فعندما كان في بعض الطريق ذكر النبي صلی اللّه علیه و آله ما نسيه أو ذكّره بعض من كان عنده بما أهمله وذهل عنه من أمر كان الواجب مراعاته ، مع أنّ هذه السنّة لو كانت رائجة لما كان للنبي ولمن حوله أن يغفلوا عنها ثم يتذكّروها ، فهل الذهول عنها إلاّ كذهول المقاتل عن سلاحه والحارس عن حربته ؟

ورابعاً : إنّ عليّاً علیه السلام لم يبعث لمجرّد نقض العهد وحده ، وإنّما بلّغ أحكاماً لم تكن داخلة في ضمن العهد ، فقال : « يا أيّها الناس لا يحجّ بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول اللّه عهد فهو له إلى مدّته ... الخ » (2).

وبالجملة فلم تكن رسالة الإمام علي علیه السلام مقصورة على مجرّد تلاوة طائفة من سورة براءة بل تعدّت إلى تبليغ أحكام قرآنية اُخرى نزل بها جبرئيل عن اللّه سبحانه على رسوله حيث اخبر فيها بأنّه « لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك ».

هذا هو التبرير الذي إرتآه ابن كثير وجنح إليه الآلوسي في تفسيره.

وهناك زمزمة اُخرى تفوّه بها صاحب المنار واستحسنها شلتوت في تفسيره حيث قال الأوّل : « إنّ الصدّيق كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال وكان عليّ أسد اللّه ومظهر جلاله ، ولأجل ذلك فوّض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر ، فكان هناك عينين فوّارتين يفور من أحدهما صفة الجمال ومن

ص: 477


1- السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 412.
2- السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 546.

الاُخرى صفة الجلال في ذلك المجمع العظيم الذي كان انموذجاً للحشر ومورداً للمسلم والكافر » (1).

وصاحب المنار عندما ينقله عن بعض أهل السنّة يعود فينتقده بقوله : « ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبي فإنّه علّل تبليغ علي نبذ العهود عنه بكونه من أهل بيته وهو ينافي أن تكون النكتة المذكورة علّة ، فهو لا يأبى أن تكون حكمة ».

وصاحب المنار وإن أتى ببعض الحق ولكن غفل عن البعض الآخر وهو إنّ أهل بيت النبي صلی اللّه علیه و آله لم يكونوا منحصرين في عليّ وحده ، بل كانوا عدّة كثيرة كعمّه العباس وأبناء أبي طالب كطالب وعقيل وغيرهم ، فلماذا - يا تري - اختار عليّاً وحده من دونهم ؟

والحق أن يقال : إنّ عزل أبا بكر ونصب عليّ مكانه لم يكن إلاّ لأمر سياسى ودينى يتلخّص في الأمر التالي :

وهو إنّ نقض وإبرام المواثيق والعهود من الاُمور الحكومية التي يمارسها الحاكم المدني أو الشرعي ولا يحق لغيره التدخّل فيها ، فالنبي الأكرم نوّه بعمله هذا إلى أنّ الإنسان اللائق بهذه المهام في حياته - وبطريق أولى بعد وفاته - هو علي بلا منازع ، الذي هو منه (2) فهو اللائق والمسؤول بحكم النيابة عن النبي صلی اللّه علیه و آله للتصدّي لشؤون الخلافة والحكومة ولا يختصّ شأن علي بالاُمور السياسية وحده بل هو المبلّغ لأحكام شرعيّة لم يبلّغه النبي صلی اللّه علیه و آله لأجل ظروف قاسية فهو الزعيم للاُمة في الاُمور السياسية والشرعية.

ومن العجب العجاب ما يرى من تساهل الرواة والمؤرّخون في نقل هذه الفضيلة ، ونسوق إليك بعض الصور المختلفة لهذه القصّة في كتب الحديث :

ص: 478


1- تفسير المنار ج 10 ص 193 ، تفسير القرآن المجيد للشيخ محمود شلتوت ص 615.
2- نظير ذلك ما ورد في آية المباهلة حيث قال سبحانه : ( تَعَالَوا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وابْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وانْفُسَنَا وانْفُسَكُمْ ... ) ( آل عمران / 61 ).

1 - ما يحكى انّ عليّاً اختصّ بتأدية براءة واُخرى تدلّ على أنّ أبا بكر شاركه فيه ، واُخرى تدلّ على أنّ أبا هريرة شاركه في التأدية ، ورجال آخرون لم يسمّوا في الروايات.

2 - ما يدل على أنّ الآيات كانت تسع آيات ، واُخرى عشراً ، واُخرى ستّة عشر ، واُخرى ثلاثين ، واُخرى ثلاثاً وثلاثين ، واُخرى سبعاً وثلاثين ، واُخرى أربعين ، واُخرى سورة براءة.

3 - ما يدلّ على أنّ أبا بكر ذهب لوجهه أميراً على الحاج ، واُخرى على أنّه رجع وأوّله بعضهم كابن كثير إنّه رجع بعد إتمام الحج ، وآخرون انّه رجع ليسأل النبي صلی اللّه علیه و آله عن سبب عزله ، وفي رواية أنس انّه صلی اللّه علیه و آله بعث أبا بكر ببراءة ثمّ دعاه فأخذها منه.

4 - ما يدل على أنّ الحجّة وقعت في ذي الحجّة وإنّ يوم الحجّ الأكبر تمام أيّام تلك الحجّة أو يوم عرفة أو يوم النحر أو اليوم التالي ليوم النحر أو غير ذلك ، واُخرى إنّ أبا بكر حجّ في تلك السنة في ذي القعدة.

5 - ما يدل على أنّ أشهر السياحة تأخذ من شوال ، واُخرى من ذي القعدة واُخرى من عاشر ذي الحجّة ، واُخرى من الحادي عشر من ذي الحجّة وغير ذلك.

6 - ما يدل على أنّ الأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم من تلك السنة ، واُخرى على أنّها أشهر السياحة تبتدئ من يوم التبليغ أو يوم النزول (1).

4 - مبدأ أمد الهدنة :

إنّ اللّه سبحانه ورسوله صلی اللّه علیه و آله قد رفعا الأمان عن المشركين الناقضين للعهود إلاّ إنّه تمّ إمهالهم مدّة أربعة أشهر وحيث قال سبحانه :

ص: 479


1- الميزان : ج 9 ص 175 ، ولاحظ تفسير الطبري ج 9 ص 42.

( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( براءة / 2 و 3 ).

وأمّا مبدأ هذه الهدنة هو يوم الحجّ الأكبر الذي هو يوم الإبلاغ والإنذار.

والأوفق بسماحة الإسلام أن يبتدأ أمدها من حين الإعلان والإنذار لا من حين إنشاء الحكم الذي ربّما يتقدّم على إعلامه.

فإذا فرضنا أنّ يوم الحجّ الأكبر هو يوم النحر العاشر من ذى الحجّة كان آخر الأمد هو العاشر من ربيع الآخر.

وأمّا من جعل مبدأ الإنذار يوم العشرين من ذى القعدة فعليه تنتهي الهدنة بمرور عشرين يوماً من ربيع الأول يتوقف.

وعند ذلك يتوجّه سؤال وهو : أنّه إذا كان نهاية الأمد هو العاشر أو العشرين من ربيع الآخر فكان يجب على المسلمين الصبر حتّى ينتهي ذلك الأمر مع أنّه سبحانه يأمر بقتلهم عند انسلاخ الأشهر الحرم أي في نهاية محرّم الحرام وإطلالة شهر صفر ، قال سبحانه :

( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / 5 ).

والجواب عن ذلك : إنّ المراد من الأشهر الحرم هي الأشهر الأربعة الواردة في الآية المتقدّمة التي حرّم اللّه سبحانه قتال المشركين فيها وتبتدئ من يوم النحر وتنتهي في يوم العاشر من ربيع الآخر ، واللام في الأشهر الحرم للعهد الذكري إشارة إلى الأربعة المذكورة في الآية المتقدّمة ، وليس المراد منه الأشهر الحرم المعروفة التي حرّم فيها الحرب في الإسلام وما قبله بل تمتد جذوره إلى عهد الأنبياء السالفين لأنّه

ص: 480

سبحانه يعد التمسّك بحرمة الحرب فيها جزءاً من الدين القيّم ويقول :

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) ( التوبة / 36 ).

وبذلك يظهر ضعف سائر الأجوبة التي ذكرت في المقام فلا نطيل بذكرها.

5 - ما هي الوثيقة التي بلّغها أمير المؤمنين علیه السلام بعد تلاوة الآيات

لقد اختلفت الروايات في بيان صورة النصّ الذي تضمّن الإنذار السماوي في هذه الحادثة وإليك صوره المختلفة :

أ - أن لا يدخل مكّة مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوف بالكعبة عريان ولا تدخل الجنّة إلاّ نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول اللّه عهد فعهده إلى مدّته ، وفي بعض النصوص مكان مكّة لا يقرب المسجد الحرام مشرك.

ب - لا تدخل الجنّة إلاّ نفس مسلمة ، ولا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه ... الخ.

ج - لا يقرب البيت بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا تدخل الجنّة إلاّ نفس مسلمة ، وأن يتم كل ذي عهد عهده (1) ولكن بيان حصر استحقاق الجنّة في المسلم لم يكن شيئاً جديداً لم يعهد في صدر الرسالة ، فعدّ ذلك في سياق الوثيقة لا يخلو من غرابة وغموض.

6 - لماذا دفع اللّه سبحانه الأمان عن المشركين ؟

هذا هو السؤال الأكثر أهمّية في تفسير آيات هذه السورة وذلك إنّ الدعوة

ص: 481


1- لاحظ تفسير الطبري ج 49 ص 46 - 47.

المحمدية كانت مبنية على أساس البراهين العقليّة والعلميّة كما كانت مبنيّة على رفع الإكراه في الدين.

قال سبحانه : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ( البقرة / 256 ).

مع إنّا نجد في هذه الآيات ما يعلن صريحاً مجابهة المشركين بلاهوادة ويخيّرهم بين طريقين لا ثالث لهما إمّا العزوف عن الشرك والدخول تحت لواء التوحيد وإمّا ترقّب الحرب بعد انقضاء أربعة أشهر من تاريخ بدء إعلان البراءة في قوله سبحانه : ( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ) .

وهذا هو الذي أثار تساؤل الكثير من المحقّقين والباحثين في العصور المتأخّرة ويمكن الجواب عنه بأحد وجهين :

1 - إنّ البراءة كانت مختصّة بالمشركين الذين كان لهم مع رسول اللّه عهد ، ولكنّهم غدروا وخانوا ونقضوه. فلأجل ذلك لم يكن بد من رفض العهد المنقوض من جانبهم ، وكانوا في كل زمن على أهبة الهجوم على المسلمين فلا يصحّ لقائد الإسلام السكوت وتركهم حتى يتآمروا على الإسلام والمسلمين وإليك تفصيل ذلك :

إنّ هذه الآيات ترفع الأمان عن الذين عاهدوهم من المشركين لأجل أنّهم لا وثوق بعهدهم بشهادة أنّهم لم يراعوا حرمة العهد ونقضوا ميثاقهم وقد أباح سبحانه في تلك الفتره إبطال العهد بالمقابل نقضاً بنقض قال سبحانه :

( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ ) ( الأنفال / 58 ).

فأباح إبطال العهد عند مخافة الخيانة ولم يرض مع ذلك إلاّ إبلاغ النقض إليهم لئلاّ يؤخذوا عن غفلة من أمرهم فيكون ذلك من الخيانة.

والدليل على أنّ ذلك الرفع لم يكن جزافاً هو أنّ الآيات استثنت المتثبين على العهد وقالت : ( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ) ( التوبة / 4 ).

ص: 482

وقال أيضاً : ( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ) ( التوبة / 7 ).

والآيات تصرّح بأنّ استسلامهم أمام قدرة المسلمين إنّما كان لما يعانونه من ضعف وذلّة ، فلو سنحت لهم الأقدار وامتلكوا العدد والعدّة لعاودوا الهجوم على المسلمين وأبادوهم عن بكرة أبيهم وفي ذلك يقول سبحانه : ( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ) ( التوبة / 8 ).

وقال سبحانه في موضع آخر : ( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( التوبة / 13 ).

فكل هذه الآيات التي تلوناها عليك وما لم نتلوه صريح في أنّ رفع الأمان كان مختصّاً بلفيف من المشركين الذين كان بينهم وبين الرسول عهد وميثاق ولكنّهم قد نقضوا تلك العهود والمواثيق فحقّت عليهم كلمة العذاب وباؤوا بغضب من اللّه تعالى على غضب.

وأمّا الذين التزموا بمواثيقهم أو لم يكن بينهم وبين الرسول أي ميثاق وعهد وما كان يخشى منهم الخيانة والغدر والقتال للمسلمين فهؤلاء لا تشملهم هذه الآيات.

وأمّا ما هو واجب القائد الإسلامي أمام الطائفة الاُولى بعد انتهاء عهدهم أو ما هي وظيفته أمام الطائفة الثانية منهما - أعني من ليس له عهد بينه وبين القيادة الإسلامية ولا يتوقّع منه أيّة خيانة - فتفصيله وبيانه موكول إلى القسم السياسي من الفقه الإسلامي. وسنبيّن حكمه في البحث الآتي.

ثمّ إنّ في هذه الآيات دلالة صريحة على أنّ الإسلام كان يكن للمشركين بما فيهم الناقضون للعهود ، الشفقة والرحمة بأبعادهما المختلفة ، نسوق إليك نموذجين منها :

ص: 483

أ - إنّه إذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقّة ويتبعها أن اتضحت له ، كان من الواجب إجارته حتّى يسمع كلام اللّه ويرفع عن بصيرته غشاوة الجهل ، وفي ذلك يقول سبحانه : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ) ( براءة / 6 ).

وما ذلك إلاّ لأنّ صرح الدعوة الإسلامية يعتمد على ركيزة تهدف إلى انتشال الناس عن الغي والضلال والانحراف والفساد ، ولازم ذلك بذل العناية المكثّفة في سبيل الوصول إلى هذه الغاية المنشودة وإن ضعف احتمال التأثير وقلّة نسبته.

ب - إنّ المشرك المتحرّف عن العهود والمواثيق لو أظهر التوبة والندامة وشهد على توبته قيامه بالفرائض الدينية كالصلاة والزكاة تقبل توبته ويعد في عداد المسلمين فيشمله من الحقوق ما للمسلمين ، قال سبحانه : ( فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) ( التوبة / 11 ).

هذا ما يرجع إلى توضيح هذه الآيات وبيان الأسرار التي تضمّنتها.

2 - نحن نفترض انّ البراءة كانت عامّة لجميع المشركين الذين يعيشون في ظل الحكومة الإسلامية وانّها لا تعترف بعد نزول هذه الآيات بدين الشرك أبداً ، وإنّما تعترف بالشرائع الإلهية الإبراهيمية. وتصوّر أنّ ذلك لا يجتمع مع حريّة الإنسان في عقيدته وفكره ، فكر خاطئ يظهر من البحث الآتي الذي عقدناه لبيان الجهاد الإبتدائي ، جهاد دفاعي في الحقيقة وهو مع صلته بالموضوع بحث قرآني مستقل.

الجهاد الإبتدائي ، جهاد دفاعي في الحقيقة

إنّ البحث عن آيات الجهاد وإن كان يحتاج إلى تأليف رسالة مفصّلة تبحث عن هذه الآيات ، وتبيّن خصوصيّاتها ونكاتها غير اننّا إستكمالاً لما ذكرناه نقف عندها وقفة قصيرة حتّى يتّضح هدف الآيات ، فنقول :

إنّ الآيات الواردة حول الجهاد وما يرتبط بها من قريب أو بعيد تنقسم إلى

ص: 484

طوائف خمس لابدّ لكل مفسّر أن يلاحظ مجموعها قبل إتّخاذ الموقف ، وتفسيرها ، وإظهار الرأي فيها.

وإليك هذه الطوائف :

الاُولى : الآيات المطلقة التي تدعو إلى مطلق النضال والقتال ، دون أن تقيّد ذلك بقيد ، كقوله سبحانه :

( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) ( التوبة / 29 ).

وقوله سبحانه :

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ) ( التوبة / 73 ).

فالآية الاُولى تدعو إلى مطلق النضال مع أهل الكتاب ، والثانية تدعو إلى مطلق النضال مع الكفّار والمنافقين دون أن تقيّد مقاتلة هذه الطوائف والجماعات بقيد ، وتعلّق الأمر بشيء مطلق يوجب مقاتلتهم كذلك. سواء أكانوا مقاتلين للمسلمين أم لا ، وسواءً عارضوا الإسلام أم لا.

الثانية : الآيات التي تقيّد مقاتلة المشركين بقيد وهو قتال المسلمين والعدوان عليهم ، كقوله سبحانه :

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ) ( البقرة / 190 ).

فالقتال - حسب هذه الآية - يجب إذا تعرّض المسلمون لعدوان الكفّار والمشركين ، ولا يجب قتالهم إذا لم يكونوا مقاتلين.

وربّما قيّد القتال بقيد آخر وهو تهيّؤ العدو لنقض العهد ، وهو بمعنى التعرّض لقتال المسلمين وبمثابة العدوان ، فلأجل ذلك يجب على المسلمين مقاتلتهم ومحاربتهم. يقول سبحانه - بعد أمره بقتال المشركين في مطلع سورة التوبة - :

ص: 485

( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً ) ( التوبة / 8 ).

ويقول سبحانه :

( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ ) ( التوبة / 10 ).

ويقول سبحانه :

( وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ ) ( التوبة / 12 ).

إلى غير ذلك من الآيات التي توجب مقاتلة المشركين لنقضهم العهود المعقودة بينهم وبين المسلمين لأنّ نقض العهد بمثابة إعلان الحرب ، وإرادة العدوان.

إنّ ملاحظة هذه الآيات تفيد أنّ القتال لم يشرع على الإطلاق بل لأجل سبب ، وهو إرادة قتال المسلمين والعدوان عليهم ، أمّا بصورة مباشرة وأمّا عن طريق نقض عهود المسالمة ، والصلح الذي لا يعني إلاّ إرادة القتال فيكون القتال هنا من باب الدفاع عن النفس.

ومن هنا تكون هذه الآيات مقيّدة لإطلاق الطائفة الاُولى.

ومن المعلوم أنّ المطلق يحمل على المقيّد ويؤخذ بكليهما حسب ما هو المقرّر في علم « اُصول الفقه ».

الثالثة : الآيات التي تدعو إلى إنقاذ المستضعفين ونجدة المظلومين وإخراجهم من ظلم الحكّام الجائرين ، ودفع الضيم عنهم.

وهذا هو أيضاً نوع آخر من الدفاع ... إذ هو دفاع عن الغير ...

والمعتدى عليه ليس الإنسان نفسه ، أو شعبه ، بل هو شعب آخر مضطهد ولا يلزم أن يكون الاعتداء متوجّهاً إلى الإنسان : شخصه أو شخصيّته ، أو قومه بل يكفي أن يكون الإعتداء على الإنسان بما هو إنسان ، فعندئذٍ يجب في منطق العقل الدفاع عن حقوق الإنسان ، لا عن حقوق الشخص وما يرتبط به فقط ، بل يكون

ص: 486

الدفاع عن حقوق الإنسان غير المرتبط بالمقاتل من أفضل أنواع الجهاد والدفاع ، فإنّ ذلك إيثار وبذل للدم في سبيل حياة الآخرين ، وأيّ عمل أقدس من هذا. ولأجل ذلك نرى أنّ اللّه سبحانه يفرض على المسلمين إغاثة المضطهدين ويقول :

( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) ( النساء / 75 ).

الرابعة : الآيات التي تدلّ على عدم الإكراه في الدين ، لأنّ الدين عقيدة والعقيدة لا توجد بالإكراه كقوله سبحانه :

( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ( البقرة / 256 ).

قيل إنّها نزلت في رجل من الأنصار يدعى أبا الحصين كان له ابنان فقدم تجّار الشام إلى المدينة يحملون الزيت ، فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصّرا ومضيا إلى الشام ، فأخبر أبو الحصين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأنزل اللّه تعالى : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أبعدهما اللّه هما أوّل من كفر ، فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلی اللّه علیه و آله حين لم يبعث في طلبهما ، فأنزل اللّه : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... ) ( النساء / 65 ).

وقيل : كانت امرأة من الأنصار تكون مقلاتاً (1) فترضع أولاد اليهود ، فجاء الإسلام وفيهم جماعة منهم فلمّا اُجليت بنو النضير إذا فيهم اُناس من الأنصار فقالوا : يا رسول اللّه ، أبنائنا واخواننا فنزلت : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) فقال :

« خيّروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وان اختاروهم فأجّلوهم » (2).

ص: 487


1- المقلات : التي لا يعيش لها ولد.
2- مجمع البيان ج 2 ص 363 - 364.

وكقوله سبحانه :

( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( النحل / 125 ).

وقوله سبحانه :

( وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) ( الكهف / 29 ).

وقوله سبحانه :

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( يونس / 99 ).

وقوله سبحانه :

( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) ( الشعراء / 3 و 4 ).

إلى غير ذلك من الآيات الكاشفة عن حرّية الإعتقاد.

الخامسة : الآيات الداعية إلى الصلح والتعايش السلمي كقوله سبحانه :

( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) ( النساء / 128 ).

وقوله سبحانه :

( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) ( الأنفال / 61 ).

وقوله سبحانه :

( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) ( النساء / 90 ).

ومن المعلوم أنّ الصلح المذكور في الآية الاُولى هو التعايش السلمي وليس الإستسلام والتسليم للظلم والعدوان.

إنّ للملاحظ والمتتبّع لهذه الآيات التي تدور حول الجهاد والقتال من قريب

ص: 488

أو بعيد أن يتساءل :

إذا كان الإسلام ينشد الصلح والتعايش السلمي مع الطوائف وأهل الملل الاُخرى ، كما تشهد بذلك الطائفة الخامسة ، وإذا كان الإسلام يحترم العقيدة الاُخرى ، ويمنع من إكراه أحد على تقبّل الإسلام واعتناقه كما تشهد على ذلك الطائفة الرابعة ... فكيف يمكن تفسير الآيات الحاثّة على القتال والمحاربة ؟

إنّ ملاحظة مجموع الآيات من الطوائف الخمسة تهدينا إلى الجواب الصحيح.

فإنّ القتال - بملاحظة الطائفة الثانية والثالثة - إنّما شرع لأجل الدفاع ، وهذا الدفاع ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

1 - الدفاع عن النفس فرداً أو شعباً.

2 - الدفاع عن الغير ( أي المستضعفين والمضطهدين ) فرداً أو شعباً أيضاً.

3 - الدفاع عن القيم الإنسانيّة ، وهو يتحقّق بالجهاد ضد الحاكم المستبد المانع عن نفوذ الدعوة الإسلامية.

توضيحه : إذا كان الحاكم مستبدّاً مانعاً عن نفوذ دعوة الأنبياء والأولياء وملهيّاً لشعبه عن التوجّه إلى القيم الرفيعة التي جاء بها الأنبياء ، ودافعاً لهم نحو العقائد الخرافية التي تعتبر سدّاً أمام السعادة الإنسانية ، فعند ذلك يجب النضال ضد هذا الحاكم ونظامه لأمرين :

1 - إنّ الحاكم المستبد ظالم في نظامه ، ومعتد على حقوق الشعب حيث سلب عنهم الحقوق الطبيعية وهي الحرّية في الدعوة والاستماع إليها ، فعند ذلك يكون القتال معه قتالاً مع الظالم المعتدي.

2 - إنّ الدفاع عن النفس والمال والشعب وما يرتبط به يعدّ جميلاً عند شعوب العالم. غير أنّ الملاك في كونه جميلاً إنّما هو لأجل كونه دفاعاً عن الحق والحقيقة ، والدفاع عن الحريّة دفاع عن الحق ، فالحاكم المستبد السالب للحريّة

ص: 489

عن الأنبياء والشعوب يضاد عمله الحق والحقيقة فيحسن قتاله ، ومحاربته لأجل تحكيم الحق ونصرته.

ومن هنا يكون الجهاد التحريري في حقيقته جهاداً دفاعياً. لأنّ ذلك الجهاد إنّما هو لأجل إنقاذ المستضعفين الذين تعرّضوا لعدوان وظلم الظالمين أو لأجل إنقاذ القيم والحقوق والمثل الإنسانية التي وقعت عرضة لمزاحمة المستكبرين والحكام المستبدّين ، فأقاموا العراقيل في وجه الدعوة الإسلامية وسلبوا الناس حريتهم في اختيار العقيدة التي يريدونها.

وبهذا تبيّن أنّ الجهاد بأقسامه المختلفة جهاد دفاعي جوهراً ، وإن كان ينقسم حسب الإصطلاح الفقهي إلى الدفاعي والإبتدائي.

وهاهنا نكتة نلفت إليها نظر القارئ الكريم وهي أنّ الآيات الاُولى التي نزلت في تشريع الجهاد تدلّ بأوضح الوجوه إلى أنّ الدافع إلى تشريع الجهاد هو الدفاع عن المسلمين وحقوقهم ولم يشرّع لأجل التجاوز والاعتداء على حقوق الآخرين ، وإليك الآيات :

( إِنَّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج / 38 - 41 ).

وإليك هذه الدلالات :

1 - قوله سبحانه : ( لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) يدلّ بوضوح إلى أنّ الكافر المقاتل خائن ، وكل خائن معتد يجب محاربته.

ص: 490

2 - قوله سبحانه : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ) يدلّ على أنّ المأذون في القتال مقاتَل ( بالفتح ) لا مقاتِل ( بالكسر ) فليس المسلم هو البادئ بالقتال بل الكافر هو البادئ ، فعند ذلك يعدّ قتال المسلم دفاعاً.

3 - قوله سبحانه : ( بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) يدلّ بوضوح على أنّ القتال لأجل رفع الظلم.

4 - قوله سبحانه : ( أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ ) يدلّ على كونهم مشرّدين من ديارهم بغير سبب وأي ظلم أعظم من إبعاد الإنسان عن موطنه ؟!

5 - قوله سبحانه : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ ... ) يدلّ على أنّ الكافر لو ترك بحاله لهدّم البيوت المقدّسة وأماكن العبادة التي بنيت لعبادة اللّه سبحانه وتربية الناس وتزكيتهم ، فيجب قتاله حتى لا يرتكب تلك الجريمة الأثيمة.

6 - قوله سبحانه : ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ ... ) يشير إلى أنّ الغاية من تمكين المسلمين في الأرض هو إحياء المثل الإنسانية وهي عبارة عن إقامة الصلاة التي هي رمز لصلة الإنسان باللّه سبحانه ، وإيتاء الزكاة التي هي رمز للتعاون الإنساني ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما كناية عن إقامة النظام الصحيح والنضال ضد كل نظام فاسد.

* * *

وقد تجلّت في ضوء هذا البحث حقيقة ناصعة هي من احدى الحقائق القرآنية وهي أنّ تشريع الجهاد الإبتدائي أو التحريري لم يكن لأجل الاعتداء على حقوق الإنسان ، بل كان لأجل الدفاع عن حقوق المستضعفين ، وغيرهم.

ولمّا بلغ الكلام إلى هنا ، نرى أن نخوض في فلسفة الجهاد الإسلامي بصورتيه : الدفاعي والإبتدائي والدوافع إلى تشريعه وما يجب على المجاهد من رعاية اُصول وقيم في الجهاد. وهذا بحث مستقل أتينا به لمناسبة خاصّة.

ص: 491

(12) الجهاد في الإسلام دفاعيّاً أو تحريريّاً

اشارة

يعتبر الجهاد في منطق الدين الإسلامي وسيلة إلى بقاء الدين ، وإستمرار وجوده ، بل وبقاء الاُمّة الإسلاميّة وصيانة كيانها من السقوط والانهيار ولابد للوقوف على هذه الحقيقة من تقديم مقدمة ضرورية ، فنقول :

الجهاد ضرورة حياتية

عندما نطالع حياة الموجودات الحيّة نجد أنّها تقوم بثلاثة نشاطات تضمن بقاءها وحياتها.

وهذه النشاطات هي :

أوّلاً : التنفّس وجذب الغذاء المناسب.

ثانياً : التوالد والتكاثر ، وهي صفة كلّ خليّة من خلايا الكائنات الحيّة.

ثالثاً : دفع الموانع ، ودفع المزاحم وطرد المواد الزائدة ، والمضرّة.

إنّ حياة كل كائن حي ملازمة لهذه النشاطات الثلاثة ، بل ومدينة لها ، فلا تخلو عنها ولا تفارقها.

ولمّا كان الإسلام ظاهرة حياتية - وإن لم تكن ظاهرة ماديّة بل ظاهرة إلهية - فإنّه لا يخلو بدوره عن هذه النشاطات والفعاليّات الثلاث ولا يستغني عنها.

ص: 492

فالدين الإسلامي بحاجة - في بقائه ، واستمرار حياته ووجوده - إلى هذه الاُمور الثلاثة ، وأخصّ بالذكر الأمر الثالث.

فإنّ الإسلام ، لكونه رسالة إلهية منزلة لهداية البشريّة ، يسعى إلى تغيير العادات والتقاليد البالية ، والأوضاع الفاسدة والنظم الباطلة ... ولذلك من الطبيعي أن يواجه معارضة من يخالف هذا التغيير مصالحهم ، ويتعارض مع أهدافهم ومطامعهم ... وعندئذٍ يجب على هذا الدين أن يقوم بدفع هذه الموانع ويكتسح تلكم الحواجز ، ليمضي قدماً في اداء رسالته ، وتحقيق أهدافه.

إنّ هناك فرقاً واضحاً بين ( المذهب الفلسفي ) و ( الدين الإلهي ).

فالفيلسوف ، يكتفي ببحث الاُمور الفلسفية لمجرّد التوضيح ، أو النقد وينشر أفكاره وتحليلاته بين الناس ليقفوا عليها ويعرفوها دون أن يرى إلزامهم بشيء منها.

فهو لا يهمّه سوى طرح أفكاره والدفاع عنها بقاطع البرهان ، وواضح الدليل.

وأمّا ( الدين الإلهي ) فليس مذهباً فلسفيّاً ليكتفي بمجرّد البيان والتوضيح ويحصر همّته في النقد والإشكال إنّما هو ثورة إصلاحية ، وعملية تغييريّة تهدف إلى إقامة نظام صالح عادل فوق رُكام الأنظمة الفاسدة ، والأوضاع المنحطّة.

وبديهي أنّه لا يتحقّق ذلك دون مواجهة الموانع ، وقيام الصراعات والحروب ، مع الجهات والقوى المعارضة لهذا التغيير.

فهل في العالم حركة تغييريّة إستطاعت تحقيق أهدافها دون خوض الصراعات الحامية ، ودون نشوب الحروب وسقوط الضحايا ، أو إراقة محجمة دم ؟

فهل إستطاعت ( الثورة الفرنسية ) أن تتجنّب إراقة الدماء ؟

وهل نجحت ( الثورة الروسية ) إلاّ بعد سقوط الملايين من القتلى ؟

وهل حقّقت ( الثوره الهندية ) أهدافها إلاّ عبر المئات من القرابين البشرية ؟

نعم إنّ ما يفترق به ( الجهاد الإسلامي ) عن الحروب الاُخرى التي تفرضها

ص: 493

الحركات التغييريّة الاُخرى هو : تجنّب الإسلام عن الحروب ، وإراقه الدماء قدر الإمكان ، والقيام بذلك من باب الضرورة وفي حدود الإنسانية والرحمة.

هذا مضافاً إلى بقيّة الفوارق التي تتجسّد في أحكام ( الجهاد الإسلامي ) كما سيأتي تفصيلها.

وصفوة القول : إنّ أيّة ثورة إصلاحية وحركة تغييريّة تتطلّب - بحكم الضرورة - هذه المواجهات الساخنة ، دفعاً للمزاحم ودفعاً للموانع والحواجز ، وإلاّ ماتت هذه الثورة في المهد ، كما تموت الخليّة الحيّة إذا تركت ذلك.

ولهذا وصفه القرآن بأنّه وسيلة للحياة والبقاء والإستمرار إذ قال :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) ( الأنفال / 24 ).

وبعبارة واضحة ، إنّ الإسلام نظام إجتماعي ثوري ، لم ير العالم نظيره قط ، فهو بما أنّه رسالة إلهية ، تضمن سعادة البشر ، يرى لنفسه حق التوسعة والتعميم.

ولأجل ذلك يسعى لرفع الموانع والحوجز بأسهل الطرق وأعدلها.

فيبتدئ بالتبلييغ والتعليم والبحث والمجادلة والتوجيه والإرشاد ، فإذا رأى أنّ المانع لا يرتفع إلاّ بقوّة قاهرة يسعى لرفع الموانع بتلك القوّة ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ) ( البقرة / 190 ).

وليس هذا يختصّ بالدين الإسلامي بل كان هذا هو طريق الأنبياء ومنهاجهم في الدعوة إلى طريق الحق. وفي ذلك يقول سبحانه :

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) ( الحديد / 25 ).

ص: 494

والكتاب والميزان إشارة إلى أنّهم كانوا يتوسّلون في بدء الأمر بأسهل الطرق ، وهو تنوير الأفكار وإقناعها بمنطق العقل.

وأمّا إذا رأوا أنّ ذلك المنطق لا يجدي في رفع الموانع يتوسّلون بمنطق القوّة ، فالحديد في الآية كناية عن ذلك المنطق ، وحياة الأنبياء وتاريخهم خير شاهد على ذلك.

وها هنا نقطة اُخرى نلفت نظر القارئ الكريم إليها ، وهي : إنّ الإسلام يريد أن يعمّم العدالة الإجتماعية في جميع مناحي الحياة.

ومن الطبيعي أنّ كل ثورة - من هذا القبيل - لا تضمن منافع جميع الطبقات بل ربّما تكون مضرّة بمصالح البعض كالطغاة والمستثمرين والمترفين ، ولأجل ذلك كان المترفون يعارضون كل حركة إصلاحية إلهية ويصدّون عن وجه الحق. كما قال القرآن :

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ( سبأ / 34 ).

ولأجل ذلك يجب على صاحب الرسالة التوسّل بمنطق القوّة ( حين لا تجدي قوّة المنطق ) في رفع الحواجز والموانع ، والتخلّص ممّن يسد طريق الحق والعدالة.

هذا وأشباهه تمثّل فلسفة الجهاد الإسلامي وتشريعه لنوعين من الجهاد ( الدفاعي والتحريري ) ، وخصائصهما ، وأحكامهما : على نحو الإيجاز والإجمال.

الجهاد الدفاعي

والمراد من هذا الجهاد هو مقاتلة الأعداء المعتدين ، دفاعاً عن النفس ، والمال ، وذبّاً عن الوطن والحرية ، وذوداً عن الشرف والإستقلال.

إنّ الدفاع المذكور على قسمين :

ص: 495

أوّلاً : الدفاع عن حوزة الإسلام.

ثانياً : الدفاع عن النفس والمال وما شابههما وأمّا البحث عن القسم الثاني فموكول إلى الكتب الفقهية المعدّة لتفصيل ذلك. ( راجع شرائع الإسلام الباب السادس في حدود المحارب من كتاب الحدود والتعزيرات ، تجد فيه فروع وتفاصيل هذا المبحث ).

وأمّا القسم الأوّل فمنه ما إذا غشى بلاد المسلمين أو ثغورها عدوّ يخشى منه على بيضة الإسلام ومجتمع المسلمين ، فيجب عليهم الدفاع بأيّة وسيلة ممكنة من بذل الأموال والنفوس.

ولو خيف من زيادة الإستيلاء على بلاد المسلمين وتوسعة ذلك ، وأخذ بلادهم ، أو أسرهم ، وجب الدفاع بأيّة وسيلة ممكنة ، كما لو خيف على حوزة الإسلام من الإستيلاء السياسي ، والإقتصادي المنجرّ إلى أسرهم السياسي والإقتصادي ، ووهن الإسلام والمسلمين وضعفهم يجب الدفاع بالوسائل المشابهة والمقاومة السلبية المتنوّعة ، فرض الحصار الإقتصادي على أمتعتهم وبضائعهم وترك استعمالها وترك المعاملة والمراودة معهم مطلقاً ، إلى غير ذلك من أنواع المقاومة التي تختلف مع إختلاف نوع الإستيلاء ، وإختلاف الظروف والمقتضيات.

هذا وقد وردت حول الدفاع عن النفس روايات وأحاديث منها :

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من قتل دون ماله فهو شهيد ».

وقال صلی اللّه علیه و آله : « يبغض اللّه تعالى رجلاً يدخل عليه في بيته فلا يقاتل ».

وقال صلی اللّه علیه و آله : « من قتل دون مظلمته فهو شهيد » (1).

وعلى كل تقدير فالجهاد الدفاعي جهاد شرّعه الإسلام عندما تتعرّض الاُمّة

ص: 496


1- راجع وسائل الشيعة ج 11 ص 91 - 92 ، وقد وردت روايات مماثلة في المقام عن أهل البيت تركناها اختصاراً.

الإسلامية لمهاجمة الأعداء ، وعدوانهم وتصبح غرضاً لأطماعهم ومؤامراتهم.

وهذا ممّا تقتضيه طبيعة الحياة ، وتحكم به الفطرة ، ويحكم بحسنه وضرورته العقل السليم ، كما تؤيّده كافّة المدارس والمذاهب الحقوقية والسياسية والإجتماعية.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الجهة الموجبة للجهاد والقتال بقوله :

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) ( البقرة / 190 ).

وقوله سبحانه :

( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحج / 39 - 40 ).

وعلى هذا الأساس كانت أغلب الحروب والغزوات التي قام بها النبي صلی اللّه علیه و آله ووقعت في حياته.

فهي كانت حروباً دفاعية قام بها المسلمون بقيادة النبي صلی اللّه علیه و آله وأمره ، دفاعاً عن حوزة الدين ، وحياة المسلمين.

فإنّ غزوات بدر واُحد والأحزاب ، إلى آخر الغزوات والحروب كانت لدفع الحملات التي كان يقوم بها الأعداء ضد المسلمين.

كما أنّ ( السرايا ) التي بعثها النبي صلی اللّه علیه و آله كانت لأجل إطفاء نيران الفتن وإحباط المؤامرات التي كان يشعلها ويحيكها أعداء الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية للقضاء على الدين الجديد ، واستئصال جذوره وهدم بنيانه.

* * *

ص: 497

خصائص الجهاد الدفاعي

اشارة

إنّ للجهاد الدفاعي في الإسلام حدوداً وأحكاماً تميّزه عن الحروب التي يقوم بها الآخرون في عالمنا المعاصر.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الخصائص - في آية واحدة - إذ قال سبحانه :

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ) ( البقرة / 190 ).

والخصائص التي ذكرتها هذه الآية هي باختصار :

أ - كون الجهاد في سبيل اللّه ( الهدف )

إنّ الجهاد والقتال يجب أن يكون لله تعالى ، ولكسب رضاه سبحانه ، لا لتوسيع السيطرة ، ونشر النفوذ ، وضم بلد إلى بلد.

وهذا هو أهم خصائص الجهاد الإسلامي.

نظراً لأهميّتها القصوى أكّد عليها القرآن الكريم في آيات متعدّدة ، واعتبره الفرق الجوهري بين الحرب الإسلامية والحرب غير الإسلامية ، وبين الجهاد الذي يقوم به المسلمون ، والقتال الذي تمارسه دول العالم ، والجماعات غير المسلمة المؤمنة ، إذ يقول :

( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ) ( النساء / 76 ).

ولأجل ذلك يذمّ اللّه سبحانه كل قتال أو قيام يراد به التسلّط على حطام الدنيا ومتاعها ويقول سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ) ( النساء / 94 ).

ص: 498

ويقول سبحانه :

( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / 67 ).

ويقول سبحانه :

( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ( التوبة / 42 ).

ب - القتال ضدّ المعتدي

إنّ القتال لا يجوز إلاّ ضدّ الذين يقاتلون المسلمين ، ويبدأونهم بعدوان.

وهو شرط في هذا النوع من الجهاد دون الجهاد التحريري ، الذي سيوافيك تفصيله.

فالقتال أساساً شرع لصد العدوان ورد المعتدي ، وإيقاف المتجاوز عند حدّه ، ولهذا يأمر الإسلام أتباعه أن يكفّوا عن القتال إذا فعل العدو ذلك :

قال سبحانه :

( ... فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) ( النساء / 90 ).

ويقول في آية لاحقة :

( ... فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) ( النساء / 91 ).

على أنّ الجهاد الدفاعي ربّما يشرع أيضاً عندما يقوم العدو بنكث المواثيق ، ونقض المعاهدات ، وتعريض السلام المتّفق عليه للخطر ، أو يقوم بطرد الشخصيات الإسلامية من مواطنهم ، وتشريدهم ظلماً وعدواناً.

ص: 499

فمن الأوّل يقول سبحانه :

( وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) ( التوبة / 12 ).

وفي آية لاحقة يشير سبحانه إلى الأمر الثاني إذ يقول :

( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( التوبة / 13 ).

كما ويندرج تحت هذا مكافحة الإستعمار بكلّ أشكاله وألوانه ... التي سيوافيك تفصيل الكلام منها عند بيان السياسة الخارجية للحكومة الإسلامية.

ج - حد الجهاد وإطاره

إنّ القتال يجب أن يكون في إطار الحق والعدل ولا يتجاوز حدودهما. وهو شرط مشترك بين الدفاعي والتحريري ولمّا كان الإسلام دين الحق والعدل فإنّه أكّد على هذا الشرط أشد وأبلغ تأكيد ، وصرّح - مثلاً - بأنّ القتال والعدوان يجب أن يماثل العدوان الواقع على المسلمين ولا يتجاوز مقداره ، وإلاّ عاد انتقاماً وخروجاً عن سنّة العدل فقال - في نفس الآية - :

( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) ( البقرة / 194 ).

والجدير بالذكر أنّ إرداف الأمر بالجهاد بالحثّ على التقوى يوحي بضرورة وجود صفة التقوى ، وتقارنه مع الجهاد منعاً من تجاوز الحق والعدل.

فإنّ المقاتل غالباً تدفعه سورة الغضب إلى ارتكاب الجرائم والتعدّي عن الحق إلاّ من خاف اللّه تعالى.

وقد أشار القرآن إلى ضرورة رعاية العدل والتقوى في جميع الأحوال بصورة

ص: 500

عامّة فقال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة / 8 ).

هذا وقد دلّت - على تشريع هذا الجهاد - مضافاً إلى ما ذكر من الآيات ، أحاديث وروايات متضافرة نأتي ببعضها :

قال الإمام علي علیه السلام :

« الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه ...

هو لباس التقوى ودرع اللّه الحصينة ، وجنّته الوثيقة » (1).

وقال الإمام أبو جعفر الباقر علیه السلام :

« الجهاد الذي فضّله اللّه على الأعمال وفضّل عامله على العمال تفضيلاً في الدرجات والمغفرة لأنّه ظهر به الدين ، وبه يدفع عن الدين » (2).

إلى غير ذلك من الأحاديث المذكورة في المصادر المعتبرة.

ثمّ إنّ من يجب جهادهم على نحو الدفاع ثلاث طوائف :

1 - البغاة على الإمام من المسلمين ، كالخوارج الذين خرجوا على الإمام علي علیه السلام مثلاً.

2 - أهل الذمّة ، وهم اليهود والنصارى والمجوس إذا أخلّوا بشرائط الذمّة.

3 - من ليس لهم كتاب إذا قاموا بمؤامرة ضد المسلمين.

ص: 501


1- نهج البلاغة الخطبة 27.
2- في هذا الحديث إشارة إلى كلا النوعين من الجهاد ( الدفاعي والتحريري ) فقوله علیه السلام : لأنّه ظهر به الدين ، إشارة إلى الثاني ، وقوله علیه السلام : وبه يدفع عن الدين ، إشارة إلى الأوّل.

هذه هي لمحة خاطفة عن حقيقة الجهاد الدفاعي ودوافعه وخصائصه ، وأمّا معرفة مسائله وفروعه وأحكامه التفصيليّة فمتروكة إلى الكتب الفقهية المفصّلة (1).

* * *

الجهاد التحريري ( الإبتدائي )

اشارة

لقد شرع الإسلام - إلى جانب الجهاد الدفاعي - نوعاً آخر من الجهاد ، هو الجهاد الإبتدائي الذي يجدر أن يسمّى بالجهاد التحريري.

وتتلخّص دوافع هذا النوع من الجهاد في اُمور عديدة نشير إلى ثلاثة منها ، تاركين للقارئ الكريم مراجعة الكتب الفقهية المطوّلة المفصّلة لمعرفة بقيّة هذه الدوافع ، والأسباب.

1 - تحرير البشريه من الشرك
اشارة

إنّ أهم دوافع الجهاد التحريري هو محاربة الوثنيّة والشرك ، وتحرير البشريّة من إتّخاذ أي معبود سوى اللّه.

فالإسلام يأمر بعبادة اللّه وحده ، وينهي عن اتّخاذ أي معبود سواه.

يقول اللّه سبحانه :

( وَلا تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ) ( القصص / 88 ).

وهي حقيقة تدركها الفطرة البشرية السليمة ولكن هذه الفطرة قد تنحرف وتحيد عن مسيرها الصحيح بفعل المؤثّرات والدعايات وتضليل المضلّلين.

وهنا يفرض الدين على أتباعه أن يجاهدوا لتحرير العقول من قيودها ، وتخليص الفطرة الإنسانية المنحرفة من براثن الوثنيّة بكل وسيلة ممكنة.

ص: 502


1- شرائع الإسلام ، كتاب الجهاد ، الركن الثاني - مع شروح ه.

وليس هذا ممّا يخالف حرية الإنسان في اتّخاذ المعتقد الذي يريد ، لأنّ الحرية ليست مطلوبة على إطلاقها.

ثمّ إنّ تخليص البشرية من براثن الوثنية إنّما هو خدمة للبشرية وإحياء لها ، وإنقاذاً لشخصيّتها من ذلّ الخضوع تجاه الموجودات الحقيرة.

وهذا أمر ضروري حتّى إذا لم يدرك البشر أهمّيته ، أو امتنع من قبوله تمشّياً مع هواه.

فلو أنّ وزارة الصحّة - مثلاً - أرادت تلقيح الناس باللقاح الصحّي ضد مرض داهم ، أو وباء قادم ، لزم على الجميع قبول هذا الأمر ، ولم يكن لأحد الامتناع عن ذلك بحجّة أنّه حرّ لا يجوز إكراهه على شيء.

فلا تسمع منه هذه الحجّة ، ولا يقبل منه هذا الرفض ، حفاظاً على الصحّة العامّة وصيانة للمجتمع من العدوى.

ويعتبر هذا الإكراه والإلزام بهذا الأمر العقلائي رحمة له ، ولطفاً به لا ظلماً وعدواناً.

إنّ عبادة الوثن تجعل عابد الوثن أذل من الصنم الذي نحته بيديه ... وإلى ذلك يشير سبحانه - مستنكراً - : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) ؟ ( الصافّات / 95 ).

ثمّ إنّ الخضوع للوثن يوجب إنحطاط الفكر الإنساني ووقوعه في الخرافات التي هي بمثابة القيود والأغلال للفكر البشري ، تمنعه عن الانطلاق في مدارج الرقي والتكامل ، وتحجز النفس الإنسانية من نموّ الفضائل والسجايا الخلقية الكريمة.

هذا مضافاً إلى أنّ عبادة الأوثان والأصنام توجد اختلافاً وتحزّباً بين البشر ، وتفرّق وحدته ، وتمزّق صفّه إذ كل جماعة تتّخذ وثناً خاصّاً تعبده وتتمسّك به ، وتنفي سواه ، وفي ذلك ضرر عظيم على حياة البشرية لا يقل عن خطر الطاعون والوباء ، وفي ذلك يقول اللّه حاكياً عن لسان يوسف :

( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / 39 ).

ص: 503

ولهذا يرى الإسلام محاربة هذا الوباء الفكري ، واقتلاعه من الجذور.

ومن هنا أقدم الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله عند فتحه « مكّة » على كسر الأصنام الموضوعة في البيت الحرام ، وأمر كل صاحب وثن أن يحطّم وثنه ، وكان صلی اللّه علیه و آله يفعل ذلك كلّما فتح منطقة من مناطق الجزيرة (1).

نعم صحيح انّ للتبليغ والدعوة أثراً لا ينكر في إيقاظ الأفكار ، وفكّها من أسارها ، بيد أنّه أثر محدود لا يعرفه إلاّ الزمر الواعية ، المثقّفة ، القادرة على إستيعاب التوجيهات والمواعظ.

ولأجل ذلك يجب على إمام المسلمين قبل نشوب الحرب بين المسلمين وأعدائهم أن يدعو الكفّار والأعداء إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويبالغ في إيقاظهم وتوعيتهم ودعوتهم وإتمام الحجّة عليهم.

قال صاحب شرائع الإسلام :

« ولا يبدأون إلاّ بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام ويكون الداعي الإمام أو من نصّبه » (2).

وقد دلّت على ذلك من السنّة روايات متضافرة منها ما ورد عن السكوني عن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام : قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام :

بعثني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى اليمن فقال : يا علي لا تقاتلنّ أحداً حتّى تدعوه إلى الإسلام ، واللّه لئن يهدينّ اللّه على يديك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت ، ولك ولاؤه يا علي » (3).

وعن علي علیه السلام أنّه قال :

ص: 504


1- سيرة ابن هشام ج 2 ص 143.
2- شرائع الإسلام ، كتاب الجهاد ، الركن الثاني.
3- مستدرك الوسائل ج 11 الباب 9 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

« لا يغزَ قوم حتّى يدعوا » (1).

وعن النبي صلی اللّه علیه و آله أيضاً أنّه قال :

« لا تقاتل الكفّار إلاّ بعد الدعاء » (2).

وقد سئل الإمام زين العابدين علي بن الحسين علیهماالسلام عن كيفيّة الدعوة إلى الدين :

فقال : تقول : « بسم اللّه الرحمن الرحيم - أدعوك إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى دينه وجماعه أمران : أحدهما : معرفة اللّه عزّ وجلّ والآخر : العمل برضوانه ، وإنّ معرفة اللّه عزّ وجلّ أن يعرف بالوحدانية والرأفة والرحمة والعزّة ، والعلم والقدرة والعلوّ على كل شيء ، وانّه النافع الضار القاهر لكل شيء الذي لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وانّ محمداً عبده ورسوله ، وإنّ ما جاء به هو الحق من عند اللّه عزّ وجلّ وما سواه هو الباطل ».

فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين (3).

وعن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال :

« أوّل حدود الجهاد الدعاء إلى طاعة اللّه من طاعة العباد ، وإلى عبادة اللّه من عبادة العباد وإلى ولاية اللّه من ولاية العباد » (4).

بل ولو أنّ أحداً من المشركين إستأمن واراد أن يسمع كلام اللّه اُعطي الأمان ، ثمّ اُعيد إلى مأمنه ، سواء كان قبل نشوب الحرب أو في أثنائه.

قال اللّه سبحانه :

( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ

ص: 505


1- مستدرك الوسائل ج 11 الباب 9 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 ، 3.
2- مستدرك الوسائل ج 11 الباب 9 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 ، 3.
3- وسائل الشيعة ج 11 ص 31 ، باب كيفية الدعاء إلى الإسلام من أبواب الجهاد.
4- وسائل الشيعة ج 11 ص 7.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ) ( التوبة / 6 ).

غير أنّ الدعوة والتبليغ ربّما تؤثّر في بعض الأشخاص ولا تؤثّر في آخرين ، خصوصاً إذا كان الدين يهدّد مصالحهم ومطامعهم ولذلك وجبت محاربتهم ... إذ لا يكون الخير والإصلاح حينئذٍ إلاّ بالسيف ، ومنطق القوّة :

وإلى هذا أشار النبي صلی اللّه علیه و آله بقوله :

« الخير كلّه في السيف ، وتحت ظلال السيف ، ولا يقيم الناس إلاّ السيف » (1).

فرض العقيدة ممنوع

قد يتوهّم الجاهل بمعالم الدين الإسلامي وأحكامه انّ الهدف من الجهاد التحريري إنّما هو فرض العقيدة الإسلامية على الناس فرضاً.

ولكن هذا ظنّ واضح البطلان معلوم الضعف لمن له معرفة بطبيعة الدعوة الإسلامية.

فإنّ الإسلام الذي يشجب ويستنكر على بعض الناس اتّباعهم لعقائد آبائهم وأجدادهم الباطلة ، كيف يجوّز لأتباعه أن يحملوا الناس على العقيدة الإسلامية دون أن يسمحوا لهم بأن يفكّروا ويحقّقوا ويفتّشوا عن المعتقد الحق ، ليعتنقوه بالبرهان والدليل ؟

إنّ اعتناق العقيدة أي عقيدة يجب أن يكون حسب نظر الإسلام قائماً على أساس البحث والفحص والتحقيق ومرتكزاً على البرهان والدليل ، ولذلك فهو يقبح اتّباع السلف دون مراجعة لعقائدهم ، وتحقيق في صحّتها أو بطلانها إذ قال سبحانه :

( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا

ص: 506


1- وسائل الشيعة ج 11 ص 5.

عَلَى أُمَّةٍ ( أي طريقة ) وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) ( الزخرف / 23 - 25 ).

وقال سبحانه :

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( البقرة / 170 ).

وبتعبير آخر : إنّ الإسلام ذمّ التقليد في الاُصول والعقائد والجري على سنن الآباء والأجداد بلا تأمّل ولا تدبّر ، وطالب بالتفكّر والتعقّل فكيف يأمر أتباعه بأن يفرضوا العقيدة الإسلامية على الآخرين بقوّة النار والحديد.

كيف وقد صرّح بحرية الإعتقاد بقوله سبحانه :

( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ( البقرة / 256 ).

إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الإختلاف الفكري ، والتنافس الأيديولوجي أمر غريزي طبيعي ، ولذلك فهو باق إلى يوم القيامة ولا يمكن إزالته من رأس ، ولا يصحّ إلغاؤه بالمرّة.

قال سبحانه :

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ( هود / 118 ).

إنّ القرآن الكريم ينهي الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله عن فرض العقيدة الإسلامية على الناس لأنّ اللّه شاء لهم أن يكونوا أحراراً في ذلك وهو في الوقت نفسه يعطينا درساً في مجال التبليغ والدعوة يجب أن نسير على ضوئه ، فيقول :

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( يونس / 99 ).

ص: 507

إذن فلم يكن الجهاد التحريري في مجال ( تحرير البشرية من الشرك ) بفرض العقيدة على الناس أو حملهم على الخضوع لمنهج الدين دون اختيار منهم أو إرادة حرّة ، بل هناك دواع وعلل للجهاد التحريري وهي التي نتلوها عليك.

2 - كسر الموانع المفروضة على الشعوب

إنّ هناك داعياً آخر لتشريع عنوان الجهاد التحريري وهو وضع الاغلاق المفروضة على الشعوب ، وإسقاط الحكومات التي تمنع من وصول الإسلام إلى الناس وتقيم سدوداً بينهم وبين العقيدة الحقّة وتسلب حريّاتهم ، وتكرههم على اتّخاذ عقيدة خاصّة ، والمشي على حسب منهج خاص وإن كانوا لا يرتضونه.

وبهذا يكون الجهاد التحريري لرفع الموانع والحواجز المانعة عن وصول العقيدة الحقّة إلى الناس ، وتحرير هم من تلك القيود حتى يمكنهم اختيار الدين الإسلامي بعد الاطّلاع على محاسنه ، وتبليغ معالمه إليهم.

3 - تخليص المستضعفين من الظالمين :

إنّ الهدف الثالث من أهداف الجهاد التحريري هو إنقاذ الشعوب من اضطهاد الحكّام الجائرين ، واستبدادهم وظلمهم.

فهو إذن شُرّع لتحرير المستضعفين وتخليصهم من عسف الحكّام ، وكبتهم ، وحيث إنّ هذا الهدف لا يتحقّق إلاّ باستخدام القوّة وحمل السلاح والمقاتلة والغزو إتّخذ الإسلام طريق الجهاد ، فقال القرآن الكريم :

( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) ( النساء / 75 ).

ص: 508

وقد وردت الإشارة إلى هذا الهدف في تصريحات بعض المسلمين الذين خرجوا لفتح البلاد وإنقاذ المستضعفين من حكّامهم الجائرين قال : إنّ سعد بن أبي وقاص أرسل ربعي بن عامر ليكلّم قائد القوات الفارسية فلمّا دنا من « رستم » جلس على الارض وركّز رمحه على البسط فقال له : ما حملك على هذا ؟ قال : إنّا لا نستحب القعود على زينتكم ، فقال له ترجمان رستم واسمه « عبود » من أهل الحيرة : ما جاء بكم ؟ قال : اللّه جاء بنا وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا الى سعتها ، ومن جور الأديان الى عدل الاسلام فأرسلنا بدينه الى خلقه ، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا ، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنّة أو الظفر (1).

إذن لم يكن تشريع هذا الجهاد لفرض الاستيلاء على الأ راضي ، أو بهدف السيطرة على منابع الثروة ، أو استعمار الشعوب كما هو هدف الحروب غير الإسلامية في الماضي والحاضر.

كما أنّ الإسلام ينهي عن العدوان لبعض الأسباب التي تعود إلى المسائل الشخصية ، والقضايا الفردية ، التي لا تنطوي على مصلحة الإسلام والمسلمين الكلّية ... ، وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم :

( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ) ( المائدة / 2 ).

وبما أنّ الجهاد التحريري ينطوي على أحكام دقيقة ، وظرفية ، لا يعرفها إلاّ الإمام العادل العارف بالدين ، والعالم بالظروف لم يجز أن يقوم المسلمون بهذا الجهاد إلاّ بقيادة ( إمام معصوم ) أو من ينوب منابه في السلطة الدينية والزمنية ، نعم في مشروعية الجهاد التحريري في غياب الإمام المعصوم بحث مفصّل ، فلاحظ الكتب الفقهية.

ص: 509


1- الكامل لابن الأثير ج 2 ص 320 حوادث عام 14 من الهجرة النبوية.

وإلى هذا أشار الإمام الصادق علیه السلام بقوله :

« والجهاد واجب مع إمام عادل » (1).

نعم هناك كلمة أخيرة على هامش كلا الجهادين وهي :

إنّه يجب على الدولة الإسلامية - قبل نشوب أيّة حرب - إعداد المسلمين وتجهيزهم بكل ما تستطيع من أنواع القوّة الحربية في كل زمان بحسبه ، على أن يكون القصد الأوّل من ذلك هو إرهاب العدو ، وإخافته من عاقبة التعدّي على بلاد الاُمَّة الإسلامية أو مصالحها ، أو على أفراد منها ، أو متاع لها حتى في غير بلادها ، لأجل أن تكون آمنة في عقر دارها مطمئنّة على أهلها ومصالحها وأموالها ، ولكي تحظى بالإحترام اللائق بها في الساحة الدولية ، إذ يقول القرآن الكريم :

( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) ( الأنفال / 60 ).

ويبقى أن نقول : إنّ القتال والنضال بما هو هو ليس أمراً قبيحاً وإنّما يصطبغ بالحسن أو القبح بالغايات المحدّدة للقتال والنضال.

فلو كان القتال والنضال بهدف الاعتداء والتجاوز على النفوس والأعراض والأموال والحرمات فيكون القتال أمراً منكراً ، ويعد وحشيّة همجيّة ، ويكون المباشر له حيواناً ضارياً تلبّس بالإنسانية.

وإذا كان القتال لحفظ الشرف والإنسانية ومنع المعتدين عن الإعتداء ، وغير ذلك من الأهداف المشروعة المذكورة سلفاً ، فلا يكون قبيحاً بل يعتبر وظيفة إنسانية.

هذه دراسة عابرة عن الجهاد التحريري حقيقة وأهدافاً وفلسفة ، والتفصيل موكول إلى محلّه في الكتب الفقهية المفصّلة. وأمّا الأدب فإليك البيان.

ص: 510


1- وسائل الشيعة ج 11 ص 35.

رعاية الأخلاق في الحرب

اشارة

إنّ وقائع الحروب تشهد بأنّ الجبابرة والطواغيت ينسون - عند نشوب الحروب - كل القيم الإنسانية ، والاُصول الأخلاقية ، فيرتكبون كل جريمة ، ويقترفون كل جناية دون أن يردعهم عن ذلك رادع ، أو يتقيّدوا في القتال بقانون.

وليس هذا أمر يتّصل بالماضي ، فساحات المعارك اليوم ، وما تشهده من فظائع ، خير دليل على ما ذكرناه.

صحيح أنّ هناك أعرافاً دولية ، وقوانين عالمية للحروب ، ولكن من الصحيح أيضاً انّ رعاية هذه القوانين والأعراف ضئيلة ، أو كادت أن تكون مفقودة أصلاً.

هذا مضافاً إلى أنّ هذه القوانين والأعراف لا تكون - في الأغلب - شاملة ، أو كافية.

غير أنّ الإسلام سنّ للحرب والقتال حدوداً دقيقة من شأنها أن تجعل الحرب في إطار الأخلاق والقواعد الإنسانية ولم يكتف بمجرّد تشريعها ووضعها ، بل عمل بها في كافة حروبه ووقائعه.

من هنا يجب علينا أن نقف على هذه الحدود ، لنتعرّف على مدى رحمة الإسلام وإنسانيّته ، وعدالته ، حتى في الحروب حيث يفقد المقاتلون توازنهم عادة ، فلا يتورّعون عن ارتكاب كل كبيرة وصغيرة ، وتشهد على ذلك الحروب العالمية وخاصّة ( الاُولى والثانية ) ، وكذا الحروب التي شنها الغرب على الشرق في مختلف المناطق في القرن الحاضر ، ونخصّ بالذكر المعارك الدامية بين الإستعمار الفرنسي ، والشعب الجزائري البطل ، والإستعمار الأمريكي والشعب الفيتنامي ، والإستعمار الإسرائيلي والشعب الفلسطيني ، وما جرى في هذه الحروب من الممارسات الوحشية المروّعة على يد هذه القوى الإستعمارية.

ص: 511

1 - الآمنون في الحرب

لمّا كانت العدالة الإجتماعية هي المطلب الأقصى للإسلام ، ولم تكن للحرب أصالة في منطقة ، ولم تكن بنفسها هدفاً بل شرعت لدفع المعتدين وإزالتهم عن طريق الدعوة الحقّة ، اقتضى ذلك كلّه أن لا يهاجم إلاّ على الظالمين ولذا قال القرآن الكريم :

( فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ( البقرة / 193 ).

ولأجل ذلك نهى الإسلام عن قتل طائفة من الناس إذا لم يكونوا يساندون الأعداء الظالمين ولا يقاتلون ، وهؤلاء هم :

1 - النساء.

2 - الولدان.

3 - المجانين.

4 - الأعمى.

5 - الشيخ الفاني.

6 - المقعد.

وقد دلّت على ذلك أحاديث متضافرة منها ما عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال :

« نهى رسول اللّه عن قتل المقعد والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في دار الحرب » (1).

2 - تمالك النفس

لا ريب أنّ الحرب سبب قوي لغليان المشاعر وارتفاع سورة الغضب إلى

ص: 512


1- فروع الكافي ج 5 ص 28 ح 6.

أقصاه ولهذا ربّما يؤدّي إلى ارتكاب أقسى ألوان الجريمة في حقّ الخصم.

ومن هنا يجب أن يعطى زمام الحرب للعقل لا للمشاعر الملتهبة ، والأحاسيس المشتعلة.

ولقد أعطى النبي صلی اللّه علیه و آله تعاليم كلّية في الحرب ، كان يوصي بها كل جيش يبعثه ، وكل سرية يرسلها.

وإليك فيما يأتي نموذجاً من الأحاديث التي أدّب فيها النبي صلی اللّه علیه و آله أو الإمام المجاهدين والمقاتلين بآداب ، وتعاليم خاصة ، تكفل إنسانية الحروب وعدالتها.

عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام أنّه قال :

« كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ، ثم يقول :

سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملّة رسول اللّه ، لا تغلوا ، ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة ، ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطرّوا إليها.

وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار ، حتّى يسمع كلام اللّه فإن تبعكم ، فأخوكم في الدين ، وإن أبى فابلغوه مأمنه ، واستعينوا باللّه » (1).

وعنه علیه السلام أيضاً أنّه قال :

إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان إذا بعث أميراً له على سرية أمره بتقوى اللّه عزّ وجل في خاصّة نفسه ، ثمّ في أصحابه عامّة ، ثم يقول :

اُغز باسم اللّه ، وفي سبيل اللّه ، قاتلوا من كفر باللّه ، لا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا وليداً ، ولا متبتّلاً في شاهق ، ولا تحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء ،

ص: 513


1- وسائل الشيعة ج 11 ص 43.

ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه. ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلاّ ما لابدّ لكم من أكله ، وإذا لقيتم عدوّاً للمسلمين فادعوهم ... الخ الحديث » (1).

بل ونص بعض الفقهاء على أنّ المرأة لا تقتل حتّى لو كانت تعاون الأعداء ، لأنّ النساء مستضعفات غالباً ، وهنّ يرغمن على القيام بمثل هذا التعاون إرغاماً.

قال المحقّق الحلّي في المختصر النافع :

« ولا تقتل نساؤهم ولو عاون إلاّ مع الإضطرار » (2).

وهذا يجسّد منتهى الرحمة والإنسانية التي يتحلّى بها الدين الإسلامي.

وقد جاء في غزوة بدر انّ عمر بن الخطاب قال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

يا رسول اللّه دعني أنزع ( أقلع ) ثنيّتي سهيل بن عمرو ، ويدلع لسانه ( وكان سهيل خطيباً يهرّج ضد النبي ) فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لا اُمثّل به فيمثّل اللّه بي وإن كنت نبيّاً » (3).

إنّ المقارنة بين هذه التعاليم والمواقف الإسلامية والجنايات والجرائم الوحشية التي ارتكبتها الدول الكبرى في مستعمراتها كالجزائر وفيتنام وغيرهما ، توقفنا على إنسانيّة الدين الإسلامي ورحمته في الحرب.

ص: 514


1- وسائل الشيعة ج 11 ص 44.
2- المختصر النافع ، كتاب الجهاد ص 112 طبع القاهرة.
3- سيرة ابن هشام ج 2 ص 642.
3 - منع ممارسة الأساليب الوحشية

إنّ الإسلام يحرّم إهلاك العدو بالطرق غير الإنسانية مثل إلقاء السم في الماء أو قطعه عنهم ، أو إرساله على مُخيّمهم لغرقهم ، أو حرقهم بالنار.

وفي ذلك يقول المحقّق الحلّي في المختصر النافع :

« ويجوز المحاربة بكل ما يرجى به الفتح ... » (1).

ثمّ قال :

« ويكره يإلقاء النار ، ويحرم بإلقاء السم » (2).

وقال العلاّمة الحلّي في تبصرة المتعلّمين :

« ويجوز المحاربة بسائر أنواع الحرب ، إلاّ إلقاء السم في بلادهم » (3).

ثمّ ها هو الإمام علي علیه السلام في صفّين بعد الإستيلاء على الشريعة لا يمنع جيش معاوية عن الماء ، وإن كان معاوية قد فعل ذلك من قبل (4).

إلى هذه الدرجة الرفيعة من الرحمة والشفقة تبلغ رحمة الإسلام ، بينما لا تتورّع الدول الكبرى عن قصف الشعوب المقهورة بقنابل النابالم ، وغيرها من الوسائل والأدوات الحربية الفتّاكة المروّعة.

ومن الذي لا يمكن أن ينسى ما فعلته الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية حينما قصفت هيروشيما ، وناكازاكي بالقنابل الذرية ، فأبادت ما يقارب نصف مليون ، وحذف ذينك البلدين من الخريطة الجغرافية بحجّة التعجيل في إنهاء الحرب ، كما قال ترومن رئيس الجمهورية الأمريكي الأسبق عام 1945 م ؟

ص: 515


1- المختصر النافع ، كتاب الجهاد : ص 112.
2- المختصر النافع ، كتاب الجهاد : ص 112.
3- تبصرة المتعلّمين : كتاب الجهاد ص 81.
4- راجع وقعة صفين لابن مزاحم : ص 166 - 167 ( طبعة مصر ).
4 - أمان الكفّار :

إنّ الإسلام - بحكم كونه رسالة إلهية ودعوة سماويّة لهداية الإنسان - يحرص على دخول الأفراد في صفوف أتباعه ، والإنضواء تحت لوائه عن رغبة وإرادة.

ولتحقيق هذا الهدف الأسمى نجد الإسلام يسمح بإعطاء الأمان لكلّ من يطلب ذلك من الكفّار لكي يسمع منطق الإسلام ، ويتعرّف على تعاليمه ، سواء كان ذلك عند نشوب الحرب ، أو في غير الحرب.

بل إنّ الإسلام يعطي الحق لكلّ مسلم أن يمنح الأمان لمن شاء ، ولو كان لغير الهدف المذكور.

قال المحقّق الحلّي في الشرائع :

« ويجوز أن يذم الواحد من المسلمين لآحاد من أهل الحرب » (1).

وقال في المختصر النافع :

« ويذم الواحد من المسلمين للواحد ، ويمضي ذمامه على الجماعة ولو كان أدونهم » (2).

ثمّ إنّ ما يدلّ على مدى عناية الإسلام وحرصه على الدماء أنّه يجير حتّى من دخل في حوزة المسلمين بشبهة الأمان وظنّه فهو مأمون حتّى يرد إلى مأمنه دون أن يصيبه أذى.

قال المحقّق في الشرائع :

« وكذا كلّ حربي دخل في دار الإسلام بشبهة الأمان كان يسمع لفظاً فيعتقده أماناً ، أو يصحب رفقة فيتوهّمها أماناً » (3).

ص: 516


1- شرائع الإسلام ، كتاب الجهاد في الذمام ، وراجع الجواهر ج 21 ص 96.
2- المختصر النافع ، كتاب الجهاد : ص 112.
3- الشرائع ، كتاب الجهاد ج 1 ص 313 - 314.

وقال في المختصر النافع :

« ومن دخل بشبهة الأمان فهو آمن حتّى يردّ إلى مأمنه » (1).

وتدلّ على هذا أحاديث منها عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال :

« لو أنّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان ، فقالوا : لا ، فظنّوا انّهم قالوا : نعم ، فنزلوا إليهم كانوا آمنين » (2).

ومن مظاهر العدل والمساواة انّ الإسلام يجيز أمان العبد المسلم كما يجيز أمان الحر المسلم سواء بسواء.

ويدلّ على هذا الحكم الإسلامي العظيم روايات عديدة منها ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام لمّا سأله السكوني عن معنى قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « يسعى بذمّتهم أدناهم » قال علیه السلام :

« لو أنّ جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين فأشرف رجل ، فقال : اعطوني الأمان حتّى ألقى صاحبكم واُناظره فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به » (3).

وعن الصادق علیه السلام أيضاً أنّه قال :

إنّ عليّاً علیه السلام أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون وقال :

« هو من المؤمنين » (4).

ولقد روى الجزري في تاريخه الكامل : « إنّ المسلمين نزلوا بجنديسابور فأقاموا عليها يقاتلونهم ، فرمي إلى من بها من عسكر المسلمين بالأمان. فلم يفجأ المسلمين إلاّ وقد فتحت أبوابها ، وأخرجوا أسواقهم ، وخرج أهلها ، فسألهم المسلمون ، فقالوا : رميتم بالأمان ، فقبلناه ، وأقررنا بالجزية على أن تمنعونا.

ص: 517


1- المختصر النافع ، كتاب الجهاد : ص 112.
2- وسائل الشيعة ج 15 ص 50.
3- وسائل الشيعة ج 15 ص 49 و 50.
4- وسائل الشيعة ج 15 ص 49 و 50.

فقال المسلمون : ما فعلنا ... .

وسأل المسلمون فيما بينهم ، فإذا عبد يدعى « مكثفاً » كان أصله منها ، فعل هذا.

فقالوا : هو عبد.

فقال أهلها : لا نعرف العبد من الحر ، وقد قبلنا الجزية ، وما بدّلنا ، فان شئتم فاغدروا. فكتبوا لعمر فأجاز أمانهم ، فأمّنوهم وانصرفوا عنهم » (1).

وهذا هو نموذج واحد من سلوك المسلمين في هذا المجال يجد نظائره كل من راجع التاريخ الإسلامي.

ص: 518


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري ج 2 ص 387 - 388.

(13) واقعة الغدير

اشارة

لا شك في انّ الدين الإسلامي دين عالمي ، وشريعة خاتمة ، وقد كانت قيادة الاُمّة الإسلامية من شؤون النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله مادام على قيد الحياة ، وكان عليه أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى أفضل أفراد الاُمّة وأكملهم.

إنّ في هذه المسألة وهي أنّ منصب القيادة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله هل هو منصب تنصيصي تعييني أو أنّه منصب انتخابي ؟ هناك اتّجاهين :

فالشيعة ترى أنّ مقام القيادة منصب تنصيصي ، ولابد أن ينصّ على خليفة النبي من السماء ، بينما يرى أهل السنّة أنّ هذا المنصب انتخابي جمهوري ، أي أنّ على الأمّة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد.

إنّ لكل من الاتّجاهين المذكورين دلائل ، ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية ، إلاّ أنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة ، فانّ هذه الدراسة كفيلة باثبات صحّة أحد الاتّجاهين.

إنّ تقييم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الاسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأنّ خليفة النبي لابد أن يعيَّن من جانب اللّه تعالى ، ولا يصحّ أن يوكل هذا إلى الأمّة ، فانّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثلاثي ( الروم - الفرس - المنافقين ) بشنّ الهجوم الكاسح ، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

كما أنّ مصالح الأمّة كانت توجب أن يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي ، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده ، وبذلك يسد الطريق على

ص: 519

نفوذ العدو في جسم الاُمّة الإسلامية والسيطرة عليها ، وعلى مصيرها.

وإليك بيان وتوضيح هذا المطلب :

لقد كانت الامبراطورية الرومانية أحد أضلاع الخطر المثلث الذى يحيط بالكيان الإسلامي ، ويهدّده من الخارج والداخل.

وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام ، حتى أنّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة الوفاة ، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين ، والجيش المسيحي الرومي وقعت في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين ، وقد أدّت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم « جعفر الطيار » و « زيد بن حارثة » و « عبد اللّه بن حارثة ».

ولقد تسبّب انسحاب الجيش الإسلامى بعد مقتل القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي ، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة التاسعة للهجرة على رأس جيش كبير جداً إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية ، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة ، ويجدد حياته السياسية.

غير انّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأعدّ قُبيل مرضه جيشاً كبيراً من المسلمين ، وأمّر عليهم « اُسامة بن زيد » ، وكلّفهم بالتوجّه إلى حدود الشام ، والحضور في تلك الجبهة.

أمّا الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدد الكيان الإسلامي ، فكان

ص: 520

الامبراطورية الايرانية ( الفارسية ) وقد بلغ من غضب هذه الامبراطورية على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومعاداتها لدعوته ، أن أقدم امبراطور ايران « خسرو برويز » على تمزيق رسالة النبي ، وتوجيه الإهانة إلى سفيره باخراجه من بلاطه ، والكتابة إلى واليه وعميله باليمن بأن يوجّه إلى المدينة من يقبض على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أو يقتله إن امتنع.

و « خسرو » هذا وإن قتل في زمن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاّ أنّ استقلال اليمن - التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحاً طويلاً من الزمان - لم يغب عن نظر ملوك ايران آنذاك ، وكان غرور اُولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياءهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة ( القوة الاسلامية ) لهم.

والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس وعلى تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل إلى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول اللّه ، في طريق العودة من تبوك الى المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه : إنّ الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ورحيله ، وبذلك يستريح الجميع (1).

ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة إلى الاُمّة الاسلامية من الداخل ، وذلك عندما أتى علياً علیه السلام وعرض عليه أن يبايعه ضدّ من عيّنه رجال السقيفة ، ليستطيع بذلك تشطير الاُمّة الاسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين ، فيتمكّن من التصيّد في الماء العكر.

ولكنّ الإمام علياً علیه السلام أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة ، فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة :

ص: 521


1- الطور / 30.

« واللّه ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، وإنّك واللّه طالما بغيت للإسلام شراً. لا حاجة لنا في نصيحتك » (1).

ولقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدّة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي : سورة آل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والأحزاب ، ومحمد ، والفتح ، والمجادلة ، والحديد ، والمنافقين ، والحشر.

فهل مع وجود مثل هؤلاء الأعداء الخطرين والأقوياء الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر ، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه ، يصح أن يترك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اُمّته الحديثة العهد بالإسلام ، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسيا ؟

إنّ المحاسبات الاجتماعية تقول : إنّه كان من الواجب أن يمنع رسول الاسلام بتعيين قائد للاُمّة ، .. من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده ، وأن يضمن استمرار وبقاء الوحدة الاسلامية بايجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حول تلك الاُمّة.

إنّ تحصين الاُمّة ، وصيانتها من الحوادث المشؤومة ، والحيلولة دون مطالبة كل فريق « الزعامة » لنفسه دون غيره ، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة ، لم يكن ليتحقق ، إلاّ بتعيين قائد للاُمّة ، وعدم ترك الاُمور للاقدار.

إنّ هذه المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحة نظرية « التنصيص على القائد بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » ولعلّ لهذه الجهة ، ولجهات اُخرى طرح رسول الإسلام مسألة الخلافة في الأيام الاُولى من ميلاد الرسالة الأسلامية ، وظلّ يواصل طرحها والتذكير بها طوال حياته حتى الساعات الأخيرة منها ، حيث عيّن خليفته ونصّ عليه بالنصّ القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته ، وفي نهايتها أيضاً.

وإليك بيان كلا هذين المقامين :

ص: 522


1- الكامل في التاريخ ج 2 ص 222 ، العقد الفريد ج 2 ص 249.

1 - النبوّة والامامة توأمان

بغضّ النظر عن الأدلّة العقلية والفلسفية التي تثبت صحّة الرأي الأول بصورة قطعية ، هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحة الموقف والرأي الذي ذهب إليه علماء الشيعة وتصدّقه ، فقد نصّ النبي صلی اللّه علیه و آله على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مراراً وتكراراً ، وأخرج موضوع الإمامة من مجال الانتخاب الشعبي والرأي العام.

فهو لم يعيّن ( ولم ينص على ) خليفته ووصيه من بعده في اُخريات حياته فحسب ، بل بادر إلى التعريف بخليفته ووصيه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعد ، سوى بضع عشرة من الأشخاص ، وذلك يوم اُمر من جانب اللّه العلي القدير أن ينذر عشيرته الأقربين من العذاب الإلهي الأليم. وأن يدعوهم إلى عقيدة التوحيد قبل أن يصدع رسالته للجميع ويبدأ دعوته العامة للناس كافة.

فجمع أربعين رجلاً من زعماء بني هاشم وبني المطلب ، ثم وقف فيهم خطيباً ، فقال :

« أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ »

فأحجم القوم ، وقام عليّ علیه السلام وأعلن مؤازرته وتأييده له ، فأخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برقبته ، والتفت الى الحاضرين ، وقال :

« إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم » (1).

وقد عرف هذا الحديث عند المفسرين والمحدثين : ب « حديث يوم الدار » و « حديث بدء الدعوة ».

على أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته ، بل صرّح في مناسبات شتّى في السفر والحضر ، بخلافة

ص: 523


1- تاريخ الطبري ج 2 ص 216 ، الكامل في التاريخ ج 2 ص 62 و 63 ، وقد مرّ مفصّلاً في هذه الدراسة فراجع.

علي علیه السلام من بعده ، ولكن لا يبلغ شيء من ذلك في الأهمية والظهور والصراحة والحسم ما بلغه حديث الغدير.

2 - قصة الغدير

لمّا انتهت مراسيم الحج ، وتعلّم المسلمون مناسبك الحجّ من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قرر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الرحيل عن مكة ، والعودة إلى المدينة ، فأصدر أمراً بذلك ، ولمّا بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة « رابغ » (1) التي تبعد عن « الجحفة » (2) بثلاثة أميال ، نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمنطقة تدعى « غدير خم » ، وخاطبه بالآية التالية :

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ( المائدة / 67 ).

إنّ لسان الآية وظاهرها يكشف عن أنّ اللّه تعالى ألقى على عاتق النبي صلی اللّه علیه و آله مسؤولية القيام بمهمة خطيرة ، وأي أمر اكثر خطورة من أن ينصّب علياً علیه السلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد ؟!

من هنا أصدر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمره بالتوقف ، فتوقفت طلائع ذلك الموكب العظيم ، والتحق بهم من تأخر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة ، وكان المناخ حارّاً إلى درجة كبيرة جداً ، وكان الشخص يضع قسماً من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه ، وصنع للنبي صلی اللّه علیه و آله مظلّة وكانت عبارة عن عباءة اُلقيت على أغصان

ص: 524


1- رابغ تقع الآن على الطريق بين مكّة والمدينة.
2- من مواقيت الاحرام وتنشعب منها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين.

شجرة ( سمرة ) ، وصلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالحاضرين الظهر جماعة ، وفيما كان الناس قد أحاطوا به صعد صلی اللّه علیه و آله على منبر اُعدّ من أحداج الإبل وأقتابها ، وخطب في الناس رافعاً صوته ، وهو يقول :

« الحمدلله ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه ، ونعوذ به من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن أضلّ ، ولا مضلّ لمن هدى ، وأشهد أنّ لا إله إلاّ هو ، وأنّ محمداً عبده ورسوله.

أما بعد : أيّها الناس إنّي اُوشك أن اُدعى فاُجيب ، وأنّي مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟ »

قالوا : « نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت ، فجزاك اللّه خيراً ».

قال صلی اللّه علیه و آله : « ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حق ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ اللّه يبعث من في القبور ؟ »

قالوا : بلى نشهد بذلك.

قال صلی اللّه علیه و آله : « اللّهم اشهد ».

ثم قال صلی اللّه علیه و آله : « وإنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا ».

فنادى مناد : « بأبي أنت واُمي يا رسول اللّه وما الثقلان ؟ »

قال صلی اللّه علیه و آله : « كتاب اللّه سبب طرف بيد اللّه ، وطرف بأيديكم ، فتمسّكوا به ، والآخر عترتي ، وانّ اللطيف الخبير نبّأني انّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ».

وهنا أخذ بيد « عليّ » علیه السلام ورفعها ، حتى رؤي بياض اباطهما ، وعرفه الناس أجمعون ثم قال :

« أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ »

ص: 525

قالوا : « اللّه ورسوله أعلم ».

فقال صلی اللّه علیه و آله :

« إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه (1).

اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأحب من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وأدر الحق معه حيث دار » (2).

فلمّا نزل من المنبر ، استجاز حسان بن ثابت شاعر عهد الرسالة في أن يفرغ ما نزل به الوحي في قالب الشعر ، فأجازه الرسول ، فقام وأنشد :

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخمّ وأكرم بالنبي مناديا

يقول فمن مولاكمُ ووليّكم *** فقالوا ولم يبدو هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا *** ولم تَرَ منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليّ فانّني *** رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أنصار صدقٍ مواليا

هناك دعا : اللّهمّ ! وال وليّه *** وكن للذي عادا علياً معاديا

مصادر الواقعة

هذه هي واقعة الغدير استعرضناها لك على وجه الإجمال ، وهي بحق واقعة لا يسوغ لأحد انكارها بأدنى مراتب التشكيك والقدح ، فقد تناولها بالذكر أئمّة المؤرّخين أمثال : البلاذري ، وابن قتيبة ، والطبري ، والخطيب البغدادي ، وابن عبد البر ، وابن عساكر ، وياقوت الحموي ، وابن الأثير ، وابن أبي الحديد ، وابن خلكان ، واليافعي ، وابن كثير ، وابن خلدون ، والذهبي ، وابن حجر العسقلاني ، وابن صباغ المالكي ،

ص: 526


1- لقد كرّر النبي صلی اللّه علیه و آله هذه العبارة ثلاث مرات دفعاً لأيّ إلتباس أو اشتباه.
2- راجع للوقوف على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلاّمة الأميني ( ره ).

والمقريزي ، وجلال الدين السيوطي ، ونور الدين الحلبي الى غير ذلك من المؤرخين الذين جادت بهم القرون والأجيال.

كما ذكره أيضاً أئمة الحديث أمثال : الإمام الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو يعلى الموصلي ، والبغوي ، والطحاوي ، والحاكم النيسابوري ، وابن المغازلي ، والخطيب الخوارزمي ، والكنجي ، ومحب الدين الطبري ، والحمويني ، والهيثمي ، والجزري ، والقسطلاني ، والمتقي الهندي ، وتاج الدين المناوي ، وأبو عبد اللّه الزرقاني ، وابن حمزة الدمشقي الى غير ذلك من أعلام المحدثين الذين يقصر المقال عن عدّهم وحصرهم.

كما تعرض له كبار المفسرين ، فقد ذكره : الطبري ، والثعلبي ، والواحدي في أسباب النزول. والقرطبي ، وأبو السعود ، والفخر الرازي ، وابن كثير الشامي ، والنيسابوري ، وجلال الدين السيوطي ، والآلوسي ، والبغدادي.

وذكره من المتكلمين طائفة جمّة في خاتمة مباحث الإمامة وإن ناقشوا نقضاً وابراماً في دلالته كالقاضي أبي بكر الباقلاني في تمهيده ، والقاضي عبد الرحمن الايجي في مواقفه ، والسيد الشريف الجرجاني في شرحه ، وشمس الدين الاصفهاني في مطالع الأنوار ، والتفتازاني في شرح المقاصد ، والقوشجي في شرح التجريد إلى غير ذلك من المتكلمين الذين تعرضوا لحديث الغدير وبحثوا حول دلالته ووجه الحجّة فيه.

واقعة الغدير ورمز الخلود :

أراد المولى عزّ وجلّ أن يبقى حديث الغدير غضّاً طرياً على مر الأجيال لم يُكدّر صفاء حقيقته الناصعة تطاول الأحقاب ، وكرّ الأزمان ، وانصرام الأعوام ، ويرجع ذلك إلى اُمور ثلاثة :

1 - إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قد هتف به في مزدحم غفير يربو على

ص: 527

عشرات الآلاف عند منصرفه من الحج الأكبر ، فنهض بالدعوة والاعلان ، وحوله جموع من وجوه الصحابه وأعيان الاُمة ، وأمر بتبليغ الشاهد الغائب ليكونوا كافّة على علم وخبر بما تم ابلاغه.

2 - إنّ اللّه سبحانه قد أنزل في تلك المناسبة آيات تلفت نظر القارئ إلى الواقعة عندما يتلوها وإليك الآيات :

أ - ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ( المائدة / 67 ).

وقد ذكر نزولها في واقعة الغدير لفيف من المفسرين يربو عددهم على الثلاثين ، وقد ذكر العلاّمة البحّاثة المحقق الأميني في كتاب الغدير نصوص عبارات هؤلاء ، فمن أراد الاطّلاع عليها ، فليرجع إليه.

ب - ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة / 3 ).

وقد نقل نزول الآية جماعة منهم يزيدون على ستة عشر.

ج - ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللّهِ ذِي المَعَارِجِ ) ( المعارج / 1 - 3 ).

وقد ذكر أيضاً نزول هذه الآية جماعة من المفسرين ينوف على الثلاثين أضف إلى ذلك انّ الشيعة عن بكرة أبيهم متفقون على نزول هذه الآيات الثلاث في شأن هذه الواقعة (1).

3 - إنّ الحديث منذ صدوره من منبع الوحي تسابقت الشعراء والاُدباء على نظمه ، وانشاده في أبيات وقصائد امتدّت وقعتها منذ عصر انبثاق ذلك النص في تلك المناسبة إلى عصرنا هذا ، وبمختلف اللغات والثقافات ، وقد تمكّن البحّاثة المتضلع العلاّمة الأميني من استقصاء وجمع كل ما نظم باللغة العربية حول تلك

ص: 528


1- راجع كتاب الغدير في شأن نزول هذه الآيات ج 1 ص 214 و 217.

الحادثة ، والمؤمّل والمنتظر من كافة المحققين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم استنهاض هممهم لجمع ما نظم واُنشد في أدبهم الخاص.

وحصيلة الكلام : قلّما نجد حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامّة ، وفي التاريخ الإسلامي والاُمة الإسلامية خاصة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير ، وقلّما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدثين والمفسرين والكلاميين والفلاسفة والاُدباء والكتّاب والخطباء وأرباب السير والمؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة ، وقلّما اعتنوا بشيء مثلما اعتنوا به.

هذا ويستفاد من مراجعة التاريخ انّ يوم الثامن عشر من شهر ذى الحجة الحرام كان معروفاً بين المسلمين بيوم عيد الغدير ، وكانت هذه التسمية تحظى بشهرة كبيرة إلى درجة انّ ابن خلكان يقول حول « المستعلى بن المستنصر » :

« فبويع في يوم غدير خم ، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 487 ه » (1).

وقال في ترجمة المستنصر باللّه العبيدي : « وتوفي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين واربعمائة ، قلت : وهذه هي ليلة عيد الغدير أعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة ، وهو غدير خم » (2).

وقد عدّه أبو ريحان البيروني في كتابه الآثار الباقية « ممّا استعمله أهل الإسلام من الأعياد » (3).

وليس ابن خلكان ، وأبو ريحان البيروني ، هما الوحيدان اللذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الأعياد ، بل هذا الثعالبي قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين (4).

ص: 529


1- وفيات الأعيان ج 1 ص 60.
2- وفيات الأعيان ج 1 ص 60.
3- ترجمة الآثار الباقية : ص 395 ، الغدير ج 1 ص 267.
4- ثمار القلوب : ص 511.

إنّ عهد هذا العيد الإسلامي ، وجذوره ترجع إلى نفس يوم « الغدير » لأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أمر المهاجرين والأنصار ، بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك اليوم بالدخول على « عليّ » علیه السلام ، وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن أرقم : كان أوّل من صافح النبي صلی اللّه علیه و آله وعليّاً : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وباقي المهاجرين والأنصار ، وباقي الناس (1).

الحمد للّه الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية علي بن أبي طالب علیه السلام .

خاتمة المطاف

ما قدّمناه إليك في الفصول السابقة حول حياة النبي وشخصيته كان مقتبساً من الذكر الحكيم ومدعماً بالتاريخ والأحاديث الصحيحة ، وكان الجدير بنا أن نجعجع بالقلم عن الإفاضة ونترك ما بقى من خصوصيات حياته وشخصيته إلى كتب السيرة لمن أراد التوسّع.

غير انّا نحب أن نركّز في الخاتمة على أساليب دعوته في عصر الرسالة ليكون قدوة لنا في هذا السبيل ، ونكتفي من الكثير بالقليل.

ص: 530


1- راجع مصدره في الغدير ج 1 ص 270.

(14) الإعلام وأساليبه في عصر الرسالة

اشارة

إنّ انتشار أي دين أو أيديولوجية ورسوخها في العقول والنفوس يتوقّف مضافاً إلى اتقان ذلك الدين في محتواه ومضامينه على الدعوة الصحيحة إليه ، وعرضه عرضاً واسعاً وشاملاً.

وقد توفّر في الإسلام هذان الجانبان :

أمّا الأوّل : فإنّ الإسلام ذو اُصول ، ومفاهيم تنطبق على الفطرة الإنسانية ، فهو يدعو إلى العدل والإحسان ، واجتناب البغي والعدوان ، وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض ، وإلى العلم والقراءة والكتابة ، وإلى التعاون والتعاضد ، وغير ذلك من الاُصول الاجتماعية والأخلاقية التي توافق فطرة البشر وتعضدها العقول بلا استثناء.

كما أنّ الإسلام لا يشتمل على أيّة عقيدة رمزية أو اُصول معقدة لا تقدر على حلّها الأفكار ، ولا تستطيع على دركها العقول ، كما هو الحال في « تثليث » البراهمة والمسيحيين.

وأمّا الثاني : فإنّ القرآن الكريم يسعى بكل قوّة ووسيلة ممكنة إلى نشر الاسلام ، فيخاطب النبي صلی اللّه علیه و آله ويأمره بالإنذار والتبشير ، والدعوة والتبليغ ، والصدع والموعظة ، والتذكير ، والبيان ، والتعليم ، والانباء ، إلى غير ذلك من الأساليب التي تعرب عن لزوم قيام النبي بتبليغ الرسالة الاسلامية إلى الناس ، بكل صورة ممكنة ، وإليك نماذج من تلك الخطابات.

ص: 531

ففي مجال الانذار يقول تعالى : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء / 214 ).

وفي مجال التبشير يقول تعالى : ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ) ( البقرة / 25 ).

ويقول تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) ( الفتح / 8 ).

وفي مجال الدعوة يقول سبحانه : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ) ( النحل / 125 ).

وفي مجال الابلاغ يقول سبحانه : ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ ) ( الشورى / 48 ).

وفي مجال الصدع يقول سبحانه : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) ( الحجر / 94 ).

وفي مجال الموعظة يقول تعالى : ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ ) ( النساء / 63 ).

وفي مجال التذكير يقول تعالى : ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ) ( ق / 45 ).

وفي مجال البيان يقول سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل / 44 ).

وفي مجال التعليم يقول سبحانه : ( يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) ( البقرة / 151 ).

وفي مجال التنبّؤ قال سبحانه : ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الحجر / 49 ).

وقد قام النبي صلی اللّه علیه و آله بهذا الأمر ، وعرض الاسلام عرضاً كاملاً قويّاً ، فدعا أهله وأقرباءه أوّلاً ، ثم دعا قومه وأبناء جلدته ثانياً ، ولمّا استتبّ له الأمر ، واستقرّ به المقام في المدينة المنوّرة ، وجّه دعاته إلى شتّى أقطار الأرض وكلّفهم بابلاغ دينه ومنهاجه إلى الملوك والاُمراء والشعوب والقبائل ، وتحقّق هذا العمل بشكل واسع حتى لم يلبث أن بلغ نداء الاسلام إلى مسامع جميع المجتمعات البشرية ، دانيها وقاصيها في مدة لا تتجاوز قرناً واحداً من الزمان.

ص: 532

نماذج من الإعلام في العهد النبوي

اشارة

وقد تمثّل الإعلام الإسلامي في العهد النبوي ، في اُمور قام بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مجال تبليغ الإسلام ، وإيصال نداءه إلى مسامع البشرية في مختلف الأقطار والأصقاع وهذه الاُمور هي :

1 - البعثات الإعلامية

قد قام النبي الأكرم بارسال مبعوثين ومندوبين للدعوة والتبليغ ، ونذكر على سبيل المثال مصعب بن عمير ، الذي بعثه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة ليعلّم الناس القرآن ، ويفقّههم في الدين ، وكان شابّاً ذكياً أسلم عن رغبة وتفهّم وتعلّم من القرآن كثيراً ، فأمره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالخروج إلى المدينة مع بعض من آمن من أهلها برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ليدعو أهل المدينة من الأوس والخزرج إلى الإسلام ، فاستطاع بحسن تدبيره ، وفضل حكمته في التبليغ والإرشاد أن يستقطب عدداً كبيراً من أهل المدينة شيباً وشباباً ورجالاً ونساءً إلى الإسلام حتى لم يلبث أن جعل من يثرب مدينة إسلامية تهيّأت لاستقبال رسول اللّه أكبر استقبال ، وهو لم يملك إلاّ إيماناً صادقاً وإخلاصاً في العمل (1).

وبعدما هاجر إلى المدينة بعث مجموعات تبليغية لنشر الإسلام ودعوة الناس إليه ، وأخصّ بالذكر مجموعتين تبليغيتين أرسلهما رسول الإسلام إلى بعض القبائل لتعليمها القرآن الكريم وأحكام الاسلام ، وهاتان المجموعتان هما :

المجموعة الاُولى : التي بعثها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى قبيلتي عضل وقارة.

فقد طلبت القبيلتان من النبي صلی اللّه علیه و آله أن يبعث إليهم من

ص: 533


1- أعلام الورى ص 27.

يعلّمهم القرآن ، ويفقّههم في الاسلام.

فاستجاب النبي لهذا الطلب ، وأرسل ستة أشخاص ، وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، ولكن القوم غدروا باُولئك المبلغين الأبرياء ، فقتلوا من قتلوا منهم ، وأسروا رجلين منهم باعوهما لقريش ، فصلبوهما انتقاماً لقتلى بدر من المشركين والقصة مفصلة (1).

المجموعة الثانية : وهي المجموعة التبليغية التي أرسلها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى قبيلة « بني عامر » لطلب أحد زعمائها الكبار ، وذلك قبل أن يبلغه غدر عضل وقارة بالمجموعة الاُولى ، وقد أرسلهم بعد أخذ مواثيق وضمانات من الطالب ، ولكن هذه المجموعة التي كانت تتألّف من أربعين شخصاً من خيرة القرّاء قد واجهت نفس ما واجهت المجموعة التبليغية الاُولى ، ولكن لا على أيدي القبيلة المبعوثين إليها ، بل على يد آخرين من القبائل المشركة المعادية للإسلام ، وقد وقع الغدر والفتك بهم في منطقة تدعى بئر معونة (2).

وقد أحزنت هاتان الفاجعتان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاّ أنّهما لم يثنيا عزمه الشريف عن مواصلة التبليغ ، بل واصل ارسال المبلّغين والرسل إلى مناطق اُخرى كما أرسل طائفة كبيرة إلى الملوك والاُمراء والقبائل وزعماء الجماعات داخل الجزيرة العربية وخارجها.

2 - الرسائل الإعلامية
اشارة

وإليك فيما يلي طائفة من الرسائل التي بعثها النبي صلی اللّه علیه و آله يدعو فيها رؤساء القبائل إلى الاسلام ، ونخص بالذكر كتبه الاعلامية فقط :

ص: 534


1- المغازي ج 1 ص 354 - 362 ، والسيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 169.
2- السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 183 - 187.

1 - كتابه إلى سمعان بن عمرو الكلابي.

2 - كتابه إلى ورد بن مرداس أحد بني سعد هذيم.

3 - كتابه إلى الاقيال من حضرموت.

4 و 5 - كتابان إلى أهل قريتين.

6 - كتابه إلى بني حارثة بن عمرو بن قريط.

7 - كتابه إلى عبد العزيز بن سيف بن ذي يزن.

8 - كتابه إلى عمرو بن مالك بن عمير الأرحبي.

9 - كتابه إلى عريب والحارث ابني عبد كلال.

10 - 16 - سبعة كتب إلى فهد وزرعة وبس وغيرهم من ملوك حمير.

17 - كتابه إلى جفينة النهدي.

18 - كتابه إلى ملك الروم.

19 - كتابه إلى عبد اللّه بن الحارث الأعرج الأزدي الغامدي.

20 - كتابه إلى خراش بن جحش العبسي.

21 - كتابه إلى سرباتك ملك الهند.

22 - كتابه إلى قيس بن عمر الهمداني.

23 - كتابه إلى جبلّة بن الأيهم الغساني.

24 - كتابه إلى بني معاوية من كندة.

25 - كتابه إلى نفاثة بن فروة ملك السماوة.

26 - كتابه إلى عذرة.

27 - كتابه إلى ذي عمرو.

28 - كتابه إلى ذي الكلاع.

ص: 535

29 - كتابه إلى اسيخب.

30 - كتابه إلى حوشب ذي ظليم.

31 - كتابه إلى رعية السحيمي.

32 - كتابه إلى قيس بن مالك (1).

هذه كتاباته التبليغية التي وردت أسماؤها في الكتب ، وإن ذهبت ألفاظها وعبارتها فلم يبق منها إلاّ الإسم.

وهناك كتب تبليغية له صلی اللّه علیه و آله موجودة بأعيانها وخصوصيّاتها في كتب السير والتاريخ والحديث ، والكلّ يدلّ على أنّ الإسلام انتشر في العالم بفضل الدعوة الصحيحة وبعث الدعاة والرسل ، ولو كان هناك سل السيف وسفك الدم ، فإنّما كان لرفع الحواجز بين الرسول وتبليغه.

وإليك أسماء كتبه الموجودة التبليغيّة التي أرسلها إلى الملوك والاُمراء والشيوخ والقبائل على نحو الإيجاز والإيعاز والتفصيل يطلب من مظانّه (2).

مراسلة الملوك والاُمراء ورؤساء القبائل

إنّ أبرز كتبه في الدعوة إلى الاسلام هي :

1 - كتابه إلى كسرى ملك الفرس.

2 - كتابه إلى قيصر عظيم الروم.

3 - كتابه إلى النجاشي ملك الحبشة.

4 - كتابه إلى المقوقس ملك مصر.

ص: 536


1- لاحظ مكاتيب الرسول للعلاّمة الأحمدي ص 35 - 40.
2- راجع الوثائق السياسية ومكاتيب الرسول.

5 - كتابه إلى ملوك الشام واليمامة.

6 - كتابه إلى الحارث بن أبي شمر.

7 - كتابه إلى هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة.

8 - كتابه إلى المنذر بن ساوي.

9 - كتابه لرفاعة بن زيد الجزامي.

10 - كتابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي.

11 - كتابه إلى فروة بن عمرو الجذابي.

12 - كتابه إلى أكثم بن صيفي.

13 - كتابه إلى اسيخب بن عبد اللّه.

14 - كتابه إلى يحنه بن رؤبة وسروات أهل أيلة.

15 - كتابه إلى زياد بن جهور.

16 - كتابه إلى بكر بن وائل.

17 - كتابه إلى مسيلمة الكذّاب.

18 - كتابه إلى ضغاطر الأسقف.

19 - كتابه إلى اليهود.

20 - كتابه إلى يهود خيبر.

21 - كتابه إلى أسقف نجران.

22 - كتابه إلى هرمزان عامل كسرى.

وقد دعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الكتب التي سجّلها التاريخ وأثبت نصوصها كاملة ، الملوك والاُمراء إلى الدين الإسلامي وشرح أهدافه وغاياته السامية.

ص: 537

وقد حمل هذه الكتب رجالاً من أصحابه اتّسموا بالنباهة والذكاء ، والشجاعة والحكمة.

ويذكر التاريخ انّ بعضهم كان يعرف لغة القوم الذين اُرسل إليهم مع كتاب النبي صلی اللّه علیه و آله .

وكان هؤلاء الرسل يتمتّعون بإيمان قوي ، وينطلقون من عقيدة راسخة بالدين وشجاعة ، وهي الصفات التي يجب أن يتحلّى بها المبلّغ ، ولهذا كانوا في الأغلب يؤثرون في نفوس المرسل إليهم حتّى انّهم كانوا يقبلون دعوة النبي ولو آل إلى التضحية بحياتهم كما حدث لضغاطر الأسقف فإنّه لمّا جاءه كتاب النبي صلی اللّه علیه و آله فقرأه أخذ بمجامع قلبه واهتدى إلى الحق واعتنق الإسلام راغباً وقال لقومه من الروم :

« يا معشر الروم ... إنّي أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وانّ أحمد عبده ورسوله » ، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد وقتلوه » (1).

3 - التبليغ عن طريق الأدب والنظم

ولم يكتف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تبليغ رسالته بالرسائل والكتب بل استعان بالشعر أيضاً ولهذا كان حسّان يخلّد الحوادث ، بأبيات من الشعر ، ويشجّعه النبي صلی اللّه علیه و آله وربّما دافع حسّان وغيره عن حوزة الإسلام ونبيّه بهجاء من يعادونه أو يتعرّضون له أو يهجونه ، وإليك نماذج من هذا الأمر.

1 - عندما هجا ابن الزبعريّ المسلمين يوم اُحد ، قائلاً :

يا غراب البين اسمعت فقل *** إنّما تنطق شيئاً قد فعل

ص: 538


1- الطبري ج 2 ص 392 و 693.

إلى أن قال :

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل

فقتلنا الضِّعف من أشرافهم *** وعدلنا ميل بدر فاعتدل

قال حسّان في الرد عليه :

ذهبت يا بن الزبعري وقعة *** كان منّا الفضل فيها لو عدل

ولقد نلتم ونلنا منكم *** وكذاك الحرب أحياناً دول

الى آخره ... .

2 - لما قال عمرو بن العاص في هجاء المسلمين يوم اُحد :

خرجنا من الفيفا عليهم كأنّنا *** مع الصبح من رضوى الحبيك المُنَطّق

أرادوا لكيما يستبيحوا قبابنا *** ودون القباب اليوم ضرب محَرّق

قال كعب بن مالك في الردّ عليه :

ألا أبلغا فهراً على نأي دارها *** وعندهم من علمنا اليوم مصدق

إلى أن قال :

لنا حومة لا تستطاع يقودها *** نبيّ أتى بالحقّ عف مصدّق

3 - ما قاله هبيرة يوم اُحد أيضاً في هجاء المسلمين إذ قال فيما قال من الشعر :

كان هامهم عند الوغى فلق *** من قيض رُبْدٍ نفته عن أداحيها

فأجاب حسّان بقوله :

ألا اعتبرتم بخيل اللّه إذ قتلت *** أهل القليب ومن ألقينه فيها

ص: 539

كم من أسير فككناه بلا ثمن *** وجزّ ناصية كنّا مواليها (1)

وغير ذلك من الموارد التي قابل فيها حسّان وغيره من شعراء الإسلام الاول هجاء بهجاء ، قارع قاصع.

4 - إعلان البراءة من المشركين

وكان من أبرز مصاديق التبليغ والإعلام ما كلّف به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأمر من اللّه تعالى ، أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب بتلاوة آيات من صدر سورة التوبة على مسامع المشركين وغير هم في يوم الحج الأكبر والتي أعلن اللّه فيها براءته وبراءة نبيّه من الشرك والمشركين ، وضرب لهم أجلاً ليبيّنوا موقف من الاسلام وأعلن انّ المشركين لا يجوز لهم دخول مكّة بعد ذلك الوقت والأجل.

وقد كان لهذا الإعلان العام القوي أثر كبير في إسلام مجموعات كبيرة من القبائل المشركة ، وتوافدها على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في العام المسمّى بعام الوفود.

5 - شعار المسلمين في الهجمات العسكرية

ومن جملة أساليب التبليغ التي كان يتبعها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إطلاق الشعارات المناسبة في المعارك فمثلاً لمّا صاح أبو سفيان بعد إلحاق الهزيمة بالمسلمين : اعل هبل اعل هبل. أمر النبي صلی اللّه علیه و آله بأن يقابلوه بشعار :

اللّه أعلى وأجل.

ص: 540


1- السيرة النبوية ج 2 ص 2 و 131 - 132.

ولمّا صاح : نحن لنا العزّى ولا عزّى لكم.

قال النبي صلی اللّه علیه و آله قولوا :

اللّه مولانا ولا مولى لكم.

كما أنّ المسلمين كانوا عند الهجوم على الأعداء ينادون بشعار خاص مثل : امت ... امت (1).

كانت هذه لمحة سريعة عن أساليب رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله في التبليغ والدعوة إلى الإسلام ، وهي تكفي لمعرفة إهتمام الإسلام بهذا الأمر.

وفي هذا العصر حيث اُتيحت للبشرية أجهزة ووسائل أوسع للتبليغ يتعيّن على المسلمين الإستفادة منها بشكل أفضل وبمنتهى الشجاعة والعزم ليصدق في شأنهم قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللّهَ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ) ( الأحزاب / 39 ).

ما هي وظائفنا اليوم في مجال التبليغ والدعوة ؟

هذا بعض ما كان يقوم به رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله في مجال التبليغ والدعوة إلى الإسلام ، وقد كان عملاً عظيماً جبّاراً بالقياس إلى وسائل ذلك العصر ، فما هو واجب المسلمين في هذا الزمن وهم يملكون أعظم الأجهزة للتبليغ والدعوة.

فماذا يجب أن يفعله المسلمون اليوم ؟

هذا هو ما يجب أن نشير إليه في هذا المقام.

والذي نراه هي الاُمور التالية :

1 - رصد التبشير المسيحي والدعايات الماركسية : إنّ العالم الإسلامي يحاصره

ص: 541


1- السيرة النبويّة ج 2 ص 68.

اليوم معسكران قويّان مزوّدان بكلّ القوى والإمكانات ، وهما المعسكر الغربي الذي يروّج المسيحية ، والمعسكر الشرقي الذي يروّج الماركسية والإلحاد.

ويعمل هذان المعسكران ليل نهار على بثّ سمومهما في أقطار العالم الإسلامي بمختلف الأساليب والسبل.

ومن أساليبهم النيل من كرامة النبي العظيم صلی اللّه علیه و آله ، فهذا هو كتاب يصدر في لندن باسم « الآيات الشيطانية » يشكّك في نبوّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وتتحدّث عنه إذاعة لندن لإلقاء الضوء عليه ، وحثّ الناس على قراءته تحت غطاء نقل الأخبار.

وهو مع الأسف يستند إلى بعض المصادر الإسلامية التي تحتاج إلى نظارة التنقيب جدّاً مثل تاريخ الطبري والسيرة الحلبية ، فكم فيهما من موضوعات ومنحولات واسرائيليّات ومسيحيّات بثّها أبناء الديانتين من كعب الأحبار ووهب ابن منبه وتميم الداري ، وأخذها السذّج من المسلمين ، وزعموا أنّها حقائق راهنة.

فلابدّ أن تنهض جماعة من العلماء والمفكّرين والخطباء للتصدّي لهذه الهجمة الظالمة على الإسلام بالوسائل المتاحة والمفيدة.

2 - رصد الدعايات المفرّقة لصفوف المسلمين وتبديد وحدتهم التي هي أقوى قلعة في وجه العدوّين المذكورين آنفاً ، فلابدّ أن تجدّد فكرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية ، ولابدّ أن يتصدّى مركز إسلامي قوي للكتب المفرّقة التي لا يقصد من كتابتها وبثّها إلاّ إيجاد الفرقة بين الطوائف الإسلامية في عصر هي أحوج ما فيه إلى التعاضد والتعاون والتعاطف ، خاصّة أنّ هذه الكتب تحتوي على سفاسف وترّهات وقضايا لا قيمة لها ولا أساس. ضع يدك على كثير ممّا ينتشر في أشهر الحج ضد الشيعة الإمامية.

نعم لا يعني من هذا أن لا يعرض أحد عقيدته بصورة موضوعية علميّة أو أن يتجرّد أحد من عقائده من دون دليل ، بل المطلوب هو تجنّب التهجّم على الآخرين ،

ص: 542

وبثّ بذور الفرقة والتشتّت ، وإلاّ فعرض المذاهب مستنداً إلى أوثق المصادر لغاية التعرّف من وسائل التقريب وأدواته.

3 - تأسيس وحدة إعلامية واحدة للمسلمين : إنّ الأعداء على اختلاف مشاربهم ومطامعهم يؤلّفون وحدة إعلامية واحدة ، فلابد أن يقوم المسلمون بتأسيس وحدة إعلامية واحدة ، ويستفيدون من جميع وسائل الإعلام والتبليغ والدعوة من إذاعة وتلفزيون وسينما ومسرح ، لعرض الحقائق الدينية للناس بعيداً عن أجواء السياسات الداخلية والظروف الخاصة.

4 - اصلاح الكتب الدراسية : ينبغي أن يقوم علماء الإسلام باصلاح الكتب الدارسية التي تدرّس في المدارس والجامعات ويجرّدوها عمّا يشوّش أفكار الناشئة ويدفعه عن اساءة الظن بتاريخه ودينه.

هذا هو بعض ما يجب أن يقوم به المسلمون في مجال التبليغ والدعوة إلى الإسلام وهو فرض عليهم وواجب من واجباتهم كيف لا ، ومهمة الإعلام والإبلاغ لم تنحصر برسول الإسلام فقط ، بل اعتبرها القرآن من وظيفة الاُمّة الإسلامية أيضاً. وسمّاها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وجعل هذا العمل من وظائف المسلمين على اختلاف مستوياتهم ومؤهّلاتهم فقال :

( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( آل عمران / 104 ).

وقال سبحانه :

( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) ( آل عمران / 110 ).

وليس الأمر بالمعروف مقصوراً على تنبيه العصاة من المسلمين ، بل هو أصل عام يعم كل دعوة فيها وصلاح للمجتمع الإنساني من ابلاغ دينه سبحانه ، ونشر اُصوله وفروعه أوّلاً والحث على الطاعة والانذار على المخالفة ثانياً.

ص: 543

واعتبر الإسلام القيام بهذاه الوظيفة سبباً لازدهار الحياة ، في شتّى مجالاتها إذ قال الإمام الباقر علیه السلام :

« إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء ، بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب ، وتحل المكاسب ، وترد المظالم ، وتعمّر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر » (1).

إنّ القرآن الكريم عدّ ترك هاتين الوظيفتين سبباً لهلاك الناس إذ قال :

( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) ( الأعراف / 163 - 165 ).

فقد أهلك اللّه الذين كانوا يتقاعسون عن أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل يعترضون على من يقوم بهذه الوظيفة ، أهلكهم كما أهلك الفاسقين الذين كانوا يتجاوزون حدود اللّه وحرمة الصيد يوم السبت.

وقد ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذا الصدد أنّه قال :

« لايزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وتعارفوا على البرّ ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض ، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء » (2).

إنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله حذّر من مغبّة ترك هاتين الفريضتين ، وانّ ذلك يؤدي إلى أن تنقلب القيم لدى الاُمّة الإسلامية عند ترك الأمر

ص: 544


1- الوسائل : ج 11 ص 395.
2- البحار : ج 94 ص 97.

بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيصير المنكر معروفاً والمعروف منكراً ، إذ قال صلی اللّه علیه و آله : كيف بكم إذ افسدت نساؤكم وفسق شبابكم ، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر ؟

فقيل له : ويكون ذلك يا رسول اللّه ؟

قال : نعم ، وشرّ من ذلك ، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ؟

قالوا : يا رسول اللّه ويكون ذلك ؟

قال : نعم ، وشرّ من ذلك ، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً (1).

النظر إلى الإنسانية برحابة صدر

ومن أساليب دعوته أنّه كان ينظر إلى الإنسانية برحابة صدر ولا يرى ميزاً لانسان أو تفوّقاً له على انسان إلاّ بالتقوى ، وكانت القومية عنده أبغض شيء ، والدعوة إليها عنده دعوة خبيثة مفرّقة للاُمّة ومشتّتة لها ، وبما أنّ القومية بمفهومها الواسع صارت شعاراً لأكثر المسلمين المعاصرين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم ، فالعربي يدعو إلى القومية العربية ، والتركي الى القومية التركية وهكذا ، فوجب علينا البحث عن القومية من منظار الكتاب والسنّة وبذلك نختم البحث حتى يكون ختامه مسكاً فنقول :

ص: 545


1- البحار : ج 97 ص 74.

(15) القوميّة في الكتاب والسنّة

اشارة

وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نأتي بعناوين البحث فنقول : إنّ البحث يدور على نقاط عشر وهي :

1 - ما هي القومية في مصطلح السياسيين وأصحاب هذه الفكرة ؟

2 - تعيين تاريخ تكوّن هذه الفكرة في هذه العصور الأخيرة.

3 - هزيمة هذه الفكرة في مولدها وموطنها.

4 - اشتعال هذه الفكرة ونموّها في البلاد الاسلامية مؤخّراً.

5 - دعاة هذه الفكرة في الشرق الاسلامي جماعة ينتسبون إلى البيوت المسيحية وهل يمكن عدّ هذا الامر أمراً اتّفاقياً وصدفيا ؟.

6 - ما هي الغاية من زرع هذه الفكرة وترويجها في الأوساط الاسلاميه ؟

7 - رسالة الاسلام رسالة عامة عالمية لا تختص بقوم دون قوم.

8 - تفسير قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ... ) وبيان النكات الست فيه.

9 - كلمات مضيئة للرسول الأعظم في تحطيم القومية.

10 - الخسارة التي تفرضها القومية على البشرية أولاً والاسلام والمسلمين ثانياً. فهذه جهات البحث ونقاطها الحساسة التي نبحث عن الكل موجزاً فنقول :

1 - ما هي القومية ؟

القومية حسب ما يستفاد من المعاجم السياسية : هي الاعتقاد بارتقاء شعب

ص: 546

خاص على سائر الشعوب من حيث الخِلقة والخلق والعقيدة والمثل ويراد فيها باللغة الاوريية ( ناسيوناليزم ) ، وبعبارة اُخرى هي الاعتقاد بتفوّق شعب خاص والنظر إلى سائر الشعوب بالحقد والضغينة وكأنّ حامل تلك الفكرة يحب نفسه ويبغض غيره ويخاصمه.

وهذا المورد من الموارد التي تنتزع الايديولوجية من النظرة العامة إلى الكون بمعنى انّ مدّعي القومية ينظر إلى الكون والحياة ، فيرى لنفسه حسب خياله تفوّقاً وعلوّاً ، فيرتب على تلك النظرة فكرته القومية ويبني الايديولوجية على ما استنتجه من النظر إلى الكون ، ويقول : إذا كنت أنا وقومي متفوّقين في الخلق والخلقة يجب أن نكون متصدّرين في السياسة والسلطة ويكون الغير خادماً ومتعبّداً لنا وتكون لنا السلطة عليه.

وبذلك يعلم أنّ القومية لا تفترق عن العنصرية ، فلو لم تكن هناك فكرة التفوّق في الحياة لما كان للقومية تفسير منهجي صحيح ، فالقومية قائمة على العنصرية وتكون الثانية أساساً للاُولى ، ونشير هنا إلى نكتة وهي انّ دعاة القومية يذمّون العنصرية مع أنّ القومية مبنيّة على أساس العنصرية كما أشرنا فلو لم يكن هناك تفوق عنصري لم يكن لصرح القوميه أساس ولا تفسير صحيح.

2 - تعيين تاريخ زرع هذه الفكرة في العصور الأخيرة :

إنّ الباحثين عن القومية يتّفقون على أنّ تلك الفكرة ظاهرة غربية يعود أصلها إلى الفرنسيين في القرن السادس عشر ، وذلك لأنّ التفرقة الهدّامة كانت سائدة على ذلك الشعب من حيث المذهب والعقيدة ، وكانت كل فرقة متمسكة بعقيدتها غير عادلة إلى غيرها ، ففي تلك الآونة ، قام عدة من رجال السياسة الذين يهمّهم كل شيء إلاّ المذهب ، بجمع شتات تلك الاُمة في ظل عامل واحد وهو القومية الفرنسية عسى أن يتوفّقوا في ظلّ هذا العامل بجمع شتاتهم ولمِّ شعثهم ، وقد نجحوا في ذلك المجال بعض النجاح.

ص: 547

ولم تكن تلك الكلمة يوم ذلك مفيدة غير هذا المعنى ، إلاّ أنّها عبر القرون والعصور أخذت لنفسها معنى خاصاً ، وتضمّنت تضمير الحقد والتحقير لسائر الأقوام.

نعم هذه جذور القومية النامية في القرون الاخيرة ، ولكن للشعوبية بمعنى القومية جذوراً تاريخية اُخرى ، وهي انّ التعصب للعربية ، من جانب الخلفاء الامويين والعباسيين ، كوّن تلك الفكرة في الشعوب الاسلامية غير العربية ، ولهذا اجتمعت الاُمم على التعلّق بالقومية في مقابل التعصبات العربية التي كانت تثيرها الخلافة الاموية والعباسية ، والبحث عن ذلك يحتاج إلى افراد رسالة مستقلة.

3 - هزيمة تلك الفكرة في مولدها :

بينما يسعى بعض المفكرين السياسيين في ترويج تلك الفكرة في الشرق الاسلامي نرى تقهقر تلك الفكرة في الغرب وانهزامها أمام المشاكل العظيمة ، وهذا لأنّ الغرب جرّب بعد الحربين العالميتين أنّه لا يقدر على العيش والحياة إلاّ بتوحيد الشعوب والأقوام ، بل الدخول في أحد المعسكرين الشرقي والغربي ، فرفض القومية وطفق يستظل بظل الاتحاديات الاقتصادية والسياسية والثقافية وأحسّ أنّه لا ينجح في معترك الحياة إلاّ برفض القومية ونسيانها.

ويدلّ على تقهقر هذه الفكرة في القرن العشرين ظهور جامعة الدول قبل الحرب العالمية الاُولى ، وتكوّن الاُمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية فيها ، والتجاء الدول النامية والمستضعفة إلى عقد مواثيق وتحالفات مع القوى الكبرى.

كل ذلك يسفر عن حقيقة واضحة ، وهي انّه قد مضى زمن تلك الفكرة وانّ بناء الدولة والمملكة على ذاك الأساس بناء على شفا جرف هار.

إنّ إنجراف بعض الدول الشرقية في تيار الإشتراكية والتحالف مع الماركسية ، كتعلّق الدول الغربية بمعسكر الرأسمالية ، يكشف عن عدم كفاءة هذه الظاهرة المادّية في حل مشاكل الأقوام ، ورفع العراقيل النامية في حياتهم.

ص: 548

4 - اشتعال هذه الفكرة ونموها في البلاد الإسلامية مؤخّراً :

إنّ هذه الفكرة أخذت تنهزم في الغرب وتنسحب عن تلك الجوامع ، ولكنّنا نرى في الشرق دعاة إليها ، بجدّ وحماس فنرى هناك دعوة إلى القومية بأشكالها وألوانها المختلفة ، المتناسبة للظروف والملابسات المحيطة بالمناطق ، فالقومية في مصر عبارة عن الدعوة إلى الفرعونية ، وفي العراق إلى البابلية ، وفي سوريا إلى الآشورية ، وفي الاُردن إلى الرومانية ، وفي إيران إلى الجمشيدية وفي ماوراء النهر إلى جنكيزخان وزملائه العصاة الطغاة.

ما هذه الدمدمة والهمهمة في الأوساط الإسلامية ، وما هو الحافز والمحرك والدافع إلى إحياء تلك الفكرة فيها ، بعدما تقهقرت في موطنها وقُبرت في مولدها ؟ فياليتهم يدعون إلى القومية البسيطة التي دعا إليها الساسة الفرنسيون في القرن السادس عشر ، ولكنّهم أخذوا يدعون إلى القومية البغيضة الإلحادية حتى تصبح هذه الفكرة ذات مكانة خاصّة ، تغني حاملها عن الإيمان باللّه ، والاعتناق بالإسلام ، وها نحن ننقل إليكم - يا أصحاب الفضيلة - كلمات من دعاة القومية في خصوص البلاد العربية ، فها هو ناصر الدين علي يقول في كتابه « قضية العرب » ص 28 : إنّ العربية هو الدين الواقعي لكل عربي سليم مسلماً كان أو مسيحيّاً ، لأنّ القومية العربية كانت سائدة على تلك الاُمّة قبل أن تولد المسيحية والإسلام ، وقد أتت بأمثل الخلق وأعلاها في مجال الحياة.

نرى أنّ وسائل الاعلام العامّة تروّج هذه الفكرة ، فها هي مجلّة العالم العربي تكتب في عدد 1959 : - يجب أن تحل الوحدة العربية المكان الذي حلّ فية الإيمان باللّه الواحد.

ونقل أبو الحسن الندوي عن الكاتب القومي عمرو فاخوري : إنّ العرب لا يكونون قادرين على الثورة والتقدّم ، إلاّ إذا عدّوا العربية ديناً ، ويتمسّكوا بها كتمسّك المسلم بالقرآن ، والمسيحي بالإنجيل إلى غير ذلك.

ص: 549

5 - دعاة هذه الفكرة في الشرق الإسلامي جماعة ينتسبون إلى المسيحية وهل يمكن عد هذا الأمر أمراً اتفاقيّاً وصدفياً :

والعجب أنّ منتحلي هذه الفكرة في مركز الخلافة الإسلامية « بغداد ودمشق » لا يمتّون إلى الإسلام بصلة نظراء : ميشل عفلق وانطوان سعادة وجورج حبش ، هؤلاء لا يمتّون بالإسلام كما لا تمتّ بيوتهم التي نشأوا فيها بهذا الدين ، ومع ذلك فهم يدّعون أنّهم يريدون إعادة المجد إلى البلاد الإسلامية وأبناء القرآن الكريم عن طريق تحكيم القومية فيهم ، فهل يمكن تفسير ذلك بالإتفاق والصدفة ؟ وكيف تريد أبناء النصارى إعادة المجد إلى البلاد الإسلامية والمسلمين وهم ليسوا منهم ؟

إذا ما فصلت عليّا قريش *** فلا في العير أنت ولا النفير

6 - ما هي الغاية من زرع هذه الفكرة وترويجها في الأوساط الإسلامية ؟

كانت الغاية من زرع بذور القومية في الأوساط الإسلامية ، تبديد الحكومة الإسلامية الموحّدة الحاكمة باسم الإسلام ، وكانت البلاد الإسلامية إلاّ ماشذ تعيش في ظل حكومة إسلامية لها طابع الإسلام ، وأراد المستعمرون بزرع تلك البذرة وتنميتها بيد عملائهم ، تقسيم الحكومة الواحدة إلى حكومات ، والبلد الواحد إلى بلاد ، والحاكم الواحد إلى حكّام ، حتى يسهل السيطرة عليهم ، والعجب أنّ جماعة كثيرة من الشباب والمثقّفين اغترّوا بهذه الفكرة وحسبوا أنّ الدعوة إلى القومية دعوة ناجحة مطبّقة بالإسلام والقرآن ، وكأنّهم نسوا قول الباري عزّ وجلّ : ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) ( المؤمنون / 52 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) ( الأنبياء / 92 ).

فصاروا يتخاصمون مكان أن يتحابّوا ، يشتم بعضهم بعضاً ويبغض بعضهم

ص: 550

بعضاً ، فكأنّهم لم يسمعوا قول اللّه عز وجل : ( فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) ( آل عمران / 103 ) أو قوله عزّ وجلّ : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات / 10 ) أو قول نبيّهم الأعظم : « إنّما المؤمنون في تراحمهم وتوادّهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى » (1).

ترى أنّ كل قطر من الأقطار الإسلامية أصبح لقمة صغيرة قابلة للأكل والبلع لحماة الإستعمار أوّلاً والمستعمرين ثانياً ، فحاق بالمسلمين ألوان العذاب وأصناف العقاب.

7 - رسالة الإسلام رسالة عامة عالمية لا تختص بقوم دون قوم وبيان دلائله من القرآن الكريم :

إنّ رسالة النبي الأكرم رسالة عالمية غير مختصّة بشعب دون شعب ، وإن أصرّ الدعاة المسيحيون بتخصيص رسالتها بالاُمّة القاطنة في الجزيرة العربية ، غير أنّ تلك الفكرة فكرة خاطئة يكذّبها القرآن بخطاباته العامّة وهتافاته المطلقة ، فالقرآن يخاطب جميع العالم بلفظ : « يا أَيّها الناس » ويقول : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف / 158 ).

كما أنّه يعرّف النبيّ رحمة للعالمين بقوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء / 107 ).

وبعد القرآن النبي الأكرم نذيراً للعالمين ، ويقول ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان / 1 ).

كما أنّه يأمر النبي أن ينذر بالقرآن كل بشر يصل إليه ذلك الكتاب ، ويقول : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام / 19 ).

ص: 551


1- مسند أحمد ج 4 ص 270.

نعم هناك آية اُخرى ربّما تفع ذريعة لمن يريد الخدعة وتحريف الفكرة الصحيحة ، وهي قوله سبحانه : ( لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) ولكن الآية واضحة ببركة الآية المتقدّمة عليها ، وذلك لأنّ المراد باُمّ القرى هي مكّة كما أنّ المراد ب « من حولها » العالم كلّه فمكّة اُمّ القرى وقلب العالم التوحيدي فإذا أنذر مكّة وأنذر ما حولها فقد أنذر جميع العالم.

فهذه الآيات ونظائرها أوضح دليل على عالميّة رسالته وانّها تشمل جميع أبناء البشر ، كيف والنبي الأكرم حسب قوله سبحانه : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) ( البقرة / 185 ). يهدي كل الناس ببركة القرآن ، أفبعد هذه التصاريح القاطعة يمكن احتمال إختصاص رسالة النبي الأكرم بقوم دون قوم ؟

وهذه الآيات ونظائرها الكثيرة الواردة في القرآن تصرّح بعموميّة رسالته وإطلاق نبوّته.

8 - تفسير قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات / 13 ).

والآية تشتمل على نكات ستّ نشير إليها بإيجاز.

1 - إنّ الآية تقسّم الإنسان إلى قسمين الذكر والاُنثى ويستند في التفسير باُمور ذاتية داخلة في جوهر ذاته وحقيقة وجوده وهي الذكورية والاُنوثية ولا يعتني بالاُمور الطارئة عليه حسب ظروفه وشرائط حياته.

2 - تعترف بالشعوب والقبائل وتصرّح بأنّ هناك قوميّات ولا تنفيها أبداً.

3 - تصرّح بأنّ اختلاف البشر من جهة الشعوب والقبائل كاختلافهم من حيث الذكورة والاُنوثة وإنّ كلا الاختلافين داخلان في جوهر وجوده وواقع شخصيّته.

4 - يسند تكوّن الاختلاف في كلتا الجهتين إلى نفسه ( إِنَّا خَلَقْنَاكُم ... وَجَعَلْنَاكُمْ ) .

ص: 552

5 - إنّ الغاية من تكوين ذلك الاختلاف وجعل البشر شعوباً وقبائل ليست هي التفاخر والتناكر بل التعارف والتحابب.

6 - إنّ الاعتراف بالقوميّات ليست بمعنى انّها الملاك في التفوّق والاعتلاء بل ملاك التعالي والكرامة في التقوى والتجنّب عن اقتراف المعاصي.

هذه نكات ست جئنا بها على وجه الإيجاز والكل يحتاج إلى توضيج أكثر من هذا نتركه لآونة اُخرى.

9 - كلمات مضيئة للرسول الأعظم في تحطيم القومية :

إنّ الرسول الأعظم جاء يحطّم القومية المبدّدة لكيان الإسلام ووحدة المسلمين وألقى جوامع الكلم في هذا المجال نأتي ببعضها.

أ - قال صلی اللّه علیه و آله في خطبة حجّة الوداع : « يا أيّها الناس إنّ اللّه تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء ، كلّكم من آدم وآدم من تراب ، ليس لعربي على أعجمي فضل إلاّ بالتقوى » (1).

ب - وقال صلی اللّه علیه و آله : « الناس كلّهم سواء كأسنان المشط » (2).

ج - وقال صلی اللّه علیه و آله : « الناس كلّهم أحرار إلاّ من أقرّ على نفسه بالعبودية » (3).

د - وقال صلی اللّه علیه و آله : « ليس منّا من دعا إلى عصبية ».

ص: 553


1- سيرة ابن هشام ج 2 ص 417.
2- كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق : ص 122.
3- وسائل الشيعة ج 3 ص 242.

ه - روى المحدّثون أنّه جلس سلمان إلى جنب سائر الصحابة من قريش فانتهى الكلام إلى الأنساب والأحساب ، فعرّف كل واحد أصله ونسبه ، ولمّا وصل الكلام إلى سلمان فقال : هو أنا سلمان ابن عبد اللّه كنت ضالاًّ فهداني اللّه بمحمد ، وكنت عائلاً فأغناني اللّه بمحمد ، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمد ، فلمّا وقف النبي على محاضرتهم أقبل إليهم وقال : « يا معشر قريش إنّ حسب الرجل دينه ، ومروءته خلقه ، وأصله عقله. قال اللّه عز وجلّ : ( إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) قال النبي لسلمان : ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلاّ بتقوى اللّه عزّ وجلّ ، وإن كانت تقوى لك فأنت أفضل (1).

و - قال صلی اللّه علیه و آله : « ليدعن رجالاً فخرهم بأقوام إنّما هم فحم من فحم جهنّم أو ليكوننّ أهون على اللّه من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن » (2).

وقد نقل انّه اشترك في بعض المغازي شابّ إيراني ، فلمّا وجّه إلى العدو فقال : خذ هذه الضربة من شاب إيراني ، فاعترض عليه النبي صلی اللّه علیه و آله وقال : لماذا لم تقل من رجل أنصاري (3).

ز - كان النبي واقفاً على أنّ العرب تفتخر بلسانها العربي وقال في هذا الصدد : « ألا انّ العربية ليست باب والد ولكنّها لسان ناطق فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه » (4).

ح - إنّ النبي أسّس مجتمع إسلامي عظيم من قوميّات مختلفة فضمّ عليّاً العربي إلى صهيب الرومي وضمّ بلال الحبشي إلى سلمان الفارسي وضمّ إليهم خبّاب النبطي من دون أن يزعج واحد منهم الآخر وهم من قوميّات متشتّتة ، ولأجل

ص: 554


1- روضة الكافي ص 181 ، بحار الأنوار ج 22 ص 282.
2- سنن أبي داود ج 2 ص 624.
3- سنن أبي داود ج 2 ص 625.
4- الكافي ج 8 ص 246.

ذلك قام علي علیه السلام يقول : « السباق خمسة فأنا سابق العرب وسلمان سابق فارس وصهيب سابق الروم وبلال سابق الحبشة وخبّاب سابق النبط » (1).

ط - روي انّ عبد الرحمن بن عوف قال لعبده : يا ابن الأسود ، فوقف عليه النبي وقال : « ليس لابن الأبيض على ابن الأسود فضل إلاّ بالتقوى واقتفاء الحق » (2).

ي - روى المحدّثون أنّ عقيلاً أخا علي اعترض على أمير المؤمنين بأنّه ساوى بينه وبين رقّ أسود ، وقال : واللّه لتجعلني وأسود بالمدينة سواء ، فقال علي : وما فضلك عليه إلاّ بسابقة أو بتقوى (3).

ك - روي انّ سلمان كان جالساً في مجلس كانت فيه شخصيات قريش الذين هاجروا إلى المدينة وآمنوا بالنبي ، فاعترض واحد منهم وقال : من هذا العجمي المتصدّر فيما بين العرب ، فلمّا سمع النبي ذلك الكلام اللائح منه القوميّة البغيضة صعد المنبر وقال : إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلاّ بالتقوى » (4).

هذه كلمات مضيئة من النبي حول القومية وكل واحدة منها تكفي في تحطيم القومية وتضادّها مع مبادئ الإسلام.

10 - الخسارة التي تفرضها القومية على البشرية أوّلاً والإسلام والمسلمين ثانياً.

القومية تنمّي روح التوسّعية والسيطرة على أقوام اُخر باعتقاد أنّ حاملها أفضل

ص: 555


1- الخصال للشيخ الصدوق : ص 212.
2- الحديث منقول بالمعنى ، رواه باقر شريف القرشي في كتابه « الحكمة والحكومة » : ص 152.
3- روضة الكافي ج 8 ص 262.
4- الإختصاص للشيخ المفيد : ص 227.

الأقوام وأمثلها ، ولأجل ذلك نرى أنّ رئيس ألمانيا ( هتلر ) في وقته دعى إلى القومية وانّ شعبه من أفضل الشعوب عقلاً وأطهرها دماً ، فأوجد في قومه نخوة كبيرة وحقداً وبغضاً لسائر الشعوب ، فنمت فيهم روح الطغيان والتوسّعية فأشعل فتيلة الحرب العالمية الثانية ، ودامت الحرب حوالي خمس سنين وتكبّد العالم البشري خسائر فادحة ، وأعطت لاطفاء نيرانها النفس والنفيس قرابة مائة مليون بين قتيل وجريح ومفقود.

وأمّا الخسائر التي تفرضها القومية على الإسلام فهي تحطّم الوحدة الإسلامية وتبدّد المجتمع الواحد إلى مجتمعات ، وتبدّل الاُخوّة إلى البغضاء فيصير المجتمع الإسلامي اُمماً متفرّقة وأشلاء مبعثرة تقع فريسة للقوى الكبرى.

ولو كان شعار القومية : نحن العرب ، نحن الفرس ، نحن الترك ، فشعار المسلم نحن حزب اللّه ودعاته تجمعنا عقيدة واحدة ، وهي الإعتقاد بربّ واحد ورسول خاتم وكتاب نازل وأحكام واُصول وفروع خالدة.

نحن كما يقول شاعر الاهرام حسن عبد الغني حسن :

إنّا لتجمعنا العقيدة اُمّة *** ويضمّنا دين الهدى أتباعاً

ويُؤلِّف الإسلام بين قلوبنا *** مهما ذهبنا بالهوى أشياعاً

وفي الختام نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الدعوة إلى القومية تختلف عن العلاقة بالأوطان التي نشأ الإنسان فيها كما تختلف عن العلاقة بالثقافات القومية والآداب والرسوم المورثة إذا لم تتعارض مع اُصول الإسلام وتعاليمه ، وهذا هو رمز تقدّم الإسلام بين الشعوب والأقوام المختلفة ، فالإسلام في مفهومه يتحمّل جميع القوميات والثقافات المحلّية ولا يفنّدها بل يعترف بالجميع شريطة أن لا تخالف المبادئ الإسلامية ، ولو كان نبيّ الإسلام صلی اللّه علیه و آله معارضاً لهذه الثقافات والرسوم والآداب لما نجح في نشر الإسلام وتربية الناس ، نعم الإعتراف بهذه الآداب والرسوم يختلف من جعلها محوراً للتفوّق وملاكاً للتصاغر.

ص: 556

وقد روي أنّ النبي عندما وصل في هجرته من مكّة إلى المدينة إلى أرض الجحفة اشتاقت نفسه إلى موطنه فنزلت الآية : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) ( القصص / 85 ) والمعاد هو الوطن.

تمّ الجزء السابع من هذه الموسوعة القرآنية الموضوعية التي استعرضت الجوانب المتعدّدة للشخصيّة المحمدية ، ويسعدنا أنّا استعرضنا تلك الشخصيّة الكبرى في ضوء أتقن وأصحّ مصادر الإسلام وهو القرآن الكريم ، فهي صورة معبّرة لأبعاد الشخصيّة المحمديّة وما يدور حولها من منظار الوحي الإلهي.

وهذه الصورة وإن لم تكن الصورة الكاملة الشاملة لتلك الشخصية الطاهرة السامية إلاّ أنّها تمثّل أبرز ملامحها المباركة.

وليس لنا هنا إلاّ أن نعتذر إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعجزنا عن أداء هذه المهمّة الجسيمة رغم السعي الكبير ..

ونرجو من اللّه سبحانه التوفيق لإتمام بقية هذه الموسوعة إنّه سميع الدعاء.

تمّ عشية ليلة الأحد الخامس من شهر جمادي الآخرة من شهور عام 1411 ه.

والحمد لله ربّ العالمين

قم مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

جعفر السبحاني

غفر اللّه له ولوالديه

ص: 557

ص: 558

فهرس أمّهات المصادر

ص: 559

ص: 560

فهرس اُمّهات المصادر

حرف الألف

1 - الاتحاف بحب الأشراف : الشبراوي : عبد اللّه بن محمد ، المطبعة الأدبية - مصر.

2 - الطبرسي : أحمد بن علي بن أبي طالب ( من علماء القرن السادس ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1403 ه.

3 - الأحكام السلطانية : الماوردي : أبو الحسن علي بن محمد ( ت 450 ه ) دار الكتب العلمية - بيروت.

4 - الإختصاص : المفيد : أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان ( 336 - 413 ه ) منشورات جماعة المدرسين - قم.

5 - الإرشاد : له أيضاً قدس سره منشورات مكتبة بصيرتي - قم.

6 - إرشاد الساري : القسطلاني : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد ( 851 - 923 ه ) دار إحياء التراث العربي - بيروت.

7 - اُسد الغابة : ابن الأثير : أبو الحسن علي بن أبي الكرم ( ت 630 ه ) دار إحياء التراث العربي - بيروت.

8 - إظهار الحقّ : رحمة اللّه بن خليل الرحمان الهندي ( من علماء القرن الثالث عشر ) مطبعة الرسالة - مراكش.

9 - إعلام النساء : خير الدين الزركلي ( ت 1396 ه ) دار العلم للملابين ، بيروت 1404 ه الطبعة السادسة.

10 - إعلام الورى : الطبرسي : امين الإسلام الفضل بن حسن ( 471 - 548 ه ) ط ايران.

11 - أعمال الرسل : من الكتب المقدّسة.

12 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن : البلاغي النجفي : محمد جواد ( ت 1352 ه ) مكتبة الوجداني - قم.

ص: 561

13 - امتاع الأسماع : المقريزي : نقي الدين أحمد بن علي ( ت 845 ه ) طبع مصر.

14 - أنيس الأعلام في نصرة الإسلام : الطبعة الحديثة - المكتبة المرتضوية - طهران.

حرف الباء

15 - بحار الأنوار : المجلسي : محمد باقر بن محمد تقي ( 1037 - 1110 ه ) مؤسسة الوفاء ، بيروت 1403 ه.

16 - البداية والنهاية : ابن كثير : الحافظ أبو الفداء ( ت 774 ه ) دار الفكر ، بيروت 1402 ه.

17 - بلاغة الحسين : الموسوي الحائري : مصطفى محسن ، طبع طهران - 1369 ه.

18 - بلوغ الارب : الآلوسي : محمود شكري البغدادي ( ت 1270 ه ) مطبعة دار الكتاب العربي - مصر.

حرف التاء

19 - تاريخ الخميس : الدياربكري : الشيخ حسين بن محمد - مؤسسة شعبان - بيروت.

20 - تاريخ الطبري : الطبري : أبو جعفر محمد بن جرير ( ت 310 ه ) مؤسسة عز الدين ، بيروت - 1407 ه.

21 - تاريخ القرآن : أبو عبد اللّه الزنجاني ( 1309 - 1360 ه ) مكتبة الصدر ، طهران 1387 ه.

22 - تاريخ اليعقوبي : اليعقوبي : أحمد بن أبي يعقوب ( من علماء القرن الثالث ) دار صادر - بيروت.

23 - تبصرة المتعلّمين : العلاّمة الحلي : الحسن بن يوسف بن المطهر ( 648 - 726 ه ) ط ايران.

24 - التبيان في تفسير القرآن : الطوسي : أبو جعفر محمد بن الحسن ( 385 - 460 ه ) دار إحياء التراث العربي - بيروت.

25 - تصحيح الإعتقاد : الشيخ المفيد ( 336 - 413 ه ) ط تبريز.

26 - تفسير البرهان : البحراني : السيد هاشم التوبلي ( ت 1107 ه ) قم - 1375 ه.

ص: 562

27 - تفسير البغوي : البغوي : أبي محمد الحسين بن مسعود الغراء الشافعي ( ت 516 ه ) ، دار المعرفة - بيروت - 1407 ه.

28 - تفسير الرازي ( مفاتيح الغيب ) : الفخر الرازي : أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن حسين الطبرستاني ( 543 - 606 ه ) دار إحياء التراث العربي - بيروت.

29 - تفسير الطبري : الطبري : أبو جعفر محمد بن جرير ( ت 310 ه ) ، دار المعرفة - بيروت اُفسيت - 1400 ه.

30 - تفسير فرات : الكوفي : أبو القاسم فرات بن إبراهيم بن فرات ( من أعلام الغيبة الصغرى ) طهران - إيران - 1410 ه.

31 - تفسير القرآن المجيد : الشيخ محمود شلتوت ( ت 1383 ه ).

32 - تفسير القرطبي : القرطبي : أبو عبد اللّه محمد بن أحمد الأنصاري ( ت 671 ه ) ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1405 ه.

33 - تفسير القمي : القمي : علي بن إبراهيم ( من أعلام القرن الثالث والرابع الهجري ) ، مطبعة النجف - 1387 ه.

34 - تفسير المراغي : المراغي : أحمد مصطفى دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1406 ه الطبعة الثانية.

35 - تفسير المنار : محمد رشيد رضا ( ت 1354 ) ، دار المنار ، مصر - 1373 ه.

36 - تقريب التهذيب : العسقلاني : أحمد بن علي بن حجر ( 773 - 852 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1395 ه.

37 - تنزيه الأنبياء : الشريف المرتضى ( 355 - 436 ه ) طبع ايران.

38 - تهذيب التهذيب : العسقلاني : شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر ( ت 582 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1404 ه.

حرف الجيم

39 - جامع الاُصول : ابن الاثير الجزري : مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد ( 544 - 606 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1403 ه.

ص: 563

40 - الجواهر : النجفي : محمد حسن ( ت 1266 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1981 م.

حرف الحاء

41 - حلية الأولياء : أبو نعيم : أحمد بن عبد اللّه الأصبهاني ( ت 430 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1387 ه.

42 - حياة محمد صلی اللّه علیه و آله : محمد حسين هيكل ، مكتبة النهضة المصرية - القاهرة.

حرف الخاء

43 - الخصال : الصدوق : أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي ( ت 381 ه ) منشورات جماعة المدرسين ، قم - 1403 ه.

حرف الدال

44 - الدر المنثور : السيوطي : جلال الدين ( 849 - 911 ه ) بيروت - اُفسيت من طبعة مصر.

45 - دلائل النبوة : البيهقي : أحمد بن حسين ( ت 458 ه ) ط مصر.

46 - ديوان أبي طالب : الجامع علي بن حمزة البصري التميمي المكنى بأبي نعيم ( ت 375 ه ).

حرف الذال

47 - ذكر أخبار اصبهان : أبو نعيم : أحمد بن عبد اللّه ( 334 - 402 ه ) طبع ليدن - 1931 م.

حرف الراء

48 - روح المعاني : الآلوسي : أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود البغدادي ( ت 1270 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - لبنان.

حرف السين

49 - سنن أبي داود : أبو داود الحافظ سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي ( 202 - 275 ه ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، مصر - 1371 ه.

ص: 564

50 - السنن الكبرى : البيهقي : أبو بكر أحمد بن الحسين ( ت 458 ه ) ، دار المعرفة بيروت - 1406 ه.

51 - سنن النسائي : النسائي : أبو عبد الرحمن بن شعيب ( 214 - 303 ه ) دار إحياء التراث العربي - بيروت.

52 - السيرة الحلبية : الحلبي : برهان الدين علي بن إبراهيم ( ت 1044 ) المكتبة الإسلامية - بيروت.

53 - السيرة النبويّة : ابن هشام : أبو محمد عبد الملك بن أيوب الحميري ( ت 213 أو 218 ه ) دار التراث العربي ، بيروت - لبنان.

حرف الشين

54 - شرائع الإسلام : المحقق الحلي : أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن ( 602 - 676 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1403 ه.

55 - شرح ابن عقيل : قاضي القضاة بهاء الدين عبد اللّه بن عقيل الهمداني ( 698 - 769 ه ) مطبعة السعادة ، القاهرة - 1375 ه.

56 - شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد - عز الدين عبد الحميد البغدادي المدائني ( ت 655 ه ) دار احياء الكتب العربية ، القاهرة - 1378 ه.

حرف الصاد

57 - صحيح البخاري : البخاري : أبو عبد اللّه محمد بن إسماعيل ( ت 256 ه ) مكتبة عبد الحميد أحمد حنفي - مصر - 1314 ه.

58 - صحيح مسلم : أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ( ت 261 ه ) دار إحياء التراث العربي - بيروت.

59 - الصحيح من سيرة النبي : جعفر مرتضى العاملي ، قم - 1403 ه.

حرف العين

60 - علل الشرائع : الصدوق : أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي ( ت 381 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1408 ه.

ص: 565

61 - عيون أخبار الرضا : له أيضاً قدس سره مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1404 ه.

حرف الغين

62 - الغدير : الأميني : عبد الحسين أحمد النجفي ( 1320 - 1390 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1387 ه.

حرف الفاء

63 - فتح الباري : ابن حجر : أحمد بن علي العسقلاني ( 773 - 852 ه ) دار المعرفة - بيروت.

64 - فتوح البلدان : البلاذري : أبو الحسن ( ت 279 ه ) المكتبة التجارية ، مصر - 959 ام.

65 - في ظلال القرآن : سيد قطب - دار احياء التراث العربي ، بيروت - 1386 ه الطبعة الخامسة.

حرف الكاف

66 - الكافي : الكليني : أبو جعفر محمد بن يعقوب الرازي ( ت 329 ه ) دار الكتب الإسلامية ، طهران - 1388 ه.

67 - الكامل في التاريخ : ابن الأثير : محمد بن محمد الجزري ( ت 630 ه ) دار الكتاب العربي - بيروت.

68 - الكشاف : الزمخشري : محمود بن عمر بن محمود ( ت 538 ه ) ط القاهرة 1367 ه 1948 م.

69 - كنز الفوائد : الكراجكي : محمد بن علي بن عثمان ( ت 449 ).

70 - كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق المناوي : عبد الرؤوف ( ت 1031 ه ) طبع مصر.

حرف اللام

71 - لسان العرب : ابن منظور : محمد بن مكرّم ( 630 - 711 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1408 ه.

ص: 566

حرف الميم

72 - مجمع البيان : الطبرسي : أبو علي الفضل بن الحسن ( 471 - 548 ه ) مطبعة العرفاني ، صيدا - 1354 ه.

73 - المختصر النافع : أبو القاسم المحقق جعفر بن الحسن ( 602 - 676 ه ) ط مصر.

74 - المراجعات : السيد عبد الحسين شرف الدين ( 1290 - 1377 ه ) طبع مصر.

75 - مستدرك الحاكم : الحاكم النيسابوري : أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه ( ت 405 ه ) - دار الفكر ، بيروت - 1398 ه.

76 - مستدرك الوسائل : النوري الطبرسي : الحسين بن محمد تقي بن محمد ( 1254 - 1320 ه ) ، مؤسسة آل البيت ، قم - 1407 ه.

77 - مسند أحمد : أحمد بن حنبل ( ت 241 ه ) دار الفكر - بيروت.

78 - المغازي : الواقدي : محمد بن عمر بن واقد ( 130 - 207 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - لبنان.

79 - مفاهيم القرآن : السبحاني : جعفر بن محمد حسين ( 1347 ه ) مؤلف هذا الكتاب ، قم - 1404 ه.

80 - مقاييس اللغة : ابن فارس : أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا ( ت 395 ه ) ، دار احياء الكتب العربية ، القاهرة - 1366 ه.

81 - مكاتيب الرسول : علي بن حسين علي الأحمدي ( المعاصر ) المطبعة العلمية ، قم - 1379 ه.

82 - مناقب علي بن أبي طالب : ابن المغازلي : أبو الحسن علي بن محمد الشافعي ( ت 483 ه ) المكتبة الإسلامية ، طهران - 1403 ه.

83 - مناقب آل أبي طالب : ابن شهر آشوب : أبو جعفر رشيد الدين محمد بن علي السروي المازندراني ( 488 - 588 ه ) المطبعة العلمية ، قم - إيران.

84 - من لا يحضره الفقيه : الصدوق : أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي ( ت 381 ه ) ، دار الكتب الإسلامية ، طهران - 1390 ه.

ص: 567

85 - منهاج السنّة : ابن تيمية : أحمد بن تيمية ( ت 661 - 728 ه ) طبع مصر.

86 - ميزان الإعتدال : محمد بن أحمد الذهبي ( ت 748 ه ) نشر دار المعرفة - بيروت.

87 - الميزان في تفسير القرآن : الطباطبائي : السيد محمد حسين ( 1321 - 1402 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1393 ه.

حرف النون

88 - ناسخ التواريخ : لسان الملك : محمد تقي بن محمد علي ( ت 1297 ه ) ط طهران.

89 - نفح الطيب : شمس الدين المالكي ( ت 780 ه ).

90 - نهج البلاغة : جمع الشريف الرضي : أبو الحسن محمد بن الحسن ( 359 - 404 ه ) بيروت - 1387 ه.

91 - نهج الفصاحة : أبو القاسم پاينده ، المطبعة الإسلامية ، طهران - 1389 ه.

92 - نور الثقلين : العروسي الحويزي : عبد علي بن جمعة ( ت 1112 ه ) مطبعة الحكمة ، قم - إيران.

حرف الهاء

93 - الهدى إلى دين المصطفى : شيخ جواد البلاغي ( 1282 - 1352 ه ) ط صيدا لبنان.

حرف الواو

94 - الوحي المحمدي : السيد محمد رشيد منشئ المنار ( ت 1354 ه ) ط مصر.

95 - وسائل الشيعة : الحر العاملي : محمد بن الحسن ( ت 1404 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1403 ه.

96 - وفيات الأعيان : ابن خلّكان : أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد ( 608 - 681 ه ) منشورات الرضي ، قم - إيران - 1364 ه.

ص: 568

فهرس المواضيع المهمّة

ص: 569

ص: 570

فهرس المواضيع المهمّة

عواطف ساخنة ومشاعر تقدير ... 3

تقدير وإكبار ... 5

شخصية النبي محمد صلی اللّه علیه و آله وسيرته في القرآن الكريم ... 7

(1)

بشائره في الكتب السماويّة

أخذ الميثاق من النبيين على الإيمان به ونصره ... 12

بشائر النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله في الكتب السماويّة ... 19

النبي الأكرم ودعاء الخليل ... 22

(2)

ثقافة قومه وحضارة بيئته

الشرك أو الدين السائد ... 27

إنكار الحياة بعد الموت ... 28

عقيدتهم في الملائكة والجنّ ... 29

سيادة الخرافات ... 30

ثقافة قومه ... 33

الانهيار الخلقي ... 37

معاقرة الخمور وارتياد نواديها ... 39

وأد البنات ... 42

ص: 571

أكل الخبائث من الدماء والحشرات ... 45

التقسيم بالأزلام ... 46

النسي في الأشهر الحرم ... 47

الربا ذلك الاستغلال الجائر ... 49

خاتمة المطاف ... 50

(3)

ميلاد النبي الأكرم أو تبلّج النور في الظلام الحالك

الإيواء بعد اليتم ... 60

الهداية بعد الضلالة ... 62

الإغناء بعد العيلولة ... 64

تسميته بمحمد وأحمد ... 65

أحمد من أسمائه صلی اللّه علیه و آله ... 67

تبشير المسيح بالنبي باسم « أحمد » ... 68

إنجيل « برنابا » والتبشير بالنبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ... 74

اُمّية النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ... 77

وضع النبي بعد البعثة ، إيمان النبي قبل البعثة ... 83

الشريعة التي كان يتعبّد بها قبل البعثة ... 84

خاتمة المطاف ... 86

ص: 572

(4)

الوحي في القرآن الكريم

الوحي لغة واصطلاحاً ، تقدير الخلقة بالسنن والقوانين ... 90

الإدراك والغريزة ... 91

الإلهام والإلقاء في القلب ، الإشارة ، الإلقاءات الشيطانية ... 92

كلام اللّه المنزّل على نبي من أنبيائه ، قنوان المعرفة الثلاثة : الطريق الحسّي التجربي ، الطريق التعقّلي النظري 93

طريق الإلهام ، أنواع الوحي وأقسامه ... 94

الوحي وليد النبوغ ؟ ... 95

الوحي ثمرة الأحوال الروحيّة ، نبوّة أو أضغاث أحلام ... 98

(5)

بعثته ونزول الوحي إليه

أوّل ما نزل على رسول اللّه ، أساطير وخرافات ... 108

نظرة تحليلية حول هذه النصوص ... 113

فرية انقطاع الوحي وفتوره ... 116

مراحل الدعوة الثلاث ، المرحلة الاُولى : السريّة في الدعوة ... 122

اتّخاذ النبي دار الأرقم مركزاً لنشر الدعوة ... 124

المرحلة الثانية : دعوة الأقربين ... 126

الدعوة العامة وكسح العراقيل الماثلة أمامه ... 132

ص: 573

(6)

الإيجابيات والسلبيات تجاه الدعوة المحمّدية

العراقيل والموانع تجاه دعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله ... 137

اكالة التهم للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 142

الكهانة ، السحر ، المسحورية ، الجنون ... 143

التعلّم من الغير ... 144

كذّاب ، مفتر ... 146

مفتر أو مجنون ، شاعر ... 147

أضغاث أحلام ... 149

الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية ، لماذا لم ينزل القرآن على رجلٍ مثرِ ... 152

الرسالة الإلهيّة فوق طاقة البشر ... 153

نبذ سنّة الآباء ... 155

الدعوة إلى الحياة الاُخروية ... 156

طلب المشاركة في امتيازات النبوّة ، المطالبة بمثل ما اُوتي سائر الرسل ... 158

لماذا لا ينزلّ عليه ملك ؟! ... 162

التفاؤل بغلبة فارس على الروم ... 164

طلب رفع العذاب ... 165

كيف يمكن احياء العظام البالية ، ما هو المراد من كون الآلهة حصب جهنّم ... 166

خاتمة المطاف ، دعاء النبي على سبعة من قريش ... 168

الاقتراحات الباطلة لقبول الرسالة ، التشريك في العبادة ... 174

ص: 574

تبديل القرآن بغيره ... 176

شروط تعجيزية ... 177

طلب طرد الفقراء ... 181

تعذيب النبيّ وأصحابه ... 185

المضطهدون في صدر البعثة ... 186

إثارة الضوضاء عند تلاوة النبي للقرآن ... 188

العذر الأخير للإمتناع عن قبول الدعوة ... 189

خرافة الغرانيق ... 190

تحليل سند الرواية ... 192

تحليل متن الرواية ... 197

(7)

إسراؤه ومعراجه

معراج النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ... 204

عروجه إلى السماء ... 209

استشارة قريش أحبار اليهود في أمر دعوة النبي ... 217

وفد الحبشة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله للاستطلاع على أمر الدعوة ... 221

(8)

في رحاب الهجرة إلى يثرب

قدومه صلی اللّه علیه و آله إلى قباء ، إطلالة على نشأة التاريخ الهجري ... 229

نزول النبي بالمدينة ... 234

ص: 575

مجادلة أهل الكتاب ... 236

تنبئ القرآن عن شدّة عداوة اليهود ... 237

الدعوة إلى أصل مشترك بين الشرائع السماوية ، الاعتقاد بمبدأ البنوّة للباري جلّ وعلا 238

ذاتية التوحيد وظاهرة التثليث ... 239

مشكلة الجمع بين التوحيد والتثليث ... 242

سمات العبودية في المسيح ... 245

قسمة ضيزي ... 254

اليهود ونقض المواثيق والعهود ... 255

افشاء علائم النبوّة ... 256

السؤال عن الروح الأمين ... 257

إنكار نبوّة سليمان علیه السلام ... 258

كتابه إلى يهود خيبر ، انكار أخذ الميثاق منهم ... 259

الاقتراحات التعجيزيّة ، تنازع اليهود والنصارى عند الرسول صلی اللّه علیه و آله ... 260

التشبّث بالكلمات المتشابهة ... 261

كتمان الحقائق ، النبي الأكرم وبيت المدارس ... 263

الإيمان غدوة والكفر عشيّة ، اتّهام النبي بأنّه يؤلّه نفسه ... 264

سعيهم للوقيعة بين الأنصار ... 265

الحط من شأن مَنْ آمن من اليهود ... 266

دعوة المسلمين إلى البخل ، تفضيلهم الوثنية على الإسلام ... 267

ص: 576

إدّعاؤهم أنّهم أحبّاء اللّه وأصفياؤه ، إنكارهم نزول كتاب بعد موسى ... 268

رجوعهم إلى النبي في حكم الرجم ... 269

سؤالهم عن محين الساعة ، تهجّمهم على ذات اللّه عزّ وجل ... 273

طلبهم كتاباً من السماء ... 274

تحويل القبلة إلى الكعبة ... 275

مباهلة النبي نصارى نجران ... 278

الدعوة إلى المباهلة ... 281

الخلفية التشريعية لحرمة الأشهر الحرم ... 284

9

الاشتباك المسلح مع اليهود بالمدينة

إجلاء بني قينقاع من المدينة ... 289

إجلاء بني النضير ... 294

إبادة بني قريظة ... 300

غزوة خيبر أو بؤرة الخطر ... 310

قصّة فدك والتصالح مع أهالي وادي القرى ... 313

(10)

غزوات النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله

1 - غزوة بدر ... 317

انتقال الرسول إلى مكان قريب من بدر ... 321

ص: 577

نزول النبي في وادي بدر ... 322

بناء العريش ، تعليق على تغوير القلب وبناء العريش ... 323

ارتحال قريش من مقامهم ونزولهم وادي بدر ... 325

الشرارة التي أشعلت الحرب ... 326

الإعانات الغيبية ... 328

إراءة العدو قليلاً في المنام ، إراءة كل من الفريقين الآخر قليلاً في بدء الحرب ... 329

إراءة المشركين كثرة المؤمنين أثناء القتال ... 330

استغاثة المسلمين ونزول الملائكة ... 331

الامداد بالنعاس ، الامداد بنزول المطر ... 332

الامداد بتثبيت أقدام المؤمنين ، الامداد بإلقاء الرعب في قلوب المشركين ... 333

اختلافهم في الفيء ... 334

ما معنى الأنفال في الآية ... 335

أخذ الأسرى قبل الدعم والإستقرار ... 338

الوعد الجميل للأسرى ... 341

2 - غزوة اُحد

عودة المنافقين القهقرى إلى المدينة ... 346

نزول رسول اللّه أرض اُحد ... 347

الهزيمة بعد الإنتصار ... 349

النداء بنعي النبي ... 350

ص: 578

حنكة النبي العسكرية ... 353

تصدّع جيش المسلمين وانحلال زمامه ... 355

على أعتاب الردّة ... 356

القصاص بالقسط ... 363

مطاردة العدو ، غزوة اُحد بين السلبيات والايجابيات ... 364

3 - غزوة الخندق

حفر الخندق واحداثه حول المدينة ... 371

استبشار المؤمنين وكآبة المشركين ... 376

انقسام المشركين على أنفسهم ... 377

غزوة الأحزاب في الذكر الحكيم ... 380

استحواذ القلق عند مرابطة الأحزاب ... 381

حياكة الدسائس لفتح الثغرات ، المشارقة على أعتاب الردّة ... 383

عدم جدوى الفرار ... 384

سعة علمه ، جبناء حين البأس شجعان حين الأمن ... 385

حال المؤمنين الصادقين في غزوة الأحزاب ... 387

خاتمه المطاف ... 388

4 - غزوة بني المصطلق

تولّي قوم ابنُ اُبيّ مجازاته ... 392

التخطيط للإجلاء والمقاطعة الاقتصادية ... 393

ص: 579

تشتيت الشمل وبث التفرقة بين المسلمين ... 394

حنكة النبي صلی اللّه علیه و آله في اجتياز الأزمة ، سعة صدر النبي وتريّثه وتلبّثه ... 395

مقابلة الإساءة بالإحسان ... 396

العزّة لله ولرسوله ... 397

خاتمة المطاف ... 398

5 - صلح الحديبية

رجال خزاعة بين الرسول صلی اللّه علیه و آله وقريش إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... 400

الحليس رسول ثالث لقريش ، عروة بن مسعود رسول قريش ... 401

رسول النبي إلى قريش ، عثمان رسول النبي صلی اللّه علیه و آله إلى قريش ... 402

بيعة الرضوان ، سهيل بن عمرو رسول قريش إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله ، عمر ينكر على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الصلح 403

بنود الصلح ... 404

التاريخ يعيد نفسه ... 405

نحر الرسول وحلقه ، دروس وعبر ... 407

وقعة الحديبية في الذكر الحكيم ... 410

اعتذار المنافقين عن عدم الحضور ... 411

بيعة الرضوان ... 413

الوعد بفتحين ... 414

نبوءة غيبية ... 416

ص: 580

الأخذ بالحائطة للحفاظ على دماء المؤمنين ، الآية الاُولى تشير إلى أمرين ... 417

استفسارهم عن علّة عدم تحقّق الرؤيا ... 419

التنبّوء بظهور الإسلام على الدين كلّه ... 420

6 - غزوة ذات السلاسل

السر في انتصار علي علیه السلام دون من عداه ... 424

7 - فتح مكّة أو الفتح المبين

كتاب صحابي إلى قريش ... 431

المعيار في ابرام المعاهدات مع الكفّار ... 435

عود على بدء ... 438

مبايعة النساء للنبي صلی اللّه علیه و آله ... 442

8 - غزوة حنين

الانتصار بعد الهزيمة ... 447

نظرة تحليلية على انهزام المسلمين بادئ بدء ... 448

محاصرة الطائف ... 449

وفد هوازن في الجعرانة ... 450

مشادة الأنصار مع النبي ... 452

9 - غزوة تبوك

تخاذل بعض المؤمنين عن المناصرة ... 457

ص: 581

نكوص المنافقين عن القتال ... 458

الاعتذار بالخوف من نساء الروم ... 463

حديث تخلّف الثلاثة ... 464

مسجد ضرار ... 466

وقعة تبوك ، تآمر المنافقين على النبي صلی اللّه علیه و آله ... 468

(11)

البراءة من المشركين

لماذا لم يحجّ النبي صلی اللّه علیه و آله بنفسه في هذا العام ؟ ... 472

لماذاعزل النبي صلی اللّه علیه و آله أبا بكر عن مهمّة التبليغ ... 474

مبدأ أمد الهدنة ... 479

ما هي الوثيقة التي بلّغها أمير المؤمنين علیه السلام بعد تلاوة الآيات ؟ لماذا دفع اللّه سبحانه الأمان عن المشركين ؟ 481

الجهاد الإبتدائي ، جهاد دفاعي في الحقيقة ... 484

(12)

الجهاد في الإسلام دفاعياً أو تحريرياً

الجهاد ضرورة حياتية ... 492

الجهاد الدفاعي ... 495

خصائص الجهاد الدفاعي ، كون الجهاد في سبيل اللّه ( الهدف ) ... 498

القتال ضد المعتدي ... 499

ص: 582

حد الجهاد وإطاره ... 500

الجهاد التحريري ( الإبتدائي ) ، تحرير البشريه من الشرك ... 502

فرض العقيدة ممنوع ... 506

كسر الموانع المفروضة على الشعوب ، تخليص المستضعفين من الظالمين ... 508

رعاية الأخلاق في الحرب ... 511

الآمنون في الحرب ، تمالك النفس ... 512

منع ممارسة الأساليب الوحشية ... 515

أمان الكفّار ... 516

(13)

واقعة الغدير

النبوّة والإمامة توأمان ... 523

قصة الغدير ... 524

مصادر الواقعة ... 526

واقعة الغدير ورمز الخلود ... 527

خاتمة المطاف ... 530

(14)

الإعلام وأساليبه في عصر الرسالة

نماذج من الإعلام في العهد النبوي ، البعثات الإعلامية ... 533

الرسائل الإعلامية ... 534

مراسلة الملوك والاُمراء ورؤساء القبائل ... 536

ص: 583

التبليغ عن طريق الأدب والنظم ... 538

إعلان البراءة من المشركين ، شعار المسلمين في الهجمات العسكرية ... 540

ما هي وظائفنا اليوم في مجال التبليغ والدعوة ... 541

رصد الدعايات المفرّقة لصفوف المسلمين ... 542

تأسيس وحدة اعلامية واحدة للمسلمين ، إصلاح الكتب الدراسية ... 543

النظر إلى الإنسانية برحابة صدر ... 545

(15)

القوميّة في الإسلام

تعيين تاريخ زرع هذه الفكرة في العصور الأخيرة ... 547

هزيمة تلك الفكرة في مولدها ، اشتعال هذه الفكرة ونموّها في البلاد الإسلامية مؤخراً 548

دعاة هذه الفكرة في الشرق الإسلامي جماعة ينتسبون إلى المسيحية ، ما هي الغاية من زرع هذه الفكرة وترويجها في الأوساط الإسلامية 550

رسالة الإسلام رسالة عامّة عالمية لا تختص بقوم دون قوم وبيان دلائله من القرآن الكريم 551

تفسير قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ... ) ... 552

كلمات مضيئة للرسول الأعظم في تحطيم القومية ... 553

الخسارة التي تفرضها القومية ... 555

فهرس امّهات المصادر ... 559

ص: 584

المجلد 8

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 2

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1425 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-357-148-3

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء الثامن

تفسير موضوعي فريد من نوعه مبتكر في بابه يتناول دراسة الآيات وفق موضوعاتها

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

مفاهيم القرآن

ص: 2

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 3

كتاب كريم حبّره يراع الأُستاذ الفذ آية اللّه الشيخ محمد هادي « معرفة »

مؤلف كتاب « التمهيد في علوم القرآن » ننشره بإكبار وإجلال

التفسير الموضوعي ضرورة رساليّة إسلاميّة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.

أمّا بعد .. فممّا يبعث على اعتزاز هذه الأُمّة المرحومة اختصاصها بكتاب اللّه العزيز الحميد ، المضمون له السلامة والبقاء عبر القرون.

قال تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا )(1). وقال : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (2).

الأمر الّذي يستدعي خلود هذه الأُمّة بخلود كتابها المجيد .. حاملةً رسالةً إلهية إلى الأجيال عبر الأيّام والعصور ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (3).

إنّ هذه الأُمّة تحمل رسالة إلهيّة إلى العالمين ، وقد تضمّنها القرآن كلام رب العالمين. فكان على الأُمّة تبيينها والإيفاء بهذا الواجب بأداء ما عليها من وظيفة البلاغ والبيان ، كما كان على نبيّها الكريم صلی اللّه علیه و آله من واجب البلاغ والبيان ... قال

ص: 1


1- فاطر : 32.
2- الحجر : 9.
3- البقرة : 143.

تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (1) ، فقد كان عليه البيان والتفسير ، كما كان عليه البلاغ والإنذار والتبشير.

وهكذا الواجب على الأُمّة الوسطى أن تقوم بواجب البيان إلى جنب واجب البلاغ .. فيكون إلى جنب الدعوة إلى الإسلام ، تبيين أهدافه ومقاصده في إسعاد البشريّة .. والّتي تضمّنها القرآن ، الكلام الإلهي الخالد.

القرآن يحمل رسالة إلى الناس : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (2). فَعَلى نُبَهاء الأُمّة وعلماء الملة أن يبلّغوا هذا النداء الصارخ ، إلى الخافقين ، ويُسمعوهم ما يحتويه من أهداف عالية ومقاصد زاكية. لا بقراءة اللفظ وتلاوة الكلام فحسب ، بل بالشرح والتفصيل والتبيين والتفسير.

والتفسير على منهجين : ترتيبي ( حسب النظم القائم في القرآن ) وموضوعي ( حسب المسائل المطروحة في القرآن ) .. فأيّهما المطلوب بالذات ؟

لا شكّ أنّ الّذي تستدعيه طبيعة الدعوة ، والّذي يطلبه الإنسان الواعي ، الساعي وراء درك حقائق القرآن ، هي : دراسة ما في القرآن من مفاهيم ومعارف أتحف بها البشرية ، وآداب وتعاليم قدّمها للإنسان ، ليسعد بها ويتصاعد على مدارج الكمال.

إنّ البشرية الآن بحاجة ماسّة إلى الوقوف على ما في القرآن من معارف وأحكام ، وبانتظار ما يقدّمه علماء المسلمين إليهم من مسائل ومباحث أُصولية جاء بها القرآن كحقائق راهنة تُنير لها درب الحياة وتضيء للإنسان معالم السعادة وتؤمّن عليه كرامته في النشأتين.

إنّ الإنسان اليوم يتطلّع إلى معالم هذا الكتاب ، والمعارف الّتي احتضنتها هذه الرسالة الإلهية الخالدة ، الأمر الّذي استرعى انتباهه منذ حين ، ولا يهمّه أن يكون لفظه كذا أو تعبيره كذا ، إنّما يُهمّه أمر المحتوى وما تحتويه هذه الرسالة

ص: 2


1- النحل : 44.
2- الإسراء : 9.

القرآنية ، من مسائل جسام.

إذن فواجب العلماء أن يلفتوا أنظار العالمَ المتحضّر إلى هذا الجانب من كتاب اللّه ، ويفرغوا ما بوسعهم في إبداء ما يحتضنه من مسائل ودلائل ومعارف وأحكام ، وهو جانب خطير من التفسير الأصيل نُعبّر عنه بالتفسير الموضوعي.

والتفسير الموضوعي لم يُبد وجهَه سلفاً في سوى مقطّعات كانت بصورة دراسات قرآنية ، غير مستوفاة ولا مستوعبة لكل مسائل القرآن دراسة موضوعية بحتة ، إنّما جاء الخلف - ولا سيما في القرن الأخير - ليستكملوا هذا الأمر ويستوفوا من شؤونه في عرض شامل.

وأفضل من وجدته قائماً بأعباء هذا الأمر الخطير ، مُشمّراً عن ساعد الجدّ ، في استيفاء تام ، وإحاطة علمية فائقة ، هو العلم العلاّمة والمحقّق الفهّامة ، زميلنا الأُستاذ الشيخ جعفر السبحاني ، فلا زالت معالم العلم بضياء نوره وهّاجة ، ودلائل التحقيق في ضوء دراساته فياضة.

فقد قام - ولله جدّ أمره - بدراسة مفاهيم القرآن والإفصاح عن معالمه ، والإبانة عن دلائله ومسائله المعروضة بشكل مستوعب ، وكانت عن جدارة علمية فائقة ، وعن صلاحية ذاتية لائقة ، قلّما يوجد مثيل دراساته القيمة ، ولدلائله الواضحة اللائحة.

وكنت منذ تعرّفت إلى جنابه وتشرّفت بمطالعة كتابه ، تشوّقت إلى الإزدياد من معرفة لباب تحقيقه والتشوّف إلى عباب فيض تنميقهو تنسيقه ، فما أحسنه من تأليف أنيق وما أكرم مؤلّفه من استاذ محقق واسع الآفاق.

والكتب والدفاتر الّتي تحمل عنوان « الدراسات القرآنية - التفسير الموضوعي » كثيرة جادت بها قرائح وقّادة من علماء معاصرين ، غير أنّ في غالبيتها خروجاً - بعض الشيء - عن اسلوب التفسير القرآني ، إلى شكل مقالات تبحث عن مسائل إسلامية عريقة ، كانت إحدى دلائلها آياتٌ من الذكر الحكيم ، الأمر

ص: 3

الّذي كان يبعدها عن واقع الدراسات القرآنية البحتة ، والّتي ترمي إلى فهم ما عرضه القرآن بالذات.

إنّ الدراسة القرآنية تستهدف وراء ما في القرآن من مسائل ودلائل عرضها للبشرية كودائع إلهيّة أورثها لعباده الذين اصطفى ، أمّا مجرّد الاستناد إلى آية أو آيات ، لغرض إثبات ما يرميه المقال ، فلا يمسّ هذا الجانب ، ولا يورثه هذا العنوان الزاهي.

ومن ثمّ ، فإنّ الّذي يمتاز به ، هذا المؤلَّف العظيم ، على يد هذا المؤلِّف الكريم ، هو جانب رعايته التامّة للحفاظ على كون الدراسة دراسة قرآنية ، بما يحمله هذا العنوان من جليل المعنى وفخيم المحتوى.

فقد ركّز المؤلّف الجليل دراساته - بشكل مستوعب - على أساس جمع الآيات المترابطة ، وضم بعضها إلى بعض ، ليرفع من إجمال كل بما في أُخرى من بيان وتفصيل ، وليكمل من قصور كل بما في الأُخرى من تمام وكمال ، ثمّ صبّها في قالب دراسة موضوعية شاملة ، حتّى إذا اكتمل البحث واستوفى هدفه ، أردفه بسائر الدلائل والمسائل تتميماً للفائدة ، وتكميلاً للعائدة.

والّذي يُلفت النظر في هذه الدراسات ، هو جانب دقّتها والأخذ بجانب الحيطة والحذر عن أن يكون تحميلاً على القرآن دون أن يكون تبييناً له ، الأمر الذي ابتلي به غير واحد من المفسرين المتسرّعين ، والذي تجنّبه بشدة هذا المؤلَّف ، في جميع مسائله ودلائله ، حسبما تعرّفت إلى أكثر مبانيه ولمست أغلب مراميه.

هذا ما يجعله فذّاً فريداً وعلماً وحيداً يهتدى به إلى معالم القرآن المجيد ، نفعنا اللّه به وبمؤلفه على ذمّة البقاء ، آمين.

محمد هادي معرفة

قم المقدسة

رجب الأصب 1420 ه

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي خلق الإنسان لغاية مُثلى ولم يخلقه عبثاً ولا سدى.

والصلاة والسلام على نبيّه محمد الذي فتح اللّه له من كنوز غيبه ، وعلى آله عيبة أسراره وحملة شرعه وحفظة سننه.

أمّا بعد ؛

يوم الحشر ومعاد الإنسان

لقد جُبل الإنسان على حب البقاء وكراهة الزوال والفناء ، وهذا أمر مشهود عند كلّ إنسان حتى أنّ الّذي ينتحر فهو يعدم وجوده وبقاءه ، ولكنّه - في الحقيقة - يبغي من وراء ذلك ، الوصول إلى الراحة التامة ، لأنّ المشكلات والأزمات الحادّة ، قد ضيّقت عليه الخناق فحدت به إلى القيام بهذه العملية ، فهو بفعله هذا يدرأ خطر تلك الأزمات ليصل إلى عالم فسيح خال عنها.

وهذا الميل الفطري أوضح دليل على أنّ الموت ليس فناء للإنسان ، فلو كان الموت ملازماً لفنائه يلزم عبث ذلك الميل المشاهَد عند كل إنسان.

وصفوة القول انّ الموت عبارة عن الخروج من حياة ضيقة إلى حياة أُخرى واسعة.

ص: 5

هذا ما تقضي به الفطرة عند تحليلها ، بيد انّ الشرائع السماوية جاءت تفسر تلك الفطرة الإنسانية ، ببيان انّ الموت انتقال من دار إلى دار ، ومن نشأة إلى نشأة أُخرى ، ولذلك أصبح الإيمان بالمعاد ركناً أساسياً في العقائد على وجه لو طرح ذلك الأصل ، لانهارت الشرائع قاطبة.

ولأجل تلك الأهمية ألقت بحوث المعاد بظلالها على القرآن الكريم وبلغت آيات المعاد 1400 آية أو أكثر من ذلك ، ولذلك قلما تجد سورة في القرآن الكريم ليس فيها دعوة إلى الإيمان بالمعاد بالتصريح أو بالإشارة ، ولو أخذنا تلك الآيات بنظر الاعتبار لتجاوز عددها أكثر ممّا ذكر.

فها نحن نخصّ هذا الجزء من كتاب مفاهيم القرآن بالبحث عن المعاد من منظار القرآن الكريم ، ضمن فصول :

ص: 6

الفصل الأوّل : أسماء القيامة في القرآن الكريم

إنّ الإيمان بالمعاد يشكِّل إجابة على أحد الأسئلة التي تراود الذهن الإنساني ، وهي عبارة :

1. من أين جِئتُ ؟ ، 2. لماذا جئتُ ؟ ، 3. إلى أين أذهب ؟

وكلّ إنسان ميّال بطبعه إلى الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة ، وقد عجزت المناهج البشرية عن الإجابة عليها فلم يجد الإنسان بغيته فيها ، فالإنسان في تلك المناهج ككتاب خطي سقط أوّله وآخره ، فإذا سألتها عن مبدأ الإنسان والغاية المنشودة من وراء خلقته ومصيره بعد الموت لاعترفت بالعجز عن الإجابة ، فكأنّه خلق لأن يعيش في هذه الدنيا كسائر الدواب يأكل ويشرب ثمّ يفنى.

وأمّا المناهج السماوية فقد أجابت على تلك الأسئلة بأجوبة واضحة رصينة.

فتجيب عن السؤال الأوّل بقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ ) . (1)

كما أنّها تجيب عن السؤال الثاني بأنّ من وراء خلق الإنسان غاية تعدّ كمالاً

ص: 7


1- الملك : 23.

له ، يقول سبحانه : ( خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) . (1)

كما أنّها تجيب عن السؤال الثالث بأنّ الحياة الدنيويّة قنطرة للحياة الأُخروية ، وليس الموت فناء للإنسان ، بل انتقال من نشأة إلى أُخرى ، تبتدأ بموته وتستمر بحياته البرزخية ثمّ الأُخروية حتى يبلغ مصيره في تلك النشأة.

ولأجل الإشارة إلى أنّ الحياة الأُخروية أكمل من الحياة الدنيوية ، سمّى بداية تلك النشأة بأسماء مختلفة ، وهي بين ما عبّر عنها بلفظ اليوم مضافاً أو موصوفاً ، بوصف من أوصاف ذلك اليوم ، أمّا الأوّل فكالتالي :

1. يوم القيامة ، 2. يوم الدين ، 3. يوم الآخر ، 4. يوم عظيم ، 5. يوم كبير ، 6. يوم محيط ، 7. يوم الحسرة ، 8. يوم عقيم ، 9. يوم عليم ، 10. يوم الوقت المعلوم، 11. يوم الحق ، 12. يوم مشهود ، 13. يوم البعث ، 14. يوم الفصل ، 15. يوم الحساب ، 16. يوم التلاق ، 17. يوم الأزفة ، 18. يوم التناد ، 19. يوم الجمع ، 20. يوم الوعيد ، 21. يوم الخلود ، 22. يوم الخروج ، 23. يوم عسير ، 24. يوم التغابن ، 25. اليوم الموعود ، 26. يوماً عبوساً ، 27. يوم معلوم ، 28. يوم لا ريب فيه ، 29. يوم الفتح. (2)

فقد أُضيف اليوم في هذه الأسماء إلى شيء يومئ إلى حال من أحوال ذلك اليوم ، وأمّا الثاني أي تسميته بشيء من أوصافه ، وهي أيضاً كالتالي :

ص: 8


1- الذاريات : 56.
2- « يوم الفتح » ( قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ ) . ( السجدة : 29 ). يستفتحون باللّه عليهم، فقالوا لهم: متی هذا الفتح، أي متی هذا الحكم فينا؟ فأجيبوا بما في الآية و يؤيده قوله سبحانه (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) (سبأ: 26).

1. « الساعة » : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ) . (1)

2. « الآزفة » : ( أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ كَاشِفَةٌ ) . (2)

و « الازف » في اللغة بمعنى القرب ، وكأنّه يشير إلى أنّ الساعة قريبة وليست ببعيدة وإن كان الناس يتخيّلون خلافه.

3. « الحاقة » : ( الحَاقَّةُ * مَا الحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحَاقَّةُ ) . (3)

والحاقّة مؤنث الحق يطلق على شيء حتمي الوقوع.

4. « القارعة » : ( الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ) . (4)

والقرع بمعنى الضرب المبرح ، وكأنّ القيامة تهزّ القلوب هزاً شديداً.

5. « الطامة الكبرى » : ( فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ) . (5)

الطامّة في اللغة بمعنى المصيبة ، وكأنّ المصيبة التي يواجهها الإنسان ذلك اليوم ، تُنسِي سائر المصائب التي مرّت به ، ولذلك وصفت بالكبرى.

6. « الواقعة » : ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) . (6)

والواقعة هي الحادثة ، والاسم كناية عن عظمها وهولها.

7. « الصاخّة » : ( فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ) . (7)

والصاخّة هي الصوت المرعب ، ولعلّها كناية عن نفخ الصور الذي سيوافيك تفصيله بإذن اللّه.

8. « الغاشية » : ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ) . (8)

ص: 9


1- الأعراف : 187.
2- النجم : 57 - 58.
3- الحاقة : 1 - 3.
4- القارعة : 1 - 3.
5- النازعات : 34.
6- الواقعة : 1.
7- عبس : 33.
8- الغاشية : 1.

الغاشية هي المحيطة ، وكأنّ الحوادث المرعبة تحيط بجميع الناس.

9. « الآخرة » : ( وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ) . (1)

وسمّيت بالآخرة لأنّها متأخّرة عن الدنيا.

10. « الميعاد » : ( إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ ) . (2)

وثمة آيات أُخرى تصف يوم القيامة وتذكر شيئاً من أحوالها وأهوالها ، قال سبحانه : ( يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) . (3)

وقال سبحانه : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ ) . (4)

وقال سبحانه : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ) . (5)

ونظائر هذه الآيات كثيرة في الذكر الحكيم لم نذكرها في عداد أسماء يوم القيامة لأنّها بصدد التوصيف لا التسمية.

ص: 10


1- المؤمنون : 74.
2- آل عمران : 9.
3- الشعراء : 88 - 89.
4- آل عمران : 30.
5- آل عمران : 106.

الفصل الثاني : المعاد في الشرائع السماوية

اشارة

الإيمان بالمعاد يَرسم هدفَ الخلقة ويبيّن حكمتها على نحو لو طرح الإيمان بالمعاد جانباً لأصبح الإيجاد بلا غاية والخلق عبثاً ، ولذلك ذهبت جماعة من منكري المعاد إلى أنّ خلق الإنسان أمر عبث كصانع الكوز يصنعها من طين و يطبخها ثمّ يَكسرها ، فحياة الإنسان كصنع الكوز ، وموته ككسرها ولهم في ذلك كلمات معروفة.

وأمّا الشرائع السماوية فقد فنّدت تلك الشبهة ودَحَضْتها بأنّ الغاية من الخلقة هي الحياة الأُخروية المستمرّة التي لا تتحقق إلاّ بالتجرّد عن المادة وآثارها ، قال سبحانه :

( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) (1).

وهذا النداء ليس هو نداء الإسلام فحسب ، بل نجد مضمونه في جميع الشرائع السماوية التي جاءت قبل الإسلام حتى في قصة آدم علیه السلام ، ولأجل الوقوف على أنّ العقيدة بالمعاد كانت ركناً أساسياً في جميع الشرائع السماوية نعكس ما ورد في الذكر الحكيم نقلاً عن لسان الأنبياء الماضين.

ص: 11


1- المؤمنون : 115.

1. آدم علیه السلام والدعوة إلى الإيمان بالمعاد

عندما هبط آدم ( على نبيّنا وآله وعليه السّلام ) البسيطةَ خُوطِب هو وذرّيتُه في الآيات التالية :

1. قال سبحانه : ( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) . (1)

وفي قوله : ( وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) إشارة إلى أنّ الإنسان يتمتع في البسيطة إلى أجل محدود ، ولعلّ الأجل المحدود كناية عن وقوع القيامة.

2. قال سبحانه : ( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) . (2)

3. قال سبحانه : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) . (3)

وهذه الآيات الواردة في سورة الأعراف التي تحكي خطاباته سبحانه في بداية الخلقة تدلّ على أنّ الإيمان بالمعاد من البلاغات العامة التي بلّغها سبحانه إلى الناس كافة ، من قبل آدم علیه السلام إلى خاتم الأنبياء صلی اللّه علیه و آله .

والنبي آدم علیه السلام وإن لم يكن ذا شريعة ، ولكنّه كان نبيّاً مبعوثاً لدعوة الناس إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر ، وقد تضمّنت الآيات تصريحاته سبحانه في ذلك المضمار إليه وإلى الناس أجمعين.

ص: 12


1- الأعراف : 24.
2- الأعراف : 25.
3- الأعراف : 35 - 36.

2. نوح علیه السلام والدعوة إلى الإيمان بالمعاد

إنّ نوحاً علیه السلام شيخ الأنبياء أوّل من نزلت عليه الشريعة السماوية وتحمّل أعباءها ، وكان يذكّر الناس بالمعاد في خطاباته ودعواته ، يقول سبحانه حاكياً عنه :

1. ( وَاللّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ) . (1)

2. وفي آية أُخرى : ( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ ) . (2)

والآية الأُولى تصرّح بعود الإنسان إلى الحياة الأُخرى ، وفي الآية الثانية إيماء إليها ، والمراد من خسرانه هو خسرانه يوم القيامة.

3. إبراهيم علیه السلام والدعوة إلى الإيمان بالمعاد

جاءت الدعوة إلى الإيمان بالمعاد في خطابات إبراهيم علیه السلام أكثر ممّا جاءت في كلمات آدم ونوح علیهماالسلام ، ويعلم ذلك من خلال سرد الآيات التي تحكي عن دعوته :

1. قال سبحانه : ( مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) . (3)

2. قال سبحانه : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ ) . (4) .

ص: 13


1- نوح : 17 - 18.
2- هود : 47.
3- البقرة : 126.
4- إبراهيم : 41.

3. قال سبحانه : ( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) . (1)

4. قال سبحانه : ( وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) . (2)

5. يقول سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) . (3)

وقد انفردت الآية الأخيرة بالاشارة إلى انّ دعوة إبراهيم إلى المعاد قد ارفقها بالدليل والبرهان بوحي من اللّه سبحانه ، دون أن نرى له أثراً في كلمات آدم ونوح علیهماالسلام .

4. موسى علیه السلام والدعوة إلى الإيمان بالمعاد

الدعوة إلى الإيمان بالمعاد وإن كانت غير شائعة في التوراة ، ولعلّ يد التحريف حذفت ما يرجع إلى الإيمان بهذا اليوم ، ولكن القرآن الكريم يحفل بخطابات موسى علیه السلام التي تعبّر عن الدعوة إلى الإيمان بالمعاد بوفرة ، ونذكر منها مايلي :

1. انّه سبحانه يندّد بقوم موسى ويخاطبه بقوله : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ ... ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) . (4) .

ص: 14


1- الشعراء : 87.
2- العنكبوت : 17.
3- البقرة : 260.
4- الأعراف : 146 - 147.

2. يدعو موسى علیه السلام على آل فرعون بقوله : ( وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ) . (1)

3. انّه علیه السلام يحتج على من يصف آياته بالسحر ، ويقول : ( وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) . (2)

4. لما هدّد فرعون الملأ وقومه بقوله : ( إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ) أجابه موسى بقوله : ( وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ ) . (3)

5. إنّ مؤمن آل فرعون - الذي كان يُخفي إيمانه ويظهر كفره - كان يحتج على فرعون وملئه بالإيمان إلى المعاد كما في الآيات التالية : ( وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ) . (4)

وقال : ( وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) . (5)

وقال : ( وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللّهِ ) . (6)

وهذه الآيات تعرب عن أنّ الإيمان بالمعاد كان متفشياً في مصر ، وإنّ مؤمن آل فرعون كان يستدل به ليخفّف من وطأة جور فرعون على موسى علیه السلام .

6. انّ بني إسرائيل كانوا ولم يزالوا أُمّة لجوجة عنيدة تُصيغ كلّ شيء غيبي في قالب الحس ، ولتلك الغاية خاطبوا موسى علیه السلام ، بقولهم : ( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً ) (7) كما أنّهم طلبوا رؤية إحياء الموتى بأُمّ أَعينهم ، وقد شاهدوها في

ص: 15


1- يونس : 88.
2- القصص : 37.
3- غافر : 27.
4- غافر : 32.
5- غافر : 39.
6- غافر : 43.
7- البقرة : 55.

البقرة التي حكاها سبحانه بقوله : ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (1).

وقد ورد في شأن نزولها : أنّه قُتل إنسان من دون أن يعلم قاتله ، فأمر سبحانه بذبح البقرة وضرب بعض المقتول ببعض البقرة ليحيا ويخبر عن قاتله ، وبذلك رأوا بأُمّ أعينهم إحياء الموتى.

5. المسيح علیه السلام والدعوة إلى الإيمان بالمعاد

الإيمان بالمعاد والدعوة إليه كان مرّفقاً بلسان المسيح علیه السلام منذ ولادته إلى أن رفعه اللّه إليه :

1. يقول سبحانه حاكياً عنه : ( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) . (2)

2. وقال سبحانه : ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) . (3)

إلى غير ذلك من الآيات الواردة التي تعرب عن دعوة الأنبياء إلى الإيمان بالمعاد ، وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

ص: 16


1- البقرة : 72 - 73.
2- مريم : 33.
3- آل عمران : 55.

المعاد في العهد العتيق

إنّ العهدين وإن عبث بهما الزمان ومع ذلك يوجد فيهما تصريحات وإيماءات إلى المعاد ، ففي العهد العتيق : الرب يميت ويحيي. (1)

تحيى أَمواتك يوم تقوم الجثث ، استيقظوا ترنَّموا ياسكان التراب. (2)

المعاد في العهد الجديد

على الرغم من قلة التصريح بالحياة الأُخروية في العهد العتيق نجد التصريح بها بوفرة في العهد الجديد في موارد كثيرة ، منها ما يلي :

1. « فانّ ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه ، وملائكته ، وحينئذٍ يجازي كلّ واحد حسب عمله ». (3)

2. « هكذا يكون في انقضاء العالم ، يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار ، ويطرحونهم في أتون النار هناك يكون البكاء ، وصرير الاسنان ». (4)

3. « في ذلك اليوم جاء إليه حدقيون ، الذين يقولون ليس قيامه ، فسألوه * قائلين : يا معلم ، قال موسى ان مات أحد وليس له أولاد ، يتزوج أخوه بامرأته ، ويقيم نسلاً لأخيه * فكان عندنا سبعة اخوة وتزوج الأوّل ومات ، وإذ لم يكن له نسل ترك امرأته لأخيه ، وكذلك الثاني والثالث إلى السبعة * وآخر الكل ماتت المرأة أيضاً * ففي القيامة لمن من السبعة تكون الزوجة فانّها كانت للجميع * فأجاب يسوع ، وقال لهم : تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة اللّه * لانّهم في

ص: 17


1- صموئيل الأوّل : الاصحاح الثاني : الجملة 6 ، ط دار الكتاب المقدس.
2- اشعيا : الاصحاح 26 : الجملة 19 ، ط دار الكتاب المقدس.
3- انجيل متى : الاصحاح 16 : الجملة 27 ، ط دار الكتاب المقدس.
4- انجيل متى : الاصحاح 13 : الجملتان 49 و 50 ، ط دار الكتاب المقدس.

القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة اللّه في السماء ». (1)

وهذا يعرب عن كون المعاد عند كاتب الإنجيل روحانياً محضاً ، لا جسمانياً وروحانياً كما عليه الذكر الحكيم.

4. « وإن أعثرتك رجلك ، فاقطعها ، خير لك أن تدخل الحياة أعرج ، من أن تكون لك رجلان وتطرح في جهنم في النار التي لا تطفأ * حيث دُوْدُهم لا يموت والنار لا تطفأ * وإن أعثرتك عينك فاقلعها خير لك أن تدخل ملكوت اللّه أعور من أن تكون لك عينان وتطرح في جهنم النار * حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ ». (2)

5. « وهذه مشيئة الأب الذي أرسلني ، انّ كلّ ما أعطاني لا أتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير * لأنّ هذه هي مشيئته الذي أرسلني انّ كلّ من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير ». (3)

هذا ، وفي العهدين جمل أُخرى تصرح أو تشير إلى يوم القيامة ، وقد اقتصرنا على ما ذكرنا روماً للاختصار.

وثمة نكتة جديرة بالاشارة وهي عدم اهتمام اليهود ، والنصارى ، بالبعث ويوم القيامة وما فيها من الحساب والجزاء ، وهذا هو الذي جرّأهم على اقتراف المعاصي ، والمجون ، والانحلال من كلّ القيم الأخلاقية ، أعاذنا اللّه من ذلك.

ص: 18


1- انجيل متى : الاصحاح 22 : الجملات 23 - 31 ، ط دار الكتاب المقدس.
2- انجيل مرقس : الاصحاح 9 : لاحظ الجملات 42 - 49 ، ط دار الكتاب المقدس.
3- انجيل يوحنا : الاصحاح 6 : الجملتان 39 - 40 ، ط دار الكتاب المقدس.

الفصل الثالث : الدلائل الجلية على لزوم المعاد

اشارة

يستدلّ القرآن الكريم على ضرورة إحياء الناس بعد موتهم - التي هي سنّة قطعية لا مناص عنها - بطرق مختلفة :

1. المعاد ، رمز الخلقة.

2. المعاد ، مظهر العدل الإلهي.

3. المعاد ، مجلى الوعد الإلهي.

4. المعاد ، مظهر رحمته الواسعة.

5. المعاد ، نهاية السير التكاملي للإنسان.

6. المعاد ، مظهر ربوبيته.

1. المعاد : رمز الخلقة

اشارة

من الأسئلة المثارة عند كلّ إنسان هو السؤال عن أصل الخلقة وانّه لماذا خلق ، وماذا أُريد من خلقه ؟

والناس أمام هذا السؤال على صنفين :

فصنف يرى أنّ حظ الإنسان هو علّتان من العلل الأربع :

ص: 19

الف. العلّة المادية.

ب. العلة الصورية.

وكأنّ العالم بجزئياته وذراته تفاعلت فيما بينها وشكّلت صورة الإنسان ، وليس وراء هاتين العلتين علّة أُخرى ، فهم ينكرون العلة الفاعلية ( الخالق ) والعلّة الغائية ويقتصرون على العلّة المادية والصورية ، وبذلك أراحوا أنفسهم من عناء الإجابة ، بل أذعنوا بأنّه ليس وراء خلق الإنسان هدف ولا غاية.

وصنف آخر يرى أنّ وراء العلّتين الماضيتين ، علّتين أُخريين : أحدهما : العلّة الفاعلية ، والأُخرى : العلة الغائية ، والمراد من الأُولى ما يخرج المادة والصورة إلى الوجود ، كما أنّ المراد من الثانية الغرض المترتب على الفعل ، وحيث إنّ الفاعل موجود حكيم لا يفعل عبثاً دون غرض ، فلفعله غرض مترتب عليه ، وليس هو إلاّ العبور من قنطرة الدنيا إلى الآخرة وانتقاله إلى نشأة أُخرى يُعد غرضاً أسمى لفعله سبحانه.

وتدل على تلك الغاية طائفتان من الآيات :

الأُولى : ما تدل على أنّ إنكار المعاد يلازم العبث.

الثانية : ما تصف فعله سبحانه ( الإيجاد ) بالحق المطلق الذي لا يدانيه الباطل ، وما هو كذلك يمتنع أن يكون عبثاً بلا غرض.

أمّا ما يدل على الطائفة الأُولى فلفيف من الآيات :

1. ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) . (1)

ولأجل انّ العبث لا يدبُّ إلى فعله ولا يتسرب إلى إيجاده ، يصفه بعد تلك الآية بالملك الحق ، ويقول : ( فَتَعَالَى اللّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ

ص: 20


1- المؤمنون : 115.

الْكَرِيمِ ) (1).

2. ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) (2).

والآية تعرب عن أنّ نفي الغاية لخلق السماوات والأرض وما بينهما كان شعار الكافرين بل ربما أنكر البعضُ العلةَ الفاعلية ، قال سبحانه : ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ) (3).

تجد انّهم كانوا ينسبون الإحياء والإماتة إلى الدهر والزمان.

3. ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) (4).

وهذه الآية تصف فعله سبحانه بالحقّ ، وانّ الخلق كان فعلاً موصوفاً بالحقّ المحض ، وما هو كذلك يلازم الغرض ويفارق العبث وإلاّ لم يكن حقّاً مطلقاً.

4. ( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ) (5).

والمراد من النبأ العظيم هو يوم القيامة ، ويصفه بكونه نبأً قطعياً لا ريب فيه.

إنّه سبحانه يذكر في الآيات التالية النظام السائد في الكون ، ويقول : ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ .

ص: 21


1- المؤمنون : 116.
2- ص : 27.
3- الجاثية : 24.
4- الدخان : 38 - 40.
5- النبأ : 1 - 5.

أَلْفَافًا ) . (1)

ثمّ إنّه سبحانه يردف هذه الآيات بآيات القيامة التي يصفها بيوم الفصل ، ويقول : ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ) . (2)

والنظم المنطقي بين هذه الطوائف الثلاث من الآيات في سورة واحدة عجيب جداً ، ففي الطائفة الأُولى يذكر المعاد بما أنّه أمر مفروغ عنه.

وفي الطائفة الثانية يذكر شيئاً من النظام السائد في الكون.

وفي الطائفة الثالثة يذكر يوم القيامة مشعراً بأنّه لولا هذا اليوم لعاد خلق النظام السائد فيه أمراً عبثاً.

وبذلك تظهر الصلة بين الآيات.

وأمّا ما يدل على الطائفة الثانية - أعني : انّ الحقّ المطلق يلازم الهدف وليس هو إلاّ استمرار الحياة في النشأة الأُخرى - فلفيف من الآيات :

1. ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . (3)

ترى أنّه سبحانه يصف نفسه ب ( هُوَ الحَقُّ ) ويردفه بقوله : ( وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى ) مشعراً بأنّ الحقّ المطلق لا ينفك عن إحياء الموتى لاستمرار الحياة وصون الفعل عن اللغوية.

وبعبارة أُخرى : انّ الموجود لا يوصف بكونه حقاً على الإطلاق إلاّ إذا كانت

ص: 22


1- النبأ : 6 - 16.
2- النبأ : 17 - 18.
3- الحج : 6.

ذاته وصفاته وفعله نزيهة عن النقص ، ولا يكون فعله كذلك إلاّ إذا كان مقروناً بالغاية.

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على كونه حقّاً مطلقاً ويقول : ( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ) . (1)

2. وعلى ذلك المنوال جرى كلامه سبحانه في الآية التالية :

( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) . (2)

فالذكر الحكيم يصفه بأنّه الحقّ وانّ ما يدعونه من دونه هو الباطل والحقّ المطلق ما يكون نزيهاً من النقص في ذاته ووصفه وفعله ، ولما كانت نزاهته في الأوّلين أمراً لا غبار عليه ، برهن على نزاهة فعله بالآية التالية وقال :

( وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ ) . (3)

3. وربما يتفنّن القرآن فيذكر إحياء الموتى واستمرار الحياة أوّلاً ، ثمّ يذكر برهانه بأنّ وعد اللّه حقّ على خلاف ما مضى في الآيات السابقة ، ويقول :

( مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) . (4)

ثمّ يذكر في آية أُخرى قوله : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) . (5)

ثمّ يعقبها قوله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا

ص: 23


1- الحج : 7.
2- الحج : 62.
3- الحج : 66.
4- لقمان : 28.
5- لقمان : 30.

يَغُرَّنَّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ ) . (1)

والإمعان في تلك الآيات يورث الإعجاب ، فهو يذكر بعث النفوس أوّلاً ، ثمّ يردفه في آية أُخرى بأنّه سبحانه هو الحقّ.

ثمّ يطرح في آية أُخرى مسألة الجزاء وانّه لا يجزي والد عن ولده ، ويصف وعد اللّه بالحقّ ، ففي كلا المقامين جاء المدّعى مرفقاً بالدليل ، فوصفه بالحقّ كوصف وعده به آية صحّة المدعى وانّه لا مناص من إحياء الموتى وإلاّ لعاد الحقّ المطلق حقّاً نسبياً.

وهذا النوع من الكلام من إنسان أُمّي لا يجيد القراءة والكتابة دليل على أنّ كتابه ليس وليد فكره ونتاج عقله ، بل هو وحي إلهي نزل به الروح الأمين على قلبه ليكون من المنذرين.

ثمّ إنّ الذكر الحكيم يحثّ المؤمنين على التفكير في خلق السماوات والأرض واختلاف اللّيل والنَّهار وغيرها من الأنظمة السائدة في الكون حتّى يعلموا أنّ فعله سبحانه لم يكن باطلاً ولا عبثاً. قال سبحانه : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) . (2)

وقد نقل عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « الدنيا مزرعة الآخرة ».

وكأنّ الإنسان يزرع في هذه الحياة الدنيا ويحصد ما زرعه في الآخرة ، وهو يشير إلى وجود الغاية لخلق الإنسان والعالم.

ص: 24


1- لقمان : 33.
2- آل عمران : 190 - 191.
الإمام علي علیه السلام وهدف الخلقة

وقد نقل عن أمير المؤمنين علیه السلام خطب وكلمات تشير إلى سرّ الخلقة وهدفها وانّها لا تتحقق إلاّ بالبعث بعد الموت والنشأة بعد النشأة ، وها نحن نسرد بعض كلماته :

1. قال علیه السلام : « وإنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة ، مُرقِلين في مضمارها إلى الغاية القصوى ». (1)

2. ويقول علیه السلام أيضاً في نفس تلك الخطبة : « قد شخصوا من مستقر الأجداث ، وصاروا إلى مصائر الغايات ». (2)

3. ويقول علیه السلام : « فانّ الغاية القيامة ، وكفى بذلك واعظاً لمن غفل ، ومعتبراً لمن جهل ، وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الارماس ، وشدّة الإبلاس ، وهول المطلع ». (3)

4. وفي وصية كتبها لولده الإمام الحسن علیه السلام يقول : « واعلم يا بنيّ أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدنيا ، وللفناء لا للبقاء ، وللموت لا للحياة ، وأنّك في قلعة ودار بلغة ، وطريق إلى الآخرة ». (4)

2. المعاد مظهر العدل الإلهي

القول بالعدل وانّه يلزم على اللّه سبحانه أن يتعامل مع عباده بالعدل ، من فروع القول بالتحسين والتقبيح العقليين. وقد ذهبت العدلية إلى أنّ العقل له

ص: 25


1- 1 و 1. نهج البلاغة : الخطبة 156.
2- نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة 190.
3- نهج البلاغة : قسم الرسائل ، الرسالة 31.

قابلية إدراك الفعل الحسن أو القبيح واقعاً ، فالموضوع لحكمه هو فعل الفاعل المختار وانّه ينقسم إلى حسن وقبيح.

وبذلك يظهر انّ حكمه على الموضوع بأحد الوصفين حكم عام يعمّ فعل الواجب والممكن دون مدخلية لوجود الفاعل وجوباً أو إمكاناً ، فالفعل بما هو صادر عن فاعل عالم مختار إمّا حسن يجب العمل به ، وإمّا قبيح يجب الاحتراز عنه. إلاّ أنّ اللّه سبحانه لا يقوم إلاّ بالفعل الحسن ، وبالتالي لا يتعامل مع عباده إلاّ بالعدل ، يقول سبحانه :

( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) . (1)

وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ) . (2)

بل هو لا يظلم ولا ينسب إليه الظلم أبداً ، قال سبحانه : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) . (3)

أي لا ينسب الظلم إليه ، نظير قول القائل في النيل من خصمه : « وليس بنبّال » أي لا صلة بينه وبين رمي النبل.

نعم ربما يقال بعجز العقل عن إدراك محاسن الأفعال ومساويها وبالتالي لا يمكن الوصول إليها إلاّ من خلال تنصيص الشرع. وقد أوضحنا وهن ذلك القول في بحوثنا الكلامية ، وذكرنا انّ لازمه عدم إمكان الحكم بالحسن والقبح مطلقاً لا عقلاً ولا شرعاً. (4)

ص: 26


1- آل عمران : 18.
2- يونس : 44.
3- فصلت : 46.
4- لاحظ كشف المراد : 59 ، الفصل الثالث ، المسألة الأُولى في إثبات الحسن والقبح العقليين عند قول الماتن : « ولانتفائهما مطلقاً لو ثبت شرعاً ».

فخلاصة القول : إنّ فعله سبحانه يوصف بالعدل لا بالجور والظلم ، وعليه فمقتضى حكمته أن يتعامل مع العباد بالعدل.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ عباده أمام تكاليفه على صنفين ، مطيع وعاص ، فيتصور بادئ الأمر أربعة احتمالات :

الف. أن يُثيب الجميع.

ب. أن يُعاقب الجميع.

ج. أن يغض النظر عن إثابتهم أو عقابهم.

د. أن يثيب المطيع ويعاقب العاصي.

والاحتمالات الثلاثة الأُول من الوهن بمكان ، لأنّها تناقض العدل ، فالتسوية بين المطيع والعاصي سواء أكانت بإثابة الجميع أو عقابهم كذلك أو تركهم سدى يعد ظلماً وجوراً ، وهو أمر قبيح ، وفعله سبحانه نزيه عنه ، فيتعيّن الاحتمال الرابع.

وبتعبير آخر : انّ التسوية بين العباد سواء أكانت بشكل إثابة الجميع أو عقوبتهم أو تسويتهم إنّما يتجه إذا كان الجميع سالكاً طريقاً واحداً من سبيلي الإطاعة والعصيان ، فلو أطاع الجميع لكانت إثابتهم نفس العدل ، ولو عصوا لكانت عقوبتهم كذلك ، كما أنّ له سبحانه أن يتركهم سدى ، وأمّا إذا كانوا مطيعين فلأنّ الثواب تفضّل من اللّه سبحانه فله أن لا يتفضل وليس بحقّ عليه ، كما أنّ عقوبتهم حقّ فله أن يتغاضى عن حقّه.

إنّما الكلام فيما إذا كان العباد على صنفين بين مطيع وعاص ، فالتسوية في هذه الصورة سواء أكانت بصورة إثابة الجميع أو عقوبتهم ، أو تركهم سُدى ظلم قبيح على اللّه سبحانه ، فلا محيص عن التفريق بإثابة المطيع ومعاقبة العاصي.

ص: 27

وحيث إنّ الحياة الدنيا يتساوى في الانتفاع بنعمها المطيع والعاصي ، فلابدّ من يوم آخر يكون مجلى لعدله سبحانه ومظهراً له ، وليس هو إلاّ يوم القيامة.

يقول سبحانه : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) . (1)

ويقول أيضاً : ( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) . (2)

ويقول أيضاً : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) . (3)

وهذه الآيات تثبت انّ التسوية بين المطيع والعاصي لا يليق بساحته سبحانه. وثمة آيات أُخرى تعيّن اليوم الذي يكون مظهراً لعدله.

1. يقول سبحانه : ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) . (4)

2. ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) . (5)

ص: 28


1- ص : 28.
2- القلم : 35 - 36.
3- الجاثية : 21.
4- يونس : 4.
5- إبراهيم : 48 - 51.

3. ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ... * لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) . (1)

4. ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ) . (2)

5. ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ) . (3)

وممّا يلفت النظر انّه سبحانه بعدما يطرح الحياة الأُخروية وقيام القيامة ، يعقبها بقوله : «لتجزى» أو « ليجزى » أو « ليروا » مشعراً بأنّ الهدف الإلهي من حشر الناس في ذلك اليوم هو إثابة المطيع ومعاقبة العاصي.

وأنت إذا قارنت هذه الطائفة من الآيات التي تصرّح بأنّ الهدف من الحشر هو الجزاء مع ما مضى في الطائفة الأُولى من الآيات تجد انّ التسوية لا تتماشى مع عدله وانّ الجزاء هو مقتضى العدل الإلهي.

ما ذكرناه هو المستفاد من الآيات الكريمة ، وثمة كلمات منقولة عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام وفيها إشارة إلى انّ يوم الجزاء مجلى لعدله سبحانه :

1. « وذلك يوم يجمع اللّه فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب وجزاء الأعمال ». (4)

2. « فجدّدهم بعد إخلاقهم ، وجمعهم بعد تفرّقهم ، ثم ميّزهم لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال وجعلهم فريقين : أنعم على هؤلاء وانتقم من هؤلاء ... ». (5) .

ص: 29


1- سبأ : 3 - 5.
2- طه : 15.
3- الزلزلة : 6.
4- نهج البلاغة : الخطبة102.
5- نهج البلاغة : الخطبة 109.

3. المعاد مجلى الوعد الإلهي

وعد سبحانه المطيعَ بالثواب والعاصيَ بالعقاب ، فله أن يغضَّ النظر عن عقاب العاصي لأنّه حقه ، ولكن ليس له غض النظر عن الوعد للفرق بين الوعد والوعيد.

أمّا الأوّل فيجب العمل به ويعدُّ خُلْفه قبيحاً ، بخلاف الوعيد فلا يعدُّ خُلفه إخلالاً بالعدل ، وقد صبّ الشاعر المفلق هذا المعنى في قالب شعريّ وقال :

وانّي إذا أوعدته أو وعدته *** لمخلف ميعادي ومنجز موعدي

وقال الآخر :

إذا وعد السّراء انجز وعده *** وإن أوعد الضرّاء فالعفو مانع

وإن شئت قلت : الخلف في الوعد إسقاط لحقّ الغير. وإمساك عن أداء ما عليه من الحقّ ، وأمّا الوعيد فانّه إسقاط لحقّ نفسه ، والعقل يستقل بقبح الأوّل دون الثاني.

وعلى ضوء ذلك فله سبحانه أن يغضَّ النظر عن العاصي دون العمل بوعده للمطيع فلابدّ من يوم يكون مجلى لإنجاز وعده وإظهار عدله.

وهذا البرهان يمتاز عمّا سبقه ، بأنّ السابق بصدد بيان انّ التسوية بين المطيع والعاصي أمر قبيح سواء أكان هناك وعداً ووعيداً أم لا ، ولذلك قلنا : إنّه لو كان الجميع مطيعين فلا يضرّ عدم الإثابة بعدله ، أو كانوا عاصين فلا يخلُّ العفو كذلك ، وإنّما المخل هو التسوية بين المطيع والعاصي.

وأمّا هذا البرهان ، فهو مبني على مقدمة شرعية وحكم عقلي.

ص: 30

أمّا المقدمة فقد أرشدنا القرآن إليها ، إذ وعد فيها المؤمنين كما أوعد الكافرين والمنافقين.

وأمّا الحكم العقلي فهو انّ غضّ النظر عن عقاب العاصي لا يخلُّ بالعدل ، ولكن الخلف بالوعد قبيح عند العقل.

وليس لإنجاز وعده وقت سوى حشر الناس بعد الموت.

وأمّا الآيات الواردة في هذا المضمار فهي على أصناف :

فصنف يدل على أنّ قيام القيامة وعد من اللّه سبحانه ، وصنف آخر يدل على أنّه ظرف لمجلى وعده ووعيده.

وصنف ثالث يدلّ على أنّ هذا الوعد قطعيّ الوقوع والتحقق ، وإليك البيان :

أمّا الصنف الأوّل فيدل عليه الآيتان التاليتان :

قال سبحانه : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) . (1)

وقال سبحانه : ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) . (2)

وأمّا الصنف الثاني فقد وردت فيه الآيات التالية :

قال سبحانه : ( وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ ) . (3)

وقال سبحانه : ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) . (4)

ص: 31


1- الأنبياء : 104.
2- الزخرف : 83.
3- ق : 31 - 32.
4- الحجر : 43.

وقال سبحانه : ( وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ) . (1)

وهناك صنف ثالث يدل على أنّ هذا الوعد قطعي الوقوع والتحقّق.

قال سبحانه : ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ ) . (2)

وقال سبحانه : ( وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ ) . (3)

ثمّ إنّ المتكلّمين استدلوا على لزوم المعاد بأمرين ، أشار إليهما المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد ، بقوله : « ووجوب إيفاء الوعد والحكمة تقتضي وجوب البعث ». (4)

ففي هذه العبارة إشارة إلى دليلين :

الأوّل : وجوب إيفاء الوعد ، وهذا هو الذي مرّ بيانه آنفاً.

الثاني : الحكمة ، ولعلّها إشارة إلى ما مرّ من أنّ الحشر هو رمز الخلقة.

4. المعاد مظهر رحمته الواسعة

يستفاد من بعض الآيات انّ حشر الناس يوم القيامة من مظاهر رحمته سبحانه وانّه التزم على نفسه أن ينظر إلى العباد بعين الرحمة ولذلك حشرهم يوم القيامة ، قال سبحانه :

( قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ

ص: 32


1- هود : 17.
2- آل عمران : 9.
3- آل عمران : 194.
4- كشف المراد : المقصد السادس ، المسألة الرابعة.

لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) . (1)

تجد انّه سبحانه يردف قوله : ( كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) بقوله : ( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) مشعراً بأنّ جمع الناس يوم القيامة من مظاهر رحمته.

وثمة سؤال وهو انّه كيف يكون حشر الناس من مظاهر رحمته مع أنّ الكفّار والمنافقين معذّبون في الدرك الأسفل من النّار ؟

والإجابة عنها واضحة.

إذ انّ الهدف من وراء البعث والنشور إيصال كلّ ممكن إلى كماله المطلوب ، ونيل الرحمة الإلهية وهو غاية طبيعية للحشر ، فلو تخلّف الكافر عن نيل ذلك الكمال والرحمة فلا يضرّ بالهدف المتوخّى من البعث.

وهذا نظير الامتحان ، فانّ الغاية منه إظهار ما في كنه الممتَحن من الكمال على نحو لولاه لما ظهر ، فمثلاً ابتلاء إبراهيم بذبح إسماعيل كان سبباً لظهور الكمالات الكامنة فيه كالاخلاص لله.

وعلى ضوء هذا فانّ رسوب شخص لا يضرّ بالغاية المتوخاة منه ، مادام التقصير يعود إلى الراسب لا غير.

ونظيره المقام ، فالغرض من خلق الإنسان وبعثه شيء واحد ، وهو إيصاله إلى الكمال المطلوب ، فلو قصر الكافر فيكون هو المسؤول في ذلك المجال فحسب.

ص: 33


1- الأنعام : 12.

5. المعاد نهاية السير التكاملي للإنسان

قالت الحكماء : إنّ الحركة تتوقف على أُمور ستة :

1. المقولة ، أي ما يقع فيه الحركة كالكيف.

2. العلّة الفاعلية التي يعبر عنها بالمحرّك.

3. العلّة المادية التي تقبل الحركة.

4. الزمان أي مقدار الحركة.

5. المبدأ.

6. المنتهى ( العلّة الغائية ).

فهذه الأُمور ممّا لا تنفك عن الحركة ومنها الغاية التي تتحرك المقولة إليها وتسكن عندها ، والإنسان منذ نشوئه في رحم أُمّه لم يزل متحركاً من صورة إلى صورة ومن حالة إلى حالة ، وتستمرّ الحركة معه حتى بعد ولادته فلا تزال تتوارد عليه الصور ، فلا ترى له قراراً وثباتاً مادام في عالم الطبيعة.

وحيث إنّ الغاية من لوازم الحركة فيجب أن تكون لحركة الإنسان غاية تُعد الكمال المطلوب لحركته ، وهذه الغاية غير متحققة في عالم الطبيعة بل في الآخرة ليصل المتحرك إلى كماله المطلوب.

وهذا البرهان الفلسفي يثبت وجود النشأة الأُخرى التي تعد غاية وهدفاً لحركة الإنسان من النقص إلى الكمال.

ويمكن استظهار ذلك البرهان من طوائف من الآيات :

1. الآيات التي تتكفل لبيان المراحل التي مرّت على خلقة الإنسان وانتهت إلى بعثه يوم القيامة.

ص: 34

قال سبحانه : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) . (1)

فالمراحل التي مرّت على الإنسان منذ أن كان خلية في رحم أُمّه إلى أن صار بشراً سوياً تحكي عن عدم ثباته وقراره وحركته وتحوله المرافق لعدم تحقق الغاية وإنّما يستقر بانتقاله من هذه النشأة إلى نشأة أُخرى وبعثه يوم القيامة.

فالآيات الآنفة الذكر إلى قوله : ( ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ) تُبيّن حركة الإنسان وتحوله المستمر ، وقوله : ( ثُمَّ إِنَّكُم ... ) تبيّن حصول الغاية التي تلازم قراره وثباته واستقراره.

2. الآيات التي تتكفّل لبيان خلق الإنسان من نطفة ثمّ يحكم عليه بالنشأة الأُخرى إيماء إلى ذلك البرهان ، قال سبحانه : ( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى ) . (2)

وكأنّ النشأة الأُخرى غاية لحركة الإنسان من الصورة المنوية إلى الصورة الإنسانية.

3. الآيات التي تصف يوم القيامة بأنّه المنتهى والمستقر والمساق والرجعى ودار القرار.

قال سبحانه : ( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنتَهَى ) . (3)

ص: 35


1- المؤمنون : 12 - 16.
2- النجم : 45 - 47.
3- النجم : 39 - 42.

وقال سبحانه : ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ ) . (1)

وقال سبحانه : ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ ) . (2)

وقال تعالى : ( إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ) . (3)

وقال عزّ من قائل : ( إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) (4).

وكأنّ وجود الإنسان في خِضمِّ بحر متلاطم تسوقه الأمواج العاتية من جانب إلى آخر فلم يزل في حركة وسيلان وتصرم حتى انتقاله إلى النشأة الأُخرى ، فعندئذ يصل إلى غايته المنشودة وتكون منتهى حركته واستقرار ذاته ووجوده ونهاية سيره إلى ربّه.

وفي كلمات الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لمحات إلى هذا البرهان لمن تأمل فيها وأمعن النظر ، قال : « وإنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة ، مرقلين في مضمارها إلى الغاية القصوى ». (5)

وقد اعتمد على ذلك البرهان صدرالمتألهين وقرره بوجه واضح وقال :

الآيات التي فيها ذكرت النطفة وأطوارها الكمالية وتقلّباتها من صورة أنقص إلى صورة أكمل ومن حال أدون إلى حال أعلى ، فالغرض من ذكرها إثبات انّ لهذه الأطوار والتحوّلات غاية أخيرة ، فللإنسان توجه طبيعي نحو الكمال ودين إلهي فطري في التقرب إلى المبدأ الفعال ، والكمال اللائق بحال الإنسان المخلوق

ص: 36


1- القيامة : 12.
2- القيامة : 30.
3- العلق : 8.
4- غافر : 39.
5- نهج البلاغة : الخطبة 156.

أوّلاً من هذه المواد الطبيعية ، والأركان لا يوجد في هذا العالم الأدنى ، بل في عالم الآخرة التي إليها الرجعى وفيها الغاية والمنتهى ، فبالضرورة إذا استوفى الإنسان جميع المراتب الخلقية الواقعة في حدود حركته الجوهرية الفطرية من الجمادية والنباتية والحيوانية وبلغ أشدّه الصوري وتمّ وجوده الدنيوي الحيواني فلابدّ أن يتوجّه نحو النشأة الآخرة ، ويخرج من القوة إلى الفعل ، ومن الدنيا إلى الأُخرى ، ثمّ المولى وهو غاية الغايات منتهى الأشواق والحركات. (1)

6. المعاد ، مظهر ربوبيته

الربّ في اللغة بمعنى الصاحب ، يقال : « ربّ الدار » و « رب الضيعة » وشأن الرب هو تدبير المربوب وإيصاله إلى الكمال وصيانته عن الزوال كما هو حال صاحب الدار والضيعة ، وبذلك يعلم انّ الربوبية غير الخالقية ، فالثانية هي مرحلة الإيجاد والإنشاء ، وأمّا الأُولى فهي مرحلة المحافظة على المُنشأ وتربيته وسوقه إلى الكمال.

وحيث إنّ حقيقة الربوبية والمربوبية في الإنسان تتجلّى في كونه عبداً لله تبارك وتعالى ، وشأن العبد هو الإطاعة بما أمر ونهى عنه والتجنّب عن معصيته ومخالفته ، ولا ينفك ذلك عن يوم يحاسب فيه العبد حتى يتجلّى مدى إطاعته وامتثاله ، ولذلك نرى أنّه سبحانه حينما يخبر عن لقاء الإنسان يوم القيامة يؤكد على ربوبيته ويقول : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ) (2) فكأنّ مقتضى الربوبية مثول العبد أمام اللّه تبارك وتعالى في يوم يحاسب فيجزى حسب ما عمل ، وقال سبحانه : ( وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي

ص: 37


1- الأسفار : 9 / 159.
2- الانشقاق : 6.

خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ) . (1)

فكأنّ منكر المعاد يكفر بربوبية اللّه تبارك وتعالى ولو أذعن بها لما أنكر المعاد ، إذ هو اليوم الذي يحشر فيه جميع العباد للسؤال بمقتضى الربوبية.

الدوافع والشبهات لإنكار المعاد

إنّ الإيمان بالمعاد كالتوحيد أصلان لا ينفكان ، وقد أُمر الأنبياء بتبليغهما وتعليمهما للناس ليؤمنوا بأنّ الربَّ واحد وانّ اللّه يبعث من في القبور.

وقد كان الإيمان بالمعاد شديد الوقع على أكثر الناس في العهود السابقة لا سيما في العهد النبوي فراحوا ينكرونه بشدة ، ودفعهم إلى ذلك أمران :

الأمر الأوّل : الدوافع النفسية التي تدفعهم إلى إنكار المعاد وعدم قبوله.

الأمر الثاني : الشبهات الطارئة على أذهانهم.

وقد ذكر القرآن شيئاً من الدوافع والشبهات ، فها نحن نستعرض الدوافع أوّلاً ، ثمّ نعقبه ببيان الشبهات :

الدوافع النفسية لإنكار المعاد

إنّ الإيمان بيوم الحساب وانّ الإنسان سيجزى بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، يفرض بحسب طبيعته ، قيوداً وحدوداً لا ينبغي تجاوزها هذا من جانب ، ومن جانب آخر فالإنسان بطبعه ميّال إلى الدعة والراحة وإرضاء الغرائز الحيوانية بأي أُسلوب أمكن ، وهذان الأمران لا يجتمعان ولذلك وقفوا أمام دعوة الأنبياء بإنكار المعاد ، وقد أُشير إلى ذلك في القرآن الكريم ، قال سبحانه :

ص: 38


1- الرعد : 5.

( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ) . (1)

ففي هذه الآية يذكر القرآن الشبهة الطارئة على أذهانهم ويجيب عنها كما يأتي ، ولكنّه سبحانه يتعرض بعد هاتين الآيتين إلى الدافع الحقيقي من وراء إنكار المعاد ، وهو انّ الإنسان يريد أن يتحرّر عن كلّ قيد وحاجز ، والإيمان بالمعاد يكبّله بالقيود ، يقول سبحانه :

( بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ) . (2)

فالفجر في اللغة بمعنى الشق ، فكأنّ الإنسان العاصي يريد أن يشقَّ القيود والحدود ويرفع الموانع أمام غرائزه الجامحة ويكون إنساناً متحرراً عن كلّ التزام وشرط.

الدوافع السياسية لإنكار المعاد

وهناك دافع آخر ، وهو انّ المنكرين كانوا أصحاب قدرة ونفوذ وكبر ونخوة ، والعقيدة بالمعاد تنازع سلطتهم وتحدّ من نفوذهم ، وهؤلاء هم الذين يعبّر عنهم القرآن الكريم بالملأ ، يقول سبحانه :

( وَقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا

ص: 39


1- القيامة : 3 - 4.
2- القيامة : 5 - 6.

وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ) . (1)

إنّ الإمعان في هذه الآيات يثبت انّ المنكرين للمعاد كانوا من الأشراف والأعيان الذين يعبّر عنهم القرآن بالملأ ، وكانوا ينكرون المعاد لدافعين :

الأوّل : الدافع النفسي ، وهو الترف والرفاه كما يعرّفهم قوله سبحانه : ( وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ومن الواضح انّ الإيمان بالمعاد يحدَّ من ترفهم ويضع قيوداً لروحهم ورواحهم.

الثاني : الدافع السياسي ، وهو توطيد سلطانهم وحفظ نفوذهم فراحوا يخاطبون من يخضع لسياستهم ونفوذهم بالقول ( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ) .

ويشير في آية أُخرى إلى أنّ ما يطرحه هؤلاء من الشبهات تعد واجهة لما يكنّون من الدوافع ، وهو تكذيب الأنبياء ، ولولا التكذيب لخضعوا للحق ، يقول سبحانه :

( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ) . (2)

فالآية تطرح شبهاتهم في صدرها ( وسيوافيك بيانها ) ولكن تعود وتؤكد على أنّ الدافع الحقيقي شيء آخر وهو ( بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ) .

وقد تكرّر ذلك في آية أُخرى ، قال سبحانه : ( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ

ص: 40


1- المؤمنون : 33 - 38.
2- ق : 3 - 5.

الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) . (1)

والآيتان تتعرضان لأُمور ثلاثة :

الأوّل : الشبهة العالقة في أذهانهم ، وهو قوله : ( أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ ... ) .

الثاني : الجواب عن الشبهة ، أعني قوله : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم ) وسيوافيك بيانها في البحث التالي.

الثالث : بيان الدافع الحقيقي للإنكار ، وانّه ليس هو الشبهة كما يدّعون ، بل الدافع هو انّهم كفروا بلقاء اللّه وأنكروه.

إلى هنا تبيّنت الحوافز التي كانت تدفعهم إلى إنكار المعاد.

نعم كانت لهم شبهات عقيمة طرأت على عقولهم وأذهانهم حالت دون الإيمان بالمعاد ، وهذا ما سنقوم باستعراضه في البحث التالي :

الشبهات حول المعاد

اشارة

قد تعرض الذكر الحكيم إلى شبهاتهم في آيات عديدة ، ونحن نذكر منها ما يربو على عشر شبهات على وجه الإيجاز.

1. لا دليل على المعاد

كان المنكرون للمعاد يتظاهرون بعدم توفر الدليل عليه ، يقول سبحانه :

( وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ

ص: 41


1- السجدة : 10 - 11.

إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) . (1)

فقوله : ( وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) أي ليس هناك دليل يجرنا إلى الإذعان به وإلاّ اتّبعناه ، ونظيره قوله سبحانه : ( وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) . (2)

فانّ الاستفهام الإنكاري الذي يتضمنه قوله : ( أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا ) يحكي عن أنّ المعاد أمر مبهم لا يمكن الإذعان به.

2. الإيمان بالمعاد أُسطورة

كان المنكرون للمعاد يعتقدون انّه أُسطورة تاريخية حيكت في القرون الغابرة وليس أمراً جديداً ، يقول سبحانه حاكياً عنهم : ( لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) . (3)

ولم يكن المعاد نسيجَ وحده في ذلك الاتهام المزعوم بل شاركه الدين ومعارفه ، يقول سبحانه ، حاكياً عنهم : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) . (4)

وكأنّهم ماعقلوا انّ التجدّد ليس آية الحقّ ولا التقدم آية البطلان ، والحقائق تابعة لبراهينها.

3. الدعوة إلى المعاد : افتراء على اللّه

كانت ثلة من الناس تزعم انّ الدعوة إلى المعاد افتراء على اللّه والداعي إليه إمّا كاذب عمداً أو مجنون لا اعتبار بقوله ، قال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ

ص: 42


1- الجاثية : 32.
2- الرعد : 5.
3- المؤمنون : 83.
4- الفرقان : 5.

كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) . (1)

فالآية تتضمن شبهتين : إحداهما : امتناع إعادة البدن البالي ، وثانيتهما : انّ القائل به إمّا كاذب أو مجنون ، وهذا التردّد منهم نابع من الخدعة والمكر وإخفاء الحقيقة ، وربما يكون في وصفه بالكذب فقط إثارة لتعصّب الآخرين.

4. الدعوة إلى المعاد : وإحياء الآباء

وربما تمسك البعض بشبهة عجيبة وهي انّ الداعي إلى المعاد لو كان صادقاً فليأت بآبائنا حتى نرى رجوعهم إلى الحياة بأُمّ أعيننا ، ونذعن بأنّه سبحانه يقدر على إحيائنا يوم القيامة ، قال سبحانه : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) . (2) ولقد وقعت تلك الشبهة ذريعة لإنكار المعاد.

فلو قام النبي صلی اللّه علیه و آله بإحياء أقارب الكافرين لجاءته الطلبات تترى عليه من كلّ حدب وصوب وهو أمر غير معقول ، وإلاّ لعلّق كلّ إنسان إيمانه بالمعاد بإحياء شخص من ذويه.

5. الدعوة إلى المعاد : دعوة ساحرة

وقد اتّهم النبي صلی اللّه علیه و آله بأنّه يتشبّث بالسحر والشعبذة في دعوته إلى المعاد ، قال سبحانه : ( وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ المَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ) . (3)

ص: 43


1- سبأ : 7 و 8.
2- الجاثية : 25.
3- هود : 7.

كما ونسبت سائر معجزاته إلى السحر والشعبذة ، قال سبحانه : ( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ) . (1)

6. الدعوة إلى المعاد خارجة عن نطاق القدرة

كان بعض الناس يتصورون انّ إحياء الموتى أمر محال ، وقد انعكس ذلك في الآية التالية : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (2).وسيوافيك أجوبة تلك الشبهة.

7. إحياء الأموات أمر عسير

لقد أشار القرآن إلى هذا النوع من الاعتراض وأجاب عليه سبحانه : ( إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ) . (3) وقال سبحانه : ( ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ) (4) ، وقال عزّمن قائل : ( وَذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ) . (5) بل انّه سبحانه يصور الإحياء بعد الإماتة من السهولة بمكان أنّه قادر عليه في زمن أدنى من لمح البصر ، قال سبحانه : ( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) (6) وفي آية أُخرى يصف المعاد بأنّه أهون من الإبداع ، قال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (7).

نعم وصف الإعادة بالأهونية بالنسبة إلى الإبداع إنّما هو من منظار فكر البشر ، لأنّ الإبداع خلق بلا مادة متقدمة بخلاف الإعادة فانّه تصوير لمادة

ص: 44


1- الصافات : 14 - 15.
2- يس : 78.
3- العنكبوت : 19.
4- ق : 44.
5- التغابن : 7.
6- النحل : 77.
7- الروم : 27.

موجودة والثاني أهون عند البشر من الأوّل ، وأمّا بالنسبة إليه سبحانه فالجميع على حدّ سواء.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : « وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء ». (1)

8. الموت فناء للإنسان

كان الناس في عصر الرسالة يتصوّرون انّ الموت فناء للإنسان وانحلال له ، فكيف يمكن إعادته ويحكيه سبحانه عنهم بقوله : ( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) . (2) وسيوافيك الإجابة عنها في الفصل التالي.

9. فقدان الصلة بين الدنيا والآخرة

إنّ الإنسان إذا مات فقد عُدِم ولم يبق من إنسانيته شيء ، فإذا أحياه اللّه سبحانه ثانية - على سبيل الفرض - فلم يكن هناك صلة بين الحياتين ، وهذه الشبهة أجاب عنها الذكر الحكيم ، بقوله : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (3) وحاصل الآية انّ الصلة بين الحياتين ، والتي على ضوئها يحكم بأنّ المعاد نفس المبتدى ، عبارة عن النفس الخالدة التي بها تتجلى شخصية كلّ إنسان في كلتا النشأتين.

ولما كانت النفس في المبتدى والمعاد واحدة يحكم على الثانية بأنّها نفس الأُولى ، وسيوافيك تفصيله.

ص: 45


1- نهج البلاغة : الخطبة 185.
2- السجدة : 10.
3- السجدة : 11.
10. الدعوة إلى المعاد والأجزاء المبعثرة المختلطة

إنّ الموت عبارة عن اندثار أجزاء البدن واختلاط ذراته ، فكيف يمكن حشر جميع الناس وقد امتزجت ذرات أبدانهم الرميمة بعضها مع بعض في الدنيا ؟ وقد أشار الذكر الحكيم إلى تلك الشبهة وجوابها وقال : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) . (1) والشبهة وإن لم تكن مذكورة صريحة لكن التأكيد على علمه سبحانه بالغيب وعدم عزوب مثقال ذرة عنه يوضح لنا حقيقة الشبهة ، لذلك نرى انّه سبحانه يؤكد في آية أُخرى على علمه بكلّ شيء ، قال سبحانه : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) . (2) والإمعان في الآية يرشدنا إلى أنّ شبهتهم تدور حول محورين :

الأوّل : امتناع تعلّق القدرة بإحياء العظام الرميمة.

الثاني : عدم إمكان تشخيص الأجزاء المتفرقة.

واللّه سبحانه يجيب عن الشبهة الثانية في الآية نفسها بقوله : ( وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .

إلى هنا تمّ بيان الدوافع النفسية والسياسية والشبهات التي طرحوها والتي كانت تصدّهم عن الإيمان بالمعاد ، فلنأت بملخص شبهاتهم التي مرت عليك :

1. لا دليل على المعاد ، 2. الإيمان به أُسطورة ، 3. الدعوة إلى المعاد افتراء

ص: 46


1- سبأ : 3.
2- يس : 78 - 79.

على اللّه ، 4. المعاد وإحياء الآباء ، 5. الدعوة إلى المعاد : دعوة ساحرة ، 6. المعاد : خارج عن نطاق القدرة ، 7. المعاد أمر عسير ، 8. الموت فناء مطلق فلا يبقى موضوع للإعادة ، 9. فقدان الصلة بين الدنيا والآخرة ، 10. المعاد : والأجزاء المبعثرة المختلطة.

ص: 47

الفصل الرابع : نقد الشبهات الواردة حول المعاد

اشارة

قد تعرفت على الشبهات التي ساورت الكافرين حول الدعوة النبوية إلى المعاد ، وقد ناف عددها على عشر شبهات ، وأكثرها سخيفة لا تستحق الإجابة ، إنّما المهم منها هي الشبهات التالية :

الشبهة الأُولى : المعاد فوق نطاق القدرة.

الشبهة الثانية : المعاد والعظام البالية.

الشبهة الثالثة : المعاد والعلم الإلهي.

الشبهة الرابعة : الصلة بين الحياتين : الدنيوية والأُخروية.

الشبهة الأُولى : المعاد فوق نطاق القدرة

اشارة

ذهب المنكرون للمعاد إلى أنّ إحياء الموتى أمر غير ممكن إمّا ذاتاً أو وقوعاً ، والفرق بينهما واضح. ففي الأوّل يكفي تصوّر الموضوع في الحكم على الامتناع ، كما هو الحال في الحكم باجتماع النقيضين أو الضدين.

وأمّا الثاني : فلا يكفي تصور الموضوع بالحكم عليه بالامتناع إلاّ أنّه ربما يمتنع لأجل عارض خارجي طرأ على ماهية الموضوع ، مثل امتناع تمييز الأجزاء

ص: 48

فلم يكن الإحياء في حدّنفسه محالاً وإنّما استحالته لأجل اختلاط ذرات الأبدان البالية بعضها ببعض.

وقد أجاب سبحانه عن تلك الشبهة بأجوبة مختلفة قالعة للشك ، وإليك بيانها :

1. سعة قدرته سبحانه

إنّ المنكر للبعث والنشور يتخذ قدرة الإنسان المحدودة مقياساً للجواز والامتناع ، مع أنّ المقياس في المعجزات والكرامات والأُمور الخارقة للعادة هو قدرته سبحانه الواسعة ، فلو كان المنكرون يقدرون اللّه تعالى حقّ قدره ويعرفون شأنه لما أنكروا إعادة المعاد ، قال سبحانه : ( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) . (1)

والمراد من القدر في الآية هو الشأن أي ما عرفوا شأنه وكماله ، ومن شؤون معرفته سبحانه هو معرفة قدرته.

وبما انّ البرهان على إمكان المعاد هو سعة قدرته ، نرى أنّه سبحانه يذكر المعاد ويردفه بسعة القدرة إمّا متقدماً عليه كما في الآيتين الماضيتين ، فقد ذكر سعة قدرته ثمّ أردفه بالنفخ في الصور ، أو متأخراً عنه ، قال سبحانه : ( أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . (2) وقال سبحانه : ( إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . (3) .

ص: 49


1- الزمر : 67 - 68.
2- البقرة : 148.
3- هود : 4.

ففي هاتين الآيتين يذكر المدعى ثمّ يأت بدليله ، وهو قدرته على كلّ شيء ، وحيث إنّ إحياء الموتى أمر ممكن بالذات وليس محالاً فسعة قدرته شاملة لهذا المورد أيضاً.

2. البعث وخلق السماوات والأرض

إنّ الذي يبعث الموتى هو خالق السماوات والأرض ، فالقادر على الثاني أولى بأن يكون قادراً على الأوّل فخلق السماوات والأرض أكبر من خلقهنّ ، قال سبحانه : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) (1) بناء على انّ الضمير في ( مِثْلَهُم ) يرجع إلى خلق الإنسان واحيائه ، وقال سبحانه : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ المَوْتَى ) (2). (3)

وأساس الاستدلال في الثاني غيره في الأوّل ، فقد اعتمد سبحانه في الدليل الأوّل على سعة قدرته ، وفي الثاني استدل بالخلق الأشد والأعظم على إمكان خلق غيره قياساً أولوياً.

3. قياس المعاد بالمبدأ

إنّ من الدلائل الواضحة على إمكان الشيء وقوعه ، هذا من جانب ومن جانب آخر حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، فهاتان القاعدتان تدلان على إمكان المعاد ، فإذا كان خلق الإنسان بدءاً أمراً ممكناً ، فهذا يدل

ص: 50


1- يس : 81.
2- الأحقاف : 33.
3- لاحظ سورة الإسراء : 69.

على أنّ ماهية الإنسان ممكنة وإلاّ لما وجد فرد واحد منه ، فإذا كان الفرد الأوّل ممكناً فالفرد الثاني والثالث وجميع الأمثال ، يسودها حكم واحد ، فاللّه سبحانه هو المبدئ وهو المعيد ، فليس الخلق الجديد أشد من الخلق القديم ، وإلى ذلك البرهان يشير قوله سبحانه : ( وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) إلى أن قال : ( فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) . (1)

ويقول عزّ من قائل : ( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ المَوْتَى ) (2) ترى أنّه سبحانه يشرح خلق الإنسان والمراحل التي مرّ بها إلى أن يخرج بقوله : ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ) ثمّ يعقبه بقوله : ( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ المَوْتَى ) فيجعل خلق الإنسان بدءاً ، دليلاً على إمكان معاده.

إلى هنا تمت أجوبة الشبهة الأُولى وهي امتناع الإحياء ، وثبت جوازه بوجوه ثلاثة اقتبسناها من الذكر الحكيم.

الشبهة الثانية : المعاد والعظام البالية

اشارة

كان المنكرون يؤكِّدون على العظام البالية وانّه كيف يمكن إحياؤها ؟ ويعبِّرون عنها بتعابير مختلفة ، فتارة يقولون : ( مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (3) ، وأُخرى : ( أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) (4)

ص: 51


1- الإسراء : 49 - 51.
2- القيامة : 36 - 40.
3- يس : 78.
4- الإسراء : 49.

ونظيرها في الآية 98 ، وثالثة : ( أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ) . (1)

إلى غير ذلك من الآيات التي تعبر عن شبهاتهم بأنّ العظام البالية لا يمكن إعادة الحياة فيها ، يقول سبحانه حاكياً عنهم : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ) . (2)

وقد أجاب الذكر الحكيم عن تلك الشبهة التي ليست - في الواقع - إلا استبعاداً لا برهاناً بهدايتهم إلى خلق الإنسان والنبات من التراب.

تجلّي القيامة في خلق الإنسان والنبات

إنّ الإنسان يرى بأُمّ عينيه في كلّ يوم نموذجاً مصغراً من البعث في خلق الإنسان ونمو الأشجار وتفتح الأزهار.

أمّا الأوّل فيعطف نظر المنكر إلى أنّ بدء خلق الإنسان هو التراب ، فاللّه سبحانه بقدرته ومشيئته أضفى على ذلك التراب حياةً ونمواً وصورة إلى أن صار إنساناً ، فهو سبحانه قادر على أن يضفي على ذلك التراب أيضاً مثلما أضفى على الأوّل.

وأمّا الثاني فالإنسان طيلة حياته يرى بأُم عينيه إحياء الأرض وتفتَّح البراعم والأزهار على الأشجار ، فالأرض بحركتها تُحيي ما كان ميتاً في فصل الشتاء ، فالقادر على إحياء الأرض قادر على إحياء الموتى. ترى ذينك البيانين بوضوح في الآيات التالية :

قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن

ص: 52


1- النازعات : 11 - 12.
2- النمل : 67.

تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) . (1)

ترى أنّه سبحانه يذكر في المقطع الأوّل خلق الإنسان من تراب ، ثمّ يسرد المراحل التي مرّت على خلق الإنسان ، ويذكر في المقطع الثاني اهتزاز الأرض بعد ان كانت هامدة وإنباتها من كلّ زوج بهيج ، ثمّ بعد ذلك يرتب عليه إمكان إحياء الموتى ، ويقول :

( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ) . (2)

وقد جاء ذلك البيان في القرآن غير مرّة ، فيذكر حياة الأرض واهتزازها عقب هطول المطر وظهور الثمار على الأشجار بعد سباتها ، ثمّ يذكر إحياء الموتى ، يقول سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) . (3)

ويقول سبحانه أيضاً : ( وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ) . (4)

ص: 53


1- الحج : 5.
2- الحج : 6 - 7.
3- الأعراف : 57.
4- الزخرف : 11.

فهذه الآيات تذكر الإنسان نماذج من إحياء الموتى ، كخلق الإنسان من تراب وإحياء الأرض بالنبات والأشجار حتى يمحو تلك الشبهة العالقة في ذهنه.

الشبهة الثالثة : المعاد والعلم الإلهي

كان المنكرون يعتمدون في إنكارهم على شبهة ثالثة ، تنحل إلى أمرين :

الأمر الأوّل : انّ انتشار ذرات بدن الإنسان البالي يوجب اختلاط تلك الذرات ، فكيف يمكن تمييز بعضها عن بعض ؟

وبعبارة أُخرى : إذا تعلّق المعاد بإحياء الناس كافة مع اختلاط ذرات بعضهم ببعض ، فكيف يمكن التمييز بين هذه الذرات المختلطة ؟ ولعلّ الآية التالية ناظرة إلى هذا الجانب من الشبهة ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) . (1)

والجواب ما تذكره الآية التالية : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) .

فالآية الثانية تفسر بجوابها واقع الشبهة.

الأمر الثاني : كيف يمكن الإحاطة بالأعمال التي صدرت عن الإنسان خيرها وشرها ، وتمييز عمل كلّ أحد عن عمل الآخر حتى يجزى على وفق أعماله ؟ وكانت الشبهة نابعة عن عجزهم عن درك علمه وسعته واللّه سبحانه يجيب عن الشبهة ، ويقول : ( مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) . (2)

ص: 54


1- ق : 3.
2- لقمان : 28.

فليس خلق الناس جميعاً ولا بعثهم إلاّ كخلق نفس واحدة وبعثها ، فإذا كان الثاني أمراً ممكناً غير عسير فخلق الجميع وبعثهم مثله.

وقد شغلت هذه الشبهة العقول منذ عصور غابرة ، وذلك عندما دعا موسى فرعون إلى عبادة الربّ فخاطبه فرعون بقوله : ( فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى ) فأجاب موسى ، بقوله : ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) .

وعندها دار بينه وبين فرعون ذلك الحوار الذي نوّه فيه إلى تلك الشبهة والتي يذكرها الذكر الحكيم بقوله : ( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ) . (1)

يقول فرعون : فما بال الأُمم الماضية ، فانّها لم تقر باللّه ومن تدعو إليه ، بل عبدت الأصنام والأوثان مثل قوم نوح وعاد وثمود ؟ فيجيب موسى بأنّ أعمالهم محفوظة عند اللّه ومكتوبة في لوح خاص يجازيهم بها ، فما يذهب عليه شيء ولا يخطأ ولا ينسى.

الشبهة الرابعة : الصلة بين الحياتين : الدنيوية والأُخروية

اشارة

هذه الشبهة هي الأخيرة من الشبهات الأربع التي انتخبناها ، وحاصلها : انّ الموت فناء للإنسان وإعدام له ، فبموته تبطل شخصيته وكيانه ، فإذا تعلّقت مشيئته سبحانه بإحيائه ليجزيه وفق أعماله فلا صلة بين الحياتين ولا بين الشخصين ، فكيف يمكن القول بأنّ المعاد هو نفس الإنسان الذي مات وبطلت شخصيته ؟

وهذه الشبهة هي التي يبيّنها قوله تعالى عنهم : ( أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) . (2) .

ص: 55


1- طه : 51 - 52.
2- السجدة : 10.

وهذه الآية وإن لم تكن صريحة في بيان الشبهة ، لكن يوضّحها ما أجاب به سبحانه عنها ، بقوله :

( بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) وقد مرّ بيانه.

( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) . (1)

ولا يقف الإنسان على حقيقة الجواب إلاّ بإمعان النظر في قوله : ( يَتَوَفَّاكُم ) ، فليس المراد من التوفّي هو الموت كما هو الدارج على الألسن ، بل المراد منه هو الأخذ ، وقد فسره به ابن منظور في لسان العرب. (2)

ويفسره أمين الإسلام الطبرسي ، بقوله : أي يقبض أرواحكم جميعاً. (3)

وعلى ذلك فالقرآن يرد على الشبهة بأنّ حقيقة الإنسان عبارة عمّا يأخذه ملك الموت الذي وكّل بأخذه بأجمعه وهو شيء لا يضلَّ في الأرض ، وأمّا الضالّ في الأرض كالعظام البالية والأجزاء المتلاشية فهي طارئة على الإنسان.

فإذا كانت حقيقة الإنسان محفوظة عند الربّ بأجمعها ، فالإتيان به يوم الحشر إتيان لنفس الإنسان الذي عاش في الحياة الدنيا.

وإن شئت قلت : الإنسان مؤلف من بدن وروح ، فالبدن قشر والروح هو الأصل ، والحافظ للوحدة بين البدنين هو الروح ، فإذا كانت الروح باقية في كلتا النشأتين فلا تضرُّ بشخصيته ، فيصدق على المحيا في النشأة الأُخرى ، انّه نفس الإنسان الذي عاش في نشأة الدنيا.

ونلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الآية ليست ناظرة إلى بيان أنّ المعاد

ص: 56


1- السجدة : 11.
2- لسان العرب : 15 ، مادة وفى.
3- مجمع البيان : 4 / 328.

روحاني لا جسماني بل هي ساكتة عن هذا الأمر ، وإنّما يعلم ذلك من خلال الآيات الأُخرى الدالّة على أنّ المعاد روحاني وجسماني.

بل هي ناظرة إلى دفع الشبهة العالقة في الأذهان ، وهي كيف يمكن جزاء الإنسان في النشأة الأُخرى بالأعمال التي اكتسبها في النشأة الدنيا مع أنّه بموته بطلت شخصيته وانفصمت وحدته.

فيجيب سبحانه بأنّ الحافظ للوحدة ، هو وحدة الروح والنفس ، في أيّ بدن دخلت ، وبأي بدن حشرت ، فهناك صلة قويمة بين الحياتين.

نعم دلّت الآيات على أنّه سبحانه سيجمع عظامه ورفاته فينشئ نفس ما أنشأه في الحياة الدنيوية.

قال سبحانه : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) . (1)

هذا هو جواب الذكر الحكيم عن الشبهة ، وهو مبني على تجرّد الروح عند الموت الذي يصحح بقاءه وإن فسدت مادته وتناثرت أوصاله ، وهذا الجواب مدعم بدلائل عقلية دامغة ، وإليك بيانها :

البرهان الأوّل : ثبات الشخصية في دوّامة التغيير

إنّ الإنسان منذ نعومة أظفاره إلى ريعان شبابه إلى كهولته وشيخوخته في دوامة التغيّرات والتحوّلات ، وهو أمر ملموس لكلّ إنسان.

وعلى الرغم من ذلك فثمة أمر ثابت غير متغير يواكبه في جميع تلك التغييرات والتحولات وإليه ينسب أفعاله كلّها التي صدرت منه طيلة حياته ، وهذا الأمر الثابت يعبّر عنه ب « أنا ».ويقول كنت طفلاً رضيعاً ثمّ صرت مراهقاً ثمّ

ص: 57


1- يس : 79.

شاباً ثمّ كهلاً وشيخاً هرماً ، وهذا يدل على أنّ المنسوب إليه أمر ثابت في منأى عن طروء التحول والتغير عليه ، وما هذا شأنه فهو مجرّد لا مادي.

وبتعبير آخر : انّ الجانب المادي للإنسان عبارة عن البدن الذي يتألف من خلايا كثيرة التي لم تزل في تحول وتغير مستمر ، وهذه الخلايا تقطع أشواطاً طويلة حتى تصل إلى الهرم ثمّ تموت وتحل محلها خلايا أُخرى جديدة ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يلمس كلّ إنسان انّ ثمة أمر ثابت لا يتغير بتغير الزمان ويكون محوراً لتلك التغييرات ، وهو عبارة عن بقاء ذاته وشخصيته وانيّته عبر الزمان.

فثبت من ذلك أمران :

أ. الجانب المادي في مهبِّ التغيّرات والتحوّلات.

ب. الجانب الروحي والنفسي ثابت غير خاضع للتغيّر.

فنستنتج من هاتين المقدمتين : انّ النفس الإنسانية التي تدور عليها شخصيته وذاته أمر غير مادي بشهادة انّها غير خاضعة لآثار المادة.

البرهان الثاني : علم الإنسان بنفسه مع الغفلة عن بدنه

إنّ الإنسان قد يغفل في ظروف خاصة عن كلّ شيء حتى عن بدنه وأعضائه وما حوله من الأشياء ولكن لا يغفل أبداً عن نفسه سليماً كان أم سقيماً ، وهذا يدل على أنّ المغفول عنه غير اللا مغفول عنه.

توضيحه : تخيّل نفسك في حديقة غنّاء زاهرة وأنت مستلق لا تُبصر أطرافك ، ولا تنتبه إلى شيء ، ولا تتلامس أعضاؤك ، لئلاّ تحس بها ، بل تكون منفرجة ومرتخية في هواء طلق ، لا تحس فيه بكيفية غريبة من حرّ أو برد أو ما

ص: 58

شابهه ممّا هو خارج عن بدنك ، فانّك في مثل تلك الحالة تغفل عن كلّ شيء حتى عن أعضائك الظاهرة وقواك الداخلية فضلاً عن الأشياء التي حولك ، إلاّ عن ذاتك فلو كانت الروح نفس بدنك وأعضائك وجوارحك وجوانحك ، للزم أن تغفل عن نفسك إذا غفلت عن أعضائك والتجربة أثبتت خلافه. (1)

البرهان الثالث : عدم الانقسام في الشخصية

إنّ من آثار المادة هو التجزئة والانقسام ، فكلّ أمر مادي حتى الجزء الذي يسمّونه بما لا يتجزّأ أمر منقسم عند العقل وإن تعذر تقسيمه بالأجهزة الحديثة ، فما يسمّى في الفيزياء بالجزء الذي لا يتجزّأ هو مصطلح علمي أسموه بذلك لعدم استطاعة الأجهزة تجزئته ، ولكنّه عند العقل جزء يتجزّأ كما ذكرنا.

وبناء على هذا الأصل فكلّ موجود مادي قابل للانقسام ولكن الشخصية الإنسانية التي تكون محوراً لأفعاله وأوصافه لا تقبل التجزئة والتقسيم فلا يتصور لشخصيته التي يعبر عنها ب « أنا » أجزاء ، وهذا دليل على أنّ الشخصية الإنسانية رغم ازدواجها مع المادة غير خاضعة لأحكامها ، فهي أمر ثابت غير منقسم ، وما هذا شأنه أمر مجرّد غير مادي.

إنّ هذه البراهين الساطعة تدعم وجهة النظر القائلة انّ الإنسان لا يفنى بموته وإنّما الفاني غير الباقي ، وأنّ النفس أمر مجرد فما ينسب إليها أيضاً مثله.

مثلاً انّ حبك لولدك وبغضك لعدوك ممّا لا يقبل الانقسام وإن كانا

ص: 59


1- هذا البرهان ذكره الشيخ الرئيس في الإشارات : 2 / 92; وفي كتاب الشفاء قسم الطبيعيات في موردين ، ص 282 و 464.

يقبلان الشدة والضعف ، فالنفس والنفسانيات أو الروح والروحيات أُمور فوق المادة لا تخضع لآثارها.

القرآن وخلود النفس

إنّ الذكر الحكيم يؤكّد على خلود الروح وبقائها ، والآيات في هذا المضمار على قسمين : قسم يدل بصراحة على التجرّد ، وقسم آخر ظاهر فيه ، وإليك نقل شيء من القسمين :

القسم الأوّل : ما هو صريح في خلود الروح ، يقول سبحانه :

1. ( اللّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) . (1)

ودلالة الآية مبنية على إمعان النظر في لفظة « التوفّي » وهي بمعنى الأخذ والقبض لا الإماتة ، وعلى ذلك فالآية تدل على أنّ للإنسان وراء البدن شيئاً يأخذه سبحانه حتى عند الموت والنوم.

فيمسكه إن كتب عليه الموت ويرسله إن لم يكتب عليه ذلك إلى أجل مسمّى ، فلو كان الإنسان متمحضاً في المادة وآثارها فلا معنى « للأخذ » و « الإمساك » و « الإرسال ».

2. ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ ) . (2)

ص: 60


1- الزمر : 42.
2- آل عمران : 169 - 171.

وصراحة الآية غير قابلة للإنكار حيث تعدّهم أحياء أوّلاً ، وتحكم عليهم بالرزق وتثبت لهم آثاراً نفسية كالفرح والاستبشار وعدم الخوف والحزن.

ونظيره قوله سبحانه : ( وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لا تَشْعُرُونَ ) . (1)

وربما يتراءى من بعض الذين أخلدوا إلى المادة ، تفسير حياة الشهداء بخلود ذكراهم في المجتمع والأندية والمحافل ، ولكنّه تفسير بعيد عن الصواب ، إذ لو كان المراد هو هذا فما معنى قوله سبحانه : ( يُرْزَقُونَ ) ، ( فَرِحِينَ ) ، ( يَسْتَبْشِرُونَ ) ، بل وما معنى قوله : ( وَلَكِن لا تَشْعُرُونَ ) فانّ الحياة بالمعنى الذي ذُكر أمر يشعر بها كلّ الناس ؟!

3. ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) . (2)

نرى أنّه سبحانه يحكم على آل فرعون بأنّهم يعرضون على النار كلّ يوم وليلة قبل يوم القيامة ولكنّهم يدخلون في النار حين تقوم الساعة ، فلو كان الموت بطلاناً للشخصية فما معنى عرضهم على النار صباحاً ومساءً ؟

4. ( مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ أَنصَارًا ) . (3)

فالآية تحكي عن أنّ قوم نوح علیه السلام بعدما غرقوا أُدخلوا النار بلا تراخ ، فلو كان المراد من دخول النار هو نار القيامة لا يصح التعبير عنه بالفاء ، في قوله : ( فَأُدْخِلُوا ناراً ) الحاكية عن الاتصال ، وعلى ذلك فالمراد من النار هي النار

ص: 61


1- البقرة : 154.
2- غافر : 45 - 46.
3- نوح : 25.

الموجودة في النشأة البرزخية.

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة عن خلود الشخصية الإنسانية وبقائها بعد موته.

القسم الثاني : ما هو غير صريح في خلود الروح وإن كان ظاهراً في تجرّده وخلوده.

1. ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) . (1)

نرى أنّه سبحانه يخصّ النجاة ببدنه ، وهو يعرب عن أنّ هناك شيئاً آخر لم يشمله النجاة.

أضف إلى ذلك خطابه سبحانه بقوله : ( نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ) حيث يدل على أنّ هناك واقعية وراء البدن يكلمها ويخاطبها ويُعْلِمْها بأنّ النجاة يشمل البدن لا غير.

2. ( فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ) . (2)

فهذه الآية والآية التالية تدلاّن على بقاء الروح بعد الموت ووجود الصلة بين النشأتين الدنيوية ، والبرزخية ، وإليك الآية الثانية :

( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ

ص: 62


1- يونس : 92.
2- الأعراف : 92 - 93.

فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ) . (1) ودلالة الآيتين على نمط واحد حيث إنّ كلاً من صالح وشعيب يخاطبان قومهما بعد هلاكهم ويقولان : ( يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ) فلو كان الموت فناء الشخصية ، فما معنى هذا الخطاب الجدي والذي يوضحه دخول الفاء على قوله : « فتولى » والذي يعرب عن تأخّر التولّي والمحاورة عن هلاكهم ؟!

3. ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) . (2)

والآية تأمر النبي بسؤال المتقدمين من الرسل في شأن التوحيد ، والسؤال فرع وجود المسؤول أوّلاً وإمكان الاتصال ثانياً ، فالآية ظاهرة في وجود أرواح الأنبياء وإمكان الإتصال بهم.

وهناك آيات أُخرى صريحة أو ظاهرة في خلود الروح وإمكان الاتصال بها ، اقتصرنا على ما ذكرنا روماً للاختصار. .

ص: 63


1- الأعراف : 92 - 93.
2- الزخرف : 45.

الفصل الخامس : ذكر نماذج من إحياء الموتى في الشرائع السابقة

اشارة

إنّ للمتّقين مراتب ودرجات ، فاليقين بأنّ النار حارة أمر يقبل الاشتداد ، فتارة نتصور النار ونعلم بأنّها حارة ، وأُخرى نشاهدها عن كثب ، وثالثة نقترب منها ونحس حرارتها ، ولاختلاف درجات اليقين صار العلم بشيء واحد يوصف تارة بعلم اليقين ، وأُخرى بحقّ اليقين ، وثالثة بعين اليقين.

يقول سبحانه : ( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ) . (1)

وعلى ضوء ذلك فيصح لإنسان مذعن بإمكان إحياء الموتى أن يطلب من اللّه سبحانه زيادة اليقين بمشاهدة الإحياء بأُم عينيه وما هذا إلاّ عملاً ، بقوله سبحانه : ( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) . (2)

فما جاء في الذكر الحكيم من إحياء الموتى للأنبياء والصالحين كان من هذا القبيل ، وإليك ذكرَها على وجه الإيجاز.

ص: 64


1- التكاثر : 5 - 7.
2- طه : 114.

1. إبراهيم علیه السلام وإحياء الموتى

ذكر المفسرون انّ إبراهيم علیه السلام رأى جيفة تفترسها السباع ويأكل منها سباع البر ودواب البحر ، فسأل اللّه سبحانه ، وقال : يا ربّ ، قد علمت أنّك تجمعها من بطون السباع والطير ودواب البحر فأرني كيف تحييها لأُعاين ذلك.

يقول سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) . (1)

وما ذكرنا من شأن النزول يكشف عن هدف إبراهيم ، وهو انّه كيف يمكن إحياء الميت بعد تشتّت أوصاله واختلاطها بأوصال حيوانات أُخرى ؟ فلذلك أمره سبحانه بأخذ طيور مختلفة فقطعها ومزقها ثمّ فرقهنّ على جبال ثمّ أخذ بمناقيرهنّ ثمّ دعاهنّ باسمه سبحانه فأتتن سعياً فكانت تجتمع ويأتلف لحم كلّ واحد وعظمه إلى رأسه حتى قامت احياءً بين يديه ، وبذلك ازداد يقين إبراهيم حيث عاين إمكان إعادة أجزاء بدن كلّ حيّ إليه وإن اختلط بحي آخر ، فلو أكلت سباع البراري وجوارح السماء وحيتان البحر ، بدن الإنسان فصار جزءاً لأبدانها ، فالاختلاط لا يكون مانعاً عن الإحياء والإعادة.

وبعبارة أُخرى : لم يسأل إبراهيم علیه السلام عن أصل إحياء الموتى وإلاّ لكفى في الإجابة بإحياء فرد واحد من الطيور والإنسان ، بل كان يستهدف الوقوف على كيفية إعادة أجزاء كلّ ميت إليه بعد الاختلاط ، ولذلك أمره سبحانه بأخذ طيور أربعة وقطع رؤوسهنّ وخلط أعضائهنّ وتفريقهنّ على رؤوس الجبال ثمّ دعوتهنّ.

ص: 65


1- البقرة : 260.

وبذلك اطمئنّ قلب إبراهيم واذعن بأنّه سبحانه له القدرة على إعادة أجزاء بدن الميت وإن اختلطت أجزاؤه بأجزاء ميت آخر. وانّ اختلاط أجزاء الموتى أو ضلالتها في الأرض لا يمنع من الإعادة ، قال سبحانه : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) . (1)

ومن غريب التفسير ما ذكره صاحب المنار حيث قال في معنى الآية ما حاصله : خذ أربعة من الطير فضُمَّها إليك ، وآنسها بك ، حتى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك ، فإنّ الطيور من أشدّ الحيوانات استعداداً لذلك ، ثمّ اجعل كلّ واحد منها على جبل ثمّ ادعها ، فانّها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرق أمكنتها وبعدها ، كذلك أمر ربّك إذا أراد إحياء الموتى ، يدعوهم بكلمة التكوين : « كونوا أحياء » فيكونوا أحياء كما كان شأنه في بدء الخلقة ، إذ قال للسماوات والأرض : ( ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) . (2)

قال : والدليل على ذلك من الآية ، قوله تعالى : ( فَصُرْهُنَّ ) فانّ معنى « أملهنّ » أي أوجد ميلاً بها ، وآنسها بك ، ويشهد به تعديته بإلى ، فإنّ صار إذا تعدى بإلى كان بمعنى الأمالة. (3)

ما ذكره من التفسير بعيد عن الصواب لوجوه :

الوجه الأوّل : انّ إبراهيم كان بصدد الوصول إلى معرفة تامة بحقيقة إحياء الموتى ، وطلب من اللّه سبحانه أن يرى الإحياء بأُم عينه ويشاهده عن كثب ، فلم يكن تشبيه الإحياء والتمثيل له يجدي نفعاً ، كأن يشبه دعوة إبراهيم الطيور ومجيئهن إليه ، بدعوة اللّه سبحانه الموتى ومجيئهم إليه.

ص: 66


1- ق : 4.
2- فصلت : 11.
3- تفسير المنار : 3 / 55 - 58 ، وذكر وجوهاً في دعم هذه النظرية التي نقلها عن أبي مسلم وقد استحسنها في آخر كلامه ، وقال : « ولله در أبي مسلم ما أدقّ فهمه وأشدَّ استقلاله فيه ».

الوجه الثاني : لو كان المراد ما ذكره ، لكان اللازم أن يقول : « ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنَّ واحداً » بدل أن يقول : ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ) .

الوجه الثالث : انّ لفظة ( فَصُرْهُنَّ ) إمّا من « صيّر » بمعنى الميل والأُنس ، فعندئذٍ يكون الأمر بالقطع مقدراً ، فكأنّه يقول : « أملهنَّ إليك ثمّ اقطعهنَّ ».

أو من « صرى » بمعنى القطع ، فعندئذ تكون متضمنة معنى الميل ، فكأنّه يقول : اقطعهنّ متمايلات إليك ، كتمايل كلّ طير إلى صاحبه.

وعلى كلّ حال فالآية تدل صراحة على أنّ إبراهيم قطعهنّ وخلط أجزاءهنّ ، ثمّ فرقها على الجبال ، ثمّ دعاهنّ ، فأتينّه سعياً.

2. إحياء نفس عزير

2. إحياء نفس عزير (1)

يحكي الذكر الحكيم انّ رجلاً صالحاً مرّ على قرية خاوية وقد سقطت سقوفها فتساءل في نفسه كيف يحيي اللّه أهلها بعد ما ماتوا ؟ ولم يقل ذلك إنكاراً ولا ارتياباً ، بل أحبَّ أن يريه اللّه إحياءها مشاهدة مثل قول إبراهيم ، فأماته اللّه مائة سنة ثمّ أحياه ، فسمع نداءً ( كَمْ لَبِثْتَ ) فقال : ( لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) لأنّ اللّه أماته في أوّل النهار وأحياه بعد - مائة سنة - في آخر النهار ، فقال : ( يَوْمًا ) ثم التفت فرأى بقية من الشمس ، فقال : ( أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) فوافاه النداء : ( بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ) فانظر إلى طعامك وشرابك لم تغيره السنون ، ثمّ أمر بأن ينظر إلى حماره كيف تفرقت أجزاؤه وتبدّدت عظامه ، فجعل اللّه سبحانه إحياءه آية للناس وحجّة في البعث. ثمّ جمع اللّه عظام حماره وكساها لحماً وأحياه.

يقول سبحانه : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى

ص: 67


1- المعروف انّ المحيى هو عزير ، ولكن ليس في الآية دليل عليه ، وما يدل عليه هو انّ السائل كان رجلاً صالحاً ، وأمّا انّه هو عزير فلا نقطع به.

يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . (1)

والإمعان في قوله سبحانه : ( فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ) يفيد أنّه أماته سبحانه ، ثمّ أحياه بعد تلك المدة.

كما أنّ الإمعان في قوله : ( وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ ) سواء أُريد منه عظام حماره أو غيره ، يفيد انّه سبحانه كساها لحماً ثمّ أحياه ، فكان هناك إحياء لميتين.

والعجب انّ الذي يتطرق إليه الفساد بسرعة كالطعام والشراب لم يتغير طيلة هذه المدة ولكن ما لا يتطرق إليه الفساد إلاّ بعد مدّة طويلة فقد تفرقت أجزاؤه وتلاشت أعضاؤه ، وبذلك ازداد إيمان الرجل الصالح بالبعث والحشر.

بيد انّ صاحب المنار سلك في تفسير الآية نفس التفسير السابق فحمل الموت على السُّبات وهو النوم المستغرق الذي سمّاه اللّه سبحانه وفاة ، واستعان في تقريب مراده بأنّه قد ثبت في هذا الزمان انّ من الناس من تحفظ حياته زمناً طويلاً يكون فيه فاقد الحس والشعور ، فلبث الرجل الذي ضرب على سمعه مائة سنة غير محال في نظر العقل. (2)

والتفسير بعيد عن الصواب ، وذلك لأنّ تفسير الموت بالسبات بحاجة إلى دليل ، والمتبادر من الإماتة هي الإماتة الحقيقية ، وقياس المقام بأصحاب الكهف قياس مع الفارق ، لأنّ المتبادر من الآيات هناك هو السبات والنوم ، يقول سبحانه : ( فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ) . (3)

ص: 68


1- البقرة : 259.
2- تفسير المنار : 3 / 50.
3- الكهف : 11.

ويقول أيضاً : ( وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ) (1) بخلاف المقام.

على أنّ ما ذكره لو صحّ في نفس الرجل الصالح لا يصح في حماره حيث إنّ الآية صريحة بأنّه سبحانه أماته ثمّ أحياه ونشز عظامه وكساها لحماً ، قال سبحانه : ( وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ) .

3. إحياء قوم من بني إسرائيل

ذكر المفسّرون انّ قوماً من بني إسرائيل فرّوا من الطاعون أو الجهاد لما رأوا انّ الموت كثر فيهم ، فأماتهم اللّه جميعاً وأمات دوابهم ، ثمّ أحياهم لمصالح مذكورة في الآية ، قال سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) . (2)

والرؤية في قوله : ( أَلَمْ تَرَ ) بمعنى العلم ، والمعنى : « ألم تعلم » والآية كما تثبت وقوع إحياء الموتى بعد إمكانه ، تثبت إمكان الرجعة إلى الدنيا على ما تتبنّاه الشيعة الإمامية كما هو الحال في إحياء عزير.

وممّا يثير العجب ما ذكره صاحب المنار ، حيث قال : الآية مسوقة سوق المَثَل ، والمراد بهم قوم هجم عليهم أُولو القوة والقدرة من أعدائهم لاستذلالهم واستخدامهم وبسط السلطة عليهم ، فلم يدافعوا عن استقلالهم ، وخرجوا من ديارهم وهم أُلوف ، لهم كثرة وعزّة ، حذر الموت ، فقال لهم اللّه : موتوا موت الخزي والجهل ، والخزي موت ، والعلم وإباء الضيم حياة ، فهؤلاء ماتوا بالخزي ، وتمكّن الأعداء منهم ، وبقوا أمواتاً ثمّ أحياهم بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحقّ فيهم

ص: 69


1- الكهف : 18.
2- البقرة : 243.

فقاموا بحقوق أنفسهم واستغلوا في ذلك. (1)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الظاهر انّ الآية تبيّن قصة واحدة ، وهي فرار قوم من الموت ، فأماتهم اللّه ، ثمّ أحياهم ، لا قصتين. بمعنى تشبيه من لم يدافعوا عن عزتهم ، وغُلبوا ، وبقوا كذلك حتى نفث في روعهم روح النهضة ، فقاموا للدفاع ، بقوم فرّوا من الموت الحقيقي ، فأماتهم اللّه موتاً حقيقياً ، ثمّ أحياهم ، ولو كانت الآية جارية مجرى المثل لوجب أن يكون هناك مشبه ومشبه به ، مع أنّ الآية لا تحتمل ذلك.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه عندما يريد التمثيل بمضمون آية ، يأتي بلفظ « مثل » ، ويقول : ( كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) (2) و ( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) (3) و ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) . (4)

وثانياً : لو كان المراد من الموت ، موت الخزي ، ومن الحياة ، روح النهضة ، للزم على اللّه سبحانه مدحهم وذكرهم بالخير ، مع أنّه يذمهم في ذيل الآية ، فانّ فيها : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ) . (5)

ثمّ إنّ صاحب المنار استعان في ردّ نظرية الجمهور ، بقوله سبحانه : ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلاَّ المَوْتَةَ الأُولَى ) (6) فلا حياة في هذه الدنيا إلاّ حياة واحدة. (7)

ولكن عزب عنه انّ ما جاء في الآية يدلّ على سنّة اللّه تعالى في عموم الناس ، .

ص: 70


1- لاحظ تفسير المنار : 2 / 458 - 459.
2- البقرة : 17.
3- يونس : 24.
4- الجمعة : 5.
5- النمل : 73.
6- الدخان : 56.
7- تفسير المنار : 2 / 459.

وهذا لا يخالف اقتضاء مصالح معيّنة ، أن يذوق البعض النادر منهم حياتين ، وسيوافيك الكلام في ذلك عند البحث في الحياة البرزخية.

4. إحياء قتيل بني إسرائيل

روى المفسرون انّ رجلاً من بني إسرائيل قتل أحد أبناء عمومته ليرثه وأخفى قتله له ، ورغب اليهود في معرفة قاتله ، فأمرهم اللّه أن يذبحوا بقرة ويضربوا بعض القتيل ببعض البقرة ليحيا ويخبر عن اسم قاتله ، وقاموا بذبح تلك البقرة بعد ان طرحوا عدّة تساؤلات على موسى تعرب عن لجاجهم وعنادهم ، ثمّ ضربوا بعض القتيل بها ، فقام حيّاً وأوداجه تشخب دماً ، وقال : قتلني « فلان بن عمي » ثمّ قُبض ، يقول سبحانه :

( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ * ... وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) . (1)

كان الهدف من وراء ذبح البقرة وضرب القتيل ببعضها ، أُمور :

الأوّل : أن يعرف القاتل بالأُسلوب الذي جاء في الآية.

الثاني : أن يزداد إيمان بني إسرائيل بالبعث والنشر ، وانّه سبحانه قادر على إحياء الموتى كما أحيا المقتول في المقام.

الثالث : أمرهم بذبح البقرة بأيديهم ، لأنّ بني إسرائيل كانوا قد أُشربوا بعبادة العجل ، كما يقول الذكر الحكيم : ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) (2) ، فذبح العجل بأيديهم صار آية على تحقير معبودهم لئلاّ يرجعوا إلى

ص: 71


1- البقرة : 67 - 73.
2- البقرة : 93.

عبادته من جديد.

هذا ما استظهره جمهور المفسرين من الآية الكريمة بيد انّ صاحب المنار اتخذ موقفاً سلبياً حيال الآية تعرب عن انفراده بتفسير آخر ، فقال بعد ما ذكر نظرية جمهور المفسرين : والظاهر ممّا قدمنا انّ ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل ، إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله ، ليعرف الجاني من غيره ، فمن غسل يده وفعل ما رُسِم لذلك في الشريعة ، برئ من الدم ، ومن لم يفعل ، ثبتت عليه. ومعنى إحياء الموتى على هذا ، حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تُسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس ، أي يحييها بمثل هذه الأحكام ، وهذا الإحياء على حد ، قوله تعالى :

( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) (1) وقوله : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) (2). (3)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ هذا التفسير لا ينطبق على قوله : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ) ، فانّ معناه : اضربوا بعض النفس المقتولة ببعض جسم البقرة ، وأين هذا من غسل أيدي المتهمين في دم الرجل المقتول ، فهل غسل الأيدي في دمها عبارة عن ضرب المقتول ببعض البقرة ؟

وثانياً : أنّه سبحانه يقول : ( كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ) . فالقصة تتضمن آية من آيات اللّه ، ومعجزة من المعاجز ، فهل في غسل الأيدي بدم العجل ودرء التهمة عن المتهم إراءة للآيات الإلهية.

وثالثاً : أنّ تفسير الآية بالاستناد إلى الإسرائيليات والمسيحيات ، مسلك

ص: 72


1- المائدة : 32.
2- البقرة : 179.
3- تفسير المنار : 1 / 345 - 351.

ضالّ في تفسير كتاب اللّه العزيز ، وليس اللجوء إليها إلاّ لأجل ما اتخذه صاحب المنار من موقف مسبق حيال المعاجز وخوارق العادات ، وإصراره على إرجاع عالم الغيب إلى الشهادة.

5. المسيح علیه السلام وإحياء الموتى

إنّ الذكر الحكيم يقص لنا إحياء المسيح علیه السلام للموتى ، قال تعالى حاكياً عنه : ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ ) . (1)

وقال تعالى : ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ... وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي ) . (2)

وقد تضافر في التاريخ والإنجيل والحديث قيام المسيح علیه السلام بإحياء الموتى مرّات عديدة بحيث صار المسيح علماً وسمة لإحياء الموتى وعلاج الأمراض المستعصية.

6. إحياء سبعين رجلاً من قوم موسى

ذكر المفسّرون انّ موسى علیه السلام اختار من قومه سبعين رجلاً حينما خرج إلى الميقات ليكلّمه اللّه سبحانه بحضرتهم ، فيكونوا شهداء له عند بني إسرائيل لعدم وثوقهم بأنّ اللّه سبحانه يكلّمه ، فلمّا حضروا الميقات وسمعوا كلامه تعالى سألوا الرؤية فأصابتهم الصاعقة فماتوا ثمّ أحياهم اللّه تعالى.

يقول سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً

ص: 73


1- آل عمران : 49.
2- المائدة : 110.

فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . (1)

ويقول سبحانه : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاَ لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ) . (2)

والمتبادر من الآية هو إحياؤهم بعد الموت ، ولا يفهم أي عربي صميم من قوله : ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ) ، سوى البعث من الموت.

ولكن صاحب المنار وحسب وجهة نظره اتخذ في تفسير الآية موقفاً سلبياً حيال المعاجز وخوارق العادات ، فذهب إلى أنّ المراد من البعث هو كثرة النسل ، أي انّه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها وظن ان سينقرضون ، بارك اللّه في نسلهم ، ليعِد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحقّ الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حلّ بهم العذاب بكفرهم لها ، ولكن هذا التفسير من الوهن بمكان.

أوّلاً : أنّ الظاهر من قول موسى : ( لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ ) انّه سبحانه أجاب دعوته وأحياهم حتى يدفع عنه عادية اعتراض القوم بأنّه ذهب بهم إلى الميعاد فأهلكهم فتركهم هناك ورجع وحيداً ، ولا يدفع ذلك الاعتراض إلاّ بإحيائهم حقيقة.

وثانياً : انّ الرجفة لم تصب إلاّ سبعين رجلاً من قومه ، فليس في إهلاكهم مظنة انقراض نسلهم.

إلى هنا تمّ ما أورده القرآن الكريم من ذكر نماذج لإحياء الموتى يستدل به على جواز إمكان النشر والحشر ، ولكن جاءت في القرآن الكريم نماذج أُخرى نظير إيقاظ الناس بعد سبات عميق ، الذي هو أشبه بالموت. .

ص: 74


1- البقرة : 55 - 56.
2- الأعراف : 155.

7. إيقاظ أصحاب الكهف

روى المفسرون أنّ فتية من قوم آمنوا باللّه تعالى وكانوا يخفون إيمانهم خوفاً من مَلِكِهم ، الذي كان يعبد الأصنام ويدعو إليها ، ويقتل من خالفه ، والفتية كانوا على دين المسيح ، وكان كلّ واحد منهم يكتم إيمانه عن صاحبه. ثمّ اتّفق انّهم اجتمعوا وأظهروا أمرهم لبعضهم ، ولجأوا إلى كهف ، فضرب سبحانه على آذانهم فناموا في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين ، ثمّ بعثهم ، يقول سبحانه :

( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) . (1)

فإنامة اللّه سبحانه هؤلاء الفتية هذه المدة المديدة ، ثمّ إيقاظهم ، لا يقصر عن الإماتة والإحياء ، والقادر عليه قادر على إحياء الموتى.

ص: 75


1- الكهف : 10 - 12.

الفصل السادس : المعاد الجسماني والروحاني

اشارة

من المسائل الشائكة في مبحث المعاد هو تبيين كيفيته ، وانّه هل هو جسماني فحسب أو روحاني كذلك ، أو هو جسماني وروحاني معاً ؟ آراء وأقوال ، وها نحن نستعرض الآراء المهمة المطروحة على هذا الصعيد.

1. المعاد ، جسماني فحسب

المحكي عن المحدّثين هو انّ المعاد جسماني فحسب ، وذلك لأنّه لا واقعية للإنسان سوى هيكله الجسماني ، وانّ الروح سار في بدنه سريان النار في الفحم والماء في الورد ، فإذا بطل البدن بالموت بطلت الروح أيضاً ، فلا يبقى هناك واقعية باسم الروح حتى تُعاد ، وإنّما المعاد ما يبقى من الإنسان بعد موته من عظامه وسائر أجزاء بدنه.

2. المعاد روحاني فحسب

ذهب أكثر المشائين من الفلاسفة إلى القول بأنّ المعاد روحاني فقط ، لانقطاع الصلة بين الروح والبدن بالموت فيستحيل حينئذ أن تتعلق الروح بالمادة من جديد.

ص: 76

3. المعاد جسماني وروحاني معاً

اشارة

ذهب المحقّقون من المتكلّمين والحكماء كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والمحقّق الطوسي والعلاّمة الحلّي من الإمامية ، والغزالي والكعبي والحليمي والراغب الاصفهاني من السنّة ، إلى أنّ المعاد جسماني وروحاني ، لأنّ النفس وإنْ كانت مجرّدة إلاّ أنّ تجرّدها ليس تامّاً حتى يستحيل تعلّقها بالمادة من جديد.

هذه هي الآراء المطروحة ، إنّما الكلام في تبيين الضوابط والمعايير التي على ضوئها يوصف المعاد بالجسمانية والروحانية ، وهذا هو المهم في الباب.

لأنّ القول بكون المعاد جسمانيّاً فقط ، لا يخلو عن غموض ، فلو أريد من جسمانيته هو بعث البدن المنسلخ عن الروح ، فيعود إلى القول بمعاد الإنسان بصورة جماد فاقد للإدراك والشعور ، ومن الواضح انّ مثل هذا لا يقبل الجزاء ولا الثواب والعقاب ، فينتفي الغرض من المعاد.

وإن أُريد منه البدن المرافق مع الروح ، فلا يكون المعاد عندئذٍ جسمانياً فقط ، ولأجل ذلك عاد كثير من المتشرّعة إلى القول بجسمانية المعاد وروحانيته.

واللازم قبل اتّخاذ موقف صريح في ذلك تعيين معيار على أساسه يطلق الجسمانية أو الروحانية على المعاد. فنقول :

إنّ ثمة ملاكين للوصف بالجسمانية أو الروحانية ، حيث يرجع أحدهما إلى بيان واقع الإنسان وحقيقته ، والآخر إلى بيان نوع الجزاء من كونه جسمانياً أو روحانياً ، وها نحن نستعرض كلا الملاكين.

ص: 77

أ. ما هي واقعية الإنسان

اختلفت الأنظار في واقع الإنسان وحقيقته ، فأهل الحديث يرون أنّ واقع الإنسان هو الهيكل الظاهري بما أنّ له حساً وحركة وإدراكاً ، وانّه ليس له وراء ذلك واقعية أُخرى باسم الروح والنفس ، فهؤلاء حطُّوا من المكانة الرفيعة للإنسان وجعلوه في عداد الحيوانات ، غير أنّ له صفات خاصة في مجال الحس والإدراك.

فهؤلاء يصحّ لهم وصف المعاد جسمانياً لا بمعنى عود الإنسان جماداً ، بل عوده إلى ما كان عليه في الدنيا من الهيكل الإنساني المساوق للحس والحركة.

فهذه الثُّلّة ليس لها وصف المعاد بالروحانية وراء الجسمانية ، بل المعاد عندها جسماني محض. بالمعنى الذي عرفت.

وفي مقابلهم أهل الفكر والتدبّر من المحقّقين الذين ذهبوا إلى أنّ للإنسان وراء ذلك الهيكل الظاهري المساوق للحس والحركة ، واقعية أُخرى أطلق عليها « النفس المجرّدة » ، وهي مجردة لها ارتباط وثيق بالمادة أي البدن من خلال تدبيره وإدارة شؤونه.

وعند ذاك فلو كان المحشور هو الروح المتعلقة بالبدن فقط ، يكون المعاد روحانياً محضاً ، ولو قلنا بعود الروح والجسم معاً فيصحّ وصف المعاد بالجسمانية والروحانية.

أمّا كونه جسمانياً فلعود الهيكل الإنساني - المرافق للحس والحركة - إلى المحشر.

وأمّا كونه روحانياً ، فلعود الروح إلى البدن من جديد.

فتلخّص ممّا سبق أنّ من لم يذعن بوجود النفس المجردة يكون المعاد عنده جسمانياً محضاً ، وأمّا المذعن بها فالمعاد عنده يمكن أن يكون روحانياً محضاً ، أو روحانياً وجسمانياً.

إلى هنا تمّ الملاك الأوّل.

ص: 78

ب. أصناف الثواب والعقاب

وثمة ملاك آخر لوصف المعاد بالجسمانية أو الروحانية ، وهو اختلاف الثواب والعقاب فانّ هناك صنفاً من الثواب والعقاب لا ينالها الإنسان إلاّ ببدنه وهيكله المرافق للحس والحركة ، كالأكل والشرب من نعيم الجنة والالتذاذ برؤية مناظر الجنة الخلاّبة ، فعندئذٍ يكون معاد الإنسان معاداً جسمانياً.

كما أنّ هناك صنفاً آخر لا ينالها الإنسان إلاّ بعقله وروحه ، فلو تجرّد الروح عن البدن لما كان للبدن ذلك كنيل رضوان اللّه والابتعاد عن رحمته.

وعلى ذلك الاصطلاح درج الشيخ الرئيس في الشفاء (1) وصدر المتألّهين في الأسفار ، والحكيم السبزواري في شرح المنظومة.

قال صدر المتألّهين : إنّ للنفس الإنسانية نشاءات ثلاثة إدراكية.

النشأة الأُولى : هي الصورة الحسية الطبيعية ، ومظهرها الحواس الخمس الظاهرة ، ويقال لها الدنيا لدنوها وقربها ولتقدمها على الأخيرتين.

وعالم الشهادة لكونها مشهودة بالحواس ، وشرورها وخيراتها معلومة لكلّ أحد لا يحتاج إلى البيان ، وفي هذه النشأة لا يخلو موجود عن حركته واستحالته ، ووجود صورتها لا تنفك عن وجود مادتها.

والنشأة الثانية : هي الأشباه والصور الغائبة عن هذه الحواس ، ومظهرها الحواس الباطنة ، ويقال لها عالم الغيب والآخرة لمقايستها إلى الأُولى.

والنشأة الثالثة : هي العقلية وهي دار المقربين ودار العقل والمعقول ، ومظهرها القوة العاقلة من الإنسان إذا صارت عقلاً بالفعل ، وهي لا تكون إلاّخيراً محضاً ونوراً صرفاً.

ص: 79


1- الإلهيات : 460 المقالة التاسعة ، الفصل الثامن ، ط 1418 ه.

فالنشأة الأُولى دار القوة والاستعداد والمزرعة لبذور الأرواح ، ونبات النيات والاعتقادات ، والأُخريتان كلّ منهما دار التمام والفعلية وحصول الثمرات وحصاد المزروعات. (1)

ويقول الحكيم السبزواري :

انّ الذي بالعقل بالفعل انتقى *** فهو لعالم العقول مرتقى

في المعاد الروحاني وهو الحشر إلى اللّه وصفاته وأفعاله الإبداعية ، « انّ الذي » من العقل بالقوة « بالعقل بالفعل انتقى » والانتقاء بمعنى الاختيار ، « فهو لعالم العقول » اللام بمعنى إلى « مرتقى » بعد المفارقة عن البدن بالموت ، والمراد من الارتقاء أعمّ ممّا هو بعد أزمنة المكث قليله أو كثيره في عالم المثال متنعماً بالصور البهية المستنيرة وممّا هو بغير مكث فانّ الذي صار عقلاً بالفعل أعمّ من الكامل في الحكمتين العلمية والعملية والكامل في العلمية دون العملية فانّ النفس لا تخلو عن أقسام خمسة : إمّا أن تكون كاملة في الحكمتين العلمية والعملية ، أو متوسطة فيهما ، أو كاملة في العلمية دون العملية ، أو في العملية دون العلمية ، أو ناقصة فيهما. (2) .

ص: 80


1- الأسفار : 9 / 21 - 22.
2- شرح المنظومة : 329 - 330.

الفصل السابع : القرآن والمعاد الجسماني والروحاني

اشارة

لقد تعرفنا على الملاكين اللّذين يناط بهما وصف المعاد بالجسمانية والروحانية ، وإليك دراسة الآيات القرآنية حتى نستنتج منها ما هو موقف القرآن من جسمانية المعاد وروحانيته حيال كلا الملاكين.

المعاد الجسماني بالملاك الأوّل

قد عرفت أنّ الملاك الأوّل لكون المعاد جسمانياً هو حشر الأبدان لتعلّق النفوس بها.

فلو كان هذا هو المعيار ، فقد تضافرت الآيات عليه وهي على طوائف.

الطائفة الأُولى : الآيات التي دلّت على إحياء الموتى في هذه النشأة من باب الإعجاز والكرامة ، وفي جميع تلك الآيات كان الحشر بعود البدن الدنيوي لا البرزخي ، بل العنصري.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر ترى أنّ القرآن الكريم يصف الدار الآخرة بأنّها الحياة الواقعية ، يقول سبحانه : ( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (1) فلابدّ من التوفيق بين هذين الأمرين.

ص: 81


1- العنكبوت : 64.

وبعبارة أُخرى : يبدو لأوّل وهلة أنّ ثمة تهافتاً وتناقضاً ، فمن جانب يكون المحشور في الآخرة هو البدن الدنيوي ، والحياة الدنيوية حياة غير كاملة ، ومن جانب آخر تكون الحياة الأُخروية هي الحيوان ، فكيف يمكن الجمع بين كون المحشور هو البدن الدنيوي العنصري وبين كون الحياة الأُخروية كاملة ، فلا محيص من القول إنّ البدن المحشور مع أنّه عين البدن الدنيوي لكن يتمتع بكمال خاص.

ونحن مع الاعتراف بأنّ المحشور هو البدن الدنيوي ، لا البدن البرزخي ، ولا الصور المجردة عن المادة ، إلاّ أنّنا نعتقد بكمال هذا البدن.

وربما تتوهم وحدة الحياتين لأنّ نقص الحياة الأُولى لتوقيتها بأمد محدود ، وتمامية الحياة الأُخرى لدوامها.

يلاحظ عليه بأنّه لا يضفي على الحياة الأُخروية الكمال إذا كانتا متساويتين في الكمال ; مع انّا نرى أنّ القرآن يصف الحياة الدنيوية بالمجازية ، والحياة الأُخروية بالحقيقية ، وهذا لا يتماشى إلاّ إذا كانت الحياة الدنيوية حياة كاملة عالية.

وبعبارة أوضح لو كانت الحياة في النشأتين حقيقة واحدة وكان الاختلاف مختصاً بالتوقيت والدوام ، لما كان هناك أيّ حاجة إلى زوال السماوات والأرض وإيجاد نظام آخر ، ولأجل ذلك نأخذ بكلا الأمرين :

أ. أنّ المحشور هو البدن الدنيوي العنصري لا البرزخي.

ب. أنّ المحشور يحظى بدرجة عالية من الحياة.

نعم الوقوف على حقيقة الحياة الأُخروية وكمالها أمر مستور علينا.

الطائفة الثانية : الآيات التي تبيّن بدء الخلقة ، وانّ الإنسان خلق من تراب ويعاد إليها ، ثمّ يخرج منها :

ص: 82

يقول سبحانه : ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) . (1)

ويقول سبحانه : ( ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ) . (2)

الطائفة الثالثة : الآيات التي تشرح كيفية الحشر وانّ الناس يبعثون من القبور :

قال سبحانه : ( فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) . (3)

وقال سبحانه : ( يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ) . (4)

الطائفة الرابعة : الآيات التي تدل على أنّ الأعضاء والجوارح تشهد على الإنسان :

يقول سبحانه : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) . (5)

وقال سبحانه : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) . (6)

الطائفة الخامسة : الآيات التي تدل على طروء التبدل والتغير على البدن الأُخروي الملازم لكون المحشور بدناً مادياً عنصرياً لا صورياً مجرداً عن المادة.

قال سبحانه : ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) . (7)

ويقول أيضاً : ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) . (8) .

ص: 83


1- طه : 55.
2- نوح : 18.
3- يس : 51.
4- القمر : 7.
5- النور : 24.
6- يس : 65.
7- النساء : 56.
8- محمد : 15.

الطائفة السادسة : الآيات التي تبيّن شبهة المنكرين للمعاد من امتناع إحياء العظام البالية ، وهي تدل على أنّ المدّعى كان هو إحياء البدن الدنيوي حسب ما كان.

قال سبحانه : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) . (1)

وقال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) . (2)

إنّ هذه الطوائف من الآيات تعرب عن موقف القرآن حيال المعاد الجسماني بالملاك الأوّل وانّ المعاد هو البدن الدنيوي حقيقة.

المعاد الروحاني بالملاك الأوّل

قد تعرفت على المعاد الجسماني بالملاك الأوّل ، وإليك الكلام في المعاد الروحاني بنفس ذلك الملاك وهو حشر الإنسان مع روحه ونفسه ، وثمة كلام وهو انّه إن أُريد من المعاد الروحاني هو حشر البدن الدنيوي مع روحه ونفسه فليس ذلك معاداً روحانياً في الاصطلاح بل هو معاد جسماني ، لأنّ من يصف المعاد بالجسماني لا يريد منه البدن المماثل للجماد بل البدن الذي نفخ فيه روحه وصار ذا حس وحركة وعقل وإدراك.

وإن أُريد منه حشر النفوس والأرواح مجردة عن البدن فيصحّ وصفه بالروحاني لكنّه يخالف صريح القرآن لما عرفت من تأكيده على حشر الأبدان الدنيوية بنحو يكون مناسباً للحشر الأُخروي.

ص: 84


1- يس : 78.
2- سبأ : 7.

المعاد الجسماني بالملاك الثاني

اشارة

وثمة ملاك ثان في وصف المعاد بالجسمانية أو الروحانية وهو الثواب والعقاب الذي يواجههما الإنسان.

فقسم لا يدرك إلاّ بالحواس الظاهرية كأكثر ما وعد في سورتي الواقعة والرحمن.

وهناك ثواب وعقاب يدركهما الإنسان بعقله لا بحواسه ولا بقواه الجسمانية.

وبذلك يتضح انّ جزاء الإنسان بما يدركه بالحواس الظاهرية تعبير عن كون المعاد جسمانياً كما أنّ جزاءه بما يدركه العقل والنفس في مقام التجرد تعبير عن كون المعاد روحانياً ، وبما انّ الآيات الواردة في أكثر السور الّتي ترجع إلى الجزاء بالأُمور الحسية ، معلومة لدى القرّاء الأعزاء ، فنعطف عنان القلم إلى المثوبات والعقوبات التي تدرك بالعقل والنفس.

1. رضوان اللّه

إنّه سبحانه بعد ما يذكر المثوبات المدركة بالحواس يعقبها بذكر جزاء عظيم لا يدرك إلاّ بالعقل ، قال سبحانه : ( وَعَدَ اللّهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) . (1)

تجد انّه سبحانه بعد ما يذكر الجنات والأنهار والمساكن الطيبة التي هي ملاكات لجسمانية المعاد يذكر رضوان اللّه تبارك وتعالى الذي هو جزاء روحاني

ص: 85


1- التوبة : 72.

عقلاني لا صلة له بالأدوات الحسية.

قال الإمام السجاد علیه السلام في تفسير الآية :

« إذا صار أهل الجنّة في الجنة ودخل وليّ اللّه إلى جنانه ومساكنه واتكأ كلّ مؤمن منهم على أريكته حفّته خدّامه. وتهدّلت عليه الثمار ، وتفجّرت حوله العيون ، وجرت من تحته الأنهار وبسطت له الزرابيّ ، وصفّفت له النمارق ، وأتته الخدّام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك ، قال : ويخرج عليهم الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء اللّه.

ثمّ إنّ الجبّار يشرف عليهم فيقول لهم : أوليائي وأهل طاعتي وسكّان جنتي في جواري ألا هل أُنبّئكم بخير ممّا أنتم فيه ؟ فيقولون : ربّنا وأيّ شيء خير ممّا نحن فيه ؟! نحن فيما اشتهت أنفسنا ، ولذّت أعيننا من النّعم في جوار الكريم ، قال : فيعود عليهم بالقول ، فيقولون : ربّنا نعم فأتنا بخير ممّا نحن فيه ، فيقول لهم تبارك وتعالى : رضاي عنكم ومحبّتي لكم خير وأعظم ممّا أنتم فيه ، قال : فيقولون : نعم يا ربّنا رضاك عنّا ومحبّتك لنا خير لنا وأطيب لأنفسنا ». ثمّ قرأ عليّ بن الحسين علیهماالسلام هذه الآية : ( وَعَدَ اللّهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) . (1)

2. البعد عن رحمته

إذا كان نيل رضوانه سبحانه سبباً للّذة والثواب ، يكون البعد عن رحمته سبباً للعذاب ، يقول سبحانه : ( وَعَدَ اللّهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) . (2) .

ص: 86


1- البحار : 8 / 140 - 141.
2- التوبة : 68.

إنّ هذه الآية ندُّ الآية السابقة ، غير انّ الأُولى تعد المؤمنين والمؤمنات بالنعم الحسية ثمّ الروحية كما عرفت ، وهذه الآية تعد المنافقين والمنافقات بالعذاب الحسي أعني قوله : ( نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ ) والعذاب الروحي الذي يشير إليه بقوله : ( وَلَعَنَهُمُ اللّهُ ) واللعن عبارة عن البعد عن رحمة اللّه تبارك وتعالى. ويعقبه قوله : ( وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) فيمكن أن يكون مشيراً إلى خلودهم في النار أو مشيراً إلى بعدهم الدائم عن رحمة اللّه ، والمقايسة بين الآيتين وتطبيق كلّ على الأُخرى توقف الإنسان على اللّف والنشر اللافت.

3. الحزن والحسرة

إذا كان البعد عن رحمته سبحانه عذاباً روحياً ، فالحزن والحسرة على ما مضى من العمر الذي أتلفه الإنسان مع ماله من القابليات يُعد عذاباً روحياً ، وقد أشار إليه سبحانه في بعض الآيات بلفظ : ( يَوْمَ الحَسْرَةِ ) و ( حَسَرَاتٍ ) ، قال سبحانه : ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) . (1)

أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إذا دخل أهل الجنّة الجنة وأهل النار النار ، قيل : يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون ، وقيل : يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون فيجاء بالموت كأنّه كبش أملح ، فيقال لهم تعرفون الموت ، فيقولون : هذا وهذا وكلّ قد عرفه.

قال : فيقدم فيذبح ، ثمّ يقال : يا أهل الجنّة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، قال : وذلك قوله : ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ ) الآية.

ورواه أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه علیهماالسلام ثمّ جاء في آخره فيفرح أهل

ص: 87


1- مريم : 39.

الجنّة فرحاً لو كان أحد يومئذٍ ميتاً لماتوا فرحاً ، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً لماتوا. (1)

وقال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) . (2)

وقال الإمام أبو جعفر الباقر علیه السلام في تفسير قوله : ( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ) بقوله : « هو الرجل يكتسب المال ولا يعمل فيه خيراً فيرثه من يعمل فيه عملاً صالحاً فيرى الأوّل ما كسبه حسرة في ميزان غيره ». (3) 4. لقاء المحبوب

من المعارف القرآنية هي مسألة لقاء اللّه ولقاء الرب الذي جاء في غير واحد من السور بتعابير مختلفة :

فتارة يعبر عنه ، ( بِلِقَاءِ اللّهِ ) ، قال سبحانه : ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللّهِ ) . (4)

وأُخرى ب : ( لِّقَاءِ رَبِّهِمْ ) ، يقول سبحانه : ( أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ ) . (5)

وثالثة : ( بِلقاءِ رَبِّكُمْ ) ، قال سبحانه : ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ... يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) . (6)

ص: 88


1- مجمع البيان : 3 / 515.
2- البقرة : 167.
3- مجمع البيان : 1 / 251.
4- الأنعام : 31.
5- فصلت : 54.
6- الرعد : 2.

ورابعة ب : ( لِقَاءَنَا ) قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ ) . (1)

وخامسة : ( مُّلاقُو رَبِّهِمْ ) قال سبحانه : ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُو رَبِّهِمْ ) . (2)

وهذه الآيات التي وردت في الذكر الحكيم يربو عددها على 18 آية ، وقد اختلف المفسرون في تفسير لقاء اللّه.

فقد فسر بلقاء يوم القيامة تارة بشهادة قوله سبحانه : ( فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ) . (3)

وأُخرى بلقاء الآخرة ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) . (4)

وأُخرى : بنيل الثواب والعقاب ، قال سبحانه : ( أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (5) ، غير أنّ العرفاء الشامخين أخذوا بحرفية تلك الكلمة وقالوا بلقاء الإنسان ربّه لقاءً قلبياً شهودياً لا لقاءً حسياً بل لقاء يدرك ولا يوصف ولا يمكن التعبير عنه باللفظ والكلمة ، وقد تبنى ذلك المعنى العارف الحكيم الشيخ جواد الملكي التبريزي ( المتوفّى 1343 ه ) فقال في كتابه « لقاء اللّه » ما هذا مثاله :

ثمّ إنّ المفسّرين أمام تلك الآيات على أحد رأيين :

الرأي الأوّل : الأخذ بما دلّ على تنزيه الربّ من كلّ جسم وجسمانية ،

ص: 89


1- يونس : 7.
2- البقرة : 46.
3- السجدة : 14.
4- الأعراف : 147.
5- القصص : 61.

وبالتالي تأويل ما دلّ من الآيات والروايات على اللقاء بوجه ، وهو انّ المراد هو الموت ولقاء الثواب والعقاب.

الرأي الثاني : حمل ما دلّ على التنزيه بالمعرفة الحسية أو المعرفة بالكنه ، وحمل ما دلّ على اللقاء أو التشبيه على المعرفة الإجمالية ، ومعرفة أسمائه وصفاته التي هي مجلى ذاته سبحانه.

ولا يخفى انّ كلا التفسيرين تفسير مجازي فانّ حمل اللقاء بلقاء الثواب والعقاب مجاز لا دليل عليه ، كما أنّ تفسيره بالمعرفة الإجمالية كمعرفة أسمائه وصفاته مجاز مثله ، فأين معرفة أسمائه كالعالم والقادر على وجه يليق بالحكيم من لقائه سبحانه.

وهناك مسلك ثالث أدق من المسلكين تبنّاه بعض العارفين وهو انّ للّقاء مراتب بين الإمكان والاستحالة ، فيجوز للممكن في سيره وسلوكه لقاء واقعي ، وإن كان بالنسبة إلى الدرجات المستحيلة لقاءً غير واقعي.

ثمّ أيّد ذلك بما ورد في القرآن والأدعية ، فقد ورد فيهما كلمات تعرب عن تحقّق اللقاء حقيقة ، نظير قول الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام : « ولا يحرمني من النظر إلى وجهك » وقوله : « ولكن تراه القلوب بحقائق الإيمان ». وقول الإمام الحسين علیه السلام في المناجاة الشعبانية : « وألحقني بنور عزّك الأبهج فأكون لك عارفاً ».

وقوله علیه السلام : « وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك » ، وفي الدعاء الذي علمه الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لكميل :

« فهبني صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك ».

إلى غير ذلك من الألفاظ الدالة على اللقاء الحقيقي على وجه يلازم التنزيه

ص: 90

ويفارق التشبيه ، ومع ذلك يكون هناك لقاءٌ حسب ما يمكن تحقّقه للموجود الإمكاني. (1)

ومن أراد الوقوف على التفصيل فعليه الرجوع إلى كتابه.

5. عذاب فراق المحبوب

كما أنّ قرب المحبوب يلازم السرور والفرح ، فهكذا فراقه يثير ألماً روحيّاً ، وقد أشار إليه الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في دعائه الذي علّمه لكميل بن زياد النخعي التابعي حيث يقول علیه السلام مخاطباً اللّه سبحانه : « فهبني صبرت على عذابك ، فكيف أصبر على فراقك ».

ص: 91


1- رسالة لقاء اللّه ، المقدمة.

الفصل الثامن : المعاد الجسماني وآراء الحكماء والمتكلّمين

اشارة

قد تعرّفت على تضافر الآيات على أنّ الحشر يتعلّق ببدن جسماني مرافق للروح والنفس ، وأنّ ما خلق أوّلاً هو المعاد في الآخرة ، غير أنّه اختلفت كلماتهم في واقع هذا البدن الجسماني الذي يتعلق به الروح ، فها نحن نذكر بعض الآراء.

الأوّل : المعاد الجسماني ورأي المعلم الثاني الفارابي ( المتوفّى 339 ه )

وحاصل كلامه : أنّ الناس على صنفين ، فصنف بلغ من الكمال درجة استغنى بها عن البدن ، ولا همّ لهم سوى الرغبة في إدراك حقائق العالم العلوي ، وصنف يسمّيهم الفارابي « بالبدنيين » على عكس الصنف الأوّل ، لا همّ لهم سوى إدراك البدن وما يترتبط بالعالم السفلي.

ويفسره صدر المتألّهين بقوله : إنّ هؤلاء إذا فارقوا الأبدان وهم بدنيُّون وليس لهم تعلّق بما هو أعلى من الأبدان ، فيشغلَهم التزامَ النظر إليها والتعلّق بها عن الأشياء البدنية ، وإنّما لأنفسهم إنها زينة لأبدانهم فقط ولا يعرف غير الأبدان والبدنيات ، أمكن أن يعلقهم نوع تشوقهم إلى التعلّق ببعض الأبدان التي من شأنها أن تتعلق بها الأنفس لأنّها طالبة بالطبع - إلى أن قال : - ويجوز أنْ يكون هذا

ص: 92

الجرم متولداً من الهواء والأدخنة ويكون مقارناً لمزاج الجوهر المسمّى روحاً الذي لا يشك الطبيعيون أنّ تعلّق النفس به لا بالبدن. وانّه لو جاز أن لا يتحلل ذلك الروح مفارقاً للبدن والاخلاط ويقوم ، لكانت النفس تلازمه الملازمة النفسانية. (1)

ثمّ إنّ الشيخ الرئيس استحسنه وقال في حقّه : ويشبه أيضاً أن يكون ما قاله بعض العلماء حقّاً ، وهو : انّ هذه الأنفس إن كانت زكية وفارقت البدن وقد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة التي تكون لأمثالهم على مثل ما يمكن أن يخاطب به العامة وتصور في أنفسهم عن ذلك ، فانّهم إذا فارقوا الأبدان ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي فوقهم ، لا كمال فيسعدوا تلك السعادة ، ولا شوق كمال فيشقوا تلك الشقاوة ، بل جميع هيئاتهم النفسانية متوجهة نحو الأسفل منجذبة إلى الأجسام ، ولا منع من المواد السماوية عن أن تكون موضوعة لفعل نفس فيها. (2)

إنّ من عجيب القول تفسير البدن بالبدن الناشئ من الهواء والأدخنة ، مع أنّه يشترط أن يكون بين النفس والبدن نوع انسجام وإمكان تعلّق ، فكيف يجوّز المعلم الثاني تعلّق النفس بهذا النوع من البدن ؟

وقد نقده صدر المتألّهين بقوله : إنّ القول بتجويز أن يكون موضوع تصور النفس وتخيلها بعد التجرّد عن هذا البدن متولداً من الهواء والدخان ، كيف يصحّ من رجل ذي بضاعة من الفلسفة الطبيعية ، فكيف من الفلسفة الإلهية ، أليس مثل هذا الجسم الدخاني المتولّد من بعض المواد العنصرية ، يتفرق ويتحلل بأدنى سبب إذا لم يكن له طبيعة حافظة إياه عن التبدد وعن التحلل شيئاً فشيئاً بإيراد

ص: 93


1- الأسفار : 9 / 148 - 149.
2- الإلهيات من الشفاء : 472 - 473 ، المقالة التاسعة ، الفصل الثامن ، منشورات مكتب الاعلام الإسلامي.

البدل كما في الروح الطبي حتى يبقى تهيئه لتصرف النفس فيكون هو في ذاته نوعاً نباتاً بل حيواناً لكونه موضوع الإدراك التخيلي فإذاً أليس هذا عين التناسخ ؟! وأليس صار هذا الجرم الدخاني حيواناً غير إنسان تعلّقت به نفس الإنسانية فصار هذا الإنسان منسلخاً عن إنسانيته إلى حيوان آخر ؟! (1)

وأظن - وظن الألمعي صواب - انّ الذي دعا المعلم الثاني والشيخ الرئيس إلى القول بتعلّق الروح بالبدن المتولّد من الهواء والدخان ، أمران :

الأوّل : تصوّر انّ تعلّق النفس بالبدن الدنيوي العنصري تناسخ وهو باطل.

الثاني : انّ الصور الحسية التي بها تلتذ النفس أو تتألم أُمور حسية ، والنفس في إدراك هذا النوع من الأُمور رهن أدوات مادية أعني البدن ، فلا مناص من تصوير بدن يكون أداة لتصور النفس تلك الصور الحسية الملذة أو المؤلمة ، وحيث إنّ تعلّق النفس بالبدن الدنيوي تناسخ ممّا حدا إلى القول بخلق هذا البدن من الدخان والهواء.

الثاني : المعاد الجسماني ورأي صدر المتألّهين ( 979 - 1050 ه )

اشارة

ذهب صدر المتألّهين إلى المعاد الجسماني ، وانّ البدن المحشور في الآخرة هو البدن الدنيوي ، ويصرُّ على هذا القول في أوائل البحث على نحو يذعن الإنسان بأنّه بصدد إثبات ما عليه المتشرعة من المعاد الدنيوي العنصري ، هذا بالنظر البدوي ، وأمّا حينما ينتقل إلى أواخر البحث فيذهب إلى تعلّق النفس ببدن مثالي برزخي ، مطابق لما عليه الإشراقيون من الفلاسفة ، بيد انّهم عجزوا عن إثبات عينية البدن المثالي للبدن الدنيوي ، ولكن صدر المتألّهين قام بهذا العمل الجبار ورفض التعددية بين البدنين وأرجع الاختلاف بينهما إلى الاختلاف في الكمال والنقص.

ص: 94


1- الأسفار : 9 / 149 - 150.

توضيح النظريتين : انّ الإشراقيين قالوا بوجود بدن مثالي للإنسان في عالم المثال ، كما أنّ له بدناً طبيعياً مادياً في هذه النشأة ، والنفس بعد مفارقتها البدن الدنيوي تتعلّق ببدن مثالي مستقل نشأ من ذي قبل.

ثمّ إنّ الدافع من وراء طرح هذه النظرية تصوّر أنّ تعلّق النفس بالبدن الدنيوي يعد تناسخاً وهو أمر باطل لا محالة ، مضافاً إلى أنّ النفس إنّما تلتذ أو تتألم بالصور الحسية ، والنفس في إدراكها للصور الحسية بحاجة إلى بدن ، فمسّت الحاجة إلى تصوير بدن للنفس حتى يتحقق به إدراك الصور الحسية جميلها وقبيحها ، لذيذها ومؤلمها.

إلاّ أنّ هذه النظرية لا تصمد أمام النقاش.

أمّا أوّلاً : إذا كان البدن المثالي مغايراً للبدن الدنيوي ومخلوقاً من ذي قبل ، فكيف ينطبق على هذا النوع من الحشر ، قوله سبحانه : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) ؟ (1)

وثانياً : أنّ البدن المثالي المخلوق من ذي قبل له استعداد لتعلّق النفس به ، حينها يتهيأ لقبول الفيض الإلهي ، من قبل اللّه سبحانه ، فتتعلّق النفس بالبدن في ظرفها ، فلو تعلّقت به نفس أُخرى بعد الموت يلزم اجتماع نفسين في بدن واحد ، وهو عين التناسخ.

ولما أثارت هذه النظرية إشكالاً واضحاً عدل عنها صدر المتألّهين وذهب إلى الوحدة بين البدنين المادي والمثالي ، وأنّ التفاوت بينهما بالكمال والنقص وانّ البدن المثالي هو عين البدن المادي لكن بنحو أكمل ، وبذلك استطاع التخلّص من الإشكال الأوّل من لزوم كون المعاد في الآخرة هو البدن الدنيوي.

كما أنّه تخلّص من الإشكال الثاني بأنّ البدن المثالي لم يخلق من ذي قبل بل

ص: 95


1- يس : 79.

خلق مع البدن الدنيوي ويتكامل في ظل تكامله.

وقد استدل على وجود ذلك البدن بأُمور منها :

انّ النفس تفعل وتنفعل بهذا البدن المثالي في عالم النوم ، واستقرب وجود ذلك البدن المثالي بوجهين : ذكرهما تلميذه عبد الرزاق اللاهيجي في كتابه :

1. انّ الإنسان في هذه النشأة يتصوّر جميع أجزاء بدنه وأعضائه ظاهرة وباطنة ، والمتصوّر بالذات غير هذا البدن الدنيوي وليس إلاّ البدن المثالي.

2. انّ الإنسان يفعل ويتفاعل في النوم ببدن غير مادي ، فهو يتكلّم ويذهب ويقعد ويضرب ، كلّ ذلك ببدن غير مادي ، وليس هو إلاّ البدن المثالي.

وعلى ذلك فالبدن المثالي ليس مخلوقاً من ذي قبل ، وإنّما يخلق بالتكامل الذي يناله الإنسان. (1)

ثمّ إنّ صدر المتألّهين بنى ما اختاره من المعاد على مقدمات كثيرة ، ربت على إحدى عشرة مقدمة غير انّ المهم منها لا يتجاوز عن ثلاث مقدمات ، وإليك نقلها :

الأصل الأوّل : التشكيك في الوجود

إنّ الوجود حقيقة واحدة ولها مراتب ومظاهر ، وليس التفاوت بينها إلاّ بالشدّة والضعف ، والكمال والنقص.

وبتعبير آخر : ليس في لوح الواقع إلاّ شيءٌ واحدٌ وهو الوجود ، فإذاً يرجع التفاوت بين الوجودات إلى الشدّة والضعف والنقص والكمال ، وليست الشدة والضعف إلاّ نفس الوجود ، فلا الوجود الشديد مركب من وجود وشدة ، ولا

ص: 96


1- گوهر مراد : 371.

الوجود الضعيف مركب من وجود وعدم ، بل كلّها وجود لكن بمراتب ودرجات متعددة.

الأصل الثاني : انّ هوية الإنسان بنفسه

إنّ هوية البدن وتشخصه إنّما يكون بنفسه لا بجرمه ، فزيد مثلاً زيد بنفسه لا بجسده ، ولأجل ذلك يستمر وجوده وتشخّصه مادامت النفس باقية فيه ، وإن تبدّلت أجزاؤه وتحولت لوازمه ، من أينه وكَمّه وكيفه ووضعه ومتاه ، كما في طول عمره ; وكذا القياس لو تبدلت صورته الطبيعية بصورة مثالية ، كما في المنام ، وفي عالم القبر والبرزخ إلى يوم البعث ، أو بصورة أُخروية كما في الآخرة ، فانّ الهوية الإنسانية في جميع هذه التحوّلات والتقلّبات واحدة هي هي بعينها ، لأنّها واقعة على سبيل الاتصال الوحداني التدريجي ، ولا عبرة بخصوصيات جوهرية وحدود وجودية واقعة في طريق هذه الحركة الجوهرية ، وإنّما العبرة بما يستمرّ ويبقى وهي النفس لأنّها الصورة التمامية في الإنسان التي هي أصل هويته وذاته ، ومجمع ماهيته وحقيقته. (1)

وعلى هذا فالإنسان في حركته الجوهرية من الجماد إلى النبات ، ومنه إلى الحيوان ، ثمّ الإنسان ، وإن مرّت به تلك المراحل ، لكنّها - في الواقع - علل إعدادية لحصول النفس الإنسانية ، وعليه تكون واقعية نفسها وحقيقتها الكمال الذي وصلت إليه في نهاية الحركة ، فالإنسان هو الإنسان وإن تجرّد عن الجرم والجسم والجسد والبدن ، بشهادة أنّه قد مرّ عليه أبدان وأجساد وهو بعدُ شخص واحد ووحدته محفوظة ، ولذا لو جنى في شبابه ولاقى جزاءه العادل في هرمه لا يكون ظلماً في حقّه.

ص: 97


1- الأسفار : 9 / 190.
الأصل الثالث : العوالم الثلاثة

إنّ أجناس العوالم والنشآت مع كثرتها منحصرة في ثلاثة ، وإن كانت دار الوجود واحدة لارتباط بعضها مع بعض :

أدناها عالم الصور الطبيعية الكائنة الفاسدة.

وأوسطها عالم الصور الإدراكية الحسيّة المجرّدة عن المادة.

وأعلاها ، عالم الصور العقلية والمثل الإلهية.

فاعلم أنّ النفس الإنسانية مختصة من بين الموجودات بأنّ لها هذه الأكوان الثلاثة مع بقائها بشخصها ، فللإنسان كون طبيعي وهو بحسبه إنسان بشري. ثمّ يتدرج في هذا الوجود ويتكامل ويتلطف شيئاً فشيئاً في تجوهره إلى أن يحصل له كون آخر مثالي ، وهو بحسبه إنسان مثالي ، وله أعضاء مثالية وهو الإنسان الثاني.

ثمّ قد ينتقل من هذا الكون أيضاً نتيجة تكامله فيحصل له كون عقلي ، وهو بحسبه إنسان عقلي ، وله أعضاء عقلية وهو الإنسان الثالث.

وهذه المراحل التي يمرّ بها الإنسان مختصة بنوعه. فإنّ الأشياء وإن كانت برُمَّتها سائرة إلى الحضرة الإلهية ، لكن الذي يمرّ على الصراط المستقيم منتهياً إلى غاية الغايات ليس هو إلاّ النوع الإنساني.

فالإنسان بحسب فطرته الأصلية يتحرك نحو الآخرة بالتدريج ويرجع إلى غاية مقصودة ، فيبتدئ بوجوده الدنيوي المادي إلى وجوده الأُخروي الصوري إذ نسبة الدنيا إلى الآخرة نسبة النقص إلى الكمال ، ونسبة الطفل إلى البالغ ، فإذا بلغ الوجود أشده الجوهري يخرج من هذا الوجود الدنيوي إلى وجود أُخروي ويستعد للخروج من هذه الدار إلى دار القرار.

ثمّ إنّه قدس سره استنتج من هذه الأُصول ، وقال : من تدبّر في هذه الأُصول لم

ص: 98

يبق له شكّ وريب في مسألة المعاد وحشر النفوس والأجساد ، ويعلم يقيناً ويحكم بأنّ هذا البدن بعينه سيحشر يوم القيامة بصورة الأجساد ، وينكشف له أنّ المعاد في المعاد مجموع النفس والبدن بعينهما وشخصهما وانّ المبعوث في القيامة هذا البدن بعينه لا بدن آخر مبائن له عنصرياً - كان كما ذهب إليه جمع من الإسلاميين - أو مثالياً - كما ذهب إليه الإشراقيون - فهذا هو الاعتقاد الصحيح المطابق للشريعة والملة الموافق للبرهان والحكمة. (1)

وإيضاحاً لمختاره نقول : إنّ مقتضى الأصل الأوّل انّ الإنسان في حركته الجوهرية ينتقل من كمال إلى كمال ، ومقتضى الأصل الثالث انّ له نشاءات ثلاث :

طبيعية ، ومثالية ، وعقلية ، وبحكم الأصل الثالث انّ فعلية شيء بصورته لا بمادته ، فالإنسان في النشأة المثالية هو الإنسان في النشأة الطبيعية ، لأنّ الصورة محفوظة بكمالها لا بحدودها ، ففعلية البدن هو صورته وهي محفوظة في عالم المثال ، كما أنّ فعلية الإنسان نفسه وهي أيضاً محفوظة ، فإذا حشر الإنسان بالبدن المثالي الذي كانت النفس تلازمه في عالم الطبيعة ، يكون حشره حشر البدن العنصري لكن لا بحدوده.

هذه عصارة ما ذكره صدر المتألّهين في تفسير المعاد الجسماني وهو يختلف عن مسلك الإشراقيين في واقع البدن المثالي ، فانّه على مسلكهم يكون بدناً مخلوقاً من ذي قبل تتعلّق به النفس بعد فراقه عن البدن ، وعلى مسلكه يكون البدن المثالي مخلوقاً مع البدن العنصري وفي داخله وحالّة فيه ويتكامل مع تكامله على نحو لو تركت النفس تعلّقها بالبدن الدنيوي لبقيت متعلّقة بالبدن المثالي ، وتمكث في عالم البرزخ إلى يوم القيامة ثمّ تحشر معه متعلّقة به.

فهنا سؤال وهو انّ حاجة النفس إلى البدن المثالي يدور حول أحد أمرين :

ص: 99


1- الأسفار : 9 / 194 - 198.

الأوّل : انّ تكامل النفس بعد تركها البدن الدنيوي رهن تعلّقها بذلك البدن حتى تتكامل تحت ظل ذلك التعلّق.

الثاني : انّ النفس بحاجة إلى ذلك البدن لأجل نيل الثواب والعقاب ولولاه لما تيسر لها نيلهما.

أما الثاني فهو مخالف لمختاره في القوة الخيالية للنفس ، فانّها قوة جوهرية معلولة للنفس قائمة بها قيام المعلول بالعلة ، وليست حالَّة في البدن ولا في أعضائه ، وعلى هذا تكون الصور المخلوقة بتلك القوة مخلوقة للقوة قائمة بها ، قيام المعلول بالعلة من دون أن تكون حالّة في الأعضاء.

فإذا كانت القوّة والصور القائمة بها ، أُموراً جوهرية قائمة بالنفس فلا حاجة لها بالبدن المثالي.

نعم القوة الخيالية في النشأة الأُولى لا تستطيع خلق الصور إلاّ عن طريق إعمال القوى الحسية الموجودة في الأعضاء ، فلا يُبصر إلاّ بالعين ، ولا يُسمع إلاّ بالسمع ، وحيث إنّ الصور في هذه النشأة تأتي إلى النفس والقوة من خارج ذاتهما فلا محيص من الاستعانة بالبدن العنصري ، وهذا بخلاف الصور الجميلة أو المؤلمة في النشأة الأُخرى فانّ الصور تبرز من داخل النفس والقوة إلى خارجهما حسب الملكات التي يكتسبها الإنسان طيلة عمره ، فالنفس ذي الملكة الحسنة تخلق صوراً جميلة يلتذ بها على خلاف الملكة السيئة ، وعلى ذلك فلا حاجة للنفس ولا للقوّة الخيالية في إيجاد الصور للبدن المثالي.

فتعين الوجه الأوّل ، وهو انّ النفس في تكاملها رهن البدن المثالي فعندئذٍ نطرح هنا أمرين :

الأوّل : انّ كثيراً من الناس يعوزهم الاستعداد اللازم للانتقال إلى عالم العقول ، بل يبقوا في عالم المثال أبد الدهر ، وعندئذٍ يكون استخدام البدن المثالي

ص: 100

أمراً زائداً طفيلياً لا ينفع.

وأمّا الأنبياء والأولياء فلهم استعداد الانتقال إلى عالم العقول فيتركون البدن المثالي لغاية الوصول إلى عالم العقل ، فيكون حشرهم الجسماني أمراً مؤقتاً لا أمراً دائمياً وهو على خلاف القرآن.

الثاني : المختار عند صدر المتألّهين في العوالم الثلاثة انّها عوالم غير منفصلة فمع انّ كلاً في طول الآخر ، لكن عالم العقل باطن عالم المثال ، وعالم المثال باطن عالم الطبيعة.

فالنفس في عالم الطبيعة واجدة للمراتب الثلاثة دفعة واحدة فهي بما انّها مبدأ للحياة الحيوانية مظهر لعالم الطبيعة وبما انّها تدرك الصور الحسية مظهر لعالم المثال ، وبما انّها تدرك المفاهيم الكلية والحقائق المرسلة مظهر عالم العقل ، ولأجل ذلك اشتهر قولهم : « النفس في وحدتها كل القوى » فهي بوجودها الجمعي جامعة لتلك المراتب دفعة واحدة وإن كانت كلّ مرتبة في طول الأُخرى.

فإذا كانت هذه حالة النفس ، فلماذا لا تحافظ على تلك الحالة في عالم الحشر أيضاً ، بأن يكون لها حشر طبيعي ومثالي وعقلاني ، فهي بوجودها الطبيعي تثاب وتعاقب بما يناسب عالم الطبيعة كما أنّها بوجودها المثالي تثاب بالصور وتعاقب بها ، كما أنّها بمرتبتها العقلية تصل إلى ما هو الغاية القصوى ، وحيث إنّه لا تزاحم بين المراتب في وجود النفس فلا مانع من أن يكون حشر واحد للنفس في جميع مراتبها لا بحدودها ؟

وخلاصة القول : إنّ عالم الطبيعة تدبر بالعوالم الثلاثة ، فعالم الطبيعة تحت ظل عالم المثال ، كما أنّ كليهما تحت ظل عالم العقل ، فلا تزاحم بين العوالم الثلاثة خارج النفس ، كذلك لا تزاحم بين تلك العوالم في وجود النفس في الحشر الأُخروي.

ص: 101

وفي الختام نعطف نظر القارئ العزيز إلى أنّ لو كان القول بتعلّق النفس بالبدن المثالي لأجل الجمع بين الشريعة والبرهان ، فهذا الجمع بعيد عن الصواب لا سيما وإنّ أكثر الآيات الواردة في المعاد الجسماني صريحة في المعاد العنصري لا في المعاد المثالي. الثالث : المعاد الجسماني والرأي السائد بين المتكلّمين

الرأي السائد بين المتكلّمين هو انّه سبحانه يخلق من الأجزاء المتفرقة للبدن بدناً ، فيعيد إليه نفسه المجردة الباقية بعد بلاء البدن ، ولا يضر انّه غير البدن الأوّل بحسب الشخص ، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) (1) إشارة إلى هذا.

فإن قيل : على هذا يكون المثاب والمعاقب باللّذات والآلام الجسمانية ، غير من عمل الطاعة وارتكب المعصية.

قلنا : العبرة في ذلك بالإدراك وإنّما هو للروح ولو بواسطة الآلات وهو باق بعينه ، وكذا الأجزاء الأصلية من البدن ، ولهذا يقال للشخص من الحداثة إلى الشيخوخة انّه هو بعينه وإن تبدلّت الصور والهيئات ، بل كثير من الآلات والأعضاء ، ولا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب إنّها عقوبة لغير الجاني.

ويدل عليه من الآيات :

قوله سبحانه : ( قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ) . (2)

ص: 102


1- يس : 81.
2- يس : 78 - 79.

وقوله تعالى : ( فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) . (1)

( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ) . (2)

( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) . (3)

( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ) . (4)

( يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ) . (5)

( أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ) (6). إلى غير ذلك من الآيات.

وبالجملة فإثبات الحشر من ضروريات الدين وإنكاره كفر.

فإن قيل : الآيات المشعرة بالمعاد الجسماني ليست أكثر وأظهر من الآيات المشعرة بالتشبيه والجبر والقدر ونحو ذلك وقد وجب تأويلها قطعاً ، فلنصرف هذه أيضاً إلى بيان المعاد الروحاني ، وأحوال سعادة النفوس وشقاوتها بعد مفارقة الأبدان على وجه يفهمه العوام ، فانّ الأنبياء مبعوثون إلى كافة الخلائق لإرشادهم إلى سبيل الحقّ ، وتكميل نفوسهم بحسب القوة النظرية والعملية وتبقية النظام المفضي إلى صلاح الكلّ وذلك بالترغيب والترهيب بالوعد والوعيد والبشارة بما يعتقدونه لذة وكمالاً ، والإنذار عمّا يعتقدونه ألماً ونقصاناً ، وأكثرهم عوام تقصر

ص: 103


1- يس : 51.
2- القيامة : 3 - 4.
3- فصلت : 21.
4- النساء : 56.
5- ق : 44.
6- العاديات : 9.

عقولهم عن فهم الكمالات الحقيقية واللذات العقلية وتقتصر على ما ألّفوه من اللذات والآلام الحسية وعرفوه من الكمالات والنقصانات البدنية ، فوجب أن تخاطبهم الأنبياء بما هو مثال للمعاد الحقيقي ترغيباً وترهيباً للعوام وتتميماً لأمر النظام ، وهذا ما قاله أبو نصر الفارابي إنّ الكلام مثل.

قلنا : إنّما يجب التأويل عند تعذر الظاهر ، ولا تعذر هاهنا سيما على القول بكون البدن المعاد مثل الأوّل لا عينه. وما ذكرتم من حمل كلام الأنبياء ونصوص الكتاب على الإشارة إلى مثال معاد النفس والرعاية للمصلحة العامة ، نسبة للأنبياء إلى الكذب فيما يتعلّق بالتبليغ والقصد إلى تضليل أكثر الخلائق والتعصب طول العمر لترويج الباطل وإخفاء الحقّ لأنّهم لا يفهمون إلاّ هذه الظواهر التي لا حقيقة لها عندكم.

نعم لو قيل : إنّ هذه الظواهر مع إرادتها من الكلام وثبوتها في نفس الأمر ، مثل للمعاد الروحاني واللذات والآلام العقلية ، وكذا أكثر ظواهر القرآن على ما يذكره المحقّقون من علماء الإسلام ، لكان حقاً لا ريب فيه ولا اعتداد بمن ينفيه. (1)

إنّ ما ذكره سعد الدين التفتازاني كلام حقّ لا سترة عليه ، وهو الموافق للقرآن الكريم.

ونضيف إلى كلامه أمرين :

الأوّل : انّ القرآن يطرح إمكان المعاد من خلال بيان قصص تتضمن عود الموتى إلى الحياة ، كقصة إبراهيم ، وعزير ، وأُمّة من بني إسرائيل ، وقصة البقرة ، وغيرها ، فلا يمكن أن تفسر تلك البراهين بالمثَل.

ص: 104


1- شرح المقاصد : 2 / 212 - 213 ، ط الآستانة.

الثاني : انّ ثمة فرقاً بين ما دلّ على الجبر ، وبين ما دلّ على المعاد الجسماني ، فما يدل على الأوّل يخالف العقل الصريح ، ولفيف من الآيات ، كما يضاد الغاية من وراء بعث الأنبياء ، فلا محيص عن التأويل.

وأمّا المعاد الجسماني فليس هناك أيّ داع إلى التأويل ، سوى الشبهات التي نطرحها على طاولة البحث ، وسنحللها بفضل من اللّه سبحانه حينها حتى تنجلي الحقيقة ناصعة لا يشوبها لبس ولا غموض. الرابع : المعاد الجسماني ورأي بعض المتكلمين

ذهب لفيف من المتكلّمين إلى أنّ للإنسان أجزاءً أصلية صلبة لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان ولا التغيّر والتبدّل ، وإنّما تطرأ إلى ما يضيف إليها. (1)

وبعبارة أُخرى : المعاد عبارة عن جمع متفرقات أجزاء مادية لأعضاء أصلية باقية عندهم ، وتصويرها مرّة أُخرى بصورة مثل الصورة السابقة ليتعلّق النفس بها مرّة أُخرى.

يقول الإمام الرازي : إنّ قوله تعالى في سورة الواقعة من الآيات إشارة إلى جواب شبهة المنكرين الذين هم من أصحاب الشمال المجادلين ، فانّهم قالوا : ( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ ) (2) وأشير إلى إمكانها هذا بوجوه أربعة :

أوّلها ، قوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ) . (3)

ص: 105


1- كشف المراد : 259 ، المسألة الرابعة في وجوب المعاد الجسماني.
2- الصافات : 16 - 17 والواقعة : 47 - 48.
3- الواقعة : 58 - 59.

وجه الاستدلال بهذا انّ المني إنّما يحصل من فضلة الهضم الرابع ، وهو كالطل المنبث في أطراف الأعضاء ولهذا يشترك كلّ الأعضاء ويجب غسلها بالالتذاذ الواقع لحصول الانحلال عنها كلّها ، ثمّ إنّ اللّه تعالى سلّط قوّة الشهوة على البنية حتّى إنّها تجمع تلك الأجزاء الطلية ، فالحاصل انّ تلك الأجزاء كانت متفرقة جداً أوّلاً في أطراف العالم.

ثمّ إنّ اللّه جمعها في بدن ذلك الحيوان وجمعها اللّه في أوعية المني ثمّ إنّه أخرجها ماءً دافقاً إلى قرار الرّحم ، فإذا كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها وكوَّن منها هذا الشخص فإذا افترقت بالموت مرة أُخرى ، فكيف يمتنع عليه جمعها مرّة أُخرى ؟! (1)

انّ ما ذكره المتكلّمون إنّما هو لإثبات انّ المعاد عنصري لا مثالي ، وهذا حقّ في الجملة ، لكن القول بأنّ لكلّ إنسان أجزاء صلبة لا تتبدل ولا تتغير إلى شيء فهو أمر لم يثبته العلم ولا التجربة ولا البرهان العقلي.

نعم لو تضافرت عليه الأخبار نأخذ به تعبداً. (2) .

ص: 106


1- الأسفار : 9 / 153 - 154.
2- الأسفار : 9 / 153 - 154.

الفصل التاسع : المعاد الجسماني والشبهات المطروحة

اشارة

قد نسب إلى الشيخ الرئيس أنّه لا يمكن إثبات إمكان المعاد الجسماني إلاّ عن طريق الشرع ، وحيث إنّه أخبر عن وقوعه نستكشف إمكانه.

ولكن عبارته في الشفاء تنادي بخلاف ذلك ، فهو لا يدّعي أنّ إمكانه رهن خبر الشارع وإنّما يدّعي انّ وقوعه رهن خبر الشارع.

وبعبارة أُخرى : إمكان المعاد الجسماني أمر مسلم ، وإنّما الكلام في لزوم وقوعه ، والعقل يدل على لزوم المعاد الروحاني ، ولم يدل دليل عقلي على لزوم المعاد الجسماني ، وإليك عبارته :

يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو منقول من الشرع ولا سبيل إلى إثباته إلاّ من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة وهو الذي للبدن عند البعث. (1)

تجد انّه يقول : « لا سبيل إلى إثباته » أي لزوم وقوعه لا إمكانه ، ولولا الشرع لم يكن دليل على لزوم وقوعه.

يقول صدر المتألّهين : يستفسر عن هؤلاء المنكرين للمعاد الجاحدين لأحكام الشريعة بناء على قصور مداركهم عن دركها إنّهم هل يدّعون الامتناع

ص: 107


1- الشفاء : الإلهيات ، الفصل الثاني من المقالة التاسعة.

أو يمنعون الإمكان والجواز ؟ فعلى الأوّل ، يقال لهم : إنّ عليكم البيّنة وإثبات ما ادّعيتم وما لكم فيما قلتم به من هذا عين ولا أثر. وعلى الثاني كلّ ما أُزيل ظاهره عن الإحالة والامتناع قام التنزيل الإلهي والأخبار النبوية الصادرة عن قائل مقدس عن شوب الغلط والكذب مقام البراهين الهندسية في المسائل التعليمية والدعاوي الحسابية. (1)

والمهم تحليل الشبهات المطروحة حول المعاد الجسماني.

الشبهة الأُولى : المعاد إعادة للمعدوم

لقد ذكر سعد الدين التفتازاني بعض الشبهات في مقاصده وشرحه ، أحدها : بأنّ المعاد إعادة للمعدوم وهو أمر محال.

ثمّ نقل عن الشيخ الرئيس ، القول التالي : إنّ كلّ من رجع إلى فطرته السليمة ، ورفض عن نفسه الميل والعصبية ، شهد عقله الصريح بأنّ إعادة المعدوم ممتنع.

وقد أجاب المحقّق التفتازاني عن الإشكال بقوله :

أوّلاً : منع امتناع الإعادة ، وقد تكلّمنا عن أدلّته.

وثانياً : أنّ المراد إعادة الأجزاء إلى ما كانت عليه من التأليف والحياة ونحو ذلك ولا يضرنا كون المعاد مثل المبدأ لا عينه. (2)

أقول : أمّا الجواب الأوّل فليس بشيء ، فانّ إعادة المعدوم بعينه أمر ممتنع بالذات ، لأنّ المقصود من الإعادة هو تعلّق القدرة ثانياً ، بإيجاده في الزمان الثاني ، ومثل ذلك لا يكون إعادة للمعدوم بعينه بل إعادة له بمثله.

ص: 108


1- الأسفار : 9 / 167 - 168.
2- شرح المقاصد : 2 / 213.

فلو كان المراد من إعادة المعدوم هو خرق الحجب والموانع والرجوع إلى الزمن الماضي ورؤية كلّ شيء في محلّه ، فهذا ليس إعادة للمعدوم بل مشاهدة لوجود شيء في ظرفه.

وإن شئت قلت : إنّ الواقع لا ينقلب عمّا هو عليه ، وكلّ شيء إذا حدث فهو محفوظ في ظرفه ، وإن كان غير محفوظ في الظروف التي تعقبه.

فمثلاً الحوادث التي وقعت في عهد نوح منذ دعوته ومكابرة قومه ، واستيلاء الغرق عليهم ، وركوب السفينة وسيرها على الماء ونزولها على الجودي ، أمر غابر لكنه موجود في ظرفه ، لا يمكن قلبه عمّا هو عليه وإن كان غير موجود في الأزمنة التي تعقبه.

فإن أُريد من إعادة المعدوم هو خرق الحجب ورؤية كلّ شيء في ظرفه ، فهو ليس إعادة للمعدوم ولا خلقاً له ، ومن الواضح أنّ المعاد ليس من هذا القبيل ، ولا يراد منه خرق الحجب لرؤية المؤمنين والكافرين في ظروفهم الزمنية.

وإن أُريد تعلّق الخلق وقدرته سبحانه على إيجادهم بعد انعدامهم ، فهذا ليس إعادة للمعدوم بل إيجاداً لمثله ، ضرورة تعدد الفعل والخلق.

وبذلك ظهر أنّ الجواب الثاني الذي أشار إليه التفتازاني هو المهم في الباب.

توضيحه : أنّ المعاد ليس من قبيل إعادة المعدوم ، بل إيجاد للمعدوم ثانياً ، على نحو يطلق على الثاني انّه عين الأوّل عرفاً وإن كان مثله عقلاً ، وذلك لأنّ الإنسان بموته يترك أمرين.

الأوّل : العظام والعروق واللحوم التي تتحول إلى رميم وتتبدل إلى ثرى.

الثاني : الروح والنفس التي يتوفّاها ملك الموت.

ص: 109

وعلى ذلك ليس كلّ ممّا ترك أمراً معدوماً ، بل أمر موجود ، غاية الأمر إنّما فقد الاتصال والتماسك بين الأجزاء التي هي مبدأ للروح الحيوانية ، فلو أعيد الاجتماع والانضمام إلى الأجزاء وتعلّق بها الروح المحفوظة ، يكون المعاد نفس الإنسان السابق.

وممّا يؤكد ذلك ما أثبته العالم الفرنسي لافوازيه عام 1775م فقد أثبت بأنّ المادة لا تعدم ولا تستحدث بل تتحول من شكل إلى آخر ، وانّ التفاعلات الكيمياوية أو الفيزياوية لا تعدم فيها المادة بل المادة باقية بحالها ، غاية الأمر تتحول من شكل إلى شكل آخر.

الشبهة الثانية : شبهة الآكل والمأكول

اشارة

هذه الشبهة من أقدم الشبهات التي طرحت في المعاد الجسماني ، وقد جاء ذكرها في أكثر الكتب الكلامية.

وقد قررت بوجوه ، أوضحها ما ذكره العلاّمة الحلّي في كشف المراد ، حيث قال :

إنّ إنساناً لو أكل آخر أو اغتذى بأجزائه فإن أعيدت أجزاء الغذاء إلى الأوّل عدم الثاني ، وإن أُعيدت إلى الثاني عدم الأوّل.

وأيضاً إمّا أن يعيد اللّه تعالى جميع الأجزاء البدنية الحاصلة من أوّل العمر إلى آخره أو القدر الحاصل له عند موته ، والقسمان باطلان :

أمّا الأوّل : فلأنّ البدن دائماً في التحلّل والاستخلاف ، فلو أُعيد البدن مع جميع الأجزاء منه لزم عظمه في الغاية ، ولأنّه قد يتحلّل منه أجزاء تصير أجساماً غذائية ثمّ يأكلها ذلك الإنسان بعينه حتى تصير أجزاء من عضو آخر غير العضو الذي كانت أجزاء له أوّلاً ، فإذا أُعيدت أجزاء كلّ عضو إلى عضوه لزم جعل ذلك

ص: 110

الجزء جزءاً من العضوين ، وهو محال.

وأما الثاني : فلأنّه قد يطيع العبد حال تركبه من أجزاء بعينها ثمّ تتحلّل تلك الأجزاء ، ويعصي في أجزاء أُخرى ، فإذا أُعيد في تلك الأجزاء بعينها وأثابها على الطاعة لزم إيصال الحقّ إلى غير مستحقه. (1)

وقد لخصها سعد الدين التفتازاني ، وقال : لو أكل إنسان إنساناً وصار غذاء له جزءاً من بدنه فالأجزاء المأكولة إمّا أن تعاد في بدن الآكل ، أو في بدن المأكول ، وأيّاً ما كان لا يكون أحدهما بعينه معاداً بتمامه ، على أنّه لا أولوية لجعلها جزءاً من بدن أحدهما دون الآخر ، ولا سبيل لجعلها جزءاً من كلّ منهما ، وأيضاً إذا كان الآكل كافراً والمأكول مؤمناً يلزم تنعيم الأجزاء العاصية أو تعذيب الأجزاء المطيعة. (2)

إجابة المتكلّمين عن الشبهة

وقد أجاب المتكلّمون عن الشبهة بالأصل الذي اختاروه في تفسير المعاد الجسماني ، وهو :

انّ لكلّ مكلّف أجزاء أصيلة لا يمكن أن تصير جزءاً من غيرها ، بل تكون فواضل من غيره لو اغتذى بها ، فإذا أُعيدت جعلت أجزاءً أصلية لما كانت أصلية له أوّلاً ، وتلك الأجزاء هي التي تعاد ، وهي باقية من أوّل العمر إلى آخره. (3)

واختاره التفتازاني أيضاً حيث قال :

انّا نعني بالحشر إعادة الأجزاء الأصلية الباقية من أوّل العمر إلى آخره ، لا

ص: 111


1- كشف المراد : 260 ، ط مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام .
2- شرح المقاصد : 2 / 213 ، ط الآستانة.
3- كشف المراد : 260.

الحاصلة بالتغذية ، فالمعاد من كلّ من الآكل والمأكول الأجزاء الأصلية الحاصلة في أوّل الفطرة من غير لزوم فساد. (1)

وقد عرفت عدم ثبوت أصل النظرية من أنّ لكلّ إنسان أجزاء صلبة أصلية لا تكون جزءاً للغير ، فيسقط الجواب مادام لم يثبت الأصل.

إجابة صدر المتألّهين عن الشبهة

أجاب الحكماء عن الشبهة بمسألة انّ تشخّص كلّ إنسان إنّما يكون بنفسه لا ببدنه ، وأنّ البدن المعتبر فيه أمر مبهم لا تحصُّل له إلاّ بنفسه ، وليس له من هذه الحيثية تعيّن ولا ذات ثابتة ، ولا يلزم من كون بدن زيد محشوراً أن يكون الجسم الذي منه صار مأكولاً لسبع أو إنسان آخر ، محشوراً ، بل كلّما يتعلّق به نفسه هو بعينه بدنه الذي كان ، فالاعتقاد بحشر الأبدان يوم القيامة هو أن يبعث أبدان من القبور إذا رأى أحد كلّ واحد واحد منها يقول هذا فلان بعينه ، أو هذا بدن فلان ، ولا يلزم من ذلك أن يكون غير مبدَّل الوجود والهوية ، كما لا يلزم أن يكون مشوّه الخلق ، والأقطع والأعمى والهرم محشوراً على ما كان من نقصان الخلقة وتشويه البنية كما ورد في الأحاديث. (2)

وما ذكره من الجواب هو اللائح من قوله سبحانه : ( قَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) . (3)

فانّ الشبهة جاءت في صدر الآية تحت عنوان الضلال في الأرض ، أعني

ص: 112


1- شرح المقاصد : 2 / 213 ، ط الآستانة.
2- الأسفار : 9 / 199 - 200.
3- السجدة : 10 - 11.

قولهم : ( أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ ) وجاء الجواب في قوله : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ ) ، ولا تحسم مادة الإشكال إلاّ بالتفسير التالي ، وهو :

إنّ ضلال أجزاء البدن في الأرض وتبعثرها لا يخل بالمعاد الجسماني ، ولا يكون دليلاً على محو الشخصية ، لأنّ الأصل في الإنسان هو الروح فالشخصية تدور مدار بقاء الروح ، فعندئذٍ لو حشر مع بدن عنصري حينها ستحفظ شخصيته ووحدته سواء أكان البدن الذي عاشت معه النفس في الدنيا أم الآخرة ، لأنّ البدن آلة لإدراك الألم ، والمؤلم حقيقة هي النفس والبدن أداة لإيلامها ، فلا فرق بين كون البدن نفس البدن الدنيوي أو غيرها.

ويتضح ذلك من خلال القول انّ النفس ربما لا تتألم بالآلام الجسمانية إلاّ عن طريق البدن ، فالضرب على البدن لأجل إيلام الروح دون البدن فلا يكون الضرب على غير البدن الذي عاشت معه ظلماً وخارجاً عن الحدّ.

هذا ما يمكن به توجيه كلام الحكماء.

أقول : ولنا تقرير آخر في دفع هذه الشبهة ، وقبل الخوض ننبّه على أنّ الشبهة يمكن أن تقرر بوجهين :

الوجه الأوّل : انّه إذا صار جزء من بدن الإنسان ، عضواً لبدن إنسان آخر ، فحشر كلا الإنسانين ، يستلزم وجود النقص في واحد منهما.

الوجه الثاني : انّ حشرهما بأيّ صورة كانت مخالف للعدل الإلهي ، حيث يمكن أن يكون الإنسان الأوّل مطيعاً والثاني عاصياً ، فيلزم أن يعذب جزء من بدن الإنسان المؤمن في نار جهنم إذا صار عضواً لبدن الكافر.

وهانحن نصب البحث على الإشكال الأوّل ثمّ نرجع إلى الاشكال الثاني ، فنقول :

ص: 113

إنّ تحوّل جزء من بدن إنسان إلى بدن إنسان آخر بالمباشرة نادراً ما يتفق ، وإنّما الشائع هو التحول من خلال تحول البدن الإنساني إلى تراب ومن ثمّ انتقاله إلى نبات وحيوان ثمّ يتغذى بها الإنسان ، وبناء عليه فانّ الصور المفروضة أربع :

أ. أن يحشر كلّ واحد من الآكل والمأكول بنفس الجزء المستهلك.

ب. أن يحشر آكله به دون المأكول.

ج. على العكس.

د. أن يحشر كلّ واحد من الآكل والمأكول دون الجزء المستهلك.

أمّا الصورة الأُولى فهي افتراض محال ، لاستلزامه كون شيء واحد في زمان واحد في محلين. وكلّ من الصورة الثانية والثالثة تستلزم نقصاً في المحشور امّا في الآكل أو في المأكول.

وفي الصورة الرابعة يستلزم النقص في كلا المحشورين.

وربّما يتصور أن لازم الصورتين الثانية والثالثة أن يكون المحشور أحد البدنين فقط ، لافتراض انّ بدن أحدهما صار جزءاً لبدن الآخر فلم يبق للإنسان الأوّل بدن يحشر به.

ولكن هذا التصور من الوهن بمكان ، لأنّه قلّما يتّفق أن يكون بدن الإنسان بتمام أجزائه بدناً لإنسان آخر ، إذ الغالب تحوّل جزء ضئيل من بدن المأكول إلى بدن الآكل ، لا كلّ الأجزاء.

هذه هي صور الشبهة وإليك الجواب عنها :

لا شكّ انّ الصورة الأُولى والرابعة خارجة عن نطاق البحث ، فالأُولى تستلزم المحال ، والرابعة مجرّد افتراض لم يتفوّه بها أحد ، فتنحصر الشبهة في الصورتين الثانية والثالثة ، فعندئذٍ نقول :

ص: 114

إنّ للصورتين الثانية والثالثة فروضاً مختلفة :

1. أثبت العلم الحديث انّ بدن الإنسان في تحوّل وتغيّر مستمر ، فهو في ظل هذا التحوّل ذو أبدان كثيرة ، وقيل انّ خلايا البدن الإنساني تتغير برمتها كلّ ثمان سنين.

2. إذا افترضنا انّ البدن الأخير وماتقدمه من الأبدان صادف المانع وأصبح جزءاً لإنسان آخر ، ولو من خلال تحول البدن إلى تراب ونبات وحيوان ، ولكن ليس عامّة الأجزاء من كلّ بدن مأكولاً لفرد آخر ، وإنّما يتحول جزء من كل بدن ، فعند ذلك يحشر بأي بدن شاء اللّه وإن كان بدناً نحيلاً ، لأنّه يكفي في المعاد انّ البدن الأُخروي نفس البدن الدنيوي ولم يدل دليل على العينية من حيث السمن والضعف.

3. لو افترضنا - وإن كان الفرض من النُدرة بمكان - أن تتحول أغلب الأجزاء من كلّ بدن إلى بدن إنسان آخر بحيث لا يكون الباقي كافياً في تشكيل بدن الآكل ، وعندئذ لا مانع من إكمال البدن بالاستعانة بأجزاء ترابية وهوائية أُخرى ، ولا يعدّ ذلك نقضاً في الحشر ، لما عرفت من أنّ الملاك هو صدق العينية عرفاً لا عقلاً ، ولذلك يعبر سبحانه عن ذلك بقوله : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) (1) بناء على أنّ الضمير في « مثلهم » يرجع إلى الإنسان ، وقال عزّ من قائل : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًا ) . (2)

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « وإذا قبضه ( أي روح المؤمن ) اللّه إليه سيّر تلك

ص: 115


1- يس : 81.
2- الإسراء : 99.

الروح إلى الجنة في صورة كصورته ، فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت عليها في الدنيا ». (1)

وإلى هذا الجواب يشير صدر المتألّهين بقوله : لا عبرة بخصوصية البدن وانّ تشخصه والمعتبر في الشخص المحشور جسمية ما أية جسمية كانت ، وانّ البدن الأُخروي ينشأ من النفس بحسب صفاتها لا أنّ النفس يحدث من المادة بحسب هيئاتها واستعداداتها كما في الدنيا. (2)

وما ذكره ينطبق على ما ذكرنا إذا أراد من البدن ، البدن العنصري ، لكنّه قدس سره كما عرفت يصرح بالبدن البرزخي ويقول : وانّ البدن الأُخروي ينشأ من النفس بحسب صفاتها.

هذا كلّه حول الشبهة من المنظار الأوّل ، وإليك دراسة الشبهة من منظار العدل الإلهي.

شبهة الآكل والمأكول من منظار العدل الإلهي

كان التقرير السابق للشبهة من منظار عدم وفاء المادة لحشر كلّ إنسان على النحو الأكمل.

ولكن البحث في المقام يركز على أنّه إذا كان المؤمن مأكولاً للكافر ، يلزم تعذيب المؤمن بتعذيب الكافر ، أو بالعكس. ونجيب عن هذا التقرير بوجهين :

الوجه الأوّل : انّه إذا صار عضو من بدن المؤمن جزءاً لبدن الكافر يكون تعذيبه تعذيباً للكافر لا للمؤمن ، لأنّ الجزء في ظل الحركة الجوهرية انقطعت صلته بالمأكول واندكّ في الآكل على نحو صار جزءاً منه ، فتعذيبه أو تنعيمه يرجع

ص: 116


1- البحار : 6 / 229 ، الحديث 32 ، من أحاديث باب أحوال البرزخ.
2- الأسفار : 9 / 200.

إلى الآكل لا إلى المأكول ، ونظيره زرع الأعضاء الرائج في الطب الحديث فانّ الكلية مثلاً إذا أخذت من بدن شخص وزرعت في بدن شخص آخر على نحو التحمت مع سائر الأعضاء ، فتعذيبه وتنعيمه يرجع إلى المأكول لا إلى الآكل.

الوجه الثاني : انّ الشبهة نابعة من التفكير المادي ، حيث يحصر واقع الإنسان في اللحم والجلد والعظام ، مع أنّ واقع الإنسان شيء أعمق من ذلك ، وهو روحه ونفسه ، فإذا صار عضو من الإنسان جزءاً من إنسان آخر انقطعت صلة الروح عن الجزء المقطوع فلا يكون مدبَّراً للنفس ، فتكون الآلام واللّذات منصبَّة على الآكل لا على المأكول ، ولعل هذا البحث المبسوط ، فيه الكفاية لذوي الألباب.

وأنا بدوري أعتذر للقرّاء الكرام من إطالة الكلام في هذا المقام.

الشبهة الثالثة : ما هو الهدف من الجزاء ؟

إذا كان الهدف من إعادة الإنسان ليجزى بما عمل من خير أو شر ، فما هو السر وراء تعذيب المجرم ؟ فانّ هناك احتمالات عدّة :

الأوّل : التشفّي وتسكين الآلام.

الثاني : تأديب المجرم.

الثالث : أن يكون التعذيب عبرة وعظة للآخرين.

وهذه الفروض إنّما تصحّ في التعذيب الدنيوي ، فولي الدم يقتص من القاتل للتشفي وتسكين آلامه ، كما أنّ تأديب المجرم غاية تختص بالدنيا ، فانّ القاضي والحاكم يؤدّب المجرم بالضرب والسجن أو غيرها ليصلح حاله ، في مستقبل حياته.

كما أنّ أخذ العبرة من تعذيب الغير أمر يختص بالدنيا لئلاّ يقترف الآخرون

ص: 117

الجرائم ، كما هو الحال في قوله : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ ) . (1)

فإذا كانت الغايات الثلاث ممّا تتحقق في الحياة الدنيا ، فيكون التعذيب في الآخرة أمراً عبثاً لا غاية له.

ثمّ إنّ المستشكل عطف الثواب الأُخروي على العذاب الدنيوي فزعم انّه أيضاً بلا غاية ، وقال :

وأمّا الالتذاذ فهو أيضاً باطل ، لأنّ اللذة الجسمانية لا حقيقة لها ، وإنّما هو دفع الألم بالاستقراء وانّه لو ترك على حاله ولم يعد لم يكن له ألم فهذا الغرض حاصل بدون الإعادة فلا فائدة فيها. (2)

والجواب : انّ المستشكل زعم أنّ المعاد أمر ممكن فسأل عن غايته وأغراضه ، فإذا انتفى الغرض فيه حكم ببطلانه ، وهذا أمر بعيد عن الصواب ، فالمعاد أمر ضروري حسب الأدلة الستة ، وفيه العلّة الفاعلية والغائية ، ومعها كيف يكون أمراً عبثاً ؟! وكفى في العلّة الغائية انّها مظهر لعدله سبحانه ، ومجلى لقسطه على وجه يكون تركه أمراً قبيحاً ، بل هو مجلى لوعده ووعيده.

وأمّا ما ذكره أخيراً من عدم أصالة اللذة الجسمانية ، وإنّما هو دافع للألم كالأكل الذي هو دافع لألم الجوع ، فلا أساس له من الصحة ، فهل يتصور انّ الالتذاذ من خلال النظر إلى المناظر الجميلة والحدائق المكتظة بالأشجار أمر لا حقيقة له ، بل هو رافع للألم فحسب ؟!

وثمّة جواب آخر وهو : انّ ما ذكره من الإشكال إنّما يتم في الجزاء الجعلي ، فيسأل عن حكمتها وغاياتها بأحد الوجوه ، وأمّا إذا كان الجزاء خارجاً عن هذا الإطار وكان من لوازم وجود الملكات التي اكتسبها الإنسان طيلة حياته على نحو

ص: 118


1- النور : 2.
2- شرح المواقف : 8 / 296 ; شرح المقاصد : 2 / 214 ، ط آستانه.

تكون الصور الجميلة الملِذَّة أو الصور القبيحة المؤلمة من لوازم الملكات المكتسبة التي تعد جزءاً لبدن الإنسان ، فالسؤال عندئذ ساقط من أصله لأنّها من لوازم الوجود ، واللازم لا يُعلَّل ، كما أنّ الزوجية من لوازم الأربعة فإيجاد الأربعة إيجاد للزوجية ، كما أنّ إعادة الإنسان بماله من الملكات إعادة للوازمه بلا حاجة إلى جعل آخر.

وهناك جواب ثالث وهو : انّ الجزاء خيره وشره صور برزخية للأعمال الدنيوية التي يكتسبها الإنسان طيلة حياته ، وكأنّ للعمل كالصلاة والصوم وجودين ، وجوداً دنيويّاً ووجوداً أُخرويّاً ، فالصلاة في هذه النشأة أذكار وحركات ، وفي النشأة الأُخرى نور وقربة ، كما أنّ الصوم في هذه النشأة إمساك ، وفي النشأة الأُخرى جُنّة من النار.

فليس الجزاء خيره وشره أمراً مخلوقاً ، بل إعادة لنفس الأعمال لكن بوجودها البرزخي ، ولا مانع من أن يكون لشيء واقعية واحدة وتجليات مختلفة ، فالذهب والفضة المكنزان يتجلّيان في هذه النشأة بصورة برّاقة تسرّ الناظرين ، وفي النشأة الأُخرى بصورة نار تكوى بها جلودهم وظهورهم ، فالنار الأُخروية التي تكوى بها هي نفس الكنز المحتكر ولكن لها تجليات حسب اختلاف النظر ، وإليه يشير سبحانه ويقول : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) . (1)

فقوله سبحانه : ( هَذَا مَا كَنَزْتُمْ ) إشارة إلى النار التي تكوى بها الجباه والجنوب ، فالنار حسب الرؤية القرآنية هي نفس الذهب أو الفضة ولكن تجلّت بوجود برزخي.

ص: 119


1- التوبة : 34 - 35.

وهناك احتجاج للإمام أمير المؤمنين علیه السلام على من أنكر عذاب القبر في هذه الدنيا.

أخرج العاصمي في كتابه « زين الفتى في شرح سورة ( هَلْ أَتَى ) » من طريق شيخه أبي بكر محمد بن إسحاق بن مهشاد يرفعه ، أنّ رجلاً أتى عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميت ، فقال : إنّكم تزعمون النار يعرض على هذا وانّه يعذب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحسَّ منها حرارة النار ؟ فسكت عنه عثمان وأرسل إلى علي بن أبي طالب المرتضى يستحضره ، فلمّا أتاه وهو في ملأ من أصحابه ، قال للرجل : أعد المسألة. فأعادها ، ثمّ قال عثمان بن عفان : أجب الرجل عنها يا أبا الحسن ، فقال علي علیه السلام : ائتوني بزند وحجر ، والرجل السائل والناس ينظرون إليه فأتي بهما فأخذهما وقدَّح منهما النار ، ثمّ قال للرجل : ضع يدك على الحجر. فوضعها عليه ، ثمّ قال : ضع يدك على الزند ، فوضعها عليه ، فقال : هل أحسست منهما حرارة النار ؟ فبهت الرجل ، فقال عثمان : لولا علي لهلك عثمان. (1)

ثمّ إنّ مسألة تجسم الأعمال بمعانيها المختلفة بحث قرآني سنمر عليه في الفصول اللاحقة.

الشبهة الرابعة : المعاد العنصري عود إلى الدنيا

إنّ الذكر الحكيم يصف المعاد بالنشأة الأُخرى أو دار العقبى وما شابههما ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ اللّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ ) (2) وقال سبحانه : ( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى ) (3) ويقول سبحانه : ( وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى .

ص: 120


1- الغدير : 8 / 214.
2- العنكبوت : 20.
3- النجم : 47.

الدَّارِ ) (1) وقال عزّ من قائل : ( سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) . (2)

فإذا كان المعاد عودَ الإنسان بالبدن العنصري فيكون عوداً إلى النشأة الأُولى لا النشأة الأُخرى ، وعوداً إلى الدار الأُولى لا إلى عقبى الدار.

والجواب : انّ صدق العناوين المتقدّمة ليس رهن أنّ المعاد مثالي أو روحي ، بل تصدق وإن كان المعاد عنصريّاً وماديّاً ، ويكفي في تسمية أحدهما بالأُولى والآخر بالأُخرى ، انّ الأُولى دار العمل والسعي ، والثانية دار الحصاد ، يقول أمير المؤمنين علیه السلام : « وانّ اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل ». (3)

أضف إلى ذلك انّ تسمية أحدهما بالأُولى والآخر بالأُخرى لأجل أنّ الإنسان في الدار الآخرة أكمل ممّا عليه في دار الدنيا ، لأنّ تعلّق النفس بالبدن في النشأة الأُولى تعلّق تدبيري فيكون ارتباطها بالبدن ارتباطاً وثيقاً إذ لولاها لفسد البدن ، وهذا بخلاف دار الآخرة فانّ تعلّقها بالبدن بغية نيل الجزاء المادي ، أو نيل الثواب والعقاب ، ولذلك تختلف الحياة في النشأة الأُخرى عن الحياة في النشأة الدنيا من حيث الكمال.

والحاصل : انّ الدنيا والآخرة موطنان للإنسان غير أنّ أحدهما أكمل وألطف من الآخر.

الشبهة الخامسة : لزوم التناسخ

إنّ للتناسخ أقساماً ، والمراد هنا تعلّق نفسين ببدن واحد ، لأنّ إعادة الإنسان

ص: 121


1- الرعد : 22.
2- الرعد : 24.
3- نهج البلاغة : الخطبة 42.

بعينه وجمع أشلائه وأعضائه وصيرورته إنساناً سويّاً من حيث الظاهر استعد لأن يفاض عليه من اللّه سبحانه نفس ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر تتعلّق به نفسه المستنسخة لأجل نيل الثواب أو العقاب ، فيلزم تعلّق نفسين ببدن واحد.

يقول صدر المتألّهين : إنّ مفسدة التناسخ بحسب المعنى - كما ذكره - واردة هاهنا بلا مرية ، وهي لزوم كون بدن واحد ذا نفسين ، فانّ تلك الأجزاء لو كانت قابليتها لتعلّق النفس حين التفرّق باقية ، لم تفارق عنها النفس ، فكان زيد حال الموت حياً وقد فرض ميتاً ، وإن لم تكن باقية فاحتاجت في قبولها للنفس إلى انضمام أمر إليها به يستعد للقبول فإذا انضم إليها ذلك الأمر وصارت مستعدة باستعداد آخر جديد لابدّ أن يفاض عليها من المبدأ الجواد فيض جديد وروح مستأنف ، فإذا تعلّق بها الروح المعاد أيضاً كان لبدن واحد روحان وهو ممتنع. (1)

يلاحظ عليه : أنّ هذه الشبهة إنّما تتم بناء على خلق الأرواح قبل الأبدان ، ، فلو قلنا بهذا الأصل لكان للشبهة مجال ، لأنّ إحياء الإنسان وجمع أشلائه وأعضائه يستدعي تعلّق الروح به من العالم العلوي فلو تعلّقت به النفس المستنسخة لكان تناسخاً.

وأمّا لو قلنا بأنّ الروح هي نتيجة الحركة الجوهرية للمادة ، وأنّ الجنين في مدارج تكامله وحركته يصل إلى مرتبة يتبدل إلى أمر مجرّد ، دون أن ينقص من المادة شيء ، فليست الروح شيئاً مخلوقاً من ذي قبل ، وإنّما هي نتيجة تكامل المادة وتحولها إلى أمر مجرد له صلة بالمادة ، ويتكامل حسب تكامل الجنين في رحم أُمّه ، كما يتكامل بعد خروجه منه.

وهذا هو الذي ارتضاه صدر المتألّهين وهو صدر الآراء ، وعلى ضوء هذا فالشبهة لا تصمد أمام النقاش ، لأنّه لو كان المعاد أمراً تدريجياً وعود الإنسان إلى

ص: 122


1- الأسفار : 9 / 170.

عالم الحياة نظير نشأته في هذه الدنيا يلزم هنا التناسخ وتعلّق نفسين ، إحداهما نتيجة الحركة الجوهرية الثانية والتكامل التدريجي للمادة ، والأُخرى نفسه المستنسخة المتكونة من الحركة الجوهرية الأُولى للمادة.

وأمّا إذا كان المعاد أمراً دفعياً كما هو الظاهر من الآيات الكريمة ، فليس هناك إلاّ نفس واحدة وهي نفسه المستنسخة ، وأمّا النفس الأُخرى فهي وليدة الحركة والتكامل التدريجي ، والمفروض انّه لم يكن هناك أي حركة وتدريج وتكامل ، بل كان إنشاءً ثانياً للبدن السوي بحيث يصلح لتعلّق النفس به.

ويدل على أنّ المعاد ، دفعي لا تدريجي آيات الذكر الحكيم :

قال سبحانه : ( فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) . (1)

وقال تعالى : ( خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ) . (2)

وقال عزّ من قائل : ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) . (3)

وقال سبحانه : ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) . (4)

وقال : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) . (5)

إلى غير ذلك من الآيات.

نعم لو قلنا بما ذهب إليه المشّاء من خلق الأرواح قبل الأبدان ، فإذا صارت

ص: 123


1- يس : 51.
2- القمر : 7.
3- المعارج : 43.
4- الزمر : 68.
5- الزخرف : 66.

النطفة بدناً سوياً تتعلّق بها الروح من العالم العلوي ، وعند ذلك يلزم تعلّق نفسين إحداهما النفس المستنسخة ، والثانية النفس التي استعدت لهبوطها إلى البدن.

ولكن الشبهة طبقاً لهذا الأصل أيضاً غير صحيحة ، إذ لا صلة بين الروح الثانية وهذا البدن ، مع وجود الصلة بين البدن السوي والروح المستنسخة.

وعلى كلّ حال ، فلنعطف أنظار القارئ إلى هذه النكتة وهي انّ المعاد العنصري خالٍ عن المفاسد المترتبة على القول بالتناسخ.

لأنّ القول بالتناسخ منطق المنكرين للمعاد ، فعود الإنسان إلى هذه الدار مرّة تلو أُخرى سيَخْلِفُ القول بالمعاد ويغني عن الإيمان به ، ولا أثر لهذا المنطق في القول بالمعاد في النشأة الأُخرى.

كما أن القول بالتناسخ يستلزم تعلّق نفسين ببدن واحد ، لأنّ التناسخ هو عود الإنسان عن طريق تعلّق الروح بالنطفة وتكاملها وحركتها وبلوغها إلى أن تتبدل إلى روح مجرّدة فهذا يستلزم تعلّق نفسين ببدن واحد ، إحداهما النفس المستنسخة ، والأُخرى النفس المتولّدة من الحركة الجوهرية الثانية. وهو محال ، لأنّ النفس المستنسخة حينما تركت البدن كانت نفساً كاملة مدركة للكليات ، فكيف يمكن أن تتعلّق تلك النفس مع ما لها من المنزلة ، بخلية في الرحم أي بالعلقة والمضغة حتى تمرّ على هذه المراحل ويكون البدن سوياً قابلاً لتعلّق المستنسخة به ؟!

والعجب انّه قدس سره قد تنبه إلى بعض ما ذكرنا ، حيث قال : إنّ منشأ حدوث النفس وما يجري مجراها هو الحركة الجوهرية الذاتية الاستكمالية لمادة ما في الصور الجوهرية على سبيل الترقي من الأدنى إلى الأعلى حتى يقع انتهاء الأكوان الصورية إلى النفس وما بعدها. (1)

ص: 124


1- الأسفار : 9 / 205 - 206.

الشبهة السادسة : المعاد العنصري وظواهر الآيات

إنّ ظواهر بعض الآيات وإن كانت تنسجم مع المعاد الجسماني ، غير أنّ ثمة آيات أُخرى لا تنسجم مع كون المعاد هو البدن العنصري السابق ، وذلك لأنّه سبحانه يستخدم لفظة « انشأ » و « مثل » ، ومن الواضح أنّ الإنشاء عبارة عن الإيجاد بلا مثال سابق ، كما أنّ لفظة « مثل » تحكي عن كون المعاد ليس نفس المنشأ أوّلاً ، بل مثله ، قال سبحانه : ( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ ) (1) ، وقال عزّمن قائل : ( نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ) . (2)

قال صدر المتألّهين بعد تفسير الآيات : ولا يخفى على ذي بصيرة أنّ النشأة الثانية طور آخر من الوجود يباين هذا الطور المخلوق من التراب والماء والطين ، وانّ الموت والبعث ابتداء حركة الرجوع إلى اللّه أو القرب منه لا العود إلى الخلقة المادية والبدن الترابي الكثيف الظلماني. (3)

والجواب : انّ مادة الإنشاء كما تستعمل في الإيجاد بلا مثال تستعمل في مطلق الإيجاد أيضاً ، وإن كان له مثال سابق ، قال سبحانه :

( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) (4) فإنّ إنشاء السحاب بمعنى إيجاد فهو بالنسبة إلى شخصها إيجاد ، وبالنسبة إلى نظائرها إيجاد مع سبق مثال له ، وعلى ذلك فإطلاق الإنشاء على إعادة الإنسان بملاك الإيجاد وانّه خلق ثان وإيجاد بعد الإيجاد.

ص: 125


1- الواقعة : 61.
2- الإنسان : 28.
3- الأسفار : 9 / 153.
4- الرعد : 12.

وأمّا لفظ « مثل » فلا يدل إلاّ على وجود التغاير بين المثلين ، وإلاّ انتفت الاثنينية ، وأمّا تفسير التفاوت بالقول بانّ الإيجاد الأوّل عنصريّ ، والثاني غير عنصري فهذا مما لا يدل عليه استعمال المثل في الآية ، بل غاية ما يستفاد منها هو وجود التغاير والاثنينية ، وأمّا ما هو ملاك التفاوت والاثنينية فلا تدل الآية عليه.

الشبهة السابعة : المعاد العنصري عود إلى الدنيا

إذا كان المعاد عنصرياً ، وعاد الإنسان إلى الحشر بنفس البدن الدنيوي فهذا يكون عوداً إلى الدنيا بعد خروجه عنها ، ولا يكون رجوعاً إلى اللّه وقرباً منه ، وكيف يعد ذلك المعاد غاية للخلقة ؟ وهذا ما أشار إليه صدر المتألّهين ، بقوله : ولم يتفطنوا بأنّ هذا حشر في الدنيا لا في النشأة الأُخرى وعود إلى الدار الأُولى ، دار العمل والتحصيل لا إلى الدار العقبى ودار الجزاء والتكميل. (1)

إنّ كون المعاد رجوعاً إلى اللّه أو اقتراباً منه وغاية للخلقة يعود إلى نفسه لا إلى بدنه ، فهي التي تتحمل هذه الصفات لا بدنه ، فسواء تعلّقت بالبدن العنصري أو البدن المثالي ، فرجوعها إلى اللّه رهن تكاملها لا خروجها من البدن العنصري وتعلّقها بالبدن المثالي ، وإن استغربت من هذا الكلام فلاحظ النفس في هذه الدار فالنفس موجود طبيعي لها أصل في الطبيعة ، كما انّ إدراكها الصورة الجسمية المجرّدة يجعلها موجوداً مثالياً لها أصل في عالم المثال ، كما أنّ إدراكها للكليات والحقائق المرسلة موجود عقلائي لها أصل في عالم العقول.

وبالجملة كون الحياة الأُخروية غاية ورجوعاً إلى اللّه يتبلور في أمرين متحققين في الحياة الأُخروية.

أ. تجسم أعماله وتبلور أفعاله وما تواجه من جزاء الخير والشر.

ص: 126


1- الأسفار : 9 / 153.

ب. انتهاء القوى والاستعدادات إلى الكمال ، ووقوف الحركة الاستكمالية للإنسان.

وهذان الأمران غير متحققين في الدنيا وإنّما يتحققان في الآخرة ، كما أنّهما ينسجمان مع حشر البدن العنصري ، أمّا تجسّم الأعمال وتبلورها فهو ينسجم مع الحشر المثالي أو البرزخي ، وأمّا توقّف الحركة عن الاستكمال ، فلما عرفت من أنّ تعلّق النفس بالبدن في اليوم الآخر لأجل نيل الثواب والعقاب لا للتدبير ، وبذلك يختلف تعلّقها بالبدن في الآخرة عن تعلّقها به في الدنيا ، وبالتالي لا ينفك ذلك التعلّق عن الحركة الاستكمالية في النشأة الأُولى ولكن تنتهي الحركة الاستكمالية في النشأة الأُخرى ، وما ذلك إلاّ لتغاير التعلّقين.

الشبهة الثامنة : النفس يوم القيامة قائمة بذاتها

إنّما سمّي يوم الآخرة بيوم القيامة ، لأنّ الروح فيه تنسلخ عن هذا البدن الطبيعي مستغنياً عنه في وجوده قائماً بذاته ، والبدن الأُخروي قائم بالروح في تلك النشأة والروح قائمة بالبدن الطبيعي هاهنا لضعف وجودها الدنيوي وقوة وجودها الأُخروي ، وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون البدن الأُخروي مثل البدن الدنيوي لما عرفت انّ الروح لأجل ضعف وجودها الدنيوي قائمة بالبدن الطبيعي بخلاف الروح بوجودها الأُخروي فانّها لقوة وجودها قائمة بنفسها ، والبدن قائم بالروح.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أنّ النفس في يوم القيامة قائمة بذاتها لا بالبدن على خلاف ما في الدنيا ، أمر لم يقم عليه برهان ، وإنّما اتخذه المستدل أصلاً موضوعياً وبنى عليه الدليل ، من خلال إطلاق لفظة « القيامة » والتي توحي إلى قيام النفس بذاتها ، مع أنّه لا دليل عليه بل إطلاق القيامة على ذلك اليوم لأجل

ص: 127

قيام الحساب والاشهاد والروح ( الروح الأمين ) والناس ، قال سبحانه :

1. ( يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ ) . (1)

2. ( يَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) . (2)

3. ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلائِكَةُ صَفًّا ) . (3)

4. ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) . (4)

وهذه الآيات تفسر وجه تسمية ذلك اليوم ، بيوم القيامة وانّ التسمية جاءت لأجل قيام الحساب وغيره.

الشبهة التاسعة : استغراب الحياة المثالية

لما كان إثبات نحو آخر من الوجود يخالف هذا الوجود الطبيعي الوضعي ، وإثبات نشأة أُخرى باطنة تباين هذه النشأة الظاهرة ، أمراً صعب الإدراك مستعصياً على أذهان أكثر الناس جحدوه وأنكروه ، وأيضاً لألفهم بهذه الأجساد وشهواتها ولذّاتها يصعب عليهم تركها وطلب نشأة تضاد هذه النشأة ، ولذلك لم يتدبروا في تحقيقها وكيفيتها بل أعرضوا عنها وعن آياتها ، كما قال تعالى : ( وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) (5) ، ورضوا بالحياة الدُّنيا واطمأنّوا بها وأخلدوا إلى الأَرض كما قال تعالى : ( وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) (6).

ص: 128


1- إبراهيم : 41.
2- غافر : 51.
3- النبأ : 38.
4- المطففين : 6.
5- يوسف : 105.
6- الأعراف : 176.

ونحن رأينا كثيراً من المنتسبين إلى العلم والشريعة انقبضوا عن إثبات عالم التجرّد واشمأزّت قلوبهم عن ذكر العقل والنفس والروح ، ومدح ذلك العالم وخدمة الأجساد وشهواتها المحسوسة ودثورها وانقطاعها وأكثرهم توهموا الآخرة كالدنيا ونعيمها كنعيم الآخرة إلاّ أنّها أوفر وأدوم وأبقى. (1)

وحاصل هذه الشبهة يرجع إلى أمرين :

أ. انّ إنكار المشركين المعاد لأجل كون الحياة الأُخروية فوق الحس ، وهذا لا ينسجم مع كون المعاد عنصرياً.

ب. هؤلاء المنكرون لفرط حبهم بالبدن وآثاره كان من الصعب عليهم تركها وطلب نشأة تضاد هذه النشأة.

يلاحظ على الأمر الأوّل : أنّ المشركين كانوا يستوحشون من إحياء البدن العنصري تارة أُخرى ، ولأجل ذلك كانوا ينسبون القائل بذلك إلى الجنون و الخلط.

إنّ إحياء الأموات ليس أمراً سهلاً حتى يصدقه كلّ من خوطب به ، بل أمر يصعب فهمه على السذج من العقول يقول سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) (2) فالذي كانت تستغربه الأفهام الساذجة هو إحياء البدن البالي ، وهذا ينسجم مع المعاد العنصري.

ولأجل رفع تعجبهم وتقريب المطلب إلى أفهامهم يضرب القرآن بكلّ مثل في هذا الباب كما سبق ذكره.

ص: 129


1- الأسفار : 9 / 157 - 158.
2- سبأ : 7 - 8.

وأمّا الأمر الثاني ، فلأنّ إنكارهم لم يكن مبنياً على أنّ المعاد الذي يدعو إليه النبي صلی اللّه علیه و آله يعد مغايراً لهذه الحياة الدنيا ، بل كان إنكارهم لأجل خوفهم من سوء الحساب والجزاء لا من تغاير الحياتين واختلافهما ، يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) (1) وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا ) . (2)

والحاصل أنّ التغاير بين الحياتين لا يكون داعياً إلى الإنكار خصوصاً إذا كانت الحياة الثانية أكمل من الأُولى وانّ الذي يجر المنكر إلى إنكار المعاد هو خوفه من نصب الموازين بالقسط والجزاء بما عمل ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

الشبهة العاشرة : تعلّق النفس بالبدن العنصري رهن مرجّح

إنّ تعلّق النفس بالبدن أمر طبيعي منشأه الملازمة التامة والاستعداد الكامل للمادة المخصِّص لها بهذه النفس دون غيرها ، ولابدّ أن يكون هذا التخصص والاستعداد ممّا لم يوجد إلاّ لهذه المادة الواحدة بالقياس إلى النفس المعينة الواحدة لئلا يلزم التخصص بلا مخصص ، أو تعلّق نفس واحدة ببدنين ، على أنّ منشأ حدوث النفس وما يجري مجراها هو الحركة الذاتية الاستكمالية لمادة ما في الصور الجوهرية على سبيل الترقي من الأدنى إلى الأعلى حتى يقع انتهاء الأكوان الصورية إلى النفس وما بعدها ، فعلى هذا لا معنى لبقاء المناسبة الذاتية للأجزاء الترابية إليها. (3)

والجواب : أنّ المناسبة بين النفس والأجزاء الترابية وإن كانت منتفية إلاّ أنّها

ص: 130


1- ص : 26.
2- النبأ : 27.
3- الأسفار : 9 / 206.

موجودة بين النفس والبدن المُعاد. وبما أنّ المُعاد في دار العقبى هو نفس البدن الدنيوي الذي تعلّقت به النفس في هذه النشأة ، فتتعلّق به النفس في النشأة الآخرة.

نعم البدن المعاد وإن لم يكن عين البدن الدنيوي إلاّ أنّه مثله ، فيشتمل على كافة الخصوصيات الموجودة في البدن الدنيوي ، وهذه الخصوصيات كافية في إيجاد المرجح لتعلّق النفس بذلك البدن دون الآخر.

فاللّه سبحانه عندما يُعيد البدن الدنيوي فإنّما يعيده بكافة الخصوصيات المتحقّقة في هذه النشأة غير النفس ، وهذا المقدار يكفي في المرجحية وإخراج التعلّق عن كونه تعلّقاً بلا مرجح.

الشبهة الحادية عشرة : رجوع الفعلية إلى القوة

إنّ النفس الإنسانية تتكامل شيئاً فشيئاً في الحياة الدنيا تحت ظل الحركة الجوهرية فتصل من الأدنى إلى الأعلى حتى تقع انتهاء الأكوان الصورية من النفس وعند ذلك تتبدل قواها إلى الفعلية وطاقاتها إلى الوجود الواقعي ، فلو أُعيد إلى الدنيا يلزم رجوع الفعلية إلى القوة وهو أمر على خلاف الحكمة.

يقول صدر المتألّهين : إنّ النشأة الثانية طور آخر من الوجود يباين هذا الطور المخلوق من التراب والماء والطين ، وانّ الموت والبعث ابتداء حركة الرجوع إلى اللّه أو القرب منه لا العود إلى الخلقة المادية والبدن الترابي الكثيف الظلماني. (1)

إنّ هذا الإشكال أي استلزام المعاد العنصري رجوع الفعليات إلى القوى لا يختص بالمعاد ، بل يعم الخلقة الابتدائية عند من يقول بخلق الأرواح قبل الأبدان ، فانّ الروح المجرّد موجود متكامل نفذ طاقاته وانقلب قواه إلى الفعلية ، فلو تعلّق

ص: 131


1- الأسفار : 9 / 153.

بالجنين السويّ يلزم تنزله من المقام الأعلى إلى المقام الأدنى حتى ينسجم مع البدن ، وإلاّ لكان التعلّق أمراً محالاً لعدم الإنسجام بين البدن والروح. وهذا الإشكال هو الذي حاول الشيخ الرئيس أن يجيب عنه بعدما طرح الإشكال مبسطاً ، وقال في قصيدته المعروفة بالعينيّة :

هبطت إليك من المحل الأرفع *** ورقاء ذات تعزِّز وتمنِّع

محجوبة عن كلّ مقلة عارف *** وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وصلت على كره إليك وربما *** كرهت فراقك وهي ذات تفجع

انفت وما ألفت فلمّا واصلت *** ألفت مجاورة الخراب البلقع

واظنها نسيت عهوداً بالحمى *** ومنازلاً بفراقها لم تقنع (1)

إلى آخر ما قال ...

إنّ الإشكال مبني على أنّ الروح بخروجها عن البدن موجود متكامل ومجرّد محض ، ليس فيها أيّة قوة وطاقة فلذلك تفقد ملاك تعلّقها بالبدن ، وأمّا إذا قلنا بانّ النفس في هذه الدنيا مجرّد ممزوج مع القوة ، فهي بما انّها تتأثر باللذائذ والآلام المادية ، موجود طبيعي ، وبما أنّها تخلق صوراً بلا مادة كالصورة الذهنية موجود مثالي ، وبما انّها تدرك المفاهيم الكلية والحقائق المرسلة موجود عقلاني.

فعلى ذلك فإنّ النفس لها أُصول في العوالم الثلاثة ، فلا مانع من أن تتعلّق بالبدن المادي والهوية الطبيعية.

لا شكّ انّ الحياة الأُخروية أكمل من الحياة الدنيوية ، لكن مدار الكمال ليس كون إحداهما مادية والأُخرى مجرّدة كاملة ، وإنّما يتحقّق التفاوت بأُمور أُخرى

ص: 132


1- الكنى والألقاب : 1 / 321.

نظير ما يلي :

1. انّ الخمر في هذه الحياة مسكر ومطفئ لمصباح العقل بخلافه في الدار الآخرة.

قال سبحانه : ( يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ) . (1)

2. انّ الفواكه واللبن وما أشبهها يتسارع إليها الفساد في هذه الدنيا بخلافه في الدار الآخرة ، قال سبحانه : ( مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ) . (2)

3. انّ الحياة في النشأة الأُولى منقطعة ، بخلاف الآخرة فانّ الحياة فيها خالدة ، قال سبحانه : ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلاَّ المَوْتَةَ الأُولَى ) . (3)

وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) . (4)

4. انّ الإنسان في هذه النشأة يمتلك الحواس التي يستعين بها للارتباط بمحيطه كالإحساس بالحرارة والبرودة مثلاً مع أنّها في الآخرة ليست كذلك ، قال سبحانه : ( لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ) . (5)

وعلى ضوء ذلك فالاختلاف بين الحياتين ليس رهن كون إحداهما مادية

ص: 133


1- الصافات : 45 - 47.
2- محمد : 15.
3- الدخان : 56.
4- فاطر : 36.
5- الدهر : 13.

والأُخرى مجردة مثالية ، بل يكفي كونها من سنخ واحد ولكن على نحو أكمل ممّا نشاهده في هذه الدنيا.

كيف يمكن أن يقال إنّ خروج النفس عن البدن آية تكاملها ونفاد قواها واستعدادها مع أنّ أكثر أنواع الموت انتشاراً هو الموت الاخترامي لا الطبيعي ؟

وللسيد العلاّمة الطباطبائي كلام مفصل في نقد هذه الشبهة ، إذ يقول :

إنّ عود الميت إلى حياته الدنيا ثانياً في الجملة وكذا المسخ ليسا من مصاديقه ، بيان ذلك : أنّ المحصل من الحس والبرهان أنّ الجوهر النباتي المادي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني فانّه يتحرك إلى الحيوانية ، فيتصور بالصورة الحيوانية ، وهي صورة مجرّدة بالتجرّد البرزخي ، وحقيقتها إدراك الشيء نفسه بإدراك جزئي خيالي وهذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي وفعلية لهذه القوّة تلبس بها بالحركة الجوهرية ومن المحال أن ترجع يوماً إلى الجوهر المادي فتصير إيّاه إلاّ أن تفارق مادتها فتبقى المادة مع صورة مادية كالحيوان تموت فيصير جسداً لاحراك به.

ثمّ إنّ الصورة الحيوانية مبدأ لأفعال إدراكية تصدر عنها ، وأحوال علمية تترتب عليها ، تنتقش النفس بكلّ واحد من تلك الأحوال بصدورها منها ، ولا يزال نقش عن نقش ، وإذا تراكمت من هذه النقوش ماهي متشاكلة متشابهة تحصل نقش واحد وصار صورة ثابتة غير قابلة للزوال ، وملكة راسخة ، وهذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوع بها نفس حيواني فتصير حيواناً خاصاً ذا صورة خاصة منوعة كصورة المكر والحقد والشهوة والوفاء والافتراس وغير ذلك وإذا لم تحصل ملكة بقي النفس على مرتبتها الساذجة السابقة ، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتاً ولم يخرج إلى الفعلية الحيوانية ، ولو أنّ النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها وأفعالها بحصول الصورة دفعة لانقطعت علقتها مع البدن في أوّل وجودها لكنّها تتكامل بواسطة أفعالها الإدراكية المتعلّقة

ص: 134

بالمادة شيئاً فشيئاً حتى تصير حيواناً خاصاً إن عمّر العمر الطبيعي أو قدراً معتداً به ، وإن حال بينه وبين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتد به مانع كالموت الاخترامي بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية ، ثمّ إنّ الحيوانية إذا وقعت في صراط الإنسانية وهي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلاً كلياً مجرداً عن المادة ولوازمها من المقادير والألوان وغيرهما خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلى فعلية التجرّد العقلي ، وتحققت له صورة الإنسان بالفعل ، ومن المحال أن تعود هذه الفعلية إلى قوتها التي هي التجرد المثالي على حدّ ما ذكر في الحيوان.

ثمّ إنّ لهذه الصورة أيضاً أفعالاً وأحوالاً تحصل بتراكمها التدريجي صورة خاصة جديدة توجب تنوع النوعية الإنسانية إلى حدّ ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية.

إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنّا لو فرضنا إنساناً رجع بعد موته إلى الدنيا وتجدد لنفسه التعلق بالمادة وخاصة المادة التي كانت متعلّقة نفسه من قبل لم يبطل بذلك أصل تجرد نفسه فقد كانت مجرّدة قبل انقطاع العلقة ومعها أيضاً وهي مع التعلّق ثانياً حافظة لتجرّدها ، والذي كان لها بالموت أنّ الأداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودة لها فلا تقدر على فعل مادي كالصانع إذا فقد آلات صنعته والأدوات اللازمة لها ، فإذا عادت النفس إلى تعلّقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها وأدواتها البدنية ووضعت ما اكتسبتها من الأحوال والملكات بواسطة الأفعال فوق ما كانت حاضرة وحاصلة لها من قبل واستكملت بها استكمالاً جديداً من غير أن يكون ذلك منها رجوعاً قهقري وسيراً نزولياً من الكمال إلى النقص ، ومن الفعل إلى القوة. (1)

ولأجل إيضاح الموضوع نقول :

ص: 135


1- الميزان : 1 / 206 - 207.

إنّ هناك فرقاً بين النفس المجرّدة التي كانت كذلك منذ بدء أمرها وبين النفس المجرّدة التي يكون تجردها حصيلة تكامل البدن ووقوعه في السير التكاملي للحركة الجوهرية ، فالنفس على النحو الأوّل أي المخلوق مجرّداً من بدء خلقها لا يمكن تعلّقها بالبدن ، لأنّها تفقد الانسجام المطلوب بينها وبين البدن ، بخلاف النفس الثانية التي يكون تجردها حصيلة الحركة الجوهرية.

فانّها تحتفظ بشيء من استعداداتها وقابلياتها عند مفارقتها للبدن ، وبذلك تحافظ على انسجامها عند تعلقها بالبدن.

أضف إلى ذلك أنّ تعلّق المجرّد بالمادي إنّما يعد نقصاً إذا صار سبباً لنزوله من الدرجة العالية إلى الدرجة السافلة ، وأمّا إذا كان الشيء الواحد ذا درجات ومراتب فلا مانع من أن يتعلق بالمادة بمالها من الدرجة الدانية ، وقد عرفت أنّ النفس في وحدتها موجود طبيعي مثالي عقلاني.

بل يمكن أن يقال : إنّ تعلّق النفس بالبدن العنصري يوم القيامة كتعلّق عالم الشهادة بعالم الغيب وعالم الطبيعة بعالم النفوس والعقول ، فكما أنّ العالمين مدبرتان لعالم الطبيعة ومع ذلك لا يلزم وقوعهما في قوس النزول ، فهكذا الحال عند تعلّق النفس بالبدن يوم القيامة لا يستلزم وقوعها في القوس النزولي.

على أنّ ثمّة احتمالاً آخر وهو انّ تعلّق النفس بالبدن يوم القيامة لأجل إمكان درك الثواب والعقاب الماديين ، إذ ثمة نوع من الثواب والعقاب لا يمكن أن تدركها النفس إلاّ أن تكون متعلقة بالبدن وتكون كاللباس حين الخلع.

إلى هنا تمّ ما نرمي إليه من استعراض الشبهات المطروحة على هذا الصعيد مع نقدها ومناقشتها.

ص: 136

الفصل العاشر : المعاد الروحاني من منظار الحكماء

قد مرّ آنفاً على أنّ ثمة محاور عديدة للبحث ، وهي كالتالي :

1. أقوال الحكماء والمتكلّمين في المعاد.

2. ما هو الملاك لوصف المعاد بالجسمانية والروحانية ؟

3. المعاد من حيث الكيفية من منظار القرآن الكريم.

4. آراء الحكماء والمتكلّمين في المعاد الجسماني.

5. المعاد الروحاني من منظار الحكماء.

6. المعاد الجسماني والتناسخ.

وقد استوفينا الكلام في المحاور الأربعة الماضية ، وبقي الكلام في المحورين الأخيرين اللّذين سنعقد لهما الفصلين التاليين.

قد تقدّم انّ للمعاد الروحاني ملاكين :

أحدهما : حشر الأرواح مجرّدة عن الأبدان.

والآخر : حشر الإنسان بغية إدراك اللذائذ العقلية.

وقد عرفت أنّ المعاد الروحاني بالمعنى الأوّل وإن كان ممكناً ولكنّه غير

ص: 137

واقع ، لأنّ حشر الأرواح إنّما يتمُّ مع الأبدان. وأمّا المعاد الروحاني بالمعنى الثاني فملاك وصفه بالروحانية ليس هو حشر الروح مجرّدة عن البدن ، بل الملاك دركه اللذائذ العقلية التي لا تدرك بالحواس سواء أكان المحشور هو الروح أو الروح والبدن ، وهذا النوع من المعاد ممكن وواقع.

توضيحه : انّ مقتضى الحكمة الإلهية والرحمة الواسعة إيصال كلّ ممكن إلى كماله المطلوب ، فثمة فئة من الناس لا همَّ لها سوى نيل اللذائذ المادية وتتلخص السعادة عندها فيها ، فليس لها معاد سوى الجسماني لا تتجاوز عنه ، ولكن ثمة فئة أُخرى لها همة قعساء لكسب الكمالات المعنوية بغية التقرّب إلى الحقّ فمقتضى رحمته الواسعة إيصال هذه الفئة أيضاً إلى كمالها المطلوب.

وبعبارة أُخرى : انّ السعداء والكُمّل في العلم والعمل يكتسبون حياة معنوية حسب ما يقومون به من صالح الأعمال ، ولكن صلة الإنسان بالمادة تحول دون ظهور تلك الكمالات المعنوية ، لكنّها تتجسد يوم القيامة عند رفع الحجب ، فعندئذٍ يطلب القربة إلى الحقّ والاتصال بالموجودات النورانية في النشأة الآخرة.

وهذا النوع من الحياة المعنوية المنتهية إلى المشاهدات القلبية هو حصيلة المعرفة الدنيوية ، ولذلك قيل : المعرفة بذر المشاهدة ، وقد أشار إلى ما ذكرنا الحكيم السبزواري في كلامه هذا : انّ الخلق طبقات ، فالمجازاة متفاوتة ، فلكل منها محبوب ومرغوب وجزاء يليق بحالها ، واللذائذ الحسية والمبتهجات الصورية للكُمّل في العلم والعمل كالظل غير الملتفت إليه بالذات والتفاتهم بباطن ذواتهم وما فوقهم. (1)

نعم هذا النوع من المعاد لا يعم جميع الناس لما عرفت من انقسام الناس إلى

ص: 138


1- شرح المنظومة ، بحث المعاد ، الفريدة الثانية.

قسمين بين من أخلد إلى الأرض ولا يبغي سوى نيل اللذات الحسية ، وبين من لا يهمه إلاّ اللذات العقلية وما يناسب تلك القوّة من الكمال.

ذهب المحقّقون من الحكماء إلى أنّ حقيقة اللذة هي الإدراك أي إدراك الشيء الملائم للمدرك ، فلو كان المدرِك أمراً حسياً فكماله إدراك الأُمور الحسية ، وإن كان المدرِك قوة عقلية ونفساً مجردة فكماله هو دركه الصور والمعاني الكلية وقربه من الحقّ ولقائه ومشاهدة الجواهر النورية.

يقول صدر المتألّهين : إنّ نفوسنا إذا استكملت وقويت وبطلت علاقتها بالبدن ورجعت إلى ذاتها الحقيقية وذات مبدعها ، تكون لها من البهجة والسعادة ما لا يمكن أن يوصف أو يقاس به اللذات الحسية ، وذلك لأنّ أسباب هذه اللذة أقوى وأتم وأكثر وألزم للّذات المبتهجة.

امّا أنّها أقوى فلأنّ أسباب اللّذة هي الإدراك والمدرِك والمدرَك ، وقوة الإدراك بقوة المدرِك ، والقوة العقلية أقوى من القوة الحسية ومدركاتها أقوى. (1)

ويقول أيضاً : فانّ الصور العقلية إذا عقلها العقل يستكمل بها ويصير ذاتها كما علمت ، بل كان بعضها قبل أن يقع الشعور به مقدماً لذات العقل وكان غافلاً عنه لاشتغاله بغيره فإذا استشعر وتنبّه يرى ذلك البهاء والجمال في ذاته فصار مبتهجاً بذاته غاية البهجة.

وهذه اللذة شبيهة بالبهجة التي للمبدأ الأوّل بذاته ، وبلذات المقربين بذواتهم وذات مبدئهم ... ونحن لا نشتهي تلك اللذات مادمنا متعلّقين بهذه الأبدان. (2)

إلى أن قال : إذا انقطعت العلاقة بين النفس والبدن وزال هذا الشوب

ص: 139


1- الأسفار : 9 / 122.
2- الأسفار : 9 / 123.

صارت المعقولات مشاهدة ، والشعور بها حضوراً ، والعلم عيناً ، والإدراك رؤية عقلية ، فكان الالتذاذ بحياتنا العقلية أتم وأفضل من كلّ خير وسعادة ، وقد عرفت أنّ اللذيذ بالحقيقة هو الوجود وخصوصاً الوجود العقلي لخلوصه عن شوب العدم ، وخصوصاً المعشوق الحقيقي والكمال الأتم الواجبي لأنّه حقيقة الوجود المتضمنة لجميع الجهات الوجودية ، فالالتذاذ به هو أفضل اللذات وأفضل الراحات بل هي راحة التي لا ألم معها. (1)

وقد تحصل من كل ذلك أنّ المانع من المشاهدات واللّذات العقلية هو تعلّق الإنسان بالبدن والخلود إلى الأرض ، فإذا تخلّص منه حينها يفسح له المجال لدرك هذا النوع من الجزاء.

ويمكن أن يقال : إذا كان المانع من نيل هذه الدرجات هو تعلّق النفس بالبدن فهذا النوع من التعلّق موجود في النشأة الآخرة لما عرفت من أنّ المعاد عنصري لا مثالي ؟

والإجابة عن هذا السؤال واضحة ، لأنّ البدن المحشور وإن كان عنصرياً ولكنّه أكمل وألطف من البدن الدنيوي فلا يكون مانعاً عن نيل ذلك النوع من الجزاء.

على أنّك وقفت على اختلاف التعلّقين ، فتعلق النفس بالبدن في هذه النشأة لغاية التدبير ولكن تعلّقه في النشأة الأُخرى استخدامه لأجل نيل الجزاء الحسي.

وهناك احتمال ثالث يذكره المتكلّم الطائر الصيت الفاضل المقداد ( المتوفّى عام 828 ه ) وهو أنّ النفس بعد انفكاكها عن البدن تتقوى في عالم البرزخ في الفترة بين الموت والحشر ، فبعد التعلّق بالبدن يكون استعدادها أقوى لتقبل

ص: 140


1- الأسفار : 9 / 125.

الحقائق العلوية.

حيث يقول : دلّ العقل على أنّ سعادة النفوس في معرفة اللّه تعالى ومحبته ، وعلى أنّ سعادة الأبدان في إدراك المحسوسات ، ودلّ الاستقراء على أنّ الجمع بين هاتين السعادتين في الحياة الدنيا غير ممكن ، وذلك انّ الإنسان حال استغراقه في تجلّي أنوار عالم الغيب لا يمكنه الالتفات إلى اللّذات الحسية ، وإن أمكن كان على ضعف جداً بحيث لا يعد التذاذاً ، وبالعكس ، لكن تعذر ذلك ، سببه ، ضعف النفوس البشرية هنا ، فمع مفارقتها واستمدادها الفيض من عالم القدس تقوى وتشرق ، فمع إعادتها إلى أبدانها غير بعيد أن تصير هناك قوية على الجمع بين السعادتين على الوجه التام وهو الغاية القصوى في مراتب السعادة. قالوا : وهذا لم يقم على امتناعه برهان ، فلذلك أثبتوا المعادين. (1) .

ص: 141


1- اللوامع الإلهية : 378.

الفصل الحادي عشر : المعاد الجسماني والتناسخ

اشارة

التناسخ مأخوذ من نسخ وهو يتضمن معنيين ، التحوّل والانتقال أوّلاً ، والتعاقب بين الظاهرتين ثانياً ، يقول الراغب في مفرداته : النسخ إزالة شيء بشيء يتعاقبه ، كنسخ الشمسِ الظلَّ ، والظلُّ الشمسَ ، والشيبُ الشبابَ.

غير أنّ التناسخ الذي يبحث عنه في المعاد لا يتضمن إلاّ القيد الأوّل وهو الانتقال ، وأمّا التعاقب ومجيئ الظاهرة الثانية بعد الظاهرة الأُولى فليس هو شرطاً ، نعم هو شرط في النسخ الشرعي ، حيث إنّ نسخ حكم يلازم تشريع حكم ثان يزيله وينسخه ، وإليك أنواع الانتقال :

الأوّل : انتقال النفس الإنسانية من النشأة الأُولى إلى النشأة الآخرة.

الثاني : انتقال النفس في هذه النشأة من مرتبة إلى مرتبة أفضل في ظل الحركة الجوهرية كما هو الحال في الطفل الوليد.

الثالث : انتقال النفس بعد خروجها عن هذه الدنيا إلى خلية نباتية أو نطفة حيوانية أو جنين إنساني.

وفي الحقيقة لا يراد من التناسخ المصطلح إلاّ الثالث ، وحقيقته أنّ الإنسان بعد موته ينتقل إلى هذه النشأة ، سواء انتقلت إلى جسم نباتي أو حيواني أو إنساني ،

ص: 142

ولازم ذلك أنّ الروح بعدما تكاملت وتبدّلت قواها إلى الفعلية تأخذ بالقوس النزولي فيتعلق بالنبات والحيوان والجنين فتبدأ حياتها من جديد ، فَتُجزى حسب أعماله في الحياة السابقة ، هذا هو التناسخ المصطلح بين الإسلاميين وفلاسفة الاغريق.

وكثيراً ما يلتجئ إلى هذه الفرضية من ينكر المعاد ، لأنّ رجوعه إلى عالم الدنيا لأجل الجزاء ، ومعه لا حاجة إلى المعاد.

ذهب القائلون بالتناسخ إلى أنّ الإنسان في هذه الدنيا بين محسن ومسيء فيعود إلى الدنيا ليجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، فما يرى من ابتلاء طائفة بالمصائب والمتاعب فإنّما هي جزاء أعمالها السيئة ، بخلاف طائفة أُخرى حيث ترغد بالعيش والرفاه التي هي نتيجة أعمالها الحسنة.

وثمة نكتة جديرة بالذكر وهي أنّ أكثر من يروّج تلك الفكرة هم أصحاب السلطة والنفوذ الذين يمتلكون المال والجاه الواسع ، يروّجون التناسخ ليبرّروا به الأعمال الجائرة التي يقترفونها والأوضاع السيئة التي يعاني منها الفقراء والمساكين. فنعيماً على الطائفة الأُولى وبؤساً على الطائفة الثانية ، جزاءاً بما كانوا يعملون في الحياة الأُولى ، هذا هو منطقهم الواهي.

فلو قيل بأنّ الدين أفيون الشعوب ، فإنّما يصحّ في حقّ هذا النوع من الدين الذي يبرر به اعمال تلك الطغمة الغاشمة.

والعجب انّ هذه الفكرة تسرّبت إلى أُمّة تعيش بين غنى مفرط وفقر مدقع كالهنود ، فأضحت تلك الفكرة ونشرها بين الضعفاء عائقاً يمنعهم عن أيّ ثورة عارمة ضد الظلم والعدوان بزعم أنّ الثائرين أحقّ بالوضع الموجود ، كما أنّ أصحاب السلطة أحقّ بما هم عليه.

وعلى أيّة حال فلنتناول الموضوع بالبحث من منظار القواعد الفلسفية العقلية.

ص: 143

أقسام التناسخ

اشارة

التناسخ عند القائلين به على أقسام نطرحها على طاولة البحث :

أ. التناسخ المطلق أو اللا محدود

يطلق التناسخ ويراد منه خروج النفس من بدن إلى بدن آخر على وجه الاستمرار وذلك ، لأنّ النفوس البشرية عند خروجها من البدن ليست مجرّدة كاملة ، فلا مانع من تعلّقها ببدن آخر ، وثالث ، ورابع ، وهكذا تستمر في تقمصها الأبدان.

يقول شارح حكمة الإشراق : ومن القدماء من يقول بعدم تجرّد جميع النفوس بعد المفارقة ، وهم المترفون ب « التناسخية » فانّهم يزعمون أنّ النفوس جرمية دائمة الانتقال في الحيوانات ، وهؤلاء أضعف الحكماء وأقلّهم تحصيلاً.

ثمّ أورد عليه بأنّ العناية الإلهية تقتضي إيصال كلّ ذي كمال إلى كماله ، وكمال النفس الناطقة العلمي ، صيرورتها عقلاً مستفاداً فيها جميع صور الموجودات ، والعملي تجرّدها عن العلائق البدنية ، فلو كانت دائمة الانتقال كانت ممنوعة عن كمالها أزلاً وأبداً ، وهو محال. (1)

وهذا النوع من التناسخ على طرف النقيض من القول بالمعاد ، إذ لا ينقطع تعلّقها بالبدن الدنيوي مادامت موجودة ، فلا مجال للمعاد عندئذٍ.

ب. التناسخ النزولي المحدود

القائل بهذا النوع من التناسخ يدّعي أنّ النفوس على صنفين ، فصنف يبلغ

ص: 144


1- شرح حكمة الإشراق : شمس الدين محمد الشهرزوري : 519 ، بتحقيق حسين الضيائي التربتي.

في الحكمة العلمية والعملية بمكان لا تعود حينها النفس إلى هذه النشأة بعد خروجها من البدن بل تلتحق بعالم المجرّدات والمفارقات ، ولا مسوِّغ لرجوعها إلى الدنيا لبلوغها الكمال المطلوب.

وثمّة صنف آخر لم يكتسب من الكمال العلمي والعملي إلاّ شيئاً يسيراً ، ولذا استدعت الحاجة إلى عود النفس إلى النشأة الأُولى بغية بلوغها الكمال المطلوب ، وذلك من خلال الانتقال بين الأبدان.

وهذا القسم من التناسخ ينقطع ببلوغ النفس المرتبة الكاملة من العلم والعمل بعودها إلى الدنيا مرّة بعد أُخرى.

والفرق بين القسم الأول وهذا القسم من التناسخ من وجهين :

الأوّل : هو عمومية الأوّل وشموليته لكافة الأفراد ، بخلاف الثاني فانّه يختص بغير الكمَّلين في العلم والعمل.

الثاني : استمرار التناسخ عبْر الزمان دون أن يقف إلى حدّ معيّن في الأوّل ، دون الثاني ، الذي ربّما ينتهي ببلوغ النفس المستنسخة الكمالَ المطلوب في العلم والعمل.

يقول شارح حكمة الإشراق : وأمّا الحكماء الأوائل كهرمس وانباذقلس وفيثاغورس وسقراط وإفلاطون وغيرهم من حكماء يونان ومصر وفارس والهند والصين ، وهم القائلون بتجرّد النفوس الكاملة بعد المفارقة البدنية ، إلى العالم العقلي المذكور ، وأمّا الناقصون فانّهم لا يتجرّدون بالكلية بل تتناسخ أرواحهم في أبدان الحيوانات الصامتة بحسب الهيئات الرديئة التي لهم ومناسبة أخلاقهم لأخلاق الحيوانات المنتقلة إليها. (1)

ص: 145


1- شرح حكمة الإشراق : 519.
ج. التناسخ الصعودي

إنّ النبات أكثر استعداداً من غيره من الأجسام لكسب الفيض ، كما أنّ الإنسان له قدر كبير من الاستعداد لإفاضة الحياة عليه بعد الحياتين : النباتية والحيوانية ، فعلى ضوء ذلك فقد تعلّقت مشيئته سبحانه على تعلّق الحياة في سيرها التكاملي بالنبات الأقرب إلى الحيوان ، ثمّ تنتقل منها إلى عالم الحشرات ، ومنها إلى الحيوانات هي أقرب إلى الإنسان ، ومنها تنتقل الحياة قفزة إلى الإنسان للاستكمال. (1)

التناسخ والمعاد

التناسخ بالمعنى الأوّل : أي التناسخ المطلق اللامحدود على طرف النقيض من المعاد ، فالاعتقاد به يصدُّ الإنسان عن الإيمان بالمعاد.

وهذا بخلاف التناسخ النزولي فقد عرفت أنّه ليس أمراً عامّاً لجميع أفراد البشر ، فالكاملون في العلم والعمل يلتحقون بعالم المجرّدات النورانية والمفارقات ، والناقصون فيهما يتكاملون شيئاً فشيئاً عبر الرجوع إلى الدنيا وانتقال أرواحهم بين الأبدان مرّة تلو أُخرى حتى تصل تلك الأرواح إلى كمالها المطلوب فلا تعود حينها إلى الدنيا.

وأمّا التناسخ بالمعنى الثالث - أعني : التناسخ الصعودي - فلا ينافي القول بالمعاد ، وإنّما أخطأوا في تفسير تكامل النفس حيث جعلوا مدارج الكمال منفصلة بعضها عن بعض.

فالنفس تارة تعيش في النبات الأقرب إلى الحيوان ثمّ تستقر في أوكار

ص: 146


1- اسرار الحكم.

الحيوان ثمّ تنتقل إلى الإنسان ، وهي ترافق البدن حتى تنفصل عنه ويكون مصيرها إلى المعاد.

والقائل بتلك النظرية لو جعل مدارج الكمال متصلة لشكّلت نقطة التقاء واضحة مع نظرية صدر المتألّهين ، فانّ النفس بناء على نظريته تمرّ بمراحل النبات والحيوان والإنسان بنحو مستمر دون أن يتخلّل في الوسط انفصال وخلاء في الموضوع ثمّ تعرج نحو المعاد.

التناسخ المطلق والعناية الإلهية

1. انّ القائلين بالتناسخ المطلق أطاحوا بالمعاد زعماً منهم بأنّ القول به يغني عن الإيمان بالحياة الأُخرى ، لأنّ غاية المعاد هو الجزاء ، وهو حاصل بالقول بالتناسخ ، ولكن عزب عنهم أنّ الغاية من المعاد لا تنحصر في الجزاء ، بل هو ضرورة في عالم التكوين لإيصال كلّ موجود إلى كماله المطلوب ، وهذا لا يحصل إلاّ بانتقال الإنسان إلى النشأة الأُخرى. وقد أقمنا براهينه الستة في صدر الكتاب.

2. انّ النفس على القول بالتناسخ المطلق ( أي انتقال النفس من بدن إلى بدن ) لا تخلو إمّا أن تكون عرضاً منطبعة في البدن الأوّل قائمة به ، أو تكون جوهراً ، لها حظ من التجرّد ، وإن كان لها علقة بالمادة.

ففي الصورة الأُولى يلزم انتقال العرض من موضوع إلى موضوع ، وهو أمر محال ، لأنّ واقع العرض عبارة عن قيامه بالموضوع ، وهذا لا ينفك عنه أبداً ، فهناك أُمور ثلاثة :

أ. النفس في البدن الأوّل.

ب. النفس حالة الانتقال من البدن الأوّل إلى الثاني.

ج. النفس بعد الانتقال إلى البدن الثاني.

ص: 147

لا غبار في الأوّل والثالث لقيام العرض في موضوعه.

إنّما الكلام في واقع العرض حال الانتقال فيلزم في هذه الحال قيام العرض بلا موضوع ، وهو من الاستحالة بمكان.

وأمّا في الصورة الثانية ، أعني : تعلّق النفس التي لها حظ من التجرّد ، بالبدن استمراراً ، وهذا أيضاً محال ، لأنّه يلزم أن لا يصل الموجود القابل ، إلى كماله مع أنّ له قابلية الوصول ، لأنّ النفس مجرّدة ذاتاً ومادية فعلاً ، فلو كان تعلّقها بالمادة دائمياً يلزم أن يكون فعله سبحانه على خلاف عنايته من إيصال كلّ موجود إلى كماله.

يقول صدر المتألّهين في بيان الشقين : إنّ النفس إمّا أن تكون منطبعة في الأبدان ، أو مجرّدة ، وكلاهما محال ، أمّا الأوّل فلما عرفت من استحالة انطباع النفوس الإنسانية ، ومع استحالته مناف لمذهبهم أيضاً لامتناع انتقال المنطبعات صوراً كانت أو اعراضاً من محلّ إلى محل آخر مبائن للأوّل.

وأمّا الثاني فانّ العناية الإلهية تأبى ذلك ، لأنّها مقتضية لإيصال كلّ موجود إلى غايته وكماله ، وكمال النفس المجردة إمّا العلمي فبصيرورتها عقلاً مستفاداً فيها صور جميع الموجودات ، وإمّا العملي فبانقطاعها عن هذه التعلّقات وتخليتها عن رذائل الأخلاق ومساوئ الأعمال ، وصفاء مرآتها عن الكدورات ، فلو كانت دائمة التردد في الأجساد من غير خلاص إلى النشأة الأُخرى ولا اتصال إلى ملكوت ربّنا الأعلى كانت ممنوعة عن كمالها اللائق بها أبد الدهر والعناية تأبى ذلك. (1)

وما ذكره قدس سره في الفرض الثاني لا يخلو عن مناقشة ، لأنّ تعلّق النفس بالبدن لا يكون مانعاً عن سيرها وصعودها نحو الكمال ، وإلاّ يلزم أن يكون تعلّق النفس بالبدن في النشأة الأُخرى مانعاً عن سيرها التكاملي ، مع أنّك عرفت تضافر الآيات

ص: 148


1- الأسفار : 9 / 7.

على جسمانية الحشر.

والحقّ في الجواب أن يقال : إنّ القول بالتناسخ المستمر حتى فيما إذا كانت النفس جوهراً مجرداً يلزم نفي الحشر والمعاد ، وقد عرفت تضافر الأدلّة على ضرورته وانّه من لوازم الخلقة وغاياتها ولا يمكن إخلاء الكون عن تلك الغاية.

هذا كلّه حول التناسخ المستمر المطلق. وإليك البحث في القسمين الآخرين ، أعني : التناسخ النزولي والتناسخ الصعودي.

المعاد والتناسخ النزولي

قد تقدّم أنّ الكاملين في العلم والعمل عند أصحاب هذا القول يلتحقون بالمفارقات والمجردات ولا يعودون إلى الدنيا ، وإنّما ترجع الطائفة التي لم تنل من العلم والعمل نصيباً وافراً عن طريق التعلق بالخليّة النباتية أو الحيوانية أو النطفة الإنسانية.

قال في شرح حكمة الإشراق : النور الاسفهبد إذا فارق البدن الإنساني ولم يكتسب فيه الكمالات العقلية والهيئات الخلقية الفاضلة ، بل اكتسب فيه أضداد ذلك من الجهالات المركبة ، والأخلاق المذمومة ، فلا يشتاق إلى المبادئ النورانية والأُمور العقلية بل شوقه إلى ما تمكن فيه من الهيئات الظلمانية والآثار الجسمانية فينجذب لذلك بعد الموت إلى بعض الحيوانات المنتكسة الرؤوس التي أخلاقها مناسبة لتلك الهيئات الرديئة البدنية المتمكنة في ذاته. (1)

والتناسخ بهذا المعنى غير صحيح ، لأنّ النفس الإنسانية في هذه النشأة إذا مكثت أربعين سنة مرافقة للبدن فسوف تكتسب فعليات ويتحول استعدادها إلى كمالات ، وعندئذ فلو تعلّقت بخلية من الخلايا الثلاث فإمّا أن تتعلّق بها مع حفظ

ص: 149


1- شرح حكمة الإشراق : 522.

كمالاتها وفعلياتها ، أو تتعلّق بحذفها وسلبها عن نفسها.

أمّا الصورة الأُولى فهي غير معقولة ، لأنّه يشترط في تدبير النفس للبدن وجود الانسجام الكامل بينهما وهو مفقود في النفس التي رافقت البدن طيلة 40 سنة وتعلّقت بخلية ليس لها من الفعلية سوى كونها قوة للكمال ، فكيف تكون تلك النفس مدبرة لها ؟

وأمّا الصورة الثانية : فهي أيضاً كالصورة الأُولى ، لأنّ سلب تلك الكمالات رهن عامل داخلي أو خارجي ، أمّا الداخلي فهو غير ممكن إذ معنى ذلك انّ الحركة من الكمال إلى النقص خصيصة الشيء وهو غير متصوّر.

وأمّا الخارجي فهو أيضاً كالأوّل ، لأنّ عنايته سبحانه تعلّقت بإرسال القوى إلى الكمال وإيصال كلّ ممكن إلى غايته المنشودة ، لا سلب الكمالات والفعليات عنه.

وهذا هو الذي أشار إليه صدر المتألّهين في كلام مبسّط وما ذكرناه هو حصيلة مراده ، حيث قال : العمدة في بطلان التناسخ على جهة النزول ، أنّ الموجودات الصورية كالطبائع والنفوس متوجهة نحو غاياتها الوجودية خارجة عمّا لها من القوة الاستعدادية إلى الفعلية ، والنفس مادامت في بدنها يزيد بجوهرها وفعليتها فيصير شيئاً فشيئاً أقوى وجوداً وأشد تحصلاً سواء أكانت من السعداء في النشأة الأُخرى أو من الأشقياء ، وقوة الوجود يوجب الاستقلال في التجوهر والاستغناء عن المحل أو المتعلّق به حتى يصير المتصل منفصلاً والمقارن مفارقاً ، فكون النفس الإنسانية حين حدوثها في البدن مجردة الذات مادية الفعل ، وعند فساد البدن بحيث صارت مادية الذات والفعل جميعاً ، كما يلزم من كلامهم في نفوس الأشقياء حيث تصير بعد فساد البدن نفساً حيوانية غير مجردة ذاتاً وفعلاً ، كما رأوه ، ممّا يحكم البرهان على فساده ، ويصادمه القول بأنّ للأشياء غايات

ص: 150

ذاتية وانّها بحسب الغايات الزمانية طالبة لكمالاتها مشتاقة بغرائزها إلى غاياتها ، فهذه الحركة الرجوعية في الوجود من الأشد إلى الأنقص ، ومن الأقوى إلى الأضعف بحسب الذات ، ممتنع جدّاً. (1)

التناسخ الصعودي

التناسخ الصعودي عبارة عن تكامل النفس عبْر قنوات النباتية ثمّ الحيوانية ثمّ الإنسانية ، بنحو يكون بينها فصل حقيقي يتخلّله الزمان. ولكن التناسخ بهذه الصورة من الوهن بمكان ، فانّ النفس لا تخلو عن حالتين :

إمّا أن تكون صورة منطبعة في النبات أو الحيوان أو الإنسان ، أو تكون أمراً مجرداً.

فعلى الأوّل ، تكون للنفس هناك حالات ثلاث :

1. وجودها منطبعة في الموضوع المتقدّم.

2. وجودها منطبعة في الموضوع المتأخر.

3. حالة الانتقال من الأوّل إلى الثاني.

والحالتان الأُوليتان لا غبار عليهما ، إنّما الإشكال في الحالة الثالثة لقيام العرض بلا موضوع.

وأمّا إذا كانت النفس موجوداً مجرّداً غير قائم بالبدن وإنّما تحتاج إليه في مقام الفعل والعمل ، فعندئذٍ نقول : كيف يمكن أن تتعلّق النفس الحيوانية بالبدن الإنساني ، لأنّ كمال الأُولى هو كونها ذات قوة شهوية وغضبية غير معدلة ولا محددة وهذا يعد لها كمالاً ، فلو تعلّقت النفس المذكورة بالبدن الإنساني فستكون عائقة عن تكامله ، لأنّ تكامل الإنسان يكمن في أن تكون قواه معدلة وشهوته

ص: 151


1- الأسفار : 9 / 16.

وغضبه محددة ، وأمّا لو تعلّقت به بعد تحديدها وتعديلها فسيكون نقصاً للنفس الحيوانية وسيراً نزوليّاً لها.

وبعبارة أُخرى : إمّا أن تتعلّق النفس الحيوانية بالبدن الإنساني بما لها من التعيّنات والخصوصيات ، فهذا يوجب انحطاط الإنسان ، وإمّا أن تتعلّق به منعزلة عن القوى الحيوانية ، فقد فقدت حيوانيتها وكمالها عندما تعلّقت بالبدن الإنساني.

وعلى كلّ حال فأصحاب ذلك القول أصابوا في المدعى وأخطأوا في التخطيط ، فانّ النفس تمر عبر قنوات النباتية والحيوانية والإنسانية لكن لا بمدارج منفصلة وتعينات مختلفة ، بل النباتية بكمالها لا بحدودها تنقلب إلى الحيوانية ، وهي بكمالها لا بحدودها تصير إنساناً ، كما هو الحال في القول بالحركة الجوهرية ، فانّ المتحرك يتحرك من مرحلة نازلة إلى مرحلة كاملة ، وعندما يصل إليها يحمل كمالات المرحلة الأُولى لا بحدودها ، وهكذا الحال في الإنسان ، فالنفس النباتية بكمالها تتحرك إلى الحيوانية وهي أيضاً بكمالها لا بحدودها تصير إلى الإنسانية.

إلى هنا تمّ ما يرجع إلى التناسخ ، وقد علمت انّ التناسخ بأقسامه الثلاثة باطل ، غير أنّ التناسخ له أقسام مختلفة وأُصول الأقسام ما ذكرنا.

يقول الشهرزوري عند شرحه لحكمة الإشراق : ويسمّون انتقال النفس من البدن الإنساني إلى بدن إنساني آخر « نسخاً » وإلى بدن حيواني « مسخاً » وإلى البدن النباتي « فسخاً » وإلى الجمادي « رسخاً » ، وصاحب أخوان الصفا يميل إلى جواز انتقال النفوس إلى جميع هذه الأجسام مترددة فيها أزماناً طويلة أو قصيرة إلى أن تزول الهيئات الرديئة ثمّ تنتقل منها إلى العالم الفلكي الخيالي. ومن أراد الوقوف على صنوفه الكثيرة فعليه الرجوع إلى شرح حكمة الإشراق. (1)

ص: 152


1- شرح حكمة الإشراق : 519 - 520.

أسئلة وأجوبة

1. هل المسخ في الأُمم السابقة من قسم التناسخ ؟

ربما يطرح هذا السؤال بأنّه إذا كان التناسخ أمراً محالاً فلماذا طرأ المسخ على طائفة من الأُمم السابقة كأصحاب السبت فانقلبوا قردة خاسئين يقول سبحانه : ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ) (1) ؟.

وفي آية أُخرى : ( فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) (2). (3)

والجواب : انّ التناسخ يتقوّم بأمرين :

أ. تعدّد البدن وخروج النفس من بدن إلى بدن آخر ، سواء كان البدن الآخر خلية نباتية ، أو نطفة حيوانية أو إنسانية.

ب. السير النزولي بأن تتقهقر النفس إلى الوراء فتفقد كمالاتها عند تعلّقها بالبدن الآخر.

وكلا الشرطين غير متوفرين في المورد.

أمّا الأوّل : فالبدن هو نفس البدن ، فالممسوخ له بدن واحد ، تبدّلت صورته إلى صورة أُخرى ، وانقلبت صورته البهية إلى صورة رديئة.

ص: 153


1- المائدة : 60.
2- الأعراف : 166.
3- شرح المقاصد : 2 / 40 ، ط آستانة.

وأمّا الثاني : فهو أيضاً كذلك ، أي لم يكن هناك أيُّ سير قهقرايّ للنفس ، وذلك لأنّ الهدف من المسخ هو تعذيبهم وجزاؤهم جزاءً سيّئاً ، ولا يتحقق ذلك إلاّ بتحولهم إلى قردة بعد ان كانوا أُناساً ، وهذا النوع من الإدراك عند التوجه إليه يؤلمهم روحاً ويعذبهم فكراً ، ولذلك يقول سبحانه : ( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ) . (1)

وبكلمة موجزة : انّواقعية المسخ عبارة عن انقلاب الإنسان إلى صورةِ حيوان مع التحفظ على إنسانيته ، وهو غير التناسخ الباطل.

2. هل الرجعة من أقسام التناسخ ؟

الشيعة تعتقد بعودة جماعة - بعد قيام المهدي علیه السلام - إلى هذه النشأة ، قال الشيخ المفيد : إنّ اللّه تعالى يحيي قوماً من أُمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله بعد موتهم ، قبل يوم القيامة ، وهذا مذهب يختص به آل محمّد صلی اللّه علیه و آله . والرجعة إنّما هي لممحضي الإيمان من أهل الملّة وممحضي النفاق منهم دون من سلف من الأُمم الخالية. (2)

وصار ذلك سبباً لصب التُّهَم على الشيعة بأنّهم قائلون بالتناسخ. (3)

والجواب : انّ الرجعة تفارق التناسخ جوهراً وذاتاً ، لما ذكرنا من أنّه يتقوّم بأمرين : تعدّد البدن ، وتراجع النفس عن كمالها إلى النقص ، وكلا الأمرين غير موجودين في الرجعة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الحياة ترجع إلى نفس البدن الذي تركته حين الموت فيتعلّق نفس كلّ إنسان ببدنه.

ص: 154


1- البقرة : 66.
2- المسائل السروية : 32 و 35.
3- فجر الإسلام : 277.

وأين هذا من تعلّق النفس بخلية نباتية أو حيوانية أو إنسانية أو غير ذلك ؟

وأمّا الثاني : فلا تراجع للنفس عن مقامها الشامخ إلى درجة نازلة ، بل هي مع مالها من الفعلية والكمالات تتعلّق بالبدن الذي فارقته حين الموت دون أيِّ تقهقر.

ليت شعري لو كان العود إلى الحياة الدنيوية تناسخاً على وجه الإطلاق ، فبماذا يفسر إحياء الموتى الذي كان يقوم به المسيح علیه السلام يقول سبحانه : ( وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي ) ؟! (1).

نعم هنا سؤال نحيل الإجابة عنه إلى مجال آخر ، وهو انّ الرجوع إلى النشأة الدنيوية لأجل الاستكمال فما هو الوجه لرجوع الصالحين أو الفاسقين إلى الدنيا ، فانّ الطائفة الأُولى انقلبت استعداداتها إلى الفعلية وقد درجوا عامة المنازل والمدارج فلم يبق كمالٌ إلاّ ولجوه ، كما أنّ الطائفة الثانية لا يرجى لهم أن يكتسبوا خيراً ; ومع غياب هذه الغاية فكيف يرجعون إلى الدنيا ؟

وعلى كلّ حال فهذا سؤال نحيل الإجابة عنه إلى مجال آخر.

3. السنّة الإلهية والرجوع إلى الدنيا

ما هي سنّة اللّه من وراء رجوع الإنسان إلى هذه الدنيا ؟ والمراد إعطاء الضابطة الكلية في هذه المسألة.

والمستفاد من القرآن أنّ السنة الإلهية قد جرت على إيصاد كافة أبواب رجوع الإنسان إلى الدنيا وإن التمس الرجوع فيخاطب بالرد والنفي ، يقول سبحانه : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا

ص: 155


1- المائدة : 110.

تَرَكْتُ كَلاًّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) . (1)

ومن العجب انّ هناك من يدّعي بأنّه قادر على جلب الأرواح من عالمها العلوي والارتباط بها فيسألهم عن أحوالهم فربما يجيبون بأنّ أرواحهم في بدن طائر أو نبات والآن في بدن إنسان ، ويبغي من وراء ذلك أن يبث تلك الفكرة بين المسلمين.

نعم هؤلاء يتصلون بالأرواح عن طريق التنويم المغناطيسي ومخاطبة الوسيط النائم بسؤال الأرواح عن واقعهم وماضيهم وأحوالهم ، فربما يجيب النائم ببعض هذه الأجوبة ، ويقول : إنّ الروح الفلانية في هذا العالم في جسم نبات أو حيوان أو إنسان.

ولكن من أين علم بصدق ما جاء على لسان الوسيط وانّه ليس بوحي الشيطان ، ولا قواه الخيالية ؟ إلى غير ذلك من مصادر إلقاء الكلام على لسان الوسيط.

واللّه سبحانه يعصمنا من وساوس الشيطان ومزالق الأقدام.

ص: 156


1- المؤمنون : 99 - 100.

الفصل الثاني عشر : الموت نافذة تطل على الحياة الجديدة

اشارة

إنّ الموت حسب ما يصفه النبي صلی اللّه علیه و آله أوّل منزلٍ من منازل الآخرة وآخر منزل من منازل الدنيا ، فثمة مباحث لها صلة بالموت ، نطرحها في المقام واحداً تلو الآخر.

أ. الموت في اللغة والقرآن.

ب. هل الموت أمر عدمي ؟

ج. الموت سنّة عامة قطعية.

د. خوف الإنسان من الموت.

ه. أقسام الموت في القرآن الكريم.

و. الموت والأجل المحتومان.

ز. التوبة والندامة قُبيل الموت أو حينه.

ح. الوصية حال الموت.

ط. سرّ جهل الناس بآجالهم.

ي. الموت والملائكة الموكّلون

فهذه مباحث عشرة نتناولها بالبحث على ضوء القرآن الكريم.

ص: 157

أ. الموت في اللغة والقرآن

الموت حسب ما يقوله صاحب المقاييس (1) ولسان العرب (2) عبارة عن ذهاب القوّة في الشيء. وبمناسبة هذا المعنى ، استعمل لفظ الموت في موارد كثيرة يظن انّها معاني مختلفة له ، بل الحقّ أنّ المعنى واحد وهذه مصاديق لهذا الجامع ، ولو كانت هناك خصوصيات تميّز كلّ واحد عن الآخر ، فإنّما هي من لوازم تلك المصاديق لا من خصوصيات المعنى.

ولذلك يستعمله القرآن الكريم تارة في الأرض الجرداء القاحلة ويقول : ( وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ ) . (3) وأُخرى في الأصنام الفاقدة للحركة ، ويقول : ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ) . (4) وثالثة في مراحل الخلقة التي يمرّ بها الإنسان قبل ولوج الروح ويقول : ( وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ) . (5) ورابعة في الإنسان المنزوع عنه الروح ، قال سبحانه : ( ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ) . (6) وهذه المراحل تشترك في المعنى الجامع للموت ، وهو ذهاب القوّة عن الشيء ، فيكون اللفظ مشتركاً معنوياً له مصاديق متنوعة.

ب. هل الموت أمر عدمي ؟

إذا كان المراد من الموت هي الحالة العارضة على الإنسان بعد نزع روحه

ص: 158


1- مقاييس اللغة : 5 / 283.
2- لسان العرب : 2 / 90.
3- يس : 33.
4- النحل : 21.
5- البقرة : 28.
6- المؤمنون : 15.

وذهاب قواه فهو أمر عدمي بلا شك ، لأنّ مرجعه إلى فقدان القوى ، وهو أمر غير وجوديّ ، وعلى الرغم من ذلك يمكن تناول الموت من منظار آخر :

1. أخذ القوى والطاقات ، فلا شكّ انّه أمر وجودي ، لأنّه فعل وحركة وإن كانت نتيجته عروض حالة عدمية على الإنسان.

2. الموت لا بما انّه نهاية الحياة الدنيوية بل بما انّه انتقال من مرحلة إلى مرحلة أُخرى ، ومن حياة دانية إلى حياة عالية ، فهو بهذا المعنى ليس أمراً عدميّاً ، قال علي علیه السلام : « أيّها الناس إنّا وإيّاكم خلقنا للبقاء لا للفناء ، لكنّكم من دار إلى دار تنقلون ». (1)

وقال الإمام الحسين سيّد الشهداء علیه السلام لأصحابه يوم عاشوراء عند ما رأى استعدادهم للتضحية والفداء في سبيل الحق وخاطبهم بقوله : « صبراً بني الكرام ، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسع والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟ وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ، انّ أبي حدثني عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : انّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم ، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، ما كذبت ولا كُذبت ». (2)

3. ربما يضاف الموت إلى البدن وأُخرى إلى الروح ، ففي الإضافة الأُولى يكون الموت أمراً عدمياً ، لأنّ البدن يفقد الحركة والانتقال ، ولكنّه في الإضافة الثانية أمر وجودي ، وهو عبارة عن انتقاله من عالم إلى آخر ، ولا يفقد الروح شيئاً ، ولأجل ذلك نرى أنّ الموت أُضيف في القرآن إلى البدن دائماً لا إلى الروح.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ القرآن يعدّ الموت مخلوقاً لله كالحياة ويقول :

ص: 159


1- الإرشاد للمفيد : 127.
2- البحار : 6 / 154.

( الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ ) (1) ، والخلق والجعل لا يتعلّق بأمر عدمي وإنّما أُضيف إليه باعتبار بعض المعاني التي ذكرنا أنّ الموت فيها أمر وجودي.

وهناك وجه آخر لبيان تعلّق الجعل بالموت ، وهو أنّ الموت عبارة عن تقدير الحياة في النشأة الأُولى ، ونفس التقدير أمر وجودي ، قال سبحانه : ( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) . (2)

وأمّا تذييل الآية بقوله : ( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) لغرض بيان أنّ موت الإنسان ليس معلولاً لقدرة أُخرى حتى تسبق قدرةَ اللّه سبحانه ، وإنّما ذلك سنّة إلهية جارية في الأحياء ، فلم يُكتب على حيّ في هذه النشأة الخلود والدوام.

ج. الموت سنّة عامة قطعية

أثبتت العلوم الحديثة أنّ الكون يسير باتجاه موت حراري وشيخوخة يصطلح عليها في الفيزياء بالانتروبي.

يقول الدكتور « فرانك الن » : إنّ قوانين الديناميكا الحرارية تدل على أنّ مكوِّنات هذا العالم تفقد حرارتها تدريجياً ، وانّها سائرة حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة البالغة الانخفاض هي الصفر المطلق ، ويومئذ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة ، ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت.

أمّا الشمس المستقرة والنجوم المتوهّجة والأرض الغنية بأنواع الحياة فكلّها دليل واضح على أنّ أصل الكون وأساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معيّنة فهو

ص: 160


1- الملك : 2.
2- الواقعة : 60.

أيضاً حدث من الأحداث. (1)

ويقول الدكتور « دونالد روبرت كار » : إنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليّاً ولو كان كذلك لما بقيت فيه أيّ عناصر إشعاعية. ويتفق هذا الرأي مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية. (2)

أقول : إنّ هذا الأصل يثبت لنا أمرين :

الأوّل : حدوث المادة وكونها مسبوقة بالعدم كما أفاده الدكتور « دونالد » ، إذ لو كانت قديمة بلا أوّل لنفدت طاقاتها عبر القرون غير المتناهية ، لأنّ صرف القوى المحدودة في زمان غير محدود ينتهي إلى نفاد القوى وعدم بقاء شيء منها ، فإذا رأينا بقاء المادة ونشاطها وتفجّر طاقاتها ، ننتقل إلى أنّها مسبوقة بالعدم ، وانّها وجدت في ظروف محدودة بنحو نفدت بعض طاقاتها.

الثاني : تقويض أُسس النظام السائد تحت غطاء نفاد الطاقات وتساوي الأجسام من حيث الفعل والانفعال والحرارة والبرودة ، والإنسان جزء من هذا النظام السائد فهو أيضاً مكتوب عليه الموت.

إنّ العلم الحديث وإن بادر إلى مكافحة الموت وبذل الحياة للإنسان كي يعمّر طويلاً إلاّ أنّ هذه المبادرة باءت بالفشل فلم يمكنه أن يهب للإنسان الحياة الخالدة لأنّه سيواجه الموت مهما عمّر ، لأنّ الموت سنّة إلهية قطعية ، وإلى ذلك تشير الآيات والروايات :

1. ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ) . (3)

2. ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ) . (4)

3. ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ ) . (5) .

ص: 161


1- اللّه يتجلى في عصر العلم : 27 و 85.
2- اللّه يتجلى في عصر العلم : 27 و 85.
3- النساء : 78.
4- آل عمران : 185.
5- الأنبياء : 34.

وفي الأحاديث ما يدعم ذلك.

قال الإمام علي علیه السلام : « فلو انّ أحداً يجد إلى البقاء سُلّماً أو لدفع الموت سبيلاً ، لكان ذلك سليمان بن داود علیهماالسلام الذي سُخّر له ملك الجن والإنس ». (1)

ويقول أيضاً في موضع آخر :« إنّ لله ملكاً ينادي في كلّ يوم : لِدُوا للموت ». (2)

د. خوف الإنسان من الموت

للإنسان حسب فطرته ، رغبة في الاستمرار في الحياة ، وهذا ممّا لا ينبغي الشكّ فيه ، لأنّ الرغبة إلى الحياة أمر جبلي ، ولعلها دليل على أنّ بعد الموت حياة أُخرى فيها تتحقق أُمنيّة الإنسان ولولاها لكانت تلك الرغبة في خلقته أمراً عبثاً سدىً.

والفلاسفة يستدلّون بوجود الرغبة في الحياة على وجود المرغوب إليه في الخارج.

بيد أنّ الناس أمام الموت على صنفين :

فصنف يتصوّر أنّ الموت نهاية الحياة ، ولذلك كلّ ما يسمع لفظة الموت يأخذه الحزن والأسى ويتجسّد الموت أمامهم كأنّه غول ذو مخالب فتّاكة يريد أن يبطش بهم.

وآخر ممّن لا يستوحش من الموت ولا من سماعه ، لأنّه هو الذي وقف على حقيقة الحياة الدنيا ، وأنّ الموت ليس إلاّ قنطرة إلى الحياة الأُخرى ، ولذلك يستقبل الموت برحابة صدر ووجه مستبشر.

ص: 162


1- نهج البلاغة : الخطبة 182.
2- نهج البلاغة : من كلماته القصار ، برقم 132.

ثمّ إنّ الأسباب الكامنة من وراء الخوف من الموت أمران :

الأوّل : كون الموت خاتمة المطاف.

الثاني : الإيمان بالحشر والجزاء ، وانّ الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.

إنّ القرآن الكريم يصف حالة اليهود ويؤكد على أنّ خوفهم من الموت نجم من جرّاء الأمر الثاني ، ويقول : ( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (1) ، ويقول في سورة أُخرى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) . (2)

وقد أشير في بعض الروايات إلى سبب الخوف من الموت.

روى السكوني عن الإمام الصادق علیه السلام ، عن أبيه علیه السلام انّه قال : أتى النبي رجل فقال : مالي لا أحب الموت ؟ فقال له صلی اللّه علیه و آله : « ألك مال ؟ » قال : نعم. قال : « فقدمته ؟ » ، قال : لا. فقال صلی اللّه علیه و آله : « فمن ثمّ لا تحب الموت ». (3)

وقد أشار الإمام في خطبه وكلمه إلى الأسباب الداعية إلى كراهة الموت ، يقول علیه السلام : « واعلموا أنّه ليس شيء إلاّ ويكاد صاحبه يشبع منه ويملّه إلاّ الحياة فانّه لا يجد في الموت راحة ». (4)

وقال علیه السلام : « ولا تكن ممّن يكره الموت لكثرة ذنوبه ». (5) .

ص: 163


1- البقرة : 94 - 95.
2- الجمعة : 6 - 7.
3- البحار : 6 / 127.
4- نهج البلاغة : الخطبة 129 ، ط عبده.
5- نهج البلاغة : قسم الحكم برقم 150.

وقال رجل للحسن بن علي علیهماالسلام : ما لنا نكره الموت ولا نحبّه ؟ فقال : « إنّكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم ، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب ». (1)

قيل للإمام محمد بن علي بن موسى علیهم السلام : ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت ؟ قال : « لأنّهم جهلوه فكرهوه ، ولو عرفوه وكانوا من أولياء اللّه عزّوجلّ لأحبّوه ولعلموا أنّ الآخرة خير لهم من الدنيا ». (2)

والرواية تشير إلى السبب الأوّل وهو الجهل بحقيقة الموت وانّه انتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الأُخرى ، ولذلك نرى أنّ علياً علیه السلام يشتاق إلى الموت ويتحنّن إليه ، ويقول : « واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمّه ». (3)

وفي خطبة أُخرى يقول علیه السلام : « فواللّه ما أُبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ ». (4)

هذه من خصائص الأولياء وميزاتهم ، حيث يستقبلون الموت بصدر رحب لأنّهم يرون الموت قنطرة من الحياة الدنيا إلى حياة طيبة ، يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) . (5)

ص: 164


1- البحار : 6 / 129.
2- معاني الأخبار : 209.
3- نهج البلاغة : الخطبة 5.
4- نهج البلاغة : الخطبة 55.
5- الأنبياء : 101 - 103.

ه. أقسام الموت في القرآن الكريم

اشارة

إذا كان الموت انتقالاً من دار إلى دار ومن حياة ضيقة إلى حياة واسعة ، فطبيعة الحال تقتضي أن لا يكون أمراً يسيراً بل يتزامن مع العسر والحرج ، وهذا نظير انتقال الجنين من رحم الأُمّ الضيّق إلى الدنيا الواسعة ويتزامن هذا الانتقال مع العسر.

نعم هذا العسر يكون مقدمة لحياة جديدة مرافقة لليسر.

وقد أشار الإمام الثامن علیه السلام إلى المواقف التي يشهدها الإنسان مع الخوف والوجل :

1. الولادة 2. الموت 3. البعث.

ولأجل المواقف العسيرة التي يواجهها الإنسان في هذه الأدوار الثلاثة نجد أنّ اللّه سبحانه وعد يحيى علیه السلام بالسلامة من كلّ مكروه في هذه المواقف ، قال سبحانه : ( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) . (1)

إذا عرفت ذلك فلنشرح أقسام الموت :

1. الموت العسير واليسير

إنّ حقيقة الموت ترجع - في الواقع - إلى نزع الروح من البدن مرفقاً بعسر وحرج وضيق عند قاطبة الناس ويشتد خاصة عند من يواجه الموت مقترفاً للذنوب يقول سبحانه : ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) . (2)

ص: 165


1- مريم : 15.
2- ق : 19.

وفي آية أُخرى : ( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) . (1)

وفي مقابل هؤلاء المؤمنون المطيعون لأوامر ربّهم ونواهيه فهم يقابلون بالسلام ، يقول سبحانه : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ) . (2)

وفي آية ثانية يخاطب سبحانه النفس المطمئنّة ، بقوله : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) . (3)

وهذا التقسيم الذي تبنّاه الكتاب الإلهي من تقسيم الناس حين الموت إلى من يبشر بالسوء والخير ، شائع في روايات أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

يقول الإمام الحسن علیه السلام : « أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد ». (4)

وقال الإمام علي بن الحسين علیهماالسلام : « الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفك قيود وأغلال ثقيلة ، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب وآنس المنازل ; وللكافر كخلع ثياب فاخرة ، والنقل عن منازل أنيسة ، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها ، وأوحش المنازل وأعظم العذاب ». (5)

إلى غير ذلك من الروايات.

ص: 166


1- محمد : 27.
2- النحل : 32.
3- الفجر : 27 - 28.
4- البحار : 6 / 154.
5- البحار : 6 / 155.
2. موت البدن والقلب

قد ينسب الموت إلى البدن ، وأُخرى إلى القلب ، فإذا انقطعت علاقة الروح بالبدن فهذا موت البدن ، ولكن إذا كانت العلاقة موجودة ولكن الإنسان بلغ من التفكير والتعقّل درجة نازلة تلحقه بميت الأحياء ، ولذلك يعد سبحانه الفئة المعاندة للإسلام أمواتاً ، ويقول : ( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (1) ، وقد ورد هذا المضمون في آيات أُخرى من الذكر الحكيم.

ويقول سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) . (2)

والمراد من « الميت » هو ميت القلب الغافل عن الحقائق والمعارف ، فإذا أشرق نور الإسلام على قلبه صار حيّاً بحياة معنوية يمشي بنوره بين الناس ، فليس هو كمن بقي في الظلمات ولا يستطيع الخروج منها.

ومن لطائف الكلام ما نلمسه في خطب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام حيث يصف حياة المتخلفين عن الجهاد أمام أعدائهم موتاً ، كما يصف الشهادة في ميادين الجهاد حياة ، ويقول علیه السلام : « فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين ». (3)

لأنّ الحياة المعنوية رهن آثار وأهمها الدفاع عن كيان الدين ودفع عادية المعتدين ، فالطائفة الأُولى فقدوا هذه الخصيصة فكأنّهم ليسوا بأحياء بل أمواتٌ ، بيد أنّ تلك الخصيصة متوفرة عند الطائفة الثانية فهم وإن ضُرّجوا بدمائهم في

ص: 167


1- الروم : 52.
2- الأنعام : 122.
3- نهج البلاغة : الخطبة 51.

ساحات الوغى ولكنّهم دافعوا عن كيان الإسلام فصانوا دينهم وديارهم ونواميسهم.

ونظير ذلك تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي استولت الأنانية عليه وغفل عن الآخرين فهو حيّ ظاهراً وميت حقيقةً ، إذ لا يشعر بأي مسؤولية حيال إزالة المفاسد الاجتماعية التي تهدِّد المجتمع.

يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء ». (1)

ويقول أيضاً فيمن يهتمُّ بحياة البدن دون القلب : « يرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم وهم أشدّ إعظاماً لموت قلوب أحيائهم ». (2)

3. موت الإنسان والمجتمع
اشارة

يصف علماء الاجتماع المجتمع تارة بالطفولة ، وأُخرى بالريعان والنضج ، وثالثة بالانحطاط والهرم وفقاً للحالات الطارئة على الإنسان من طفولة إلى ريعان الشباب ثمّ الشيخوخة والهرم.

فالإنسان في مرحلة الطفولة تكمن فيه استعدادات وقابليات مختلفة ، فإذا اجتاز تلك المرحلة تتفجر طاقاته الكامنة رويداً رويداً حتى يبلغ مرحلة الشباب ثمّ يجتاز تلك المرحلة إلى مرحلة الشيخوخة فتنهار قواه وتأخذ بالضعف ، وهكذا المجتمع.

وهناك تقسيم آخر وهو :

إنّ الإنسان من حين ولادته إلى أن يبلغ مرحلة شبابه تتكامل شخصيته

ص: 168


1- نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 374.
2- نهج البلاغة : الخطبة 230.

شيئاً فشيئاً ، فإذا اشتدّت قواه ، يبدأ باستغلالها بغية نيل الأموال والمناصب وغيرها ، وكلّما تقدم في العمر يزداد حرصاً وطمعاً فإذا اجتاز تلك المرحلة ودخل مرحلة الهرم فيشرع بحفظ ما جمعه وبلغت إليه يده من الأموال والثروات إلى أن يبلغ أجله.

فالمرحلة الأُولى : مرحلة التكوين ، والثانية : مرحلة الهجوم ، والثالثة : مرحلة التدافع ; والرابعة : مرحلة الانقراض ، وهكذا المجتمع في مراحله الأربع.

فالحضارات الإنسانية ، مرَّت بتلك المراحل إلى أن اضمحلّت واندثرت.

يقول سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (1) فيعد للأُمة حياةً وأجلاً.

عوامل أُفول الحضارات

إنّ بزوغ نجم الحضارات وأُفولها من السنن القطعية الإلهية فلا تدوم حضارة عبر القرون والدهور بل تتبعها حضارة أُخرى وهكذا.

نعم هذا البزوغ والأُفول رهن عوامل داخلية وخارجية وليس أمراً اعتباطياً ، يقول سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) . (2)

إنّ اضمحلال الحضارة واندثارها ناجم عن عوامل كثيرة أهمها تفشي الظلم في المجتمعات وغياب العدالة الاجتماعية في حياتها ، وهذا بمرور الزمان يستفحل شيئاً فشيئاً حتى يصل مرحلة لا يطيقها المجتمع فيؤول إلى عصيان عام

ص: 169


1- الأعراف : 34.
2- الأعراف : 96.

يؤدي إلى سقوط الحضارة ، يقول سبحانه : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) (1) ، ويقول في آية أُخرى : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) . (2)

فقد عدّت الآية الأُولى والثانية الظلم والفسق وارتكاب الذنوب من أسباب انهيار الحضارات وزوالها ، ووجهه واضح ، لأنّ الفسق والزنا وأكل الأموال بالباطل والغش والسرقة ، طغيانٌ على الفطرة السليمة وخروجٌ عليها ، ومعه تنفصم عرى الحضارة الإنسانية. فضلاً عن بثِّ العداوة والبغضاء في القلوب.

نعم هناك ذنوب تترك آثاراً سلبية في المجتمع ، وإن لم نقف على الصلة بينها ، فقد ورد في الحديث : انّه إذا كثر الزنا ، كثر موت الفجأة. وهناك صلة بين الأمرين وإن لم تثبته العلوم الحديثة.

وأمّا تأثير الظلم وبعض الذنوب التي تخالف الفطرة كالزنا واللواط وجمع الأموال بالباطل فهو واضح حسب المعايير الاجتماعية كما ذكرناه.

4. الموت المشرّف

إنّ بعض أنواع الموت يعد مشرّفاً في حدّ ذاته ، وهذا كالموت في سبيل طلب العلم وإقامة العدل وغير ذلك من الأهداف السامية ، ولذلك يعد سبحانه هؤلاء أحياءً لا أمواتاً ويقول : ( وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) . (3)

ص: 170


1- هود : 117.
2- الإسراء : 16 - 17.
3- البقرة : 154.

كما أنّه سبحانه يعد من مات في سبيل العلم مجاهداً مأجوراً عند اللّه ، يقول سبحانه : ( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّهِ ) . (1)

و. الموت والأجل المحتوم

القرآن الكريم يقسّم الأجل إلى أجل مطلق وأجل مسمّى ، ويقول : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) . (2)

كما أنّه يصرّح بأنّ للشمس والقمر أجلاً مسمّى ، يقول : ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (3). إلى غير ذلك من الآيات الناصة على الأجل المطلق والمسمّى.

وقد بسط المفسرون الكلام في تفسير الأجلين ، ولكن الذي نفهمه من الآيات هو أنّه سبحانه جعل لكلّ شيء أجلاً طبيعياً بمعنى قابليته لأن ينتهي إليه ، ولكن ربّما تعوق المعوِّقات عن بلوغ ذلك الأمد ، وهذا كالإنسان فله استعداد أن يحيى 120 سنة ولكن الظروف البيئية ربما تحول دون ذلك ، فالمقدّر لكلّ شيء حسب طبيعته هو الأجل المطلق وأمّا ما ينتهي إليه مصير الشيء ، فهو يختلف ، فتارة ينقص عن الأجل المطلق لأجل عوائق تحول بينه وبين الأجل المطلق ، وأُخرى يجتازه ويعمر أكثر من العمر الطبيعي لأجل توفّر عوامل بيئية ونفسية مناسبة.

وهذا التقسيم أيضاً جار في الصنائع ، فلكلّ مصنوع عمر محدد مفيد ، ولكنّه

ص: 171


1- النساء : 100.
2- الأنعام : 2.
3- فاطر : 13.

ربّما يواجه ظروفاً وعوامل خاصّة تنقص من ذلك العمر المفيد ، كما أنّه ربما يجتازه لأجل رعاية الأساليب الفنية في استخدام ذلك المصنوع.

ز. التوبة والندامة قبيل الموت أو حينه

الموت يلازم رفع الحجب المادية عن البصر ، فيرى الإنسان المحتضر مصيره بأُمِّ عينيه ، فالصالحون يرون روحاً وريحاناً وحياة فيستقبلون الموت بوجوه مشرقة وصدور رحبة ، وأمّا الظالمون المستكبرون فيلمسون حياة مريرة تعانق الآلام والنيران فيحاولون جهد إمكانهم أن يدّاركوا ما اقترفوه من الآثام بالتوبة والندامة ليتخلّصوا بذلك من العذاب الأليم ، ولات حين مناص ، فلا تنفع الندامة لأنّ الهدف من التوبة هو طهارة الروح من أدران المعصية والآثام وهذه الأمنية رهن صدور التوبة عن اختياره ورغبته إلى الطهارة ، وهذا غير متحقق في حال الاحتضار ، لأنّه يتوب ويندم بلا اختيار.

وبعبارة أُخرى : التائب إنّما تقبل توبته إذا كان أمامه طريقان فينتخب الطريق الحقّ باختياره ، وهذا إنّما يتيسر له ذلك في ثنايا حياته لا في حال الاحتضار الذي يسلب عنه اختياره ، ولذلك يقول سبحانه : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ) (1) وفي آية أُخرى : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاًّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) . (2)

إنّ فرعون مصر لما كاد أن يغرق ، ورأى مصيره المرير حاول أن يتوب ويظهر إيمانه بربّ موسى ولكنّه جُوبه بالرفض والاستنكار ، قال سبحانه : ( حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ

ص: 172


1- النساء : 18.
2- المؤمنون : 99 - 100.

الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) . (1)

وليست هذه خصيصة فرعون فحسب ، بل الأُمم الغابرة الغارقة في الفساد حاولوا ردّ العذاب بالتوبة بعدما نالوا من الأنبياء والمصلحين وسخروا منهم فلم تغن عنهم توبتهم في شيء قال سبحانه : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) . (2)

والإمام أمير المؤمنين علیه السلام يصف بعض الظالمين الذين يواجهون أنواع العذاب حين الموت ويقول : « فهو يعضُّ يده ندامة على ما أضمر له عند الموت من أمره ». (3)

وقد علم من كلّ ذلك أنّ رفض توبة الإنسان في تلك الحالة لا يدل على عدم سعة رحمته ، لما عرفت من أنّ قبول التوبة فرع سموِّ الإنسان عن اقتراف الذنوب الذي يلازم الاختيار ، وهذا غير متحقّق حين الموت.

ح. الوصية في حال الموت

يُستحب للإنسان في جميع الأحوال أن يوصي بما عليه من الديون والحقوق لا سيما إذا حضره الموت ، يقول سبحانه : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ ) . (4)

ص: 173


1- يونس : 90 - 91.
2- غافر : 84 - 85.
3- نهج البلاغة : الخطبة 109.
4- البقرة : 180.

ومن الواضح أنّ هذه اللحظة هي آخر ما يتمكن الإنسان من الوصية والأَولى أن يقدّمها على الاحتضار سواء أكان شاباً أم هرماً ، قال علي علیه السلام : « ما ينبغي لامرئ أن يبيت ليلة إلاّ ووصيته تحت رأسه ». (1)

ويستحب أن يشهد على الوصية عدلان ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ المَوْتِ ) . (2)

فالآية ترغِّب إلى شهادة عدلين من المسلمين إذا أمكن ، وإلاّ فليشهد من غير المسلمين من أهل الكتاب كما إذا كان الموصي ضارباً في الأرض ولم يجد من نحلته من يُشهده على وصيته فعليه أن يُشهد من غيرهم ، وما هذا إلاّ لأجل أن يوصد باب الأعذار على ورثة الميت ويقطع دابر الحيل التي ربما تحول دون تنفيذ الوصية.

ط. جهل الإنسان بموته

إنّ حبّ البقاء من الأُمور التي جبل الإنسان عليها ، ولو سلب عنه ذلك الحب لأُطفئت جذوة حياته ، فحبّ البقاء مصباح منير لحياته ، كما أنّ اليأس من الحياة ظلام دامس لها; روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله ، انّه قال : « الأمل رحمة لأُمّتي ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها ، ولا غرس غارس شجرة ». (3)

ولو كان الإنسان مطلعاً على زمان موته ومكانه لاستولى عليه الحزن واليأس قبل أن يموت بسنين ، وربما يموت قبل أجله المقرر ، ولذلك يعد الجهل بزمان موته

ص: 174


1- وسائل الشيعة : 13 ، كتاب الوصايا ، باب 1 ، حديث 7.
2- المائدة : 106.
3- سفينة البحار : مادة أمل.

من علل بقاء حياته ونشاطه ، ولذلك ستر سبحانه علم هذا الموضوع عن الناس إلاّ في موارد خاصة لملاكات كذلك.

على أنّ لهذا الجهل أثراً تربوياً ، فانّ الرجوع إلى اللّه سبحانه والتوبة من المعاصي مع الرجاء بالبقاء أفضل من التوبة والرجوع إليه عند اقتراب أجله وقبل إطفاء مصباح حياته.

نعم ربما يكون الجهل بالموت سبباً للغرور والاغترار حيث إنّ المغتر يزعم انّه سيعيش عمراً طويلاً ، ولكنّه يرى موته أمراً بعيداً ، فيقترف المعاصي في شبابه على أمل أن يتوب منها في هرمه ، ولكنه في الوقت نفسه عامل تربوي للحد من الغرور لأنّه يحتمل أن يكون قد اقترب أجله ويكون هو على مقربة من الموت.

ولهذه الوجوه ستر سبحانه علمه عن الناس وقال : ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) . (1)

ويدل على ذلك ما دلّ من الآيات على أنّ الأجل المسمّى عنده ، وهو يلازم جهل الإنسان بموته لانحصار علمه باللّه سبحانه.

ي. الموت والملائكة الموكّلون

إنّ من مراتب التوحيد حصر التدبير في اللّه سبحانه ، وانّه لا مدبّر إلاّ هو ولو كانت الشمس مشرقة والقمر منيراً وغيرهما من العوامل الطبيعية ذات الآثار الخاصة فإنّما هو بأمره سبحانه ، كما يقول : ( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) . (2)

ص: 175


1- لقمان : 34.
2- الأعراف : 54.

ولكن الإيمان بحصر التدبير في اللّه لا ينافي وجود عوامل أُخرى مؤثرة تدبر الكون ، بأمر من اللّه سبحانه ، فانّ هذا التدبير الظلي التبعي في طول تدبير اللّه سبحانه ، ولأجل ذلك ينسب اللّه تعالى توفّي الأنفس إليه ويقول : ( اللّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (1) ، ولكنّه في الوقت نفسه ينسبه إلى الملائكة تارة وملك الموت أُخرى ، ويقول : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ) (2) ويقول سبحانه : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) . (3)

فهناك فعل واحد نسب إلى فواعل ثلاثة ، تارة إلى اللّه ، وأُخرى إلى الملائكة ، وثالثة إلى ملك الموت ، فالفعل واحد والفواعل متعددة ، لأنّ فعل الجميع هو فعل اللّه سبحانه بالتسبيب.

وترى نظير ذلك في قوله سبحانه : ( وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) (4) حيث ينسب الكتابة إلى اللّه ، وفي آية أُخرى ينسبها إلى الرسل ، ويقول : ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) . (5)

وتتجلّى تلك الحقيقة في الآيات التالية الواردة في الموت والحياة ، يقول سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (6) ، ويقول : ( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ) (7).

ويقول أيضاً : ( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) (8).

ص: 176


1- الزمر : 42.
2- النحل : 28.
3- السجدة : 11.
4- النساء : 81.
5- الزخرف : 80.
6- التوبة : 116.
7- النجم : 44.
8- الواقعة : 60.

إلى غير ذلك من الآيات التي تعد الإماتة والإحياء فعلاً لله سبحانه ، وفي الوقت نفسه تعدّهما فعلاً لغيره ، ويقول : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) . (1)

نعم تجعل بعض الآيات زمام الموت والحياة بيد الملائكة الموكّلين ، وما هذا إلاّ لأنّ عملهم عمله سبحانه.

نعم الذي لا يمكن أن ينكر انّ الذكر الحكيم يركّز على أنّ ما في الكون أثر فعله سبحانه تكريساً للتوحيد في الربوبية.

ص: 177


1- الأنعام : 61.

الفصل الثالث عشر : القبر وعالم البرزخ

اشارة

إذا كانت حالة الاحتضار نهاية النشأة الأُولى وبداية النشأة الثانية ، فالتكفين والصلاة على الميت والتدفين في القبر ، هو المنزل الثاني من النشأة الثانية ، وهو منزل ضيق للغاية ، ولعل الإنسان لا أُنس له بهذا النوع من المنازل ، وتنقطع صلته عن الحياة الدنيويّة إذا وُري جثمانه الثرى ، وهذا أمر ملموس ، يشير إليه قوله سبحانه : ( ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) (1).

ولكن في بطن هذا المنزل من تلك النشأة ، عالم فسيح يحيا فيه الإنسان لا بهذا البدن المقبور ، بل ببدن يناسب تلك النشأة ، وهو البدن المثالي الذي له آثار المادة وإن تجرّد عنها ، وهذا ما يعبر عنه بعالم البرزخ ، وقد صرح به الذكر الحكيم ، يقول تعالى : ( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (2) ، فقوله : ( وَمِن وَرَائِهِم ) بمعنى أمامهم لا بمعنى خلفهم ، بشهادة قوله سبحانه : ( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) . (3)

ص: 178


1- عبس : 21.
2- المؤمنون : 100.
3- الكهف : 79.

والبرزخ بمعنى الحائل والفاصل ، يقول تعالى : ( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ) (1) وإنّما أطلق على هذا النوع من الحياة لفظ البرزخ ، لأجل الفصل بين الحياتين على وجه لا يمكن للإنسان أن يتجاوز الفاصل والحائل ويعود إلى الدنيا.

والآيات الدالة عليه كثيرة.

منها : ما دلّت على تجرّد النفس وبقائها بعد الموت ، وقد مرّ ما يدل على ذلك.

ومنها : ما دلت على حياة الشهداء ، وانّهم في ذلك العالم فرحين مستبشرين بنعم اللّه سبحانه.

ومنها : ما ورد في حقّ آل فرعون ، وانّهم يعرضون على النار غدواً وعشياً ، ويوم القيامة يدخلون النار ، كما ورد نظيره في حقّ قوم نوح علیه السلام وقد مرّت هذه الآيات في فصل تجرد النفس فلاحظ.

وثمّة آيات أُخرى تدل على الحياة البرزخية لم نذكرها فيما سبق.

قال سبحانه : ( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) . (2)

فالآية تحكي عن إماتتين وإحياءين ، فالإماتة الأُولى في النشأة الدنيا ، والإماتة الثانية في عالم البرزخ عند نفخ الصور.

يقول سبحانه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللّهُ ) . (3) فالموت عند نفخ الصور يلازم وجود الحياة قبل النفخ ، وليس هو إلاّ الحياة البرزخية ، وأمّا الإحياءان فالأوّل منهما عبارة عن الحياة

ص: 179


1- الرحمن : 20.
2- غافر : 11.
3- الزمر : 68.

في عالم البرزخ ، والثاني هو الإحياء بعد نفخ الصور. يقول سبحانه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) . (1)

ولأجل إعطاء صورة واضحة عن طبيعة الإماتتين والإحياءين ، نقول :

الإماتة الأُولى عند حلول أجله القطعي.

والإماتة الثانية عند نفخ الصور الأوّل.

والإحياء الأوّل بعد الموت وانتقاله إلى النشأة الأُخرى.

والإحياء الثاني عند نفخ الصور الثاني.

وبهذا يعلم وجود الحياة البرزخية بين النشأة الأُولى وقيام الساعة.

وقد ذكر لهاتين الإماتتين ، وهذين الإحياءين ، وجه آخر ولكن لا ينطبق على ظواهر الآيات.

الحياة البرزخية في الروايات

وقد وردت أحاديث كثيرة في كيفية وطبيعة ذلك العالم نقتصر على هذا الحديث.

روى أبو بصير ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن أرواح المؤمنين ، فقال : « في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويقولون ربّنا أقم لنا الساعة ، وانجز لنا ما وعدتنا » وسألته عن أرواح المشركين ، فقال : « في النار يعذبون ويقولون ربّنا لا تقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا ». (2)

ص: 180


1- يس : 51.
2- بحار الأنوار : 6 / 269 ، الحديث 122 و 126 وما ذكرناه حديث واحد وإن جعله العلاّمة المجلسي حديثين.

السؤال في معنى القبر

يطلق القبر ويراد منه تارة ذلك المكان الضيّق ، وأُخرى ما يعيش فيه الإنسان بالبدن البرزخي في عالم فسيح ، فقد يطلق القبر في الروايات ويراد منه هذا المعنى.

روى الزهري ، عن علي بن الحسين علیهماالسلام ، انّه علیه السلام تلا قوله تعالى : ( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (1) وقال : « هو القبر ، وانّه لهم فيه لمعيشة ضنكا ، واللّه إنّ القبر لروضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ». (2)

روى الكليني ، عن عمرو بن يزيد ، قلت لأبي عبد اللّه : إنّي سمعتك ، وأنت تقول : كلّ شيعتنا في الجنة على ما كان فيهم ، قال : « صدّقتك ، كلّهم واللّه في الجنة » قال : قلت : جعلت فداك انّ الذنوب كثيرة كبائر ، فقال : « أمّا في القيامة فكلّكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع ، أو وصيّ النبيّ ، ولكنّي واللّه أتخوّف عليكم في البرزخ » قلت : وما البرزخ ؟قال : « القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة ». (3)

وعلى ذلك فكلّما أُطلق القبر فهو كناية عن تلك الحياة ، وذلك العالم الفسيح ، والآيات والروايات تشهد على أنّه أمر عام يشمل جميع أفراد الإنسان دون فرق بين من مات حتف أنفه أو افترسه السبع أو غرق في الماء ، ومن تحوّل بدنه إلى تراب فأثارته الرياح ونشرته ، فأكثر هؤلاء لا قبر لهم بالمعنى الملموس ، وإن كان لهم قبر بالمعنى الكنائي.

إذا عرفت معنى القبر في الروايات ، فهنا مسائل ثلاث :

ص: 181


1- المؤمنون : 100.
2- بحار الأنوار : 6 / 159 ، باب سكرات الموت ، الحديث 19.
3- بحار الأنوار : 6 / 267 ، باب أحوال البرزخ والقبر وعذابه وسؤاله ، الحديث 116.

1. السؤال في القبر.

2. ما يسأل عنه.

3. عمّن يسأل.

السؤال في القبر

اشارة

قال الصدوق في رسالة العقائد : اعتقادنا في المسألة في القبر أنّها حقّ لابدّ منها ، فمن أجاب بالصواب ، فإذا بروح وريحان في قبره ، وبجنة نعيم في الآخرة ; ومن لم يأت بالصواب فله نزل من حميم في قبره ، وتصلية جحيم في الآخرة. (1)

وقال الشيخ المفيد : جاءت الآثار الصحيحة عن النبي صلی اللّه علیه و آله ، أنّ الملائكة تنزل على المقبورين فتسألهم على أديانهم ، وألفاظ الأخبار بذلك متقاربة فمنها أنّ ملكين لله تعالى ، يقال لهما ناكر ونكير ينزلان على الميّت فيسألانه عن ربِّه ونبيه ودينه وإمامه ، فإن أجاب بالحقّ سلّموه إلى ملائكة النعيم ، وإن ارتج عليه سلموه إلى ملائكة العذاب. (2)

وقال المحقّق الطوسي : وعذاب القبر واقع للإمكان وتواتر السمع بوقوعه. (3)

والسؤال في القبر والتعذيب والتنعيم من العقائد الإسلامية التي اتّفقت عليها كافّة الفرق الإسلامية.

قال أحمد بن حنبل : وعذاب القبر حقّ يسأل العبد عن دينه ، وعن ربّه ، ويرى مقعده من النار والجنة ، ومنكر ونكير حقّ. (4)

ص: 182


1- البحار : 6 / 279 ، باب أحوال البرزخ.
2- شرح عقائد الصدوق : 45 ، ط تبريز.
3- كشف المراد : المقصد السادس ، المسألة 14.
4- كتاب السنّة لأحمد بن حنبل : 44 - 50.

وقال الإمام الأشعري : ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما المدفونين في قبورهم. (1)

وقال القاضي عبد الجبار - وهو من أعاظم متكلّمي المعتزلة في القرن الخامس - : لا خلاف فيه بين الأُمّة ، إلاّ شيء يحكى عن ضرار بن عمرو ، وكان من أصحاب المعتزلة ، ثمّ التحق بالمجبرة ، ولهذا ترى ابن الراوندي يشنع علينا ، ويقول : إنّ المعتزلة ينكرون عذاب القبر ولا يقرّون به. (2)

وهذا النوع من الاعتقاد العام رهن روايات وردت في القبر وسؤاله وعذابه ، والروايات في هذا الباب متضافرة بل متواترة ، ولكن ليس فيها أيّ إشارة إلى أنّ المسؤول هو البدن العنصري ، ولذلك قلنا إنّ المسؤول هو البدن البرزخي فلا مناص من إرجاع السؤال والعذاب والروح والريحان إلى البدن البرزخي.

نعم ربما يعبر عنه بالقالب المثالي ، وهذا هو الإمام الصادق علیه السلام يصف البدن ، يقول أبو ولاّد الحناط : قلت له : جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش ، فقال : « لا ، المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، لكن في أبدان كأبدانهم ». (3)

وفي رواية أُخرى عنه علیه السلام : « فإذا قبضه اللّه عزّوجلّ صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا ». (4)

نعم ربما يستفاد من بعض الروايات أنّ المسؤول والمعذَّب والمنعّم هو هذا

ص: 183


1- مقالات الإسلاميين : 320 - 325.
2- شرح الأُصول الخمسة : 730.
3- البحار : 6 / 268 ، باب أحوال البرزخ الحديث 119.
4- البحار : 6 / 270 ، باب أحوال البرزخ ، الحديث 124.

البدن العنصري ، في ذلك المكان الضيق إلاّ انّ تأويلها أفضل من الاعتماد عليها. (1)

إلى هنا اتضحت الأُمور الثلاثة التالية :

1. المراد من القبر هو عالم البرزخ.

2. انّ السؤال والتعذيب والتنعيم أمر متفق عليه بين المذاهب الإسلامية.

3. انّ المسؤول هو البدن المثالي.

نعم بقي هناك أمران وهما :

1. الأُمور التي يسأل عنها.

2. المسؤولون في البرزخ. وإليك البحث عن هذين الأمرين.

1. الأُمور التي يسأل عنها

لقد تكفّلت الأخبار بتحديد الأُمور التي يسأل عنها.

فقد روى زر بن حبيش الأسدي الكوفي ( وهو من أصحاب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ) قال : سمعت عليّاً ، يقول : « إنّ العبد إذا أُدخل حفرته أتاه ملكان اسمهما منكر ونكير ، فأوّل ما يسألانه عن ربّه ، ثمّ عن نبيه ، ثمّ عن وليّه ، فإن أجاب نجا ، وإن عجز عذباه » فقال له رجل : ما لمن عرف ربّه ونبيه ولم يعرف وليّه ؟

فقال : « مذبذب (2) ، لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، ومن يضلل فلن تجد له سبيلاً ذلك لا سبيل له ». (3)

ص: 184


1- لاحظ البحار : 6 / 222 - 226 ، باب أحوال البرزخ ، الحديث 22 و 26.
2- متحير ومتردد بين أمرين.
3- البحار : 6 / 233 ، باب أحوال البرزخ ، الحديث 46.

وروى سعيد بن المسيب ، قال : كان علي بن الحسين علیهماالسلام يعظ الناس ويزهدهم في الدنيا ويرغّبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كلّ جمعة في مسجد الرسول صلی اللّه علیه و آله وحفظ عنه وكتب ، كان يقول : « أيّها الناس اتّقوا اللّه ، واعلموا أنّكم إليه ترجعون ، فتجد كلّ نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير محضراً ، وما عملت من سوء تود لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً ، ويحذركم اللّه نفسه ، ويحك ابن آدم ، الغافل ، وليس بمغفول عنه.

ابن آدم انّ أجلك أسرع شيء إليك ، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ويوشك ان يدركك ، وكأن قد أُوفيتَ أجلك وقبض الملك روحك ، وصرتَ إلى منزل وحيداً فرد إليك فيه روحك ، واقتحم عليك فيه ملكاك : منكراً ونكيراً ، لمساءلتك وشديد امتحانك ، ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الذي كنت تعبده ، وعن نبيِّك الذي أُرسل إليك ، وعن دينك الذي كنت تدين به ، وعن كتابك الذي كنت تتلوه ، وعن إمامك الذي كنت تتولاّه ، ثمّ عن عمرك فيما أفنيته ؟ ومالك من أين اكتسبته وفيما أتلفته ؟ فخذ حذرك وانظر لنفسك ». (1)

2. المسؤولون في البرزخ

أمّا المسؤولون في البرزخ فتحديدهم رهن نقل الأخبار والروايات :

1. روى أبو بكر الحضرمي ، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال : « لا يُسأل في القبر إلاّ من محضّ الإيمان محضاً ، أو محض الكفر محضاً » فقلت له : فسائر الناس ؟ فقال : « يلهى عنهم ». (2)

2. روى محمد بن مسلم ، قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « لا يسأل في القبر إلاّ

ص: 185


1- البحار : 6 / 223 ، باب أحوال البرزخ ، الحديث 24.
2- البحار : 6 / 235 ، باب أحوال البرزخ ، الحديث 52.

من محض الإيمان محضاً ، أو محض الكفر محضاً ». (1)

إلى هنا تمّ ما أردنا ذكره في هذا المقام ممّا يرجع إلى عالم البرزخ ، وهناك بحوث شيقة لها صلة به نطوي الكلام عنها بغية الاختصار.

وليعلم أنّ تعلّق النفس بالبدن البرزخي ليس هو من التناسخ بشيء ، لما عرفت من أنّه عبارة عن تعلّق النفس بعد كمالها ، ببدن آخر ، ولكن البدن المثالي ليس بدناً آخر ، بل هو عينه ولكن ألطف منه. .

ص: 186


1- البحار : 6 / 260 ، باب أحوال البرزخ ، الحديث 100.

الفصل الرابع عشر : أشراط الساعة

اشارة

تطلق أشراط الساعة ويراد منها علائم القيامة ، ثمّ إنّ أشراط الساعة على قسمين :

1. الحوادث التي تتحقق قبل القيامة ، وأهمها تقويض أركان النظام السائد في الكون.

2. الحوادث التي ترافق اختلال النظام وانهياره ، ويعبر عنها بمشاهد القيامة.

وإليك البحث في كلا القسمين ضمن فصلين :

إنّ الذكر الحكيم يذكر بعض أشراط الساعة في مجموعة من الآيات لا تتجاوز عن سبع :

1. ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ) . (1)

الأشراط جمع الشرط على وزن الصدف بمعنى العلامة.

ص: 187


1- محمد : 18.

يقول ابن منظور : أشراط الساعة علائمها. (1)

وأمّا الشرط على وزن الصبر ، فيطلق ويراد ما يتوقف عليه وجود الشيء بنحو من أنحاء التوقف ، فالأوّل يجمع على الأشراط ، والثاني على الشروط.

فهذه الآية تخبر عن تحقّق بعض أشراط الساعة ، حيث قال : ( فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) وأمّا ما هو المراد من هذه الشرط المحقق فقد فسر ببعثة النبي صلی اللّه علیه و آله اعتماداً على قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « بعثت أنا والساعة كهاتين ». (2)

وهناك سؤال وهو انّه كيف يمكن أن تعدّ بعثة النبي صلی اللّه علیه و آله من علائم القيامة مع أنّ الفاصل الزماني بينهما ليس بقليل ؟

ويجاب عنه : انّا إذا قسّمنا ما بقي من عمر الدنيا بالنسبة إلى ما مضى ، لعلم أنّ ما بقي أقل بكثير ممّا مضى ، فانّ الدنيا تجتاز مرحلة النضوج إلى مرحلة الهرم ، فيصح عند ذلك جعل البعثة من علائم القيامة.

وربما يفسر بشقّ القمر في قوله سبحانه : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ) . (3)

وربما يفسر بنزول القرآن الكريم على النبي صلی اللّه علیه و آله .

وعلى كلّ حال فهذه الآية تحكي عن تحقّق بعض علائم الساعة.

2. ( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) . (4)

فسياق الآية تحكي عن أنَّ ذا القرنين بنى سداً منيعاً للحيلولة دون هجوم يأجوج ومأجوج ، بناه من زبر الحديد ، قال سبحانه : ( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ

ص: 188


1- لسان العرب : 7 / 329 ، مادة شرط.
2- مجمع البيان : 5 / 102.
3- القمر : 1.
4- الكهف : 98.

الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) . (1)

ثمّ أردف هذه الآيات بقوله : ( هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ ) فاندكاك السدّ من أشراط الساعة غير انّه لم يعلم انّه من القسم الأوّل الذي يتحقق مع وجود الإنسان على الأرض أو من القسم الثاني.

ولعلّ الآية التالية تكشف اللثام عن وجه الحقيقة.

3. ( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ) . (2)

إنّ قوله سبحانه في هاتين الآيتين : ( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ) بمنزلة قوله سبحانه في الآية السابقة : ( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ ) وحيث إنّ الآيتين تحكيان عن استيلاء يأجوج ومأجوج على السدّ ، وانسلالهم من الاتلال والأحداب إلى ذلك الجانب ، فيعلم انّ الدكّ إنّما يتحقق قبل قيام الساعة والإنسان بعدُ في الدنيا ، فيكون من أشراط الساعة والصنف الأوّل منها.

4. ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) . (3)

والمراد انّ نزول عيسى من أشراط الساعة يعلم بها قربها ( فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا ) بالساعة فلا تكذّبوا بها ولا تشكّوا فيها. والقراءة المعروفة هي العلم على وزن الحلم ، وقرأ ابن عباس وقتادة والضحاك « علم » على وزن سلف بمعنى العلامة. (4)

ص: 189


1- الكهف : 96 - 97.
2- الأنبياء : 96 - 97.
3- الزخرف : 61.
4- مجمع البيان : 9 - 10 / 82.

غير انّ هناك بحثاً آخر وهو انّ نزول عيسى علیه السلام من أعلام القيامة وأشراطها ، فهل المراد تولده ثمّ بعثه إلى بني إسرائيل ؟ أو المراد هو نزوله عند ظهور المهدي ؟ يظهر من بعض الروايات انّ المراد هو المعنى الثاني.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم ، وإمامكم منكم ».

وروي أيضاً أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لا تزال طائفة من أُمّتي يقاتلون على الحقّ ظاهرين إلى يوم القيامة ، فينزل عيسى ، فيقول أميرهم : تعال صلِّ بنا. فيقول : لا ، إنّ بعضكم على بعض أُمراء ، تكرمة اللّه هذه الأُمّة ». (1)

وهناك احتمال آخر وهو انّ الهدف من سرد قصة المسيح علیه السلام وحياته هو إزاحة الشكّ والغموض عن قيام الساعة ، لأنّ حياة المسيح منذ ولادته إلى عروجه معجزة من معاجز اللّه تبارك وتعالى ، فالقيامة أيضاً كذلك ، فلا معنى للتبعيض بينهما ، ويؤيد ذلك الاحتمال قوله في الآية : ( فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا ) .

يقول الطباطبائي في تفسيره : إنّ عيسى يعلم به الساعة في خلقه من غير أب وإحيائه الموتى فيعلم به انّ الساعة ممكنة فلا تشكّوا في الساعة ولا ترتابوا فيها البتة. (2)

وهذا التفسير لا ينافي التفسير الأوّل ، إذ لا منافاة بين أن يكون المسيح بوجوده دليلاً على إمكان القيامة وفي الوقت نفسه آية من آياتها.

5. ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ *

ص: 190


1- جامع الأُصول لابن الأثير : 11 / 47 - 48.
2- الميزان : 18 / 118.

يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ ) . (1)

هذه الآيات السبع تخبر عن حوادث في مقاطع زمانية خاصة :

1. مجيء السماء بدخان مبين.

2. استيلاء العذاب المبين على الناس.

3. تضرّع الناس إلى اللّه بغية كشف العذاب عنهم.

4. موافاة الجواب بتكذيبهم رسول اللّه ورميه بالجنون.

5. كشف العذاب عنهم قليلاً وعودهم إلى ما كانوا عليه.

وقد اختلفت كلمة المفسرين في الزمان الذي تتحقق فيه تلك الحوادث ، وهم على رأيين :

أ. هذه الحوادث تتحقق قبل القيامة وهي من أشراط الساعة ويدل عليه الآية التالية الواقعة بعد هذه الآيات : ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ) (2) فانّ توصيف البطشة بالكبرى يناسب يوم القيامة. قال سبحانه : ( فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ) (3) ، وقال : ( فَيُعَذِّبُهُ اللّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ ) (4) وعندئذ تنسجم الآيات من حيث المضمون. ويكون المراد انّ هؤلاء مع ما رأوا العذاب بأُمّ أعينهم طلبوا كشف العذاب ، فكشفنا عنهم العذاب قليلاً ، ولكنّهم لم يعتبروا بالحوادث المريرة ، فلما حان يوم القيامة انتقم منهم سبحانه ، كما يقول : ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ ) .

وعلى ضوء ذلك التفسير تكون الآيات الست من أشراط الساعة والآية

ص: 191


1- الدخان : 10 - 16.
2- الدخان : 16.
3- النازعات : 34.
4- الغاشية : 24.

السابعة راجعة إلى نفس القيامة.

ب. وهناك رأي آخر ذكره المفسرون، وهو: انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعا على قومه لمّا كذّبوه ، فقال : اللّهمّ سنين كسنيّ يوسف ، فأجدبت الأرض فأصابت قريشاً المجاعة ، وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان ، وأكلوا الميتة والعظام ثمّ جاءوا إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، وقالوا : يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وقومك قد هلكوا فلتسأل اللّه تعالى لهم بالخصب والسعة فكشف عنهم ، ثمّ عادوا إلى الكفر.

فعلى ضوء ذلك فالمراد من البطشة الكبرى ، هي غزوة بدر التي انتقم اللّه منهم في ذلك اليوم.

ويحتمل على ضوء هذا التفسير أن يراد منه يوم القيامة أيضاً كما في التفسير الأوّل.

أقول : هذا التفسير بعيد عن الصواب لوجهين :

الوجه الأوّل : انّ قوله سبحانه : ( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ) هي صيرورة السماء دخاناً لا انّ الناس يرونها دخاناً لأجل الجوع والعطش كما في التفسير الثاني.

الوجه الثاني : انّ أهل السير لم يخبروا عن هذه الحادثة في عصر الرسول عندما كان في موطنه ، على أنّ خلقه العظيم وسعة صدره يأبيان عن الدعاء على قومه، كيف وقد كُسرت رباعية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله السفلى وشقّت شفته وكُلِم في وجنته وجبهته في أُصول شعره من قبل المشركين يوم أُحد ومع ذلك لم ينبس عليهم ببنت شفة وما دعا عليهم ، والكلام الذي كان يتردّد على شفتيه ، هو قوله صلی اللّه علیه و آله : « اللّهمّ اهدِ قومي فانّهم لا يعلمون ».

ص: 192

وحاصل التفسيرين : انّه طبقاً للتفسير الأوّل يكون المراد من اليوم في قوله : ( يَوْمَ تَأْتِي ) هو قبيل القيامة ، كما يكون المراد من اليوم في قوله : ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ) هي يوم القيامة.

وعلى التفسير الثاني يكون اليومان متقاربين في عصر الرسول ، غير انّ الأوّل يعد من أيام قبل الهجرة ، والثاني من أيام بعد الهجرة أي يوم بدر.

6. ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ) . (1)

وفي هذه الآية مواضع للتساؤل.

الأوّل : ما هو المراد من قوله سبحانه : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) ؟

الثاني : ما هو المراد من الدابة الخارجة من الأرض ؟

الثالث : ما هو المراد من قوله : ( تُكَلِّمُهُمْ ) وماذا يقول لهم ؟

الرابع : ما هو المقصود من الآيات الواردة في آياتنا ؟ فهل هي آيات تكوينية أو المراد المعاجز والكرامات ؟

الخامس : ما هو الهدف لإخراج الدابة من الأرض ، وهل الهدف جلب المعاندين إلى حظيرة الإسلام أو إيجاد الحسرة في قلوب الكافرين ؟

السادس : ما هو المراد من قوله : ( أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) ؟ فهل هو علّة لنزول العذاب الذي يدلُّ عليه قوله : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) ، أو هو مقول قول الدابة ؟ أو غير ذلك ؟

هذه الاستفسارات تحوم حول الآية ، وليس في الذكر الحكيم آية تعد نظيرتها

ص: 193


1- النمل : 82 - 83.

حتى تفسر إحداهما بالأُخرى.

يقول العلاّمة الطباطبائي : ولا نجد في كلامه تعالى ما يصلح لتفسير هذه الآية وانّ هذه الدابة التي سيخرجها لهم من الأرض فتكلمهم ما هي ؟ وما صفتها ؟ وكيف تخرج ؟ وماذا تتكلم به ؟ بل سياق الآية نِعْمَ الدليل على أنّ القصد إلى الإبهام فهو كلام مرموز فيه. (1)

وعلى الرغم من ذلك فلنقوم بالإجابة على تلك الاستفسارات.

أمّا الأوّل : فالظاهر انّ المراد من قوله : ( وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) هو حتمية العذاب ، كما يقول سبحانه في نفس تلك السورة : ( حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ ) . (2)

ولكن المراد من القول ليس هو القول اللفظي بل القول التكويني الذي يعبّر عنه بلفظة كن ، ويعود المعنى حتمية العذاب الخارجي ووقوعه عليهم.

وأمّا الثاني : فالدابة في لغة العرب والقرآن مطلق ما يدبّ في الأرض سواء أكان إنساناً أو حيواناً ، قال سبحانه : ( وَاللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (3) ومع كونه يطلق لفظ الدابة على الإنسان يحتمل أن يكون المراد منها غيره حتى يكون خروجها من الأرض وتكلمها مع الناس آية أُخرى ، ومع ذلك فيبقى مجرد احتمال لا تدعمه الروايات.

وأمّا الثالث : فالظاهر أنّ قوله : ( أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) مقول

ص: 194


1- الميزان : 15 / 396.
2- النمل : 84 - 85.
3- النور : 45.

قول الدابة فهي تخبر عن عناد المشركين والمنافقين.

وأمّا الرابع : فيحتمل أن يكون المراد من الآيات ، الآيات الكونية الدالة على علمه وقدرته وحكمته سبحانه ، كما يحتمل أن يكون المراد المعاجز التي تدل بنفسها على صحّة بعثة الأنبياء وصدق دعوتهم من جانب اللّه سبحانه. وهناك احتمال ثالث وهو انّ المراد هو الكتب السماوية التي أنزلها اللّه سبحانه مع رسله ، ولعلّ الاحتمال الثالث هو الأقوى بالنظر إلى سائر الآيات ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (1) فهذه الآيات التي أذعن بها الأئمة وأنكرها المشركون شيء واحد وهو الكتب النازلة من اللّه سبحانه ، بقرينة قوله : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) في صدر هاتين الآيتين.

وأمّا الخامس : فلم نجد شيئاً يبيّن الغاية من إخراج الدابة ، ولعلّ الهدف تمييز الطيب عن الخبيث ، والمؤمن عن الكافر.

وأمّا السادس : أنّ في قوله سبحانه : ( أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) احتمالين :

احتمال انّه مقول قول الدابة ، واحتمال انّه علة لنزول العذاب ، وعلى كلّ حال ، فقوله سبحانه : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ) دليل على أنّ هذا الحشر يقع قبل القيامة ، لأنّ الحشر في ذلك اليوم يعمّ الجميع ، قال سبحانه : ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) . (2)

وحصيلة البحث انّ تلك الطائفة من الآيات ذكرت من أشراط الساعة أمرين.

ص: 195


1- السجدة : 23 - 24.
2- الكهف : 47.

خروج الدابة وتكلّمها مع الناس ، حشر فئة من الناس قبل القيامة وقبل نفخ الصور.

7. ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ) . (1)

إنّ هذه الآيات تحكي عن عناد المشركين وعمى قلوبهم ، لأنّهم جعلوا إيمانهم رهن أُمور إمّا غير متحققة أو غير نافعة لحالهم ، وهي عبارة عن :

1.إتيان الملائكة إليهم ، وقد أخبر القرآن الكريم انّ نزول الملائكة إليهم يكون مقروناً بالعذاب والهلاك قال سبحانه : ( مَا نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ ) . (2)

2. إتيانه سبحانه ورؤيتهم له بأُم أعينهم ، وهذا أمر محال ، ويحتمل أن يكون مرادهم من إتيانه سبحانه هو مجيء يوم القيامة الذي تزاح فيه الأغشية فيتجلّى فيه توحيده وسائر أسمائه ، ولو أُريد ذلك لكان الإيمان في ذلك اليوم غير مفيد.

3. انّهم كانوا منتظرين بعض آيات اللّه سبحانه كما يحكي عنه قوله : ( أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ) ، ويحتمل أن يكون المراد أشراط الساعة أو نفس القيامة.

وعلى كلّ حال فلا ينفع الإيمان في ذلك اليوم.

ص: 196


1- الأنعام : 158.
2- الحجر : 8.

أشراط الساعة في الروايات والأحاديث

وقد ورد في الروايات أشراط الساعة وهي على طائفتين :

أ. ما يطرأ على أفكار الإنسان وسلوكه من التغير والتبدل.

ب. الحوادث الخارقة للعادة.

غير انّ دراسة هذه الروايات خارجة عن إطار التفسير الموضوعي فلنكتف برواية واحدة ، وهي ما رواه حذيفة بن أسيد ، قال :

كان النبي صلی اللّه علیه و آله في غرفة ونحن أسفل منه فاطلع إلينا ، فقال : « ما تذكرون ؟ » قلنا : الساعة ، قال : « إنّ الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف في جزيرة العرب ، والدخان ، والدّجال ، ودابة الأرض ، ويأجوج ومأجوج ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونار تخرج من قعرة عدن ترحل الناس ... ، ونزول عيسى بن مريم ، وريح تلقي الناس في البحر ». (1)

ورواه الصدوق في خصاله بشكل آخر قال : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غرفة فاطّلع علينا ، فقال : « فيم أنتم ؟ » فقلنا : نتحدّث ، قال : « عمّ ذا ؟ » قلنا : عن الساعة.

فقال : « إنّكم لا ترون الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض ، وثلاثة خسوف تكون في الأرض : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وخروج عيسى بن مريم علیه السلام ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وتكون في آخر الزمان نار تخرج من اليمن من قعر الأرض لا تدع خلفها أحداً تسوق الناس إلى المحشر كلّما قاموا قامت لهم

ص: 197


1- صحيح مسلم : 8 / 179 ، باب في الآيات التي تكون قبل الساعة من كتاب الفتن.

تسوقهم إلى المحشر ». (1)

وأمّا الروايات الحاكية عن طروء التغيّر والتبدّل على حياة الناس وسلوكهم شياع الفساد والعصيان فكثيرة جمعها العلامة المجلسي في البحار. (2) .

ص: 198


1- البحار : 6 / 304 ، باب اشراط الساعة ، حديث 3.
2- بحار الأنوار : 6 / 505 ، باب أشراط الساعة ، حديث 6.

الفصل الخامس عشر : مشاهد الساعة

اشارة

قد عرفت أشراط الساعة وهي الحوادث التي تتحقّق ، قبيل القيامة ، بقي الكلام في مشاهد الساعة أعني الحوادث التي تتزامن مع قيامها وهي عدّة أُمور أشار إليها الذكر الحكيم. وليعلم انّ كلّ ممكن في هذه النشأة لم يكتب له البقاء والخلود بل يفنى إذا بلغ أجله ، قال سبحانه : ( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ ) (1) ، وفي آية أُخرى : ( مَّا خَلَقَ اللّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ) . (2)

وعلى ضوء ذلك يذكر القرآن الكريم مشاهد الساعة وانّه كيف تنشق السماء وتنفطر ، وتنشق الأرض وينهار النظام السائد ، إلى غير ذلك من مشاهدها التي نذكرها تباعاً.

1. سير الشمس والقمر إلى أجل مسمّى

إنّ الشمس والقمر من الأجرام السماوية ولكلّ واحد أجل معين ، فإذا جاء

ص: 199


1- الأحقاف : 3.
2- الروم : 8.

أجلهما يتوقفان عن السير وبالتالي يزول نظامهما ، قال سبحانه : ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) . (1)

2. الأجل المحدود لعمر الإنسان

إنّ لكلّ إنسان أجلاً محدَّداً فإذا انتهت حياته إلى ذلك الحد ، ينطفئ مصباح عمره ، يقول سبحانه : ( اللّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ) . (2)

فمطيّة الموت تنوخ عند عتبة كلّ إنسان شاء أم أبى.

3. أجل الأُمم

القرآن يذكر أنّ لكلّ أُمّة أجلاً كما أنّ لكلّ فرد أجلاً خاصاً ، فللأُمم حياة وموت ، وبزوغ حضارة وأُفولها ، يقول سبحانه :

( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) . (3) وقد تكرر هذا المضمون في سور أُخرى. (4)

وهذه الآيات توحي إلى أنّ مجموعة الظواهر الكونية كتب عليها البقاء إلى أجل مسمّى ، فإذا جاء أجلها قضي على حياتها ووجودها.

طروء حوادث في الكون عند قيام الساعة

ينص القرآن الكريم على أنّ قيام الساعة يتزامن مع حوادث كونية يضمحل فيها النظام الكوني وينهار ، وهذه الحوادث هي كالتالي :

ص: 200


1- لقمان : 29.
2- الزمر : 42.
3- يونس : 49.
4- لاحظ : الأعراف : 34 ; الحجر : 5 ; المؤمنون : 43.

الحوادث التي تقع في السماء

القرآن الكريم يحكي مشاهد الساعة في الآيات التالية ، ويستخدم فيها الألفاظ التالية : الانشقاق ، الانفطار ، الانفتاح ، الانفراج ، الانطواء ، التبدل ، المور ، المهل ، وردةً كالدهان ، التكوير ، خسف القمر ، واجتماع الشمس والقمر ، إلى غير ذلك من التعابير الواردة في الآيات ، وكلّ تعبير يشير إلى جانب من تلك الحوادث ، يقول سبحانه :

1. ( إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ) . (1)

2. ( إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ) . (2)

3. ( وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ) .(3)

4. ( وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ) . (4)

5. ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) . (5)

6. ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) . (6)

7. ( يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ) . (7)

8. ( يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالمُهْلِ ) . (8)

ص: 201


1- الانشقاق : 1.
2- الانفطار : 1.
3- النبأ : 19.
4- المرسلات : 9.
5- الأنبياء : 104.
6- إبراهيم : 48.
7- الطور : 9.
8- المعارج : 8.

9. ( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ ) . (1)

10. ( فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) . (2)

11. ( وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ) . (3)

إلى غير ذلك من الآيات التي ترسم لنا مشاهد الساعة بما فيها من الحوادث المرعبة التي تقضي على حياة الكون ونظامه ، فالسماء التي كانت تتراءى كأنّها سقف محفوظ ، تنشق وتنفطر وتنفرج وتنطوي كطي السجل للكتب ، وتمور وتضطرب وتتموج وتأتي كالصفر المذاب وتأتي بصورة دخان كأنّها وردة كالدهان ، وكأنّ السماء كشطت وأزيلت وتمددت ، إلى غير ذلك من الأحوال المتعاقبة التي تطرأ على السماء.

وثمّة نكتة جديرة بالإشارة وهي انّ القرآن الكريم ينص على أنّ السماء في بدء الخلقة كانت من دخان وسيؤول إليه عند الانقضاء ، حيث يشير إلى بدء الخلقة ، بقوله : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ) . (4) كما يشير إلى زوالها وصيرورتها دخاناً بقوله : ( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ) . (5)

النجوم والشمس والقمر في مشاهد القيامة

إنّ النجوم التي كانت تزّين السماء وتهدي الإنسان ، تنطمس وتنكدر وتندثر يوم القيامة ، قال سبحانه :

ص: 202


1- الدخان : 10.
2- الرحمن : 37.
3- التكوير : 11.
4- فصلت : 11.
5- الدخان : 10.

1. ( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) . (1)

2. ( وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ) . (2)

3. ( وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ) . (3)

4. ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) . (4)

5. ( وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) . (5)

والمراد من جمع الشمس والقمر هو زوال النظام السائد عليهما ، فالفاصل الموجود بينهما سيزول يوم القيامة ويكونان مقترنين.

فالنظام السائد ينهار ويزول لانتهاء أجله ، ويحلّ محله نظام آخر أكمل منه ، فيكون الزوال مقدمة لنظام آخر.

الأرض في مشاهد القيامة

إنّ الأرض سيارة كسائر السيارات لم يكتب لها البقاء ، وكلّما تقدم بها الزمان تتقدم في العمر وتصل إلى أجلها المحتوم ، وعند ذلك تقوم الساعة ، والذكر الحكيم يصف مشاهد الساعة في الأرض ويقول :

1. ( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا ) . (6)

2. ( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً ) . (7)

ص: 203


1- المرسلات : 8.
2- التكوير : 2.
3- الانفطار : 2.
4- التكوير : 1.
5- القيامة : 8 - 9.
6- الزلزلة : 1 - 2.
7- الكهف : 47.

3. ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ ) . (1)

4. ( يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ) . (2)

5. ( كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) . (3)

6. ( إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا ) . (4)

7. ( وَإِذَا الأَرْضُ ) . (5)

إلى غير ذلك من الآيات التي تبيّن وضع الأرض عند قيام الساعة ، والقرآن الكريم يستخدم في تبيينه مشاهد الساعة في الأرض كلمة الزلزال وتسيير الجبال وبروز الأرض وتبدّلها وتشقّقها ودكّها ورجّها ومدّها.

فهذه الطائفة من الآيات تحكي حال الأرض عند قيام الساعة ، وبعد ما يحلَّ النظام الجديد تكون الأرض مشرقة بنور ربّها ، كما يقول سبحانه : ( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) . (6)

فأين الأرض المضطربة التي صادفت تلك الحوادث الصعبة من الأرض المشرقة بنور ربها ؟!

البحار والجبال في مشاهد القيامة

إنّ البحار والجبال من الظواهر الأرضية ، ولكلّ دور في ظهور الحياة على

ص: 204


1- إبراهيم : 48.
2- ق : 44.
3- الفجر : 21.
4- الواقعة : 4.
5- الانشقاق : 3.
6- الزمر : 69.

الأرض فالجبال أوتاد عائقة عن تفكك الأرض إلى قطعات مختلفة كما أنّ البحار لها هذا الدور أيضاً ، واللّه سبحانه يصف وضعهما عند قيام الساعة فيقول :

1. ( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) . (1)

2. ( وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ ) . (2)

3. ( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) . (3)

وهذه الآيات تصوّر لنا حال البحار يوم القيامة ، والمراد من تسجير البحار هو اختلاط عذب مائها بمالحها ، ومالحها بعذبها ، كما أنّه المراد من تفجيرها هو كذلك ، فيصير الجميع بحراً واحداً على خلاف ما في هذه الدنيا فانّ الماء العذب ينفصل عن الملح الأُجاج ، قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ) . (4) وقال سبحانه : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ) . (5)

هذا حال البحار في الدنيا ، ولكن يتغير وضع البحار في يوم القيامة ويكون الجميع شيئاً واحداً مختلطاً كأنّها فحم ملتهب.

وأمّا الجبال في يوم القيامة فيرسمها الذكر الحكيم ، بالشكل التالي :

1. ( وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ ) . (6)

2. ( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبَالَ ) . (7)

ص: 205


1- التكوير : 6.
2- الطور : 6.
3- الانفطار : 3.
4- الفرقان : 53.
5- الرحمن : 19.
6- التكوير : 3.
7- الكهف : 47.

3. ( وَتَسِيرُ الجِبَالُ سَيْرًا ) . (1)

4. ( وَسُيِّرَتِ الجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ) . (2)

5. ( وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ المَنفُوشِ ) . (3)

6. ( وَإِذَا الجِبَالُ نُسِفَتْ ) . (4)

7. ( يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالجِبَالُ وَكَانَتِ الجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً ) . (5)

8. ( وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا ) . (6)

9. ( وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ) . (7)

وهذه الآيات تحكي عن طروء تحولات وتغيرات على الجبال ، منها :

1. الحركة والسير والرجف وهي الحركة الشديدة والاضطراب. تسفر عن نسف الجبال من أصلها.

2. وتعود في المرحلة الثانية كأنّها غبار منبث في الفضاء.

3. وأخيراً تؤول نهايتها إلى أطلال من تراب.

وهذه التحولات التي يمرّ بها النظام الكوني السابق ، توحي إلى صورة كئيبة ومرعبة عن وضع العالم ولكنّها تبشر - في الوقت نفسه - بظهور نظام أكمل من ذي قبل.

ص: 206


1- الطور : 10.
2- النبأ : 20.
3- القارعة : 5.
4- المرسلات : 11.
5- المزمل : 14.
6- الواقعة : 5 - 6.
7- الحاقة : 14.

الفصل السادس عشر : النفخ في الصور أو بداية حياة جديدة

اشارة

قد مرّ في الفصل السابق مشاهد القيامة والحوادث التي ترافقها ، وها نحن نبحث الآن موضوع النفخ في الصور الذي هو بداية لحياة جديدة وقد عقدنا الفصل لأجله.

وفي الواقع أنّ النفخ في الصور بتفاصيله مازال مجهولاً لنا ، وهو من الأُمور الغيبيّة التي يجب الإيمان بها ، وقد عبر عنها القرآن بأمر محسوس من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، وعلى كلّ حال فالنفخ له مرحلتان :

المرحلة الأُولى : مرحلة الإماتة ، وهي قُبيل يوم القيامة يسفر عن هذا النفخ الصعقُ والفزع اللّذان كُنّيَا بهما عن الموت.

المرحلة الثانية : مرحلة الإحياء وإحضار الناس إلى المحشر.

وقد ذكرت النفختان في الآية التالية : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) . (1)

ص: 207


1- الزمر : 68.

فقوله : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ ... ) إشارة إلى النفخة الأُولى التي تميت من في السماء والأرض إلاّ من شاء اللّه.

وقوله : ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ) إشارة إلى النفخة الثانية التي يقوم فيها الناس من الأجداث منتظرين لمصيرهم.

وهناك آية أُخرى صرّحت بالنفخة الأُولى وأشارت إلى نتيجة النفخة الثانية ، من دون أن تصرّح بالنفخة الثانية ، قال : ( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) . (1)

فقوله : ( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ) إلى قوله : ( إِلاَّ مَن شَاءَ اللّهُ ) تتحد مع ما جاء في الآية الأُولى.

وأمّا قوله : ( وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) معناه يأتونه في المحشر إذلاّء صاغرين ، وهذه نتيجة النفخة الثانية غير المذكورة ، وكأنّه قال : « ثمّ نفخ فيه أُخرى وكلّ أتوه داخرين ».

وعلى كلّ حال فقد وردت النفخة الثانية في القرآن الكريم في سبع آيات ، وهي :

1. ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) . (2)

2. ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ... ) . (3)

3. ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) . (4)

ص: 208


1- النمل : 87.
2- الكهف : 99.
3- المؤمنون : 101.
4- ق : 20.

4. ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ... ) . (1)

5. ( وَلَهُ المُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ) . (2)

6. ( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ) . (3)

7. ( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ) . (4) تعابير أُخرى عن النفخة في الصور

وقد عبر القرآن الكريم عن تلك الواقعة المفزعة ، ثمّ المحيية بتعابير أُخرى ، وهي كالتالي : 1. الصيحة :

وهي الصوت العالي ، والقرآن يحكي عن تعدّدها كالنفخ ، وهي صيحة الإماتة ، وصيحة الإحياء ، ويذكر الأُولى بقوله : ( مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) . (5)

فهذه الصيحة عبارة عن النفخة الأُولى أو نتيجتها ، والناس حينها أحياء يتخاصمون بعضهم مع بعض ولكنّها لا تمهل الناس أن يوصوا بشيء أو يرجعوا إلى أهلهم فيوافيهم الموت.

وأمّا الصيحة الثانية القائمة مكان النفخة الثانية ، فقد أُشير إليها بقوله سبحانه : ( إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) . (6)

ص: 209


1- الحاقة : 13.
2- الأنعام : 73.
3- طه : 102.
4- النبأ : 18.
5- يس : 49 - 50.
6- يس : 53.

فقوله سبحانه : ( فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) ، نظير قوله في النفخة الثانية : ( فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) أو قوله : ( كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) .

يقول سبحانه : ( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ المُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الخُرُوجِ ) . (1)

والظاهر انّ الآية تشير إلى النفخة الثانية لقوله بعد سماع الصيحة : ( ذَلِكَ يَوْمُ الخُرُوجِ ) وقد كانت الصيحة الأُولى ، صيحة الإماتة لا الخروج من الأجداث وإنّما كانت الصيحة الثانية ملاك الخروج والمثول أمام اللّه سبحانه. 2. الصاخّة :

وهناك تعابير في القرآن الكريم تنطبق مع النفخة الثانية ، وهي الصاخّة والنقر والزجرة ، يقول سبحانه : ( فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) . (2)

والصاخّة : هي الصيحة والصوت العالي التي تكاد تصُم الآذان ، والمراد منها هي النفخة الثانية بشهادة أمرين :

الأوّل : انّه جاء بعده فرار المرء من أعزّائه ، وهي من خصائص يوم القيامة لا قبلها.

الثاني : انّ الآيات التالية تصنّف الناس إلى قسمين كما في قوله تعالى :

( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) . (3)

ص: 210


1- ق : 41 - 42.
2- عبس : 33 - 37.
3- عبس : 38 - 41.

ومن الواضح انّ هذا التقسيم من خصائص يوم القيامة. 3. الزجرة

( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ) . (1)

ومعنى قوله : ( زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ) أي صيحة واحدة ، ( فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ) أي فإذا هم ملقون على وجه الأرض ، وسميت الأرض بالساهرة لأنّها لا تنام بشهادة أنّها تنبت النبت ليلاً ونهاراً عملاً دؤوباً دون انقطاع. وبما انّها تحكي عن ظهور الناس على الأرض فهي بالنفخ الثاني الذي يحيا فيه الناس أوفق. 4. النقر

( فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) . (2)

والمراد من النقر : هو النفخة الثانية ، بشهادة ما جاء بعده من إحياء الكافرين وانّه يوم عسير عليهم ، وهذا بخلاف النفخة الأُولى فانّ أهوالها تعمّ المؤمن والكافر، ولذلك قال سبحانه : ( فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ ) . (3) 5. الراجفة والرادفة

يقول سبحانه : ( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) (4) و « الراجفة » : صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمخض ، وهي تنطبق على النفخة الأُولى ، و « الرادفة » : كلّ شيء تبع شيئاً آخر فقد ردفه ، ولعلّ المراد النفخة الثانية التي تعقب النفخة الأُولى ، وهي التي يبعث معها الخلق ، والشاهد على أنّ الرادفة

ص: 211


1- النازعات : 13 - 14.
2- المدثر : 8 - 10.
3- الزمر : 68.
4- النازعات : 6 - 7.

هي النفخة الثانية ، قوله سبحانه : ( قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ) (1) أي : قلوب مضطربة شديدة وأبصار خاشعة ذليلة من هول ذلك اليوم.

ما هي حقيقة النفخ في الصور ؟

إنّ الآيات السالفة الذكر تؤكِّد على أنّه ينفخ في الصور مرتين ، ولكلّ نفخ أثره الخاص ، إنّما الكلام في حقيقة هذا النفخ.

أمّا كلمة « نفخ » فمعلوم ، يقال : نفخ نفخاً بفمه أي أخرج منه الريح ، وأمّا الصور فهو القرن الذي ينفخ فيه (2) ، ولعلّ الوسيلة الوحيدة للنفخ في ذلك الزمان كان هو القرن ، فكان ينفخون فيه للإيقاظ ، وقد تطورت الكلمة من حيث المصداق وأصبحت تطلق اليوم على كلّ وسيلة ينفخ فيها بغية إيجاد الصوت لغايات شتى.

وعلى أيّة حال فظاهر الآيات يوحي إلى وجود النفخ في الصور قبل يوم القيامة وحينه. لكن هل ثمة صور ونفخ حقيقيان ، أو هما كناية عن إيجاد الصوت المهيب للإماتة والإحياء ؟

والذي يمكن أن يقال إنّ هناك صوتين أحدهما قبل قيام الساعة والآخر بعده ، فالصوت المرعب الأوّل لغاية إماتة الإنسان وإزالة النظام الكوني ، وأمّا الصوت المرعب الثاني فهو لغاية إحياء الإنسان وحشره للحساب.

أمّا ما هو حقيقة هذا النفخ والصور ؟ فهما من المسائل الغيبية التي يجب الإيمان بها ، وإن لم نقف على حقيقتها وواقعها ، وللعلامة الطباطبائي كلام في هذا الموضع نأتي بنصه :

ص: 212


1- النازعات : 8 - 9.
2- مجمع البيان : 3 / 496 ، تفسير الآية 99 من سورة الكهف.

ولا يبعد أن يكون المراد بالنفخ في الصور يومئذٍ مطلق النفخ أعمّ ممّا يميت أو يحيي ، فانّ النفخ كيفما كان من مختصات الساعة ويكون ما ذكر من فزع بعضهم وأمن بعضهم من الفزع وسير الجبال من خواص النفخة الأُولى ، وما ذكر من إتيانهم داخرين من خواص النفخة الثانية. (1)

سؤال وإجابة

ربما يطرح هنا سؤال وهو : ما هو مقدار الفاصل الزماني بين النفختين الذي يحكي عنه تخلّل لفظة « ثمّ » بين النفختين ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) ؟. (2)

والجواب : انّه غير معلوم لنا مقدار الفاصل الزماني بينهما ، ولعلّه من الأُمور التي استأثر اللّه بعلمها لنفسه ، يقول سبحانه : ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) . (3)

والعلم بالفاصل الزمني يستلزم العلم بزمن وقوع القيامة ، فمثلاً الذي يعلم جميع أشراط الساعة إذا وقف على الفاصل الزمني بين النفختين لعلم بالضرورة زمن وقوع يوم القيامة مع أنّه سبحانه يقول : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ) . (4)

عن ثوير بن أبي فاختة ، عن علي بن الحسين قال : سئل عن النفختين كم بينهما ؟ قال : « ما شاء اللّه ». (5)

ص: 213


1- الميزان : 15 / 400 ، ط بيروت.
2- الزمر : 68.
3- لقمان : 34.
4- الأعراف : 187.
5- بحار الأنوار : 6 / 324.

سؤال آخر وإجابة

انّه سبحانه يستثني طائفة خاصة من الناس من الصعق عند النفخة الأُولى ، ويقول : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) . (1)

وعندئذٍ يطرح السؤال التالي وهو من هم الذين شاء اللّه أن لا يصعقهم عند النفخة ؟

ويمكن الإجابة من خلال التدبّر في الآيات التالية :

1. ( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) . (2)

إنّ قوله سبحانه : ( فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) دليل على أنّ المراد من اليوم في قوله : ( وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) هو يوم القيامة وانّ من جاء بالحسنة يكون آمناً في ذلك اليوم.

2. ( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) . (3)

وهذه الآية تشهد على أنّ هناك طائفة لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم القيامة فتتحد الآيتان من حيث المدلول.

لكن الكلام في تحديد من جاء بالحسنة ، فهل المراد مطلق من جاء بالحسنة ، وإن كانت حسنة تكتنفها الذنوب ؟ فيلزم أن يكون كلّ من أتى بحسنة مأموناً من الفزع ، وهذا مالا يمكن الإذعان به.

ص: 214


1- الزمر : 68.
2- النمل : 89 - 90.
3- الأنبياء : 103.

أو المراد من جاء بالحسنة المطلقة ؟ أي لا يوجد في كتابه إلاّ الحسنة ، مقابل من لا يوجد في كتابه إلاّ السيّئة.

ولذلك يكون مصير الطائفة الثانية هو الانكباب في النار على وجوههم كما يكون مصير الطائفة الأُولى هو الأمن من الفزع ، ومن الواضح انّ هذه الطائفة نادرة.

وعلى هذا فالطائفة المستثناة طائفة خاصّة تتميز بعمق الإيمان والاستقامة على الدين حتى صاروا ذوي نفوس مطمئنة لا تزعزعهم الحوادث المرعبة كما كانوا كذلك في الحياة الدنيا ، وليس هؤلاء إلاّ الأنبياء والأوصياء.

ويمكن تحديد المستثنى بوجه آخر وهو انّه سبحانه يذكر انّ كلّ من شمله الصعق والفزع في النفخة الأُولى ، يقوم عند النفخة الثانية وينتظر حساب عمله ، قال : ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) (1) وقال في آية أُخرى : ( وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) . (2)

هذا من جانب ، ومن جانب آخر تستثني بعض الآيات المخلصين من الحضور للحساب ، وتقول : ( فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) (3) وفي آية : ( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللّهِ المُخْلَصِينَ ) . (4)

فالمخلصون من عباده سبحانه لا يحضرون إلى الحساب كما لا يحزنهم الفزع الأكبر ولا تصعقهم وتفزعهم النفخة الأُولى.

وأمّا المراد من المخلصين الذين لا يعمهم الفزع الأكبر فتوضحه الآيات

ص: 215


1- الزمر : 68.
2- النمل : 87.
3- يس : 53.
4- الصافات : 127 - 128.

التالية :

1. يحكي سبحانه كلام إبليس ويقول : ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) . (1)

إلاّ أنّ الشيطان يعود ويستثني تسلّطه على المخلصين وإغواءهم ويقول : ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ) . (2)

وقال : ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ) (3) ، ومن خلال ضمّ هذه الآيات بعضها إلى بعض ، يعلم انّ الآمنين من الصعق هم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ، ولا يحضرون إلى الحساب ، وهم المخلصون الذين لا يتعرض لهم إبليس بالإغواء وليس هؤلاء إلاّ المعصومون من عباد اللّه ، أعني : من الأنبياء والرسل والأئمّة.

سؤال ثالث وإجابة

دلّت الآيات على أنّه لم يكتب لأحد البقاء في هذه النشأة ، وانّ الناس يموتون حتى الأنبياء والرسل ، قال سبحانه : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) . (4)

وعندئذٍ فكيف يصحّ استثناء المخلصين ، إذ يكون معنى الآية انّ كلّ من في

ص: 216


1- إبراهيم : 22.
2- الحجر : 39 - 40.
3- ص : 82 - 83.
4- الزمر : 30.

السماوات والأرض لميتون عند النفخة الأُولى إلاّ المخلصين ، مع أنّ أخلص المخلصين هو نبيّنا الخاتم صلی اللّه علیه و آله قد خوطب بقوله : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ ) ؟

والجواب : انّ الصعقة لو كانت بمعنى الفزع والخوف فالاستثناء يرجع إلى ذلك لا إلى الإماتة.

نعم لو كان الصعق والفزع في الآيتين بمعنى الموت فلا محيص من القول بأنّ المخلصين لا يموتون لأجل النفخ بل يموتون لأجل عامل آخر.

ص: 217

الفصل السابع عشر : القيامة ومحاسبة الأعمال

اشارة

إنّ من أسماء القيامة ، يوم الحساب (1) أي اليوم الذي يحاسب سبحانه فيه العباد على أعمالهم ، وهذا الأمر بمكان من الوضوح ممّا حدا بالإمام علي علیه السلام إلى بيان الفرق بين الدارين بتسمية الدار الأُولى ، دار العمل ، والدار الثانية دار الحساب ، وقال : « واليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل ». (2)

وقد وردت حول الحساب آيات وروايات ، يجب على المفسّر دراستها بدقّة وإمعان لما فيها من الحقائق الشامخة ، وفيها إجابة عن بعض الأسئلة المطروحة في هذا المضمار ، وإليك عناوين المسائل :

1. ما هو الهدف من وراء محاسبة الأعمال ؟

2. من المحاسِب ؟

3. ما هي الأعمال التي يُحاسَب عليها ؟

4. هل الحساب يعمُّ الجميع ؟

5. ما معنى كونه سبحانه سريع الحساب ؟

ص: 218


1- انظر : سورة إبراهيم : 41 ; ص : 16 ، 26 ، 53 ; غافر : 27.
2- نهج البلاغة : الخطبة 42.

6. ما هو المقصود من سوء الحساب ؟

7. من هم الذين يحاسبون حساباً يسيراً ؟

8. اختلاف العباد عند الحساب.

9. إتمام الحجة على العباد عند الحساب.

10. الاعتراف بالذنوب ورجاء العفو والمغفرة.

هذه هي العناوين الرئيسية التي سنتناولها في هذا الفصل واحدة تلو الأُخرى.

1. ما هو الهدف من وراء محاسبة الأعمال ؟

لقد اعتاد الإنسان في حياته العملية أن يجري الموازنة بين الدخل والصرف يبغي من وراء ذلك تنظيم حياته على وفقها.

واللّه سبحانه عالم بكلّ شيء فلا حاجة له إلى محاسبة الأعمال حتى يقف على خير الأعمال وشرها ونسبة أحدهما إلى الآخر ، يقول سبحانه حاكياً عن لسان لقمان : ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) (1).

فلا محيص عن كون الداعي إلى المحاسبة شيئاً آخر ، وهو إراءة عدله وجوده وحكمته عند المحاسبة ، فلو عفا فلجوده وكرمه ، وإن عذّب فلعدله وحكمته.

فمحاسبته تبارك وتعالى كابتلاء عباده ، فانّ الهدف من الابتلاء ليس هو الوقوف على ما يَكْمُن في نفوس العباد من الخير والشر ، بل الغاية إكمال العباد وتبديل طاقات الخير إلى فعليته ، يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « لا يقولنَّ

ص: 219


1- لقمان : 16.

أحدكم : « اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة » لأنّه ليس أحد إلاّ وهو مبتل بفتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن ، فانّ اللّه سبحانه يقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) ومعنى ذلك انّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتَظْهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب ، لأنّ بعضهم يحبُّ الذكور ويكره الإناث ، وبعضهم يحب تثمير المال ، ويكره انثلام الحال ». (1)

2. من المحاسِب ؟

دلّت الأُصول التوحيدية على أنّ في صحيفة الوجود مدبراً واحداً وهو اللّه سبحانه ، والمحاسبة نوع تدبير لهم فلابدّ من صلتها به إمّا مباشرة أو مع الواسطة بإذنه سبحانه. غير أنّ ظاهر كثير من الآيات على أنّ المحاسب هو اللّه سبحانه.

قال تعالى : ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ) . (2)

وقال تعالى : ( فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الحِسَابُ ) . (3)

وقال عزّ من قائل : ( إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ) . (4)

وقال تعالى : ( وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ) . (5)

وهذه الآيات صريحة في أنّه تعالى هو المحاسب.

ص: 220


1- نهج البلاغة : من كلماته القصار ، برقم 93.
2- الغاشية : 25 - 26.
3- الرعد : 40.
4- الشعراء : 113.
5- النساء : 6 والأحزاب : 38.

ولكن بعض الآيات تشير إلى أنّ المحاسب هو نفس الإنسان من خلال قراءة كتابه الّذي ( لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ) (1) ، قال سبحانه : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) . (2)

إِلاّ أنّ هذه الآيات لا تعارض الآيات الآنفة الذكر ، لأنّ حساب العباد أنفسهم في طول محاسبته سبحانه لأعمالهم ، فانّ الكتاب الذي في عنق الإنسان مكتوب بأمره سبحانه ، وهو أيضاً قارئ بأمره ، فلا تكون تلك المحاسبة مغايرة لمحاسبته سبحانه.

وأمّا الروايات فطائفة منها تؤيد الأوّل.

قال أمير المؤمنين في حقّ عائشة : « وأمّا فلانة فأدركها رأي ( رائحة ) النساء ، وَضِغنٌ غلا في صدرها كَمِرْجَلِ القَيْنِ ، ولو دعيت لِتَنالَ من غيري ما أتت إليَّ ، لم تفعل ، ولها بعد حرمتها الأُولى. والحساب على اللّه تعالى ». (3)

والظاهر من بعض الروايات انّه سبحانه فوض أمر الحساب إلى أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

روى عبد اللّه بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام ، انّه قال : إذا كان يوم القيامة وكلنا اللّه بحساب شيعتنا. (4)

وقد ورد في تفسير قوله سبحانه : ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ) (5) انّ الإمام

ص: 221


1- الكهف : 49.
2- الأسراء : 13 - 14.
3- نهج البلاغة : الخطبة156 ، ط صبحي الصالح.
4- البحار : 7 / 264.
5- الغاشية : 26.

الصادق علیه السلام قال : « إذا كان يوم القيامة جعل اللّه حساب شيعتنا إلينا ». (1)

وفي الزيارة الجامعة قوله : « وََإِيابُ الخَلْقِ إِلَيْكُمْ وَحِسابهُ عَلَيْكُمْ ».

ولو صحت تلك الروايات فلا تنافي حصر الحساب في اللّه سبحانه ، لأنّ محاسبتهم لحسنات شيعتهم أو ذنوبهم بأمر من اللّه سبحانه ، فكما أنّ الملائكة لو قامت بحساب الأعمال بأمر من اللّه سبحانه لم يكن مخالفاً لحصر الحساب فيه سبحانه ، وكذا غيرهم ممن لهم مقام شامخ يوم القيامة ولنبينا مقام محمود آتاه اللّه له فهو يشفع بإذن اللّه سبحانه لمن ارتضاه.

3. ما هي الأعمال التي يحاسب عليها ؟

اشارة

الآيات الواردة في هذا الصدد على صنفين :

أ. ما يدل على أنّه يسأل عن عامّة الأفعال ، قال سبحانه :

( وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) . (2)

( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) . (3)

( ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) . (4)

( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ) . (5) .

ص: 222


1- البحار : 7 / 274.
2- النحل : 93.
3- الأنبياء : 23.
4- الزمر : 7.
5- الزلزلة : 6.

ب. ما يدل على أنّه يسأل عن بعض الأُمور ، وهذه الأُمور عبارة عن :

- النعم الإلهية : قال سبحانه : ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) (1) ويمكن عدّ هذه الآية من الصنف الأوّل الذي دل على أنّ السؤال يتعلّق بجميع النعم ، لأنّ كلّ ما يقوم به الإنسان من الأعمال حسناً كان أم قبيحاً ، حلالاً أو حراماً ، إنّما هو تصرف في نعمه سبحانه ، فالسؤال عن النعم سؤال عن جميع الأفعال.

- القرآن الكريم : قال سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ) . (2)

وقال أيضاً : ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) . (3)

- الشهادة : قال سبحانه : ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) . (4)

- المؤودة : قال سبحانه : ( وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) . (5)

- الكذب والتهمة : قال سبحانه : ( تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ) . (6)

- الصدق : قال سبحانه : ( لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ) . (7)

غير انّ تخصيص هذه الأُمور بالسؤال عنها لا ينافي تعلّق السؤال بعامّة

ص: 223


1- التكاثر : 8.
2- الزخرف : 44.
3- الحجر : 91 - 93.
4- الزخرف : 19.
5- التكوير : 8 - 9.
6- النحل : 56.
7- الأحزاب : 8.

الأفعال ، فكأنّها من باب ذكر الخاص بعد العام.

وقد نشاهد هذا النوع من التقسيم في الروايات ، حيث ورد فيها تعلّق السؤال بأُمور خاصة.

فصنف يدل على تعلّق السؤال بعامة الأفعال.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : « وأعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم ». (1)

وكتب علیه السلام إلى بعض عمّاله الذي خانه واستولى على بيت المال وذهب به إلى الحجاز : « فكأنّك قد بلغت المَدَى ، ودفنت تحت الثرى ، وعرضت عليك أعمالك بالمحلِّ الذي ينادي الظّالم فيه بالحسرة ، ويتمنّى المضيّع فيه الرجعة ، ولات حين مناص ». (2)

وصنف آخر يخصص السؤال ببعض الأُمور.

ويستفاد من جملة من الأخبار انّ الأُمور التالية يُسأل عنها بعينها :

1. التوحيد ، 2. النبوة ، 3. الولاية ، 4. القرآن الكريم ، 5. محبة أئمّة أهل البيت علیهم السلام ، 6. الصلاة ، 7. عمر الإنسان ، 8. شبابه ، 9. أعضاؤه ، 10. الثروة ، التي اكتنزها ، وفي أي شيء صرفها.

روى الصدوق في الخصال والأمالي بسنده عن موسى بن جعفر علیهماالسلام عن آبائه ، قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وشبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه ، وعن حبّنا أهل البيت ». (3)

ص: 224


1- نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 6.
2- نهج البلاغة : قسم الرسائل ، برقم 41.
3- البحار : 7 / 58 ، باب محاسبة الأعمال ، الحديث 1.

روى المفيد بسنده عن ابن عيينة ، قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام ، يقول : « ما من عبد إلاّ ولله عليه حجّة ، إمّا في ذنب اقترفه ، وإمّا في نعمة قصّر عن شكرها ». (1)

روى الشيخ في التهذيب ، عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : « أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة فإن قبلت قبل ما سواها ». (2)

روى الصفار في بصائر الدرجات ، عن أبي شعيب الحداد ، عن أبي عبد اللّه ، قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنا أوّل قادم على اللّه ، ثمّ يقدم عليَّ كتاب اللّه، ثمّ يقدم عليَّ أهل بيتي ، ثمّ يقدم عليَّ أُمّتي فيقفون فيسألهم في كتابي وأهل بيت نبيكم ». (3)

روى القمي في تفسيره ، عن جميل ، عن أبي عبد اللّه ، قال : قلت قول اللّه ( لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) ، قال : « تسأل هذه الأُمّة عمّا أنعم اللّه عليهم برسول اللّه ، ثمّ بأهل بيته ». (4)

روى الصدوق في عيون أخبار الرضا ، عن الرضا علیه السلام أنّه قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا علي ! إنّ أوّل ما يسأل عنه العبد بعد موته شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ، وأنّك وليُّ المؤمنين بما جعله اللّه وجعلته لك ، فمن أقرَّ بذلك وكان يعتقده صار إلى النعيم الذي لا زوال له ». (5)

النعم الدنيوية والسؤال عنها

إنّ الروايات الواردة في هذا المقام على أصناف :

ص: 225


1- البحار : 7 / 262 ، باب محاسبة الأعمال ، الحديث 13.
2- المصدر نفسه ، الحديث 33.
3- المصدر نفسه ، الحديث 22.
4- المصدر نفسه ، الحديث 39.
5- المصدر نفسه ، الحديث 41.

1. ما دلّ على أنّ النعم الدنيوية يُسأل عن حلالها وحرامها ، قال أمير المؤمنين : « ما أصف من دار أوّلها عناء ، وآخرها فناء ، في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ». (1)

2. ويُسأل عن كلّ شيء حتى البقاع والبهائم ، قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « اتّقوا اللّه في عباده وبلاده ، فانّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم ، أطيعوا اللّه ولا تعصوه ، وإذا رأيتم الخير فخذوا به ، وإذا رأيتم الشرّ فأعرضوا عنه ». (2)

3. يُسأل عن كلّ شيء سوى ما صرف في سبيل اللّه ، قال : « كلّ نعيم مسؤول عنه يوم القيامة إلاّ ما كان في سبيل اللّه ». (3)

4. لا يُسأل عن الطعام الذي أكله ، والثوب الذي لبسه ، والزوجة الصالحة ، قال الصادق علیه السلام : « ثلاثة أشياء لا يحاسب العبد المؤمن عليهنَّ ، طعام يأكله ، وثوب يلبسه ، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن بها فرجه ». (4)

هذه هي الروايات الواردة في المقام.

أمّا الأُولى والثانية فتدلاّن على سعة المسؤولية حتى يُسأل عن البقاع المتروكة والبهائم المرسلة في البيداء.

وأمّا الثالثة فلأنّ عدم السؤال عمّا صرف في سبيل اللّه ، فهو أمر مرغوب إليه لا حاجة إلى السؤال. وأمّا عدم السؤال عن المأكل والملبس وغيرهما التي تعد من لوازم الحياة فلكرمه سبحانه على عباده ، وتكون النتيجة السؤال عن كلّ شيء إلاّ ما صرف في سبيل اللّه أو ما تتوقف عليه ضرورة الحياة.

ص: 226


1- نهج البلاغة : الخطبة 82.
2- نهج البلاغة : الخطبة 167.
3- البحار : 7 / 261 ، الباب الحادي عشر من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 10.
4- المصدر نفسه : الحديث 23.

4. هل الحساب يعمّ الجميع ؟

اشارة

هل الحساب يعمّ جميع أفراد الإنسان حتى الأنبياء والمرسلين ، وكلّ من وضع عليه قلم التكليف أم لا ؟ فالآيات الواردة في هذا المجال على أصناف :

أ. ما دلّ على أنّ السؤال يعمّ الجميع حتى العلماء والصديقين ، قال سبحانه : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ ) . (1)

وهذه الآية أوضح ما في الباب في عموم السؤال ، ويؤيده ما روي عن أمير المؤمنين ، انّه قال : « وذلك يوم يجمع اللّه فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب وجزاء الأعمال ». (2)

ب. ما دلّ على أنّ السؤال مرفوع عن الجميع ، قال سبحانه : ( فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ ) . (3)

وقال : ( وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ ) . (4)

ج. ما دلّ على سؤال المجرمين ، قال سبحانه : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) . (5)

د. ما دلّ على أنّ الصابرين يجزون بلا حساب ، قال سبحانه : ( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا

ص: 227


1- الأعراف : 6.
2- نهج البلاغة : الخطبة 102.
3- الرحمن : 39.
4- القصص : 78.
5- الصافات : 22 - 24.

يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) . (1)

فهل كلمة ( بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قيد للفعل ، بمعنى يوفّى الصابرون بغير حساب ؟ أو قيد لقوله : أجرهم ، أي يوفّى الصابرون أجراً هو بغير حساب ؟

فعلى الأوّل : فالصابرون غير مسؤولين أبداً ، فانّ من يوفّى أجره توفية بغير حساب فهو يلازم عدم المحاسبة إذ لو كان هناك حساب لكانت التوفية بمقداره.

روى العياشي ، عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان ، ثمّ تلا هذه الآية : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) . (2)

الحساب التكويني والتدويني

يُصنّف الحساب إلى تكويني وتدويني ، والمراد من الأوّل أنّ عالم الكون خلق على نظم خاصة لا تتخلف ، فحركة الشمس والقمر ، بزوغ النجوم وأفولها ، مهبّ الرياح وهبوط الأمطار ، واخضرار الأشجار ، إلى غير ذلك من الآيات الكونية ، قد خلقت على نظام معين ، يقول سبحانه : ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) (3) ، ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) . (4)

وليس هذا من خصائص الظواهر الطبيعية فحسب ، بل تتعدّاها إلى الحوادث الاجتماعية التي لها ارتباط وثيق بحياة الإنسان والمجتمع.

ص: 228


1- الزمر : 10.
2- مجمع البيان : 4 / 492.
3- الرحمن : 5.
4- يس : 38.

وهذه هي التي يعبر عنها القرآن الكريم في غير واحدة من الآيات :

قال سبحانه : ( سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً ) (1). (2)

فكلّ ما يصدر من الإنسان من الأعمال الحسنة والسيئة فهو ذو تأثير على مصير الفرد والمجتمع يسوقهما إلى السعادة والتكامل أو إلى الشقاء والانحطاط ، أو إلى غير ذلك من الآثار.

بل تؤثر في الحياة الأُخروية ومصير الإنسان فيها ، ولذلك قالوا : الدنيا مزرعة الآخرة ، فما يزرعه فيها يحصده في الدار الآخرة.

وعلى ضوء ذلك فلو كان المراد من الحساب المحاسبة التكوينية ، فالأعمال كلّها تُحاسب بمعنى انّها تؤثر في مصير الإنسان وحياته الأُخروية حسنها وسيّئها ولا يغادر فعل في ذلك المقام.

ولأجل ذلك يفترق الإنسان إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. لأجل جزاء أعماله ولا يتطرق التخصيص إلى المحاسبة الكونية ، فانّ التكوين لا يقبل التخصيص.

هذا كلّه حول الحساب التكويني ، وأمّا الحساب التدويني فهو أمر راجع إلى الأفراد والحكومات ، فكلّ فرد يوازن بين دخله ومصرفه كما تفعل ذلك كافة الدوائر والمؤسسات الحكومية والمالية وغيرها.

وهل الحساب في الدار الآخرة بهذا النحو الذي يمارسه الإنسان في دار الدنيا فتفتح الدواوين والكتب التي هي اضبارة لأعماله فتجمع الحسنات في

ص: 229


1- الأحزاب : 62.
2- ولاحظ فاطر : 43 ;غافر : 85 ; الفتح : 23 ; الإسراء : 77.

قائمة والسيّئات في قائمة أُخرى ثمّ يوازن بينها فإن رجحت حسناته على سيئاته ، فيعطى كتابه بيمينه ، وإن رجحت سيئاته على حسناته فيعطى كتابه بشماله ، قال سبحانه :

( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) . (1)

( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ) . (2)

دراسة الآيات السالفة الذكر

إنّ الاختلاف في شمولية الحساب وعدمها راجع إلى الحساب التدويني ، وأمّا الحساب التكويني فشموليته أمر لا خلاف فيه ، لأنّ مرجع الحساب التكويني يعود إلى الآثار الواقعية للعمل التي لا تنفك عنه ، ولذلك يعم الجميع من دون فرق بين صالح وصالح أو طالح وطالح.

إنّما الكلام في شمولية الحساب التدويني بالمعنى الذي عرفت ، فقد مرّ أنّ بعض الآيات تثبت الشمولية لكافة الناس دون فرق بين الرسول والذين أرسل إليهم. (3)

كما أنّ بعض الآيات تنفي السؤال عن الإنس والجن (4) الذي يلازم نفي الحساب عنهم ، فما هو وجه الجمع بين الطائفتين ؟

وقد اختلفت كلمة المفسرين في الجمع بين الآيات بوجوه :

الأوّل : انّ الآيات النافية للسؤال لا تنفيه بتاتاً ، بل تنفي السؤال على غرار

ص: 230


1- الانشقاق : 7 - 8.
2- الحاقة : 25.
3- لاحظ الأعراف : 6.
4- لاحظ الرحمن : 39.

السؤال في المحاكم.

حيث يُسأل الشخص عن الأعمال التي اقترفها ولِمَ فعلها ؟ بيد انّ السؤال في المحكمة الإلهية ليس على هذا الغرار ، بل انّ آثار الجرائم والذنوب تتجلّى في وجوده على وجه لا يمكن التملص منها ، ولذلك نرى أنّه سبحانه أردف قوله : ( فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ ) (1) بقوله : ( يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ ) . (2)

الثاني : إزاحة الاختلاف بين الطائفتين باختلاف المواقف في يوم القيامة ، حيث يُسأل الإنسان في موقف ولا يُسأل في موقف آخر.

الثالث : حمل الآيات النافية للسؤال ، على السؤال عن طريق اللسان حيث تتكلم الأعضاء مكان الإجابة باللسان ، قال سبحانه : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) . (3)

الرابع : الآيات المثبتة للسؤال ناظرة إلى الأحوال التي يمرّ بها الإنسان في غضون محاكمته ، كما أنّ الآيات النافية ناظرة إلى المواقف التي ختمت فيها محاكمته واتضح مصيره من الجنة والنار. ولعلّ هذا الوجه يرجع إلى الوجه الثاني.

وعلى ذلك فتوفية الصابرين أُجورهم بغير حساب استثناء من الآيات المذكورة.

دراسة شمولية الحساب في الروايات

إنّ الروايات الواردة في هذا المضمار على طوائف :

ص: 231


1- الرحمن : 39.
2- الرحمن : 41.
3- يس : 65.

الأُولى : شمولية الحساب للجميع.

الثانية : شمولية الحساب للجميع عدا المشركين الذين يدخلون الجحيم بلا حساب.

الثالثة : شموليته لهم عدا بعض المؤمنين الذين يدخلون الجنة بلا حساب.

وإليك بعض ما روي في المقام.

أ. روى الإمام الباقر علیه السلام عن النبي صلی اللّه علیه و آله انّه قال : « يا معاشر قرّاء القرآن ، اتّقوا اللّه عزّ وجلّ فيما حملكم من كتابه فانّي مسؤول وانّكم مسؤولون ، انّي مسؤول عن تبليغي ، وأمّا أنتم فتسألون عمّا حملتم من كتاب ربّي وسنتي ». (1)

ويصف الإمام علي علیه السلام يوم القيامة في بعض خطبه ، ويقول : « وذلك يوم يجمع اللّه فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب ». (2)

ب. وقال الإمام علي بن الحسين علیهماالسلام : « اعلموا عباد اللّه انّ أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين وإنّما تنشر الدواوين لأهل الإسلام ». (3)

روى الصدوق عن الإمام علي بن موسى الرضا علیهماالسلام عن آبائه عن النبي صلی اللّه علیه و آله انّه قال : « إنّ اللّه عزّ وجلّ يحاسب كلّ خلق إلاّ من أشرك باللّه عزّوجلّ فانّه لا يحاسب ويؤمر به إلى النار ». (4)

ج. روى المفيد في أماليه بسنده ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر ، عن آبائه ، عن رسول اللّه : « إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الخلائق في

ص: 232


1- أُصول الكافي : 2 / 606.
2- نهج البلاغة : الخطبة 102.
3- بحار الأنوار : 7 / 258 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 2.
4- المصدر السابق : الحديث 7.

صعيد واحد ونادى مناد من عند اللّه يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم ، يقول : أين أهل الصبر ؟ قال : فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم : ماكان صبركم هذا الذي صبرتم ؟ فيقولون : صبرنا أنفسنا على طاعة اللّه ، وصبرناها عن معصيته ، قال : فينادي مناد من عند اللّه : صدق عبادي خلّوا سبيلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب ; قال : ثمّ ينادي مناد آخر يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم ، فيقول : أين أهل الفضل ؟ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم الملائكة ، فيقولون : ما فضلكم هذا الذي ترديتم به ؟ فيقولون : كنا يجهل علينا في الدنيا فنحتمل ، ويساء إلينا فنعفو ، قال : فينادي مناد من عند اللّه تعالى صدق عبادي ، خلّوا سبيلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب ; قال : ثمّ ينادي مناد من اللّه عزّ وجلّ يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم ، فيقول : أين جيران اللّه جلّ جلاله في داره ؟ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة ، فيقولون لهم : ما كان عملكم في دار الدنيا فصرتم به اليوم جيران اللّه تعالى في داره ؟ فيقولون : كنّا نتحاب في اللّه عزّوجلّ ، ونتباذل في اللّه ، ونتوازر في اللّه ، قال : فينادي مناد من عند اللّه تعالى : صدق عبادي خلّوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار اللّه في الجنة بغير حساب ، قال : فينطلقون إلى الجنة بغير حساب ». ثمّ قال أبو جعفر علیه السلام : « فهؤلاء جيران اللّه في داره يخاف الناس ولا يخافون ، ويحاسب الناس ولا يحاسبون ». (1)

إنّ الطائفة الأُولى من الروايات تتفق مع الطائفة الأُولى من الآيات في شمولية الحساب ، كما أنّ الطائفة الثالثة من الروايات تتفق مع ما جاء في الطائفة الثالثة من الآيات في استثناء الصابرين من الحساب ، وإن كانت الروايات أوسع شمولاً من الآيات حيث عطف على الصابرين المخلصين والعافين عن الناس.

ص: 233


1- بحار الأنوار : 7 / 171 - 172 ، باب أحوال المتقين والمجرمين في القيامة من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 1.

ثمّ إنّ عدم سؤال المؤمنين نوع تكريم لهم ، ولكن عدم سؤال المشركين نوع إهانة لهم ، ولا غروة في أن يكون عملٌ واحدٌ تكريماً لقوم واهانة لقومٍ آخرين.

وعلى أيّة حال فالسؤال ونفيه يرجعان إلى السؤال التدويني لا التكويني فانّها عامة قطعاً.

5. ما معنى كونه سبحانه سريع الحساب ؟

إنّ الذكر الحكيم يصف اللّه سبحانه بأنّه سريع الحساب ، يقول : ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) (1) وقد ورد ذلك الوصف في غير واحد من السور. (2)

وفي الدعاء المعروف بالجوشن الكبير : « يا من هو سريع الحساب ».

وحينها يطرح هذا السؤال وهو ما معنى وصفه سبحانه بأنّه سريع الحساب ؟

قد ذكر المفسرون في تفسير ذلك الوصف وجوهاً :

الوجه الأوّل : انّه سبحانه سيجزي المؤمنين والكافرين.

والوصف كناية عن اقتراب الساعة ، قال سبحانه : ( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) . (3)

وربما يطلق الحساب ويراد منه الجزاء.

الوجه الثاني : انّ سريع الحساب كناية عن أنّ العباد سيحاسبون في أسرع

ص: 234


1- غافر : 17.
2- لاحظ البقرة : 202; آل عمران : 19 ، 199; المائدة : 4; الأنعام : 62; الرعد : 41; إبراهيم : 51 ; النور : 39.
3- النحل : 77.

وقت دون أن يظلم أحد منهم.

روي عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام انّه قال : « إنّه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة ». (1)

الوجه الثالث : انّ الحساب لا يختص بالآخرة بل يشمل الدنيا أيضاً ، سواء أكان العمل حسناً أم قبيحاً ، فيحاسب كلّ إنسان حسب عمله ويجزى على وفقه. ويجزى المحسن بتوفيقه للطاعة والإحسان ويجزى المجرم بخذلانه وحرمانه من الخير.

فكلّ عمل أعمّ من الخير والشر يعقبه الجزاء ، بيد انّ الإنسان العادي لا يدرك الجزاء ، ولكن العارف الواعي الذي يحاسب نفسه كلّ يوم يقف على جزاء عمله ، ولذلك ورد في الحديث : « حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ». (2)

هذه هي الوجوه المذكورة في تفسير ذلك الوصف ، والوجهان الأوّلان ناظران إلى أنّ ظرف الحساب هو النشأة الآخرة ، والوجه الأخير ناظر إلى أنّ ظرفه هو النشأة الدنيوية ، ولكلّ دليل يدعمه.

أمّا الوجهان الأوّلان ، فيدل عليهما الآيات التالية التي تنص على أنّ ظرف الحساب هو النشأة الآخرة.

1. ( وَتَرَى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ... لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) . (3)

2. ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) . (4)

ص: 235


1- مجمع البيان : 1 / 298 ; الكشاف : 1 / 248.
2- تفسير الصافي : للفيض الكاشاني.
3- إبراهيم : 49 - 51.
4- الأنعام : 62.

3. ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ) . (1)

غير انّ بعض الآيات يستظهر منها الإطلاق والشمولية للدنيا والآخرة ، يقول سبحانه :

( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) . (2)

والدليل على إطلاقه وشموليته الآية التالية بعدها ، يقول :

( أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) . (3)

وجه دلالته : انّه سبحانه يحكم في هذه الدنيا بحبط أعمالهم في النشأتين ، ولا يحكم بالحبط إلاّ بعد الحساب.

وممّا يؤيد الشمول قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) . (4)

وظاهر الآية انّه سبحانه تبارك وتعالى يوصي في الصيد بالتقوى والإعراض عن اللّهو والهوى وأن يكون الصيد لأجل سدّ العيلة ، وما ذلك إلاّ لأنّه سبحانه بالمرصاد لهم وهو سريع الحساب.

فتحصل ممّا ذكرنا انّ الآيات على طائفتين :

ص: 236


1- النور : 39.
2- آل عمران : 19.
3- آل عمران : 22.
4- المائدة : 4.

الأُولى : ما هي صريحة أو ظاهرة في أنّ ظرف الحساب هي النشأة الأُخرى.

الثانية : ما هي ظاهرة في أنّ ظرفه هي النشأة الدنيوية ، أو مطلقة تعم النشأتين.

وعلى ضوء هذا التقسيم يكون المعنى الثاني والثالث أوفق بتفسير « سريع الحساب ».

وأمّا المعنى الأوّل الذي يفسر الحساب بالجزاء فهو أبعد من ظاهر الآية فانّه يجعل الوصف كناية عن اقتراب الساعة وهو في غاية البعد.

ولا غرو في أن يكون سبحانه سريع الحساب ، فكما هو يسمع دعاء الجميع في آن واحد ويرزقهم مجتمعين يحاسبهم كذلك.

سئل علي علیه السلام كيف يحاسب اللّه الخلق على كثرتهم ؟ فقال علیه السلام : « كما يرزقهم على كثرتهم » فقيل كيف يحاسبهم ولا يرونه ؟ فقال علیه السلام : « كما يرزقهم ولا يرونه ». (1)

6. ما هو المقصود من سوء الحساب ؟

إنّ الذكر الحكيم يصف الحساب في موارد بالسوء ، ويقول : ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) . (2) وفي آية أُخرى : ( أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الحِسَابِ ) . (3)

وعندئذٍ يطرح السؤال التالي نفسه :

إذا كان الموكلون للحساب أُمناء صادقين فما هو الوجه في وصف الحساب بالسوء ؟

ص: 237


1- نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 300.
2- الرعد : 21.
3- الرعد : 18.

والجواب : انّ المراد من سوء الحساب هو الحساب الصادق الذي يسيء صاحبه ، لأنّه يرى كلّ صغير وكبير من أعماله فيه مستتراً وعند ذلك تثور ثورته ويناله ذلك الحساب الصادق.

روى هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام في تفسير قوله تعالى : ( وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) ، انّه قال : « الاستقصاء والمداقة » وقال : « يحسب عليهم السيئات ولا يحسب لهم الحسنات ». (1)

روى حماد بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال لرجل : « يا فلان مالك ولأخيك ؟! » قال : جعلت فداك كان لي عليه حقّ فاستقصيت منه حقّي ، قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « أخبرني عن قول اللّه : ( وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) أتراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم ؟ لا واللّه خافوا الاستقصاء والمداقة ». (2)

وروى محمد بن عيسى (3) عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام انّه قال لرجل شكاه بعض إخوانه : « ما لأخيك فلان يشكوك » فقال : أيشكوني ان استقصيت حقي ؟! قال : فجلس مغضباً ، ثمّ قال : « كأنّك إذا استقصيت لم تسئ ، أرأيت ما حكى اللّه تبارك وتعالى : ( وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) أخافوا أن يجور عليهم ؟ لا واللّه ما خافوا إلاّ الاستقصاء. فسمّاه اللّه سوء الحساب ، فمن استقصى فقد أساء ». (4)

7. من هم الذين يحاسبون حساباً يسيراً ؟

انّه كما يذكر سبحانه سوء الحساب يذكر يسر الحساب أيضاً ، يقول

ص: 238


1- بحار الأنوار : 7 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 27 و 28.
2- بحار الأنوار : 7 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 27 و 28.
3- المراد به محمد بن عيسى العُبيد.
4- المصدر السابق ، الحديث 29.

سبحانه : ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) (1) غير أنّ المهم هو الوقوف على من يحاسب بهذا النوع من الحساب.

ويستفاد من الآية التالية : أنّ صلة الرحم توجب يسر الحساب ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) . (2) وهذا يوحي إلى أنّ قطع الرحم يوجب سوء الحساب ووصلها يوجب يسره ، وقد ورد في بعض الروايات أنّ صلة الرحم تهون الحساب يوم القيامة ، ثمّ قرأ : ( يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) .

8. اختلاف العباد عند الحساب

انّه سبحانه كما يحاسب بعض العباد بالدقة والاستقصاء ، يحاسب بعضهم بالعفو والإغماض ، فمن بلغ في العقل والوعي مرتبة سامية يحاسب حساباً دقيقاً ، بخلاف من لم يبلغ تلك المرتبة من العقل والوعي فانّه يحاسب دون ذلك.

يقول الإمام الباقر علیه السلام : « إنّ ما يداقّ اللّه العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا ». (3)

وروي عن الإمام الصادق علیه السلام انّه قال : « إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان ، للحساب كلاهما من أهل الجنة ، فقير في الدنيا ، وغني في الدنيا ، فيقول الفقير : يا ربّ على ما أوقف ؟ فوعزتك إنّك لتعلم أنّك لم تولّني ولاية فأعدل فيها أو أجور ، ولم ترزقني مالاً فأُؤدّي منه حقاً أو أمنع ، ولا كان رزقي يأتيني منها

ص: 239


1- الانشقاق : 7 - 8.
2- الرعد : 21.
3- بحار الأنوار : 7 / 267 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 32.

إلاّ كفافاً على ما علمت وقدّرت لي ، فيقول اللّه جلّ جلاله : صدق عبدي خلّوا عنه يدخل الجنّة. ويبقى الآخر حتّى يسيل منه من العرق ما لو شربه أربعون بعيراً لكفاها ، ثمّ يدخل الجنة ، فيقول له الفقير ، ماحبسك ؟ فيقول : طول الحساب ، مازال الشيء يجيئني بعد الشيء يغفر لي ، ثمّ اسأل عن شيء آخر حتى تغمّدني اللّه عزّوجلّ منه برحمة وألحقني بالتائبين ، فمن أنت ؟ فيقول : أنا الفقير الذي كنت معك آنفاً ، فيقول : لقد غيّرك النعيم بعدي ». (1)

9. إتمام الحجّة على العباد عند الحساب

إنّ الحساب على أصناف :

أ. إذا كان جاهلاً وكان جهله عن قصور ، فترك الواجب أو اقترف الحرام من دون أن يحتمل كون المتروك واجب الفعل ، والمأتي واجب الترك ، فهذا هو الجاهل القاصر الذي يكون معذوراً سواء أكان بين العلماء ولم يحتمل كون المتروك واجباً أو المفعول حراماً ، أو لم يكن بينهم بل كان يقطن في بيئة نائية عن العلم.

ب. إذا اقترف المحرمات أو ارتكب الواجبات عن تقصير ، بأن كان جاهلاً ولم يتعلّم ، وهذا نظير القسم الثالث أي العالم بالأحكام.

فربما يعتذر ذلك الجاهل بجهله ويتترّس به ، فيخاطب لماذا لم تتعلم ؟

روى هارون ، عن ابن زياد ، قال : سمعت جعفر بن محمد علیهماالسلام يقول وقد سئل عن قوله تعالى : ( قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) ؟ فقال : « إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالماً ؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت ؟ وإن قال كنت جاهلاً ، قال له : أفلا تعلَّمت حتى تعمل ؟ فيخصم ، فتلك الحجّة

ص: 240


1- بحار الأنوار : 7 / 259 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 4.

لله عزّ وجلّ على خلقه » (1).

روى عبد الأعلى مولى آل سام ، قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام ، يقول : « يؤتى بالمرأة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها ، فتقول : يا ربِّ حسنت خلقي حتى لقيت ما لقيت ، فيجاء بمريم علیهاالسلام ، فيقال : أنت أحسن أو هذه ؟ قد حسّنّاها فلم تُفتتن ، ويجاء بالرجل الحسن الذي قد افتتن في حسنه ، فيقول : يا ربّ حسّنتَ خلقي حتى لقيتُ من النساء ما لقيتُ ، فيجاء بيوسف علیه السلام ، فيقال : أنت أحسن أو هذا ؟ قد حسنّاه فلم يفتتن ، ويجاء بصاحب البلاء الذي قد أصابته الفتنة في بلائه ، فيقول : يا ربّ شددت عليّ البلاء حتى افتتنت ، فيجاء بأيوب علیه السلام ، فيقال : أبليّتك أشد أو بلية هذا ؟ فقد ابتلي فلم يفتتن ». (2)

10. الاعتراف بالذنوب ورجاء العفو والمغفرة

يظهر من غير واحد من الروايات أنّ كثيراً من الناس يعترفون بذنوبهم مع حسن الظن بربّهم ويكون ذلك سبباً لمغفرتهم ، وقد وردت في ذلك روايات نذكرها تباعاً لتكون حسن ختام لهذا الفصل.

روى علي بن رئاب قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « يؤتى بعبد يوم القيامة ظالم لنفسه ، فيقول اللّه له : ألم آمرك بطاعتي ؟ ألم أنهك عن معصيتي ؟ فيقول : بلى يا ربِّ ، ولكن غلبت عليَّ شهوتي ، فان تعذّبني فبذنبي لم تظلمني ، فيأمر اللّه به إلى النار ، فيقول : ما كان هذا ظني بك ، فيقول : ما كان ظنك بي ؟ قال : كان ظنّي بك أحسن الظن ، فيأمر اللّه به إلى الجنة ، فيقول اللّه تبارك وتعالى : لقد

ص: 241


1- بحار الأنوار : 7 / 285 ، الباب 13 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 1.
2- بحار الأنوار : 7 / 285 ، الباب 13 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 3.

نفعك حسن ظنك بي الساعة ». (1)

وروى سليمان بن خالد ، قال : قرأت على أبي عبد اللّه علیه السلام هذه الآية : ( إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) (2) ، فقال : هذه فيكم ، انّه يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتى يوقف بين يدي اللّه عزّ وجلّ ، فيكون هو الذي يلي حسابه فيوقفه على سيئاته شيئاً شيئاً ، فيقول : عملتَ كذا في يوم كذا في ساعة كذا ، فيقول : اعرف يا رب ، قال : حتى يوقفه على سيئاته كلّها ، كلّ ذلك يقول : أعرف ، فيقول : سترتها عليك في الدنيا ، وأغفرها لك اليوم ، أبدلوها لعبدي حسنات ، قال : فترفع صحيفته للناس ، فيقولون : سبحان اللّه ، أما كانت لهذا العبد سيئة واحدة ؟ وهو قول اللّه عزّوجلّ : ( أُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) . (3) .

ص: 242


1- بحار الأنوار : 7 / 288 ، الباب 14 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 4.
2- الفرقان : 70.
3- بحار الأنوار : 7 / 288 ، باب 14 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 5.

الفصل الثامن عشر : مواقف القيامة وطول يومها

اشارة

دلّت الآيات الكريمة على طول يوم القيامة وانّ للإنسان فيه مواقف يُعبَّر عنها بالعقبات.

أمّا طول يومها فيدل ظاهر بعض الآيات على أنّ مقداره خمسون ألف سنة ، وفي الوقت نفسه يستظهر من بعض الآيات انّ طوله ألف سنة ، فكيف يمكن التوفيق بينهما ؟

أمّا ما يدل على أنّ طوله خمسون ألف سنة فقوله سبحانه : ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) . (1)

والمراد من يوم هو يوم القيامة بشهادة قوله سبحانه بعده : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالمُهْلِ * وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ ) . (2)

وما يدل على أنّ طول يومها ألف سنة قوله سبحانه : ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) . (3)

ص: 243


1- المعارج : 4.
2- المعارج : 6 - 9.
3- السجدة : 5.

وقوله سبحانه : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) . (1)

فقوله : ( مِّمَّا تَعُدُّونَ ) شاهد صدق على أنّ المقياس لهذا العدد هو السنين الدنيوية ، وعليه يختلف مضمون الآيات بين ما يعد طوله 50 ألف سنة من السنين الدنيوية وألف سنة كذلك.

وقد اختلف المفسرون في التوفيق بين الآيتين ، وأحسن ما ذكر هو انّ للناس يوم القيامة « 50 » موقفاً يلبث الإنسان المحاسب في كلّ واحد ألف سنة ، فيكون مجموع لبثه فيها خمسين ألف سنة.

روى المفيد في أماليه ، قال : قال أبو عبد اللّه جعفر بن محمد علیهماالسلام : « ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، فانّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدون » ثمّ تلا هذه الآية ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (2). (3)

وهنا سؤال يطرح نفسه وهو : هل تعم تلك المدة جميع المحشورين ، أو انّها تختلف ؟

يظهر من بعض الروايات انّها تخفف عن المؤمن.

روى أبو سعيد الخدري قال : قيل : يا رسول اللّه ما أطول هذا اليوم ؟ فقال : « والذي نفس محمد بيده انّه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا ». (4)

ص: 244


1- الحج : 47.
2- المعارج : 4.
3- بحار الأنوار : 7 / 126 ، الباب 6 من أبواب كتاب العدل والمعاد ، الحديث 3.
4- مجمع البيان : 5 / 353 ، تفسير سورة المعارج.

وعلى ضوء هذا فليوم القيامة خمسون موقفاً يقف عندها الإنسان للسؤال والحساب فمن ثقلت موازينه فهو يجتازها بسرعة ، وأمّا من خفت موازينه فيلبث فيها مدة طويلة تدوم إلى خمسين ألف سنة ، وقد مرَّ على أنّ المؤمن الفقير يحاسب بأسرع مما يحاسب به المؤمن الثري وهكذا ، وسيوافيك في فصل الصراط ما يدل على أنّ الصراط أحدّ من السيف وأدق من الشعرة إنّما هو بالنسبة إلى غير المؤمن ، وأمّا بالنسبة إلى المؤمن فهو عريض وغير حاد.

إلى هنا تبيّن طول يوم القيامة وقصرها إلى الكافر والمؤمن ، وإليك البحث في مواقفها.

مواقف يوم القيامة

دلّت الروايات الماضية على أنّ ليوم القيامة مواقف تقف فيها العصاة ويعبّر عنها بالقنطرة تارة ، والعقبة أُخرى ، والمواقف ثالثة.

يقول أمير المؤمنين علیه السلام في وصيته لابنه الحسن علیه السلام : « واعلم انّ أمامك عقبة كؤوداً ، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل ، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع ، وانّ مهبطك بها لا محالة إمّا على جنة أو على نار ». (1)

نعم اختلف العلماء في حقيقة تلك المواقف والعقبات ففسّرها الصدوق بظواهر ما ورد في الروايات وانّ لكلّ عقبة اسماً من الفرائض يقول : اعتقادنا في العقبات التي على طريق المحشر انّ كلّ عقبة منها اسمها اسم فرض وأمر ونهي ، فمتى انتهى الإنسان إلى عقبة اسمها فرض وكان قد قصر في ذلك الفرض حبس عندها وطولب بحقّ اللّه فيها ، فإن خرج منها بعمل صالح قدّمه أو برحمة تداركه نجا منها إلى عقبة أُخرى ، فلا يزال يدفع من عقبة إلى عقبة ، ويحبس عند كلّ عقبة

ص: 245


1- نهج البلاغة ، قسم الرسائل رقم 31.

فيسأل عمّا قصر فيه من معنى اسمها ، فإن سلم من جميعها انتهى إلى دار البقاء فيحيا حياة لا موت فيها أبداً ، وسعد سعادة لا شقاوة معها أبداً ، وسكن في جوار اللّه مع أنبيائه وحججه والصدّيقين والشهداء والصالحين من عباده ، وان حبس على عقبة فطولب بحقّ قصر فيه فلم ينجه عمل صالح قدّمه ولا أدركته من اللّه عزّوجلّ رحمة زلت به قدمه عن العقبة فهوى في جهنم - نعوذ باللّه منها - وهذه العقبات كلّها على الصراط ، اسم عقبة منها الولاية ، يوقف جميع الخلائق عندها فيسألون عن ولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده صلی اللّه علیه و آله فمن أتى بها نجا وجاز ، ومن لم يأت بها بقي فهوى ، وذلك قول اللّه عزّوجلّ : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) وأهمّ عقبة منها المرصاد وهو قول اللّه عزّوجلّ : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ ) ويقول عزّ وجلّ : وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم. واسم عقبة منها الرحم ، واسم عقبة منها الأمانة ، واسم عقبة منها الصلاة ، وباسم كلّ فرض أو أمر أو نهي عقبة يحبس عندها العبد فيسأل. (1)

وقد اكتفى الصدوق بظواهر الروايات ، فزعم انّ هناك عقبة واقعية لكلّ اسم من أسماء الفرائض وغيرها وانّ أهمّ العقبات عقبة المرصاد ، قال أمير المؤمنين علیه السلام : « وإن أمهل اللّه الظالم فلن يفوت أخذه وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه ». (2)

ويدل على ما ذكره الصدوق لفيف من الروايات :

1. ما رواه الصدوق في ثواب الأعمال ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في قول اللّه عزّوجلّ : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ ) قال : « قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة ». (3) .

ص: 246


1- بحار الأنوار : 7 / 128 ، الحديث 11.
2- نهج البلاغة : الخطبة 71.
3- بحار الأنوار : 8 / 66 ، الباب 22 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 6.

2. روى ابن عباس في تفسير قوله : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ ) ، قال : « انّ على جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عند أوّلها عن شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني ، فيسأل عن الصلاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث ، فيسأل عن الزكاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع ، فيسأل عن الصوم ، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس ، فيسأل عن الحج ، فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس ، فيسأل عن العمرة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع ، فيسأل عن المظالم ، فإن خرج منها وإلاّ يقال : انظروا ، فإن كان له تطوّع أكمل به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنّة ». (1)

وحصيلة هذه الروايات انّ هناك مواقف وقناطر على الصراط سمّي كلّ واحد بواحد من أسماء الفرائض يوقف فيها الإنسان ويُسأل عنها.

هذا تفسيرٌ وللشيخ المفيد تفسير أفضل من تفسير الصدوق ، وحاصل ما أفاده هو : انّ المراد من العقبات هي الفرائض ، فيسأل الإنسان عنها ، دون أن يكون في البين جبال وعقبات يعبرها الإنسان حتى يصل إلى الجنة أو النار ، وإنّما سمّيت الفرائض بالعقبات لأنّ إطاعتها لا تخلو عن صعوبة ومشقة ، يقول الشيخ المفيد :

العقبات عبارة عن الأعمال الواجبة والمساءلة عنها والمواقفة عليها ، وليس المراد به جبال في الأرض تقطع ، وإنّما هي الأعمال شبّهت بالعقبات ، وجعل الوصف لها يلحق الإنسان في تخلصه من تقصيره في طاعة اللّه تعالى ، كالعقبة التي تجهده صعودها وقطعها قال اللّه تعالى : ( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ) فسمّى سبحانه الأعمال التي كلّفها العبد عقبات تشبيهاً بالعقبات والجبال ، لما يلحق الإنسان في أدائها من المشاق ، كما يلحقه في صعود العقبات

ص: 247


1- مجمع البيان : 9 - 10 / 739 ، تفسير سورة الفجر.

وقطعها ، وقال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه : « إنّ أمامكم عقبة كؤوداً ، ومنازل مهولة لابدّ من الممرّ بها ، والوقوف عليها ، فإمّا برحمة اللّه نجوتم ، وإمّا بهلكه ليس بعدها انجبار ». أراد علیه السلام بالعقبة تخلّص الإنسان من العقبات التي عليها ، وليس كما ظنه الحشوية من أنّ في الآخرة جبالاً وعقبات يحتاج الإنسان إلى قطعها ماشياً وراكباً ، وذلك لا معنى له فيما توجبه الحكمة من الجزاء ، ولا وجه لخلق عقبات تسمّى بالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها من الفرائض يلزم الإنسان أن يصعدها ، فإن كان مقصراً في طاعة اللّه ، حال ذلك بينه وبين صعودها ، إذ كان الغرض في القيامة المواقفة على الأعمال والجزاء عليها بالثواب والعقاب ، وذلك غير مفتقر إلى تسمية عقبات ، وخلق جبال وتكليف قطع ذلك وتصعيبه أو تسهيله ، مع أنّه لم يرد خبر صحيح بذلك على التفصيل فيعتمد عليه وتخرج له الوجوه ، وإذا لم يثبت بذلك خبر كان الأمر فيه ما ذكرناه. (1)

ويدل على صحة ما ذكره المفيد هو انّه سبحانه أسمى بعض الفرائض بالعقبات ، فقد سمّى فك الرقبة أو الإطعام في يوم المسغبة عقبة ، فقال سبحانه : ( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ) . (2)

فقد شبّه القيام بالفرائض بمن يقطع العقبات في الصعوبة والمشقة من دون أن تكون هناك جبال ومنعرجات ، فمن استقبل الفرائض برحابة صدر فقد قطع العقبات بسرعة وأمّا من لم يستقبلها أبداً أو استقبل بعضها دون بعض فهو مثل من يقطع العقبات بشق الأنفس.

والذي يدل على ما ذكرنا قوله سبحانه بعد تلك الآية : ( ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ

ص: 248


1- بحار الأنوار : 7 / 129.
2- البلد : 11 - 16.

آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ) . (1)

وحصيلة المعنى بعد جمع الآيات الواردة في سورة البلد هو انّ شقاء الإنسان وسعادته في الآخرة رهن عبور تلك العقبات وماهي إلاّ فك الرقبة أو إطعام الأيتام والفقراء والمساكين والأمر بالصبر والرحمة إلى غير ذلك من الفرائض ، فينتهي أمره إلى أن يكون من أصحاب الميمنة كما انّ عكسه ينتهي إلى أن يكون من أصحاب المشئمة دون أن تكون هناك عقبات ومنعرجات صعبة العبور يؤمر أهل المحشر بطيّها وعبورها.

والذي يدلّك على صحّة ما ذكره الشيخ المفيد أنّ طي العقبات الدنيوية رهن الكفاءات الذاتية ، دون العقبات الأُخروية فانّها رهن الإيمان والعمل الصالح ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ العقبات كناية عن العمل بالفرائض التي يتوقف العمل بها على الصبر والإيمان الراسخ باللّه والصبر على طاعته. .

ص: 249


1- البلد : 17 - 20.

الفصل التاسع عشر : ميزان الأعمال

اشارة

دلّت الآيات والروايات على وجود الميزان يوم القيامة الذي تُوزن به الأعمال ، إنّما الكلام في واقع هذا الميزان ، والآيات الواردة في هذا الصدد على صنفين ، فصنف يذكر أصل وجود الميزان ، وصنف آخر يتعرض لنتائجه ، وإليك بعض ما يدل على الصنف الأوّل :

1. ( وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) . (1)

الموازين جمع الميزان ، والآية صريحة في أنّ نصبه يوم القيامة مظهر عدله وقسطه.

2. ( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) . (2)

فقوله : ( فَلا نُقِيمُ ) بمعنى ان لا نقيم لهم ميزاناً توزن به أعمالهم ، وذلك لأنّهم حبطت أعمالهم فلم يبق في صحيفة أعمالهم شيء حسن حتى يوزن به ، وهذه

ص: 250


1- الأنبياء : 47.
2- الكهف : 105.

الآيات ناظرة إلى أصل وجود الميزان.

وإليك ما يدل على الصنف الثاني :

1. ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) . (1)

2. ( فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ) . (2)

3. ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) . (3)

هذه هي الآيات الواردة في أصل الميزان ونتائجه :

وإليك البحث في محورين آخرين :

الأوّل : نظرية المفسرين والمتكلّمين في حقيقة الميزان.

الثاني : الميزان من منظار القرآن والحديث.

وإليك البحث في المحور الأوّل.

قد فسر الميزان بتفاسير مختلفة نذكر منها ما يلي :

1. الميزان يوم القيامة كموازين الدنيا

ذهب بعض المتكلّمين من المعتزلة وقاطبة أهل الحديث إلى أنّه ينصب يوم القيامة ميزان كموازين الدنيا وتوضع الأعمال الصالحة في كفة والطالحة في كفة

ص: 251


1- المؤمنون : 102 - 103.
2- القارعة : 6 - 9.
3- الأعراف : 8 - 9.

أُخرى ، فيوزن ، فلو رجحت كفة الأعمال الصالحة على الطالحة فهو سعيد ، وإلاّ فهو شقي.

قال العلاّمة في كشف المراد :

قال شيوخ المعتزلة : إنّه يوضع ميزان حقيقي له كفتان يوزن به ما يتبيّن من حال المكلّفين في ذلك الوقت لأهل الموقف ، إمّا بأن يوضع كتاب الطاعات في كفة الخير ويوضع كتاب المعاصي في كفة الشر ويجعل رجحان أحدهما دليلاً على إحدى الحالتين ، أو بنحو من ذلك ، لورود الميزان سمعاً ، والأصل في الكلام الحقيقة مع إمكانها. (1)

وقد اعترض على هذا الوجه جماعة من المتكلّمين ، بقولهم : إنّ الأعمال من مقولة الأعراض وهي تفقد الثقل فكيف توزن ؟

وقد حكى عنهم صاحب المقاصد هذا الاعتراض بقوله : إنّ للميزان كفتين ولسان وساقين عملاً بالحقيقة لإمكانها ، وأنكره بعض المعتزلة ذهاباً إلى أنّ الأعمال أعراض لا يمكن وزنها فكيف إذا زالت وتلاشت ، وأجاب عنه الآخرون بأنّ المراد توزين صحائف الأعمال أو جعل الحسنات أجساماً نورانية والسيّئات أجساماً ظلمانية. (2)

والأولى أن يقال : إنّ هذا النوع من التفسير أخذ بحرفية النص دون التدبّر في مغزاه ، فانّ للكلام ظهورين :

أ. ظهور تصوّري بدوي.

ب. ظهور تصديقي.

ص: 252


1- كشف المراد : 297 ، ط مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام .
2- شرح المقاصد : 2 / 223 ، ط آستانة.

والمراد من الأوّل هو ما يفهمه الإنسان عند سماع اللفظ دون تدبّر في القرائن الحافة به.

والمراد من الثاني هو ما يذعن به الإنسان بعد الإحاطة بالقرائن الحافة بالكلام. فربما يكون المتبادر عندئذ من الكلام غير ما هو المتبادر من الظهور الابتدائي ، وهذا ما نوضحه بمثال :

قد اشتهرت الكناية عن السخاء والجود بقولهم فلان باسط اليد ، ولا يغلق بابه ، فالظهور البدوي منه عبارة عمّا يتبادر من ظاهر اللفظ وهو كون يده المحسوسة مبسوطة لا تجمع ، وانّ بابه لا يغلق ، ولكنّه ليس بمراد قطعاً ، وإنّما المراد هو الظهور التصديقي ، وهو التأمّل في مفهوم هذه الجمل والانتقال إلى ما صيغ لأجله الكلام ، وهو أنّه سخي ، وبابه مفتوح لكلّ من يحلّ ضيفاً عليه وآفة أهل الحديث انّهم يفسرون الآيات الراجعة إلى المعارف بحرفيتها ولا يتأملون في القرآئن الحافة بالكلام حتى يقفوا على ما أُريد من الآيات.

2. الميزان هو العدل الإلهي

اشارة

يقول صاحب المقاصد : المراد به العدل الثابت في كلّ شيء ، ولذا ذكره بلفظ الجمع. (1)

وحاصل هذه النظرية : انّه سبحانه يتعامل مع عباده بالعدل والقسط ويقضي به ، وهذا هو المراد من نصب الموازين.

أقول : إنّ النظرية الأُولى نظرية بعيدة عن الصواب ، وأمّا الثانية فهي تتعرض إلى نتيجة الميزان من دون أن تشير إلى واقعه ، وانّه بعدما تم التوزين يتعامل سبحانه في قضائه بالعدل والقسط ، فلابدّ قبل القضاء والتعامل من أداة تبيّن

ص: 253


1- شرح المقاصد : 2 / 223 ، ط آستانة.

حال العباد من حيث الطاعة والعصيان ، حتى تصل النوبة إلى قضائه سبحانه ، فما هي تلك الأداة التي تكون معياراً لكثرة الطاعات أو قلتها ؟ وهذا ما سنتناول البحث فيه ضمن أُمور :

أ. الميزان واستعمالاته في القرآن

إنّ للميزان معناً واحداً وله تطبيقات مختلفة :

- الميزان الذي يوزن به المتاع ، قال سبحانه : ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) . (1)

- الميزان : هو الانسجام والنظم السائدة في عالم الخلق ، قال سبحانه : ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ ) . (2)

فقوله : ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا ) قرينة على أنّ المراد من الميزان هو منح النظم التي بها قامت السماوات والأرض فمنظومتنا الشمسية قائمة على أساس التعادل والموازنة بين الجاذبية المركزية للشمس ، والقوى الطاردة لسائر السيارات ، ولولا هذا التعادل الذي عبر عنه القرآن الكريم بالميزان لما قامت لمنظومتنا الشمسية دعامة.

- الميزان : هو القوانين العادلة التي تقنّن في سبيل خدمة الإنسان والمجتمع ، قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (3) فالمراد من الميزان بقرينة قوله : ( أَنزَلْنَا ) هو التشريع السماوي الذي أنزله سبحانه بإنزال كتابه ، كما يحتمل أن يكون المراد من الميزان هو قضاء العقل

ص: 254


1- هود : 85.
2- الرحمن : 7.
3- الحديد : 25.

الحصيف ، ولا غرو في أنّ الميزان بهذا المعنى منزلٌ كإنزال الحديد ، قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) . (1)

هذه هي تطبيقات لمفهوم الميزان في القرآن.

ب. لكلّ شيء ميزان يوزن به

الألفاظ الواردة في القرآن الكريم التي تصف مشاهد القيامة لها حقائق غيبية غير معلومة لنا ، ومن هذه الألفاظ لفظ « الميزان » الذي نحتمل أن يكون له واقعية غير ما نشاهد من الموازين العرفية ، ويتضح ذلك من خلال البيان التالي :

كان الميزان يطلق قبل فترة طويلة على ما يوزن به المتاع بشيء له كفتان ولسان وساقان ، وظلّ البشر يستعمل الميزان في ذلك المصداق ولكن الثورة الصناعية التي اجتاحت الغرب كشفت عن موازين لم تكن موجودة من ذي قبل ، فأخذ يوزن استهلاك الماء والكهرباء والغاز والهاتف وغيرها ، بل أحدث ميزاناً يوزن به حرارة الهواء وضغط الجو والدم الذي يجري في عروق الإنسان وقلبه ، كما أنّه نجح نجاحاً باهراً في صناعة الكامبيوتر فأحدث تحولاً جذرياً في حياته ، حتى عرف هذا العصر بعصر الكامبيوتر ، فأصبح كمعيار لتصحيح الأغلاط التي يقع الإنسان فيها.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ لكلّ شيء ميزاناً خاصاً يناسب وجود الشيء وليس الميزان منحصراً بماله كفتان ولسان وساقان ، وعندئذ يصحّ أن نقول : إنّ الميزان المنصوب يوم القيامة شيء أعظم ممّا وصل إليه الفكر البشري.

وخلاصة القول فيه : إنّه شيء يعلم به صالح الأعمال عن طالحها ، قلّتها

ص: 255


1- الحديد : 25.

عن كثرتها ، والعقائد الصحيحة والباطلة ، وإن لم يعلم لنا ما هي خصوصيات ذلك الميزان.

إذا علمت ذلك فلنرجع إلى تفسير قوله سبحانه : ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) . (1)

وقد اختلفت كلمة المفسرين في تفسير الآية ، نذكر منها ثلاثة احتمالات :

الأوّل : أنّ الوزن مصدر بمعنى التوزين ، وهو مبتدأ خبره الحق ، والمراد أنّ توزين الأعمال ومحاسبتها أمر حقّ لا سترة فيه.

الثاني : أنّ الوزن بمعنى الميزان أي ما يوزن به ، ويكون المراد أنّ ما يوزن به هو الحقّ ، فالحقّ هو الذي يعرف به حقائق الأعمال عند قياسها إليه. فكلّ عمل تمتع بقسط وافر من الحقّ ثقل الميزان عندئذٍ في مقابل عمل لا يتمتع بقسط من الحقّ أو يتمتع بشيء قليل فيخفف ميزانه. فيصبح الحقّ مثل الثقل في الموازين العرفية غير انّ الثقل فيها يوضع في كفة والمتاع في كفة أُخرى.

وأمّا الحقّ فلا يكون شيئاً منفكَّاً عن العمل ، بل بمقدار ما يتمتع به ترجح كفته.

الثالث : انّ الحقّ بمنزلة الثقل في الموازين العرفية ، ويكون له تجسّم واقعيٌّ يوم القيامة ، فبمطابقته وعدمها يعرف صلاح الأعمال عن غيرها.

والفرق بين الثاني والثالث واضح ، فإنّ الحقّ على المعنى الثاني يكون داخلاً في جوهر الأعمال فبمقدار ما يوصف به العمل من الحقّ ، وأمّا الاحتمال الثالث فالحقّ بالذات هو الموجود المجسَّم يوم القيامة ، ولا يعلم صلاح الأعمال عن

ص: 256


1- الأعراف : 8 - 9.

ضدها ، إلاّ بعرضها على الحقّ المجسَّم فبمقدار ما يشبهه ويناسبه يكون موصوفاً بالحقّ ، دون مالم يكن كذلك فيوصف بالباطل.

وهذا المعنى الثالث هو المستفاد من بعض الروايات ، قال الإمام الصادق علیه السلام في تفسير قوله : ( وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ ) هم الأنبياء والأوصياء (1) ، ولعلّ أعمال كلّ أُمّة تعرض على أنبيائهم فبالمطابقة مع أعمالهم ومخالفتها معهم يعلم كونه سعيداً أو شقياً ، ويؤيد ذلك ما نقرأه في زيارة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام حيث ورد فيه ، « السلام على يعسوب الإيمان وميزان الأعمال ». (2)

وكأنّ الإمام أمير المؤمنين حقّ مجسّم فمن شابهه فهو ممن ثقلت موازينه ، ومن لم يشابهه فهو ممن خفت موازينه.

وإن شئت قلت : إنّ الإنسان المثالي أُسوة في الدنيا والآخرة يميّز به الحقّ عن الباطل ، بل الطيب عن الخبيث ، وهذا أمر جار في الدنيا والآخرة.

وبذلك تقف على إتقان ما روي عن الإمام زين العابدين ، وقد قال فيما كان يعظ به الناس : « ثمّ رجع القول من اللّه في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب ، فقال عزّ وجلّ : ( وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) (3) ، فإن قلتم أيّها الناس ، إنّ اللّه عزّوجلّ إنّما عني بهذا أهل الشرك فكيف ذلك ، وهو يقول : ( وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (4) واعلموا عباد اللّه أنّ أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين وإنّما يحشرون إلى

ص: 257


1- بحار الأنوار : 7 / 249 ، الباب العاشر من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 6.
2- مفاتيح الجنان ، الزيارة الرابعة للإمام أمير المؤمنين علیه السلام .
3- الأنبياء : 46.
4- الأنبياء : 47.

جهنم زمراً ، وإنّما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام ». (1)

ويؤيد ذلك أيضاً ما نقل عن الإمام السجاد علیه السلام انّه قال : « ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق ». (2)

وبما انّ حسن الخلق من أبرز صفات الأنبياء فمن تمتع به فهو أشبه بالأنبياء من غيرهم فيكون عمله عملاً قيماً له أثره الخاص.

وللمحقّق الكاشاني كلام في تفسير الملكين المعروفين بمنكر ونكير يناسب ذكره في المقام لصلته بما ذكرنا ، يقول : ويخطر بالبال انّ المنكر عبارة عن جملة الأعمال المنكرة التي فعلها الإنسان في الدنيا فتمثلتا في الآخرة بصورة مناسبة لها مأخوذ مما هو وصف الأفعال في الشرع ، أعني : المذكور في مقابلة المعروف.

والنكير هو الإنكار لغة ولا يبعد أن يكون الإنسان إذا رأى فعله المنكر في تلك الحال أنكره ووبخ نفسه عليه فتمثل تلك الهيئة الإنكارية أو مبدؤها من النفس بمثال مناسب لتلك النشأة فانّ قوى النفس ومبادئ آثارها كالحواس ومبادئ اللجم تسمّى في الشرع بالملائكة.

ثمّ إنّ هذا الإنكار من النفس لذلك المنكر يحملها على أن تلتفت إلى اعتقاداتها وتفتش عنها ، أهي صحيحة حسنة حقة أم فاسدة خبيثة باطلة ؟ ليظهر نجاتها وهلاكها ويطمئن قلبها.

وذلك لأنّ قبول الأعمال موقوف على صحّة الاعتقاد بل المدار في النجاة على ذلك كما هو مقرر ضروري من الدين ، وإليه أُشير بقوله صلی اللّه علیه و آله : « حب علي حسنة لا تضر معها سيئة ، وبغض علي سيئة لا تنفع معها حسنة ». (3)

ص: 258


1- بحار الأنوار : 7 / 250 ، الباب العاشر من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 8.
2- بحار الأنوار : 7 / 249 ، الباب العاشر من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 7.
3- الحقائق في محاسن الأخلاق : 446.

ويقول الحكيم عبد الرزاق اللاهيجي ما هذا تعريبه : إنّ المفاهيم الكلية ذات مصاديق مختلفة عبر الزمان ، فهذا لفظ القلم كان يطلق على القلم المنحوت من القصب ، ولكن تلك الخصوصية لم تؤخذ في ماهيته ولذلك يطلق على ما إذا كان من حديد وغيره.

ونظيره الميزان فانّ منه ما يوزن به المتاع ومنه ما يوزن به الوقت ومنه ما يوزن به الأشكال الهندسية كالفرجال والمسطرة والقوس ، ومنه ما يوزن به الأشعار كعلم العروض ومنه ما يوزن به خطأ الإدراكات وصحتها كالمنطق ، وعلى هذا فلا مانع من أن يكون نفس الأنبياء موازين الأعمال ، فكل عمل يشبه أعمالهم فهو حقّ وكلّ عمل يخالف أعمالهم فهو باطل.

فكلّ عمل عند المقايسة إلى أعمالهم يعلم كونه صالحاً أو طالحاً ، صحيحاً أم فاسداً. (1)

ويؤيده الحديث التالي :

عن هشام بن سالم ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ : ( وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ) قال : « هم الأنبياء والأوصياء ». (2) .

ص: 259


1- گوهر مراد : 478.
2- بحار الأنوار : 7 / 249 ، باب الميزان ، الحديث 6.

الفصل العشرون : الإشهاد يوم القيامة

اشارة

إنّ القضاء في المحاكم العرفية يبتني أحياناً على شهادة شهود لصالح شخص أو ضدّه ، فإذا كانت الشهادة حائزة للشرائط يُصدر القاضي رأيه على وفقها ، والقرآن الكريم يحكي عن وجود شهود يوم القيامة فيقومون ويشهدون ، يقول سبحانه : ( وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) (1) ، ويقول في آية أُخرى : ( يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ) . (2)

غير أنّ الشهود يوم القيامة على صنفين :

1. الشهود ، 2. شهود الأعضاء.

ولنتناول الصنف الأوّل بالبحث.

إنّ القرآن الكريم يخبر عن وجود شهود ، يشهدون على عمل الإنسان خيره وشرِّه ، ويذكرهم بالنحو التالي :

1. اللّه سبحانه

انّه سبحانه أكبر وأصدق شاهد على عمل الإنسان لإحاطته به منذ نشوئه

ص: 260


1- غافر : 51.
2- هود : 18.

إلى موته ، يقول سبحانه : ( لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ) (1) ويقول أيضاً : ( إِنَّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (2) ، وفي آية ثالثة : ( فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ) (3).

ولا غرو في ذلك فهو سبحانه محيط بالإنسان وهو معه أينما كان يراه ليلاً ونهاراً ، ويقف على ظواهر أعماله سرائرها وما يكمن في ضميره.

2. أنبياء اللّه

الشاهد الثاني من الشهود هم أنبياء اللّه تبارك وتعالى ، يقول سبحانه : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) . (4)

والآية تتضمن أمرين :

الأوّل : انّ لكلّ أُمّة شهيداً ، وأمّا من هو ؟ فالآية ساكتة عنه ، ويمكن استظهار انّ المراد من الشهيد هو نبي كلّ أُمّة ، بشهادة انّه سبحانه صرّح بانّ المسيح علیه السلام يكون شهيداً على أُمّته ، قال سبحانه : ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) . (5)

الثاني : انّ النبي الخاتم بحكم الآية الأُولى شهيد على هؤلاء ، إنّما الكلام في تعيين المشار إليه ، فهل المراد انّ النبي صلی اللّه علیه و آله شاهد على الأنبياء الذين هم شهود ؟ أو شاهد على أُممهم ؟ هناك احتمالان :

ص: 261


1- آل عمران : 98.
2- الحج : 17.
3- يونس : 46.
4- النساء : 41.
5- النساء : 159.

وثمة نكتة جديرة بالإشارة وهي أنّ شهادة النبي والأنبياء عليهم وعلى أُممهم رهن علم وسيع بأحوال الأُمّة ، فانّ أداء الشهادة فرع تحمّلها ، وتحمُّلها فرع حضور الشاهد الواقعة حضوراً يرى الواقع على نحو يصح له أن يشهد. ومن الواضح بمكان أنّ العلوم التي ينالها الإنسان لا تغني عن هذا النوع من الشهادة وذلك لبعد الشاهد زماناً ومكاناً عن المشهود له أو المشهود عليه ، وهذا يدل على أنّ لهم إحاطة علمية بما يجري على أُممهم من الأعمال والأفعال.

ولا غرو في ذلك فانّه تبارك وتعالى إذا أراد أن يتخذ منهم شهوداً يمدّهم بالعلم الكافي في عالم الشهادة حتى يقفوا على ما يجري في أذهانهم ونفوسهم من الأفكار والآراء الصحيحة والباطلة ، وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على سعة علمهم.

3. النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله

يظهر من غير واحد من الروايات أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله الخاتم شاهد على أعمال أُمّته ، وقد ورد في ذلك غير واحد من الآيات ، يقول سبحانه : ( مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) . (1)

وفي آية أُخرى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) . (2)

وقد وصفت بعض الآيات نبي الإسلام بأنّه شاهد ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) . (3) .

ص: 262


1- الحج : 78.
2- البقرة : 143.
3- الأحزاب : 45 والفتح : 8.

وفي آية أُخرى ( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ ) (1).

والمراد شهادته على أعمال أُمّته من خير وشر وصلاح وفساد ، وأداء الشهادة فرع تحمّلها ولا يتحمله إنسان إلاّ بعد العلم بظواهر أعمالهم وبواطنها ، وخير نياتهم وشرّها ، وهذا يدل على سعة علم النبي صلی اللّه علیه و آله بالظواهر والبواطن ، والحقائق والدقائق.

4. المثاليّون من الأُمة الإسلامية

قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) . (2)

فيقع الكلام في تعيين ما هو المقصود من المخاطبين ، فهل المراد الأُمّة الإسلامية قاطبة ؟ وعلى هذا يكون المشهود عليهم هم الأُمم السالفة ، أو المراد شهادة بعض الأُمّة على بعض ؟

والظاهر انّ الثاني هو المتعيّن ، إذ لو كانت الأُمّة الإسلامية أُمة صالحة برُمَّتها لصحت شهادتهم ، وأمّا إذا كانت غالبية الأُمة غير شاكرين ، كما يقول سبحانه : ( وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) (3) فكيف تكون تلك الأُمة بعامتهم شهداء ؟!

فلا محيص عن كون المراد بعض الأُمّة لا جميعهم ، وليس هذا البعض إلاّ من اختارهم اللّه سبحانه أئمّة على الأُمّة وحكّاماً على البلاد.

يقول الإمام الصادق علیه السلام : فإن ظننت انّ اللّه عنى بهذه الآية جميعَ أهل القبلة من الموحدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر ،

ص: 263


1- المزمل : 15.
2- البقرة : 143.
3- الأعراف : 17.

يطلب اللّه شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية ؟! كلا لم يعن اللّه مثل هذا في خلقه. (1)

ويبقى ثمة سؤال ، وهو انّه إذا كان المراد بعض الأُمّة الذين شملتهم العناية الإلهية وجعلتهم صفوة عباده ، فلماذا ينسب الحكم إلى الجميع ؟

والجواب : انّ ذلك ليس بغريب ، فقد ورد نظير ذلك في الذكر الحكيم حيث وصف جميع بني إسرائيل بجعلهم ملوكاً مع أنّ البعض القليل منهم قد تصدّوا لمنصة الحكم كداود وسليمان وغيرهما ، يقول سبحانه : ( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) (2) وهذا يدل على أنّه تصحّ نسبة الحكم إلى الجميع وإن كان الحكم خاصّاً ببعضهم. والقدر المتيقن من شهداء الأُمة الذي يخبر عنه قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (3) هم الأئمّة المعصومون قرناء الكتاب وأعداله بنصِّ النبي صلی اللّه علیه و آله ، قال صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي ».

وقال سبحانه : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) . (4)

دلت الآية على أنّه سبحانه أورث علم الكتاب المصطفين من عباده لا جميع عباده ، وثمة سؤال انّه لماذا لم يورث علم الكتاب جميع عباده ؟ وتجيب الآية بأنّهم على ثلاثة أصناف ، فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ، وهاتان الطائفتان لا تستحقان وراثة علم الكتاب ، ومنهم سابق بالخيرات بإذن اللّه ، فهؤلاء هم الذين اصطفاهم اللّه من عباده ورزقهم فضلاً كبيراً ، كما يقول في ذيل الآية ( ذَلِكَ هُوَ

ص: 264


1- تفسير البرهان : 1 / 160.
2- المائدة : 20.
3- البقرة : 143.
4- فاطر : 32.

الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ، فهذه الفضيلة الكبيرة إنّما هي للمصطفين من عباده سبحانه لا لجميعهم. فعلى المفسّر الخبير ، أن يتعرف على هؤلاء الذين اصطفاهم اللّه من عباده ، ويُنيخ مطيّته على عتبة أبوابهم.

5. الملائكة

دلّت غير واحدة من الآيات على أنّ الملائكة من شهداء الأعمال ، وهم الذين يستنسخون ما يقوم به الإنسان من أعمال ثمّ يشهدون عليه يوم القيامة ، وربّما يسوقون المشهود عليه إلى المحشر ، يقول سبحانه : ( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ) . (1)

يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « وانتفعوا بالذكر والمواعظ ، فكأن قد علقتكم مخالب المنية ، وانقطعت منكم علائق الأُمنية ، ودهمتكم مفظعات الأُمور ، والسِّياقة إلى الورد المورود ف : ( كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) سائق يسوقها إلى محشرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها ». (2)

وقد ذكرنا أنّ الملائكة الشهود هم الذين يكتبون أعمال الإنسان ويسجّلونها ، ويدل عليه قوله سبحانه : ( مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (3) ، وقال عزّ من قائل : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) (4) وطبيعة الحال تقتضي أن يكون كتّاب الأعمال هم الشهود عنده في المحشر ولعلهم هم الساقة أيضاً إلى النار أو الجنة.

ص: 265


1- ق : 21 - 23.
2- نهج البلاغة : الخطبة 85.
3- ق : 18.
4- الانفطار : 10 - 12.

6. الأرض

أخبر سبحانه بأنّ الأرض تحدّث أخبارها عند قيام القيامة ، يقول سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) (1) وليس في الآية ما يدل على تعيين ما يخبر عنه غير أنّ مناسبة المقام تقتضي على أنّ المراد التحدّث بالأعمال التي اقترفها الإنسان سواء أكانت خيراً أم شراً ، ولأجل ذلك أردفه بجزاء الإنسان بأعماله ، قال سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) . (2)

وقد روي في السنّة انّ النبي صلی اللّه علیه و آله ، قال : « أتدرون ما أخبارها ؟ » قالوا : اللّه ورسوله أعلم ، قال : « أخبارها أن تشهد على كلّ عبد بما عمل على ظهرها تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا ، وهذه أخبارها ». (3)

وأمّا البحث في أنّ الأرض كيف تتحمل تلك الشهادة وتؤدّيها يوم القيامة فهو خارج عن موضوع بحثنا ، وقد قلنا في محله : إنّ كلّ موجود - وإن بلغ من الضعف بمكان - له نصيب من العلم والإدراك ، وانّ الوجود في جميع المراتب يساوق العلم والقدرة ، غاية الأمر علماً وقدرة يناسبان مقام الوجود المفروض له ، قال سبحانه : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) . (4)

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أما إنّ اللّه عزّ وجلّ كما أمركم أن تحتاطوا لأنفسكم

ص: 266


1- الزلزلة : 4 - 5.
2- الزلزلة : 6 - 8.
3- مجمع البيان : 9 - 10 / 798 ، تفسير سورة الزلزلة.
4- الإسراء : 44.

وأديانكم وأموالكم باستشهاد الشهود العدول عليكم ، فكذلك قد احتاط على عباده ولكم في استشهاد الشهود عليهم ، فلله عزّوجلّ على كلّ عبد رقباء من كلّ خلقه ومعقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر اللّه ويحفظون عليه ما يكون منه من أعماله وأقواله وألفاظه وألحاظه والبقاع التي تشتمل عليه شهود ربّه له أو عليه ، والليالي والأيام والشهور شهوده عليه أو له ، وسائر عباد اللّه المؤمنين شهوده عليه أو له ، وحفظته الكاتبون أعمالَه ، شهود له أو عليه ». (1)

سأل أبو كهمس أبا عبد اللّه علیه السلام فقال : يصلّي الرجل نوافله في موضع أو يفرّقها ؟ قال : « لا ، بل هاهنا وهاهنا فانّها تشهد له يوم القيامة ». (2)

7. الزمان

إذا كانت الأرض تحدّث أخبارها يوم القيامة ، فهكذا الزمان يشهد على ما عمل به الإنسان ، روى الكليني في الكافي باسناده انّ أبا عبد اللّه علیه السلام ، قال : « إنّ النهار إذا جاء قال يابن آدم اعمل في يومك هذا خيراً أشهد لك به عند ربّك يوم القيامة ، فانّي لم آتك فيما مضى ولا آتك فيما بقي ، وإذا جاء الليل قال مثل ذلك ». (3)

كما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام عن أبيه علیه السلام ، قال : « الليل إذا أقبل نادى مناد بصوت يسمعه الخلائق إلاّ الثقلين : يابن آدم إنّي على ما فيّ شهيد فخذ منّي ، فانّي لو طلعت الشمس لم تزدد فيّ حسنة ولم تستعتب فيَّ من سيئة ، وكذلك يقول النهار إذا أدبر اللّيل ». (4)

ص: 267


1- بحار الأنوار : 7 / 315 ، الباب 16 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 11.
2- بحار الأنوار : 7 / 318 ، الباب 16 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 15.
3- بحار الأنوار : 7 / 325 ، الباب 16 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 22.
4- بحار الأنوار : 7 / 325 ، الباب 16 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 22.

8. القرآن

تدلّ بعض الآيات على أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله يشتكي من أُمّته لهجرهم القرآن ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) . (1)

والآية بما انّها مصدرة بالفعل الماضي أعني : « قال » يمكن أن يقال إنّ الرسول يشتكي في هذه النشأة كما يحتمل أن ترجع شكايته إلى النشأة الأُخرى وانّ استعمال الفعل الماضي فيما لم يتحقق لأجل كونه محقّق الوقوع.

وعلى كلّ حال فالروايات تدل على أنّ نفس القرآن يشتكي يوم القيامة.

روى سعد الخفّاف ، عن أبي جعفر علیه السلام أنّه قال : « ... انّه سبحانه يخاطب القرآن الكريم ، ويقول : يا حجتي في الأرض ... كيف رأيت عبادي ؟ فيقول : منهم من صانني وحافظ عليَّ ولم يضيع شيئاً ، ومنهم من ضيّعني واستخف بحقّي وكذب وأنا حجتك على جميع خلقك ، فيقول اللّه تبارك وتعالى : وعزَّتي وجلالي وارتفاع مكاني لأُثيبنَّ عليك اليوم أحسن الثواب ولأُعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب ». (2)

9. صحيفة الأعمال

إنّ من الشهود الصحف التي تكتبها الملائكة الموكّلون على أعمال الإنسان ليلاً ونهاراً فلا يفترون عن كتابة كلّ صغير وكبير ، وقد دلت الآيات على ذلك وإليك بعض ما ورد.

( قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) . (3)

ص: 268


1- الفرقان : 30.
2- بحار الأنوار : 7 / 319 - 320 ، الباب 16 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 16.
3- يونس : 20.

( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) . (1)

والآيتان صريحتان في أنّ الملائكة الموكّلين يكتبون الأعمال ظاهرها وخفيّها ، ولكن ليس فيها تصريح بالاحتجاج بهما يوم القيامة ، وبما انّ كتابة الأعمال يجب أن تكون مقترنة بالغرض ليخرج عن كونه عبثاً ، فلا محيص من القول بأنّ الكتابة مقدمة للاحتجاج بها على العباد ، وهذا ( أي الاحتجاج بصحائف الأعمال ) هو الظاهر من الآيات التالية :

قال سبحانه : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) . (2)

وليس إشفاقهم إلاّ لأجل انّهم يجدون فيه جليل أعمالهم ودقيقها ، كما يقول سبحانه حاكياً عن لسان المشركين : ( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ) . (3)

ويقول سبحانه : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ... * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالحَقِّ ) (4).

ويستفاد من بعض الآيات أنّ صحيفة الأعمال تُعلَّق على عنق الإنسان ، يقول سبحانه : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ) . (5)

وثمة سؤال ، وهو انّ ما جاء في تلك الصحف لا يتجاوز عن كونها صحفاً نسب فيها إلى الإنسان عدّة جرائم ، فكيف يمكن أن يحتج بها على الإنسان ؟

ص: 269


1- الزخرف : 80.
2- الكهف : 49.
3- الكهف : 49.
4- الجاثية : 27 - 29.
5- الإسراء : 13.

والجواب : انّ واقع هذه الصحف غير معلوم لنا ، ونحن نتصوّر أنّها صحف كصحف الدين وانّ صحيفة عمل كلّ إنسان كاضبارة المحاكم ، فعندئذٍ يطرح السؤال التالي : كيف يمكن ، أن يحتج بالصحيفة المجردة عن الاعتراف بالذنب ؟

والجواب : يمكن أن تكون واقع الصحف على نحو لا يمكن للإنسان إنكار ما سجِّل فيها ; ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) . (1)

وقد تقدّم في آية أُخرى أنّ المجرم حينما يرى صحيفة أعماله يعترف بأنّه ما غادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها.

وهذا السؤال ونظائره ناجم من قياس حال هذه النشأة بالنشأة الأُخرى ، مع أنّ النشأتين متشابهتان لا متماثلتان ، ولا يمكن إجراء حكم هذه النشأة في الآخرة.

وتشير بعض الروايات إلى محاولة الشغب التي يثيرها بعض المجرمين بغية إنكار ما سجِّل في صحيفة أعمالهم ، وربَّما يحلفون بأنّهم لم يفعلوا ذلك فعندئذٍ تشهد عليهم أعضاؤهم وجوارحهم على ما اقترفوه فيُفحمون.

روى القمي في تفسير قوله سبحانه : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) . (2)

قال : « إذا جمع اللّه الخلق يوم القيامة دفع إلى كلّ إنسان كتابه فينظرون فيه فينكرون أنّهم عملوا من ذلك شيئاً ، فيشهد عليهم الملائكة فيقولون : يا ربّ ملائكتك يشهدون لك ، ثمّ يحلفون انّهم لم يعملوا من ذلك شيئاً وهو قوله :

ص: 270


1- الإسراء : 14.
2- يس : 65.

( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) (1) فإذا فعلوا ذلك ختم على ألسنتهم وينطق جوارحهم بما كانوا يكسبون ». (2)

وروى أيضاً : ( حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) . (3)

فانّها نزلت في قوم تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها ، فيقولون : ما عملنا منها شيئاً ، فيشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا عليهم أعمالهم.

فقال الصادق علیه السلام : « فيقولون لله : يا ربّ هؤلاء ملائكتك يشهدون لك ، ثمّ يحلفون باللّه ما فعلوا من ذلك شيئاً ، وهو قول اللّه : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) (4) وهم الذين غصبوا أمير المؤمنين ، فعند ذلك يختم اللّه على ألسنتهم وينطق جوارحهم ، فيشهد السمع بما سمع ممّا حرّم اللّه ، ويشهد البصر بما نظر به إلى ما حرّم اللّه ، وتشهد اليدان بما أخذتا ، وتشهد الرجلان بما سعتا ممّا حرم اللّه ، وتشهد الفرج بما ارتكب ممّا حرّم اللّه ، ثمّ أنطق اللّه ألسنتهم فيقولون هم لجلودهم : ( لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ) فيقولون : ( أَنطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) (5) أي من اللّه ( أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ) والجلود الفروج ( وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) . (6)

ص: 271


1- المجادلة : 18.
2- بحار الأنوار : 7 / 312 ، الباب 16 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 3.
3- فصلت : 20 - 21.
4- المجادلة : 18.
5- فصلت : 21 - 22.
6- بحار الأنوار : 7 / 312 ، الباب 16 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 4.

10 - 11. شهادة الأعضاء والجلود

يذكر القرآن الكريم أنّ الجوارح والجلود تشهد على ما اقترفه المذنبون ، يقول سبحانه : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1) ، فالآية صريحة في شهادة اللسان على ما فعله ولعلّه في موقف خاص من مواقف القيامة بشهادة انّ القرآن يذكر انّه يختم على أفواههم فلا تتكلّم ألسنتهم وإنّما تتكلّم أيديهم وأرجلهم ، كما قال سبحانه : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) . (2)

وأمّا شهادة الجلود فيدل عليه قوله سبحانه : ( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) . (3)

فالآية صريحة على شهادة الجلود بما اقترفه ، وربّما يقال من أنّ المراد من الجلود هو خصوص الفروج ، وإنّما كني بها صيانة لحسن التعبير ، ولكنّه غير ظاهر لوروده في القرآن الكريم ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) . (4)

بقي هنا سؤال وهو أنّ المذنبين يعترضون على خصوص شهادة الجلود ولا يعترضون على شهادة سائر الأعضاء والجوارح ، فما هو وجهه ؟

والجواب : انّ الجلود تشهد على ما يصدر عنها بالمباشرة ، بخلاف السمع

ص: 272


1- النور : 24.
2- يس : 65.
3- فصلت : 19 - 21.
4- المؤمنون : 5.

والبصر فانّها كسائر الشهود تشهد بما ارتكبه غيرها. (1)

والمقصود أنّ الأعضاء والجوارح كسائر الشهود الذين يشهدون على ما صدر عن غيرهم فلا يعترض عليهم بشيء ، وهذا بخلاف الجلود فانّها تشهد على ما صدر عنهم مباشرة فتستحق أن يعترض على شهادتها ، لأنّ الفعل قد صدر عنها.

إلى هنا تمّ ما نرمي إليه من البحث في الشهود يوم القيامة ، ولو أُضيف إليه تجسّم الأعمال الذي هو شاهد صدق على صلاح الأعمال وطلاحها لبلغ عدد الشهود إلى اثني عشر شاهداً ، وسنعقد فصلاً خاصاً للبحث في تجسم الأعمال إن شاء اللّه.

ص: 273


1- الميزان : 17 / 379.

الفصل الواحد والعشرون : القيامة والصراط

اشارة

الصراط في اللغة هو الطريق ، وقد استعمل في الذكر الحكيم في هذا المعنى ، قال سبحانه : ( وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1) ، وقد أطلق الصراط على الطريق الذي ينتهي إلى الجحيم ، قال سبحانه : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ ) . (2)

قال الراغب : الصراط الطريق المستسهل.

ولعلّ وجه إطلاقه على الطريق المنتهي إلى الجحيم والجنة هو سهولة سلوك طريقهما ، أمّا طريق الجنة فسلوكه رهن العمل بالشرائع السماوية الموافقة للفطرة ، وأمّا سلوك طريق الجحيم فهو رهن الاستجابة لميول الغرائز الحيوانية ; وربّما يطلق الصراط على الجسر الذي يوصل بين ضفَّتي النهر.

الصراط : معبر عام

دلّت الآيات والروايات على أنّ الصراط معبر عام تجتازه الخلائق برمتها دون

ص: 274


1- البقرة : 213.
2- الصافات : 22 - 23.

فرق بين المتقين والفجار ، قال سبحانه : ( وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) . (1)

والضمير في قوله : ( وَارِدُهَا ) يرجع إلى جهنم التي ذكرت قبل هذه الآية ، قال سبحانه : ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) (2) إلى أن قال : ( وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ) .

وعلى ضوء هذا فالناس قاطبة يردون جهنم ، فهل المراد من الورود هو الاقتراب والإشراف ، أو المراد هو الدخول والاقتحام ؟ وجهان.

يشهد على الوجه الأوّل انّ القرآن يستعمل الورود بمعنى الإشراف والاقتراب ، يقول سبحانه : ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) . (3)

ومن الواضح انّ موسى لم يطأ الماء بقدميه وإنّما اقترب منه ، بشهادة انّه سبحانه يردفه بقوله : ( وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) . (4)

ولا شكّ انّ الناس لا سيما المرأتين لم يدخلوا المشرعة بل أشرفوا عليها.

ونظيره قوله سبحانه في قصة يوسف : ( وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ ) . (5)

والمراد من الوارد هو الساقي الذي يدخل الدلو في البئر لإخراج الماء ، وعلى ضوء هذا ، فالمراد من قوله سبحانه : ( وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ) هو انّ أهل الجنة

ص: 275


1- مريم : 71 - 72.
2- مريم : 68.
3- القصص : 23.
4- القصص : 23.
5- يوسف : 19.

والجحيم يشرفون عليها دون أن يدخلوها ، غير انّ من كتب عليه النجاة سيغادرها إلى الجنة وأمّا من كتب عليه الشقاء فيلقى في النار.

ويشهد على الوجه الثاني انّ المتبادر من الورود هو الدخول ، والمتبادر من الآية انّ كلتا الطائفتين سيدخلون الجحيم ثمّ ينجو منها السعداء ويمكث فيها الأشقياء.

وقد استدل على هذا الوجه ببعض الآيات : ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ المَوْرُودُ ) . (1)

فقوله سبحانه ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ ) يحكي عن تجسّم ما كان عليه فرعون في نشأة الدنيا وانّه كان يتزعم قومه فيها ، وهكذا الحال في يوم المحشر يتزعمهم فيقودهم ويدخلهم النار.

فلفظة « أورد » في الآية بمعنى أدخل ، نظير الآية التالية : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ) . (2)

فقد استدل سبحانه بورود معبود المشركين في النار على عدم الوهيته. فقد استخدم لفظة الورود في الآيتين بمعنى الدخول.

وأمّا استعمال الورود بمعنى الاقتراب والإشراف في قصة يوسف ، فإنّما هو من باب المجاز دلَّت عليه القرائن.

فلو تعبدنا بظاهر الآية فلا مناص من الأخذ بهذا الوجه ، وانّ المؤمنين والكافرين يدخلون النار ثمّ ينجِّي اللّه الذين آمنوا ويترك المشركين فيها.

ص: 276


1- هود : 98.
2- الأنبياء : 98 - 99.

الصراط في الروايات

1. روى علي بن إبراهيم ، عن الإمام الباقر علیه السلام ، في تفسير قوله سبحانه : ( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ) . (1)

قال : « سئل عن ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : أخبرني الروح الأمين انّ اللّه لا إله غيره إذا برز الخلائق وجمع الأوّلين والآخرين أتى بجهنم تقاد بألف زمام ، يقودها مائة ألف ملك من الغلاظ الشداد لها هدّة وغضب وزفير وشهيق - إلى أن قال : - ثمّ يوضع عليها الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف ». (2)

2. وروى المفضل بن عمر ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الصراط ، قال : « هو الطريق إلى معرفة اللّه عزّوجلّ وهما صراطان : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة ، فأمّا الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفروض الطاعة ، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه ، مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنم ». (3)

ويستفاد من هاتين الروايتين انّ الصراط جسر ممدود على جهنم ، وقد وصف في الحديث الثاني بأنّه أحد من السيف وأدق من الشعرة.

قال الشيخ المفيد : الصراط في اللغة هو الطريق ، فلذلك سمِّي الدين صراطاً لأنّه طريق إلى الصواب ، وله سمِّي الولاء لأمير المؤمنين والأئمّة من ذريته صراطاً. ومن معناه ، قال أمير المؤمنين علیه السلام : « أنا صراط اللّه المستقيم وعروته الوثقى التي لا انفصام لها » يعني انّ معرفته والتمسك به طريق إلى اللّه سبحانه ،

ص: 277


1- الفجر : 23.
2- بحار الأنوار : 8 / 65 ، باب 22 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 2.
3- المصدر نفسه ، الحديث 3.

وقد جاء الخبر بأنّ الطريق يوم القيامة إلى الجنة كالجسر يمرُّ به الناس وهو الصراط الذي يقف عن يمينه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعن شماله أمير المؤمنين علیه السلام ويأتيهما النداء من قبل اللّه تعالى : ( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) (1). (2)

وقال التفتازاني : الصراط جسر ممدود على متن جهنم يرده الأوّلون والآخرون ، أدق من الشعر وأحد من السيف على ما ورد في الحديث الصحيح ، ويشبه أن يكون المرور عليه هو المراد بورود كلّ أحد النار على ما قال تعالى ( وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ) (3). (4)

هذه طائفة من الروايات وكلمات العلماء الواردة حول الصراط.

وخلاصة القول : إنّ الصراط عبارة عن الطريق الممدود على متن الجحيم يجتازه المؤمنون والمشركون على حدّ سواء ، غير انّ الفئة الأُولى تجتازه بإذنه سبحانه ، والفئة الثانية تسقط في هاوية جهنم. ومع أنّ هذا هو الظاهر المتبادر ، إلاّ أنّ ثمة احتمالاً آخر وهو انّ الصراط كناية عن الطريق الذي يختاره كلّ من المؤمن والكافر في هذه الدنيا فالطريق الذي اختاره المؤمن يوصله إلى الجنة ، والطريق الذي اختاره الكافر ينتهي به إلى نار جهنم ، والمعنى الأوّل هو الأوفق بالظواهر ، ولكن المعنى الثاني أيضاً محتمل ، ويؤيد الاحتمال الثاني ما روي عن علي علیه السلام انّه قال : « ألا وإنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت لُجُمُها فتقحَّمت بهم في النار ، ألا وإنّ التَّقوى مطايا ذُلُل حمل عليها أهلها وأُعطُوا ازمّتها فأوردتهم الجنة ». (5)

ص: 278


1- ق : 24.
2- تصحيح الاعتقاد : 50 ، ط. تبريز.
3- مريم : 71.
4- شرح المقاصد : 2 / 223 ، ط. آستانه.
5- نهج البلاغة : الخطبة 16.

وهذا التعبير من الإمام يؤيد الاحتمال الثاني وهو انّ الطريق الذي يسلكه كلٌّ من المؤمن والفاجر هو صراطهما في النشأة الأُخرى ، فيوصل أحدهما إلى الغاية المنشودة والآخر إلى النار. فكلّ من اختار طريق الطاعة فهو يوصله إلى الجنة ، ومن اختار طريق العصيان فهو يوصله إلى الجحيم.

فصراط كلّ إنسان هو الطريق الذي يسلكه في نشأة الدنيا ، ثمّ يتجسد في الآخرة فيجتازه إمّا إلى الجنة أو إلى النار.

ومع ذلك كلّه فالاحتمالان على حد سواء عندنا دون أن نجزم بأحدهما.

أوصاف الصراط

قد وصف الصراط في الروايات بأوصاف عديدة نذكرها تباعاً :

أ. انّه أدق من الشعرة وأحد من السيف.

ب. فمنهم من يمرّ مثل البرق ، فيمضي أهل بيت محمد وآله زمرة على الصراط مثل البرق الخاطف.

ج. ثمّ قوم مثل الريح.

د. ثمّ قوم مثل عدو الفرس.

ه. ثمّ يمضي قوم مثل المشي.

و. ثمّ قوم مثل الحبو.

ز. ثمّ قوم مثل الزحف.

ح. ويجعله اللّه على المؤمنين عريضاً وعلى المذنبين دقيقاً. (1)

إنّ الأعمال والأفعال التي يقوم بها البشر في نشأة الدنيا تتبلور في النشأة الأُخرى بشكل حقائق أُخروية ، فالإنسان المثالي الذي ينهج الشريعة في سلوكه

ص: 279


1- انظر بحار الأنوار : 8 / 67 ، باب الصراط من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 8.

ويتناوب معها ، فهو يمرُّ كالبرق الخاطف على الصراط ، وأمّا الإنسان الذي يلبي كافة غرائزه الحيوانية الجامحة ولا يولي أهمية للشريعة فهو يسقط في هاوية الجحيم ولا يجتاز الصراط ، وبينهما مراتب متفاوتة حسب اختلاف سلوك الإنسان في العمل بالشريعة.

وأمّا كون الصراط أحدُّ من السيف وأدقّ من الشعرة ، فقد فسره الشيخ المفيد بقوله : إنّ المراد لا يثبت لكافر قدم على الصراط يوم القيامة من شدّة ما يلحقهم من أهوال يوم القيامة ، ومخاوفها فهم يمشون عليه كالذي يمشي على الشيء الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف ، وهذا مثل مضروب لما يلحق الكافر من الشدة في عبوره على الصراط ، وهو طريق إلى الجنة وطريق إلى النار يشرف العبد منه إلى الجنة ويرى من أهوال النار وقد يمر به عن الطريق المعوج ، فلهذا قال اللّه تعالى : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ) . (1)

فميّز بين طريقه الذي دعا إلى سلوكه من الدين وبين طرق الضلال ، وقال اللّه تعالى فيما أمر به عباده من الدعاء وتلاوة القرآن : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ) (2) فدلّ على أنّ سواه صراط غير مستقيم وصراط اللّه تعالى دين اللّه. وصراط الشيطان طريق العصيان ، والصراط في الأصل - على ما بيناه - هو الطريق والصراط إلى يوم القيامة ، هو الطريق المسلوك إلى الجنة أو النار. (3)

وعلى ضوء هذا فالعمل بالحقّ والحقيقة والسير على ضوء البعد الملكوتي للإنسان هو الصراط الذي يسير عليه المؤمن وينتهي به إلى الجنة ، كما أنّ الجنوح إلى الشهوات والانقياد للبعد الحيواني طريق إلى النار ، فالأوّل صراط المؤمن ،

ص: 280


1- الأنعام : 153.
2- الحمد : 6.
3- تصحيح الاعتقاد : 51.

والثاني صراط الكافر ، والأوّل بما أنّه يوافق الفطرة صراط مستقيم ، والثاني بما انّه يخالفها صراط معوج ، فيثبت قدم المؤمن في الأوّل لاستقامته ، ويزل قدم الكافر لإعوجاجه.

هذا هو الذي استظهره المفيد من الروايات وهو أمر لا بأس به وإن اعترض عليه المجلسي ، بما هذا مثاله : لا ضرورة تلجئنا إلى تأويل الظواهر الشرعية الدالة على أنّ للصراط واقعية يوم القيامة وانّها حقيقة أدق من الشعرة وأحد من السيف مالم تكن هناك ضرورة في التأويل. (1)

ونحن نوافق المجلسي في أنّه ليس لنا تأويل الظواهر ما لم يكن هناك قرينة على التأويل ولكن ما ذكره المفيد ليس تأويلاً بلا قرينة ، والشاهد عليه أنّ هذه الجملة : « أدق من الشعرة وأحد من السيف » مثل يضرب للأُمور المستصعبة ، كما أنّه ورد في الروايات انّ الصراط على المؤمنين عريض وعلى المذنبين دقيق وانّه سبحانه يجعله كذا وكذا. (2)

مع أنّ ظاهر الروايات الأُخرى انّ الصراط واحد وانّ الجميع يؤمرون بالاجتياز دون اختلاف في العرض والطول.

والذي يؤيد ما ذكره الشيخ المفيد هو أنّ بعض الآيات تدّل على أنّ الحياة الأُخروية حقيقة للحياة الدنيوية وواقعها ، وانّ الحياة الدنيوية لها ظاهر وباطن ، تتجلّى في الآخرة بباطنها وفي هذه الدنيا بظاهرها ، يقول سبحانه : ( يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (3) والآية ظاهرة في أنّه ليس للنور منشأ سوى وجودهم فكأنّهم بأيمانهم تشع نوراً ويمشون على ضوء

ص: 281


1- بحار الأنوار : 8 / 71 ، باب 22 من كتاب العدل والمعاد.
2- بحار الأنوار : 8 / 67 ، الحديث 8.
3- الحديد : 12.

هذا النور ، وليس ذلك النور إلاّ انعكاساً لإيمانهم وتقواهم.

فقد روى القمي في تفسيره عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام يقسّم النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم.

ويؤيده أيضاً انّ المنافقين والمنافقات يطلبون الاقتباس من نور المؤمنين ويقولون : ( انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ) حتى نمشي على ضوء نوركم ، فيُجابون بقولهم : ( ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ) يعني انّ هذا النور هو تجسيد للأعمال الصالحة التي قاموا بها في الحياة الدنيا ، وانّكم لو كنتم تبتغون نوراً فيجب أن تلتمسوه في الحياة الدنيوية ، وهيهات. الولاية ، رخصة لعبور الصراط

يستفاد من الروايات أنّ لموالي أهل البيت علیهم السلام امتيازاً خاصاً في اجتياز الصراط ، وقد رويت عدة أحاديث في هذا الصدد.

1. روى الصدوق في فضائل الشيعة باسناده ، عن السكوني ، عن الصادق ، عن آبائه علیهم السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أثبتكم قدماً على الصراط أشدكم حباً لأهل بيتي ». (1)

2. روى الصدوق في معاني الأخبار ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا علي ! إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرئيل على الصراط فلم يجز أحد إلاّ من كان معه كتاب فيه براءة ». (2)

3. روى الصدوق في علل الشرائع باسناده ، عن محمد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : « لفاطمة وقفة على باب جهنم ، فإذا كان يوم القيامة

ص: 282


1- بحار الأنوار : 8 / 69 ، باب 22 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 16.
2- المصدر السابق ، الحديث 4.

كتب بين عيني كلّ رجل مؤمن أو كافر ، فيؤمر بمحبّ قد كثرت ذنوبه إلى النار فيقرأ بين عينيه محباً ، فتقول : إلهي وسيدي سمّيتني فاطمة وفطمت بي من تولاّني وتولّى ذريتي من النار ووعدك الحقّ وأنت لا تخلف الميعاد ، فيقول اللّه عزّوجلّ : صدقت يا فاطمة ، إنّي سمّيتك فاطمة وفطمت بك من أحبّك وتولاّك وأحبّ ذريتك وتولاّهم من النار ، ووعدي الحقّ وأنا لا أُخلف الميعاد ، وإنّما أمرت بعبدي هذا إلى النار لتشفعي فيه فأُشفّعك ، ليتبيّن لملائكتي وأنبيائي ورسلي وأهل الموقف موقفك مني ومكانتك عندي ، فمن قرأت بين عينيه مؤمناً فجذبت بيده وأدخلته الجنّة ». (1)

فيستفاد من هذه الروايات أنّ أعداء أهل البيت علیهم السلام يمنعون عن اجتياز الصراط ، كما أنّ مودتهم تسهل العبور وتغفر الذنوب.

وأمّا تأثير المودة على غفران الذنوب بأسرها أو طائفة منها فهو أمر موكول إلى البحث في الشفاعة.

ص: 283


1- المصدر السابق ، باب الشفاعة من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 58.

الفصل الثاني والعشرون : أصحاب الأعراف وسيماهم

اشارة

قد وردت كلمة الأعراف في القرآن مرّتين ، تارة بلفظ : ( عَلَى الأَعْرَافِ ) ، وأُخرى بلفظ : ( أَصْحَابُ الأَعْرَافِ ) ، وكلتا الآيتين لهما ارتباط بالقيامة.

أمّا الأعراف ، فهو جمع العرف ، ويطلق على النقطة المرتفعة. (1)

فيكون الأعرافي هو المنتسب لهذه النقطة الرفيعة ، يقول الصدوق : اعتقادنا في الأعراف انّه سور بين الجنة والنار ، ( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ) والرجال هم النبي وأوصياؤه علیهم السلام لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه ، وعند الأعراف ، المرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم. (2)

وقال المفيد : قد قيل انّ الأعراف جبل بين الجنة والنار ، وقيل أيضاً انّه سور بين الجنة والنار ، وجملة الأمر في ذلك انّه مكان ليس من الجنّة ولا من النار ، وقد جاء الخبر بما ذكرناه وانّه إذا كان يوم القيامة كان به رسول اللّه وأمير المؤمنين والأئمّة من ذريته صلی اللّه علیه و آله وهم الذين عنى اللّه سبحانه ، بقوله : ( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ

ص: 284


1- أقرب الموارد : مادة عرف.
2- بحار الأنوار : 8 / 340 ، باب ذبح الموت من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 23.

يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) . (1)

وذلك انّ اللّه تعالى يُعلِّمُهم أصحابَ الجنة وأصحابَ النار بسيماهم يجعلها عليهم وهي العلامات ، وقد بيّن ذلك في قوله تعالى : ( يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ) ( يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ) (2) وقد قال تعالى : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ) (3) فأخبر انّ في خلقه طائفة يتوسمون الخلق فيعرفونهم بسيماهم ». (4)

إنّ الأعراف كما تقدم ورد في القرآن الكريم على النحو التالي حتى سمّيت السورة بذلك الاسم لما ورد فيها آياته :

1. ( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) . (5)

2. ( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) . (6)

3. ( وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) . (7)

4. ( أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ

ص: 285


1- الأعراف : 46.
2- الرحمن : 41.
3- الحجر : 75 - 76.
4- تصحيح الاعتقاد : 48 و 49.
5- الأعراف : 46.
6- الأعراف : 47.
7- الأعراف : 48.

عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) . (1)

دلّت الآية الأُولى على أنّ الواقفين على الأعراف يعرفون أهل الجنّة وأهل النار ، فإذا بأصحاب الجنة ينادونهم بالتسليم عليهم ، وهم بعدُ لم يدخلوا الجنة ولكن ينتظرون الدخول ، كما يقول سبحانه : ( وَنَادَوْا أَصْحَابَ الجَنَّةِ ) أي نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنّة ان ( سَلامٌ عَلَيْكُم ) تحية منهم إليهم وهم بعد لم يدخلوها ولكن ينتظرون أن يأذن لهم بالدخول وكأنّهم مصطفون على أبواب الجنّة ينتظرون فتح أبوابها.

ثمّ إنّ أصحاب الأعراف ينظرون إلى أصحاب النار نظر عداء ، فلا ينظرون إليهم إلاّ إذا صرفت وجوههم إليهم ولأجل التبرّي من أعمالهم يقولون : ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) كما يقول سبحانه : ( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

وبما انّ أصحاب الأعراف نادوا أصحاب الجنة - فبطبع الحال - ينادون أصحاب النار الذين تبرّأوا منهم فنادوهم بما يحكي عنهم سبحانه ، ويقول : ( وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) .

ولما كان أصحاب النار يستهزئون بالمؤمنين ويصفونهم بأنّهم لا يصيبهم اللّه برحمة وخير ولا يدخلون الجنّة ، حاول أهل الأعراف تقريعهم وتكذيبهم وقالوا : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم اللّه برحمة.

فانظروا كيف نالتهم رحمة اللّه وهم مصطفون على أبواب الجنة ينتظرون الدخول فإذا بأصحاب الأعراف يجيزون لهم بالدخول أمام أعين أصحاب النار ويخاطبونهم ( ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) ، وعلى ما ذكرنا ،

ص: 286


1- الأعراف : 49.

فقوله : ( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) في الآية الأُولى راجع إلى المؤمنين المصطفين على أبواب الجنة.

كما أنّ قوله في الآية الرابعة : ( ادْخُلُوا الجَنَّةَ ) راجع إلى هؤلاء الذين كانوا من أصحاب الجنّة وهم بعد لم يدخلوها.

هذا ما وصلنا إليه بعد التدبّر في أطراف الآية ، وبذلك يظهر أنّ ما ذكره المفسرون أو بعضهم في تفسير الآيات ليس بتام.

هذا ولنرجع إلى الآيات وإلى ما يستفاد منها :

1. انّ الأعراف مقام شامخ رفيع عليه رجال مشرفون على الجنة والنار وأهلهما.

2. الأعراف مكان خاص وراء الجنة والنار ، وهو مشرف عليهما.

3. انّ أصحاب الأعراف يتمتعون بمعرفة خاصة يعرفون على ضوئها أصحاب الجنّة والنار.

هذا ما يستفاد من الآيات ، ولكن من هم أصحاب الأعراف ؟ فقد اختلفت فيهم كلمة المفسرين إلى أقوال :

أ. فئة من الناس لهم مكانة خاصّة ، وقد شملتهم عناية اللّه.

ب. هم الذين تستوي حسناتهم وسيئاتهم ، ولأجل ذلك لا يدخلون الجنة والنار بل يمكثون بينهما ، وإن كانت عاقبتهم الجنة لشمول رحمة اللّه سبحانه لهم.

ج. الملائكة المتمثلون بصورة الرجال يعرفون الجميع.

د. الفئة العادلة من كلّ أُمّة الذين يشهدون على أُمّتهم.

ه. فئة صالحة من حيث العلم والعمل.

هذه هي الأقوال المذكورة في المقام ، لكن القول الثاني مردود ، لأنّ

ص: 287

المتوسطين في العلم والعمل ليس لهم أي امتياز حتى يهنئّوا يسلّموا على أصحاب الجنّة وينددوا ويوبخوا أصحاب النار.

كما انّ القول الثالث لا يدعمه الدليل.

وأمّا القول الرابع والخامس فقريبان من القول الأوّل ، ويمكن إرجاع الجميع إلى قول واحد.

والحاصل انّ أصحاب الأعراف هم الرجال المثاليّون الذين بلغوا في العلم والعمل درجة ممتازة ويُشكِّل الأنبياء والأولياء معظمهم ، ثمّ الصالحون والصادقون.

4. ما تضمنته هذه الآيات إنّما هو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس ، ويحكي لنا حقيقة رائعة لا تدرك إلاّ بهذا النحو الوارد في الآيات ، وكأنّ الحكومة المطلقة لله سبحانه تتجلّى يوم القيامة بالشكل التالي :

- طائفة متنعمة ( أصحاب الجنة ) جزاء لأعمالهم الحسنة.

- طائفة معذبة ( أصحاب النار ) جزاء لأعمالهم السيئة.

- طائفة تنفِّذ أوامره سبحانه بإدخال أهل الجنّة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار.

هذا ما يستفاد من الآيات ، وإليك ما ورد في الروايات :

الأعراف في الروايات

اشارة

وقد ركزت الروايات على أمرين :

أ. ما هي الأعراف ؟

ب. من هم أصحابها ؟

ص: 288

أمّا الأوّل : فقد روى القمي في تفسيره ، عن الإمام الصادق علیه السلام ، أنّه قال : « إنّ الأعراف كثبان بين الجنة والنار ، أي طريق بينهما ». (1)

وفي رواية أُخرى ، عن الإمام الباقر علیه السلام ، قال : « الأعراف صراط بين الجنّة والنار ». (2)

وليعلم انّه لو ثبت أنّ الأعراف بمعنى الصراط ، فهو غير الصراط الذي تكفَّلت ببيانه الآيات الأُخرى ، لأنّ الصراط المتقدم ذكره ، طريق عام يجتازه كلّ من المؤمن والكافر مع أنّ الأعراف مقام خاص لعدَّة من الناس.

وأمّا تسمية الأعراف بالصراط فلأجل أنّ لفيفاً من المؤمنين العصاة يحتفُّون حوله وينتظرون مصيرهم بشفاعة النبي وآله ، وهؤلاء غير الذين يقفون على الأعراف.

وأمّا الثاني : أي من هم أصحاب الأعراف ؟ فقد اختلفت فيهم الروايات :

1. الأئمّة المعصومون

وهذا القول ورد فيه روايات تربو على 14 حديثاً. (3)

ولنقتصر على رواية واحدة.

قال أبو جعفر الباقر علیه السلام : « هم آل محمد لا يدخل الجنة إلاّ من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه ». (4)

2. المؤمنون العصاة

وهذا ما يستفاد مما رواه القمي في تفسيره ، وقال : الأئمّة علیهم السلام يقفون على

ص: 289


1- بحار الأنوار : 8 / 335 ، باب الأعراف من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 2 و 3.
2- بحار الأنوار : 8 / 335 ، باب الأعراف من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 2 و 3.
3- انظر بحار الأنوار : 8 / 329 - 341.
4- بحار الأنوار : 8 / 331 ، باب الأعراف من كتاب العدل والمعاد.

الأعراف مع شيعتهم وقد سبق المؤمنون إلى الجنة بلا حساب.

فيقول الأئمّة لشيعتهم من أصحاب الذنوب : انظروا إلى إخوانكم في الجنة قد سبقوا إليها بلا حساب ، وهو قول اللّه تبارك وتعالى : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) .

ثمّ يقال لهم : انظروا إلى أعدائكم في النار ، وهو قوله : ( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

( وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ - فِي النّار - قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ - فِي الدنيا - وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) .

ثمّ يقول لمن في النار من أعدائهم هؤلاء شيعتي وإخواني الذين كنتم أنتم تحلفون في الدنيا أن لا ينالهم اللّه برحمة.

ثمّ يقول الأئمّة لشيعتهم : ( ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) ثمّ نادى أصحاب النار أصحاب الجنّة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم اللّه. (1)

ولا يخفى انّ هذا التفسير لا يلائم ظاهر الآية ، لما سبق منّا انّ قوله : ( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) راجع إلى أصحاب الجنّة ، لا العصاة الموجودين حول الأعراف الذين ينتظرون مصيرهم.

كما أنّ قوله : ( ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ ) راجع إلى هؤلاء المنتظرين.

3. الذين تتساوى سيئاتهم مع حسناتهم

يظهر ممّا رواه العياشي أنّ أصحاب الأعراف هم الذين تتساوى حسناتهم مع سيئاتهم.

ص: 290


1- بحار الأنوار : 8 / 335 ، باب الأعراف من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 2.

سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام وقال : قلت له : أي شيء أصحاب الأعراف ؟ قال : « استوت الحسنات والسيئات ، فإن أدخلهم اللّه الجنّة برحمته وإن عذبهم لم يظلمهم ». (1)

وهذا القول لا يلائم ظاهر الآيات لما عرفت من أنّ أصحاب الأعراف هم الذين يهنّئون أصحاب الجنة ويباركون لهم دخولها ، كما ينددون بأصحاب النار ولا تصدر مثل هذا الكلمات إلاّ ممّن حاز على منزلة كبيرة لا ممّن تساوت حسناته وسيئاته.

فما ذكره الشيخ الصدوق هو الأقوى حيث قال : والرجال هم النبي وأوصياؤه صلی اللّه علیه و آله لا يدخل الجنة إلاّ من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه. (2)

ص: 291


1- بحار الأنوار : 8 / 337 ، باب الأعراف من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 11.
2- بحار الأنوار : 8 / 340 ، باب ذبح الموت ، من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 23.

الفصل الثالث والعشرون : خلق الجنة والنار

اشارة

اختلفت أقوال المتكلمين والمفسرين في أنّ الجنة والنار هل هما مخلوقتان بالفعل ، أو ستخلقان في المستقبل ؟ واختار كلٌ منهما طائفة.

فأكثر المتكلّمين والمحدثين على الرأي الأوّل.

قال الصدوق : اعتقادنا في الجنة والنار انّهما مخلوقتان وانّ النبي قد دخل الجنة ورأى النار حين عرج به. (1)

قال المفيد : إنّ الجنة والنار في هذا الوقت مخلوقتان ، وبذلك جاءت الأخبار وعليه إجماع أهل الشرع والآثار ، وقد خالف في هذا القول المعتزلة والخوارج وطائفة من الزيدية ، فزعم أكثر من سميناه انّ ما ذكرناه من خلقهما من قسم الجائز دون الواجب. (2)

ووقفوا في الوارد به من الآثار ، وقال من بقي منهم بإحالة خلقهما ، واختلفوا في الاعتلال ، فقال أبو هاشم بن الجبائي : إنّ ذلك محال لأنّه لابدّ من فناء العالم قبل نشره وفناء بعض الأجسام فناء لسائرها ، وقد انعقد الإجماع على أنّ اللّه تعالى لا

ص: 292


1- اعتقادات الصدوق : 89.
2- لعلّ المراد من الجائز هو الممكن ومن الواجب المتحقق.

يفني الجنة والنار. وقال الآخرون وهم المتقدمون كأبي هاشم : خلقهما في هذا الوقت عبث ، لا معنى له واللّه تعالى لا يعبث في فعله ولا يقع منه الفساد. (1)

وقال العلاّمة الحلّي في كشف المراد : اختلف الناس في أنّ الجنة والنار هل هما مخلوقتان الآن أم لا ؟ فذهب جماعة إلى الأوّل ، وهو قول أبي علي ، وذهب أبو هاشم والقاضي ( عبد الجبار ) إلى أنّهما غير مخلوقتين ، ثمّ نقل احتجاج كلّ على رأيه. (2)

وقال التفتازاني : جمهور المسلمين على أنّ الجنة والنار مخلوقتان الآن ، خلافاً لأبي هاشم والقاضي عبد الجبار ومن يجري مجراهما من المعتزلة حيث زعموا انّهما يخلقان يوم الجزاء. (3)

وربّما نسب القول بعدم الخلقة إلى زرارة بن أعين. (4)

ويظهر من السيد الشريف الرضي اختيار القول بعدم كونهما مخلوقتين ، وقد طرح الموضوع في تفسيره وبحث في أدلّة الطرفين وذهب إلى القول بعدم الخلقة. (5)

وقد تحصل ممّا ذكرنا أنّ الأقوال ثلاثة :

أ. القول بأنّهما مخلوقتان وهو المشهور.

ب. القول بعدم خلقهما ولكن الخلقة ليست أمراً محالاً ، وهو للمعتزلة والخوارج وطائفة من الزيدية.

ج. القول باستحالة خلقتهما ، وهو لأبي هاشم والقاضي عبد الجبار من المعتزلة.

ص: 293


1- أوائل المقالات : 102.
2- كشف المراد : 298 ، ط مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام .
3- شرح المقاصد : 2 / 218 ، ط آستانة.
4- أوائل المقالات : قسم التعليقات ، بقلم فضل اللّه الزنجاني : 103.
5- حقائق التأويل : 365.

أدلّة القول بالخلق

واعلم أنّه سبحانه استعمل الجنة والنار في غير الجنة التي وعد بها المتقون ، أو النار التي أوعد بها المجرمون ، ويظهر ذلك من الإمعان في المراد منهما في غير واحد من الآيات ، وإليك بعض تلك الموارد :

أ. يذكر سبحانه محادثة رجلين جعل لأحدهما جنتين من أعناب وحفّهما بنخل وجعل بينهما زرعاً ، يقول : ( وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا ) . (1)

ومن الواضح انّ المراد من الجنة هي جنة الدنيا وما أكثرها.

ب. يحكي سبحانه عن وجود جنتي سبأ ، ويقول : ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) (2) ولا يحتمل أحد من المفسرين انّ المراد هو جنة الآخرة والجميع يفسرونه بجنان الدنيا.

ج. يحكي سبحانه عن خلقة آدم في الجنة ، وقال : ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) . (3)

وقد استدل غير واحد من المتكلّمين والمفسرين بهذه الآية ونظيرتها ، على أنّهما مخلوقتان.

قال التفتازاني : لنا وجهان :

ص: 294


1- الكهف : 39.
2- سبأ : 15.
3- البقرة : 35.

الأوّل : قصة آدم وحواء وإسكانهما الجنة ثمّ إخراجهما عنها بأكل الشجرة وكونهما يخصفان عليهما من ورق الجنة على ما نطق به الكتاب والسنّة وانعقد عليه الإجماع قبل ظهور المخالفين ، وحملها على بستان من بساتين الدنيا يجري مجرى التلاعب بالدين والمراغمة لإجماع المسلمين. (1)

ولكن هذا الاستدلال لا يصمد أمام النقاش لاحتمال أن يكون المراد من الجنة هي الدنيا لأنّ جنة الآخرة مكتوب عليها الخلود ، يقول سبحانه : ( قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ ) . (2)

كما أنّ القرآن الكريم يصف الواردين عليها بأنّهم خالدون ، يقول سبحانه : ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) . (3)

وعلى ضوء ذلك فلا عتب على من يحملها على جنة الدنيا.

نعم ثمة احتمال آخر ربما يؤيد انّ المراد هو جنة الآخرة ، وذلك بنقد ما قيل من أنّه لو كان المراد هو جنة الآخرة لما خرج عنها وذلك بتخصيص الخلود بمن يدخل فيها لأجل عقيدته الصحيحة وأعماله الصالحة فهؤلاء هم الذين كتب عليهم الخلود ، وجزاؤهم غير مقطوع ، قال سبحانه : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) . (4)

وأمّا الذي أو التي ولد أو ولدت فيها فلا دليل على خلودهم ، فلا يكون خروج آدم ولا زوجه عنها منافياً لآيات الخلود.

ص: 295


1- شرح المقاصد : 218 ، ط آستانة.
2- الفرقان : 15.
3- البقرة : 25.
4- هود : 108.

وعلى كلّ حال فالآية صالحة للاستدلال لا على وجه يفيد القطع واليقين.

وثمّة نكتة أُخرى وهي انّه ربما تطلق الجنة والنار ويراد منهما الجنة والنار البرزخيتان لا الجنة والنار الأُخرويتان ، فلا يصحّ الاستدلال بخلقة الأُولى على خلقة الثانية ، وإليك نماذج من تلك الآيات :

أ. يحكي سبحانه عمّن جاء من أقصى المدينة مؤيداً لرسل عيسى علیه السلام ، وقال : ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ ) . (1)

وحاول القوم الكافرون المنكرون لرسالة المسيح ضربه وقتله إلى أن وصلوا إلى أمنيتهم فقتلوه ، وعندئذٍ أُمر بالدخول في الجنة ، وقد حكاه سبحانه بقوله : ( قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ) . (2)

ودراسة سياق الآيات يثبت بأنّ المراد من الجنة هي الجنة البرزخية ، والتي منها بلّغ هتافه لقومه وقال ما قال.

ب. ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) . (3)

والمراد من النار هي النار البرزخية لقوله في ذيل الآية : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) وعلى ضوء ذلك فلا يصحّ لنا الاستدلال بلفظ الجنة والنار على الإطلاق بل لابدّ من إمعان النظر ليعلم ما هو المراد منها.

ص: 296


1- يس : 20.
2- يس : 26 - 29.
3- غافر : 46.

نعم يمكن الاستدلال على خلقة الجنة والنار الأُخرويين بالآيات التالية :

1. انّه سبحانه يصف معراج النبي وعروجه إلى السماء ورؤيته أمين الوحي عند سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى ، ويقول : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى ) . (1)

بيان الاستدلال هو أنّ المراد من جنة المأوى هي الجنة الموعودة للمؤمنين التي يعبَّر عنها في بعض الآيات بجنات عدن ، والآية تحكي عن أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله رأى أمين الوحي عند سدرة المنتهى التي تقع جنة المأوى في جنبها. فلو لم تكن الجنة مخلوقة لما صحّ الإخبار عنها بقوله : ( عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى ) .

2. انّه سبحانه يصف الجنة والنار بالاعداد ، وانّ الجنة أُعدّت للمتقين والنار للكافرين ، ولفظ الاعداد حاك عن وجودهما في ظرف الحكاية ، ولنذكر بعض الآيات :

- ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) . (2)

- ( أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ ) . (3)

- ( وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) . (4)

- ( وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ) . (5)

- ( وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ) . (6)

ص: 297


1- النجم : 13 - 15.
2- آل عمران : 133.
3- الحديد : 21.
4- آل عمران : 131.
5- التوبة : 100.
6- الأحزاب : 57.

وحملها على التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي مبالغة في تحقّقه مثل : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) و ( نَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الجَنَّةِ ) خلاف الظاهر فلا يعدل إليه بدون قرينة. (1)

والحقّ انّ هذه الآيات صالحة للاستدلال إذا لم يكن هناك دليل قاطع للتأويل.

وأمّا الروايات فهي دالة على كون الجنّة مخلوقة بالفعل :

1. روى الصدوق في توحيده ، عن الهروي ، قال : قلت للرضا علیه السلام : يابن رسول اللّه أخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقتان ؟ فقال : « نعم ، وانّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد دخل الجنّة ورأى النّار لمّا عرج به إلى السماء » قال: فقلت له : فانّ قوماً يقولون إنّهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين.

فقال علیه السلام : « ما أُولئك منّا ولا نحن منهم ، من أنكر خلق الجنّة والنار فقد كذّب النبيّ صلی اللّه علیه و آله وكذبنا وليس من ولايتنا على شيء وخلد في نار جهنم ». (2)

2. روى ابن عمارة ، عن أبيه ، قال : قال الصادق علیه السلام : « ليس من شيعتنا من أنكر أربعة أشياء : المعراج ، والمساءلة في القبر ، وخلق الجنة والنار ، والشفاعة ». (3)

3. وروى الفضل عن الرضا علیه السلام ، قال : « من أقر بتوحيد اللّه - وساق الحديث ، إلى أن قال : وأقر بالرجعة ، والمتعتين ، وآمن بالمعراج والمساءلة في القبر ، والحوض ، والشفاعة ، وخلق الجنّة والنار ، والصراط والميزان والبعث والنشور ، والجزاء والحساب ، فهو مؤمن حقاً ، وهو من شيعتنا أهل البيت ». (4)

ص: 298


1- شرح المقاصد : 2 / 218 - 219 ، ط آستانة.
2- بحار الأنوار : 8 / 119 ، باب الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد ، حديث 6.
3- بحار الأنوار : 8 / 197 ، باب الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد ، حديث 186 - 187.
4- بحار الأنوار : 8 / 197 ، باب الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد ، حديث 186 - 187.

هذه دلائل القائلين بخلق الجنة والنار فها نحن نتناول بالبحث دلائل المنكرين.

أدلّة المنكرين للخلق

استدل القائلون بعدم الخلق بالنقل والعقل.

أمّا النقل : فبالآيات التالية :

انّه سبحانه يصف الجنّة بالأوصاف التالية :

( جَنَّةُ الخُلْدِ ) ، ويقول : ( قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ ) . (1)

ويصف نعيمها : بأنّ أكلها وظلها دائمان ، يقول سبحانه : ( مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ) . (2)

هذا من جانب ، ومن جانب آخر يحكي بأنّ كلّ شيء هالك يوم القيامة إلاّ وجهه وذاته ، يقول : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) . (3)

فلو كانت الجنة والنار مخلوقتين فعلاً يلزم تدميرهما وإهلاكهما يوم قيام الساعة وهو يناف الطائفة الأُولى من الآيات الواصفة لها ولنعيمها بالخلود.

والجواب : انّ قوله سبحانه : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) ناظر إلى النظام السائد في الدنيا ، وأمّا الموجودات الأُخروية فلا تشملها الآية ، والشاهد على ذلك انّه سبحانه يصف وراء الجنة والنار بالبقاء وعدم النفاد ، ويقول : ( مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ

ص: 299


1- الفرقان : 15.
2- الرعد : 35.
3- القصص : 88.

وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ ) (1) فما عند اللّه خالد لا يشمله الهلاك ونظيره ، قوله سبحانه : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) (2) فالكتاب الحفيظ مكتوب عليه بالبقاء وعدم النقص مع أنّه سبحانه ، يقول : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) وهذا يدل على أنّ دائرة الهلاك لا تتجاوز العالم المادي الذي فيه الإنسان دون التجاوز إلى عالم البرزخ والنشأة الأُخروية ، يقول سبحانه : ( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) . (3)

والآية الثانية بصدد الرد على منكر المعاد القائل بأنّ الموت ضلال الإنسان في الأرض وانعدام لشخصيته ، فلو جيئ به ثانياً فلا يكون عين الأوّل ، فيجيب سبحانه بأنّ ما يتشخّص به الإنسان هو روحه وهو ما يأخذه ملك الموت ، وهو محفوظ عندنا لا يطرأ عليه التبدل والتغيّر.

وفي ضوء هذه الآيات يمكن أن يقال بأنّ ما دلّ على هلاك كلّ شيء إلاّ وجهه ، راجع إلى الأُمور الدنيوية والنظامات السائدة فيها ، من دون نظر إلى الأُمور الأُخروية.

وأمّا العقل : فقد استدلوا على عدم الخلق بأنّ خلقها قبل يوم الجزاء عبث لا يليق بالحكيم. (4)

والجواب : انّ المستدل خلط عدم العلم بالمصلحة بالعلم بعدمها ، فوضع الأوّل مكان الثاني ، فمن أين علم بأنّ خلقهما عبث ولعل هناك مصالح لا نحيط بها.

على أنّ لخلقهما قبل الجزاء تأثيراً هامّاً في الوعد والوعيد.

ص: 300


1- النحل : 96.
2- ق : 4.
3- السجدة : 10 - 11.
4- شرح المقاصد : 2 / 219 ، ط آستانة.

مكان الجنة والنار

إذا ثبت انّ الجنة والنار مخلوقتان ، يقع البحث في مكانهما ، وقد يستفاد من الذكر الحكيم انّ مكانهما قريب من سدرة المنتهى ، يقول سبحانه : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى ) . (1)

يقول التفتازاني : لم يرد نص صريح في تعيين مكان الجنة والنار ، والأكثرون على أنّ الجنة فوق السماوات السبع وتحت العرش ، تشبثاً بقوله تعالى : ( عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى ) وقوله : « سقف الجنة عرش الرحمن والنار تحت الأرضين السبع ».

والحقّ تفويض ذلك إلى علم العليم. (2)

انّ ما نقله التفتازاني هو رواية عكرمة ، عن ابن عباس ، انّه قال : قدم يهوديان فسألا أمير المؤمنين علیه السلام ، فقالا : أين تكون الجنة ؟ وأين تكون النّار ؟ قال : أمّا الجنّة ففي السماء ، وأمّا النار ففي الأرض ، قالا : فما السبعة ؟ قال : سبعة أبواب النّار متطابقات ، قال : فما الثمانية ؟ قال : ثمانية أبواب الجنة. (3)

ولكن عكرمة أباضي لا يعتمد عليه. (4)

والمستفاد من ظواهر الآيات أنّ الجنّة والنار خارجتان عن نطاق السماوات والأرض ، والشاهد عليه انّه سبحانه يصف سعة الجنة بسعة السماوات والأرض ،

ص: 301


1- النجم : 13 - 15.
2- شرح المقاصد : 2 / 220 ، ط آستانة.
3- بحار الأنوار : 8 / 128 ، باب الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 28.
4- هو أبو عبد اللّه القرشي ، مولاهم المدني ، البربري الأصل ، كان لحصين بن أبي الحر العنبري فوهبه لابن عباس ، وذكر انّه كان يرى رأي الخوارج وكان يكذب على ابن عباس ، قال ابن حنبل : مضطرب الحديث يختلف عنه وما أدري وروي عن الشافعي ، قال : لا أرى لأحد أن يقبل حديثه ، توفي سنة أربع ومائة.

يقول : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) (1) فالآية شاهدة على أنّها خارجة عنهما غير انّ سعتها كسعتهما ، ولا محيص عن القول بأنّ مكان الجنة والنار من الأُمور الغيبية التي نفوّض علم مكانهما إلى اللّه سبحانه.

نعم ذكر العلاّمة المجلسي في مكان الجنة والنار ، قوله : وأمّا مكانهما فقد عرفت أنّ الأخبار تدل على أنّ الجنة فوق السماوات السبع ، والنار في الأرض السابعة وعليه أكثر المسلمين. (2)

الجنّة والنار خارجتان عن هذا العالم

إنّما يحسن السؤال عن مكان الجنة والنار إذا كانتا جزءاً من هذا العالم ، فيسأل عن كونهما فوقاً أو تحتاً ، وأمّا إذا كانتا عالمين مستقلين منفكين عن السماوات والأرض فلا مجال للسؤال عن مكانهما.

وبعبارة أُخرى : إنّما يتصوّر المكان ، لشيء يكون جزءاً من هذا العالم ، وأمّا مجموع العالم بما هو مجموع فليس له مكان خاص ، لأنّه بتحقّقه يصنع لنفسه المكان لا أنّه كان هناك مكان خال فوجد العالم فيه وملأ فراغه ، ولذلك لما أعلن العالم الفيزيائي أنشتاين بأنّ العالم لم يزل في سعة سئل عن مكانه ، فأجاب بأنّه بسعته يوجد مكانه ولا يحتاج إلى مكان فارغ قبل السعة حتى يتحقّق فيه. (3)

وهكذا نقول في الجنة والنار المخلوقتين ، فلو كانتا عالماً مستقلاً خارجاً عن هذا العالم فهما بوجودهما يوجدان مكانهما ، والسؤال عن مكانهما غير صحيح بالمرّة.

ص: 302


1- آل عمران : 133.
2- بحار الأنوار : 8 / 205 ، باب الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد.
3- وإليه تشير الآية الكريمة : ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ( الذاريات : 47 ).

الفصل الرابع والعشرون : الخالدون في النار

الجذور التاريخية لهذه المسألة

إنّ من أوائل المسائل الكلامية التي طرحت على صعيد البحث بين المسلمين - بعد مسألة القضاء والقدر - هي مسألة حكم مرتكب الكبيرة.

فذهب المتطرفون من المسلمين الذين عابوا على عثمان وعمّاله ما اقترفوه من الاحداث إلى أنّ مرتكب الكبيرة كافر كفر ملّة.

وذهب آخرون منهم إلى أنّه كفر نعمة.

ولما وصلت النوبة إلى المعتزلة قالت بمنزلة بين منزلتين ، لا هو كافر ولا مؤمن.

وذهبت الإمامية والأشاعرة إلى أنّه مؤمن فاسق عن طاعة اللّه تبارك وتعالى ، وعلى ضوء ذلك ذهب المتطرّفون والمعتزلة إلى خلوده في النار ، خلافاً للآخرين ، حيث خصّوا الخلود بالكفار دون المسلمين وإن كانوا مرتكبين للكبائر.

قال الشيخ المفيد : اتّفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة باللّه تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة ، ووافقهم على هذا القول كافة المرجئة سوى محمد بن شبيب

ص: 303

وأصحاب الحديث قاطبة ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عام في الكفار وجميع فساق أهل الصلاة.

واتّفقت الإمامية على أنّ من عُذِّب بذنبه من أهل الإقرار والمعرفة والصلاة لم يخلد في العذاب وأخرج من النار إلى الجنة فينعم فيها على الدوام ، ووافقهم على ذلك من عددناه ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعموا انّه لا يخرج من النار أحد دخلها للعذاب. (1)

وقال التفتازاني : أجمع المسلمون على خلود أهل الجنة في الجنة ، وخلود الكفار في النار ، واختلف أهل الإسلام فيمن ارتكب الكبيرة من المؤمنين ومات قبل التوبة فالمذهب عندنا عدم القطع بالعفو ولا بالعقاب ، بل كلاهما في مشية اللّه لكن على تقدير التعذيب نقطع بأنّه لا يخلد في النار بل يخرج البتة لا بطريق الوجوب على اللّه تعالى ، بل بمقتضى ما سبق من الوعد وثبت بالدليل كتخليد أهل الجنة.

وعند المعتزلة القطع بالعذاب الدائم من غير عفو ولا إخراج من النار ، ويعبّر عن هذا بمسألة وعيد الفساق ، وعقوبة العصاة ، وانقطاع عذاب أهل الكبائر ، ونحو ذلك.

وذهب مقاتل بن سليمان وبعض المرجئة إلى أنّ عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلاً وإنّما النار للكفّار. (2)

قال السيد الشريف في شرح المواقف : غير الكفار من العصاة ومرتكبي الكبائر لا يخلد في النار ، لقوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) ولا شكّ أنّ مرتكب الكبيرة قد عمل خيراً هو إيمانه ، فإمّا أن تكون رؤيته للخير قبل دخول

ص: 304


1- أوائل المقالات : 14.
2- شرح المقاصد : 2 / 228 - 229 ، ط آستانة.

النار وهو باطل بالإجماع ، أو بعد خروجه عنها فهو المطلوب. (1)

إلى هنا وقفت على جذور المسألة وأقوال المتكلّمين فيها ، فحان البحث لدراسة أدلة القائلين بعدم الخلود.

فقد استدلوا على عدم الخلود بأدلة نقلية وعقلية.

الدلائل النقلية

احتجوا بآيات على عدم الخلود ونحن نذكرها تباعاً.

أ. ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) (2) وقد وقفت على كيفية الاستدلال في كلام السيد الشريف.

ونزيد بياناً على أنّ رؤية هؤلاء ثواب إيمانهم إمّا تتقدم على الورود في الجحيم أو يكون معه ، أو تتأخر عنه.

فالأوّل خلاف الإجماع ، فانّ معنى رؤية ثواب إيمانه هو دخوله الجنة ولازم ذلك الخروج منها ، وهو على خلاف المجمع عليه.

والثاني أمر محال كما هو واضح ، فتعيّن الثالث.

لكن الاستدلال بالآية مبني على أن لا يكون مرتكب الكبيرة ممن تحبط أعماله الصالحة ، وإلاّ فعلى القول بالإحباط نستكشف انّه لم يكن هناك أيّ ثواب له ، لأنّ الثواب كان مشروطاً بالموافاة - أي أن لا يرتكب الكبيرة طيلة عمره - و ارتكابه كاشف عن فقدان الشرط ، وفقدانه كاشف عن فقدان المشروط.

وبعبارة أُخرى : أنّ دلالة الآية متوقفة على عدم الدليل على خلود مرتكب

ص: 305


1- شرح المواقف : 8 / 209.
2- الزلزلة : 7.

الكبيرة في النار ، وإلاّ فخلوده يكشف عن حبط عمله ، لا بمعنى إبطال الثواب بعد تحقّقه ، بل بمعنى كشف عدم الثواب له من أوّل الأمر ، لاشتراطه بعدم ارتكاب الكبيرة.

ب. ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) . (1)

وقد قرر غير واحد من علمائنا دلالة الآية على عدم القطع بخلود مرتكبي الكبيرة في النار.

قال المرتضى : هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة ، لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين لأنّ قوله : ( عَلَى ظُلْمِهِمْ ) إشارة إلى الحال التي يكونون عليها ظالمين ويجري ذلك مجرى قول القائل : أنا أودّ فلاناً على غدره وأصله على هجره. (2)

وبعبارة أُخرى : أنّ الآية تخبر عن حكمين :

1. انّ هؤلاء تشملهم مغفرته سبحانه.

2. كما يمكن أن يشملهم عقابه سبحانه.

ويشير إلى الأوّل بقوله : ( لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ) ، وإلى الثاني بقوله : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) .

وأمّا تعيّن أحدهما فلا يعلمه إلاّ اللّه سبحانه ، فلو كان مرتكب الكبيرة خالداً في النار لما صحّ إلاّ الخبر الثاني وهو قوله : ( إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) .

نعم انّ هذه الآية ونظائرها لا ترخص لمرتكبي الكبائر أن يقترفوا المعاصي

ص: 306


1- الرعد : 6.
2- مجمع البيان : 3 / 278 ، تفسير سورة الرعد.

اتكالاً على هذه الآية ونظائرها ، وإنّما هو بصيص أمل ورجاء لهؤلاء وليس حكماً قطعياً في حقّهم.

والاستدلال بالآية يستند على جعل قوله سبحانه : ( عَلَى ظُلْمِهِمْ ) حالاً ، أي انّه سبحانه لذو مغفرة للناس في الحالة التي هم عليها من الظلم والعصيان.

ج. ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) . (1)

إنّ قوله سبحانه : ( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) ناظر إلى الذنوب التي مات صاحبها بلا توبة ، ففي هذا النوع من الذنوب يفرق سبحانه بين الشرك وغيره وانّه لا يغفر الشرك ، ويغفر ما دون ذلك ، وأمّا الذنوب التي مات مقترفها مع التوبة ، فلا فرق فيها بين الشرك وغيره ، فانّ التائب من ذنبه مطلقاً كمن لا ذنب له.

وعلى ضوء ذلك ، فلا يمكن القطع بخلود مرتكب الكبيرة في النار لاحتمال شمول غفرانه سبحانه له ، ودخوله تحت مشيئته.

نعم الآية ليست دليلاً قاطعاً على فلاح مرتكب الكبيرة وإنّما هي بصيص أمل لمقترفي الكبائر. ومعه لا يصحّ قول المعتزلة ولا الخوارج بخلودهم في النار وعدم خروجهم عنها على وجه القطع.

هذه هي الآيات التي تصلح للاستدلال على عدم خلودهم في النار.

وثمة روايات تؤيد تلك النظرية ، وها نحن نذكر بعضها :

1. روى الصدوق في توحيده بسنده عن ابن أبي عمير ، قال : سمعت موسى بن جعفر علیهماالسلام يقول : « لا يخلّد اللّه في النار إلاّ أهل الكفر والجحود ، وأهل

ص: 307


1- النساء : 48 و 116.

الضلال والشرك ». (1)

2. روى الحسين بن سعيد الأهوازي ، عن عمر بن أبان ، قال : سمعت عبداً صالحاً يقول في الجهنميين : « إنّهم يدخلون النار بذنوبهم ويخرجون بعفو اللّه ». (2)

3. وكتب الإمام الرضا علیه السلام للمأمون في رسالته : « انّ اللّه لا يدخل النار مؤمناً وقد وعده الجنة ، ولا يخرج من النار كافراً وقد أوعده النار والخلود فيها ، ومذنبو أهل التوحيد يدخلون النار ويخرجون منها ، والشفاعة جائزة لهم ». (3)

4. وقد روى الفريقان انّ النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ». (4)

وقد حقّق في محله انّ معنى الشفاعة هو حط الذنوب ولا تختص بترفيع الدرجة ، والآيات النازلة حول الشفاعة ناظرة إلى ما هو الدارج بين أهل الكتاب من اليهود والنصارى والشفاعة عندهم كانت بمعنى غفران الذنوب والخروج من النار ، والذكر الحكيم يُدعم الشفاعة بهذا المعنى ، ولكن بشروط وحدود يخرجها عن جعلها ذريعة إلى ترك العمل من خلال وضع شروط في المشفوع له وفي الذنب الذي يكون محطاً للشفاعة ، وبذلك ظهر انّ الروايات أيضاً تؤيد مفاد الآيات.

الدلائل العقلية

استدل على عدم الخلود بوجهين عقليين :

ص: 308


1- بحار الأنوار : 8 / 351 و361 و362 ، باب من يخلد في النار ومن يخرج منها من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 1 ، 32 ، 36.
2- بحار الأنوار : 8 / 351 و361 و362 ، باب من يخلد في النار ومن يخرج منها من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 1 ، 32 ، 36.
3- بحار الأنوار : 8 / 351 و361 و362 ، باب من يخلد في النار ومن يخرج منها من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 1 ، 32 ، 36.
4- بحار الأنوار : 8 / 34 ، باب الشفاعة من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 1 ; مسند أحمد : 1 / 281 ; موطأ مالك : 1 / 166.

الأوّل : انّه يستحق الثواب بإيمانه ، لقوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) والإيمان أعظم أفعال الخير ، فإذا استحق العقاب بالمعصية ، فإمّا أن يقدم الثواب على العقاب وهو باطل بالإجماع ، لأنّ الثواب المستحق بالإيمان دائم على ما تقدم ، أو بالعكس وهو المراد ، والجمع محال.

الثاني : يلزم أن يكون من عبد اللّه تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه ثمّ عصى في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه ، مخلداً في النار كمن أشرك باللّه تعالى مدة عمره ، وذلك محال لقبحه عند العقلاء. (1)

وذكر التفتازاني وجوهاً أُخرى نذكر منها ما يلي :

الثالث : انّ من واظب على الإيمان والعمل الصالح مائة سنة وصدر عنه في أثناء ذلك أو بعده جريمة واحدة كشرب جرعة من الخمر فلا يحسن من الحكيم أن يعذبه على ذلك أبد الآباد ولولم يكن هذا ظلماً فلا ظلم ، أو لم يستحق بهذا ذماً فلا ذم. (2)

وحاصل هذه الأدلة : انّ النظر إلى المؤمن المقترف للكبيرة والكافر المشرك على حد سواء يخالف العدالة ، بل يجب أن يكون هناك فرق بينهما ، إمّا في مدّة العذاب ، أو في كيفيته ، فجعلهما على حد سواء يرده العقل السليم ، يقول سبحانه : ( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) . (3)

نعم غاية ما تُثبت بعض الأدلة العقلية وجود الفروق بين المؤمن والكافر ، أمّا في الكمية كما هو المطلوب ، أو في الكيفية وهذا المقدار يكفي في رفع الظلم.

نعم مقتضى الدليل العقلي الأوّل هو وجود الفرق من حيث الكمية ،

ص: 309


1- كشف المراد : 276.
2- شرح المقاصد : 2 / 229.
3- القلم : 35 - 36.

فلاحظ.

إلى هنا تمّت دراسة أدلّة القائلين بعدم الخلود ، وإليك ما استدل به القائلون بالخلود من الآيات.

أدلة القائلين بالخلود

استدلت المعتزلة وغيرهم من القائلين بخلود مرتكبي الكبيرة في النار ، بآيات وردت في حقّ طوائف مختلفة كلّهم محكومون بالخلود ويجمعهم اشتراكهم في اقتراف المعاصي الكبيرة ، وتلك الطوائف يربو عددها على 16 طائفة نسرد أسماءها والآيات الواردة في حقّها على وجه موجز ثمّ يتبعه التفصيل ، وهؤلاء هم :

1. الكفار.

2. المشركون ( النحل/ 29، الأحزاب/ 64 - 65 ، الزمر/ 71 - 72 ، غافر/ 76 ، التغابن / 10 ، البينة / 6 وآيات أُخرى ).

3. المنافقون ( التوبة / 68 ، المجادلة / 17 ).

4. المرتدون ( آل عمران / 86 - 88 ).

5. المكذبون بآيات اللّه ( الأعراف / 36 ).

6. أعداء اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ( التوبة / 63 ).

7. العصاة والمتمردون على أمر اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ( الجن / 22 - 23 ).

8. الظالمون ( يونس / 52 ، الأنعام / 128 - 129 ).

9. الأشقياء ( هود / 106 - 107 ).

10. المجرمون ( الزخرف / 74 - 75 ، السجدة / 12 - 14 ).

11. المتوغلون في الخطايا ( البقرة / 81 ).

ص: 310

12. المرتكبون للقبائح ( الفرقان / 68 - 69 ).

13. المعرضون عن القرآن ( طه / 100 - 101 ).

14. المطففون في الميزان ( المؤمنون / 103 - 104 ).

15. الآكلون للربا ( البقرة / 275 ).

16. قاتلو المؤمنين ( النساء / 93 ، الفرقان / 68 ).

هذه هي العناوين التي حكم الذكر الحكيم بخلود أصحابها في النار ، ولكن عند إمعان الدقة والنظر في الآيات والقرائن المحفوفة بها ، نقف على أنّ المخلّدين في النار هم الذين ينطبق عليهم أحد العناوين الأربعة الأُولى ، أعني : الكافرين والمشركين والمنافقين والمرتدين ، وأمّا أصحاب سائر العناوين فلا يخرجون عن هذا الإطار.

وقبل دراسة الآيات الواردة حول هذه الطوائف الست عشرة نلفت نظر القارئ الكريم إلى أمرين مهمين :

الأمر الأوّل : انّ الأُسلوب الصحيح في تفسير الآيات لا سيما فيما يرجع إلى هذه الطوائف هو تفسير الآيات على وفق ما يتبادر منها في عصر الرسول صلی اللّه علیه و آله ، فانّ لغة العرب قد تطورت طيلة 14 قرناً فربما يكون المتبادر منه في زماننا هذا غير ما يتبادر في عصر الرسول ، وإن كان بينهما قدر مشترك ، فلا محيص للمفسر عن تفسير الآيات حسب استعمال مفرداتها وجملها في عصر الرسول ، وهذا أمر له بالغ الأهمية في تفسير القرآن وإن كان تحصيل اليقين بذلك أمراً عسيراً ، فانّ الوقوف على جذور المعاني والمصطلحات القرآنية التي كانت هي الرائجة في عصر الرسول بحاجة إلى عناية ودقة كافية ، ولعلّ كتاب المقاييس لابن فارس يعين المفسر في هذا الطريق ، لأنّه بصدد بيان أُصول المعاني وجذورها ، لا المعاني المتطورة.

الأمر الثاني : دراسة القرائن الحافة بالآيات فانّ بعضها وإن كانت في بادئ

ص: 311

الأمر تعم مرتكب الكبيرة وإن كان مؤمناً ولكن بعد الدقة فيها يعلم أنّ المراد هو غير المؤمن فتنحصر في الكافر.

وفي ظل رعاية هذين الأمرين ، نطرح الآيات الواردة حول هذه الطوائف المحكومة بالخلود.

وبما انّ هذه العناوين الأربعة المتقدمة غنية عن البحث والدراسة حيث اتفق الجميع على خلودهم في النار ، فلنقتصر على دراسة بقية الطوائف.

5. المكذبون بآيات اللّه

ورد في أوّل الخليقة خطابات إلهية تخاطب فيها أبناء آدم ، منها قوله : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) . (1)

فالآية أوعدت المكذبين بآيات اللّه والمستكبرين عنها بالخلود في النار ، وهؤلاء هم الكافرون ، فليست هذه الطائفة إلاّ قسماً من الكافرين ، فخلودهم في النار لا يعني إلاّ خلود الكافر في النار.

6. أعداءُ اللّه ورسوله

إنّ الذكر الحكيم يصف من يحادد اللّه ورسوله انّه من أصحاب النار الخالدين ، يقول : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الخِزْيُ الْعَظِيمُ ) (2) وليس المراد في الآية مطلق العداء بل من بلغ غاية

ص: 312


1- الأعراف : 35 - 36.
2- التوبة : 63.

العداء ، بشهادة انّه سبحانه يقول : ( مَن يُحَادِدِ ) وهو من الحد ، والمراد مَنْ وصل إلى النهاية ، قال الطبرسي : المحادة مجاوزة الحد بالمشاقة (1). ومن الواضح أنّ هذه الطائفة هم المكذبون لأنبياء اللّه ورسله وهو يلازم الكفر ، فليس خلودهم في النار إلاّ رمزاً لخلود الكافر.

على أنّ سياق الآيات يدل على أنّها نزلت في حقّ المنافقين وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان.

7. العصاة والمتمردون على أمر اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله

أوعد اللّه سبحانه العصاة بالخلود في نار جهنم قال سبحانه : ( إِلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا * حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ) . (2)

انّ قوله : ( وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) يشمل مطلق العاصي وإن كان مؤمناً مقترفاً للكبيرة ، ولكن القرائن الحافة بهذه الآية تثبت بأنّ المراد هم منكرو الرسالة الذين كانوا يحقّرون المؤمنين ، وهذه القرائن عبارة عن سياق الآيات المتقدمة عليها أو المتأخرة عنها.

إنّ الموضوع في الآيات 18 إلى 28 هم المشركون والكافرون ، الذي جاء في ثنايا تلك الآيات بشهادة انّه يقول : ( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدًا ) .

ويقول أيضاً : ( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) . (3)

فهاتان الآيتان راجعتان إلى المشركين الذين كانوا يدعون مع اللّه الأصنام

ص: 313


1- مجمع البيان : 3 / 43.
2- الجن : 23 - 24.
3- الجن : 20.

والأوثان ويعبدونهم مع اللّه سبحانه فتكون هاتان الآيتان دليلاً على أنّ المراد من العصاة هم المشركون.

ويؤيده قوله في الآية 24 : ( حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ) فكأنّهم كانوا يحقّرون الأنبياء لقلة الناصر ، فإذا رأوا ما يوعدون من نار جهنم فسيقفون على خطئهم وانّهم كانوا أقلّ ناصراً وأقل عدداً.

والحاصل انّ القرائن الحافة بالآيات تُحقِّق بأنّ المراد من العصيان هو الكفر ، ومن العصاة هم الكافرون.

8. الظالمون

هدّد سبحانه الظالمين بعذاب الخلد ، قال سبحانه : ( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ) . (1)

وظاهر الآية وإن كان يشمل كلّ ظالم وإن كان مؤمناً مسلماً لكن كان مقترفاً للظلم ، ولكن سياق الآيات يدل على أنّ المراد ليس مطلق من ظلم ، بل الظالمون المنكرون ليوم الوعد ، وإليك الآيات الواردة قبلها :

يقول سبحانه في نفس السورة : ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) . (2)

وقال سبحانه : ( أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) . (3)

ففي حقّ هؤلاء الذين كانوا يستبعدون النشأة الأُخرى وكانوا يستعجلون بها يقول سبحانه : ( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ ) .

ص: 314


1- يونس : 52.
2- يونس : 48.
3- يونس : 51.

ومن هنا يعلم أنّ حال الآيات الأُخرى التي تحكم على الظالمين بالخلود ، ويقول : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) . (1)

وهاتان الآيتان وإن كانتا ظاهرتين في مطلق الظالمين لكن سياق الآيات يدل على أنّ المراد هم المكذبون لأنبياء اللّه ورسله من الأُمم السالفة ولو عمَّت بعض الأُمّة الإسلامية فإنّما عمتهم بهذا الملاك.

وإليك ما يخصّص الظالمين بالمكذبين.

يقول سبحانه قبل هاتين الآيتين : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ) . (2)

ويقول بعد هذه الآية : ( يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) . (3)

فبملاحظة الآيات التي وقعت قبل الآيتين أو التي أعقبتهما يتضح بأنّ المراد هم الكافرون المنكرون للتوحيد والرسالة لا سيما رسالة النبي صلی اللّه علیه و آله .

9. الأشقياء

إنّ مصير الأشقياء حسب الذكر الحكيم هو الدخول في النار التي لهم فيها

ص: 315


1- الأنعام : 128 - 129.
2- الأنعام : 124.
3- الأنعام : 130.

زفير وشهيق ، يقول سبحانه : ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ) . (1)

ففي هاتين الآيتين حكم عليهم بالخلود في النار ، وللمفسرين حول هذه الآية كلمات لا سيما في الاستثناء الوارد في قوله : ( إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) فمن أراد فليرجع إلى التفاسير ، ولكن الأمر المهم هو انّ من عصى اللّه سبحانه ولو في معصية صغيرة فقد شقي ، فللشقاء درجات كما أنّ الأشقياء أصناف ، ولكن المراد في الآية ليس كلّ من شقي ولو بغير الكفر ، وإنّما المراد من شقي لأجل كفره وعدم إيمانه ، ويؤيده سياق الآيات ، فقد جاء بعد هاتين الآيتين ، قوله سبحانه : ( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ) . (2) فهذه الآية قرينة على أنّ المراد من الذين شقوا هم المشركون الذين يعبدون الأصنام دون اللّه سبحانه.

ويؤيد ذلك التفسير : انّه سبحانه فسر الأشقى في بعض الآيات بمن كذب وتولى ، وقال : ( فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلَاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) . (3)

10. المجرمون

إنّ المجرمين حسب الذكر الحكيم مخلّدون في النار ، قال سبحانه : ( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) . (4)

ص: 316


1- هود : 106 - 107.
2- هود : 109.
3- الليل : 14 - 16.
4- الزخرف : 74 - 75.

غير انّ اللازم هو دراسة سياق الآيات ليتضح من خلالها المراد من المجرمين ، لأنّ سياقها يشهد على أنّ المراد ليس كلّ من ارتكب معصية ، بل المراد غير هذه الفئة ، وإليك الآيات :

إنّ الآيات المتقدمة تصنّف الناس إلى صنفين :

أ. مؤمن بآيات اللّه فيُجزى بالجنة.

ب. مجرم يجزى بالخلود في الجحيم.

فالتقابل السائد بين الآية الثانية والآية الأُولى يمكن أن يفسر على ضوئها لفظ « المجرم » وانّ المراد منه غير المؤمن بآيات اللّه سبحانه والذي يساوق المشرك ، يقول سبحانه في حقّ الطائفة الأُولى :

( يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) . (1)

ويصف الطائفة الثانية ، بقوله : ( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) . (2)

وبملاحظة الآيات وتقابل الموضوعين يتضح المراد من « المجرم » فالموضوع في الطائفة الأُولى : ( الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ) .

كما أنّ الموضوع في الطائفة الثانية : ( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ ) .

فبالتقابل يتبين انّ جرم هؤلاء هو كفرهم وعدم إيمانهم بآيات اللّه سبحانه ، ومن الواضح بمكان أنّ الكفار والمشركين خالدون في النار ، ويؤكد ذلك أنّ

ص: 317


1- الزخرف : 68 - 70.
2- الزخرف : 74 - 76.

السورة من السور المكية التي تدور بحوثها حول المشرك والكافر ولا تجنح إلى المؤمنين المسلمين الذين ربما يقترفون المعاصي تلبية لأهوائهم لا كفراً بربوبية اللّه سبحانه.

وليست تلك الآيات فريدة في إيضاح المقصود من المجرمين ، بل هناك آيات أُخرى تفسر المجرمين بغير المؤمنين بيوم اللقاء ، قال سبحانه :

( وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ... فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) . (1)

تجد أنّه سبحانه يصف المجرمين بأنّهم يوم القيامة يرغبون في الرجوع إلى الدنيا ، ويقولون : ( ارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) وهذا يعرب عن أنّهم لم يكونوا مؤمنين بيوم الجزاء واللقاء وإنّما أيقنوا لما شاهدوا النار.

ويؤيّدُ ذلك انّه سبحانه يصف المؤمنين - في نفس تلك السورة - في مقابل المجرمين ، بقوله :

( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) . (2) فالمجرمون هم الذين لا يؤمنون بآيات اللّه ، ومن الواضح انّ من لا يؤمن لا يخرج عن إطار الشرك.

11. المتوغلون في الخطايا

يحكم القرآن المجيد على من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ، انّه من أصحاب النار ، يقول سبحانه : ( بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ

ص: 318


1- السجدة : 12 - 14.
2- السجدة : 15.

أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) . (1)

فالمخلدون في النار في هذه الآية ذو سمتين :

السمة الأُولى : اقتراف السيئات.

السمة الثانية : الإصرار على ارتكابها على نحو تحيط بقلوبهم وأرواحهم ونفوسهم.

ومن الجدير بالذكر أنّ إحاطة الخطايا بالروح والنفس تُسفر عن انسداد طرق الهداية أمام القلوب والأرواح والأنفس ، فلا يستجيب لنداء الأنبياء والرسل ومثل هذا يساوق الشرك والكفر.

والدليل على أنّ المراد ليس مطلق من اقترف الخطيئة ، انّه سبحانه يعطف على قوله : ( كَسَبَ سَيِّئَةً ) قوله : ( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) وبيّن بذلك أنّ هذا الإنسان صار لكثرة الذنوب والخطايا غاصّاً فيها لا يتأثر بهداية الهادين ، ونصح الناصحين.

وبعبارة أُخرى : انّ الإنسان الغارق في الآثام والمعاصي ينزلق - رويداً رويداً - إلى هاوية الكفر والجحود بآيات اللّه ورسله ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ ) . (2)

فالآية إنذار لمن يقترف المعاصي ويظن انّه لا يضر الإيمان ، فانّ اقتراف المعاصي شيئاً فشيئاً بلا توبة وندم بينها ربما يؤول مصيره إلى الكفر وتكذيب آيات اللّه.

وممّا يؤكد ورود الآية ( بَلَى مَن كَسَبَ ) في حقّ الكافرين ، الآية المتقدمة

ص: 319


1- البقرة : 81.
2- الروم : 10.

عليها ، يقول سبحانه :

( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) . (1)

فالآية تفسر أنّ المراد ( مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) ، هم أحبار بني إسرائيل الذين يكتبون الكتاب بأيديهم لبيعه بثمن بخس ، ( فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) .

كما أنّ الآية المتأخرة واردة في حقّ المؤمنين ، يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) . (2)

فبالمقابلة بين قوله : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) في هذه الآية وقوله : ( بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ) في الآية المتقدمة يتضح انّ المراد هو الكافر والمؤمن ، فالأوّل مخلّد في النار ، والمؤمن مخلّد في الجنة.

12. المرتكبون للقبائح

يوعد الذكر الحكيم الذين أشركوا وقتلوا النفس المحرّمة وزنوا بالخلود في العذاب ، يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) . (3)

والكلام في تعيين المشار إليه في قوله : ( وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ) ، ففيه احتمالات ثلاثة :

ص: 320


1- البقرة : 79.
2- البقرة : 82.
3- الفرقان : 68 - 69.

أ. أي زنى.

ب. أشرك وقتل النفس المحترمة.

ج. أو اقترف المعاصي الثلاث.

والاحتمال الأوّل من البعد بمكان ، إذ لو كان المراد مطلق من زنى ، فما هو الوجه لمضاعفة العقاب الذي أُشير إليه بقوله : ( يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ ) ، والاحتمال الثاني لا يوافق القواعد العربية إذ لا يصحّ أن يذكر المتكلم أُموراً ثلاثة ثمّ يشير إلى الأمرين الأُوليين بلا قرينة ، فيتعين الاحتمال الثالث ، أي من اقترف الأُمور الثلاثة ، ويكون المراد من أشرك وقتل النفس المحترمة وارتكب الزنا.

وهذا مما لا خلاف فيه ، لأنّ المشرك مخلد في النار ، ويؤيد ذلك أمران :

أ. حكم عليه سبحانه بضعف العذاب ، وهذا يناسب المشرك.

ب. استثنى في الآية التالية من تاب وآمن أي تاب من الشرك وآمن باللّه ، فهذا دليل على أنّ المستثنى منه هو من لم يؤمن باللّه سبحانه ، قال تعالى : ( إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) . (1)

وبما ذكرنا يتضح وجه مضاعفة العذاب ، لأنّ الموضوع ليس هو مطلق المشرك بل المشرك الذي ضم إلى شركه في العقيدة ، قبيحاً في العمل ، وهو قتل النفس المحترمة وهتك الأعراض.

13. المعرضون عن القرآن

أوعد سبحانه المعرضين عن الذكر بالخلود في النار ، يقول سبحانه :

ص: 321


1- الفرقان : 70.

( كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا * مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً ) . (1)

إنّ الضمير في قوله : ( خَالِدِينَ فِيهِ ) يرجع إلى الوزر بمعنى العبء الثقيل ، والخلود في الوزر كناية عن الخلود في جزائه وهو العذاب ، فينتج انّ المعرض عن الذكر يخلد في العذاب.

ولكن المراد من المعرض ليس مطلق من أعرض عن تلاوته أو عن العمل ببعض أحكامه ، بل من لا يؤمن بالقرآن فيتركه مهجوراً ، وهو يساوق الكفر ، ولذلك يصف سبحانه المعرضين عن القرآن بالكفر وعدم الإيمان ، يقول سبحانه : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ) . (2)

ولا شكّ انّ المعرض بهذا النحو الوارد في الآية يساوق الكفر.

14. المُطَفَّفُون في الميزان

يقسّم القرآن الكريم الإنسان يوم المعاد إلى من ثقلت موازينه ومن خفت موازينه ، فيقول : ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) . (3)

وظاهر هذه الآية هو خلود مطلق من خفّت موازينه في النار سواء أكان مؤمناً أم كافراً.

ص: 322


1- طه : 99 - 101.
2- الكهف : 57.
3- المؤمنون : 102 - 103.

ولكن سياق الآيات يدل على أنّ المراد ممن خفّت موازينه هم المكذبون بآيات اللّه سبحانه وأنبيائه ، يقول سبحانه بعد هذه الآية : ( أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ) . (1)

ويقول أيضاً : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ) . (2) فيستنتج - مع ملاحظة هذه الآيات - أنّ المحكومين بالخلود هم المكذبون وغير المؤمنين بيوم القيامة.

15. الآكلون للربا

أوعد اللّه سبحانه آكلي الربا بالخلود في النار ، قال سبحانه :

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) . (3)

فالآية وإن كانت توعد مطلق آكل الربا بالخلود في النار ولكن قوله : ( وَمَنْ عَادَ ) قرينة على أنّ المراد من لا يؤمن بتحريم الربا ويكرر قوله : ( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ويترك قول اللّه سبحانه : ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) ، ومثل هذا هو ممن لا يؤمن بالتشريع السماوي والتقنين الإلهي.

وبعبارة أُخرى كان العرب في العصر الجاهلي يعتقدون بحلية الربا

ص: 323


1- المؤمنون : 105.
2- المؤمنون : 109 - 110.
3- البقرة : 275.

ومساواته مع البيع ، وكانوا يتعاطونه في حياتهم ، فمن انتهى عن هذا العمل بعد ورود النهي فله ما سلف وأمره إلى اللّه ، وأمّا من لم ينزجر عنه ومكث على ما كان عليه ، فأُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، ومثل هؤلاء لا يخرجون عن إطار الكفر حيث أنكروا الوحي والرسالة بالإصرار على موقفهم السابق.

16. قاتلو المؤمنين

يوعد القرآن الكريم من قتل مؤمناً متعمداً بالخلود في نار جهنم ، يقول سبحانه : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) . (1)

إنّ هذه الآية ذريعة أُخرى للقائلين بأنّ مرتكب الكبيرة يخلد في النار ، حيث إنّه سبحانه حكم على من قتل مؤمناً بالخلود في نار جهنم ، والآية تشمل المؤمن والكافر.

يذكر الطبرسي في شأن نزول الآية ، ويقول :

نزلت في مقيس بن صبابة الكناني وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار فذكر ذلك لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأرسل معه قيس بن هلال الفهري ، وقال له : قل لبني النجار إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتصّ منه ، وإن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته ، فبلّغ الفهري الرسالة فأعطوه الدية ، فلما انصرف ومعه الفهري وسوس إليه الشيطان ، فقال : ما صنعت شيئاً ، أخذت دية أخيك فيكون سُبَّة (2) عليك : اقتل الذي معك لتكون نفس بنفس والدية فضل ، فرماه بصخرة فقتله ، وركب بعيراً ورجع إلى مكة كافراً ، وأنشد يقول :

ص: 324


1- النساء : 93.
2- السُّبَّة : العار.

قتلتُ به فهراً وحمّلتُ عقلَهُ *** سراة بني النجار أرباب فارعٍ

فادركتُ ثأري واضطجعتُ مُوسَداً *** وكنتُ إلى الأوثان أوّلَ راجعٍ

فقال النبي : « لا أُؤمنّه في حلٍّ ولا حرم » فقُتِلَ يوم الفتح. (1)

ولعل ما ذكره الطبرسي من سبب للنزول يؤيد قول القائلين بالخلود ، ولكن المخالفين لهذا القول أجابوا عن الاستدلال بوجوه :

أ. انّ قوله : ( مُّتَعَمِّدًا ) دليل على أنّ المحكوم بالخلود من قتل المؤمن لأجل إيمانه ، فعندئذ تختص الآية بالكافر ولا يعم المسلم الذي يقتل أخاه لأجل هواه.

ب. الخلود كناية عن الإقامة الممتدة التي إذا طالت يعبر عنها بالخلود.

ج. الخلود وإن كان ظاهراً في التأبيد ، ولكنه ليس أمراً قطعياً لاحتمال خروجه عن النار بالعفو والشفاعة ، وقد مرّ قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ) . (2)

حصيلة البحث : انّ ما استدل به من الآيات مرجعها إلى أحد العناوين الأربعة التي لا شكّ في أنّ أصحابها من الخالدين في النار ، وقد عرفت القرائن التي تؤكد هذا.

وأقصى ما يمكن أن يقال : إنّ خصوص قاتل المؤمن مخلّد في النار لا كل الفساق ومرتكبي الكبائر وبذلك يتضح انّ مضامين الآيات لا تنافي ما روي عن الإمام موسى بن جعفر علیهماالسلام ، قال : « لا يخلّد اللّه في النار إلاّ أهل الكفر والجحود وأهل الضلال والشرك ومن اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر ... » فقلت له : يابن رسول اللّه فالشفاعة لمن تجب من المذنبين ؟

ص: 325


1- مجمع البيان : 3 - 4 / 141.
2- النساء : 48.

فقال : « حدثني أبي عن آبائه ، عن علي علیه السلام قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل ». (1)

فلو دلّت الآية على أنّ قاتل المؤمن خالد في النار فليس معناه انّ الخلود حكم قطعي في حقّه بحيث لا يمكن أن يتغيّر أو يتبدّل ، بل معناه وجود المقتضي للخلود لو لم يمنع عنه مانع وهو شمول الشفاعة له.

يقول صدر المتألهين : إنّ الأشياء كلّها طالبة لذاتها للحق ، مشتاقة إلى لقائه بالذات ، وانّ العداوة والكراهة طارئة بالعرض ، فمن أحب لقاء اللّه بالذات أحب اللّه لقاءَه بالذات ، ومن كره لقاء اللّه بالعرض لأجل مرض طار على نفسه ، كره اللّه لقاءه بالعرض ، فيعذبه مدة حتى يبرأ من مرضه ويعود إلى فطرته الأُولى أو يعتاد بهذه الكيفية المرضية زال ألمه وعذابه لحصول اليأس ، ويحصل له فطرة أُخرى ثانية ، وهي فطرة الكفار الآيسين من رحمة اللّه الخاصة بعباده.

وأمّا الرحمة العامة فهي التي وسعت كلّ شيء ، كما قال تعالى : ( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) . (2)

ثمّ نقل عن القيصري في شرح الفصوص كلاماً في خلود أهل النار ، جاء فيه : انّ من اكتحلت عينه بنور الحقّ يعلم انّ العالم بأسره عباد اللّه وليس لهم وجود وصفة وفعل إلاّ باللّه وحوله وقوته ، وكلّهم محتاجون إلى رحمته وهو الرحمن الرحيم ، ومِنْ شأن مَن هو موصوف بهذه الصفات أن لا يعذب أحداً عذاباً أبداً ، وليس ذلك المقدار أيضاً إلاّ لأجل إيصالهم إلى كمالهم المقدر لهم ، كما يذاب الذهب

ص: 326


1- توحيد الصدوق : 407 ، الباب 63 ، الحديث 6.
2- الأعراف : 156.

والفضة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدره وينقص عياره ، فهو متضمن لعين اللطف كما قيل : «وتعذيبكم عذب ، وسخطكم رضا ، وقطعكم وصل ، وجوركم عدل». (1)

ثمّ إنّ ما ذكره صدر المتألهين أو الشيخ ابن عربي في الفتوحات كلام جدير بالاهتمام ، فلو لم نقل به على الوجه الكلي فهو مقبول على نحو الموجبة الجزئية.

ص: 327


1- الأسفار : 9 / 346 ، الفصل 28 في كيفية خلود أهل النار.

خاتمة المطاف : العصيان المحدود والعذاب الدائم

إنّ من المقرر في محله هو لزوم مساواة العذاب مع العصيان ، وضرورة إقامة الموازنة بينهما وعندئذٍ يُطرح هذا السؤال وهو :

كيف يحكم على هؤلاء بالخلود في النار مع أنّ العصيان كان محدوداً بمقطع زماني خاص ، ولكن الجزاء غير متناه ، وهذا مخالف للعدل الذي يحكم به العقل ؟

هذا هو الإشكال الذي أثير بعد رحيل الرسول في أوساط المسلمين ، ويجاب عن هذا السؤال بالنحو التالي :

لو كان الجزاء أمراً جعليّاً من قبل المقننين ، كالحكم الصادر على السارق والغاصب والزاني لصحت الموازنة ، لأنّ العقل يحكم بلزوم كون الجزاء على قدر الجرم ، ولذلك يكون جزاء السارق أشدّ من جزاء السابّ بلسانه وإن كان كلٌّ منهما جرماً في نفسه.

وأمّا إذا كان الجزاء أمراً تكوينياً لازماً لوجود الجرم دون أن يكون هناك جعل قانوني فحينها تمتنع إقامة الموازنة بين الجرم والجزاء ، ولذلك ربما يكون الجرم أمراً آنياً ويورث أثراً دائمياً.

ويتضح ذلك من خلال المثال التالي :

ص: 328

إذا انتحر إنسان فقد ارتكب جرماً آنياً ، ولكن خلّف جزاءً غير متناه وهو فقد الحياة ، فإذا صحّ ذلك في الحياة الدنيوية ، فليصح في الحياة الأُخروية ، إذ ربما يكون الشرك باللّه تعالى مخلِّفاً لظلمة نفسانية توجب العذاب الدائم الذي هو من ثمرات وجوده وملكاته التي اكتسبها في النشأة الدنيوية.

وبتعبير آخر : لو كانت صلة الجزاء بالعمل صلة اعتبارية بحيث يعتبره الجاعل جزاءً للعمل كان لهذا السؤال حظٌ من الصحة ، فيقال كيف تكون الجريمة محدودة والجزاء غير محدود ؟!

وأمّا إذا كانت صلة الجزاء بالعمل صلة تكوينية على نحو يورث العمل في نفس المجرم هيئة راسخة لا تفارقه تكون مبدأ للجزاء وتعد من لوازم وجوده ، فعند ذلك يسقط السؤال لأنّ ترتّب المعلول على العلة ترتب ضروري لا يمكن تحديده بزمان أو مكان.

ولعلّ في بعض الآيات والروايات إشارة إلى ما ذكرنا ، يقول سبحانه : ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) (1). كما ورد في الحديث النبوي : « الدنيا مزرعة الآخرة » والإنسان يحصد في النشأة الأُخرى ما زرعه في هذه النشأة فما يحصده عبارة عن نتائج أعماله.

يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « العمل الصالح حرث الآخرة ». (2)

هذا هو الجواب الإجمالي عن هذا السؤال ، وقد بسطنا الكلام حوله في بحوثنا الكلامية. (3)

ص: 329


1- الشورى : 20.
2- نهج البلاغة : الخطبة 221.
3- راجع تلخيص الإلهيات : 474.

الفصل الخامس والعشرون : تجسّم الأعمال والملكات المكتسبة

اشارة

مسألة تجسّم الأعمال والملكات من الحقائق التي كشف عنها القرآن الكريم ، وقد أشرنا إليها عند البحث عن ضرورة إقامة الموازنة بين العمل والجزاء ، وحقيقته عبارة عن القول بأنّ للعمل الإنساني ظهورين :

ظهور بوجوده الدنيوي ، وظهور بوجوده الأُخروي. فما يكتسبه من الأعمال الحسنة كالصلاة والصوم والحج أو ما يحقّقه من أعمال الخير كالزكاة والصدقة وما يقوم به من البر والإحسان كلّها أعمال دنيوية ولا ظهور لها بحسب هذه النشأة سوى ما نشاهد ه منها.

ولكنّ لها ظهوراً في النشأة الأُخروية بوجود يناسبها كالجنة ونعيمها وحورها وغلمانها وما تشتهيه الأنفس وتلتذ به ، فليس لها حقيقة وراء تلك الأعمال التي اكتسبها أو حقّقها في حياته ، فالأعمال الدنيوية الصالحة تظهر بهذا النحو من الجزاء.

كما أنّ ما يقترفه الإنسان من الأعمال السيئة كالشرك باللّه سبحانه وظلم العباد وهتك الأعراض وسفك الدماء في هذه النشأة تظهر في يوم القيامة بوجودها المناسب لها فتظهر بصورة الجحيم ونارها وما يواجهه من أنواع العذاب.

هذه هي حقيقة القول بتجسّم الأعمال ، وقد سبق منّا القول إنّ من الشهود

ص: 330

تجسّم الأعمال بواقعها الأُخروي كي لا تكون هناك ذريعة للمجرم.

فكما أنّ للأعمال ظهورين ، فهكذا الحال للملكات التي يكتسبها الإنسان في هذه الدنيا ، فتارة يكتسب ملكة الإطاعة والعدل ، وأُخرى يكتسب ملكة التمرد والعصيان ، فلكلّ من الملكتين ظهور دنيوي وظهور أُخروي يتنعم الإنسان بواحدة منهما ويعذب بالأُخرى ، وهكذا الحال في النيات.

يقول الحكيم السبزواري في هذا الصدد :

فاعتبار خُلقه الإنسانُ *** مَلَكٌ أو أعجمُ أو شيطان

فهو وإن وحد دنيا ، وزعا *** أربعة عقبى فكان سبعاً

بهيمة مع كون شهوة غضب *** شيمته وان عليه قد غلب

مكرٌ فشيطانٌ وإذ سجية *** سنيّة فصورة بهيّة (1)

هذا إجمال ما ذكره أهل المعرفة في تجسّم الأعمال ، وعلى ضوء ذلك فليس للجنة ولا للنار حقيقة وراء تجسّم الأعمال التي اكتسبها الإنسان.

ويمكن أن يقال إنّ تجسّم الأعمال يشكل حيزاً من الجنة والنار ، ولكن لهما حقيقة أوسع من تجسم الأعمال.

فلنذكر من الآيات والروايات ما يدل عليه.

ص: 331


1- منظومة السبزواري : 347 ، الفريدة الرابعة من المقصد الثالث.

تجسّم الأعمال على ضوء القرآن والروايات

إنّ هناك طائفة من الآيات تدل بوضوح على أنّ ما اكتسبه الإنسان من خير أو شر يجده أمامه يوم القيامة فيجزى به.

1. قال سبحانه : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ) . (1)

2. ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) . (2)

3. ( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ) . (3)

فهذه الآيات تثبت انّ نفس الأعمال التي اكتسبها واقترفها الإنسان يجدها أمامه يوم القيامة بأعيانها وتحضر بواقعها ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في كيفية الظهور وإلاّ فالعمل نفس العمل ، والواقعية محفوظة وظهورها مختلف.

هذه الآيات الثلاث أوضح ما في الباب للدلالة على تجسّم الأعمال ، فانّ الآية الأُولى تصرِّح بحضور عمل الإنسان من خير وشر في النشأة الأُخرى ، وأمّا كيفية التجسم فتستفاد من الآية الثانية والثالثة فهما صريحتان في أنّ عمل السوء - أعني : كتمان الحقيقة في مقابل ثمن بخس ، أو أكل مال اليتيم ظلماً - يتجسّم بصورة النار ، فكأنّ للعمل الدنيوي ظهورين ، ظهور في الدنيا وهو ما يشاهده كلّ إنسان ، وظهور في الآخرة هو تجلّيه بصورة النار المحرقة.

ص: 332


1- آل عمران : 30.
2- الكهف : 49.
3- التكوير : 14.

ويؤيد ذلك انّه سبحانه يصف الآخرة بأنّها يوم تبلى السرائر ، ويقول : ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) . (1) فكأنّ الحقيقة اختفت تحت اللثام فأضحت سراً مستوراً وفي ذلك اليوم تزول كافة الحُجُب وتظهر الحقيقة في أنصع صورها.

4. ( يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) . (2)

وظاهر الآية انّ نور المؤمنين يسعى أمامهم في ذلك الطريق المظلم ، وليس للنور مبدأ سوى وجودهم الذي يشع نوراً ويضيء الطريق كما تضيء مصابيح الحافلة ، الطريقَ لسائقها فيسير على ضوئها.

ولأجل انّه لم يكن لنور المؤمنين الساطع مبدأ سوى وجودهم ، يسألهم المنافقون عن النظر إليهم بغية الانتفاع من نورهم كما يحكي عنهم سبحانه بقوله : ( يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ) . (3)

ولما كان النور هو تجسيد للعمل الصالح الذي اكتسبه المؤمن والمؤمنة في النشأة الأُولى يجابون بقولهم : ( قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ) (4) معرباً عن أنّ هذا النور هو ظهور لما قاموا به من الأعمال الصالحة ، فمن لم يغتنم الدنيا في إقامة الأعمال الصالحة فهو محروم من هذا النور.

وليس أمرهم بالرجوع إلى الدنيا والتماس النور إلاّ أمراً تعجيزياً ، كقوله سبحانه : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) . (5)

ص: 333


1- الطارق : 9.
2- الحديد : 12.
3- الحديد : 13.
4- الحديد : 13.
5- البقرة : 23.

5. ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) . (1)

والآية صريحة في أنّ الذهب والفضة يُحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباه المكنزين وجلودهم وظهورهم.

كما أنّها صريحة في أنّ النار نفس ما اكتنزوه في النشأة الأُولى ، فكأنّ للكنز ظهورين : ظهوراً بصورة الفلز وآخر بصورة النار المكوية ، وهذا هو الذي ركزنا اهتمامنا عليه في صدر البحث ، وهو انّ لكلّ عمل من خير وشر ظهورين ووجودين حسب اختلاف النشآت.

6. ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) . (2)

وظهور هذه الآية كظهور الآية السابقة وهو انّ ما كان يبخل به الإنسان من الذهب والفضة وغيرهما يظهر في النشأة الأُخرى بهيئة سلسلة من نار تُطوِّق العنق وتلتف حوله وتقحمه النار.

7. ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ ) . (3)

وظاهر الآية أنّ نفس العمل يؤتى به يوم القيامة ، فيؤتى بالصلاة والزكاة بثوبهما المناسب للنشأة الأُخروية ، وهكذا الحال في الأعمال الطالحة.

ص: 334


1- التوبة : 34 - 35.
2- آل عمران : 180.
3- لقمان : 16.

8. ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) . (1)

فالضمير في قوله : ( يَرَهُ ) يرجع إلى العمل المستفاد من قوله : ( يَعْمَلْ ) أو إلى الخير والشر ، وعلى كلا التقديرين فالإنسان يرى عمله من صالح وطالح ، فيرى السرقة والنميمة بوجودهما المناسب لتلك النشأة كما يرى الإحسان والعمل والخير بظهورها المناسب لتلك النشأة.

قال سبحانه : ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) . (2)

9. وفي آية أُخرى يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) . (3)

ويقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ) . (4)

ويقول أيضاً : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) . (5)

فهذه الآيات تعد العصاة والأصنام والأوثان ( الحجارة ) وقوداً لنار جهنم ، والوقود ما تشعل به النار ، فيصير وجود الإنسان والأصنام المعبودة بؤرة نار تؤجج به نار الجحيم.

ص: 335


1- الزلزلة : 7 - 8.
2- البقرة : 24.
3- التحريم : 6.
4- آل عمران : 10.
5- الأنبياء : 98.

10. ( وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) . (1) ويقول سبحانه : ( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) . (2)

فالآيتان ظاهرتان في أنّ الجزاء هو نفس العمل وليس الجزاء شيئاً وراء العمل فبظهوره حسب النشأة الأُخرى يجزى به الإنسان من صالح وطالح.

11. ( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) . (3)

فالآية تؤكد على أنّ الإنسان كان في غفلة من يوم الوعيد ، وانّ لكلّ نفس سائقاً وشهيداً ، فهذه الحقيقة كانت مستورة عن الإنسان في هذه النشأة ويرتفع الغطاء عن بصره وبصيرته فيرى ما خفي عليه ويتذكر وإن كان لا يجدي نفعاً ، يقول سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ) . (4)

هذه هي الآيات التي يستنبط منها تجسّم الأعمال ، وهي بحاجة إلى دراسة أوسع ممّا ذكرنا.

ففي هذه النشأة تتبدل الأفعال التي يقوم بها الإنسان إلى طاقة على خلاف ما في الآخرة ، فتلك النشأة عبارة عن تبدل الطاقة المتجسمة بالأفعال إلى الأجسام الأُخروية والجواهر غير الدنيوية.

تجسّم الأعمال في الروايات

ثمة أحاديث تؤيد ما دلّت عليها الآيات القرآنية ، نأتي بنماذج منها :

ص: 336


1- النحل : 90.
2- يس : 54.
3- ق : 22.
4- الفجر : 23.

1. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اتّقوا الظلم فانّها ظلمات يوم القيامة ». (1)

وكأنّ الظلم يتجلّى في الآخرة بصورة الظلمة ، فللظلم ظهوران دنيوي وأُخروي.

2.وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فإذا أُخرجوا من قبورهم خرج مع كلّ إنسان عمله الذي كان عمله في دار الدنيا ، لأنّ عمل كلّ إنسان يصحبه في قبره ». (2)

3. وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ضمن وصاياه لقيس بن عاصم : « إنّه لابدّ لك يا قيس من قرين يُدفن معك وهو حيّ ، وتُدْفَن معه وأنتَ ميّت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ثمّ لا يُحشَر إلاّ معك ولا تُبعث إلاّ معه ولا تُسأل إلاّ عنه فلا تجعله إلاّ صالحاً ». (3)

4. قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « وأعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم ». (4)

5. روى أبو بصير قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « من أكل مال أخيه ظلماً ولم يرده إليه أكل جذوة من النار يوم القيامة ». (5)

فكأنّ ما يأكله في هذه الدنيا يتجلّى في الآخرة بهيئة جذوة من النار.

6. وقال الإمام الصادق علیه السلام : « عش ما شئت فإنّك ميت ، وأحبب ما شئت فإنّك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه ». (6)

ص: 337


1- الكافي : 2 / 332 ، باب الظلم من كتاب الكفر والإيمان ، الحديث 11.
2- البرهان : 4 / 87 في تفسير قوله ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) من سورة الزمر.
3- أمالي الصدوق : المجلس الأوّل ، الحديث 4.
4- نهج البلاغة : قسم الحكم : الحكمة 6.
5- الكافي : 2 / 333 ، باب الظلم من كتاب الإيمان والكفر ، الحديث 15.
6- الكافي : 3 / 255 ، باب النوادر من كتاب الجنائز ، الحديث 17.

وقوله : « واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه » دليل على أنّ الإنسان يلاقي نفس العمل ، وحمله على لقاء جزائه خلاف الظاهر.

7. وقال الإمام الصادق علیه السلام : « ما من موضع قبر إلاّ وقد ينطق كلّ يوم ثلاث مرّات » إلى أن قال : « فإذا دخله عبد مؤمن ، قال : مرحباً وأهلاً ، أما واللّه لقد كنت أحبك وأنت تمشي على ظهري ، فكيف إذا دخلت بطني فسترى ذلك ، قال : فيفسح له مدّ البصر ويفتح له باب يرى مقعده من الجنة ، قال أو يخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئاً قط أحسن منه فيقول : يا عبد اللّه ما رأيت شيئاً قط أحسن منك فيقول : أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه ، وعملك الصالح الذي كنت تعمله ». (1)

والحديث صريح في تجسّم العمل الصالح بصورة إنسان جميل.

8. وقال الإمام الصادق علیه السلام في حديث طويل : « إذا بعث اللّه المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدمه أمامه ، كلّما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة ، قال له المثال : لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من اللّه عزّوجلّ حتى يقف بين يدي اللّه عزّوجلّ فيحاسبه حساباً يسيراً ، ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه ، فيقول له المؤمن : يرحمك اللّه نعم الخارج ، خرجت معي من قبري ، وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من اللّه حتى رأيت ذلك ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا ، خلقني اللّه عزّوجلّ منه لأُبشّرك ». (2)

9. وقال الإمام الصادق علیه السلام : « إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستُ صور ، فيهن صورة هي أحسنهنّ وجهاً ، وأبهاهنّ هيئة ، وأطيبهنّ ريحاً ،

ص: 338


1- الكافي : 3 / 241 ، باب ما ينطق به موضع القبر من كتاب الجنائز ، الحديث 1.
2- البحار : 7 / 197 ، باب أحوال المتقين والمجرمين في القيامة من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 69.

وأنطقهنّ صورة ، قال : فيقف صورة عن يمينه ، وأُخرى عن يساره ، وأُخرى بين يديه ، وأُخرى خلفه ، وأُخرى عند رجليه ، ويقف التي هي أحسنهنّ فوق رأسه ، فإن أتى عن يمينه ، منعته التي عن يمينه ، ثمّ كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست ، قال : فتقول أحسنهنّ صورة من أنتم جزاكم اللّه عني خيراً ؟ فتقول التي عن يمين العبد : أنا الصلاة ، وتقول التي عن يساره : أنا الزكاة ، وتقول التي بين يديه ، أنا الصيام ، وتقول التي خلفه ، أنا الحج والعمرة ، وتقول التي عند رجليه : أنا بر من وصلت من إخوانك ، ثمّ يقلن : من أنت ؟ فأنت أحسننا وجهاً ، وأطيبنا ريحاً ، وأبهانا هيئة ، فتقول : أنا الولاية لآل محمّد صلی اللّه علیه و آله ». (1)

10. روى الصدوق بسنده عن العلاء بن محمد بن الفضل ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال قيس بن عاصم : وفدت مع جماعة من بني تميم إلى النبي صلی اللّه علیه و آله دخلت وعنده الصلصال بن الدلهمس ، فقلت : يا نبي اللّه عظنا موعظة ننتفع بها فانّا قوم نعبر في البرية.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يا قيس إنّ مع العز ذلاً ، وإنّ مع الحياة موتاً ، وإنّ مع الدنيا آخرة ، وإنّ لكلّ شيء حسيباً وعلى كلّ شيء رقيباً ، وإنّ لكلّ حسنة ثواباً ولكلّ سيئة عقاباً ، ولكلّ أجل كتاباً ، وانّه لابدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي وتُدفن معه وأنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ثمّ لا يحشر إلاّ معك ولا تبعث إلاّ معه ولا تُسأل إلاّ عنه ، فلا تجعله إلاّ صالحاً ، فانّه إن صلح آنست به ، وإن فسد لا تستوحش إلاّ منه وهو فعلك. (2)

هذه هي بعض الأحاديث الدالة على تجسّم الأعمال ، ومن أراد الاستقصاء فعليه الرجوع إلى الجوامع الحديثية.

وقد حان البحث في تجسم الأعمال من منظار العقل والعلم.

ص: 339


1- المحاسن للبرقي : 1 / 288 ، الحديث 432.
2- أمالي الصدوق : 12 ح 4 ، المجلس الأوّل.

تجسّم الأعمال من منظار العقل والعلم

إلى هنا وقفت على أدلة تجسّم الأعمال من جانب الكتاب والسنّة ، وإكمال البحث يفرض علينا طرحه على صعيد العقل والعلم.

إنّ لفيفاً من المفسرين والمتكلّمين أنكروا تجسّم الأعمال وقالوا بامتناعه ، وأوّلوا ما ورد من الآيات والروايات في ذلك المقام ، والسبب الداعي إلى ذلك أمران :

أ. انّ ما يقوم به الإنسان من الأعمال الصالحة والطالحة يفنى بعد تحقّقه وتذهب سدى ، فكيف يمكن إعادته بعد انعدامه ؟!

ب. انّ الأعمال من مقولة العرض ، وهو قائم بالجوهر ، ومعنى تجسّمها هو تحقّق العرض بلا جوهر ، وهذا أمر محال.

هذا هو الشيخ الطبرسي ينقل في تفسير قوله سبحانه : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا ) ، الكلام التالي :

اختلف في كيفية وجود العمل محضراً ، فقيل : تجد صحائف الحسنات والسيئات ، عن أبي مسلم وغيره ، وهو اختيار القاضي.

وقيل : ترى جزاء عملها من الثواب والعقاب ، فأمّا أعمالهم فهي أعراض قد بطلت ، ولا تجوز عليها الإعادة فيستحيل أن ترى محضرة. (1)

وفي المقابل ، هناك من يرفض تلك النظرية ويصحّح تجسّمها بالبيان التالي :

يقول بهاء الدين العاملي : إنّ الحيّات والعقارب ، بل والنيران التي تظهر في القبر والقيامة ، هي بعينها الأعمال القبيحة والأخلاق الذميمة والعقائد الباطلة التي ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة وتجلببت بهذه الجلابيب ، كما أنّ الروح

ص: 340


1- مجمع البيان : 1 / 431 ، ط صيدا.

والريحان والحور والثمار هي الأخلاق الزكية والأعمال الصالحة والاعتقادات الحقّة التي برزت في هذا العالم بهذا الزي وتسمَّت بهذا الاسم ، إذ الحقيقة الواحدة تختلف صورها باختلاف الأماكن ، فتحلّى في كلّ موطن بحلية ، وتزيّى في كلّ نشأة بزيّ ، وقالوا : إنّ اسم الفاعل في قوله تعالى : ( يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) (1) ليس بمعنى الاستقبال بأن يكون المراد انّها ستحيط بهم في النشأة الأُخرى. (2)

ففي قوله : إذ الحقيقة الواحدة تختلف صورها باختلاف الأماكن فتحلّى في كلّ موطن بحلية ، جواب عن الإشكالين الماضيين.

وحاصل الجواب : انّه لا مانع من أن يكون لشيء واحد تجليان حسب اختلاف الظروف ، ولم يكتب على جبين العرض انّه عرض في كلتا النشأتين.

يقول العلاّمة المجلسي : القول باستحالة انقلاب الجوهر عرضاً ، والعرض جوهراً في تلك النشأة مع القول بإمكانها في النشأة الآخرة قريب من السفسطة ، إذ النشأة الآخرة ليست إلاّ مثل تلك النشأة ، وتخلّل الموت والإحياء بينهما لا يصلح أن يصير منشأ لأمثال ذلك ، والقياس على حال النوم واليقظة أشد سفسطة إذ ما يظهر في النوم إنّما يظهر في الوجود العلمي ، وما يظهر في الخارج فإنّما يظهر بالوجود العيني ، ولا استبعاد كثيراً في اختلاف الحقائق بحسب الوجودين ، وأمّا النشأتان فهما من الوجود العيني ولا اختلاف بينهما إلاّ بما ذكرنا ، وقد عرفت أنّه لا يصلح لاختلاف الحكم العقلي في ذلك.

وأمّا الآيات والأخبار فهي غير صريحة في ذلك ، إذ يمكن حملها على أنّ اللّه تعالى يخلق هذه بازاء تلك أو هي جزاؤها ، ومثل هذا المجاز شائع ، وبهذا الوجه

ص: 341


1- العنكبوت : 54.
2- البحار : 7 / 229 ، باب أحوال المتقين من كتاب العدل والمعاد.

وقع التصريح في كثير من الأخبار والآيات ، واللّه يعلم وحججه علیهم السلام . (1)

إنّ أساس الإشكال الأوّل باطل من رأسه ، فانّ البرهان العقلي قائم على أنّ من طرأ عليه الوجود لا يعدم أصلاً ، وعدمه بعد انقضاء زمانه عدم نسبي لا عدم مطلق ، فكلّ شيء موجود في ظرفه ولا يمكن أن يطرأ العدم عليه.

نعم كلّ موجود زماني محدَّد بزمان خاص فهو غير موجود في غير زمانه ، ولكنّه موجود في ظرفه لا يطرأ عليه العدم.

هذا هو القضاء الحاسم للعقل ويؤيده النقل ، يقول سبحانه : ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (2). (3)

فعلى ضوء ذلك ، فالإشكال الأوّل لا أساس له من الصحة ، وكلّ فعل موجود في ظرفه لا يطرأ عليه العدم ، فالعمل يوم المعاد يحضر بنفس وجوده المحقق في ظرفه.

إنّما المهم هو الإشكال الثاني - أعني : انقلاب العرض جوهراً - وهو أيضاً أمر ممكن لأنّ جسمانية المعاد ليس بمعنى سيادة القوانين الدنيوية جميعها على النشأة الأُخرى ، بل اختلاف النشأتين ربما يورث اختلافهما في بعض القوانين.

يقول سبحانه : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) . (4)

نعم القوانين العامة السائدة على الوجود بإطلاقه تكون محفوظة في

ص: 342


1- البحار : 7 / 229 - 230 ، باب أحوال المتقين من كتاب العدل والمعاد.
2- يونس : 61.
3- انظر سبأ : 3 ، النمل : 75.
4- إبراهيم : 48.

النشأتين كامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، واجتماع الضدين.

وليس من ذلك تبدل العرض جوهراً ، فانّ كون العرض غير قائم إلاّ بالموضوع في تلك النشأة لا يكون دليلاً على كونه كذلك في النشأة الأُخرى ، إذ من الممكن أن يكون العرض قائماً بنفسه في النشأة متبدلاً ، متجليّاً بصورة النار والأغلال والسلاسل ، أو أن يكون العمل الصالح كالصلاة والصوم قائماً بنفسه في النشأة الأُخرى متجلّياً بصورة الحور والجنات والعيون.

وما ذكرنا لا يختص بتجسم الأعمال بل يجري في الصراط والميزان والأعراض ، وقد قلنا إنّ حقائقها خفية علينا ، وانّ التعبير عنها بالميزان وغيره تقريب للذهن بالحقائق المستورة.

وعلى ما ذكرنا فلا مانع من تجسّم الأعمال ، ولنذكر بعض كلمات الأعلام في هذا الصدد :

يقول صدر المتألّهين : كما أنّ كلّ صفة تغلب على باطن الإنسان في الدنيا وتستولي على نفسه بحيث تصير ملكة لها ، يوجب صدور أفعال منه مناسبة لها بسهولة يصعب عليه صدور أفعال أضدادها غاية الصعوبة ، وربما بلغ ضرب من القسم الأوّل حدّ اللزوم ، وضرب من القسم الثاني حدّ الامتناع ، لأجل رسوخ تلك الصفة. لكن لما كان هذا العالم دار الاكتساب والتحصيل قلما تصل الأفعال المنسوبة إلى الإنسان الموسومة بكونها بالاختيار في شيء من طرفيها حدّ اللزوم والامتناع بالقياس إلى قدرة الإنسان وإرادته دون الدواعي والصوارف الخارجية لكون النفس متعلّقة بمادة بدنية قابلة للانفعالات والانقلابات من حالة إلى حالة ، فالشقي ربما يصير بالاكتساب سعيداً وبالعكس ، بخلاف الآخرة فانّها ليست دار الاكتساب والتحصيل ، كما أشير إليه بقوله تعالى : ( لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) (1) ، وكلّ صفة بقيت في النفس

ص: 343


1- الأنعام : 158.

ورسخت فيها وانتقلت معها إلى الدار الآخرة صارت كأنّها لزمتها ولزمت لها الآثار والأفعال الناشئة منها بصورة يناسبها في عالم الآخرة والأفعال والآثار التي كانت تلك الصفات مصادر لها في الدنيا ، وربما تخلفت عنها لأجل العوائق والصوارف الجسمانية الاتفاقية ، لأنّ الدنيا دار تعارض الأضداد وتزاحم المتمانعات بخلاف الآخرة لكونها دار الجمع والاتفاق لا تزاحم ولا تضاد فيها ، والأسباب هناك أسباب وعلل ذاتية كالفواعل والغايات الذاتية دون العرضية فكلّما يصلح أثر الصفة النفسانية لم يتخلّف عنها هناك كما يتخلف عنها هاهنا لمصادفة مانع له ومعاوقة صارف عنه ، إذ لا سلطنة هناك للعلل العرضية والأسباب الاتفاقية ومبادئ الشرور بل الملك لله الواحد القهار.

ثمّ إنّ صدر المتألّهين ضرب مثالاً لتقريب الموضوع ، يقول : إنّ الجسم الرطب متى فعل ما في طبعه من الرطوبة في جسم الآخر قَبِلَ الجسم المنفعل الرطوبةَ فصار رطباً مثله ، ومتى فعل فعله الرطوبة في قابل غير جسم كالقوة الدراكة الحسية والخيالية إذا انفعلت عن رطوبة ذلك الجسم الرطب ، لم يقبل الأثر الذي قبله الجسم الثاني ولم يصر بسببه رطباً بل يقبل شيئاً آخر من ماهية الرطوبة لها طور خاص في ذلك كما يقبل القوة الناطقة متى نالت الرطوبة أو حضرتها في ذاتها شيئاً آخر من ماهية الرطوبة وطبيعتها من حيث هي ، ولها ظهور آخر عقلي فيه بنحو وجود عقلي مع هوية عقلية ، فانظر حكم تفاوت النشآت في ماهية واحدة لصفة واحدة ، كيف فعلت وأثرت في موضع الجسم شيء وفي قوة أُخرى شيئاً آخر ، وفي جوهر شيئاً آخر وكلّ من هذه الثلاثة حكاية للآخرين ، لأنّ الماهية واحدة والوجودات متخالفة ، وهذا القدر يكفي المستبصر لأن يؤمن بجميع ما وعد اللّه ورسوله أو توعد عليه في لسان الشرع من الصور الأُخروية المرتبة على الاعتقادات الحقّة أو الباطلة أو الأخلاق الحسنة والقبيحة المستتبعة

ص: 344

للذات والآلام إن لم يكن من أهل المكاشفة والمشاهدة. (1)

ثمّ إنّه قدس سره ضرب مثالاً آخر لتقريب ما رام إليه ، وقال :

إنّ شدة الغضب في رجل توجب ثوران دمه ، واحمرار وجهه ، وحرارة جسده ، واحتراق موادّه ، على أنّ الغضب صفة نفسانية موجودة في عالم الروح الإنساني وملكوته والحركة والحمرة والحرارة والاحتراق من صفات الأجسام وقد صارت هذه الجهات والعوارض الجسمانية نتائج لتلك الصفة النفسانية في هذا العالم ، فلا عجب من أن يكون سورة هذه الصفة المذمومة مما يلزمها في النشأة الأُخرى نار جهنم التي تطّلع على الأفئدة فاحترقت صاحبها كما يلزم هاهنا عند شدة ظهورها وقوة تأثيرها إذا لم يكن صارف عقلي أو زاجر عرفي يلزمها من ضربان العروق واضطراب الأعضاء وقبح المنظر ربما يؤدي إلى الضرب الشديد والقتل لغيره بل لنفسه ، وربما يموت غيظاً فإذا تأمل أحد في استتباع هذه الصفة المذمومة لتلك الآثار فيمكن أن يقيس عليها أكثر الصفات المؤذيات والاعتقادات المهلكات وكيفية انبعاث نتائجها ولوازمها يوم الآخرة من النيران وغيرها ، وكذا حال أضدادها من حسنات الأخلاق والاعتقادات وكيفية استنباط النتائج والثمرات من الجنات والرضوان والوجوه الحسان. (2)

تجسّم الأعمال من منظار العلم

ما ذكرناه سابقاً كان تحليلاً لتجسّم الأعمال من زاوية العقل والفلسفة الإسلامية ، فحان البحث عنه من منظار آخر وهو منظار العلم.

إنّ تجسم الأعمال أُرسي على قواعد ثابتة وهي :

ص: 345


1- المبدأ والمعاد : 341 - 342.
2- المبدأ والمعاد : 343.

انّ المادة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة ، المادة عبارة عن الطاقات المتراكمة ، وربما تتبدّل المادة في ظروف خاصة إلى الطاقة ، فتكون الطاقة وجوداً منبسطاً للمادة ، كتبدّل مادة الغذاء الذي يتناوله الإنسان إلى حركة ، وكتبدّل وقود الحافلات إلى طاقة حركية.

إنّ مفهوم حفظ الطاقة أحد المفاهيم الأساسية الذي يكون حاكماً على كافة الظواهر الطبيعية ، بمعنى انّ كافة التفاعلات والتحولات التي تحدث في عالم الطبيعة لا تخرج عن هذا الإطار العام وهو انّ عموم الطاقة لا يتغير فيها أبداً.

فالطاقة يمكن أن تتبدّل إلى أنواع مختلفة ، وهذه الأنواع تشمل الطاقة الحركية ، الحرارية ، الكهربائية ، الكيميائية ، والنووية. (1)

حقيقة العمل من الإنسان

كلّ عمل يقوم به الإنسان - سواء كان طاعة أو معصية - يعدّ جزءاً من عالم المادة وليس له حقيقة إلاّ تبدل جزء ضئيل من المادة إلى طاقة حركية ، فتعود حقيقة العمل في الإنسان إلى تبدل المادة إلى طاقة.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ تجسّم الأعمال يبتني على قواعد أربع :

1. حقيقة العمل هو تبديل المادة إلى طاقة.

2. الطاقة الموجودة في العالم ثابتة لا تتغير.

3. المادة والطاقة حقيقتها واحدة.

4. كما أنّ المادة تتبدّل إلى الطاقة فهكذا تتبدّل الطاقة في ظروف خاصة إلى المادة.

ص: 346


1- دائرة المعارف البريطانية : 6 / 894.

فهذه المقدمات تنتج انّ تجسم الأعمال الذي ترجع حقيقته إلى تبدّل الطاقة إلى المادة أمر ممكن وإن لم يكن واقعاً في عالم الطبيعة ، ولعلّ العلم سيحقق هذه الأمنية ، ولكن القرآن الكريم طرح هذه المسألة قبل 14 قرناً يوم لم يكن للإنسان أي معرفة بها. غير انّ الأكابر من علماء الإسلام وصلوا إليها عن طريق المكاشفة ودراسة الأُصول الفلسفية.

نعم ما ذكرناه إنّما هو صورة ضبابية لما يتحقق في النشأة الأُخرى ، ولا يمكن للإنسان الذي هو رهين عالم المادة أن يتصور ما يحدث خارج عالمه على وجه تام.

سؤال وإجابة

إنّ ما دلّ من الآيات والروايات على تجسّم الأعمال ممّا لا غبار عليه ، وانّ الإنسان يجزى من خلال تجسّم عمله الصالح أو الطالح وتمثّله بصورة النعمة والنقمة فيتنعّم به المؤمن ، ويعذّب به الكافر.

لكن بقي سؤال : وهو انّ طائفة من الآيات دلت على أنّ الجزاء يوم القيامة أمر جعلي أشبه بمجازات المجرمين أو بإثابة المطيعين ، فعلى ذلك يكون الجزاء أمراً خارجاً عن نطاق عمل الإنسان بل مفروضاً عليه من الخارج.

وبعبارة أُخرى : انّ القول بأنّ الجزاء يكمن في تمثّل عمل الإنسان بالجنة والنار يخالف مع ما دلّت عليه بعض الآيات من وجود جنة وجحيم خارج إطار عمل الإنسان من خير وشر ، وإنّما خلقهما اللّه سبحانه للمطيعين أو المذنبين قبل أن يخلق المطيع والعاصي ، فكيف يمكن الجمع بين هاتين الطائفتين من الآيات ؟

والجواب : انّ القرآن الكريم نزل من اللّه سبحانه : على قلب سيد المرسلين دون أن يكون فيه أي اختلاف ، وذلك آية انّه كلام اللّه سبحانه المنزّه من الخطأ والاشتباه والتناقض والتعارض ، يقول سبحانه : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ

ص: 347

عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) . (1)

وعلى ضوء ذلك فلا مانع من أن يكون هناك نعمة ونقمة من خلال تجسّم الأعمال وتمثّلها ، وجنة ونار خارجين عن إطار عمل الإنسان وفعله ، فالجزاء الأوّل أمر تكويني يلازم وجود الإنسان ، والثاني أمر جعلي مفروض عليه حسب ما اكتسب من الحسنات والسيّئات.

سؤال وإجابة

إنّ حقيقة تجسّم الأعمال ترجع إلى أنّ الإنسان حسب اكتساب الطاعات أو اقتراف السيئات يخلق ملكات حسنة أو سيئة تبعاً لها على نحو تكون تلك الملكات جزء وجوده وصميم ذاته ، ومن الواضح بمكان انّ كلّ ملكة تستتبع مقتضاها ، فالملكة الحسنة تستتبع صوراً مثالية حسنة أو صوراً مثالية قبيحة يتلذّذ بها أو يتعذّب وليست خلاّقية الملكات لهذه الصور فعلاً اختيارياً ، بل لم تزل خلاّقة للصور حسب مقتضاها.

وإذا كانت الصور المثالية أمراً تكوينياً من لوازم وجود الإنسان بحيث لا ينفك عن وجوده مهما نزل أو سكن ، فما معنى الشفاعة التي تمحو المجازات الجعلية المفروضة عليه من خارج وجوده ؟

والجواب : انّ الملكات المكتسبة وإن كانت خلاّقة للصور المثالية جميلة كانت أو قبيحة شاء أم أبى ، لكن ثمة مرتبة من الشفاعة تؤثر في صميم الإنسان وذاته بنحو تؤثر على ملكاته السيئة وليس تأثير الشفيع في ملكات المشفوع له بأصعب من تأثير دعاء النبي صلی اللّه علیه و آله عند الاعجاز في عالم الكون حيث يعود - بفضل دعائه - الميت حياً والأعمى بصيراً والسقيم صحيحاً ، فكما انّ دعاء النبي وإرادته

ص: 348


1- النساء : 82.

تؤثر في التكوين ، فهكذا الحال في شفاعة النبي في الآخرة تؤثر في الملكات السيئة وتقلبها رأساً على عقب.

ونظير ذلك دعاء المذنب في هذه الدنيا واستغفاره قبل الموت حيث إنّه يؤثر فيما اكتسب من الملكات ويقلبها إلى غيرها.

وحصيلة البحث : انّ تأثير الملكات في الصور المثالية يتم على نحو المقتضي لا العلة التامة ، فهي تؤثر مادام العامل الخارجي وإلاّ فلا ، وبذلك يمكن الجمع بين القول بالشفاعة وتجسّم الأعمال.

ص: 349

الفصل السادس والعشرون : الأحوال الطارئة على الإنسان يوم القيامة

اشارة

إنّ الذكر الحكيم يصف أحوال الإنسان وما يطرأ عليه وصفاً دقيقاً يهزّالمشاعر ويُثير الرعب فينعكس على سلوكه التربوي حيث يختار معه الطاعة على العصيان ، والدخول في ربقة الطاعة ، فكما أنّ الإيمان بنفس المعاد له أثر تربوي من خلال كبت غرائز الإنسان الجامحة ، فهكذا وصف ما يطرأ على الإنسان من الحالات - يوم القيامة مؤثر في كبت النفس الجامحة في هذه الدنيا ، وإيقافها عن الولوج في المعاصي.

إنّ الآيات الواردة في هذا الصدد على قسمين : فتارة تتخذ نفس الإنسان موضوعاً لوصف حاله في القيامة من دون أن يشير إلى طائفة دون أُخرى ، وأُخرى تصنّف الإنسان إلى طوائف خاصة وتصف حالة كلّ طائفة. وإليك الكلام في كلتا الطائفتين :

الطائفة الأُولى : الآيات التي تتكفل بيان حال الإنسان يوم القيامة دون أن تخصه بطائفة :

ص: 350

1. كلّ إنسان له شأن يغنيه

يقول سبحانه : ( يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) . (1)

فما هو الوجه في تحيّره واستغراقه بنفسه وغفلته عن سواه ، يعلم ذلك من الآيات التي تصف مشاهد القيامة وقد مرت أوصافها.

2. لا يملك إنسان لإنسان نفعاً

قال سبحانه : ( فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ) . (2)

وفي آية أُخرى : ( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ) . (3)

والسبب في ذلك انّ النظام السائد في الدنيا سينهار في الآخرة وتنفصم معه كافة العلاقات والروابط والأسباب ، فلا تملك نفس لنفس شيئاً ، يقول سبحانه : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) . (4)

والمراد من الأسباب المنقطعة هي الأسباب الدنيوية لا مطلق الأسباب ، فانّ ذلك النظام أيضاً مبني على أسباب خاصة لتلك النشأة.

ص: 351


1- عبس : 34 - 37.
2- سبأ : 42.
3- الانفطار : 19.
4- البقرة : 166.

3. ما لا ينفع الإنسان

يصرح الذكر الحكيم بأنّ المال والثروة والأولاد والأرحام لا تنفع أبداً ، يقول سبحانه : ( يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ) . (1)

وفي آية أُخرى : ( لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ) . (2)

والوجه هو ما تقدم آنفاً من إيجاد نظام آخر قائم على أسباب خاصة وانقطاع الأسباب الدنيوية فيه.

4. لا تنفع الأعذار

يقول سبحانه : ( فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) . (3)

والسبب في ذلك انّه سبحانه يبعث الأنبياء والرسل كي يوصد باب الأعذار ويتم الحجة.

5. ما ينفع يوم القيامة

قد صرح الذكر الحكيم بأمرين ينفعان يوم القيامة.

أ. القلب السليم : يقول سبحانه : ( إِلاَّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (4) ، والمراد من القلب السليم هو القلب النزيه عن الشرك الخالي من حب الدنيا.

ص: 352


1- الشعراء : 88.
2- الممتحنة : 3.
3- الروم : 57.
4- الشعراء : 89.

يقول الطبرسي : وإنّما خصّ القلب بالسلامة ، لأنّه إذا سلم القلب ، سلمت سائر الجوارح من الفساد من حيث إنّ الفساد بالجارحة لا يكون إلاّ عن قصد بالقلب الفاسد ، وروي عن الصادق علیه السلام ، انّه قال : « هو القلب الذي سلم من حب الدنيا » ، ويؤيده قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « حب الدنيا رأس كلّ خطيئة ». (1)

ب. الصدق : قال سبحانه : ( هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) . (2)

6. الأخلاّء بعضهم عدو لبعض

ومن الشواهد على أنّ النظام السائد يوم القيامة غير ما هو السائد في هذه النشأة ، هو انّ الأخلاّء في هذه الدنيا سيكونون أعداء ، يقول سبحانه : ( الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ ) . (3)

وما هذا إلاّ لأنّ التقوى تربط المتقين ، فالمؤمنون الأخلاّء في هذه النشأة أخلاّء في النشأة الآخرة بخلاف الكفار والمنافقين.

7. منطق المؤمنين مع الكافرين

لقد كان الكافرون يستهزئون بالمؤمنين في الحياة الدنيا ، ففي الآخرة يعكس الأمر فالمؤمنون يستهزئون بالكافرين ، يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ ) . (4)

ص: 353


1- مجمع البيان : 4 / 194.
2- المائدة : 119.
3- الزخرف : 67.
4- المطففون : 29 - 32.

هذه الآية تعكس نظر الكافرين إلى المؤمنين وانّهم كانوا يتغامزون بهم ويصفونهم بالضلال ، ولكن الأمر في الآخرة ينقلب لصالح المؤمنين ، يقول سبحانه : ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) . (1)

وما هذا إلاّ لأنّ الأسباب الدنيوية تنقطع بهم في الآخرة ، وانّ السائدة في النشأة الأُخرى هي قوانين تخصّها.

الطائفة الثانية : تتكفل بيان صنف خاص ، مقتصرة عليه أو تتعداه إلى ضدّه.

السعداء والأشقياء

يركز القرآن الكريم في غير واحد من آياته على تصنيف الناس إلى تصانيف مختلفة يجمعها انّهم بين فرحين مستبشرين بما يلحقهم من الجزاء ، وبين مغمومين يدعون ويلاً وثبوراً لما يلحقهم من الشقاء.

وقد عبر القرآن عن ذلك التصنيف بتعابير مختلفة فتارة يركز على وصف الحالات التي تطرأ على وجوههم التي تخبر عما في ضميرهم من السرور والفرح أو الحزن والقلق ، وإليك الآيات :

يقول سبحانه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ) .

ويقول سبحانه : ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) . (2)

يقول سبحانه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) .

ويقول سبحانه : ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) . (3) .

ص: 354


1- المطففون : 34 - 36.
2- عبس : 38 - 41.
3- القيامة : 22 - 25.

ويقول سبحانه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَّ يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ ) .

ويقول : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً ) . (1)

يقول سبحانه : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) . (2)

وأُخرى يشير إلى تصنيفهم عن طريق أخذ كتابهم باليمين أو اليسار ، فمن أُوتي كتابه بيمينه فقد بوركت عليه الحياة في تلك النشأة.

وأمّا من أُوتي كتابه بشماله أو وراء ظهره ، فسوف يجزى بحياة قاسية وعذاب دائم.

وقال سبحانه : ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ) . (3)

وقال سبحانه : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) . (4)

وقال سبحانه : ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ) .

وقال سبحانه : ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا *

ص: 355


1- الغاشية : 2 - 11.
2- آل عمران : 106 - 107.
3- الحاقة : 25 - 26.
4- الإسراء : 71.

وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ) . (1)

وثالثة يصنّفهم إلى أصحاب الميمنة والمشأمة.

يقول سبحانه : ( فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ ) . (2)

هؤلاء الأصناف الذين أشار إليهم القرآن الكريم تارة عن طريق وصف وجوههم ، وأُخرى عن طريق أخذ كتابهم ، وثالثة بكونهم من أصحاب الميمنة أو المشأمة ليسوا أصحاب مصير واحد بل يختلف مصيرهم حسب اختلاف درجاتهم من السعادة والشقاء ، ولذلك يصف القرآن الكريم مصير هذه الأصناف بما يليق بهم من الجزاء ، ونحن نقتصر بالقليل من الكثير.

النبي صلی اللّه علیه و آله والمؤمنون في الآخرة

يظهر من الآيات انّ المؤمنين يلتفون حول النبي صلی اللّه علیه و آله ونورهم يسعى بين أيديهم.

يقول سبحانه : ( يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . (3)

المتقون

إنّ للمتّقين عند اللّه سبحانه مكانة عالية تعرب عنها الآيات التالية :

يقول سبحانه : ( وَلَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِينَ ) . (4) .

ص: 356


1- الانشقاق : 7 - 13.
2- الواقعة : 8 - 11.
3- التحريم : 8.
4- النحل : 30.

ويقول : ( إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ) . (1)

ويقول : ( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ) . (2)

ويقول سبحانه : ( إِنَّ المُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ) . (3)

ويقول سبحانه : ( إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) . (4)

ويقول : ( لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ المُتَّقِينَ ) . (5)

ويقول : ( فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ) . (6)

ويقول : ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ) . (7)

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة حول المتَّقين ، فمن أراد فليرجع إلى الآيات المذكورة في الهامش. (8)

الصابرون

إنّ للصابرين في طريق الطاعة ومواجهة البلايا والمصائب ومكافحة المعاصي مكانة عظيمة عند اللّه سبحانه وتعالى ، فهؤلاء يصفهم اللّه سبحانه بالنحو التالي :

أ. يسلم عليهم الملائكة عند دخولهم الجنة ، يقول سبحانه : ( سَلامٌ عَلَيْكُم .

ص: 357


1- الدخان : 51.
2- الحجر : 46.
3- المرسلات : 41.
4- الحجر : 45.
5- النحل : 31.
6- الطور : 18.
7- الحجر : 47.
8- النبأ: 31 - 36 ، المرسلات: 41 - 43 ، الحجر: 45 - 47 ، الدخان: 51 - 57 ، الرعد : 35 ، الفرقان: 15 ، محمد: 15 ، آل عمران: 133 ، الشعراء: 90 ، الزخرف: 35 ، القلم : 34 ، القمر : 54 ، الذاريات : 15.

بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) . (1)

ب. يعطون أجرهم مرتين ، يقول سبحانه : ( أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ) . (2)

ج. يجزون بالوجه الأحسن ، يقول سبحانه : ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) . (3)

د. يجزون غرف الجنة ، يقول سبحانه : ( أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا ) . (4)

وليعلم أنّ الصابرين ليسوا قسماً مغايراً للمتّقين أو المؤمنين بل الجميع صنف واحد ولكن لهم ميزات وصفات خاصة بهم.

المصلّون

إنّ الصلاة هي الرابطة الوثيقة بين العبد وخالقه ولها أهمية خاصة في الذكر الحكيم ، فاللّه سبحانه يذكر المصلين ويمدحهم بمدائح مختلفة ، لما في الصلاة من تأثير خاص في كرامة الإنسان وصفاء روحه والقيام بالوظائف الملقاة على عاتقه.

فقد جاء في سورة المعارج من الآية 19 - 35 ذكر للصلاة وذكر تأثيرها في مختلف المجالات ، وها نحن نذكر تلك الآثار من خلال التدبر في تلك الآيات.

1. انّ الصلاة تحد من حرص الإنسان وطمعه ، لأنّ المصلي بصلاته يرتبط بالعالم الغيبي وتصير الدنيا صغيرة في عينيه ، يقول سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ

ص: 358


1- الرعد : 24.
2- القصص : 54.
3- النحل : 96.
4- الفرقان : 75.

هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ المُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ) . (1)

2. إذا كانت الصلاة تمثل علاقة الإنسان مع خالقه فهي تبعثه في نفس الوقت إلى عدم تناسي علاقته مع الناس ، ولذلك تبعث المصلي إلى أداء حقوق المحرومين والمستحقين ، يقول سبحانه في حقّ المصلين : ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ ) . (2)

3. انّ الصلاة أذكار وأفعال ، ومن أذكارها ما يقرأه المصلّي في سورة الحمد ، ويقول : ( مالِكِ يَوم الدِّين ) فلا محيص للمصلّي عن تصديقه بيوم الدين ، ولذلك يصف سبحانه المصلين ، بقوله : ( وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ) . (3)

4. انّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر حسب الذكر الحكيم ، ولذلك يصف سبحانه المصلّين بقوله : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) . (4)

5. انّ الخيانة الأمانة من المنكرات التي تنهى عنها الصلاة ، ولذلك يصف سبحانه المصلين بقوله : ( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) . (5)

6. انّ كتمان الحق خيانة لصاحبه والصلاة تنهى عن المنكر الذي تعد الخيانة من أكبر مصاديقه ، ولذلك يصف سبحانه المصلين بقوله : ( وَالَّذِينَ هُم

ص: 359


1- المعارج : 19 - 23.
2- المعارج : 24 - 25.
3- المعارج : 26 - 28.
4- المعارج : 29 - 31.
5- المعارج : 32.

بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ) . (1)

كلّ ذلك من أوصاف المصلين الواردة في تلك السورة ، وقد ورد في القرآن حول الصلاة آيات كثيرة فضلاً عن الروايات.

السابقون

إنّه سبحانه يصف المحشورين يوم القيامة بصفات ويصنّفهم إلى السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وإليك التوضيح :

فالمراد من السابقين هم السابقون إلى الخيرات والحسنات ، ولو أُريد منهم السابقون إلى الإسلام فهو من مصاديق هذا المفهوم الكلي ، ويشير إلى ما ذكرنا قوله سبحانه : ( أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ) . (2)

ويقول سبحانه : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّهِ ) . (3)

فالآية الأخيرة تقسم العباد إلى ظالم لنفسه ، وإلى مقتصد في الحياة ، ومعتدل في السلوك وإلى سابق بالخيرات بإذن اللّه تبارك وتعالى ، وللإمام علي علیه السلام كلام يشبه أن يكون تفسيراً لهذه الآية :

( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) . (4)

شغل من الجنة والنار أمامه ، ساع سريع نجا ، وطالب بطيء رجا ، ومقصر في

ص: 360


1- المعارج : 33.
2- المؤمنون : 61.
3- فاطر : 32.
4- التوبة : 100.

النار هوى ، اليمين والشمال مضلّة والطريق الوسطى هي الجادة. (1)

ثمّ إنّ للسابقين إلى الخيرات ميزات ذكرها القرآن الكريم في غير واحد من الآيات :

أ. يخشون ربّهم قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ) .

ب. يؤمنون بآيات ربّهم ولا ينكرونها قال : ( وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) .

ج. لا يشركون باللّه طرفة عين : ( وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ) .

د. يدفعون ما فرض اللّه في أموالهم يقول : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) .

ثمّ إنّ جميع هذه الصفات من صفات السابقين بشهادة انّه سبحانه يذكر بعد هذه الميزات ، ويقول : إنّ الموصوفين بها هم المسارعون في الخيرات ، يقول سبحانه : ( أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ) . (2)

إلى هنا تمّ ما ذكره القرآن الكريم من صفات السابقين ، وإليك ما ذكره القرآن في المنازل التي يفوزون بها في الجنّة.

إنّ السابقين إلى الخيرات هم المقرّبون ، كما يقول سبحانه : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ ) (3) ولأجل مكانتهم الرفيعة عند اللّه تبارك وتعالى لهم من الأجر ما يحكي عنه القرآن الكريم في الآيات التالية :

ص: 361


1- نهج البلاغة : الخطبة 16.
2- المؤمنون : 57 - 61.
3- الواقعة : 10 - 11.

( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ) .

( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ ) .

( وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ) .

( وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ) .

( وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ ) .

وهذه الكرامة من اللّه سبحانه وتعالى لم تكن اعتباطية بل جزاء لعملهم في الدنيا ، كما يقول : ( جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .

( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلاَّ قِيلا سَلامًا سَلامًا ) . (1)

هؤلاء هم السابقون وهذه مكانتهم عند اللّه تبارك وتعالى ، وهذا جزاؤهم في الآخرة.

بقيت هنا نكتة أُخرى ، وهي انّه سبحانه وصف جماعة بالمقربين ، وقال : ( فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ) . (2)

والمراد من المقرّبين هنا هم السابقون لما وصفه سبحانه في أوّل السورة بالمقرّبين ، وقال : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ ) .

وحيث إنّ المراد من السابقين ، هم السابقون بالخيرات ، وصف المسيح بأنّه من المقرّبين ، وقال : ( وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ ) . (3)

ص: 362


1- الواقعة : 12 - 26.
2- الواقعة : 88 - 89.
3- آل عمران : 45.

ثمّ إنّه سبحانه وصف المقرّبين في آية أُخرى بأنّهم شهداء كتاب الأبرار ، وقال: ( كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ ) . (1)

وعلى هذا فالسابقون هم المقرّبون وهم شهداء كتاب الأبرار.

إلى هنا تمّ ما ورد في القرآن الكريم في حقّ السابقين ، وحان البحث عن أصحاب اليمين وأصحاب الشمال.

أصحاب اليمين

أصحاب اليمين هم الطائفة الثانية ذكرهم سبحانه وتعالى ، بقوله : ( وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ) . (2)

ثمّ ذكر انّ أصحاب اليمين هم ثلّة من الأوّلين وثلة من الآخرين.

واختلف المفسرون في المقصود من أصحاب اليمين والمعروف في المقام نظريتان :

الأُولى : انّ المراد منهم هم الذين يعطون كتابهم بيمينهم ، وقد استدلّوا عليه بالآيات التالية :

( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) . (3) .

ص: 363


1- المطففون : 18 - 21.
2- الواقعة : 27.
3- الإسراء : 71.

( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ) . (1)

( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) . (2)

وعلى ذلك فهؤلاء الذين اتّسموا بأصحاب اليمين لأجل استلام كتبهم بيمينهم يتمتعون بمنزلة عظيمة عند اللّه سبحانه ذكرها سبحانه في غير واحد من الآيات بعد الحديث عن دفع كتبهم إلى يمينهم ، يقول :

( وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ) . (3)

( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ) . (4)

( فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ) . (5)

( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ ) . (6)

هذه هي النظرية الأُولى في تفسير أصحاب اليمين ، وإليك الكلام في النظرية الثانية.

الثانية : انّ المقصود من اليمين هو اليمن والبركة وهؤلاء هم الذين وصفهم سبحانه في صدر سورة الواقعة بأصحاب الميمنة ، وقال : ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ ) (7) ، وبما انّ أصحاب الميمنة يقابلون أصحاب المشأمة المأخوذ من الشؤم والشقاء ، فيكون أصحاب الميمنة

ص: 364


1- الحاقة : 19.
2- الانشقاق : 7 - 8.
3- الانشقاق : 9.
4- الحاقة : 21.
5- الحاقة : 22 - 23.
6- الحاقة : 24.
7- الواقعة : 7 - 8.

مقابلاً لهم ، فهؤلاء غارقون في البركة والنعمة ، كما أنّ الذين يقابلونهم غارقون في الشقاء والوصب.

وممّا يؤيد انّ أصحاب اليمين هم المتمتعون بنعم اللّه في الآخرة ، قوله سبحانه : ( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ ) . (1)

والإمعان في سورة الواقعة التي هي الأصل في تصنيف الناس يوم القيامة يعطي هذا الانطباع انّ أصحاب الميمنة هم أصحاب اليمين لا صنفٌ آخر ، والدليل على ذلك انّ السورة تصنّف الناس إلى أصناف ثلاثة :

أ. ( فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ ) .

ب. ( أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ ) .

ج. ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ ) .

ثمّ يبدأ بذكر السابقين وما لهم من منزلة وكرامة وعندما ينتهي عن ذكر أوصافهم ، يبتدئ بذكر أصحاب الميمنة ، بقوله : ( وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ) ويذكرهم إلى الآية الأربعين.

ثمّ يبدأ بأصحاب الشمال إلى الآية 56.

وبذلك يعلم أنّ الأصناف لا تتجاوز عن الثلاثة ، وانّ المقرّبين مدرجون في السابقين وأصحاب الميمنة من أصحاب اليمين ، ثمّ أصحاب الشمال وليس لهم اسم خاص ، وبذلك تتكفّل الآية لبيان تفاصيل الأصناف الثلاثة ، إلى قوله : ( هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) . (2)

ص: 365


1- البلد : 11 - 18.
2- الواقعة : 56.

المحسنون

يصف سبحانه طائفة من المؤمنين بالمحسنين ، وليس هؤلاء طائفة خاصة ، وإنّما يدخلون امّا في السابقين أو في أصحاب اليمين ، وقد وصفهم سبحانه بالصفات التالية :

( كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) .

( وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) .

( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ ) . (1)

هذه هي صفاتهم البارزة التي يُعرفون من خلالها.

وأمّا ما وعدوا من الجزاء فيكفي في ذلك الآيات التالية :

( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ) . (2)

( إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ ) . (3)

( وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ ) . (4)

( وَإِنَّ اللّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ) . (5)

( إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ ) . (6)

ص: 366


1- الذاريات : 17 - 19.
2- البقرة : 195.
3- الأعراف : 56.
4- الحج : 37.
5- العنكبوت : 69.
6- التوبة : 120.

الأبرار

الأبرار جمع بار ، وهو المبالغة في الإحسان ، فيكون مقام الأبرار فوق مقام المحسنين ، فالمؤثرون على أنفسهم هم الأبرار ولكن المحسنين دونهم ، ولذلك يكون الأبرار طائفة خاصة من المحسنين.

وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم وسرد أوصافهم في الآيات التالية :

( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ) .

( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) .

[ يقولون ] ( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) .

( رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ) . (1)

وظاهر الآيات انّ الموصوفين في الآية هم المحسنون الذين يدعون اللّه سبحانه بغية الوصول إلى مقام الأبرار ، فصح أن يقال : إنّ ما ذكر من صفات الأبرار.

ومن صفاتهم البارزة أيضاً ما ورد في سورة الدهر حيث يطرح فيها موضوع الأبرار ويقول : ( إِنَّ الأَبْرَارَ ... ) ثمّ يسرد صفاتهم ، ويقول :

( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) .

( وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ) .

( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) .

( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ) .

ص: 367


1- آل عمران : 191 - 193.

( إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) . (1)

ومن صفاتهم أيضاً ما ذكر في سورة البقرة :

( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ) .

( وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ) .

( وَأَقَامَ الصَّلاةَ ) .

( وَآتَى الزَّكَاةَ ) .

( وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ) .

( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) .

( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ) .

( وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ) . (2)

هذا بعض ما ورد من أوصافهم.

وأمّا جزاؤهم في الآخرة فتحكي عنه الآيات التالية :

( فَوَقَاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ ) . (3)

( إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ) . (4)

( وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ) . (5)

ص: 368


1- الدهر : 7 - 10.
2- البقرة : 177.
3- الدهر : 11.
4- الدهر : 5.
5- الدهر : 17.

( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ) . (1)

( لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا ) . (2)

( وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ) . (3)

( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ) . (4)

( وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ) . (5)

( عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ) . (6)

( وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ) . (7)

( إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ) . (8)

( إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ) . (9)

( إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ) . (10)

( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) . (11)

( يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ ) . (12)

إلى هنا تمّ بيان حال السعداء في القرآن الكريم بأصنافهم المختلفة ; بقي بيان حال أصحاب الشمال. .

ص: 369


1- الدهر : 21.
2- الدهر : 13 - 14.
3- الدهر : 14.
4- الدهر : 19.
5- الدهر : 15 - 16.
6- الدهر : 21.
7- الدهر : 21.
8- الدهر : 22.
9- المطففون : 18.
10- المطففون : 22 - 23.
11- المطففون : 24.
12- المطففون : 25 - 26.

أصحاب الشمال

اشارة

قال سبحانه : ( وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ) . (1) والقرآن يصف تارة أحوالهم في الدنيا وموقفهم من الشرع والشريعة وأُخرى أحوالهم في الآخرة.

أمّا صفاتهم في الدنيا فيصفهم بالأوصاف التالية :

( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ) .

( وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الحِنثِ الْعَظِيمِ ) .

( وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) . (2)

ويصفهم في سورة أُخرى ، بقوله :

( إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ الْعَظِيمِ ) .

( وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ ) . (3)

انّ التدبر في هذه الآيات يستشف منها خلاصة صفاتهم وهي الإتراف أوّلاً ، ونقض العهد ثانياً ، وإنكار المعاد ثالثاً ، وعدم الإيمان باللّه الواحد رابعاً ، وعدم الحض على طعام المسكين خامساً.

ولعلّ لهم أوصافاً أُخرى في القرآن غير ما ذكرنا.

وأمّا أحوالهم في الآخرة فيكفي في ذلك الآيات التالية :

( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ) . (4) .

ص: 370


1- الواقعة : 41.
2- الواقعة : 45 - 47.
3- الحاقة : 33 - 34.
4- الحاقة : 25 - 26.

فهو لأجل سوء المصير يتمنّى عدم حشره ، كما قاله سبحانه :

( يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ) . (1)

فهو يدرك بأنّ ما جمعه من المال والنفوذ ما منعه من عذاب اللّه ، فيقول كما قال سبحانه :

( مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ) . (2)

ولكن تمنّيه وصراخه لا يفيده شيئاً فيأخذه الموكلون يغلّونه فيصلونه الجحيم ، كما يقوله سبحانه :

( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ) . (3)

وفي سورة الواقعة يذكر حالهم في الآخرة بنحو آخر :

( وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلِّ مِّن يَحْمُومٍ ) (4) أي تهب عليهم ريح حارة تدخل مساماتهم ويصبّ عليهم ماء مغلي.

( لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ) . (5)

لا بارد يستراح إليه لأنّه دخان جهنم ، ولا كريم فيشتهى مثله.

( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ المُكَذِّبُونَ * لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ

ص: 371


1- الحاقة : 27.
2- الحاقة : 28 - 29.
3- الحاقة : 30 - 32.
4- الواقعة : 41 - 43.
5- الواقعة : 44.

مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهِيمِ ) . (1)

فهؤلاء يأكلون من شجر من زقوم وهو ثمر شجر شديد المرارة ، فيملأون منها بطونهم ، ثمّ يشربون عليه شرب الحميم وهو الماء الحار فيكون شربهم كشرب الإبل التي أصابها الهيام وهي شدة العطش فلا تزال تشرب الماء حتى تموت ، و ( هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) أي منزلهم الذي ينزلون عليه وهذا طعامهم وشرابهم وهذا مكانهم.

إلى هنا تمّ بيان الأصناف الثلاثة الواردة في القرآن الكريم ، أعني : السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال.

وإليك البحث في سائر الأصناف :

أ. الفسّاق

إنّ ظاهر سورة الواقعة هو تصنيف جميع المحشورين في الأصناف الثلاثة الماضية ، وينحصر السعداء في السابقين وأصحاب اليمين ، والأشقياء في أصحاب الشمال مع أنّ هناك قسماً رابعاً أو خامساً وهم المؤمنون غير المشركين والكافرين الذين خالفوا اللّه باقترافهم الكبائر ( الفسّاق ) فهم يستحقون العذاب مع أنّهم ليسوا من أصحاب الشمال.

والجواب : انّ كل من يدخل النار ، فهو من أصحاب الشمال ، وتخصيص الكافر والمشرك والمنافق والمترف بالذكر لا يعني اختصاص أصحاب الشمال بهم ، وانّما يعني أنّهم من المصاديق البارزة لأصحاب الشمال.

ص: 372


1- الواقعة : 51 - 55.

وعلى ذلك تكون هذه الطوائف الأربع من أصحاب الشمال ، وفي الوقت نفسه المؤمن المرتكب للكبيرة أيضاً منهم ، ولكن كما أنّ في الجنّة درجات فانّ في النار دركات أيضاً ، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار بخلاف المؤمن المرتكب للكبيرة.

ب. الظالمون

البحث عن الظلم والظالمين وما لهم من الأوصاف والحالات في الدنيا والآخرة ، رهن دراسة مبسطة ، ونقتصر في المقام على ذكر بعض أوصافهم وأحوالهم على وجه الإيجاز.

إنّ الذكر الحكيم يصفهم بالأوصاف والحالات التالية :

ليس لهم ناصر وَلا شفيع ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) . (1)

( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) . (2)

أعدّ لهم العذاب الأليم : ( إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) . (3)

لَهم مثوى السوء : ( وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ) . (4) ( وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) . (5) .

ص: 373


1- البقرة : 270.
2- غافر : 18.
3- إبراهيم : 22.
4- آل عمران : 151.
5- غافر : 52.

اليأس من رحمة اللّه ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) . (1)

سرادق من النار تحيط بهم : ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) . (2)

عض الأيدي من الحسرة : ( يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ) . (3)

لا يقبل منهم عذر : ( فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) . (4)

يذوقون عذاب الخلد : ( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ) . (5)

يسلب عنهم القدرة على النطق : ( وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ ) . (6)

يساقون مع أزواجهم وما يعبدون إلى النار : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ ) . (7)

ج. الكافرون والمشركون

الكافر والمشرك إذا ماتا بلا توبة يخلّدون في النار ، كما قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ) . (8)

إنّ السمع والبصر واللسان وغيرها من الأعضاء من نعم اللّه سبحانه على عباده ليشكروه ، وليس معنى الشكر إلاّ استعمالها في طاعة اللّه ومعرفته ، ولكن

ص: 374


1- الأعراف : 44.
2- الكهف : 29.
3- الفرقان : 27.
4- الروم : 57 ولاحظ المؤمن : 52.
5- يونس : 52.
6- النمل : 85.
7- الصافات : 22 - 23.
8- البينة : 6.

هؤلاء استعملوها في غير الطاعة فيحشرون في الآخرة عمياً وبكماً وصماً فكأنّ الآخرة انعكاس عميهم وبكمهم وصمهم في الدنيا ، قال سبحانه : ( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا ) . (1)

ويزاد في عذابهم بجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم ، قال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (2) وقال : ( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ) . (3)

وقال : ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا ) . (4)

بل يكون عذابهم أشدّ من ذلك فيقطع لهم ثياب من نار ، قال : ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ ) . (5)

ولأجل انّ الكافر يواجه بعذاب شديد في ذلك اليوم ، وصف ذلك اليوم بأنّه عسير عليهم ، حيث قال : ( وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ) ، (6) وقال : ( فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) . (7)

وصفوة القول : إنّ اللّه سبحانه أعدّ لهم عذاباًمهيناً وشديداً وعذاب من رجز أليم.

قال سبحانه :

( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) . (8)

( الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) . (9)

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) . (10)

ص: 375


1- الإسراء : 97 - 98.
2- سبأ : 33.
3- يس : 8.
4- الإنسان : 4.
5- الحجر : 19.
6- الفرقان : 26.
7- المدثر : 9 - 10.
8- النساء : 37.
9- فاطر : 7.
10- الجاثية : 11.
د. المكذبون

إنّ الأشقياء هم الذين يكذّبون بآيات اللّه ورسله ويوم الدين ، وقد عرفوا في سورة الواقعة بأصحاب الشمال ، قال سبحانه : ( وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ) . (1) والمراد من المكذبين في هذه الآية هو من يكذب القرآن الكريم بسياق الآيات المتقدمة عليها ، قال سبحانه : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ ) . (2)

وقد ذكر سبحانه جزاء الذين يكذبون بيوم الدين ، وقال : ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ) . (3)

وقال : ( فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ) (4). ومتعلّق التكذيب بحكم سياق الآيات هو يوم الدين.

ولأجل بشاعة جريمتهم لا يؤذن لهم بالنطق بل يرسلون إلى الجحيم الذي كانوا يكذبون به ، وإلى النار التي ترمي بشرر كالقصر ، وليس لهم غذاء إلاّ الأكل من شجرة الزقوم ، وهذه الأُمور نقرأها في الآيات التالية :

( هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) . (5)

( انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ) . (6)

ص: 376


1- الواقعة : 92 - 94.
2- الواقعة : 77 - 81.
3- المطففون : 10 - 11.
4- الطور : 11.
5- المرسلات : 35 - 36.
6- المرسلات : 29.

( انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ) . (1)

( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ) . (2)

( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ المُكَذِّبُونَ * لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَمِيمِ ) . (3)

ه. المجرمون والفجار

إنّ المجرمين من أصناف الأشقياء ، وليس مصيرهم بأقل قسوة من مصير الظالمين والمكذبين ويعرف أحوالهم ممّا يطرأ على وجوههم ، لأنّ المجرم حينما يواجه جزاءه ، فالندم على عمله ، يظهر على ملامح وجهه ، ولذلك نجد انّه سبحانه عندما يذكر المجرمين يركز على بيان الحالات الطارئة على وجوههم ، وهذا من لطائف كلامه.

فالقرآن تارة يشير إلى يأسهم يوم القيامة أو تحيّرهم ، يقول سبحانه : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ المُجْرِمُونَ ) (4) ، أي ييأسون من رحمة اللّه ونعمه التي يفيضها على المؤمنين ، أو يتحيّرون وتنقطع حججهم بظهور جلائل الآيات الباهرة التي يقع عندها علم الضرورة.

وأُخرى إلى وجوههم وانّه يعلوها غبار الغم والحزن ثمّ يعلوها سواد من كثرة الغم ، ويقول : ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) . (5)

ص: 377


1- المرسلات : 30 - 31.
2- المرسلات : 32 - 33.
3- الواقعة : 51 - 54.
4- الروم : 12.
5- عبس : 40 - 42.

وثالثة إلى أنّهم يعرفون بسيماهم وانّهم يحشرون زرق العيون ، يقول سبحانه : ( يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ) . (1)

ويقول : ( وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ) . (2)

ورابعة إلى إشفاقهم عندما يواجهون صحيفة الأعمال ، يقول سبحانه : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ) . (3)

وخامسة إلى شقائهم الذي ربما يصير سبباً إلى نكووس رؤوسهم ، يقول : ( وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ ) . (4)

وعندما يتم حسابهم عند اللّه يجزون بالسحب في النار على وجوههم ، يقول سبحانه : ( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) . (5)

وسادسة إلى تمنّيهم الخلاص من العذاب بفداء كلّ من كانوا يحبونه في الدنيا من الأولاد والأزواج ، يقول سبحانه : ( يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ) . (6)

ولكن ذلك لا ينجع ، لأنّ سنّته جرت على ألا تزر وازرة وزر أُخرى ، فيؤخذ المجرم ويعلّق بالأصفاد ، يقول سبحانه : ( وَتَرَى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ) (7) ، ولا يقتصر على ذلك فيلبسون سرابيل من قطران مع غشاء الوجوه بالنار ، يقول سبحانه : ( سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) . (8) .

ص: 378


1- الرحمن : 41.
2- طه : 102.
3- الكهف : 49.
4- السجدة : 12.
5- القمر : 48.
6- المعارج : 11 - 14.
7- إبراهيم : 49.
8- إبراهيم : 50.

سمات المجرمين في القرآن

إنّ الذكر الحكيم يعرّفهم بميزات كثيرة :

السخرية من المؤمنين ، قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) . (1)

التكذيب بيوم الدين ، قال سبحانه : ( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا المُجْرِمُونَ ) . (2)

وقد عرّف المجرمون أنفسهم عند السؤال عن سبب إقحامهم في النار ، بالأُمور التالية :

( وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ ) .

( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ ) .

( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) . (3)

وعلى كلّ حال فالمجرم في مقابل المسلم ، فالثاني يسلم الأمر إلى اللّه سبحانه ، والآخر يسلم الأمر إلى هواه ، يقول سبحانه : ( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ ) . (4)

ولأجل غرورهم وتكبّرهم على الأنبياء والمؤمنين عادوهم ، يقول سبحانه : ( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ ) . (5)

ص: 379


1- المطففون : 29.
2- الرحمن : 43.
3- المدثر : 43 - 46.
4- القلم : 35.
5- الفرقان : 31.

وقال سبحانه : ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ) (1).

فالمجرم ليس هو الضال بل يكون مضلاً أيضاً ، وثمة طائفة من الظالمين ينسبون ضلالهم إلى المجرمين يقول سبحانه : ( وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ المُجْرِمُونَ ) . (2)

المنافقون

اشارة

البحث عن النفاق والمنافقين بحث مسهب لا سيما فيما يرجع إلى أحوالهم في هذه النشأة وتعاملهم مع النبي صلی اللّه علیه و آله والمؤمنين ، وهذا ما خصصنا له جزءاً خاصاً من هذه الموسوعة وإنّما نقتصر في البحث على بعض الأُمور :

1. صلتهم باللّه ورسوله.

2. صلتهم بالمؤمنين.

3. صلتهم بالكافرين والمشركين.

1. صلتهم باللّه ورسوله

المنافق من يبطن الكفر ويظهر الإسلام ، ولذلك تنقطع صلته باللّه والرسول لتظاهره بالإيمان ولنسيانه اللّه سبحانه ، فيجزى بنسيانه ، يقول سبحانه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ) . (3)

( إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ ) . (4)

ص: 380


1- يونس : 75 ، ولاحظ الدخان : 22.
2- الشعراء : 99.
3- البقرة : 8.
4- النساء : 142.

وقال سبحانه : ( نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ ) . (1)

ولأجل انقطاع صلة المنافقين باللّه تعالى ، يحسبون وعده سبحانه بالنصر غروراً ، وربما يغتر به بعض مرضى القلوب ، قال سبحانه : ( وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا ) . (2)

فقد ضلّوا لنفاقهم واللّه سبحانه سدّ أبواب الهداية عليهم وأمدّ في طغيانهم ، يقول سبحانه : ( وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا ) (3) ، أي أهلكهم بكفرهم ، بما أظهروه من الكفر وقال سبحانه : ( اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (4) ، وليس استهزاؤه سبحانه إلاّ جزاءهم على أفعالهم ، كما أنّ المراد من قوله : ( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ) حرمانهم من هداية اللّه فيتيهون في وادي الضلال بسبب نفاقهم.

2. صلتهم بالمؤمنين

يتظاهر المنافقون بأنّهم من المؤمنين وداخلون في عدادهم ، لكنّه شيء يقولونه بلسانهم وينكرونه بقلوبهم وأعمالهم ، وذلك لأنّهم وإن كانوا يشاركون المسلمين في الجهاد ولكن يخذلونهم في اللحظات الحاسمة من خلال ترك ساحات الوغى بأعذار مختلفة ، ويا ليت انّهم يكتفون بترك القتال ، ولكنّهم كانوا كالطابور الخامس في خدمة الأعداء ، وإليك بيان أهم سماتهم :

1. التظاهر بالإيمان عند المؤمنين وبالكفر عند الكافرين ، يقول

ص: 381


1- التوبة : 67.
2- الأحزاب : 12.
3- النساء : 88.
4- البقرة : 15.

سبحانه : ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) . (1)

2. انّ النفاق ظهر لأوّل وهلة بين أهل يثرب ، لأنّ عبد اللّه بن أُبيّ كان قد تمتع بنفوذ واسع بين طائفتي الأوس والخزرج ، وكان مرشحاً أن يكون سلطاناً على يثرب وحواليها ، ولما جاء الإسلام انفض من كان حوله إلاّ قليلاً منهم ، وراح يشكل نواة للنفاق ، ويتحيّن الفرص للانقضاض على المهاجرين من أهل مكة ، ولمّا تنازع مهاجر مع أنصاري في سقي الماء في غزوة بني المصطلق واوشكت الحرب أن تستعر اغتنم الفرصة وكلّم أصحابه ونهاهم عن الإنفاق على أصحاب رسول اللّه كي ينفضوا من حوله ، كما حث الطائفتين على إخراج المهاجرين من يثرب ، وهذا ما يحكيه عنه سبحانه في القرآن الكريم ضمن آيتين ، ويقول : ( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) . (2)

3. انّ خصيصة النفاق لا تنفك عن التظاهر بالإيمان والسعي وراء كيد المسلمين في المواقف الحساسة فلو خرجوا إلى الجهاد مع المسلمين فإنّما يخرجون طلباً للشر والفساد ونشر الفتنة ، وربما يتبعهم الضعفاء من المؤمنين ، كما يقول سبحانه : ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) . (3)

ص: 382


1- البقرة : 14.
2- المنافقون : 7 - 8.
3- التوبة : 47.

فقد أشار الوحي الإلهي في هذه الآية إلى ما يرتكبون في الحرب من الشر وانّهم ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُم ) ما زادوكم إلاّشراً وفساداً وغدراً ومكراً دون أن ينفعونكم بشيء.

( وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ ) أي أسرعوا في الدخول بينكم في الإفساد والتفريق بين المسلمين.

( يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ) أي يطلبون لكم المحنة باختلاف الكلمة والفرقة.

( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ ) للمنافقين ينقلون إليهم ما يسمعون منكم.

4. انّ الجهاد رمز الإيمان وترك الدنيا لأجل الآخرة ، فالمؤمن يندفع عن شوق إلى الجهاد بنفسه في حين انّ المنافق يندفع عن كره إليه ويفرح بالتخلّف عن ركب رسول اللّه ، وكانوا يغرون المسلمين ألا ينفروا في الحرب مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كما قال سبحانه : ( فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ) . (1)

3. صلتهم بالكافرين والمشركين

إنّ المنافقين والمشركين ينضوون تحت لواء واحد ، وهو عدم الإيمان باللّه سبحانه وإنكار اليوم الآخر ، غير انّ المشرك يتظاهر به دون المنافق ، إنّما الكلام في صلة المنافق بأهل الكتاب ، فقد كان المنافقون في عصر الرسالة على علاقة وثيقة باليهود لكيد الإسلام والمسلمين ، وقد ظهرت تلك المكيدة عند إجلاء بني النضير من يثرب جزاءً لغدرهم بالمسلمين ، ولما وصل خبر ذلك إلى المنافقين ، أرسلوا رسولاً إلى بني النضير يناشدونهم بالبقاء وعدم اجلاء ديارهم وانّهم سوف

ص: 383


1- التوبة : 81.

يبذلون لهم المزيد من الدعم والمساندة ، وانّهم في حالة إخراجهم عنوة سوف يتبعونهم ، وقد حكى سبحانه تبارك وتعالى تلك الوعود الكاذبة منهم لأهل الكتاب ، وقال : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) . (1)

ولكنّه سبحانه ينسبهم إلى النفاق في ادّعائهم المزيف ، قال سبحانه : ( لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) . (2)

أحوال المنافقين في الآخرة

إنّ النفاق شعبة من شعب الكفر ولا يفترق عنه إلاّ بالتظاهر بالإيمان ، ولذلك يجمعهم اللّه يوم القيامة في مأوى واحد ، ويقول : ( إِنَّ اللّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) . (3)

وقال أيضاً : ( وَعَدَ اللّهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ ) . (4)

وبما انّهم قد جبلوا بالنفاق وخمرت طينتهم عليه فيتظاهرون به في الآخرة أيضاً ، ويخاطبون المؤمنين خطاب الخليل للخليل ويطلبون قبساً من نورهم غافلين عن أنّ النور رهن إيمانهم وعملهم في الحياة الدنيا ، ولم يكن لهم حظ منه في الآخرة ، يقول سبحانه : ( يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا

ص: 384


1- الحشر : 11.
2- الحشر : 12.
3- النساء : 140.
4- التوبة : 68.

انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) . (1)

فلم يكن النفاق ينفعهم في الدنيا ولا الآخرة ، وتكون عاقبتهم هي الدرك الأسفل من النار مقروناً بالعذاب الأليم.

يقول سبحانه : ( بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (2) ، ويقول أيضاً : ( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) . (3)

وهذه الآيات توحي إلى شدة خصومتهم للحق ولذلك جُوُزُوا بأشد مجازاة.

وأخيراً نود أن نختم الموضوع بهذه الشذرة من كلام النبي صلی اللّه علیه و آله نقله عنه الإمام أمير المؤمنين علیه السلام حول النفاق والمنافقين جاء فيها : « ولقد قال لي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّي لا أخاف على أُمّتي مؤمناً ولا مشركاً ، ولكنّي أخاف عليكم كلّ منافق الجنان ، عالم اللسان ، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون ». (4)

وممّا يؤكد قلق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المتزايد حيال المنافقين ، هو انّه سبحانه في سورة البقرة تطرق إلى الكافرين واقتصر في حقِّهم على آيتين ، وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . (5)

ولكنّه تبارك وتعالى لما تطرق إلى المنافقين عقب الكافرين تكلم عنهم

ص: 385


1- الحديد : 13.
2- النساء : 138.
3- النساء : 145.
4- نهج البلاغه ، قسم الرسائل ، برقم 27.
5- البقرة : 6 - 7.

ضمن ثلاث عشرة آية مستهلاً بقوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ) (1) ومختتماً بقوله : ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . (2)

تمّ - بحمداللّه - تأليف الجزء الثامن من موسوعتنا

« مفاهيم القرآن » نحمد ونشكر ونصلّي على النبي وآله

وفرغنا من تأليفه ظهيرة يوم الأحد

الموافق 26 من ذي القعدة الحرام

من شهور عام 1419 ه

في مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

في قم المشرّفة .

ص: 386


1- البقرة : 8.
2- البقرة : 20.

الفهارس

اشارة

فهرس مصادر الكتاب

فهرس المحتويات

ص: 387

ص: 388

فهرس المصادر

نبدأ تبركاً بالقرآن الكريم

1. الإرشاد: المفيد: محمد بن محمد بن النعمان (336 - 413ه) قم المقدسة - 1402 ه.

2. أسرار الحكم : ملا هادي السبزواري ، المكتبة الإسلامية ، طهران ، الطبعة الثانية ; 1362 ه. ش.

3. الأسفار : صدر الدين محمد الشيرازي ( المتوفّى 1050 ه ) مكتبة المصطفوي ، قم.

4. الإشارات : الشيخ الرئيس ابن سينا ( المتوفّى 428 ه ) طبع طهران.

5. أقرب الموارد : سعيد الخوري الشرتوني اللبناني ( 1849 - 1912 م ) في ثلاثة مجلدات ، إيران - 1403 ه.

6. اللّه يتجلّى في عصر العلم : مقالات بقلم ثلاثين من العلماء المتخصصين.

7. الإلهيات : حسن محمد مكي العاملي من محاضرات الشيخ جعفر السبحاني ، الدار الإسلامية ، بيروت - 1410 ه.

8. الإلهيات من الشفاء : الشيخ الرئيس ابن سينا ( المتوفي 428 ه ) منشورات مكتب الإعلام الإسلامي ، قم - 1418 ه.

ص: 389

9. الأمالي : الصدوق : محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ( 306 - 381 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1400 ه.

10. إنجيل متى : طبعة دار الكتاب المقدس.

11. إنجيل مرقس : طبعة دار الكتاب المقدس.

12. إنجيل يوحنا : طبعة دار الكتاب المقدس.

13. أوائل المقالات : المفيد : محمد بن محمد بن النعمان ( 336 - 413 ه ) مكتبة الحقيقة ، تبريز - 1371 ه.

14. بحار الأنوار : محمد باقر المجلسي ( المتوفّى 1110 ه ) مؤسسة الوفاء ، بيروت - 1403 ه.

15. البرهان في تفسير القرآن : السيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل الحسيني التوبلي البحراني ( المتوفّى 1107 ه ) قم المقدسة - 1375 ه.

16. تفسير الصافي : الفيض الكاشاني ( المتوفّى 1091 ه ) نشر دار المرتضى ، قم.

17. تفسير المنار : محمد رشيد رضا ( المتوفّى 1354 ه ) دار المنار ، مصر - 1373 ه.

18. تلخيص الإلهيات : الرباني الگلپايگاني من محاضرات الشيخ جعفر السبحاني ، مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام ، قم.

19. التوحيد : الصدوق : محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ( 306 - 381 ه ) مكتبة الصدوق ، طهران.

ص: 390

20. جامع الأُصول : ابن الأثير الجزري المبارك بن محمد ( 544 - 606 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1403 ه.

21. حقائق التأويل: الشريف الرضي ( 359 - 406 ه ) مؤسسة البعثة ، قم - 1406 ه.

22. الحقائق في محاسن الأخلاق : الفيض الكاشاني ( المتوفّى 1091 ه ) دار البلاغة ، بيروت - 1409 ه.

23. دائرة المعارف البريطانية.

24. سفينة البحار : الشيخ عباس القمي ( 1294 - 1359 ه ) طبعة حجر ، النجف الأشرف.

25. السنّة : أحمد بن حنبل ( المتوفّى 241 ه ) دار الكتب العلمية ، بيروت - 1405 ه.

26. شرح الأُصول الخمسة : القاضي عبد الجبار المعتزلي ( المتوفّى 415 ه ) طبع مصر.

27. شرح حكمة الإشراق : شمس الدين محمد الشهرزوري ، تحقيق حسين الضيائي التربتي.

28. شرح المقاصد : سعد الدين التفتازاني : مسعود بن عمر بن عبد اللّه ( 712 - 793 ه ) منشورات الشريف الرضي ، قم - 1412 ه.

29. شرح المنظومة : ملا هادي السبزواري منشورات نشر ناب ، قم - 1416 ه.

ص: 391

30. شرح المواقف : الشريف علي بن محمد الجرجاني ( المتوفّى 812 ه ) منشورات الشريف الرضي ، قم - 1412 ه.

31. الشفاء قسم الطبيعيات : الشيخ الرئيس ابن سينا ( المتوفّى 428 ه ) منشورات بيدار ، ايران.

32. الصحيح : مسلم بن الحجاج القشيري ( المتوفّى 261 ه ) مؤسسة عز الدين ، بيروت - 1407 ه.

33. عقائد ( اعتقادات ) الصدوق : محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ( 306 - 381 ه ) المطبوع ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ المفيد ، المجلد الخامس ، منشورات المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى الألفية للشيخ المفيد ، قم - 1413 ه.

34. فجر الإسلام : أحمد أمين المصري ( المتوفّى 1388 ه ) نشر دار الكتاب العربي ، بيروت.

35. الكافي : محمد بن يعقوب الكليني ( المتوفّى 329 ه ) دار الكتب الإسلامية ، طهران - 1397 ه.

36. كشف المراد : العلاّمة الحلّي : الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر ( 648 - 726 ه ) منشورات مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام ، قم - 1417 ه.

37. الكنى والألقاب : الشيخ عباس بن محمد رضا القمّي ( 1294 - 1359 ه ) المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف ، الطبعة الثالثة - 1406 ه.

ص: 392

38. گوهر مراد : عبد الرزاق فيّاض اللاهيجي ( المتوفّى 1072 ه ) منشورات مؤتمر الحكيم اللاهيجي ، طهران - 1414 ه.

39. لسان العرب : ابن منظور : محمد بن مكرم ( 630 - 711 ه ) قم المقدسة - 1405 ه.

40. لقاء اللّه : الميرزا جواد بن الميرزا شفيع الملكي التبريزي ( المتوفّى 1343 ه ).

41. اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية : مقداد بن عبد اللّه الأسدي السيوري الحلي ( المتوفّى 826 ه ) تبريز - 1396 ه.

42. المبدأ والمعاد : صدر المتألّهين محمد الشيرازي ( المتوفّى 1050 ه ) طبعة حجر - 1314 ه.

43. مجمع البيان : الفضل بن الحسن الطبرسي ( 471 - 548 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1408 ه.

44. المحاسن : البرقي : أحمد بن محمد ( المتوفّى 274 ه ) طهران - 1370 ه.

45. المسائل السروية : الشيخ المفيد : محمد بن محمد بن النعمان ( 336 - 413 ه ) منشورات المؤتمر العالمي بمناسبة ذكرى ألفية الشيخ المفيد ، قم - 1413 ه.

46. المسند : أحمد بن حنبل ( المتوفّى 241 ه ) دار الفكر ، بيروت.

47. معاني الأخبار : الصدوق : محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ( 306 - 381 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1399 ه.

48. مفاتيح الجنان : الشيخ عباس القمي ( 1294 - 1359 ه ) مؤسسة المعارف الإسلامية ، قم.

ص: 393

49. مقالات الإسلاميين : أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ( المتوفّى 324 ه ) الطبعة الثالثة ، المانيا - 1400 ه.

50. مقاييس اللغة : أحمد بن فارس بن زكريا ( المتوفّى 395 ه ) دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة - 1366 ه.

51. الموطأ : مالك بن أنس ( المتوفّى 179 ه ) دار الآفاق الجديدة ، بيروت - 1403 ه.

52. الميزان في تفسير القرآن : العلاّمة محمد حسين الطباطبائي ( 1321 - 1402 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1403 ه.

53. نهج البلاغة : جمع الشريف الرضي ( 359 - 406 ه ) بيروت - 1387 ه.

54. وسائل الشيعة : الحر العاملي : محمد بن الحسن ( 1033 - 1104 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1403 ه.

ص: 394

فهرس محتويات الكتاب

الموضوع / الصفحة

مقدمة المؤلف : يوم الحشر ومعاد الإنسان ... 5

الفصل الأوّل

أسماء القيامة في القرآن الكريم

الإيمان بالمعاد يجيب على الاسئلة التي تراود ذهن الإنسان ... 7

الفصل الثاني

المعاد في الشرائع السماوية

1. آدم علیه السلام والدعوة إلى الإيمان بالمعاد ... 12

2. نوح علیه السلام والدعوة إلى الإيمان بالمعاد ... 13

3. إبراهيم علیه السلام والدعوة إلى الإيمان بالمعاد ... 13

4. موسى علیه السلام والدعوة إلى الإيمان بالمعاد ... 14

5. المسيح علیه السلام والدعوة إلى الإيمان بالمعاد ... 16

ص: 395

المعاد في العهد العتيق ... 17

المعاد في العهد الجديد ... 17

الفصل الثالث

الدلائل الجلية على لزوم المعاد

1. المعاد : رمز الخلقة ... 19

الإمام علي علیه السلام وهدف من وراء الخلقة ... 25

2. المعاد مظهر العدل الإلهي ... 25

3. المعاد مجلى الوعد الإلهي ... 30

4. المعاد مظهر رحمته الواسعة ... 32

5. المعاد نهاية السير التكاملي للإنسان ... 34

6. المعاد ، مظهر ربوبيته ... 37

الدوافع والشبهات لإنكار المعاد ... 38

الدوافع النفسية لإنكار المعاد ... 38

الدوافع السياسية لإنكار المعاد ... 39

الشبهات حول المعاد ... 41

1. لا دليل على المعاد ... 41

2. الإيمان بالمعاد أُسطورة ... 42

ص: 396

3. الدعوة إلى المعاد : افتراء على اللّه ... 42

4. الدعوة إلى المعاد : وإحياء الآباء ... 43

5. الدعوة إلى المعاد : دعوة ساحرة ... 43

6. الدعوة إلى المعاد خارجة عن نطاق القدرة ... 44

7. إحياء الأموات أمر عسير ... 44

8. الموت فناء للإنسان ... 45

9. فقدان الصلة بين الدنيا والآخرة ... 45

10. الدعوة إلى المعاد والأجزاء المبعثرة المختلطة ... 46

الفصل الرابع

نقد الشبهات الواردة حول المعاد

الشبهة الأُولى : المعاد فوق نطاق القدرة ... 48

في الأجوبة على الشبهة ... 49

1. سعة قدرته سبحانه ... 49

2. البعث وخلق السماوات والأرض ... 50

3. قياس المعاد بالمبدأ ... 50

الشبهة الثانية : المعاد والعظام البالية ... 51

تجلّي القيامة في خلق الإنسان والنبات ... 52

ص: 397

الشبهة الثالثة : المعاد والعلم الإلهي ... 54

الشبهة الرابعة : الصلة بين الحياتين : الدنيوية والأُخروية ... 55

ثبات الشخصية في دوّامة التغيير ... 57

علم الإنسان بنفسه مع الغفلة عن بدنه ... 58

عدم الانقسام في الشخصية ... 59

القرآن وخلود النفس ... 60

الفصل الخامس

ذكر نماذج من إحياء الموتى في الشرائع السابقة

إبراهيم علیه السلام وإحياء الموتى ... 65

إحياء نفس عزير ... 67

إحياء قوم من بني إسرائيل ... 69

إحياء قتيل بني إسرائيل ... 71

المسيح وإحياء الموتى ... 73

إحياء سبعين رجلاً من قوم موسى علیه السلام ... 73

إيقاظ أصحاب الكهف ... 75

ص: 398

الفصل السادس

المعاد الجسماني والروحاني

المعاد ، جسماني فحسب ... 76

المعاد روحاني فحسب ... 76

المعاد جسماني وروحاني معاً ... 77

ما هي واقعية الإنسان ؟ ... 78

أصناف الثواب والعقاب ... 79

الفصل السابع

القرآن والمعاد الجسماني والروحاني

المعاد الجسماني بالملاك الأوّل ... 81

المعاد الروحاني بالملاك الأوّل ... 84

المعاد الجسماني بالملاك الثاني ... 85

رضوان اللّه ... 85

البعد عن رحمته ... 86

الحزن والحسرة ... 87

لقاء المحبوب ... 88

عذاب فراق المحبوب ... 91

ص: 399

الفصل الثامن

المعاد الجسماني وآراء الحكماء والمتكلّمين

رأي المعلم الثاني الفارابي ( المتوفّى 339 ه ) ... 92

رأي صدر المتألّهين ( 979 - 1050 ه ) ... 94

الأصل الأوّل : التشكيك في الوجود ... 96

الأصل الثاني : انّ هوية الإنسان بنفسه ... 97

الأصل الثالث : العوالم الثلاثة ... 98

المعاد الجسماني والرأي السائد بين المتكلّمين ... 102

المعاد الجسماني ورأي بعض المتكلمين ... 105

الفصل التاسع

المعاد الجسماني والشبهات المطروحة

الشبهة الأُولى : المعاد إعادة للمعدوم ... 108

الشبهة الثانية : شبهة الآكل والمأكول ... 110

إجابة المتكلّمين عن الشبهة ... 111

إجابة صدر المتألّهين عن الشبهة ... 112

شبهة الآكل والمأكول من منظار العدل الإلهي ... 116

الشبهة الثالثة : ما هو الهدف من الجزاء ؟ ... 117

الشبهة الرابعة : المعاد العنصري عود إلى الدنيا ... 120

ص: 400

الشبهة الخامسة : لزوم التناسخ ... 121

الشبهة السادسة : المعاد العنصري وظواهر الآيات ... 125

الشبهة السابعة : المعاد العنصري عود إلى الدنيا ... 126

الشبهة الثامنة : النفس يوم القيامة قائمة بذاتها ... 127

الشبهة التاسعة : استغراب الحياة المثالية ... 128

الشبهة العاشرة : تعلّق النفس بالبدن العنصري رهن مرجّح ... 130

الشبهة الحادية عشرة : رجوع الفعلية إلى القوة ... 131

الفصل العاشر

المعاد الروحاني من مناظر الحكماء

رأي الحكيم السبزاوي ... 138

رأي صدر المتألهين ... 139

رأي الفاضل المقداد ... 140

الفصل الحادي عشر

المعاد الجسماني والتناسخ

أقسام التناسخ ... 144

1. التناسخ المطلق أو اللا محدود ... 144

ص: 401

2. التناسخ النزولي المحدود ... 144

3. التناسخ الصعودي ... 146

التناسخ والمعاد ... 146

التناسخ المطلق والعناية الإلهية ... 147

المعاد والتناسخ النزولي ... 149

التناسخ الصعودي ... 151

أسئلة وأجوبة ... 153

1. هل المسخ في الأُمم السابقة من قسم التناسخ ؟ ... 153

2. هل الرجعة من أقسام التناسخ ؟ ... 154

3. السنّة الإلهية والرجوع إلى الدنيا ؟ ... 155

الفصل الثاني عشر

الموت نافذة تطل على الحياة الجديدة

الموت في اللغة والقرآن ... 158

هل الموت أمر عدمي ؟ ... 158

الموت سنّة عامة قطعية ... 160

خوف الإنسان من الموت ... 162

أقسام الموت في القرآن الكريم ... 165

ص: 402

1. الموت العسير واليسير ... 165

2. موت البدن والقلب ... 167

3. موت الإنسان والمجتمع ... 168

عوامل أُفول الحضارات ... 169

4. الموت المشرّف ... 170

الموت والأجل المحتوم ... 171

التوبة والندامة قبيل الموت أو حينه ... 172

الوصية في حال الموت ... 173

جهل الإنسان بموته ... 174

الموت والملائكة الموكّلون ... 175

الفصل الثالث عشر

القبر وعالم البرزخ

الحياة البرزخية في القرآن الكريم ... 178

الحياة البرزخية في الروايات ... 180

في معنى القبر ... 181

السؤال في القبر ... 182

الأُمور التي يسأل عنها... 184

المسؤولون في البرزخ ... 185

ص: 403

الفصل الرابع عشر

أشراط الساعة

في أقسام أشراط الساعة ... 187

أشراط الساعة في القرآن الكريم ... 187

أشراط الساعة في الروايات والأحاديث ... 197

الفصل الخامس عشر

مشاهد الساعة

مشاهد الساعة في القرآن الكريم ... 199

سير الشمس والقمر إلى أجل مسمّى ... 199

الأجل المحدود لعمر الإنسان ... 200

أجل الأُمم ... 200

طروء حوادث في الكون عند قيام الساعة ... 200

الحوادث التي تقع في السماء ... 201

النجوم والشمس والقمر في مشاهد القيامة ... 202

الأرض في مشاهد القيامة ... 203

البحار والجبال في مشاهد القيامة ... 204

ص: 404

الفصل السادس عشر

النفخ في الصور

أو بداية حياة جديدة

في مراحل النفخ في الصور ... 207

تعابير أُخرى عن النفخة في الصور ... 209

الصيحة ... 209

الصاخّة ... 210

الزجرة ... 211

النقر ... 211

الراجفة والرادفة... 211

ما هي حقيقة النفخ في الصور ؟ ... 212

ما هو مقدار الفصل الزماني بين الصورين ؟ ... 213

مَن هم الذين لا سعقهم اللّه عند النفخة الأُولى ؟ ... 214

الفصل السابع عشر

القيامة ومحاسبة الأعمال

ما هو الهدف من وراء محاسبة الأعمال ؟ ... 219

من المحاسِب ؟ ... 220

ص: 405

ما هي الأعمال التي يحاسب عليها ... 222

النعم الدنيوية والسؤال عنها ... 225

هل الحساب يعمّ الجميع ... 227

الحساب التكويني والتدويني ... 228

دراسة الآيات السالفة الذكر ... 230

دراسة شمولية الحساب في الروايات ... 231

ما معنى كونه سبحانه سريع الحساب ؟ ... 234

ما هو المقصود من سوء الحساب ؟ ... 237

من هم الذين يحاسبون حساباً يسيراً ؟ ... 238

اختلاف العباد عند الحساب ... 239

إتمام الحجّة على العباد عند الحساب ... 240

الاعتراف بالذنوب ورجاء العفو والمغفرة ... 241

الفصل الثامن عشر

مواقف القيامة وطول يومه

مواقف يوم القيامة ... 245

ص: 406

الفصل التاسع عشر

ميزان الأعمال

الميزان يوم القيامة كموازين الدنيا ... 251

الميزان هو العدل الإلهي ... 253

الميزان واستعمالاته في القرآن ... 254

لكلّ شيء ميزان يوزن به ... 255

الفصل العشرون

الإشهاد يوم القيامة

في أصناف الشهود ... 260

1. اللّه سبحانه ... 260

2. أنبياء اللّه ... 261

3. النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله ... 262

4. الأُمة الإسلامية ... 263

5. الملائكة ... 265

6. الأرض ... 266

7. الزمان ... 267

8. القرآن ... 268

ص: 407

9. صحيفة الأعمال ... 268

10 و 11. شهادة الأعضاء والجلود ... 272

الفصل الواحد والعشرون

القيامة والصراط

الصراط في اللغة ... 274

الصراط : معبر عام ... 274

الصراط في الروايات ... 277

أوصاف الصراط ... 279

الولاية ، رخصة لعبور الصراط ... 282

الفصل الثاني والعشرون

أصحاب الأعراف وسيماهم

في معنى الأعراف ... 284

الأعراف في الروايات ... 288

من هم أصحاب الأعراف ؟... 289

1. الأئمّة المعصومون ... 289

2. المؤمنون العصاة ... 289

3. الذين تتساوى سيئاتهم مع حسناتهم ... 290

ص: 408

الفصل الثالث والعشرون

خلق الجنة والنار

في أقوال المتكلّمين في خلق الجنة والنار ... 292

أدلّة القول بالخلق ... 294

أدلّة المنكرين للخلق ... 299

مكان الجنة والنار ... 301

الجنة والنار خارجتان عن هذا العالم ... 302

الفصل الرابع والعشرون

الخالدون في النار

الجذور التاريخية لهذه المسألة ... 303

الدلائل النقلية ... 305

الدلائل العقلية ... 308

أدلة القائلين بالخلود ... 310

المكذبون بآيات اللّه ... 312

أعداء اللّه ورسوله ... 312

العصاة والمتمردون على أمر اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ... 313

الظالمون ... 314

ص: 409

الأشقياء ... 315

المجرمون ... 316

المتوغلون في الخطايا ... 318

المرتكبون للقبائح ... 320

المعرضون عن القرآن ... 321

المطففون في الميزان ... 322

الآكلون للربا ... 323

قاتلو المؤمنين ... 324

خاتمة المطاف : العصيان المحدود والعذاب الدائم ... 328

الفصل الخامس والعشرون

تجسّم الأعمال والملكات المكتسبة

تجسّم الأعمال على ضوء القرآن والروايات ... 332

تجسّم الأعمال في الروايات ... 336

تجسّم الأعمال من منظار العقل والعلم ... 340

تجسّم الأعمال من منظار العلم ... 345

حقيقة العمل من الإنسان ... 346

سؤال وإجابة ... 347

إذا كانت الصور المثالية أمراًَ تكوينياً فما معنى الشفاعة ؟ ... 348

ص: 410

الفصل السادس والعشرون

الأحوال الطارئة على الإنسان يوم القيامة

الآيات التي تتكفّل بيان حال الإنسان يوم القيامة ... 350

1. كلّ إنسان له شأن يغنيه ... 351

2. لا يملك إنسان لإنسان نفعاً ... 351

3. مالا ينفع الإنسان ... 352

4. لا تنفع الأعذار ... 352

5. ما ينفع يوم القيامة ... 352

6. الأخلاّء بعضهم عدو لبعض ... 353

7. منطق المؤمنين مع الكافرين ... 353

الآيات التي تتكفّل بيان صنف خاص ... 354

السعداء والأشقياء ... 354

النبي صلی اللّه علیه و آله والمؤمنون في الآخرة ... 356

الصابرون ... 357

المصلّون ... 358

السابقون ... 360

أصحاب اليمين ... 363

المحسنون ... 366

ص: 411

الأبرار ... 367

أصحاب الشمال ... 370

الفساق ... 372

الظالمون ... 373

الكافرون والمشركون ... 374

المكذبون ... 376

المجرمون والفجّار ... 377

سمات المجرمين في القرآن ... 379

المنافقون ... 380

1. صلتهم باللّه ورسوله ... 380

2. صلتهم بالمؤمنين ... 381

3. صلتهم بالكافرين والمشركين ... 383

أحوال المنافقين في الآخرة ... 384

الفهارس ... 387

فهرس المصادر الكتاب ... 389

فهرس محتويات الكتاب ... 395

ص: 412

المجلد 9

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 3

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1425 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-357-148-3

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء التاسع

الأمثال والأقسام في القرآن الكريم

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )

( الحشر : 21 )

ص: 3

ص: 4

الأمثال في القرآن

اشارة

وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً :

الأوّل : المثل في اللغة

يظهر من غير واحد من المعاجم ، كلسان العرب والقاموس المحيط ، أنّ للفظ « المثل » معاني مختلفة ، كالنظير والصفة والعبرة وما يجعل مثالاً لغيره يُحذا عليه إلى غير ذلك من المعاني (1).

قال الفيروزآبادي : المِثْل - بالكسر والتحريك - الشبه ، والجمع أمثال ؛ والمَثَلُ - محرّكة - الحجة ، والصفة ؛ والمثال : المقدار والقصاص ، إلى غير ذلك من المعاني (2).

ولكن الظاهر انّ الجميع من قبيل المصاديق ، وما ذكروه من باب خلط المفهوم بها وليس للّفظ إلا معنى أو معنيين ، والباقي صور ومصاديق لذلك المفهوم ، وممن نبَّه على ذلك صاحب معجم المقاييس ، حيث قال :

المِثْل والمثَل يدلاّن على معنى واحد وهو كون شيء نظيراً للشيء ، قال ابن

ص: 5


1- لسان العرب : 13 / 22 ، مادة مثل.
2- القاموس المحيط : 4 / 49 ، مادة مثل.

فارس : « مثل » يدل على مناظرة الشيء للشيء ، وهذا مثل هذا ، أي نظيره ، والمثل والمثال بمعنى واحد. وربما قالوا : « مثيل كشبيه » ، تقول العرب : أمثل السلطان فلاناً ، قتله قوداً ، والمعنى انّه فعل به مثلما كان فعله.

والمِثْل : المثَل أيضاً ، كشِبْه وشبَه ، والمثل المضروب مأخوذ من هذا ، لأنّه يذكر مورّى به عن مثله في المعنى.

وقوله : مَثَّلَ به إذا نُكِّل ، هو من هذا أيضاً ، لأنّ المعنى فيه إذا نُكل به : جعل ذلك مثالاً لكل من صنع ذلك الصنيع أو أراد صنعه. والمثُلات أيضاً من هذا القبيل ، قال اللّه تعالى : ( وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ ) (1) أي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله ، وواحدها : مُثُل (2).

وعلى الرغم من ذلك فمن المحتمل أن يكون من معانيه الوصف والصفة ، فقد استعمل فيه امّا حقيقة أو مجازاً ، وقد نسب ابن منظور استعماله فيه إلى يونس ابن حبيب النحوي ( المتوفّى 182 ه ) ، ومحمد بن سلام الجمحي ( المتوفّى 232 ه ) ، وأبي منصور الثعالبي ( المتوفّى 429 ه ) (3).

ويقول الزركشي ( المتوفّى 794 ه ) : إنّ ظاهر كلام أهل اللغة ان المثل هو الصفة ، ولكن المنقول عن أبي علي الفارسي ( المتوفّى 377 ه ) انّ المثل بمعنى الصفة غير معروف في كلام العرب ، إنّما معناه التمثيل (4).

ويدل على مختار الأكثر ما أورده صاحب لسان العرب ، حيث قال : قال

ص: 6


1- الرعد : 6.
2- معجم مقاييس اللغة : 5 / 296.
3- لسان العرب : 13 / 22 ، مادة مثل.
4- البرهان في علوم القرآن : 1 / 490.

عمر بن أبي خليفة : سمعت مُقاتِلاً صاحب التفسير ، يسأل أبا عمرو بن العلاء ، عن قول اللّه عزّ وجلّ : ( مَّثَلُ الجَنَّةِ ) ، ما مَثَلُها ؟ فقال : ( فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) ، قال : ما مَثَلُها ؟ فسكت أبو عمرو.

قال : فسألت يونس عنها ، فقال : مَثَلها صفتها ، قال محمد بن سلام : ومثل ذلك قوله : ( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل ) (1) أي صفتهم.

قال أبو منصور : ونحو ذلك روي عن ابن عباس ، وأمّا جواب أبي عمرو لمقاتل حين سأله ما مثَلُها ، فقال : فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ ، ثمّ تكريره السؤال ما مَثَلُها وسكوت أبي عمرو عنه ، فانّ أبا عمرو أجابه جواباً مقنعاً ، ولما رأى نبوة فَهْمِ مقاتل ، سكت عنه لما وقف من غلظ فهمه. وذلك انّ قوله تعالى : ( مَّثَلُ الجَنَّةِ ) تفسير لقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) (2) وصف تلك الجنات ، فقال : مَثَلُ الجنة التي وصفتها ، وذلك مثل قوله : ( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل ) أي ذلك صفة محمّد صلی اللّه علیه و آله وأصحابه في التوراة ، ثم أعلمهم أنّ صفتهم في الإنجيل كزرعٍ (3).

ثمّ إنّ الفرق بين المماثلة والمساواة ، أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين ، لأنّ التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص ، وأمّا المماثلة فلا تكون إلاّ في المتفقين (4).

ص: 7


1- الفتح : 29.
2- الحج : 14.
3- لسان العرب : مادة مثل.
4- لسان العرب : مادة مثل.

وأمّا الفرق بين المماثلة والمشابهة هو انّ الأُولى تستعمل في المتفقين في الماهية والواقعية ، بخلاف الثانية فإنّما تستعمل غالباً في مختلفي الحقيقة ، المتفقين في خصوصية من الخصوصيات.

وبهذا يعلم انّ التجربة تجري في المتماثلين والمتفقين في الحقيقة ، كانبساط الفلز حينما تمسُّه النار ، وهذا بخلاف الاستقراء ، فإنّ مجراه الأُمور المختلفة كاستقراء انّ كل حيوان يتحرك فكه الأسفل عند المضغ ، فيتعلّق الاستقراء بمختلفي الحقيقة كالشاة والبقرة والإبل.

وقد تكرر في كلام غير واحد من أصحاب المعاجم ان المَثَل والمثْل سيان ، كالشَبَه والشبْه ، ومع ذلك كلّه نرى أنّ القرآن ينفي المثْل لله ، ويقول : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (1) وفي الوقت نفسه يُثبت له المثَل ، ويقول : ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (2).

والجواب : انّه لا منافاة بين نفي المِثْل لله واثبات المَثَل له ؛ أمّا الأوّل ، فهو عبارة عن وجود فرد لواجب الوجود يشاركه في الماهية ، ويخالفه في الخصوصيات ، فهذا أمر محال ثبت امتناعه في محلِّه ، وأمّا المَثَلُ فهو نُعوت محمودة يُعرف بها اللّه سبحانه كأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وعلى هذا ، المَثَلْ في هذه الآية وما يشابهها بمعنى ما يوصف به الشيء ويعبَّر به عنه ، من صفات وحالات وخصوصيات.

فهذه الآية تصرّح بأنّ عدم الإيمان بالآخرة مبدأ لكثير من الصفات

ص: 8


1- الشورى : 11.
2- النحل : 60.

القبيحة ، ومصدر كل شر ، وفي المقابل انّ الإيمان بالآخرة هو منشأ كل حسنة ومنبع كلّ خير وبركة ، فكلّ وصف سوء وقبيح يلزم الإنسان ويلحقه ، فإنّما يأتيه من قبل عدم الإيمان بالآخرة ، كما أنّ كلّ وصف حسن يلزم الإنسان ينشأ من الإيمان بها ، وبذلك ظهر معنى قوله : ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ) الذي يدلّ بالملازمة للذين يؤمنون بالآخرة لهم مثل الحسن.

وأمّا قوله سبحانه : ( وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى ) فمعناه أنّه منزّه من أن يوصف بصفات مذمومة وقبيحة كالظلم ، قال سبحانه : ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) (1). وفي الوقت نفسه فهو موصوف بصفات محمودة.

فكلّ وصف يستكرهه الطبع أو يردعه العقل فلا سبيل له إليه ، فهو قدرة لا عجز فيها ، وحياة لا موت معها إلى غير ذلك من الصفات الحميدة ، بخلاف ما يقبله الطبع فهو موصوف به.

وقد أشار إلى ذلك في غير واحد من الآيات أيضاً ، قال : ( وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (2) وقال : ( لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (3) ، فالأمثال منها دانية ومنها عالية فإنّما يثبت له العالي بل الأعلى (4).

ومنه يعلم أنّ الأمثال إذا كان جمع مثْل - بالسكون - فاللّه سبحانه منزّه من المثْل والأمثال ، وأمّا إذا كان جمع مثَل - بالفتح - بمعنى الوصف الذي يحمد به سبحانه ، فله الأمثال العليا ، والأسماء الحسنى كما مرّ.

ص: 9


1- الكهف : 49.
2- الروم : 27.
3- طه : 8.
4- لاحظ : الميزان : 12 / 249.

الثاني : المَثَلْ في الاصطلاح

المَثَلُ : قسم من الحكم ، يرد في واقعة لمناسبة اقتضت وروده فيها ، ثمّ يتداولها الناس في غير واحد من الوقائع التي تشابهها دون أدنى تغيير لما فيه من وجازة وغرابة ودقة في التصوير.

فالكلمة الحكيمة على قسمين : سائر منتشر بين الناس ودارج على الألسن فهو المثل ، وإلا فهي كلمة حكيمة لها قيمتها الخاصة وإن لم تكن سائرة. فما ربما يقال : « المثل السائر » فالوصف قيد توضيحي لا احترازي ، لأنّ الانتشار والتداول داخل في مفهوم المثل ، ويظهر ذلك من أبي هلال العسكري ( المتوفّى حوالي 400 ه ) ، حيث قال : جعل كل حكمة سائرة ، مَثَلاً ، وقد يأتى القائل بما يحسن من الكلام أن يتمثل به إلاّ انّه لا يتفق أن يسير فلا يكون مَثَلاً (1).

وكلامه هذا ينم « انّ الشيوع والانتشار وكثرة الدوران على الألسن هو الفارق بين الحكمة والمثل ، فالقول الصائب الصادر عن تجربة يسمّى حكمة إذا لم يتداول ، ومثلاً إذا كثر استعماله وشاع أداوَه في المناسبات المختلفة ».

ولأجل ذلك يقول الشاعر :

ما أنت إلا مثل سائر *** يعرفه الجاهل والخابر

وأمّا تسمية ذلك الشيء بالمثال ، فهو لأجل المناسبة والمشابهة بين الموردين على وجه يُصبح مثالاً لكل ما هو على غراره.

ص: 10


1- جمهرة أمثال العرب : 1 / 5.

قال ابن السكيت ( المتوفّى عام 244 ه ) : المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له ، ويوافق معناه معنى ذلك اللفظ ، شبّهوه بالمثال الذي يعمل عليه غيره (1).

وبما انّ وجه الشبه والمناسبة التي صارت سبباً لإلقاء هذه الحكمة غير مختصة بمورد دون مورد ، وإن وردت في مورد خاص يكون المثل آية وعلامة أو علماً للمناسبة الجامعة بين مصاديق مختلفة.

يقول المبرّد : فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأوّل ، كقول كعب بن زهير :

كانت مواعيد عرقوب لها مَثَلاً *** وما مواعيدها إلاّ الأباطيل

فمواعيد عرقوب علم لكل ما لا يصح من المواعيد (2).

وعلى ذلك فالمثل السائر كقوله : « في الصيف ضيعتِ اللبن » علم لكل من ضيَّع الفرصة وأهدرها ، كما أن قول الرسول صلی اللّه علیه و آله : « لا ينتطح فيها عنزان » علم لكلّ أمر ليس له شأن يعتد به (3).

كما أنّ قول أبى الشهداء الحسين بن على علیهماالسلام : « لو ترك القطا ليلاً لنام » الذي تمثل به الإمام علیه السلام في جواب أُخته زينب علیهاالسلام ، علم لكل من لا يُترك بحال أو من حُمل على مكروه من غير إرادة ، إلى غير ذلك من الأمثال الدارجة.

ص: 11


1- مجمع الأمثال : 1 / 6.
2- مجمع الأمثال : 1 / 6.
3- مجمع الأمثال : 2 / 225.

الثالث : فوائد الأمثال السائرة

اشارة

ذكر غير واحد من الاَُدباء فوائد جمة للمثل السائر :

1. قال ابن المقفّع ( المتوفّى عام 143 ه ) : إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق ، وآنق للسمع ، وأوسع لشعوب الحديث.

2. وقال إبراهيم النظام ( المتوفّى عام 231 ه ) : يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام : إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، فهو نهاية البلاغة.

وقال غيرهما : سميت الحِكَم القائم صدقها في العقول أمثالاً ، لانتصاب صورها في العقول مشتقة من المثول الذي هو الانتصاب (1).

وقد نقل ابن قيم الجوزية ( المتوفّى عام 751 ه ) كلام النظام بشكل كامل ، وقال :

وقد ضرب اللّه ورسوله الأمثال للناس لتقريب المراد وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع ، وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثّل به فقد يكون أقرب إلى تعقّله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره ، فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير.

ففي الأمثال من تأنس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره ، وكلّما ظهرت الأمثال ازداد المعنى ظهوراً ووضوحاً ، فالأمثال شواهد المعنى المراد ، وهي خاصية العقل ولبّه وثمرته (2).

ص: 12


1- مجمع الأمثال : 1 / 6.
2- أعلام الموقعين : 1 / 291. وما ذكره من الفائدة مشترك بين المثل السائر الذي هو موضوع كلامنا ، والتمثيل الذي شاع في القرآن ، وسيوافيك الفرق بين المثل السائر والتمثيل.

وقال عبد القاهر الجرجاني ( المتوفّى عام 471 ه ) : اعلم أنّ مما اتّفق العقلاء عليه انّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني ، أو أُبرزت هي باختصار في معرضه ، ونُقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أُبّهة ، وكسبها منقبة ، ورفع من أقدارها ، وشبّ من نارها ، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها ، ودعا القلوب إليها ، واستثار من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفاً ، وقسر الطّباع على أن تُعطيها محبة وشغفاً.

فإن كان ذمّاً : كان مسه أوجع ، وميسمه ألذع ، ووقعه أشدّ ، وحدّه أحد.

وإن كان حجاجاً : كان برهانه أنور ، وسلطانه أقهر ، وبيانه أبهر.

وإن كان افتخاراً : كان شأوه أمدّ ، وشرفه أجد (1) ، ولسانه ألد.

وإن كان اعتذاراً : كان إلى القبول أقرب ، وللقلوب أخلب ، وللسخائم أسلّ ، ولغَرْب الغضب أفلّ ، وفي عُقد العقود أنفث ، وحسن الرجوع أبعث.

وإن كان وعظاً : كان أشفى للصدر ، وأدعى إلى الفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، وأجدر أن يجلى الغياية (2) ويُبصّر الغاية ، ويبرئ العليل ، ويشفي الغليل (3).

4. وقال أبو السعود ( المتوفّى عام 982 ه ) : إنّ التمثيل ليس إلاّ إبراز المعنى المقصود في معرض الأمر المشهور ، وتحلية المعقول بحلية المحسوس ، وتصوير أوابد المعاني بهيئة المأنوس ، لاستمالة الوهم واستنزاله عن معارضته للعقل ، واستعصائه عليه في إدراك الحقائق الخفيّة ، وفهم الدّقائق الأبيّة ؛ كي يتابعه فيما يقتضيه ،

ص: 13


1- من الجد : الحظ ، يقال : هو أجدّ منك ، أي أحظ.
2- الغياية : كل ما أظلك من فوق رأسك.
3- أسرار البلاغة : 101 - 102.

ويشايعه إلى ما لا يرتضيه ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية والكلمات النبوية ، وذاعت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء.

إن التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه ، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبيّ ، وقمع سورة الجامح الابيّ ، كيف لا ، وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية ، وإبرازها لها في معرض المحسوسات الجلية ، وإبداء للمنكر في صورة المعروف ، وإظهار للوحشي في هيئة المألوف (1).

ولعلّ في هذه الكلمات غنى وكفاية فلا نطيل الكلام ، غير انّه يجب التنبيه على نكتة ، وهي ان السيوطي نقل في « المزهر » عن أبي عبيد انّه قال :

الأمثال حكمة العرب في الجاهلية والإسلام وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في المنطق بكناية (2).

ولا يخفى انّ الأمثال ليست من خصائص العرب فحسب ، بل لكلّ قوم أمثال وحكم يقرِّبون بها مقاصدهم إلى إفهام المخاطبين ويبلغون بها حاجاتهم ، وربما يشترك مَثَلٌ واحد بين أقوام مختلفة ، ويصبح من الأمثال العالمية ، وربما تبلغ روعة المثل بمكان يقف الشاعر أمامه مبهوراً فيصب مضمونه في قالب شعري.

روى الطبري عن مهلب بن أبي صفرة ، قال : دعا المهلَّب حبيباً ومن حضره من ولده ، ودعا بسهام فحزمت ، وقال : أترونكم كاسريها مجتمعة ؟ قالوا : لا ، قال : أفترونكم كاسريها متفرقة ؟ قالوا : نعم ، قال : فهكذا الجماعة (3).

وليس المهلب أوّل من ساق هذا المثل على لسانه ، فقد سبقه غيره إليه.

ص: 14


1- هامش تفسير الفخر الرازي : 1 / 156 ، المطبعة الخيرية ، ط الأولى ، مصر - 1308 ه.
2- المزهر : 1 / 288.
3- تاريخ الطبري : حوادث سنة 82 ه.

روى أبو هلال العسكري في جمهرته ، عن قيس بن عاصم التميمى ( المتوفّى عام 20 ه ) الأبيات التالية التي تعرب بأنّ المثل صبّ في قالب الشعر أيضاً :

بصلاح ذات البين طول بقائكم *** ان مُدّ في عمري وإن لم يُمدد

حتى تلين قلوبكم وجلودكم *** لمسوّد منكم وغير مسوّد

انّ القداح إذا جمعن فرامها *** بالكسر ذو حنق وبطش باليد

عزّت فلم تكسر وإن هي بددت *** فالوهن والتكسير للمتبدّد (1)

وقد نقل المسعودي في ترجمة عبد الملك بن مروان ، وقال :

كان الوليد متحنّناً على إخوته ، مراعياً سائر ما أوصاه به عبد الملك ، وكان كثير الإنشاد لأبيات قالها عبد الملك حين كتب وصيته ، منها :

انفوا الضغائن عنكم وعليكم *** عند المغيب وفي حضور المشهد

انّ القداح إذا اجتمعن فرامها *** بالكسر ذو حنق وبطش باليد

عزّت فلم تكسر وإن هي بُددت *** فالوهن والتكسير للمتبدّد (2)

ص: 15


1- جمهرة الأمثال : 1 / 48.
2- مروج الذهب : أخبار الوليد بن عبد الملك.
الكتب المؤلّفة في الأمثال العربية

وقد أُلّفت في الأمثال العربية قديمها وحديثها كتباً كثيرة ، وأجمع كتاب في هذا المضمار هو ما ألّفه أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الميداني ( المتوفّى عام 518 ه ) وأسماه ب « مجمع الأمثال » لإحتوائه على عظيم ما ورد منها وهي ستة آلاف ونيف (1).

الرابع : الأمثال القرآنية

دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية على أنّ القرآن مشتمل على الأمثال ، وانّه سبحانه ضرب بها مثلاً للناس للتفكير والعبرة ، قال سبحانه : ( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (2).

إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على وجود الأمثال في القرآن ، وانّ الروح الأمين نزل بها ، وكان مَثَلاً حين النزول على قلب سيد المرسلين ، هذا هو المستفاد من الآيات.

ومن جانب آخر انّ المثل عبارة عن كلام أُلْقيَ في واقعة لمناسبة اقتضت إلقاء ذلك الكلام ، ثمّ تداولت عبر الزمان في الوقائع التي هي على غرارها ، كما هو الحال في عامة الأمثال العالمية.

ص: 16


1- مجمع الأمثال : 1 / 5.
2- الحشر : 21.

وعلى هذا فالمثل بهذا المعنى غير موجود في القرآن الكريم ، لما ذكرنا من أنّ قوام الأمثال هو تداولها على الألسن وسريانها بين الشعوب ، وهذه الميزة غير متوفرة في الآيات القرآنية.

كيف وقد أسماه سبحانه مثلاً عند النزول قبل أن يعيها النبي صلی اللّه علیه و آله ويقرأها للناس ويدور على الألسن ، فلا مناص من تفسير المثل في القرآن بمعنى آخر ، وهو التمثيل القياسي الذي تعرّض إليه علماء البلاغة في علم البيان وهو قائم بالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز ، وقد سمّاه القزويني « في تلخيص المفتاح » المجاز المركب وقال :

إنّه اللفظ المركب المستعمل فيما شُبِّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه ، ثمّ مثل بما كتب يزيد بن وليد إلى مروان بن محمد حين تلكأ عن بيعته : أمّا بعد ، فإنّي أراك تقدّم رجلاً وتؤخّر أُخرى ، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّهما شئت ، والسلام (1).

فلهذا التمثيل من المكانة ما ليس له لو قصد المعنى بلفظه الخاص ، حتى أنّه لو قال مثلاً : بلغنى تلكّؤك عن بيعتى ، فإذا أتاك كتابي هذا فبايع أو لا ، لم يكن لهذا اللفظ من المعنى بالتمثيل ، ما لهذا.

فعامة ما ورد في القرآن الكريم من الأمثال فهو من قبيل التمثيل لا المثال المصطلح.

ثمّ إنّ الفرق بين التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز أمر واضح لا حاجة لإطناب الكلام فيه ، وقد بيّنه علماء البلاغة في علم البيان ، كما طرحه أخيراً علماء

ص: 17


1- الإيضاح : 304 ؛ التلخيص : 322.

الأصول في مباحث الألفاظ ، ولأجل ذلك نضرب الصفح عنه ونحيل القارئ الكريم إلى الكتب المدونة في هذا المضمار.

ويظهر من بعضهم انّ التمثيل من معاني المثل ، قال الآلوسي : المثل مأخوذ من المثول - وهو الانتصاب - ومنه الحديث « من أحبّ أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوّأ مقعده من النار » ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إمّا على تشبيه بلا شبيه أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها ، أو حكمة وموعظة نافعة ، أو كناية بديعة أو نظم من جوامع الكلم الموجز (1).

ولولا قوله « الشائع » لانطبقت العبارة على التمثيل القياسي.

«وقد امتازت صيغة المثل القرآني بأنّها لم تنقل عن حادثة معينة ، أو واقعة متخيلة ، أُعيدت مكرورة تمثيلاً ، وضرب موردها تنظيراً ، وإنّما ابتدع المثل القرآني ابتداعاً دون حذو احتذاه ، وبلا مورد سبقه فهو تعبير فني جديد ابتكره القرآن حتى عاد صبغة متفردة في الأداء والتركيب والإشارة ».

« وعلى هذا فالمثل في القرآن الكريم ليس من قبيل المثل الاصطلاحي ، أو من سنخ ما يعادله لفظاً ومعنى ، الفقر بالأمثال بمضمونه ، بل هو نوع آخر أسماه القرآن مثلاً من قبل أن نعرف علوم الأدب « المثل » ، ومن قبل أن تسمّي به نوعاً من الكلام المنثور وتضعه مصطلحاً له. بل من قبل أن يعرف الأدباء « المثل » بتعريفهم » (2).

ص: 18


1- روح المعاني : 1 / 163.
2- الصورة الفنية في المثل القرآني : 72 ، نقلاً عن كتاب المثل لمنير القاضي.

الخامس : أقسام التمثيل

قد عرفت أنّ التمثيل عبارة عن إعطاء منزلة شيء لشيء عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو المجاز أو غير ذلك ، فهو على أقسام :

1. التمثيل الرمزي : وهو ما ينقل عن لسان الطيور والنباتات والأحجار بصورة الرمز والتعمية ويكون كناية عن معاني دقيقة ، وهذا النوع من التمثيل يعج به كتاب « كليلة ودمنة » لابن المقفع ، وقد استخدم هذا الأسلوب الشاعر العارف العطار النيشابوري في كتابه « منطق الطير ».

ويظهر من الكتاب الأوّل انّه كان رائجاً في العهود الغابرة قبل الإسلام ، وقد ذكر المؤرّخون انّ طبيباً إيرانياً يدعى « برزويه » وقف على كتاب « كليلة ودمنة » في الهند مكتوباً باللغة السنسكريتية ونقلها إلى اللغة البهلوية ، وأهداه إلى بلاط أنوشيروان الساساني ، وقد كان الكتاب محفوظاً بلغته البهلوية إلى أن وقف عليه عبد اللّه بن المقفع ( 106 - 143 ه ) فنقله إلى اللغة العربية ، ثمّ نقله الكاتب المعروف نصر اللّه بن محمد بن عبد الحميد في القرن السادس إلى اللغة الفارسية وهو الدارج اليوم في الأوساط العلمية.

نعم نقله الكاتب حسين واعظ الكاشفي إلى الفارسية أيضاً في القرن التاسع ومن حسن الحظ توفر كلتا الترجمتين.

وقام الشاعر « رودكي » بنظم ، ما ترجمه ابن المقفع ، باللغة الفارسية.

ويظهر من غير واحد من معاجم التاريخ انّه تطرق بعض ما في هذا الكتاب من الأمثلة إلى الأوساط العربية في عصر الرسالة أوبعده ، وقد نقل انّ عليّاً علیه السلام قال : « إنّما أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض » وهو من أمثال ذلك الكتاب.

ص: 19

وهناك محاولة تروم إلى أنّ القصص القرآنية كلّها من هذا القبيل أي رمز لحقائق علوية دون أن يكون لها واقعية وراء الذهن ، وبذلك يفسرون قصة آدم مع الشيطان ، وغلبة الشيطان عليه ، أو قصة هابيل وقابيل وقتل قابيل أخاه ، أو تكلم النملة مع سليمان علیه السلام ، وغيرها من القصص ، وهذه المحاولة تضادّ صريح القرآن الكريم ، فانّه يصرّح بأنّها قصص تحكي عن حقائق غيبيّة لم يكن يعرفها النبي صلی اللّه علیه و آله ولا غيره ، قال سبحانه : ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (1).

فالآية صريحة في أنّ ما جاء في القصص ليس أمراً مفترىً ، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ القرآن بأجمعه هو الحقّ الذي لا يدانيه الباطل.

2. التمثيل القصصي : وهو بيان أحوال الأُمم الماضية بغية أخذ العبر للتشابه الموجود. يقول سبحانه : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) . (2)

والقصص الواردة في أحوال الأمم الغابرة التي يعبر عنها بقصص القرآن ، هي تشبيه مصرّح ، وتشبيه كامن والغاية هي أخذ العبرة.

3. التمثيل الطبيعي : وهو عبارة عن تشبيه غير الملموس بالملموس ، والمتوهم بالمشاهد ، شريطة أن يكون المشبه به من الأمور التكوينية ، قال سبحانه : ( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا

ص: 20


1- يوسف : 111.
2- التحريم : 10.

يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).

والأمثال القرآنية تدور بين كونها تمثيلاً قصصيّاً ، أو تمثيلاً طبيعيّاً كونيّاً. وأمّا التمثيل الرمزي فإنّما يقول به أهل التأويل.

السادس : الأمثال القرآنية في الأحاديث

إنّ الأمثال القرآنية بما أنّها مواعظ وعبر قد ورد الحث على التدبر فيها عن أئمّة أهل البيت علیهماالسلام ، ننقل منها ما يلي :

1. قال أمير المؤمنين علي علیه السلام : « قد جرّبتم الأمور وضرستموها ، ووُعظتم بمن كان قبلكم ، وضُربت الأمثال لكم ، ودعيتم إلى الأمر الواضح ، فلا يصمّ عن ذلك إلا أصمّ ، ولا يعمى عن ذلك إلا أعمى ، ومَن لم ينفعه اللّه بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشيء من العظة » (2).

2. وقال علیه السلام : « كتاب ربّكم فيكم ، مبيّناً حلاله وحرامه ، وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ، ورخصه وعزائمه ، وخاصّه وعامّه ، وعبره وأمثاله » (3).

3. قال أمير المؤمنين علیه السلام : « نزل القرآن أرباعاً : ربع فينا ، وربع في عدونا ، وربع سنن وأمثال ، وربع فرائض وأحكام » (4).

ص: 21


1- يونس : 24.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 176.
3- نهج البلاغة : الخطبة 81.
4- بحار الأنوار : 24 / 305 ح 1 ، باب جوامع تأويل ما نزل فيهم علیهم السلام .

4. روى الإمام الصادق علیه السلام عن جده أمير المؤمنين علي علیه السلام أنّه قال لقاض « هل تعرف الناسخ من المنسوخ ؟ » ، قال : لا ، قال : « فهل أشرفت على مراد اللّه عزّ وجل في أمثال القرآن ؟ » ، قال : لا ، قال : « إذاً هلكت وأهلكت ». والمفتي يحتاج إلى معرفة معاني القرآن وحقائق السنن وبواطن الإشارات والآداب والإجماع والاختلاف والاطّلاع على أُصول ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه ، ثم حسن الاختيار ، ثم العمل الصالح ، ثم الحكمة ، ثم التقوى ، ثم حينئذٍ إن قدر (1).

5. قال أمير المؤمنين علي علیه السلام : « سمّوهم بأحسن أمثال القرآن ، يعنى : عترة النبي صلی اللّه علیه و آله ، هذا عذب فرات فاشربوا ، وهذا ملح أُجاج فاجتنبوا » (2).

6. وقال علي بن الحسين علیهماالسلام في دعائه عند ختم القرآن :

« اللّهمّ انّك أعنتنى على ختم كتابك الذي أنزلته نوراً وجعلته مهيمناً على كل كتاب أنزلته - إلى أن قال : - اللّهم اجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً ، ومن نزعات الشيطان وخطرات الوساوس حارساً ، ولأقْدامِنا عن نقلها إلى المعاصي حابساً ، ولألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرساً ، ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً ، ولما طوت الغفلة عنّا من تصفح الاعتبار ناشراً ، حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه وزواجر أمثاله التي ضعفت الجبال الرواسي على صلابتها عن احتماله » (3).

7. وقال علي بن الحسين علیهماالسلام في مواعظه : « فاتّقوا اللّه عباد اللّه ، واعلموا أنّ اللّه عزّ وجلّ لم يحب زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها ، وإنّما خلق الدُّنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيّهم

ص: 22


1- بحار الأنوار : 2 / 121 ح 34 ، باب النهى عن القول بغير علم من كتاب العلم.
2- بحار الأنوار : 92 / 116 ، الباب 12 من كتاب القرآن.
3- الصحيفة السجادية : من دعائه علیه السلام عند ختم القرآن.

أحسن عملاً لآخرته ، وأيم اللّه لقد ضرب لكم فيه الأمثال وصرّف الآيات لقوم يعقلون ولا قوّة إلاّ باللّه » (1).

8. وقال الإمام الباقر علیه السلام لأخيه زيد بن علي : « هل تعرف يا أخى من نفسك شيئاً مما نسبتها إليه فتجيئ عليه بشاهد من كتاب اللّه ، أو حجّة من رسول اللّه ، أو تضرب به مثلاً ، فانّ اللّه عز وجلّ أحلَّ حلالاً وحرّم حراماً ، فرض فرائض ، وضرب أمثالاً ، وسنَّ سنناً » (2).

9. روي الكليني عن إسحاق بن جرير ، قال : سألتني امرأة أن استأذن لها على أبي عبد اللّه علیه السلام فأذن لها ، فدخلت ومعها مولاة لها ، فقالت : يا أبا عبد اللّه قول اللّه عزّ وجلّ : ( زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ) (3) ما عنى بهذا ؟ فقال : « أيّتها المرأة إنّ اللّه لم يضرب الأمثال للشجر إنّما ضرب الأمثال لبني آدم » (4).

10. روى داود بن كثير عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « يا داود إنّ اللّه خلقنا فأكرم خلقنا وفضلنا وجعلنا أُمناءه وحفظته وخزّانه على ما في السماوات وما في الأرض ، وجعل لنا أضداداً وأعداءً ، فسمّانا في كتابه وكنّى عن أسمائنا بأحسن الأسماء وأحبها إليه ، وسمّى أضدادنا وأعداءنا في كتابه وكنّى عن أسمائهم وضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه ... » (5).

هذه عشرة كاملة من كلمات أئمّتنا المعصومين حول أمثال القرآن.

* * *

ص: 23


1- الكافي : 8 / 75.
2- بحار الأنوار : 46 / 204 ، الباب 11.
3- النور : 35.
4- الكافي : 5 / 551 ، الحديث 2 ، باب السحق من كتاب النكاح.
5- البحار : 24 / 303 ، الحديث 14.

وقد حازت الأمثال القرآنية على اهتمام المفكرين ، فذكروا حولها كلمات تعرب عن أهمية الأمثال ومكانتها في القرآن :

1. قال حمزة بن الحسن الاصبهاني ( المتوفّى عام 351 ه ) : لضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء النظائر ، شأن ليس بالخفي في إبراز خفيّات الدقائق ورفع الأستار عن الحقائق ، تريك المتخيَّل في صورة المتحقق ، والمتوهَّم في معرض المتيقن ، والغائب كأنّه مشاهد ، وفي ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة ، وقمع لسورة الجامح الابيّ ، فانّه يؤثر في القلوب ما لا يؤثِّر وصف الشيء في نفسه ولذلك أكثر اللّه تعالى في كتابه وفي سائر كتبه الأمثال ، ومن سور الإنجيل سورة تسمّى سورة الأمثال وفشت في كلام النبي صلی اللّه علیه و آله وكلام الأنبياء والحكماء (1).

2. قال الإمام أبو الحسن الماوردي ( المتوفّى عام 450 ه ) : من أعظم علم القرآن علم أمثاله ، والنّاس في غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال ، وإغفالهم الممثَّلات ، والمثل بلا ممثَّل كالفرس بلا لجام والناقة بلا زمام (2).

3.قال الزمخشري ( المتوفّى عام 538 ه ) في تفسير قوله سبحانه : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) (3) : وضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر ، إلى آخر ما نقلناه عن الاصبهاني (4).

4. وقال الرازي ( المتوفّى عام 606 ه ) : « إن المقصود من ضرب الأمثال انّها

ص: 24


1- الدرّة الفاخرة في الأمثال السائرة : 1 / 59 - 60 والعجب أن هذا النص برمّته موجود في الكشّاف في تفسير قوله سبحانه : ( فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ( انظر الكشّاف : 1 / 149 ).
2- الإتقان في علوم القرآن : 2 / 1041.
3- البقرة : 17.
4- الكشّاف : 1 / 72.

تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، وذلك لأنّ الغرض في المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والغائب بالشاهد ، فيتأكد الوقوف على ماهيته ، ويصير الحس مطابقاً للعقل ، وذلك في نهاية الإيضاح ، ألا ترى أنّ الترغيب إذا وقع في الإيمان مجرّداً عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مُثِّل بالنور ، وإذا زهد في الكفر بمجرّد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول ، كما يتأكد إذا مثل بالظلمة ، وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الإخبار بضعفه مجرّداً ، ولهذا أكثر اللّه تعالى في كتابه المبين ، وفي سائر كتبه أمثاله ، قال تعالى : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ) (1). (2)

5. وقال الشيخ عز الدين عبد السلام ( المتوفّى عام 660 ه ) : إنّما ضرب اللّه الأمثال في القرآن ، تذكيراً ووعظاً ، فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب ، أو على إحباط عمل ، أو على مدح أو ذم أو نحوه ، فإنّه يدل على الاحكام (3).

6. وقال الزركشي ( المتوفّى عام 794 ه ) : وفي ضرب الأمثال من تقرير المقصود ما لا يخفى ، إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والشاهد بالغائب ، فالمرغب في الإيمان مثلاً ، إذا مثّل له بالنور تأكّد في قلبه المقصود ، والمزهَّد في الكفر إذا مثل له بالظلمة تأكد قبحه في نفسه وفيه أيضاً تبكيت الخصم ، وقد أكثر اللّه تعالى في القرآن ، وفي سائر كتبه من الأمثال (4).

لكن يرد على ما ذكره الزمخشري والرازي والزركشي أنّ ما ذكروه راجع إلى

ص: 25


1- العنكبوت : 43.
2- مفاتيح الغيب : 2 / 72 - 73.
3- الإتقان في علوم القرآن : 2 / 1041.
4- البرهان في علوم القرآن : 1 / 488.

نفس الأمثال لا إلى الضرب بها ، فانّ الأمثال شيء وضرب الأمثال شيء آخر ، لأنّ إبراز المتخيل بصورة المحقّق ، والمتوهم في معرض المتيقن ، ليس من مهمة ضرب الأمثال ، وإنّما هي مهمة نفس الأمثال ، « وذلك انّ المعاني الكلية تعرض للذهن مجملة مبهمة ، فيصعب عليه أن يحيط بها وينفذ فيها فيستخرج سرّها ، والمثل هو الذي يفصّل إجمالها ، ويوضّح إبهامها ، فهو ميزان البلاغة وقسطاسها ومشكاة الهداية ونبراسها » (1).

السابع : الكتب المؤلفة في الأمثال القرآنية

ولأجل هذه الأهمية التي حازتها الأمثال القرآنية ، قام غير واحد من علماء الإسلام القدامى منهم والجدد ، بتأليف رسائل وكتب حول الأمثال القرآنية نذكر منها ما وقفنا عليه :

1. « أمثال القرآن » للجنيد بن محمد القواريري ( المتوفّى سنة 298 ه ).

2. « أمثال القرآن » لإبراهيم بن محمد بن عرفة بن مغيرة المعروف بنفطويه ( المتوفّى سنة 323 ه ).

3. « الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة » لحمزة بن الحسن الاصبهاني ( المتوفّى 351 ه ).

4. « أمثال القرآن » لأبي علي محمد بن أحمد بن الجنيد الاسكافي ( المتوفّى عام 381 ه ).

5. « أمثال القرآن » للشيخ أبي عبد الرحمن محمد بن حسين السلمي النيسابوري ( المتوفّى عام 412 ه ).

ص: 26


1- تفسير المنار : 1 / 237.

6. « الأمثال القرآنية » للإمام أبي الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردي الشافعي ( المتوفّى سنة 450 ه ).

7. « أمثال القرآن » للشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ( المتوفّى سنة 754 ه ). وقد طبعت مؤخّراً.

8. « الأمثال القرآنية » لعبد الرحمن حسن حنبكة الميداني.

9. « أمثال القرآن » للمولى أحمد بن عبد اللّه الكوزكناني التبريزي ( المتوفّى عام 1327 ه ). المطبوعة على الحجر في تبريز عام 1324 ه.

10. « أمثال القرآن » للدكتور محمود بن الشريف.

11. « الأمثال في القرآن الكريم » للدكتور محمد جابر الفياضي. وقد طبعت مؤخّراً.

12. « الصورة الفنية في المثل القرآني » للدكتور محمد حسين علي الصغير. وقد طبعت مؤخّراً.

13. « أمثال قرآن » ( بالفارسية ) لعلي أصغر حكمت. وقد طبعت مؤخّراً.

14. « تفسير أمثال القرآن » ( بالفارسية ) للدكتور إسماعيل إسماعيلي. وقد طبعت مؤخّراً.

الثامن : تقسيم الأمثال القرآنية إلى الصريح والكامن

اشارة

ذكر بدر الدين الزركشي ان الأمثال على قسمين : ظاهر وهو المصرّح به ، وكامن وهو الذي لا ذكر للمثل فيه وحكمه حكم الأمثال (1).

وقد نقل السيوطي ذلك النص بنفسه وحاول تفسير المثل الكامن ، وقال ما .

ص: 27


1- البرهان في علوم القرآن : 1 / 571.

هذا نصّه : فمن أمثلة الأوّل ، قوله تعالى : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ... ) (1) ضرب فيها للمنافقين مثلين : مثلاً بالنار ومثلاً بالمطر - ثمّ قال - : وأما الكامنة : فقال الماوردي : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم ، يقول : سمعت أبي يقول : سألت الحسين بن فضل ، فقلت : إنّك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن ، فهل تجد في كتاب اللّه : « خير الأُمور أوسطها » ؟ قال : نعم في أربعة مواضع :

قوله تعالى : ( لاَّ فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ) (2).

وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) (3).

وقوله تعالى : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) (4).

وقوله تعالى : ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ) (5).

قلت : فهل تجد في كتاب اللّه «من جهل شيئاً عاداه » ؟ قال : نعم ، في موضعين :

( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ) (6).

ص: 28


1- البقرة : 17 - 20.
2- البقرة : 68.
3- الفرقان : 67.
4- الإسراء : 29.
5- الإسراء : 110.
6- يونس : 39.

( وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ) (1).

قلت : فهل تجد في كتاب اللّه « احذر شر من أحسنت إليه » ؟ قال : نعم.

( وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (2).

قلت : فهل تجد في كتاب اللّه « ليس الخبر كالعيان » ؟ قال : في قوله تعالى : ( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (3).

قلت : فهل تجد « في الحركات البركات » ؟ قال : في قوله تعالى : ( وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ) (4).

قلت : فهل تجد « كما تدين تدان » ؟ قال : في قوله تعالى : ( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) (5).

قلت : فهل تجد فيه قولهم « حين تَقْلي تدري » ؟ قال : ( وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) (6).

قلت : فهل تجد فيه : « لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين » ؟ قال : ( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ ) (7).

قلت : فهل تجد فيه « من أعان ظالماً سُلّط عليه » ؟ قال : ( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن

ص: 29


1- الأحقاف : 11.
2- التوبة : 74.
3- البقرة : 260.
4- النساء : 100.
5- النساء : 123.
6- الفرقان : 42.
7- يوسف : 64.

تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) (1).

قلت : فهل تجد فيه قولهم : « ولا تلد الحية إلا حيّة » ؟ قال : قوله تعالى : ( وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ) (2).

قلت : فهل تجد فيه : « للحيطان آذان » ؟ قال : ( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) (3).

قلت : فهل تجد فيه : « الجاهل مرزوق والعالم محروم » ؟ قال : ( مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ) (4).

قلت : فهل تجد فيه : « الحلال لا يأتيك إلا قوتاً ، والحرام لا يأتيك إلا جزافاً » ؟ قال : ( إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ) (5). (6)

وقد أخذ عليه « بأنّه لو حققْتَ النظر فيما أورده الماوردي ، لما وجدت مثلاً قرآنياً واحداً بالمعنى الذي يراد التعبير عنه بأنّه مثل كامن ، على أنّ الماوردي لم ينقل عن الحسين بن الفضل بأنّ متخيّره هذا مثل كامن ، ولا سمَّى الماوردي ذلك به ، وإنّما أورد رواية للمقارنة بما يمكن أن يعد أمثالاً من كلام العرب والعجم ، ووضع قائمة مختارة ازاءه من كتاب اللّه بما يبذ كلامهم ويعلو على أمثالهم.

فالتسمية إذن اختارها السيوطي متابعاً فيها الزركشي. وطبّق عليها هذه

ص: 30


1- الحج : 4.
2- نوح : 27.
3- التوبة : 47.
4- مريم : 75.
5- الأعراف : 163.
6- الإتقان في علوم القرآن : 2 / 1045 - 1046.

الأمثلة. فهي فيما عنده أمثال كامنة ولكنّه من الواضح أن هذه العبارات القرآنية لا تدخل في باب الأمثال ، فإن اشتمال العبارة على معنى ورد في مثل من الأمثال ، لا يكفي لإطلاق لفظ المثل على تلك العبارة ، فالصيغة الموروثة ركن أساس في المثل ، لذلك نرى أنّ اصطلاح العلماء على تسمية هذه العبارات القرآنية ( أمثالاً كامنة ) محاولة لا تستند على دليل نصّي ولا تاريخي (1).

تفسير آخر للمثل الكامن :

ويمكن تفسير المثل الكامن بالتمثيلات التي وردت في الذكر الحكيم من دون أن يقترن بكلمة « مثل » أو « كاف » التشبيه ، ولكنّه في الواقع تمثيل رائع لحقيقة عقلية بعيدة عن الحسن المجسّد بما في التمثيل من الأمر المحسوس ، ومن هذا الباب قوله سبحانه :

1. ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (2).

انّه سبحانه شبَّه بنيانهم على نار جهنم بالبناء على جانب نهر هذا صفته ، فكما أنّ من بنى على جانب هذا النهر فانّه ينهار بناءه في الماء ولا يثبت ، فكذلك بناء هؤلاء ينهار ويسقط في نار جهنم ، فالآية تدلّ على أنّه لا يستوي عمل المتقي وعمل المنافق ، فإنّ عمل المؤمن المتقي ثابت مستقيم مبني على أصل صحيح ثابت ، وعمل المنافق ليس بثابت وهو واه ساقط (3).

ص: 31


1- الصورة الفنية في المثل القرآني : 118 ، نقلاً عن كتاب « الأمثال في النثر العربي القديم ».
2- التوبة : 109.
3- مجمع البيان : 3 / 73.

2. ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ ) (1).

كانت العرب تمثّل للشيء البعيد المنال ، بقولهم : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ، وحتى يبيض القار ، إلى غير ذلك من الأمثال.

يقول الشاعر :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي *** وصار القار كاللبن الحليب

ولكنّه سبحانه مثل لاستحالة دخول الكافر الجنة بأنّهم يدخلون لو دخل الجمل في ثقب الإبرة ، وقال : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ، معبراً عن كونهم لا يدخلون الجنة أبداً.

ففي الآية تمثيل وليس لها من لفظ المثل وحرف التشبيه أثر.

3. ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) (2).

إنّ هذا مثل ضربه اللّه تعالى للمؤمن والكافر فأخبر بأنّ الأرض كلّها جنس واحد ، إلا أنّ منها طيّبة تلين بالمطر ، ويحسن نباتها ويكثر ريعها ، ومنها سبخة لا تنبت شيئاً ، فإن أنبتت فممّا لا منفعة فيه ، وكذلك القلوب كلّها لحم ودم ثمّ منها لين يقبل الوعظ ومنها قاس جاف لا يقبل الوعظ ، فليشكر اللّه تعالى من لانَ قلبه بذكره (3).

ص: 32


1- الأعراف : 40.
2- الأعراف : 58.
3- مجمع البيان : 2 / 432.

وفي ذيل الآية ( كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ) إلمام إلى كونه تمثيلاً ، كما في الآية التالية.

4. قال سبحانه : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) (1).

أخرج البخاري عن ابن عباس ، قال : قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله فيمن ترون هذه الآية نزلت ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) ؟

قالوا : اللّه أعلم ، فغضب عمر ، وقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء ، فقال : يابن أخي : قل ولا تحقِّر نفسك ، قال ابن عباس : ضربت مثلاً لعملٍ ، قال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس : لرجل غني عمل بطاعة اللّه ، ثم بعث اللّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله (2).

وحصيلة البحث : انّ التمثيل الوارد في القرآن الكريم ، تارة يقترن بكلمة المثل ، وأُخرى يقترن به مع لفظ الضرب حيث اختار سبحانه مادة الضرب لقسم كبير من أمثال القرآن ، وثالثة بحرف كاف التشبيه ، ورابعة بذكر مادة المثل بدون اقتران بواحد منهما مثل قوله : ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا ) (3).

ص: 33


1- البقرة : 266.
2- صحيح البخاري : التفسير : تفسير سور ة البقرة ، باب قوله : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ) رقم 4264.
3- الأعراف : 58.

التاسع : ما هو المراد من ضرب المثل ؟

قد استعمل الذكر الحكيم كلاً من لفظي « المَثَل » و « المِثْل » في غير واحد من سوره وآياته حتى ناهز استعمالهما ثمانين مرة ، إلاّ أنّ الثاني يزيد على الأوّل بواحد. والأمثال جمع لكليهما ويميّزان بالقرائن قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) (1) وهو في المقام ، جمع المِثْل لشهادة انّه يحكم على آلهتهم بأنّها مثلهم في الحاجة والإمكان.

وقال سبحانه : ( تِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (2).

فاقتران الأمثال بلفظ الضرب ، دليل على أنّه جمع مَثَل. إلاّ أنّ المهم هو دراسة معنى « الضرب » في هذا المورد ونظائره ، فكثيراً ما يقارن لفظ المثل لفظ الضرب ، يقول سبحانه : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً ) . (3) وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (4).

وقد اختلفت كلمتهم في تفسير لفظ « الضرب » في هذا المقام ، بعد اتّفاقهم على أنّه في اللغة بمعنى إيقاع شيء على شيء ، ويتعدّى باليد أو بالعصى أو بغيرهما من آلات الضرب ، قال سبحانه : ( أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ ) (5) وقد ذكروا وجوهاً :

الأوّل : انّ الضرب في هذه الموارد بمعنى المَثَل ، والمرا د هو التَمثيل ، وهو

ص: 34


1- الأعراف : 194.
2- الحشر : 21.
3- إبراهيم : 24.
4- الزمر : 27.
5- الأعراف : 160.

خيرة ابن منظور واستشهد بقوله : ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ ) (1) أي مثّل لهم مثلاً وهو حال أصحاب القرية ، وقال : ( يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ ) (2) أي يمثل اللّه الحقّ والباطل. (3) وهذا خيرة صاحب القاموس أيضاً.

الثاني : إنّ الضرب بمعنى الوصف والبيان ، وقد حُكي عن مقاتل بن سليمان ، وفسر به قوله سبحانه : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) (4).

واستشهد بقول الكميت :

وذلك ضرب أخماس اريدت *** لأسداس عسى أن لا تكونا (5)

الثالث : انّ الضرب بمعنى الاعتماد والتثبيت ، وهو خيرة الشيخ الطوسى (6) ( 385 - 460 ه ) ، والزمخشري ، (7) والآلوسى ، (8) ( المتوفّى عام 1270 ) فقد فسّروا به قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) (9).

الرابع : ان الضرب في المقام من باب الضرب في الأرض وقطع المسير ،

ص: 35


1- يس : 13
2- الرعد : 17.
3- لسان العرب : 2 / 37 ، مادة ضرب.
4- النحل : 75.
5- تفسير الطبرى : 1 / 175.
6- التبيان في تفسير القرآن : 7 / 302.
7- الكشّاف : 2 / 553.
8- روح المعاني : 1 / 206.
9- الحج : 73.

وضرب المثل عبارة عن جعله سائراً في البلاد كقولك : ضرب في الأرض إذا صار فيها ، ومنه سمي الضارب مضارباً (1).

فإذا كان الضرب بمعنى قطع الأرض وطيّها ، فضرب المثل عبارة عن جعله شيئاً سائراً بين الأقوام والشعوب يمشي ويسير حتى يستوعب القلوب.

وفي المقام كلمة لابن قيم ، يوضّح فيها أكثر هذه الاحتمالات :

ضرب اللّه سبحانه لعباده ، الأمثال ، وضرب الرسول صلی اللّه علیه و آله لأُمّته الأمثال ، وضرب الحكماء والعلماء والمؤدِّبون الأمثال ، فما معنى ضرب المثل ؟

قد يكون مشتقّاً من قولك ( ضرب في الأرض ) أي سار فيها.

فمعنى ضرب المثل جعله ينتشر ويذيع ويسير في البلاد. وإلى هذا ذهب أبو هلال في مقدمة كتابه (2).

وقد يكون معنى « ضرب المثل » نصبه للناس بإشهاره لتستدل عليه خواطرهم كما تستدل عيونهم على الأشياء المنصوبة. واشتقاقه حينئذٍ من قولهم : ( ضربت الخباء ) إذا نصبته.

وقوله تعالى : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ ) (3) أي ينصب منارهما ويوضح أعلامهما ليعرف المكلّفون الحق بعلاماته فيقصدوه ، ويعرفون الباطل فيجتنبوه ، كما قال الشريف الرضيّ ( 359 - 406 ه ) في كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن » :

ص: 36


1- الحكم والأمثال : 79.
2- انظر مقدمة كتاب جمهرة الأمثال.
3- الرعد : 17.

وقد يفهم من ضرب المثل صنعه وإنشاؤه ، فيكون مشتقاً من ضرب اللِّبْنِ وضرب الخاتم.

أو قد يكون من الضرب بمعنى : إبقاء شيء على شيء (1).

ومنه ضرب الدراهم : أي إيقاع النموذج الذي به الصّكُ على الدراهم لتنطبع به ، فكأنّ المثل مطابق للحالة ، أي للصفة التي جاء لإيضاحها ، وخلاصة القول : ضرب المثل مأخوذ : إمّا من :

1. ضرَب في الأرض بمعنى : سار.

2. ضربه : نصبه للناس وأشهره.

3. ضرب : صنع وأنشأ.

4. ضرب : إبقاء شيء على مثال شيء (2).

وبذلك يُعلم تفسير قوله سبحانه : ( ... وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) (3).

نرى أنّ المشركين وصفوا النبي صلی اللّه علیه و آله بكونه رجلاً مسحوراً ، فيردّ عليه سبحانه باستنكار ويقول : ( انظُرْ - أيّها النبي - كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ ) أي كيف وصفوك بأنّك مسحور مع أنّ سيرتك تشهد على خلاف ذلك ، وما تتلوا من الآيات كلامه سبحانه لا صلة له بالسحر وانّ ما يجدونه خلاَّباً للعقول وآخذاً بمجامع القلوب فإنّه هو لأجل عذوبته وجماله وإعجازه الخارق وأين هو من السحر ؟!

ص: 37


1- تلخيص البيان في مجازات القرآن : 107.
2- الأمثال في القرآن الكريم : 20 - 21.
3- الفرقان : 8 - 9.

وعلى ذلك فالمعنى المناسب لتفسير الآية ، هو تفسير الضرب بالوصف ، وقد تقدم انّ الوصف أحد معانيه ، وأقرّ به ابن منظور : ان انظر كيف وصفوك بكونك مسحوراً.

وأمّا تفسيره بالتمثيل بأن يقال : انظر كيف مثّلوا لك المثال أو التمثيل ، فغير تام ، لأنّ وصف النبي صلی اللّه علیه و آله بكونه « مسحوراً » ، لا مثَل سائر ، ولا تمثيل قياسي.

ونظيره تفسيره بقطع الأرض ، لأنّ المشركين ما وصفوه به ليشهّروه حتى يصير قولهم « سيراً في الأرض ».

العاشر : الأمثال القرآنية وانسجامها مع البيئة

لا شكّ انّ كلّ خطيب يتأثر بالظروف التي يعيش فيها ، وبسهولة يمكن فرز كلام المدني عن القروي ، وكلامهما عن كلام البدوي ، وما ذاك إلاّ لأنّ البيئة تُعدّ أحد الأضلاع الثلاثة التي تُكوِّن شخصية الإنسان ، ومن هذا الجانب أصبح بإمكان المحقّق الخبير بالتاريخ أن يميز الشعر الجاهلي عن الشعر في العصر الإسلامي ، والشعر في العصر الأموي عن الشعر في العصر العباسي ، وما هذا إلاّ نتيجة انعكاسات البيئة على التراث الأدبي ، ولكن القرآن بما انّه كلامه سبحانه قد تنزّه عن هذه الوصمة ، لأنّ اللّه سبحانه خالق كلّ شيء فهو منزَّه من أن يتأثر بشيء سواه.

ومع ذلك كلّه نزلت الأمثال القرآنية لهداية الناس ولذلك روعي فيها الغايات التي نزلت لأجلها ، فنجد ان الطابع المكي يعلو هامة الأمثال المكية ، والطابع المدني يعلو هامة الأمثال المدنية.

أمّا الأمثال المكية ، فكانت دائرة مدار معالجة الأدواء التي ابتلي بها المجتمع

ص: 38

المكى لا سيما وانّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يجادل المشركين ويسفِّه أحلامهم ويدعوهم إلى الإيمان باللّه وحده ، وترك عبادة غيره ، والإيمان باليوم الآخر ، ففي خِضمِّ هذا الصراع يأتي القرآن بأروع مثل ويشبّه آلهتهم المزعومة التي تمسّكوا بأهدابها ببيت العنكبوت الذي لا يظهر أدنى مقاومة أمام النسيم الهادئ ، وقطرات المطر ، وهبوب الرياح.

يقول سبحانه : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (1).

فقد شبّه آلهتهم التي اتخذوها حصوناً منيعة لأنفسهم بخيوط العنكبوت ، وبذلك صغّرهم وذلّلهم.

كما أنّه سبحانه في آية أُخرى شبّه آلهتهم بالذباب ، وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) (2).

فقد كانت قريش تعبد 360 إلهاً يطلونهم بالزعفران فيجف ، فيأتي الذباب فيختلسه فلا يقدرون عن الدفاع عن أنفسهم ، ففي هذا الصدد ، قال سبحانه : ( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) أي الذباب والمدعوّ.

فأي مثل أقرع من تشبيه آلهتهم بهذه الحشرة الحقيرة. ولقد مضى على الناس منذ ضرب لهم كتاب الإسلام هذا المثل أربعة عشر قرناً ، وما يزال المثل القرآني يتحدَّى كل جبروت الغزاة وعبقرية العلماء ، وما يزال على الذين غرّهم الغرور بما حقّق إنسان العصر الحديث من معجزات العلم ، أن ينسخوا ذلك ، بأن يجتمعوا

ص: 39


1- العنكبوت : 41.
2- الحج : 73.

فيخلقوا ذباباً ، أو يستنقذوا شيئاً سلبتهم إيّاه هذه الحشرة الضئيلة التي تقتلها ذرّة من هواء مشبع بمُبيد الحشرات ، وتستطيع مع ذلك أن تسلب مخترع المبيد حياته ، بلمسة هيّنة خاطفة تحمل إليه جرثومة داء مميت (1).

هذا في مجال الرد على عبادتهم للأوثان والأصنام ، أمّا في مجال ركونهم إلى الدنيا والإعراض عن الآخرة ، يستعرض مثلاً يشير فيه إلى أنّ الدنيا ظل زائل وليست خالدة ، قال سبحانه : ( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (2).

هذا بعض ما يمكن أن يقال حول الأمثال التي نزلت في مكة.

وأمّا الأمثال التي نزلت في المدينة ، فقد نجد فيها الطابع المدني لأجل انّها بصدد علاج الأدواء التي ابتلي بها المجتمع يومذاك وهي الأدواء الخلقية مكان الشرك والوثنية ، أو مكان إنكار الحياة الأخروية ، فلذلك ركّز الوحي على معالجة هذا النوع من الأدواء بالتمثيلات التي سنشير إليها.

فقد كان النبي صلی اللّه علیه و آله في مهجره مبتلياً بالمنافقين الذين كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام بغية الإطاحة بالحكومة الإسلامية الفتيّة ، وفي هذا الصدد نرى أنّ الأمثال المدنية تطرّقت في آيات كثيرة إلى المنافقين وبيّنت خطورة موقفهم على الإسلام والمسلمين ، فتارة يضرب اللّه سبحانه لهم مثلاً بالنار وأُخرى بالمطر ، يقول سبحانه : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ

ص: 40


1- الصورة الفنية في المثل القرآني : 99 ، نقلاً عن كتاب « القرآن وقضايا الإنسان » لبنت الشاطئ.
2- يونس : 24.

بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) (1).

كان المجتمع المدني يضمُّ في طيّاته طوائف ثلاث من اليهود وهم : بنو قينُقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة ؛ وقد جبلوا على المكر والحيلة والغدر ، وكانوا يقرأون سمات النبي صلی اللّه علیه و آله في توراتهم ، ويمرّون عليها مرار الأمي الذي لا يجيد القراءة والكتابة ، وهذه السمة أدت إلى أن يشبّههم سبحانه بالحمار الذي يحمل أسفاراً قيّمة دون أن يستفيدوا منها شيئاً ، يقول سبحانه : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (2).

وأمّا المسلمون الذين عاصروا النبي صلی اللّه علیه و آله فكانوا بحاجة إلى هداية إلهية تصلح أخلاقهم ، فقد كان البعض منهم ينفقون أموالهم رئاءً دون ابتغاء مرضاة اللّه ، أو ينفقونها بالمنّ والأذى ، فنزل الوحي الإلهي بمثل خاص يبيّن موقف المنفق في سبيل اللّه ، والمنفق بالمنِّ والأذى أو رئاء الناس ، قال سبحانه : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (3).

وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ

ص: 41


1- البقرة : 17 - 19.
2- الجمعة : 5.
3- البقرة : 261.

تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (1).

هذه إلمامة خاطفة لملامح الأمثال القرآنية التي نزلت قبل الهجرة وبعدها ، وسيوافيك البحث في تلك الأمثال عند تفسير الآيات واحدة تلو الأخرى.

الحادي عشر : استنكار الأمثال القرآنية

يظهر من بعض الآيات انّ بعض المخاطبين بالأمثال كانوا يستنكرونها ويستغربون منها ، وما ذلك إلا لأنّ المثل كان يكشف عن نواياهم ويبيّن واقع عقيدتهم ، ويسفّه أحلامهم ، فيبعث فيهم القلق والاضطراب ، ذلك عندما يجمع سبحانه في أمثاله تارة بين الذباب والعنكبوت والبعوضة - كما مرّ - وأُخرى بين الكلب والحمار :

كقوله سبحانه :

( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ) (2).

( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) (3).

وقد نقل سبحانه استنكارهم ، وقال : ( إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ

ص: 42


1- البقرة : 264.
2- الأعراف : 176.
3- الجمعة : 5.

الْفَاسِقِينَ ) (1).

قال الزمخشري : والتمثيل إنّما يصار إليه لكشف المعاني ، وإدناء المتوهّم من الشاهد ، فإن كان المتمثَّل له عظيماً كان المتمثّل به مثله ، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك (2).

وربما سرت تلك الشبهة إلى عصرنا الحاضر ، فقد استغرب بعضهم من ضرب المثل بالحشرات والأمور الحقيرة الضئيلة ، ولكنّه غفل عن أنّ العبرة في ضرب الأمثال ليس بأدواتها وآلاتها ، وإنّما بمكنوناتها وغاياتها ، وما يدرينا بسرّ الإعجاز في التركيب الجثماني للبعوضة ، مثلاً ، وما فيه من إبداع وتحدٍّ وإعداد ، ولعل فيه من الإنجاز الخلقي ما لا نشاهده بأكثر الأجسام ضخامة وكبراً ، على أن المبدع لها جميعاً هو اللّه وكفى ، « واللّه رب الصغير والكبير وخالق البعوضة والفيل ، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل ، إنّها معجزة الحياة ، معجرة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا اللّه على أنّ العبرة في المثل ليست في الحجم ، إنّما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير ، وليس في ضرب الأمثال ما يعاب ، وما من شأنه الاستحياء من ذكره. واللّه - جلّت حكمته - يريد بها اختبار القلوب وامتحان النفوس » (3).

الثاني عشر : التمثيلات القرآنية

قد عرفت أنّ المثل السائر غير التمثيل الوارد في القرآن الكريم ، وانّه

ص: 43


1- البقرة : 26.
2- الإتقان في علوم القرآن : 2 / 1042.
3- في ظلال القرآن : 1 / 57.

سبحانه عند ما يقول : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (1) يريد التمثيل لا المثل السائر ، وهذه التمثيلات هي نمط آخر من علوم القرآن وباب عظيم من معارفه.

وقد ألّف غير واحد في توضيح رموزها كتباً ورسائل ، ذكرنا أسماءها في قائمة خاصة ، ولعلّ ما لم أقف عليه أكثر من ذلك.

ولأجل إيقاف القارئ الكريم على الآيات التي سنتناولها بالبحث في هذا الكتاب ، نذكر التمثيلات القرآنية حسب ترتيب السور التي وردت فيها ، وقد تحمّل عبأ جمعها الدكتور محمد حسين على الصغير في كتابه « الصورة الفنية في المثل القرآني » على الرغم من ذلك فقد فاته بعض الآيات كما عدّ منها ما ليس منها ويتضح ذلك في دراسة هذه الآيات :

1. ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) (2).

2. ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (3).

3. ( إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن

ص: 44


1- الحشر : 21.
2- البقرة : 17 - 18.
3- البقرة : 19 - 20.

بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ) (1).

4. ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (2).

5. ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) (3).

6. ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (4).

7. ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (5).

8. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ

ص: 45


1- البقرة : 26 - 27.
2- البقرة : 171.
3- البقرة : 214.
4- البقرة : 259.
5- البقرة : 261.

وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (1).

9. ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (2).

10. ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) (3).

11. ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) . (4)

12. ( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (5).

13. ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (6).

ص: 46


1- البقرة : 264.
2- البقرة : 265.
3- البقرة : 266.
4- آل عمران : 59.
5- آل عمران : 117.
6- الأنعام : 122.

14. ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) (1).

15. ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ) (2).

16. ( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (3).

17. ( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (4).

18. ( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ) (5).

ص: 47


1- الأعراف : 58.
2- الأعراف : 175 - 177.
3- يونس : 24.
4- هود : 24.
5- الرعد : 14.

19. ( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) (1).

20. ( مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) (2).

21. ( مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) . (3)

22. ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (4).

23. ( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ) (5).

24. ( وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ) (6).

ص: 48


1- الرعد : 17.
2- الرعد : 35.
3- إبراهيم : 18.
4- إبراهيم : 24 - 25.
5- إبراهيم : 26.
6- إبراهيم : 45.

25. ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1).

26. ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (2).

27. ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (3).

28. ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (4).

29. ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) (5).

30. ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا

ص: 49


1- النحل : 60.
2- النحل : 75.
3- النحل : 76.
4- النحل : 92.
5- النحل : 112.

أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ للهِ الحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ) (1).

31. ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) (2).

32. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) (3).

33. ( اللّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (4).

ص: 50


1- الكهف : 32 - 44.
2- الكهف : 45.
3- الحج : 73.
4- النور : 35.

34. ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ) (1).

35. ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) (2).

36. ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (3).

37. ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (4).

38. ( ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (5).

39. ( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (6).

ص: 51


1- النور : 39.
2- النور : 40.
3- العنكبوت : 41.
4- الروم : 27.
5- الروم : 28.
6- فاطر : 12.

40. ( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ) (1).

41. ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ المُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (2).

42. ( أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (3).

ص: 52


1- فاطر : 19 - 22.
2- يس : 13 - 30.
3- يس : 77 - 79.

43. ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

44. ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) (2).

45. ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ ) . (3)

46. ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) . (4)

47. ( ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ) (5).

48. ( مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) (6).

ص: 53


1- الزمر : 29.
2- الزخرف : 17 - 18.
3- الزخرف : 55 - 56.
4- الزخرف : 57 - 59.
5- محمد : 3.
6- محمد : 15.

49. ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) (1).

50. ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (2).

51. ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (3).

52. ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنسان اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) (4).

53. ( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (5).

ص: 54


1- الفتح : 29.
2- الحديد : 20.
3- الحشر : 15.
4- الحشر : 16.
5- الحشر : 21.

54. ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (1).

55. ( ضَرَبَ اللّه مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (2).

56. ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (3).

57. ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ) (4).

هذا ما ذكره الكاتب ، ولكنّه غير جامع إذ هناك آيات تتضمن تمثيلاً وإن لم

ص: 55


1- الجمعة : 5.
2- التحريم : 10.
3- التحريم : 11 - 12.
4- المدثر : 31.

يشتمل على لفظ المثل أو حرف التشبيه ولكن التمثيل برَّمة أركانه موجود فيها ، قال سبحانه : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ) (1) فشبّه آكل الربا بمن مسَّه الجن فصار مذعوراً لا يملك عقله ونفسه. إلى غير ذلك من الآيات.

قال بعض العلماء : ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أُمور كثيرة : التذكير ، والوعظ ، والحث والزجر ، والاعتبار ، والتقرير ، وتقريب المراد للعقل ، وتصويره بصورة المحسوس ، فانّ الأمثال تصوّر المعاني بصورة الأشخاص ، لأنّها أثبت في الذهن لاستعانة الذهن فيها بالحواس ، ومن ثمّ كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجليّ والغائب بالشاهد.

وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر ، وعلى المدح والذم ، وعلى الثواب والعقاب ، وعلى تفخيم الأمر وتحقيره ، وعلى تحقيق أمر أو إبطاله (2).

ثمّ إنّ الآيات التي جاء فيها التصريح بالمثل ، عبارة عن الآيات التالية :

1. ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) (3).

2. ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) (4).

3. ( وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (5).

ص: 56


1- البقرة : 275.
2- رياض السالكين : 5 / 461.
3- الإسراء : 89.
4- الكهف : 54.
5- النحل : 60.

4. ( وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1).

5. ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) (2).

6. ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (3).

7. ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) (4).

8. ( وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (5).

9. ( وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ) (6).

10. ( وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (7).

11. ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ) (8).

12. ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (9).

13. ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ) (10).

14. ( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ) (11).

15. ( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) (12).

ولكن الأمثال أعم مما ورد فيه لفظ المثل أو كاف التشبيه كما مرّ.

ص: 57


1- الروم : 27.
2- الروم : 58.
3- الزمر : 27.
4- الرعد : 17.
5- إبراهيم : 25.
6- إبراهيم : 45.
7- النور : 35.
8- العنكبوت : 43.
9- الحشر : 21.
10- محمد : 3.
11- النور : 34.
12- الفرقان : 33.

الثالث عشر : الآيات التي تجري مجرى المثل

القرآن الكريم كلّه حكمة وعظة ، بلاغ وعبرة ، وقد قام غير واحد من المحقّقين باستخراج الحكم الواردة فيه التي صارت أمثالاً سائرة عبر القرون لتداولها على الألسن في حياتهم العملية. وقد سبق منّا القول إنّ هذه الآيات لم تنزل بوصف المثل ، لأنّ المثل عبارة عن كلام تداولته الألسن فصار به أمثالاً سائرة دارجة ، ومن الواضح أنّ الحكم الواردة في القرآن نزلت من دون سبق مثال لها ، فلم تكن يوم نزولها موصوفة بوصف المثل ، وانّما أُضفي عليها هذا الوصف عبر مرّ الزمان وتداول الألسن.

ثم إنّ جعفر بن شمس الخلافة (1) ( المتوفّى عام 226 ه ) عقد باباً في ألفاظ القرآن الجارية مجرى المثل ، ونقله السيوطي عنه في كتاب « الإتقان » ، وقال : وهذا هو النوع البديعي المسمّى بإرسال المثل.

وإليك ما أورده من هذا الباب :

1. ( وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) (2).

2. ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ) (3).

3. ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) (4).

ص: 58


1- هو أبو الفضل جعفر بن محمد شمس الخلافة الأفضلي البصري المتولّد عام 543 ه ، ترجمه ابن خلكان في « وفيات الأعيان » مؤلف كتاب « الآداب » وهو كتاب وجيز في الحكم والأمثال من النثر والنظم طبع في مصر عام 1349 ه.
2- البقرة : 216.
3- البقره : 249.
4- البقرة : 286.

4. ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (1).

5. ( مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ ) (2).

6. ( قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) (3).

7. ( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ) (4).

8. ( وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ ) (5).

9. ( مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ) (6).

10. ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) (7).

11. ( أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) (8).

12. ( قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) (9).

13. ( الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ ) (10).

14. ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) (11).

15. ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ) (12).

16. ( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) (13).

17. ( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (14).

ص: 59


1- آل عمران : 92.
2- المائدة : 99.
3- المائدة : 100.
4- الأنعام : 67.
5- الأنفال : 23.
6- التوبة : 91.
7- يونس : 91.
8- هود : 81.
9- يوسف : 41.
10- يوسف : 51.
11- الإسراء : 84.
12- الحج : 10.
13- الحج : 73.
14- الروم : 32.

18. ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (1).

19. ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (2).

20. ( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) (3).

21. ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) (4).

22. ( وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ) (5).

23. ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) (6).

24. ( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ) (7).

25. ( وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ) (8).

26. ( لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ كَاشِفَةٌ ) (9).

27. ( هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان ) (10).

28. ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ) (11).

29. ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) (12).

30. ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (13).

ص: 60


1- الروم : 41.
2- سبأ : 13.
3- سبأ : 54.
4- فاطر : 14.
5- فاطر : 43.
6- يس : 78.
7- الصافات : 61.
8- ص : 24.
9- النجم : 58.
10- الرحمن : 60.
11- الحشر : 2.
12- الحشر : 14.
13- المدثر : 38.

هذا ما نقله السيوطي في « الإتقان » عن كتاب « الآداب » لجعفر بن شمس الخلافة ، ولكن المذكور في كتاب « الآداب » ما يناهز 69 آية ، وقد صارت هذه الآيات في عصره أمثالاً سائرة (1).

ثمّ إنّ شهاب الدين محمد بن أحمد أبا الفتح الابشيهي المحلي ( 790 - 850 ه ) في كتابه « المستطرف في كل فن مستظرف » ذكر من حِكم القرآن التي تجري مجرى الأمثال أكثر مما نقله السيوطي في إتقانه عن كتاب الآداب.

قال صاحب المستطرف : إنَّ الأمثال من أشرف ما وصل به اللبيب خطابه ، وحلّى بجواهره كتابه ، وقد نطق كتاب اللّه تعالى وهو أشرف الكتب المنزلة بكثير منها ، ولم يخلُ كلام سيدنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عنها ، وهو أفصح العرب لساناً وأكملهم بياناً ، فكم في إيراده وإصداره من مثل يعجز عن مباراته في البلاغة كلّ بطل ، ... فمن أمثال كتاب اللّه ، قوله تعالى : ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) ، ( الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ ) ، و ( قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) إلى آخر ما ذكره (2).

ثمّ إنّ بعض من ألّف في أمثال القرآن ، استدرك عليهما الحِكم التي صارت مثلاً بين الناس والتي يربو عددها على 245 آية (3).

كما أنّ الدكتور محمد حسين الصغير ذكر في خاتمة كتابه من هذه المقولة فبلغ 495 آية (4).

ولكن الذي فاتهم هو التركيز على أنَّ هذه الآيات لم تكن أمثالاً يوم نزولها ،

ص: 61


1- الإتقان : 2 / 1046 النوع السادس والستون.
2- المستطرف في كلّ فن مستظرف : 1 / 27.
3- مثال القرآن ، علي أصغر حكمت.
4- الصورة الفنّية في المثل القرآني : 387 - 402.

بل كانت حِكماً وإنّما جاءت مثلاً حسب مرّ الزمان.

وأخيراً نزيد أنّ هناك آيات أُخرى غير ما تقدَّم أكثر تداولاً على الألسن في أكثر البلاد الإسلامية نشير إلى قسم منها ، وربما يوجد بعض منها فيما ذكره مؤلف الآداب ، وهذه الآيات هي :

1. ( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) (1).

2. ( هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) (2).

3. ( نُّورٌ عَلَى نُورٍ ) (3).

4. ( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ ) (4).

5. ( يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ) (5).

6. ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (6).

7. ( يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (7).

8. ( هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان ) (8).

9. ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) (9).

10. ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (10).

هذه آيات عشر صارت مثلاً سائراً بين أكثر المسلمين.

ص: 62


1- الأعراف : 31.
2- الكهف : 78.
3- النور : 35.
4- النور : 54.
5- الروم : 19.
6- الزمر : 9.
7- الفتح : 10.
8- الرحمن : 60.
9- الصف : 2.
10- الكافرون : 6.

ثم إنّ المحقّق بهاء الدين العاملي ( 953 - 1030 ه ) عقد فصلاً تحت عنوان « فيما ورد من كتاب اللّه تعالى مناسباً لكلام العرب » ويريد بذلك انّ هناك معادلات في كلام العرب لما جاء في القرآن من الحكم ، وذكر الآيات والأمثال التالية :

أ : العرب تقول في وضوح الأمر : « قد وضح الصبح لذي عينين ».

وقال اللّه تعالى : ( الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ ) (1).

ب : وتقول العرب في فوات الأمر : « سبق السيف العدل ».

قال اللّه تعالى : ( قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) (2).

ج : وتقول في تلافي الاِساءة « عاد غيث على ما أفسد ».

قال اللّه تعالى : ( مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ ) (3).

د : وتقول في الإساءة لمن لا يقبل الإحسان : « اعط أخاك ثمرة فإن أبى فجمرة ».

وقال تعالى : ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) (4).

ه : وتقول في فائدة المجازاة : « القتل أنفى للقتل ».

وقال تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ) (5).

ص: 63


1- يوسف : 51.
2- يوسف : 41.
3- الأعراف : 95.
4- الزخرف : 36.
5- البقرة : 179.

و : وتقول في اختصاص الصلح : « لكّل مقام مقال ».

وقال تعالى : ( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ) (1). (2)

ثمّ إنّ بهاء الدين العاملي عاد إلى الموضوع في كتابه « المخلاة » ونقل شيئاً من أمثال العرب التي استفادها العرب من القرآن الكريم ، فأوضح أنّ القرآن هو المنبع المهم لهذه الأمثال ، قال :

أ : قولهم : ما تزرع تحصد : ( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) (3).

ب : قولهم : للحيطان آذان : ( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) (4).

ج : قولهم : احذر شرَّ من أحسنت إليه : ( وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (5).

د : وقولهم : لا تلد الحيّة إلاّ حيّة : ( وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ) (6). (7)

وما ذكره شيخنا العاملي هو الذي سبق ذكره في كلام الآخرين تحت عنوان « الأمثال الكامنة ».

ولعلّ ما ذكره ابن شمس الخلافة والسيوطي والبهائي ليس إلاّ جزءاً يسيراً من الحكم التي سارت بين الناس ، أو صارت نموذجاً لصبّ بقية الأمثال في قالبها ، وهذا من القرآن ليس ببعيد.

كيف وقد وصفه النبي صلی اللّه علیه و آله : « لا تُحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » (8).

ص: 64


1- الأنعام : 67.
2- أسرار البلاغة : 616 - 617.
3- النساء : 123.
4- التوبة : 47.
5- التوبة : 74.
6- نوح : 27.
7- المخلاة : 307.
8- الكافي : 2 / 599 ، كتاب فضل القرآن ، الحديث 2.

الرابع عشر : الأمثال النبوية

إذا كان المثل إبراز المعنى المقصود في معرض الأمر المشهود ، وتحلية المعقول بحلية المحسوس ، واستنزال الحقائق المستعصية ، فهو من أدوات التبليغ والتعليم ، ولذلك ذاع التمثيل في القرآن الكريم والكلمات النبوية ، وكلمات أئمّة أهل البيت علیهماالسلام ، إلى عبارات البلغاء وإشارات الحكماء.

وقد قام غير واحد من المحدثين بجمع الأمثال النبوية.

وقد ذكر المحقّق المعاصر الشيخ محمد الغروي - حفظه اللّه - في مقدمة كتابه « الأمثال النبوية » حوالي عشرة كتب حول الأمثال النبويّة ، وهو بكتابه هذا أوصل العدد إلى أحد عشر كتاباً ، وقد نقل عن عبد المجيد محمود مؤلف كتاب « أمثال الحديث » العبارة التالية : أمّا أمثال الحديث فلم تحظ بالعناية التي نالتها أمثال القرآن أو الأمثال العربية العامة ، ولم أر أحداً من أصحاب الكتب الستة أفردها بالتأليف أو أفرد لها باباً في كتابه ، سوى الإمام الترمذي الذي خصص لأمثال الحديث مكاناً في جامعه تحت عنوان : « أبواب الأمثال عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » لكنّه لم يذكر تحت هذا العنوان غير أربعة عشر حديثاً ، ولهذا يقول ابن العربي : ولم أر أحداً من أهل الحديث صنف فأفرد لها باباً غير أبي عيسى - يعني الترمذي - ولله درّه لقد فتح باباً أو بنى قصراً أو داراً ، ولكن اختط خطاً صغيراً ، فنحن نقتنع به ونشكره عليه (1).

ثمّ إنّ شيخنا الغروي قام بجمع شوارد الأمثال النبوية في جزءين كبيرين مع تفسيرها ، مرتباً إياها وفق حروف التهجّي ، وأسمى كتابه « الأمثال النبويّة » ،

ص: 65


1- أمثال الحديث : 88 ، ولكلامه صلة.

وطبع في بيروت.

وها نحن نذكر نماذج من الأمثال النبوية التي جمعها السيوطي في « الجامع الصغير » لتكون زينة للكتاب.

1. « مثل الإيمان مثل القميص تقمَّصه مرّة ، وتنزعه أُخرى ».

2. « مثل البخيل والمتصدّق كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما ، فأمّا المنفق فلا ينفق إلاّ سبغت على جلده ، حتى تخفي بنانه ، وتعفو أثره ، وأمّا البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلاّ لزقت كل حلقة مكانها ، فهو يوسّعها فلا تتسع ».

3. « مثل البيت الذي يذكر اللّه فيه والبيت الذي لا يذكر اللّه فيه ، مثل الحيّ والميِّت ».

4. « مثل الجليس الصالح والجليس السوء ، كمثل صاحب المسك وكير الحدّاد ، لا يعدمك من صاحب المسك ، إمّا أن تشتريه أو تجد ريحه ، وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك ، أو تجد منه ريحاً خبيثة ».

5.« مثل الجليس الصالح مثل العطّار ، إن لم يعطك من عطره أصابك من ريحه ».

6. « مثل الرّافلة في الزينة في غير أهلها ، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها ».

7. « مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار عذب على باب أحدكم ، يغتسل فيه كلّ يوم خمس مرّات ، فما يبقي ذلك من الدَّنس ».

8. « مثل العالم الذي يعلِّم الناس الخير وينسى نفسه ، كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ».

ص: 66

9. « مثل القلب مثل الريشة تقلّبها الرياح بفلاة ».

10. « مثل الذي يعتق عند الموت ، كمثل الذي يهدي إذا شبع ».

11. « مثل الذي يتعلّم العلم ، ثمّ لا يحدّث به ، كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه ».

12. « مثل الذي يتعلّم العلم في صغره كالنقش على الحجر ، ومثل الذي يتعلّم العلم في كبره ، كالذي يكتب على الماء ».

13. « مثل الذي يجلس يسمع الحكمة ولا يحدِّث عن صاحبه إلاّ بشرّ ما يسمع ، كمثل رجل أتى راعياً ، فقال : يا راعي اجزرني شاة من غنمك ، قال : اذهب فخذ بأُذنِ خيرها شاةً ، فذهب فأخذ بأُذنِ كلب الغنم ».

14. « مثل الذي يتكلّم يوم الجمعة والإمام يخطب ، مثل الحمار يحمل أسفاراً ، والذي يقول له : « انصت » لا جمعة له ».

15. « مثل الذي يعلّم الناس الخير وينسى نفسه ، مثل الفتيلة ، تضيء للناس وتحرق نفسها ».

16. « مثل الذي يعين قومه على غير الحقّ ، مثل بعير تردّى وهو يجرّ بذنبه ».

17. « مثل الذين يغزون من أُمّتي ويأخذون الجعل يتقوّون به على عدوهم ، مثل أُمّ موسى ، ترضع ولدها وتأخذ أجرها ».

18. « مثل المؤمن كمثل العطار ، إن جالسته نفعك ، وإن ماشيته نفعك ، وإن شاركته نفعك ».

19. « مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها من شيء نفعك ».

20. « مثل المؤمن إذا لقي المؤمن فسلّم عليه ، كمثل البنيان يشدّ بعضه

ص: 67

بعضاً ».

21. « مثل المؤمن مثل النحلة ، لا تأكل إلاّ طيباً ، ولا تضع إلاّ طيباً ».

22. « مثل المؤمن مثل السنبلة ، تميل أحياناً ، وتقوم أحياناً ».

23. « مثل المؤمن مثل السنبلة ، تستقيم مرّة ، وتخرّ مرّة ، ومثل الكافر مثل الأرزة ، لا تزال مستقيمة حتى تخرّ ولا تشعر ».

24. « مثل المؤمن مثل الخامة ، تحمرُّ مرّة ، وتصفرُّ أُخرى ، والكافر كالأرزة ».

25. « مثل المؤمن كمثل خامة الزرع من حيث أتتها الريح كفتها ، فإذا سكنت اعتدلت ، وكذلك المؤمن ، يكفّأ بالبلاء ، ومثل الفاجر كالأرزة صماء معتدلة ، حتى يقصمها اللّه تعالى إذا شاء ».

26. « مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترجُّة ريحها طيّب وطعمها طيّب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها ، وطعمها حلوٌ. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ، ريحها طيب ، وطعمها مرّ ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر ».

27. « مثل المؤمن مثل النحلة إن أكلت أكلت طيباً ، وإن وضعت وضعت طيباً ، وإن وقعت على عود نخر لم تكسره ، ومثل المؤمن مثل سبيكة الذهب إن نفخت عليها احمرّت ، وإن وزنت لم تنقص ».

28. « مثل المؤمن كالبيت الخرب في الظاهر ، فإذا دخلته وجدته مونفاً ، ومثل الفاجر كمثل القبر المشرف المجصص ، يعجب من رآه وجوفه ممتلئُ نتناً.

29. مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمّى ».

ص: 68

30. مثل المجاهد في سبيل اللّه ، كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صدقة ، حتى يرجع ، وتوكّل اللّه تعالى للمجاهد في سبيله إن توفّاه أن يدخله الجنّة أو يرجعه سالماً مع أجرٍ أو غنيمة ».

31. « مثل المرأة الصالحة في النساء ، كمثل الغراب الأعصم الذي إحدى رجليه بيضاء ».

32. « مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرّة ، وإلى هذه مرّة ، لا تدري أيّهما تتبع ».

33. « مثل ابن آدم وإلى جنبه تسعة وتسعون منيّة ، إن أخطأته المنايا وقع في الهرم حتى يموت ».

34. « مثل أصحابي مثل الملح في الطعام ، لا يصلح الطعام إلاّ بالملح ».

35. « مثل أُمّتي مثل المطر ، لا يُدرى أوّله خير ، أم آخره ».

36. « مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ».

37. « مثل بلال كمثل نحلة ، غدت تأكل من الحلو والمرّ ثم يمسي حلواً كلّه ».

38. « مثل بلعم بن باعوراء في بني إسرائيل ، كمثل أُمية بن أبي الصلت في هذه الأمّة ».

39. « مثل منىً كالرحم في ضيقه ، فإذا حملت وسعها اللّه ».

40. « مثل هذه الدنيا مثل ثوب شُقَّ من أوّله إلى آخره ، فبقي متعلّقاً بخيط في آخره ، فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع ».

ص: 69

41. « مثلي ومثل الساعة كفرسي رهان ، مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قوم طليعة ، فلمّا خشي أن يسبق ألاح بثويبه : أُتيتم أُتيتُم ، أنا ذاك ، أنا ذاك ».

42. « مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً ، فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وهو يذُبّهنّ عنها ، وأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تفلتون من يدي » (1).

الخامس عشر : الأمثال العلوية

كان أمير المؤمنين علیه السلام مشرّع الفصاحة وموردها ، ومنشأ البلاغة ومولّدها ، ومنه علیه السلام ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب ، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ، وعلى كلامه مسحة من العلم الإلهي ، وفيه عبقة من الكلام النبوي.

فقد قام غير واحد من روّاد الفصاحة والبلاغة بجمع شوارد كلامه ، وكلمه القصار والطوال ، فنافت على اثنتي عشرة ألف كلمة ، وفيما جمعه عبد الواحد الآمدي ( المتوفّى حدود 550 ه ) في كتابه « غرر الحكم ودرر الكلم » غنىً وكفاية لطلاّب الحق ولذلك نطوي عنها كشحاً.

وأمّا التمثيل في كلمات سائر الأئمة الاثني عشر فحدّث عنه ولا حرج ، وقد شمّر المحقّق الغرويّ عن ساعد الجدّ فألّف موسوعات في هذا المضمار ، شكر اللّه مساعيه الجميلة.

ص: 70


1- الجامع الصغير : 2 / 527 - 534.

السادس عشر : أمثال لقمان الحكيم

اختلفت الأقوال في شخصية لقمان الحكيم ، روى ابن عمر ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « لم يكن لقمان نبيّاً ، ولكن كان عبداً كثير التفكّر حسن اليقين ، أحبّ اللّه فأحبّه ومنّ عليه بالحكمة » (1).

وقد بلغ سمو كلامه إلى حد نقل سبحانه وتعالى شيئاً من حكمه في القرآن الكريم ، وأنزل سورة باسمه ، كما قام غير واحد من العلماء بجمع حكمه المبثوثة في الكتب.

وقد قام أمين الإسلام الطبرسي بنقل شيء من حكمه في تفسيره ، وقد وصفه الإمام الصادق علیه السلام بقوله : « واللّه ما أُوتي لقمان الحكمة لحسب ولا مال ولا بسط في جسم ولا جمال ، ولكنّه كان رجلاً قويّاً في أمر اللّه ، متورّعاً في اللّه ساكتاً سكيناً ، عميق النظر ، طويل التفكّر ، حديد البصر ، لم ينم نهاراً قطّ ، ولم يتكئ في مجلس قوم قطّ ، ولم يتفل في مجلس قوم قطّ ، ولم يعبث بشيء قطّ ، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط قطّ ، ولا على اغتسال لشدّة تستره وتحفّظه في أمره ، ولم يضحك من شيء قطّ ، ولم يغضب قطّ مخافة الإثم في دينه ، ولم يمازح إنساناً قطّ ، ولم يفرح بما أوتيه من الدنيا ، ولا حزن منها على شيء قطّ ، ... ولم يمرّ بين رجلين يقتتلان أو يختصمان إلاّ أصلح بينهما ، ولم يمض عنهما حتى تحاجزا ، ولم يسمع قولاً استحسنه من أحد قطّ ، إلاّ سأله عن تفسيره وعمّن أخذه ، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والعلماء ، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين ، فيرثي للقضاة بما ابتلوا به ، ويرحم الملوك والسلاطين لعزتهم باللّه وطمأنينتهم في ذلك ، ويتعلّم ما يغلب به

ص: 71


1- مجمع البيان : 4 / 315.

نفسه ويجاهد به هواه ، ويحترز من السلطان ، وكان يداوي نفسه بالتفكّر والعبر ، وكان لا يظعن إلا فيما ينفعه ، ولا ينظر إلا فيما يعينه ، فبذلك أُوتي الحكمة ومنح القضية » (1).

ص: 72


1- مجمع البيان : 4 / 317 - 318.

سورة البقرة

1. التمثيل الأوّل

اشارة

قال سبحانه : ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) (1).

تفسير الآيات

الوقود - بفتح الواو - الحطب ، استوقد ناراً ، أو أوقد ناراً ، كما يقال : استجاب بمعنى أجاب.

افتتح كلامه سبحانه في سورة البقرة بشرح حال طوائف ثلاث :

الأولى : المؤمنون ، واقتصر فيهم على آيتين.

الثانية : الكافرون ، واقتصر فيهم على آية واحدة.

الثالثة : المنافقون ، وذكر أحوالهم وسماتهم ضمن اثنتي عشرة آية.

ص: 73


1- البقرة : 14 - 18.

وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أنّ النفاق بؤرة الخطر ، وانّهم يشكلون خطورة جسيمة على المجتمع الإسلامى. وقد مثل بمثلين يوقفنا على طبيعة نواياهم الخبيثة وما يبطنون من الكفر.

بدأ كلامه سبحانه في حقهم بأنّ المنافقين هم الذين يبطنون الكفر ويتظاهرون بالإيمان ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) .

ثمّ إنّه سبحانه يردّ عليهم ، بقوله : ( اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) والمراد أنّه سبحانه يجازيهم على استهزائهم.

ثمّ وصفهم بقوله : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ، أي أخذوا الضلالة وتركوا الهدى ، واستبدلوا الكفر بالإيمان ، فلم يكونوا رابحين في هذه التجارة والاستبدال ، ثمّ وصفهم بالتمثيل الآتي :

نفترض أنّ أحداً ، ضلّ في البيداء وسط ظلام دامس وأراد أن يقطع طريقه دون أن يتخبّط فيه ، ولا يمكن أن يهتدي - والحال هذه - إلاّ بإيقاد النار ليمشي على ضوئها ونورها ويتجنب المزالق الخطيرة ، وما أن أوقد النار حتى باغتته ريح عاصفة أطفأت ما أوقده ، فعاد إلى حيرته الاُولى.

فحال المنافقين كحال هذا الرجل حيث إنّهم آمنوا بادئ الأمر واستناروا بنور الإيمان ومشوا في ضوئه ، لكنّهم استبدلوا الإيمان بالكفر فعمَّهم ظلام الكفر لا يهتدون سبيلاً.

هذا على القول بأنّ المنافقين كانوا مؤمنين ثمّ عدلوا إلى الكفر ، وأمّا على

ص: 74

القول بعدم إيمانهم منذ البداية ، فالنار التي استوقدوها ترجع إلى نور الفطرة الذي كان يهديهم إلى طريق الحق ، ولكنّهم أخمدوا نورها بكفرهم بآيات اللّه تبارك وتعالى.

والحاصل : أنّ حال هؤلاء المنافقين لمّا أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر كحال من ضلَّ في طريقه وسط الظلام في مكان حافل بالأخطار فأوقد ناراً لانارة طريقه فإذا بريح عاصفة أطفأت النار وتركته في ظلمات لا يهتدي إلى سبيل.

وهذا التمثيل الذي برع القرآن الكريم في تصويره يعكس حال المنافقين في عصر الرسالة ، ومقتضى التمثيل أن يهتدي المنافقون بنور الهداية فترة من الزمن ثمّ ينطفئ نورها بإذن اللّه سبحانه ، وبالتالي يكونوا صمّاً بكماً عمياً لا يهتدون ، فالنار التي اهتدى بها المنافقون عبارة عن نور القرآن ، وسنّة الرسول ، حيث كانوا يتشرّفون بحضرة الرسول ويستمعون إلى كلامه وحججه في بيانه ودلائله في إرشاده وتلاوته لكتاب اللّه ، فهم بذلك كمن استوقد ناراً للهداية ، فلمّا أضاءت لهم مناهج الرشد ومعالم الحقّ تمرّدوا على اللّه بنفاقهم ، فخرجوا عن كونهم أهلاً للتوفيق والتسديد ، فأوكلهم اللّه سبحانه إلى أنفسهم الأمّارة وأهوائهم الخبيثة ، وعمّتهم ظلمات الضلال بسوء اختيارهم.

وعلى هذا ابتدأ سبحانه بذكر المثل بقوله : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ) وتمّ المثل إلى هنا.

ثمّ ابتدأ بذكر الممثل بقوله : ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) .

فإن قلت : فعلى هذا فما هو جواب « لمّا » في قوله ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ ) ؟

ص: 75

قلت : الجواب محذوف ، لأجل الوجازة ، وهو قوله « خمدت ».

فإن قلت : فعلى هذا فبم يتعلّق قوله : ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ) ؟

قلت : هو كلام مستأنف راجع إلى بيان حال الممثل ، وتقدير الكلام هكذا : فلَمّا أَضاءَت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسّرين على فوات الضوء ، خائبين بعد الكدح من إيقاد النار.

فحال المنافقين كحال هؤلاء ، أشعلوا ناراً ليستضيئوا بنورها لكن ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) .

وبكلمة موجزة : ما ذكرنا من الجمل هو المفهوم من الآية ، والإيجاز بلا تعقيد من شؤون البلاغة (1).

فقوله سبحانه : ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ) بمعنى أنّ ذلك كان نتيجة نفاقهم وتمرّدهم وبالتالي تبدّد قابليتهم للاهتداء بنور الحقّ ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) أي في أهوائهم وسوء اختيارهم يتخبّطون في ظلمات الضلال ، لا يبصرون طريق الحقّ والرشاد.

ترى أنّ التمثيل يحتوي على معانى عالية وكثيرة بعبارات موجزة ، ولو حاول القرآن أن يبيّن تلك المعاني عن غير طريق التمثيل يلزم عليه بسط الكلام كما بسطناه ، وهذا من فوائد المثل ، حيث يؤدي معاني كثيرة بعبارات موجزة.

ثمّ إنّه سبحانه يصفهم بأنّهم لما عطّلوا آذانهم فهم صمّ ، وعطّلوا ألسنتهم فهم بكم ، وعطّلوا عيونهم فهم عمى ، قال : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) .

والمراد من التعطيل أنّهم لم يكونوا ينتفعون بهذه الأدوات التي بها تعرف

ص: 76


1- لاحظ الكشاف : 1 / 153.

الحقائق ، فما كانوا يسمعون آيات اللّه بجدٍّ ، ولا ينظرون إلى الدلائل الساطعة للنبوة إلاّ من خلال الشك (1).

إلى هنا تمّ استعراض حال المنافقين بحال من أوقد ناراً للاستضاءة ، ولكن باءت مساعيه بالفشل.

وممّا يدل على أنّ المنافقين آمنوا باللّه ورسوله في بدء الأمر ثمّ طغى عليهم وصف النفاق ، قوله سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ) (2).

وممّا يدل على أنّ الإسلام نور ينوّر القلوب والأنفس قوله سبحانه : ( أَفَمَن شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (3).

وأمّا الظلمة التي تحيط بهم بعد النفاق وتجعلهم صمّاً بكماً عمياً ، فالمراد ظلمات الضلال التي لا يبصرون فيها طريق الهدى والرشاد ، يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (4).

وبذلك ظهر انّ تفسير الظلمة التي يستعقبها إطفاء النور بظلمة القبر وحياة البرزخ وما بعدها من مواقف الحساب والجزاء غير سديد ، وإن كان هناك ظلمة للمنافق لكنّها من نتائج الظلمة الدنيوية.

ص: 77


1- انظر مجمع البيان : 1 / 54 ؛ آلاء الرحمن : 1 / 73.
2- المنافقون : 3.
3- الزمر : 22.
4- البقرة : 257.

فاستشهاد صاحب المنار على كون المراد هو ظلمة القبر والبرزخ بقوله سبحانه : ( يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ... ) (1) ليس بأمر صحيح ، والآية ناظرة إلى حياتهم الدنيوية التي يكتنفها الإيمان والنور ، ثمّ تحيط بهم الظلمة والضلالة ، ولا نظر للآية لما بعد الموت.

سؤال وإجابة

إنّ مقتضى البلاغة هو الإتيان بصيغة الجمع حفظاً للتطابق بين المشبّه والمشبّه به ، مع أنّه سبحانه أفرد المشبّه به ( كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) وجمع المشبّه أعني قوله : ( مَثَلُهُمْ ) ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ) ، فما هو الوجه ؟

أجاب عنه صاحب المنار بقوله : إنّ العرب تستعمل لفظ « الذي » في الجمع كلفظي « ما » و « من » ومنه قوله تعالى : ( وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ) (2) وإن شاع في « الذي » الافراد ، لأنّ له جمعاً ، وقد روعي في قوله ( اسْتَوْقَدَ ) لفظه ، وفي قوله ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ) معناه. والفصيح فيه مراعاة التلفظ أوّلاً ، ومراعاة المعنى آخراً ، والتفنّن في إرجاع الضمائر ضرب من استعمال البلغاء (3).

ولنا مع هذا الكلام وقفة ، وهي أنّ ما ذكره مبني على أنّ قوله سبحانه : ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) في تتمة المثل ، وأجزاء المشبه به ، ولكنّك قد عرفت خلافه ، وانّ المثل تمّ في قوله : ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ

ص: 78


1- الحديد : 13.
2- التوبة : 69.
3- تفسير المنار : 1 / 169.

مَا حَوْلَهُ ) ، وذلك بحذف جواب « لمّا » ، لكونه معلوماً في الجملة التالية ، وهو عبارة عن إخماد ناره فبقى في الظلام خائفاً متحيّراً.

وإلاّ فلو كان قوله ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ) من أجزاء المشبّه به ، وراجعاً إلى مَن استوقد ناراً ، يلزم أن تكون الجملة التالية أعني قوله : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) كذلك ، أي من أوصاف المستوقد ، مع أنّها من أوصاف المنافق دون أدنى ريب ، ولو أردنا أن نصيغ المشبه والمشبه به بعبارة مفصّلة ، فنقول :

المشبه به : الذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله أُطفأت ناره.

والمشبه : المنافقون الذين استضاءوا بنور الإسلام فترة ثمّ ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون.

وأمّا وجه الافراد ، فهو أنّه إذا كان التشبيه بين الأعيان فيلزم المطابقة ، لأنّ عين كلّ واحد منهم غير أعيان الآخر. ولذلك إنّما يكون التشبيه بين الأعيان إذا روعي التطابق في الجمع والإفراد ، يقول سبحانه : ( كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ) (1) ، وقوله : ( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) (2).

وأمّا إذا كان التشبيه بين الأفعال فلا يشترطون التطابق لوحدة الفعل من حيث الماهية والخصوصيات ، يقال في المثل : ما أفعالكم كفعل الكلب. أي ما أفعالكم إلاّ كفعل الكلب.

وربما يقال : إنّ الموصول « الذي » بمعنى الجمع ، قال سبحانه : ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ) (3). (4)

ص: 79


1- المنافقون : 4.
2- الحاقة : 7.
3- الزمر : 33.
4- انظر التبيان في تفسير القرآن : 1 / 86.

سورة البقرة

2. التمثيل الثاني

اشارة

قال سبحانه : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1).

تفسير الآيات

الصيّب : المطر ، وكلّ نازل من علوّ إلى أسفل ، يقال فيه : صاب يصوب ، وهو عطف على قوله ( كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، ولما كان المثل الثاني أيضاً مثلاً للمنافقين ، فمقتضى القاعدة أن يقول « وكصيّب » مكان ( أَوْ كَصَيِّبٍ ) ولكن ربّما يستعمل « أو » بمعنى « و » قال الشاعر :

نال الخلافة أو كانت له قدراً *** كما أتى ربّه موسى على قدر

ويحتمل أن يكون « أو » للتخيير ، بأن مُثل المنافقين بموقد النار ، أو بمن وقع في المطر.

ص: 80


1- البقرة : 19 - 20.

والرعد : هو الصوت الذي يُسمَع في السحاب أحياناً عند تجمعه.

والبرق : هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالباً ، وربما لمع في الأُفق حيث لا سحاب ، وأسباب هذه الظواهر اتحاد شحنات السحاب الموجبة بالسالبة كما تقرر ذلك في علم الطبيعيات.

والصاعقة : نار عظيمة تنزل أحياناً أثناء المطر والبرق ، وسببها تفريغ الشحنات التي في السحاب بجاذب يجذبها إلى الأرض.

والإحاطة بالشيء : الإحداق به من جميع الجهات.

والخطف : السلب والأخذ بسرعة ، ومنه نهي عن الخطفة بمعنى النهبة.

قوله : ( وَإِذَا أَظْلَمَ ) بمعنى إذا خفت ضوء البرق.

إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآيات ، فلنرجع إلى بيان حقيقة التمثيل الوارد في الآية ، ليتضح من خلالها حال المنافقين ، فانّ حال المشبه يعرف من حال المشبه به ، فالمهم هو التعرّف على المشبه به.

والإمعان في الآيات يثبت بأنّ التمثيل يبتدأ من قوله ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ) وينتهي بقوله : ( وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) .

وأمّا قوله : ( وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) جملة معترضة جيء بها في أثناء التمثيل ، وقوله بعد انتهاء التمثيل : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ) يرجع إلى المشبه.

هذا ما يرجع إلى مفردات الآيات وكيفية انسجامها ، والمهمّ هو ترسيم ذلك المشهد الرهيب.

فلنفترض أنّ قوماً كانوا يسيرون في الفلوات وسط أجواء سادها الظلام

ص: 81

الدامس ، فإذا بصيّب من السماء يتساقط عليهم بغزارة ، فيه رعود قاصفة وبروق لامعة تكاد تخطف الأبصار من شدتها وصواعق مخيفة ، فتولاّهم الرعب والفزع والهلع ممّا حدابهم إلى أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم خشية الموت للحيلولة دون سماع ذلك الصوت المخيف ، فعندئذٍ وقفوا حيارى لا يدرون أين يولّون وجوهم ، فإذا ببصيص من البرق أضاء لهم الطريق فمشوا فيه هنيئة ، فلما استتر ضوء البرق أحاطت بهم الظلمة مرة أُخرى وسكنوا عن المشي.

ونستخلص من هذا المشهد أنّ الهول والرعب والفزع والحيرة قد استولى على هؤلاء القوم لا يدرون ماذا يفعلون ، وهذه الحالة برمَّتها تصدق على المنافقين ، ويمكن تقريب ذلك ببيانين :

البيان الأوّل : التطبيق المفرق لكلّ ما جاء من المفردات في المشبه به ، كالصيّب والظلمات والرعد والبرق ، على المشبَّه ، وقد ذكر المفسرون في ذلك وجوهاً أفضلها ما ذكره الطبرسي تحت عنوان الوجه الثالث.

وقال : إنّه مثل للإسلام ، لأنّ فيه الحياة كما في الغيث الحياة ، وشبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر ، وما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد وخوف القتل ، وبما يخافونه من وعيد الآخرة لشكّهم في دينهم ، وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم ، وما فيه من الصواعق كما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. ويقوي ذلك ما روي عن الحسن علیه السلام انّه قال : « مثل إسلام المنافق كصيّب هذا وصفه » (1).

وربّما يقرّر هذا الوجه بشكل آخر ، وهو ما أفاده المحقّق محمد جواد

ص: 82


1- مجمع البيان : 1 / 57.

البلاغي ( المتوفّى 1352 ه ) فقال : الإسلام للناس ونظام اجتماعهم كالمطر الصيب فيه حياتهم وسعادتهم في الدارين وزهرة الأرض بالعدل والصلاح والأمن وحسن الاجتماع ، ولكن معاندة المعاندين للحق وأهله جعلت الإسلام كالمطر لا يخلو من ظلمات شدائد وحروب ومعاداة من المشركين ورعود قتل وقتال وتهديدات مزعجات لغير الصابرين من ذوي البصائر والذين ارخصوا نفوسهم في سبيل اللّه ونيل السعادة ، وفيه بروق من النصر وآمال الظفر واغتنام الغنائم وعزّ الانتصار والمنعة والهيبة. فهم إذا سمعوا صواعق الحرب أخذهم الهلع والحذر من القتل وشبهت حالهم في ذلك بأنّهم ( يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) أجل ( الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ ) وخوفاً من أن تخلع قلوبهم من هول أصواتها ، وسفهاً لعقولهم أين يفرون عن الموت وماذا يجديهم حذرهم واللّه محيط بالكافرين (1).

وهذان التقريران يرجعان إلى التطبيق المفرّق كما عرفت.

البيان الثاني : التطبيق المركّب ، وهو إنّ الغاية من وراء هذا التمثيل أُمور ثلاثة ترجع إلى بيان حالة المنافقين.

وقبل أن نستوعب البحث عنها نذكر نص كلام الزمخشري في هذا الصدد.

قال الزمخشري : والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطّونه أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به وهو القول الفصل والمذهب الجزل (2).

إذا عرفت ذلك ، فإليك البحث في الأُمور الثلاثة :

ص: 83


1- آلاء الرحمن : 1 / 74.
2- الكشاف : 1 / 162 - 163.

الأوّل : إحاطة الرعب والهلع بالمنافقين إثر انتشار الإسلام في الجزيرة العربية ودخول القبائل فيه وتنامي شوكته ، مما أوجد رعباً في قلوبهم وفزعاً في نفوسهم المضطربة ، ويجدون ذلك بلاءً أحاط بهم كالقوم الذين يصيبهم الصيّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق وإليه أشار قوله سبحانه : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ) .

الثاني : انّ النبي صلی اللّه علیه و آله لمّا كان يخبرهم عن المستقبل المظلم للكافرين والمدبرين عن الإسلام والإيمان خصوصاً بعد الموت صار ذلك كالصاعقة النازلة على رؤوسهم فكانوا يهربون من سماع آيات اللّه ويحذرون من صواعق براهينه الساطعة ، مع أنّ هذا هو منتهى الحماقة ، لأنّ صمّ الآذان ليس من أسباب الوقاية من أخذ الصاعقة ونزول الموت وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) .

الثالث : كان النبي صلی اللّه علیه و آله يدعوهم إلى أصل الدين ويتلوا عليهم الآيات البيّنة ويقيم لهم الحجج القيّمة ، فعنئذٍ يظهر لهم الحق ، فربّما كانوا يعزمون على اتّباعه والسير وراء أفكاره ، ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً ، إذ سرعان ما يعودون إلى تقليد الآباء ، وظلمة الشهوات والشبهات ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) .

إلى هنا تمّ التطبيق المركب لكن في مقاطع ثلاثة.

ثمّ إنّه سبحانه أعقب التمثيل بقوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي انّه سبحانه قادر أن يجعلهم صمّاً وعمياً حتى لا ينجع فيهم وعظ واعظ ولا تجدي هداية هاد.

وذهاب سمعهم وأبصارهم نتيجة أعمالهم الطالحة التي توصد باب التوفيق

ص: 84

أمامهم فيصيرون صمّاً وبكماً وعمياً.

ثمّ إنّ الآيات القرآنية تفسر تلك الحالة النفسانية التي كانت تسود المنافقين في مهجر النبي صلی اللّه علیه و آله حيث كانوا في حيطة وحذر من أن تنزل عليهم سورة تكشف نواياهم ، كما يشير إليه قوله سبحانه : ( يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ) (1).

ومن جانب آخر يشاهدون تنامي قدرة الإسلام وتزايد شوكته على وجه يستطيع أن يقطع دابرهم من أديم الأرض ، يقول سبحانه : ( لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ) (2).

هذا بعض ما يمكن أن يقال حول التمثيل الوارد في حق المنافقين ، ولكن المهمَّ تطبيق هذا التمثيل على منافقي عصرنا ، فدراسة حال المنافقين في عصرنا هذا من أهم وظيفة المفسِّر ، فانّ حقيقة النفاق واحدة ، ترجع إلى إظهار الإيمان وإبطان الكفر لغاية الإضرار بالإسلام والمسلمين ، وهم يقيمون في خوف ورعب ، وفي الوقت نفسه صم بكم عمي فهم لا يرجعون.

ص: 85


1- التوبة : 64.
2- الأحزاب : 60 - 61.

سورة البقرة

3. التمثيل الثالث

اشارة

قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ) (1).

تفسير الآيات

الحياء تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويُذمّ ، يقال : فلان يستحي أن يفعل كذا ، أي أنّ نفسه تنقبض عن فعله.

فعلى هذا فالحياء من مقولة الانفعال ، فكيف يمكن نسبته إلى اللّه سبحانه مع أنّه لا يجوز عليه التغيّر والخوف والذم ؟

الجواب : انّ اسناد الحياء كإسناد الغضب والرضا إلى اللّه سبحانه ، فانّها جميعاً تسند إلى اللّه سبحانه متجردة عن آثار المادة ، ويؤخذ بنتائجها ، وقد اشتهر قولهم : « خذوا الغايات واتركوا المبادئ » فالحياء يصدُّ الإنسان عن إبراز ما يضمره

ص: 86


1- البقرة : 26 - 27.

من الكلام ، واللّه سبحانه ينفي النتيجة ، أي لا يمنعه شيء عن إبراز ما هو حق ، قال سبحانه : ( فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ ) (1).

وأمّا ضرب المثل فقد مرّ الكلام فيه ، وقلنا : إنّ لاستخدام كلمة « ضرب المثل » في التمثيل بالأمثال وجوهاً :

منها : أنّ ضرب المثل في الكلام يذكر لحال ما يناسبها ، فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفياً ، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم ، وهو حدوث أثر خاص فيها ، كأن ضرب المثل يقرع به أذن السامع قرعاً ينفذ أثره في قلبه ، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شيء وتقبيحه إلاّ بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه (2).

البعوضة : حيوان حقير يشبه خرطومه خرطوم الفيل ، أجوف وله قوّة ماصة تسحب الدم ، وقد منح اللّه سبحانه هذا الحيوان قوة هضم ودفع كما منحه أُذناً وأجنحة تتناسب تماماً مع وضع معيشته ، وتتمتع بحساسية فائقة ، فهي تفر بمهارة عجيبة حين شعورها بالخطر ، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات. وقد اكتشف علماء الحيوان مؤخراً انّ البعوضة قادرة على تشخيص فريستها من مسافة تقرب عن 65 كيلومتراً.

قال أمير المؤمنين علي علیه السلام في حقّها : « كيف ولو اجتمع جميع حيوانها ، مناطيرها وبهائمها ، وما كان من مراحها وسائمها ، وأصناف أسناخها وأجناسها ، ومتبلدة أُممها وأكياسها ، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت

ص: 87


1- الأحزاب : 53.
2- تفسير المراغي : 1 / 70.

كيف السبيل إلى إيجادها ، ولتحيّرت عقولها في علم ذلك وتاهت وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة ، عارفة بأنّها مقهورة ، مقرة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضعف عن إفنائها » (1).

يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق علیهماالسلام بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير :

« إنّما ضرب اللّه المثل بالبعوضة على صغر حجمها خلق اللّه فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين ، فأراد اللّه سبحانه أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعته » (2).

إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآية ، وأمّا تفسير الآية برمّتها فقد نقل المفسرون في سبب نزولها وجهين :

الأوّل : أنّ اللّه تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين ، أعني قوله : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) وقوله : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ) قال المنافقون : اللّه أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

الثاني : انّه سبحانه لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت تكلّم فيه قوم من المشركين وعابوا ذكره ، فأنزل اللّه هذه الآية (3).

ولا يخفى ضعف الوجه الأوّل ، فانّ المنافقين لم ينكروا ضرب المثل ، وإنّما أنكروا المثلين اللّذين مثّل بهما سبحانه حال المنافقين ، وعند ذلك لا يكون التمثيل بالبعوضة جواباً لردّ استنكارهم ، لأنّهم أنكروا المثلين اللّذين وردا في حقهما ، فلا

ص: 88


1- نهج البلاغة : الخطبة186.
2- مجمع البيان : 1 / 67.
3- مجمع البيان : 1 / 67.

يكون عدم استحيائه سبحانه من التمثيل بالبعوضة ردّاً على اعتراضهم.

وأمّا الثاني ، فقد ورد ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في مكة المكرمة ، لأنّ الأوّل ورد في سورة الحج ، وهي سورة مكية ، والآخر ورد في سورة العنكبوت ، وهي أيضاً كذلك. وهذه الآية نزلت في المدينة ، فكيف تكون الآية النازلة في مهجر النبي صلی اللّه علیه و آله جواباً على اعتراض المشركين في موطنه ؟

وعلى كلّ تقدير فالآية بصدد بيان أنّ الملاك في صحة التمثيل ليس ثقل ما مثّل به أو كبره ، فلا التمثيل بالبعوضة عيب ولا التمثيل بالإبل والفيل كمال ، وإنّما الكمال أن يكون المثل مبيناً لحقيقة وواقعة غفل عنها المخاطب من دون فرق بين كون الممثل صغيراً أو كبيراً.

وبعبارة أُخرى : إذا كان الغرض التأثير فالبلاغة تقضي بأن تضرب الأمثال لما يراد تحقيره بحقيرها ولما يراد التنفير بما اعتادت النفوس النفور منها ، فالملاك هو كون المثل مفيداً لما يريد المتكلم تحقيقه ، من غير فرق بين حقير الأشياء وكبيرها ، وهو سبحانه يشير إلى ذلك المعنى بقوله : ( إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً ) ( بل ) فوقها في الصغر كالجراثيم التي لا ترى إلاّ بالمجهر ، كما تقول : فلان لا يبالي أن يبخل بنصف درهم فما فوقه أي مما فوقه في القلة.

ولو أُريد ما فوقه في الكثرة يقول مكانه « فضلاً عن الدرهم والدرهمين ».

فما في كلام بعض المستشرقين من أنّ الصحيح أن يقول « فما دونه » غير تام. للفرق بين قوله : « فما فوقه » وقوله « فضلاً » والأوّل بقرينة المقام بمعنى فما فوقه في الصغر والحقارة لا بمعنى « فضلاً ».

وربما تفسر الآية بأنّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها في

ص: 89

الكبر ، ولكن الأوّل هو الأوفق لمقصود المتكلم. كما يقال عند لوم المتجري : بأنّك تقترف جريمة لأجل دينار بل فوقه ، أي نصف دينار ، والمراد من الفوقية هو الفوقية في الحقارة.

وقد أورد الزمخشري على نفسه سؤالاً ، وهو : كيف يضرب اللّه المثل لما دون البعوضة وهي في النهاية في الصغر ؟ ثمّ أجاب :

إنّ جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات ، وقد ضربه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مثلاً للدنيا ، وفي خلق اللّه حيوان أصغر منها ومن جناحها ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحاد إلاّ تحركها فإذا سكنت ، فالسكون يواريها ، ثمّ إذا لوّحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها ، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة ، وتفاصيل خلقتها ، ويبصر بصرها ، ويطلع على ضميرها ، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر سبحان الذي خلق الأزواج كلّها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (1).

وقال البيضاوي : لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل عقب ذلك ببيان حسنه ، وما هو الحق له والشرط فيه ، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر ، والخسة والشرف ، دون الممثل ، فانّ التمثيل إنّما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ، ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه ، فانّ المعنى الصرف إنّما يدركه العقل مع منازعة من الوهم ، لأنّ من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء ، فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم

ص: 90


1- الكشاف : 1 / 205 - 206.

بالعظيم ، وإن كان المثل أعظم من كلّ عظيم ، كما مثل في الإنجيل على الصدور بالنخالة ، والقلوب القاسية ، بالحصاة ، ومخاطبة السفهاء ، بإثارة الزنابير ، وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد ، وأطيش من فراشة ، وأعز من مخ البعوض (1).

وربّما يتصور أنّ التمثيل بالأشياء الحقيرة الخسيسة لا يليق بكلام الفصحاء ، وعلى هذا فالقرآن المشتمل على النمل والذباب والعنكبوت والنحل لا يكون فصيحاً فضلاً عن كونه معجزاً.

وأجاب عنه صدر المتألهين الشيرازي ( المتوفّى عام 1050 ه ) بقوله : إنّ الحقارة لا تنافي التمثيل بها ، إذا شرط في المثال أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يستدعي التمثيل به كالعظم والحقارة ، والشرف والخساسة ، لا على وفق من يوقع التمثيل ويضرب المثال ، لأنّ الغرض الأصلي منه إيضاح المعنى المعقول ، وإزالة الخفاء عند إبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ولا يزاحمه ، فانّ العقل الإنساني مادام تعلقه بهذه القوى الحسيّة لا يمكنه إدراك روح المعنى مجرّداً عن مزاحمة الوهم ومحاكاته ، لأنّ من طبعه كالشياطين الدعابة في التخييل وعدم الثبات على صورة.

ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية ، وفشت في عبارات الفصحاء من العرب وغيرهم ، وكثرت في إشارات الحكماء ومرموزاتهم ، وصحف الأوائل ومسفوراتهم ، تتميماً للتخيّل بالحس ، فهناك يضاعف في التمثيل ، حيث يمثل أوّلاً المعقول بالمتخيل ، ثمّ يمثل المتخيل بالمرسوم المحسوس المهندس المشكل (2).

ثمّ إنّه سبحانه يذكر أنّ الناس أمام الأمثال على قسمين :

ص: 91


1- تفسير البيضاوي : 1 / 43.
2- تفسير القرآن الكريم : 2 / 192 - 193.

أ : المؤمنون : وهم الذين قال سبحانه في حقّهم : ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) .

ب : الكافرون : وهم الذين قال سبحانه في حقّهم : ( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ) . والظاهر أنّ قولهم ( أَرَادَ اللّهُ ) كان على سبيل الاستهزاء بادّعاء الرسول أنّ المثل وحي منزل من اللّه ، وإلاّ فانّ الكافرين والمنافقين كانوا ينكرون الوحي أصلاً.

ولا غرو في أن يكون شيء سبب الهداية لطائفة وسبب الضلال لطائفة أُخرى ، وما هذا إلاّ لأجل اختلاف القابليات ، فمن استعد لقبول الحقّ والحقيقة فتصبح الآيات الإلهية سبب الهداية ، وأمّا الطائفة الأُخرى المعاندون الذين صمّوا مسامعهم عن سماع كلمة الحق وآياته فينكرون الآيات ويكفرون بذلك.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ قوله سبحانه : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) من كلامه سبحانه ، ولا صلة له بكلام المنكرين ، بل تم كلامه بقوله : ( بِهَذَا مَثَلاً ) وهو انّ الأمثال تؤثر في قوم دون قوم.

ثمّ إنّه يعلّل إضلال غير المؤمنين بفسقهم ويقول : ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) ، والفسق : عبارة عن خروج النواة من التمر ، وفي الاصطلاح : من خرج عن طاعة اللّه ، سواء أكان مسلما متجرياً أو كافراً فاسقاً.

وقد أطنب المفسرون الكلام في مفاد الجملة الأخيرة أعني : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ) فربما يتوهم أنّ الآية بصدد الإشارة إلى الجبر ، فحاولوا تفسير الآية بشكل يتلاءم مع الاختيار ، وقد عرفت أنّ الحقّ هو أنّ الآية بصدد بيان أنّ المواعظ الشافية والكلمات الحِكَمية لها تأثير معاكس فيؤثر في القلوب المستعدة تأثيراً إيجابياً وفي العقول المنتكسة تأثيراً سلبياً.

ص: 92

هذا هو تفسير الآية.

وربّما يحتمل أنّ الآية ليست بصدد بيان ضرب المثل بالبعوضة كضربه بالعنكبوت والذباب ، بل الآية خارجة عن نطاق ضرب المثل بالمعنى المصطلح ، وإنّما الآية بصدد بيان قدرته وعظمته وصفاته الجمالية والجلالية ، والآية بصدد بيان أنّ اللّه سبحانه لا يستحيي أن يستدل على قدرته وكماله وجماله بخلق من مخلوقاته سواء أكان كبيراً وعظيماً كالسماوات والأرض ، أو صغيراً وحقيراً كالبعوضة والذباب ، فمعنى ضرب المثل هو وصفه سبحانه بصفات الجلال أو الكمال.

ويدل على ذلك أنّه سبحانه استدل على جلاله وكماله بخلق السماوات والأرض وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1).

يلاحظ على تلك النظرية بأمرين :

أوّلاً : لو كان المراد من ضرب المثل وصفه سبحانه بالقدرة العظيمة لكان اللازم أن يأتي بالآية بعد هاتين الآيتين مع أنّه فصل بينهما بآيات ثلاث تركّز على إعجاز القرآن والتحدّي به ، ثمّ التركيز على الجنة وثمارها كما هو معلوم لمن راجع المصحف الكريم.

وثانياً : انّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ، فقد جاء قوله : ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) في سورة الرعد بعد تشبيه الحق والباطل بمثل

ص: 93


1- البقرة : 21 - 22.

رائع يأتي البحث عنه إن شاء اللّه ، قال سبحانه : ( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ... ) إلى أن قال : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) ثمّ قال : ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلا يَنقُضُونَ المِيثَاقَ ) (1).

تجد انّ الآيات في سورتي البقرة والرعد كسبيكة واحدة يفسر بعضها البعض.

ففي سورة البقرة ذكر ضرب المثل بالبعوضة ، كما ضرب في سورة الرعد مثلاً للحق والباطل.

ففي سورة البقرة قال سبحانه : ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) .

وفي سورة الرعد قال سبحانه : ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ) .

وفي سورة البقرة قال : ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) ، وفسَّره بقوله : ( الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ... ) الخ.

وفي سورة الرعد ، فسّر أُولي الألباب بقوله : ( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلا يَنقُضُونَ المِيثَاقَ ) (2).

فبمقارنة هذه الآيات يعلم أنّ المراد من ضرب المثل هو المعنى المعروف أي التمثيل بالبعوضة لتحقير معبوداتهم أو ما يشبه ذلك.

نعم ما نقلناه عن الإمام الصادق علیه السلام ربّما يؤيد ذلك الوجه كما مرّ ، فتدبّر.

ص: 94


1- الرعد : 19 - 20.
2- الرعد : 20.

سورة البقرة

4. التمثيل الرابع

اشارة

( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (1).

تفسير الآية

جاءت الآية بعد قصة البقرة التي ذبحها بنو إسرائيل ، وقد كانوا يجادلون موسى علیه السلام بغية التملص من ذبحها ، ولكن قاموا بذبحها وما كادوا يفعلون.

وكان ذبح البقرة لأجل تحديد هوية القاتل الذي قام بقتل ابن عمه غيلة واتهم بقتله شخصاً آخر من بني إسرائيل ، فصاروا يتدارؤون ويدفعون عن أنفسهم هذه التهمة ، فرجعوا في أمرهم إلى موسى علیه السلام ، وشاء اللّه أن يظهر حقيقة الأمر بنحو معجز ، فقال لهم موسى علیه السلام : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) ، فلمّا ذبحوها - بعد مجادلات طويلة - أمر سبحانه أن يضربوا المقتول ببعض البقرة حتى يحيى المقتول ويعين هوية القاتل.

قال سبحانه : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ

ص: 95


1- البقرة : 74.

آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (1).

ومع رؤية هذه المعجزة الكبرى التي كان من المفروض أن تزيد في إيمانهم وانصياعهم لنبيهم موسى علیه السلام ، لكن - وللأسف - قست قلوبهم بنحو يحكي سبحانه شدة تلك القساوة ويقول :

( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) .

وبما أنّ الحجر هو المعروف بالصلابة والقساوة شبّه سبحانه قلوبهم بالحجارة وقال : إنَّ قُلوبهُمْ ( كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) أي : بل أشدّ قسوة ، فكلمة « أو » موضوعة مكان بل.

ثمّ إنّ القلوب إمّا بمعنى النفوس الناطقة ، فعندئذ تكون نسبة القساوة إلى الروح نسبة حقيقية. أو انّ المراد منها هو العضو المودع في الجهة اليسرى من الصدر الذي ليس له دور سوى تصفية الدم وإرساله إلى سائر الأعضاء ، وعندئذٍ تكون النسبة مجازية ، وإنّما نسبت القساوة إلى ذلك العضو ، لأنّه مظهر من مظاهر الحياة الإنسانية ، وأوّل عضو يتأثر بالأمور النفسانية كالفرح والغضب والحزن والجزع ، فلا منافاة في أن يكون المدرك هو النفس الناطقة ، ومع ذلك يصحّ نسبة الإدراك إلى القلب.

ثمّ إنّه سبحانه وصف قلوبهم بأنّها أشدّ قسوة من الحجارة ، وعلّل ذلك بأُمور ثلاثة :

الأوّل : ( وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ ) .

الثاني : ( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ ) .

ص: 96


1- البقرة : 73.

الثالث : ( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) .

أمّا الأوّل : أي تفجّر الأنهار من الحجارة ، كالعيون الجارية من الجبال الصخرية.

وأمّا الثاني : كالعيون الحادثة عند الزلازل المستتبعة للانشقاق والانفجار المستعقب لجريان الأنهار.

وأمّا الثالث : كهبوط الحجارة من الجبال العالية إلى الأودية المنخفضة من خشية اللّه.

ولا مانع من أن يكون للهبوط علة طبيعية كالصواعق التي تهبط بها الصخور وعلة معنوية التي كشف عنها الوحي ، وهي الهبوط من خشية اللّه.

وعلى ضوء ذلك فالحجارة على الرغم من صلابتها تتأثر طبقاً للعوامل السالفة الذكر ، وأمّا قلوب بني إسرائيل فهي صلبة لا تنفعل أمام وحيه سبحانه وبيان رسوله ، فلا تفزع نفوسهم ولا تخشع لأمره ونهيه.

ومن عجيب الأمر أنّ بني إسرائيل رأوا بأُمّ أعينهم ليونة الحجارة حيث استسقى موسى لقومه ، فأمر بأن يضرب بعصاه الحجر ، فلمّا ضربه انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بعدد الأسباط.

ثمّ إنّ ظاهر الآية نسبة الشعور إلى الحجارة حيث إنّها تهبط من خشية اللّه ، وهذه حقيقة علمية كشف عنها الوحي وإن لم يصل إليها الإنسان بأدواته الحسية.

يقول صدر المتألهين : إنّ الكون بجميع أجزائه يسّبح لله ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور ، فلكلّ موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والإدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب.

ص: 97

وعلى هذا الشعور تسّبح الموجودات كلّها ، خالقها وبارئها وربّها سبحانه وتنزّهه عن كلّ نقص وعيب.

ثمّ يقول : إنّ العلم والشعور والإدراك كلّ ذلك متحقّق في جميع مراتب الوجود ، ابتداء من « واجب الوجود » إلى النباتات والجمادات ، وانّ لكلّ موجود يتحلّى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة. و ... و ... ولا يخلو موجود من ذلك أبداً ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علينا - بعض الأحيان - لضعفها وضآلتها.

على أنّ موجودات الكون كلما ابتعدت عن المادة والمادية ، واقتربت إلى التجرد ، أو صارت مجردة بالفعل ازدادت فيها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً ، وكلّما ازدادت اقتراباً من المادة والمادية ، وتعمّقت فيها ، ضعفت فيها هذه الصفات ، وضؤلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرّة ، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والإدراك ، ولكنّها ليست كذلك - كما نتوهم - إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف ، والضآلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة (1).

وليست هذه الآية هي الفريدة في بابها ، بل هناك آيات تؤكد على جريان الشعور في أجزاء العالم من الذرة إلى المجرّة.

يقول سبحانه : ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) (2).

وبما أنّنا بسطنا الكلام في سريان الشعور إلى أجزاء العالم برمّته في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة ، فلنقتصر على ذلك ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه.

ص: 98


1- الأسفار : 1 / 118 و 6 / 139 ، 140.
2- الإسراء : 44.

سورة البقرة

5. التمثيل الخامس

اشارة

( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (1).

تفسير الآية

النعيق : صوت الراعي لغنمه زجراً ، يقال : نعق الراعي بالغنم ، ينعق نعيقاً ، إذا صاح بها زجراً.

والنداء : مصدر نادى ينادي مناداة ، وهو أخص من الدعاء ، ففيه الجهر بالصوت ونحوه ، بخلاف الدعاء.

وفي تفسير الآية وجوه :

الأوّل : انّ الآية بصدد تشبيه الكافرين بالناعق الذي ينعق بالغنم ، ولا يصح التشبيه عندئذٍ إلاّ إذا كان الناعق أصم ، ويكون معنى الآية : انّ الذين كفروا الذين لا يتفكرون في الدعوة الإلهية ، كمثل الأصم الذي ينعق بما لا يسمع نفسه ولا يميز من مداليل نعاقه معنى معقولاً إلاّ دعاءً ونداءً وصوتاً بلا معنى.

وجه التشبيه : انّ الناعق أصم كما أنّ هؤلاء الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون.

ص: 99


1- البقرة : 171.

وفي هذا المعنى المشبه هو الكافرون الذين لا يفهمون من الدعوة النبوية إلاّ صوتاً ودعوة فارغة من المعنى.

والمشبه به : هو الناعق الأصم الذي ينعق بالغنم ، ولكن لا يسمع من نعاقه إلاّ دعاءً ونداءً.

وهذا الوجه وإن كان ينطبق على ظاهر الآية ، ولكنّه بعيد من حيث المعنى ، إذ لو كان الهدف هو التركيز على أنّ الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون لكفى تشبيههم بالحيوان الذي هو أيضاً كذلك ، فما هو الوجه لتشبيههم بإنسان عاقل أخذ منه سمعه لا يسمع من نعاقه إلاّ صوتاً ونداءً ؟

الثاني : انّ المشبه هو النبي صلی اللّه علیه و آله ، والمشبه به هو الناعق للغنم ، والمراد ومثلك أيها النبي في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق في البهائم التي لا تسمع من نعيقه إلاّ دعاءً ونداءً ما ، فتنزجر بمجرد قرع الصوت سمعها من غير ان تعقل شيئاً ، فهم - الكافرون - صمّ لا يسمعون كلاماً يفيدهم ، وبكم لا يتكلمون بما ينفع ، وعمي لا يبصرون ، فهم لا يعقلون شيئاً ، لأنّ الطرق المؤدية إلى التعقل موصدة عليهم.

ومن ذلك ظهر أنّ في الكلام قلباً أو عناية أُخرى يعود إليه ، فانّ المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى ، إلاّ انّ الأوصاف الثلاثة التي استنتجت واستخرجت من المثل وذكرت بعده ، وهي قوله : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ، لما كانت أوصافاً للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحقّ استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول اللّه تعالى فأنتج ما أشبه القلب (1).

ص: 100


1- الميزان : 1 / 420.

ثمّ إنّ صاحب المنار فسّر الآية على الوجه الأوّل وقال : ( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي صفتهم في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم كمثل الذي لا يسمع إلاّ دعاء ونداءً ، أي كصفة الراعي للبهائم السائمة ينعق ويصيح بها في سوقها إلى المرعى ودعوتها إلى الماء وجزها عن الحمى ، فتجيب دعوته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار. شبّه حالهم بحال الغنم مع الراعي يدعوها فتقبل ، ويزجرها فتنزجر ، وهي لا تعقل مما يقول شيئاً ، ولا تفهم له معنى وإنّما تسمع أصواتاً تقبل لبعضها وتدبر للآخر بالتعويد ، ولا تعقل سبباً للإقبال ولا للإدبار (1).

يلاحظ عليه : أنّ الآية بصدد ذمهم وانّهم لا يعتنقون الإيمان ولا يمتثلون الأوامر الإلهية ونواهيها ، وعلى ذلك تصبح الآية نوع مدح لهم ، لأنّهم لو كانوا كالبهائم السائمة يجيبون دعوة النبي كقبولها دعوة الراعي وينزجرون بزجره صلی اللّه علیه و آله كانتهائها عن نهي الراعي ، فيكون ذلك على خلاف المقصود ، فانّ المقصود بشهادة قوله ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) انّهم لا يسمعون كلام النبي صلی اللّه علیه و آله ولا ينطقون بالحقّ ولا ينظرون إلى آيات اللّه وانّهم في واد والنبي صلی اللّه علیه و آله في واد آخر.

وأين هم من البهائم السائمة التي تقع تحت يد الراعي فتنتهي بنهيه ؟!

ص: 101


1- تفسير المنار : 2 / 93 - 94.

سورة البقرة

6. التمثيل السادس

اشارة

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) (1).

نزلت الآية عندما حوصر المسلمون واشتد الخوف والفزع بهم في غزوة الأحزاب فجاءت الآية لتثبّت قلوبهم وتعدهم بالنصر.

وقيل : إنّ عبد اللّه بن أُبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد : إلى متى تتعرضون للقتل ، ولو كان محمّد نبياً لما واجهتم الأسر والتقتيل ، فنزلت الآية.

تفسير الآية

وردت لفظة « أم » للإضراب عما سبق وتتضمن معنى الاستفهام ، والمعنى « بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة ».

و ( الْبَأْسَاءُ ) : هي الشدة المتوجهة إلى الإنسان من خارج نفسه كالمال والجاه والأهل.

و « الضرّاء » : هي الشدة التي تصيب نفس الإنسان كالجرح والقتل ، وقيل :

ص: 102


1- البقرة : 214.

انّ « البأساء » نقيض « النعماء » ، « الضراء » نقيض « السراء » ، و « الزلزلة » شدة الحركة ، والزلزال البلية المزعجة لشدة الحركة والجمع زلازل ، وأصله من قولك زلّ الشيء عن مكانه ، ضوعف لفظه بمضاعف معناه ، نحو صرى وصرصر ، وصلى وصلصل ، فإذا قلت زلزلته ، فمعناه كررت تحريكه عن مكانه.

وقد جاء ما يقرب من مضمون الآية في آيات أُخرى ، منها قال سبحانه : ( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ) (1).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) (2).

وقال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) (3).

تدلُّ مجموع هذه الآيات على دوام الابتلاء والامتحان في جميع الأُمم خصوصاً في الأمة الإسلامية.

ثمّ إنّ الهدف من امتحان أبناء البشر هو تحصيل العلم بكفاءة الممتحن ، لكنّه فيه سبحانه يستهدف إلى إخراج ما بالقوة من الكمال إلى الفعلية مثلاً : فانّ إبراهيم علیه السلام كان يتمتع بموهبة التفاني في اللّه وبذل ما يملك في سبيله غير انّه لم تكن لها ظهور وبروز ، فلما وقع في بوتقة الامتحان ظهرت تلك الموهبة إلى الوجود بعد ما كانت بالقوة.

ص: 103


1- البقرة : 177.
2- الأنعام : 42.
3- الأعراف : 94.

وما ذكرنا هو المستفاد من الآيات وقد صرح به الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في بعض خطبه : قال :

« لا يقولنّ أحدكم : اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة ، لأنّه ليس أحد إلاّ وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن ، فانّ اللّه سبحانه يقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) ومعنى ذلك انّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يُستحق الثواب والعقاب » (1).

إلى هنا تبين معنى مفردات الآية وسبب نزولها والآيات التي وردت في هذا الصدد في حقّ سائر الأُمم.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الآية.

يقول سبحانه : إنّ الابتلاء بالبأساء والضراء سنة إلهية جارية في الأمم كافة ولا تختص بالأُمة الإسلامية ، فالتمحيص وتمييز المؤمن الصابر عن غير الصابر رهن الابتلاء. فلا يتمحض إيمان المسلم إلاّ إذا غربل بغربلة الامتحان ليخرج نقياً. ولا يترسخ الإيمان في قلبه إلاّ من خلال الصمود والثبات أمام أعاصير الفتن الهوجاء.

وكأنّ الآية تسلية لنبيه وأصحابه مما نالهم من المشركين وأمثالهم ، لأنّ سماع أخبار الأُمم الماضية يسهّل الخطب عليهم ، وانّ البلية لا تختص بهم بل تعم غيرهم أيضاً ، ولذلك يقول : ( أَمْ حَسِبْتُمْ ) أي أظننتم وخلتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة ( وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) ، أي أن تدخلوا الجنة ولما تبتلوا وتمتحنوا بمثل ما ابتليت به الأُمم السالفة وامتحنوا به. فعليكم بالصبر والثبات كما صبر هؤلاء وثبتوا.

ص: 104


1- نهج البلاغة : قسم الحكم : الحكمة 93.

وعلى ضوء هذا فالمثل بمعنى الوصف - وقد تقدم منّا القول - بأنّ من معانى المثل هو الوصف. فقوله : ( وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ) ، أي « لما يأتكم وصف الذين خلوا من قبلكم » فلا يدخلون حظيرة الإيمان الكامل إلاّ أن يكون لهم وصف مثل وصف الذين واجهوا المصائب والفتن بصبر وثبات وعانوا الكثير من القلق والاضطراب ، كما قال تعالى في حقّ المؤمنين : ( وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ) ففي خضّم هذه الفتنة التي تنفد فيها طاقات البشر ، فإذا بالرحمة تنزل عليهم من خلال دعاء الرسول صلی اللّه علیه و آله وصالح المؤمنين.

كما قال سبحانه : ( وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ ) والجملة ليست إلاّ طلب دعاء للنصر الذي وعد اللّه به رسله والمؤمنين بهم واستدعاءً له ، كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ ) (1) ، وقال تعالى : ( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) (2).

يقول الزمخشري : ومعناه طلب الصبر وتمنّيه واستطالة زمان الشدة ، وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدة ، وتماديه في العظم ... فإذا لم يبق للرسل صبر حتى ضجّوا ، كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح ورائها.

وعند ذلك يخاطبون بقوله سبحانه : ( أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) أي يقال لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر (3).

ثمّ إنّ القراءة المعروفة هي الرفع في قوله : ( حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ) ، وعند ذلك تكون الجملة لحكاية حال الأمم الماضية. وقرئ بنصب « يقول » وعلى هذا

ص: 105


1- الصافات : 171 - 172.
2- المجادلة : 21.
3- الكشاف : 1 / 270 في تفسير الآية.

تكون الجملة في محل الغاية لما سبقها وهو قوله ( مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ) و ( زُلْزِلُوا ) ولعل القراءة الاَُولى أفضل لبعد كون الجملة غاية لمس البأساء والضراء والزلزال.

وقد تبين ممّا ذكرنا انّ المثل بمعنى التمثيل والتشبيه ، فتشبيه حال الأمة الإسلامية بالأمم السابقة في أنّهم يعمّهم البأساء والضراء والزلزال ، فإذا قرب نفاد طاقاتهم وصمودهم في المعارك يدعو الرسول ومن معه من المؤمنين لهم بالنصر والغلبة والنجاح.

ثمّ إنّ بعض الكتّاب ممن كتب في أمثال القرآن جعل الآيات الثلاث التالية من الأمثال القرآنية (1).

أ : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (2).

ب : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (3).

ص: 106


1- الدكتور محمد حسين علي الصغير : الصورة الفنية في المثل القرآني : 144؛ والدكتور إسماعيل إسماعيلي : تفسير أمثال القرآن : 191.
2- البقرة : 258.
3- البقرة : 259.

ج : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1).

ولا يخفى ما فيها من الضعف.

أمّا الآية الأولى فلأنّ المراد من التمثيل هو التشبيه الذي يصور فيه غالباً غير المحسوس بالمحسوس ويقرِّب المعنى إلى ذهن المخاطب ، ولكن التشبيه في الآية الاَُولى الذي قام به مناظر إبراهيم كان تشبيهاً غير صحيح ، وذلك لأنّه لمّا وصف إبراهيم ربّه بأنّه يحيي ويميت أراد منه من يضفي الحياة على الجنين ويقبضه عندما يَطعن في السن ، ولكن المناظر فسّره بوجه أعم وقال : أنا أيضاً أُحيي وأُميت ، فكان إحياؤه بإطلاق سراح من كُتب عليه القتل ، وقتل من شاء من الأحياء ، مع الفرق الشاسع بين الإحياء والإماتة في كلام الخليل وكلام المناظر ، فلم يكن هناك أي تشبيه بل مغالطة واضحة فيه.

وأمّا الآية الثانية ، فلم يكن هناك أي تشبيه أيضاً ، لأنّه يشترط في التمثيل الاختلاف بين المشبه والمشبه به اختلافاً نوعياً ، كتشبيه الرجل الشجاع بالأسد ومُحمرَّ الشقيق بأعلام الياقوت ، وأمّا الآية المباركة فانّما هي من قبيل إيجاد مِثْل للمشبه ، فالرجل لما مرّ على القرية الخاوية على عروشها وقد شاهد بأنّه باد أهلها ورأى عظاماً في طريقها إلى البِلاء فقال : ( أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) فأماته اللّه سبحانه مائة عام ثم أحياه كما هو ظاهر الآية ، وعلى ذلك فأوجد مِثْلاً للمشبه مع الوحدة النوعية وإنّما الاختلاف في الصنف ، وقد عرفت لزوم وجود التباين النوعي بين المشبّه والمشبّه به.

ص: 107


1- البقرة : 260.

وأمّا الآية الثالثة ، فمفادها هو أنّ إبراهيم كان مؤمناً بقدرته على إحياء الموتى ولكن طلب الإحياء ليراه بعينه ، لأنّ للعيان أثراً كبيراً في الاطمئنان ورسوخ العلم في القلب ، فطلب الرؤية ليطمئن قلبه ويزداد يقينه ، فخاطبه سبحانه بقوله : ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) ، أي أملهنّ وأجمعهنّ وضمهنّ إليك. ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ) هذا دليل على أنّه سبق الأمر بقطعهنّ وذبحهنّ. ( ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ) ، ولم يذكر في الآية قيام إبراهيم بهذه الأعمال استغناء عنه بالقرائن.

هذا هو مفهوم الآية وأمّا انّها ليست مَثَلاً ، فلعدم توفر شرائط المثَل من المشبه والمشبه به ، وإنّما هو من قبيل إيجاد الفرد من الأمر الكلي أي إحياء الموتى سواء أكان إنساناً أم لا.

فالأولى عدّ هذه الآيات من القصص التي حكاها القرآن الكريم للعبرة والعظة لكن لا في ثوب المثل. فلننتقل إلى التمثيل السابع في سورة البقرة.

ص: 108

سورة البقرة

7. التمثيل السابع

اشارة

( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) (1).

تفسير الآيات

وعد سبحانه في غير واحد من الآيات بالجزاء المضاعف ، قال سبحانه : ( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (2).

ولأجل تقريب هذا الأمر أتى بالتمثيل الآتي وهو :

انّ مثل الإنفاق في سبيل اللّه كمثل حبة أنبتت ساقاً انشعب سبعة شعب خرج من كلّ شعبة سنبلة فيها مائة حبة فصارت الحبة سبعمائة حبة ، بمضاعفة اللّه لها ، ولا يخفى انّ هذا التمثيل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعة ، فانّ في

ص: 109


1- البقرة : 261 - 263.
2- البقرة : 245.

هذه إشارة إلى أنّ الأعمال الصالحة يمليها اللّه عزّ وجلّ لأصحابها كما يملي لمن بذر في الأرض الطيبة.

وظاهر الآية انّ المشبه هو المنفق ، والمشبه به هو الحبة المتبدلة إلى سبعمائة حبة ، ولكن التنزيل في الواقع بين أحد الأمرين :

أ : تشبيه المنفق بزارع الحبة.

ب : تشبيه الإنفاق بالحبة المزروعة.

ففي الآية أحد التقديرين.

ثمّ إنّ ما ذكره القرآن من التمثيل ليس أمراً وهمياً وفرضاً خيالياً بل هو أمر ممكن واقع ، بل ربما يتجاوز هذا العدد ، فقد حكى لى بعض الزُّرّاع انّه جنى من ساق واحد ذات سنابل متعددة تسعمائة حبة ، ولا غرو في ذلك فانّه سبحانه هو القابض والباسط.

ثمّ إنّه سبحانه فرض على المنفق في سبيل اللّه الطالب رضاه ومغفرته أن لا يتبع ما أنفقه بالمنِّ والأذى.

أمّا المن ، فهو أن يتطاول المعطي على من أعطاه بأن يقول : « ألم أعطك » « ألم أحسن إليك » كلّ ذلك استطالة عليه ، وأمّا الأذى فهو واضح.

فهؤلاء - أي المنفقون - غير المتبعين إنفاقهم بالمنّ والأذى ( لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

ثمّ إنّه سبحانه يرشد المعوزين بأن يردّوا الفقراء إذا سألوهم بأحد نحوين :

أ : ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ) كأن يتلطف بالكلام في ردّ السائلين والاعتذار منهم والدعاء لهم.

ص: 110

ب : ( وَمَغْفِرَةٌ ) لما يصدر منهم من إلحاف أو إزعاج في المسألة.

فالمواجهة بهاتين الصورتين ( خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ) .

وعلى كلّ حال فالمغني هو اللّه سبحانه ، كما يقول : ( وَاللّهُ غَنِيٌّ ) ، أي يغني السائل من سعته ، ولكنّه لأجل مصالحكم في الدنيا والآخرة استقرضكم في الصدقة وإعطاء السائل. ( حَلِيمٌ ) فعليكم يا عباد اللّه بالحلم والغفران لما يبدر من السائل.

ص: 111

سوره البقرة

8. التمثيل الثامن

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (1).

الرئى من الرؤية ، وسمي المرائي مرائياً ، كأنّه يفعل ليرى غيره ذلك.

والصفوان واحدته صفوانة ، مثل سعدان وسعدانة ، ومرجان ومرجانة ، وهي الحجر الأملس.

و « الوابل » : المطر الشديد الوقع.

و « الصلد » : الحجر الأملس أي الصلب ، و « الصلد » من الأرض ما لا ينبت فيه شيئاً لصلابته.

قد مرّ في التمثيل السابق انّ التلطف بالكلام في رد السائل والاعتذار منه ، والعفو عما يصدر منه من إلحاف وإزعاج ، أفضل من أن ينفق الإنسان ويتبع عمله بالأذى.

وأمّا ما هو سببه ، فقد بيّنه سبحانه في هذا التمثيل ، وذلك بأنّ المن والأذى

ص: 112


1- البقرة : 264.

يبطل الإنفاق السابق ، لأنّ ترتب الأجر على الإنفاق مشروط بترك تعقبه بهما ، فإذا اتبع عمله بأحد الأمرين فقد افتقد العمل شرط استحقاق الأجر.

وبهذا يتبيّن انّ الآية لا تدلّ على حبط الحسنة بالسيئة ، لأنّ معنى الحبط هو إبطال العمل السيّء الثواب المكتوب المفروض ، والآية لا تدلّ عليه لما قلنا من احتمال أن يكون ترتب الثواب على الإنفاق مشروطاً من أول الأمر بعدم متابعته بالمن والأذى في المستقبل ، فإذا تابع عمله بأحدهما فلم يأت بالواجب أو المستحب على النحو المطلوب ، فلا يكون هناك ثواب مكتوب حتى يزيله المنّ والأذى.

وأمّا استخدام كلمة الإبطال ، فيكفي في ذلك وجود المقتضي للأجر وهو الإنفاق ، ولا يتوقف على تحقّق الأجر ومفروضيته على اللّه بالنسبة إلى العبد.

ثمّ إنّ الحبط باطل عقلاً وشرعاً.

أمّا الأوّل فلما قرر في محله من استلزامه الظلم ، لأنّ معنى الحبط انّ مطلق السيئة يذهب الحسنات وثوابها على وجه الإطلاق مع أنّه مستلزم للظلم ، لأنّ من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر - فعلى القول بالإحباط - يكون بمنزلة من لم يحسن.

وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يسئ ، وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنهما (1).

وأمّا شرعاً فلقوله سبحانه : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (2).

ص: 113


1- كشف المراد : المقصد السادس ، المسألة السابعة.
2- الزلزلة : 7 - 8.

وإلى هذين الوجهين أشار المحقّق الطوسى بقوله :

والإحباط باطل ، لاستلزامه الظلم ولقوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) (1).

ثمّ إنّ العبد بما انّه لا يملك شيئاً إلاّ بما أغناه اللّه وأعطاه ، فهو ينفق من مال اللّه سبحانه ، لأنّه وما في يده ملك لمولاه فهو عبد لا يملك شيئاً إلاّ بتمليكه سبحانه ، فمقتضى تلك القاعدة أن ينفق لله وفي سبيل اللّه ولا يتبع عمله بالمنّ والأذى.

وبعبارة أُخرى : انّ حقيقة العبودية هي عبارة عن حركات العبد وسكناته لله سبحانه ، ومعه كيف يسوّغ له اتّباع عمله بالمن والأذى.

ولذلك يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى ) .

ثمّ إنّه سبحانه شبّه أصحاب المن والأذى بالمرائي الذي لا يبتغي بعمله مرضاة اللّه تعالى ، ولا يقصد به وجه اللّه غير انّ المانّ والمؤذي يقصد بعمله مرضاة اللّه ثمّ يتبعهما بما يبطله بالمعنى الذي عرفت ، والمرائي لا يقصد بأعماله وجه اللّه سبحانه فيقع عمله باطلاً من رأس ، ولذلك صحّ تشبيههما بالمرائي مثل تشبيه الضعيف بالقوي.

وأمّا حقيقة التمثيل فتوضيحها بالبيان التالي :

نفترض أرضاً صفواناً أملس عليها تراب ضئيل يخيل لأوّل وهلة أنّها أرض نافعة صالحة للنبات ، فأصابها مطر غزير جرف التراب عنها فتركها صلداً صلباً

ص: 114


1- المصدر نفسه.

أملس لا تصلح لشيء من الزرع ، كما قال سبحانه : ( كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ) .

فعمل المرائي له ظاهر جميل وباطن رديء ، فالإنسان غير العارف بحقيقة نية العامل يتخيل انّ عمله منتج ، كما يتصور الإنسان الحجر الأملس الذي عليه تراب قليل فيتخيل انّه صالح للنبات ، فعند ما أصابه مطر غزير شديد الوقع ونفض التراب عن وجه الحجر تبين انّه حجر أملس لا يصلح للزراعة ، فهكذا عمل المرائي إذا انكشفت الوقائع ورفعت الأستار تبين انّه عمل رديء عقيم غير ناتج.

ثمّ إنّ المانّ والمؤذي بعد الإنفاق أشبه بعمل المرائي.

ص: 115

سورة البقرة

9. التمثيل التاسع

اشارة

( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (1).

تفسير الآية

« الربوة » : هي التل المرتفع.

و « الطلّ » : المطر الخفيف ، يقال : أطلّت السماء فهي مطلة. وروضة طلّة ندية.

شبّه سبحانه في التمثيل السابق عمل المان والمؤذي بعد الإنفاق والمرائي بعمله بالأرض الصلبة التي عليها تراب يصيبها مطر غزير يكتسح التراب فلا يظهر إلاّ سطح الحجر لخشونته وصلابته ، على عكس التمثيل في هذه الآية حيث إنّها تشبّه عمل المنفق لمرضاة اللّه تبارك وتعالى بجنة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل النسيم الطلق والمطر الكثير النافع ، وقيد المشبه به ببستان مرتفع عن الأرض ، لأنّ تأثير الشمس والهواء فيه أكمل فيكون أحسن منظراً وأذكى ثمراً ، أمّا الأماكن المنخفضة التي لا تصيبها الشمس في الغالب إلاّ قليلاً فلا تكون كذلك.

ص: 116


1- البقرة : 265.

قال الرازي : إنّ المراد بالربوة الأرض المستوية الجيدة التربة بحيث تربو بنزول المطر عليها وتنمو ، كما قال سبحانه : ( فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ ) .

ويؤيده انّ المثل مقابل الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر.

وعلى كلّ حال فهذا النوع من الأرض ان أصابها وابل أتت أُكلها ضعفين فكان ثمرها مثلي ما كانت تثمر في العادة ، وإن لم يصبها وابل بل أصابها الطل تعطي أُكلها حسب ما يترقّب منها.

فالذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه أشبه بتلك الجنة ذات الحاصل الوافر المفيد والثمين.

ثمّ إنّ قوله سبحانه : ( ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) بيان لدوافع الإنفاق وحواجزه وهو ابتغاء مرضاة اللّه أولاً ، وتقوية روح الإيمان في القلب ثانياً ، ولعلّ السرّ في دخول « من » على ( مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) مع كونه مفعولاً لقوله ( تَثْبِيتًا ) لبيان انّ هذا المنفق ينفق من نفس قد روضها وثبتها في الجملة على الطاعة حتى سمحت لله بالمال الغزير فهو يجعل من مقاصده في الإنفاق ، تثبيتها على طاعة اللّه وابتغاء مرضاته في المستقبل.

ص: 117

سورة البقرة

10. التمثيل العاشر

اشارة

( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) (1).

تفسير الآية

ودّ الشيء : أحبه. و « الجنة » هي الشجر الكثير الملتف كالبستان سميت بذلك ، لأنّها تجن الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه.

و « النخيل » جمع نخل أو اسم جمع.

و « الأعناب » جمع عنب وهو ثمر الكرم ، والقرآن يذكر الكرم بثمره والنخل بشجره لا بثمره.

و « الإعصار » ريح عاصفة تستدير في الأرض ثمّ تنعكس عنها إلى السماء حاملة معها الغبار كهيئة العمود ، جمعه أعاصير ، وخصّ الأعاصير بما فيها نار ، وقال : ( إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ ) ، وفيه احتمالات :

أ : أن يكون المراد الرياح التي تكتسب الحرارة أثناء مرورها على الحرائق

ص: 118


1- البقرة : 266.

فتحمل معها النيران إلى مناطق نائية.

ب : العواصف التي تصاحبها الصواعق وتصيب الأرض وتحيلها إلى رماد.

ج : البرد الشديد الذي يطلق على كلّ ما يتلف الشيء ولو بتجفيف رطوبته.

والمتعين أحد الأوّلين دون الثالث ، وإلاّ لكان له سبحانه أن يقول كمثل ريح صرّ وهو البرد الشديد ، قال سبحانه في صدقات الكفار ونفقاتهم في الدنيا : ( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (1).

نعم ربما يفسر الصرّ بالسموم الحارة القاتلة (2). وعندئذ تتحد الآيتان في المعنى.

وعلى كلّ حال فالمقصود هو نزول البلاء على هذه الجنة الذي يؤدي إلى إبادتها بسرعة.

ثمّ إنّه سبحانه بينما يقول : ( جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الظاهر في كون الجنّة محفوفة بهما ، يقول أيضاً : ( فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) ، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين ؟

والظاهر انّ النخيل والأعناب لمّا كانا أكرم الشجر وأكثرها نفعاً خصّهما بالذكر وجعل الجنة منهما ، وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما.

إلى هنا تم تفسير مفردات الآية.

ص: 119


1- آل عمران : 117.
2- مجمع البيان : 1 / 491.

وأمّا التمثيل فيتركب من مشبه ومشبه به.

أمّا المشبه فهو عبارة عمن يعمل عملاً صالحاً ثمّ يردفه بالسيئة ، كما هو المروي عن ابن عباس ، عندئذٍ يكون المراد من ينفق ويتبع عمله بالمنّ والأذى.

قال الزمخشري : ضربت الآية مثلاً لرجل غني يعمل الحسنات ، ثمّ بعث اللّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها (1).

وأمّا المشبه به فهو عبارة عن رجل طاعن في السن لحقته الشيخوخة وله أولاد صغار غير قادرين على العمل وله جنّة محفوفة بالنخيل والأعناب تجري من تحتها الأنهار وله من كلّ الثمرات ، وقد عقد على تلك الجنة آمالاً كبيرة ، وفجأة هبت عاصفة محرقة فأحرقتها وأبادتها عن بكرة أبيها فكيف يكون حال هذا الرجل في الحزن والحسرة والخيبة والحرمان بعد ما تلاشت آماله ، فالمنفق في سبيل اللّه الذي هيأ لنفسه أجراً وثواباً أُخروياً عقد به آماله ، فإذا به يتبع عمله بالمعاصي ، فقد سلط على أعماله الحسنة تلك أعاصير محرقة تبيد كلّ ما عقد عليه آماله.

ص: 120


1- الكشاف : 1 / 299.

سورة البقرة

11. التمثيل الحادي عشر

اشارة

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (1).

تفسير الآية

« الربا » الزيادة كما في قولهم ربا الشيء يربو إذا زاد ، والربا هو الزيادة على رأس المال ، فلو أقرض أحد أحداً عشرة إلى سنة فأخذ منه في نهاية الأجل أكثر ممّا دفع فهو ربا إذا شرطه في العقد.

و « التخبّط » والخبط بمعنى واحد ، وهو المشي على غير استواء ، يقال : خبط البصير إذا اختلّت جهة مشيه ، ويقال للذى يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه : هو يخبط خبطة عشواء ، أي يضرب على غير اتساق.

وعلى هذا فالمراد من قوله : ( يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ ) أي يخبطه الشيطان ويضربه ، وبالتالي يصرعه.

ص: 121


1- البقرة : 275.

و « السلف » أي الماضي يقال سلف يسلف سلوفاً ، ومنه الأمم السالفة أي الماضية.

وأمّا قوله ( مِنَ المَسِّ ) فالظرف متعلق بيقوم ، أي لا يقومون إلاّ كما يقوم المصروع من المسّ.

وحاصل معنى الآية انّ آكل الربا لا يقوم إلاّ كقيام من يخبطه الشيطان فيصرعه ، فكما أنّ قيامه على غير استواء فهكذا آكل الربا.

فالتشبيه وقع بين قيام آكل الربا وقيام المصروع من خبط الشيطان ، فيطرح هنا سؤالان :

الأوّل : ما هو المراد من أنّ آكل الربا لا يقوم إلاّ كقيام المصروع ؟

الثاني : ما هو المراد من كون الصرع من مس الشيطان ؟

أمّا الأوّل : فقد اختلف فيه كلمة المفسرين على وجوه :

1. ذهب أكثرهم إلى أنّ المراد قيامهم يوم القيامة قيام المتخبطين ، فكأنّ آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً ، وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا ، فيعرفه أهل الموقف انّه آكل الربا في الدنيا.

وعلى ضوء هذا فيكون معنى الآية انّهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بمسٍّ.

2. انّهم إذا بعثوا من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله : ( يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا ) إلاّ آكلة الربا فانّهم يقومون ويسقطون ، لأنّه سبحانه أرباه في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الإسراع ولا يقدرون.

ص: 122

ويوَيده ما روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : أُسري بي إلى السماء رأيت رجالاً بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى من خارج بطونهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال : هؤلاء آكلة الربا.

3. انّ المراد من المسّ ليس هو الجنون ، وإن كان المسّ يستعمل فيه ، بل المراد من تبع الشيطان وأجاب دعوته ، كما هو الحال في قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) (1) ، وذلك لأنّ الشيطان يدعو إلى طلب اللّذات والشهوات والاشتغال بغير اللّه ، فهذا هو المراد من مسّ الشيطان ، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً ، فتارة يجرّه الشيطان إلى اتّباع النفس والهوى ، وتارة تجرّه الفطرة إلى الدين والتقوى فتضطرب حياته ويسودها القلق.

فلا شكّ انّ آكل الربا يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً عليها ، ولذلك تكون حياته الدنيوية حياة غير منظمة وعلى غير استواء.

وهناك وجه رابع ذكره السيد الطباطبائي وهو :

إنّ الإنسان الممسوس الذي اختلّت قوته المميزة لا يفرق بين الحسن والقبيح ، والنافع والضار ، والخير والشر ، فهكذا حال المرابي في أخذه للربا فانّ الذي تدعو إليه الفطرة أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه. وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه مع زيادة ، فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة وأساس المعيشة ، فانّ ذلك ينجر من جانب المرابى إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمّعه وتراكمه عند المرابي ، فانّ هذا المال لا يزال ينمو ويزيد ، ولا ينمو إلاّ من مال الغير ، فهو بالانتقاص

ص: 123


1- الأعراف : 201.

والانفصال من جانب ، والزيادة والانضمام من جانب آخر.

وينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايداً لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة ، وكلما زاد المصرف أي نما الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص ويتداركه وفي ذلك انهدام حياة المدين.

فالربا يضاد التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنساني الذي هدته إليه الفطرة الإلهية.

وهذا هو الخبط الذي يبتلى به المرابي كخبط الممسوس ، فانّ المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرّق بين البيع والربا ، فإذا دُعي إلى أن يترك الربا ويأخذ بالبيع ، أجاب : انّ البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية ، فلا موجب لترك الربا وأخذ البيع ، ولذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم : ( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) (1).

وهناك سؤال : وهو انّه لماذا قيل البيع مثل الربا بل كان عليهم القول بأنّ الربا مثل البيع ، لأنّ الكلام في الربا لا في البيع فوجب عليهم أن يشبهوا الربا بالبيع ، لا على العكس.

والجواب انّهم شبهوا البيع بالربا لأجل المبالغة وهو انّهم جعلوا حلّية الربا أصلاً ، وحلية البيع فرعاً ، فقالوا : إنّ البيع مثل الربا.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني وهو كون الجنون معلولاً لوطأة الشيطان ومسّه ، فنقول :

انّ ظاهر الآية انّ الجنون نتيجة تصرف الجن في المجانين ، مع أنّ العلم

ص: 124


1- الميزان : 2 / 411.

الحديث كشف علّة الجنون وهو حدوث اختلالات في الأعصاب الإدراكية ، فكيف يجمع بين مفاد الآية وما عليه العلم الحديث ، وهذا من قبيل تعارض النقل والعقل ؟

وأجاب عنه بعض المفسرين بأنّ هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامّة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين ، ولا ضير في ذلك ، لأنّه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأً غير مطابق للواقع.

فحقيقة معنى الآية هو انّ هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس ، وأمّا كون الجنون مستنداً إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن ، لأنّ اللّه سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده ، أو على عبده المؤمن (1).

وأجاب عنه السيد الطباطبائي بأنّ اللّه تعالى أجلّ من أن يستند في كلامه إلى الباطل ، ولغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلاّ مع بيان بطلانه ورده على قائله ، وقد قال تعالى في وصف كلامه : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) (2).

وقال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالهَزْلِ ) (3).

وأمّا انّ استناد الجنون إلى تصرف الشيطان وذهاب العقل ينافي عدله تعالى ، ففيه انّ الاشكال بعينه مقلوب عليهم في اسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب

ص: 125


1- نقله في الميزان : 2 / 413 ولم يذكر المصدر ؛ وفي تفسير المنار : 3 / 95 ما يقرب من ذلك نقله عن البيضاوي في تفسيره.
2- فصلت : 41 - 42.
3- الطارق : 13 - 14.

الطبيعية فانّها مستندة أخيراً إلى اللّه تعالى مع إذهابها العقل (1).

وهناك كلام آخر للسيد الطباطبائي ولعلّه يقلع الشبهة : انّ استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان ، كما أنّ أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين ، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه اللّه عن أيوب علیه السلام إذ قال : ( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) (2) ، وإذ قال : ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (3) والضرّ هو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن ، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان (4).

ص: 126


1- الميزان : 2 / 412.
2- ص : 41.
3- الأنبياء : 83.
4- الميزان : 2 / 413.

آل عمران

12. التمثيل الثاني عشر

اشارة

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ المُمْتَرِينَ ) (1).

تفسير الآية

ذكر سبحانه كيفية ولادة المسيح من أُمّه « مريم العذراء » وابتدأ بيانه بقوله : ( إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ ... ) وانتهى بقوله : ( قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (2).

وبذلك أثبت انّ المسيح مخلوق لله سبحانه مولود من أُمّه العذراء دون أن يمسّها بشر وانّه علیه السلام آية من آيات اللّه سبحانه ، ولما كانت النصارى تتبنى إلوهية المسيح وانّه يؤلف أحد أضلاع مثلث الألوهية الرب والابن وروح القدس ، وكانت تؤمن انّه ابن الرب ، لأنّه ولد من مريم بلا أب.

ولما احتجوا بهذا الدليل أمام النبي صلی اللّه علیه و آله وافاه الوحي مجيباً على استدلالهم بأنّ

ص: 127


1- آل عمران : 59 - 60.
2- آل عمران : 45 - 47.

كيفية خلق المسيح يضاهي كيفية خلق آدم. حيث إنّ آدم خلق من تراب بلا أب وأُمّ ، فإذا كان هذا أمراً ممكناً ، فمثله المسيح حيث ولد من أُمّ بلا أب فهو أهون بالإمكان.

وبعبارة أُخرى : انّ المسيح مثل آدم في أحد الطرفين ، ويكفي في المماثلة المشاركة في بعض الأوصاف ، ففي الحقيقة هو من قبيل تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة الشبهة.

إنّ من الأسئلة المثارة حول قوله سبحانه : ( ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) هو انّ الأنسب أن يقول : « ثم قال له كن فكان » فلماذا قال : ( فَيَكُونُ ) لأنّ أمره سبحانه بالتحقّق أمر يلازم تحقّق الشيء دفعة ؟.

والجواب انّه وضع المضارع مكان الماضي وهو أمر جائز ، والنكتة فيه هي تصوير الحالة الماضية فأنّ تكوّن آدم كان أمراً تدريجياً لا أمراً دفعياً.

وبعبارة أُخرى : انّ قوله : ( كُن ) وإن كان دالاً على انتفاء التدريج ولكنّه بالنسبة إليه سبحانه ، وأمّا بالنسبة إلى المخلوق فهو على قسمين : قسم يكون فاقداً له كالنفوس والعقول الكلية ، وقسم يكون أمراً تدريجياً حاصلاً بالنسبة إلى أسبابها التدريجية ، فإذا لوحظ الشيء بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة - لانتفاء الزمان والحركة في المقام الربوبي ، ولذا قال سبحانه : ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (1) وأمّا إذا لوحظ بالقياس إلى وجود الممكن وأسبابه فالتدريج أمر متحقق ، وبالجملة فقوله ( فَيَكُونُ ) ناظر إلى الحالة الماضية (2).

وهناك وجه آخر ذكره المحقّق البلاغي عند تفسير قوله سبحانه : ( بَدِيعُ

ص: 128


1- القمر : 50.
2- الميزان : 3 / 212 ؛ المنار : 3 / 319.

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) .

إنّ قوله : ( فَيَكُونُ ) تفريع على قوله ( يَقُولُ ) وليس جزاءً لقوله تعالى ( كُن ) ، لأنّ الكون بعد الفاء ، هو نفس الكون المأمور به لا جزاءه المترتب عليه ، وتوهم انّه جزاء لذات الطلب أو ملكوت مع الطلب مدفوع ، بأنّه لو صحّ لوجب أن ينصب مع أنّه مرفوع (1).

وعلى كلّ تقدير فالقرآن الكريم يستدل على إبطال إلوهية المسيح بوجوه مختلفة ، منها هو تشبيه ولادة المسيح بآدم. والتمثيل المذكور يتكفّل بيان هذا الأمر أيضاً ، وفي الحقيقة الآية منحلّة إلى حجتين تفي كلّ واحدة منهما بنفي الألوهية عن المسيح.

إحداهما : انّ عيسى مخلوق لله - على ما يعلمه اللّه لا يضل في علمه - خلقة بشر وإن فقد الأب ومن كان كذلك كان عبداً لا رباً.

وثانيهما : انّ خلقته لا تزيد على خلقة آدم ، فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بإلوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنّهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى علیه السلام أيضاً لمكان المماثلة.

ويظهر من الآية انّ خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية وإن كانت خارقة للسنّة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكوّنه إلى والد (2).

ص: 129


1- آلاء الرحمن : 1 / 120.
2- الميزان : 3 / 212.

آل عمران

13. التمثيل الثالث عشر

اشارة

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (1).

تفسير الآيات

الصرّ : الريح الباردة نحو صرصر ، قال الشاعر :

لا تعدلنّ أتاويين (2) تضربهم

نكباء صرّ بأصحاب المحلات

ونقل الطبرسي عن الزجّاج أنّه قال : الصرّ صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح ، وأضاف : ويجوز أن يكون الصرّ صوت الريح الباردة الشديدة.

وعلى كلّ تقدير فالمراد هو الريح السامة التي تهلك الحرث.

والمراد من ( حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ) الذين زرعوا في غير موضع الزراعة

ص: 130


1- آل عمران : 116 - 117.
2- الأتاوي : جمع الإتاوة : الخراج.

أو في غير وقتها ، فهبّت عليه العواصف فذهب أدراج الرياح ، إذ لا شكّ انّ للزمان والمكان تأثيراً بالغاً في نمو الزرع ، فالنسيم الهادئ الذي يهب على الزرع ويلامسه والأرض الخصبة كلها عوامل تزيد في طراوة الزرع ونضارته.

هذا هو المشبه به ، فالكافر إذا أنفق ماله في هذه الحياة الدنيا بغية الانتفاع به ، فهو كمن زرع في غير موضعه أو زمانه ، فلا ينتفع من إنفاقه شيئاً ، فانّ الكفر وما يتبعه من الهوى يبيد إنفاقه ، ولذلك قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا ) .

ص: 131

الأنعام

14. التمثيل الرابع عشر

اشارة

( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1).

تفسير الآية

نزلت الآية في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام ، وذلك انّ أبا جهل آذى رسول اللّه فأخبر بذلك حمزة ، وهو على دين قومه ، فغضب وجاء ومعه قوس فضرب بها رأس أبي جهل وآمن ، وهو المروي عن ابن عباس.

وقيل : انّها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن وأبي جهل ، وهو المروي عن أبى جعفر ، ولكن الظاهر انّها عامة في كلّ مؤمن وكافر ، ومع ذلك لا يمنع هذا نزولها في شخصين خاصين.

ففي هذه الآية تمثيلات وتشبيهات جعلتها من قبيل التشبيه المركب نذكرها تباعاً :

1. يقول سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ) وقد شبّه الكافر ب « الميت » الذي هو مخفف الميّت والمؤمن بالحي.

ص: 132


1- الأنعام : 122.

وليست الآية نسيج وحدها فقد شبّه المؤمن في غير واحد من الآيات بالحي ، والكافر بالميت ، قال سبحانه : ( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى ) (1) ( لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا ) (2) و ( وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ ) (3).

2. يقول سبحانه : ( وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) فقد شبّه القرآن بالنور ، حيث إنّ المؤمن على ضوء القرآن يشق طريق السعادة ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) . (4)

وقال سبحانه : ( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا ) (5) ، فالقرآن ينوّر الدرب للمؤمن.

3. يقول سبحانه ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) ، فالمراد من الظلمة إمّا الكفر أو الجهل ، ويؤيد الأوّل قوله سبحانه : ( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) (6).

ثمّ إنّه سبحانه شبه الكافر بالذي يمكث في الظلمات لا يهتدي إلى شيء بقوله : ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ) ولم يقل : كمن هو في الظلمات ، بل توسط لفظ المثل فيه ، ولعل الوجه هو تبيين انّه بلغ في الكفر والحيرة غاية يضرب به المثل.

هذا هو تفسير الآية على وجه التفصيل.

ص: 133


1- الروم : 52.
2- يس : 70.
3- فاطر : 22.
4- النساء : 174.
5- الشورى : 52.
6- البقرة : 257.

وحاصل الآية : انّ مثل من هداه اللّه بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل ، والمهتدي والضال ، - مثله - من كان ميتاً فأحياه اللّه وجعل له نوراً يمشي به في الناس مستضيئاً به ، فيميز بعضه من بعض.

هذا هو مثل المؤمن ، ولا يصح قياس المؤمن بالباقي على كفره غير الخارج عنه ، الخابط في الظلمات المتحير الذي لا يهتدي سبيل الرشاد.

وفي الحقيقة الآية تشتمل على تشبيهين :

الأوّل : تشبيه المؤمن بالميّت المحيا الذي معه نور.

الثاني : تشبيه الكافر بالميّت الفاقد للنور الباقي في الظلمات ، والغرض انّ المؤمن من قبيل التشبيه الأوّل ، دون الثاني.

ص: 134

الأعراف

15. التمثيل الخامس عشر

اشارة

( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) (1).

تفسير الآية

« أقلّ » من الإقلال ، وهو حمل الشيء بأسره.

والنكد : العسر الممتنع من إعطاء الخير ، يقال نكد إذا سئل فبخل ، قال الشاعر :

وأعطي ما أعطيته طيّباً

لا خير في المنكود والناكد

« البلد الطيب » : عبارة عن الأرض الطيب ترابها ، ففي مثلها يخرج الزرع نامياً زاكياً من غير كدِّ ولا عناء ، كلّ ذلك بإذنه سبحانه.

والبلد الخبيث هي الأرض السبخة التي خبث ترابها لا يخرج ريعها إلاّ شيئاً

ص: 135


1- الأعراف : 57 - 58.

قليلاً ، وكأنّها لا تعطي إلاّ شيئاً قليلاً وهو بالعسر.

وتصريف الآيات عبارة عن تكررها.

ذكر سبحانه في الآية الاَُولى بأنّه يرسل الرياح مبشرةً برحمته ، فإذا حملت سحاباً ثقالاً بالماء ساقه سبحانه إلى بلد ميت فتحيا به الأرض وتؤتي ثمراتها.

وعاد سبحانه في الآية الثانية إلى القول بأنّ هطول المطر وسقي الأرض جزء مما يتوقف عليه خروج النبات ، وهناك شرط آخر وهو أن تكون الأرض خصبة صالحة للزراعة دونما إذا كانت خبيثة ، هذا هو حال المشبه به.

وأمّا المشبه فهو انّه سبحانه يُشبه المؤمن بأرض طيبة تلين بالمطر ويحسن نباتها ويكثر ريعها ، كما تشبه قلب الكافر بالأرض السبخة لا تنبت شيئاً ، فقلب المؤمن كالأرض الطيبة وقلب الكافر كالأرض السبخة.

ص: 136

الأعراف

16. التمثيل السادس عشر

اشارة

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ) (1).

تفسير الآيات

النبأ : الخبر عن الأمر العظيم ومنه اشتقاق النبوة ، أخلد إلى الأرض أي سكن إليها.

السلخ : النزع ، وقوله : ( أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ) لصق بها ، واللّهث أن يدلع الكلب لسانه من العطش ، واللّهاث حرّ العطش.

هذا هو تفسير مفردات الآية ، وأمّا المضمون فالآية تمثيل يتضمن مشبهاً ومشبهاً به ، أمّا الثاني فقد اختلفت كلمة المفسرين في المراد منه ، فالأكثر على أنّ المراد هو بلعم بن باعوراء الذي كان عالماً من علماء بني إسرائيل ، وقيل من

ص: 137


1- الأعراف : 175 - 177.

الكنعانيين أُوتي علم بعض كتاب اللّه ، ولكنّه كفر به ونبذه وراء ظهره ، فلحقه الشيطان وصار قريناً له وكان من الغاوين الضالين الكافرين.

والإمعان في الآية يعرب عن بلوغ الرجل مقاماً شامخاً في العلم والدراية ، وعلى الرغم من ذلك فقد سقط في الهاوية ، وإليك ما يدل على ذلك في الآية :

أ : لفظ ( نَبَأَ ) حاك عن أنّه كان خبراً عظيماً لا خبراً حقيراً.

ب : قوله : ( الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ) حاك عن إحاطته بالحجج والبيّنات وعلم الكتب السماوية.

ج : قوله : ( فَانسَلَخَ مِنْهَا ) يدل على أنّ الآيات والعلوم الإلهية كانت تحيط به إحاطة الجلد بالبدن إلاّ انّه خرج منها.

ويؤيد ذلك انّه سبحانه يعبر عن التقوى باللباس ، ويقول : ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) (1).

د : قوله : ( فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ) يدل على أنّ الشيطان كان آيساً من كفره وقد انقطعت صلته به ، لكنّه لما انسلخ من الآيات لحقه الشيطان واتبعه فأخذ يوسوس له كلّ يوم إلى أن جعله من الضالين.

إلى هنا تم تفسير الآية الاَُولى ، وأمّا الآية الثانية فهي تتضمن حقيقة قرآنية ، وهي انّه سبحانه تبارك وتعالى كان قادراً على رفعه وتنزيهه وتقريبه إليه ، ولكنّه لم يشأ ، لأنّ مشيئته سبحانه لا تتعلق بهداية من أعرض عنه وتبع هواه ، إذ كيف يمكن تعلق مشيئته بهداية من أعرض عن اللّه وكذب آياته ، ولذلك يقول :

( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) أي لرفعناه بتلك الآيات « ولكن ما شئنا » وليس

ص: 138


1- الأعراف : 26.

ذلك للبخل منه سبحانه ، بل لفقدان الأرضية الصالحة ، لأنّه أخلد إلى الأرض ولصق بها ، وكأنّها كناية عن الميل والنزوع إلى التمتع بالملاذ الدنيوية ، ومعه كيف تشمله العناية الربانية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى وجه آخر لعدم تعلّق مشيئته بهدايته ، وهو انّ هذا الإنسان بلغ في الضلالة والغواية مرحلة صارت سجية وطبيعة له ، ومزج بها روحه ونفسه وفطرته ، فلا يصدر منه إلاّ التكذيب والإدبار عن آياته ، فلذلك لا يؤثر فيه نصيحة ناصح ولا وعظ واعظ ، ولتقريب هذا الأمر نأتي تمثيلاً في ضمن تمثيل ، ونقول :

( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ) ، وذلك لأنّ اللّهث أثر طبيعي لسجيته فلا يمكن أن يخلّص نفسه منها.

هذا هو المشبه به ، وهو يعرب عن أنّ الهداية والضلالة بيد اللّه تبارك وتعالى ، وقد تعلّقت مشيئته بهداية الناس بشرط أن تتوفر فيه أرضية خصبة تؤهله لتعلّق مشيئته تعالى به ، فمن أخلد إلى الأرض ولصق بها ، أي أخلد إلى المادة والماديات ، فلا تشمله الهداية الإلهية بل هو محكوم بالضلال لكن ضلالاً اختيارياً مكتسباً.

هذا هو حال المشبه به ، وقد عرفت أنّ التمثيل يتضمن تمثيلاً آخر.

وأمّا المشبه فقد اختلفت كلمة المفسرين فيه ، فربما يقال انّ المراد أُمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر ، وكانت قصته انّه قرأ الكتب وعلم أنّ اللّه سبحانه يرسل رسولاً في ذلك الوقت ، ورجا أن يكون هو ذلك الرسول ، فلمّا بعث سبحانه محمداً حسده ومرّ على قتلى بدر فسأل عنهم ، فقيل : قتلوا في حربهم مع النبي ، فقال : لو كان نبياً لما قتل أقرباءه ، وقد ذهب إلى الطائف ومات بها ، فأتت أُخته

ص: 139

الفارعة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فسألها عن وفاته ، فذكرت له انّه أنشد عند موته :

كل عيش وإن تطاول دهراً *** صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدالي *** في قلال الجبال أرعى الوعولا

انّ يوم الحساب يوم عظيم *** شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً

ثمّ قال صلی اللّه علیه و آله لها أنشديني من شعر أخيك فأنشدت :

لك الحمدُ والنعماءُ والفضلُ ربّنا *** ولا شيء أعلى منك جدّاً وأمجدُ

مليكٌ على عرش السّماءِ مهيمنٌ *** لعزّته تعنُو الوجوهُ وتسجدُ

ثمّ أنشدته قصيدته التي يقول فيها :

وقف الناس للحسابِ جميعاً *** فشقيٌّ معذّب وسعيد

والتي فيها :

عند ذي العرش تُعرضونَ عليه *** يعلمُ الجهرَ والسِراءَ الخفيّا

ص: 140

يوم يأتي الرحمنُ وهو رحيم *** إنّه كان وعدُهُ مأتيّا

ربِّ إن تعفُ فالمعافاةُ ظنّي *** وتُعاقِبْ فلم تعاقِب بريّا

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ أخاك آمن شعره ، وكفر قلبه » وأنزل اللّه تعالى الآية (1).

وقيل : انّه أبو عامر بن النعمان بن صيفى الراهب الذي سمّاه النبي الفاسق ، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوخ ، فقدم المدينة ، فقال للنبي صلی اللّه علیه و آله : ما هذا الذي جئت به ، قال : « جئت بالحنيفية دين إبراهيم » ، قال : فأنا عليها ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « لست عليها ولكنّك أدخلت فيها ما ليس منها ».

فقال أبو عامر : أمات اللّه الكاذب منّا طريداً وحيداً ، فخرج إلى أهل الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا السلاح ، ثمّ أتى قيصر وأتى بجند ليخرج النبي صلی اللّه علیه و آله من المدينة ، فمات بالشام طريداً وحيداً.

والظاهر انّ المشبه ليس خصوص هذين الرجلين ، بل كما قال الإمام الباقر علیه السلام : « الأصل في ذلك بلعم ، ثم ضربه اللّه مثلاً لكل مؤثر هواه على هدى اللّه من أهل القبلة » (2).

وفي الآية دلالة واضحة على أنّ العبرة في معرفة عاقبة الإنسان هي أُخريات حياته ، فربما يكون مؤمناً في شبابه ويرتد عن الدين في شيخوخته وهرمه ، فليس

ص: 141


1- مجمع البيان : 2 / 499 - 500.
2- مجمع البيان : 2 / 500.

صلاح الإنسان وفلاحه في عنفوان شبابه دليلاً على صلاحه ونجاته في آخر عمره.

وبذلك يعلم أنّ ترضي القرآن عن المهاجرين والأنصار في قوله سبحانه : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) (1).

ويؤيد ما ذكرناه انّه سبحانه حدّد ظرف الرضا بقوله : ( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ولا يكون دليلاً على رضاه طيلة حياتهم ، فلو دلّ دليل على زلّة واحد منهم ، فيؤخذ بالثاني جمعاً بين الدليلين.

وقد يظهر مفاد قوله سبحانه : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (2).

فانّ الآية دليل على شمول رضى اللّه لهم ، فيؤخذ بالآية مالم يدل دليل قطعي على خلافها ، فلو ثبت بدليل متواتر أو خبر محفوف بالقرينة ارتداد واحد منهم أو صدور معصية كبيرة أو صغيرة ، فيؤخذ بالثاني ، وليس بين الدليلين أي خلاف ، إذ ليس مقام صحابي أو تابعي أعلى من مقام ما جاء في هذه الآية ، أعني من آتاه اللّه سبحانه آياته وصار من العلماء الربانيين ولكن اتبع هواه فانسلخ عنها.

فما ربما يتراءى من إجماع غير واحد من المفسرين بهذه الآيات على عدالة كافة الصحابة فكأنّها غفلة عن مفادها وإغماض عما صدر عن غير واحد من الصحابة من الموبقات والمعاصي واللّه العالم.

ص: 142


1- الفتح : 18.
2- التوبة : 100.

سورة التوبة

17. التمثيل السابع عشر

اشارة

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (1).

تفسير الآيات

« الضرار » : هو إيجاد الضرر عن عناد.

« الإرصاد » بمعنى الإعداد.

« البنيان » مصدر بنى.

و « التقوى » خصلة من الطاعة يحترز بها عن العقوبة ، والواو فيه مبدلة من الياء لأنّها من وقيت.

« شفا » : شفا البئر وغيره ، جُرفَه ، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك.

ص: 143


1- التوبة : 107 - 109.

« الجرف » جرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء ، وتجرفه السيول فيبقى واهياً.

قال الراغب : يقال للمكان الذي يأكله السيل فيجرفه ، أي يذهب به ، جرف

هار البناء وتهوّر : إذا سقط ، نحو : إنهار.

ذكر المفسرون انّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء ، وبعثوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يأتيهم ، فأتاهم وصلى فيه ، فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف ، فقالوا : نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد وكانوا اثني عشر رجلاً ، وقيل خمسة عشر رجلاً ، منهم : ثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، ونبتل بن الحرث ، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء ، فلمّا فرغوا منه ، أتوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو يتجهّز إلى تبوك.

فقالوا : يا رسول اللّه إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعو بالبركة.

فقال صلی اللّه علیه و آله : « إنّي على جناح سفر ، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء اللّه فصلّينا لكم فيه » ، فلمّا انصرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.

إنّ الآية تشير إلى الفرق الشاسع بين من بنى بنياناً على أساس محكم ، ومن بناه على شفا جرف ، فالأوّل يبقى عبر العصور ويحتفظ بكيانه في الحوادث المدمرة ، بخلاف الثاني فانّه سوف ينهار لا محالة بأدنى ضربة.

فالمؤمن هو الذي يعقد إيمانه على قاعدة محكمة وهو الحقّ الذي هو تقوى اللّه ورضوانه ، بخلاف المنافق فانّه يبني إيمانه على أضعف القواعد وأرخاها وأقلّها

ص: 144

بناءً وهو الباطل ، فإيمان المؤمن ودينه من مصاديق قوله : ( َفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ ) ولكن دين المنافق كمن ( أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ) فلا محالة ينهار به في نار جهنم.

ص: 145

سورة يونس

18. التمثيل الثامن عشر

اشارة

( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1).

تفسير الآيات

قوله : ( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ ) فلو قلنا بأنّ الباء للمصاحبة ، يكون معناه أي اختلط مع ذلك الماء نبات الأرض ، لأنّ المطر ينفد في خلل النبات ، وإن كانت الباء للسببية يكون المراد انّه اختلط بسبب الماء بعض النبات ببعض حيث إنّ الماء صار سبباً لرشده والتفاف بعضه ببعض.

قوله : ( ازَّيَّنَتْ ) أصله تزينت ، فادغمت التاء بالزاى وسكِّنت الزاي فاجلبت لها ألف الوصل.

فقوله : ( أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ) تعبير رائع حيث جعلت الأرض

ص: 146


1- يونس : 24 - 25.

آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كلّ لون فاكتستها وتزينّت بغيرها من ألوان الزين.

قوله : ( قَادِرُونَ عَلَيْهَا ) ، أي متمكنون من استثمارها والانتفاع بثبوتها.

قوله : ( أَتَاهَا أَمْرُنَا ) كناية عن نزول بعض الآفات على الجنات والمزارع حيث يجعلها « حصيداً » شبيهاً بما يحصد من الزرع في استأصاله.

قوله : ( كَأَن لَّمْ تَغْنَ ) بمنزلة قوله : كأن لم ينبت زرعها.

قوله : ( دَارِ السَّلامِ ) فهو من أوصاف الجنة ، لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه ، بخلاف المقام فانّها دار البلاء.

هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها الجملي ، فنقول :

نفترض أرضاً خصبة رابية صالحة لغرس الأشجار وزرع النبات وقد قام صاحبها باستثمارها من خلال غرس كلّ ما ينبت فيها ، فلم يزل يتعاهدها بمياه الأمطار والسواقي ، فغدت روضة غنّاء مكتظة بأشجار ونباتات متنوعة ، وصارت الأرض كأنّها عروس تزيّنت وتبرجت ، وأهلها مزهوّون بها يظنّون انّها بجهدهم ازدهرت ، وبإرادتهم تزيّنت وانّهم أصحاب الأمر لا ينازعهم فيها منازع. فيعقدون عليها آمالاً طويلة ، ولكن في خضم هذه المراودات يباغتهم أمره سبحانه ليلاً أو نهاراً فيجعل الطري يابساً ، كأنّه لم يكن هناك أي جنة ولا روضة.

هذا هو المشبه به واللّه سبحانه يمثل الدنيا بهذا المثل ، وهو انّ الإنسان ربما يغتر بالدنيا ويعوّل الكثير من الآمال عليها مع سرعة زوالها وفنائها ، وعدم ثباتها واستقرارها.

ص: 147

يقول مؤيد الدين الاصفهاني المعروف بالطغرائي في لاميته المعروفة بلامية العجم :

ترجو البقاء بدار لا ثبات لها *** فهل سمعت بظل غير منتقل

وقد أسماها سبحانه متاع الحياة الدنيا في مقابل الآخرة التي أسماها بدار السلام في الآية التالية ، وقال : ( اللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ ) .

ثمّ إنّه يبدو من كلام الطبرسي انّ هذا التمثيل من قبيل التمثيل المفرد ، فذكر أقوالاً :

أحدها : انّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثمّ الانقطاع.

وثانيها : انّه شبهها بالنبات على ما وصفه من الاغترار به ثمّ المصير إلى الزوال عن الجبائي وأبي مسلم.

وثالثها : انّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بحياة مقدَّرة على هذه الأوصاف (1).

والحقّ انّه من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث يعبر عن عدم الاعتماد والاطمئنان بالدنيا بما جاء في المثل ، وإنّما اللائق بالاعتماد هو دار السلام الذي هو سلام على الإطلاق وليس فيها أي مكروه.

وقد قيّد سبحانه في الآية دار السلام ، بقوله : ( عِندَ رَبِّهِمْ ) للدلالة على قرب الحضور وعدم غفلتهم عنه سبحانه هناك.

ويأتي قريب من هذا المثل في سورة الكهف ، أعني : قوله :

ص: 148


1- مجمع البيان : 3 / 102.

( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) (1). وسيوافيك بيانها في محلها.

ويقرب من هذا ما في سورة الحديد ، قال سبحانه :

( اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (2).

ص: 149


1- الكهف : 45.
2- الحديد : 20.

سورة هود

19. التمثيل التاسع عشر

اشارة

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (1).

تفسير الآيات

يصوّر سبحانه الكافر كالأعمى والأصم ، والمؤمن بالبصير والسميع ، ثمّ ينفي التسوية بينهما - كما هو معلوم - غير انّ هذا التمثيل يستقي مما وصف به سبحانه كلا الفريقين بأوصاف خاصة.

فقال في حقّ الكافر : ( مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ) (2).

والمراد كان لهم أسماعاً وأبصاراً ولكنّهم لم يكونوا يستخدمونها في سماع الآيات ورؤية الحقائق ، فنفي الاستطاعة كناية عن عدم استخدام الأسماع ، كما أنّ نفي الأبصار كناية عنه.

ثمّ إنّه سبحانه وصف المؤمن في الآية التالية بأوصاف ثلاثة :

ص: 150


1- هود : 23 - 24.
2- هود : 20.

أ : الإيمان باللّه.

ب : العمل الصالح.

ج : التسليم إلى اللّه حيث قال : ( وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ ) .

فالمؤمن الصالح ثمرة من شجرة الإيمان كما انّ التسليم والانقياد والخضوع والاطمئنان لما وعد اللّه من آثاره أيضاً.

فالمؤمن هو الذي يسمع آياته ويبصرها في سبيل ترسيخ الإيمان في قلبه واثماره.

ثمّ إنّه مثّل الكافر والمؤمن بالتمثيل التالي ، وقال : ( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .

أي مثل فريق المسلمين كالبصير والسميع. ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم ، لأنّ المؤمن ينتفع بحواسه بأعمالها في معرفة المنعم وصفاته وأفعاله ، والكافر لا ينتفع بها فصارت بمنزلة المعدومة.

ثمّ إنّه وصف الوضع بين الأعمى والأصم كما وسطها بين البصير والسميع ، وذلك لإفادة تعدّد التشبيه بمعنى :

أنّ حال الكافر كحال الأعمى.

وحال الكافر أيضاً كحال الأصم.

كما أنّ حال المؤمن كالبصير.

وحاله أيضاً كالسميع.

وحاصل الكلام : انّه لا يستوى البصير والسميع مع الأعمى والأصم ، والمؤمن والكافر أيضاً لا يستويان.

ص: 151

سورة الرعد

20. التمثيل العشرون

اشارة

( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ) (1).

تفسير الآية

تقدم الظرف في قوله : ( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ ) لأجل إفادة الحصر ، ويؤيّده ما بعده من نفي الدعوة عن غيره.

كما أنّ إضافة الدعوة إلى الحقّ من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي الدعوة الحقّة له ، لأنّ الدعوة عبارة عن توجيه نظر المدعو إلى الداعي ، والإجابة عبارة عن إقبال المدعو إليه ، وكلا الأمرين يختصان باللّه عزّ اسمه. وأمّا غيره فلا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً - وعند ذاك - كيف يمكن أن يجيب دعوة الداعي.

فالنتيجة انّ الدعوة الحقة التي تستعقبها الإجابة هي لله تبارك وتعالى ، فهو حي لا يموت ، ومريد غير مكره ، قادر على كلّ شيء ، غني عمّن سواه.

ص: 152


1- الرعد : 14.

وبذلك يعلم أنّ الدعوة على قسمين : دعوة حقّة ودعوة باطلة ، فالحقة لله ودعوة غيره دعوة باطلة ، أمّا لأنّه لا يسمع ولا يريد ، أو يسمع ولا يقدر. وأشار إلى القسم الباطل بقوله : ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ ) ، وقد عرفت وجه عدم الاستجابة.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى صورة واحدة من عدم الاستجابة ، لكنّه استثناء صوري وهو في الحقيقة تأكيد لعدم الاستجابة ، وقال : ( إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ) .

فدعوة الأصنام والأوثان وطلب الحاجة منهم ، أشبه بحال الظمآن البعيد من الماء كالجالس على حافة البئر والباسط كفه داخل البئر ليبلغ الماء فاه ، مع البون البعيد بينه وبين الماء.

قال الطبرسي : هذا مثل ضربه اللّه لكلّ من عبد غير اللّه ودعاه رجاء أن ينفعه ، فانّ مثله كمثل رجل بسط كفيه إلى الماء من مكان بعيد ليتناوله ويسكن به غلته ، وذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة بينهما ، فكذلك ما كان يعبده المشركون من الأصنام لا يصل نفعها إليهم ولا يستجيب دعاءهم (1).

وربما تفسّر الآية بوجه آخر ، ويقال : لا يستجيبون إلاّ استجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه ، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم (2).

والظاهر رجحان الوجه الأوّل ، لأنّ الآلهة بين جماد لا يشعر أو ملك أو جن

ص: 153


1- مجمع البيان : 3 / 284.
2- الكشاف : 2 / 162.

أو روح يشعر ولكن لا يملك شيئاً ، فهذا الوجه يختص بما إذا كان الإله جماداً لا غير.

ثمّ إنّه سبحانه يقول في ذيل الآية : ( وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ) ، فانّ الضلال عبارة عن الخروج عن الطريق وسلوك ما لا يوصل إلى المطلوب ، ودعاء غيره خروج عن الطريق الموصل إلى المطلوب ، لأنّ الغاية من الدعاء هو إيجاد التوجّه ثمّ الإجابة ، فالآلهة الكاذبة إمّا فاقدة للتوجّه ، وإمّا غير قادرة على الاستجابة ، فأي ضلال أوضح من ذلك.

ص: 154

سورة الرعد

21. التمثيل الواحد والعشرون

اشارة

( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) (1).

تفسير الآية

« الوادي » : سفح الجبل العظيم ، المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر ، ولعل منه اشتقاق الدية ، لأنّه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل.

« القدر » : اقتران الشيء بغيره دون زيادة أو نقصان ، فإذا كانا متساويين فهو القدر ، والقدْر والقَدَرْ لغتان مثل الشبْر والشَبَر.

والاحتمال : رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل.

و « الزبد » : هو خبث الغليان ومنه زبد القدر وزبد السيل.

و « الجفاء » ممدوداً يقال : أجفأت القدر بزبدها ، إذا ألقبت زبدها.

و « الإيقاد » : إلقاء الحطب في النار.

ص: 155


1- الرعد : 17.

« والمتاع » ما تمتّع به.

و « الحق » في اللغة هو الأمر الثابت ويقابله الباطل ، فالأوّل بمفهومه الواسع يشمل كلّ موجود أو ناموس ثابت لا يطرأ عليه التحول والتبدل حتى أنّ القوانين الرياضية والهندسية وكثير من المفاهيم الطبيعية إذا كانت على درجة كبيرة من الثبات فهي حقّ لا غبار عليها.

و « المكث » : الكون في المكان عبر الزمان.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الآية تمثل للحق والباطل مثلاً واحداً يستبطن تمثيلات متعددة :

الأوّل : انّ السيل المتدفق من أعالي الجبال الجاري في الوديان يحمل معه في سيره زبداً رابياً عليه ، فالحقّ كماء السيل والباطل الزبد الطافح عليه.

الثاني : انّ المعادن والفلزات المذابة في القدر إذا أوقدت عليها النار ، تذاب ويعلو عليها الخبث ، فالغاية من الإذابة هو فصل المعادن والفلزات النفيسة عن خبثها وزبدها.

وعندئذٍ فالحقّ كالذهب والفضة والمعادن النفيسة والباطل كخبثها وزبدها الطافح.

الثالث : انّ ما له دوام وبقاء ومكث وينتفع به الناس كالماء وما يتخذ للحلية أو المتاع يمثّل الحق ، وما ليس كذلك كزبد السيل وخبث القدر الذي يذهب جفاءً يمثّل الباطل.

وأمّا التفصيل فإليك توضيح الآية :

( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ ) الواقعة في محل الأمطار المختلفة في

ص: 156

السعة والضيق ، والكبر والصغر ( بِقَدَرِهَا ) أي كلّ يأخذ بقدره ، ففيضه سبحانه عام لا يحدد وإنّما التحديد في الآخذ ، فكلّ يأخذ بقدره وحده ، فقدر النبات يختلف عن قدر الحيوان ، وهو عن الإنسان ، فكلّ ما يفاض عليه الوجود إنّما هو بقدر قابليته ، كما أنّ السيل المنحدر من أعالي الجبال مطلق غير محدد ، ولكن يستوعب كل وادٍ من ماء السيل بقدر قابليته وظرفيته.

( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ) أي طافياً عالياً فوق الماء.

إلى هنا تمّت الإشارة إلى التمثيل الأوّل.

ثمّ إنّ الزبد لا ينحصر بالسيل الجارف بل يوجد طافياً على سطح أنواع الفلزات والمعادن المذابة التي تصاغ منها الحلي للزينة والأمتعة ، كما قال سبحانه ( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ) .

إلى هنا تمّت الإشارة إلى التمثيل الثاني ، كما قال : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ ) أي كذلك يوصف الحقّ والباطل ليأخذ طريقه بين الناس ، ثمّ أشار إلى التمثيل الثالث وهو انّ من سمات الحق بقاءه وانتفاع الناس به ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ) حيث إنّ زبد السيل وزبد ما يوقدون عليه ينطفئ بعد مدة قصيرة كأن لم يكن شيئاً مذكوراً فيذهب جفاءً باطلاً متلاشياً.

( وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) فانّ الماء الخالص أو المعادن الخالصة التي فيها انتفاع الناس يمكث في الأرض.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) وقد مرّ في المقدمات معنى ضرب المثل ، وقلنا انّ المراد هو وصف حال المشبه وبيانه.

هذا ما يرجع إلى تفسير ظاهر الآية ، لكن الآية من غرر الآيات القرآنية التي

ص: 157

تبحث عن طبيعة الحقّ والباطل وتكونهما وكيفية ظهورهما والآثار المترتبة عليهما ، ولا بأس بالإشارة إلى ما يمكن الاستفادة من الآية.

1. انّ الإيمان والكفر من أظهر مصاديق الحق والباطل ، ففي ظل الإيمان باللّه تبارك وتعالى حياة للمجتمع وإحياء للعدل ، والعواطف الإنسانية ، فالأمّة التي لم تنل حظها من الإيمان يسودها الظلم والأنانية وانفراط الأواصر الإنسانية التي تعصف بالمجتمع الإنساني إلى الهاوية.

2. انّ الزبد أشبه بالحجاب الذي يستر وجه الحقّ مدة قصيرة ، فسرعان ما يزول وينطفئ ويظهر وجه الحقيقة أي الماء والفلزات النافعة.

فهكذا الباطل ربما يستر وجه الحقيقة من خلال الدعايات المغرضة ، ولكنّه لا يمكث طويلاً فيزول كما يزول الزبد ، يقول سبحانه : ( وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) (1).

وقال تعالى : ( وَيَمْحُ اللّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) (2).

3. انّ الماء والفلزات منبع البركات والخيرات له ، والزبد خبث لا ينتفع منه ، فهكذا الحق والباطل ، فما هو الحقّ كالإيمان والعدل ينتفع به الناس ، وأمّا الباطل كالكفر والظلم لا ينتفع منه الناس.

4. انّ الماء فيض مادي يفيضه اللّه سبحانه إلى السماء على الوديان والصحارى ، فكل يأخذ بمقدار سعته ، فالوادي الكبير يستوعب ماء كثيراً بخلاف الوادي الصغير فلا يستوعب سوى قليلاً من الماء وهكذا الحال في الأرواح والنفوس فكل نفس تنال حظها من المعارف الإلهية حسب قابليتها ، فهناك نفس

ص: 158


1- الإسراء : 81.
2- الشورى : 24.

كعرش الرحمن ونفس أُخرى من الضيق بمكان يقول سبحانه : ( وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) .

وفي الحديث النبوي : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة » (1).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام لكميل : « إنّ هذه القلوب أوعية وخيرها أوعاها » (2).

فالمعارف الإلهية كالسيل المتدفق والقلوب كالأودية المختلفة.

ويمكن أن يكون قوله ( بِقَدَرِهَا ) إشارة إلى نكتة أُخرى ، وهي انّ الماء المتدفق هو ماء الحياة الذي ينبت به الزرع والأشجار المثمرة في الأراضي الخصبة. دون الأراضي السبخة التي لا ينبت فيها إلاّ الأشواك.

5. انّ الماء يمكث في الأرض وينفذ في أعماقها ويبقى عبر القرون حتى ينتفع به الناس من خلال استخراجه ، فهكذا الحقّ فهو ثابت لا يزول ، ودائم لا يضمحل ، على طرف النقيض من الباطل ، فللحق دولة وللباطل جولة.

6. انّ الباطل ينجلي بأشكال مختلفة ، كما أنّ الزبد يطفو فوق الماء والمعدن المذاب بأنحاء مختلفة ، فالحقّ واحد وله وجه واحد ، أمّا الباطل فله وجوه مختلفة حسب بعده من الحقّ وتضاده معه.

7. انّ الباطل في وجوده رهن وجود الحقّ ، فلولا الماء لما كان هناك زبد ، فالآراء والعقائد الباطلة تستمد مقوماتها من العقائد الحقّة من خلال إيجاد تحريف في أركانها وتزييفها ، فلو لم يكن للحقّ دولة لما كان للباطل جولة ، وإليه يشير سبحانه : ( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ) .

ص: 159


1- بحار الأنوار : 4 / 405.
2- نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 127.

8. انّ في تشبيه الحقّ بالماء والباطل بالزبد إشارة لطيفة إلى أنّ الباطل كالزبد ، فكما أنّه ينعقد في الماء الذي له هيجان واضطراب والذي لا يجري على منوال هادئ ، فهكذا الباطل إنّما يظهر في الأوضاع المضطربة التي لا يسودها أي نظام أو قانون.

9. انّ حركة الباطل وإن كانت مؤقتة إنّما هي في ظل حركة الحقّ ونفوذه في القلوب ، فالباطل يركب أمواج الحق بغية الوصول إلى أهدافه ، كما أنّ الزبد يركب أمواج الماء ليحتفظ بوجوده.

10. انّ الباطل بما انّه ليس له حظ في الحقيقة ، فلو خلص من الحقيقة فليس بإمكانه أن يظهر نفسه ، ولو في فترة قصيرة ، ولكنّه يتوسم من خلال مزجه بالحقّ حتى يمكن له الظهور في المجتمع ، ولذلك فالزبد يتكون من أجزاء مائية ، فلو خلص منها لبطل ، فهكذا الباطل في الآراء والعقائد.

قال أمير المؤمنين علي علیه السلام :

« فلو انّ الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ، ولو انّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ، ومن هذا ضغث فيمزجان ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى » (1).

***

ثمّ إنّ بعض من كتب في أمثال القرآن جعل قوله سبحانه : ( مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ

ص: 160


1- نهج البلاغة ، الخطبة 49.

اتَّقَوا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) (1). من الأمثال.

ولكن الظاهر انّه ليس من باب التمثيل ، لأنّه فرع وجود مشبه ومشبه به مع أنّ الآية هي بصدد بيان جزاء المتقين والكافرين ، فقال : إنّ جزاء المتقين هو انّهم يسكنون الجنة التي تجري من تحتها الأنهار وأُكلها وظلها دائم.

وهذا بخلاف الكافرين فانّ عقباهم النار ، وليست هاهنا أُمور أربعة بل لا تتجاوز الاثنين ، وعلى ذلك فيكون المثل بمعنى الوصف ، أي حال الجنة ووصفها التي وعد المتقون هو هذا.

نعم ذكر الطبرسي وجهاً ربما يصح به عدّ الآية مثلاً ، فلاحظ (2).

ص: 161


1- الرعد : 35.
2- مجمع البيان : 3 / 296.

سورة إبراهيم

22. التمثيل الثاني والعشرون

اشارة

( مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) (1).

تفسير الآية

« العصف » : شدة الريح ، يوم عاصف أي شديد الريح ، وإنّما جعل العصف صفة لليوم مع أنّه صفة للريح لأجل المبالغة ، وكأنّ عصف الريح صار بمنزلة جعل اليوم عاصفاً ، كما يقال : ليل غائم ويوم ماطر.

انّه سبحانه يشبّه عمل الكافرين في عدم الانتفاع به برماد في مهب الريح العاصف ، فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرق ، فكذلك هؤلاء الكفار لا يقدرون مما كسبوا على شيء فلا ينتفعون بأعمالهم البتة.

وقال سبحانه في آية أُخرى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) (2).

والمراد من أعمالهم ما يعد صالحاً في نظر العرف كصلة الأرحام وعتق الرقاب

ص: 162


1- إبراهيم : 18.
2- الفرقان : 23.

وفداء الأسارى وإغاثة الملهوفين ، لأنّهم بنوا أعمالهم على غير معرفة اللّه والإيمان به فلا يستحقون شيئاً عليه.

وأمّا الأعمال التي تعد من المعاصي الموبقة ، فهي خارجة عن مصبّ الآية لوضوح حكمها. والآية دليل على أنّ الكافر لا يثاب بأعماله الصالحة يوم القيامة إذا أتى بها لغير وجه اللّه.

نعم لو أتى بها طلباً لرضاه ورضوانه فلا غرو في أن يثاب به ويكون سبباً لتخفيف العذاب.

ص: 163

سورة إبراهيم

23. التمثيل الثالث والعشرون

اشارة

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (1).

تفسير الآيات

انّه سبحانه تبارك وتعالى مثل للحق والباطل ، أو الكفر والإيمان بتمثيلات مختلفة ، وقد جاء التمثيل في هذه الآية بأنّ مثل الإيمان كشجرة لها الصفات التالية :

أ : انّها طيبة : أي طاهرة ونظيفة في مقابل الخبيثة ، فانّ الشجر على قسمين : منها ما هو طيب الثمار كالتين والنخل والزيتون وغيرها ، ومنها ما هو خبيث الثمار كالحنظل.

ب : أصلها ثابت ، أي لها جذور راسخة في أعماق الأرض لا تزعزعها العواصف الهوجاء ولا الأمواج العاتية.

ج : فرعها في السماء ، أي لها أغصان مرتفعة ، فهي بجذورها الراسخة تحتفظ بأصلها وبفروعها في السماء وتنتفع من نور الشمس والهواء والماء.

ص: 164


1- إبراهيم : 24 - 25.

وهذه الفروع والأغصان من الكثرة بحيث لا يزاحم أحدها الآخر ، كما أنّها لا تتلوث بما على سطح الأرض.

د : ( تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ) أي في كلّ فصل وزمان ، لا بمعنى كلّ يوم وكل شهر حتى يقال بأنّه ليس على وجه البسيطة شجرة مثمرة من هذا النوع.

وبعبارة أُخرى : انّ مثل هذه الشجرة لا تبخس في عطائها ، بل هي دائمة الأثمار في كل وقت وقّته اللّه لاثمارها.

هذا حال المشبه به ، وأمّا حال المشبه ، فقد اختلفت كلمتهم إلى أقوال لا يدعمها الدليل ، والظاهر انّ المراد من المشبه هو الاعتقاد الحقّ الثابت ، أعني التوحيد والعدل وما يلازمهما من القول بالمعاد.

فهذه عقيدة ثابتة طيبة لا يشوبها شيء من الشرك والضلال ولها ثمارها في الحياتين.

والذي يدل على ذلك هو انّه سبحانه ذكر في الآية التالية ، قوله : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) (1) ، وهذا القول الثابت عبارة عن العقيدة الصالحة التي تمثلها كلمة التوحيد والشهادة بالمعاد وغيرهما ، قال السيد الطباطبائي :

القول بالوحدانية والاستقامة عليه ، هو حقّ القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كلّ تغير وزوال وبطلان ، وهو اللّه عزّ اسمه أو أرض الحقائق ، وله فروع نشأت ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيا بها المؤمن حياته الطيبة ويعمر بها العالم الإنساني حق

ص: 165


1- إبراهيم : 27.

عمارته ، وهي التي تلائم سير النظام الكونى الذي أدى إلى ظهور الإنسان بوجوده المنظور على الاعتقاد الحق والعمل الصالح (1).

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله : ( وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ، أي ليرجعوا إلى فطرتهم فيتحقّقوا من أنّ السعادة رهن الاعتقاد الصحيح المثمر في الحياتين.

وبذلك يعلم انّ ما ذكره بعض المفسرين بأنّ المراد كلمة التوحيد لا يخالف ما ذكرنا ، لأنّ المراد هو التمثل بكلمة التوحيد لا التلفظ بها وحده حتى أنّ قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (2) تلا يراد منه التحقّق بقوله ( رَبُّنَا اللّهُ ) لا التلفظ بها ، وقد أشار سبحانه إلى العقيدة الصحيحة ، بقوله : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (3).

فالكلم الطيّب هو العقيدة ، والعمل الصالح يرفع تلك العقيدة.

وبذلك يعلم أنّ كلّ عقيدة صحيحة لها جذور في القلوب ، ولها فروع وأغصان في حياة الإنسان ولهذه الفروع ثمار ، فالاعتقاد بالواجب العادل الحكيم المعيد للإنسان بعد الموت يورث التثبت في الحياة والاجتناب عن الظلم والعبث والفساد إلى غير ذلك من العقائد الصالحة التي لها فروع.

إلى هنا تمّ المثل الأوّل للمؤمن والكافر أو للإيمان والكفر.

ص: 166


1- الميزان : 12 / 52.
2- الأحقاف : 13.
3- فاطر : 10.

وربما يقال : الرجال العظام من المؤمنين هم كلمة اللّه الطيبة ، وحياتهم أصل البركة ، ودعوتهم توجب الحركة ، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم ... وحتى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومربّية.

ولكن سياق الآيات لا يؤيده ، لأنّه سبحانه يفسر الكلمة الطيبة بما عرفت ، أعني قوله : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) .

والمراد من القول الثابت هو الكلمة الطيبة ، وقلب المؤمن هو الأرض الطيبة التي ترسخ فيها جذور تلك الشجرة.

ص: 167

سورة إبراهيم

24. التمثيل الرابع والعشرون

اشارة

( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ) (1).

تفسير الآية

مثّل سبحانه تبارك وتعالى للعقيدة الصالحة بالمثل السابق ومقتضى الحال أن يمثل للعقيدة الباطلة بضد المثل السابق ، فهي على طرف النقيض مما ذكر في الآية السابقة ، وإليك البيان :

فالكفر كشجرة لها هذه الأوصاف :

أ : انّها خبيثة مقابلة الطيبة ، أي لا يطيب ثمارها كشجرة الحنظل.

ب : ( اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ ) في مقابل قوله ( أَصْلُهَا ثَابِتٌ ) وحقيقة الاجتثاث هي اقتلاع الشيء من أصله ، أي اقتطعت واستؤصلت واقتلعت جذورها من الأرض.

ج : ( مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ) أي ليس لتلك الشجرة من ثبات ، فالريح تنسفها وتذهب بها ، وبالتالي ليس لها فروع وأغصان أو ثمار.

ص: 168


1- إبراهيم : 26.

هذا هو المشبه به ، وأمّا المشبه فهو عبارة عن العقيدة الضالة الكافرة التي لا تعتمد على برهان ولا دليل ، يزعزعها أدنى شبهة وشك.

فينطبق صدر الآية التالية على التمثيل الأوّل ، وذيله على التمثيل التالي ، أعني : قوله : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) هذا هو المنطبق على التمثيل الأوّل.

وأمّا المنطبق على التمثيل الثاني فهو قوله : ( وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ) أي يضل أهل الكتاب بحرمانهم من الهداية ، وذلك لأجل قصورهم في الاستفادة عن الهداية العامة التي هي متوفرة لكل إنسان ، أعني : الفطرة ودعوة الأنبياء.

وقوله : ( يَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ) بمعنى انّه تعلّقت مشيئته بتثبيت المؤمنين وتأييدهم وإضلال الظالمين وخذلانهم ، ولم تكن مشيئته عبثاً وإنّما نابعة من حكمة بالغة.

ص: 169

سورة إبراهيم

25. التمثيل الخامس والعشرون

اشارة

( وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ ) (1).

تفسير الآيات

إنّ الآية تمثل حال قوم شاهدوا نزول جزء من العذاب والبلاء فعادوا يظهرون الندم على أعمالهم البغيضة ويطلبون الإمهال حتى يتلافوا ما فاتهم من الإيمان والعمل الصالح ، كما يحكي عنه سبحانه ، ويقول : ( وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ) أي مشاهدة نزول العذاب في الدنيا بشهادة استمهالهم ، كما في قوله تعالى : ( فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ) .

فيرد دعوتهم بأنّ هذا الطلب ليس طلباً صادقاً وإنّما ألجأهم إليه رؤية

ص: 170


1- إبراهيم : 44 - 46.

العذاب.

فيخاطبهم سبحانه بقوله : ( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ) .

وعلى ما ذكرنا يكون مفاد الآية : حلفتم قبل نزول العذاب بأنّه ليس لكم زوال من الراحة إلى العذاب ، وظننتم انّكم بما تمتلكون من القوة والسطوة أُمّة خالدة مالكة لزمام الأمور ، فلماذا تستمهلون ، ثمّ يخاطبهم بجواب آخر وهو قوله : ( وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ) أي سكنتم ديار من كذب الرسل فأهلكهم اللّه وعرفتم ما نزل بهم من البلاء والهلاك والعذاب كقوم عاد وثمود ، وضربنا لكم الأمثال وأخبرناكم بأحوال الماضين لتعتبروا فلم تتعظوا.

وعلى ذلك فالمشبه به هو حال الأمم الهالكة بأفعالهم الظالمة.

والمشبه هو الأُمم اللاحقة لهم الذين رأوا العذاب فاستمهلوا الأجل وندموا ولات حين مناص.

ص: 171

النحل

26. التمثيل السادس والعشرون

اشارة

( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1).

تفسير الآيات

إنّ اللّه سبحانه هو الواجب الغني عن كل من سواه ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (2) فلا يصحّ وصفه بما يستشمُّ منه الفقر والحاجة ، لكن المشركين غير العارفين باللّه كانوا يصفونه بصفات فيها وصمة الفقر والحاجة ، وقد حكاها سبحانه في غير واحد من الآيات ، فقال : ( وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) (3).

ص: 172


1- النحل : 56 - 60.
2- فاطر : 15.
3- الأنعام : 136.

فقد أخطأوا في أمرين :

أ : فرز نصيب لله من الحرث والأنعام ، وكأنّه سبحانه فقير يجعلون له نصيباً ممّا يحرثون ويربّون من أنعامهم.

ب : الجور في التقسيم والقضاء ، فيعطون ما لله إلى الشركاء دون العكس ، وما هذا إلاّ لجهلهم بمنزلته سبحانه وأسمائه وصفاته.

وقد أشار إلى ما جاء تفصيله في سورة الأنعام على وجه موجز في المقام ، وقال : ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

ونظير ما سبق انّهم كانوا يبغضون البنات ويجعلونها لله ، ويحبون البنين ويجعلونهم لأنفسهم ، وإليه يشير سبحانه بقوله : ( وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ) والمراد من الموصول في ( مَّا يَشْتَهُونَ ) هو البنون ، وبذلك تبيّن معنى قوله سبحانه : ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ) أي انّ المشركين المنكرين للآخرة يصفونه سبحانه بصفات السوء التي يستقبحها العقل ويذمّها ، وقد عرفت كيفية وصفهم له فوصفوه عند التحليل بالفقر والحاجة والنقص والإمكان ، واللّه سبحانه هو الغني المطلق ، فهو أعلى من أن يوصف بأمثال السوء ، ولكن الموحّد يصفه بالكمال كالحياة والعلم والقدرة والعزّة والعظمة والكبرياء ، واللّه سبحانه عند المؤمنين ( هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (1) ويقول سبحانه : ( وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي

ص: 173


1- الحشر : 23 - 24.

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (1) وقال : ( لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (2).

ومنه يظهر جواب سؤال طرحه الطبرسي في « مجمع البيان » ، وقال : كيف يمكن الجمع بين قوله سبحانه ( وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى ) وقوله : ( فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (3).

والجواب انّ المراد من ضرب الأمثال هو وصفه بما يدل على فقره وحاجته أو تشبيهه بأُمور مادية ، وقد تقدم انّ المشركين جعلوا له نصيباً من الحرث والأنعام ، كما جعلوا الملائكة بناتاً له ، يقول سبحانه : ( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ) (4) ، ويقول سبحانه : ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ) (5). إلى غير ذلك من الصفات التي يتنزه عنها سبحانه ، فهذا النوع من التمثيل أمر محظور ، وهو المراد من قوله ( فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ ) .

وأمّا التمثيل لله سبحانه بما يناسبه كالعزّة والكبرياء والعلم والقدرة إلى غير ذلك ، فقد أجاب عليه القرآن ولم ير فيه منعاً وحظراً ، بشهادة انّه سبحانه بعد هذا الحظر أتى بتمثيلين لنفسه ، كما سيتضح في التمثيل الآتي.

وربما يذكر في الجواب بأنّ الأمثال في الآية جمع « المِثْل » بمعنى « الند » ، فوزان قوله ( لا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ ) كوزان قوله : ( فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَندَادًا ) (6) ، ولكنّه معنى بعيد ، فانّ المثل بفتح العين يستعمل مع الضرب ، دون المثل بسكون

ص: 174


1- الروم : 27.
2- طه : 8.
3- النحل : 74.
4- الزخرف : 19.
5- الصافات : 158.
6- البقرة : 22.

العين بمعنى الند فلم يشاهد اقترانه بكلمة الضرب.

ويقرب ممّا ذكرنا كلام الشيخ الطبرسي حيث يقول :

إنّ المراد بالأمثال الأشباه ، أي لا تشبّهوا اللّه بشيء ، والمراد بالمثل الأعلى هنا الوصف الأعلى الذي هو كونه قديماً قادراً عالماً حياً ليس كمثله شيء.

وقيل إنّ المراد بقوله : ( المَثَلُ الأَعْلَى ) : المثل المضروب بالحق ، وبقوله : ( فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ ) : الأمثال المضروبة بالباطل (1).

وفي الختام نود أن نشير إلى نكتة ، وهي انّ عدّ قوله سبحانه ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) من قبيل الأمثال القرآنية لا يخلو من غموض ، لأنّ الآية بصدد بيان نفي وصفه بصفات قبيحة سيئة دون وصفه بصفات عليا فأين التمثيل ؟

إلاّ أن يقال : إنّ التشبيه ينتزع من مجموع ما وصف به المشركون ، حيث شبّهوه بإنسان له حاجة ماسّة إلى الزرع والأنعام وله بنات ونسبة مع الجن إلى غير ذلك من أمثال السوء ، فالآية بصدد ردّ هذا النوع من التمثيل ، وفي الحقيقة سلب التمثيل ، أو سوق المؤمن إلى وصفه سبحانه بالأسماء الحسنى والصفات العليا.

ص: 175


1- مجمع البيان : 3 / 367.

النحل

27. التمثيل السابع والعشرون

اشارة

( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

تفسير الآيات

ندّد سبحانه بعمل المشركين الذين يعبدون غير اللّه سبحانه ، بأنّ معبوداتهم لا تملك لهم رزقاً ولا نفعاً ولا ضراً ، فكيف يعبدونها مع أنّها أشبه بجماد لا يرجى منها الخير والشر ، وإنّما العبادة للإله الرازق المعطى المجيب للدعوة ؟

هذا هو المفهوم من الآية الأُولى.

ثمّ إنّه سبحانه يمثّل لمعبود المشركين والمعبود الحق بالتمثيل التالي :

افرض مملوكاً لا يقدر على شيء ولا يملك شيئاً حتى نفسه ، فهو بتمام معنى الكلمة مظهر الفقر والحاجة ، ومالكاً يملك الرزق ويقدر على التصرف فيه ، فيتصرف في ماله كيف شاء وينعم كيف شاء. فهل هذان متساويان ؟ كلاّ.

ص: 176


1- النحل : 73 - 75.

وعلى ضوء ذلك تمثّل معبوداتهم الكاذبة مثل العبد الرق المملوك غير المالك لشيء ، ومثله سبحانه كمثل المالك للنعمة الباذل لها المتصرف فيها كيف شاء.

وذلك لأنّ صفة الوجود الإمكاني - أي ما سوى اللّه - نفس الفقر والحاجة لا يملك شيئاً ولا يستطيع على شيء.

وأمّا اللّه سبحانه فهو المحمود بكلّ حمد والمنعم لكلّ شيء ، فهو المالك للخلق والرزق والرحمة والمغفرة والإحسان والإنعام ، فله كلّ ثناء جميل ، فهو الربّ ودونه هو المربوب ، فأيّهما يصلح للخضوع والعبادة ؟

ويدل على ما ذكرنا انّه سبحانه حصر الحمد لنفسه ، وقال : الحمد لله أي لا لغيره ، فالحمد والثناء ليس إلاّ لله سبحانه ، ومع ذلك نرى صحة حمد الآخرين بأفعالهم المحمودة الاختيارية ، فنحمد المعطي بعطائه والمعلم لتعليمه والوالد لما يقوم به في تربية أولاده.

وكيفية الجمع انّ حمد هؤلاء تحميد مجازي ، لأنّ ما بذله المنعم أو المعلم أو الوالد لم يكن مالكاً له ، وإنّما يملكه سبحانه فهو أقدرهم على هذه الأعمال ، فحمد هؤلاء يرجع إلى حمده وثنائه سبحانه ، ولذلك صح أن نقول : إنّ الحمد منحصر باللّه لا بغيره. ولذلك يقول سبحانه في تلك الآية : ( الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي الشكر لله على نعمه ، يقول الطبرسي : وفيه إشارة إلى أنّ النعم كلّها منه (1).

ص: 177


1- مجمع البيان : 3 / 375.

النحل

28. التمثيل الثامن والعشرون

اشارة

( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1).

تفسير الآية

كان التمثيل السابق يبيّن موقف الآلهة الكاذبة بالنسبة إلى العبادة والخضوع وموقفه تبارك وتعالى حيالها ، ولكن هذا التمثيل جاء لبيان موقف عبدة الأصنام والمشركين وموقف المؤمنين والصادقين ، فيشبّه الأوّل بالعبد الأبكم الذي لا يقدر على شيء ، ويشبّه الآخر بإنسان حرّ يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.

نفترض عبداً رقاً له هذه الصفات :

أ : أبكم لا ينطق وبالطبع لا يسمع لما في الملازمة بين البكم وعدم السماع ، بل الأوّل نتيجة الثاني ، فإذا عطل جهاز السمع يسري العطل إلى اللسان أيضاً ، لأنّه إذا فقد السمع فليس بمقدوره أن يتعلم اللغة.

ب : عاجز لا يقدر على شيء ، ولو قلنا بإطلاق هذا القيد فهو أيضاً لا

ص: 178


1- النحل : 76.

يبصر ، إذ لو أبصر لا يصح في حقّه انّه لا يقدر على شيء.

ج : ( كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ ) : أي ثقل ووبال على وليّه الذي يتولّى أمره.

د : ( أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ ) لعدم استطاعته أن يجلب الخير ، فلا ينفع مولاه ، فلو أرسل إلى أمر لا يرجع بخير.

فهذا الرق الفاقد لكلّ كمال لا يرجى نفعه ولا يرجع بخير.

وهناك إنسان حرٌّ له الوصفان التاليان :

أ : يأمر بالعدل.

ب : وهو على صراط مستقيم.

أمّا الأوّل ، فهو حاك عن كونه ذا لسان ناطق ، وإرادة قوية ، وشهامة عالية يريد إصلاح المجتمع ، فمثل هذا يكون مجمعاً لصفات عليا ، فليس هو أبكماً ولا جباناً ولا ضعيفاً ولا غير مدرك لما يصلح الأمة والمجتمع. فلو كان يأمر بالعدل فهو لعلمه به فيكون معتدلاً في حياته وعبادته ومعاشرته التي هي رمز الحياة.

وأمّا الثاني : أي كونه على صراط مستقيم ، أي يتمتع بسيرة صالحة ودين قويم.

فهذا المثل يبيّن موقف المؤمن والكافر من الهداية الإلهية ، وقد أشار سبحانه إلى مغزى هذا التمثيل في آية أُخرى ، وقال : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1).

هذا التفسير مبني على أنّ التمثيل بصدد بيان موقف الكافر والمؤمن غير انّ هناك احتمالاً آخر ، وهو انّ التمثيل تأكيد للتمثيل السابق وهو تبيين موقف الآلهة الكاذبة والإله الحق.

ص: 179


1- يونس : 35.

النحل

29. التمثيل التاسع والعشرون

اشارة

( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (1).

تفسير الآيات

التوكيد : التشديد ، يقال أوكدها عقدك ، أي شدّك ، وهي لغة أهل الحجاز و « الأنكاث » : الانقاض ، وكلّ شيء نقض بعد الفتح ، فقد انكاث حبلاً كان أو غزلاً.

و « الدخل » ما أُدخل في الشيء على فساد ، وربما يطلق على الخديعة ، وإنّما استعمل لفظ الدخل في نقض العهد ، لأنّه داخل القلب على ترك البقاء ، وقد نقل عن أبي عبيدة ، انّه قال : كلّ أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل ، وكلّ ما دخله عيب فهو مدخول.

هذا ما يرجع إلى تفسير لغات الآية وجملها.

ص: 180


1- النحل : 91 - 92.

وأمّا شأن نزولها فقد نقل عن الكلبي أنّها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ، ثمّ تأمرهنَّ أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها ، واسمها « ريطة » بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة ، وكانت تسمّى فرقاء مكة (1).

إنّ لزوم العمل بالميثاق من الأمور الفطرية التي جُبل عليها الإنسان ، ولذلك نرى أنّ الوالد إذا وعد ولده شيئاً ، ولم يف به فسوف يعترض عليه الولد ، وهذا كاشف انّ لزوم العمل بالمواثيق والعهود أمر فطر عليه الإنسان.

ولذلك صار العمل بالميثاق من المحاسن الأخلاقية التي اتّفق عليها كافة العقلاء.

وقد تضافرت الآيات على لزوم العمل به خصوصاً إذا كان العهد لله ، قال سبحانه : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) (2).

وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) (3) .

وفي آية ثالثة : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) (4).

وفيما نحن فيه يأمر بشيء وينهى عن آخر.

أ : فيقول ( أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ) فيأمر بالوفاء بعهد اللّه ، أي العهود التي يقطعها الناس مع اللّه تعالى. ومثله العهد الذي يعهده مع النبي صلی اللّه علیه و آله وأئمة المسلمين ، فكلّ ذلك عهود إلهية وبيعة في طريق طاعة اللّه سبحانه.

ص: 181


1- الميزان : 12 / 335.
2- الإسراء : 34.
3- المؤمنون : 8.
4- البقرة : 40.

ب : ( وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين ، والظاهر اختصاص الأولى بالعهود التي يبرمها مع اللّه تعالى ، كما إذا قال : عاهدت اللّه لأفعلنّه ، أو عاهدت اللّه أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد اللّه.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم اللّه ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيد الأيمان بقوله : بعد توكيدها ، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين : قسم يطلق عليه لقب اليمين ، بلا عزم في القلب وتأكيد له ، كقول الإنسان حسب العادة واللّه وباللّه.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد ، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين ، يقول سبحانه : ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ) (1).

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد ، بقوله : ( وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) أي جعلتم اللّه كفيلاً بالوفاء فمن حلف باللّه فكأنّه أكفل اللّه بالوفاء.

فالحالف إذا قال : واللّه لأفعلنّ كذا ، أو لأتركنّ كذا ، فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على اللّه سبحانه ، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه

ص: 182


1- المائدة : 89.

اليمين ، فإن نكث ولم يف كان لكفيله أن يؤدبه ، ففي نكث اليمين ، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، قال : ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها وبيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر ، ثمّ تنقض ما غزلته ، وقد عرفت في قوله ب « الحمقاء » فكذلك حال من أبرم عهداً مع اللّه وباسمه ثمّ يقدم على نقضه ، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين ، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً ، يقول سبحانه : ( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) فقوله « أربى » من الربا بمعنى الزيادة ، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش ، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد ، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه ، كما يقول سبحانه : ( إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) .

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به ، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هو المهتدي (1).

ص: 183


1- الميزان : 12 / 336.

النحل

30. التمثيل الثلاثون

اشارة

( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) (1).

تفسير الآيات

« رغد » عيش رغد ورغيد : طيِّب واسع ، قال تعالى : ( وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا ) .

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث :

أ : آمنة : أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ، ولا يشن عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب : مطمئنة : أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار ، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه ، فالاطمئنان رهن الأمن.

ص: 184


1- النحل : 112 - 113.

ج : ( يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ ) ، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية ، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى ، والدليل على ذلك ، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) (1). والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الأصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أُخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية ، أعني بعث الرسول إليها ، كما أشار إليه في الآية الثانية ، بقوله : ( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ ) .

وهؤلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا اللّه عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية ، أعني : الرسول فكذّبوه - كما هو صريح الآية الثانية - وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي ، عن حفص بن سالم ، عن الإمام الصادق علیه السلام ، انّه قال : « إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها ، فلم يزل اللّه بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

ص: 185


1- يوسف : 82.

ويأكلونها ، وهو قول اللّه : ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) » (1).

وفي رواية أُخرى عن زيد الشحّام ، عن الصادق علیه السلام قال : كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها ، قال : فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثم قال : إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان اللّه قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قال علیه السلام : فلمّا فعلوا ذلك بعث اللّه على أرضهم دواباً أصغر من الجراد ، فلم تدع لهم شيئاً خلقه اللّه إلاّ أكلته من شجر أو غيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه وهي القرية التي قال اللّه تعالى : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) (2).

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة اللّه. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية ، فكلّ ذلك كفران لنعم اللّه.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية ، وأشار إليها

ص: 186


1- تفسير نور الثقلين : 3 / 91 ، حديث 247.
2- تفسير نور الثقلين : 3 / 92 ، حديث 248.

بآيتين :

الأُولى : ( فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) .

الثانية : ( فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) .

فلنرجع إلى الآية الأولى ، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو انّه سبحانه جمع في الآية الأولى بين الذوق واللباس ، فقال : ( فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم ، بأن يقول : « فأذاقها اللّه طعم الجوع ».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني : اللباس ، أن يقول : « فكساهم اللّه لباس الجوع » فلماذا عدل عن تلك الجملتين إلى جملة ثالثة لا صلة لها - حسب الظاهر - بين اللفظين ؟

والجواب : انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم ، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس ، ولذلك قال : ( لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ ) ولم يقل « الجوع والخوف » لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع ، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش والخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته ، فقال : ( فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ ) .

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وأمّا ما هو المراد من تلك القرية بأوصافها الثلاثة ، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

ص: 187

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة ، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه ، ثمّ أنعم اللّه عليهم بنعمة عظيمة وهي محمد صلی اللّه علیه و آله فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون : عذّبهم اللّه بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف ، فهو انّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله : ( أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ) (1).

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلاً : فلأنّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً : لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة ، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً : انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبة تماديهم في كفرهم ، والسورة مكية إلاّ آيات قليلة ، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف ، لتكون أحوال تلك الأمم عبرة للمشركين من أهل مكة وما والاها.

ص: 188


1- القصص : 57.

الإسراء

31. التمثيل الواحد والثلاثون

اشارة

( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) (1).

تفسير الآيات

« الغل » : ما يقيد به ، فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال ، ومعنى قوله : ( مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) أي مقيدة به.

« الحسرة » : الغم على ما فاته والندم عليه ، وعلى ذلك يكون محسوراً ، عطف تفسير لقوله « ملوماً » ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه ، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء والبذل ، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك ، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف ، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

ص: 189


1- الإسراء : 29 - 30.

وإن لم يكن منطوقاً ، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء ، فقد تضمّنته آية أُخرى في سورة الفرقان ، وهي : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) (1).

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبرى أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالت : قل له : إنّ أُمّي تستكسيك درعاً ، فإن قال : حتى يأتينا شيء. ، فقل له : انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه ، فقال ما قالت له ، فنزع قميصه فدفعه إليه ، فنزلت الآية.

ويقال انّه علیه السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار ، وقالوا : إنّ محمداً اشتغل بالنوم واللّهو عن الصلاة ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) أي يوسع مرة ويضيق مرة ، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه (2).

روى الكليني عن عبد الملك بن عمرو الأحول ، قال : تلا أبو عبد اللّه هذه الآية : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) .

قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره اللّه في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أُخرى ، فأرخى كفه كلها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أُخرى فأرخى بعضها ، وقال : هذا القوام (3).

ص: 190


1- الفرقان : 67.
2- مجمع البيان : 3 / 412.
3- البرهان في تفسير القرآن : 3 / 173.

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل 450 ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتصّ رحيق الأزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الإفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله : ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ ) (1).

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية ، فمن جانب يصرح النبي صلی اللّه علیه و آله بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ على بن أبى طالب علیه السلام (2).

ومن جانب آخر يقول الإمام علي علیه السلام : « هلك فيَّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال » (3).

ص: 191


1- لقمان : 19.
2- حلية الأولياء : 1 / 86.
3- بحار الأنوار : 34 / 307.

فالإمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساس في الإسلام ، ولعله بذلك سميت الأُمة الإسلامية بالأُمة الوسط ، قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (1).

وهناك كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين علیه السلام حول الاعتدال نأتي بنصها :

دخل الإمام على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأي سعة داره ، قال :

« ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : « وماله ؟ » قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : « عليّ به ». فلمّا جاء قال :

« يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث ! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى اللّه أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟! أنت أهون على اللّه من ذلك ».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !

قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ اللّه تعالى فرض على أئمّة العدل ( الحق ) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره ! » (2).

ص: 192


1- البقرة : 143.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 209.

الكهف

32. التمثيل الثاني والثلاثون

اشارة

( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا ) (1).

تفسير الآيات

« الحفُّ » من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به ، وحفاف الشيء جانباه كأنّهما

ص: 193


1- الكهف : 32 - 43.

أطافا به ، فقوله في الآية ( وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله : ( مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ ) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

« حسباناً » : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قال صلی اللّه علیه و آله في الريح : « اللّهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً ».

« الصعيد » يقال لوجه الأرض « زلق » أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه : ( فَتَرَكَهُ صَلْدًا ) (1).

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للمؤمن والكافر باللّه والمنكر للحياة الأُخروية ، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا ويطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالى :

قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب اللّه سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى المؤقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى اللّه بالإحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الأخ الغني على الفقير ، وقال : ( أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا ) ، وما هذا إلاّ لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

ص: 194


1- البقرة : 264.

بهما وبين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أُكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار - أي تبقى أبداً - وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، وهذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

ويقول : كيف كفرت باللّه سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة ؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد اللّه لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء اللّه ، فانّ الجنتين نعمة من نعم اللّه سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة اللّه تبارك وتعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو

ص: 195

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه وهو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الأخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربي ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب اللّه ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز ، بقوله : ( المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً ) (1).

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أُخرى ، وقال : ( قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ ) (2).

إلى هنا تبيّن مفهوم المثل ، وأمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالإمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

ص: 196


1- الكهف : 46.
2- الصافات : 51 - 55.

( وَاضْرِبْ لَهُم ) أي للكفار مع المؤمنين ( مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا ) أي للكافر ( جَنَّتَيْنِ ) أي بستانين ( مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا ) أحدقناهما بنخل ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ) يقتات به ( كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ) ثمرها ( لَمْ تَظْلِم ) تنقص ( مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) يجري بينهما ( وَكَانَ لَهُ ) مع الجنتين ( ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ ) المؤمن ( وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) يفاخره ( أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا ) عشيرة ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها. ( وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ) بالكفر ( قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ ) تنعدم ( هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي ) في الآخرة على زعمك ( لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ) مرجعاً ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) يجادله ( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ) لأنّ آدم خلق منه ( ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ ) عدلك وصيّرك ( رَجُلاً ) . أمّا أنا فأقول ( لَّكِنَّا هُوَ اللّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ) عند اعجابك بها ( مَا شَاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ ) . ( إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا ) وصواعق ( مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم ( أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا ) بمعنى غائراً ( فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ) حيلة تدركه بها ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت ( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ) ندماً وتحسراً ( عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا ) في عمارة جنته ( وَهِيَ خَاوِيَةٌ ) ساقطة ( عَلَى عُرُوشِهَا ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم ( وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه ( لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ ) جماعة ( يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ ) عند هلاكها و ( مَا كَانَ مُنتَصِرًا ) عند هلاكها بنفسه ( هُنَالِكَ ) أي يوم القيامة ( الْوَلايَةُ ) الملك ( للهِ الحَقِّ ) (1).

ص: 197


1- السيوطي : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.

الكهف

33. التمثيل الثالث والثلاثون

اشارة

( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) (1).

تفسير الآيات

« الهشيم » : ما يكسر ويحطم في يبس النبات ، و « الذر » والتذرية : تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدأ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الأزهار الرائعة ، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف ، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

ص: 198


1- الكهف : 45.

على طول السنة ويشاهده الإنسان بأُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه : ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ ) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الإنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله : ( فَأَصْبَحَ هَشِيمًا ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات ( وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه : ( المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) .

نعم ، الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأخروية ، قال سبحانه : ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا ) (1).

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية (2).

ص: 199


1- مريم : 76.
2- انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس 25 ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية 20.
ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يعد من أمثال القرآن قوله : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) (1).

والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة ومع ذلك ( وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) أي أكثر شيء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

ص: 200


1- الكهف : 54.

الحج

34. التمثيل الرابع والثلاثون

اشارة

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (1).

تفسير الآيات

كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية ، ويعربون عن عقيدتهم ، بأنّه لا خالق في الكون سوى اللّه سبحانه ، وقد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) (2).

ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية ، وكأنّه سبحانه - بزعمهم - خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة ، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الأرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة ، يقول سبحانه : ( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (3) والآية وإن كانت تفصح عن

ص: 201


1- الحج : 73 - 74.
2- الزخرف : 9.
3- يوسف : 39.

عقيدة المشركين في عهد يوسف إلاّ أنّها تماثل إلى حد كبير عقيدة المشركين في مكة ، بشهادة انّ الآية نزلت للتنديد بهم والحطِّ من عقيدتهم الفاسدة.

وهناك آيات أُخرى تكشف عن شركهم في الربوبية :

يقول سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ) (1) فقد كانوا يعبدون آلهتهم في سبيل نصرتهم في ساحات الوغى ، قال سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) (2).

فكان الهدف من الخضوع لدى الآلهة هو طلب العزّ منهم في مختلف المجالات ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أنّ مشركي عصر الرسول لم يكونوا موحدين في الربوبية ، وإن كانوا كذلك في مجال الخالقية.

وهناك آيات كثيرة تصف الأصنام والأوثان بأنّها لا تملك كشف الضرّ ، كما لا تملك النفع والضرّ ، ولا النصر في الحرب ، ولا العزة في الحياة ، كل ذلك يدل على أنّ المشركين كانوا يعتقدون أنّ في آلهتهم قوة وسلطاناً يكشف عنهم الضرّ ويجلب إليهم النفع ، وهذه عبارة أُخرى عن تدبيرهم للحياة الإنسانية ، يقول سبحانه : ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً ) (3). وقال تعالى : ( وَلا تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَنفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ) (4).

وقال تعالى : ( إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ ) (5) إلى غير ذلك من الآيات التي تبطل تدبير الآلهة المزيفة.

ص: 202


1- يس : 74.
2- مريم : 81.
3- الإسراء : 56.
4- يونس : 106.
5- فاطر : 14.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه سبحانه ضرب في المقام أمثالاً أبطل بها ربوبية الأصنام ، بالبيان التالى :

أمّا الذباب ، فهو عندهم أضعف الحيوانات وأوهنها ، ومع ذلك فآلهتهم عاجزون عن خلق الذباب ، وإن سلب الذباب منهم شيئاً لا يستطيعون استنقاذه منه.

فقد روي أنّ العرب كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب ، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله ، يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ ) أي يعبدونه والدعاء هنا بمعنى العبادة ، كما في قوله سبحانه : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (1) فدعاؤه سبحانه عين عبادته كما أنّ دعاء الآلهة المزيّفة - بما انّها أرباب عند الداعي - عبادة لها.

( لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ) مع صغره وضعفه ( وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ ) كما عرفت من أنّ الذباب ربما يأكل العسل الموجود على رؤوس الأصنام.

( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) وفيها احتمالات :

الأوّل : انّ المراد من الطالب والمطلوب هو العابد والمعبود ، فالإنسان ضعيف كما هو واضح ، وقال سبحانه : ( وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفًا ) والمطلوب ، أعني : الأصنام مثله لأنّه جماد لا يقدر على شيء.

ص: 203


1- غافر : 60.

الثاني : ويحتمل أن يكون المراد من الطالب هو الذباب الذي يطلب ما طليت به الأصنام ، والمطلوب هي الأصنام التي تريد استنقاذ ما سلب منها.

الثالث : المراد من الطالب الآلهة فانّهم يطلبون خلق الذباب فلا يقدرون على استنقاذ ما سلبهم ، والمطلوب الذباب حيث يطلب للاستنقاذ منه ، والغاية من التمثيل بيان ضعف الآلهة لتنزيلها منزلة أضعف الحيوانات في الشعور والقدرة.

ثمّ إنّه سبحانه يعود ليبين منشأ إعراضهم عن عبادة اللّه وانكبابهم على عبادة الآلهة ، بقوله : ( مَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) أي ما نزلوه المنزلة التي يستحقها ولم يعاملوه بما يليق به ، فلذلك أعرضوا عن عبادة الخالق وانصرفوا إلى عبادة المخلوق الذي لا ينفع ولا يضر ، فلو كان هؤلاء عارفين باللّه وأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، لاعترفوا بأنّه لا خالق ولا رب سواه ، وعلى ضوء ذلك لا معبود سواه ، ولكن لم يقدروا اللّه بما يليق به ، فلذلك شاركوه أضعف المخلوقات وأذلّهم ، مع أنّه سبحانه ( وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) بخلاف الآلهة فانّهم الضعفاء والأذلاّء.

ص: 204

النور

35. التمثيل الخامس والثلاثون

اشارة

( اللّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (1).

تفسير الآية

المشكاة : كوّة غير نافذة ، وتُتخذ في جدار البيت لوضع بعض الأثاث ومنها المصباح وغيره ، وربما تكون الكوّة مشرفة على ساحة الدار وتجعل بينها زجاجة ، لتحفظ المصباح من الرياح ، ولتضيء الساحة والغرفة معاً.

ومنه حافظة المصباح ، وهي ما تصنع على شكل مخروطي توضع على المصباح لتحفظه من الرياح ، وفي أعلاها ثقب يخرج منه الدخان.

« المصباح » : السراج ، وهو آلة يتألف من أُمور أربعة :

أ : وعاء للزيت ، ب : فتيل يشتعل بالزيت ، ج : زجاجة منصوبة عليه ، د : آلة التحكم بالفتيل.

ص: 205


1- النور : 35.

ثمّ إنّ أفخر أنواع الزيوت هو المأخوذ من شجرة الزيتون المغروسة في مكان تشرق عليه الشمس من كل الجوانب حيث تكون في غاية الصفاء وسريعة الاشتعال ، بخلاف المغروسة في جانب الشرق أو جانب الغرب ، فانّها لا تتعرض للشمس إلاّ في أوقات معينة.

قال العلاّمة الطباطبائي :

والمراد بكون الشجرة لا شرقية ولا غربية ، انّها ليست نابتة في الجانب الشرقي ، ولا في الجانب الغربي حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار ، ويضيء الظل عليها في الطرف الآخر ، فلا تنضج ثمرتها ، فلا يصفو الدهن المأخوذ منها ، فلا تجود الإضاءة (1).

إلى هنا تم ما يرجع إلى مفردات الآية ، فعلى ذلك فالمشبه به عبارة عن مشكاة فيها مصباح وعليها زجاجة ، يوقد المصباح من زيت شجرة الزيتون المغروسة المتعرضة للشمس طول النهار على وجه يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، لأنّ الزيت إذا كان خالصاً صافياً يرى من بعيد كأنّ له شعاعاً فإذا مسه النار ازداد ضوءاً على ضوء.

فالمشبه به هو النور المشرق من زجاجة مصباح ، موقد من زيت جيد صاف موضوع على مشكاة ، فانّ نور المصباح تجمعه المشكاة وتعكسه فيزداد إشراقاً.

وأمّا قوله في آخر الآية : ( نُّورٌ عَلَى نُورٍ ) بمعنى تضاعف النور وأنّ نور الزجاجة مستمد من نور المصباح في إنارتها.

قال العلاّمة الطباطبائي :

ص: 206


1- الميزان : 15 / 124.

فأخذ المشكاة ، لأجل الدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة وانعكاسه إلى جو البيت.

واعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية للدلالة على صفاء الدهن وجودته المؤثر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله.

وجودة الضياء على ما يدل عليه كون زيته يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار.

واعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون نور الزجاجة مستمد من نور المصباح (1).

هذا هو حال المشبه به ، وإنّما الكلام في المشبه أو الممثل له ، فقد طبقت كلّ طائفة ذلك الممثل على ما ترومه ، وإليك الأقوال :

القول الأوّل : المشبه به هداية اللّه ، إذ قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات وصارت بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية وفي الزجاجة مصباح يتّقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء.

وأمّا عدم تشبيهها بضوء الشمس مع أنّه أبلغ ، فلأجل انّ المراد وصف الضوء الكامل وسط الظلمة ، لأنّ الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنّما هي الشبهات التي هي كالظلمات ، وهداية اللّه تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات.

القول الثاني : المراد من النور : القرآن ، ويدل عليه قوله تعالى : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) (2).

ص: 207


1- لميزان : 15 / 125.
2- المائدة : 15.

القول الثالث : المراد هو الرسول ، لأنّه المرشد ، ولأنّه تعالى قال في وصفه : ( وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ) (1). ولعلّ مرجع القولين الأخيرين هو الأوّل ، لأنّ القرآن والرسول من شعب هداية اللّه سبحانه.

القول الرابع : إنّ المراد ما في قلب المؤمنين من معرفة الشرائع ، ويدل عليه انّه تعالى وصف الإيمان بأنّه نور والكفر بأنّه ظلمة ، فقال : ( أَفَمَن شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ) (2).

وقال تعالى : ( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) (3). وحاصله انّ إيمان المؤمن قد بلغ في الصفاء عن الشبهات والامتياز عن ظلمات الضلالات مبلغ السراج المذكور.

وعلى هذا فالتمثيل مفرداً وهو تشبيه الهداية وما يقرب منها بنور السراج ، ولا يجب أن يكون في مقابل كل ما للمشبه به من الأمور موجود في المشبه بخلاف الوجه التالى.

القول الخامس : إنّ المراد هو القوى المدركة ومراتبها الخمس ، وهي : القوة الحسّاسة ، القوة الخيالية ، القوة العقلية ، القوة الفكرية ، القوة القدسية.

وإليها أشارت الآية الكريمة : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) (4).

فإذا عرفت هذه القوى فهي بجملتها أنوار ، إذ بها تظهر أصناف

ص: 208


1- الأحزاب : 46.
2- الزمر : 22.
3- إبراهيم : 1.
4- الشورى : 52.

الموجودات ، وهذه المراتب الخمس يمكن تشبيهها بالأمور الخمسة التي ذكرها اللّه تعالى ، وهي : المشكاة ، والزجاجة ، والمصباح ، والشجرة ، والزيت.

وعلى هذا فالتمثيل مركباً نظير القول الآتي :

القول السادس : إنّ النفس الإنسانية قابلة للمعارف والإدراكات المجردة ، ثمّ إنّه في أوّل الأمر تكون خالية عن جميع هذه المعارف ، فهناك تسمى عقلاً هيولانياً ، وهي المشكاة.

وفي المرتبة الثانية يحصل فيها العلوم البديهية التي يمكن التوصل بتركيباتها إلى اكتساب العلوم النظرية. ثم إن أمكنه الانتقال إن كانت ضعيفة فهي الشجرة ، وإن كانت أقوى من ذلك فهي الزيت ، وإن كانت شديدة القوة فهي الزجاجة التي كأنّها الكوكب الدرّي ، وإن كانت في النهاية القصوى وهي النفس القدسية التي للأنبياء فهي التي ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) .

وفي المرتبة الثالثة يكتسب من العلوم الضرورية العلوم النظرية ، إلاّ أنّها لا تكون حاضرة بالفعل ، ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استحضارها قدر عليه ، وهذا يسمّى عقلاً بالفعل وهو المصباح.

وفي المرتبة الرابعة أن تكون تلك المعارف حاصلة بالفعل ، وهذا يسمّى عقلاً مستفاداً ، وهو نور على نور ، لأنّ الحكمة ملكة نور وحصول ما عليه الملكة نور آخر. ثم إنّ هذه العلوم التي تحصل في الأرواح البشرية ، إنّما تحصل من جوهر روحاني يسمى بالعقل الفعال وهو مدبر ما تحت كرة القمر وهو النار.

القول السابع : إنّه سبحانه شبّه الصدر بالمشكاة ، والقلب بالزجاجة ، والمعرفة بالمصباح ، وهذا المصباح إنّما يوقد من شجرة مباركة وهي إلهامات الملائكة. وإنّما شبّه الملائكة بالشجرة المباركة لكثرة منافعهم ، ولكنّه وصفها بأنّها

ص: 209

لا شرقية ولا غربية لأنّها روحانية ، ووصفهم بقوله : ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) لكثرة علومهم وشدة اطّلاعهم على أسرار ملكوت اللّه تعالى.

القول الثامن : إنّ المراد من ( مَثَلُ نُورِهِ ) ، أي مثل نور الإيمان في قلب محمد صلی اللّه علیه و آله كمشكاة فيها مصباح ، فالمشكاة نظير صلب عبد اللّه ، والزجاجة نظير جسد محمد صلی اللّه علیه و آله ، والمصباح نظير الإيمان في قلب محمد أو نظير النبوة في قلبه.

القول التاسع : إن « المشكاة » نظير إبراهيم علیه السلام ، والزجاجة نظير إسماعيل علیه السلام ، والمصباح نظير جسد محمّد صلی اللّه علیه و آله ، والشجرة النبوة والرسالة.

القول العاشر : إنّ قوله : ( مَثَلُ نُورِهِ ) يرجع إلى المؤمن (1).

إنّ المشبه هو نور اللّه المشرق على قلوب المؤمنين ، والمشبه به النور المشرق من زجاجة ، وقوله سبحانه : ( يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ) استئناف يعلّل به اختصاص المؤمنين بنور الإيمان والمعرفة وحرمان غيرهم ، ومن المعلوم من السياق انّ المراد بقوله : ( مَن يَشَاءُ ) هم الذين يذكرهم اللّه سبحانه بقوله بعد هذه الآية : ( رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ ) (2) فالمراد بمن يشاء المؤمنون بوصف كمال إيمانهم. والمعنى انّ اللّه إنّما هدى المتلبسين بكمال الإيمان إلى نوره دون المتلبسين بالكفر (3).

وقوله : ( يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) إشارة إلى أنّ المثل المضروب تحته طور من العلم ، وإنّما اختير المثل لكونه أسهل الطرق لتبين الحقائق والدقائق ، ويشترك فيه العالم والعامي فيأخذ منه كلّ ما قسم له ، قال تعالى : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ) (4).

ص: 210


1- تفسير الفخر الرازى : 23 / 231 - 235.
2- النور : 37.
3- الميزان : 18 / 125 - 126.
4- العنكبوت : 43.

النور

36. التمثيل السادس والثلاثون

اشارة

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ) (1).

تفسير الآية

« السراب » : ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنّه ماء يجري ، و « القيعة » : بمعنى القاع أو جمع قاع ، وهو المنبسط المستوي من الأرض ، والظمآن هو العطشان.

يشبه سبحانه أعمال الكفار تارة بالسراب كما في هذه الآية ، وأُخرى بالظلمات كما في التمثيل الآتي ، ولعلّ المشبه في الأوّل هو حسناتهم ، وفي الثاني قبائح أعمالهم.

وإليك توضيح التمثيل الوارد في الآية :

قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ ) أي ما يعملون من الطاعات ويقدمون من قرابين وأذكار يتقربون بها إلى آلهتهم ، مثلها ك ( سَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً ) .

ص: 211


1- النور : 39.

فقد وصف الظمآن بصفات عديدة :

الأولى : حسبان السراب ماءً ، كما قال سبحانه : ( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً ) .

الثانية : إذا وصل إلى السراب لم يجده شيئاً نافعاً ، كما قال سبحانه ( حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) وإنّما خصّ الظمآن به مع أنّ السراب يتراءى ماء لكلّ راءٍ ، لأن المقصود هو مجيء الرائي إلى السراب ، ولا يجيئه إلاّ الظمآن ليرتوي ويرفع عطشه.

الثالثة : عند ما يشرف على السراب لا يجد فيه ماءً ، ولكن يجد اللّه سبحانه عنده ، كما قال سبحانه : ( وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ ) .

وهذا خبر عن الظمآن ، ولكن المقصود منه في هذه الجملة هو الكافر ، والمعنى وجد أمر اللّه ووجد جزاء اللّه ، وذلك عند حلول أجله واشرافه على الآخرة.

فالكافر يتصوّر أنّ ما يقدم من قرابين وأذكار سوف ينفعه عند موته وبعده ، وسوف تقوم الآلهة بالشفاعة له ، ولكن يتجلّى له خلاف ذلك وانّ الأمر أمر اللّه لا أمر غيره فلا يجدون أثراً من إلوهية آلهتهم.

فعند ذلك يجدون جزاء أعمالهم ، كما يقول سبحانه : ( فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ) .

ثمّ إنّه سبحانه يصف نفسه بقوله : ( وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ) .

وبذلك تبين انّ الآية المباركة لبيان حال الظمآن الحقيقي إلى قوله : ( لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) ، كما أنّها من قوله ( وَوَجَدَ ... ) يرجع إلى الظمآن لكن بالمعنى المجازي وهو الكافر.

ص: 212

وحاصل التمثيل هو انّ الطاعة والعبادة والقربات كلها لله تبارك وتعالى ، فمن قدمها إليه وقام بها لأجله فقد بذر بذرة في أرض خصبة سوف ينتفع بها في لقائه سبحانه.

وأمّا من عبد غيره وقدم إليه القربات راجياً الانتفاع به ، فهو كرجاء الظمآن الذي يتصوّر السراب ماءً فيجيئه لينتفع به ولكنّه سرعان ما يرجع خائباً.

إلى هنا تمَّ ما يشترك فيه الظمآن والكافر ، أي المشبه به والمشبه ، ولكن المشبه ، أعني : الكافر الذي شبه بالظمآن فهو يختص بأُمور أُخرى.

أولاً : انّه عند مجيئه إلى الانتفاع بأعماله يجد اللّه هو المجازي لا غير.

وثانياً : انّه سبحانه يجزيه بأعماله.

وثالثاً : فيوفيه حسابه.

وما ذلك إلاّ لأنّ اللّه سريع الحساب.

وعلى ضوء ما ذكرنا فقد أُريد من الظمآن الاسم الظاهر الظمآن الحقيقي ، وأُريد من الضمائر الثلاثة في « وجد » « وفّاه » « حسابه » الظمآن المجازي أعني الكافر الخائب.

ص: 213

النور

37. التمثيل السابع والثلاثون

اشارة

( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) (1).

تفسير الآية

« اللجيّ » : منسوب إلى اللجّة ، وهي في اللغة البحر الواسع العميق ، ولكنّه استخدم في لازم معناه وهو تردد أمواجه ، فانّ البحر كلما كان عميقاً وواسعاً تزداد أمواجه ، وعلى ذلك فيكون المراد من قوله ( بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ) أي بحر متلاطم.

و « السحاب » : عبارة عن الغيوم الممطرة ، بخلاف الغيم فهو أعم ، وانّما استخدم كلمة السحاب ليكون سبباً لازدياد الظلم.

هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية ، وأمّا المقصود فهو كالتالي.

انّه سبحانه شبه في الآية السابقة أعمال الكافرين ، لأجل عدم الانتفاع بها بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء ، ولكنّه تعالى شبّه أعمالهم في هذه الآية بالظلمة وخلوّها من نور الحق ببحر لجيّ فوقه سحابة سوداء ممطرة ويعلو ماءه موج فوق

ص: 214


1- النور : 40.

موج ، فراكب هذا البحر تغمره ظلمة دامسة لا يرى أمامه شيئاً حتى لو أخرج يده فانّه لا يراها مع قربها منه.

هذا هو المشبه به ، وأمّا المشبه فالأعمال التي يقوم بها الكافر باطلة محضة ليس فيها من الحقّ شيء مثل هذا البحر اللجي المحيط به عتمة الظلام الذي ليس فيه نور.

ثمّ إنّ الآية تشير إلى ظلمات ثلاث.

الأولى : ظلمة البحر المحجوب من النور.

الثانية : ظلمة الأمواج المتلاطمة.

الثالثة : السحاب الأسود الممطر.

فتراكم هذه الظلمات يحجب كلّ نور من الوصول ، وهكذا الحال في الكافر ففي أعماله ظلمات ثلاث يمكن بيانها بأنحاء مختلفة :

النحو الأوّل : ظلمة الاعتقاد ، ظلمة القول ، ظلمة العمل.

النحو الثاني : ظلمة القلب ، ظلمة البصر ، ظلمة السمع.

النحو الثالث : ظلمة الجهل ، ظلمة الجهل بالجهل ، ظلمة تصوّر الجهل علماً (1).

ويمكن أن تكون هذه الظلمات المتراكمة إشارة إلى أمر آخر وهو إصرار الكافر المتزايد على كفره وقبائح أعماله.

ولذلك يصفه سبحانه بقوله : ( وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) .

ص: 215


1- انظر تفسير الفخر الرازى : 24 / 8 - 9.
إيقاظ

ثمّ إنّ بعض المؤلفين في أمثال القرآن ذكروا الآية التالية واعتبروها من الأمثال ، قال سبحانه : ( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثال فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) (1).

ولكن الآية رغم ما جاء فيها من لفظ الأمثال ليست من قبيل التمثيل ، وإنّما هي بصدد نقل ما وصف به النبي صلی اللّه علیه و آله في لسان الكفّار ، حيث وصفوه بأنّه يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، فلا يصلح للرسالة.

ثمّ نقموا منه بأنّا سلمنا انّه رسول ، ولكنّه لماذا لا ينزل إليه ملك فيكون معه نذيراً ليتصل إنذاره بالغيب بتوسط الملك ؟

ثمّ نقموا منه أيضاً بأنّه لماذا لم يلق إليه كنز من السماء حتى يصرفه في حوائجه المادية ، أو لماذا لا تكون له جنّة يأكل منها ، ثمّ في الختام وصفوه بأنّه مسحور.

فقال سبحانه اعتراضاً وتنديداً بوصفهم النبي صلی اللّه علیه و آله إيجاباً وسلباً بقوله ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثال ) أي انظر كيف وصفوك تارة بأنّك تأكل وتمشي في الأسواق ، وأُخرى بعدم اقترانك بملك ، وثالثة بالفقر ، ورابعة بكونك مسحوراً بتخيّل انّه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة والكتاب.

وليس هاهنا مشبه ولا مشبه به ولا تمثيل ليبين موقف الرسول ، ولأجل ذلك صرّحنا في المقدمة انّه ليس من الأمثال القرآنية.

ص: 216


1- الفرقان : 7 - 9.

العنكبوت

38. التمثيل الثامن والثلاثون

اشارة

( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ) (1).

تفسير الآيات

ضرب سبحانه لآلهة المشركين مثلاً بالذباب تارة ، وبيت العنكبوت أُخرى ، أمّا الأوّل فقد مضى البحث عنه ، وأمّا الثاني فهو ما تتضمنه الآية من تشبيه آلهة المشركين ومعبوداتهم المزيفة بأوهن البيوت وهو بيت العنكبوت.

وقد مرّ انّ التشبيه يترك تأثيراً بالغاً في النفوس مثل تأثير الدليل والبرهان ، فتارة ينهى عن الغيبة ويقول : لا تغتب فانّه يوجب العذاب ويورث العقاب ، وأُخرى يمثل عمله بالمثل التالي : وهو انّ مثل من يغتاب مثل من يأكل لحم الميت ، لأنّك نلت من هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب ، فكان نيلك منه كعمل من يأكل لحم الميت وهو لا يعلم ما يفعل به ولا

ص: 217


1- العنكبوت : 41 - 43.

يقدر على الدفع.

ثمّ إنّ الغرض من تشبيه الآلهة المزيفة بهوام وحشرات الأرض كالبعوض والذباب والعنكبوت هو الحط من شأنها والاستهزاء بها.

إنّ العنكبوت حشرة معروفة ذكورها أصغر أجساداً من إناثها ، وهي تتغذى من الحشرات التي تصطادها بالشبكة التي تمدها على جدران البيوت ، فتصنع تلك الشبكة من مادة تفرزها لها غدد في باطنها محتوية على سائل لزج تخرجه من فتحة صغيرة ، فيتجدد بمجرد ملامسته للهواء ويصير خيطاً في غاية الدقة ، وما أن تقع الفريسة في تلك الشبكة حتى تنقض عليها وتنفث فيها سماً يوقف حركاتها ، فلا تستطيع الدفاع عن نفسها (1).

ومع ذلك فما نسجته بيتاً لنفسها من أوهن البيوت ، بل لا يليق أن يصدق عليه عنوان البيت ، الذي يتألف من حائط هائل ، وسقف مظلٍّ ، وباب ونوافذ ، وبيتها يفقد أبسط تلك المقومات هذا من جانب ، ومن جانب آخر فانّ بيتها يفتقد لأدنى مقاومة أمام الظواهر الجوية والطبيعية ، فلو هبّ عليه نسيم هادئ لمزق النسيج ، ولو سقطت عليه قطرة من ماء لتلاشى ، ولو وقع على مقربة من نار لاحترق ، ولو تراكم عليه الغبار لمزق.

هذا هو حال المشبه به ، والقرآن يمثل حال الآلهة المزيفة بهذا المثل الرائع. وهو انّها لا تنفع ولا تضرّ ، لا تخلق ولا ترزق ، ولا تقدر على استجابة أي طلب.

بل حال الآلهة المزيفة الكاذبة أسوأ حالاً من بيت العنكبوت ، وهو انّ العنكبوت تنسج بيتها لتصطاد به الحشرات ولولاه لماتت جوعاً ، ولكن الأصنام والأوثان لا توفر شيئاً للكافر.

ص: 218


1- انظر دائرة معارف القرن الرابع عشر : 6 / 772.

وبذلك تقف على عظمة التمثيل الوارد في قوله : ( وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) .

ثمّ إنّ قوله : ( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ليس قيداً لقوله : ( أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ) ، لأنّه من الواضح لكلّ أحد انّ بيت العنكبوت في غاية الوهن ، وانّما هو من متمّمات قوله : ( اتَّخَذُوا ) أي لو علموا انّ عبادة الآلهة كاتخاذ العنكبوت بيتاً سخيفاً ، ربما أعرضوا عنها.

ثمّ إنّه سبحانه أردف المثل بآية أُخرى ، وقال : ( إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) والظاهر انّ « ما » في قوله : ( مَا يَدْعُونَ ) موصولة ، أي انّه يعلم ما يعبد هؤلاء الكفار وما يتخذونه من دونه أرباباً. ولكن علمهم لا يضر إذ هو العزيز الذي لا يغالب فيما يريد والحكيم في جميع أفعاله.

ثمّ قال سبحانه : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ) أي نذكر تلك الأمثال ، وما يفهمها إلاّ العلماء العاقلون.

ص: 219

الروم

39. التمثيل التاسع والثلاثون

اشارة

( وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ * ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (1).

تفسير الآيات

« القانت » : هو الخاضع ، الطائع ، فقوله : ( كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) أي خاضعون وطائعون له في الحياة والبقاء والموت والبعث ، وبالجملة كلّ ما في الكون مقهور لله سبحانه.

ثمّ إنّ هذه الآيات تتضمن برهاناً على إمكان المعاد وتمثيلاً على بطلان الشرك في العبادة ، أمّا البرهان فقوله سبحانه : ( وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) واللام في قوله « وله » للملكية ، والمراد منه الملكية التكوينية ، كما أنّ قنوطهم وخضوعهم كذلك ، ومفاد الآية انّ زمام ما في الكون بيده سبحانه ، والكل مستسلمون لمشيئته سبحانه دون فرق بين الصالحين والطالحين ، وذلك لأنّه سبحانه

ص: 220


1- الروم : 26 - 28.

هو الخالق الذي يدبر العالم كيفما يشاء ، والمربوب مستسلم لربه.

ثمّ إنّه سبحانه رتَّب على ذلك مسألة إمكان المعاد ، بقوله : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) .

وحاصل البرهان : انّه سبحانه قادر على الخلق من العدم - كما هو المفروض - فالقادر على ذلك قادر على الإعادة ، إذ ليس هو إعادة من العدم ، بل إعادة لصورة الأجزاء المتماسكة وتنظيم المتفرقة ، فالخالق من لا شيء أولى من أن يكون خالقاً من شيء.

ثمّ إنّ هذه الأولوية حسب تفكيرنا ورؤيتنا ، وإلاّ فالأمور الممكنة أمام مشيئته سواء ، قال على علیه السلام :

وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء (1).

ولأجل توضيح هذا المعنى ، قال سبحانه : ( وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) والمراد من المثل الوصف ، والمراد من المثل الأعلى هو الوصف الأتم والأكمل ، الذي له سبحانه ، فهو علم كله ، قدرة كله ، حياة كله ، ليس لأوصافه حد.

إلى هنا تمَّ ما ذكره القرآن من البرهان على إمكانية قيام المعاد بحشر الأجسام.

وإليك بيان الأمر الثاني وهو التنديد بالشرك في العبادة من خلال التمثيل الآتي.

ص: 221


1- نهج البلاغة : الخطبة 185.

ألقى سبحانه المثل بصورة الاستفهام الإنكاري ، وحاصله : هل ترضون لأنفسكم أن تكون عبيدكم وإماؤكم شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم إيّاها على وجه تخشون التصرف فيها بغير إذن هؤلاء العبيد والإماء ورضاً منهم ، كما تخشون الشركاء الأحرار.

والجواب : لا ، أي لا يكون ذلك أبداً ولا يصير المملوك شريكاً لمولاه في ماله ، فعندئذٍ يقال لكم : كيف تجوزون ذلك على اللّه ، وأن يكون بعض عبيده المملوكين كالملائكة والجن شركاء له ، امّا في الخالقية أو في التدبير أو في العبادة.

والحاصل : انّ العبد المملوك وضعاً لا يصحّ أن يكون في رتبة مولاه على نحو يشاركه في الأموال ، فهكذا العبد المملوك تكويناً لا يمكن أن يكون في درجة الخالق المدبر فيشاركه في الفعل ، كأن يكون خالقاً أو مدبراً ، أو يشاركه في الصفة كأن يكون معبوداً.

فالشيء الذي لا ترضونه لأنفسكم ، كيف ترضونه لله سبحانه ، وهو ربّ العالمين ؟ وإلى ذلك المثل أشار ، بقوله :

( ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ ) أي ضرب لكم مثلاً متخذاً من أنفسكم منتزعاً من حالاتكم ( هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ) فقوله : ( هَل لَّكُم ) شروع في المثل المضروب ، والاستفهام للإنكار ، وقوله « ما » في ( مِّن مَّا مَلَكَتْ ) إشارة إلى النوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد والإماء.

فقوله : ( مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ) مبين للشركة ، فقوله شركاء مبتدأ والظرف بعده خبره ، أي شركاء فيما رزقناهم على وجه تكونون فيه سواء ، وعلى ذلك يكون من في شركاء ، زائدة.

ص: 222

فقوله : ( تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ) بيان للشركة ، أي يكون العبيد كسائر الشركاء الأحرار ، فكما أنّ الشريك يخاف من شركائه الأحرار ، كذلك يخاف من عبده الذي يعرف أنّه شريك كسائر الشركاء.

ثمّ إنّه يتم الآية ، بقوله : ( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ، وعلى ذلك فالمشبه هو جعل المخلوق في درجة الخالق ، والمشبه به جعل المملوك وضعاً شريكاً للمالك.

ص: 223

فاطر

40. التمثيل الأربعون

اشارة

( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1).

تفسير الآية

« الفرات » : الماء العذب ، يقال للواحد والجمع ، قال سبحانه : ( وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا ) ، وعلى هذا يكون عذب قيداً توضيحياً.

« الأُجاج » : هو شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار.

« مواخر » من مخر ، يقال مخرت السفينة مخراً ، إذا شقت الماء بجؤجئها مستقبلة له.

فالآية بصدد ضرب المثل في حقّ الكفر والإيمان ، أو الكافر والمؤمن.

وحاصل التمثيل : انّ الإيمان والكفر متمايزان لا يختلط أحدهما بالآخر ، كما أنّ الماء العذب الفرات لا يختلط بالملح الأجاج.

وفي الوقت نفسه لا يتساويان في الحسن والنفع ، قال سبحانه : ( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) بل انّ

ص: 224


1- فاطر : 12.

الكافر أسوأ حالاً من البحر الأجاج الذي يشاطر البحر الفرات في أمرين :

أ : يستخرج من كلّ منهما لحماً طرياً يأكله الإنسان ، كما قال سبحانه : ( وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ) .

ب : يستخرج من كلّ منهما اللآلئ التي تخرج من البحر بالغوص وتلبسونها وتتزينون بها.

إلى هنا تمَّ التمثيل ، ثمّ إنّه سبحانه شرع لبيان نعمه التي نزلت لأجلها السورة ، وقال :

( وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ، والدليل على أنّه ليس جزء المثل تغير لحن الكلام ، حيث إنّ المثل ابتدأ بصيغة الماضي ، وقال : ( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ ) ولكن ذيله جاء بصيغة المخاطب ( وَتَرَى الْفُلْكَ ) وهذا دليل على أنّه ليس جزء المثل.

مضافاً إلى أنّ مضمون الجملة جاء في سورة النحل ، وقال : ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1).

وبذلك يظهر انّ وزان الآية ، وزان قوله سبحانه : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (2).

فكما أنّ الحجارة ألين من قلوبهم ، فهكذا الملح الأجاج أفضل من الكافر ، حيث إنّه يفيد.

ص: 225


1- النحل : 14.
2- البقرة : 74.

فاطر

41. التمثيل الواحد والأربعون

اشارة

( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ) (1).

تفسير الآيات

« الحرور » : شدة حرّ الشمس ، وقيل : هو السموم. وقال الراغب : الحرور : الريح الحارة.

هذا تمثيل للكافر والمؤمن ، أمّا الكافر فقد شبّهه بالصفات التالية :

1. الأعمى ، 2. الظلمات ، 3. الحرور ، 4. الأموات.

كما شبّه المؤمن بأضدادها التالية :

1. البصير ، 2. النور ، 3. الظل ، 4. الأحياء.

وما ذلك إلاّ لأنّ الكافر لأجل عدم إيمانه باللّه سبحانه وصفاته وأفعاله ، فهو أعمى البصر تغمره ظلمة دامسة لا يرى ما وراء الدنيا شيئاً ، وتحيط به نار ،

ص: 226


1- فاطر : 19 - 22.

قال سبحانه : ( إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) (1) وظاهر الآية انّ النار محيطة بهم في هذه الدنيا وإن لم يشعروا بها ، كما أنّه ميت لا يسمع نداء الأنبياء وإن كان حياً يمشي ، وهذا بخلاف المؤمن فانّه يبصر بنور اللّه يغمره نور زاهر. يرى دوام الحياة إلى ما بعد الموت ، فهو في ظلّ ظليل رحمته ، وانّه يسمع نداء الأنبياء ويؤمن به.

وبعبارة واضحة : الكافر مجالد مكابر ، والمؤمن واعٍ متدبر.

ص: 227


1- التوبة : 49.

يس

42. التمثيل الثاني والأربعون

اشارة

( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (1).

ص: 228


1- يس : 13 - 30.
تفسير الآيات

« التعزيز » : النصرة مع التعظيم ، يقول سبحانه في وصف النبي صلی اللّه علیه و آله ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ) (1).

« طيّر » : تطير فلان وإطيّر ، أصله التفاؤل بالطير ، ثمّ يستعمل في كلّ ما يتفاءل به ويتشاءم ، فقوله ( إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ) أي تشاءمنا بكم.

وبذلك يظهر معنى قوله : ( قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ) أي انّ الذي ينبغي أن تتشاءموا به هو معكم ، أعني : حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد وإقبالكم على الباطل.

« الرجم » : الرمي بالحجارة.

« الصيحة » : رفع الصوت.

هذا التمثيل تمثيل إخباري يشرح حال قوم بعث اللّه إليهم الرسل ، فكذبوهم وجادلوهم بوجوه واهية.

ثمّ أقبل إليهم رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى متابعة الرسل بحجة انّ رسالتهم رسالة حقّة ، ولكنّ القوم ما أمهلوه حتى قتلوه ، وفي هذه الساعة عمّت الكاذبين الصيحة فأهلكتهم عامة ، فإذا هم خامدون.

هذا إجمال القصة وأمّا تفصيلها :

فقد ذكر المفسرون انّ المسيح علیه السلام بعث إلى قرية انطاكية رسولين من الحواريّين باسم : شمعون ويوحنّا ، فدعيا إلى التوحيد وندّدا بالوثنية ، وكان القوم وملكهم غارقين في الوثنية.

ص: 229


1- الأعراف : 158.

وناديا أهل القرية بانّا إليكم مرسلون ، فواجها تكذيب القوم وضربهما ، فعززهما سبحانه برسول ثالث ، واختلف المفسرون في اسم هذا الثالث ، ولا يهمنا تعيين اسمه ، وربما يقال انّه « بولس ». فعند ذلك أخذ القوم بالمكابرة والمجادلة والعناد ، محتجين بوجوه واهية :

أ : انّكم بشر مثلنا ولا مزية لكم علينا ، وما تدعون من الرسالة من الرحمن ادّعاء كاذب ، فأجابهم الرسل بأنّه سبحانه يعلم انّا لمرسلون إليكم ، وليس لنا إلاّ البلاغ كما هو حق الرسل.

ب : انّا نتشاءم بكم ، وهذه حجة العاجز التي لا يستطيع أن يحتج بشيء ، فيلوذ إلى اتهامهم بالتشاؤم والتطيّر.

ج : التهديد بالرجم إذا أصرّوا على إبلاغ رسالتهم والدعوة إلى التوحيد والنهي عن عبادة الأوثان ، وقد أجاب الرسل بجوابين :

الأوّل : انّ التشاؤم والتطير معكم ، أي أعمالكم وأحوالكم ، وابتعادكم عن الحق ، وانكبابكم على الباطل هو الذي يجر إليكم الويل والويلات.

الثاني : انكم قوم مسرفون ، أي متجاوزون عن الحد.

كان الرسل يحتجون بدلائل ناصعة وهم يردون عليهم بما ذكر ، وفي خضم هذه الأجواء جاء رجل من أقصى المدينة نصر وعزّز قول الرسل ودعوتهم محتجاً بأنّ هؤلاء رسل الحقّ ، وذلك للأمور التالية :

أوّلاً : انّ دعوتهم غير مرفقة بشيء من طلب المال والجاه والمقام ، وهذا دليل على إخلاصهم في الدعوة ، وقد تحمّلوا عناء السفر وهم لا يسألون شيئاً.

ثانياً : انّ اللائق بالعبادة من يكون خالقاً أو مدبراً للعالم ، ومن بيده مصيره

ص: 230

في الدنيا والآخرة وليس هو إلاّ اللّه سبحانه الذي ينفعني ، فكيف أترك عبادة الخالق الذي بيده كلّ شيء ، وأتوجه إلى عبادة المخلوق ( الآلهة المزيفة ) التي لا تستطيع أن تدفع عني ضراً ولا تنفعني شفاعتهم ؟! فلو اتخذت إلهاً غيره سبحانه كنت في ضلال مبين ، فلمّا تم حجاجه مع القوم وعزز الرسل وبين برهان لزوم اتباعهم ، أعلن ، وقال : أيّها النّاس : ( إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) .

ثمّ يظهر من القرائن انّ القوم هجموا عليه وقتلوه ، ولكنّه سبحانه جزاه ، فأدخله الجنة ، وهو فرح مستبشر يودّ لو علم قومه بمصيره عند اللّه.

فلمّا تبيّن عناد القوم وقتل من احتج عليهم بحجج قوية نزل عذابه سبحانه ، فعمَّتهم صيحةواحدة أخمدت حياتهم وصيّرتهم جماداً.

ففي هذه اللحظة الحاسمة التي يختار الإنسان الضلالة على الهداية ، والباطل على الحقّ ، يصح أن يخاطبهم سبحانه ، ويقول :

( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) .

هذه حقيقة القصة استخرجناها بعد الإمعان في الآيات ، وقد أطنب المفسرون في سرد القصة ، نقلاً عن مستسلمة أهل الكتاب الذين نشروا الأساطير بين المسلمين ، نظراء وهب بن منبه ، فلا يمكن الاعتماد على كلّ ما جاء فيها (1).

ثمّ إنّ في الآيات نكات جديرة بالمطالعة :

الأُولى : يذكر المفسرون انّ الرسولين لم يكونا مبعوثين من اللّه مباشرة ، وانّما بعثا من قبل المسيح علیه السلام . مثل الرسول الثالث ، ولما كان بعث المسيح بأمر من اللّه سبحانه ، نسب فعل المسيح إليه سبحانه ، وقال : ( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ) .

ص: 231


1- لاحظ مجمع البيان : 4 / 418 - 420.

الثانية : لقد وقفت على أنّ القوم قاموا بالجدال والعناد ، فقالوا : ما أنتم إلاّ بشر مثلنا ، والجملة تحتمل وجهين :

الوجه الأوّل : أنتم أيّها الرسل بشر ، والبشر لا يكون رسولاً من اللّه ، وعلى هذا فالمانع من قبول رسالاتهم كون أصحابها بشراً.

الوجه الثاني : انّ المانع من قبول دعوة الرسالة هي عدم توفر أي مزية في الرسل ترجحهم ، ويشعر بذلك قوله : « مثلنا » وإلاّ فلو كان الرسل مزودين بشيء آخر ربما لم يصح لهم جعل المماثلة عذراً للربّ.

الثالثة : انّ القصة تنم عن أنّ منطق القوة كان منطق أهل اللجاج ، فالقوم لما عجزوا عن رد برهانهم التجأوا إلى منطق القوة ، بقتل دعاة الحق وصلحائه ، وقالوا : ( لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ) .

الرابعة : انّ التطير كان سلاح أهل العناد والمكابرة ، ولم يزل هذا السلاح بيد العتاة الجاحدين للحق ، فيتطيرون بالعابد ، وغير ذلك.

الخامسة : يظهر من صدر الآيات انّ الرسل بعثوا إلى القرية ، وقد تطلق غالباً على المجتمعات الكبيرة والصغيرة ، ولكن قوله : ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ ) يعرب انّها كانت مدينة ومجتمعاً كبيراً لا صغيراً.

السادسة : انّه سبحانه يصف الرجل الرابع الذي قام بدعم موقف الرسل بأنّه كان من أقصى المدينة ، وما هذا إلاّ لأجل الإشارة إلى عدم الصلة والتواطئ بينه وبين الرسل ، ولذلك قدّم لفظ أقصى المدينة على الفاعل ، أعني : « رجل » ، وقال : ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ ) .

السابعة : انّ قوله : ( وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) دليل على أنّ العبادة هي

ص: 232

الخضوع النابع عن الاعتقاد بخالقية المعبود ومدبريته ، وماله من الأوصاف القريبة من ذلك ، ولذلك يرى أنّه يعلل إيمانه وتوحيده ، بقوله : ( مَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) .

كما أنّه يعلل حصر عبادته له وسلبها عن غيره ، بعجزهم عن رد ضرّ الرحمن بعدم الجدوى في شفاعتهم.

الثامنة : قلنا أنّ القرائن تشهد بأنّ من قام بالدعوة إلى طريق الرسل من القوم ، قتل عند دعوته وجازاه اللّه سبحانه بأن أدخله الجنة ، والمراد من الجنة هو عالم البرزخ لا جنة الخلد التي لا يدخلها الإنسان إلاّ بعد قيام الساعة.

التاسعة : كما أنّ في كلام الرجل المقتول ، بقوله : ( يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي ) دليلاً على وجود الصلة بين الحياة البرزخية والمادية ، حيث أبلغ بلاغاً إلى قومه ، وتمنى أن يقفوا على ما أنعم اللّه عليه بعد الموت ، حيث قال : ( قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ) .

ص: 233

يس

43. التمثيل الثالث والأربعون

اشارة

( أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1).

تفسير الآيات

روى المفسرون أنّ أُبي بن خلف ، أو العاص بن وائل جاء بعظم بال متفتت ، وقال : يا محمد أتزعم انّ اللّه يبعث هذا ، فقال : نعم ، فنزلت الآية ( أَوَلَمْ يَرَ الإنسان ) .

فضرب الكافر مثلاً ، وقال : كيف يحيي اللّه هذه العظام البالية ؟

وضرب سبحانه مثلاً آخر ، وهو انّه يحييها من أنشأها أوّلاً ، فمن قدر على إنشائها ابتداءً يقدر على الإعادة ، وهي أسهل من الإنشاء والابتداء ، وقد عرفت أنّ إطلاق لفظ الأسهلية إنّما هو من منظار الإنسان ، وأمّا الحقّ جلّ وعلا فكل الأشياء أمامه سواء.

قال سبحانه : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً ) أي ضرب مثلاً في إنكار البعث بالعظام

ص: 234


1- يس : 77 - 79.

البالية ، واستغرب ممن يقول انّ اللّه يحيي هذه العظام ونسي خلقه ( قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) ومثل سبحانه بالرد عليه بمثال آخر ، وقال : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) من الابتداء والاعادة ، وقد مرّ هذا المثل بعبارة أُخرى في قوله : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (1).

ص: 235


1- الروم : 27.

الزمر

44. التمثيل الرابع والأربعون

اشارة

( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

تفسير الآيات

« الشكس » : السيء الخلق ، يقال : شركاء متشاكسون ، أي متشاجرون لشكاسة خلقهم.

« سلماً » : أي خالصاً لا يملكه إلاّ شخص واحد ولا يخدم إلاّ إياه.

هذه الآيات تمثل حالة الكافر والمؤمن ، فهناك مشبه ومشبه به.

أمّا المشبّه به ، فهو عبارة عن عبد مملوك له شركاء سيئي الخلق متنازعون فيه ، فواحد يأمره وآخر ينهاه ، وكلّ يريد أن يتفرّد بخدمته ، في مقابل عبد مملوك لرجل يطيعه ويخدمه ولا يشرك في خدمته شخصاً آخر.

فهذان المملوكان لا يستويان.

وأمّا المشبه فحال الكافر هو حال المملوك الذي فيه شركاء متشاكسون ،

ص: 236


1- الزمر : 27 - 29.

فهو يعبد آلهة مختلفة لكلّ أمره ونهيه وخدمته ، ولا يمكن الجمع بين الآراء والأهواء المختلفة ، بخلاف المؤمن فانّه يأتمر بأمر الخالق الحكيم القادر الكريم.

وهذا المثل وإن كان مثلاً واضحاً ساذجاً مفهوماً لعامة الناس ، ولكن له بطن لا يقف عليه إلاّ أهل التدبر في القرآن ، فهو سبحانه بصدد البرهنة على توحيده الذي أشار إليه في قوله : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) . (1)

وقال سبحانه : ( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (2).

ص: 237


1- الأنبياء : 22.
2- يوسف : 39.

الزخرف

45. التمثيل الخامس والأربعون

اشارة

( وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ ) (1).

تفسير الآيات

« البطش » : تناول الشيء بصولة ، وربما يراد منه القوة والمنعة ، يذكر سبحانه في هذه الآيات الأمم الماضية التي بعث اللّه سبحانه رسله إليهم ، فكفروا بأنبيائه وسخروا منهم لفرط جهالتهم وغباوتهم فأهلكهم اللّه سبحانه بأنواع العذاب مع مالهم من القوة والنجدة.

هذا هو حال المشبه به ، والمشبه عبارة عن مشركي عصر الرسالة الذين كانوا يستهزئون بالنبي صلی اللّه علیه و آله فيوعدهم سبحانه بما مضى على الأوّلين ، بأنّه سبحانه أهلك من هو أشد قوة ومنعة من قريش وأتباعهم فليعتبروا بحالهم ، يقول سبحانه : ( كَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ ) أي الأُمم الماضية ( وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) فكانت هذه سيرة الأمم الماضية ، ولكنه سبحانه لم يضرب عنهم صفحاً فأهلكهم ، كما قال : ( فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ ) . أي

ص: 238


1- الزخرف : 6 - 8.

مضى في القرآن - في غير موضع منه - ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تصير مسير المثل.

وبعبارة أُخرى : انّ كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثلما نزل بالاَُمم الغابرة ، فقد ضربنا لهم مثَلَهم ، كما قال تعالى : ( وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ ) (1).

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما عدّ من أمثال القرآن ، قوله سبحانه : ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) (2).

كان المشركون في العصر الجاهلي يعدّون الملائكة إناثاً وبناتاً لله تبارك وتعالى ، يقول سبحانه : ( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ) فردّ عليهم بقوله : ( أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) .

وقال سبحانه : ( وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ) (3).

فعلى ذلك فالملائكة عند المشركين بنات اللّه سبحانه.

ثمّ إنّ الآية تحكي عن خصيصة المشركين بأنّهم إذا رزقوا بناتاً ظلّت وجوههم مسودة يعلوها الغيظ والكظم ، قال سبحانه : ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ) أي وصف اللّه به ، وقد عرفت انّهم وصفوه بأنّ الملائكة بنات اللّه.

ص: 239


1- الفرقان : 39.
2- الزخرف : 17.
3- النحل : 57.

( ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) فليست الآية من قبيل المثل الاخباري ولا الانشائي ، وإنّما هي بمعنى الوصف ، أي وصفوه بأنّه صاحب بنات ، وهم كاذبون في هذا الوصف ، فلا يصح عدّ هذه الآية من آيات الأمثال.

ص: 240

الزخرف

46. التمثيل السادس والأربعون

اشارة

( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ ) (1).

تفسير الآيات

« آسفونا » : مأخوذ من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه.

وقال الراغب : الآسف : الحزن والغضب معاً ، وقد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد ، والمراد في الآية هو الغضب.

السلف : المتقدم.

انّه سبحانه يخبر عن انتقامه من فرعون وقومه ، ويقول : فلمّا آسفونا ، أي أغضبونا ، وذلك بالإفراط في المعاصي والتجاوز عن الحد ، فاستوجبوا العذاب ، كما قال سبحانه : ( انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) ثمّ بين كيفية الانتقام ، وقال : ( فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) فما نجا منهم أحد ( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ ) ، أي جعلناهم عبرة وموعظة لمن يأتي من بعدهم حتى يتّعظوا بهم.

فالمشبه به هو قوم فرعون واستئصالهم ، والمشبه هو مشركو أهل مكة وكفّارهم ، فليأخذوا حال المتقدمين نموذجاً متقدماً لمصيرهم.

ص: 241


1- الزخرف : 54 - 56.

الزخرف

47. التمثيل السابع والأربعون

اشارة

( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) (1).

تفسير الآيات

« الصدّ » : بمعنى الانصراف عن الشيء ، قال سبحانه : ( يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ) ، ولكن المراد منه في الآية هو ضجة المجادل إذا أحس الانتصار.

« تمترن » : من المرية وهي التردد بالأمر.

ذكر المفسرون في سبب نزول الآيات انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لما قرأ : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) (2).

ص: 242


1- الزخرف : 57 - 61.
2- الأنبياء : 98 - 100.

امتعضت قريش من ذلك امتعاضاً شديداً ، فقال عبد اللّه بن الزبعرى : يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأُمم ؟ فقال صلی اللّه علیه و آله : « هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأُمم ».

فقال : خصمتك وربّ الكعبة ، ألست تزعم انّ عيسى بن مريم نبي وتثني عليه خيراً ، وعلى أُمّه ، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما ، وعزير يعبد ، والملائكة يعبدون ، فإن كان هؤلاء في النار ، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرحوا وضحكوا (1).

وإلى فرحهم وضجّتهم ، يشير سبحانه بقوله : ( إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) حيث زعموا انّهم وجدوا ذريعة للرد عليه وإبطال دعوته ، فنزلت الآية إجابة عن جدلهم الواهي ، قال سبحانه :

( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً ) أي لما وصف المشركون ابن مريم مثلاً وشبهاً لآلهتهم ( إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) أي أحس قومك في هذا التمثيل فرحاً وجذلاً وضحكاً لمّا حاولوا إسكات رسول اللّه بجدلهم ، حيث قالوا في مقام المجادلة : ( وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) يعنون آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، فإذا كان عيسى من حصب النار كانت آلهتنا هيناً.

وبذلك يعلم انّ المشركين هم الذين ضربوا المثل حيث جعلوا المسيح شبهاً ومثلاً لآلهتهم ، ورضوا بأن تكون آلهتهم في النار إذا كان المسيح كذلك ازداد فرح المشركين وظنوا انّهم التجأوا إلى ركن ركين أمام منطق النبي صلی اللّه علیه و آله .

ثمّ إنّه سبحانه يشير في الآيات السابقة إلى القصة على وجه الإجمال ، ويجيب

ص: 243


1- الكشاف : 3 / 100. لاحظ سيرة ابن هشام : 1 / 1. وقد ذكرت القصة بتفصيل.

على استدلال ابن الزبعرى.

أوّلاً : انّهم ما أرادوا بهذا التمثيل إلاّ المجادلة والمغالبة لا لطلب الحق ، وذلك لأنّ طبعهم على اللجاج والعناد ، يقول سبحانه : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) .

وثانياً : انّهم ما تمسكوا بهذا المثل إلاّ جدلاً وهم يعلمون بطلان دليلهم ، إذ ليس كلّ معبود حصب جهنم ، بل المعبود الذي دعا الناس إلى عبادته كفرعون لا كالمسيح الذي كان عابداً لله رافضاً للشرك ، فاستدلالهم كان مبنياً على الجدل وإنكار الحقيقة ، وهذا هو المراد من قوله : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) .

ولذلك بدأ سبحانه يشرح موقف المسيح وعبادته وتقواه وانّه كان آية من آيات اللّه سبحانه ، وقال : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) ، أي آية من آيات اللّه لبني إسرائيل ، فولادته كانت معجزة ، وكلامه في المهد معجزة ثانية وإحياؤه الموتى معجزة ثالثة ، فلم يكن يدعو قطُّ إلى عبادة نفسه.

ثمّ إنّه سبحانه من أجل تحجيم شبهة حاجته إلى عبادة الناس ، يقول : ( وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ ) أي يطيعون اللّه ويعبدونه ، فليس الإصرار على عبادتكم وتوحيدكم إلاّ طلباً لسعادتكم لا لتلبية حاجة اللّه ، وإلاّ ففي وسعه سبحانه أن يخلقكم ملائكة خاضعين لأمره.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى خصيصة من خصائص المسيح ، وهي انّ نزوله من السماء في آخر الزمان آية اقتراب الساعة.

ص: 244

إلى هنا تم تفسير الآية ، وأمّا التمثيل فقد تبين ممّا سبق حيث شبهوا آلهتهم بالمسيح ورضوا بأن تكون مع المسيح في مكان واحد وإن كان هو النار. فالذي يصلح لأن يكون مثلاً إنّما هو قوله : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً ) وقد عرفت انّ الضارب هو ابن الزبعرى ، وأمّا قوله : ( وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) فالمثل فيه بمعنى الآية.

إيقاظ :

ربما عُدّت الآية التالية من الأمثال القرآنية : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ) (1) والظاهر انّ المثل في الآية بمعنى الوصف لا بمعنى التمثيل المصطلح ، أي تشبيه شيء بشيء ويعلم ذلك من خلال تفسير الآيات.

تفسير الآيات

« بال » البال : الحال التي يكترث بها ، ولذلك يقال : ما باليت بكذا بالةً أي ما اكترثت به ، قال : ( كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ) ، وقال : ( فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ) أي حالهم وخبرهم ، ويعبَّر بالبال عن الحال الذي ينطوي عليه الإنسان ، فيقال خطر كذا ببالي (2).

ص: 245


1- محمد : 2 - 3.
2- مفردات الراغب : 67 مادة بال.

إنّ هذه الآيات بشهادة ما تليها تبين حال كفّار قريش ومشركي مكة الذين أشعلوا فتيل الحرب في بدر. فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ ) أي منعوا الآخرين من الاهتداء بهدى الإسلام ، فهؤلاء أضلّ أعمالهم ، أي أحبط أعمالهم وجعلها هباءً منثوراً. فلا ينتفعون من صدقاتهم وعطياتهم إشارة إلى غير واحد من صناديد قريش الذين نحروا الإبل في يوم بدر وقبله.

فيقابلهم المؤمنون كما قال : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) .

فلو انّه سبحانه أضلّ أعمال الكافرين وأحبط ما يقومون به من صدقات ، لكنّه سبحانه من جهةأُخرى جعل صالح أعمال المؤمنين كفارة لسيئاتهم وأصلح بالهم.

فشتان ما بين كافر وصاد عن سبيل اللّه ، يحبط عمله.

ومؤمن باللّه وبما نزّل على محمد ، يكفّر سيئاته بصالح أعماله.

ومن هذا التقابل علم مكانة الكافر والمؤمن ، كما علم نتائج أعمالهما.

ثمّ إنّه سبحانه يدلّل على ذلك بأنّ الكافرين يقتفون أثر الباطل ولذلك يضل أعمالهم ، وأمّا المؤمنون فيتبعون الحقّ فينتفعون بأعمالهم ، وقال : ( ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ ) .

وفي ختام الآية الثانية ، قال : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ) أي كذلك يبين حال المؤمن والكافر ونتائج أعمالهما وعاقبتهما.

وعلى ذلك فالآية ليست من قبيل التمثيل ، بل بمعنى الوصف ، أي كذلك يصف سبحانه للناس حال الكافر والمؤمن وعاقبتهما. فليس هناك أي تشبيه

ص: 246

وتنزيل ، وإنّما الآيات سيقت لبيان الحقيقة ، فالآية الاُولى تشير إلى الكافر ونتيجة عمله ، والآية الثانية تشير إلى المؤمن ومصير عمله ، والآية الثالثة تذكر علة الحكم ، وهو انّ الكافر يستقي من الماء العكر حيث يتبع الباطل والمؤمن ينهل من ماء عذب فيتبع الحقّ.

ص: 247

محمد

48. التمثيل الثامن والأربعون

اشارة

( مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) (1).

تفسير الآية

« آسن » يقال : أسن الماء ، يأسن : إذا تغير ريحه تغيراً منكراً ، وماء غير آسن : أي غير نتن.

« الحميم » : الماء الشديد الحرارة.

قوله : « مثل الجنة » أي وصفها وحالها ، وهو مبتدأ خبره محذوف ، أي جنة فيها أنهار. فلو أردنا أن نجعل الآية من آيات التمثيل فلابدّ من تصور مشبه وهو الجنة الموعودة ، ومشبه به وهو جنة الدنيا بما لها من الخصوصيات.

ولكن الظاهر انّ الآية صيغت لبيان حال الجنة ووصفها وسماتها ، وهي كالتالي :

ص: 248


1- محمد : 15.

1. فيها أنهار أربعة وهي عبارة عن :

أ : ( أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) أي الماء الذي لا يتغير طعمه ورائحته ولونه لطول البقاء.

ب : ( أَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ) ، ولا يعتريها الفساد بمرور الزمان.

ج : أنهار من خمر لذة للشاربين ، فتقييد الخمر بكونه لذة للشاربين احتراز عن خمر الدنيا ، وقد وصف القرآن الكريم خمر الجنة في آية أُخرى ، وقال : ( يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ) (1). فقوله : ( لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ) أي ليس فيها ما يعتري خمر الدنيا من المرارة والكراهة ، فقوله : ( لا فِيهَا غَوْلٌ ) ، أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها ، وقوله : ( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ) أي يسكرون. وبذلك يمتاز خمر الآخرة على خمر الدنيا.

د : أنهار من عسل مصفّى وخالص من الشمع.

وهذه الأنهار الأربعة لكلّ غايته وغرضه : فالماء للارتواء ، والثاني للتغذّي ، والثالث لبعث النشاط والروح ، والرابع لإيجاد القوة في الإنسان.

2. وفيها وراء ذلك من كلّ الثمرات ، كما قال سبحانه : ( وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) فالفواكه المتنوعة تحت متناول أيديهم لا عين رأتها ولا أُذن سمعتها ولا خطرت على قلب بشر.

3. وفيها وراء هذه النعم المادية ، نعمة معنوية يشير إليها بقوله : ( وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ) .

ص: 249


1- الصافات : 45 - 47.

وبذلك تبيّن لنا وصف الجنة وحال المتقين فيها ، بقي الكلام في تبيين حال أهل الجحيم ومكانهم ، فأشار إليه بقوله :

( كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ) هذا وصف أهل الجحيم ، وأمّا ما يرزقون فهو عبارة عن الماء الحميم لا يشربونه باختيارهم وإنّما يسقون ، ولذلك يقول سبحانه : ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا ) الذي يقطّع أمعاءهم كما قال : ( فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) .

وعلى كلّ تقدير ، فلو قلنا : إنّ الآية تهدف إلى تشبيه جنة الآخرة بجنة الدنيا التي فيها كذا وكذا فهو من قبيل التمثيل ، وإلاّ فالآية صيغت لبيان وصف جنة الآخرة وانّ فيها أنهاراً وثماراً ومغفرة.

والظاهر هو الثاني ، فالأولى عدم عدّ هذه الآية من الأمثال القرآنية وإنّما ذكرناها تبعاً للآخرين.

ص: 250

الفتح

49. التمثيل التاسع والأربعون

اشارة

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) (1).

تفسير الآيات

« السيماء » : العلامة ، فقوله : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم ) ، أي علامة إيمانهم في وجوههم.

شطأ الزرع : فروخ الزرع ، وهو ما خرج منه ، وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه وجمعه إشطاء ، وهو ما يعبر عنه بالبراعم.

« الأزر » : القوة الشديدة ، آزره أي أعانه وقوّاه.

« الغلظة » : ضد الرقة.

ص: 251


1- الفتح : 28 - 29.

« السوق » : قيل هو جمع ساق.

القرآن يتكلم في هاتين الآيتين عن النبي تارة وأصحابه أُخرى :

أمّا الأوّل فيعرّفه بقوله : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ) والضمير « ليظهره » يرجع إلى دين الحقّ لا الرسول ، لأنّ الغاية ظهور دين على دين لا ظهور شخص على الدين ، والمراد من الظهور هو الغلبة في مجال البرهنة والانتشار ، وقد تحقّق بفضله سبحانه وسوف تزداد رقعة انتشاره فيضرب الإسلام بجرانه في أرجاء المعمورة ، ولا سيما عند قيام الإمام المهدي المنتظر علیه السلام .

يقول سبحانه في هذا الصدد : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ ) أي الرسول الذي سوف يغلب دينه على الدين كله ، وقد صرح باسمه في هذه الآية ، إلاّ أنّه أجمل في الآية الأولى ، وقال : « أرسل رسوله ».

إلى هنا تمّ بيان صفات النبي صلی اللّه علیه و آله وسماته ، وأمّا صفات أصحابه فجاء ذكرهم في التوراة والإنجيل.

أمّا التوراة فقد جاء فيها وصفهم كالتالي :

1. ( وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) ، الذين لا يفهمون إلاّ منطق القوة ، فلذلك يكونون أشداء عليهم.

2. ( رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) فهم رحماء يعطف بعضهم على بعض ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى (1).

ص: 252


1- مسند أحمد بن حنبل : 4 / 270 و 268 و 274.

3. ( تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا ) ، هذا الوصف يجسّد ظاهر حالهم وانّهم منهمكون في العبادة ، فلذلك يقول : ( تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا ) ، أي تراهم في عبادة ، التي هي آية التسليم لله سبحانه.

ومع ذلك لا يبتغون لعبادتهم أجراً وإنّما يأملون فضل اللّه ، كما يقول : ( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا ) ، ولعل القيد الأخير إشارة إلى أنّ الحافز لأعمالهم هو كسب رضاه سبحانه.

ومن علائمهم الأُخرى انّ أثر السجود في جباههم ، كما يقول : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) فسيماهم ووجوههم تلمح إلى كثرة عبادتهم وسجودهم وخضوعهم لله سبحانه ، وهذه الصفات مذكورة أيضاً في الإنجيل.

إنّ أصحاب محمد لم يزالوا يزيدون باطّراد في العدة والقوة وبذلك يغيظون الكفار ، فهم كزرع قوي وغلظ وقام على سوقه يعجب الزارعين بجودة رشده.

ولم يزالوا في حركة دائبة ونشيطة ، فمن جانب يعبدون اللّه مخلصين له الدين بلا رياء ولا سمعة ، ومن جانب آخر يجاهدون في سبيل اللّه بغية نشر الإسلام ورفع راية التوحيد في أقطار العالم.

فعملهم هذا يغيظ الكفار ويسرّ المؤمنين ، قال سبحانه : ( وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) .

فالمجتمع الإسلامي بإيمانه وعمله وجهاده وحركته الدؤوبة نحو التكامل يثير إعجاب الأخلاّء وغيظ الألدّاء.

ثمّ إنّه سبحانه وعد طائفة خاصة من أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله مغفرة وأجراً

ص: 253

عظيماً ، وذلك لأنّ المنافقين كانوا مندسّين في صفوف أصحابه ، فلا يصح وعد المغفرة لكلّ من صحب النبي صلی اللّه علیه و آله ورآه وعاش معه وقلبه خال من الإيمان ، ولذلك قال سبحانه : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) فكلمة « منهم » تعرب عن أنّ المغفرة لا تعم جميع الأصحاب بل هي مختصة بطائفة دون أُخرى.

وما ربما يقال من أنّ « من » بيانية لا تبعيضية غير تام.

لأنّ « من » البيانية لا تدخل على الضمير ، ويؤيد ذلك قوله : ( وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (1).

والحاصل : انّه لا يمكن القول بشمول أدلة المغفرة والأجر العظيم لقاطبة من صحب النبي صلی اللّه علیه و آله مع أنّهم على أصناف شتى.

فمن منافق معروف ، عرّفه الذكر الحكيم بقوله : ( إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ ) (2).

إلى آخر مختف لا يعرفه النبي صلی اللّه علیه و آله ، قال سبحانه : ( وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) .

إلى ثالث يصفهم الذكر الحكيم بمرضى القلوب ، ويقول : ( وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا ) (3).

إلى رابع سمّاعون لنعق كل ناعق فهم كالريشة في مهب الريح يميلون تارة

ص: 254


1- التوبة : 101.
2- المنافقون : 1.
3- الأحزاب : 12.

إلى المسلمين وأُخرى إلى الكافرين ، يصفهم سبحانه بقوله ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (1).

إلى خامس خالط العمل الصالح بالسيّء يصفهم سبحانه بقوله : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) (2).

إلى سادس أشرفوا على الارتداد ، عرّفهم الحق سبحانه بقوله : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ ) (3).

إلى سابع يصفه القرآن فاسقاً ، ويقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (4).

والمراد هو الوليد بن عقبة صحابي سمي فاسقاً ، وقال تعالى : ( فَإِنَّ اللّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (5).

إلى ثامن يصفهم الذكر الحكيم مسلماً غير مؤمن ويصرِّح بعدم دخول الإيمان في قلوبهم ، ويقول : ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (6).

إلى تاسع أظهروا الإسلام لأخذ الصدقة لا غير ، وهم الذين يعرفون بالمؤلّفة

ص: 255


1- التوبة : 47.
2- التوبة : 102.
3- آل عمران : 154.
4- الحجرات : 6.
5- التوبة : 96.
6- الحجرات : 14.

قلوبهم ، قال : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) (1).

إلى عاشر يفرّون من الزحف فرار الغنم من الذئب ، يقول سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ) (2).

وكم نطق التاريخ بفرار ثلة من الصحابة من ساحات الوغى ، يقول سبحانه عند ذكر غزوة أُحد : ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ) (3) ، ولم يكن الفرار مختصاً بغزوة أُحد بل عمّ غزوة حنين أيضاً ، يقول سبحانه : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) (4).

هذه إلمامة عابرة بأصناف الصحابة المذكورة في القرآن الكريم ، أفيمكن وعد جميع هذه الأصناف بالمغفرة ؟!

مضافاً إلى آيات أُخرى تصف أعمالهم.

نعم كان بين الصحابة رجال مخلصون يستدر بهم الغمام ، وقد وصفهم سبحانه في غير واحد من الآيات التي لا تنكر.

والكلام الحاسم : انّ وعد المغفرة لصنف منهم لا لجميع الأصناف ، كما أنّ عدالتهم كذلك.

ص: 256


1- التوبة : 60.
2- الأنفال : 15 - 16.
3- آل عمران : 153.
4- التوبة : 25.

الحديد

50. التمثيل الخمسون

اشارة

( اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (1).

تفسير الآية

« الكفّار » : جمع الكافر بمعنى الساتر ، والمراد الزارع ، ويطلق على الكافر باللّه لستره الحق ، والمراد في المقام الزارع ، لأنّه يستر حبّه تحت التراب ويغطّيها به ، يقول سبحانه : ( كَزَرْعٍ ... يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ) (2).

« هيج » : يقال : هاج البقل يهيج ، أي أصفرّ ، والمراد في قوله : ( ثُمَّ يَهِيجُ ) أي ييبس ( فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ) أي إذا قارب اليبس.

و « الحطام » بمعنى كسر الشيء ، قال سبحانه : ( لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ) (3).

ص: 257


1- الحديد : 20.
2- الفتح : 29.
3- النمل : 18.

فالآية تتضمن أمرين :

الأمر الأوّل : ترسيم الحياة الدنيا والمراحل المختلفة التي تمر على الإنسان :

أ : اللعب ، ب : اللّهو ، ج : الزينة ، د : التفاخر ، ه : التكاثر في الأموال والأولاد.

والأمر الثاني : تشبيه الدنيا بداية ونهاية بالنبات الذي يعجب الزارع طراوته ونضارته ، ثمّ سرعان ما يتحول إلى عشب يابس تذروه الرياح.

ثمّ استنتج من هذا التمثيل : انّ الحياة الدنيا متاع الغرور ، أي وسيلة للغرور والمتعة ، يغتر بها المخلدون إلى الأرض يتصورونها غاية قصوى للحياة ، ولكنّها في نظر المؤمنين قنطرة للحياة الأخرى لا يغترّون بها ، بل يتزوّدون منها إلى حياتهم الأخروية.

هذا هو ترسيم إجمالي لمفهوم الآية ، والتمثيل إنّما هو في الشق الثاني منها ، فلنرجع إلى تفسير كلّ من الأمرين.

إنّ حياة الإنسان من لدن ولادته إلى نهاية حياته تتشكل من مراحل خمس :

المرحلة الأولى : اللعب

واللعب هو محل منظوم لغرض خيالي كلعب الأطفال ، وهي تقارن حياة الإنسان منذ نعومة أظفاره وطفولته ، ويتخذ ألواناً مختلفة حسب تقدم عمره ، وهو أمر محسوس عند الأطفال.

المرحلة الثانية : اللّهو

واللّهو ما يشغل الإنسان عمّا يهمه ، وهذه المرحلة تبتدئ حينما يبلغ ويشتد

ص: 258

عظمه ، فتجد في نفسه ميلاً ونزوعاً إلى الملاهي وغيرها.

المرحلة الثالثة : حب الزينة.

والزينة نظير ارتداء الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية ، وجنوحه إلى كل جمال وحسن.

المرحلة الرابعة : التفاخر.

إذا تهيّأ للإنسان أسباب الزينة يأخذ حينها بالمفاخرة بالأحساب والأنساب ، وما تحت يديه من الزينة.

المرحلة الخامسة : التكاثر في الأموال والأولاد.

وهذه المرحلة هي المرحلة الخامسة التي يصل فيها الإنسان إلى مرحلة من العمر يفكر في تكثير الأموال والأولاد ، ويشيب على ذلك الإحساس.

ثمّ إنّ تقسيم المراحل التي تمر على الإنسان إلى خمس ، لا يعني انّ كلّ هذه المراحل تمر على الإنسان بلا استثناء ، بل يعني انّها تمر عليه على وجه الإجمال ، غير انّ بعض الناس تتوقف شخصيتهم عند المرحلتين الأوليين إلى آخر عمره ، فيكون اللعب واللّهو أهم مائز في سلوكهم ، كما أنّ بعضهم تمر عليه المرحلة الثالثة والرابعة فيحرص على ارتداء الملابس الفاخرة والتفاخر بما لديه من أسباب.

روي عن الشيخ البهائى انّ الخصال الخمس المذكورة في الآية مترتبة بحسب سني عمر الإنسان ومراحل حياته ، فيتولّع أوّلاً باللعب وهو طفل أو مراهق ، ثمّ إذا بلغ واشتد عظمه تعلّق باللّهو والملاهي ، ثمّ إذا بلغ أشده اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية وتوله للحسن

ص: 259

والجمال ، ثمّ إذا اكتهل أخذ بالمفاخرة بالأحساب والأنساب ، ثمّ إذا شاب سعى في تكثير المال والولد (1).

هذا ما يرجع إلى بيان حال الدنيا من حيث المراحل التي تمر بها.

الأمر الثاني : أي التمثيل الذي يجسد حال الدنيا ويشبهها بأرض خصبة يصيبها مطر غزير ، فتزدهر نباتها على وجه يعجب الزرّاع ، ولكن سرعان ما تذهب طراوتها وتفارقها فيصيبها الإصفرار واليبس وتذروها الرياح في كلّ الأطراف وتصبح كأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً ، وعند ذلك تتجلّى الحقيقة أمام الإنسان وانّه اغتر بطراوة هذه الروضة.

وهكذا حال الدنيا فيغتر الإنسان بها ويخلد إليها ، ولكن سرعان ما تسفر له عن وجهها وتكشف عن لثامها ، وعلى أية حال فالآية تهدف إلى تحقير الدنيا وتعظيم الآخرة.

ص: 260


1- الميزان : 19 / 164.

الحشر

51. التمثيل الواحد والخمسون

اشارة

( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1).

تفسير الآيات

« الحصن » : جمعه حصون ، والقرى المحصنة التي تحيطها القلاع المنيعة التي تمنع من دخول الأعداء.

البأس والبأساء : الشدة.

الوبال : الأمر الذي يخاف ضرره.

الآية تصف حال بني النضير من اليهود الذين أجلاهم الرسول وقد تآمروا على قتله ، وكيفية المؤامرة مذكورة في كتب التاريخ ، فأمرهم النبي صلی اللّه علیه و آله بالجلاء وترك الأموال وقد كانوا امتنعوا من تنفيذ أمر الرسول ، وكان المنافقون يصرّون عليهم بعدم الجلاء وانّهم يناصرونهم عند نشوب حرب بينهم وبين المسلمين ، فبقي بنو النضير أياماً قلائل في قلاعهم لا يجلون عنها بغية وصول إمدادات تعزّز قواهم.

ص: 261


1- الحشر : 14 - 15.

فالآيات تشرح حالهم بإمعان وتخبر بأنّهم « لا يقاتلونكم » معاشر المؤمنين جميعاً إلاّ في قرى محصنة ، أي لا يبرزون لحربكم خوفاً منكم ، وإنّما يقاتلونكم متدرّعين بحصونهم ، أو « من وراء جدر » ، أي يرمونكم من وراء الجدر بالنبل والحجر.

( بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) ، والمراد من البأس هو العداء ، أي عداوة بعضهم لبعض شديدة ، فليسوا متّفقي القلوب ، ولذلك يعقبه بقوله : ( وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) ، ثمّ يعلل ذلك بقوله : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ) .

ثمّ يمثّل لهم مثلاً ، فيقول : إنّ مثلهم في اغترارهم بعددهم وعدّتهم وقوتهم ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) ، والمراد مشركو قريش الذين قتلوا ببدر قبل جلاء بني النضير بستة أشهر ، ويحتمل أن يكون المراد قبيلة بني قينقاع حيث نقضوا العهد فأجلاهم رسول اللّه بعد رجوعه من بدر.

فهؤلاء ( ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ) ، أي عقوبة كفرهم ولهم عذاب أليم.

ص: 262

الحشر

52. التمثيل الثاني والخمسون

اشارة

( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) (1).

تفسير الآية

هذه الآية أيضاً ناظرة إلى قصة بني النضير ، فلمّا تآمروا على النبي صلی اللّه علیه و آله أمرهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالجلاء ، ولكنّ المنافقين وعدوهم بالنصر ، فقالوا لهم : ( لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ) .

ولكن كان ذلك الوعد كاذباً ، ولذلك يقول سبحانه : ( وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) وآية كذبهم : ( لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) (2).

ولقد صدق الخُبر الخبر ، فأجلاهم الرسول بقوة وشدة ، فما ظهر منهم أي نصر ومؤازرة ودعم ، فكان وعدهم كوعد الشيطان ، إذ قال للإنسان أكفر فلمّا كفر قال إنّي بريء منك إنّي أخاف اللّه ربّ العالمين ، بمعنى انّه أمره بالكفر ولكنّه تبرّأ منه في النهاية.

وهل المخاطب في قوله : « اكفر » مطلق الإنسان الذي ينخدع بأحابيل

ص: 263


1- الحشر : 16.
2- الحشر : 12.

الشيطان ووعوده الكاذبة ثمّ يتركه ويتبرّأ منه ، أو المراد شخص معين ؟ وجهان.

فلو قلنا بالثاني ، فقد وعد الشيطان قريشاً بالنصر في غزوة بدر ، كما يحكي عنه سبحانه ، ويقول ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (1).

وهناك قول ثالث ، وهو انّ الشيطان وعد عابداً من بني إسرائيل اسمه برصيصا حيث انخدع بالشيطان وكفر ، وفي اللحظات الحاسمة تبرّأ الشيطان منه. ذكر المفسرون انّ برصيصا عبد اللّه زماناً من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوّذهم فيبرأون على يده ، وانّه أُتِي بامرأة في شرف قد جنّت وكان لها إخوة فأتوه بها ، فكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتى وقع عليها ، فحملت ، فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها ، فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها ، فأخبره بالذي فعل الراهب وانّه دفنها في مكان كذا ، ثمّ أتى بقية إخوتها رجلاً رجلاً فذكر ذلك له ، فجعل الرجل يلقى أخاه ، فيقول : واللّه لقد أتاني آت فذكر لي شيئاً يكبر عليّ ذكره ، فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم ، فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل ، فأمر به فصلب ، فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشيطان ، فقال : أنا الذي ألقيتك في هذا ، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك ، أُخلصك مما أنت فيه ؟ قال : نعم ، قال : اسجد لي سجدة واحدة ، فقال : كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة ، فقال : اكتفي منك بالإيماء فأُوحى له بالسجود ، فكفر باللّه ، وقتل الرجل (2).

ص: 264


1- الأنفال : 48.
2- مجمع البيان : 5 / 265.

الحشر

53. التمثيل الثالث والخمسون

اشارة

( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).

تفسير الآية

« الخشوع » : الضراعة ، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح على عكس الضراعة ، فانّ أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ، وقد روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح.

ويؤيد ما ذكره انّه سبحانه ينسب الخشوع إلى الأصوات والأبصار ، ويقول : ( وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ ) ، ( خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ) ، ( أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ) .

ولو أردنا أن نُعرّفه ، فنقول : هو عبارة عن السكينة الحاكمة على الجوارح مستشعراً بعظمة الخالق.

و « التصدع » : التفرق بعد التلاؤم.

إنّ للمفسرين في تفسير الآية رأيين :

أحدهما : انّه لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ، مع ما له من الغلظة والقسوة

ص: 265


1- الحشر : 21.

وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل ، لتأثّر وتصدّع من خشية اللّه ، فإذا كان هذا حال الجبل ، فالإنسان أحقّ بأن يخشع لله إذا تلا آياته.

فما أقسى قلوب هؤلاء الكفّار وأغلظ طباعهم حيث لا يتأثرون بسماع القرآن واستماعه وتلاوته.

ثانيهما : انّ كلّ من له حظّ في الوجود فله حظ من العلم والشعور ، ومن جملتها الجبال فلها نوع من الإدراك والشعور ، كما قال سبحانه : ( وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) (1).

فعلى هذا ، فمعنى الآية انّ هذا القرآن لو نزل على جبل لتلاشى وتصدّع من خشية اللّه ، غير انّه لم ينزل عليه.

وعلى كلا المعنيين ، فليست الآية من قبيل التمثيل أي تشبيه شيء بشيء ، بل من قبيل وصف القرآن وبيان عظمته بما يحتوي من الحقائق والأُصول ، وإنّها على الوصف التالي : « لو أنزلناه على جبل لصار كذا وكذا ».

نعم يمكن أن يعد لازم معنى الآية من قبيل التشبيه ، وهو انّه سبحانه يشبّه قلوب الكفّار والعصاة الذين لا يتأثرون بالقرآن بالجبل والحجارة ، وانّ قلوبهم كالحجارة لو لم تكن أكثر صلابة ، بشهادة انّ الحجارة يتفجر منها الأنهار أو تهبط من خشية اللّه ، فلأجل ذلك جعلنا الآية من قبيل التمثيل وإن كان بلحاظ المعنى الالتزامي لها.

ص: 266


1- البقرة : 74.

الجمعة

54. التمثيل الرابع والخمسون

اشارة

( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (1).

تفسير الآية

« الأسفار » : السَّفر : كشف الغطاء ، ويختص ذلك بالأعيان نحو سَفَرَ العمامة عن الرأس ، والخمار عن الوجه ، إلى أن قال : والسِّفْر الكتاب الذي يسفر عن الحقائق وجمعه أسفار (2).

ذكر المفسرون انّه سبحانه لما قال : إنّه بعثه إلى الأُميّين أخذت اليهود الآية ذريعة لإنكار سعة رسالته ، وقالوا : إنّه صلی اللّه علیه و آله بعث إلى العرب خاصة ولم يبعث إليهم ، فعند ذلك نزلت الآية وشبّهتهم بالحمار الذي يحمل أسفاراً لا ينتفع منها ، إذ جاء في التوراة نعت الرسول والبشارة بمقدمه والدخول في دينه.

مضافاً إلى أنّه يمثل حال من يفهم معاني القرآن ولا يعمل به ويعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ، والمراد من قوله ( حُمِّلُوا ) أي كلّفوا بالقيام بها ، وقيل :

ص: 267


1- الجمعة : 5.
2- مفردات الراغب : مادة « سفر ».

ليس هو من الحمل على الظهر ، وإنّما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان ، ولذا قيل للكفيل : الحميل ، والمراد والذين ضمنوا أحكام التوراة ، ثمّ لم يحملوها ، أي لم يأدّوا حقها ولم يحملوها حق حملها ، فهؤلاء أشبه بالحمار ، كما قال : ( كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) .

وانتخب الحمار من بين سائر الحيوانات لما فيه من الذل والحقارة ما ليس في غيره بل والجهل والبلادة ، مضافاً إلى المناسبة اللفظية الموجودة بين لفظ الأسفار والحمار.

فعلى كلّ تقدير فالآية تندّد باليهود ، وفي الوقت نفسه تحذر عامة المسلمين في أن لا يكون حالهم حال اليهود ، في عدم الانتفاع بالكتاب المنزل الذي فيه دواء كلّ داء وشفاء لما في الصدور.

وللأسف الشديد أصبح القرآن بين المسلمين مهجوراً ، إذ يتبرك به في العرائس ، أو يجعل تعاويذ للأطفال ، أو زينة الرفوف ، أو يقرأ في القبور إلى غير ذلك ممّا أبعد المسلمين عن النظر في القرآن بتدبّر.

ثمّ إنّه سبحانه يصف اليهود المكذبة للقرآن وآياته ، بقوله : ( بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

ص: 268

التحريم

55. التمثيل الخامس والخمسون

اشارة

( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (1).

تفسير الآية

إنّ إحدى الأساليب التربوية هي عرض نماذج واقعية لمن بلغ القمة في مكارم الأخلاق وجلائلها أو سقط في حضيض مساوئ الأخلاق ، والقرآن في هذه الآية يعرض زوجتين من زوجات الأنبياء ابتليتا بالنفاق والخيانة ولم ينفعهما قربهما من أنبياء اللّه.

ثمّ إنّ الحافز لهذا التمثيل هو التنديد بزوجتي الرسول صلی اللّه علیه و آله اللّتين اشتركتا في إفشاء سره ، والغرض هو إيقافهما على أنّهما لا تنجوان من العذاب لمجرد مكانتهما من الرسول كما لم ينفع زوجة نوح ولوط ، فواجهتا العذاب الأليم.

يذكر سبحانه في هذه الصورة قصة إفشاء سرّ النبي بواسطة بعض أزواجه يقول : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ

ص: 269


1- التحريم : 10.

عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الخَبِيرُ ) (1).

وهذه الآية على اختصارها تشتمل على مطالب :

1. انّ النبي صلی اللّه علیه و آله أسرّ إلى بعض أزواجه حديثاً ، كما يقول سبحانه : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا ) ، وأمّا ما هو السر الذي أسرّه إليها فغير واضح ، ولا يمكن الاعتماد بما ورد في التفاسير من تحريم العسل على نفسه وغيره.

2. انّ هذه المرأة التي أسرّ إليها النبي لم تحتفظ بسره وأفشته ، فحدّثت به زوجة أُخرى ، كما يقول سبحانه : ( فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ ) ، والمفسرون اتفقوا على أنّ الأولى منهما هي حفصة والثانية هي عائشة.

وبذلك أساءت الصحبة وأفشت سر الرسول صلی اللّه علیه و آله ، مع أنّ واجبها كان كتم هذا السر.

3. انّه سبحانه أخبر النبي صلی اللّه علیه و آله به ، كما يقول سبحانه : ( وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ ) أي أطلعه اللّه عليه.

4. انّ النبي صلی اللّه علیه و آله عرّف حفصة ببعض ما ذكرت وأعرض عن ذكر كلّ ما أفشت ، وكان صلی اللّه علیه و آله قد علم جميع ذلك ولكنّه أخذ بمكارم الأخلاق ، فلم يذكر لها جميع ما صدر منها ، والتغافل من خلق الكرام ، وقد ورد في المثل : « ما استقصى كريم قط ».

5. لما أخبر رسول اللّه حفصة بما أظهره اللّه عليه سألت ، وقالت : من أخبرك بهذا ؟ فأجاب الرسول : نبّأني العليم الخبير ، كما يقول سبحانه : ( فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ

ص: 270


1- التحريم : 3.

قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الخَبِيرُ ) .

وبما انّ مستمع السر كمفشيه عاص ، يعود سبحانه يندّد بهما ويأمرهما بالتوبة ، لأجل ما كسبت قلوبهما من الآثام ، وانّه لو لم تكُفَّا عن إيذاء النبي صلی اللّه علیه و آله ، فاعلما انّ اللّه يتولّى حفظه ونصرته ، وأمين الوحي معين له وناصر يحفظه ، وصالح المؤمنين وخيارهم يؤيدونه ، وبعدهم ملائكة اللّه من أعوانه. كما يقول سبحانه : ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) أي مالت إلى الإثم ، وإن تظاهرا عليه أي تعاونا على إيذاء النبي ، فانّ اللّه مولاه وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.

هاتان الآيتان توقفنا على مكانة الزوجتين من القيام بوظائف الزوجية ، حيث إنّ حفظ الأمانة من واجب الزوجة حيال زوجها ، كما أنّ الآية الثانية تعرب عن مكانتهما عند اللّه سبحانه حيث تجعلهما على مفترق الطرق : إمّا التوبة لأجل الإثم ، وإمّا التمادي في غيّهما وإحباط كلّ ما تهدفان إليه ، لأنّ له أعواناً مثل ربه والملائكة وصالح المؤمنين.

وبما انّ السورة تكفّلت بيان تلك القصة ناسب أن يمثل سبحانه حالهما بزوجتين لرسولين أذاعتا سرهما وخانتاهما. إذ لم تكن خيانتهما خيانة فجور لما ورد : ما بغت امرأة نبي قط ، وإنّما كانت خيانتهما في الدين.

قال ابن عباس : كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس : إنّه مجنون ، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح ، كما أنّ امرأة لوط دلّت على أضيافه.

وعلى كلّ حال فقد شاركت هذه الزوجات الأربع في إذاعة أسرار أزواجهنّ ، وبذلك صرن نموذجاً بارزاً للخيانة.

وقد كنَّ يتصورنّ انّ صلتهن بالرسل تحول دون عذاب اللّه ، ولم يقفن على أنّ

ص: 271

مجرد الصلة لا تنفع مالم يكن هناك إيمان وعمل صالح ، قال سبحانه : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ) (1) وقال سبحانه مخاطباً بني آدم : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (2).

ومن هنا تقف على أنّ صحبة الرسول لا تنفع ما لم يضم إليه إيمان خالص وعمل صالح ، فلا تكون مجالسة الرسول دليلاً على العدالة ولا على النجاة ، وأصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله أمام اللّه سبحانه كالتابعين يحكم عليهم بما يحكم على التابعين ، فكما أنّ الصنف الثاني بين صالح وطالح ، فهكذا الصحابة بين صالح وطالح.

ص: 272


1- المؤمنون : 101.
2- الأعراف : 35.

التحريم

56. التمثيل السادس والخمسون

اشارة

( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (1).

تفسير الآيات

« الحصن » : جمعه حصون وهي القلاع ، ويطلق على المرأة العفيفة ، لأنّها تحصّن نفسها بالعفاف تارة وبالتزويج أُخرى.

القنوت : لزوم الطاعة مع الخضوع ، قوله : ( كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) أي خاضعون.

لما مثّل القرآن بنماذج بارزة للفجور من النساء أردفه بذكر نماذج أُخرى للتقوى والعفاف من النساء بلغن من التقوى والإيمان منزلة عظيمة حتى تركن الحياة الدنيوية ولذائذها وعزفن عن كل ذلك بغية الحفاظ على إيمانهنّ ، وقد مثل القرآن بآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، فقد بلغت من الإيمان والتقوى بمكان انّها طلبت من اللّه سبحانه أن يبني لها بيتاً في الجنة ، فقد آمنت بموسى لمّا رأت معاجزه

ص: 273


1- التحريم : 11 - 12.

الباهرة ودلائله الساطعة ، فأظهرت إيمانها غير خائفة من بطش فرعون وقد نقل انّه وتدها بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس.

هذه هي المرأة الكاملة التي ضحّت في سبيل عقيدتها واستقبلت الشهادة بصدر رحب ولم تعر للدنيا وزخارفها أيّة أهمية ، وكان هتافها حينما واجهت الموت قولها : ( رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

فقولها : « عندك » ، يهدف إلى القرب من رحمة اللّه ، وقولها : « في الجنة » يبين مكان القرب.

فقد اختارت جوار ربها والقرب منه وآثرت بيتاً يبنيه لها ربها على قصر فرعون الذي كان يبهر العقول ، ولكن زينة الحياة الدنيا عندها نعمة زائلة لا تقاس بالنعمة الدائمة.

ثمّ إنّه سبحانه يضرب مثلاً آخر للمؤمنات مريم ابنة عمران ، ويصفها بقوله : ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) .

ترى أنّه سبحانه يصفها بالصفات التالية :

1. ( أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ) فصارت عفيفة كريمة وهذا بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها ، كما يعرب عنه قوله سبحانه : ( وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ) (1) وفي سورة الأنبياء قوله : ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ) (2).

ص: 274


1- النساء : 156.
2- الأنبياء : 91.

2. ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ) : أي كونها عفيفة محصّنة صارت مستحقة للثناء والجزاء ، فأجرى سبحانه روح المسيح فيها ، وإضافة الروح إليه إضافة تشريفية ، فهي امرأة لا زوج لها انجبت ولداً صار نبياً من أنبياء اللّه العظام.

وقد أُشير إلى هذين الوصفين في سورة الأنبياء ، قال سبحانه : ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) .

وهناك اختلاف بين الآيتين ، فقد جاء الضمير في سورة الأنبياء مؤنثاً فقال : ( فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ) وفي الوقت نفسه جاء في سورة التحريم مذكراً ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ) .

وقد ذكر هنا وجه وهو :

إنّ الضمير في سورة الأنبياء يرجع إلى مريم ، وأمّا المقام فإنّما يرجع إلى عيسى ، أي فنفخنا فيه حتى أنّ من قرأه « فيها » أرجع الضمير إلى نفس عيسى والنفس مؤنثة.

أقول : هذا لا يلائم ظاهر الآية ، لأنّه سبحانه بصدد بيان الجزاء لمريم لأجل صيانة فرجها ، فيجب أن يعود الجزاء إليها ، فالنفخ في عيسى يكون تكريماً لعيسى ولا يعد جزاءً لمريم.

3. ( صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ) : ولعل المراد من الكلمات الشرائع المتقدمة ، والكتب : الكتب النازلة ، كما يحتمل أن يكون المراد الوحي الذي لم يكن على شكل كتاب.

4. ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) : أي كانت مطيعة لله سبحانه ، ومن القوم المطيعين لله الخاضعين له الدائمين عليه ، وقد جيء بصيغة المذكر تغليباً ، يقول

ص: 275

سبحانه : ( يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) (1).

ونختم البحث بذكر ثلاث روايات :

1. روى الطبري ، عن أبي موسى ، عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد » صلی اللّه علیه و آله (2).

2. أخرج الحاكم ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلی اللّه علیه و آله ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص اللّه علينا من خبرهما في القرآن ( قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ ) » (3).

3. أخرج الطبراني ، عن سعد بن جنادة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه زوجني في الجنة : مريم بنت عمران ، وامرأة فرعون ، وأُخت موسى »(4).

ص: 276


1- آل عمران : 43.
2- مجمع البيان : 5 / 320.
3- الدر المنثور : 8 / 229.
4- الدر المنثور : 8 / 229.

الملك

57. التمثيل السابع والخمسون

اشارة

( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1).

تفسير الآيات

« لجّ » : من اللجاج : التمادي والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه.

« عُتُوّ » : التمرّد.

« النفور » : التباعد عن الحقّ.

« مكب » : من الكبو ، وهو إسقاط الشيء على وجهه ، قال سبحانه : ( فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) . ومنه قوله : « إنّ الجواد قد يكبو » أي قد يسقط ، والمراد هنا بقرينة مقابله : ( يَمْشِي سَوِيًّا ) ، أي من يمشي ووجهه إلى الأرض لا الساقط. وقال الطبرسي : أي منكساً رأسه إلى الأرض ، فهو لا يبصر الطريق ولا من يستقبله.

وأمّا الآيات فقد جاءت بصيغة السؤال بين الضالين الذين لجّوا في عتو ونفور وظلّوا متمسّكين بالأوثان والأصنام ، وبين المهتدين الذين يمشون في جادة

ص: 277


1- الملك : 21 - 22.

التوحيد ولا يعبدون إلاّ اللّه القادر على كلّ شيء.

فمثل هؤلاء مثل من يمشي على أرض متعرجة غير مستوية يكثر فيها العثار ، وبالتالى يسقط الماشي مكباً على وجهه ، ومن يمشي على جادة مستوية مستقيمة ليس فيها عثرات ، فيصل إلى هدفه بسهولة.

فالاختلاف بين هاتين الطائفتين ليس في كيفية المشي ، وإنّما الاختلاف في طريقهم حيث إنّ طرق الكفّار ملتوية متعرجة فيها عقبات كثيرة ، وطريق المهتدين مستقيمة لا اعوجاج فيها ، فعاقبة المشي في الطريق الأوّل هو الانكباب على الأرض ، وعاقبة المشي في الطريق الثاني هو الوصول إلى الهدف ، فتأويل الآية : أفمن يمشي على طريق غير مستقيم بل متعرج ملتو مكبّاً على وجهه أهدى أم من يمشي على صراط مستقيم بقامة مستقيمة.

قال العلاّمة الطباطبائي : والمراد أنّهم بلجاجهم في عتوّ عجيب ونفور من الحقّ ، كمن يسلك سبيلاً وهو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع وانخفاض ومزالق ومعاثر ، فليس هذا السائر كمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ، فيرى موضع قدمه وما يواجهه من الطريق على استقامة ، وما يقصده من الغاية ، وهؤلاء الكفّار سائرون سبيل الحياة وهم يعاندون الحقّ على علم به ، فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه والعمل بما عليهم أن يعملوا به ، ولا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الأمر ويسلكوا سبيل الحياة وهم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك (1).

ص: 278


1- الميزان : 19 / 360 - 361.

خاتمة المطاف

اشارة

ربما عدّ غير واحد ممّن كتب في أمثال القرآن ، الآية التالية منها :

( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ) (1).

تفسير الآية

لمّا نزل قوله سبحانه ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) (2).

قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أُمّهاتكم أتسمعون ابن أبي كبيشة يخبركم انّ خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الدهم (3) الشجعان ، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم.

ص: 279


1- المدثر : 31.
2- المدثر : 26 - 30.
3- الدهم : الجماعة الكثيرة.

فقال أبو أسد الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر ، عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني ، فأكفوني أنتم اثنين ، فنزلت هذه الآية : ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً ) ، أي جعلنا أصحاب النار ملائكة أقوياء مقتدرون وهم غلاظ شداد ، يقابلون المذنبين بقوة ، وهم أمامهم ضعفاء عاجزون ، ويكفي في قوتهم انّه سبحانه يصف واحداً منهم بقوله : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ) (1).

فالكفّار ما قدروا اللّه حقّ قدره وما قدروا جنود ربّهم ، وظنوا انّ كلّ جندي من جنوده سبحانه يعادل قوة فرد منهم.

ثمّ إنّه سبحانه يذكر الوجوه التالية سبباً لجعل عدتهم تسعة عشر :

1. ( فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا ) .

2. ( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) .

3. ( يَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ) .

4. ( لا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالمُؤْمِنُونَ ) .

5. ( وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ) .

وإليك تفسير هذه الفقرات :

أمّا الأُولى : فيريد انّه سبحانه لم يجعل عدتهم تسعة عشر إلاّ للإفتتان والاختبار ، قال سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) أي يختبر بهم الإنسان ، فجعل عدتهم تسعة عشر يختبر بها الكافر والمؤمن ، فيزداد الكافر حيرة واستهزاءً ويزداد المؤمن إيماناً وتصديقاً ، كما هو حال كلّ ظاهرة تتعلق بعالم الغيب. يقول سبحانه : ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ

ص: 280


1- النجم : 5 - 6.

إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) (1).

ولا تظن انّ عمله سبحانه هذا يوجب تعزيز داعية الكفر ، وهو أشبه بالجبر وإضلال الناس ووجه ذلك انّ الاستهزاء والابتعاد عن الحقّ أثر الكفر الذي اختاره على الإيمان ، فهذا هو السبب في أن تكون الآيات الإلهية موجبة لزيادة الكفر والابتعاد عن الحقّ ، والدليل على ذلك انّ هذه الآيات في جانب آخر نور وهدى وموجباً لزيادة الإيمان والتصديق.

وأمّا الثانية : أي استيقان أهل الكتاب من اليهود والنصارى انّه حقّ وانّ محمّداً رسول صادق حيث أخبر بما في كتبهم من غير قراءة ولا تعلم.

وأمّا الثالثة : وهي ازدياد إيمان المؤمنين ، وذلك بتصديق أهل الكتاب ، فإذا رأوا تسليم أهل الكتاب وتصديقهم يترسخ الإيمان في قلوبهم.

وأمّا الرابعة : أعني قوله : ( وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالمُؤْمِنُونَ ) ، فهو أشبه بالتأكيد للوجه الثاني والثالث.

وفسره الطبرسي بقوله : وليستيقن من لم يؤمن بمحمد صلی اللّه علیه و آله ومن آمن به صحة نبوته إذا تدبّروا وتفكّروا.

وأمّا الخامسة : وهي تقوّل الكافرين ومن في قلوبهم مرض بالاعتراض ، بقولهم : ماذا أراد اللّه بهذا الوصف والعدد ، وهذه الفقرة ليست من غايات جعل عدتهم تسعة عشر ، وإنّما هي نتيجة تعود إليهم قهراً ، ويسمّى ذلك لام العاقبة ، كما في قوله سبحانه : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) (2) ومن المعلوم

ص: 281


1- التوبة : 124 - 125.
2- القصص : 8.

انّ فرعون لم يتخذه لتلك الغاية وإنّما اتخذه ليكون ولداً له ، كما في قول امرأته : ( لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (1) ولكن ترتبت تلك النتيجة على عملهم شاءوا أم أبوا.

وهكذا المقام حيث أخذت الطائفتان أي الذين في قلوبهم مرض والكافرين بالاستهزاء ، وقالوا : ( مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ) .

وقد فسر قوله : ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) بالمنافقين ، كما فسروا الكافرين بالمتظاهرين بالكفر من المشركين ، غير انّ هنا سؤال ، وهو انّ السورة مكية ولم تكن هناك ظاهرة النفاق وإنّما بدأت بالمدينة.

ولكن لا دليل على عدم وجود النفاق بمكة ، إذ ليس الخوف سبباً منحصراً للنفاق ، فهناك علل أُخرى وهي الإيمان لأجل العصبية والحميّة أو غير ذلك. يقول العلاّمة الطباطبائي : لا دليل على انتفاء سبب النفاق في جميع من آمن بالنبي بمكة قبل الهجرة وقد نقل عن بعضهم انّه آمن ثمّ رجع أو آمن عن ريب ثمّ صلح.

على أنّه تعالى يقول : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ ) (2). (3)

ثمّ إنّه سبحانه يختم الآية بقوله : ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) ، أي الحقائق الناصعة والآيات الواضحة تتلقاها القلوب المختلفة تلقياً

ص: 282


1- القصص : 9.
2- العنكبوت : 10 - 11.
3- الميزان : 20 / 90.

مختلفاً يهتدي بها فريق ويضل بها آخر حسب ما يشاء سبحانه ، وليست مشيئته سبحانه خالية عن الملاك والسبب ، فهدايته وإضلاله رهن اهتداء الإنسان من هداياته العامة ، فمن استهدى بها تشمله هدايته الثانية ، وهي التي وردت في هذه الآية ، ومن أعرض عنها فيشمله إضلاله سبحانه بمعنى قطع فيضه عنه.

الآية ليست من الأمثال

ومع ما بذلنا من الجهد في تفسير الآيات ، فالظاهر انّها ليست من قبيل التمثيل لما عرفت من أنّه عبارة عن تشبيه شيء بشيء وإفراغ المعنى المعقول في قالب محسوس لغاية الإيضاح ، ولكن الآيات لا تمت إليه بصلة وإنّما هي بصدد بيان سبب جعل الزبانية تسعة عشر وانّ لها آثاراً خاصة.

وعلى ذلك فقوله سبحانه : ( مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ) ، أي ماذا أراد اللّه به وصفاً ، فالمثل في هذه الآية نظير ما ورد في سورة فرقان حيث بعد ما ذكر انّ المشركين وصفوه بأنّه رجل مسحور ، قال : ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ ) (1) أي انظر كيف وصفوك ، فليس مطلق الوصف تمثيلاً.

تمَّ الكتاب - بحمد اللّه سبحانه - بيد مؤلّفه جعفر السبحاني وقد لاح بدر تمامه في شهر جمادى الآخرة من شهور عام 1420 من الهجرة النبوية على هاجرها آلاف الثناء والتحية وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ص: 283

ص: 284

الأقسام في القرآن الكريم

اشارة

ص: 285

ص: 286

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القرآن والآفاق اللامتناهية

اشارة

الحمد لله الذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبيّنا محمّد خير من طاف الأرض وحكم ، وعلى آله الأئمّة السادة هداة الأُمّة إلى الطريق الأقوم.

نزل القرآن الكريم على قلب سيد المرسلين هادياً للإنسان ومنيراً له طريق السعادة ، وقد وضع علماء الإسلام علوماً جمة لفهم حقائقه وكشف أسراره ومعانيه ، وعلى الرغم من ذلك ، لم يزل المفسرون في كلّ عصر يستخرجون منه حقائق غفل عنها الأقدمون ، وكأنّ الإنسان أمام بحر موّاج بالحقائق العلمية لا يُدرك غوره ولا يتوصل إلى أعماقه ، ولا يمكن لأحد الإحاطة بأسراره وعجائبه.

وكأنّ القرآن هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الذي لم يزل يبحث عن أسراره الباحثون ، وهم بعد في الأشواط الأُولى من الوقوف على حقائقه الكامنة. ولا غروَ أن يكون الكتاب العزيز كذلك أيضاً ، لأنّه كتاب صدر من لدن حكيم عليم لا نهاية لوجوده وعلمه ، فيجب أن يكون كتابه المنزّل رشحة من رشحات وجوده.

وهذا هو متكلّم قريش وخطيبهم الوليد بن المغيرة المخزومي لمّا جلس إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وسمع شيئاً من آيات سورة غافر ، ذهب إلى قومه ليبيّن موقفه من

ص: 287

الكتاب ، وقال : واللّه قد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وانّ له لحلاوة ، وانّ عليه لطلاوة ، وانّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق ، وانّه ليعلو وما يعلى عليه (1).

فقد أدرك مُنطيق قريش بصفاء ذهنه ما يحتوي عليه القرآن من أسرار وكنوز.

نعم ، قد سبقه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذلك حيث عَرّف القرآن ، بقوله :

« له ظهر وبطن ، وظاهره حُكْم ، وباطنُه عِلْم ، وظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة » (2).

وقد أفاض الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في بيان أبعاد القرآن غير المتناهية ، وقال في خطبة يصف فيها القرآن بقوله : « أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره - إلى أن قال : - وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المنتزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون » (3).

وقد أثبت توالي التأليف حول القرآن الكريم على مختلف الأصعدة ، انّه كتاب القرون والأعصار ، وحجّة خالدة للناس إلى يوم القيامة ، وقد استحوذ الكتاب العزيز على اهتمام بالغ لم يَحظ به أي كتاب آخر.

ص: 288


1- مجمع البيان : 10 / 387.
2- الكافي : 2 / 599 ، كتاب القرآن.
3- نهج البلاغة : 2 / 202 ، طبعة عبده.
إلماع إلى بعض آفاقه اللامتناهية

إنّ من آفاق القرآن ومعانيه السامية هو أقسامه ، فقد أقسم القرآن الكريم بأُمور مختلفة ربما يبلغ عدد أقسامه إلى أربعين حلفاً أو أكثر ، وتمتاز عن الأقسام الرائجة في العصر الجاهلي بأنّها انصبت على ذوات مقدسة أو ظواهر كونية ذات أسرار عميقة ، في حين امتاز القسم في العصر الجاهلي بالحلف بالمغاني والمدام (1) وجمال النساء ، إلى غير ذلك من الأُمور المادية الساقطة.

حلف سبحانه في كتابه مضافاً إلى ذاته ، بالقرآن ، الملائكة ، النفس ، الشمس ، القمر ، السماء ، الأرض ، اليوم ، الليل ، القلم ، وغير ذلك من الموضوعات التي تحتوي على أسرار مكنونة ، ويصحّ في حقّها ، قوله سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) (2).

ينقل السيوطي انّ أوّل من أفرد أقسام القرآن بالتأليف هو شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية ( المتوفّى 751 ه ) ولم يذكر كتاباً غيره ، ثمّ جمع السيوطي أقسام القرآن وجعله نوعاً من أنواع علومه ، فبحث عنها بحثاً موجزاً لا يتجاوز عن خمس صفحات (3).

وقال الكاتب الچلبي في « كشف الظنون » - بعد سرد ما قام به السيوطي - : وتبعه صاحب مفتاح الكرامة حيث أورده من فروع علم التفسير (4).

ولم نقف على كتاب مفرد حول أقسام القرآن في الأوساط الشيعية مع ما فيها

ص: 289


1- المدام والمدامة : الخمر.
2- الواقعة : 78.
3- الإتقان في علوم القرآن : 4 / 46 - 51.
4- كشف الظنون : 1 / 137 - 138.

من بحوث هامة سوى ما ألّفه ولدي العزيز الروحاني الحائز على مقام الشهادة الشيخ أبو القاسم الرزاقي (1) تحت عنوان « سوگندهاى قرآن » ، وهو كتاب قيّم حافل بنقل الآراء حول القسم في القرآن ، وقد طبع في حياته بتقديم منّا تغمده اللّه برحمته وأسكنه فسيح جناته.

ثمّ إنّ ابن قيم الجوزية وإن كان أوّل من ألّف - حسب ما نعلم - ولكن كتابه يعوزه المنهجية في البحث حيث لم يذكر الأقسام الواردة واحداً تلو الآخر حسب حروف التهجّي أو حسب سور القرآن ، وإنّما ذكر أقسام كلّ سورة في فصل واحد.

لكن ما ألّفه الشيخ الرزاقي خال من هذه النقيصة ، فانّه ألّف كتابه على نمط التفسير الموضوعي ، فجعل لكلّ حلف فصلاً خاصاً ، وذكر جميع الآيات الواردة في خصوص ذلك الحلف ، مثلاً ذكر الآيات التي أقسم اللّه فيها بنفسه في فصل خاص ، كما جمع ما أقسم اللّه فيه بالليل في سور وآيات مختلفة في مكان واحد.

ولما كان ما ألّفه ابن قيم غير خال عن النقيصة ، كما أنّما ألّفه ولدنا البار لا ينتفع به القارئ العربي لأنّه أُلّف باللغة الفارسية ، عزمت على تأليف مفرد في هذا الصدد بغية تعميم الفائدة.

وأردفه إن شاء اللّه بالبحث عن أمثال القرآن.

ص: 290


1- استشهد مع مجموعة من العلماء أثر إسقاط الطائرة التي كانت تقلّهم أثناء رحلة داخلية خلال الحرب العراقية الإيرانية من قبل النظام البعثي الغاشم عام 1408 ه / 1367 ه.ش.

بحوث تمهيدية في أقسام القرآن

اشارة

إنّ البحث عن الأقسام الواردة في القرآن الكريم رهن استعراض أُمور في معنى القسم وما يتبعه من المقسم به والمقسم عليه وأبحاث أُخرى ، فنقول :

1. تفسير القسم

إنّ لفظة القسم واضحة المعنى تعادل الحلف واليمين في لغة العرب ، ولها معادل في عامة اللغات وإنّما يؤتى به لأجل تأكيد الخبر والمضمون ، قال الطبرسي : القسم جملة من الكلام يؤكد بها الخبر بما يجعله في قسم الصواب (1).

قال السيوطي : القصد بالقسم تحقيق الخبر وتوكيده ، حتى جعلوا مثل : ( وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) (2) قسماً ، وإن كان فيه إخبار بشهادة ، لأنّه لمّا جاء توكيداً للخبر سمّي قسماً (3).

ولذلك نقل عن بعض الأعراب ، انّه لما سمع قوله تعالى : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) (4).

صرخ وقال : من ذا الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين (5).

ص: 291


1- مجمع البيان : 5 / 225.
2- المنافقون : 1.
3- الإتقان : 4 / 46.
4- الذاريات : 22 - 23.
5- الإتقان : 4 / 46.
2. أركان القسم

إنّ القسم من الأُمور ذات الإضافة وهو فعل فاعل مختار له إضافة إلى أُمور أربعة :

أ. الحالف ، ب. ما يحلف به ، ج. ما يحلف عليه ، د. الغاية من القسم.

أمّا الأوّل : فالحلف عبارة عن فعل الفاعل المختار ، فلا يصدر إلاّ منه سواء أكان واجباً كاللّه سبحانه أم ممكناً كالإنسان وغيره.

والذي يتناوله بحثنا في هذا الكتاب هو القسم الذي صدر عن الواجب في كتابه العزيز دون سواه.

فلا نتعرض لما حلف به الشيطان في القرآن وقال : ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) (1).

ثمّ إنّ أدوات القسم عبارة عن الأُمور الأربعة ، أعني : الباء والتاء والواو واللام ، وأمثلة الكل واضحة ، وأمّا الأخير فكقول الشاعر :

للهِ لا يبقى على الأيام ذُو حيَدٍ

بمُشمَخر به الطيّانُ والآسُ (2)

وسيوافيك انّ حرف الباء يجتمع مع فعل القسم دون سائر الأدوات ، إذ يحذف فيها فعله ، أعني : أقسم.

وأمّا الثاني - أي ما يحلف به - : فانّ لكلّ قوم ، أُموراً مقدّسة يحلفون بها ، وأمّا

ص: 292


1- ص : 82.
2- والحيد كعنب جمع حيدة وهو القرن فيه عقد ، والمشمخر الجبل العالي ، والطيّان الياسمين الصحرائي والآس شجر معروف.

القرآن الكريم فقد حلَفَ سبحانه بأُمور تجاوزت عن الأربعين مقسماً به.

وأمّا الثالث - أي ما يحلف عليه - : والمراد هو جواب القسم الذي يراد منه التأكيد عليه وتثبيته وتحقيقه ، وهذا ما يقال القصد بالقسم تحقيق الخبر وتوكيده.

ففي الآية التالية تتجلّى الأركان الثلاثة ، وتقول : ( وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ ) (1).

فقوله : ( وَأَقْسَمُوا ) فهو الركن الأوّل.

وقوله : ( بِاللّهِ ) هو المقسم به.

وقوله : ( لا يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ ) هو المقسم عليه

وكثيراً ما يحذف الفعل وذلك لكثرة تردّد القسم في كلامهم ويكتفى بالواو أو التاء في أسماء اللّه.

نعم ، يلازم الإقسام بالباء ذكر الفعل ، كما في الآية السابقة ، وقوله : ( يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ) (2).

وعلى ضوء ذلك فباء القسم يلازم مع ذكر فعله ، كما أنّ واو القسم وتاءه يلازم مع حذفه ، فيقال : أقسم باللّه ، ولا يقال : أقسم تاللّه أو أقسم واللّه بل يقتصر على قوله : تاللّه ، واللّه ، يقول سبحانه : ( وَتَاللّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) (3) ، وقوله : ( ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (4).

ص: 293


1- النحل : 38.
2- التوبة : 62.
3- الأنبياء : 57.
4- الأنعام : 23.

وثمة نكتة جديرة بالإشارة وهي أنّ أكثر المفسرين حينما تطرّقوا إلى الأقسام الواردة في القرآن الكريم ركّزوا جهودهم لبيان ما للمقسم به من أسرار ورموز كالشمس والقمر في قوله سبحانه : ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاها * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ) (1) أو قوله : ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) (2) ، ولكنّهم غفلوا عن البحث في بيان الصلة والعلاقة بين المقسم به والمقسم عليه لاحظ مثلاً قوله سبحانه : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) (3) فالضحى والليل مقسم بهما وقوله : ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) هو جواب القسم الذي نعبّر عنه بالمقسم عليه ، فهناك صلة في الواقع بين المقسم به والمقسم عليه ، وهو أنّه لماذا لم يقسم بالشمس ولا بالقمر ولا بالتين ولا بالزيتون بل حلف بالضحى والليل لأجل المقسم عليه أعني قوله : ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) ؟

وصفوة القول : إنّ كلّ قسم جدير لتحقيق الخبر ، ولكن يقع الكلام في كلّقسم ورد في القرآن الكريم أنّه لماذا اختار المقسم به الخاص دون سائر الأُمور الكثيرة التي يقسم بها ؟ فمثلاً : لماذا حلف في تحقيق قوله : ( مَا وَدَّعَكَ ) بقوله : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ ) ولم يقسم بالشمس والقمر ؟ وهذا هو المهم في بيان أقسام القرآن ، ولم يتعرّض له أكثر المفسرين ولا سيما ابن قيم الجوزية في كتابه « التبيان في أقسام القرآن » إلاّ نزراً يسيراً.

ثمّ إنّ الغالب هو ذكر جواب القسم ، وربما يحذف كما يحذف جواب لو كثيراً ، أمّا الثاني فكقوله سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ

ص: 294


1- الشمس : 1 - 2.
2- التين : 1.
3- الضحى : 1 - 3.

الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى ) (1) فانّ الجواب محذوف ، وهو نظير قوله : « لما آمنوا ».

وأمّا الأوّل ، فكقوله سبحانه : ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) (2) ، فانّ الحلف بالقرآن الكريم المعرب عن تعظيمه ووصفه بأنّه مذكِّر للعباد يدل على جوابه وهو انّه منزّل من عنده سبحانه غير مفترى ، وما أشبه ذلك.

وعلى كلّ حال ، فالغالب هو الأوّل أي الإتيان بالجواب.

إلى هنا تمّ بيان أركان القسم الثلاثة ، وثمة ركن رابع ، وهو الغاية المتوخّاة من القسم ، فنقول : إنّ الغاية إمّا هي تحقيق الخبر ودعوة المخاطب إلى الإيمان والإذعان به ، كما هو الغالب ، أو إلفات النظر إلى عظمة المقسم به ، وما يكمن فيه من أسرار ورموز ، أو لبيان قداسته وكرامته ، كما في قوله : ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (3).

ومن خلال هذا البيان ، يتضح الجواب على ما ربما يقال من أنّ حلفه سبحانه إن كان لأجل المؤمن فهو يصدقه بلا حلف ، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده.

والجواب : انّ إيمان المؤمن بصدق إخباره سبحانه لا ينافي تأكيده بالحلف ، مضافاً إلى ما عرفت من أنّ حلفه سبحانه بشيء إشارة إلى كرامته وقداسته أو إلى عظمته وما يكمن فيه من أسرار ورموز.

ص: 295


1- الرعد : 31.
2- ص : 1.
3- الحجر : 72.
3. جواز الحلف بغير اللّه سبحانه

تضافر الحلف بغيره سبحانه في الكتاب العزيز والسنّة النبوية ، أمّا الكتاب فسيوافيك حلفه بأشياء كثيرة ، وأمّا السنّة فقد حلف النبي صلی اللّه علیه و آله في غير مورد بغير اسم اللّه.

1. فقد أخرج مسلم في صحيحه : أنّه جاء رجل إلى النبي ، فقال : يا رسول اللّه أي الصدقة أعظم أجراً ؟ فقال : « أما - وأبيك - لتنبئنَّه أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء » (1).

2. أخرج مسلم أيضاً : جاء رجل إلى رسول اللّه - من نجد - يسأل عن الإسلام ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « خمس صلوات في اليوم والليل ».

فقال : هل عليَّ غيرهنّ ؟

قال : « لا ... إلاّ أن تطوع » ، وصيام شهر رمضان.

فقال : هلّ عليَّ غيره ؟

قال : « لا ... إلاّ تطوّع » ، وذكر له رسول اللّه الزكاة.

فقال الرجل : هل عليّ غيره ؟

قال : « لا ... إلاّ أن تطوّع ».

فأدبر الرجل وهو يقول : واللّه لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أفلح - وأبيه - إن صدق ».

أو قال : « دخل الجنة - وأبيه - إن صدق » (2).

ص: 296


1- صحيح مسلم : 3 / 94 ، باب أفضل الصدقة من كتاب الزكاة.
2- صحيح مسلم : 1 / 32 ، باب ما هو الإسلام.

وقد حلف غير واحد من الصحابة بغيره سبحانه ، فهذا أبو بكر بن أبي قحافة على ما يرويه مالك في موطّئه : أنّ رجلاً من أهل اليمن أقطع اليد والرجل قدم فنزل على أبي بكر فشكا إليه أنّ عامل اليمن قد ظلمه ، فكان يصلي من الليل ، فيقول أبو بكر : « وأبيك ما ليلك بليل سارق » (1).

وهذا علي بن أبي طالب علیه السلام قد حلف بغيره سبحانه في غير واحد من خطبه :

1. « ولعمري ما عليّ من قتال من خالف الحق وخابط الغي من إدهان ولا إيهان » (2).

2. « ولعمري ما تقادمت بكم ولا بهم العهود » (3).

إلى غير ذلك من الأقسام الواردة في كلامه علیه السلام وسائر أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

نعم ثمة أحاديث استدل بها على المنع عن الحلف بغير اللّه ، غير أنّها ترمي إلى معنى آخر كما سيوافيك.

الحديث الأوّل

إنّ رسول اللّه سمع عمر ، وهو يقول : وأبي ، فقال : « إنّ اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، ومن كان حالفاً فليحلف باللّه أو يسكت » (4).

والجواب : انّ النهي عن الحلف بالآباء قد جاء لأنّهم كانوا - في الغالب - مشركين وعبدة للأوثان فلم يكن لهم حرمة ولا كرامة حتى يحلف أحد بهم ، ولأجل

ص: 297


1- شرح الزرقاني على موطأ مالك : 4 / 159 برقم 580.
2- نهج البلاغة : الخطبة 23 و 85.
3- نهج البلاغة : الخطبة 23 و 85.
4- سنن ابن ماجة : 1 / 277 سنن الترمذي : 4 / 109.

ذلك نرى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله جعل آباءَهم قرناء مع الطواغيت مرّة ، وبالأنداد - أي الأصنام - ثانية ، وقال : « لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت » (1).

وقال أيضاً : « لا تحلفوا بآبائكم ولا بأُمهاتكم ولا بالأنداد » (2).

وهذان الحديثان يؤكدان على أنّ المنهي عنه هو الحلف بالآباء الكافرين الذين كانوا يعبدون الأنداد والطواغيت ، فأين هو من حلف المسلم بالكعبة والقرآن والأنبياء والأولياء في غير القضاء والخصومات ؟

الحديث الثاني

جاء ابنَ عمر رجل فقال : أحلف بالكعبة ؟ قال له : لا ، ولكن إحلف بربِّ الكعبة ، فانّ عمر كان يحلف بأبيه ، فقال رسول اللّه له : « لا تحلف بأبيك ، فانّ من حلف بغير اللّه فقد أشرك » (3).

إنّ الحديث يتألف من أمرين :

أ : قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « من حلف بغير اللّه فقد أشرك ».

ب : اجتهاد عبد اللّه بن عمر ، حيث عدّ الحلف بالكعبة من مصاديق حديث النبي صلی اللّه علیه و آله .

أمّا الحديث فنحن نذعن بصحته ، والقدر المتيقن من كلامه ما إذا كان المحلوف به شيئاً يعد الحلف به شركاً كالحلف بالأنداد والطواغيت والآباء الكافرين. فهذا هو الذي قصده النبي صلی اللّه علیه و آله ولا يعم الحلف بالمقدسات كالقرآن

ص: 298


1- سنن النسائي : 7 / 7 سنن ابن ماجة : 1 / 278.
2- سنن النسائي : 7 / 9.
3- سنن النسائي : 7 / 8.

وغيره.

وأمّا اجتهاد ابن عمر حيث عدّ الحلف بالكعبة من مصاديق الحديث ، فهو اجتهاد منه وحجّة عليه دون غيره.

وأمّا انّ الرسول عدّحلف عمر بأبيه من أقسام الشرك فلأجل أنّ أباه كان مشركاً ، وقد قلنا إنّ الرواية ناظرة إلى هذا النوع من الحلف.

ومجمل القول : إنّ الكتاب العزيز هو الأُسوة للمسلمين عبر القرون ، فإذا ورد فيه الحلف من اللّه سبحانه بغير ذاته سبحانه من الجماد والنبات والإنسان فيستكشف منه أنّه أمر سائغ لا يمت إلى الشرك بصلة ، وتصوّر جوازه لله سبحانه دون غيره أمر غير معقول ، فانّه لو كان حقيقة الحلف بغير اللّه شركاً فالخالق والمخلوق أمامه سواء.

نعم الحلف بغير اللّه لا يصحّ في القضاء وفضّ الخصومات ، بل لابدّ من الحلف باللّه جلّ جلاله أو بإحدى صفاته التي هي رمز ذاته ، وقد ثبت هذا بالدليل ولا علاقة له بالبحث.

وأمّا المذاهب الفقهية فغير مجمعين على أمر واحد.

أمّا الحنفية ، فقالوا : بأنّ الحلف بالأب والحياة ، كقول الرجل : وأبيك ، أو : وحياتك وما شابه ، مكروه.

وأمّا الشافعية ، فقالوا : بأنّ الحلف بغير اللّه - لو لم يكن باعتقاد الشرك - فهو مكروه.

وأمّا المالكية ، فقالوا : إنّ في القسم بالعظماء والمقدسات - كالنبي والكعبة - فيه قولان : الحرمة والكراهة ، والمشهور بينهم : الحرمة.

ص: 299

وأمّا الحنابلة ، فقالوا : بأنّ الحلف بغير اللّه وبصفاته سبحانه حرام ، حتى لو كان حلفاً بالنبي أو بأحد أولياء اللّه تعالى.

هذه فتاوى أئمّة المذاهب الأربعة (1) ولسنا الآن بصدد مناقشتهم.

وكان الحري بفقهاء المذاهب الأربعة ولا سيما في العصر الراهن فتح باب الاجتهاد والرجوع إلى المسألة والنظر إليها بمنظار جديد إذ كم ترك السلف للخلف.

على أنّ نسبة الحرمة إلى الحنابلة غير ثابتة أيضاً ، لأنّ ابن قدامة يصرّح في كتاب « المغني » - الذي كتبه على غرار فقه الحنابلة - : أنّ أحمد بن حنبل أفتى بجواز الحلف بالنبي ، وأنّه ينعقد لأنّه أحد ركني الشهادة.

وقال أحمد : لو حلف بالنبي انعقد يمينه ، فإن حنث لزمته الكفارة (2).

إكمال

قد ذكر السيوطي في كتاب « الإتقان » ، وقال : كيف أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير اللّه ؟

ثمّ ذكر أجوبة ثلاثة ، وهي :

الأوّل : انّه على حذف مضاف ، أي وربّ التين وربّ الشمس ، وكذا الباقي.

الثاني : انّ العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون.

ص: 300


1- انظر الفقه على المذاهب الأربعة : 2 / 75 ، كتاب اليمين ، مبحث الحلف بغير اللّه تعالى.
2- المغني : 11 / 209.

الثالث : انّ الإقسام إنّما تكون بما يعظمه المقسم أو يُجلُّه وهو فوقه واللّه تعالى ليس شيء فوقه ، فأقسم تارة بنفسه وتارة بمصنوعاته ، لأنّها تدل على بارئ وصانع.

وقال ابن أبي الاصبع في « اسرار الفواتح » : القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع ، لأنّ ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل ، إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل.

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن ، قال : إنّ اللّه يقسم بما شاء من خلقه ، وليس لأحد أن يقسم إلاّ باللّه (1).

ولا يخفى ضعف الأجوبة.

أمّا الأوّل : فانّ معنى ذلك إرجاع الأقسام المختلفة إلى قسم واحد وهو الرب ، مع أنّه سبحانه تارة يقسم بنفسه ، ويقول : ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ) (2) ، وأُخرى بالتين والزيتون والصافات والشمس ، فلو كان الهدف القسم بالرب فما فائدة هذا النوع من الأقسام حيث يضيف نفسه إلى واحد من مخلوقاته ؟ فانّ العظمة لله لا للمضاف إليه ، ولو كانت له عظمة فإنّما هي مقتبسة من الرب.

وأمّا الثاني : فمعنى ذلك أنّه سبحانه جرى على ما كان عليه العرب في العصر الجاهلي ، وقد هدم بعمله ما شرعه من النهي عن القسم بغير اللّه.

وأمّا الثالث : فيكتنفه كثير من الغموض ، ولا يعلم كيفية رفع الإشكال ، وأمّا ما نقله عن ابن أبي الاصبع فيرجع إلى المعنى الأوّل ، وهو أنّ القسم بالمخلوق قسم بالخالق.

ص: 301


1- الإتقان : 4 / 47.
2- مريم : 68.

وما نقله عن ابن أبي حاتم ، من أنّ اللّه يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلاّ باللّه ، أمر غير واضح ، لأنّ إقسام المخلوق بغير اللّه لو كان من مقولة الشرك فالقاعدة لا تقبل التخصيص ، فيكون قسمه سبحانه بغير اللّه أيضاً شركاً وعبادة.

وإن كان قسمه سبحانه لأجل بيان قداسته وعظمته أو الأسرار المكنونة فيه ، فهو أمر مشترك بين الخالق والمخلوق.

والجواب : انّ النهي عن الحلف بغير اللّه مختص بالطواغيت والأنداد والمشركين من الآباء ، وأمّا غيرهم فلم يرد فيهم نهي.

منهجنا في تفسير أقسام القرآن

إنّه سبحانه تبارك وتعالى حلف بذوات مقدسة بما يربو على الأربعين مرة ، فتفسيرها يمكن أن يتم باحدى الصور التالية :

أ : أن نتناول تلك الأقسام بالبحث طبق حروف التهجي ككتاب اللغة.

ب : أن نتناولها بالبحث حسب أفضلية المقسم به ، فنقدم الحلف باللّه أو الرب على الحلف بعمر النبي صلی اللّه علیه و آله وحياته ، وهو على الحلف بالملائكة ، وهكذا ، وعلى ذلك يجب عقد واحد وأربعين فصلاً على النحو التالي :

1. الحلف بلفظ الجلالة وفيه فصلان :

أ. الحلف بلفظ الجلالة.

ب. الحلف بالرب.

ص: 302

2. الحلف بالنبي صلی اللّه علیه و آله ، وفيه فصلان :

أ.بعمر النبي صلی اللّه علیه و آله

ب. شاهد

3. الحلف بالقرآن ، وفيه فصلان :

أ. بالقرآن

ب. بالكتاب

4. الحلف بالملائكة ، وفيه أربعة فصول :

أ. الصافات ، الزاجرات ، التاليات.

ب. الذاريات ، الحاملات ، الجاريات ، المقسمات.

ج. المرسلات ، العاصفات ، الناشرات ، الفارقات ، الملقيات.

د. النازعات ، الناشطات ، السابحات ، السابقات ، المدبرات.

5. الحلف بالقلم وفيه فصلان :

أ. القلم

ب. وما يسطرون

6. الحلف بالقيامة ، وفيه ثلاثة فصول :

أ. القيامة

ب. اليوم الموعود

ج. مشهود

ص: 303

7. الحلف بالنفس.

8. الحلف بالشفع والوتر.

9. الحلف بالولد والوالد.

10. الحلف بالأمكنة ، وفيه ثلاثة فصول :

أ. الحلف بالبلد الأمين

ب. الحلف بطور سينين

ج. الحلف بالبيت المعمور

11. الحلف بالأزمنة ، وفيه ثمانية فصول :

أ. الحلف بالصبح

ب. الحلف بالفجر

ج. الحلف باليوم

د. الحلف بالضحى

ه. الحلف بالنهار

و. الحلف بالشفق

ز. الحلف بالليل

ح. الحلف بالعصر

12. الحلف بالأرض والأجرام السماوية ، وفيه ثمانية فصول :

أ. الحلف بالشمس وضحاها

ص: 304

ب. الحلف بالكواكب

ج. الحلف بالنجم

د. الحلف بمواقع النجوم

ه. الحلف بالأرض

و. الحلف بالقمر

ز. الحلف بالخنس الجوار

ح. الحلف بالطارق

13. الحلف بالظواهر الجوية ، وفيه أربعة فصول :

أ. الحلف بالسماء

ب. الحلف بالذاريات

ج. الحلف بالحاملات

د. الحلف بالجاريات

ج : أن نتناولها حسب السور القرآنية ، فنفسر ما ورد من الأقسام في سورة الشمس مرة واحدة ، أو نفسر ما ورد في سورة الفجر أو البلد في مكان واحد ، وعلى ذلك يجب عقد عدة فصول حسب عدد السور التي ورد فيها الحلف.

وقد سلك ابن قيم الجوزية ( المتوفّى 751 ه ) هذا المنهج ، فراح يبحث عن أقسام القرآن حسب السور.

فابتدأ بتفسير الأقسام الواردة بالنحو التالي :

1. القيامة ، 2. الشمس ، 3. الفجر ، 4. البلد ، 5. التين ، 6. الليل ،

ص: 305

7. الضحى ، 8. العاديات ، 9. العصر ، 10. البروج ، 11. الطارق ، 12. الانشقاق ، 13. التكوير ، 14. النازعات ، 15. المرسلات ، 16. القيامة ، 17. المدثر ، 18. الحاقة ، 19. المعارج ، 20. القلم ، 21. الواقعة ، 22. النجم ، 23. الطور ، 24. الذاريات ، 25. ق ، 26. يس ، 27. الصافات ، 28. الحجر ، 29. النساء.

فقد عقد 29 فصلاً حسب عدد السور التي ورد فيها الأقسام ، وهذا المنهج لا يخلو من مناقشة ، لأنّه سبحانه ربما حلف بالرب في سور مختلفة ، فلو كان محور البحث هو السور يلزم عليه تكرار البحث حسب تعدد وروده في السور المختلفة ، وهذا بخلاف ما إذا جمع الآيات التي حلف فيها القرآن بربوبيته ، ويبحث فيها دفعة واحدة ، فهذا النوع من البحث يكون خالياً عن التكرار والتطويل.

مضافاً إلى أنّه لم يراع ترتيب السور حتى فيما اختاره من ذكر السور القصيرة متقدمة على السور الطويلة.

والعجب أنّه بحث عن الحلف الوارد في سورة القيامة مرّتين (1).

د : وهناك منهج رابع سلكه ولدنا الروحاني الشهيد الشيخ أبو القاسم الرزاقي ( قدس اللّه سره ) فقد أفرد لكلّ قَسَمٍ فصلاً خاصاً.

ويؤخذ على هذا المنهج أنّه سبحانه حلف في بعض السور بموضوعات مختلفة ، كسورة الشمس حيث حلف فيها بالشمس والقمر وفي الوقت نفسه بالنفس الإنسانية وجعل للجميع جواباً واحداً.

وبما انّ من البحوث المهمة في أقسام القرآن هو بيان الصلة بين المقسم به

ص: 306


1- تارة في ص 35 من كتابه المعروف « التبيان في أقسام القرآن » تحت عنوان فصل « القسم في سورة القيامة » ، وأُخرى بنفس العنوان في ص 147 ، فلاحظ.

والمقسم عليه ، فعلى ذلك المنهج يجب أن يتكرر البحث في أكثر الفصول بالنسبة إلى أُمور حلف بها سبحانه مرّة واحدة وذلك كالشمس والقمر والنفس الإنسانية ، وهذا مستلزم للإطناب.

ومن أجل أن نتلافى هذه المشكلة ، نقول :

إنّ أقسام القرآن على قسمين :

الأوّل : ما نطلق عليه الحلف المفرد ، والمراد منه ما إذا حلف سبحانه بشيء مفرد ولم يضم إليه حلفاً آخر ، سواء تكرر في سور أُخرى أو لا ، مثلاً : حلف بعمر النبي صلی اللّه علیه و آله وحياته مرة واحدة ولم يقرن به حلفاً آخر ، بخلاف لفظ الرب فقد حلف به مفرداً ولكنّه تكرر في بعض السور.

الثاني : ما نطلق عليه الحلف المتعدد ، والمراد منه ما إذا حلف سبحانه بأُمور مختلفة جمعها في آية واحدة أو آيتين ، وجعل للجميع جواباً واحداً ، كالحلف بالشمس والقمر إلى أن يصل إلى النفس الإنسانية.

فنعقد لكلّ حلف مفرد فصلاً على حدة ، سواء تكرر بهذا النحو في سور أُخرى أو لا ، مراعين في ذلك الأفضل فالأفضل فنقدم الحلف باللّه والرب على حياة النبي وعمره وهو على الملائكة.

وأمّا الحلف المتعدد فنعقد لكلّ سورة تضم ذلك الحلف فصلاً ، كما عقدنا لسورة الشمس فصلاً ، ولسورة الليل فصلاً آخر ، وإن تكرر فيه المحلوف فيه أعني الليل ، وبذلك يمتاز هذا المنهج عن سائر المناهج المذكورة ، ويجمع كافة محاسنها ، ويصان عن المؤاخذات التي ربما تطرح على المنهجين الأخيرين.

وأخذنا بتقسيم الكتاب إلى قسمين وخصصنا القسم الأوّل بالأحلاف المفردة ، والثاني بالأحلاف المتعددة ، وإليك إجمال فصول القسمين :

ص: 307

القسم الأوّل ، وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القسم بلفظ الجلالة.

الفصل الثاني : القسم بالربِّ.

الفصل الثالث : القسم بعمر النبي.

الفصل الرابع : القسم بالقرآن الكريم.

الفصل الخامس : القسم بالعصر.

الفصل السادس : القسم بالنجم.

الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم.

الفصل الثامن : القسم بالسماء ذات الحبك.

القسم الثاني ، وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القسم في سورة الصافات.

الفصل الثاني : القسم في سورة الذاريات.

الفصل الثالث : القسم في سورة الطور.

الفصل الرابع : القسم في سورة القلم.

الفصل الخامس : القسم في سورة الحاقة.

الفصل السادس : القسم في سورة المدثر.

الفصل السابع : القسم في سورة القيامة.

الفصل الثامن : القسم في سورة المرسلات.

ص: 308

الفصل التاسع : القسم في سورة النازعات.

الفصل العاشر : القسم في سورة التكوير.

الفصل الحادي عشر : القسم في سورة الانشقاق.

الفصل الثاني عشر : القسم في سورة البروج.

الفصل الثالث عشر : القسم في سورة الطارق.

الفصل الرابع عشر : القسم في سورة الفجر.

الفصل الخامس عشر : القسم في سورة البلد.

الفصل السادس عشر : القسم في سورة الشمس.

الفصل السابع عشر : القسم في سورة الليل.

الفصل الثامن عشر : القسم في سورة الضحى.

الفصل التاسع عشر : القسم في سورة التين.

الفصل العشرون : القسم في سورة العاديات.

ص: 309

ص: 310

القسم الأوّل : القسم المفرد

اشارة

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القسم بلفظ الجلالة
اشارة

حلف سبحانه تبارك وتعالى بلفظ الجلالة مرّتين ضمن آيتين من سورة النحل ، وهو أعظم قسم ورد في القرآن الكريم.

قال سبحانه :

أ : ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ) (1).

ب : ( تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2).

تفسير الآية الأُولى

دلّت الآية الأُولى على جهل المشركين ، حيث كانوا يجعلون نصيباً مما رزقوا للأصنام التي لا تضر ولا تنفع ويتقربون بذلك إليهم ، وقال سبحانه : ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

ص: 311


1- النحل : 56.
2- النحل : 63.

وقد حكى سبحانه عملهم هذا في سورة الأنعام ، وقال : ( وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) (1).

فالكفار لأجل جهلهم بمبدأ الفيض كانوا يتقرّبون إلى الآلهة الكاذبة - أعني : الأصنام والأوثان - بتخصيص شيء مما رزقوا لها ، مع أنّه سبحانه هو الأولى بالتقرّب لا غير ، لأنّه مبدأ الفيض وما سواه ممكن محتاج في وجوده وفعله ، فكيف يتقربون إليه ؟!

والعجب أنّهم يجعلون نصيباً لله ونصيباً لشركائه ، فما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ، وما كان لشركائهم لا يصل إلى اللّه سبحانه ، وقد حكاه سبحانه في سورة الأنعام ، وقال : ( وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) (2).

وحاصل الآية : أنّهم كانوا يجعلون من الزرع والمواشي حظاً لله وحظاً للأوثان ، وقد أسماها سبحانه ( شُرَكَائِهِمْ ) ، لأنّهم جعلوا الأوثان شركاءهم ، حيث جعلوا لها نصيباً من أموالهم ينفقونه عليها فشاركوها في نعمهم.

وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى ( فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ) وجوهاً (3) :

أوّلها : انّهم كانوا يزرعون لله زرعاً وللأصنام زرعاً ، فكان إذا زكا الزرع الذي

ص: 312


1- الأنعام : 136.
2- الأنعام : 136.
3- لاحظ مجمع البيان : 2 / 370.

زرعوه لله ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه إليها ، ويقولون إنّ اللّه غنيّ والأصنام أحوج ؛ وإن زكا الزرع الذي جعلوه للأصنام ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله لم يجعلوا منه شيئاً لله ، وقالوا : هو غني وكانوا يقسمون النعم فيجعلون بعضه لله وبعضه للأصنام فما كان لله أطعموه الضيفان ، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم ، وهذا هو المرويّ عن الزجاج وغيره.

ثانيها : انّه كان إذا اختلط ما جُعل للأصنام بما جُعل لله تعالى ردّوه ، وإذا اختلط ما جعل لله بما جُعل للأصنام تركوه ، وقالوا : اللّه أغنى ، وإذا تخرق الماء من الذي لله في الذي للأصنام لم يسدُّوه ، وإذا تخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدّوه ، وقالوا : اللّه أغنى. عن ابن عباس وقتادة ، وهو المروي عن أئمتنا علیهم السلام .

وثالثها : انّه كان إذا هلك ما جعل للأصنام بدَّلوه مما جعل لله ، وإذا هلك ما جعل لله لم يبدّلوه مما جعل للأصنام. عن الحسن والسدي (1).

وفي الحقيقة انّ هذا النوع من العمل ، أي توزيع القربان بين اللّه والآلهة ، كان تزييناً من شركائهم وهم الشياطين أو سدنة الأصنام حيث زينوا لهم هذا العمل وغيره من الأعمال القبيحة ، قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ( أي ليهلكوهم بالإغواء ) وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) (2).

تفسير الآية الثانية

يقول سبحانه : ( تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ

ص: 313


1- مجمع البيان : 2 / 370.
2- الأنعام : 137.

أَعْمَالَهُمْ ) فهؤلاء كفروا وضلّوا وكذّبوا الرسل وقد زيّن الشيطان أعمالهم ( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) أي الشيطان الذي زين لهم أعمالهم فهو أيضاً يقوم بنفس هذا العمل فالولي واحد وإن كان المتولى عليه مختلفاً ، وبالتالي انّ الشيطان وليهم اليوم في الدنيا يتولونه ويتبعون إغواءه ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .

إلى هنا انتهينا من تفسير الآيتين ، فلنذكر المقسم به ، وجواب القسم ، وما هي الصلة بينهما.

المقسم به

المقسم به في الآيتين هو لفظ الجلالة الذي جاء ذكره في القرآن الكريم حوالي 980 مرة.

وقد ذهب غير واحد من أصحاب المعاجم إلى أنّ أصله ، إله ، فحذفت همزته وأدخل عليه الألف واللام فخص بالباري تعالى ، قال تعالى : ( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) (1).

ثمّ إنّ « إله » إما من أله يأله فهو الإله بمعنى المعبود ، أو من أله - بالكسر - أي تحير ، لتحير العقول في كنهه.

أقول : سيوافيك بأنّ الإله ليس بمعنى المعبود ، وأنّ من فسره به فقد فسره بلازم المعنى ، وعلى فرض ثبوته فلفظ الجلالة علم بالغلبة وليس فيه إشارة إلى هذه المعاني من العبادة والتحيّر ، وقد كان مستعملاً دائراً على الألسن قبل نزول القرآن تعرفه العرب في العصر الجاهلي ، يقول سبحانه : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ

ص: 314


1- مريم : 65.

اللّهُ ) (1). فقد أشار بلفظ الجلالة إلى خالق السماوات والأرض دون تبادر مفهوم العبادة أو التحير منه.

وممّا يدل على كونه علماً انّه يوصف بالأسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من دون عكس ، فيقال اللّه الرحمن الرحيم ، أو يقال علم اللّه ورزق اللّه ، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها ، ولا يؤخذ منه ما يوصف به شيء منها ، وهذا يدل على أنّه علم وليس بوصف ، فيكون اسماً للذات الواجبة الوجود المستجمعة لجميع صفات الكمال ، ولهذا اللفظ في جميع الألسنة معادل كلفظة ( خدا ) في لغة الفرس و ( حراً ) في لغة الافرنج و ( تاري ) في لغة الترك (2).

جواب القسم

أمّا جواب القسم في الآية الأُولى ، فهو عبارة عن قوله : ( لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

كما أنّ جوابه في الآية الثانية ، هو قوله : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ ) .

فقد أقسم سبحانه في هاتين الآيتين بلفظ الجلالة لغاية التأكيد على أمرين :

أ : انّهم مسؤولون يوم القيامة عن افترائهم الكذب.

ب : انّه سبحانه لم يترك الخلق سدى بل أرسل إليهم رسلاً ، لكن الشيطان حال بينهم وبين أُممهم ، وتشهد على ذلك سيرة عاد وثمود بل اليهود والنصارى والمجوس.

ص: 315


1- الزخرف : 87.
2- انظر الميزان : 1 / 18.

ما هي الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ؟ هذا هو المهم في أقسام القرآن ، وقد أُهمل في كثير من التفاسير ، ويمكن أن يقال :

أمّا الآية الأُولى ، فالقسم بلفظ الجلالة لأجل أنّ المشركين كانوا يجعلون لله نصيباً مما زرعوا من الحرث والأنعام ، وكانوا يقولون : هذا لله ، فناسب أن يقسم به لأجل أنّه افتراء عظيم.

وأمّا الآية الثانية ، فلأنّه جاء في ذيل جواب القسم ولاية الشيطان ، كما قال : ( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) وبما انّ الولاية لله سبحانه كما قال تعالى : ( هُنَالِكَ الْوَلايَةُ للهِ الحَقِّ ) (1) ناسب الحلف باللّه الذي هو الوليّ دونَ الشيطان ، كما عليه المشركون.

ص: 316


1- الكهف : 44.
الفصل الثاني : القسم بالربِّ
اشارة

أقسم سبحانه بلفظ « رب » بصور مختلفة :

تارة حلف به بلفظ « فلا وربك »

وأُخرى حلف به مقروناً بلفظ ( لا ) وقال : « فلا أُقسم ».

وثالثة حلف به بلفظ « فوربّك ».

ورابعة بلفظ « بلى وربّي ».

وخامسة بلفظ « اي وربي ».

وسادسة بلفظ « فوربّ السماء والأرض ».

وعلى أية حال فالمقسم به هو الرب ، وإليك الآيات :

1. ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (1).

2. ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) (2).

3. ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ) (3).

ص: 317


1- النساء : 65.
2- المعارج : 40 - 41.
3- مريم : 68.

4. ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1).

5. ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ) (2).

6. ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ) (3).

7. ( وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ) (4).

8. ( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) (5). تفسير الآيات

تشير الآية الأُولى إلى مقام من مقامات النبي صلی اللّه علیه و آله ، فانّ له - حسب ما دلّ عليه الكتاب والسنة في إدارة رحى المجتمع - مقامات ثلاثة :

أ : السياسية وتدبير الأُمور : يقول سبحانه : ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) (6). ويقول في حقّ النبي خاصة : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (7) وليس الأولى بالمؤمنين من أنفسهم فضلاً عن أموالهم غير السائس الحاكم العام.

ص: 318


1- الحجر : 92 - 93.
2- سبأ : 3.
3- التغابن : 7.
4- يونس : 53.
5- الذاريات : 23.
6- الحج : 41.
7- الأحزاب : 6.

ب : القضاء وفضُّ الخصومات : يقول سبحانه في حقّ داود : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) (1) وفي حقّ النبي صلی اللّه علیه و آله بقوله : ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (2).

ج : الإفتاء وبيان الأحكام : يقول سبحانه : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) (3) وقد كان الرسول - بنص هذه الآيات - جامعاً لهذه المقامات الثلاثة فكان سائساً وحاكماً ، وقاضياً وفاضّاً للخصومات ، ومفتياً ومبيّناً للأحكام.

ومن الواضح بمكان أنّ فضّ الخصومات لا يتحقق إلاّ بقضاء قاض مطاع رأيه ونافذ فصله ، وقد كان بعض المنتمين إلى الإسلام لم يعيروا أهمية لقضائه ، فنزلت الآية تأمر أوّلاً بإطاعته وانّ كلّ رسول واجب الطاعة. يقول سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (4).

ثمّ تشير الآية التالية إلى أنّ الإيمان لا يكتمل إلاّ بالانصياع والتسليم القلبي لما يقضي به النبي صلی اللّه علیه و آله ، فمن شهد الشهادتين وأذعن بهما ، ومع ذلك يجد في نفسه حرجاً في قضاء النبي صلی اللّه علیه و آله وأمره فليس بمؤمن ، يقول سبحانه : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) . (5) فالآية تدل على أنّ الإيمان لا يكتمل بنفس الإذعان

ص: 319


1- ص : 26.
2- المائدة : 42.
3- النساء : 176.
4- النساء : 64.
5- النساء : 65.

واليقين بالتوحيد والرسالة ما لم ينضم إليه التسليم القلبي ، ولذلك ترى أنّ أمير المؤمنين علياً علیه السلام يصف الإسلام بالنحو التالي ، ويقول : « لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي : الإسلام هو التسليم » (1).

وتشير الآية الثانية إلى أنّه سبحانه قادر على أن يهلك المشركين ويأتي بقوم آخرين ( خَيْرًا مِّنْهُمْ ) ، من دون أن يكون مغلوباً ، قال : ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) .

فجواب القسم قوله ( إِنَّا لَقَادِرُونَ ) وقوله ( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) عطف على جواب القسم ، والمراد بالسبق الغلبة ، أي وما نحن بمغلوبين ويمكن أن يكون السبق بمعناه والمراد : وما نحن بمسبوقين بفوت عقابنا إياهم فإنّهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا.

والتعبير بالمشارق والمغارب لأجل أنّ للشمس في كل يوم من أيام السنة الشمسية مشرقاً ومغرباً لا تعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة ، كما أنّه من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم ومغاربها.

ومن عجيب الأمر أنّ في الآية على قصرها وجوهاً من الالتفات.

ففي قوله : ( فَلا أُقْسِمُ ) التفات من التكلم مع الغير الوارد في قوله : ( إِنَّا خَلَقْنَاكُم ) إلى التكلم وحده ، والوجه فيه تأكيد القسم باسناده إلى اللّه نفسه.

وفي قوله : ( بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ ) التفات من التكلم وحده إلى الغيبة ، والوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلاً بعد جيل ، وهي ربوبيته للمشارق والمغارب ، فانّ الشروق بعد الشروق ، والغروب بعد الغروب ، يلازم مرور الزمان الذي له مدخلية تامّة في تكوّن الإنسان

ص: 320


1- نهج البلاغة : قسم الحكم ، الحكمة 125.

جيلاً بعد جيل وسائر الحوادث العرضية المقارنة له.

وفي قوله : ( إِنَّا لَقَادِرُونَ ) التفات (1) من الغيبة إلى التكلم مع الغير ، والوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة ، وفي ذكر ربوبيته للمشارق والمغارب إشارة إلى تعليل القدرة ، وهو أنّ الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكوّنها لا يعجزه شيء من الحوادث التي هي أفعاله ، عن شيء منها ، ولا يمنعه شيء من خلقه من أن يبدله بخير منه ، وإلاّ شاركه المانع في أمر التدبير ، واللّه سبحانه لا شريك له في أمر التدبير (2).

وأمّا الآية الثالثة : فلما ذكر سبحانه الوعد والوعيد والبعث والنشور أردفه بقول منكر البعث ورد عليهم بأوضح بيان وأجلى برهان ، وقال : ( أَوَلَا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) (3) والمراد أو لا يذكر أنّ النشأة الأُولى دليل على إمكان النشأة الثانية ، ثمّ أكده بقوله : « فوربك » يا محمد « لنحشرنّهم والشياطين » أي لنجمعنهم ولنبعثنهم من قبورهم مقرنين بأوليائهم من الشياطين.

وأمّا الآية الرابعة : فسياق الآية يندد بالمقتسمين ، ويقول : ( كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ ) (4) ثمّ يصفهم بقوله : ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) (5) والعضين

ص: 321


1- الالتفات في علم البيان عبارة عن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم كما في قوله سبحانه : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) وقوله سبحانه : ( حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ) وقوله سبحانه : ( وَاللّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ ) ففي الآية الأُولى عدول من الغيبة إلى الخطاب ، وفي الثانية من الخطاب إلى الغيبة ، وفي الثالثة من الغيبة إلى التكلم.
2- الميزان : 20 / 22.
3- مريم : 67.
4- الحجر : 91.
5- الحجر : 90.

جمع عضّة والتعضية التفريق ، فهم الذين جزّأوا القرآن أجزاء فقالوا تارة : سحر ، وأُخرى : أساطير الأوّلين ، وثالثة : مفترى ، وبذلك صدّوا الناس عن الدخول في دين اللّه ، وعلى ذلك يكون المراد من المقتسمين هم كفار قريش.

ويحتمل أن يكون المراد هم اليهود والنصارى الذين فرّقوا القرآن أجزاء وأبعاضاً ، وقالوا : نؤمن ببعض ونكفر ببعض.

وعلى أيّة حال الذين كانوا بصدد إطفاء نور القرآن بتبعيضه أبعاض ليصدوا عن سبيل اللّه فهؤلاء هم المقصودون ، ثمّ حلف سبحانه وقال : ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) من تبعيض القرآن وصد الناس عن الإيمان به.

وأمّا الآية الخامسة : فتذكر إنكار المشركين لإتيان الساعة ويوم القيامة ، وهم ينكرونه مع ظهور عموم ملكه سبحانه وعلمه بكلّ شيء.

وقد كان سبب إنكارهم هو زعمهم أنّ الإنسان يبلى جسده بعد الموت وتختلط أجزاؤه بأجزاء أبدان أُخرى على نحو لا تتميز ، فكيف يمكن إعادته ؟ فأجاب سبحانه في الآية مشيراً إلى علمه الواسع ، ويقول : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (1).

فقوله : ( لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ) حكاية لقول المشركين.

وقوله : ( قُلْ بَلَى وَرَبِّي ) أمر للنبي صلی اللّه علیه و آله بأن يجيبهم بأنّ إتيان الساعة أمر قطعي.

ص: 322


1- سبأ : 3.

وأمّا ما تشكّكون به من اختلاط أجزاء الأموات بعضها ببعض فهو أمر سهل أمام سعة علمه سبحانه بالغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، فهو يعلم بذرات بدن كلّ إنسان ويميّزه عن غيره ، ومع علمه سبحانه فالأجزاء ثابتة في كتاب مبين لا تتغير ولا تتبدل.

وأمّا الآية السادسة : يقول سبحانه : ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ) (1).

تشير الآية إلى إنكار الوثنيين الذين كانوا ينكرون البعث ، فأمر النبي صلی اللّه علیه و آله بالإجابة على إنكارهم بإثبات ما نفوه من الكلام مقروناً بأصناف التأكيد بالقسم واللام والنون وقال : ( وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ ) .

وأشار في ذيل الآية إلى أنّ البعث أمر يسير عليه تعالى ، وانّ ما طرحوه من شبهات حول البعث فهي - في الواقع - شبهات لا تصمد أمام قدرة اللّه وعلمه الواسع.

وأمّا الآية السابعة : أعني قوله سبحانه : ( وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ) (2).

سياق الآية يوحي إلى أنّ المشركين كانوا يستخبرون النبي صلی اللّه علیه و آله عن نزول العذاب أو وقوع البعث ، فأمره سبحانه بأن يجيب مؤكداً ، فقال : ( قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ) وقد أكد الكلام بالقسم والجملة الاسمية ، و « انّ » المشبهة و « اللام ، » ثم أشار إلى أنّ الكافرين لا يعجزونه سبحانه عمّا أراد ، وقال : ( وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ) ، وفي سورة المعارج قال مكانه : ( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) .

ص: 323


1- التغابن : 7.
2- يونس : 53.

وأمّا الآية الثامنة : ( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) (1).

فالضمير في قوله : « إنّه » يعود إلى الرزق والوعد الواردين في الآية المتقدّمة ، قال سبحانه : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) والمراد من الوعد هو الجنة.

ثمّ أشار ( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) وكما أنّ العلم بهذا الأمر - أي النطق - أمر ملموس لا شبهة فيه ، فهكذا الرزق والوعد من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.

حكى الزمخشري عن الأصمعي قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له ، فقال : ممن الرجل ؟ قلت : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، فقال : اتل عليّ فتلوت « والذاريات » فلمّا بلغت قوله : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ) قال : « حسبك » ، فقام إلى ناقته ، فنحرها ووزّعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولّى ، فلما حججت مع الرشيد ، طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفرّ فسلّم عليَّ واستقرأ السورة ، فلمّا بلغت الآية ، صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقّاً ، ثمّ قال : وهل غير هذا ؟ فقرأت : ( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) فصاح ، وقال : يا سبحان اللّه من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤه إلى اليمين ، قالها ثلاثاً ، وخرجت معها نفسه (2).

إلى هنا تمّ تفسير الآيات التي أقسم فيها سبحانه بربوبيّته ، وإليك الكلام في المقسم به ، والمقسم عليه.

ص: 324


1- الذاريات : 23.
2- الكشاف : 3 / 169.
المقسم به

إنّ المقسم به في هذه الآيات الثمان هو الرب ، والربّ أصله من ربب ، يقول صاحب القاموس : ربّ كلّ شيء مالكه ومستحقه وصاحبه ، يقال : ربّ الأمر أصلحه.

يقول ابن فارس : الرب ، المالك ، الخالق ، الصاحب ، والرب المصلح للشيء ، يقال : ربّ فلان ضيعته ، إذا قام على إصلاحها.

والربّ المصلح للشيء ، واللّه جلّ ثناؤه ، الرب لأنّه مصلح أحوال خلقه ، والراب الذي يقوم على أمر الربيب.

هذه الكلمات ونظائرها مبثوثة في كتب القواميس واللغة ، وهي ظاهرة في أنّ للرب معاني مختلفة ، حتى أنّ الكاتب المودودي تصوّر أنّ لهذه اللفظة خمسة معان ، وذكر لكلّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن ، ولكن الحقّ أنّه ليس لتلك اللفظة إلاّ معنى واحد والجميع مصاديق متعددة لهذا المعنى أو صور مبسطة للمعنى الواحد ، وإليك هذه الموارد والمصاديق :

1. التربية : مثل رب الولد ، رباه.

2. الإصلاح والرعاية : مثل رب الضيعة.

3. الحكومة والسياسة : مثل فلان قد ربّ قومه ، أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.

4. المالك : كما جاء في الخبر ، عن النبي صلی اللّه علیه و آله أرب غنم أم رب إبل.

5. الصاحب : مثل قوله : رب الدار ، أو كما يقول القرآن الكريم : ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ) (1).

ص: 325


1- قريش : 3.

لا ريب انّ هذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد ، ولكن جميعها ترجع إلى أصل واحد وهو من فوض إليه أمر الشيء المربوب ، فلو قيل لصاحب الدار ومالكها ربّ الدار ، فلأنّ أمرها مفوض إليه ، ولو أطلق على المصلح والسائس ، فلأنّ بيد هؤلاء أمر التدبير والإدارة والتصرف ، فلو قال يوسف في حقّ عزيز مصر : ( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) (1) ، فلأجل انّ يوسف نشأ في إحضانه وقام بشؤونه.

ولو وصف القرآن اليهود والنصارى بأنّهم اتخذوا أحبارهم أرباباً ، وقال : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ) (2) ، فلأجل انّهم تسلّموا زمام سلطة التشريع وتصرّفوا في الأموال والأعراض كيفما شاءُوا.

إنّه سبحان وصف نفسه ، بقوله : ( رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (3) وقال أيضاً : ( رَبُّ الشِّعْرَى ) (4) كلّ ذلك لانّه تعالى مدبرها ومديرها ومصلح شؤونها والقائم عليها.

وهذا البيان يكشف النقاب عن المعنى الحقيقي للرب ، وهو المعنى الجامع بين هذه الموارد. أعني : من فوِّض إليه أمر الشيء من حيث الخلق والتدبير والتربية ، وبذلك يعلم ما في كلام ابن فارس من تفسيره بالخالق ، فانّه خلط بين المعنى ولازمه فالخالق ليس من معاني الرب.

نعم خالق كلّ شيء يعدّ مربياً ومدبراً.

وثمة نكتة جديرة بالاهتمام ، وهي : أنّ الوهابيين قسَّموا التوحيد إلى التوحيد

ص: 326


1- يوسف : 23.
2- التوبة : 31.
3- الرعد : 16.
4- النجم : 49.

في الربوبية والتوحيد في الالوهية ، وفسَّروا الأوّل بالتوحيد في الخالقية ، بمعنى الاعتقاد بأنّ للكون خالقاً واحداً ؛ وفسروا الثاني بالتوحيد في العبادة ، بمعنى أنّه ليس في الكون إلاّ معبود واحد ولكنّهم اخطأوا في كلا الاصطلاحين.

أمّا الأوّل : فلأنّ التوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية ، فانّ الخالقية شيء والتدبير والإصلاح شيء آخر ، واللّه سبحانه وإن كان خالقاً ومدبراً لكنّه لا يكون دليلاً على وحدة المفهومين في الخارج.

فالعرب في عصر الجاهلية كانوا موحدين في الخالقية ، وكان منطق الجميع ، ما حكاه سبحانه بقوله : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) (1).

وفي الوقت نفسه لم يكونوا موحدين في الربوبية ، يقول سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) (2) فكانوا يعتقدون بأنّ العزّة والتدبير من شؤون المدبر ، قال سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ) (3). فكانوا يرون أنّ النصر بيد الإلهة ، خلافاً للموحد في أمر التدبير ، فهو يرى أنّ العزّة والنصر بيد اللّه سبحانه : قال تعالى : ( فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) (4) وقال تعالى : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) (5) إلى غير ذلك من الآيات الحاكية عن توغّلهم في الشرك في أمر التدبير.

ص: 327


1- الزخرف : 9.
2- مريم : 81.
3- يس : 74.
4- فاطر : 10.
5- آل عمران : 126.

وأمّا الثاني : فلأنّ التوحيد في الالوهية غير العبادة ، فهو مبني على أنّ الإله بمعنى المعبود ، والعبادة من لوازم الإله.

ولكنّه بعيد عن الصواب ، لأنّ ما يتبادر من لفظ الجلالة هو المتبادر من لفظ الإله ، غير أنّ الأوّل جزئي موضوع لفرد واحد ، والثاني كلي وإن لم يوجد له مصداق آخر.

والذي يدل على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله على وجه الكلية والوصفيّة دون العلمية ، فيصحّ وضع أحدهما مكان الآخر ، كما في قوله سبحانه : ( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) (1).

فإنّ وزان هذه الآية وزان ، قوله سبحانه :

( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) (2).

( وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) (3).

( هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (4).

ولا يخفى أنّ لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف الإله

ص: 328


1- الأنعام : 3.
2- الزخرف : 84.
3- النساء : 171.
4- الحشر : 23 - 24.

على وجه الكلية ( أي ما معناه أنّه هو الإله الذي يتصف بكذا وكذا ).

ويقرب من الآية الأُولى ، قوله سبحانه :

( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (1).

فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء ، والأمر بدعوة أيٍّ منها ، ربما يشعر بخلوّه عن معنى العلمية ، وتضمنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ : « الإله » وغيره ، ومثله قوله سبحانه :

( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (2).

فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلية لا العلمية الجزئية ، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.

المقسم عليه

إنّ المقسم عليه عبارة عن جواب القسم ، وهو في تلك الآيات كالتالي :

أ : الدعوة إلى تحكيم النبي صلی اللّه علیه و آله والتسليم أمام قضائه. ( لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ... ) .

ب : التأكيد على قدرته سبحانه على أن يأتي بخير منهم : ( إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا ... ) .

ج : التأكيد على حشرهم وحشر الشياطين : ( لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ) .

د : التأكيد على أنّهم مسؤولون يوم القيامة عن أعمالهم ( لَنَسْأَلَنَّهُمْ

ص: 329


1- الإسراء : 110.
2- الحشر : 24.

أَجْمَعِينَ ... ) .

ه : التأكيد على إتيان الساعة : ( لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ... ) .

و : التأكيد على بعثهم وآبائهم : ( لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ ... ) .

ز : التأكيد على وقوع البعث : ( إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ... ) .

ح : التأكيد على أنّ أمر الرزق وما توعدون من الجزاء حقّ : ( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ... ) .

الصلة بين المقسم به والمقسم عليه

الصلة بينهما واضحة ، فانّ المقسم عليه في هذه الآيات ، كان يدور حول أحد أمرين :

أ : الدعوة إلى التحكيم إلى النبي والتسليم أمام قضائه.

ب : كون البعث والحشر والسؤال عن الأعمال ، أمراً حقّاً.

ومن الواضح أنّ كلا الأمرين من شؤون الربوبية ، فإنّ الربّ إذا كان سائساً ومدبراً فهو أعلم بصلاح المدبر فيجب أن يكون مسلماً لأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونهيه.

كما أنّ حياة المربوب من شؤون الرب دون فرق بين آجله وعاجله ، فناسب الحلف بالرب عند الدعوة إلى الحشر والنشر.

وبعبارة أُخرى : كان المشركون ينكرون التسليم أمام أمره ونهيه ، كما كانوا ينكرون البعث والنشر ، ولما كان الجميع من شؤون الربوبية حلف بالرب تأكيداً لربوبيته.

* * *

ص: 330

ثمّ إنّ المقسم به فيما مضى من الآيات هو لفظ الجلالة أو لفظ الرب ، المشيرين إلى الواجب الجامع لجميع صفات الكمال والجمال.

وثمة آيات ربما يستظهر منها أنّ المقسم به هو سبحانه تبارك وتعالى لكن بلفظ مبهم ك « ما » الموصولة ، وقد جاء في آيات أربع :

1. ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ) .

2. ( وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ) .

3. ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) (1).

4. ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ) (2).

وقد اختلفت كلمة المفسرين في تفسير لفظة « ما » ، فالأكثرون على أنّها « ما » موصولة كناية عن اللّه سبحانه ، وكأنّه سبحانه يقول : والسماء والذي بناها ، والأرض والذي طحاها ، ونفس والذي سواها ، والواو للقسم.

وهناك من يذهب إلى أنّها « ما » مصدرية ، وكأنّه يقول : أُقسم بالسماء وبنائها ، والأرض وطحائها ، والنفس وتسويتها.

ولكن الرأي الأوّل هو الأقرب لأنّ سياق الآية يؤيد ذلك ، لأنّه سبحانه يقول : ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (3) فالفاعل هو الضمير المستتر الراجع إلى « ما » الموصولة الواردة في الآيات الثلاث المتقدمة. والذي يصلح للفاعلية هو الموصول من « ما » لا المصدر ، وسيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن الحلف بما ورد في هذه الآيات.

ص: 331


1- الشمس : 5 - 7.
2- الليل : 3.
3- الشمس : 8.
الفصل الثالث : القسم بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله
اشارة

حلف القرآن الكريم بالنبي صلی اللّه علیه و آله مرَّتين ، فتارة بعمره وحياته ، وأُخرى بوصفه وكونه شاهداً ، ويقع البحث في مقامين : المقام الأوّل : الحلف بعمر النبي صلی اللّه علیه و آله

حلف سبحانه بحياة النبي صلی اللّه علیه و آله مرّة واحدة ، وقال حينما عرض قصة لوط : ( قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) (1).

تفسير الآيات

أخبر سبحانه في هذه السورة أنّ الملائكة لمّا خرجوا من عند إبراهيم أتوا لوطاً يبشرونه بهلاك قومه ، ولمّا حلّوا ضيوفاً عند لوط فرح الفجّار بورودهم ، فقال لهم لوط مشيراً إلى بناته ( هَؤُلاءِ بَنَاتِي ) « فتزوجوهنّ إن كنتم فاعلين وكانت لكم رغبة في التزويج ، ولكن قوم لوط أعرضوا عمّا اقترح عليهم نبيّهم لوط وكانوا مصرّين على الفجور بهم ، غافلين عن أنّ العذاب سيصيبهم واللّه سبحانه يحلف بحياة النبي صلی اللّه علیه و آله ، ويقول : ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) فلا يبصرون طريق

ص: 332


1- الحجر : 71 - 73.

الرشد ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) أي الصوت الهائل ( مُشْرِقِينَ ) أي في حال شروق الشمس.

المقسم به

المقسم به هو عبارة عن العمر ، أعني في قوله : « لعمرك » يقول الراغب : العَمر والعُمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة ، فإذا قيل طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه ، إلى أن قال : والعَمر والعُمر واحد لكن خصَّ القسم بالعَمر دون العُمر ، كقوله سبحانه : ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .

وأما العُمُر فكما في قوله سبحانه : ( طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) ، وفي آية أُخرى : ( لَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ) .

فاللفظان بمعنى واحد لكن يختص القسم بواحد منهما (1).

المقسم عليه

هو قوله : ( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، والمراد أقسم بحياتك وبقائك يا محمد ، انّهم لفي سكرتهم وانغمارهم في الفحشاء والمنكر متحيرين لا يبصرون طريق الرشد.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه.

قال ابن عباس : ما خلق اللّه عزّوجلّ وما ذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من محمد ، وما سمعت اللّه أقسم بحياة أحد إلاّ بحياته فقال لعمرك (2).

ص: 333


1- المفردات : 347 ، مادة عمَر.
2- مجمع البيان : 3 / 342.

وجه الصلة أنّه سبحانه بعث الأنبياء عامة ، والنبي الخاتم خاصة لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة وإيقاظهم من السكرة التي تعمُّ الناس ، وبما أنّ القوم كانوا في سكرتهم يعمهون وفي ضلالتهم مستمرون ، حلف سبحانه تبارك وتعالى بعمر النبي الذي هو مصباح الهداية والدليل إلى الصراط المستقيم.

المقام الثاني : الحلف بوصف النبي وأنّه شاهد

حلف القرآن الكريم في سورة البروج بالشاهد والمشهود ، وقال : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ المَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ) (1).

أمّا المشهود فسيوافيك في فصل القسم في سورة القيامة انّ المراد منه يوم القيامة بشهادة ، قوله سبحانه : ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) (2) إنّما الكلام في الشاهد ، فالمراد منه هو النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله بشهادة أنّه سبحانه وصفه بهذا الوصف ثلاث مرّات ، وقال :

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) (3).

( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ ) (4).

( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) (5).

والآيات صريحة في حقّ النبي صلی اللّه علیه و آله ، وفي بعض الآيات عرّفه بأنّه ( شَهِيدًا ) ، ويقول : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ

ص: 334


1- البروج : 1 - 4.
2- هود : 103.
3- الأحزاب : 45.
4- المزمل : 15.
5- الفتح : 8.

عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (1).

( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ) (2).

هذه الآيات تعرب عن أنّ المقسم به هو النبي صلی اللّه علیه و آله بما انّه شاهد على أعمال أُمّته وشهيداً عليها.

سئل الحسن بن علي علیهماالسلام عن معنى الشاهد والمشهود في قوله سبحانه : ( وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) ؟ فقال : أمّا الشاهد فمحمد صلی اللّه علیه و آله ، وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أما سمعته يقول : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) ، وقال تعالى : ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) (3).

معنى الشهادة وكيفية شهادة النبي صلی اللّه علیه و آله

أمّا الشهادة فقد فسرها الراغب وقال : الشهود والشهادة ، الحضور مع المشاهدة امّا بالبصر أو بالبصيرة ، وقد يقال للحضور مفرداً عالم « الغيب والشهادة » وقد نقل القرآن شهادة النبي صلی اللّه علیه و آله على قومه يوم القيامة ، فقال : ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) (4).

هذه حقيقة قرآنية في حقّ النبي صلی اللّه علیه و آله وغيره ولا يمكن إنكارها للتصريح بها في غير واحد من الآيات ، قال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ

ص: 335


1- البقرة : 143.
2- النحل : 89.
3- البحار : 1 / 13.
4- الفرقان : 30.

عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) (1). وقال تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (2).

وقال عزّ اسمه : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) (3).

والشهادة فيها مطلقة ، وظاهر الجميع - على إطلاقها - هو الشهادة على اعمال الأُمم ، وعلى تبليغ الرسل كما يومئ إليه ، قوله تعالى : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ ) (4).

وظرف الشهادة وإن كان هو الآخرة لكن الشهداء يتحملوها في الدنيا. قال سبحانه : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (5).

وعلى ضوء ذلك يثار هذا السؤال في الذهن ، وهو :

إنّ الشهادة من الحضور ولم يكن النبي صلی اللّه علیه و آله ظاهراً مع جميع الأُمة بل كان بمعزل عنهم إلاّ شيئاً لا يذكر ، فكيف يشهد وهو لم يحضر الواقعة أي أفعال أُمّته قاطبة ؟

وهناك إشكال آخر أكثر غموضاً وهو : انّ الشهادة على ظاهر الأعمال ليست مفيدة يوم القيامة ، بل الشهادة على باطن الأعمال من كون الصلاة لله أو للرياء وللسمعة ، وانّ إيمانه هل كان إيماناً نابعاً من صميم ذاته ، أو نفاقاً لأجل

ص: 336


1- النساء : 41.
2- النحل : 84.
3- الزمر : 69.
4- الأعراف : 6.
5- المائدة : 117.

حطام الدنيا ، فهذا النوع من الأعمال لا يمكن الشهادة عليها حتى بنفس الحضور عند المشهود عليه ؟

وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ لشهداء الأعمال عامة والنبي الخاتم خاصة قدرة غيبية خارقة يطّلع من خلالها على أعمال العباد ظاهرها وباطنها وذلك بقدرة من اللّه سبحانه ، وعلى ذلك فهذه الشهادة عبارة عن الاطلاع على أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء ، وانقياد وتمرّد ، وإيمان وكفر ، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد اللّه من كلّ شيء حتى من أعضاء الإنسان ، وعند ذلك يقوم النبي صلی اللّه علیه و آله ويقول : ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) .

فإذا كانت الشهادة بهذا المعنى فلا ينالها إلاّ الأمثل فالأمثل من الأُمّة ، لا الأُمة بأسرها ، وعلى ضوء ذلك فيكون المراد من قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (1) هم الكاملين من الأُمّة لا المتوسطين وما دونهم.

وأمّا نسبة الشهادة إلى قاطبة أُمّة النبي ، في قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) فليس بشيء بديع ، إذ ربّما يكون الوصف لبعض الأُمّة وينسب الحكم إلى جميعهم ، كما في قوله سبحانه في حقّ بني إسرائيل : ( وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) على الرغم من أنّ الملوك فيهم لم يكن يتجاوز عددهم عدد الأصابع.

وثمة حديث منقول عن الإمام الصادق علیه السلام في تفسير قوله تعالى : ( لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) يؤيد هذا المعنى « الشهادة للأمثل » : « فإن ظننت أنّ اللّه عني بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين ، أفترى انّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللّه شهادته يوم القيامة ،

ص: 337


1- البقرة : 143.

ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية ؟ كلا : لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه ، يعني الأُمّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) وهم الأُمّة الوسطى ، وهم خير أُمّة أُخرجت للنّاس » (1).

الحلف بالنبي كناية

ربّما يحلف القرآن الكريم بالنبي صلی اللّه علیه و آله كناية ، قال سبحانه : ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) (2).

والحِلُّ بمعنى المقيم وكأنّه سبحانه يقول : وأنت يا محمد مقيم به ، وهو محلك وهذا تنبيه على شرف البلد بشرف من حلّ به وهو الرسول الداعي إلى توحيده ، وإخلاص عبادته ، وبيان أنّ تعظيمه له وقسمه به لأجله ولكونه حالاً فيه ، كما سميت المدينة طيبة لأنّها طابت به حيّاً وميتاً (3).

وكأنّ الآية تشير إلى المثل المعروف شرف المكان بالمكين ، وانّ قداسة مكة والداعي إلى الحلف بها هو احتضانها للنبي يقول العلاّمة الطباطبائي : والحل مصدر كالحلول بمعنى الإفاضة والاستقرار في مكان ، والمصدر بمعنى الفاعل ، والمعنى : أقسم بهذا البلد ، والحال انّك حال به مقيم فيه ، وفي ذلك تنبيه على تشرّف مكة بحلوله فيها وكونها مولده ومقامه (4).

ص: 338


1- الميزان : 1 / 332.
2- البلد : 1 - 4.
3- مجمع البيان : 10 / 492.
4- الميزان : 20 / 289.
الفصل الرابع : القسم بالقرآن الكريم
اشارة

القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الذي أنزله سبحانه على رسوله ليكون للعالمين نذيراً ، وبما أنّ القرآن كتاب هداية للناس ، فقد نال من الكرامة بمكان حلف به سبحانه فتارة بلفظ « القرآن » وأُخرى بلفظ « الكتاب ».

فقد حلف بالقرآن في ثلاث آيات :

( يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1).

( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) (2).

( ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) (3).

ص: 339


1- يس 1 - 4.
2- ص : 1 - 5.
3- ق : 1 - 2.

كما حلف سبحانه بلفظ الكتاب مرّتين ، وقال :

( حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (1).

( حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (2).

وقبل الخوض في تفسير الآيات نذكر أُموراً :

الأوّل : انّه سبحانه صدّر هذه الأقسام بالحروف المقطعة كما هو واضح ، وهذا يؤيد أنّ كلمة يس من الحروف المقطعة ، والحروف المقطعة عبارة عن الحروف التي صدّر بها قسم من السور يجمعها قولنا : « صراط علي حق نمسكه » وعند التحليل يرجع إلى :

ا ، ح ، ر ، س ، ص ، ط ، ع ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، ه ، ي.

والعجب أنّ هذه الحروف هي نصف الحروف الهجائية.

الثاني : ما هو المراد من الحروف المقطعة ؟

افتتح القرآن الكريم قسماً من السور بحروف مقطعة أعني السور التالية :

1. البقرة ، 2. آل عمران ، 3. الأعراف ، 4. يونس ، 5. هود ، 6. يوسف ، 7. الرعد ، 8. إبراهيم ، 9. الحجر ، 10. مريم ، 11. طه ، 12. الشعراء ، 13. النمل ، 14. القصص ، 15. العنكبوت ، 16. الروم ، 17.لقمان ،

ص: 340


1- الدخان : 1 - 5.
2- الزخرف : 1 - 4.

18. السجدة ، 19. يس ، 20. ص ، 21. غافر ، 22. فصلت ، 23. الشورى ، 24. الزخرف ، 25. الدخان ، 26. الجاثية ، 27. الأحقاف ، 28. ق ، 29. القلم.

فهذه السور التي يبلغ عددها 29 سورة افتتحت بالحروف المقطعة.

وقد تطرق المفسرون إلى بيان ما هو المقصود من هذه الحروف. وذكروا وجوهاً كثيرة نقلها فخرالدين الرازي في تفسيره الكبير تربو على عشرين وجهاً (1).

وها نحن نقدم المختار ثمّ نلمح إلى بعض الوجوه.

إلماع إلى مادة القرآن

إنّ القرآن الكريم تحدّى المشركين بفصاحته وبلاغته وعذوبة كلماته ورصانة تعبيره ، وادعى أنّ هذا الكتاب ليس من صنع البشر بل من صنع قدرة إلهية فائقة لا تبلغ إليها قدرة أيِّ إنسان ولو بلغ في مضمار البلاغة والفصاحة ما بلغ.

ثمّ إنّه أخذ يورد في أوائل السور قسماً من الحروف الهجائية للإلماع إلى أنّ هذا الكتاب مؤلف من هذه الحروف ، وهذه الحروف هي التي تلهجون بها صباحاً ومساءً فلو كنتم تزعمون أنّه من صُنْعي فاصنعوا مثله ، لأنّ المواد التي تركب منها القرآن كلّها تحت أيديكم واستعينوا بفصحائكم وبلغائكم ، فإن عجزتم ، فاعلموا أنّه كتاب منزل من قبل اللّه سبحانه على عبد من عباده بشيراً ونذيراً.

وهذا الوجه هو المروي عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام ، وهو خيرة جمع من المحقّقين ، وإليك ما ورد عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام في هذا المقام :

أ : روى الصدوق بسنده عن الإمام العسكري علیه السلام ، انّه قال : « كذبت قريش

ص: 341


1- تفسير الفخر الرازي : 2 / 5 - 8.

واليهود بالقرآن ، وقالوا : هذا سحر مبين ، تقوّله ، فقال اللّه : ( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ) أي يا محمّد هذا الكتاب الذي أنزلته إليك هو الحروف المقطعة التي منها ( الم ) وهو بلغتكم وحروف هجائكم ، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا بذلك بسائر شهدائكم ، ثمّ بيّن أنّهم لا يقدرون عليه بقوله : ( لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (1) » (2).

وبه قال أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني ( 254 - 322 ه ) من كبار المفسرين ، حيث قال : إنّ الذي عندنا أنّه لما كانت حروف المعجم أصل كلام العرب وتحدَّاهم بالقرآن وبسورة من مثله ، أراد أنّ هذا القرآن من جنس هذه الحروف المقطعة تعرفونها وتقتدرون على أمثالها ، فكان عجزكم عن الإتيان بمثل القرآن وسورة من مثله دليلاً على أنّ المنع والتعجيز لكم من اللّه على أمثالها ، وانّه حجّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : وممّا يدل على تأويله أنّ كلّ سورة افتتحت بالحروف التي أنتم تعرفونها ، بعدها إشارة إلى القرآن ، يعني أنّه مؤلف من هذه الحروف التي أنتم تعرفونها وتقدرون عليها ، ثمّ سأل نفسه ، وقال : إن قيل لو كان المراد هذا لكان قد اقتصر اللّه تعالى على ذكر الحروف في سورة واحدة ؟ فقال : عادة العرب التكرار عند إيثار إفهام الذي يخاطبونه (3).

واختاره الزمخشري ( 467 - 538 ه ) في تفسيره ، وقال : واعلم أنّك إذا تأملت ما أورده اللّه عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم : 14 سواه ، وهي : الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء

ص: 342


1- الأسراء : 88.
2- تفسير البرهان : 1 / 54 ، تفسير الآية الثالثة من سورة البقرة برقم 9.
3- تاريخ القرآن للزنجاني : 106.

والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون ، في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم.

ثمّ إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف ، بيان ذلك أنّ فيها من المهموسة نصفها : الصاد والكاف والهاء والسين والحاء.

ومن المهجورة نصفها : الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون.

ومن الشديدة نصفها : الألف والكاف والطاء والقاف.

ومن الرخوة نصفها : اللام والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون.

ومن المطبقة نصفها : الصاد والطاء.

ومن المنفتحة نصفها : الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون.

ومن المستعلية نصفها : القاف والصاد والطاء.

ومن المنخفضة نصفها : الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون.

ومن حروف القلقلة نصفها : القاف والطاء.

ثمّ إذا استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى اللّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها ، فسبحان الذي دقت في كلّ شيء حكمته وقد علمت أنّ معظم الشيء وجلّه ينزل منزلة كله وهو المطابق للطائف

ص: 343

التنزيل.

فكأنّ اللّه عزّ اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إيّاهم (1).

ومن المتأخرين من بيّن هذا الوجه ببيان رائع ألا وهو المحقّق السيد هبة الدين الشهرستاني ( 1301 - 1386 ه ) قال ما هذا نصّه :

إنّ القرآن مجموعة جمل ليست سوى صبابة أحرف عربية من جنس كلمات العرب ومن يسير اعمال البشر وقد فاقت مع ذلك عبقرية ، وكلما كان العمل البشري أيسر صدوراً وأكثر وجوداً ، قلّ النبوغ فيه وصعب افتراض الإعجاز والإعجاب منه ، فإذا الجمل القرآنية ليست سوى الحروف المتداولة بين البشر ، فهي عبارة عن « الم » و « حم عسق » فلماذا صار تأليف جملة أو جمل منه مستحيل الصدور ؟ هذا ونجد القرآن يكرر تحدي العرب وغير العرب بإتيان شيء من مقولة هذا السهل الممتنع كالطاهي يفاخر المتطاهي بأنّه يصنع الحلوى اللذيذة من أشياء مبذولة لدى الجميع كالسمن واللوز ودقيق الرز ، بينما المتطاهي لا يتمكن من ذلك مع استحضاره الأدوات ، وكذلك الكيمياوي الماهر يستحضر المطلوب المستجمع لصفات الكمال ، وغيره يعجز عنه مع حضور جميع الأدوات والأجزاء ، وكذلك القرآن يقرع ويسمع قومه بأنّ أجزاء هذا المستحضر القرآني موفورة لديكم من ح و م و ل و ر و ط و ه وأنتم مع ذلك عاجزون (2).

ويؤيد هذا الرأي أنّ أكثر السور التي صدرت بالحروف المقطعة جاء بعدها ذكر القرآن الكريم بتعابير مختلفة ، ولم يشذَّ عنها إلاّ سور أربع ، هي : مريم

ص: 344


1- الكشاف : 1 / 17 ، ط دار المعرفة.
2- المعجزة الخالدة : 115 - 116.

والعنكبوت والروم والقلم ، ففي غير هذه السور أردف الحروف المقطعة بذكر الكتاب والقرآن ، وإليك نماذج من الآيات :

( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) (1).

( الم ... نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) (2).

( المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ) (3).

( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الحَكِيمِ ) (4).

إلى غير ذلك من السور ما عدا الأربع التي أشرنا إليها.

ثمّ إنّ هذا الوجه هو الوجه العاشر في كلام الرازي ونسبه إلى المبرد ، وإلى جمع عظيم من المحقّقين وقال : إنّ اللّه إنّما ذكرها احتجاجاً على الكفار ، وذلك أنّ الرسول صلی اللّه علیه و آله لما تحدّاهم أن يأتوا بمثل القرآن ، أو بعشر سور ، أو بسورة واحدة ، فعجزوا عنه ، أنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أنّ القرآن ليس إلاّ من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفصاحة ، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن ، فلما عجزتم عنه دلّ ذلك على أنّه من عند اللّه لا من عند البشر (5).

هذا هو الرأي المختار وقد عرفت برهانه.

وثمة رأي آخر أقل صحة من الأوّل ، وحاصله : انّ كلّ واحد منها دال على

ص: 345


1- البقرة : 1 - 2.
2- آل عمران : 1 - 3.
3- الأعراف : 1 - 2.
4- يونس : 1.
5- تفسير الفخر الرازي : 2 / 6.

اسم من أسماء اللّه تعالى وصفة من صفاته.

قال ابن عباس في ( الم ) : الألف إشارة إلى أنّه تعالى أحد ، أوّل ، آخر ، أزلي ، أبدي ، واللام إشارة إلى أنّه لطيف ، والميم إشارة إلى انّه ملك ، مجيد ، منّان.

وقال في ( كهيعص ) : إنّه ثناء من اللّه تعالى على نفسه ، والكاف يدل على كونه كافياً ، والهاء يدل على كونه هادياً ، والعين يدل على العالم ، والصاد يدل على الصادق.

وذكر ابن جرير عن ابن عباس انّه حمل الكاف على الكبير والكريم ، والياء على أنّه يجير ، والعين على العزيز والعدل (1).

ونقل الزنجاني في تأييد ذلك الوجه ما يلي :

وفي الحديث : « شعاركم حم لا ينصرون » ، قال الأزهري : سئل أبو العباس ، عن قوله صلی اللّه علیه و آله : حم لا ينصرون. فقال : معناه واللّه لا ينصرون.

وفي لسان العرب في حديث الجهاد : « إذا بُيّتم فقولوا حاميم لا ينصرون » قال ابن الأثير : معناه اللّهم لا ينصرون (2).

إذا عرفت هذه الأُمور ، فلنرجع إلى تفسير الآيات التي حلف فيها سبحانه بالقرآن والكتاب ، وإليك البيان :

1. ( يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ ) فالمقسم به هو القرآن ، والمقسم عليه قوله : ( إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ ) ، والصلة بين القرآن وبين كونه من المرسلين واضحة ، لأنّ القرآن أداة تبليغه ورسالته ومعجزته الخالدة.

ص: 346


1- تفسير الفخر الرازي : 2 / 6.
2- تاريخ القرآن : 105.

وأمّا وصف القرآن بالحكيم ، فلأنّه مستقرٌ فيه الحكمة ، وهي حقائق المعارف وما يتفرع عليها من الشرائع والعبر والمواعظ. (1)

2. ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) .

وصف القرآن بكونه ( ذِي الذِّكْرِ ) كما وصفه في الآية السابقة بكونه ( حَكِيمًا ) ووصفه تارة ثالثة ب ( المَجِيدُ ) ، والمراد بالذكر هو ذكر ما جُبل عليه الإنسان من التوحيد والمعاد.

قال الطبرسي : فيه ذكر اللّه وتوحيده وأسماؤه الحسنى وصفاته العلى ، وذكر الأنبياء ، وأخبار الأُمم ، وذكر البعث والنشور ، وذكر الأحكام وما يحتاج إليه المكلّف من الأحكام ويؤيده قوله : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (2).

قال الطباطبائى في تفسيره : المراد بالذكر ذكر اللّه تعالى وتوحيده وما يتفرّع عليه من المعارف الحقّة من المعاد والنبوة وغيرهما.

ويؤيد ذلك إضافة الذكر في غير واحد من الآيات إلى لفظ الجلالة ، قال سبحانه : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ ) (3) وقال : ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّهِ ) (4) إلى غير ذلك.

وأمّا المقسم عليه : فمحذوف معلوم من القرينة ، هو أنّك لمن المنذرين ، ويدل على ذلك التنديد بالذين كفروا وانّهم في عزّة وشقاق ، أي في تكبّر عن قبول

ص: 347


1- تفسير الميزان : 17 / 62.
2- مجمع البيان : 8 / 465.
3- الحديد : 16.
4- المجادلة : 19.

الحق وحمية جاهلية ، وشقاق أي عداوة وعصيان ومخالفة ، لأنّهم يأنفون عن متابعة النبي ويصرّون على مخالفته ، ثمّ خوّفهم اللّه سبحانه ، فقال : كم أهلكنا من قبلهم من قرن بتكذيبهم الرسل فنادوا عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة ولات حين مناص.

والصلة بين المقسم به ( الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) والمقسم عليه المقدّر « إِنَّكَ لَمِنَ المُنْذَرين » واضحة ، لأنّ القرآن من أسباب انذاره وأدوات تحذيره.

3. ( ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) . (1)

المقسم به هو القرآن ووصفه بالمجيد ، قال الراغب : المجد السعة في المقام والجلال ، وقد وصف به القرآن الكريم ، فلأجل كثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأُخروية ، فالمجيد مبالغة في المجد.

وقال الطبرسي : المجيد أي الكريم على اللّه ، العظيم في نفسه ، الكثير الخير والنفع (2).

والمقسم عليه : محذوف تدل عليه الجمل التالية ، والتقدير : والقرآن المجيد انّك لمن المنذرين ، أو أنّ البعث حق والإنذار حق.

وقد ركزت السورة على الدعوة إلى المعاد ووبّخت المشركين باستعجالهم على إنكاره ونقد زعمهم.

والصلة بين المقسم به وجواب القسم واضحة ، سواء أقلنا بأنّ المقسم عليه إِنّك مِنَ المنذرين أو انّ البعث والنشر حقّ ، أمّا على الأوّل فلأنّ القرآن أحد

ص: 348


1- ق : 1 - 2.
2- مجمع البيان : 9 / 141.

أدوات الإنذار ، وأمّا على الثاني فلأنَّ القرآن يتضمن شيئاً كثيراً عن الدعوة إلى المعاد.

ثمّ إنّ القرآن في الأصل مصدر نحو رجحان ، قال سبحانه : ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) (1) قال ابن عباس : إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به.

وقد خص بالكتاب المنزل على نبينا محمد صلی اللّه علیه و آله فصار له كالعلم ، كما أنّ التوراة لما أُنزل على موسى علیه السلام ، والإنجيل لما أُنزل على عيسى علیه السلام ، قال بعض العلماء : تسمية هذا الكتاب قرآناً من بين كتب اللّه لكونه جامعاً لثمرة كتبه ، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم ، كما أشار تعالى إليه بقوله : ( وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (2) ، وعلى هذا فالقرآن من قرأ بمعنى جمع ، ولكن يحتمل أن يكون بمعنى القراءة ، كما في قوله سبحانه : ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) (3) أي قراءته.

الحلف بالكتاب

حلف سبحانه بالكتاب مرتين ، وقال :

1. ( حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) (4).

2. ( حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (5).

ص: 349


1- القيامة : 17 - 18.
2- الأنعام : 154.
3- الإسراء : 78.
4- الدخان : 1 - 3.
5- الزخرف : 1 - 3.

فالمقسم به هو الكتاب ، والمقسم عليه في الآية الأُولى قوله : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) ، والصلة بينهما واضحة ، حيث يحلف بالكتاب على أنّه منزل من جانبه سبحانه في ليلة مباركة.

كما أنّ المقسم به في الآية الثانية هو الكتاب المبين ، والمقسم عليه هو الحلف على أنّه سبحانه جعله قرآناً عربياً للتعقل ، والصلة بينهما واضحة.

ووصف الكتاب بالمبين دون غيره ، لأنّ الغاية من نزول الكتاب هو إنذارهم وتعقّلهم كما جاء في الآيتين ، حيث قال : ( إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) وقال : ( لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، وهذا النوع من الغاية أي الإنذار والتعقل يطلب لنفسه أن يكون الكتاب واضحاً مفهوماً لا مجهولاً ومعقداً.

والكتاب في الأصل مصدر ، ثمّ سمّي المكتوب فيه كتاباً.

إلى هنا تمّ الحلف بالقرآن والكتاب.

بقي هنا الكلام في عظمة المقسم به ويكفي في ذلك أنّه فعله سبحانه حيث أنزله لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة.

وقد تكلّم غير واحد من المفكرين الغربيين حول عظمة القرآن ، والأحرى بنا أن نرجع إلى نفس القرآن ونستنطقه حتى يبدي رأيه في حق نفسه.

أ : القرآن نور ينير الطريق لطلاب السعادة : قال سبحانه : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) (1).

ب : انّه هدى للمتَّقين : قال سبحانه : ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) (2).

ص: 350


1- المائدة : 15.
2- البقرة : 2.

فهو وإن كان هدى لعامة الناس ، إلاّ أنّه لا يستفيد منه إلاّ المتقون ، ولذلك خصّهم بالذكر.

ج : هو الهادي إلى الشريعة الأقوم : قال سبحانه : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (1).

د : الغاية من إنزاله قيام الناس بالقسط : قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (2).

ه : لا يتطرق إليه الاختلاف في فصاحته وبلاغته ولا في مضامينه ولا محتواه : قال سبحانه : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) (3).

و : يحث الناس إلى التدبر والتفكّر فيه ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) (4).

ز : تبيان لكلّ شيء : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (5).

ح : نذير للعالمين : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) (6).

ط : فيه أحسن القصص : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) (7).

ص: 351


1- الإسراء : 9.
2- الحديد : 25.
3- النساء : 82.
4- ص : 29.
5- النحل : 89.
6- الفرقان : 1.
7- يوسف : 3.

ي : ضُرب فيه للناس من كلّ مثل : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) (1).

هذه نماذج من الآيات التي تصف القرآن ببعض الأوصاف.

وللنبي والأئمة المعصومين كلمات قيّمة حول التعريف بالقرآن ننقل شذرات منها :

قام النبي صلی اللّه علیه و آله خطيباً ، فقال : « أيّها الناس انّكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان ، كلّ جديد ، ويقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّ موعود ، فأعدوا الجهاز لبعد المجاز ».

فقام المقداد بن الأسود ، وقال : يا رسول اللّه وما دار الهدنة ؟ قال : « دار بلاغ وانقطاع.

فإذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع وما حل مصدَّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ، ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ، ويتخلص من نشب ، فإنّ التفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص » (2).

ص: 352


1- الكهف : 54.
2- الكافي : 2 / 599 ، كتاب فضل القرآن.

وقال الإمام علي أمير المؤمنين علیه السلام في وصف القرآن :

« ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره ، فهو ينابيع العلم وبحوره ، وبحر لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون » (1).

إلى غير ذلك من الخطب والكلم حول التعريف بالقرآن الواردة عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

ص: 353


1- نهج البلاغة ، الخطبة 198.
الفصل الخامس : القسم بالعصر
اشارة

حلف سبحانه بالعصر مرّة واحدة دون أن يقرنه بمقسم به آخر ، وقال : ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) (1).

تفسير الآيات :

العصر يطلق ويراد منه تارة الدهر ، وجمعه عصور.

وأُخرى العشيّ مقابل الغداة ، يقال : العصران : الغداة والعشي ، والعصران الليل والنهار ، كالقمرين للشمس والقمر.

وثالثة بمعنى الضغط فيكون مصدر عصرت. والمعصور الشيء العصر ، والعُصارة نفاية ما يُعصر ، قال سبحانه : ( أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ) (2) ، وقال : ( وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) (3) ، وقال : ( وَأَنزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ) (4) أي السُّحُب التي تعتصر بالمطر.

ورابعة بمعنى ما يثير الغبار ، قال سبحانه : ( فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ ) (5). (6) والمراد من الآية أحد المعنيين الأوّليين.

ص: 354


1- العصر : 1 - 2.
2- يوسف : 36.
3- يوسف : 49.
4- النبأ : 14.
5- البقرة : 266.
6- مفردات القرآن ، مادة عصر ومجمع البيان : 5 / 535.

الأوّل : الدهر والزمان.

الثاني : العصر مقابل الغداة.

ولا يناسب المعنى الثالث ، أعني : الضغط ، ولا الرابع كما هو واضح.

وإليك بيان المعنيين الأوّلين.

1. العصر : الدهر ، وإنّما حلف به لأنّ فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل والنهار ، وقد نسب ذلك القول إلى ابن عباس والكلبي والجبائي.

قال الزمخشري : وأقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب (1).

ولعلّ المراد من الدهر والزمان اللّذين يفسرون بهما العصر هو تاريخ البشرية ، وذلك لأنّه سبحانه جعل المقسم عليه كون الإنسان لفي خسر إلاّ طائفة خاصة ، ومن المعلوم أنّ خسران الإنسان انّه هو من تصرم عمره ومضي حياته من دون أن ينتفع بأغلى رأس مال وقع في يده ، وقد نقل الرازي هنا حكاية طريفة نأتي بنصها :

قال : وعن بعض السلف ، تعلمت معنى السورة من بائع الثلج كان يصيح ، ويقول : ارحموا من يذوب رأس ماله ، ارحموا من يذوب رأس ماله ، فقلت : هذا معنى أنّ الإنسان لفي خسر يمرّ به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب فإذا هو خاسر (2).

2. العصر : أحد طرفي النهار ، وأقسم بالعصر كما أقسم بالضحى ، وقال : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) (3) كما أقسم بالصبح ، وقال : ( وَالصُّبْحِ إِذَا

ص: 355


1- الكشاف : 3 / 357.
2- تفسير الفخر الرازي : 32 / 85.
3- الضحى : 1 - 2.

أَسْفَرَ ) (1) ، وإنّما أقسم بالعصر لأهميته ، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة وحياة البشر ، فالأعمال اليومية تنتهي ، والطيور تعود إلى أوكارها ، وتبدأ الشمس بالميل نحو الغروب ، ويستولي الظلام على السماء ، ويخلد الإنسان إلى الراحة.

وهناك قولان آخران :

أ : المراد عصر الرسول ، ذلك لما تضمنته الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإنساني ، إلاّ لمن اتبع الحقّ وصبر عليه ، وهم المؤمنون الصالحون عملاً ، وهذا يؤكد على أن يكون المراد من العصر عصر النبي صلی اللّه علیه و آله ، وهو عصر بزوغ نجم الإسلام في المجتمع البشري وظهور الحقّ على الباطل.

ب : المراد به وقت العصر ، وهو المروي عن مقاتل ، وإنّما أقسم بها ، لفضلها بدليل ، قوله : ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ) (2) كما قيل أنّ المراد من قوله تعالى : ( تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ ) (3) هو صلاة العصر.

أضف إلى ذلك انّ صلاة العصر يحصل بها ختم طاعات النهار ، فهي كالتوبة يختم بها الأعمال.

ولا يخفى انّ القول الأخير في غاية الضعف ، إذ لا صلة بين القسم بصلاة العصر والمقسم عليه ، أعني ( الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) على أنّه لو كان المقسم به هو صلاة العصر ، لماذا اكتفى بالمضاف إليه ، وحذف المضاف مع عدم توفر قرينة عليه ، ومنه يظهر حال الوجه المتقدّم عليه.

ص: 356


1- المدثر : 34.
2- البقرة : 238.
3- المائدة : 106.

والظاهر أنّ الوجه الأوّل هو الأقوى ، حيث إنّ الحلف بالزمان وتاريخ البشرية يتناسب مع الجواب ، أي خسران الإنسان في الحياة ، كما سيوافيك بيانه.

وأمّا المقسم عليه ، فهو قوله سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) والمراد من الخسران هو مضي أثمن شيء لديه وهو عمره ، فالإنسان في كلّ لحظة يفقد رأس ماله بنحو لا يُعوَّض بشيء أبداً ، وهذه هي سنة الحياة الدنيوية حيث ينصرم عمره ووجوده بالتدريج ، كما تنصرم طاقاته إلى أن يهرم ويموت ، فأي خسران أعظم من ذلك.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فأوضح من أن يخفى ، لأنّ حقيقة الزمان حقيقة متصرّمة غير قارة ، فهي تنقضي شيئاً فشيئاً ، وهكذا الحال في عمر الإنسان فيخسر وينقص رأس ماله بالتدريج.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى من الخسران من آمن وعمل صالحاً وتواصى بالحق وتواصى بالصبر.

ووجه الاستثناء واضح. لأنّه بدّل رأس ماله بشيء أغلى وأثمن ، يستطيع أن يقوم مقام عمره المنقضي فهو بإيمانه وعمله الصالح اشترى حياة دائمة ، حافلة برضوانه سبحانه ، ونعمه المادية والمعنوية.

يقول سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1).

ص: 357


1- التوبة : 111.
الفصل السادس : القسم بالنجم

وردت كلمة النجم في القرآن الكريم أربع مرّات في أربع سور ، (1) وحلف به مرة واحدة ، وقال : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (2) هي من السور المكية. تفسير الآيات

النجم في اللغة : الكوكب الطالع ، وجمعه نجوم ، فالنجوم مرّة اسم كالقلوب والجيوب ، ومرّة مصدر كالطلوع والغروب.

وأمّا « هوى » في قوله : ( إِذَا هَوَى ) فيطلق تارة على ميل النفس إلى الشهوة ، وأُخرى على السقوط من علو إلى سفل.

ولكن تفسيره بسقوط النجم وغروبه ، لا يساعده اللفظ ، وإنّما المراد هو ميله ، وسيوافيك وجه الحلف بالنجم إذا هوى أي إذا مالَ.

ثمّ إنّ المراد من النجم أحد الأمرين :

أ : أمّا مطلق النجم ، فيشمل كافة النجوم التي هي من آيات عظمة اللّه سبحانه ولها أسرار ورموز يعجز الذهن البشري عن الإحاطة بها.

ص: 358


1- وهي : النحل : 16 ، النجم : 1 ، الرحمن : 6 ، الطارق : 3.
2- النجم : 1 - 4.

ب : المراد هو نجم الشعرى الذي جاء في نفس السورة ، قال سبحانه : ( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ) (1).

ونظيره القول بأنّ المراد هو الثريا ، وهي مجموعة من سبعة نجوم ، ستة منها واضحة وواحد خافت النور ، وبه يختبر قوة البصر.

وربما فسر بالقرآن الذي نزل على قلب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله طيلة 23 سنة لنزوله نجوماً (2). لكن لفظ الآية لا يساعد على هذا المعنى.

فاللّه سبحانه إمّا أن يحلف بعامة النجوم أو بنجم خاص يهتدي به السائر ، ويدل على ذلك أنّه قيد القسم بوقت هويه ، ولعل الوجه هو أنّ النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرض لا يهتدي به الساري ، لأنّه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال ، تبيّن بزواله جانب المغرب من المشرق (3).

وأمّا المقسم عليه : فهو قوله سبحانه : ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) .

جمع سبحانه هناك بين الضلال والغي فنفاهما عن النبي صلی اللّه علیه و آله ، والقرآن يستعمل الضلالة في مقابل الهدى ، يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (4).

كما يستعمل الغي في مقابل الرشد ، يقول سبحانه : ( وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ

ص: 359


1- النجم : 49.
2- انظر الميزان : 19 / 27 مجمع البيان : 5 / 172.
3- تفسير الفخر الرازي : 28 / 279.
4- المائدة : 105.

لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ) (1).

والمهم بيان الفرق بين الضلالة والغواية ، فنقول :

ذكر الرازي أنّ الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً ، والغواية أن لا يكون له طريق مستقيم إلى المقصد ، يدلّك على هذا انّك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السداد ، انّه سفيه غير رشيد ، ولا تقول إنّه ضال. والضال كالكافر والغاوي كالفاسق (2).

وإلى ذلك يرجع ما يقول الراغب : الغيّ جهل من اعتقاد فاسد ، وذلك أنّ الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقاداً لا صالحاً ولا فاسداً ، وقد يكون من اعتقاد شيء ، وهذا النحو الثاني ، يقال له : غيّ (3).

وعلى هذا فالآية بصدد بيان نفي الضلالة والغي عن النبي صلی اللّه علیه و آله وردّ كلّ نوع من أنواع الانحراف والجهل والضلال والخطأ عنه صلی اللّه علیه و آله ليردّ به التهم الموجهة إليه من جانب أعدائه.

وأمّا بيان الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فواضح ، لما ذكرنا من أنّ النجم عند الهوي والميل يهتدي به الساري كما أنّ النبي يهتدي به الناس ، أي بقوله وفعله وتقريره.

فكما أنّه لا خطأ في هداية النجم لأنّها هداية تكوينية ، وهكذا لا خطأ في هداية الوحي الموحى إليه ، ولذلك قال : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) .

ص: 360


1- الأعراف : 146.
2- تفسير الفخر الرازي : 28 / 280.
3- مفردات الراغب : 369.
الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم
اشارة

حلف سبحانه وتعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم ، وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ ) (1).

تفسير الآيات

المراد من مواقع النجوم مساقطها حيث تغيب.

قال الراغب : الوقوع ثبوت الشيء وسقوطه ، يقال : وقع الطائر وقوعاً ، وعلى ذلك يراد منه مطالعها ومغاربها ، يقال : مواقع الغيث أي مساقطه (2).

ويدل على أنّ المراد هو مطالع النجوم ومغاربها أنّ اللّه سبحانه يقسم بالنجوم وطلوعها وجريها وغروبها ، إذ فيها وفي حالاتها الثلاث آية وعبرة ودلالة ، كما في قوله تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ * الجَوَارِ الْكُنَّسِ ) (3) وقال : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ ) ويرجح هذا القول أيضاً ، انّ النجوم حيث وقعت في القرآن فالمراد منها الكواكب ، كقوله تعالى : ( وَإِدْبَارَ

ص: 361


1- الواقعة : 75 - 79.
2- مفردات الراغب : 530 ، مادة وقع.
3- التكوير : 15 - 16.

النُّجُومِ ) (1) ، وقوله : ( وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ (2) ) .

وأمّا المقسم عليه : فهو قوله سبحانه : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ ) وصف القرآن بصفات أربع :

أ : ( لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) ، والكريم هو البهي الكثير الخير ، العظيم النفع ، وهو من كلّ شيء أحسنه وأفضله ، فاللّه سبحانه كريم ، وفعله أعني القرآن مثله.

وقال الأزهري : الكريم اسم جامع لما يحمد ، فاللّه كريم يحمد فعاله ، والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة.

ب : ( فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ) ولعل المراد منه هو اللوح المحفوظ ، بشهادة قوله : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) (3). ويحتمل أن يكون المراد الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، قال سبحانه : ( فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) (4).

ج : ( لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ ) فلو رجع الضمير إلى قوله : ( لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) ، كما هو المتبادر ، لأنّ الآيات بصدد وصفه وبيان منزلته فلا يمس المصحف إلاّ طاهر ، فيكون الإخبار بمعنى الإنشاء ، كما في قوله سبحانه : ( وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (5).

ولو قيل برجوع الضمير إلى ( كتاب مكنون ) فيكون المعنى لا يمس

ص: 362


1- الطور : 49.
2- الحج : 18.
3- البروج : 21 - 22.
4- عبس : 13 - 16.
5- البقرة : 228.

الكتاب المكنون إلاّ المطهرون ، وربما يؤيد هذا الوجه بأنّ الآية سيقت تنزيهاً للقرآن من أن ينزل به الشياطين ، وانّ محله لا يصل إليه ، فلا يمسه إلاّ المطهرون ، فيستحيل على أخابث خلق اللّه وأنجسهم أن يصلوا إليه أو يمسّوه ، قال تعالى : ( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) (1).

د : ( تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) وهذا هو الذي يركز عليه القرآن في مواقف مختلفة ، وانّه كتاب اللّه وليس من صنع البشر.

وأمّا الصلة بين القسم والمقسم به : فهو واضح ، فلأنّ النجوم بمواقعها أي طلوعها وغروبها يهتدي بها البشر في ظلمات البر والبحر ، والقرآن الكريم كذلك يهتدي به الإنسان في ظلمات الجهل والغي ، فالنجوم مصابيح حسّية في عالم المادة كما أنّ آيات القرآن مصابيح معنوية في عالم المجردات.

إكمال

إنّه سبحانه قال : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ) فالمراد منه القسم بلا شك ، بشهادة انّه قال بعده : ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) فلو كان معنى الآية هو نفي القسم فلا يناسب ما بعده حيث يصفه بأنّه حلف عظيم ، وقد اختلف المفسرون في هذه الآيات ونظائرها ، إلى أقوال :

1. « لا » زائدة ، مثلها قوله سبحانه : ( لِّئَلاَّ يَعْلَمَ ) .

2. أصلها لأقسم بلام التأكيد ، فلمّا أشبعت فتحتها صارت « لا » كما في الوقف.

3. لا نافية بمعنى نفي المعنى الموجود في ذهن المخاطب ، ثمّ الابتداء .

ص: 363


1- الشعراء : 210 - 211.

بالقسم ، كما نقول : لا واللّه لا صحة لقول الكفار ، أقسم عليه.

ثمّ إنّه سبحانه يصف هذا القسم بكونه عظيماً ، كما في قوله ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) ، فقوله : ( عَظِيمٌ ) وصف ( القسم ) أُخر لحفظ فواصل الآيات.

وهذا القسم هو القسم الوحيد الذي وصفه سبحانه بأنّه عظيم ، فالحديث هنا هو حديث على الأبعاد ، أبعاد النجوم عنّا ، وعن بعضها البعض ، في مجرّتنا ، وفي كل المجرّات ، ولأنّها كلّها تتحرك ، فانّ الحديث عن مواقعها يصير أيضاً حديثاً على مداراتها ، وحركاتها الأُخرى العديدة ، وسرعاتها ، وعلى علاقاتها بالنجوم الأُخرى ، وعلى القوى العظيمة والحسابات المعقدة ، التي وضعت كلّ نجم في موقعه الخاص به وحفظته ، في علاقات متوازنة ، دقيقة ، محكمة ، فهي لا يعتريها الاضطراب ، ولا تتغير سننها وقوانينها ، وهي لا تسير خبط عشواء أو في مسارات متقاطعة أو متعارضة بل هي تسير كلّها بتساوق وتناغم وانسجام وانتظام تامّين دائمين ، آيات على قدرة القادر سبحانه (1).

يقول الفلكيون : إنّ من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم ، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة ، وما لا يرى إلاّ بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه ، هذه كلّها تسبح في الفلك الغامض ، ولا يوجد أيّ احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر ، أو يصطدم كوكب بآخر إلاّ كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد وبعيداً جداً ، إن لم يكن مستحيلاً (2).

ص: 364


1- أسرار الكون في القرآن : 192.
2- اللّه والعلم الحديث : 24.
الفصل الثامن : القسم بالسماء ذات الحبك
اشارة

حلف سبحانه في سورة الذاريات بأُمور خمسة ، وجعل للأربعة الأُوَل جواباً خاصّاً ، كما جعل للخامس من الأقسام جواباً آخر ، وبما انّ المقسم عليه متعدّد فصّلنا القسم الخامس عن الأقسام الأربعة ، وعقدنا له فصلاً في ضمن فصول القسم المفرد ، قال سبحانه :

( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) (1).

ترى أنّه ذكر للأقسام الأربعة جواباً خاصاً ، أعني قوله : ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) .

ثمّ شرع بحلف آخر ، وقال : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ) (2).

فهناك قسم خامس وهو ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ ) وله جواب خاص لا يمت بجواب الأقسام الأربعة وهو قوله : ( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ) .

ص: 365


1- الذاريات : 1 - 6.
2- الذاريات : 7 - 8.
تفسير الآيات

الحبك جمع الحباك ، كالكتب جمع كتاب ، تستعمل تارة في الطرائق ، كالطرائق التي ترى في السماء ، وأُخرى في الشعر المجعد ، وثالثة في حسن أثر الصنعة في الشيء واستوائه.

قال الراغب : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ ) أي ذات الطرائق ، فمن الناس من تصور منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرة.

ولعلّ المراد منه هو المعنى الأوّل أي السماء ذات الطرائق المختلفة ، ويؤيده جواب القسم ، وهو اختلاف الناس وتشتت طرائقهم ، كما في قوله : ( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ) ، وربما يحتمل أنّ المراد هو المعنى الثالث أي أقسم بالسماء ذات الحسن والزينة ، نظير قوله تعالى : ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ) (1) ولكنه لا يناسبه الجواب ، إذ لا يصحّ أن يحلف حالف بالأمواج الجميلة التي ترتسم بالسحب أو بالمجرّات العظيمة التي تبدو كأنّها تجاعيد الشعر على صفحة السماء ، ثمّ يقول : ( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ) ، أي إنّكم متناقضون في الكلام.

وعلى كلّ حال فالمقسم عليه هو التركيز على أنّهم متناقضون في الكلام ، فتارة ينسبون عقائدهم إلى آبائهم وأسلافهم فينكرون المعاد ، وأُخرى يستبعدون إحياء الموتى بعد صيرورتها عظاماً رميمة ، وثالثة يرفضون القرآن والدعوة النبوية ويصفونه بأنّه قول شاعر ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو مما علّمه بشر ، أو هي من أساطير الأوّلين.

وهذا الاختلاف دليل على بطلان ادّعائكم إذ لا تعتمدون على دليل خاص ،

ص: 366


1- الصافات : 6.

فانّ تناقض المدعي في كلامه أقوى دليل على بطلانه ونفاقه.

ثمّ إنّه سبحانه يقول : إنّ الإعراض عن الإيمان بالمعاد ليس أمراً مختصاً بشخص أو بطائفة ، بل هو شيمة كل مخالف للحق ، يقول : ( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) (1).

والافك : الصرف ، والضمير في « عنه » يرجع إلى الكتاب من حيث اشتماله على وعد البأس والجزاء أي يصرف عن القرآن من صرف وخالف الحق.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه : فقد ظهر مما ذكرنا ، لما عرفت من أنّ معنى الحبك هو الطرائق المختلفة المتنوعة ، فناسب أن يحلف به سبحانه على اختلافهم وتشتت آرائهم في إنكارهم نبوّة النبي ورسالته والكتاب الذي أنزل معه والمعاد الذي يدعو إليه.

ص: 367


1- الذاريات : 9.

القسم الثاني : القسم المتعدّد

اشارة

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القسم في سورة الصافات
اشارة

حلف سبحانه بالملائكة في السور الأربع التالية :

1. الصافات ، 2. الذاريات ، 3. المرسلات ، 4. النازعات.

وليس المقسم به هو لفظ الملك أو الملائكة ، وإنّما هو الصفات البارزة للملائكة وأفعالها ، وإليك الآيات :

1. ( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) (1).

2. ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) (2).

3. ( وَالمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ) (3).

ص: 368


1- الصافات : 1 - 4.
2- الذاريات : 1 - 6.
3- المرسلات : 1 - 7.

4. ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) (1).

وها نحن نبحث عن أقسام سورة الصافات والذاريات في فصلين متتالين ونحيل بحث أقسام سورة المرسلات والنازعات إلى محلها حسب ترتيب السور.

وقبل الخوض في تفسير الآيات نقدم شيئاً من التوحيد في التدبير :

إنّ من مراتب التوحيد في الربوبية والتدبير ، بمعنى أنّه ليس للعالم مدبّر سواه ، يقول سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (2).

فصدر الآية يركّز على حصر الخالق في اللّه ، كما يركز على أنّه هو المدبّر ، وانّه لو كان هناك سبب في العالم « شفيع » فإنّما هو يؤثر بإذنه سبحانه ، فاللّه هو الخالق وهو المدبّر ، قال سبحانه : ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (3).

ويظهر من الآيات الكريمة أنّ العرب في العصر الجاهلي كانوا موحّدين في الخالقية ولكن مشركين في الربوبية والتدبير ، وكانوا ينسبون التدبير إلى الآلهة المكذوبة ، ولذلك قرر سبحانه في الآيتين كلتا المرتبتين من التوحيد ، وانّه خالق ، وانّه مدبر ، غير أنّ معنى التدبير في التوحيد ليس عزل العلل والأسباب المادية

ص: 369


1- النازعات : 1 - 7.
2- يونس : 3.
3- الرعد : 2.

والمجردة في تحقّق العالم وتدبيره ، بل المراد انّ للكون مدبراً قائماً بالذات متصرفاً كذلك لا يشاركه في التدبير شيء ، ولو كان هناك مدبر وحافظ فإنّما هو يدبر بأمره وإذنه ، فعندما يُحصر القرآن الكريم التدبير في اللّه يريد التدبير على وجه الاستقلال ، أي من يدبّر بنفسه غير معتمد على شيء ، وأمّا المثبت لتدبير غيره ، فالمراد منه أنّه يدبّر بأمره وإذنه وحوله وقوته على النحو التبعي ، فكلّ مدبِّر في الكون فهو مَظْهر أمره ومُنفِّذ إرادته ، وقد أوضحنا ذلك في الجزء الأوّل من مفاهيم القرآن.

ويظهر من غير واحد من الآيات أنّ الملائكة من جنوده سبحانه وانّها وسائط بين الخالق والعالم ، وانّهم يقومون ببعض الأعمال في الكون بأمر من اللّه سبحانه ، وستتضح لك أعمالهم في إدارة الكون في تفسير هذه الآية.

إنّ للعلاّمة الطباطبائي كلاماً في كون الملائكة وسائط بينه سبحانه وبين الأشياء ، حيث يقول : الملائكة وسائط بينه تعالى وبين الأشياء بدءاً وعوداً ، على ما يعطيه القرآن الكريم ، بمعنى انّهم أسباب للحوادث فوق المادية في العالم المشهود قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده.

أمّا في العود ، أعني : حال ظهور آيات الموت ، وقبض الروح ، وإجراء السؤال ، وثواب القبر وعذابه ، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك ، والحشر وإعطاء الكتاب ، ووضع الموازين ، والحساب ، والسوق إلى الجنة والنار ، فوساطتهم فيها غني عن البيان ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ، والأخبار المأثورة فيها عن النبي صلی اللّه علیه و آله وأئمّة أهل البيت علیهم السلام فوق حد الإحصاء.

وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ودفع الشياطين عن

ص: 370

المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد المؤمنين وتطهيرهم بالاستغفار.

وأمّا وساطتهم في تدبير الأُمور في هذه النشأة فيدل عليها ما في مفتتح هذه السورة من إطلاق قوله : ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) (1).

الصافات والقسم بالملائكة

لقد حلف سبحانه بوصف من أوصاف الملائكة ، وقال :

أ : ( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) .

ب : ( فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ) .

ج : ( فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) (2).

وكل هذه الثلاثة مقسم به ، والمقسم عليه هو قوله : ( إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) وإليك تفسير المقسم به فيها.

فالصافات : جمع صافّة : وهي من الصف بمعنى جعل الشيء على خط مستو ، يقول سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ) (3) والزاجرات من الزجر ، بمعنى الصرف عن الشيء بالتخفيف والنهي ، والتاليات من التلاوة ، وهي جمع تال أو تالية ، غير أنّ المهم بيان ما هو المقصود من هذه العناوين ، ولعل الرجوع إلى القرآن الكريم يزيح الغموض عن كثير منها.

يقول سبحانه : حاكياً عن الملائكة : ( وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ

ص: 371


1- الميزان : 20 / 182 - 183.
2- الصافات : 1 - 4.
3- الصف : 4.

الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ ) (1) فينطبق على الملائكة أنّهم الصافّون حول العرش ينتظرون الأمر والنهي من قبل اللّه تعالى.

نعم وصف سبحانه الطير بالصافات ، وقال : ( وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (2).

وقال : ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ) (3) كما أمر سبحانه على أن ينحر البدن وهي صواف ، قال سبحانه : ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ) (4).

والمعنى : ان تعقل إحدى يديها وتقوم على ثلاث فتنحر كذلك فيسوي بين أظلفتها لئلاّ يتقدم بعضها على بعض.

وعلى كلّ تقدير فمن المحتمل أن يكون المحلوف به هو الملائكة صافات ، ويمكن أن يكون المحلوف به كلّ ما أطلق عليه القرآن ذلك الاسم ، وإن كان الوجه الأوّل هو الأقرب.

وأمّا الثانية : أي الزاجرات : فليس في القرآن ما يدل على المقصود به ، فلا محيص من القول بأنّ المراد الجماعة الذين يزجرون عن معاصي اللّه ، ويحتمل أن ينطبق على الملائكة حيث يزجرون العباد عن المعاصي بالإلهام إلى قلوب الناس ، قال سبحانه : ( وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) (5) كما أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم

ص: 372


1- الصافات : 164 - 166.
2- النور : 41.
3- الملك : 19.
4- الحج : 36.
5- البقرة : 102.

بالدعوة إلى المعاصي ، قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) (1).

والتاليات : هن اللواتي يتلون الوحي على النبي الموحى إليه.

فالمراد من الجميع الملائكة ، وثمة احتمال آخر وهو انّ المراد من الصفات الثلاث هم العلماء ، فانّهم هم الجماعة الصافة أقدامها بالتهجد وسائر الصلوات ، وهم الجماعة الزاجرة بالمواعظ والنصائح ، كما أنّهم الجماعة التالية لآيات اللّه والدارسة شرائعه.

كما أنّ ثمة احتمالاً ثالثاً وهو : انّ المراد هم الغزاة في سبيل اللّه الذين يصفّون أقدامهم ، ويزجرون الخيل إلى الجهاد ، ويتلون الذكر ، ومع ذلك لا يشغلهم تلك الشواغل عن الجهاد.

وأمّا المقسم عليه : فهو قوله سبحانه : ( إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) .

والصلة بين المقسم به والمقسم عليه : هو أنّ الملائكة أو العلماء أو المجاهدين الذين وصفوا بصفات ثلاث هم دعاة التوحيد وروّاده وأبرز مصاديق من دعا إلى التوحيد على وجه الإطلاق وفي العبادة خاصة.

ص: 373


1- الأنعام : 112.
الفصل الثاني : القسم في سورة الذاريات

لقد حلف سبحانه بأُمور أربعة متتابعة وقال :

( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) .

( فَالحَامِلاتِ وِقْرًا ) .

( فَالجَارِيَاتِ يُسْرًا ) .

( فَالمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) (1).

ثمّ حلف بخامس فرداً أي قوله : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ ) .

أمّا الأوّل أعني : ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) فهي جمع ذارية ، ومعناها الريح التي تُنشر شيئاً في الفضاء ، يقول سبحانه : ( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ) (2). ولعلّ هذه قرينة على أنّ المراد من الذاريات هي الرياح.

وأمّا الحاملات ، فهي ، من الحمل ، والوقر - على زنة الفكر - ذو الوزن الثقيل.

والمراد منه السحب ، يقول سبحانه : ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) (3) وقال سبحانه : ( حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ

ص: 374


1- الذاريات : 1 - 6.
2- الكهف : 45.
3- الرعد : 12.

لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ ) (1).

وأمّا الجاريات ، فهي جمع جارية ، والمراد بها السفن ، بشهادة قوله سبحانه : ( حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) (2) وقال : ( وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ) (3) وقال سبحانه : ( إِنَّا لَمَّا طَغَى المَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ ) (4).

وأمّا المقسِّمات ، فالمراد الملائكة التي تقسم الأرزاق بواسطتها التي ينتهي إليه التقسيم.

يقول العلاّمة الطباطبائي : وإقسام بالملائكة الذين يعملون بأمره فيقسمونه باختلاف مقاماتهم ، فانّ أمر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد ، فإذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الأمر وتقسم بتقسمهم ، ثمّ إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الأُولى تقسم ثانياً بتقسمهم وهكذا ، حتى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونية الجزئية فينقسم بانقسامها ويتكثر بتكثرها.

والآيات الأربع تشير إلى عامة التدبير حيث ذكرت انموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البر وهو الذاريات ذرواً ، وانموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البحر وهو الجاريات يسراً ، وانموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في الجو وهو الحاملات وقراً ، وتمم الجميع بالملائكة الذين هم وسائط التدبير ، وهم المقسِّمات أمراً.

فالآيات في معنى أن يقال : أُقسم بعامة الأسباب التي يتمم بها أمر التدبير

ص: 375


1- الأعراف : 57.
2- يونس : 22.
3- البقرة : 164.
4- الحاقة : 11.

في العالم ان كذا كذا ، وقد ورد من طرق الخاصة والعامة عن علي علیه السلام تفسير الآيات الأربع (1).

وبذلك يعلم قيمة ما روي عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في تفسير الآية عندما سأله ابن الكوا عن هذه الأقسام الأربعة - وهو يخطب على المنبر - فقال :

قال : ما الذاريات ذرواً ؟ قال علیه السلام : الرياح.

قال : فالحاملات وقراً ؟ قال علیه السلام : السحاب.

قال : فالجاريات يسراً ؟ قال : السفن.

قال : فالمقسِّمات أمراً ؟ قال : الملائكة.

ثمّ إنّه سبحانه حلف بالذاريات بواو القسم ، وحلف بالثلاثة بعطفها على الذاريات بالفاء فيحمل المعطوف معنى القسم أيضاً.

هذا كلّه حول المقسم به.

وأمّا المقسم عليه : هو قوله : ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) أي إنّما توعدون من الثواب والعقاب والجنة والنار لصادق ، أي صدق لابدّ من كونه فهو اسم الفاعل ، موضع المصدر ، وانّ الدين أي الجزاء لواقع والحساب لكائن يوم القيامة.

وعلى ذلك ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ) جواب القسم ، وقوله : ( وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) معطوف عليه بمنزلة التفسير ، والمعنى أقسم بكذا وكذا ، انّ الذي توعدونه من يوم البعث وانّ اللّه سيجزيهم فيه بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر لصادق وانّ الجزاء لواقع (2).

ص: 376


1- الميزان : 18 / 365.
2- الميزان : 18 / 366.

وأمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه هو انّه سبحانه أقسم بعامة الأسباب التي يتم بها أمر التدبير في العالم ، لغاية أنّ هذا التدبير ليس سدى وبلا غاية ، والغاية هي يوم الدين والجزاء وعود الإنسان إلى المعاد ، إذ لولا الغاية لأصبح تدبير الأمر في البر والبحر والجو وتدبير الملائكة شيئاً عبثاً بلا غاية ، فهو سبحانه يحاول أن يبين أنّ ما يقوم به من أمر التدبير لغاية البعث وانتقال الإنسان من هذه الدار إلى دار أُخرى هو أكمل.

وفي ختام البحث نود أن ننقل شيئاً عن عظمة الرياح والسحاب والتي كشف عنها العلم الحديث.

فالرياح هي حركة الهواء الموجود في الطبقات السفلى من الجو ، إذا سارت متوازية مع سطح الأرض ، وتختلف سرعة الرياح حتى تصل إلى مائة كيلومتر في الساعة فتسمى زوبعة ، وإذا زادت على مائة سمّيت إعصاراً ، وقد تصل سرعة الأعصار إلى 240 كيلومتراً في الساعة ، والرياح هي العامل المهم في نقل بخار الماء وتوزيعه ، ومن تكاثف هذا البخار في الهواء بالتبريد ، بعد أن تصل حالته إلى ما فوق التشبع تتكون السحب. ويختلف ارتفاع السحب على حسب نوعها ، فمنها ما يكون على سطح الأرض كالضباب ، ومنها ما يكون ارتفاعه بعيداً إلى أكثر من 12 كيلومتراً. كسحاب السيرس الرقيق.

وعندما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلومتراً في الساعة ، لا يمكن نزول قطرات المطر المتكون ، وذلك بالنسبة لمقاومة هذا الريح لها ، ورفعها معه إلى أعلى ، حيث ينمو حجمها ، ويزداد قطرها. ومتى بلغت أقطار النقط نصف سنتيمتر ، تتناثر إلى نقط صغيرة لا تلبث أن تكبر بدورها ، ثمّ تتجزأ بالطريقة السابقة وهكذا ... وكلما تناثرت هذه النقط ، تشحن بالكهرباء الموجبة وتنفصل

ص: 377

الكهرباء السالبة التي تحمل الرياح ... وبعد مدة تصير السحب مشحونة شحناً وافراً بالكهرباء. فعندما تقترب الشحنتان بعضهما من بعض بواسطة الرياح كذلك يتم التفريغ الكهربائي وذلك بمرور شرارة بينهما ، ويستغرق وميض البرق لحظة قصيرة وبعده يسمع الرعد ، وهو عبارة عن الموجات الصوتية التي يحدثها الهواء ، وما هي إلاّبرهة حتى تخيّم على السماء سحابة المطر القاتمة اللون ، ثمّ تظهر نقط كبيرة من الماء تسقط على الأرض ، وفجأة يشتد المطر ويستمر حتى تأخذ الأرض ما قدر اللّه لها من الماء (1).

ص: 378


1- اللّه والعلم الحديث : 135 - 136.
الفصل الثالث : القسم في سورة الطور
اشارة

حلف سبحانه في سورة الطور بأُمور ستة ، وقال :

( وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ * وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ) (1).

تفسير الآيات

الطور : اسم جبل خاص ، بل اسم لكلّ جبل ، ولو قلنا بصحّة الإطلاق الثاني ، فالمراد الجبل المخصوص بهذه التسمية لا كلّ جبل بشهادة كونه مقروناً بالألف واللام.

ومسطور : من السطر وهو الصف من الكتابة ، يقال : سطَّر فلان كذا ، أي كتب سطراً سطراً.

والظاهر انّ المراد من « مسطور » هنا هو المثبّت بالكتابة ، قال سبحانه ( كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) ( أي مثبّتاً ومحفوظاً ).

ورقّ : ما يكتب فيه شبه الكاغذ.

ص: 379


1- الطور : 1 - 8.

ومنشور : من النشر ، وهو البسط والتفريق ، يقال : نشر الثوب والصحيفة وبسطهما ، يقال : ( وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ) وقال سبحانه : ( وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) .

والمسجور : من السجر وهي تهييج النار ، يقال : سجرت التنور ، ومنه البحر المسجور ، وقوله : ( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) وربما يفسر المسجور بالمملوء.

والمراد من الطور - كما تشهد به القرائن - : هو الجبل المعروف الذي كلّم اللّه فيه موسى علیه السلام ، ولعلّه هو جبل طور سينين ، قال سبحانه : ( وَطُورِ سِينِينَ ) (1).

وقال سبحانه : ( وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ ) (2) وقال في خطابه لموسى علیه السلام : ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) (3).

وقال سبحانه : ( نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ) (4). وهذه الآيات تثبت انّ المقسم به جبل معين ، ومع الوصف يحتمل أن يراد مطلق الجبل لما اودع فيه من أنواع نعمه ، قال تعالى : ( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا ) (5).

والمراد من كتاب مسطور : هو القرآن الكريم الذي كان يكتب في الورق المأخوذ من الجلد.

وأمّا وصفه بكونه منشوراً مع أنّ عظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطه وورقه ، هو الإشارة إلى الوضوح ، لأنّ الكتاب المطوي لا يعلم ما فيه ، فقال هو في

ص: 380


1- التين : 2.
2- مريم : 52.
3- طه : 12.
4- القصص : 30.
5- فصلت : 10.

رق منشور وليس كالكتب المطوية ، ومع ذلك يحتمل أن يراد منه صحائف الأعمال ، وقد وصفه سبحانه بكونه منشوراً ، وقال : ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ) (1) كما يحتمل أن يراد منه اللوح المحفوظ الذي كتب اللّه فيه ما كان وما يكون وما هو كائن تقرأه ملائكة السماء.

وهناك احتمال رابع ، وهو انّ المراد هو التوراة ، وكانت تكتب بالرق وتنشر للقراءة ، ويؤيده اقترانه بالحلف بالطور.

وامّا البيت المعمور : فيحتمل أن يراد منه الكعبة المشرفة ، فانّها أوّل بيت وضع للناس ، ولم يزل معموراً منذ أن وضع إلى يومنا هذا ، قال تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) (2).

ولعل وصفه بالعمارة لكونه معموراً بالحجاج الطائفين به والعاكفين حوله.

وقد فسر في الروايات ببيت في السماء إزاء الكعبة تزوره الملائكة ، فوصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به.

والسقف المرفوع : والمراد منه هو السماء ، قال سبحانه : ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ ) (3).

وقال : ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) (4).

قال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) (5) ، ولعلّ المراد هو البحر المحيط بالأرض الذي سيلتهب قبل يوم

ص: 381


1- الإسراء : 13.
2- آل عمران : 96.
3- الرحمن : 7.
4- الرعد : 2.
5- الأنبياء : 32.

القيامة ثمّ ينفجر ، قال سبحانه : ( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) (1) ، وقال تعالى : ( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) (2).

ثمّ إنّ هذه الأقسام الثلاثة الأُولى يجمعها شيء واحد وهو صلتها بالوحي وخصوصياته ، حيث إنّ الطور هو محل نزول الوحي ، والكتاب المسطور هو القرآن أو التوراة ، والبيت المعمور هو الكعبة أو البيت الذي يطوف به الملائكة الذين هم رسل اللّه.

وأمّا الاثنان الآخران ، أعني : السقف المرفوع والبحر المسجور ، فهما من الآيات الكونية ومن دلائل توحيده ووجوده وصفاته.

لكن الرازي ذهب إلى أنّ الأقسام الثلاثة التي بينها صلة خاصة ، هي الطور والبيت المعمور والبحر المسجور ، وإنّما جمعها في الحلف بها لأنّها أماكن لثلاثة أنبياء ينفردون بها للخلوة بربهم والخلاص من الخلق والخطاب مع اللّه. أمّا الطور فانتقل إليه موسى ، والبيت محمد صلی اللّه علیه و آله ، والبحر المسجور يونس علیه السلام ، وكل خاطب اللّه هناك ، فقال موسى : ( أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ) (3) وقال أيضاً : ( أرني أنظر إليك ) ، واما نبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله ، فقال : « السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك » ، وأمّا يونس فقال : ( لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (4) فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب وحلف اللّه تعالى بها.

ص: 382


1- التكوير : 6.
2- الانفطار : 3.
3- الأعراف : 155.
4- الأنبياء : 87.

وأمّا ذكر الكتاب ، فانّ الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع اللّه تعالى كلام ، والكلام في الكتاب واقترانه بالطور أدلّ دليل على ذلك ، لأنّ موسى علیه السلام كان له مكتوب ينزل عليه وهو بطور.

وأمّا ذكر السقف المرفوع ومعه البيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد صلی اللّه علیه و آله (1).

وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ) (2).

وأمّا وجه الصلة بين المقسم به على تعدّده والمقسم عليه ، هو انّ المقسم عليه عبارة عن وقوع العذاب لا محالة وعدم القدرة على دفعه ، فإذاً ناسب أن يقسم بالكتاب أي القرآن والتوراة اللّذين جاء فيهما أخبار القيامة وحتميتها.

كما ناسب أن يحلف بمظاهر القدرة وآيات العظمة كالسقف المرفوع والبحر المسجور حتى يعلم أنّ صاحب هذه القدرة لقادر على تحقيق هذا الخبر ، وهو عبارة عن أنّ عذابه لواقع وليس له دافع.

ويكفيك في بيان عظمة البحار أنّها تشغل حيّزاً كبيراً من سطح الأرض يبلغ نحو ثلاثة أرباعه ، وتختلف صفات الماء عن الأرض ، بسهولة تدفقه من جهة إلى أُخرى ، حاملاً الدفء أو البرودة ، وله قوة انعكاس جيدة لشعاع الشمس ، ولذا فانّ درجة حرارة البحار لا ترتفع كثيراً أثناء النهار ، ولا تنخفض بسرعة أثناء الليل فلا تختلف درجة الحرارة أثناء الليل عن النهار بأكثر من درجتين فقط.

ويقول أحد العلماء : إنّ البحر يباري الزمان في دوامه ، ويطاول الخلود في

ص: 383


1- تفسير الفخر الرازي : 28 / 240.
2- الطور : 7 - 8.

بقائه ، تمر آلاف الأعوام بل وعشرات الأُلوف والملايين ، وهو في يومه هو أمسه وغده ، تنقلب الجبال أودية ، والأودية جبالاً ، ويتحول التراب شجراً ، والشجر تراباً ، والبحر بحر لا يتحول ولا يتغير ، وقد دلت الأبحاث العلمية انّ أقصى أعماق البحار تعادل أقصى علو الجبال (1).

كما ناسب أن يحلف بالطور ، لأنّ بعض المجرمين كانوا يتصورون انّ الجبال الشاهقة ستدفع عنهم عذاب اللّه ، كما قال ابن نوح علیه السلام ( سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ ) قال : ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ) (2). فحلف بالطور إيذاناً إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الجبال أقلّ من أن تدفع العذاب أو تحول بين اللّه ووقوع المعاد.

كما يمكن أن يكون الحلف بالطور لأجل كونه آية من آيات اللّه الدالة على قدرته التي لا تحول بينه وبين عذابه شيء.

ص: 384


1- اللّه والعلم الحديث : 75.
2- هود : 43.
الفصل الرابع : القسم في سورة القلم
اشارة

حلف سبحانه بالقلم ومايسطرون معاً مرّة واحدة ، وقال : ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (1).

وقبل تفسير الآيات نقدّم شيئاً وهو أنّ لفظة « ن » من الحروف المقطعة وقد تقدم تفسيرها.

وهناك وجوه أُخرى نذكرها تباعاً :

أ : « ن » هو السمكة التي جاء ذكرها في قصة يونس علیه السلام ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا ) (2).

ب : انّ المراد به هو الدواة ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما الشوق يرجع بي اليهم

ألقت النون بالدمع السجوم

ج : انّ « ن » هو المداد الذي تكتب به الملائكة.

ولكن هذه الوجوه ضعيفة ، لأنّ الظاهر منها أنّها مقسم به ، وعندئذٍ يجب أن يجرّ لا أن يسكّن.

ص: 385


1- القلم : 1 - 4.
2- الأنبياء : 87.

يقول الزمخشري : وأمّا قولهم هو الدواة ، فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ؟ ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة ، من أن يكون جنساً أو علماً ، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوين ؟ وإن كان علماً فأين الاعراب ؟ وأيّهما كان فلابدّ له من موقع في تأليف الكلام (1).

وبذلك يعلم وجه تجريد « ن » عن اللاّم واقتران القلم بها.

تفسير الآيات

1. حلف سبحانه بالقلم ، وقال : ( وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) وهل المراد منه جنس القلم الذي يكتب به من في السماء ومن في الأرض ، قال تعالى : ( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (2). فمنّ سبحانه وتعالى بتيسير الكتابة بالقلم ، كما منَّ بالنطق ، وقال : ( خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) (3).

فالقلم والبيان نعمتان كبيرتان ، فبالبيان يخاطب الحاضرين ، كما أنّه بالقلم يخاطب الغائبين فتمكن بهما تعريف القريب والبعيد بما في قرارة ذهنه.

وربما قيل : إنّ المراد هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر : « إنّ أوّل ما خلق اللّه هو القلم » ولكنّه تفسير بعيد عن أذهان المخاطبين في صدر الإسلام الذين لم يكونوا عارفين بأوّل ما خلق اللّه ولا بآخره.

ثمّ إنّه سبحانه حلف ب ( مَا يَسْطُرُونَ ) ، فلو كانت « ما » مصدرية يكون المراد « وسطرهم » فيكون القسم بنفس الكتابة ، كما يحتمل أن يكون المراد المسطور

ص: 386


1- الكشاف : 4 / 126 ، تفسير سورة القلم.
2- العلق : 3 - 5.
3- الرحمن : 3 - 4.

والمكتوب ، وعلى ذلك حلف سبحانه بجنس القلم وبجنس الكتابة ، أو بجنس المكتوب ، كأنّه قيل : « أحلف بالقلم وسطرهم أو مسطوراتهم ».

ثمّ إنّ في الحلف بالقلم والكتابة والمكتوب إلماعاً إلى مكانة القلم والكتابة في الإسلام ، كما أنّ في قوله سبحانه : ( عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) إشارة إلى ذلك ، والعجب أنّ القرآن الكريم نزل وسط مجتمع ساده التخلّف والجهل والأُميّة ، وكان من يجيد القراءة والكتابة في العصر الجاهلي لا يتجاوز عدد الأصابع ، وقد سرد البلاذري في كتابه « فتوح البلدان » أسماء سبعة عشر رجلاً في مكة ، وأحد عشر من يثرب (1).

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته : أنّ عهد قريش بالكتابة لم يكن بعيداً ، بل كان حديثاً وقريباً بعهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2). ومع ذلك يعود القرآن ليؤكد بالحلف بالقلم على مكانة القلم والكتابة في الحضارة الإسلامية ، وجعل في ظل هذا التعليم أمة متحضرة احتلّت مكانتها بين الحضارات. وليس هذه الآية وحيد نسجها في الدعوة إلى القلم والكتابة بل ثمة آية أُخرى هي أكبر آية في الكتاب العزيز ، يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ ... ) (3).

كما أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله حثّ على كتابة حديثه الذي هو المصدر الثاني بعد القرآن الكريم :

1. أخرج أبو داود في سننه ، عن عبد اللّه بن عمرو ، قال : كنت أكتب كلّ

ص: 387


1- فتوح البلدان : 457.
2- مقدمة ابن خلدون : 418.
3- البقرة : 282.

شيء أسمعه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أريد حفظه فنهتني قريش ، وقالوا : أتكتب كلّ شيء تسمعه ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بشر يتكلم في الغضب والرضا ؟ فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأومأ باصبعه إلى فيه ، وقال : « اكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّحقّاً » (1).

2. أخرج الترمذي في سننه عن أبي هريرة ، قال : كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلی اللّه علیه و آله فيسمع من النبي صلی اللّه علیه و آله الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، فقال : يا رسول اللّه إنّي أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « استعن بيمينك » وأومأ بيده للخط (2).

3. أخرج الخطيب البغدادي عن رافع بن خديج ، قال : مرّ علينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوماً ، ونحن نتحدّث ، فقال : « ما تحدّثون ؟ ».

فقلنا : نتحدّث عنك يا رسول اللّه.

قال : « تحدّثوا ، وليتبوّأ من كذّب عليّ مقعداً من جهنم ».

ومضى صلی اللّه علیه و آله بحاجته ، ونكس القوم رؤوسهم ... فقال : « ما شأنكم ؟ ألا تحدّثون ؟ ».

قالوا : الذي سمعنا منك ، يا رسول اللّه.

قال : « إنّي لم أرد ذلك ، إنّما أردت من تعمّد ذلك » قال : فتحدثنا.

قال : قلت : يا رسول اللّه : إنّا نسمع منك أشياء ، فنكتبها.

ص: 388


1- سنن أبي داود : 3 / 318 ، برقم 3646 ، باب في كتابة العلم مسند أحمد : 2 / 162 سنن الدارمي : 1 / 125 ، باب من رخص في كتابة العلم.
2- سنن الترمذي : 5 / 39 ، برقم 2666.

قال : « اكتبوا ولا حرج » (1).

وبعد هذه الأهمية البالغة التي أولاها الكتاب العزيز والنبي للكتابة ، أفهل من المعقول أن ينسب إليه انّه منع من كتابة الحديث ؟! مع أنّها أحاديث آحاد تضاد الكتاب العزيز والسنّة والسيرة المتواترة ونجلُّ النبي صلی اللّه علیه و آله عن الحيلولة دون كتابة السنّة.

هذا والكلام ذو شجون وقد أسهبنا البحث حوله في كتاب « الحديث النبوي بين الرواية والدراية » (2).

هذا كلّه حول المقسم به.

وأمّا المقسم عليه : فقد جاء في قوله سبحانه : ( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) والمراد من النعمة النبوّة والإيمان ، والباء للسببية أي لست أنت بسبب هذه النعمة بمجنون ، رداً على من جعل نبوّته ونزول القرآن عليه دليلاً على جنونه ، قال سبحانه : ( وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) (3).

ويحتمل أن يكون المراد من النعمة كلّما تفضل عليه سبحانه من النعم وراء الإيمان والنبوّة كفصاحته وبلاغته وعقله الكامل وخلقه الممتاز ، فانّ هذه الصفات تنافي حصول الجنون.

واحتمل الرازي أن يكون جملة ( بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ) مقطوعة عمّا قبله وما بعده ، وانّ وزانها وزان بحمد اللّه في الجمل التالية :

ص: 389


1- تقييد العلم : 72 و 73.
2- انظر صفحة 12 - 32 من نفس الكتاب.
3- القلم : 51 - 52.

أنت - بحمد اللّه - عاقل.

أنت - بحمد اللّه - لست بمجنون.

أنت - بنعمة اللّه - فهيم.

أنت - بنعمة اللّه - لست بفقير.

وعلى هذا التقدير يكون معنى الآية « ما أنت - في ظل نعمة ربّك - بمجنون » (1).

وهناك احتمال ثالث وهو نفس هذا الاحتمال ، وجعل الباء حرف القسم ، وعلى ذلك يكون الحلف مقروناً بالدليل ، وهو : انّ من أنعم اللّه عليه بهذه النعم الإلهية كيف يتهمونه بالجنون ، مضافاً إلى أنّ لك في الآخرة لأجراً غير ممنون ، كما قال سبحانه : ( وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ) والممنون مشتق من مادة « منّ » بمعنى القطع أي الجزاء المتواصل إلى الأبد.

ثمّ إنّه سبحانه يستدل بدليل آخر على نزاهته من هذه التهمة ، وهي قوله سبحانه : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) فمن كان على خلق يعترف به القريب والبعيد فكيف يكون مجنوناً ؟!

فقد تجسَّم في شخصية الرسول العطف والحنان إلى القريب والبعيد ، والصبر والاستقامة في طريق الهدف ، والعفو عن المتجاوز بعد التمكن والقدرة ، والتجافي عن الدنيا وغرورها ، إلى غير ذلك من محاسن الأخلاق ، وبذلك ظهر انّ الحلف صار مقروناً بالدليل.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فهو انّ القلم والكتابة آية العقل

ص: 390


1- تفسير الفخر الرازي : 29 / 79.

والدراية ، فحلف به لغاية نفي الجنون عن النبي صلی اللّه علیه و آله .

يقول المراغي : أقسم ربّنا بالقلم وما يسطر به من الكتب : انّ محمّداً الذي أنعم اللّه عليه بنعمة النبوّة ليس بمجنون كما تدّعون ، وكيف يكون مجنوناً والكتب والأقلام أعدت لكتابة ما ينزل عليه من الوحي (1) ؟!

ونختم البحث بحديث رواه الشيخ يحيى البحراني عن النبيفي كتابه « الشهاب في الحكم والآداب » : قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « ثلاثة تخرق الحجب وتنتهي إلى ما بين يدي اللّه :

1. صرير أقلام العلماء.

2. وطء أقدام المجاهدين.

3. صوت مغازل المحسنات » (2).

ص: 391


1- تفسير المراغي : 29 / 27.
2- الشهاب في الحكم والآداب : 22.
الفصل الخامس : القسم في سورة الحاقة
اشارة

حلف سبحانه بما يُبصر وبما لا يُبصر ، قال سبحانه : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (1).

تفسير الآيات

قوله : ( ِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ ) يعم ما سوى اللّه لأنّه لا يخرج عن قسمين مبصر وغير مبصر ، فيشمل الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجن والنعم الظاهرة والباطنة ، كما يشمل الخالق والمخلوق ، فانّ الخالق داخل في قوله : وما لا تبصرون ، وعلى هذا الوجه فقد حلف سبحانه بعالم الوجود وصحيفته.

ولكن استبعده السيد الطباطبائي ، قائلاً : بأنّه من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق والمخلوق في صف واحد ويعظمه تعالى وما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد (2).

ولكن يلاحظ عليه : بأنّه سبحانه ربّما جمع بين نفسه والرسول ، وقال : ( وَمَا

ص: 392


1- الحاقة : 38 - 43.
2- الميزان : 19 / 403.

نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (1) وقوله سبحانه : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ ) (2) ، إلى غير ذلك من الآيات فلاحظ.

وأمّا المراد من قوله : « لا » فقد سبق كلام المفسرين في توجيهه ، وقد اخترنا انّ قوله : « لا » رد لكلام مسبوق أو مقدر ، ثمّ يبتدأ بقوله أقسم.

لقد أقسم سبحانه بشيء يخص البصر دون سائر الحواس ، وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ ) هو أقسم بما نبصر وما أقله ، وأقسم بما لا نبصر وما أكثره وأعظم خطره. أقسم الحقُّ سبحانه هذا القسم العظيم بما له علاقة بالبصر ولم يُقسم بغيره مما هو محسوس ، ذلك لأنّه رغم كونه يعطينا أوسع إحساس وأبعده وأسرعه بما يحيط بنا فانّه رغم ذلك لا يصلنا منه إلاّ أقل القليل.

هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه ، فهو قوله : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) ، فالمقسم عليه مركب من أُمور إيجابية أعني كونه : قول رسول كريم وانّه تنزيل من ربّ العالمين ، وسلبية وهو أنّ القرآن ليس بقول شاعر ولا كاهن.

إنّما الكلام في ما هو المراد من قوله : ( رَسُولٍ كَرِيمٍ ) ، وقد ذُكر هذا أيضاً في سورة التكوير ، قال سبحانه : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) (3) ولا شكّ

ص: 393


1- التوبة : 74.
2- التوبة : 105.
3- التكوير : 19 - 25.

انّ المراد من رسول في سورة التكوير هو أمين الوحي جبرئيل ، بشهادة وصفه بقوله : ( ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) .

مضافاً إلى قوله : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ ) فانّ الضمير يرجع إلى رسول كريم ، كما أنّ قوله : ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) معناه إنّما هو قول الملك ، فانّ الشيطان يقابل الملك.

وأمّا المقام فيحتمل أن يراد منه النبي صلی اللّه علیه و آله ، وذلك لأنّه وصفه بقوله : لَيْسَ بِقَولِ شاعِرٍ وَلا كاهن والقوم كانوا يصفون محمداً بالشعر والكهانة ولا يصفون جبرئيل بهما.

والغرض المتوخّى من عزو القرآن إلى رسول كريم هو نفي كونه كلام شاعر أو كاهن ، ولا ينافي ذلك أن يكون القرآن كلامه سبحانه ، وفي الوقت نفسه كلام أمين الوحي وكلام النبي صلی اللّه علیه و آله ، لصحّة الإضافة إلى الجميع ، فالقرآن كلامه سبحانه لأنّه فعله ، وهو الذي أنشأه ، وكلام جبرئيل ، لأنّه هو الذي أنزله من جانبه سبحانه على قلب سيد المرسلين ، وفي الوقت نفسه كلام النبي صلی اللّه علیه و آله لأنّه أظهره وبيّنه للناس ، ويكفي في النسبة أدنى مناسبة.

وأمّا الصلة فقد بيّنها السيد الطباطبائي بالنحو التالي ، وقال :

وفي اختيار ما يبصرون وما لا يبصرون للأقسام به على حقّية القرآن ما لا يخفى من المناسبة ، فانّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى ، ومصير الكل إليه ، وما يترتب عليه من بعث الرسل وإنزال الكتب ، والقرآن خير كتاب سماوي يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك وإلى طريق مستقيم (1).

ص: 394


1- الميزان : 19 / 403.

وبتعبير آخر : انّه سبحانه تبارك وتعالى حلف بعالم الغيب والشهادة - أي بمجموع الخليقة والنظام السائد على الوجود الإمكاني - على وجود هدف مشترك لهذا النظام ، وهو صيرورة الإنسان في هذا الكوكب إنساناً كاملاً مظهراً لأسمائه وصفاته ، ولا يتم تحقيق ذلك الهدف إلاّ من خلال بعث الرسل وإنزال الكتب ، والقرآن كتاب سماوي أُنزل إلى الإنسان.

ثمّ إنّه سبحانه دعم حلفه بالبرهان على المقسم عليه ، فانّ المقسم عليه عبارة عن كون القرآن كلام رسول كريم أخذه من أمين الوحي ، وهو من اللّه سبحانه وليس من مبدعاته ومتقوّلاته وإلاّ لعمّه العذاب فوراً ، قال سبحانه : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (1).

فإذا حالف الرسول النجاح في الدعوة إلى رسالته والتفت حوله طوائف كثيرة فهو أوضح دليل على أنّه غير كاذب في دعوته وصادق في عزوها إلى اللّه وإلاّ لما أمهله اللّه سبحانه هذا المقدار من الزمان.

وثمة سؤال يثار ، وهو انّ هذه الآيات توعد المتنبئ الكاذب على اللّه سبحانه بالهلاك ، فلو كان هذا مفاد الآية لزم تصديق كلّ من ادّعى النبوّة ولم يشمله العذاب والهلاك ، إذ لو كان كاذباً لأخذه سبحانه باليمين ، وقطع منه الوتين ، فإذا لم يفعل ، فهذا دليل على صدق كلامه وفعاله مع أنّه أمر لا يمكن الالتزام به ؟

والجواب : انّ القرآن الكريم ليس بصدد بيان أنّ كلّ من تقوَّل على اللّه سوف يعمّه العذاب والهلاك ، وإنّما هو بصدد بيان بعض الفئات المتقوّلة التي تدعي صلتها باللّه سبحانه خلال معجزة قاهرة خلابة للعقول ، فهذا النوع من التقوّل

ص: 395


1- الحاقة : 44 - 47.

يدخل تحت هذه القاعدة ، كما في ادّعاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الرسالة التي أرفقها بمعجزة أبهرت العقول وأدهشت الألباب ، فخضع له العرب والعجم في ظل هذه المعجزة ، فلو تقوّل - والعياذ باللّه - يعمّه العذاب ، لأنّه من القبيح أن تقع المعجزة على يد الكاذب ، فسيرته صلی اللّه علیه و آله ومضيه قدماً في الدعوة إلى ربّه حتّى وافته المنية أوضح دليل على أنّه صادق في رسالته ، وانّ كلامه كلام ربّه ، وانّه ليس بكاهن ولا شاعر.

وأمّا قوله سبحانه : ( لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) ففيه وجوه أربعة :

1. أخذنا بيمينه كما يؤخذ المجرم بيده.

2. أو سلبنا عنه القوة ، فانّ اليد اليمنى شارة القوة.

3. أو لقطعنا منه يده اليمنى.

4. أو لانتقمنا منه بقوة.

والآية بمنزلة قوله سبحانه : ( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) (1).

ص: 396


1- الإسراء : 74 - 75.
الفصل السادس : القسم في سورة المدثر
اشارة

حلف سبحانه في سورة المدثر بأُمور ثلاثة ، هي : القمر ، والليل عند إدباره ، والصبح عند ظهوره ، قال : ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ * كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإحدى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) (1).

تفسير الآيات

حلف سبحانه في هذه الآيات بأُمور ثلاثة ترتبط بعضها بالبعض ، ويأتي الثاني عقب الأوّل.

فأمّا القمر يتجلّى في اللّيل ، ولولا الليل لما كان لضوئه ظهور ، لأنّه يختفي نوره في النهار لتأثير الشمس فإذا تجلّى القمر في الليل شيئاً فشيئاً فيأتي نهاية الليل ، الذي عبّر عنه سبحانه : ( إِذْ أَدْبَرَ ) وتكون النتيجة طلوع الفجر الذي عبر عنه سبحانه ( وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) ، فكأنّه يقول سبحانه : احلف بتجلّي القمر في وسط السماء الذي يسير مع الليل شيئاً فشيئاً ، إلى أن يدبر ويسفر الصبح ، هذا مفاد الآيات التي تضمّنت المقسم به.

ثمّ إنّ الكُبُر جمع الكبرى ، وهي العظمى أي إحدى العظائم ، وأمّا ما هو

ص: 397


1- المدثر : 31 - 37.

المراد من العظائم ، فسيوافيك بيانه عن قريب.

ثمّ إنّه سبحانه حلف في هذه الآيات بأُمور ثلاثة :

1. القمر على وجه الإطلاق.

2. الليل إذا أدبر ، أي الليل عند انتهائه.

3. الصبح حينما يسفر ويتجلّى.

وأمّا المقسم عليه فهو عبارة عن قوله : ( إِنَّهَا لإحدى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) .

والكلام في مرجع الضمير في قوله « إنّها » ، ففيه وجهان :

الأوّل : أنّ الضمير يرجع إلى « سقر » الواردة في الآيات المتقدمة ، أعني قوله تعالى : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) (1).

أي انّ سقر هي إحدى الدواهي الكبرى ، فهي نذيرة للبشر ومخوّفة لمن شاء منكم أن يتقدّم في طاعة اللّه أو يتأخر عنها بالمعصية ، ولفظة « سقر » من المؤنثات السماعية ، وقد جاء ذكرها في قصيدة ابن الحاجب التي جمع فيها المؤنثات السماعية في أحد وعشرين بيتاً ، وقال :

وكذاك في كبد وفي كرش وفي *** سقر ومنها الحرب والنعلان (2)

الثاني : أنّ الضمير يرجع إلى الآيات في قوله سبحانه : ( كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ) . وعلى هذا فالآيات القرآنية لإحدى الدواهي وهي النذيرة لمن تقدم في مجال الطاعة أو تأخر لكن المتقدم ينتفع دون المتأخر.

ص: 398


1- المدثر : 27 - 30.
2- روضات الجنات : 5 / 186.

هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّهَا لإحدى الْكُبَرِ ) .

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فعلى التفسير الثاني من الوضوح بمكان ، حيث إنّ القمر في الليل الدامس يهدي السائرين ، كما أنّ الصبح وطروء النهار يبدّد الظلام ويظهر النور ، فناسب أن يحلف سبحانه بأسباب الهداية ، ومعادن النور ومظاهره ، بُغية إثبات أنّ القرآن لإحدى المعاجز الكبرى التي تهدي البشر إلى سبيل الرشاد.

وأمّا على التفسير الأوّل ، ورجوع الضمير إلى سقر فالمناسبة خفية ، إلاّ أن يقال بأنّ المقسم به أي القمر في وسط السماء وانجلاء الليل وطلوع الفجر من آياته الكبرى كما أنّ سقراً أيضاً كذلك.

ولا يخفى انّ القسم بالقمر جاء للتأكيد على عظمته ، فهو أقرب الأجرام السماوية للأرض وأقل حجماً منها ، يدور حول الأرض مرّة كلّ شهر ، وجاذبية القمر مع جاذبية الشمس هي سبب المد والجزر.

وتبلغ درجة حرارة جانب القمر المواجه للشمس 120 درجة مئوية ، أي أعلى من درجة غليان الماء ، ودرجة حرارة الجانب المظلم أقل من درجة تجمّد الماء بقدر يبلغ 150 درجة.

كما أنّ سطحه صحاري وقفار تتناهض فيها البراكين الخامدة ، وجباله ضخمة عظيمة يبلغ ارتفاعها 42 ألف قدم بزيادة تقرب من 13 ألف قدم عن أعلى جبل على الأرض ، وفوهات البراكين هائلة العظمة يبلغ قطر أكبرها 100 ميل ، وجباله أقدم بكثير من سلاسل الجبال الأرضية بملايين السنين (1).

ص: 399


1- اللّه والعلم الحديث : 27.
الفصل السابع : القسم في سورة القيامة
اشارة

حلف سبحانه في سورة القيامة بأمرين : 1. يوم القيامة ، 2. النفس اللوامة ، وقال : ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ) (1).

تفسير الآيات

اختلف المفسرون في كلمة « لا » على أقوال (2) :

الأوّل : انّ لا أقسم كلمة قسم وانّ العرب تزيد كلمة لا في القسم ، كما قال امرؤ القيس :

لا وأبيك ابنة العامري *** لا يدعي قوم انّي أفر

الثاني : انّ لا نافية ، رد لكلام قد تقدّم ، وجواب لهم ، وذلك هو المعروف في كلام الناس في محاوراتهم ، فإذا قال أحدهم : لا ، واللّه ما فعلت كذا ، قصد بقوله : « لا » ردّ الكلام السابق ، فهم لما أنكروا البعث ، قيل لهم ليس الأمر على ما ذكرتم ، ثمّ أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة إنّ البعث حقّ.

ص: 400


1- القيامة : 1 - 6.
2- مرّ الكلام فيه أيضاً لاحظ ص : 81.

الثالث : انّها للنفي ، على معنى انّي لا أعظمه بأقسامي به حقّ إعظامه ، فانّه حقيق بأكثر من هذا ، وهو يستحق فوق ذلك.

فعلى المعنى الأوّل « لا » زائدة ، ولكنّه بعيد في كلام ربّ العزة ، والمتعين أحد المعنيين الأخيرين.

أمّا المقسم به : فهو أمران :

أ : يوم القيامة.

ب : النفس اللوامة.

أمّا الأوّل : فهو يوم البعث الذي يجمع اللّه فيه الناس على صعيد واحد ، وإنّما سمّي يوم القيامة لأجل انّه يقوم به الحساب ، قال سبحانه حاكياً عن إبراهيم : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ ) (1) وانّه يوم يقوم به الاشهاد ، قال سبحانه : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) (2) وانّه يوم يقوم فيه الروح ، قال سبحانه : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلائِكَةُ صَفًّا ) (3) ، وانّه يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، كما قال سبحانه : ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) (4) ، إلى غير ذلك من الوجوه التي توضح وجه تسمية اليوم بالقيامة ، وقد جاء يوم القيامة في القرآن سبعين مرّة ، فلم تستعمل القيامة إلاّ مضافة إلى يوم.

وأمّا الثاني : أي النفس اللوامة صيغة مبالغة من اللوم ، وهي عدل الإنسان

ص: 401


1- إبراهيم : 41.
2- غافر : 51.
3- النبأ : 38.
4- المطففين : 6.

بنسبته إلى ما فيه لوم ، يقال لمته فهو ملوم ، قال سبحانه : ( فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ) (1) إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها اللوم وما اشتق منه.

واختلف المفسرون في المراد من النفس اللوامة على أقوال :

الأوّل : هي نفس آدم التي لم تزل تتلوّم على فعلها الذي خرجت به من الجنة والظاهر أنّ هذا القول من قبيل تطبيق الكلي على مصداقه ، وليس هناك قرينة على أنّها ، المراد فقط.

الثاني : مطلق النفس ، إذ ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلاّ وهي تلوم نفسها يوم القيامة إن كانت عملت خيراً قالت : هلا ازددت ، وإن كانت عملت سوءاً قالت : يا ليتني لم أفعل.

الثالث : وربما تختص بالنفس الكافرة الفاجرة.

الرابع : عكس ذلك ، والمراد نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على ارتكاب المعصية وتحفّزه على إصلاح ما بدا منه.

والظاهر أنّ القول الثاني هو المتعيّن ، أي مطلق النفس التي تلوم صاحبها سواء أكان لأجل فوت الخير أو ارتكاب الشر.

وعلى كلّ حال فالآية تحكي عن المنزلة العظيمة التي تتمتع بها النفس اللوامة إلى حدّ أقسم بها سبحانه وإلاّ لما حلف بها.

وأمّا المقسم عليه فمحذوف أي لتُبْعثُنَّ.

وأمّا الصلة بين المقسم عليه أعني قوله : « لتبعثن » والحلف « بالنفس اللوامة » فهي ظهور اللوم من هذه النفس يوم القيامة ، فانّ نفس الكافر لا تلومه في

ص: 402


1- إبراهيم : 22.

الدنيا إلاّ قليلاً ، في حين يتجلّى اللوم ويتجسّد يوم القيامة أكثر فأكثر.

وأمّا كرامة النفس اللوامة فواضحة جداً ، لأنّها تردع الإنسان عن اقتراف الذنوب ، ولا يمكن خداعها ، وهي يقظة تزجر الإنسان دائماً بالنسبة إلى ما عمله وقصده.

إنّ إبراهيم لما حطّم الأصنام وجعلها جذاذاً إلاّ كبيراً لهم لعل القوم يرجعون إليه ويرتدعون عن عقيدتهم بإلوهيتها ، فلمّا رجعوا ووقفوا على أنّه عمل إبراهيم أحضروه للاقتصاص منه ، وخاطبوه بقولهم : ( أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا ) ، فأجابهم إبراهيم : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) ، ثمّ أمرهم بسؤاله عن الجريمة التي ارتكبها ، فبهُت الجمع من هذا السؤال وظلوا صامتين لعجزهم عن الإجابة ، فعندئذ تبين لهم أنّ مثل هذا الصنم أحط من أن يعبد ، فاستيقظ وجدانهم وأخذت نفوسهم تلومهم على النهج الذي اختطوه ، بل الآلهة التي عبدوها حيث وجدوا انّها غير خليقة بالعبادة والخضوع ، وهذا ما يحكي عنه القرآن بقوله : ( فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ) أي خاطبوا أنفسهم بالظلم ، فكأنّه قال بعضهم لبعض أنتم الظالمون حيث تعبدون ما لا يقدر عن الدفع عن نفسه وما نرى الأمر إلاّ كما قال هذا الفتى.

هذه هي النفس اللوامة التي تظهر بين الحين والآخر وتزجر الإنسان عن ارتكاب الذنوب.

وهذا الذي يسمّيه علم النفس في يومنا هذا بالوجدان الأخلاقي ، ويصفون الوجدان محكمة لا تحتاج إلى قاض سوى النفس ، وهي التي تقوم بتأسيس المحكمة ، وتشخص المجرم ، وتصدر الحكم بلا هوادة ، ودون أي تهاون.

وفي الآيات القرآنية الأُخرى إشارة إلى تلك المرتبة من النفس ، يقول

ص: 403

سبحانه : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (1).

يقول الإمام الصادق في تفسير الآية : « بيّن لها ما تأتي وما تترك » (2).

إنّ اللوم والعزم فرع معرفة النفس بخير الأُمور وشرّها ، فلو لم تكن عالمة من ذي قبل لم تصلح للوعظ ولا للزجر ، ولأجل ذلك ، يقول سبحانه : ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (3).

يقول الإمام الصادق علیه السلام : « هداه إلى نجد الخير والشر » (4).

ثمّ إنّ مراتب الزجر تختلف حسب صفاء النفس وكدورتها وابتعادها عن ممارسة الشر ، يقول الإمام الصادق علیه السلام : « إنّ اللّه إذا أراد بعبد خيراً طيّب روحه فلا يسمع معروفاً إلاّ عرفه ولا منكراً إلاّ أنكره » (5).

نعم ، ما حباه اللّه سبحانه لكلّ إنسان من النفس اللوامة ، كرامة ونعمة عظيمة ، حيث يعرف على ضوئها الحسن من القبيح والخير من الشر ، ولكنّه لو مارس الشرّ مدّة لا يستهان بها ربما تعوق النفس عن القضاء في الخير بالخير والشر بالشر ، بل ربما يرى الشر خيراً والخير شراً ، وذلك فيما إذا زاوله الإنسان كثيراً بنحو ترك بصماته على روحه ونفسه وقضائه وتفكيره ، وقد أشار سبحانه إلى أنّ قبح وأد البنات وقتل الأولاد - لأي غاية من الغايات كانت - أمر يدركه كلّ إنسان ، ولكن ترى أنّ بعض المشركين يستحسن عمله هذا ويعدّه من مفاخره وكراماته ، يقول

ص: 404


1- الشمس : 7 - 8.
2- الكافي : 1 / 163.
3- البلد : 8 - 10.
4- الكافي : 1 / 163.
5- اثبات الهداة : 1 / 87.

سبحانه : ( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ) (1).

فقد أثر الشركاء في عقول الوثنيين وتفكيرهم فصار القبيح حسناً والشر خيراً ، يقول سبحانه : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ ) (2).

وعلى هذا فليست النفس اللوامة باقية على صفاتها وقضائها الحق في جميع الظروف والحالات بل ربما يكون قضاؤها على خلاف ما هو الحقّ ، لا سيما فيمن يزاول الجرم طيلة عمره ، فربما يعود في آخر عمره يتنكر لجميع المقدسات ويسيطر فعله القبيح على آفاق فكره وإيمانه ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ ) (3).

مراتب النفس في الذكر الحكيم
اشارة

إنّ القرآن الكريم جعل للنفس الإنسانية مراتب :

1. النفس الأمّارة ، 2. النفس اللوّامة ، 3. النفس المطمئنة ، 4. النفس الراضية المرضية ، وإليك وصف هذه المراتب بنحو موجز :

1. النفس الأمّارة

إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات ، فليس للإنسان أن يبرّئ نفسه من الميل إلى السوء ، وإنّما له أن يكف عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى

ص: 405


1- الأنعام : 137.
2- فاطر : 8.
3- الروم : 10.

الشر وذلك برحمة من اللّه سبحانه ، يقول سبحانه نقلاً عن يوسف علیه السلام : ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (1).

فما أبرأ يوسف نفسه عن أمرها بالسوء ، وإنّما كفّها عن ارتكاب السوء ، لأنّ النفس طبعت على حب الشهوات التي تدور عليها رحى الحياة.

والأخلاق جاءت لتعديل ذلك الميل ، وجعلها في مسير السعادة وحفظها عن الإفراط والتفريط ، فالمادية نادت بالانصياع لرغبات اللّذات مهما أمكن ، والرهبانية نادت بكبح جماح اللذات والشهوات والعزوف عن الحياة واللوذ في الكهوف والأديرة ، ولكن الإسلام راح يدعو إلى منهج وسط بينهما ، ففي الوقت الذي يدعو إلى أكل الطيّبات ويندّد بمن يحرّمها ، ويقول : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (2). يأمر بكبح جماح النفس عن ارتكاب المعاصي والسيئات التي توجب الفوضى في المجتمع وتسوقه إلى الانحلال الأخلاقي.

2. النفس اللوّامة

النفس اللوامة وهي الضمير الذي يؤنّب الإنسان على ما اقترفه من السيئات والآثام خصوصاً بعد ما يفيق من سكراتها فيجد نفسه تنحدر في دوامة الندم على ما ارتكبه وإنابة إلى الحقّ ، وهذا يدل على أنّ النفس ممزوجة بالميل إلى الشهوات ، وفي الوقت نفسه فيها ميل إلى الحقّ والعدل ، ولكلّ تجلّي خاص ، فانّ غلبة الشهوات يحول دون ظهور نور العقل فيقترف المعاصي والآثام ، ولكنّه ما إن

ص: 406


1- يوسف : 53.
2- الأعراف : 32.

تخمد شهوته ، حينها يصفو أمامه جمال الحياة وتنكشف مضرات اللّذة فتستيقظ النفس اللوامة وتأخذ باللوم والعذل إلى حد ربما تدفع بصاحبها إلى الانتحار ، لعدم تحمله وطأة تلك الجريمة.

وهذه النفس حيّة يقظة لا تتصدع بكثرة الذنوب وإن كانت تضعف بممارستها.

3. النفس المطمئنّة

وهي النفس التي توصلها النفس اللوّامة إلى حد لا تعصف بها عواصف الشهوة ، وتطمئن برحمة الرب وتحس بالمسؤولية الموضوعة على عاتقها أمام اللّه وأمام المجتمع ، يقول سبحانه : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) (1) فصاحب هذه النفس يمتلئ بالسرور والفرح عند الطاعة وتجد في صميمها لذة للطاعة وحلاوة للعبادة لا يمكن وصفها بالقلم واللسان.

وبعبارة أُخرى : النفس المطمئنّة هي التي تسكن إلى ربها وترضى بما رضي به ، فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شر أو نفع أو ضر ، ويرى الدنيا دار مجاز ، وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع وضر ، ابتلاء وامتحاناً إلهياً ، فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان ، وإكثار الفساد ، والعلو والاستكبار ، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر ، بل هو في مستقر من العبودية لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط (2).

وهناك كلمة قيمة للحكيم محمد مهدي النراقي حول واقع النفوس الثلاث ،

ص: 407


1- الفجر : 27 - 28.
2- الميزان : 20 / 285.

يقول :

والحقّ انّها أوصاف ثلاثة للنفس بحسب اختلاف أحوالها ، فإذا غلبت قوتها العاقلة على الثلاثة الأُخر ، وصارت منقادة لها مقهورة منها ، وزال اضطرابها الحاصل من مدافعتها سمّيت « مطمئنة » ، لسكونها حينئذٍ تحت الأوامر والنواهي ، وميلها إلى ملائماتها التي تقتضي جبلتها ، وإذا لم تتم غلبتها وكان بينها تنازع وتدافع ، وكلما صارت مغلوبة عنها بارتكاب المعاصي حصلت للنفس لوم وندامة سمّيت « لوامة ». وإذا صارت مغلوبة منها مذعنة لها من دون دفاع سميت « أمّارة بالسوء » لأنّه لما اضمحلت قوتها العاقلة وأذعنت للقوى الشيطانية من دون مدافعة ، فكأنّما هي الآمرة بالسوء (1).

4. النفس الراضية المرضية

وهي النفس المتكاملة الراضية من ربّها رضى الرب منها ، واطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر وقضى تكويناً أو حكم به تشريعاً ، فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية ، وإذا رضى العبد من ربّه ، رضى الرب منه ، إذ لا يسخطه تعالى إلاّ خروج العبد من زي العبودية ، فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضى ربّه ولذا عقب قوله : « راضية » بقوله : « مرضية ».

قوله تعالى : ( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) تفريع على قوله : ( ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ) وفيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد اللّه حائز مقام العبودية ، وذلك انّه لما اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال ورضى بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته وصفاته وأفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما

ص: 408


1- جامع السعادات : 1 / 63 - 64.

قدر وقضى ، ولا فيما أمر ونهى ، إلاّ ما أراده ربّه ، وهذا ظهور العبودية التامة في العبد ، ففي قوله : ( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ) تقرير لمقام عبوديتها.

وفي قوله : ( وَادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرها ، وفي إضافة الجنة إلى ضمير المتكلم تشريف خاص ، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنة إلى نفسه تعالى وتقدس إلاّ في هذه الآية (1). هذا كلّه حول المقسم به.

وأمّا المقسم عليه : فهو محذوف معلوم بالقرينة أي « لتبعثنّ » وإنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم وعظمة أمره ، قال تعالى : ( ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ) (2) وقال : ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ) (3) ، وقال : ( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) (4). (5)

وأمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فواضح ، فانّ الإنسان إذا بعث يوم القيامة يلوم نفسه لأجل ما اقترف من المعاصي ، إذ في ذلك الموقف الحرج تنكشف الحجب ويقف الإنسان على ما اقترف من المعاصي والخطايا ، فيندم على ما صدر منه قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (6) ، وقال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (7).

وبالجملة فيوم القيامة يوم الندم والملامة ، ولات حين مناص.

ص: 409


1- الميزان : 20 / 286.
2- الأعراف : 187.
3- طه : 15.
4- النبأ : 1 - 2.
5- الميزان : 20 / 104.
6- يونس : 54.
7- سبأ : 33.
الفصل الثامن : القسم في سورة المرسلات

لقد حلف سبحانه بأوصاف الملائكة ، وقال :

أ : ( وَالمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) .

ب : ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) .

ج : ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) .

د : ( فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) .

ه : ( فَالمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ) (1).

حلف سبحانه في هذه الآيات بأُمور يعبّر عنها ب : « المرسلات ، فالعاصفات ، والناشرات ، فالفارقات ، فالملقيات ذكراً عذراً أو نذراً.

وقد اختلفت كلمة المفسّرين في تفسير هذه الأقسام ، وقد غلب عليهم تفسيرها بالرياح المرسلة العاصفة الناشرة ، بيد أنّ وحدة السياق تبعثنا إلى تفسيرها بأمر واحد تنطبق عليه هذه الصفات ، فنقول :

1. ( المُرْسَلاتِ عُرْفًا ) أي أقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي ، والعرف - بالضم فالسكون - الشعر الثابت على عنق الفرس ويشبه به الأُمور إذا تتابعت يقال جاءُوك كعرف الفرس ، يقول سبحانه : ( يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ

ص: 410


1- المرسلات : 1 - 7.

أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (1) ، ومع ذلك فقد فسر بالرياح المرسلة المتتابعة.

2. ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) والعصف هو سرعة السير ، والريح العاصفة بمعنى سرعة هبوبها ، والمراد اقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة.

ومع ذلك فسر بالرياح الشديدة الهبوب.

3. ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) قسم آخر ، والمراد نشر الصحيفة والكتاب ، والمعنى أقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوب عليها الوحي للنبي ليتلقاه ، ومع ذلك فقد فسّرت بالرياح التي تنشر السحاب نشراً للغيث كما تلقحه للمطر.

4. ( فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) المراد به الملائكة الذين يفرقون بين الحقّ والباطل والحلال والحرام ، وذلك لأجل حمل الوحي المتكفّل ببيان الحقّ والباطل ومع ذلك فقد فسّر بالرياح التي تفرق بين السحاب فتبدّده.

5. ( فَالمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) المراد به الملائكة ، تلقي الذكر على الأنبياء وتلقيه الأنبياء إلى الأُمم.

وعلى ذلك فالمراد بالذكر هو القرآن يقرأونه على النبي ، أو مطلق الوحي النازل على الأنبياء المتلو عليهم.

ثمّ يبيّن انّ الغاية من إلقاء الوحي أحد الأمرين إمّا الإعذار أو الإنذار ، والإعذار الإتيان بما يصير به معذوراً ، والمعنى انّه يلقون الذكر لتكون عذراً لعباده المؤمنين بالذكر وتخصيصاً لغيرهم.

وبعبارة أُخرى يلقون الذكر ليكون إتماماً للحجة على المكذبين وتخويفاً

ص: 411


1- النحل : 2.

لغيرهم ، هذا هو الظاهر من الآيات.

وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ) وما موصولة والخطاب لعامة البشر ، والمراد إنّما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب والثواب أمر قطعي وواقع وإنّما عبر بواقع دون كائن ، لأنّه أبلغ في التحقّق.

ثمّ إنّ الصلة بين المقسم به والمقسم عليه واضحة ، لأنّ أهم ما تحمله الملائكة وتلقيه هو الدعوة إلى الإيمان بالبعث والنشور ، ويؤيد ذلك قوله ( عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ) أي إتماماً للحجة على الكفار وتخويفاً للموَمنين كل ذلك يدل على معاد قطعي الوقوع يحتج به على الكافر ويجزي به المؤمن.

وهناك بيان للعلاّمة الطباطبائي ، حيث يقول : من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الست انّها مع ما تتضمن الإقسام لتأكيد الخبر الذي في الجواب تتضمن الحجة على مضمون الجواب وهو وقوع الجزاء الموعود ، فانّ التدبير الربوبي الذي يشير إليه القسم ، أعني : إرسال المرسلات العاصفات ونشرها الصحف وفرقها وإلقاءها الذكر للنبي صلی اللّه علیه و آله تدبير لا يتم إلاّ مع وجود التكليف الإلهي والتكليف لا يتم إلاّ مع تحتم وجود يوم معه للجزاء يجازي فيه العاصي والمطيع من المكلفين.

فالذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هو بعينه حجّة على وقوعه كأنّه قيل : اقسم بهذه الحجّة انّ مدلولها واقع (1).

ص: 412


1- الميزان : 20 / 147.
الفصل التاسع : القسم في سورة النازعات
اشارة

حلف سبحانه بأوصاف الملائكة خمس مرات ، وقال :

( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ) .

( وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ) .

( وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ) .

( فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ) .

( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ) (1).

حلف سبحانه في هذه السورة بطوائف وصفها ب : النازعات ، الناشطات ، السابحات ، السابقات ، المدبرات.

النازعات من النزع ، يقال : نزع الشيء جذبه من مقره ، كنزع القوس عن كنانته.

والناشطات من النشط وهو النزع أيضاً ، ومنه حديث أُمّ سلمة فجاء عمار وكان أخاها من الرضاعة ونشط زينب من حجرها ، أي نزعها ونشط الوحش من بلد إلى بلد إذا خرج.

ص: 413


1- النازعات : 1 - 9.

والسابحات من السبح السريع في الماء وفي الهواء ، ويقال : سبح سبحاً وسباحة ، واستعير لمرّ النجوم في الفلك ولجري الفرس.

والسابقات من السبق والمدبرات من التدبير.

وأمّا الغرق اسم أُقيم مقام المصدر ، وهو الإغراق ، يقال : غرق في النزع إذا استوفى في حدّ القوس وبالغ فيه.

هذه هي معاني الألفاظ ، وأمّا مصاديقها فيحتمل أن تكون هي الملائكة ، فهي على طوائف بين نازع وناشط وسابح وسابق ومدبر ، قال الزمخشري : أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها ، أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أُمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم (1).

والمقسم عليه محذوف وهو لتبعثنّ يدل عليه ما بعده من ذكر القيامة.

ولا يخفى انّ الطائفة الثانية على هذا التفسير نفس الطائفة الأُولى ، فالملائكة الذين ينزعون الأرواح من الأجساد هم الذين ينشطون الأرواح ويخرجونها ، ولكن يمكن التفريق بينهما ، بأنّ الطائفة الأُولى هم الموكّلون على نزع أرواح الكفار من أجسادهم بقسوة وشدة بقرينة قوله غرقاً ، وقد عرفت معناه ، وأمّا الناشطات هم الموكلون بنزع أرواح المؤمنين برفق وسهولة.

والسابحات هم الملائكة التي تقبض الأرواح فتسرع بروح المؤمن إلى الجنة ، وبروح الكافر إلى النار ، والسبح الإسراع في الحركة ، كما يقال : للفرس سابح إذا أسرع في جريه.

ص: 414


1- الكشاف : 3 / 308.

والسابقات وهم ملائكة الموت تسبق بروح المؤمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار.

فالمدبرات أمراً المراد مطلق الملائكة المدبرين للأُمور ، ويمكن أن يكون قسم من الملائكة لكلّ وظيفة يقوم بها ، فعزرائيل موكل بقبض الأرواح وغيره موكل بشيء من التدبير.

ثمّ إنّ الأشد ، انطباقاً على الملائكة ، هو قوله : ( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) ، وهو قرينة على أنّ المراد من الأخيرين هم الملائكة ، وبذلك يعلم أنّ سائر الاحتمالات التي تعجّ بها التفاسير لا يلائم السياق ، فحفظ وحدة السياق يدفعنا إلى القول بأنّهم الملائكة.

وبذلك يتضح ضعف التفسير التالي :

المراد بالنازعات الملائكة القابضين لأرواح الكفّار ، وبالناشطات الوحش ، وبالسابحات السفن ، وبالسابقات المنايا تسبق الآمال ، وبالمدبرات الأفلاك ، ولا يخفى انّه لا صلة بين هذه المعاني وما وقع جواباً للقسم وما جاء بعده من الآيات التي تذكر يوم البعث وتحتج على وقوعه.

والآيات شديدة الشبه سياقاً بما مرّ في مفتتح سورة الصافات والمرسلات ، والظاهر انّ المراد بالجميع هم الملائكة.

يقول العلاّمة الطباطبائي : وإذ كان قوله : ( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) مفتتحاً بفاء التفريع الدالة على تفرع صفة التدبير على صفة السبق ، وكذا قوله : ( فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ) مقروناً بفاء التفريع الدالة على تفرع السبق على السبح ، دلّ ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث : ( وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا *

ص: 415

فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) فمدلولها أنّهم يدبرون الأمر بعدما سبقوا إليه ويسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول ، فالمراد بالسابحات والسابقات هم المدبرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما أمروا بتدبيره (1).

تدبير الملائكة

إنّ القرآن الكريم يعرّف اللّه سبحانه هو المدبر والتوحيد في التدبير من مراتبه فله الخلق والتدبير ، ولكن هذا لا ينافي أن يكون بينه سبحانه وبين عالم الخلق وسائط في التدبير يدبرون الأُمور بإرادته ومشيئته ، ويؤدّون علل الحوادث وأسبابها في عالم الشهود ، والآيات الواردة حول تدبير الملائكة كثيرة تدل على أنّهم يقومون بقبض الأرواح وإجراء السؤال ، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك ووضع الموازين والحساب والسوق إلى الجنّة والنار.

كما أنّهم وسائط في عالم التشريع حيث ينزلون مع الوحي ويدفعون الشياطين عن المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد المؤمنين.

وبالجملة هم ( عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (2) فاللّه سبحانه يجري سننه ومشيئته بأيديهم ، فيقبض الأرواح بواسطتهم ، وينزل الوحي بتوسيطهم ، وليس لواحد منهم في عملهم أي استقلال واستبداد ، وفي الحقيقة جنوده سبحانه يقتفون أمره (3).

قال أمير المؤمنين علیه السلام في حقّ الملائكة : فمنهم سجود لا يركعون ، وركوع لا

ص: 416


1- الميزان : 20 / 181.
2- الأنبياء : 26 - 27.
3- الميزان : 20 / 188 ، نقل بتلخيص.

ينتصبون ، وصافُّون لا يتزايلون ، ومسبِّحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نومُ العين ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النِّسيان ، ومنهم أُمناءُ على وحيه ، وألسنة إلى رُسُله ، ومختلفون بقضائه وأمره ، ومنهم الحفظةُ لعباده والسَّدنَة لأبواب جنانه ، ومنهم الثابتة في الأرضين السُّفلى أقدامُهُم ، والمارقةُ من السماء العليا أعناقُهُم ، والخارجة من الأقطار أركانُهم ، والمناسبة لقوائم العرش اكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم ، متلفِّعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حُجُب العزَّة وأستار القدرة ، لا يتوهَّمون ربَّهم بالتَّصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدُّونه بالأماكن ، ولا يُشيرون إليه بالنَّظائر (1).

وقد عرفت أنّ المقسم عليه هو كتبعثن ، وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، هو ما قدمناه في الفصل السابق وهي انّ الملائكة هم وسائط التدبير وخلق العالم وتدبيره لم يكن سدى ولا عبثاً بل لغاية خاصة وهو عبارة عن بعث الناس ومحاسبتهم وجزائهم بما عملوا.

ص: 417


1- نهج البلاغة : 19 - 20 ، الخطبة الأُولى.
الفصل العاشر : القسم في سورة التكوير
اشارة

قد حلف سبحانه في سورة التكوير بالكواكب بحالاتها الثلاث ، مضافاً إلى الليل المدبر ، والصبح المتنفس ، وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ * الجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (1).

تفسير الآيات

أشار سبحانه إلى الحلف الأوّل ، أي الحلف بالكواكب بحالاتها الثلاث بقوله :

الخُنَّس ، الجوار ، الكنس.

كما أشار إلى الحلف بالليل إذا أدبر ، بقوله : ( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ) .

وإلى الثالث أي الصبح المتنفس بقوله : ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) .

وجاء جواب القسم في قوله : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) فوصف الرسول بصفات خمس : كريم ، ذي قوة ، عند ذي العرش مكين ، مطاع ، ثم أمين.

فلنرجع إلى إيضاح الأقسام الثلاثة ثمّ نعرج إلى بيان الرابطة بين المقسم به

ص: 418


1- التكوير : 15 - 21.

والمقسم عليه.

أمّا الحلف الأوّل فهو رهن تفسير الألفاظ الثلاثة.

فقد ذكر سبحانه أوصافاً ثلاثة :

الأوّل : الخنس : وهو جمع خانس كالطُلَّب جمع طالب ، فقد فسره الراغب في مفراداته بالمنقبض ، قال سبحانه : ( مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ ) أي الشيطان الذي يخنس ، أي ينقبض إذا ذكر اللّه تعالى.

وقال تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ ) أي بالكواكب التي تخنس بالنهار.

وقيل : الخنس من زحل والمشتري والمريخ ، لأنّها تخنس في مجراها أي ترجع ، واخنست عنه حقه أي أخرته (1).

فاللفظ هنا بمعنى الانقباض أو التأخر ، ولعلهما يرجعان إلى معنى واحد ، فانّ لازم التأخر هو الانقباض.

الثاني : الجوار : جمع جارية ، والجري السير السريع مستعار من جري الماء.

قال الراغب : الجري ، المرّ السريع ، وأصله كمرِّ الماء.

قال سبحانه : ( وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ) (2) أي السفينة التي تجري في البحر.

الثالث : الكنس : جمع كانس والكنوس دخول الوحش كالظبي والطير كناسه أي بيته الذي اتخذه لنفسه واستقراره فيه ، وهو كناية عن الاختفاء.

فالمقسم به في الواقع هي الجواري بما لها من الوصفين : الخنوس والكنوس ،

ص: 419


1- مفردات الراغب : مادة خنس.
2- الشورى : 32.

وكأنّه قال : فلا أقسم بالجوار الخنس والكنس ، فقد ذهب أكثر المفسرين أنّ المراد من الجواري التي لها هذان الوصفان هي الكواكب الخمسة السيارة التي في منظومتنا الشمسية ، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة ، وهي عطارد ، الزهرة ، المريخ ، المشتري ، زحل ويطلق عليها السيارات المتغيرة.

وتسمية هذه الخمسة بالسيارات والبواقي بالثابتات لا يعني نفي الجري والحركة عن غيرها ، إذ لا شك انّ الكواكب جميعها متحركات ، ولكن الفواصل والثوابت بين النجوم لو كانت ثابتة غير متغيرة فتطلق عليها الثابتات ، ولو كانت متغيرة فتطلق عليها السيارات ، فهذه السيارات الخمسة تتغير فواصلها عن سائر الكواكب.

إذا عرفت ذلك : فهذه الجواري الخمس لها خنوس وكنوس ، وقد فسرا بأحد وجهين :

الأوّل : أنّها تختفي بالنهار ، وهو المراد من الخنّس ، وتظهر بالليل وهو المراد من الكنّس.

يلاحظ عليه : أنّ تفسير خنس بالاختفاء لا يناسب معناها اللغوي ، أعني : الانقباض والتأخر إلاّ أن يكون كناية عن الاختفاء.

كما أنّ تفسير الكنس بالظهور خلاف ما عليه أهل اللغة في تفسيره بالاختفاء ، وما ربما يقال : من أنّها تظهر في أفلاكها كما تظهر الظباء في كنسها (1) ، لا يخلو من إشكال ، فأنّ الظباء لا تظهر في كنسها بل تختفي فيها.

ولو سلمنا ذلك فالأولى أن يفسر الجواري بمطلق الكواكب لا الخمسة المتغيرة.

ص: 420


1- تفسير المراغي : 30 / 57.

الثاني : أن يقال : انّ خنوسها وانقباضها كناية عن قرب فواصلها ثمّ هي تجري وتستمر في مجاريها ، وكنوسها عبارة عن قربها وتراجعها.

قال في اللسان : « وكنست النجوم كنساً ، كنوساً : استمرت من مجاريها ثم انصرفت راجعة (1).

وعلى ذلك فاللّه سبحانه يحلف بهذه الأنجم الخمسة بحالاتها الثلاث المترتبة في الليل ، وهي انّها على أحوال ثلاثة.

منقبضات حينما تقرب فواصلها ثمّ إنّها بالجري يبتعد بعضها عن بعض ، ثمّ ترجع بالتدريج إلى حالتها الأُولى فهي بين الانقباض والابتعاد بالجري ثمّ الرجوع إلى حالتها الأُولى.

( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ) : وقد فسر عسعس بإدبار الليل وإقباله ، فإقبالها في أوّله وإدبارها في آخره.

والظاهر انّ المراد هو إقبالها.

قال الزجاج : عسعس الليل إذا أقبل وعسعس إذا أدبر ، ولعل المراد هو الثاني بقرينة الحلف الثالث أعني ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) ، والمراد من تنفس الصبح هو انبساط ضوئه على الأُفق ودفعه الظلمة التي غشيته ، وكأنّ الصبح موجود حيوي يغشاه السواد عند قبض النفس ويعلوه الضوء والانبساط عند التنفس قال الشاعر :

حتى إذا الصبح لها تنفسا *** وانجاب عنها ليلها وعسعسا

هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ

ص: 421


1- لسان العرب : مادة كنس.

كَرِيمٍ ) .

الضمير في قوله : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) يرجع إلى القرآن بدليل قوله : ( لَقَوْلُ رَسُولٍ ) والمراد من « رسول هو جبرئيل وكون القرآن قوله لا ينافي كونه قول اللّه إذ يكفي في النسبة أدنى مناسبة وهي انّه أنزله على قلب سيد المرسلين. قال سبحانه : ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (1) وقال : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) (2).

ثمّ إنّه سبحانه وصفه بصفات ست :

1. رسول : يدل على وساطته في نزول الوحي إلى النبي.

2. كريم : عزيز بإعزاز اللّه.

3. ذي قوة : « ذي قدرة وشدة بالغة ، كما قال سبحانه : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ) (3).

4. ( عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) : أي صاحب مكانة ومنزلة عند اللّه ، وهي كونه مقرباً عند اللّه.

5. مطاع : عند الملائكة فله أعوان يأمرهم وينهاهم.

6. أمين : لا يخون بما أمر بتبليغه ما تحمّل من الوحي.

وعطف على جواب القسم قوله : ( وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ ) (4) والمراد هو

ص: 422


1- البقرة : 97.
2- الشعراء : 193 - 194.
3- النجم : 5 - 6.
4- التكوير : 22.

نبيّنا محمد صلی اللّه علیه و آله ، وكأنّ صاحبه حلف بما حلف ، للتأكيد على أمرين :

أ : القرآن نزل به جبرئيل.

ب : انّ محمّداً ليس بمجنون.

ثمّ إنّ الصلة بين المقسم به والمقسم عليه : هو انّ القرآن - المقسم عليه - حاله كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم ، فكما أنّ لهذه الكواكب ، انقباض وجري ، وتراجع ، فهكذا حال الناس مع هذا القرآن فهم بين منقبض من سماع القرآن ، وجار وسار مع هداه ، ومدبر عن هديه إلى العصر الجاهلي.

ثمّ إنّ القرآن أمام المستعدّين للهداية كالصبح في إسفاره ، فهو لهم نور وهداية ، كما أنّ للمدبرين عنه ، كالليل المظلم ، وهو عليهم عمى ، واللّه العالم.

ثمّ إنّ في اتهام أمين الوحي بالخيانة ، والنبي الأعظم بالجنون ، دلالة واضحة على بلوغ القوم القسوة والشقاء حتى سوّغت لهم أنفسهم هذا العمل ، فزين لهم الشيطان أعمالهم.

وأخيراً نود الإشارة إلى كلمة قيمة لأحد علماء الفلك تكشف من خلالها عظمة تلك الكواكب والنجوم ، حيث يقول : لا يستطيع المرء أن يرفع بصره نحو السماوات العلى إلاّ ويغضي إجلالاً ووقاراً ، إذ يرى ملايين من النجوم الزاهرة الساطعة ، ويراقب سيرها في أفلاكها وتنقلها في أبراجها ، وكلّ نجم وأي كوكب ، وكل سديم وأي سيار ، إنّما هو دنياً قائمة بذاتها ، أكبر من الأرض وما فيها وما عليها وما حولها (1).

ص: 423


1- اللّه والعلم الحديث : 25.
الفصل الحادي عشر : القسم في سورة الانشقاق
اشارة

حلف سبحانه تبارك وتعالى بأُمور أربعة : الشفق ، والليل ، وما وسق ، والقمر ، فقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ) (1).

تفسير الآيات

الشفق : هو الحمرة بين المغرب والعشاء الآخرة ، والمراد منه في الآية الحمرة التي تبقى عند المغرب في الأُفق ، وقيل : البياض فيه.

والوسق : جمع المتفرق ، يقال : وسقت الشيء إذا جمعته ، ويسمي القدر المعلوم من الحمل كحمل البعير وسقاً ، فيكون المعنى والليل وما جمع وضمّ ممّا كان منتشراً بالنهار ، وذلك انّ الليل إذا أقبل آوى كلّ شيء إلى مأواه ، وربما يقال : بمعنى « ما ساق » لأنّ ظلمة الليل تسوق كلّ شيء إلى مسكنه.

واتسق : من الاتساق بمعنى الاجتماع والتكامل فيكون المراد امتلاء القمر.

والطبق : الحال ، والمراد لتركبنّ حالاً بعد حال ، ومنزلاً بعد منزل ، وأمراً بعد أمر.

ص: 424


1- الانشقاق : 16 - 21.

وحاصل معنى الآيات :

لا أُقسم بالشفق ، وقد ذكرنا حديث « لا » وانّ معنى الجملة هو الحلف ومعناه أقسم بالحمرة التي تظهر في الأُفق الغربي عند بداية الليل وما يظهر بعد الحمرة من بياض والمعروف في الشفق في لسان الأُدباء هو الحمرة ولذلك يشبهون دماء الشهداء بالشفق غير انّه ربما يستعمل في البياض الطارئ على الحمرة الذي هو آية ضعف الشفق ونهايته.

وأقسم بالليل لما فيه من آثار وأسرار عظيمة ، فلولا الليل لما كان هناك حياة كالضياء ، فكلّ من الليل والنهار دعامتا الحياة ، قال سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (1).

ثمّ إنّه سبحانه أشار إلى ما يترتب على الليل والنهار من البركات ، فقال : ( وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (2) ، فخلق النهار لطلب الرزق والمعاش ، كم البدن بالنوم فيه والسكن إليه وسيوافيك التفصيل في الفصول القادمة إن شاء اللّه.

وأقسم بما وسق ، أي بما جمع الليل ، ولعلّه إشارة إلى عودة الإنسان والحيوانات والطيور إلى أوكارها عند حلول الليل ، فيكون الليل سكناً عاماً للكائنات الحيّة.

ص: 425


1- القصص : 71 - 72.
2- القصص : 73.

حلف بالقمر عند اتساقه واكتماله في الليالي الأربع لما فيه من روعة وجمال ، ولذلك يُشبَّه الجميل بالقمر ، مضافاً إلى نوره الهادئ الرقيق الذي يغطّي سطح الأرض. وهو من الرقة واللطافة بمكان لا يكسر ظلمة الليل وفي الوقت نفسه ينير الطرق والصحاري.

فهذه أقسام أربعة بينها ترتب خاص ، فانّ الشفق أوّل الليل يطلع بعده القمر في حالة البدر ، فهذه الموضوعات الأربع أُمور كونية يقع كلّ بعد الآخر حاكية عن عظمة الخالق.

وأمّا المقسم عليه فهو قوله سبحانه : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ) وهي إشارة إلى المراحل التي يمرّ بها الإنسان في حياته وأوضحها هي الحياة الدنيوية ثمّ الموت ثمّ الحياة البرزخية ثمّ الانتقال إلى الآخرة ثمّ الحياة الأُخروية ثمّ الحساب والجزاء.

وفي هذه الآية إلماع إلى ما تقدّم في الآية السادسة من هذه السورة ، أعني قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ) (1).

والكدح بمعنى السعي والعناء يتضمن معنى السير.

فالآية تشير إلى أنّ الحياة البشرية تتزامن مع التعب والعناء ، ولكن الغاية منها هو لقاء اللّه سبحانه ، وكأنّ هذا الكدح باق إلى حصول الغاية ، أي لقاء جزائه من ثواب وعقاب أو لقاء اللّه بالشهود.

وأمّا وجه الصلة وهو بيان انّ الأشواط التي يمرّ بها الإنسان أُمور مترتبة متعاقبة كما هو الحال في المقسم به أعني الشفق الذي يعقبه الليل الدامس ويليه ظهور القمر.

ص: 426


1- الانشقاق : 6.

توضيحه : انّ القرآن يحدّث عن أُمور متتابعة الوقوع وبذات تسلسل خاص فعندما تغيب الشمس يظهر الشفق معلناً عن بداية حلول الليل الذي تتجه الكائنات الحية إلى بيوتها وأوكارها ثمّ يخرج القمر بدراً تاماً ، فإذا كان المقسم به ذات أُمور متسلسلة يأتي كلّ بعد الآخر فالطبقات التي يركبها الإنسان مثل المقسم به مترتبة متتالية فيبدأ بالدنيا ثمّ إلى عالم البرزخ ومنه إلى يوم القيامة ومنه إلى يوم الحساب.

وبذلك يعلم وجه استعجابه سبحانه عن عدم إيمانهم ، حيث قال : ( فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) فانّ هذا النظام الرائع في الكون وحياة الإنسان من صباه إلى شبابه ومن ثمّ إلى هرمه لدليل واضح على أنّ عالم الخلقة يدبر تحت نظر خالق مدبر عارف بخصوصيات الكون.

يقول أحد علماء الطبيعة في هذا الصدد : إنّ جميع ما في الكون يشهد على وجود اللّه سبحانه ويدل على قدرته وعظمته ، وعندما نقوم - نحن العلماء - بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها ، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية ، فانّنا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي اللّه وعظمته. ذلك هو اللّه الذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها ، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كلّ ذرة من ذرات هذا الوجود (1).

ص: 427


1- اللّه يتجلى في عصر العلم : 26.
الفصل الثاني عشر : القسم في سورة البروج
اشارة

حلف سبحانه في سورة البروج بأُمور أربعة :

أ : ( السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ) : المنازل.

ب : ( الْيَوْمِ المَوْعُودِ ) : القيامة.

ج : شاهد.

د : مشهود.

قال سبحانه : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ المَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ) (1).

فأقسم سبحانه بالعالم العلوي وهو السماء وما فيها من المنازل التي هي أعظم الأمكنة وأوسعها ثمّ أقسم بأعظم الأيّام وأجلّها الذي هو مظهر ملكه وأمره ونهيه وثوابه وعقابه ، ومجمع أوليائه وأعدائه والحكم بينهم بعلمه وعدل.

ثم أقسم بكلّ شاهد ومشهود - إذا كان اللام للجنس - فيكون المراد كلّ مدرِك ومدرَك وراع ومرعي ، والمصداق البارز له هو النبي الذي سمّي شاهداً كما سيوافيك ، كما أنّ المصداق البارز للمشهود هو يوم القيامة ، فلنرجع إلى تفسير الآيات.

ص: 428


1- البروج : 1 - 8.
تفسير الآيات

أمّا السماء : فكلّ شيء علاك فهو سماء ، قال الشاعر في وصف فرسه :

واحمر كالديباج أمّا سماؤه *** فريّاً وأمّا أرضه فمحول

وقال بعضهم كلّ سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء ، وبالإضافة إلى ما فوقها فأرض وسمي المطر سماءً لخروجه منها.

وأمّا البروج واحدها برج ويطلق على الأمر الظاهر وغلب استعماله في القصر العالي لظهوره على الناظرين ، ويسمّى البناء المعمول على سور البلد للدفاع برجاً ، والمراد هنا مواضع الكواكب من السماء.

وربما يفسر بالمنازل الاثنى عشر للقمر ، لأنّ القمر يصير في كلّ برج يومين وثلث يوم ، وذلك ثمانية وعشرون يوماً ، ثمّ يستتر ليلتين ثمّ يظهر.

وربما يفسر بمنازل الشمس في الشمال والجنوب ، ولكن الأولى ما ذكرناه منازل النجوم على وجه الإطلاق.

واليوم الموعود عطف على السماء وهو يوم القيامة الذي وعد اللّه سبحانه أن يجمع فيه الناس ويوم الفصل والجزاء الذي وعد اللّه به على ألسنة رسله وفيه يتفرد ربّنا بالملك والحكم.

وقد وعد اللّه سبحانه به في القرآن الكريم غير مرّة وقال :

( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (1).

ص: 429


1- يونس : 48.

وقال : ( أَلا إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

وقال تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ ) (2).

إلى غير ذلك من الآيات التي سمّى اللّه سبحانه فيها ذلك اليوم بوعد اللّه.

وشاهد ومشهود ، اللفظان معطوفان على السماء والجميع قسم بعد قسم ، وأمّا ما هو المقصود ؟ فالظاهر انّ الشاهد هو من عاين الأشياء وحضرها ، وأوضحه مصداقاً هو النبي صلی اللّه علیه و آله لأنّه سبحانه وصفه بكونه شاهداً ، قال : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ) (3).

نعم تفسيره بالنبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله من باب الجري والتطبيق على أفضل المصاديق وإلاّ فله معنى أوسع ، يقول سبحانه : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (4) فقد عدّ المؤمنين شهوداً على الأعمال ، فإنّ الغاية من الرؤية هو الشهود.

وتدل الآيات على أنّ نبي كلّ أُمّة شاهد على أُمّته ، قال سبحانه : ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) (5).

وأمّا المشهود فالمراد منه يوم القيامة ، لأنّه من صفات يومها ، قال سبحانه :

ص: 430


1- يونس : 55.
2- الكهف : 21.
3- الأحزاب : 45.
4- التوبة : 105.
5- النساء : 159.

( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) (1) والمراد به ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ ) أي يجمع فيه الناس كلّهم الأوّلون والآخرون منهم للجزاء والحساب والهاء في له راجعة إلى اليوم ( وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) أي يشهده الخلائق كلّهم من الجن والإنس وأهل السماء وأهل الأرض أي يحضره ولا يوصف بهذه الصفة يوم سواه وفي هذا دلالة على إثبات المعاد وحشر الخلق (2).

هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فيحتمل أن يكون أحد أمرين :

أ : ( قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ) وفسره بقوله : ( النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ) أي أصحاب الأُخدود هم أصحاب النّار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها ، ويكون حريقها عظيماً ، ولهيبها متطايراً.

ثمّ أشار إلى وصف آخر لهم ( إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ) أي أحرقوا المؤمنين بالنار وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم وهم يعذبون بها ويوضحه قوله في الآية اللاحقة : ( وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ) أي أُولئك الجبابرة الذين أحرقوا المؤمنين كانوا حضوراً عند تعذيبهم يشاهدون ما يُفعل بهم ، وفي هذا إيماء إلى قسوة قلوبهم ، كما فيه إيماء إلى قوة اصطبار المؤمنين وشدّة جلدهم ورباطة جأشهم.

وأمّا الصلة بين ما حلف به من السماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود وجواب القسم فهي انّه سبحانه حلف بالسماء ذات البروج والبروج آية الدفاع حيث كان أهل البلد يدافعون من البروج المبنية على سور البلد عن بلدهم ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن

ص: 431


1- هود : 103.
2- مجمع البيان : 5 / 191.

كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) (1).

فحلف سبحانه بالسماء ذات البروج في المقام مبيناً بأنّ اللّه الذي كما يدفع بالبروج عن السماء كيد الشياطين كذلك يدفع عن إيمان المؤمنين كيد الشياطين وأوليائهم من الكافرين.

ثمّ أقسم باليوم الموعود الذي يجزي فيها الناس بأعمالهم فهو يجزي أصحاب الأُخدود بأعمالهم ، وأقسم بالشاهد الذي يشاهد أعمال الآخرين ، وأقسم بمشهود أي كل ما يشهده الشاهد وهو انّه سبحانه تبارك وتعالى يعاين أعمالهم ويشاهدها.

ويمكن أن يكون جواب القسم ، قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ) (2).

فاللّه سبحانه يوعد الكفّار ويعد المؤمنين.

وأمّا وجه الصلة فواضح أيضاً بالنسبة إلى ما ذكرنا في الوجه الأوّل ، ويحتمل أن يكون الجواب قوله : ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ) (3) ، والمناسبة تلك المناسبة فلا نطيل.

ويحتمل أن يكون الجواب محذوفاً يدل عليه الآيات المتقدمة ، والمحذوف كالتالي :

إيعاد الفاتنين ووعد المؤمنين وهكذا.

ص: 432


1- الحجر : 16 - 17.
2- البروج : 10 - 11.
3- البروج : 12 - 13.
الفصل الثالث عشر : القسم في سورة الطارق

حلف سبحانه بأمرين : بالسماء والطارق ، ثمّ فسر الطارق بالنجم الثاقب ، حلف بهما بغية دعوة الناس إلى الإذعان بأنّ لكلّ نفس حافظ.

قال سبحانه : ( وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) (1).

أمّا السماء فقد مرّ البحث فيه ، والطارق من الطرق ويسمّى السبيل طريقاً ، لأنّه يطرق بالأرجل أي يضرب ، لكن خصّ في العرف بالآتي ليلاً ، فقيل انّه طرق أهله طروقاً ، وعبر عن النجم بالطارق لاختصاص ظهوره بالليل.

النجم الثاقب والثاقب الشيء الذي يثقب بنوره وإصابته مايقع عليه ، قال سبحانه : ( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (2).

( إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) فلفظة ( لما ) بمعنى إلاّ نظير قوله سبحانه : ( وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ) (3) ونظيره قولك : « سألتك باللّه لما فعلت ».

والمراد من حافظ هم الموكلون على كتابة أعمال الإنسان حسنها وسيئها ،

ص: 433


1- الطارق : 1 - 4.
2- الصافات : 10.
3- هود : 111.

يحاسب عليها يوم القيامة ويجزى بها فالحافظ هو الملك والمحفوظ هو العمل ، قال تعالى : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) (1) ويحتمل أن يراد من حافظ هو القوة الحافظة للإنسان من الموت وفساد البدن ولعلّه إليه يرشد قوله سبحانه : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) (2).

والقوى الظاهرية والمادية والمعنوية التي هي من جنود ربنا والتي وكّلت لحفظ الإنسان من الشر إلى أن ينقضي عمره ، هم الحفظة ، ولكن المعنى الأوّل هو الأنسب.

بقي هنا أمران :

الأوّل : انّ المراد من النجم الثاقب هو كوكب زحل ، فانّه من أبعد النجوم في مجموعتنا الشمسية التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة وقيل لزحل عشرة أقمار يمكن رؤية ثمانية منها بالناظور العادي.

ولا يمكن رؤية الآخرين إلاّ بالنواظير الكبيرة ، والظاهر انّ المراد مطلق النجم الذي يثقب ضوءه وإن كان زحل من أظهر مصاديقه.

وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) .

وأمّا الصلة بينهما بالنحو التالي :

هو انّ السماء العالية والنجوم التي تتحرك في مدارات منظمة دليل النظم والحساب الدقيق ، فليعلم الإنسان بأنّ أعماله أيضاً تخضع للحساب الدقيق ، فانّ هناك من يحفظ أعماله ويسجّلها إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر ، وانّها لمسؤولية

ص: 434


1- الانفطار : 10 - 12.
2- الأنعام : 61.

عظيمة يحملها الإنسان ، إذ ما من أحد إلاّ وهو مراقب ، تكتب عليه كلّ أعماله من المهد إلى اللحد ، فليس من شيء يضيع في هذه الدنيا أبداً. هذا إذا قلنا بأنّ المراد من حافظ هو حافظ الأعمال ، وأمّا إذا فسرت من يحفظ الإنسان من الحوادث والمهالك ، فالصلة بالنحو التالي :

وهو انّ للنفوس رقيباً يحفظها ويدبر شؤونها في جميع أطوار وجودها حتى ينتهي أجلها ، كما أنّ للسماء مدبراً لشؤونها بما تحتويه من أنظمة رائعة ومعقدة ، فالفضاء الكوني فسيح جداً تتحرك فيه كواكب لا حصر لها ، بسرعة خارقة ، بعضها يواصل رحلته وحده ، ومنها أزواج تسير مثنى مثنى ، ومنها ما يتحرك في شكل مجموعات ، والكواكب على كثرتها يواصل كلّ واحد منها سفره على بُعد عظيم يفصله عن الكواكب الأُخرى.

إنّ هذا الكون يتألف من مجموعات كثيرة من الكواكب والنجوم تسمّى مجاميع النجوم ، وكلّها تتحرك دائماً وتدور في نظام رائع.

ومع هذا الدوران تجري حركة أُخرى وهي انّ هذا الكون يتسع من كلّ جوانبه ، كالبالون المتخذ من المطاط ، وجميع النجوم تبتعد في كلّ ثانية بسرعة فائقة عن مكانها ، هذه الحركة المدهشة تحدث طبقاً لنظام وقواعد محكمة بحيث لا يصطدم بعضها ببعض ولا يحدث اختلاف في سرعتها (1).

ص: 435


1- الإسلام يتحدى : 58.
الفصل الرابع عشر : القسم في سورة الفجر
اشارة

حلف سبحانه في سورة الفجر بأُمور خمسة :

1. الفجر ، 2. ليال عشر ، 3. الشفع ، 4. الوتر ، 5. الليل إذا يسر

وقال : ( وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ) (1).

تفسير الآيات

اختلف المفسرون في تفسير هذه الأقسام إلى أقوال كثيرة ، غير انّ تفسير القرآن بالقرآن يدفعنا إلى أن نفسره بما ورد في سائر الآيات.

أمّا الفجر : فهو في اللغة ، كما قال الراغب : شق الشيء شقاً ، قال سبحانه : ( وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا ) وقال : ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) ومنه قيل للصبح ، الفجر لكونه يفجر الليل ، وقد استعمل الفجر بصورة المصدر في فجر الليل ، قال : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) (2) ، وقال سبحانه : ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (3) وقال سبحانه : ( سَلامٌ هِيَ حَتَّى

ص: 436


1- الفجر : 1 - 5.
2- الإسراء : 78.
3- البقرة : 187.

مَطْلَعِ الْفَجْرِ. (1)

وعلى ضوء هذا فلو كان اللام للجنس ، فهو محمول على مطلق الفجر ، أعني : انفجار الصبح الصادق ، وإن كان مشيراً إلى فجر ليل خاص فهو يتبع القرينة ، ولعلّ المراد فجر الليلة العاشرة من ذي الحجة الحرام.

( وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) فقد اختلف المفسرون في تفسير الليالي العشر ، فذكروا احتمالات ليس لها دليل.

أ : الليالي العشر من أوّل ذي الحجة إلى عاشرها ، والتنكير للتفخيم.

ب : الليالي العشر من أوّل شهر محرم الحرام.

ج : العشر الأواخر من شهر رمضان وكلّ محتمل ، ولعل الأوّل أرجح.

وأمّا الشفع : فهو لغة ضمّ الشيء إلى مثله ، فلو قيل للزوج شفع ، لأجل انّه يضم إليه مثله ، والمراد منه هو الزوج بقرينة قوله والوتر ، وقد اختلفت كلمتهم فيما هو المراد من الشفع والوتر.

1. الشفع هو يوم النفر ، والوتر يوم عرفة وإنّما أقسم اللّه بهما لشرفهما.

2. الشفع يومان بعد النحر ، والوتر هو اليوم الثالث.

3. الوتر ما كان وتراً من الصلوات كالمغرب والشفع ما كان شفعاً منها.

إلى غير ذلك من الأقوال التي أنهاها الرازي إلى عشرين وجهاً ، ويحتمل أن يكون المراد من الوتر هو اللّه سبحانه ، والشفع سائر الموجودات.

( وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ) : أمّا الليل فمعلوم ، وأمّا قوله يسر ، فهو من سرى يسري

ص: 437


1- القدر : 5.

فحذف الياء لأجل توحيد فواصل الآيات ، ويستعمل الفعل في السير في الليل ، كما في قوله سبحانه : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى ) (1) ، فالليل ظرف والساري غيره ، ولكن الآية نسبت الفعل إلى نفس الليل فكأنّ الليل موجود حقيقي له سير نحو الأمام فهو يسير إلى جانب النور ، فاللّه سبحانه حلف بالظلام المتحرك الذي سينجلي إلى نور النهار.

مضافاً إلى ما في الليل من عظائم البركات التي لا تقوم الحياة إلاّ بها.

هذا ما يرجع إلى مجموع الآية ونعود إلى الآيات بشكل آخر ، فنقول : امّا الفجر فقد حلف به سبحانه بصورة أُخرى أيضاً ، وقال : ( وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) (2) ، وقال تبارك وتعالى : ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) (3) ، والمراد من الجميع واحد ، فإنّ إسفار الصبح في الآية الأُولى هو طلوع الفجر الصادق ، فكأنّ الصبح كان مستوراً بظلام الليل ، فهو رفع الستار وأظهر وجهه ، ولذلك استخدم كلمة أسفر يقال : أسفرت المرأة : إذا رفع حجابها.

ويعود سبب تعاقب الليل والنهار إلى دوران الأرض حول الشمس ، فبسبب كرويّتها لا تضيئ الشمس سائر جهاتها في آن واحد بل تضيئ نصفها فقط ويبقى النصف الآخر مظلماً حتى يحاذي الشمس بدوران الأرض فيأخذ حظه من الاستنارة ، وتتم الأرض هذه الدورة في أربعة وعشرين ساعة.

كما أنّ المراد من الآية الثانية أعني : ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) هو انتشار نوره ، فعبّر عنه بالتنفّس ، فكأنّه موجود حي يبث ما في نفسه إلى الخارج ، أمّا عظمة

ص: 438


1- الإسراء : 1.
2- المدثر : 34.
3- التكوير : 18.

الفجر فواضحة ، لأنّ الحياة رهن النور ، وطلوع الفجر يثير بارقة الأمل في القلوب حيث تقوم كافة الكائنات الحية إلى العمل وطلب الرزق.

وأمّا الليالي العشر فهي عبارة عن الليالي التي تنزل فيها بركاته سبحانه إلى العباد ، سواء فسرت بالليالي العشر الأُولى من ذي الحجّة أو الليالي العشر من آخر شهر رمضان. فالليل من نعمه سبحانه حيث جعله سكناً ولباساً للإنسان وقال : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ) (1) كما جعله سكناً للكائنات الحية حيث ينفضون عن أنفسهم التعب والوصب ، قال سبحانه : ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ) (2).

وأمّا الشفع والوتر ، فقد جاء مبهماً وليس في القرآن ما يفسر به فينطبق على كلّ شفع ووتر ، وبمعنى آخر يمكن أن يراد منه صحيفة الوجود من وتره كاللّه سبحانه وشفعه كسائر الموجودات.

وأمّا قوله : ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ) أقسم بالليل إذا يمضي ظلامه ، فلو دام الليل دون أن ينجلي لزالت الحياة ، يقول سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ) (3).

فتبين مما سبق منزلة المقسم به في هذه الآيات وانّها تتمتع بالكرامة والعظمة. وأمّا المقسم عليه فيحتمل وجهين :

أحدهما : انّه عبارة عن قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ ) (4).

ثانيهما : انّ المقسم عليه محذوف يعلم من الآيات التي أعقبت هذه الاقسام ،

ص: 439


1- النبأ : 10.
2- الأنعام : 96.
3- القصص : 71.
4- الفجر : 14.

قال سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ ) (1).

فالمفهوم من هذه الآيات انّه سبحانه حلف بهذه الأقسام بغية الإيعاد بأنّه يعذب الكافرين والطاغين والعصاة كما عذب قوم عاد وثمود ، فالإنسان العاقل يعتبر بما جرى على الأُمم الغابرة من إهلاك وتدمير.

أمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فهو : انّ من كان ذا لبٍّ ، علم أنّ ما أقسم اللّه به من هذه الأشياء فيه دلائل على قدرته وحكمته ، فهو قادر على أن يكون بالمرصاد لأعمال عباده فلا يعزب عنه أحد ولا يفوته شيء من أعمالهم لأنّه يسمع ويرى جميع أقوالهم وأفعالهم خصوصاً بالنظر إلى ما أدَّب به قوم عاد وثمود مع ما كان لهم من القوة والمنعة.

ص: 440


1- الفجر : 6 - 14.
الفصل الخامس عشر : القسم في سورة البلد
اشارة

حلف سبحانه في سورة البلد بأُمور أربعة : البلد ، ومن حلّ فيه ، ووالد ، وما ولد ، وقد حلف بالثاني كناية وبما سواه تصريحاً ، قال سبحانه : ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) (1).

تفسير الآيات

حلف فيها سبحانه بمكة المكرمة كما حلف بالنبي صلی اللّه علیه و آله الحالِّ فيها ، ومقتضى التناسب بين الأقسام أن يكون المراد من الوالد والولد ، هو إبراهيم وإسماعيل اللذان بنيا البيت ، ودعا إبراهيم كلّ راكب وراحل إلى زيارته.

أمّا الحلف الأوّل فواضح ، لأنّ البيت مركز للتوحيد ولعبادة اللّه سبحانه ، وهو مطاف أنبياء اللّه العظام وأوليائه ، فقد بلغ من المكانة مرتبة صلح أن يحلف به سبحانه ، كيف وقد قال سبحانه في حق البيت : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) (2).

قال سبحانه : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا ) (3) وقال : ( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ ) (4) فلو حلف بالبلد ، فإنّما لأجل احتضانه

ص: 441


1- البلد : 1 - 4.
2- آل عمران : 96.
3- البقرة : 125.
4- المائدة : 97.

أشرف بيوت اللّه ، ويزيد على شرفه انّ النبي الخاتم ، قطين هذا البلد ، ونزيله ، فزاده شرفاً على شرف ، والحل هو الساكن.

وبذلك يعلم أنّ ذكره صلی اللّه علیه و آله بهذا النحو هو في الواقع حلف ضمنيّ به.

وهذا التفسير مبني على أنّ المراد من الحلِّ هو نزول النبي صلی اللّه علیه و آله بهذا البلد ، ولكن ربما يفسر بالمستحلّ ، أي من استحلت حرمته وهتكت كرامته ، وعند ذلك ينقلب معنى الآية إلى شيء آخر ، ويكون معناها هو : لا أُقسم بهذا البلد المقدّس حال انّك مهتوك الحرمة والكرامة ، ويكون توبيخاً وتقريعاً لكفّار قريش حيث إنّهم يحترمون البلد ، ولا يحترمون من حلَّ فيه أشرف الخليقة.

وعلى ذلك فيكون « لا » في ( لا أُقْسِمُ ) بمعنى النفي لا الزيادة ، ولا بمعنى نفي شيء آخر على ما قدمناه في تفسير سورة الواقعة.

يقول الزمخشري : أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أنّ الإنسان خلق مغموراً في مكابدة المشاق والشدائد ، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله : ( وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) يعني : ومن المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يُستحل بهذا البلد الحرام ، كما يُستحلّ الصيد في غير الحرم ، عن شرحبيل يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك ، وفيه تثبيت من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته . (1)

وقال الطبرسي : معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ فيه منتهك الحرمة مستباح العرض لا تحترم ، فلم يبق للبلد حرمة حيث هتكت حرمتك ، قال وهو

ص: 442


1- الكشاف : 3 / 338.

المروي عن أبي مسلم كما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : كانت قريش تعظم البلد وتستحل محمداً فيه ، فقال : لا أُقسم بهذا البلد وأنت حلّ بهذا البلد يريد انّهم استحلوك فكذبوك وشتموك ، وكان لا يأخذ الرجل منهم قاتل أبيه فيه ويتقلدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقليده إيّاه فاستحلوا من رسول اللّه ما لم يستحلوا من غيره فعاب اللّه ذلك عليهم (1).

ثمّ حلف بوالد وما ولد وللمفسرين في تفسيره أقوال أوضحها بأنّ الوالد هو إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح وهذا يتناسب مع القسم بمكة ، لأنّ الوالد والولد هما رفعا قواعد البيت.

وأمّا تفسيرها بآدم وذريته ، أو آدم والأنبياء ، أو آدم وكلّ من ولد عبر القرون تفسير بعيد.

هذا كلّه حول القسم ، وأمّا المقسم عليه ، فقوله سبحانه : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) (2).

والكبد في اللغة شدّة الأمر ومنه تكبد البلد إذا غلظ واشتد ، ومنه الكبد للإنسان ، لأنّه دم يغلظ ويشتد ، وتكبّد البلد : إذا صار كالكبد ، ومعنى الآية واضح ، فانّ الإنسان منذ خلق إلى أن أدرج في أكفانه لم يزل يكابد أمراً فأمراً ، فمن حمله وولادته ورضاعه وفطامه وشبابه وكماله وهرمه كلّ ذلك محفوف بالتعب والوصب ، يقول الشاعر :

يا خاطب الدنيا الدَّني *** ة إنّها شَرَكُ الرَّدى

ص: 443


1- مجمع البيان : 5 / 493.
2- البلد : 4.

دارٌ متى ما أضحكت *** في يومها أبكت غدا

وإذا أظلَّ سحابها *** لم ينتقع منه صدى

غاراتُها ما تنقضى *** وأسيرها لا يُفتدى (1)

ويرثي التهامي ولده في قصيدة معروفة مبتدئاً بوصف الدنيا ، ويقول :

حكم المنية في البرية جار *** ما هذه الدنيا بدار قرار

بينا يُرى الإنسان فيها مخبراً *** حتى يرى خبراً من الاخبار

طُبعتْ على كدر وأنت تريدها *** صفوا من الاقدار والاكدار

ومكلِّف الأيام ضدَّ طباعها *** متطلب في الماء جذوةَ نار

وإذا رجوت المستحيل فإنّما *** تبني الرجاء على شفير هار

فالعيش نوم والمنية يقظة *** والمرء بينهما خيال سار (2)

ص: 444


1- مقامات الحريري : 225 ، المقامة الثالثة والعشرون الشعرية.
2- شهداء الفضيلة : 26.

رحم اللّه شيخنا الوالد آية اللّه الشيخ محمد حسين السبحاني ( 1299 - 1392 ه ) فقد كان في أواخر أيام عمره طريح الفراش فزارته ابنته « فاطمة » وكنت أرافقها فسألناه عن حاله فأنشدَ بيتاً من لامية العجم للطغرائي وقال :

ترجو البقاء بدار لا ثبات لها *** فهل سمعت بظل غير منتقل

أمّا الكلام حول الدنيا ومصاعبها وما احتضنت من التعب والوصب ، فيكفي في ذلك قراءة خطب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ، ننقل منها هذه الشذرات :

« أمّا بعد ، فإنّي أُحذركم الدنيا ، فإنّها حلوة خضرة ، حفّت بالشهوات ، وتحبّبت بالعاجلة. وراقت بالقليل ، وتحلّت بالآمال ، وتزيّنت بالغرور ، لا تدوم حبرتها ، ولا تؤمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة ، حائلة زائلة ، نافدة بائدة ، أكّالة غوّالة ، لا تعدو - إذا تناهت إلى أُمنية أهل الرغبة فيها والرضاء ( الرضى ) بها - أن تكون كما قال اللّه تعالى سبحانه : ( كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) (1) لم يكن امرؤٌ ومنها في حبرة إلاّ أعقبته بعدها عبرة ، ولم يلق في سرّائها بطناً ، إلاّ منحته من ضرّائها ظهراً (2) .

وقال علیه السلام في خطبة أُخرى :

« ألا وإنّ الدنيا قد تصرَّمت ، وآذنت بانقضاء ، وتنكَّر معروفها ، وأدبرت حذّاء ، فهي تحفز بالفناء سكّانها ( ساكنيها ) ، وتحدو بالموت جيرانها ، وقد أمرّ فيها ما كان حلواً ، وكدر منها ما كان صفواً ، فلم يبق ( تبق ) منها إلاّ سملة كسملة الإداوة أو جرعة كجرعة المقلة ، لو تمزّزها الصّديان لم ينقع. فأزمعوا عباد اللّه الرحيل

ص: 445


1- الكهف : 45.
2- نهج البلاغة ، الخطبة : 111.

عن هذه الدار المقدور على أهلها الزّوال ، ولا يغلبنّكم فيها الأمل ، ولا يطولنّ عليكم فيها الأمد » (1).

يقول العلاّمة الطباطبائي : فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلاّ خالصة في طيبها ، محضة في هنائها ، ولا ينال شيئاً منها إلاّ مشوبة بما ينغص العيش مقرونة بمقاساة ومكابدة ، مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر ويفاجئه من طوارق الحدثان (2).

وربّما ينظر الإنسان إلى من هو فوقه لا سيما الذين يتمتعون بالغنى والرفاه ، فيخطر على باله أنّ حياة هؤلاء غير مشوبة بالكد والتعب ، ولكنّ هذا التصوّر غير صائب إذ أنّ تعبهم وكدَّهم أكثر بمراتب من الذين هم دونهم.

وأمّا الصلة بين المقسم به ( وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ) والمقسم عليه ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) ، واضحة ، إذ لم تزل حياة إبراهيم وولده مقرونة بالتعب والوصب ، إذ ولد وقد أمضى صباه في الغاب خوفاً من بطش الجهاز الحاكم ، وبعد ما خرج منها وله من العمر 13 سنة أخذ يكافح الوثنيين وعبّاد الأجرام السماوية ، إلى ان حكم عليه بالرمي في النار والإحراق ، فنجّاه اللّه سبحانه ، فلم يجد بداً من مغادرة الوطن والهجرة إلى فلسطين ولم يزل بها حتى أُمر بإيداع زوجه وابنه في بيداء قاحلة لا ماء فيها ولا زرع ، يحكي سبحانه تلك الحالة عن لسان إبراهيم علیه السلام ويقول : ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) (3).

ص: 446


1- نهج البلاغة ، الخطبة : 52.
2- الميزان : 20 / 291.
3- إبراهيم : 37.
الفصل السادس عشر : القسم في سورة الشمس
اشارة

حلف سبحانه تبارك وتعالى في سورة الشمس إحدى عشرة مرّة بتسعة أشياء (1).

1. الشمس ، 2. ضحى الشمس ، 3. القمر ، 4. النهار ، 5. الليل ، 6. السماء ، 7. وما بناها ، 8. الأرض ، 9. وما طحاها ، 10. ونفس ، 11. وما سوّاها.

وبما أنّ المراد من الموصول في الجمل الثلاث الأخيرة هو اللّه سبحانه فيكون المقسم به تسعة ، والأقسام إحدى عشرة ، قال سبحانه : ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) (2).

تفسير الآيات

1 ، 2. ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ) ، حلف بالنيّر الكبير الذي له دور هام في استقرار الحياة على الأرض وهو مصدر للنور والحرارة ، إلى غير ذلك من

ص: 447


1- وما في تفسير الرازي من أنّه تعالى قد أقسم بسبعة أشياء غير صحيح ولعلّه أسقط قوله : ( وَضُحَاهَا ) والموصول كلّه عن القسم. « انظر تفسير الفخر الرازي : 31 / 189 ».
2- الشمس : 1 - 10.

المعطيات ، وهو سلطان منظومتنا ، وله حركة انتقالية وحركة وضعية ، ويعجز البيان واللسان عن بيان ما له من الأهمية ، ويكفيك هذا الأثر انّه ينتج في كلّ دقيقة 240 ميليون وحدة طاقة ، ولم تزل ترفد بهذا العطاء على الرغم من أنّ عمرها يتجاوز الخمسة آلاف ميليون سنة.

هذه الشمس التي ما زالت أسرارها في الخفاء ، هي محور نظامنا السيّاري ومصدر حياتنا أيضاً ، هذه الشمس التي كلّ ما يكتشف عنها يزيدها غموضاً ، ولم تزح يد العلم بعد النقاب عن كلّ ما يجب أن نعلمه عن الشمس ، هذه الشمس التي تفقد أربعة ملايين طن من وزنها في الثانية من احتراقها ، ولم تزل تجدّد وزنها وحجمها ، والتي تبعث إلى العالم الخارجي طاقة تعادل خمسة آلاف بليون قنبلة ذرية في كلّ ثانية ، وهي آية من آيات الخالق ، وإن هي إلاّ آية صغيرة تزخر السماء بملايين من النجوم أضخم منها حجماً وأكبر سرعة وأكثر تألّقاً (1).

كما حلف بضحى الشمس ، وهو انبساط الشمس وامتداد النهار ، والأولى أن يقال الضحى هو انبساط نورها وضوئها ، فانّ لضوئها أثراً خاصاً في نشوء الحياة وبقائها والفتك بالأمراض وزوالها.

3. ( وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ) حلف بالقمر إذا تلا الشمس في الليالي البيض من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة منه ، وقت امتلائه أو قربه من الامتلاء حين يضيئ الليل كلّه من غروب الشمس إلى الفجر.

وفي الحقيقة هذا حلف بالقمر وضوئه فانّ ضوء القمر إنّما ينتشر ، إذا تلا الشمس وظهر بعد غروبها.

وربما يقال بأنّ المراد تبعية القمر للشمس في تمام الشهر ، لأنّ نوره مأخوذ من

ص: 448


1- اللّه والعلم الحديث : 30.

نور الشمس فهو يتبعها في جميع الأزمان ، ولكن المعنى الأوّل هو اللائح.

4. ( وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا ) التجلي من الجلو بمعنى الكشف الظاهر ، يقال : أجليت القوم عن منازلهم فجلوا عنها أي أبرزتهم عنها ، وعلى ذلك فحلف سبحانه بالنهار إذا جلا الأرض وأظهرها ، والضمير يعود إلى الأرض المفهوم من سياق الآية ، ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الشمس ، فانّ النهار كلّما كان أجلى ظهوراً كانت الشمس أكمل وضوحاً ، أي احلف بالنهار إذا جلّى الشمس وأظهرها.

ولكن المعنى الأوّل هو الظاهر ، لأنّ الشمس هي المظهرة للنهار ، دون العكس.

5. ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ) حلف بالليل إذا غطّى الأرض وسترها في مقابل الشمس إذا جلا الأرض وأظهرها ، وربما يتصوّر أنّ الضمير يرجع إلى الشمس ، فحلف سبحانه بالليل إذا غطّى الشمس وهو بعيد ، فانّ الليل أدون من أن يغطي الشمس وإنّما يغطي الأرض ومن عليها.

والأفعال الواردة في الآيات السابقة كلها وردت بصيغة الماضي ، ( تلاها ، جلاّها ) وإلاّ في هذه الآية فقد وردت بصورة المضارع ( يغشاها ) فما هو الوجه ؟

ذكر السيد الطباطبائي وجهاً استحسانياً وقال : والتعبير عن غشيان الليل الأرض بالمضارع بخلاف تجلية النهار لها حيث قيل : ( وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ) للدلالة على الحال ، ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الأرضَ في الزمن الحاضر الذي هو أوائل ظهور الدعوة الإسلامية (1).

ص: 449


1- الميزان : 20 / 297.

6 ، 7. ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ) ، فحلف بالسماء وبانيها ، بناء على أنّ « ما » موصولة ، وليست مصدرية ، بقرينة الآية التالية حيث يحلف فيها بالنفس وخالقها ومسوِّيها ، وغلبة الاستعمال على « ما » الموصولة في غير العاقل لم يمنع من استعمالها في العاقل أيضاً ، قال سبحانه : ( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ ) (1).

ولعلّ استعمال « ما » مكان « من » لأجل أنّ الخطاب كان موجهاً إلى قوم لا يعرفون اللّه بجليل صفاته ، وكان القصد منه أن ينزلوا في هذا الكون منزلة من يطلب للأثر مؤثراً فينتقل من ذلك إلى معرفة اللّه تعالى ، فعبّر عن نفسه بلفظة « ما » التي هي الغاية في الإبهام (2).

وفي ذكر السماء وبنيانها إلماع إلى أنّه يمتنع أن يكون رهن الصدفة ، بل لا يتحقق إلاّ بصانع حكيم قد أحكم وضعها وأجاد بناءها ، خصوصاً بناء الكواكب التي ترتبط أجزاؤها البعض بالبعض ، ولولا هذا الترابط لما كان لها تماسك.

8 ، 9. ( وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ) حلف بالأرض وطاحيها والطحو كالدحو ، وهو البسط ، وإبدال الطاء من الدال جائز ، والمعنى وسَّعها.

وقد أشار إلى وصف الأرض في آية أُخرى وقال : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) (3) فحلف سبحانه بالأرض وبما جعلها لنا فراشاً.

والأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس وتتبعها في سيرها أينما سارت ، وهي الكوكب الخامس من حيث الحجم ، والثالث من حيث القرب من بين الكواكب التسعة التي تتكون منها المجموعة الشمسية.

ص: 450


1- النساء : 3.
2- تفسير المراغي : 30 / 167.
3- البقرة : 22.

والأرض تكاد تكون كرة ، إلاّ أنّها منبعجة قليلاً عند خط الاستواء ومفلطحة عند القطبين (1).

10 ، 11. ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) ، فالمراد من النفس هي الروح ، قال سبحانه : ( أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ) (2) وقال : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ) (3).

وقال : ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ) (4).

فاذاً المراد من تسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة الظاهرة والباطنة ، فتسوية النفس هو تعديل قواها من الظاهرة والباطنة ، ولو أُريد من النفس الروح والجسم فتسوية الجسم هو إيجادها بصورة متكاملة.

وأمّا تنكير النفس ، فلأنّه أراد كلّ نفس من النفوس من دون أن يختص بنفس دون نفس ، وربما يحتمل أن يكون التنكير إشارة إلى نفس خاصة ، وهي نفس النبي صلی اللّه علیه و آله ، والمعنى الأوّل هو الأوضح بقرينة انّه أخذ يحلف بالكائنات الحيّة وغير الحيّة.

إلى هنا تمّ بيان الحلف بأحد عشر أمراً ، وهذه الآيات تشتمل على أكثر الأقسام الواردة في القرآن الكريم.

ثمّ إنّ بعض من ينكمش من الحلف بغير اللّه سبحانه يرى نفسه أمام هذه الآيات ، ويحس عجزاً في المنطق ، ويقول : المراد هو ربّ الشمس والقمر وهكذا ، ولكنّه غافل انّه لا يمكن تقديره في الآيتين الأخيرتين أي : ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا *

ص: 451


1- اللّه والعلم الحديث : 25.
2- الأنعام : 93.
3- البقرة : 235.
4- المائدة : 116.

وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ) إذ ينقلب معنى الآيتين أقسم بربّ السماء وربّ ما بناها أي ربّ بانيها ، وهكذا الحلف بربّ الأرض وما طحاها ، أي ربّ طاحيها.

إلى هنا تمّ الحلف بهذه الموجودات السماوية والأرضية والحية وغير الحية.

أخبر سبحانه بأنّه بعد ما خلق النفس وسوّاها واكتملت خلقتها ظاهراً وباطناً ، علّمها سبحانه التقوى والفجور ، وفهم من صحيح الذات ما هو الحسن والقبيح ، وقد تعلّم ذلك في منهج الفطرة ، وقد استعمل كلمة « ألهم » لأنّه بمعنى إلقاء الشيء في روع الإنسان من دون أن يعلم الملهم من أين أتى ، والإنسان يعلم من صميم ذاته الحسن والسيّء من دون أن يتعلّم عند أحد.

وقد أشار سبحانه إلى هذا النوع من الهداية الباطنية في آيات أُخرى ، وقال : ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (1).

ولما حلف بالموجودات السماوية والأرضية غير الحيّة والحيّة ، وانّه قد ألهم النفس الإنسانية طرق الصلاح والفلاح ، أو طرق الشر والضلال ، أتى بجواب القسم ، وهو قوله : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) ، فجعل « زكاها » مقابل « دساها » فيعلم معنى الثاني من الأوّل ، فقال : ( وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) .

والتزكية هو التطهير من الآثام ، مقابل التدسيس ، وهي إخفاء الرذائل والذنوب.

انّ قوله : ( دَسَّاهَا ) مشتق من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء من الشيء ، والتدسيس مصدر دسّس ، وهو من دسس يدسس تدسيساً ، ومعنى الآية

ص: 452


1- البلد : 10.

فالإنسان هو فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما ، والتزكية هي الإتمام والإعلاء بالتقوى ، لأنّ لازم التطهير هو الإنماء كما أنّ التدسية النقص والإخفاء بالفجور.

والمقسم عليه : هو قوله : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) ، وربّما يتصوّر أنّ جواب القسم محذوف.

قال الزمخشري : إنّ جوابه محذوف تقديره ليدمدمنّ اللّه على أهل مكة لتكذيبهم رسول اللّه كما دمدم على ثمود لأنّهم قد كذبوا صالحاً.

وأمّا قوله : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ) فكلام تابع لقوله : ( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء. (1)

يلاحظ عليه : أنّه لو كان جواب القسم هو ما قدّره ، يفقد الجواب الصلة اللازمة بينه وبين الأقسام الكثيرة الواردة في سورة الشمس ، ولا مانع من أن يكون قوله : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها ) جواب القسم ، بأن يكون تابعاً لقوله : ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) .

وعلى ما ذكرنا فالصلة بين الأمرين واضحة ، وهي أنّه سبحانه يذكر نعمه الهائلة في هذه الآيات التي لو فقد البشر واحداً منها لتوقفت عجلة الحياة عن السير نحو الأمام ، فمقتضى إفاضة هذه النعم وإنارة الروح بإلهام الفجور والتقوى هو المشي على درب الطاعة ، وتزكية النفس دون الولوج في طريق الفجور وإخفاء الدسائس الشيطانية.

ص: 453


1- الكشاف : 3 / 342.
الفصل السابع عشر : القسم في سورة الليل
اشارة

حلف سبحانه في سورة الليل بأُمور ثلاثة : ( اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ) ، ( النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ) و ( مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ) .

وقال سبحانه : ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ) (1).

تفسير الآيات

1. ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ) أقسم بالليل إذا يغشى النهار ، أو يغشى الأرض ، ويدل على الأوّل ، قوله : ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ) (2) بمعنى يأتي بأحدهما بعد الآخر ، فيجعل ظلمة الليل بمنزلة الغشاوة للنهار ويحتمل المعنى الثاني ، كما في قوله في سورة الشمس : ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ) .

2. ( وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ) عطف على الليل ، والتجلّي ظهور الشيء بعد خفائه ، وقد جاء الفعل في الآية الأُولى بصيغة المضارع وفي الآية الثانية بصورة الماضي وفقاً لسورة الشمس كما مرّ.

3. ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ) و « ما » موصولة كناية عن الخالق البارئ

ص: 454


1- الليل : 1 - 4.
2- الأعراف : 54.

للذكر والأُنثى ، سواء أكان من جنس الإنسان أو من جنس الحيوان ، وتطبيقه في بعض التفاسير على أبينا آدم وزوجه حوّاء من باب التمثيل لا التخصيص.

وأمّا جواب القسم : هو قوله : ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ) ، وشتى جمع شتيت ، كمرضى جمع مريض ، والمراد تشتت السعي ، فانّ سعي الإنسان لمختلف وليس منصبَّاً على اتجاه واحد ، فمن ساع للدنيا ومن ساع للعقبى ، ومن ساع للصلاح والفلاح ، ومن ساع للهلاك والفساد.

ثمّ إنّه سبحانه صنّف المساعي إلى قسمين ، وقال في الآيات التالية بأنّ الناس على صنفين : فصنف يصبُّ سعيه في طريق العطاء والتقى والتصديق بالحسنى ، فيُيسّر لليسري ، وصنف آخر يصبُّ سعيه على ضدّ ما ذكر فيبخل ويستغني بما لديه ، ويكذب بالحسنى ، فيُيسر للعسرى.

قال : ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ) (1).

والصلة بين المقسم به والمقسم عليه : واضحة ، وهي أنّه سبحانه أقسم بالمتفرقات خلقاً وأثراً على المساعي المتفرقة في أنفسها وآثارها ، فأين التقوى والتصديق من البخل والتكذيب ؟!

ص: 455


1- الليل : 5 - 10.
الفصل الثامن عشر : القسم في سورة الضحى
اشارة

حلف سبحانه في تلك السورة بأمرين ، أحدهما الضحى ، والآخر : ( اللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) ، وقال : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) (1).

تفسير الآيات

المراد من الضحى وقت الضحى ، وهو صدر النهار حتى ترتفع الشمس وتلقي شعاعها ، قال سبحانه : ( وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) (2).

وقوله : ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) أي والليل إذا سكن ، يقال : سجى البحر سجواً ، أي سكنت أمواجه ، ومنه استعير تسجية الميت ، أي تغطيته بالثوب ، والمراد إذا غطى الليلُ وجه الأرض وعمّت ظلمتُه جميع أنحاء البسيطة. هذا هو المقسم به.

وأمّا المقسم عليه : فهو ما جاء عقبه ، أي ما تركك يا محمد ربّك وما أبغضك منذ اصطفاك. ( وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى ) أي ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها خير لك من الدنيا الفانية. ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) أي

ص: 456


1- الضحى : 1 - 5.
2- طه : 59.

سوف يعطيك ربّك في الآخرة ما يرضيك من الشفاعة والحوض وسائر أنواع الكرامة.

وروي أنّ محمد بن علي بن الحنفية ، قال : يا أهل العراق ، تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب اللّه عزّوجلّ هو قوله تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللّهِ ) (1) إنّا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب اللّه ، هو قوله : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) وهي واللّه الشفاعة ، ليعطينّها في أهل لا إله إلاّ اللّه حتى يقول : ربّي رضيت (2).

وقد ذكر المفسرون في شأن نزول الآية : انّه احتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً ، فقال المشركون : إنّ محمداً قد ودّعه ربّه وقلاه ، ولو كان أمره من اللّه تعالى لتتابع عليه ، فنزلت هذه السورة.

هذا ما يذكره المفسرون ، ولكن الحقّ انّه لم يكن هناك أيُّ احتباس وتأخير في نزول الوحي ، وذلك لأنّه جرت سنّة اللّه تعالى على نزول الوحي تدريجاً لغايات معنوية واجتماعية ، وقد أشار الذكر الحكيم إلى حكمة نزوله نجوماً في غير واحدة من الآيات ، قال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) (3).

فالآية تعكس فكرة المشركين حول نزول القرآن وكانوا يتصورون أنّ القرآن كالتوراة ، يجب أن ينزل جملة واحدة لا نجوماً وعلى سبيل التدريج ، فأجاب عنه الوحي ، بأنّ في نزوله التدريجي تثبيتاً لفؤاد النبي صلی اللّه علیه و آله ، لتداوم الصلة بين الموحي

ص: 457


1- الزمر : 53.
2- مجمع البيان : 5 / 505.
3- الفرقان : 32.

والموحى إليه بين الحين والحين.

وهذا بخلاف ما لو نزل جملة واحدة وأوصد فيها باب الوحي ، وانقطعت صلة النبي صلی اللّه علیه و آله بالسماء ، ففي صورة استدامة الوحي والصلة بينه وبين اللّه سبحانه يعيش النبي صلی اللّه علیه و آله تحت ظل إمدادات غيبية تعقبه إزالة الصدأ العالق على قلبه من خلال مجابهة المشركين والكافرين ، بخلاف الثاني ، ففيه إيماء إلى انقطاع الصلة حينها يجد النبي صلی اللّه علیه و آله نفسه وحيداً دون من يعضده ويسلّيه ويذهب عنه همّ القلب.

ففي الحقيقة لم يكن هناك طارئة باسم احتباس الوحي أو تأخيره ، وإن زعم المشركون نزول الوحي نجوماً احتباساً وتأخيراً له.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فلا تخلو من وضوح :

1. لأنّ نزول الوحي يناسب الضحى ، كما أنّ انقطاعه يناسب الليل.

2. لأنّ عماد الحياة هو مجيىَ الليل عقب النهار ، لا استدامة النهار ولا استدامة الليل ، فهكذا الحال في عماد الحياة النبوية الذي هو نزول الوحي نجوماً تثبيتاً لقلب النبي صلی اللّه علیه و آله .

3. ولأنّ الضحى والليل نعمة من نعم اللّه سبحانه منّ بها على عباده لما لهما من تأثير مباشر في استقرار الحياة وهكذا الحال في نزول الوحي نجوماً.

ص: 458

الفصل التاسع عشر : القسم في سورة التين
اشارة

حلف سبحانه في سورة التين ، بأُمور أربعة : التين ، الزيتون ، طور سينين ، البلد الأمين ، قال سبحانه : ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (1).

تفسير الآيات

( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) فاكهتان معروفتان ، حلف بهما سبحانه لما فيهما من فوائد جمّة وخواص نافعة ، فالتين فاكهة خالصة من شآئب التنغيص ، وفيه أعظم عبرة لأنّه عزّ اسمه جعلها على مقدار اللقمة ، وهيّأها على تلك الصورة إنعاماً على عِباده بها.

وقد روى أبو ذر الغفاري عن النبي صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال : « لو قلت انّ فاكهة نزلت من الجنة ، لقلت : هذه هي ، لأنّ فاكهة الجنة بلا عَجَمْ (2) فانّها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرص » (3).

وأمّا الزيتون فانّه يعتصر منه الزيت الذي يدور في أكثر الأطعمة ، وهو إدام ، والتين فاكهة فيها منافع جمّة.

ص: 459


1- التين : 1 - 6.
2- العجم : نوى التمر ، أو كل ما كان في جوف مأكول كالزبيب.
3- مجمع البيان : 5 / 510.

ذكر علماء الأغذية أنّه يمكن الاستفادة من التين كسكر طبيعي للأطفال ، ويمكن للرياضيين ولمن يعانون ضعف كبر السنّ أن ينتفعوا منه للتغذية ، حتى ذكروا أنّ الشخص إن أراد توفير الصحة والسلامة لنفسه فلابد له أن يتناول هذه الفاكهة ، كما أنّ زيت الزيتون هو الآخر له تأثير بالغ في معالجة عوارض الكُلَى ، حتى وصفها سبحانه بأنّه مأخوذ من شجرة مباركة ، ولا نطيل الكلام في سرد فوائدهما (1).

هذا وربما يفسر التين بالجبل الذي عليه دمشق ، والزيتون بالجبل الذي عليه بيت المقدس.

وهذا التفسير وإن كان بعيداً عن ظاهر الآيات ، ولكن الذي يدعمه هو القسم الثالث والرابع - أعني : الحلف ب ( طُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) - إذ على ذلك يكون بين الأُمور الأربعة السالفة الذكر صلة واضحة ، ولعل إطلاق اسم الفاكهتين على الجبلين لكونهما منبتيهما ، والإقسام بهما ، لأنّهما مبعثي جمّ غفير من الأنبياء.

ثمّ إنّ المراد من طور سينين ، هو الجبل الذي كلّم اللّه فيه موسى علیه السلام ، وقال : ( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) (2) وقال : ( إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) (3) وقال سبحانه مخاطباً موسى علیه السلام : ( وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ) (4).

ص: 460


1- فمن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب علماء الأغذية وما أُلّف في هذا المضمار.
2- طه : 12.
3- النازعات : 16.
4- الأعراف : 143.
البلد الأمين

وقد ذكر لفظ البلد في دعاء إبراهيم ، حيث قال : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) (1) وقال أيضاً : ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ) (2).

وقد أمر سبحانه نبيّه الخاتم ، أن يقول : ( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ ) (3).

وقد جاء ذكر البلد في بعض الآيات كناية ، قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (4).

والمراد من قوله ( إِلَى مَعَادٍ ) هو موطنه الذي نشأ فيه.

وقد روى المفسرون في تفسير الآية انّه لما نزل النبي صلی اللّه علیه و آله بالجحفة في مسيره إلى المدينة لما هاجر إليها اشتاق إلى مكة فأتاه جبرئيل علیه السلام ، فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ، فقال : نعم. قال جبرئيل : فإنّ اللّه ، يقول : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) يعني مكة ظاهراً عليها ، فنزلت الآية بالجحفة ، وليست بمكية ولا مدنية ، وسمّيت مكة معاداً لعوده إليها. عن ابن عباس (5).

كما ذكر أيضاً في آية أُخرى بوصفه وقال : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا

ص: 461


1- البقرة : 126.
2- إبراهيم : 35.
3- النمل : 91.
4- القصص : 85.
5- مجمع البيان : 7 / 268.

وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَكْفُرُونَ ) (1).

وقد وصف سبحانه البلد بالأمن وأصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف ، وقد جعله وصفاً في بعض الآيات للحرم ، قال سبحانه : ( أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (2).

وفي آية أُخرى يقول : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَكْفُرُونَ ) (3).

والمراد من هذا الأمن هو الأمن التشريعي ، بمعنى أنّه سبحانه حرم فيه القتل والحرب حتى قطع الأشجار والنباتات إلاّ بعض الأنواع مما تحتاج إليه الناس ، والذي يوضح أنّ المراد من الأمن هو الأمن التشريعي لا التكويني قوله سبحانه : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (4).

فالآية الأُولى تحكي عن تشريع خاص ، وهو أنّ الكعبة أوّل بيت وضعت لعبادة الناس ، ويدل على ذلك أنّ فيه مقام إبراهيم ، كما أنّ الآية الثانية تبيّن تشريعاً آخر ، وهو وجوب حجّ البيت لمن استطاع إليه ، وبين هذين التشريعين جاء قوله : ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) وهذا دليل على أنّ المراد من الأمن هو الأمن التشريعي لا التكويني ، ولذلك كان الطغاة يسلبون الأمن عن هذا البلد بين آونة وأُخرى.

ص: 462


1- العنكبوت : 67.
2- القصص : 57.
3- العنكبوت : 67.
4- آل عمران : 96 - 97.

ويشير إلى الأمن بقوله سبحانه : ( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ ) (1) وصف البيت بالحرام ، حيث حرّم في مكانه القتال ، وجعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم وأعراضهم وأموالهم.

فهذه الآيات تشير إلى مكانة البلد الذي احتضن البيت الحرام ، ذلك المكان المقدس الذي حاز على أهمية بالغة عند المسلمين على اختلاف نحلهم ، فإليه يوجِّه الناس وجوههم في صلواتهم وفي ذبائحهم وعند احتضار أمواتهم.

وفضلاً عن ذلك فانّه يعد ملتقىً عبادياً وسياسياً لحشود كبيرة من المسلمين ، وما يترتب عليه من نتائج بناءة على صعيد مدِّ جسور الثقة بين كافة النحل الإسلامية. وبتبعه حاز البلد على مكانة مقدسة جعلته صالحاً للقسم به.

المقسم عليه

المقسم عليه للأقسام الأربعة - أعني : التين ، الزيتون ، طور سينين ، البلد الأمين - هو قوله سبحانه : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) فيقع الكلام في أمرين :

أ : ما هو المراد من خلق الإنسان في أحسن تقويم ثمّ ردّه إلى أسفل سافلين ؟

ب : ما هي الصلة بين الأقسام الأربعة وهاتين الآيتين اللتين هما المقسم عليه للأقسام الأربعة.

أمّا الأوّل فربّما يقال : انّ المراد من خلق الإنسان في أحسن تقويم هو جودة

ص: 463


1- المائدة : 97.

خلقه واستقامة وجوده من صباه إلى شبابه إلى كماله فيتمتع بكمال الصورة وجمال الهيئة وشدة القوة ، فلم يزل على تلك الحال حتى يواجه بالنزول أي رده إلى الهرم والشيخوخة والكهولة فتأخذ قواه الظاهرة والباطنة بالضعف ، وتنكس خلقته ، قال سبحانه : ( وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ) (1) لكن هذا التفسير لا يناسبه الاستثناء الوارد بعده قال سبحانه : ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) أي غير مقطوع.

فلو كان المراد من الآية ما جرت عليه سنّة اللّه تعالى في خلق الإنسان فهي سنّة عامة تعم المؤمن والكافر والصالح والطالح ، مع أنّه يستثني المؤمن الصالح من تلك الضابطة.

فالأولى تفسير الآيتين بالتقويم المعنوي ، وردّه إلى أسفل سافلين هو انحطاطه إلى الشقاء والخسران بأن يقال : انّ التقويم جعل الشيء ذا قوام ، وقوام الشيء ما يقوم به ويثبت ، فالإنسان بما هو إنسان صالح حسب الخلقة للعروج إلى الرفيق الأعلى ، والفوز بحياة خالدة عند ربه سعيدة لا شقوة فيها ، قال سبحانه : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (2) فإذا آمن بما علم ومارس صالح الأعمال رفعه اللّه إليه ، كما قال : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (3) يس ، وقال عزّ اسمه : ( يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) (4) ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ارتفاع مقام الإنسان وارتقائه بالإيمان والعمل الصالح مقاماً عالياً ذا عطاء من اللّه غير مجذوذ ، وقد أشار في آخر

ص: 464


1- يس : 68.
2- الشمس : 7 - 8.
3- فاطر : 10.
4- المجادلة : 11.

هذه السورة إلى العطاء الدائم ، بقوله : ( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) .

وعلى ذلك يكون المراد من أسفل سافلين هو تردّي الإنسان إلى الشقوة والخسران (1).

وأمّا وجه الصلة فلو قلنا بأنّ المراد من التين الجبل الذي عليه دمشق ، وبالزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس وهما مبعثا جمّ غفير من الأنبياء ، فالصلة واضحة ، لأنّ هذه الأراضي أراضي الوحي والنبوة فقد أوحى اللّه سبحانه إلى أنبيائه في هذه الأمكنة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى أحسن تقويم ، ويصدهم عن التردي إلى أسفل سافلين.

وبعبارة أُخرى : إنّ هذه الأماكن مبعث الأنبياء ومهبط الوحي ، فهؤلاء بفضل الوحي يهدون المجتمع الإنساني إلى الرقي والسعادة التي يعبر عنها القرآن بأحسن تقويم ، ويحذرونه من الانحطاط والسقوط في الهاوية التي يعبر عنها سبحانه ب ( أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) .

إنّما الكلام فيما إذا كان المراد من التين والزيتون ، الفاكهتان المعروفتان اللتين أقسم اللّه بهما لما فيهما من الفوائد الجمّة والخواص النافعة ، فعندئذٍ لا تخلو الصلة من غموض ، فليتدبر.

ولا يخفى انّ كلّ المخلوقات ، من حيوان ونبات توحي بالجلال والاحترام لها وبالجمال وكمال الخلق ، وهي تبدو مبرمجة أو مخلوقة هكذا لا تحيد عن ذلك ، فهل رأيت طيراً لا يبني عشه أو لا يُطعمُ فراخه ؟ أم رأيت حيواناً لم يهبه اللّه الذكاء والمقدرة على تحصيل رزقه ، أو الدفاع عن نفسه ؟ حقاً انّ هذه المخلوقات لا تعرف الهزل ، فهي جدّيّة ولكن في وداعة ، غريبة ولكن في جمال ، وبسيطة ولكن في جلال

ص: 465


1- الميزان : 20 / 319 - 320.

آسر. إن كلاً منها تسير على الطريق التي اختطها الخالق لها طائعة ملبّية ، وهي تسبّح بحمد ربّها كلّها. إنّها لا تعرف الكذب أو المصانعة ، بل هي متّسقة مع نفسها ومع ما حولها ، بل ومع الكون جميعاً. في تناغم عجيب وجمال بديع. فتعالى اللّه الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين والباطن بجلال عزّته عن فكرة المتوهمين (1).

ص: 466


1- أسرار الكون في القرآن : 283.
الفصل العشرون : القسم في سورة العاديات
اشارة

حلف سبحانه في هذه السورة بأُمور ثلاثة : العاديات ، الموريات ، المغيرات. قال سبحانه : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (1).

تفسير الآيات

( الْعَادِيَاتِ ) من العدو وهو الجري بسرعة. « الضبح » صوت أنفاس الخيل عند عدوها ، وهو المعهود المعروف من الخيل ، ومعنى الآية أُقسم بالخيل التي تعدو وتضبح ضبحاً.

( فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا ) فالموريات من الايراء وهو إخراج النار ، و « القدح » الضرب ، يقال : قدح فأورى : إذا أخرج النار بالقدح ، والمراد بها الخيل التي تخرج النار بحوافرها حين ضربها الأحجار.

( فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) الإغارة : الهجوم على العدو بغتة بالخيل ، وهي صفة أصحاب الخيل ونسبتها إلى الخيل بالمجاز والمناسبة ، والمعنى : أُقسم بالخيل المغيرة على العدو بغتة في وقت الصبح.

( فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ) والنقع : الغبار ، والمراد إثارة الغبار حين العدو ، لما في

ص: 467


1- العاديات : 1 - 8.

الإغارة على العدو بالخيل من إثارة الغبار. والضمير في « به » يرجع إلى العدو المستفاد من قوله : والعاديات ، والباء للسببية.

( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ) فلو قلنا بتشديد السين يكون المعنى حاصروا الأعداء ، ولكن القراءة المعروفة هي بلا تشديد الفعل فيكون معناه أي صاروا في وسط الأعداء بما انّ هجومها كان مباغتاً خاطفاً استطاعت في بضع من اللحظات أن تشق صفوف العدو وتشن حملتها في قلبه وتشتت جمعه.

ثمّ الضمير إمّا يرجع إلى العدو المستفاد من قوله : ( وَالْعَادِيَاتِ ) أو إلى النقع فيكون المعنى فوسطن صباحاً أو في خضمِّ النقع صفوف الأعداء.

ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الصبح ، ويكون الباء بمعنى « في » أي وسطن في الصبح جمعاً.

وعلى كلّ حال فالآيات تحلف بالخيول التي تسرع إلى ميدان الجهاد بسرعة حتى تضبح ويتطاير الشررَ من تحت حوافرها باستدامة ضرب الحافر للأحجار ، وعند انجلاء الصبح تشنّ هجوماً شديداً يثير الغبار في كلّ جانب ثمّ تتوغل إلى قلب العدو وتشتت صفوفه. وهذا يعرب انّ الجهاد له منزلة عظيمة إلى حد استحق أن يقسم بخيوله والشرر التي تتطاير من حوافرها والغبار الذي تثيره في الهواء.

هذا كلّه حول الأقسام ، وأمّا جواب القسم ، فهو قوله : ( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) والكنود ، اسم للأرض التي لا تنبت ويطلق على الإنسان الكافر والبخيل ، فكأنّه جُبِّل على نكران الحق وجحوده وعدم الإقرار بما لزمه من شكر خالقه والخضوع له. يقول سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ ) (1) وهو اخبار عمّا في

ص: 468


1- الحج : 66.

طبع الإنسان من اتّباع الهوى والانكباب على الدنيا والانقطاع بها عن شكر ربّه ، وفيه تعريض للقوم المغار عليهم ، بأنّهم كانوا كافرين بنعمة الإسلام ، وهذا على وجه يشهد الإنسان على كفران نفسه ، كما يقول : ( وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) .

ثمّ إنّه يدلّل شهادته على ذلك بقوله : ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) والمراد من الخير المال.

ثمّ إنّ هذه الآيات لا تنافي ما دلت عليه آية الفطرة ، قال سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

وجه عدم التنافي انّ الإنسان كما جبل على الخير جبل على الشر أيضاً ، فكما ألهمها تقواها ألهمها فجورها ، وكما أنّه هداه إلى النجدين ، ولكن السعادة هو من يستخدم قوى الخير ويتجنب قوى الشر.

والحاصل انّ الآيات القرآنية على صنفين : فصنف يصف الإنسان بصفات سلبية مثل قوله : ( يَئُوسٌ ) (2) ( ظَلُومٌ كَفَّارٌ ) (3) ( عَجُولاً ) (4) ( كَفُورًا ) (5) ( أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) (6) ، ( ظَلُومًا جَهُولاً ) (7) ( كَفُورٌ مُّبِينٌ ) (8) ( هَلُوعًا ) (9) إلى

ص: 469


1- الروم : 30.
2- هود : 9.
3- إبراهيم : 34.
4- الإسراء : 11.
5- الاسراء : 67
6- الكهف : 54.
7- الأحزاب : 72.
8- الزخرف : 15.
9- المعارج : 19.

غير ذلك من الصفات السلبية الواردة في القرآن الكريم.

وصنف آخر يصفه بصفات إيجابية تجعله في قمة الكرامة والعظمة.

فقد بلغت به الكرامة انّه صار « مسجوداً للملائكة » (1) ، مخلوقاً بفطرة اللّه (2) ، منشأ بأحسن تقويم (3) ، مفضلاً على كثير من المخلوقات (4) ، حاملاً لأمانة اللّه (5) ، سائراً في البر والبحر ومرزوقاً من الطيبات ومكرماً عند اللّه (6) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تصف الإنسان بصفات إيجابية.

ولا منافاة بين الصنفين من الآيات ، وذلك لأنّ تلك الكرامة إنّما هي للإنسان الذي تمتع بكلا الوصفين ، فهو عندما يلبّي نداء العقل والشرع ينل كرامته العليا ، ويكون مظهراً لقوله : ( وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (7) ولو خضع لدعوة النفس والهوى ، يكون مظهراً للصفات السلبية ، كفوراً يئوساً هلوعاً كنوداً إلى غير ذلك من الصفات الذميمة. فالكمال كلّ الكمال لإنسان تكمن فيه قوى الخير والشر فيقوي إحداهما على الأُخرى بإرادة واختيار دون أي وازع ، فلو جبل على إحدى القوتين دون الأُخرى لما استحق المدح ولا اللوم دون ما إذا كان فيه أرضية الخير والشر فيعالج أرضية الشر بتوجيهها نحو الخير والكمال ، ولذلك نرى انّه سبحانه يستثني بعد الحكم على الإنسان بقوله :

ص: 470


1- الأعراف : 11.
2- الروم : 30.
3- التين : 4.
4- الإسراء : 70.
5- الأحزاب : 72.
6- الإسراء : 70.
7- الإسراء : 70.

( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) الفئة المؤمنة العاملة بالصالحات ويقول : ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (1).

إلى هنا تبين المقسم به والمقسم عليه.

بقي الكلام في الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فنقول :

إنّه سبحانه بعث الأنبياء لهداية الناس ، فمنهم من يهتدي بكتابه وسنّته ، فهذه الطائفة تكفيها قوة المنطق وثمة طائفة أُخرى لا تهتدي ، بل تثير العراقيل في سبيل دعوة الأنبياء ، فهداية هذه الطائفة رهن منطق القوة ، ولذلك يقول سبحانه : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) (2).

فهذه الآية مؤلفة من فقرتين :

الفقرة الأُولى التي تتضمن البحث عن إرسال الرسل بالبيّنات وإنزال الكتب والميزان راجعة إلى من له أهلية للهداية فيكفيه قوة المنطق.

والفقرة الثانية ، أعني : ( وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ ) فهي راجعة إلى من لا يستلهم من نداء العقل والفطرة ولا يهتدي بل يثير الموانع فلا يجدي معهم سوى الحديد الذي هو رمز منطق القوة.

وبذلك يعلم وجه الصلة بين إنزال الحديد وإرسال الكتب ، وبهذا تبين أيضاً وجه الصلة بين الأقسام والمقسم عليه ، ففي الوقت الذي كان النبي صلی اللّه علیه و آله يعظ ويبعث رجال الدعوة لإرشاد الناس ، اجتمعت طائفة لمباغتة المسلمين

ص: 471


1- التين : 5 - 6.
2- الحديد : 25.

والهجوم على المدينة والإطاحة بالدولة الإسلامية الفتية ، فبعث النبي صلی اللّه علیه و آله علياً مع سريّة ، فأمر أن تسرج الخيل في ظلام الليل وتعدّ إعداداً كاملاً ، وحينما انفلق الفجر صلّى بالناس الصبح وشنَّ هجومه وباشر وما انتبه العدو حتى وجد نفسه تحت وطأة خيل جيش الإسلام ، فهذه الطائفة لا يصلحهم إلا العاديات والموريات والمغيرات التي تهاجمهم كالصاعقة.

نقل الفيض الكاشاني في تفسيره عن تفسير القمي عن الصادق علیه السلام : « إنّها [ سورة العاديات ] نزلت في أهل وادي اليابس ، اجتمعوا اثني عشر ألف فارس وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا أن لا يتخلّف رجل عن رجل ولا يخذل أحد أحداً ، ولا يفر رجل عن صاحبه حتى يموتوا كلّهم على حلف واحد ويقتلوا محمداً صلی اللّه علیه و آله وعلي بن أبي طالب علیه السلام ».

إلى أن قال :

« خرج علي علیه السلام ومعه المهاجرون والأنصار وسار بهم غير سير أبي بكر ، وذلك انّه أعنف بهم في السير حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب وتحفى دوابهم ، فقال لهم : لا تخافوا فانّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد أمرني بأمر وأخبرني انّ اللّه سيفتح عليّ وعليكم ، فأبشروا فانّكم على خير وإلى خير ، فطابت نفوسهم وقلوبهم ، وساروا على ذلك السير التعب حتى إذا كانوا قريباً منهم حيث يرونه ويريهم ، أمر أصحابه أن ينزلوا ، وسمع أهل وادي اليابس بمقدم علي بن أبي طالب علیه السلام وأصحابه ، فأخرجوا إليهم منهم مائتا رجل شاكين بالسلاح ، فلمّا رآهم علي علیه السلام خرج إليهم في نفر من أصحابه.

فقالوا لهم : من أنتم ، ومن أين أنتم ، ومن أين أقبلتم ، وأين تريدون ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب علیه السلام ابن عمّ رسول اللّه وأخوه ورسوله إليكم ادعوكم إلى

ص: 472

شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وانّ محمّداً عبده ورسوله ، ولكم ان آمنتم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين من خير وشر ، فقالوا له : إياك أردنا ، وأنت طلبتنا ، قد سمعنا مقالتك ، فخذ حذرك واستعد للحرب العوان ، واعلم انّا قاتلوك وقاتلوا أصحابك والموعود فيما بيننا وبينك غداً ضحوة ، وقد اعذرنا فيما بيننا وبينك.

فقال لهم علي علیه السلام : ويلكم تهدّدوني بكثرتكم وجمعكم ، فأنا أستعين باللّه وملائكته والمسلمين عليكم ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم.

فانصرفوا إلى مراكزهم وانصرف علي إلى مركزه ، فلمّا جنّه الليل أمر أصحابه أن يحسنوا إلى دوّابهم ويقضموا ويسرجوا ، فلمّا انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس ، ثمّ غار عليهم بأصحابه فلم يعلموا حتى وطأهم الخيل ، فما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتليهم وسبى ذراريهم واستباح أموالهم وخرب ديارهم وأقبل بالأُسارى والأموال معه.

فنزل جبرئيل وأخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما فتح اللّه على عليّ علیه السلام وجماعة المسلمين.

فصعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وأخبر الناس بما فتح اللّه على المسلمين ، وأعلمهم انّه لم يصب منهم إلاّ رجلين ، ونزل فخرج يستقبل عليّاً علیه السلام في جميع أهل المدينة من المسلمين حتى لقيه على ثلاثة أميال من المدينة ، فلمّا رآه علي علیه السلام مقبلاً نزل عن دابته ، ونزل النبي صلی اللّه علیه و آله حتى التزمه وقبّل ما بين عينيه ، فنزل جماعة المسلمين إلى علي علیه السلام حيث نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأقبل بالغنيمة والأُسارى وما رزقهم اللّه من أهل وادي اليابس ».

ثمّ قال جعفر بن محمد علیهماالسلام : « ما غنم المسلمون مثلها قط إلاّ أن يكون من خيبر ، فانّها مثل خيبر وأنزل اللّه تعالى في ذلك اليوم هذه السورة : ( وَالْعَادِيَاتِ

ص: 473

ضَبْحًا ) يعني بالعاديات : الخيل تعدو بالرجال ، والضبح ضبحها في أعنّتها ولجمها.

( فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) فقد أخبرك انّها غارت عليهم صبحاً.

( فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ) قال : يعني الخيل يأثرن بالوادي نقعاً.

( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) قال : يعنيهما قد شهدا جميعاً وادي اليابس وكانا لحب الحياة حريصين » (1).

بلغ الكلام إلى هنا في شهر جمادي الأُولى

من شهور عام 1420 ه من الهجرة النبوية

في قم المحميّة وحوزتها المصونة

وتم بيد مؤلّفه الآثم المحتاج إلى ربّه العاصم جعفر السبحاني

ابن الفقيه الشيخ محمد حسين الخياباني التبريزي تغمده اللّه برحمته الواسعة

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ص: 474


1- تفسير الصافي : 5 / 361 - 365.

فهرس المحتويات

الأمثال

الأمثال في القرآن ... 5

المثل في اللغة ... 5

المثل في الاصطلاح ... 10

فوائد الأمثال السائرة ... 12

الكتب المؤلفة في الأمثال ... 16

الأمثال القرآنية ... 16

أقسام التمثيل ... 19

الأمثال القرآنية في الأحاديث ... 21

الكتب المؤلفة في الأمثال القرآنية ... 26

تقسيم الأمثال القرآنية إلى الصريح والكامن ... 27

ما هو المراد من ضرب المثل ؟ ... 34

الأمثال القرآنية وانسجامها مع البيئة ... 38

استنكار الأمثال القرآنية ... 42

ص: 475

التمثيلات القرآنية ... 43

الآيات التي تجري مجرى المثل ... 58

الأمثال النبوية ... 65

الأمثال العلوية ... 70

أمثال لقمان الحكيم ... 71

سورة البقرة

التمثيل الأوّل ... 73

التمثيل الثاني ... 80

التمثيل الثالث ... 86

التمثيل الرابع ... 95

التمثيل الخامس ... 99

التمثيل السادس ... 102

التمثيل السابع ... 109

التمثيل الثامن ... 112

التمثيل التاسع ... 116

التمثيل العاشر ... 118

التمثيل الحادي عشر ... 121

آل عمران

التمثيل الثاني عشر ... 127

ص: 476

التمثيل الثالث عشر ... 130

الأنعام

التمثيل الرابع عشر ... 132

الأعراف

التمثيل الخامس عشر ... 135

التمثيل السادس عشر ... 137

التوبة

التمثيل السابع عشر ... 143

يونس

التمثيل الثامن عشر ... 146

هود

التمثيل التاسع عشر ... 150

الرعد

التمثيل العشرون ... 152

التمثيل الواحد والعشرون ... 155

إبراهيم

التمثيل الثاني والعشرون ... 162

التمثيل الثالث والعشرون ... 164

ص: 477

التمثيل الرابع والعشرون ... 168

التمثيل الخامس والعشرون ... 170

النحل

التمثيل السادس والعشرون ... 172

التمثيل السابع والعشرون ... 176

التمثيل الثامن والعشرون ... 178

التمثيل التاسع والعشرون ... 180

التمثيل الثلاثون ... 184

الإسراء

التمثيل الواحد والثلاثون ... 189

الكهف

التمثيل الثاني والثلاثون ... 193

التمثيل الثالث والثلاثون ... 198

التمثيل الرابع والثلاثون ... 201

النور

التمثيل الخامس والثلاثون ... 205

التمثيل السادس والثلاثون ... 211

التمثيل السابع والثلاثون ... 214

ص: 478

العنكبوت

التمثيل الثامن والثلاثون ... 217

الروم

التمثيل التاسع والثلاثون ... 220

فاطر

التمثيل الأربعون ... 224

التمثيل الواحد والأربعون ... 226

يس

التمثيل الثاني والأربعون ... 228

التمثيل الثالث والأربعون ... 234

الزمر

التمثيل الرابع والأربعون ... 236

الزخرف

التمثيل الخامس والأربعون ... 238

التمثيل السادس والأربعون ... 241

التمثيل السابع والأربعون ... 242

محمّد

التمثيل الثامن والأربعون ... 248

ص: 479

الفتح

التمثيل التاسع والأربعون ... 251

الحديد

التمثيل الخمسون ... 257

الحشر

التمثيل الواحد والخمسون ... 261

التمثيل الثاني والخمسون ... 263

التمثيل الثالث والخمسون ... 265

الجمعة

التمثيل الرابع والخمسون ... 267

التحريم

التمثيل الخامس والخمسون ... 269

التمثيل السادس والخمسون ... 273

الملك

التمثيل السابع والخمسون ... 277

خاتمة المطاف ... 279

ص: 480

فهرس المحتويات

الأقسام

مقدّمة المؤلّف : القرآن والآفاق اللامتناهية ... 287

إلماع إلى بعض آفاقه اللامتناهية ... 289

بحوث تمهيدية في أقسام القرآن ... 291

1. تفسير القسم ... 291

2. أركان القسم ... 292

3. جواز الحلف بغير اللّه سبحانه ... 296

إكمال ... 300

منهجنا في تفسير أقسام القرآن ... 302

ص: 481

القسم الأوّل : القسم المفرد

وفيه وفصول

القسم الأوّل : القسم بلفظ الجلالة ... 311

المقسم به ... 314

جواب القسم ... 315

ما هي الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ... 316

الفصل الثاني : القسم بالرب ... 317

تفسير الآيات ... 318

المقسم به ... 325

المقسم عليه ... 329

الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ... 330

الفصل الثالث : القسم بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 332

المقام الأوّل : الحلف بعمر النبي صلی اللّه علیه و آله ... 332

المقسم به ... 333

المقسم عليه ... 333

ص: 482

الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ... 333

المقام الثاني : الحلف بوصف النبي وأنّه شاهد ... 334

معنى الشهادة وكيفية شهادة النبي صلی اللّه علیه و آله ... 335

الحلف بالنبي كناية ... 338

الفصل الرابع : القسم بالقرآن الكريم ... 339

ما هو المراد من الحروف المقطعة ؟ ... 340

إلماع إلى مادة القرآن ... 341

الحلف بالكتاب ... 349

الفصل الخامس : القسم بالعصر ... 354

ما هو المراد بالعصر ؟ ... 354

الفصل السادس : القسم بالنجم ... 358

تفسير الآيات ... 358

الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم ... 361

تفسير الآيات ... 361

الفصل الثامن القسم بالسماء ذات الحبك ... 365

تفسير الآيات ... 366

ص: 483

القسم الثاني : القسم المتعدّد

وفيه فصول

الفصل الأوّل : القسم في سورة الصافات ... 368

الصافات والقسم بالملائكة ... 371

الفصل الثاني : القسم في سورة الذاريات ... 374

تفسير الآيات ... 374

الفصل الثالث : القسم في سورة الطور ... 379

تفسير الآيات ... 379

الفصل الرابع : القسم في سورة القلم ... 385

تفسير الآيات ... 386

الفصل الخامس : القسم في سورة الحاقة ... 392

تفسير الآيات ... 392

الفصل السادس : القسم في سورة المدثر ... 397

تفسير الآيات ... 397

الفصل السابع : القسم في سورة القيامة ... 400

تفسير الآيات ... 400

ص: 484

مراتب النفس في الذكر الحكيم ... 405

1. النفس الأمّارة ... 405

2. النفس اللوّامة ... 406

3. النفس المطمئنّة ... 407

4. النفس الراضية المرضية ... 408

الفصل الثامن : القسم في سورة المرسلات ... 410

تفسير الآيات ... 410

الفصل التاسع : القسم في سورة النازعات ... 413

تفسير الآيات ... 413

تدبير الملائكة ... 416

الفصل العاشر : القسم في سورة التكوير ... 418

تفسير الآيات ... 418

الفصل الحادي عشر : القسم في سورة الانشقاق ... 424

تفسير الآيات ... 424

الفصل الثاني عشر : القسم في سورة البروج ... 428

تفسير الآيات ... 429

الفصل الثالث عشر : القسم في سورة الطارق ... 433

ص: 485

تفسير الآيات ... 433

الفصل الرابع عشر : القسم في سورة الفجر ... 436

تفسير الآيات ... 436

الفصل الخامس عشر : القسم في سورة البلد ... 441

تفسير الآيات ... 441

الفصل السادس عشر : القسم في سورة الشمس ... 447

تفسير الآيات ... 447

الفصل السابع عشر : القسم في سورة الليل ... 454

تفسير الآيات ... 454

الفصل الثامن عشر : القسم في سورة الضحى ... 456

تفسير الآيات ... 456

الفصل التاسع عشر : القسم في سورة التين ... 459

تفسير الآيات ... 459

البلد الأمين ... 461

الفصل العشرون : القسم في سورة العاديات ... 467

تفسير الآيات ... 467

فهرس المحتويات ... 475

ص: 486

المجلد 10

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 2

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1425 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-357-148-3

المكتبة الإسلامية

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء العاشر

يبحث عن العدل والامامة وحقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم وتاريخ التفسير

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء العاشر

يبحث عن العدل والامامة وحقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم وتاريخ التفسير

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد اللّه الذي قام بالقسط في خلقه ، وعدل عليهم في حكمه ، والصلاة والسلام على من كلامه ، الفصل وحكمه ، العدل سيد المرسلين وأفضل النبييّن محمّد ، وآله الطاهرين الذين انتظم بهم عقد الإمامة وتزيَّنت بهم مسند الخلافة.

أمّا بعد :

لقد قام الإسلام على دعائم متينة وأُسس راسخة تمثَّلت في أُصول الدين الّتي من أبرزها التوحيد والمعاد والنبوة ، وهذا ما اتّفق عليه المسلمون بكافة طوائفهم ونحلهم ، فلا يدخل أحد في حظيرة الإسلام إلا إذا آمن بتوحيده سبحانه ذاتاً وفعلاً وعبادة ، وآمن بمعاده وانّه سبحانه يبعث من في القبور ، وآمن بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم وانّها الحلقة الأخيرة من نظام النبوة التي ترتبط بالسماء.

وثمة أُصول أُخرى وقعت مثاراً للجدل والنقاش من قِبَل الفرق الإسلامية فمنهم من عدّها من جوهر الدين وصميمه ، كما أنّ منهم من عدّها من فروع الدين ، وهذه كالإمامة والخلافة بعد الرسول فهي عند السنَّة من فروع الدين ، لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرع وجود إمام عادل ذي قوة وقدرة وصولة ، فتكون الإمامة كالمقدمة لهذه المسؤولة الخطيرة ، ومنهم من يعدّها من أُصول الدين لأنّهم يرون الإمامة منصباً إلهيّاً وانّ وظيفتها هي استمرار وظائف النبوة ، وإن

ص: 5

كانت النبوة منقطعة بارتحال الرسول لكن الوظيفة بعد باقية.

وكالعدل الّذي اتّفق المسلمون برمّتهم على وصفه سبحانه به ، ولكن اختلفوا في مفهوم العدل وحقيقته كما سيوافيك ، ولذلك نكرّس جلّ جهودنا على تبيين هذين الموضوعين متمثّلين بقول الصاحب بن عباد حيث يقول :

لو شُقّ عن قلبي يُرى وسطَه *** سطران قد خُطّا بلا كاتب

العدل والتوحيد في جانب *** وحبّ أهل البيت في جانب

ولّما كان بين الإمامة والتعرّف على أهل البيت عليهم السلام الذين طهرّهم اللّه ، صلة قويمة ، أثرنا فتح باب لبيان سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم.

ومّما تجدر الإشارة إليه انّ هذه الموسوعة تشكّل الحلقة الأخيرة من سلسلة مفاهيم القرآن ، فالواجب يحتّم علينا التنويه بالسير التاريخي للتفسير لدى الإماميّة ، وقد ذكرنا من ألوان تفاسيرهم وأسماء كتبهم ما سمح به الوقت ، فانّ الإحاطة بها رهن تأليف مفرد.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

21 شوال 1420 ه

ص: 6

العدل والإمامة

المقدّمة

إنّ العقيدة الإسلامية تنقسم إلى قسمين :

الأوّل : ما يعرف بأُصول الدين.

الثاني : ما يعرف بأُصول المذهب.

ويراد من الأوّل ، الأُصولُ الَّتي اتّفق عليها عامة المسلمين ولم يخالف فيها أحد ، وفي الحقيقة تُناط تسمية الإنسان مسلماً بهذه الأُصول الثلاثة ، وهي كالتالي :

أ : التوحيد بمراتبه.

ب : المعاد.

ج : النبوة العامة والخاصة.

وهذه الأُصول الثلاثة قد أشبعنا البحث فيها ضمن أجزاء هذه الموسوعة ، بقي الكلام في القسم الثاني ، وهو ما يعبَّر عنه بأُصول المذهب ، التي هي عقيدة بعض المذاهب الإسلامية وهي اثنان :

أ : العدل

ب : الإمامة.

ص: 7

أمّا الأوّل : فيؤمن به الإمامية والمعتزلة ، ويخالفهما الأشاعرة ، وسوف يوافيك تفصيل البحث فيه.

وأمّا الثاني : فهو مما يتميّز به المذهب الإمامي الاثنا عشري عن سائر المذاهب ، كما سيوافيك.

وربما يُثار سؤال وهو أنّه كيف يمكن عدّ الأصل الأوّل من خصائص الإمامية والمعتزلة على الرغم من أنّ كافّة الطوائف الإسلامية تصف اللّه سبحانه بالعدل ، ولا نجد بين المسلمين من يقول بأنّ اللّه ظالم ليس بعادل ؟

والجواب : انّ ما ذكر صحيح ، وانّ جميع الفرق تصف اللّه سبحانه بأنّه عادل لا يجور ، غير أنّهم يختلفون في معنى « العدل » وكونه عادلاً لا جائراً.

فالإمامية والمعتزلة أصفقت على أنّ العدل له مفهوم واحد ، ومعنى فارد ، اتّفق عليه قاطبة العقلاء.

مثلاً : أخذ البريء بذنب المجرم ظلم يتنزّه عنه اللّه سبحانه ، وهكذا ، فكلّ ما حكم العقل بفعل انّه ظلم ، فاللّه سبحانه منزَّه عنه.

وعلى ذلك فالحكم بالعدل وتمييز مصاديقه وجزئياته ، وانّ هذا عدل وذاك ظلم كلّها ترجع إلى العقل.

وأمّا الأشاعرة فهم وان يصفون اللّه سبحانه بالعدل ، لكنّهم لا يحدّدون العدل ، بمفهوم واضح ، بل يوكلون ذلك إلى فعل اللّه سبحانه ، وانّ كلّ ما صدر منه فهو عدل ، وكلّ ما نهى عنه فهو ظلم ، وبذلك أقصوا العقل عن القضاء في ذلك المقام.

وبعبارة أُخرى : انّ الشيعة والمعتزلة يرون أنّ للعدل والظلم ملاكاً عند

ص: 8

العقل ، وبه يتميز أحدهما عن الآخر ، ويوصف الفعل بالعدل أو الظلم ، ولكن الأشاعرة ينكرون ذلك الملاك ، ويرون انّ أفعاله سبحانه فوق ما يدركه العقل القاصر.

ولذلك كلّ ما يصدر منه فهو عدل ، محتجّين بقوله سبحانه : ( لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) .(1)

وعلى ضوء ذلك يتبين أنّ وحدة الفرق الإسلامية في وصفه سبحانه بالعدل وحدة صورية ، وإلا فالملاك عند الفرقتين للعدل غير ملاكه عند الأشاعرة. فلو أمر سبحانه بتعذيب الأنبياء والأولياء والصدّيقين فهو عند الأشاعرة عدل لا مانع من صدوره عنه ، ولكنّه عند غيرهم أمر قبيح لا يصدر منه سبحانه. وهو وإن كان متمكناً من ذلك العمل وقادراً عليه لكن حكمته سبحانه تحول دون ارتكابه.

هذا كلّه حول العدل.

وأمّا الإمامة : فيثار حولها نظير السؤال السابق ، فالمسلمون قاطبة يؤمنون بأصل الإمامة وانّه لابدّ للمسلمين من إمام يأتمّون به ، ولكنّهم اختلفوا في خصوصياتها ، فهل الإمامة منصب إلهي كالنبوة لا يناله إلاّ الأمثل فالأمثل من الأُمة ، ولا يمكن الوقوف على القائم بأعباء الإمامة إلاّ من خلال نصبه سبحانه ؟

أو انّه منصِب بشري ومقام اجتماعي يقوم بأعبائه من تُعيّنه طائفة من الأُمّة ؟ وبذلك تختلف وجهة النظر في واقع الإمامة عند الطائفتين.

نبدأ الكلام في الأصل الأوّل من أُصول المذهب ، وهو العدل الإلهي.

ص: 9


1- الأنبياء : 23.

ص: 10

العدل الإلهي وفيه فصول

اشارة

ص: 11

ص: 12

الفصل الأوّل: العدل الإلهي في الكتاب العزيز

آيات الموضوع

1. ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) .(1)

2. ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) .(2)

3. ( إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) .(3)

4. ( فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .(4)

5. ( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا ) .(5)

6. ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ) .(6).

ص: 13


1- آل عمران : 18.
2- آل عمران : 182.
3- النساء : 40.
4- التوبة : 70.
5- النحل : 33 - 34.
6- المؤمن : 31.

وقبل أن نخوض في تفسير الآيات ، نشير إلى مقدمة ، وهي :

إنّ العدلية تصف اللّه سبحانه بالعدل بالمعنى المتفق عليه بين العقلاء ، وبرهانها على ذلك هو انّ العقل قادر على تمييز الحسن عن القبيح ، والعدل عن الظلم ، واللّه سبحانه بما انّه حكيم لا يجور أبداً ، فهاهنا دعويان :

الأُولى : انّ العقل له القابلية على تمييز الحسن عن القبح ، وانّ التحسين والتقبيح من الأُمور المنوطة بقضاء العقل.

الثانية : إذا تبيَّن أنَّ العدل حسن والظُّلم قبيح فاللّه سبحانه موصوف بالعدل ، نزيه عن فعل الظلم. وإليك بيان كلا الدعويين.

أمّا الدعوى الأُولى فتدلُّ عليها أُمور :

الأوّل : التحسين والتقبيح من الأُمور البديهية

إنّ التحسين والتقبيح من الأُمور البديهيَّة التي يدركها كلّ إنسان سليم الفطرة ، فمثلاً يدرك انّ العمل بالميثاق حسن ، والتخلّف عنه قبيح ، أو انّ جزاء الإحسان بالإحسان جميل ، وجزاءه بالسيّء قبيح. وهكذا سائر الأفعال التي توصف بالحسن والقبح.

وموضوع قضاء العقل بالحسن والقبح هو نفس الفعل بما هوهو ، سواء أكان الفاعل واجباً أم ممكناً ، خالقاً أم مخلوقاً ، فيوصف الفعل من أي فاعل صدر بأحد الوصفين.

وبعبارة أُخرى : كما أنّ مسائل الحكمة النظرية تنقسم إلى نظرية وبديهية ، ويستنبط حكم الأُولى من الثانية ، ولذلك عدّوا مسألة امتناع اجتماع النقيضين أو

ص: 14

ارتفاعهما من المسائل البديهية في الحكمة النظرية.

فهكذا الأمر في الحكمة العملية فمسائلها تنقسم إلى بديهية وغير بديهية ، ويستنبط حكم الثانية من الأُولى.

والتحسين والتقبيح من المسائل البديهية في الحكمة العملية ، وقد حازتا على اهتمام واسع نظراً لدورهما في استنباط سائر مسائل الحكمة العملية.

ولأجل إيضاح المراد نقول : إنّ تحسين بعض الأفعال وتقبيحها من الأُمور البديهية للعقل ، ويدلّك على ذلك اتّفاق عامة العقلاء مع اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم على وصف أفعال بالحسن ، وأفعال أُخرى بالقبح ، نظير :

أ : حسن العدل وقبح الظلم.

ب : حسن العمل بالميثاق وقبح نقضه.

ج : حسن جزاء الإحسان بالإحسان وقبح جزائه بالسيّء.

د : حسن الصدق وقبح الكذب.

ه : حسن أداء الأمانة وقبح الخيانة بها.

إلى غيرها من الأُمور التي لا يختلف فيها اثنان ، وهذا يدل على أنّ تلك الأفعال موصوفة بالحسن والقبح بالبداهة ، وإلاّ لما اتفق عليه العقلاء كافة ، ولذلك قلنا : إنّ التحسين والتقبيح أمران عقليان.

الثاني : إنكار إدراك العقل يلازم النفي مطلقاً

لقد أنكرت الأشاعرة قابلية إدراك العقل حسنَ الأفعال وقبحها ، وذهبوا إلى أنّ القضاء بالتحسين والتقبيح بيد الشرع ، فكلّ ما أخبر بحسنه فهو حسن ،

ص: 15

وما أخبر بقبحه فهو قبيح ، ولكنّهم غفلوا عن أنّهم بإنكارهم قابلية العقل لإدراك الحسن والقبح ، أثبتوا عدم ثبوت الحسن والقبح مطلقاً حتى مع تصريح الشرع ، وذلك لأنّه إذا كان تمييز الحسن عن القبيح بيد الشرع دون العقل فإذا أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بحسن شيء وقبحه ، فمن أين نعلم أنّه يصدق في أخباره ولا يكذب ، والمفروض انّ العقل عاجز عن درك حسن الأوّل وقبح الثاني ؟ فلا يصحّ إثبات حسن شيء أو قبحه من خلال تصريح الشارع ، إلاّ أن يثبت قبلاً انّ الصدق حسن والكذب قبيح ، ويثبت انّه سبحانه نزيه عن فعل القبيح ، ولولا هذان الأمران لذهب الإخبار بحسن الشيء أو قبحه سدى.

الثالث : لولا التحسين العقلي لما ثبتت شريعة
اشارة

لو لم نقل بالتحسين والتقبيح العقليين يلزم عدم ثبوت شريعة من الشرائع السماوية ، حتى تثبت بها شريعة تحكم بحسن شيء أو قبحه ، وذلك لأنّ القائل بالتحسين والتقبيح العقليين ، يقول : إنّ حكمته سبحانه تصدّه عن تزويد الكاذب بالمعجزة ، فلو ادّعى رجل النبوة من اللّه وأتى بمعجزة عجز الناس عن مباراته ، فهي دليل على صدقه في دعوته.

وأمّا إذا أنكرنا قدرة العقل واستطاعته على درك الحسن والقبح ، لكان باب احتمال تزويد الكاذب بالمعجزة مفتوحاً على مصراعيه ، وليس هنا دليل يردّ هذا الاحتمال فلا يحصل يقين بصدق دعواه.

وهذه الأدلّة الثلاثة التي سردناها على وجه الإيجاز ، تُشرف القارئ على القطع بأنّ العقل له المقدرة على درك الحسن والقبح. هذا كلّه حول الدعوى الأُولى.

ص: 16

وأمّا الدعوى الثانية وهي انّه بعد ما تبيَّن انّ العدل حسن ، والظلم قبيح ، فاللّه سبحانه موصوف بالعدل ومنزّه عن الظلم ، وذلك ، مضافاً إلى أنَّه سبحانه حكيم ، والحكيم يعدل ولا يجور - أنّ الجور رهن أحد أمرين ، إمّا الجهل بقبح العمل ، أو الحاجة إليه ، والمفروض انتفاء كلا المبدأين عنه سبحانه.

وربما يقال إنّ كون الشيء حسناً أو قبيحاً عند الإنسان لا يلازم كونه كذلك عند اللّه ، فكيف يمكن استكشاف انّه سبحانه لا يفعل القبيح ؟

والجواب عنه واضح لأنّ المدرَك للعقل هو حسن الفعل على وجه الإطلاق ، أو قبحه كذلك ، من دون أن تكون للفاعل مدخلية فيه سوى كونه فاعلاً مختاراً ، وأمّا كونه واجباً أو ممكناً فليس بمؤثرٍ في قضاء العقل. وعلى ذلك فإذا ثبت كون الشيء جميلاً أو قبيحاً فهو عند الجميع كذلك.

شمولية عدله سبحانه

يظهر من الآية الأُولى انّ عدله يعمُّ جميع شؤونه ، حيث يقول : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) (1) فقوله : « قائماً » حال من لفظ الجلالة ، في قوله : شهد اللّه ، أو الضمير المنفصل ، أعني : إلاّ هو.

والمتبادر منه أنّه سبحانه يجري العدل في عامة شؤونه في خلقه وتشريعه فهو عادل ذاتاً وفعلاً.

وتشهد على ذلك مضافاً إلى شهادته سبحانه به ، شهادة الملائكة وأُولي العلم ، فكأنّ الآية تنحل إلى الجمل التالية :

ص: 17


1- آل عمران : 18.

1. « شهد اللّه انّه لا إله إلا هو قائماً بالقسط ».

2. « شهدت الملائكة انّه لا إله إلا هو قائماً بالقسط ».

3. « شهد أُولو العلم انّه لا إله إلا هو قائماً بالقسط ».

فالآية تدلُّ على شهادته سبحانه على أمرين : (1)

الأوّل : لا إله إلاّ هو ، لا نظير له.

الثاني : انّه قائم بالقسط.

ومن المعلوم انّ الشهادتين ليستا من مقولة الشهادة اللفظية ، وإنّما هي من مقولة الشهادة التكوينية ، ففعله سبحانه في عالم الخلقة يدل على أمرين :

الأوّل : لا خالق ولا مدبّر إلاّ هو ، فانّ اتقان النظام ، وسيادته على جميع الكائنات من الذرّة إلى المجرّة ، لأوضح دليل على أنّ الخالق والمدبّر واحد ، وإلاّ لانفصمت عرى الانسجام والاتصال بين أجزاء الكون ، وقد أوضحنا في محلّه أنّ تعدّد العلة واختلاف السببين يستلزم اختلافاً في المسبب ، فلا يمكن أن يكون النظام الواحد معلولاً لفاعلين مدبّرين مختلفين في الحقيقة.

الثاني : يشهد فعله سبحانه في عالم التكوين والتشريع انّه سبحانه عادل وقائم بالعدل.

وأفضل كلمة قيلت في تعريف العدل هي ما روي عن علي عليه السلام ، حيث قال :

« العدل يضع الأُمور مواضعها ». (2)

ص: 18


1- ما ذكرنا مبنيٌّ على أنَّ قيامه بالقسط منالمشهود به خلافاً للسيّد الطباطبائي حيث خصَّ الشهادة بالتوحيد.
2- نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 437.

بيان ذلك انّ لكلّ شيء وضعاً خاصاً يقتضيه إمّا بحكم العقل ، أو بحكم الشرع والمصالح الكلية في نظام الكون ، فالعدل هو رعاية ذلك الوضع وعدم الانحراف إلى جانب الإفراط والتفريط.

نعم موضع كلّ شيء بحسبه ، ففي التكوين بوجه ، وفي المجتمع البشري بوجه آخر ، وهكذا. وبلحاظ اختلاف موارده تحصل له أقسام ليس هنا مقام بيانها ، إلا أنّ العدل بالنسبة إلى اللّه تعالى على أنحاء ثلاثة :

1. العدل التكويني : وهو إعطاؤه تعالى كلّ موجود ما يستحقه ويليق به من الوجود فلا يهمل قابلية ، ولا يعطل استعداداً في مجال الإفاضة والإيجاد.

2. العدل التشريعي : وهو انّه تعالى لا يهمل تكليفاً فيه كمال الإنسان وسعادته ، وبه قوام حياته المادية والمعنوية الدنيوية ، والأُخروية ، كما أنّه لا يكلّف نفساً فوق طاقتها.

3. العدل الجزائي : وهو انّه تعالى لا يساوي بين المصلح والمفسد ، والمؤمن والمشرك ، في مقام الجزاء والعقوبة ، بل يُجزي كلّ إنسان بما كسب ، فيُجزي المحسن بالإحسان والثواب ، والمسيء بالإساءة والعقاب ، كما أنّه تعالى لا يعاقب عبداً على مخالفة التكاليف إلا بعد البيان والإبلاغ.

وبذلك تبيَّن معنى الآية ، وشهادته سبحانه على كونه قائماً بالقسط في جميع الأنحاء.

وأمّا شهادة الملائكة وأُولي العلم وذلك فبتعليم منه سبحانه.

وأمّا سائر الآيات التي أوردناها في صدر الفصل ، فهي غنية عن التفسير ، لأنّها بصدد بيان أنّ العذاب في الدنيا والآخرة رهن عمل الإنسان ، فلو عُذّب فإنّما

ص: 19

هو لأجل القبائح والذنوب التي اقترفها ، يقول سبحانه : ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) .(1)

وقال عزّ من قائل : ( فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .(2)

واللّه سبحانه لا يظلم عباده ولو جاء العبد بحسنة يضاعفها ، كما قال سبحانه : ( وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) .(3)

ولأجل إيضاح عدله سبحانه في عالم التكوين والتشريع نعطف النظر إلى آيات تدل على ذلك في الفصل التالي.

ص: 20


1- آل عمران : 182.
2- التوبة : 70.
3- النساء : 40.

الفصل الثاني: مظاهر العدل الإلهي

اشارة

في عالم الخلق

آيات الموضوع

1. ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) .(1)

2. ( إِنَّ اللّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا ) .(2)

3. ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ ) .(3)

إنّ لعدله سبحانه مظاهر في عالم الخلق والتشريع ، وسنعرض في هذا الفصل مظاهر عدله في عالم الخلقة.

1. السماوات ورفعها بغير عمد

يقول سبحانه في هذا الصدد : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) .

ص: 21


1- لقمان : 10.
2- فاطر : 41.
3- الرحمن : 7.

إنّ رفع صرح هذا البناء الشامخ دون الاستعانة بدعائم مرئيَّة يكشف عن تناغم دقيق في عالم الخلقة ، ولولاه لتداعت أركان العالم وانهارت ، وهذا النظام الرائع تقاسمته قوّتا الجاذبية والطاردة ( النابذة ) ، وفي ظلّ التعادل القائم بينهما انتظمت حركة النجوم والكواكب والمجرّات في مساراتها.

فالجاذبية قانون عام جار على جميع الأجسام في هذا العالم ، وهي تتناسب عكسياً مع الحدّ الفاصل بين الجسمين إذ تتعاظم كلما تضاءلت المسافة ، وتتضاءل كلما ازدادت الفاصلة ، فلو دارت رحى النظام الكوني الدقيق على قوة الجاذبية فقط لارتطمت الكواكب والنجوم بعضها مع بعض ولتداعى النظام السائد ، ولكن في ظل قانون الطرد يحصل التعادل المطلوب ، وقوة الطرد تلك تنشأ من الحركة الدورانية للأجسام.

ومهما يكن من أمر ففي ظل هاتين القوتين تبقى الملايين من المنظومات الشمسية والمجرّات معلّقة في الفضاء دون عَمَد ، وتحول دون سقوطها وفنائها ، وإلى هذه الحقيقة يشير القرآن الكريم ، ويقول : ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) . (1)

وتتضح دلالة الآية من خلال ملاحظة أمرين :

الأوّل : انّ قوله « ترونه » وصف ل « عَمَد » وهي جمع عمود.

الثاني : انّ الضمير في « ترونها » يرجع إلى الأقرب الذي هو « عمد » لا إلى السماوات التي هي أبعد ، ومعنى الآية أنّه سبحانه رفع السماوات من دون أعمدة مرئية ، وهو لا ينفي العمود بتاتاً ، بل وإنّما ينفي العمود المرئي ، ولازم ذلك وجود العمد في رفع السماوات من دون أن يراها البشر ، وهذا هو المعنى الذي اختاره ابن

ص: 22


1- الرعد : 3.

عباس وغيره.(1)

وهو الظاهر مما رواه الحسين بن خالد ، عن علي بن موسى الرضا عليه السلام ، فإنّه عليه السلام قال في تفسير الآية : « أليس اللّه يقول : بغير عمد ترونها ؟ » فقلت : بلى ، قال : « ثمَّ عَمَد لكن لا ترونها ».

ويؤيده ما روي عن الإمام علي عليه السلام ، انّه قال : « هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض ، مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور ».(2)

ورواه الطريحي أيضاً لكن قال : « عمودين من نور » مكان قوله « عمود من نور ».(3)

ولعل المراد من العمودين هما قوتا الجاذبية والطاردة.

إنّ الكتاب الكريم صاغ الحقيقة المكتشفة من قبل « نيوتن » ، بعبارة يسهل فهمها على عامة الناس ، وقال : ( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) .

وقد أشار سبحانه في غير واحد من الآيات ، أنّه سبحانه هو الممسك للسماوات من الزوال ، وقال : ( إِنَّ اللّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا ) .(4)

وكونه سبحانه هو المُمْسِك لا يمنع من وجود علل طبيعية حافظة لسقوط السماوات وزوالها ، فقد جرت سنّته سبحانه على تدبير العالم من خلال العلل الطبيعية التي هي من سننه سبحانه وجنوده الغيبية.

وأشار الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في غير واحد من خطبه إلى خلقة الأرض ، وقال : « أرساها على غير قرار ، وأقامها بغير قوام ، ورفعها بغير دعائم ».

وعلى كلّ تقدير فالتوازن الموجود في خلق السماوات والأرض هو مظهر من .

ص: 23


1- التبيان : 6 / 213.
2- سفينة البحار : مادة نجم.
3- مجمع البحرين : مادة كوكب.
4- فاطر : 41.

مظاهر عدله في عالم الخلقة.

2. الجبال وحركاتها

وليس رفع السماوات وإبداعها وتنظيم حركاتها هو الوحيد في كونه مظهراً لعدله سبحانه في التكوين ، بل إبداع الجبال وإيجادها مظهر آخر من مظاهر التوازن والتعادل في الخلقة.

يقول سبحانه : ( وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ) .(1)

وقال سبحانه : ( وَالجِبَالَ أَوْتَادًا ) .(2)

إنّ الرواسي التي استخدمها القرآن جمع « راسية » ، والمراد منها الأََنجَر التي هي مرساة السفينة ، فللجبال دور المرساة ، فكما أنّها تحول دون اضطراب السفينة وتقاذفها من قِبل أمواج البحر العاتية ، فهكذا الجبال لها دور في تنظيم حركة الأرض.

وإلى هذا الحقيقة يشير الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه ، ويقول : « وتّد بالصُّخُور مَيدان أَرضه ».(3)

وقال عليه السلام أيضاً : « وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها ».(4)

3. الحياة وتوازنها الدقيق

إنّ من مظاهر عدله سبحانه وجود الحياة في الأرض ، وهي رهن توفر

ص: 24


1- النحل : 15. وقد جاءت أيضاً بنفس العبارة في سورة لقمان الآية 10.
2- النبأ : 7.
3- نهج البلاغة : الخطبة 1.
4- نهج البلاغة : الخطبة 87.

الظروف المناسبة لها ، مثلاً انّ الفاصلة الدقيقة بين الشمس والأرض هيّأت أجواءً مناسبةً لنمو ورشد الخلايا ، وهذه ما كان لها أن تنمو لو طرأ على تلك الفاصلة أدنى تغيير. وهذا يرشدك إلى توازن دقيق للغاية بين السماء والأرض.

واعطف نظرك إلى النباتات والحيوانات ، فانّ حياة الحيوان رهن استنشاق غاز الأوكسجين (O2) الذي تُولّده النباتات ، وحياة النبات رهن استنشاق غاز ثاني أوكسيد الكاربون (CO2) الذي تُولّده الحيوانات من خلال تنفّسها ، فالتوازن الموجود بين الإنتاج والاستهلاك مهّد المناخ المناسب لحياة كلّ من النبات والحيوان ، فلو كانت الأرض محتضنة للحيوان فقط أو للنبات فقط لما قامت للحياة قائمة.

فالتوازن القائم بين الغازين على وجه البسيطة مظهر من مظاهر عدله سبحانه ، يقول سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) (1).

ويزخر عالم النباتات والحيوانات بعدد لا حصر له من هذا النوع من التوازن والتعادل ، وها نحن نذكر نموذجاً آخر.

كان الملاّحون يعانون من مرض تشقّق الجلد وسيلان الدم منه ، وسببه يعود إلى قلة الفيتامينات في أبدانهم ، إلى أن اكتشف أحد الأخصائيين في « مدغشقر » أنّ علاجه الوحيد هو تناول وجبات كافية من الليمون والنارنج ، ففيها كمّيات هائلة من تلك الفيتامينات ، وبذلك نجا الملاّحون من هذا المرض الذي كانوا يعانون منه.

ص: 25


1- لقمان:10.

الفصل الثالث: مظاهر العدل الإلهي في عالم التشريع والجزاء

آيات الموضوع

1. ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .(1)

2. ( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) .(2)

3. ( وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) .(3)

4. ( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ) .(4)

قد سبق انّه سبحانه وصف نفسه بقوله : ( قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) ، وتلك الفقرة .

ص: 26


1- البقرة : 178.
2- البقرة : 279.
3- البقرة : 280.
4- البقرة : 282.

حاكية عن أنّه سبحانه قائم بأعباء القسط في جميع المجالات تكويناً وتشريعاً ، أمّا التكوين فقد وقفت على نماذج من التعادل الذي هو حجر الأساس لبقاء السماء والأرض واستقرار الحياة على وجه البسيطة.

بقي الكلام في مظاهر عدله في عالم التشريع ، ولنذكر نماذج من ذلك :

1. فرض سبحانه الصيام على كلّ مكلّف ، وقال : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .(1)

وفي الوقت نفسه استثنى المريض والمسافر ومن يصوم ببذل الجهد الكبير ، قال سبحانه : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) .(2)

فأوجب على المريض والمسافر القيام بأعباء هذا التكليف بعد استعادة صحته أو رجوعه إلى الوطن ، كما أنّه اكتفى فيمن يصوم ببذل جهد كبير كالهرم ، بالتكفير وإطعام مسكين.

2. لا شكّ انّ في القصاص حياة لأُولي الألباب ، وفي المثل المعروف : « إنّ الدم لا يُغسّله إلا الدم » ، ومع ذلك كلّه فقد أجاز لوليِّ الدم أن يسلك طريقاً آخر وهو إبدال القصاص بالدية ، فقد شرع ذلك ، وقال : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )(3)فالإصرار على أحد الحكمين ربما يولِّد الحرج ، فخيّر وليَّ الدم بين القصاص وأخذ الدية حتى يتبع ما هو الأفضل والأصلح لتشفِّي القلوب واستقرار الصلح في المجتمع.

ص: 27


1- البقرة : 183.
2- البقرة : 184.
3- البقرة : 178.

3. لا شكّ انّ الربا من أعظم الجرائم وأكبرها ، كيف وقد وصف المرابي بالمحارب ، وقال : ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ )(1)ومع ذلك فإذا تاب المرابي من عمله فقد احترم ماله الذي اقترضه ، فعلى المقترض ردُّ رأس ماله فقط ، قال : ( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) .

وفي الحقيقة هذه الفقرة أي ( لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) شعار كلّ مسلم في عامة المجالات وهو لا يَظلم ولا يتحمَّل الظلم.

4. حثَّ الناس على الإقراض وجعل أجره عشرة ، قال سبحانه : ( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا )(2)وهو عام يعم كلّ حسنة ومنها الإقراض ، ومع ذلك كلّه فإذا عجز المقترض عن أداء قرضه وصار ذا عسرة أمر المقرض بالصبر حتى يستطيع المقترض من دفع دينه ، قال سبحانه : ( وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) .(3)

5. يأمر سبحانه المقرض والمقترض أن يكتبا سنداً للدين ، وفي الوقت نفسه يأمر الكاتب أن يكتب بالعدل من دون تحيّز إلى واحد من الطرفين ، يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) .(4)

6. يأمر سبحانه من عليه الحق أن يُملي كما هو عليه ، من دون نقيصة ولا زيادة ، يقول سبحانه : ( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ) .(5).

ص: 28


1- البقرة : 279.
2- الأنعام : 160.
3- البقرة : 280.
4- البقرة : 282.
5- البقرة : 282.

7. كما يأمر إذا كان من عليه الحقّ سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع الإملاء فليقم مكانه وليُّه وليملل بالعدل ، يقول سبحانه : ( فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ) . (1)

وباختصار : تتجلى في هذه الآية التي هي أطول آية وردت في القرآن الكريم مظاهر عدله في التشريع مرة تلو مرة ، وللقارئ الكريم أن يستشف منها ما ذكرناه من المعاني.

8. الطهارة من الحدث أحد شرائط صحّة الصلاة والصوم والحجّ ، وتحصل عن طريق استعمال الماء بكيفية خاصة متقرباً فيها إلى اللّه ، ولكن ربما يكون استعمال الماء مضرّاً بصحّة المتوضئ أو موجباً لبطء برء مرضه ، إلى غير ذلك من الاعذار فأوجب سبحانه التيمّم بالصعيد بدل استعمال الماء ، وهذا يدل على مرونة الإسلام في تشريعه وتعاطفه مع فطرة الإنسان التي ترغب في العافية وتنضجر عن كلّ ما يحول دونها ، قال سبحانه : ( وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . (2)

فقوله : ( مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ) يكشف اللثام عن وجه العدول من الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية.

كما دلت الآيات القرآنية على استثنائه سبحانه طوائف ثلاث من الحضور

ص: 29


1- البقرة : 282.
2- المائدة : 6.

في ساحات الجهاد لأجل الحرج ، قال سبحانه : ( لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ ) .(1)

وفي آية أُخرى يُبيِّن بوضوح أنّ تشريعه خال من الحرج ، ويقول : ( مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2). فكلّ حكم يتضمن الحرج فهو مرفوض بحكم أنّه حرجي ، وقد أخبر سبحانه عن عدم تشريع الحكم الذي في امتثاله حرج.

9. لقد شملت العناية الإلهية الأُمةَ الإسلامية من بين سائر الأُمم برفع النسيان والخطأ عنهم وعدم المؤاخذة عليهما ، في حين كانت الأُمم السالفة مسؤولة عن خَطاها ونسيانها إذا كانت مقصِّرة في مبادئ الخطأ والنسيان ، يقول سبحانه : ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) .(3)

روى الكليني عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم انّه قال : « إنّ هذا الدين متين ، فاوغلوا فيه برفق ولا تكرهوا عبادة اللّه إلى عباد اللّه ، فتكونوا كالراكب المنبتِّ الَّذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى ».(4)

فما أروع هذا التشبيه حيث إنّ الراكب المنبتِّ وإن كان يعدو بفرسه أميالاً عديدة بغية الوصول إلى غايته ، ولكنه بفعله هذا يُنتج عكس المطلوب حيث إنّ المركوب يُعْييه التعبُ ولا يكون بمقدوره الاستمرار في العدو ، ويبقى هو في وسط الطريق لا يهتدي إلى بغيته ، فهو لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى.

ص: 30


1- الفتح : 17.
2- الحج : 78.
3- البقرة : 286.
4- الكافي : 2 / 86.

فهكذا الدعوة إلى الشريعة إذا كانت مقرونة بالشدة والضعف تنتج عكس المطلوب حيث لا تجد لها أُذناً صاغية ، بل يخرج الناس منها أفواجاً. ولأجل ذلك صدع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بسهولة شريعته ، وقال : « بعثت بالشريعة السهلة السمحة ».(1)

10. دلّت الآيات القرآنية على أنّ التكليف على القدر المستطاع وقد أطبق عليه العقل والنقل ، إذ كيف يمكن تكليف الناس بأعمال ، كإدخال الشيء الكبير في الظرف الصغير ، من دون تغيّر في الظرف والمظروف ؟ أو التحليق في الهواء دون وسيلة ، إلى غير ذلك من الأُمور الممتنعة التي تدخل في نطاق التكليف بما لايُطاق ، حتى أنّ محقّقي العدلية ذهبوا إلى أنّ هذا النوع من التكليف المحال ، بمعنى أنّه لا ينقدح في ذهن الآمر ، الطلب والإرادة الجدية المتعلِّقة ببعث العاجز إلى المطلوب ، ولو تظاهر به فإنّما تظاهر بظاهر التكليف لا بواقعه.

فتكون النتيجة : انّ امتناع المكلف به يلازم امتناع نفس التكليف أيضاً ، يقول سبحانه : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) .(2)

وقال في آية أُخرى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا ) .(3)

ومضمون كلتا الآيتين واحد ، وهو أنّ اللّه يكلّف الإنسان بقدر طاقته وقابليته.

هذه نماذج استعرضناها لإثبات أنّ التشريع الإسلامي يتمتّع بمرونة ، وأنّه مبنيٌّ على أساس العدل.

وفي الحقيقة انّ التشريع الإسلامي من مظاهر عدله في هذا المجال.

ص: 31


1- سفينة البحار : 1 / 695.
2- البقرة : 286.
3- الطلاق : 7.
الأشاعرة والتكليف بما لا يطاق

ذهب لفيف من متكلّمي الإسلام - وللأسف الشديد - إلى جواز التكليف بما لا يطاق ، ولم يُصغوا لنداء العقل ولا الشرع ، بل أهالوا التراب على فطرتهم القاضية بعدم صحّة التكليف بما لا يطاق.

وقد اتَّخذوا ظواهر بعض الآيات ذريعة لعقيدتهم في هذا المجال ، وها نحن نستعرض تلك الآيات ونناقشها كي يتجلّى الحق.

1. ( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ) . (1)

استدل الإمام أبو الحسن الأشعري ( 260 - 324 ه ) على أنَّهم كانوا مكلَّفين بالسماع والإبصار ومع ذلك ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يُبصرون ، فدلّ على جواز التكليف بما لا يطاق.

وهذا الاستدلال يتبدَّد بالتوضيح التالي :

وهو أنَّهم وإن كانوا مأمورين مكلّفين بالسماع والإبصار ومع ذلك كانوا عاجزين عنهما لكن ذلك العجز لم يكن مقروناً بهم منذ بلوغهم وتكليفهم ، وإنّما أدّى بهم التمادي في المعصية إلى أن صاروا فاقدين للسمع والأبصار ، فقد سُلِبت عنهم هذه النعم بسوء اختيارهم نتيجة الذنوب التي اقترفوها ، فكان لهم قلوب لا يفقهون بها ، وآذان لا يسمعون بها ، يقول سبحانه : ( لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ

ص: 32


1- هود : 19 - 20.

أَضَلُّ ) .(1)

إنّ التمادي في المعصية والإصرار عليها يترك انطباعات سيِّئة في القلوب على وجه يتجلّى الحسن سيّئاً والسيّء حسناً ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) .(2)

فالآية تصرح بأنّ اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي ينجم عنه التكذيب بآيات اللّه.

فتحصل من ذلك أنّ عدم استطاعتهم للسماع والإبصار كان نتيجة قطعية لأعمالهم السيئة ، كما يقول سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ) .(3)

2. ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) .(4)

استدلّ الإمام الأشعري بهذه الآية على جواز التكليف بما لا يطاق ، وقال : فقد أمروا بالإعلام وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.

ولكن غاب عنه أنّ لصيغة الأمر معنى واحداً وهو إنشاء الطلب ، لكن الغايات من الإنشاء تختلف حسب اختلاف المقامات ، فتارة تكون الغاية من الإنشاء ، هي بعث المكلف نحو الفعل جداً ، وهذا هو الأمر الحقيقي الذي يُثاب فاعله ويُعاقب تاركه ، وتشترط فيه القدرة والاستطاعة ، وأُخرى تكون الغاية أُموراً

ص: 33


1- الأعراف : 179.
2- الروم : 10.
3- الملك : 10 - 11.
4- البقرة : 31 - 32.

غيره ، وعند ذلك لا ينتزع منه التكليف الجدي ، وذلك كالتعجيز في الآية السابقة ، وكالتسخير في قوله سبحانه : ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ )(1)والإهانة مثل قوله : ( ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ )(2)، أو التمنّي مثل قول أمرئ القيس في معلّقته :

ألا أيُّها الليل الطويل ألا انجلي

بصُبحٍ وما الإصباحُ مِنكَ بأمثلِ

إلى غير ذلك من الغايات والحوافز التي تدعو المتكلم إلى التعبير عن مقاصده بصيغة الأمر وذلك واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.

3. ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ) .(3)

استدلّ بها الشيخ الأشعري على مقصوده ، وقال : إذا جاز تكليفه إياهم في الآخرة بما لا يطيقون ، جاز ذلك في الدنيا.

والحقّ أنّ الإمام الأشعري وأتباعه لا سيما الفطاحل منهم أجلُّ من أن يجهلوا هدف الآية ومغزاها ، إذ ليست الدعوة إلى السجود فيها عن جدّ وإرادة حقيقة ، بل الغاية من الدعوة إيجاد الحسرة في قلوب المشركين التاركين للسجود حال استطاعتهم في الدنيا ، والآية بصدد بيان أنّهم في أوقات السلامة والعافية رفضوا الانصياع والامتثال ، وعند العجز - بعد ما كشف الغطاء عن أبصارهم ورأوا العذاب بأُمّ أعينهم - همّوا بالسجود ولكن أنّى لهم ذلك.

وإليك توضيح الآية بمقاطعها الثلاثة :

أ : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ) كناية عن اشتداد الأمر وتفاقمه ، لأنّ الإنسان

ص: 34


1- البقرة : 65.
2- الدخان : 49.
3- القلم : 42 - 43.

عند الشدة يكشف عن ساقه ويخوض غمار الحوادث.

ب : ( وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) لا طلباً وتكليفاً جدياً ، بل لازدياد الحسرة ، فلا يستطيعون ، إمّا لسلب السلامة عنهم ، أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم.

ج : ( وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ) والمعنى أنّهم لما دعوا إلى السجود في الدنيا امتنعوا عنه مع صحّة أبدانهم ، وهؤلاء يُدعون إلى السجود في الآخرة ولكن لا يستطيعون ، وما ذلك إلا لتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرَّطوا.

4. ( وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) . (1)

وقد استدل بها الشيخ الأشعري على ما يروم من جواز التكليف بما لا يطاق ، وقال : وقد أمر اللّه تعالى بالعدل ومع ذلك أخبر عن عدم الاستطاعة على أن يُعدل. (2)

أقول : لا شكّ أنّه سبحانه أمر من يتزوج بأكثر من واحدة بإجراء العدالة بينهنّ ، قال سبحانه : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) (3) وفي الوقت نفسه صرَّح في آية أُخرى بأنَّ إجراء العدالة بينهنّ ، أمر غير مقدور ، ومع ذلك نهى عن التعلّق بواحدة منهن والإعراض عن الأُخرى حتى تُصبح كالمعلّقة لا متزوجة ولا مطلقة.

وبالتأمل في الآية يظهر بأنّ العدالة التي أمر بها غير العدالة التي أخبر عن عدم استطاعة المتزوج القيام بها ، فالمستطاع منها هو الذي يقدر عليه كلّ متزوج بأكثر من واحدة ، وهو العدالة في الملبس والمأكل والمسكن وغيرها من الحقوق

ص: 35


1- النساء : 129.
2- لاحظ الاستدلال بهذه الآيات في كتاب اللمع للإمام الأشعري : 99 - 114.
3- النساء : 3.

الزوجية التي تقع على عاتق الزوج ويقوم بها بجوارحه ولا صلة لها بباطنه.

وأمّا غير المستطاع فهي المساواة في قسمة الحب بينهنّ لأنّ الباعث لها هو الوجدان والميل القلبي وهو ممّا لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره ، لأنّه رهن أُمور خارجة عن الاختيار.

مظاهر العدل الإلهي في تنفيذ العقوبات

قد مضى أنّ لعدله سبحانه مظاهر في التكوين والتشريع ، ومن مظاهر عدله في التشريع أنّه لا يساوي بين المطيع والعاصي ، والمسلم والمجرم ، والمؤمن والمفسد ، ولذلك صار يوم البعث مظهراً لعدله سبحانه بحيث لو لم يكن ذلك اليوم الموعود لما ظهر عدله في مجال الجزاء ، وبذلك أصبح يوم القيامة أمراً لا مفرّ منه لظهور عدله فيه ، وتشير آياتٌ كثيرة إلى هذا المضمون :

1. ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .(1)

2. ( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(2)

وهاتان الآيتان تدلاّن على أنَّ التسوية بين الطائفتين على خلاف العدل ، فلا محيص من إحقاق الفرق ، وبما انّ الطائفتين يتعامل معهما في الدنيا على نحو سواء فلابدّ من تحقيقه في يوم ما وليس هو إلاّ يوم القيامة ، ويعرب عمّا ذكرناه قوله سبحانه : ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ

ص: 36


1- ص : 28.
2- القلم : 35 - 36.

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) .(1)

ثمّ إنّه سبحانه يحقّق عدله يوم القيامة بوضع موازين القسط ليجزي كلّ نفس بما كسبت ، يقول سبحانه :

( وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) .(2)

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) .(3)

هذه إلمامة عابرة لبيان مظاهر عدله في مجالات مختلفة ، والسابر في آيات القرآن الكريم يجد آيات كثيرة في مجال عدله سبحانه.

ص: 37


1- يونس : 4.
2- الأنبياء : 47.
3- الأعراف : 8 - 9.

الفصل الرابع: العدل الإلهي وفاعلية الإنسان

اشارة

قد تعرفت على مظاهر عدله في التكوين والتشريع ، وحان البحث في بيان باقي المباحث التي لها صلة بالعدل الإلهي ، وهي تتمحور حول فاعلية الإنسان ، ونقاطها الرئيسية هي :

1. العدل الإلهي وحرية الإرادة الإنسانية.

2. العدل الإلهي وعلمه السابق بأفعال العباد.

3. العدل الإلهي والقضاء والقدر القطعيان.

4. العدل الإلهي وخلود العقاب.

وقد تناول الحكماء والمتكلّمون هذه الأبحاث من زوايا مختلفة واحتدم النقاش حولها ، وبما أنّ رائدنا في هذه البحوث هو القرآن الكريم فنحن نتناولها من ذلك الجانب ونترك جوانبها الأُخرى إلى الكتب المعدّة في هذا المجال.

ص: 38

العدل الإلهي وحرية الإرادة الإنسانية

البحث عن حرية الإرادة ، وأنّ الإنسان هل هو فاعل مجبور أو فاعل مختار ؟ من المسائل الفلسفية الّتي تمتد جذورها في تاريخ الفكر الإنساني ، ومنذ ذلك الحين اتجهت أنظار كافة الناس صوبها لأنّها تمسّ جانباً من حياتهم العملية ، وبذلك أصبحت دراسة تلك المسألة لا تقتصر على الحكماء فحسب بل شملت أكثر الناس.

إنّ الرؤية القرآنية تتلخص في أنّ الإنسان حرّ فيما شاء وأراد ، وهي تشطب بقلم عريض على مزعمة المشركين بتعلّق مشيئة اللّه سبحانه بعبادتهم الأوثان ولذلك صاروا مجبورين على الشرك. يقول سبحانه في ردّ تلك المزعمة : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ) . (1)

فهذه الآية تعكس لنا بوضوح جانباً من عقيدة المشركين في عصر الرسالة وانّهم كانوا يؤمنون بالجبر ، وإنّ كلّ ما يصدر منهم فهو خاضع لإرادته سبحانه إرادة سالبة للاختيار.

ويقول سبحانه في موضع آخر مبيّناً تلك العقيدة الفاسدة : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) . (2)

ص: 39


1- الأنعام : 148.
2- الأعراف : 28.

فإنّ الفقرة الأُولى من الآية تعكس عقيدة المشركين وأنّه لولا أمره ومشيئته لما كنّا مشركين ، لكن الفقرة الثانية تردُّ عليها ببيان أنّ الشرك ظلم وقبيح ، واللّه لا يأمر بهما ، وبالتالي لا تتعلق مشيئته بهما.

والعجب أنّ تلك العقيدة السخيفة لم تُجْتثّ بل بقيت عالقة في أذهان عدّة من الصحابة حتى بعد بزوغ نجم الإسلام.

روى السيوطي عن عبد اللّه بن عمر : انّه جاء رجل إلى أبي بكر ، فقال : أرأيت الزنا بقدر ؟

قال : نعم. قال : فإنّ اللّه قدّره عليّ ثمّ يعذِّبني ؟! قال : نعم يابن اللخناء ، أما واللّه لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك.(1)

وليس الخليفة الأوّل وحده ممن كان يحتج بالقدر السالب للاختيار ، بل كان غيره على هذه الفكرة. روى الواقدي عن أُم الحارث الأنصارية ، وهي تحدّث عن فرار المسلمين يوم حنين ، قالت : مرّ بي عمر بن الخطاب منهزماً ، فقلت : ما هذا ؟ فقال عمر : أمر اللّه.(2)

نرى أنّ عمر يلجأ إلى أمر اللّه وقضائه ، وأنّ الهزيمة كانت أمراً قطعياً لأنّه سبحانه شاءها وأرادها ، دون أن ينظر إلى سائر الأسباب التي حدت بهم إلى تلك الهزيمة.

لقد اتخذ الأمويون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيِّئة وكانوا ينسبون وضعهم بما فيه من شتى ضروب العيث والفساد إلى القدر ، قال أبو هلال العسكري : إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللّه يريد أفعال العباد كلّها.(3).

ص: 40


1- تاريخ الخلفاء : 95.
2- مغازي الواقدي : 3 / 904.
3- الأوائل : 2 / 125.

ولأجل ذلك لما سألت أُمّ المؤمنين عائشة ، معاويةَ عن سبب تنصيب ولده يزيد خليفة على رقاب المسلمين فأجابها : إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم. (1)

وبهذا الجواب أيضاً أجاب معاويةُ عبدَ اللّه بن عمر ، عندما استفسر من معاوية عن تنصيبه يزيد ، بقوله : إنّي أُحذِّرك أن تشقّ عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم ، وأن تسفك دماءهم وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من أمره. (2)

وقد تسرّبت فكرة الجبر إلى أكثر الأوساط الإسلامية خصوصاً بين الشعراء وأصحاب الملاحم ، حيث راحوا يفسرون الوضع المزري الذي يعاني منه المسلمون بالقضاء والقدر. وسيوافيك أنّه لا صلة للقضاء والقدر بسلب الاختيار عن الإنسان.

حرية الإرادة من منظارٍ قرآني

إنّ الآيات القرآنية تصرّح باختيارية الإنسان وانّه فاعل مختار مسؤول عن عمله.

1. يقول سبحانه : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) . (3)

فالشاكر يسلك السبيل الذي أراده اللّه سبحانه له ، فيصل إلى الهدف المنشود ، بخلاف الكفور ، فيسلك غير هذا السبيل.

ص: 41


1- الإمامة والسياسة : 1 / 167.
2- الإمامة والسياسة : 1 / 171.
3- الإنسان : 3.

2. ( قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) .(1)

ترى أنّ الآية تنسب الضلالة إلى نفس الإنسان ، والهداية إلى وحيه سبحانه إليه ، مع أنّ الهداية والضلالة كلّها من اللّه سبحانه ، وما هذا إلاّ لأنّه سبحانه قد هيّأ كافّة وسائل الهداية للإنسان منذ أنْ خُلِقَ إلى أن يُدرج في أكفانه ، وهي عبارة عن تزويده بفطرة التوحيد وتعزيزها ببعث الأنبياء والمرسلين ، والعقل السليم ، إلى غير ذلك من أدوات الهداية ، فمن انتفع بها فقد اهتدى ، فصحّ أن يقال : إنّ الهداية من اللّه لأنّه زوّد الإنسان بوسائلها ، ومن لم ينتفع بها فقد ضلّ فصحّ أن يقال ( إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي ) .

وبهذا المضمون قوله سبحانه : ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ) .(2)

3. ( وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) .(3)

ولا تجد في القرآن الكريم آية أكثر نصاعة في حرية الإنسان من هذه الآية ، وقد صبّ شهيدنا الثاني ( 909 - 966 ه ) مضمون هذه الآية ضمن بيتين ، حيث قال :

لقد جاء في القرآن آية حكمة *** تدمّر آياتِ الضلال ومن يُجبر

وتخُبر انّ الاختيار بأيدينا *** فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

ص: 42


1- سبأ : 50.
2- الإسراء : 15.
3- الكهف : 29.

4. ( قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) .(1)

5. ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .(2)

6. ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) .(3)

7. ( إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) .(4)

إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على أنّ الإنسان فاعل مسؤول عن أعماله ، حرّ في إرادته ، مختار فيما يكتسب.

وعلى ضوء هذا فمن حاول أن ينسب الجبر إلى القرآن فقد خبط خبطَ عشواء.

إنّ بعث الأنبياء ودعوة الناس إلى طريق الرشاد ، ونهيهم عن ارتكاب القبائح أوضح دليل على أنَّ الإنسان موجود قابل للإصلاح والتربية ، إذ لو كان مجبوراً على فعل المعاصي ، لكان بعث الأنبياء ودعوتهم أمراً سدى.

نعم الدعوة إلى حرية الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً لا تعني أبداً انقطاع صلة الإنسان باللّه سبحانه وإرادته. لأنّ تلك الفكرة كفكرة الجبر باطلة تورد الإنسان في مهاوي الشرك والثنويّة التي ليست بأقلَّ ضرر من القول بالجبر.

فالتفويض بمعنى استقلال الإنسان في فعله وإرادته وكل ما يكتسب وخروجه عن سلطة اللّه سبحانه ، تفويض باطل كالقول بأنّه فاعل مجبور.

لا جبر ولا تفويض :

وقد أكّد أئمّة أهل البيت عليهم السلام على وهن تلك الفكرتين.

ص: 43


1- الأنعام : 104.
2- الأنفال : 42.
3- الطور : 21.
4- النور : 16.

قال الإمام الصادق عليه السلام : « إنّ اللّه أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، واللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد ».(1)

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام فسّر حرية الإنسان بهذا النحو : « وجود السبيل إلى إتيان ما أُمروا وترك ما نهوا عنه ».(2)

نعم التركيز على بطلان الجبر أكثر في الروايات من التصريح ببطلان التفويض.

قال الإمام الصادق عليه السلام : « اللّه أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه ».(3)

وسأل الحسن بن علي الوشاء الإمام الرضا عليه السلام : هل اللّه أجبر العباد على المعاصي ؟ فقال عليه السلام : « اللّه أعدل وأحكم من ذلك ».(4)

نعم موضوع الاختيار عبارة عن الأفعال التي يقوم بها الإنسان ، وأمّا الأُمور الخارجة عن حيطة الثواب والعقاب التي ربّما يبتلى بها الإنسان من حيث لم يشأ كالبلايا والمصائب والزلازل والسيول المخرّبة والأعاصير ، إلى غير ذلك فهي خارجة عن اختيار الإنسان ، فليس هو بالنسبة إليها لا فاعلاً جبرياً ولا فاعلاً بالاختيار.

هذه هي نظرة القرآن الكريم في أفعال الإنسان ، غير انّ هناك شبهات تذرَّعت بها بعض الفرق الإسلامية وحاولوا بذلك سلب الاختيار عنه ظناً منهم أنّهم بذلك يحسنون صنعاً.

ص: 44


1- البحار : 5 / 41.
2- البحار : 5 / 12.
3- التوحيد للصدوق : 360 ، الحديث 6 ، باب نفي الجبر والتفويض.
4- نفس المصدر : 363 ، الحديث 10.

الفصل الخامس: شبهات وحلول

اشارة

دلّت البراهين العقلية كالنصوص القرآنية على أنّه سبحانه قائم بالقسط في جميع شؤونه ، بيد انّ ثمة شبهات أُثيرت حول الموضوع تنشد لنفسها حلولاً.

الشبهة الأُولى : خلق الأعمال

إنّ التوحيد الأفعالي يرشدنا إلى أنّ ما في الكون مخلوق لله سبحانه ، دون فرق بين الجواهر والأعراض ، وبين الإنسان وأعماله ، وهذا صريح الآيات التالية :

1. ( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) . (1)

2. ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ... ) . (2)

3. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّهِ ) . (3)

فإذا لم يكن في صحيفة الوجود إلاّ خالق واحد لا شريك له في الخلق ، فكلّ

ص: 45


1- الرعد : 16.
2- المؤمن : 62.
3- فاطر : 3.

ما يصدر من الإنسان فهو مخلوق له وهو خالقه ، وهذا ما يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية.

ويستنتج منه أمران :

أ : إذا كان فعل الإنسان مخلوقاً لله سبحانه لا للإنسان فيكون مجبوراً في فعله لا مختاراً.

ب : إذا كان فعل العبد حسنُه وسيِّئه فعلاً لله سبحانه ومخلوقاً له ، فتكون المؤاخذة على أفعال العبد خلاف العدل والقسط ، لأنّ الخالق هو اللّه سبحانه والمَُجزيّ هو العبد ، مع أنّه لا دور له في فعله.

أقول : إنّما رتَّبوه على التوحيد في الخالقية يخالف الفطرة أوّلاً ، فانّها تشهد على حرية الإنسان في أفعاله ، ويخالف أهداف الأنبياء ثانياً. فإذا كان الإنسان مجبوراً فيما يفعل ويترك ، كان بعث الأنبياء ودعوتهم إلى الطريق المستقيم أمراً لغواً ، غير مؤثر في هداية الإنسان ، بل تعدُّ عامة القوانين الجزائية في الإسلام أمراً لغواً وظلماً في حقّ المرتكب ، لأنّه لم يقترف المعاصي والسيئات عن اختيار ، بل عن جبر وسوق من اللّه سبحانه إيّاه إلى العمل ، وهو تعالى هو الفاعل الخالق لأعمالهم ، لا العبدُ فيكون تعذيبه مصداقاً لقول الشاعر :

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم *** فكأنّني سبّابة المتندِّم

لكنّ الأشاعرة مخطئون في تفسير التوحيد في الخالقية أو التوحيد الأفعالي الذي هو من المعارف الإسلامية التي صدع بها القرآن الكريم.

انّ التوحيد في الخالقية يُفسر بأحد تفسيرين :

أ : أنَّ كل ما في الكون من الظواهر الطبيعية والفلكية وغيرهما مخلوق لله

ص: 46

سبحانه مباشرة ، وبلا تسبيب سبب وتهيئة مقدمة وليس في صحيفة الكون إلاّ علة واحدة تقوم بجميع الأفعال ، وتنوب مناب العلل الطبيعية في كافة الموارد.

ب : إنَّ صحيفة الكون قائمة بوجوده سبحانه ومنتهية إليه ، غير انّه سبحانه خلق الأشياء من خلال نظام الأسباب والمسببات ، والعلل والمعلولات ، على وجه يكون للسبب والعلة دور في تحقّق المسبب والمعلول وإن كان ذلك بإذنه سبحانه.

وعلى ضوء ذلك فللعالم خالق واحد أصيل ، وعلّة واحدة قائمة بنفسها ، لكن تتوسط بينها وبين الظواهر الطبيعية والفلكية علل وأسباب مؤثرة في معاليلها ، قائمة بذاته سبحانه ، مؤثرة بأمره ، والجميع من سنن اللّه تبارك وتعالى.

أمّا التفسير الأوّل : فهو خيرة الأشاعرة الذين ينكرون العلل والأسباب الطبيعيَّة ولا يعترفون إلا بعلة واحدة ، وهي قائمة مقام عامة العلل المتصورة للطوائف الأُخرى ، ولكن هذا التفسير - وإن كان لأجل الغلو في التوحيد - يخالف نصوص القرآن الكريم ، فانّ الوحي الإلهي يذعن بعلل طبيعية مؤثرة في معاليلها ، وإليك بعضَ ما يدل على ذلك الأصل :

1. ( وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) . (1)

فالآية صريحة في تأثير الماء في اهتزاز الأرض وربوّها ، ثمّ إنباتها كلّ زوج بهيج ، فالأرض الهامدة كالجماد ، والذي يخرجها من هذه الحالة هو الماء ، يقول سبحانه : ( فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ ) فالاهتزاز والرباء والإنبات أثر الماء ولكن بإذنه سبحانه.

ص: 47


1- الحج : 5.

وجاء نفس المضمون في الآية التالية : ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) . (1)

والبيان نفس البيان فلا نطيل.

2. ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) . (2)

ترى أنّه سبحانه ينسب الإنبات إلى الحبة ، ويقول ( كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ) وهو ظاهر في تأثير الحبة في ظهور السنابل ، وفي كلّ سنبلة مائة حبة ، وإن كان ذلك التأثير بأمره سبحانه ، حيث إنَّ الكلّ سُنَّة من سننه.

3. ( اللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) . (3)

والآية صريحة في أنّ هناك عللاً طبيعيَّة مؤثرة في معاليلها التي منها إثارة الرياح السحاب ، فهي فعل الرياح ، كما هو صريح قوله ( فَتُثِيرُ سَحَابًا ) .

ثمّ إنّه سبحانه يستخدم السحاب المنثورة فيبسطها في السماء ، ويجعلها كسفاً ، أي قطعاً متفرقة ، فعند ذلك يخرج الودق من خلاله.

وعلى كلّ حال فالآية صريحة في وجود الصلة بين إرسال الرياح ، وإثارة السحاب ، وانبساطها في السماء ، وصيرورتها كسفاً التي تسفر عن خروج الودق من خلال السحاب ، كلّ ذلك مظاهر طبيعية وظواهر كونية يؤثر كل في الآخر

ص: 48


1- لقمان : 10.
2- البقره : 261.
3- الروم : 48.

بإذن اللّه سبحانه ، والجميع من سننه الكونية والاعتراف بها اعتراف بقدرته وعلمه وحكمته وانّ الجميع من جنوده سبحانه الخاضعة لإرادته.

ومع هذه التصريحات كيف يمكن تفسير التوحيد في الخالقية بالمعنى الأوّل ، ورفض كلّ تفسير ضمني وتبعي لغيره سبحانه ؟!

والذي يدل على ذلك انّه سبحانه ينسب عمل الإنسان إليه ، ويقول :

( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ ) .(1)

( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) .(2)

( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ) .(3)

ففي هذه الآيات ينسب عمل الإنسان إليه ويرى أنّ له دوراً في مصيره ، ويرى أنّه ليس لكلّ إنسان إلاّ سعيه وجهده.

وثمة آيات تنسب الخلق إلى غيره سبحانه ، لكن لا على وجه ينافي التوحيد في الخالقية ، حيث يقول :

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي ) .(4)

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ ) .(5)

وأي تصريح أوضح من خطابه الموجّه إلى المسيح ، بقوله : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ

ص: 49


1- التوبة : 105.
2- محمّد : 33.
3- النجم : 39 - 40.
4- المائدة : 110.
5- آل عمران : 49.

الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) .

فمقتضى الجمع بين الآيات التي تحصر الخالقية في اللّه سبحانه ولا ترى خالقاً غيره ، والآيات التي تعترف بتأثير العلل بعضها في بعض ، وتنسب الخلقة إلى غيره سبحانه إيضاً ، هو القول بأنّ المقصود من حصر الخالقية في اللّه هو الخالقية النابعة من ذات الخالق غير المعتمد على شيء.

وأمّا الخالقية التبعية والظلية والتأثير الحرفي فهي قائمة بالعلل والأسباب التي أوجدها سبحانه وصيَّرها على نظام العلل والمعاليل والمسببات ، ولا منافاة بين ذلك الحصر ونفيه عن الغير ، وإثباته للآخرين ، لأنّ المحصور فيه سبحانه هو الخالقية التي يستقل الفاعل في خلقه عن غيره ، والمثبت لغيره هو القيام بالتأثير والخالقية التي أذن به سبحانه حيث إنَّ قيام الجميع من العلل والمعاليل به سبحانه.

وبذلك يظهر أمران :

الأوّل : انّ الاعتراف بالتوحيد في الخالقية الذي هو أصل من الأُصول لا يخالف الاعتراف بنظام العلل والمعاليل في الطبيعيات والفلكيات بل في عالم المجردات ، فانّه سبحانه خلق لكلّ شيء سبباً وجعل لها قدراً وقضاءً.

الثاني : انّ الاعتراف بالتوحيد في الخالقية لا يلازم الجبر وسلب المسؤولية عن الإنسان على وجه يكون كالريشة في مهبِّ الرياح ، بل له وجود بإيجاد اللّه سبحانه وقدره وإرادته وبأمر منه سبحانه.

الشبهة الثانية : علمه سبحانه وإرادته السابقة
اشارة

قد وقع تعلَّق علمه سبحانه بكلّ ما وقع ويقع ، ذريعة للقول بالجبر ،

ص: 50

وبالتالي لنفي عدله سبحانه ، وإليك بيان الشبهة :

إنّ ما علم اللّه سبحانه تحقّقه من أفعال العباد ، فهو واجب الصدور ، وما عَلِمَ عدمَه فهو ممتنع الصدور منه ، وإلا انقلب علمه جهلاً ، وليس فعل العبد خارجاً عن كلا القسمين ، فهو إمّا ضروري الوجود ، أو ضروري العدم ، ومعه لا مفهوم للاختيار ، إذ هو عبارة عمّا يجوز فعله أو تركه ، مع أنّ الأوّل لا يجوز تركه ، والثاني لا يجوز فعله.

وقد وقع هذا الدليل عند الرازي موقع القبول ، وقال : ولو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفاً إلاّ بالتزام مذهب هشام : وهو أنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها. (1)

إنّ هذه الشبهة لا تختص بعلمه سبحانه ، بل تسري أيضاً في مجال إرادته ، فانّ ما في الكون غير خارج عن إرادته ، وعند ذلك تتوجه الشبهة التي قررها الشريف الجرجاني ( المتوفّى عام 816 ه ) بالنحو التالي :

قالوا : ما أراد اللّه وجوده من أفعال العباد وقع قطعاً ، وما أراد عدمه منها ، لم يقع قطعاً ، فلا قدرة للإنسان على شيء منهما. (2)

وأظن انّ الرازي قد بالغ في شأن هذه الشبهة ، وانّه لو تأمّل فيما حقَّقه الأعلام حول كيفية تعلّق علمه وإرادته سبحانه بمعلومه ومراده لتجلَّت الحقيقة ناصعة.

وحاصل ما حقَّقه الفطاحل من أعلام الفلسفة والكلام ، هو ما يلي :

إنّ علمه الأزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل

ص: 51


1- شرح المواقف : 8 / 155.
2- شرح المواقف : 8 / 156.

تعلّق علمه بصدور كلّ فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه. وعلى ضوء ذلك تعلق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر ، بلا شعور ، كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية. وبالتالي : تعلَّق علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً ، وصدور فعله عنه اختياراً - فمثل هذا العلم - يؤكد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية ، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه سبحانه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه ، وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

يقول العلاّمة الطباطبائي ( 1321 - 1402 ه ) : إنّ العلم الأزلي متعلق بكلّ شيء على ما هو عليه ، فهو متعلق بالأفعال الاختيارية بما هي اختيارية ، فيستحيل أن تنقلب غير اختيارية.

وبعبارة أُخرى : المقضيّ هو أن يصدر الفعل عن الفاعل الفلاني اختياراً ، فلو انقلب الفعل من جهة تعلق القضاء به ، غير اختياري ناقض القضاء نفسه.(1)

هذا هو حال تعلّق علمه سبحانه بالأشياء والأفعال ، وقد عرفت أنّه لا يستلزم الجبر وبالتالي لا يستلزم خلاف عدله.

ص: 52


1- تعليقة الأسفار : 6 / 318.

وبذلك تعلم كيفية تعلّق إرادته سبحانه بالأشياء والأفعال ، وانّ القول بسعة إرادته لا تستلزم الجبر شريطة أن نتأمل في متعلّق إرادته ، فنقول :

إنّ إرادته لم تتعلّق بصدور فعل الإنسان منه سبحانه مباشرة وبلا واسطة ، بل تعلّقت بصدور كلّ فعل من علّته بالخصوصيات التي اكتنفتها. مثلاً تعلّقت إرادته سبحانه على أن تكون النار مبدأ للحرارة بلا شعور وإرادة ، كما تعلّقت إرادته على صدور الرعشة من المرتعش مع العلم ولكن لا بإرادة واختيار ، وهكذا تعلّقت إرادته في مجال الأفعال الاختيارية للإنسان على صدورها منه مع الخصوصيات الموجودة فيه ، المكتنفة به من العلم والاختيار وسائر الأُمور النفسانية.

وصفحة الوجود الإمكاني زاخرة بالأسباب والمسببات المنتهية إليه سبحانه ، فمثل هذه الإرادة المتعلّقة على صدور فعل الإنسان بقدرته المحدثة واختياره الفطري ، تؤكد الاختيار ولا تسلبه منه.

ومع ذلك كله ليس فعل الإنسان فعلاً خارجاً عن نطاق قدرته سبحانه غير مربوط به ، كيف وهو بحوله وقوته يقوم ويقعد ويتحرك ويسكن ، ففعل الإنسان مع كونه فعله بالحقيقة دون المجاز ، فعل اللّه أيضاً بالحقيقة فكلّ حول يفعل به الإنسان فهو حوله ، وكلّ قوة يعمل بها فهي قوته.

إلى هنا تبيّن انّ تعلّق إرادته سبحانه بالأفعال والأشياء لا تستلزم الجبر وكون الإنسان مجبوراً في أعماله.

هذا كلّه حول ما أفاده المحقّقون فلنرجع إلى القرآن بغية استكشاف رؤيته حول هذا الموضوع.

ص: 53

فنقول : أمّا سعة إرادته سبحانه للأشياء والأفعال وعدم خروج فعل الإنسان عن حيطة علمه وإرادته فهذا ممّا يثبته القرآن الكريم بوضوح ، فمن حاول أن يُخرج فعل الإنسان من حيطة إرادته فقد خالف البرهان أوّلاً ، وخالف نص القرآن ثانياً. إذ كيف يمكن أن يقع في سلطانه مالا يريد ؟ ولذلك يقول سبحانه : إنّ الإنسان لا يشأ شيئاً إلاّ ما شاء اللّه ، وانّ إيمان كلّ نفس بإذنه ومشيئته ، وإنّ كلّ فعل خطير وحقير لا يتحقق إلاّ بإذنه.

يقول سبحانه :

( وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) . (1)

( مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) . (2)

( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) . (3)

وهذه الآيات الناصعة صريحة في عدم خروج فعل الإنسان عن مجاري إرادته سبحانه ، وقد أكّدت ما نزل به الوحي ، الرواياتُ المروية عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

وبما انّ خروج فعل الإنسان عن حيطة إرادته ومشيئته يستلزم تحديد إرادته ، يقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في رد تلك المزعمة :

« من زعم انّ الخير والشر بغير مشيئة اللّه فقد أخرج اللّه من سلطانه ». (4)

ص: 54


1- التكوير : 29.
2- يونس : 100.
3- الحشر : 5.
4- بحار الأنوار : 5 / 51 ، أبواب العدل ، الباب 1 ، الحديث 85.

وبما انّ خروج أفعال الإنسان عن حيطة إرادته يستلزم تحديداً في سلطانه ، يقول الإمام الصادق عليه السلام : وَاللّهُ أَعَزُّ مِنْ أَنْ يَكُون في سُلْطانِهِ ما لا يُريد. (1)

وقد ورد في الحديث القدسي قوله : « يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد ». (2)

يقول الإمام الباقر عليه السلام : « لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبع : بمشيّة ، وإرادة ، وقدر ، وقضاء ، وإذن ، وكتاب ، وأجل ، فمن زعم أنّه يقدر على نقض واحدة منهنّ فقد كفر ». (3)

لا يليق لموحد أن يشك في سعة إرادته وتعلّقه بكلّ ما كان وما هو كائن وما يكون إلاّ أنّ اللازم هو إمعان النظر في متعلّقها ، فهل تعلّق بأصل صدور الفعل عن الإنسان ، أو تعلّق بصدوره عنه بقيد الاختيار ، والأوّل لا يفارق الجبر ، والثاني نفس الاختيار والعدل ، وقد علمت أنّ إرادته كما تتعلّق بأصل صدوره ، فهكذا تتعلق بكيفية صدوره من الاختيار ، وعند ذلك لا تكون سعة إرادته ذريعة لتوهم الجبر وخلاف العدل.

إيضاح آيات ثلاث

قد مضى الكلام في سعة إرادته وتعلّقها بكلّ شيء ، لكن هناك آيات ربما

ص: 55


1- بحار الأنوار : 5 / 41 ، أبواب العدل ، الباب 1 ، الحديث 64.
2- توحيد الصدوق : الباب 55 ، الحديث 6 ، 10 ، 13.
3- بحار الأنوار : 5 / 121 ، باب القضاء والقدر ، الحديث 65.

توحي إلى خروج أفعال العباد عن دائرة إرادته وهي :

1. ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ) .(1)

فالظلم الصادر من العباد فعل من أفعالهم ، خارج عن حيطة إرادته.

2. ( وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ... ) .(2)

فالكفر من أفعال العباد ، فهو ليس مرضياً لله سبحانه.

3. ( وَاللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) .(3)

لكن إيضاح مفاد الآية الأُولى يتوقف على التدبّر في الفقرات التي تسبقها ، وهي :

( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ) .(4)

إنّ الإمعان في الآية يكشف على أنّ المراد من الظلم هو الهلاك والإبادة ، ومعنى الآية انّه سبحانه لا يريد إهلاك عباده وإبادتهم ، فإن هلكوا وابيدوا فانّما هو لأجل ما اقترفوه من الذنوب ، وعلى هذا فالظلم المنفي هو الإبادة والإهلاك بلا سبب الاستحقاق. وأين هذا من خروج أفعال العباد على وجه الإطلاق من حيطة إرادته ؟!

وأمّا الآية الثانية والثالثة فلا صلة لها بالإرادة التكوينية وإنّما تهدف إلى عدم أمره تشريعاً بالكفر والفساد ، فوزان هاتين الآيتين وزان قوله سبحانه : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ )(5)، وقوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ

ص: 56


1- غافر : 31.
2- الزمر : 7.
3- البقره : 205.
4- غافر : 30 - 31.
5- الأعراف : 28.

يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .(1)

وعلى ذلك فما يصدر من العباد من الكفر والفساد فانَّما يصدر بحوله سبحانه وقوَّته وإرادته ومشيئته ، لا بمعنى تعلّق مشيئته بكفر العباد وفسادهم في الأرض ، مباشرة بل بكفرهم وفسادهم إذا قاموا بها عن اختيار ، ومع ذلك فهو في تشريعه ينهى عباده عن الكفر والفساد.

روى فضيل بن يسار ، قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول :

« شاء وأراد ولم يحبّ ولم يرض ، شاء أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه وأراد مثل ذلك ، ولم يحب أن يقال له : ثالث ثلاثة ولم يرض لعباده الكفر ».(2)

ويظهر ذلك ممّا نقله أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام ، قال :

قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : شاء لهم الكفر وأراده ؟ فقال : « نعم ».

قلت : فأحبّ ذلك ورضيه ؟ فقال : « لا ».

قلت : شاء وأراد ، مالم يحبّ ومالم يرض ، قال : « هكذا خرج إلينا ».(3)

الشبهة الثالثة : العدل الإلهي والقضاء والقدر
اشارة

إنّ البحث في القضاء والقدر رهن توضيح أمرين :

الأوّل : ما معنى القدر ؟

ص: 57


1- النحل : 90.
2- توحيد الصدوق : 339 ، باب المشية والإرادة ، الحديث 9.
3- بحار الأنوار : 5 / 121 ، باب القضاء والقدر ، الحديث 66.

الثاني : ما معنى القضاء ؟

أمّا القدر بمعنى التقدير والتحديد ، فكل ظاهرة طبيعية بل كلُّ موجود إمكاني خلق على تقدير وتحديد خاص ، ولا يوجد في عالم الكون شيء غير مقدّر ولا محدّد ، وإليه يشير سبحانه بقوله : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (1). وقوله سبحانه : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) .(2)

فالموجودات من النبات إلى الإنسان محدّدة بالحدّ الذي نعبر عنه بالماهية ، وهكذا الحال في الجمادات.

وأمّا القضاء وهو حتمية وجود الشيء بعد تقديره وتحديده ، وذلك رهن وجود سببه التام الذي يلازم وجود المسبب على وجه القطع والبت ، فقضاؤه سبحانه عبارة عن إضفاء الحتمية على وجود الشيء عند وجود علته التامة ، قال سبحانه في مورد السماوات : ( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) .(3)

ويقول في حقّ الإنسان : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً )(4)أي حكم حكماً حتمياً بأنّ لوجود الشيء مدّة محدّدة لا يتجاوز عنها.

هذا هو معنى القضاء والقدر من غير فرق بين وجود الإنسان وأفعاله ووجود الجواهر وأعراضها ، غير انّ الجميع قبل التقدير والقضاء مكتوب في كتاب عند اللّه سبحانه ، وقد أشار إليه الكتاب العزيز في بعض الآيات : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ

ص: 58


1- القمر : 49.
2- الحجر : 21.
3- فصّلت : 12.
4- الأنعام : 2.

يَسِيرٌ ) .(1)

وفي آية أُخرى : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) .(2)

وفي آية ثالثة : ( وَاللّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ) .(3)

إذا وقفت على هذه الأُمور ، فاعلم أنّه ربما يتخذ القضاء والقدر الذي نعبر عنهما بالمصير ذريعة للقول بالجبر ، وبالتالي أمراً مخالفاً للعدل بحجّة انّ اللّهَ سبحانه قدّر وجود كلّ شيء ( القدر ) أوّلاً ، وحكم على وجوده وتحقّقه حكماً باتاً ( القضاء ) ثانياً ، وكتب كلّ ما يوجد في الكون في كتاب قبل وجودها ثالثاً.

وعلى ذلك فلا محيص من الفعل والعمل ، وإلاّ يلزم خلاف تقديره وقضائه أو خلاف المكتوب في الكتاب المبين.

أقول : إنّ هذه الشبهة لم تزل عالقة بالأذهان منذ قرون ، ولكن تندفع هذه الشبهة من خلال بيان ما للقضاء والقدر من المعاني ، فنقول :

إنّ التقدير والقضاء على أصناف ثلاثة :

أ : القضاء والقدر : السنن الكونية.

ب : القضاء والقدر : التكوينيّان.

ص: 59


1- الحديد : 22.
2- الأنعام : 59.
3- فاطر : 11.

ج : القضاء والقدر : علمه السابق ومشيئته النافذة.

وإليك البحث في كلّ واحد منها :

أ. القضاء والقدر : السنن الكونيّة

القضاء والقدر في السنن الكونيَّة عبارة عن النظام السائد في العالم و الإنسان ، فاللّه سبحانه قدّر وحتم احراق النار وتبريد الماء إلى غير ذلك من السنن التي كشفها الإنسان طيلة وجوده على هذه البسيطة ، فكلها من مظاهر القضاء والقدر ، فكلّ من اعتنى بصحته فالمقدَّر في حقّه هو السلامة ، ومن كان على خلافه فالمقضي في حقّه هو المرض ، وكذا الفارُّ من تحت جدار على وشك الانقضاض ، كتبت له النجاة ، والواقف تحته كتب عليه الموت إلى غير ذلك ، فهذه السنن الكونية التي جعلها اللّه دعائم يقوم عليها هذا النظام ، وقد وقف على بعضها الإنسان عبر حياته ، وهناك سنن كونية ربما لا يقف عليها الإنسان إلاّ عن طريق الوحي ، قال سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح عليه السلام :

1. ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) . (1)

فترى أنّ نوحاً عليه السلام يجعل الاستغفار سبباً مؤثراً في نزول المطر وكثرة الأموال وجريان الأنهار ، ووفرة الأولاد. وإنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة. وموقف الاستغفار هنا موقف العلّة التامة أو المقتضي بالنسبة إليها ، والآية تهدف إلى أنّ الرجوع إلى اللّه وإقامة دينه وأحكامه يسوق المجتمع إلى النظم والعدل والقسط ، وذلك لأنَّ في ظلّه تنصبّ القُوى في بناء المجتمع

ص: 60


1- نوح : 10 - 12.

على أساس صحيح ، فتصرف القوى في العمران والزراعة وسائر مجالات المصالح الاقتصادية العامة ، كما أنّ العمل على خلاف هذه السنّة ، وهو رجوع المجتمع عن اللّه وعن الطهارة في القلب والعمل ، ينتج خلاف ذلك.

وللمجتمع الخيار في التمسّك بأهداب أيّ من السُّنَّتين ، فالكلّ قضاء اللّه وتقديره.

2. قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .(1)

3. قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) .(2)

4. قال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) .(3)

والتقرير في مورد هذه الآيات الثلاث مثله في الآية السابقة عليها.

5. وقال سبحانه : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) .(4)

ترى أنّ الآية تتكفّل ببيان كلا طرفي السنّة الإلهية إيجاباً وسلباً ، وتُبيّن النتيجة المترتبة على كلّ واحد منهما. والكلّ قضاؤه وتقديره ، والخيار في سلوكهما للمجتمع.

6. وقال سبحانه : ( وَمَن يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) .(5).

ص: 61


1- الأعراف : 96.
2- الرعد : 11.
3- الأنفال : 53.
4- إبراهيم : 7.
5- الطلاق : 2. 3.

7. وقال سبحانه : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ) .(1)

فالمجتمع المؤمن باللّه وكتابه وسنّة رسوله إيماناً راسخاً يثبِّته اللّه سبحانه في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، كما أنّ الكافر باللّه سبحانه يُخذله اللّه سبحانه ولا يوفقه إلى شيء من مراتب معرفته وهدايته. ولأجل ذلك يُرتِّب على تلك الآية ، قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ) .(2)

8. وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) .(3)

فالصالحون لأجل تحلِّيهم بالصلاح في العقيدة والعمل ، يغلبون الظالمين وتكون السيادة لهم ، والذلّة والخذلان لمخالفيهم.

9. وقال سبحانه : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) .(4)

فالاستخلاف في الأرض نتيجة الإيمان باللّه ، والعمل الصالح ، وإقامة دينه على وجه التمام ، ويترتب عليه - وراء الاستخلاف - ما ذكر في الآية من التمكين وتبديل الخوف بالأمن.

ص: 62


1- إبراهيم : 27.
2- إبراهيم : 28 - 29.
3- الأنبياء : 105.
4- النور : 55.

10. وقال سبحانه : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ) .(1)

والآيات الواردة حول الأمر بالسير في الأرض والاعتبار بما جرى على الأُمم السالفة لأجل عتوّهم وتكذيبهم رسل اللّه سبحانه ، كثيرة في القرآن الكريم تبيَّن سنّته السائدة في الأُمم جمعاء.

11. وقال سبحانه : ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) .(2)

12. وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .(3)

13. وقال سبحانه : ( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِم وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) .(4)

والآية من أثبت الآيات لسنَّته تعالى في الذين كفروا ، فلا يصلح للمؤمن أن يُغرّه تقلّبهم في البلاد ، وعليه أن ينظر في عاقبة أمرهم كقوم نوح والأحزاب من بعدهم ، حتى يقف على أنّ للباطل جولة وللحقّ دولة ، وانّ مردّ الكافرين إلى الهلاك والدمار.

14. وقال سبحانه : ( وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ

ص: 63


1- محمد : 10.
2- آل عمران : 137.
3- الأنفال : 29.
4- غافر : 4 - 5.

أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً ) .(1)

هذه نبذة من السنن الإلهيّة السائدة في الفرد والمجتمع. وفي وسع الباحث أن يتدبر في آيات الكتاب العزيز حتى يقف على المزيد من سننه تعالى وقوانينه ، ثمّ يرجع إلى تاريخ الأُمم وأحوالها فيُصدِّق قوله سبحانه : ( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً ) .

هذا كلّه حول القضاء والقدر بمعنى السنن الكونية ، وإليك البحث في المعنى الثاني.

ب : القضاء والقدر التكوينيّان

قد علمت أنّ وجود كلّ شيء رهن تقديره وتحديده أوّلاً ، ثمّ وصول الشيء حسب اجتماع أجزاء علته إلى حد ، يكون وجوده ضرورياً وعدمه ممتنعاً بحيث إذا نسب إلى علته يوصف بأنّه ضروري الوجود ، ولأجل ذلك ترى أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام يفسرون القدر بالهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء ، والقضاء بالإبرام وإقامة العين.(2)

وعلى ذلك فلا يوجد في صفحة الوجود الإمكاني إلاّ في ظل هذين الأمرين ، ومن المعلوم انّ التقدير والقضاء بالمعنى السابق لا يتخذ ذريعة إلاّ في مورد فعل الإنسان حيث يتصور انّ وجوب وجوده ينافي الاختيار وبالتالي ينافي

ص: 64


1- فاطر : 42 - 43.
2- الكافي : 1 / 158.

العدل.

لكن الإجابة عنه واضحة وهي انّ المقضيّ وجوده من أفعاله على قسمين :

قسم فرض عليه صدوره عنه اضطراراً كالأعمال التي يقوم بها جهاز الهضم ، وهذا النوع من الفعل وإن كان ضروري الوجود خارجاً عن الاختيار ، لكنّه ليس ملاكاً للثواب والعقاب.

وقسم منه قضي عليه أن يصدر عنه بالاختيار ، فاللّه سبحانه قدّر فعله وقضى عليه بالوجود لكن مسبوقاً باختياره.

وبذلك يصبح القضاء والقدر مؤكداً للاختيار لا ذريعة للجبر.

ج : القضاء والقدر علمه السابق ومشيئته النافذة

القضاء والقدر بهذا المعنى ليس شيئاً إلاّ تعلق علمه سبحانه بأفعال الإنسان ووقوعها في إطار مشيئته فربما يتخذ علمه السابق ومشيئته النافذة ذريعة للجبر ، وبالتالي نفياً للعدل ، وبما انّا أشبعنا الكلام في ذلك عند البحث في علمه السابق ومشيئته النافذة فلا نرجع إليه.

ص: 65

الفصل السادس: العدل الإلهي و المصائب والبلايا

اشارة

المصائب والبلايا في حياة الإنسان من المسائل الشائكة التي شغلت بال المتكلمين والحكماء ، فراحوا يبحثون عنها في الأبواب الأربعة التالية :

1. التوحيد في الخالقية.

2. النظام الأحسن.

3. حكمته سبحانه.

4. عدله سبحانه.

زعموا أنَّ وجود البلايا والمصائب تخلُّ بالتوحيد في الخالقيَّة لأنَّه خير محض فكيف صار مصدراً للشر المطلق ؟! ، ربما زلّت أقدام بعضهم إلى الثنوية ، وزعموا انّ خالق الخير غير خالق الشر وانّ هناك خالقين مختلفين.

كما زعموا انّ المصائب والبلايا تخل بالنظام الأحسن الذي يجب أن يخلو عن كلّ شر.

كما انّها أيضاً لا تلائم حكمته سبحانه فإذا كان حكيماً فما معنى قتل

ص: 66

النفوس بالنوازل والحوادث.

وأخيراً انّها تضاد عدله سبحانه.

وعلى كلّ تقدير فبما انّ هذه المسألة من المسائل العويصة لها صلة بالأبواب الأربعة المذكورة سالفاً ، ووقعت محطَّ اهتمام الحكماء الإسلاميين ، وبما انّ البحوث المذكورة في هذا القسم من الكتاب تتمحور حول عدله سبحانه فنحن نتناول هذه المسألة من تلك الزاوية فقط. ولأجل إيضاح الإشكال نأتي بما يلي :

إنّ البحث في المقام يدور حول محاور ثلاثة :

الأوّل : البلايا والمصائب كالزلازل والسيول والأعاصير.

الثاني : اختلاف الناس في المواهب العقلية والاستعدادات.

الثالث : الفواصل الطبقية الهائلة بين الناس.

هذه الأُمور وأمثالها وقعت ذريعة لنفي عدله سبحانه ، فلنتناول كلّ واحد من هذه المحاور بالبحث.

الأوّل : البلايا والمصائب والعدل الإلهي

إنّ من يظن انّ البلايا والمصائب تخالف عدله فإنّما ينظر إليها من منظار ضيّق محدود ، فلو نظر إليها في إطار النظام الكوني العام ، لأذعن انّها خير برمّتها ، أو انّها خير يلازم شراً قليلاً ، وتكون المسألة كما يصفه الشاعر في البيت التالي :

ما ليس موزوناً لبعض من نغم *** ففي نظام الكلِّ كل منتظم

إنّ من ينظر إلى هذه الظواهر من منظار خاص ويتجاهل غير نفسه في العالم ، ففي نظره تتجلى هذه الحوادث أمامه شرّاًً وبليّة ، وأمّا إذا نظر إليها من منظار خارج عن إطار الإنانية والمصالح الشخصية الضيِّقة ، تنقلب هذه الحوادث

ص: 67

عنده إلى الخير والصلاح ، وتكتسي ثوبَ العدل ، ولبيان ذلك نضرب مثالاً :

إنّ الإنسان يرى أنّ الطوفان الجارف يكتسح مزرعته والسيل العارم يهدم منزله ، والزلزلة الشديدة تقتلع بنيانه ، ولأجل ذلك يصفها بالبلاء ، دون أن يرى ما تنطوي عليه هذه الحوادث والظواهر من نتائج إيجابية في مجالات أُخرى من الحياة البشرية.

وما أشبه حال هذا الإنسان في مثل هذه الرؤية المحدودة بعابر يرى جرَّافة تحفر الأرض وتهدم بناءً وتثير الغبار والتراب في الهواء ، فيقضي من فوره بأنّه ضارّ وسيّء ، ولكن المسكين لا يدري بأنّ ذلك يتم تمهيداً لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى ويعالج المصابين ويهيّئ للمحتاجين للعلاج ، وسائل المعالجة والتمريض ولو وقف على تلك الأهداف النبيلة لقضى بغير ما قضى ، ولوصف ذلك التهديم بأنّه خير.

إذا علمت ذلك ، فنحن نذكر مثالاً من نفس ما نحن بصدده.

إذا هبّت عاصفة هوجاء على السواحل ، فبما أنها تقطع الأشجار وتدمّر المنازل القريبة من الساحل ، حينها توصف بالشرِّ والبلية ، ولكنّها من جهة أُخرى خير محض حيث توجب حركة السفن الشراعية المتوقفة في عرض البحر بسبب سكون الرياح وبذلك تنقذ حياة المئات من ركّابها اليائسين من النجاة.

إنّ هذه العاصفة وإن كان يُكمن فيها الشر لكنها في نفس الوقت وسيلة فعّالة في عملية تلقيح الأزهار ، وإثارة السحب للمطر ، وتبيد الأدخنة الضارة المتصاعدة من فوهات المصانع والمعامل ، إلى غير ذلك من الآثار المفيدة لهبوب الرياح التي تتضاءل عندها بعض الآثار السيئة.

إنّ السبب لوصف بعض الحوادث بالشرور والبلايا هو ضيق علم الإنسان

ص: 68

وضآلته ولو وقف على أسرارها التي ربما تظهر بعد سنين لرجع عن قضائه ، ويُرتّل قوله سبحانه : ( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ) .(1)ولأذعن بقوله سبحانه : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) .(2)

الآثار التربوية للبلايا والمصائب

إنّ للبلايا والمصائب آثاراً تربوية تُضفي على العمل وصفَ الخير الكثير في مقابل الشر القليل ، وهذه الآثار عبارة عمّا يلي :

أ : تفجير الطاقات :

إنّ البلايا والمصائب خير وسيلة لتفجير الطاقات وتقدم العلوم ورقي الحياة ، فانّ الحضارات لم تزدهر إلاّ في أجواء الحروب والصراعات والمنافسات ، ففي مثل هذه الظروف تتفتح القابليات إلى جبران ما فات وتتميم ما نقص. فإذا لم يتعرض الإنسان إلى ضروب من المحن فانّ طاقاته تبقى كامنة ، وإنّما تتفتح في خضمِّ المصائب والشدائد. وإلى هذه الحقيقة يشير قوله سبحانه : ( فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) (3)

ب : المصائب والبلايا جرس إنذار

كلّ ما ازداد الإنسان توغّلاً في اللذائذ والنعم ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنوية ، وهذه حقيقة يلمسها كلّ إنسان في حياته فلابدّ من انتباه الإنسان من

ص: 69


1- آل عمران : 191.
2- الإسراء : 85.
3- النساء:19.

الغفلة ، من خلال جرس إنذار يذكّر ويوقظ فطرته وينبّهه من غفلته ، وليس هو إلاّ بعض الحوادث التي تقطع وتيرة الحياة الرغيدة ، حتى يتخلّى عن غروره ويخفّف من حدة طغيانه ، وإلى هذا الجانب يشير قوله سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ) .(1)

وبذلك يعلّل قوله سبحانه نزول الحوادث ، ويقول : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) .(2)

إلى غير ذلك من الآيات التي تشير إلى أن الهدف من وراء نزول البلايا هو تخلّي الإنسان عن غروره.

ج : تقاعس الإنسان عن تحمل مسؤوليته

إنّ ما يسمّيه الإنسان بالبلايا والشرور لم يكتب عليها الشرُّ على وجه الإطلاق بل تتَّبع الظروف ، فالسيل الجارف يُعد شراً في البلاد المتخلِّفة عن ركب الحضارة ، وأمّا في البلاد المتقدمة فيعد خيراً ، لأنّها تقوم بمشاريع بناء السدود بغية جمع مياه تلك السيول واستثمارها في انتاج الطاقة الكهربائية ، ولذلك قلنا إنّه لم يكتب على السيل أنَّه شرٌّ أو خير وانّما هو يتَّبع همة الإنسان وقيامه بمسؤوليته في إعمار البلاد.

وهكذا الزلازل الأرضية فقد تُسبّب أضراراً فادحة في البلاد النائية المتخلّفة وتؤدّي إلى إزهاق أرواح كثيرة ، وهذا بخلاف البلاد المتطورة فقد اتخذت التدابير اللازمة للوقاية من دمار الزلازل من خلال تشييد المدن والقرى على دعائم متينة

ص: 70


1- العلق : 6 - 7.
2- الأعراف : 94.

لا تتأثر بالزلازل إلاّ القليل.

وبذلك تبيَّن انّ ما يسميه البشر بالبلايا والمصائب ليس على إطلاقها بلاءً بل لها فوائد وآثار اجتماعية وأخلاقية مهمة.

وإليك الكلام في المحور الثاني.

الثاني : اختلاف الناس في المواهب العقلية والاستعدادت

إنّ الاختلاف في الاستعدادات أساس النظام وبقاء الحضارة ، فلو خلق الناس على استعداد واحد لانفصم النظام وتقوّضت أركانه.

يقول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام : « لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا فإذا استووا هلكوا ». (1)

فالمجتمع الإنساني يزهو باستعدادات مختلفة كلّ يتحمل مسؤولية في المجتمع ، فمقتضى الحكمة خلق الناس بمواهب مختلفة كي يقوم كلّ حسب استعداده ، ومثل هذا يؤكد الحكمة ولا ينافي العدل.

وإنّما يلزم الجور إذا كانت هناك طوائف متنعمة بكافة المواهب ، وطوائف أُخرى محرومة منها ، ولكن الواقع خلاف ذلك.

الثالث : الفواصل الطبقية بين الناس

لا شكّ انّ المجتمع الإنساني يضمّ في طياته طبقات اجتماعية مختلفه من حيث الفقر والغنى ، فهناك طبقة تهلكها التخمة ، وطبقة أُخرى تموت جوعاً ، وقد

ص: 71


1- أمالي الصدوق : 267.

عدّ ذلك مظهراً لخلاف عدله. ولكن الحقّ غير ذلك ، فالإنسان الجاهل ينسب تلك المحنة إلى خالق الكون ، مع أنّ الصواب أن ينسبه إلى نفسه ونتيجة عمله ، فانّ الأنظمة الجائرة هي التي سبَّبت تلك المحن وأوجدت تلك الكوارث ، ولو كانت هناك أنظمة قائمة على أُسس إلهية لما تعرض البشر لها.

يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديث : « إنّ اللّه عزّ وجلّ فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم إنّهم لم يؤتوا من قبل فريضة اللّه عزّوجلّ(1)ولكن أوتوا مِن منع مَن مَنعهم حقّهم لا ممّا فرض اللّه لهم ، ولو أنّ النّاس أدّوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير ».(2)

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة انّ الظواهر غير المتزنة حسب النظرة السطحية متزنة بالقياس إلى مجموع النظام ولها آثار اجتماعية وتربوية هامة قد بسطنا الكلام فيها في بعض مسفوراتنا.

ص: 72


1- اي لم يؤتوا عدم السعة من قبل فريضة اللّه بل مِن منع مَن منعهم.
2- الوسائل : 6 ، الباب 1 من أبواب ماتجب فيه الزكاة ، الحديث 1.

الفصل السابع: العدل الإلهي والعقوبة الأُخروية

لقد وقعت العقوبات الأُخروية ذريعة لإنكار عدله ، حيث يقولون ما هو الغرض من العقوبة ، فهل هو التشفّي الذي جاء في قوله سبحانه : ( وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا )(1)واللّه سبحانه منزّه من هذا الغرض لاستلزامه طروء الانفعال على ذاته.

أو الغرض من العقوبة الأُخروية هو اعتبار الآخرين ، الذي يشير إليه سبحانه في قوله : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ ) .(2)

ومن المعلوم أنّ تلك الغاية تختص بالدنيا التي هي دار التكليف ولا توجد في دار الجزاء ، أعني : الآخرة.

والجواب : انّ السؤال عن الغاية وانّها هل هي التشفِّي أو اعتبار غيره ، إنّما

ص: 73


1- الإسراء : 33.
2- النور : 2.

يتوجه إلى العقوبات المفروضة عن طريق التقنين والتشريع ، فالتعذيب في ذلك المجال رهن إحدى الغايتين : التشفّي أو الاعتبار.

وأمّا إذا كانت العقوبة أثراً وضعيّاً للعمل فيسقط السؤال ، لأنّ هناك ضرورة وجودية بين وجود المجرم والعقوبة التي تلابس وجودَه في الحياة الأُخروية ، فعند ذلك لا يصحّ السؤال عن حكمة التعذيب ، وإنّما هي تتوجه إلى التعذيب الذي يمكن التفكيك بينه وبين المجرم كالعقوبات الوضعية.

وأمّا إذا كانت العقوبة من لوازم وجود الإنسان الأُخروي ، فالسؤال عن التعذيب ، ساقط جداً.

توضيح ذلك : انّ الإنسان إنّما يحشر بذاته وعمله ، وعمله لازم وجوده وكلّ ما اقترف من الأفعال فله وجود دنيوي ، يتجلّى باسم الكذب والنميمة ، وله وجود أُخروي يتجلّى بالوجود المناسب له ، فهكذا أعماله الصالحة فلها صورة دنيوية ، باسم الأذكار ، وصورة أُخروية تناسب وجود الإنسان في هذا الظرف.

فالصوم هنا إمساك ، وفي الحياة الأُخروية جُنَّة من النار ، وهكذا سائر الأعمال من صالحها وطالحها ، فلها وجودان : دنيوي وأُخروي ، وإليك ما يدلُّ على ذلك في القرآن الكريم.

يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) .(1)

ويقول سبحانه : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .(2).

ص: 74


1- النساء : 10.
2- آل عمران : 180.

وقال سبحانه : ( يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) .(1)

على أنّ تعذيب المجرم وإثابة المحسن مظهر من مظاهر عدله ، فلو لم يعاقب المجرم تلزم تسوية المؤمن والكافر ، يقول سبحانه : ( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(2)

ويقول أيضاً : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) .(3)شبهة عدم التعادل بين الجريمة والعقوبة

وربما يقال كيف يصحّ الخلود الدائم مع كون الذنب منقطعاً ، وهل هذا إلاّ نقض للمساواة المفروضة بين الجريمة والعقوبة ؟!

والجواب عن الشبهة بوجهين :

الأوّل : انّه لم يدل دليل على وجوب المساواة بين الجرم والعقوبة من حيث الكمِّية ، بل المراد المساواة في الكيفية أي عظمة الجرم ، فربما يكون الجرم آناً واحداً وتتبعه عقوبة دائمة ، كما إذا قتل إنساناً وحكم عليه بالحبس المؤبد.

فالإنسان المقترف للذنوب وإن خالف ربه في زمن محدد ، لكن آثار تلك الذنوب ربما تنتشر في العالم.

الثاني : قد عرفت أنّ العذاب الأُخروي تجسيد للعمل الدنيوي وهو المسؤول عمّا اقترفه.

وقد عرّفه سبحانه نتيجة عمله في الآخرة وانّ أعماله المقطعية سوف تورث

ص: 75


1- التوبة : 35.
2- القلم : 35 - 36.
3- المؤمنون : 115.

حسرة طويلة أو دائمة ، وأنّ عمله هنا سيتجسَّد له في الآخرة ، أشواكاً تؤاذيه أو وروداً تطيبه ، وقد أقدم على العمل عن علم واختيار ، فلو كان هناك لوم فاللوم متوجه إليه ، قال سبحانه حاكياً عن الشيطان : ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .(1)

وفيما مرّ من الآيات التي تعد الجزاء الأُخروي حرثاً للإنسان تأييد لهذا النظر ، على أنّ من المحتمل أنّ الخلود في العذاب مختص بما إذا بطل استعداد الرحمة وإمكان الإفاضة ، قال تعالى : ( بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .(2)

ولعلّ المراد من قوله : ( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) إحاطتها به إحاطة توجب زوال أيَّة قابلية واستعداد لنزول الرحمة ، والخروج عن النقمة.

وكيف كان فتظهر صحّة ما ذكرنا إذا أمعنت النظر فيما تقدم في الجواب عن السؤال الأوّل وهو أنّ الجزاء إمّا مخلوق للنفس أو يلازم وجود الإنسان وفي مثله لا تجري شبهة التعادل بين الجريمة والعقوبة كما هو واضح.

تمّ الكلام في الأصل الأوّل من أُصول المذهب ، أعني : العدل الإلهي وركّزنا البحث فيه على الموضوعات التي تطرقت إليها الآيات القرآنية. ومن أراد التبسيط فليرجع إلى الكتب المفصَّلة في هذا الصدد.

ويليه البحث في الأصل الثاني وهو الإمامة والخلافة في الكتاب العزيز.

ص: 76


1- إبراهيم : 22.
2- البقره : 81.

الإمامة والخلافة

اشارة

ص: 77

ص: 78

الإمامة والخلافة

قد تقدّم في صدر الكتاب انّ هناك أصلين انفرد بهما مذهب الشيعة الإمامية ، ولذلك يُعدّان من أُصول المذهب ، دون أُصول الدين ، لأنّ الثاني عبارة عن الأُصول التي يشترك فيها جميع المسلمين بخلاف أُصول المذهب ، فانّها من خصوصيات مذهب دون مذهب آخر ، وقد تقدّم انّ التوحيد والمعاد والنبوة العامة والخاصة ممّا اتفقت عليه عامة المسلمين دون العدل والإمامة ، فالأوّل قالت به المعتزلة والشيعة ، والثاني انفردت به الشيعة وبالأخص الإمامية منهم ، وقد فرغنا عن بيان العدل ودلائله وشبهاته وحلولها ، فحان البحث في الأصل الثاني وهو الإمامة والخلافة.

وليُعلم انّ أصل الإمامة ممّا اتّفقت عليه كلمة المسلمين إلا بعض الفرق الشاذة ، فالجميع على لزوم وجود إمام يقود الأُمة إلى الصلاح والفلاح ، ويقوم بإدارة البلاد على أفضل وجه ، ويُطبّق الشريعة على صعيد الحياة إلى غير ذلك ممّا كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقوم به. وهذا ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين.

إنّما الكلام في أنّ تعيين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ونصبه لهذا المنصب ، هل هو بيد اللّه سبحانه وبذلك يُعَدُّ منصب الإمامة كالنبوة ، منصباً إلهياً ؟ أو بيد الأُمَّة أو بعضهم فتصير الإمامة منصباً اجتماعياً كسائر المناصب الاجتماعية أو السياسية التي يقوم

ص: 79

به آحاد الأُمَّة أو طبقة منهم ؟

فالإمامية عن بكرة أبيهم على القول الأوّل ، حيث يرون انّ نصب الإمام بيد اللّه تبارك وتعالى ويسوقون على ذلك دلائل عقلية وتاريخية ، كما أنّ أهل السنة على القول الثاني ، وبذلك تجاذب تيّاران مختلفان الأُمَّة الإسلامية.

بما انّ أهل السنة يرون الإمامة منصباً اجتماعياً أو سياسياً ، قالوا بأنّ الإمامة من فروع الدين لا من أُصوله ، وهي من أغصان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك لأنّ تحقيق ذلك الأصل في المجتمع ، أي إشاعة المعروف وتحجيم دور المنكر يتوقف على وجود إمام عادل مبسوط اليد يتمتع بنفوذ على نطاق واسع ، ولذلك يجب على الأُمّة نصب إمام بغية تحقّق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإليك سرد كلماتهم في هذا المجال :

1. يقول الإيجي ( المتوفّى عام 757 ه ) في كتاب « المواقف » : وهي عندنا من الفروع ، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسّياً بمن قبلنا. (1)

2. يقول سعد الدين التفتازاني ( المتوفّى عام 791 ه ) : لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات ، ولا خفاء انّ ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية. (2)

وعلى هذا فالإمامة أمر لا يناط به الإيمان والكفر ، بل موقفه كسائر الأحكام الشرعية الفرعية التي لا يكفر المنكر إلا إذا استلزم إنكارهُ إنكارَ الرسالة والنبوة لنبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم. فلا فرق بين مسألة الإمامة ، ومسألة المسح على الخفين حيث أصبحت

ص: 80


1- المواقف : 395.
2- شرح المقاصد : 2 / 271.

مسألة خلافية بين أهل السنّة.

ولكن - يا للأسف - انّهم ربما يتعاملون مع الإمامة والخلافة بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بغير هذا النحو ، فربما ويُكفرون أو يفسقون من لم يعترف بإمامة الخلفاء عن اجتهاد. ولذلك نرى أنّ إمام الحنابلة ( المتوفّى عام 241 ه ) يذكر خلافة الخلفاء الأربعة في عداد المسائل العقائدية (1) ، وتبعه أبو جعفر الطحاوي ( المتوفّى عام 321 ه ) في « العقيدة الطحاوية » (2) ، وقد تبعهما أكثر من جاء بعدهم كالأشعري ( المتوفّى عام 324 ه ) في كتاب « الإبانة » (3) وعبد القاهر البغدادي ( المتوفّى عام 429 ه ) في « الفرق بين الفرق » (4) ، كلّ ذلك تبعاً لإمام الأشاعرة أو الشيخ الطحاوي الذي أصبح الأخير إماماً للعقيدة في الديار المصرية.

والحقّ هو ما صرّح به عضد الدين الإيجي والتفتازاني من أنّ الإمامة من فروع الدين لا من أُصوله ، وانّ النصب لتحقيق غاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا صلة له بأُصول الدين ، وقد كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقبَل إسلام من أسلم واعترف بالشهادتين من دون أن يسأله عن واقع الإمامة ، وانّه هل هو منصب إلهي أو اجتماعي ، ومن دون أن يعلمه بلزوم اجتماع الأُمّة بعد رحيله على نصب إمام لهم ، ولم يكن أي أثر من تلك المباحث في عصر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلذلك لم يتلق أهل السنّة الإمامة والخلافة بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمراً أصيلاً من صميم الدين.

نعم أوّل من أدخل خلافة الشيخين في أُصول الدين هو داهية العرب عمرو

ص: 81


1- كتاب السنَّة : 49.
2- شرح العقيدة الطحاوية : 471.
3- الابانة في أُصول الديانة : 190 ، الباب 16.
4- الفرق بين الفرق : 350.

ابن العاص عند اجتماعه مع أبي موسى الأشعري في دومة الجندل للتشاور في مسألة التحكيم المعروفة ، ولم يكن هدفه من عدّ خلافة الخليفتين من أُصول الإسلام إلاّ الإطاحة بالإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .

حيث تقدّم عمرو بن العاص بالكلام ، وقال للكاتب : اكتب ، فكتب الشهادة بالتوحيد والرسالة ، ثمّ قال للكاتب : ونشهد انّ أبا بكر خليفة رسول اللّه ، عمل بكتاب اللّه وسنّة رسول اللّه حتى قبضه اللّه إليه ، وقد أدّى الحق الذي عليه ...(1)

فخرجنا بالنتيجة التالية : انّ منصب الإمامة عندهم منصب اجتماعي يُشبه منصبَ رئاسة الجمهورية في الوقت الحاضر ، أو منصب رئاسة الوزراء في الحكومات الملكية أو ما يشبه ذلك ، ولذلك لا يشترط فيه سوى الكفاءة لإدارة البلاد. ولا ينعزل بالفسق والظلم ولا بأكبر من ذلك ، وما هذا إلاّ لأنّه منصب اجتماعي ، وما أكثر الظلم والفسق في أوساط الأمراء ورؤساء الجمهور ، وإن كنت في شكّ من ذلك فاقرأ ما كتبه عظيم الأشاعرة أبوبكر الباقلاني وغيره.

قال الباقلاني ( المتوفّى عام 403 ه ) : لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال ، وضرب الأبشار ، وتناول النفوس المحرمة ، وتضييع الحقوق ، وتعطيل الحدود ، ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه.(2)

وليس الباقلاني نسيج وحده في تلك الفكرة ، بل هي فكرة سادت عبر القرون ، تراها في كلمات الآخرين ، يقول التفتازاني : .

ص: 82


1- مروج الذهب : 2 / 397.
2- التمهيد : 181.

ولا ينعزل الإمام بالفسق أو بالخروج عن طاعة اللّه تعالى والجور ، لأنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والأُمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجُمَع والأعياد بإذنهم ، ولا يرون الخروج عليهم ، ونقل عن كتب الشافعية انّ القاضي ينعزل بالفسق ، بخلاف الإمام ، والفرق انّ في انعزاله ووجوب نصب غيره ، إثارة الفتن لما له من الشوكة بخلاف القاضي. (1)

هذا كلّه عند أئمّة السنة ، وأمّا الشيعة فماهيَّة الإمامة عندهم ، عبارة عن الرئاسة العامة في أُمور الدين والدنيا نيابة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .

وبعبارة أُخرى : الإمامة هي استمرار وظائف النبوة ( لا نفس النبوة لانقطاعها برحيل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فيقوم الإمام بنفس ما كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقوم به ، فالنبوة ونزول الوحي منقطعة لكن الوظائف الملقاة على عاتق النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كلّها على عاتق الإمام ، فهو يقوم وراء إدارة البلاد وعمرانها وتوزيع الأرزاق وتأمين السبل والطرق والجهاد في سبيل اللّه لإشاعة الإسلام وكسر الموانع والعوائق.

فهو يقوم مع هذه الوظائف بوظائف أُخرى ، تطلب لنفسها صلاحيات إلهية وتربية سماوية ، وتلك الوظائف عبارة عن :

1. بيان الأحكام الإسلامية من كليات وجزئيات.

2. تفسير الكتاب العزيز وشرح مقاصده ، وبيان أهدافه ، وكشف رموزه وأسراره.

3. تربية المسلمين ، وتهذيبهم وتزكيتهم وتخليص نفوسهم من شوائب الشرك والكفر والجاهلية.

ص: 83


1- شرح العقائد النسفية : 185 - 186 ، ط اسلامبول.

4. الردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يُلقيها أعداء الإسلام ويوجهونها ضد الدعوة الإسلامية.

5. الحفاظ على الرسالة الإلهية من أية محاولة تحريفية ، ومن أي دسٍّ في التعاليم المقدسة.

فقد كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقوم بهذه الأُمور معتمداً على الوحي ، فيجب أن يقوم من ناب بها عنه بتعليمٍ غيبيّ حتى لا يطرأ خلل في الحياة الدينيّة.

وعندئذٍ يطرح هذا السؤال نفسه ، وهو إذا كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قائماً بهذه الوظائف العلمية والفكرية معتمداً على الوحي ، فكيف يقوم غيره مقامه مع انقطاع الوحي والسفارة من اللّه سبحانه. والإجابة عن هذا واضحة ، فانّ الفيض الإلهي لم يزل يمدُّ عباده الصالحين وإن لم يكونوا رسلاً وأنبياء ، وهذا هو الذي يعبر عنه بالمحدَّث ، فيلهم إليه وإن لم يكن نبياً من عند اللّه ، وهذا هو مصاحب موسى يعرفه سبحانه بقوله : ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) . (1)

فعلى ذلك فالإشراقات الإلهية على قلوب الصالحين لا تلازم النبوة والرسالة ، بل يكفي أن يكون إنساناً مثالياً ، وهذا هو جليس سليمان يصفه سبحانه بقوله : ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) . (2)

وهذا الجليس لم يكن نبيّاً ، ولكن كان عنده علم من الكتاب ، وهو لم يحصِّله

ص: 84


1- الكهف : 65.
2- النمل : 40.

من الطرق العادية بل كان علماً إلهياً أُفيض إليه ، لصفاء قلبه وروحه ولأجل ذلك يَنسب علمه إلى فضل ربه ، ويقول : ( هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) .

كما تضافرت الروايات على أنّ في الأُمّة الإسلامية - كالأُمم الغابرة - رجالاً مخلصين محدَّثين تفاض عليهم حقائق من عالم الغيب من دون أن يكونوا أنبياء ، وإن كنت في شكّ من ذلك فارجع إلى ما رواه أهل السنّة في هذا الموضوع :

أخرج البخاري في صحيحه : « لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر » (1).

قال القسطلاني : ليس قوله : « فان يكن » للترديد بل للتأكيد ، كقولك : إن يكن لي صديق ففلان ، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء.

وإذا ثبت أنّ هذا وجد في غير هذه الأُمّة المفضولة ، فوجوده في هذه الأُمّة الفاضلة أحرى (2).

وأخرج البخاري في صحيحه أيضاً بعد حديث الغار : عن أبي هريرة مرفوعاً : أنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم محدَّثون ، إن كان في أُمّتي هذه منهم ، فإنّه عمر بن الخطاب (3).

قال القسطلاني في شرحه : قال المؤلف : يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوّة (4).

وقال الخطابي : يُلقى الشيء في روعه ، فكأنّه قد حُدِّث به يظن فيصيب ،

ص: 85


1- صحيح البخاري : 2 / 149.
2- إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : 6 / 99.
3- صحيح البخاري : 2 / 171.
4- إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : 5 / 431.

ويخطر الشيء بباله فيكون ، وهي منزلة رفيعة من منازل الأولياء.

وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « قد كان في الأُمم قبلكم محدَّثون ، فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم ».

ورواه ابن الجوزي في صفة الصفوة ، وقال : حديث متّفق عليه. (1)

وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في « مشكل الآثار » بطرق شتى عن عائشة وأبي هريرة ، وأخرج قراءة ابن عباس : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدّث. قال : معنى قوله محدَّثون أي ملهمون ، فكان عمر - رضي اللّه عنه - ينطق بما كان ينطق مُلهماً. (2)

قال النووي في شرح صحيح مسلم : اختلف تفسير العلماء للمراد ب « محدّثون » ، فقال ابن وهب : ملهمون ، وقيل : مصيبون ، إذا ظنّوا فكأنّهم حُدِّثوا بشيء فظنّوه. وقيل : تكلّمهم الملائكة ، وجاء في رواية : مكلّمون.

وقال البخاري : يجري الصواب على ألسنتهم ، وفيه إثبات كرامات الأولياء.

وقال الحافظ محبّ الدين الطبري في « الرياض » : ومعنى « محدّثون - واللّه أعلم - أي ويلهمون الصواب ، ويجوز أن يحمل على ظاهره ، وتحدّثهم الملائكة لا بوحي ، وإنّما بما يطلق عليه اسم حديث ، وتلك فضيلة عظيمة ». (3)

قال القرطبي : محدَّثون - بفتح الدال - اسم مفعول جمع محدَّث - بالفتح - أي

ص: 86


1- صفة الصفوة : 1 / 104.
2- مشكل الآثار : 2 / 257.
3- الرياض : 1 / 199.

ملهم أو صادق الظن ، وهو من أُلقي في نفسه شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى ، أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد ، أو تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ، أو مَن إذا رأى رأياً أو ظنّ ظنّاً أجاب كأنّه حُدِّث به وأُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له ، وهذه كرامة يُكرم اللّه بها من شاء من عباده ، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء.

فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فإنّه عمر ، كأنّه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنّه نبيّ ، فلذلك أتى بلفظ « إن » بصورة الترديد. قال القاضي : ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والاختصاص ، قولك : إن كان لي صديق فهو زيد ، فإنّ قائله لا يريد به الشكّ في صداقته بل المبالغة في أنّ الصداقة مختصّة به لا تتخطّاه إلى غيره.(1)

فإذا كان في الأُمم السالفة رجال بهذا القدر والشأن ، فلِماذا لا يكون في الأُمّة الإسلامية رجال شملتهم العناية الإلهية فأحاطوا بالكتاب والسنّة إحاطة كاملة يرفعون حاجات الأُمّة في مجال العقيدة والتشريع.

فمن زعم أنّ مثل هذه الإفاضة تساوق النبوّة والرسالة ، فقد خلط الأعم بالأخصّ ، إذ النبوّة منصب إلهيّ يقع طرفاً للوحي يسمع كلام اللّه تعالى ويرى رسول الوحي ، ويكون إمّا صاحب شريعة مستقلّة أو مروّجاً لشريعة من قبله.

وأمّا الإمام : وهو الخازن لعلوم النبوّة في كل ما تحتاج إليه الأُمّة من دون أن يكون طرفاً للوحي أو سامعاً كلامه سبحانه أو رائياً للملك الحامل له. ولإحاطته بعلوم النبوّة طرق أشرنا إليها.

ص: 87


1- للوقوف على سائر الكلمات حول المحدَّث ، لاحظ كتاب الغدير : 5 / 42 - 49.

ومن التصوّر الخاطئ : الحكم بأنّ كل من أُلهم من اللّه سبحانه أو كلّمه الملك فهو نبيّ ورسول ، مع أنّ الذكر الحكيم يعرّف أُناساً ، أُلهموا أو رأوا الملك ولم يكونوا بالنسبة إلى النبوّة في حلّ ولا مرتحل.

هذه أُمّ موسى يقول سبحانه في حقّها : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ) .(1)

أفصارت أُمّ موسى بهذا الإلهام نبيّة من الأنبياء ؟

وهذه مريم البتول ، تكلّمها الملائكة من دون أن تكون نبيّة ، قال سبحانه : ( وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ... ) .(2)

بلغت مريم العذراء مكاناً شاهدت رسول ربّها المتمثَّل لها بصورة البشر ، قال سبحانه : ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ) .(3)

نرى أنّ مريم البتول رأت الملك وسمعت كلامه ولم تُصبح نبيّة ولا رسولة.

فمن تدبّر في الكتاب والسنّة يقف على أبدال شملتهم العناية الإلهية و وقفوا على أسرار الشريعة ومكامن الدين بفضل من اللّه سبحانه من دون أن يصيروا أنبياء.

ثمّ إن بيان نظام الحكم في الإسلام يأتي ضمن فصول :

ص: 88


1- القصص : 7.
2- آل عمران : 42 - 43.
3- مريم : 17 - 21.

الفصل الأوّل: المصالح العامة و ومقتضيات نظام الحكم

اشارة

إنّ الموضوع المهم هو تبيين نظام الحكم بعد رحيل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ودراسة الظروف التي رافقت رحيله ، فهل الظروف السائدة آنذاك تؤكِّد على تنصيب الإمام وتعيينه من جانبه سبحانه ، أو على تفويضها إلى الأُمّة وقيامها بتعيين الحاكم الإسلامي ، ودراسة هذا الموضوع عن كثب ، رهن الإشارة إلى الأخطار المحدقة بالمجتمع الإسلامي الفتيّ.

مثلَّث الخطر
اشارة

إنّ الأُمة الإسلامية قُبيل وفاة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كانت محاصرة من جهة الشمال والشرق من قبل امبراطوريتين عظيمتين ، وهما : الروم وإيران ، هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل فلقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدو الداخلي أو ما يسمّى بالطابور الخامس ، ولأجل الوقوف على مدى الخطر المحدِق من قبل هذه الأطراف الثلاثة ، نتناول كلّ واحد منها على وجه الإيجاز.

ص: 89

1. خطر الامبراطورية الساسانية

لقد كانت الامبراطورية الساسانية ذات حضارة مزدهرة ، ونفوذ واسع فرضته على أصقاع شاسعة خلال أحقاب عديدة من السنين ، إلى حدّ أصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة أُمة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم ، ولذلك رفض ملكهم « خسرو برويز » دعوة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى مزّق كتابه الذي أرسله ودعاه فيه إلى الإسلام وعبادة اللّه تعالى ، وكتب خسرو برويز إلى عامله في اليمن : إبعث إلى هذا الرجل بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به. (1)

2. خطر الامبراطورية الرومية

كانت الامبراطورية الرومية في شمال الجزيرة العربية وكانت تشغل بال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم طيلة حياته ، وقد نشبت بينها وبين المسلمين معارك طاحنة في السنة الثامنة من الهجرة ، عندما قتلوا رسول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أعني : الحارث بن عمير الأزدي ، فانّه لمّا وصل أرض « مؤتة » تعرض له شرحبيل بن عمرو الغسّاني وضرب عنقه ، وقد أدّى هذا الأمر إلى أن يبعث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن الحارثة ، وعبد اللّه بن رواحة فقُتل الجميع ، ورجع الجيش منهزماً إلى المدينة.

ولقد أثارت هزيمة المسلمين في هذه المعركة نكسة في نفوس المسلمين ، وزادت جرأة جيوش الروم على التعرض للمسلمين. فلذلك قاد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في السنة التاسعة جيشاً جرّاراً قصد به غزو الروم لما وصلت إليه الأخبار بأنّ الروم بصدد الإغارة عليهم ، فقاد النبي ذلك الجيش إلى تبوك وكان له أثر بالغ في زعزعة معنويات جيوش الروم ، ورفع معنويات المسلمين ، ومع ذلك لم يكن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم

ص: 90


1- الكامل في التاريخ : 2 / 145.

بغافل عن خطرهم ، وقد أوصى في أواخر حياته بتجهيز جيش بقيادة أُسامة بن زيد بغية مواجهة الروم.

3. خطر المنافقين

المنافقون هم الذين استسلموا للمدِّ الإسلامي وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً ، فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام ، ويخفون نواياهم السيئة ويتحيّنون الفرُص بغية الانقضاض على المسلمين والإطاحة بهم.

ولقد بلغ خطر المنافقين بمكان أصبح يهدد كيان المجتمع الإسلامي ، لأنّهم كانوا يحيكون مؤمرات خفيّة ينقاد لها السُّذّّج من الناس ، ولأجل ذلك شدّد القرآن الكريم على ذكر عذابهم أكثر من أي صنف آخر ، وقال : ( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ... ) . (1)

ويحدّثنا التاريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً وخطيراً في تعكير الصف الإسلامي وإتاحة الفرصة لأعداء الإسلام بغية تمرير مخططاتهم سواء أكان قبل انتشار صولة الإسلام وبعده.

وعلى هذا فكان من المحتمل بمكان أن يتحد هذا الخطر الثلاثي الاجتثاث جذور الإسلام عقب رحيل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وغياب شخصه عن ساحة الصراع السياسي.

سيادة الروح القبلية على المجتمع الإسلامي الفتي

لقد كانت الروح القبلية سائدة على المجتمع الإسلامي الفتيّ يومذاك ، وكان لرئيس القبيلة نفوذ واسع بين أفراد قبيلته ، وقد كان الولاء للقبيلة متوغلاً في

ص: 91


1- النساء : 145.

نفوسهم حتى بعد إسلامهم رغم ما تلقّوه من التعاليم الإسلامية والتربية القرآنية ، ولذلك كانت تلك النزعة تظهر بين الفينة والأُخرى وينشب بسببها النزاع ويكاد يتسع لولا حكمة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وتدبيره.

ويكفي في ذلك ما رواه أهل السير في تفسير قوله سبحانه : ( يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ لَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .(1)

وقد نشب نزاع في العام السادس من الهجرة في أرض بني المصطلق عند ماء ، حيث تنازع رجلان أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار على سقي الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الأنصاري فقال : يا معشر الأنصار ، والآخر قال : يا معشر المهاجرين ، فاجتمع من كلٍّ رهطٌ بسيوفهم ، فلولا حكمة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لسالت دماء في أرض العدو حيث قدم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال : « دعوها فانّها دعوى منتنة »(2)يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهلية ، وجعل اللّه المؤمنين إخوة وحزباً واحداً.

وكم لهذا الموقف من نظائر في التاريخ ، وبإمكانك أن تقرأ دور شاس بن قيس الذي كان شيخاً من اليهود كيف خطّط لإثارة النعرات الطائفية بين الأوس والخزرج حتى كادت أن تندلع الفتنة بينهما مرة أُخرى إلا أنَّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أخمدها بحكمة بالغة ، قائلاً : يا معشر المسلمين اللّه اللّه ، أبدعوى الجاهلية وانا بين أظهركم بعد أن هداكم اللّه للإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم ».(3).

ص: 92


1- المنافقون : 8.
2- السيرة النبوية : 2 / 290 - 291.
3- السيرة النبوية : 1 / 555 - 557.

كل ذلك يدل على وجود رواسب الجاهلية بين قبيلتي الأوس والخزرج حتى بعد اعتناقهم الإسلام وانضوائهم تحت لوائه. ويشهد على ذلك مضافاً إلى ما مرّ ما أخرجه البخاري في صحيحه في قصة الإفك ، قال : قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو على المنبر : « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي واللّه ماعلمت على أهلي إلاّ خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً ، وما يدخل على أهلي إلاّ معي ».

قالت عائشة : فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، فقال : أنا يا رسول اللّه أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت : فقام رجل من الخزرج وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج - ، قالت : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة - فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمرو اللّه ، واللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل.

فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عم سعد ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر اللّه ، لنقتلنّه ، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

قالت عائشة : فثار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتى همُّوا أن يقتتلوا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قائم على المنبر.

قالت : فلم يزل رسول اللّه يخفّضهم حتى سكتوا وسكت. (1)

فكيف يجوز والحال هذه أن يترك الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أُمَّته المفطورة على العصبيات القبلية ، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصهاً على النفس ، ورفض

ص: 93


1- صحيح البخاري : 5 / 189 ، باب غزوة بني المصطلق.

سلطة الآخر ؟

فهل كان يجوز للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يترك تعيين مصير الخلافة لأُمَّة هذه حالها ، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟

وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الأُمَّة جمعاء على واحد ، ولا تخضع للرواسب القبلية ، ولا تبرز إلى الوجود مرة أُخرى ما مضى من الصراعات العشائرية وما يتبع ذلك من حزازات ؟

أم هل يجوز لقائد يهتم ببقاء دينه وأُمّته أن يترك أكبر الأُمور وأعظمها وأشدها دخالة في حفظ الدين ، إلى أُمة نشأت على الاختلاف ، وتربَّت على الفرقة ، مع أنّه كان يشاهد الاختلاف منهم في حياته أحياناً ، كما عرفت ؟

إنّ التاريخ يدل على أنّ هذا الأمر قد وقع بعد وفاة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في السقيفة حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة ، منتحلة لنفسها أعذاراً وحججاً وطالبة ما تريد بكلّ ثمن حتى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلامية والوصايا النبوية.

فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة ، تفرق الكلمة » (1) نقلاً عن عمر بن الخطاب ما يدل على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد.

فذلكة وتحليل

هذه صورة مصغرة من تاريخ المسلمين في العصر الأوّل ، وقد عرفت أنّ الأعداء كانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر للقضاء عليهم من الخارج والداخل.

ص: 94


1- السيرة النبوية : 2 / 659 - 660.

ومن جانب آخر كانت الرواسب القبلية خامرة في نفوسهم تبرز بين الحين والآخر.

فهذه الظروف تفرض على قائد حكيم كالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يفكِّر مليّاً في مستقبل الأُمة الإسلامية بعد رحيله ، فيخطّط تخطيطاً حكيماً للحيلولة دون مضاعفات الخطر الثلاثي والتعصبات القبلية التي تهدد كيان الإسلام وتقوّض أركانه من خلال نصب قائد بأمر من قبل اللّه سبحانه يقود الأُمة الإسلامية إلى ساحة الجهاد بُغية دفع الأخطار المحدقة بهم ، وبقداسته ومثاليته وكونه منصوباً من اللّه سبحانه يقطع دابر الخلاف في تعيين الخليفة ، وهذا بخلاف ما لو ترك الأُمة على حالها والعدو ببابها والنزاع القبلي على قدم وساق.

الصحابة ومؤهلات القيادة

لم تبلغ الأُمّة الإسلامية - كما يشهد عليه التاريخ - المستوى الفكري الذي يؤهلها إلى تدبير أُمورها وإدارة شؤونها وقيادة سفينتها إلى ساحل الأمان دون حاجة إلى نصب قائد من اللّه سبحانه.

وقد كان عدم بلوغ الأُمّة هذا المستوى أمراً طبيعياً ، لأنّ إعداد أُمّة كاملة بحاجة إلى مزيد من الوقت ولا يتيسر ذلك في فترة وجيزة تبلغ 23 سنة ، وهي حافلة بأحداث مريرة ومشحونة بحروب طاحنة.

إنّ إعداد مثل هذه الأُمّة لا يمكن في العادة إلاّ بعد انقضاء جيل أو جيلين ، وبعد مرور زمن طويل يكفي لبلورة التعاليم الإسلامية ورسوخها في أعماق النفوس بحيث تخالط مفاهيمُ الدين دماءهم ، وتتمكن العقيدة في نفوسهم إلى حد

ص: 95

يحفظهم من التذبذب والتراجع إلى الوراء.

وهذا الحد من الكمال لم يكن حاصلاً في فترة قصيرة ، وتشهد على ذلك الأحداث والوقائع التي كشفت عن تأصُّل الأخلاق الجاهلية في نفوسهم وعدم تغلغل الإيمان في قلوبهم ، حتى أنّنا نجد أنّ القرآن يشير إلى ذلك تعليقاً على ما حدث ووقع منهم في معركة أُحد ، إذ يقول سبحانه : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) .(1)

ويقول أيضاً : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ ) .(2)

وربما يتصوَّر أنّ هذه النكسات تختص بالسنين الأُولى من الهجرة ، ولا تختص بالسنين التي أعقبت وفاة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لانتشار الإسلام في الجزيرة العربية واعتناق خلق كثير منهم الإسلام ، ولكن التاريخ يرد تلك المزعمة ويثبت عدم بلوغهم الذروة في أمر القيادة بحيث تغنيهم عن نصب قائد محنّك من جانبه سبحانه.

وهذه هي غزوة « حنين » التي غزاها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في السنة الثامنة ، وقد أُصيب المسلمون بهزيمة نكراء تركوا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في ساحة الوغى ولم ينصره سوى عدد قليل ، فلمّا رأى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم تفرَّق المسلمين حينها قارعهم بصوت عال ، وقال : « أيّها الناس هلمُّوا إليّ أنا رسول اللّه » ، إلى غير ذلك من الكلمات التي علّمها لعمَّه العباس حتى يُجهر بها ، وقد نقل القرآن الكريم إجمال تلك الهزيمة ، وقال : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ

ص: 96


1- آل عمران : 144.
2- آل عمران : 154.

اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) .(1)

إنَّ قوله سبحانه : ( وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) يعرب عن عدم نهوضهم بمهمة الدفاع عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ومثل هذه الأُمَّة بحاجة ماسّة إلى نصب قائد محنّك يلمَّ شعثهم ولا يصح تفويض أُمورها إلى جماعة هذه حالهم وهذا مقدار ثباتهم في ساحات الحرب والدفاع عن كيان الدين.

وهناك كلمة قيمة للشيخ الرئيس في بيان الأُسلوب الأفضل للحكومة الإسلامية حيث يقول : الاستخلاف بالنص أصوب ، فانّ ذلك لا يؤدي إلى التشعب والتشاغب والاختلاف.(2).

ص: 97


1- التوبة : 25.
2- الشفاء ، الفن 13 في الإلهيات ، المقالة العاشرة ، الفصل الخامس ، ص 564.

الفصل الثاني: أهل السنَّة ومعالم الحكومة الإسلامية

اشارة

إنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هو القائد الذي تفانى في أداء رسالة ربّه وهداية أُمَّته بكلّ إخلاص وعزيمة ، ولم يكن شيء عنده أعزّ من هداية الناس وبقاء شريعته والنظام الذي يحمي الشريعة ، فعلى ذلك كان على مفترق طرق :

أ : أن ينصب قائداً محنكاً يخلفه في كلّ مهامه ويقطع دابر الخلافات بعده ويكون عمله نموذجاً للآخرين.

ب : أن يبيِّن معالم الحكومة وخصوصياتها بكلّ دقة وتفصيل ، حتى تستغني الأُمة بذلك عن التنصيب ويكون كلامه هو الملهم عبْر الأجيال في تعيين نوع الحكومة للمسلمين.

بيد أنّ التصور السائد عند أهل السنّة هو أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يسلك الطريق الأوّل ولم ينصب خليفة بعده ، بل ترك الأمر إلى الأُمَّة ، ومع ذلك لا يوجد في مجموع ما بأيدينا من الكتاب والروايات المروية في الصحاح والمسانيد شيء يرسم الخطوط العريضة لنوع الحكومة وأركانها وخصائصها وصفات الحاكم وبرامجه ، مع أنّه تكلم في أبسط الأُمور فضلاً عن أخطرها ، كما هو واضح لمن طالع الصحاح والمسانيد خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الإنسان.

ص: 98

ولمّا وجد علماء أهل السنة أنفسهم أمام تلك المعضلة حاولوا حلَّ عقدتها بترسيم خطوط عريضة لحكومة إسلامية من عند أنفسهم تارة باسم الشورى ، وأُخرى باسم أهل الحل والعقد ، وثالثة باتخاذ حكومة الخلفاء الأربعة وما يليها أُسوة وبياناً لنوع الحكومة الإسلامية وخصوصياتها.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ علماء أهل السنة لم يتجردوا عن كلّ رأي مسبق فأخذوا خصوصيات الحكومات القائمة بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حجّة شرعية للمسلمين عامة.

مع أنَّهم لم يعتمدوا في إقامة دعائم الحكومة على دليل قرآني أو سنة نبوية ، وإنّما وضعوا حلولاً استحسانية والتي لا تكون حجّة إلاّ على أنفسهم.

وها نحن نطرح هذه الفروض على بساط البحث كي يعلم مدى إتقانها.

هل الشورى أساس الحكم الإسلامي ؟

هناك من اتخذ الشورى أساساً للحكم الإسلامي ، واستدلُّوا على ذلك بآيتين :

الأُولى : قوله سبحانه : ( ... وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ... ) (1) قائلين بأنّه سبحانه أمر نبيَّه بالمشاورة تعليماً للأُمَّة ، بأن يتشاوروا في مهام الأُمور ومنها الخلافة.

والذي يؤخذ عليه : انّ الخطاب موجّه إلى الحاكم الذي ثبت كونه حاكماً بوجه من الوجوه ثمّ أمره بالمشاورة في غير هذا الأمر. بأن يشاور أفراد الأُمّة فيما

ص: 99


1- آل عمران : 159.

يرجع إلى غير أصل الحكومة ، غاية الأمر يتعدّى عنه إلى غير النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم من أفراد الأُمّة ، لكن مع حفظ الموضوع ، وهو إذا تمت حكومة فرد وثبتت مشروعيته ، فعليه أن يشاور الأُمّة ، وأمّا المشاورة في تعيين الإمام والخليفة عن طريق الشورى فلا تعمُّه الآية.

الثانية : قوله سبحانه ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) .(1)

استدلُّوا بالآية على أنّ نوع الحكومة يتلخص في الشورى فإنّ إضافة المصدر ( أمر ) إلى الغير ( هم ) يفيد العموم والشمول لكل أمر ، ومنه الخلافة والإمامة فالمؤمنون بحسب هذه الآية يتشاورون في جميع أُمورهم حتى الخلافة.

يلاحظ عليه : أنّ الآية تأمر بالمشورة في الأُمور الموضوعة على عاتق المؤمنين فلابدّ أن يحرز أنّ هذا الأمر ( تعيين الإمام ) أمر مربوط بهم فما لم يحرز ذلك لم يجز التمسك بعموم الآية في مورده.

وبعبارة أُخرى انّ النزاع في أنّ الخلافة هل هي مفوّضة إلى الأُمَّة ، أو هي أمر مختص بالسماء ؟ ومادام لم يحرز كون هذا الموضوع من مصاديق الآية لا يحتج بها على أنّ صيغة الحكومة الإسلامية هي الشورى.

نقد فكرة أنَّ الشورى أساس الحكم

1. ومما يدل على أنّ الشورى لم تدخل حيز التنفيذ طيلة التاريخ هي انّ بيعة أبي بكر قد انعقدت بخمسة ، وهم : عمر بن الخطاب ، أبو عبيدة الجراح ، أسيد بن حضير ، بشر بن سعد ، وأسلم مولى أبي حذيفة.

ص: 100


1- الشورى : 38.

ثمّ خرجوا من السقيفة وابوبكر قدّامهم يدعون الناس لمبايعته ، ولأجل ذلك كان عمر بن الخطاب يرفع عقيرته فوق المنبر ، ويقول : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرها.

وأمّا خلافة عمر فقد عقدت له الخلافة بتعيين الخليفة الأوّل ، وأمّا خلافة عثمان فقد حصر عمر الشورى في ستة أشخاص انتخبهم هو بنفسه ليعقدوا لأحدهم ، كما هو واضح من التاريخ.

2. لو كان أساس الحكم ومنشؤه هو الشورى ، لوجب على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم الخوض في تفاصيلها وخصوصياتها وأُسلوبها على الأقلّ. مع انّه لا نجد في الصحاح والمسانيد أثراً لذلك.

فلو كانت الشورى مبدأًً للحكومة لكان على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بيان حدود الشورى وتوعية الأُمَّة وإيقافها على ذلك حتى لا تتحيَّر بعد رحيله ، ومع الأسف الشديد لا نجد شيئاً من ذلك في كلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .

ومن جملة الأُمور التي كان من المفروض بيانها ، هي :

أوّلاً : من هم الذين يجب أن يشتركوا في الشورى المذكورة ؟ هل هم العلماء وحدهم ، أو السياسيون وحدهم ، أو المختلط منهم ؟

ثانياً : من هم الذين يختارون أهل الشورى ؟

ثالثاً : لو اختلف أهل الشورى في شخص فبماذا يكون الترجيح ، هل يكون بملاك الكم ، أم بملاك الكيف ؟

إنّ جميع هذه الأُمور تتصل بجوهر مسألة الشورى ، فكيف يجوز ترك بيانها ، وتوضيحها وكيف سكت الإسلام عنها ، إن كان جعل الشورى طريقاً إلى تعيين الحاكم ؟

ص: 101

3. لو كانت الشورى مبدأًً للحكم لكانت واضحة المعالم فيما يمس متن الشورى ، ومنها العدد الذي تنعقد به الشورى ، وقد اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الشورى إلى مذاهب شتى يذكرها الماوردي ( 364 - 450 ه ) في كتابه : « الاحكام السلطانية » ويقول :

الإمامة تنعقد بوجهين :

أحدهما : باختيار أهل العقد والحل.

والثاني : بعهد الإمام من قبل.

فأمّا انعقادها باختيار أهل العقد والحل ، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى ، فقالت طائفة : لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل العقد والحل من كلّ بلد ليكون الرضا به عاماً ، والتسليم لإمامته إجماعاً ، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة ، باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.

وقالت طائفة أُخرى : أقلُّ من تنعقد به منهم الإمامة ( خمسة ) يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة ، استدلالاً بأمرين :

أحدهما : أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ، ثمّ تابعهم الناس فيها ، وهم : عمر بن الخطاب ، وأبوعبيدة الجرّاح ، وأسيد بن حضير ، وبشر ابن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.

الثاني : أنّ عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة ، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.

وقال آخرون من علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضا الاثنين

ص: 102

ليكونوا حاكماً وشاهدين ، كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين.

وقالت طائفة أُخرى : تنعقد بواحد لأنّ العباس قال لعلي : أُمدد يدك أُبايعك ، فيقول الناس : عمّ رسول اللّه بايع ابن عمه ، فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ. (1)

وهذه الوجوه تسقط كون الشورى أساس الحكم وأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ارتحل واعتمد في صيانة دينه بنظام مبني على الشورى وهي مجملة من جهات شتى.

هل البيعة أساس الحكم الإسلامي ؟

هل البيعة سبيل إلى تعيين الحاكم الإسلامي وأساس له. وقد اتخذه غير واحد ممن كتب في نظام الحكومة الإسلامية أساساً لها ، وقد أمضاها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن غير موضع ، حيث بايعه أهل المدينة في السنة 11 و 12 و 13 من البعثة ، بايعوه على أن لا يشركوا باللّه ولا يسرقوا ولا يقترفوا فاحشة.

كما بايعوه في البيعة الثانية على نصرته والدفاع عنه ، كما يدافعون عن أولادهم وأهليهم. (2)

إنّ الموارد التي بايع فيها المسلمون رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا تنحصر في هذين الموردين بل توجد في موارد أُخرى ، أعظمها وأفضلها بيعة الرضوان المذكورة في تفسير قوله سبحانه : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ

ص: 103


1- الأحكام السلطانية : 7.
2- السيرة النبوية : 1 / 431 - 438.

فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) .(1)

يذكر المفسرون أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث رسولاً في صلح الحديبية إلى قريش ، وقد شاع أنَّ مبعوث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد قتل ، فاستعدّ المسلمون للانتقام من قريش ، ولمّا رأى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّ الخطر على الأبواب ، وبما أنّ المسلمين لم يخرجوا للقتال وإنّما خرجوا للعمرة ، قرر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يُجدِّد بيعته مع المسلمين فجلس تحت شجرة وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحداً بعد الآخر ، ويحلفون له أن لا يتخلّوا عنه أبداً وأن يدافعوا عن حياض الإسلام حتى النفس الأخير ، وقد سميت هذه البيعة « بيعة الرضوان ».(2)

وقد بايعت المؤمنات النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في فتح مكة ، وقد ذكر التفصيلَ قوله سبحانه وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .(3)

نقد فكرة انّ البيعة أساس الحكم

لو أمعن القارئ الكريم في تفاصيل الموارد التي بايع فيها المسلمون - كلّهم أو بعضهم - قائدهم يقف على أنَّه لم تكن الغاية من البيعة الاعتراف بزعامة الرسول ورئاسته فضلاً عن نصبه وتعيينه ، بل كان الهدف التأكيد العملي

ص: 104


1- الفتح : 18.
2- السيرة النبوية : 2 / 315.
3- الممتحنة : 12.

على الالتزام بلوازم الإيمان المسبق ، ولذلك نجد جرير بن عبداللّه ، قال : بايعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على إقام الصَّلاة ، وإيتاء الزَّكاة ، والنصح لكلِّ مسلم.(1)

وقال أيضاً : « وأن تدفعوا عني العدو حتى الموت(2)ولا تفرُّوا من الحرب ».(3)

والحاصل أنّ البيعة كانت تأكيداً للإيمان الذي أظهروه برسالته ونبوَّته فلازم ذلك إطاعة قوله وأمره ، فكانت البيعة تأكيداً لما أضمروا من الإيمان.

نعم لا يمكن أن ينكر أنّ البيعة في العهود التي أعقبت وفاة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كانت طريقاً لتنصيب الحاكم وذلك تقليداً للجاهلية ، حيث كان الرائج فيها انّه إذا مات أمير أو رئيس عمدوا إلى شخص فأقاموه مقام الراحل من خلال البيعة.

والظاهر أنّ تعيين بعض الخلفاء من خلال البيعة كان تقليداً لما كان رائجاً بينهم قبل الإسلام ، ولا يكون هذا دليلاً تاريخياً أو شرعياً على أنّ البيعة طريق لتعيين الخليفة ، بغض النظر عن سائر المواصفات والضوابط ، وغاية ما هناك أنّ البيعة إحدى الطرق فيما لم يكن هناك نص إذا كان المبايع واجداً للملاكات والمواصفات التي يجب أن يتمتع بها الحاكم.

ص: 105


1- كتاب الإيمان. : لاحظ ايضاً صحيح البخاري ، 5 / 55 ، بيعة الأنصار.
2- مسند أحمد : 4 / 15.
3- مسند أحمد : 3 / 292.

الفصل الثالث: نظرية الحكم عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم

اشارة

دلّت البحوث السابقة على أنّ الشورى والبيعة ليسا أساس الحكم ، فحان البحث لبيان نظرية الحكم في كلمات النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم.

والسبر في كلماته طيلة حياته من البعثة إلى الوفاة ، يُثبت أنّ الإمامة عنده كالنبوة أمر موكول إلى اللّه تبارك وتعالى وليس للأُمّة حتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيها دور.

إنّ الكلمات المأثورة عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وموقفه من قضية القيادة ، تعرب عن أنّه كان يعتبر أمر القيادة وتعيين القائد مسألة إلهية وحقاً إلهياً ، فاللّه سبحانه هو الذي له أن يعّين القائد وينصب خليفة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد رحيله ، نجد ذلك في كلماته بوفرة ولا نجد في كل ما نقل عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ما يدل على إرجاع الأمر إلى اختيار الأُمّة ونظرها ، أو آراء أهل الحلّ والعقد ، وها نحن نذكر هنا شاهدين من كلمات الرسول يكشف الستار عن وجه الحقيقة.

1. لما عرض الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم نفسه على بني عامر الذين جاءوا إلى مكة في موسم الحجّ ودعاهم إلى الإسلام. قال له كبيرهم : أرأيت ان نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك اللّه على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟

ص: 106

فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء ». (1)

2. لما بعث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سليط بن عمرو العامري إلى ملك اليمامة ( هوذة بن علي الحنفي ) الذي كان نصرانياً ، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً ، فقدم على هوذة ، فأنزله وحباه وكتب إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول فيه : ( ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي ، وخطيبهم ، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك ).

فقدم سليط على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأخبره بما قال هوذة ، وقرأ كتابه ، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت ، باد وباد ما في يده ». (2)

ونقل ابن الأثير على نحو آخر ، فقال : أرسل هوذة إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وفداً فيهم مُجاعة بن مرارة والرّجال بن عنفوة ، يقول له :

إن جعل الأمر له من بعده أسلم وصار إليه ونصره ، وإلاّ قصد حربه.

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « لا ولا كرامة ، اللّهم اكفنيه » ، فمات بعده بقليل. (3)

إنّ هذين النموذجين التاريخيين اللَّذين لم تمسّهما يد التحريف والتغيير يدلاّن بوضوح كامل على أنّ رؤية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في مسألة الحكم والخلافة هي انّها أمر سماويّ خارج عن صلاحيته ، فالإرجاع إلى اللّه وضرب الصفح عن الشورى والبيعة أو الاستفتاء العام خير دليل على كونه منصباً إلهياً ، والعجب انّه لم يكن هذا رُؤى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في مورد الحكم فقط بل كانت الصحابة بعد رحيله يسيرون على هذا النهج غير انّهم بدّلوا التنصيب الإلهي بتنصيب الخليفة لمن يقوم مكانه بعده.

ص: 107


1- السيرة النبوية : 2 / 424 - 425.
2- الطبقات الكبرى : 1 / 262.
3- الكامل في التاريخ : 2 / 146.

3. وهذا هو أبو بكر عيَّن عمر بن الخطاب للخلافة في عهد كتبه عثمان ابن عفان.(1)

4. كما أنّه تم استخلاف عثمان عن طريق الشورى الستة التي عيَّن اعضاءها عمر بن الخطاب.(2)

5. وقد كانت السيدة عائشة تتبنى نظرية التنصيب من جانب الخليفة ، وقالت لعبد اللّه بن عمر : يا بني بلِّغ عمر سلامي ، فقل له لا تدع أُمّة محمد بلا راع ، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً ، فانّي أخشى عليهم الفتنة ؛ فأتى عبد اللّه إلى أبيه فأعلمه.(3)

والعجب انّ أُمّ المؤمنين التفتت إلى أنَّ ترك الأُمة هملاً يورث الفتنة ، ولكن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حسب زعم القوم - لم يلتفت إلى تلك النكتة - فلقي اللّه سبحانه وترك الأُمّة هملاً !!!

6. انّ عبد اللّه بن عمر دخل على أبيه قُبيل وفاته ، فقال : إنّي سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك ، وزعموا انّك غير مستخلف ، وانّه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثمّ جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيَّع ، فرعاية الناس أشد.(4)

7. قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهلها البيعة ليزيد ، فاجتمع مع عدّة من الصحابة ، وأرسل إلى ابن عمر فأتاه وخلا به ، فكلّمه بكلام ، قال : إنّي كرهت أن أدع أُمّة محمد بعدي كالضعن بلا راع لها.(5).

ص: 108


1- الإمامة والخلافة : 18 ؛ الكامل في التاريخ : 2 / 292 ؛ الطبقات الكبرى : 3 / 200.
2- الكامل في التاريخ : 3 / 35.
3- الإمامة والسياسة : 32.
4- حلية الأولياء : 1 / 44.
5- الإمامة والسياسة : 1 / 168.

هذه النصوص تدل بجلاء على أنّ انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبي ، أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد ، أو اتفاق الأنصار والمهاجرين ، أو بالشورى ، أو بالبيعة كلها فروض اختلقها المتكلّمون بعد تمامية الخلافة للخلفاء ، ولم يكن أي أثر من هذه العناوين بعد رحيل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلاّ شيئاً لا يذكر عند محاجة علي عليه السلام مع المتقمّصين منصَّة الخلافة.

هذه الكلمات تعرب عن أنّ نظرية التنصيب هي التي كانت مهيمنة على الأفكار والعقول.

بلاغات غير رسمية

لقد بلّغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خلافة علي عليه السلام بصورة رسمية في غدير خم كما سيوافيك ، ولكن لم يكن ذلك البلاغ بصورة عفوية بل هيّأ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أرضيته منذ أن صدع بالنبوّة في مواقف مختلفة نذكر منها :

1. دعوة الأقربين وتنصيب علي للخلافة

يقول المفسرون : لمّا نزل قوله سبحانه : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ) (1) أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليّ بن أبي طالب عليه السلام أن يعد طعاماً ولبناً ، فدعا خمسةًً وأربعين رجلاً من وجوه بني هاشم ، ولما فرغوا من الطعام تكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فقال : « إنّ الرائد لا يكذب أهله ؛ واللّه الذي لاإله إلاّ هو إنّي رسول اللّه إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة ، واللّه لتموتُنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبُنَّ بما تعملون ، وإنّها الجنّة أبداً أو النار أبداً.

ص: 109


1- الشعراء : 214 - 215.

ثمّ قال :

يا بني عبد المطلب إنّي واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه عزّ وجلّ أن أدعوكم إليه فأيُّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟

ولمّا بلغ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى هذه النقطة ، وبينما أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم وأخذوا يفكّرون مليّاً في ما يؤول إليه هذا الأمر العظيم ، وما يكتنفه من أخطار قام علي عليه السلام فجأة ، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره ، وقال وهو يخترق بكلماته الشجاعة جدار الصمت والذهول :

أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك على ما بعثك اللّه.

فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : اجلس ، ثمّ كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كلّ مرة يحجم القوم عن تلبية دعوته ، ويقوم علي ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبي ، ويأمره رسول اللّه بالجلوس حتى إذا كانت المرة الثالثة أخذ رسول اللّه بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين ، وقال :

إنّ هذا أخي ، ووصيي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع وجعله عليك أميراً. (1)

هذا موجز ما ذكره المفسرون والمحدّثون حول الآية ، وفي صحاحهم ومسانيدهم.

ص: 110


1- تاريخ الطبري : 2 / 62 - 63 ، الكامل في التاريخ : 2 / 40 - 41 ، مسند أحمد : 1 / 111 ، شرح نهج البلاغة : 13 / 210 - 211.

وهناك من حرّف الكلم عن مواضعه ، أو حرّفها المستنسخون في كتبهم :

1. منهم محمد بن جرير الطبري ( المتوفّى عام 310 ه ) حيث ذكر في تاريخه حديث بدء الدعوة كما نقلناه غير أنّه حرف الكلم في موضعين :

أحدهما : قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي » وضع في مكانه قوله : « على أن يكون كذا وكذا ».

ثانيهما : قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي » حيث حرّفه إلى قوله : إنّ هذا أخي وكذا وكذا.

ونحن لا نتَّهم الطبري شخصاً بالتحريف ، ولكن يحتمل تطرق التحريف إلى تفسيره من جانب النُّسّاخ ، بشهادة سرد الواقعة في تاريخه برمّتها دون أدنى تحريف.

2. منهم ابن كثير ( المتوفّى عام 774 ه ) : فقد حرف الكلم عن مواضعه في تفسيره وتاريخه ولم يقتنع بالتحريف في مكان واحد. (1)

ولا نستبعد أن يكون التحريف مستنداً إلى نفس المؤلف لأنَّ له مواقف معادية من أهل بيت النبوة عليهم السلام.

ومما يثير الاستغراب أن تصدر تلك الهفوة من وزير المعارف المصرية « حسنين هيكل » الأسبق فقد أثبت في الطبعة الأُولى من كتابه « حياة محمد » قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : أيُّكم يؤازرني على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي ، ولم يذكر خطاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام عند ما أعلن مؤازرته له وهو قوله : إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي.

ولكنّه ارتكب في الطبعات الأُخرى جناية كبيرة بحذفه كلتا الجملتين من

ص: 111


1- انظر البداية والنهاية : 2 / 40 ، تفسير ابن كثير : 3 / 351.

رأس وكأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يتفوه بها وكأنّ الكاتب لم يذكر إحدى الجملتين في الطبعة الأُولى ، وبذلك أسقط كتابه عن أيَّة قيمة علمية.

فلو كان هذا هو الميزان في ضبط الحقائق لثبت أنّ كثيراً من فضائل آل البيت عليهم السلام لعبت بها يد التحريف الجانية وما بقي ليس إلاّ فلتات التاريخ.

2. آية الولاية وخلافة علي

لم تزل الشيعة عن بكرة أبيهم يستدلون على إمامة علي عليه السلام وقيادته وزعامته بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بقوله سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) . (1)

استدلت الشيعة بهذه الآية على أنّ عليّاً عليه السلام وليّ المسلمين بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، قائلين بأنّ الآية تعد الولي - بعد اللّه ورسوله - الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة في حال الركوع ، وقد تضافرت الروايات بأنّ عليّاً عليه السلام تصدّق بخاتمه وهو راكع فنزلت الآية في حقّه.

أخرج الحفاظ وأئمّة الحديث عن أنس بن مالك وغيره أنّ سائلاً أتى المسجد وعليٌّ عليه السلام راكعٌ فأشار بيده للسائل ، أي اخلع الخاتم من يدي. قال رسول اللّه : يا عمر وجبت. قال : بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللّه ما وجبت ؟! قال : وجبت له الجنّة ، واللّه ما خلعه من يده حتّى خلعه اللّه من كلِّ ذنب ومن كلِّ خطيئة. قال : فما خرج أحدٌ من المسجد حتّى نزل جبرئيل بقوله عزّ وجلّ : ( إِنَّمَا

ص: 112


1- المائدة : 55 - 56.

وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) . فأنشأ حسّان بن ثابت يقول :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي *** بطيءٍ في الهدى ومسارع

أيذهب مدحي والمحبّين ضايعاً ؟! *** وما المدح في ذات الإله بضائع

فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكعٌ *** فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيّدٍ *** ويا خير شارٍ ثمّ يا خير بائع

فأنزل فيك اللّه خير ولاية وقد وكلّ *** وبيَّنها في محكمات الشرائع (1)

وقد أخرجه ابن جرير الطبري (2) والحافظ أبوبكر الجصاص الرازي في أحكام القرآن (3) والحاكم النيسابوري ( المتوفّى 504 ه ) (4) والحافظ أبو الحسن الواحدي النيسابوري ( المتوفّى 468 ه ) (5) وجار اللّه الزمخشري ( المتوفّى 538 ه ) إلى غير ذلك من أئمّة الحفاظ وكبار المحدثين ربما ناهز عددهم السبعين ، وهم بين محدّث ومفسّر ومؤرخ ويطول بنا الكلام لو قمنا بذكر أسمائهم ونصوصهم ، وكفانا في ذلك مؤلّفات مشايخنا في ذلك المضمار. (6)

ص: 113


1- بلوغ المرام للبحراني : 106 ، نقلاً عن الحافظ أبي نعيم الإصفهاني في كتابه الموسوم ب « نزول القرآن في أميرالمؤمنين عليه السلام ».
2- تفسير الطبري : 6 / 186.
3- أحكام القرآن : 2 / 542 ورواه من عدّة طرق.
4- معرفة أُصول الحديث : 102.
5- أسباب النزول : 148.
6- لاحظ المراجعات للسيد شرف الدين العاملي ، المراجعة الأربعون ، ص 162 - 168 والغدير : 3 / 162 ، وقد رواه من مصادر كثيرة.

ولا يمكن لنا إنكار هذه الروايات المتضافرة لو لم تكن متواترة ، فانّ اجتماعهم على الكذب أو على السهو والاشتباه أمر مستحيل.

والمراد من الولي في الآية المباركة هو الأولى بالتصرف كما في قولنا : فلان وليّ القاصر ، وقول الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم « أيّما امرأة نُكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل » وقد صرّح اللغويّون ومنهم الجوهري في صحاحه بأنّ كلّ من ولي أمر أحد فهو وليّه ، فيكون المراد : انّ الّذي يلي أُموركم فيكون أولى بها منكم إنّما هو اللّه عزّوجلّ ورسوله ومن اجتمعت فيه هذه الصفات : الإيمان وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة في حال الركوع. ولم يجتمع يوم ذاك إلاّ في الإمام علي عليه السلام حسب النصوص المتضافرة.

وفي حقّه نزلت هذه الآية.

والدليل على أنّ المراد من الولي هو الأولى بالتصرّف أنّه سبحانه أثبت في الآية الولاية لنفسه ولنبيّه ولوليّه على نسق واحد ، وولاية اللّه عزّوجلّ عامة فولاية النبي والولي مثلها وعلى غرارها. غير انّ ولاية اللّه ، ولاية ذاتية وولاية الرسول والولي مكتسبة معطاة ، فهما يليان أُمور الأُمّة بإذنه سبحانه.

ولو كانت الولاية المنسوبة إلى اللّه تعالى في الآية غير الولاية المنسوبة إلى الّذين آمنوا » لكان الأنسب أن تفرّد ولاية أُخرى للمؤمنين بالذِّكر ، دفعاً للالتباس ، كما نرى نظيرها في الآيات التالية :

قال تعالى : ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) . (1)

نرى أنّه سبحانه كرر لفظ الإيمان ، وعدّاه في أحدهما بالباء ، وفي الآخر

ص: 114


1- التوبة : 61.

باللاّم لاختلاف في حقيقة إيمانه باللّه ، وللمؤمنين حيث إنّ إيمانه باللّه سبحانه إيمان جدّي وتصديق واقعي ، بخلاف تصديقه للمؤمنين المخبرين بقضايا متضادة حيث لا يمكن تصديق الجميع تصديقاً جدّياً ، والذي يمكن هو تصديقهم بالسماع وعدم الرفض والرد ، ثمّ التحقيق في الأمر ، وترتيب الأثر على الواقع المحقّق.

وممّا يكشف عن وحدة الولاية في الآية المبحوثة انّه سبحانه أتى بلفظ « وليكم » بالإفراد ، ونسبه إلى نفسه وإلى رسوله وإلى الّذين آمنوا ، ولم يقل : « إنّما أولياؤكم » ، وما هذا إلاّ لأنّ الولاية في الآية بمعنى واحد وهو : الأولى بالتصرف ، غير أنّ الأولوية في جانبه سبحانه بالأصالة وفي غيره بالتبعية.

وعلى ضوء ذلك يُعلم أنّ القصر والحصر المستفاد من قوله : « إنّما » لقصر الإفراد ، وكأنّ المخاطبين يظنون أنّ الولاية عامّة للمذكورين في الأُمة وغيرهم ، فأُفرد المذكورون للقصر ، وأنّ الأولياء هؤلاء لا غيرهم.

ثمّ يقع الكلام في تبيين هؤلاء الّذين وصفهم اللّه سبحانه بالولاية وهم ثلاثة :

1. اللّه جلّ جلاله.

2. ورسوله الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم .

وهما غنيان عن البيان.

3. فبما أنّه كان مبهماً بيّنه بذكر صفاته وخصوصياته الأربع :

1. ( الَّذِينَ آمَنُوا ) .

2. ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) .

3. ( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) .

ص: 115

ولا شكّ أنّ هذه السمات ، سمات عامة لا تميّز الولي عن غيره.

فالمقام بحاجة إلى مزيد توضيح يجسّد الولي ويحصره في شخص خاص لا يشمل غيره ، ولأجل ذلك قيّده بالسمة الرابعة أعني قوله : ( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) .

وهي جملة حاليّة لفاعل « يؤتون » ، وهو العامل فيها. وعند ذلك انحصر في شخص خاص على ما ورد في الروايات المتضافرة.

هذا هو منطق الشيعة في تفسير الآية لا تتجاوز في تفسيرها عن ظاهرها قيد أنملة.

بلاغ رسمي في غديرخُم

تقدّم أنَّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد فوَّض في كلامه أمر الخلافة إلى اللّه سبحانه ، فقد كان يترصد أمره سبحانه في ذلك المجال حتى وافاه الوحي ، وخاطبه بقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) .(1)

نزلت الآية الشريفة يوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة ، لما بلغ النبي الأعظم غدير خم فأتاه جبرئيل بها ، فقال : يا محمد إنّ اللّه يقرئك السلام ويقول لك : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) وكان أوائل القوم قريبين من الجحفة ، فأمرُه أن يرد من تقدّم منهم ، ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ، وأن يقيم عليّاً عليه السلام علماً للناس ويبلغهم ما أنزل اللّه فيه وأخبره بأنّ اللّه عزّوجلّ قد عصمه من الناس.

ص: 116


1- المائدة : 67.

وقد اتّفقت الشيعة الإمامية على نزول الآية في يوم غدير خم ، وافقهم على ذلك لفيف من المحدّثين والمؤرِّخين ، فقد ذكر الواقعة الطبري في تفسيره ، كما رواها السيوطي في الدر المنثور عن جماعة من الحفاظ ، منهم :

1. الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد الحنظلي الرازي ( المتوفّى 327 ه ).

2. الحافظ أبو عبد اللّه المحاملي ( المتوفّى 330 ه ).

3. الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي ( المتوفّى 407 ه ).

4. الحافظ ابن مردويه ( المتوفّى 716 ه ).

وغيرهم من أعلام الحديث والتاريخ ، وقد جمع المحقّق الأميني أسماء من روى نزول هذه الآية في يوم غدير خم من أصحاب السنّة فبلغ 30 رجلاً. (1)

وعلى كلّ حال فقد قام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بتحقيق البلاغ في يوم غدير خم ، فخطب خطبة ، وقال : « أيّها الناس ، إنّي أوشك أن أُدعى فأُجِبْتُ ، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟ »

قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت ، وجهدت ، فجزاك اللّه خيراً.

قال : « ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ جنته حق ، وناره حق ، وأنّ الموت حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ اللّه يبعث من في القبور ؟ »

قالوا : بلى نشهد بذلك.

قال : « اللّهمّ اشهد » ، ثمّ قال : أيّها الناس ، ألا تسمعون ؟

قالوا : نعم.

ص: 117


1- الغدير : 1 / 214 - 223.

قال : « فإنّي فرط على الحوض ، فانظروني كيف تخلّفوني في الثقلين ».

فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول اللّه ؟

قال : « الثقل الأكبر ، كتاب اللّه ، والآخر الأصغر عترتي ، وإنّ اللطيف الخبير نبَّأني انَّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ».

ثمّ أخذ بيد علي فرفعها ، حتى رؤي بياض آباطهما ، وعرفه القوم أجمعون ، فقال : « أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ ».

قالوا : اللّه ورسوله أعلم.

قال : « إنّ اللّه مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم.فمن كنت مولاه ، فعليّ مولاه » - يقولها ثلاث مرات -

ثمّ قال : « اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ».

ثمّ لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي اللّه بقوله :

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) الآية ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « اللّه أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي ، والولاية لعليّ من بعدي ».

ثمّ أخذ الناس يهنِّئون علياً ، وممن هنّأه في مقدم الصحابة الشيخان أبو بكر وعمر ، كلّ يقول : بخ بخ ، لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وقال حسان : ائذن لي يا رسول اللّه أن أقول في عليٍّ أبياتاً ، فقال : قل على

ص: 118

بركة اللّه ، فقام حسان ، فقال :

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخمٍّ واسمع بالرسول منادياً

فقال فمن مولاكم ونبيكم *** فقالوا ولم يُبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبيّنا *** ولم تلق منا في الولاية عاصياً

فقال له قم يا عليُّ فإنّني *** رضيتك من بعدي إماماً وهادياً

فمن كنت مولاه فهذا وليُّه *** فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعا اللّهمّ وال وليّه *** وكن للذي عادى عليّاً معادياً

فلمّا سمع النبي أبياته ، قال : « لا تزال يا حسّان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك ». (1)

إنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وإن أشار إلى ولاية الإمام علي بن أبي طالب بعد رحيله ، فتارة في بدء الدعوة ، وأُخرى في غزوة تبوك (2) ، غير انّما ذكره متقدماً على حديث الغدير لم يكن بياناً رسمياً لعامة الأُمة بل كانت بلاغات مقطعية ، وأمّا في ذلك اليوم فقد قام بإبلاغ المحتشد العظيم على نحو أخذ منهم الإقرار والاعتراف بولاية علي عليه السلام .

وبذلك أكمل دعائم دينه وأتم نعمة اللّه عليهم كما سيوافيك.

وأمّا تواتر الحديث فحدّث عنه ولا حرج ، فقد رواه من الصحابة ما يربو على 120 صحابياً وأمّا من التابعين ما يقارب 84 تابعياً ، وأمّا العلماء الذين نقلوه عبر القرون فيزيد على 360 عالماً ، تجد نصوصهم وأسماءهم وأسماء كتبهم

ص: 119


1- الغدير : 2 / 34 - 42.
2- حديث المنزلة : أنت بمنزلة هارونَ من موسى إلاّ أنَّه لا نبيَّ بعدي.

بتفصيل في كتاب الغدير.(1)

ولا أظن انّ ذا مسكة ومن له إلمام بعلم الحديث وقراءة الصحاح والمسانيد ينكر صحة حديث الغدير أو تضافره بل تواتره ، ولو أنكره فإنّما أنكره بلسانه لا بجنانه وقلبه اللّهمّ إلاّ إذا كان غير ملم بعلم الحديث.

وإنّما المهم دلالة الحديث على ولاية الإمام وإمامته.

وقد استخدم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لفظة « مولى » وقال : « من كنت مولاه » فهي بمعنى أولى ، كما في قوله سبحانه : ( فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ المَصِيرُ ) .(2)

والمعنى أولى بكم النار كما فسره غير واحد من المفسرين ، وهناك قرائن تؤيد على أنّ المقصود من المولى هو الأولى. الوارد في قوله سبحانه : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) .(3)

وهناك قرائن لفظية محفوفة بالحديث وقرائن حالية تثبت انّ المراد من المولى هو الأولى الوارد في الآية المتقدمة ، وإليك تلك القرائن :

القرينة الأُولى : قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في صدر الحديث : « أَلَسْتُ أولى بِكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ » وهو دليل على أنّ المراد من قوله : « فمن كنت مولاه » هو الأولى وذلك لأنّه رتب الثاني على الأوّل.

القرينة الثانية : دعاؤه في صدر الحديث : « اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه » فلو أُريد منه غير الأولى بالتصرّف فما معنى هذا التطويل ؟ فانّه لا يلتئم

ص: 120


1- الغدير : 1 / 73 - 152 ، تحت عنوان « طبقات الرواة من العلماء ».
2- الحديد : 15.
3- الأحزاب : 6.

ذكر هذا الدعاء إلاّ بتنصيب علي عليه السلام مقاماً شامخاً يؤهله لهذا الدعاء.

القرينة الثالثة : أخذ الشهادة من الناس ، حيث قال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « ألستم تشهدون أن لاإله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله » فانّ وقوع « من كنت مولاه » في سياق الشهادة بالتوحيد والرسالة والمعاد ، يُحقق كون المراد الإمامة والخلافة الملازمة للأولوية على الناس.

القرينة الرابعة : التكبير على إكمال الدين حيث لم يتفرقوا بعد كلامه حتى نزل إليه الوحي ، بقوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : اللّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي ، فبأي معنى يكمل به الدين وتتم به النعم ويرضى به الرب في عداد الرسالة ، غير الإمامة التي بها تمام الرسالة وكمال نشرها وتوطيد دعائمها.

القرينة الخامسة : نعى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نفسه إلى الناس حيث قال : « كأنِّي دعيت فأجبت » ، وفي نقل آخر انّه يوشك أن أُدعى فأُجيب ، وهو يعطي هذا الانطباع انّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد بلّغ أمراً مهمّاً كان يحذر أن يدركه الأجل قبل الإشارة إليه ، وهو يعرب عن كون ما أشار إليه في هذا المحتشد هو تبليغ أمر مهم يخاف فوته وليس هو إلاّ الإمامة.

القرينة السادسة : الأمر بإبلاغ الغائبين حيث أمر في آخر خطبته بأن يبلغ الشاهد الغائب ، فلو لم يكن هذا الأمر الإمامة فما معنى هذا التأكيد ؟!

إلى غير ذلك من القرائن التي استقصاها شيخنا الأميني في غديره. (1)

وقد أفرغ أُدباء الإسلام حديث النبي في قالب الشعر ، فترى أنّهم يعبرون عن

ص: 121


1- الغدير : 1 / 370 - 383.

حديث الغدير بقرائضهم وقصائدهم ، وفي ذلك دلالة باهرة على أنّ المراد من المولى هي الأولوية ، وها نحن نذكر شيئاً ممّا أنشد في عصر الرسالة أو بعده وراء مانقلناه عن حسان بن ثابت.

قال علي عليه السلام في أُرجوزته :

وأوجب لي ولايته عليكم *** رسول اللّه يوم غدير خم (1)

وقال قيس بن سعد بن عبادة ذلك الصحابي العظيم :

وعليٌّ إمامنا وإمامٌ *** لسوانا أتى به التنزيلُ

يوم قال النبيُّ من كنت مولا *** ه فهذا مولاه خطبٌ جليلٌٌ(2)

إنّ داهية العرب عمرو بن العاص أنشد قصيدة طويلة معروفة بالجلجلية معترضاً فيها على معاوية حيث لم يف بما وعده ، وجاء فيها ما يلي :

وكم قد سمعنا من المصطفى *** وصايا مخصّصة في علي

وفي يوم خم رقى منبراً *** يُبلّغ والركب لم يرحلِ

فأنحله إمرة المؤمنين *** من اللّه مُستخلف المنحلِِ(3)

إلى غير ذلك من القصائد والمنظومات والأراجيز لأُدباء العصر وشعراء الإسلام الَّذين يحتجّ بقولهم وكلماتهم ، فقد صَبُّوا حديث الغدير في قرائضهم ولم يفهم الجميع منها إلاّ الأولوية ، كأولوية الرسول التي هي مناط الإمامة والخلافة ، فلو لم يكن القائد أولى من المقود لما كان لكلامه نفوذ.

وفي الختام نذكر نزول آية إتمام النعمة في حقّ علي عليه السلام ليُعلم أنّ حديث

ص: 122


1- الغدير : 2 / 25 و 67 و 115.
2- الغدير : 2 / 25 و 67 و 115.
3- الغدير : 2 / 25 و 67 و 115.

الغدير محفوف بآيتين : آية قبل النزول وهي آية التبليغ ، وآية بعده وهي آية الإكمال ، قال سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) .

أصفقت الإمامية عن بكرة أبيهم على نزول هذه الآية الكريمة حول نص الغدير بعد أصحار النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بولاية مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بألفاظ درّية صريحة ، فتضمَّن نصّاً جليّاً عرفته الصحابة وفهمته العرب فاحتج به من بلغه الخبر ، وصافق الإماميَّة على ذلك كثيرون من علماء التفسير وأئمة الحديث وحفظة الآثار من أهل السنة ، وهو الذي يساعده الاعتبار ويؤكّده النقل الثابت في تفسير الرازي ( 3 / 529 ) عن أصحاب الآثار : انّه لمّا نزلت هذه الآية على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يُعمّر بعد نزولها إلاّ أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين ، وعيَّنه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازي : (3 / 523 ) وذكر المؤرخون منهم : انّ وفاته صلى اللّه عليه وآله وسلم في الثاني عشر من ربيع الأوّل ، وكأنّ فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الاثنين وثمانين يوماً بعد إخراج يومي الغدير والوفاة.

وعلى أي حال فهو أقرب إلى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة ، كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما لزيادة الأيام حينئذ ، على أنّ ذلك معتضد بنصوص كثيرة لا محيص عن الخضوع لمفادها. (1)

وقد أُثيرت حول الاستدلال بالآية إشكالات من قبل الإمام الفخر الرازي ( 543 - 608 ه ) في تفسيره الكبير. (2)

ص: 123


1- الغدير : 1 / 230.
2- التفسير الكبير : 12 / 26. وقد أجبنا عن هذه الأسئلة بتفصيل في مقال خاص طبع في كتاب رسائل ومقالات ، لاحظ ص2. 575 من الكتاب المذكور.

تم البحث حول الإمامة والخلافة، وكما ذكرنا في المقدمة لمّا كان بين الإمامة والتعرف علی أهل البيت عليهم السلام صلة وثيقة عقدنا فصلاً حول أهل البيت في القرآن الكريم يتناول سماتهم و حقوقهم عليهم السلام.

ص: 124

أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم

لقد حاز أهل البيت عليهم السلام على أهمية بالغة في القرآن الكريم ، وأشار إليهم في غير واحد من آياته ببيان سماحتهم ، وحقوقهم ، وما يمت إليهم بصلة ، لا سيما آية التطهير المعرفة بين المسلمين ، أعني : قوله سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

ولأجل أهمية الموضوع ألّف غير واحد من علماء الفريقين كتباً ورسائل حوله ، أفاضوا فيها الكلام حول هوية أهل البيت ومناقبهم وفضائلهم.

وقد استرعى انتباهي في الفترة الأخيرة كتابان حول أهل البيت : أحدهما : « حقوق أهل البيت عليهم السلام » لابن تيمية ( المتوفّى عام 728 ه ) ، والآخر : « الشيعة وأهل البيت » للكاتب المعاصر إحسان إلهي ظهير حيث بذلا الوسع لبيان نزول الآية في نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم والكاتب الثاني أشدّ بخساً في هذا المجال. وقد أنصف الكتاب الأوّل بعض الإنصاف.

هذا وذاك ممّا دعاني إلى تبيين هوية أهل البيت من خلال القرائن الموجودة في الآية والروايات المتضافرة ، مضافاً إلى بيان سماتهم وحقوقهم عسى أن يجبر بعض ما هضم من حقوقهم في ذينك الكتابين خصوصاً الكتاب الأخير.

وأود أن أشير في الختام إلى نكتة وهي انّ آية التطهير لحنها الحن الثناء والتمجيد على أهل البيت عليهم السلام في حين انّ لحن الآيات الواردة في نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم النصح والوعظ تارة ، والتنديد والتوبيخ أُخرى.

ص: 125

أمّا الأوّل في الآيات الواردة في سورة الأحزاب.

يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ) .(1)

( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ) .(2)

( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ) .(3)

( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) .(4)

وأمّا الثاني أي التنديد والتوبيخ ففي الآيات الواردة في سورة التحريم :

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .(5)

( إِن تَتُوبَا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ) .(6)

( عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ) .(7)

فأُمّهات المؤمنين كسائر الصحابيات لهنّ من الفضل ما لغيرهنّ ، ولكن آية التطهير بلغت من الثناء على أهل البيت بمكان تأبى من الانطباق عليهن بما عرفت لهنّ من السمات في الآيات وستوافيك دلالة الآية على عصمة أهل البيت وتنزيههم من الزلل والخطأ.

ص: 126


1- الاحزاب : 28.
2- الاحزاب : 30.
3- الأحزاب : 32.
4- الاحزاب : 33.
5- الحريم : 1.
6- التحريم : 4.
7- التحريم : 5.

أهل البيت عليهم السلام سماتهم وحقوقهم

اشارة

لقد وردت لفظة « أهل البيت » مرّتين في القرآن الكريم.

قال سبحانه حاكياً عن لسان الرسل : ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) . (1)

وقال تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . (2)

فالآية الأُولى تخاطب أهل بيت خليل اللّه عند ما جاءتهم الرسل فبشّروا امرأته بإسحاق ومن وراء إسحاق بيعقوب.

ولمّا كانت هذه البشارة على خلاف السنن الكونية حيث كان الخليل شيخاً وزوجته طاعنة في السن ، فلذلك تعجبت وقالت مخاطبة الرسل : ( يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ) (3) فوافاها الجواب من

ص: 127


1- هود : 73.
2- الأحزاب : 33.
3- هود : 72.

جانب الرسل الذين كانوا ملائكة وتمثّلوا بصورة الإنسان ، قائلين : ( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) .

وأمّا الآية الثانية فقد وردت في ثنايا الآيات التي نزلت في شأن نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بدعوتهنّ إلى التخلّي عن الدنيا والتحلّي بالتقوى إلى غير ذلك من الوصايا التي وردت ضمن آيات.(1)

والمهم في هذا المقام هو معرفة أهل البيت في الآية الثانية وما هي سماتهم وحقوقهم في الذكر الحكيم ؟

فهناك مباحث ثلاثة :

من هم أهل البيت عليه السلام ؟

وماهي سماتهم ؟

وماهي حقوقهم ؟

وها نحن نقوم بدراسة هذه المواضيع في فصول ثلاثة مستمدين من اللّه العون والتوفيق.

ص: 128


1- انظر سورة الأحزاب ، الآيات : 28 - 34.

الفصل الأوَّل: من هم أهل البيت عليهم السلام

اشارة

إنّ المعروف بين المفسرين والمحدّثين ، هو انّ المراد من أهل البيت في الآية المباركة ، العترة الطاهرة الذين عرّفهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم في حديث الثقلين ، وقال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي ».

غير انّ تحقيق مفاد الآية وتبيين المراد من أهل البيت فيها وانطباقها على حديث الثقلين يستدعي البحث في موردين :

أ. أهل البيت لغة وعرفاً.

ب. أهل البيت في الآية المباركة.

وإليك الكلام فيهما واحداً تلو الآخر.

* * *

ص: 129

أ. أهل البيت لغة وعرفاً :

هذا اللفظ مركب من كلمتين ولكل مفهوم ، ويمكن تحديد مفهوم « الأهل » من موارد استعماله فيقال :

1. أهل الأمر والنهي.

2. أهل الإنجيل.

3. أهل الكتاب.

4. أهل الإسلام.

5. أهل الرجل.

6. أهل الماء.

وهذه الموارد توقفنا على أنّ كلمة « أهل » تستعمل مضافاً فيمن كان له علاقة قوية بمن أُضيف إليه ، فأهل الأمر والنهي هم الذين يمارسون الحكم والبعث والزجر ، وأهل الإنجيل هم الذين لهم اعتقاد به كأهل الكتاب وأهل الإسلام.

وقد اتفقت كلمة أهل اللغة على أنّ الأهل والآل كلمتان بمعنى واحد ، قال ابن منظور : آل الرجل : أهله ، وآل اللّه وآل رسوله : أولياؤه ، أصلها أهل ثم أُبدلت الهاء همزة فصارت في التقدير أأل ، فلمّا توالت الهمزتان أبدلوا الثانية ألفاً ، كما قالوا : آدم وآخر ، وفي الفعل آمن وآزر.

وقد أنشأ عبد المطلب عند هجوم ابرهة على مكة المكرمة ، وقد أخذ حلقة باب الكعبة وقال :

وانصر على آل الصليب *** وعابديه اليوم آلك

وعلى ما ذكرنا ، فهذا اللفظ إذا أُضيف إلى شيء يقصد منه المضاف الذي له علاقة خاصة بالمضاف إليه ، فأهل الرجل مثلاً هم أخص الناس به ، وأهل المسجد ، المتردّدون كثيراً إليه ، وأهل الغابة القاطنون فيها ... فإذا لاحظنا موارد

ص: 130

استعمال هذه الكلمة لا نتردّد في شمولها للزوجة والأولاد ، بل وغيرهم ممّن تربطهم رابطة خاصة بالبيت من غير فرق بين الأولاد والأزواج ، ولأجل ذلك ترى أنّه سبحانه يطلقه على زوجة إبراهيم كما عرفت في الآية.

هذا هو حق الكلام في تحديد مفهوم هذه الكلمة ، ولنأت ببعض نصوص أئمّة اللغة.

قال ابن منظور : أهل البيت سكانه ، وأهل الرجل أخص الناس به ، وأهل بيت النبي : أزواجه وبناته وصهره ، أعني : علياً عليه السلام ، وقيل : نساء النبي والرجال الذين هم آله. (1)

فلقد أحسن الرجل في تحديد المفهوم أوّلاً ، وتوضيح معناه في القرآن الكريم ثانياً ، كما أشار بقوله : « قيل » إلى ضعف القول الآخر ، لأنّه نسبه إلى القيل.

وقال ابن فارس ناقلاً عن الخليل بن أحمد : أهل الرجل : زوجه ، والتأهّل ، التزوّج ، وأهل الرجل : أخص الناس به ، وأهل البيت : سكّانه ، وأهل الإسلام : من يدين به. (2)

وقال الراغب في « مفرداته » : أهل الرجل من يجمعه وإيّاهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد ، فأهل الرجل في الأصل من يجمعه وإيّاهم مسكن واحد ، ثم تجوز به فقيل : أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإيّاهم النسب وتعورف في أُسرة النبي عليه الصلاة والسلام مطلقاً إذا قيل أهل البيت. (3)

وقال الفيروز آبادي : أهل الأمر : ولاته ، وللبيت سكّانه ، وللمذهب من يدين به ، وللرجل زوجته كأهله ، وللنبي أزواجه وبناته وصهره علي - رضي اللّه تعالى

ص: 131


1- لسان العرب : 11 / 29 ، مادة « أهل ».
2- معجم مقاييس اللغة : 1 / 150.
3- المفردات : 29.

عنه - أو نساؤه والرجال الذين هم آله. (1)

هذه الكلمات ونظائرها بين أعلام أهل اللغة كلّها تعرب عن أنّ مفهوم أهل البيت في اللغة هم الذين لهم صلة وطيدة بالبيت ، وأهل الرجل من له صلة به بنسب أو سبب أو غيرهما.

هذا هو الحق الذي لامرية فيه والعجب من إحسان إلهي ظهير الذي ينقل هذه النصوص من أئمّة اللغة وغيرهما ثم يستظهر انّ أهل البيت يطلق أصلاً على الأزواج خاصة ، ثم يستعمل في الأولاد والأقارب تجوّزاً ، ثم يقول : هذا ما يثبت من القرآن الكريم كما وردت هذه اللفظة في قصة إبراهيم بالبشرى ، فقال اللّه عزّ وجلّ في سياق الكلام : ( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (2) وقال : فاستعمل اللّه عزّ وجلّ هذه اللفظة على لسان ملائكته في زوجة إبراهيم عليه السلام لا غير ، وهكذا قال اللّه عزّ وجلّ في كلامه المحكم في قصة موسى عليه الصلاة والسلام : ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ) (3) ، فالمراد من الأهل زوجة موسى عليه السلام ، وهي بنت شعيب. (4)

نحن نسأل الكاتب من أين استظهر من كلمات أهل اللغة انّ « الأهل »

ص: 132


1- القاموس المحيط : 3 / 331.
2- هود : 73.
3- القصص : 30.
4- الشيعة وأهل البيت : 16 - 17.

تطلق أصلاً على الأزواج خاصة ، ثم تستعمل في الأولاد تجوّزاً ؟!

أليس قد تقدّم لنا كلام ابن منظور : أهل الرجل : أخص الناس به ؟! أليس الأولاد أخص الناس بالرجل ؟ ومن فسره بقوله : أهل الرجل زوجه لا يريد اختصاصه بالزوج ، بل يشير إلى أحد موارد استعماله ، ولأجل ذلك يستدركه ويصرح بقوله : أهل الرجل : أخص الناس به.

ثم نسأله عن دلالة الآيتين على اختصاص الأهل بالأزواج وهل في منطق اللغة والأدب جعل الاستعمال دليلاً على الانحصار ؟ فلا شك انّ الأهل في الآيتين أُطلق على الزوجة ، وليس الإطلاق دليلاً على الانحصار ، على أنه أُطلق في قصة الخليل وأُريد الزوجة والزوج معاً ، أي نفس الخليل بشهادة قوله تعالى : ( عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) والإتيان بضمير الجمع المذكر ، وإرادة واحد منهما وحمل الخطاب العام على التعظيم ، لا وجه له في المقام.

وحصيلة الكلام : انّ مراجعة كتب اللغة ، وموارد استعمال الكلمة في الكتاب والسنّة تعرب عن أنّ مفهوم « الأهل » هو المعنى العام وهو يشمل كل من له صلة بالرجل والبيت صلة وطيدة مؤكدة من نسب أو سبب أو غير ذلك ، من غير فرق بين الزوجة والأولاد وغيرهم ، وانّ تخصيصها بالزوجة قسوة على الحق ، كما أنّ تخصيصها لغة بالأولاد وإخراج الأزواج يخالف نصوص القرآن واستعمالها كما عرفت في الآيات الماضية.

هذا هو الحق في تحديد المفهوم ، فهلّم معي نبحث عما هو المراد من هذا المفهوم في الآية الكريمة ، وهل أُريد منه كل من انتمى إلى البيت من أزواج وأولاد أو أنّ هناك قرائن خاصة على أنّ المقصود قسم من المنتمين إليه ؟ وليس هذا بشيء غريب ، لأنّ المفهوم العام قد يطلق ويراد منه جميع الأصناف والأقسام كما يطلق

ص: 133

ويراد منه حسب القرائن بعضهم ، وقد عرفت أنّ المراد من الأهل في قصة موسى زوجته وفي قصة إبراهيم زوجته ، وعلى هذا لا شك في شمول كلمة أهل البيت للزوجة والأولاد وغيرهما إلاّ أن تقوم قرائن على أنّ المراد صنف خاص ، والمدّعى انّه قد قامت القرائن على إرادة صنف خاص منهم ، وتتبيّن في البحث الآتي :

ب. أهل البيت في الآية المباركة ؟

اختلف المفسرون في بيان ما هو المراد من « أهل البيت » في الآية المباركة على أقوال ، غير انّ العبرة بقولين ، والأقوال الأُخر شاذة لا يعبأ بها ، وانّما اختلقت لحل الإشكالات الواردة على القول الثاني كما سيوافيك بيانها في آخر البحث.

1. المراد بنت النبي وصهره وولداهما الحسن والحسين عليهم السلام.

2. نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم . (1)

ولا بد من إمعان النظر في تعيين المراد بعد قابلية اللفظ لشمول كلتا الطائفتين ، فيقول : إنّ هناك قرائن تدل بوضوح على أنّ المراد من هذه الكلمة جماعة خاصة منتمين إلى البيت النبوي بوشائج خاصة لا كل المنتمين إليه ، وإليك تلك القرائن :

القرينة الأُولى : اللام في « أهل البيت » للعهد

لا شك أنّ اللام قد تطلق ويراد منها الجنس المدخول كقوله سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) . (2)

ص: 134


1- وهناك أقوال أُخر شاذة جداً ستوافيك في مختتم البحث.
2- العصر : 2.

وقد يطلق ويراد منها استغراق أفراده كقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) .(1)

وثالثة تستعمل في العهد باعتبار معهودية مدخولها بين المتكلّم والمخاطب.

ولا يمكن حمل اللام في « البيت » على الجنس أو الاستغراق ، لأنّ الأوّل انّما يناسب إذا أراد المتكلم بيان الحكم المتعلّق بالطبيعة كما يعلم من تمثيلهم لذلك بقوله تعالى : ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا )(2)، ومن المعلوم أنّ الآية الكريمة ليست بصدد بيان حكم طبيعة أهل البيت ، كما لا يصح أن يحمل على العموم ، أي : جميع البيوت في العالم ، أو بيوت النبي ، وإلاّ لناسب الإتيان بصيغة الجمع فيقول : أهل البيوت ، كما أتى به عندما كان في صدد إفادة ذلك ، وقال في صدر الآية : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) .

فتعين أن يكون المراد هو الثالث ، أي البيت المعهود ، فالآية تشير إلى إذهاب الرجس عن أهل بيت خاص ، معهود بين المتكلم والمخاطب ، وحينئذ يقع الكلام في تعيين هذا البيت المعهود ، فما هو هذا البيت ؟ هل هو بيت أزواجه ، أو بيت فاطمة وزوجها والحسن والحسين عليهم السلام ؟

لا سبيل إلى الأوّل ، لأنّه لم يكن لأزواجه بيت واحد حتى تشير اللام إليه ، بل تسكن كل واحدة في بيت خاص ، ولو أُريد واحداً من بيوتهن لاختصت الآية بواحدة منهم ، وهذا ما اتفقت الأُمّة على خلافه.

أضف إلى ذلك أنّه على هذا يخرج بيت فاطمة مع أنّ الروايات ناطقة بشمولها ، وانّما الكلام في شمولها لأزواج النبي كما سيوافيك بيانه.

ص: 135


1- التوبة : 73.
2- المعارج : 19.

هذا كلّه على تسليم انّ المراد من البيت هو البيت المبني من الأحجار والآجر والأخشاب ، فقد عرفت أنّ المتعيّن حمله على بيت خاص معهود ولا يصح إلاّ حمله على بيت فاطمة ، إذ ليس هناك بيت خاص صالح لحمل الآية عليه.

وأمّا لو قلنا بأنّ البيت قد يطلق ويراد منه تارة هذا النسق ، كما في قوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ) ، وأُخرى غير هذا النمط من البيت ، مثل قول القائل : « بيت النبوة » و « بيت الوحي » تشبيهاً لهما على المحسوس ، فلا محيص أن يراد منه المنتمون إلى النبوة والوحي بوشائج معنوية خاصة على وجه يصح مع ملاحظتها ، عدّهم أهلاً لذلك البيت ، وتلك الوشائج عبارة عن النزاهة في الروح والفكر ، ولا يشمل كل من يرتبط ببيت النبوة عن طريق السبب أو النسب فحسب ، وفي الوقت نفسه يفتقد الأواصر المعنوية الخاصة ، ولقد تفطّن العلاّمة الزمخشري صاحب التفسير لهذه النكتة ، فهو يقول في تفسير قوله تعالى : ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (1) ، لأنّها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأُمور الخارقة للعادات ، فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة ، وان تسبح اللّه وتمجّده مكان التعجب ، وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولها : ( رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) أرادوا انّ هذه وأمثالها ممّا يكرمكم به رب العزة ، ويخصّكم بالأنعام به يا أهل بيت النبوة. (2)

وعلى ذلك لا يصح تفسير الآية بكل المنتسبين عن طريق الأواصر الجسمانية لبيت خاص حتى بيت فاطمة ، إلاّ أن تكون هناك الوشائج المشار

ص: 136


1- هود : 73.
2- الكشاف : 2 / 107.

إليها ، ولقد ضل من ضل في تفسير الآية بغير تلك الجماعة عليها السلام ، فحمل البيت في الآية على البيت المبني من حجر ومدر مع أنّ المراد غيره.

ولقد جرى بين قتادة ذلك المفسر المعروف وبين أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام محادثة لطيفة أرشده الإمام فيها إلى هذا المعنى الذي أشرنا إليه ، قال - عندما جلس أمام الباقر عليه السلام - : لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدّام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. قال له أبو جعفر عليه السلام : « ويحك ، أتدري أين أنت ؟ أنت بين يدي : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ )(1)فأنت ثم ونحن أُولئك » فقال له قتادة : صدقت واللّه جعلني اللّه فداك ، واللّه ما هي بيوت حجارة ولا طين.(2)

وهذه القرينة تحضّ المفسر على التحقيق عن الأفراد الذين يرتبطون بالبيت بأواصر معينة ، وبذلك يسقط القول بأنّ المراد منه أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، لأنّه لم تكن تلك الوشائج الخاصة باتفاق المسلمين بينهم وأقصى ما عندهن انهن كن مسلمات مؤمنات.

القرينة الثانية : تذكير الضمائر

نرى أنّه سبحانه عندما يخاطب أزواج النبي يخاطبهن حسب المعتاد بضمائر التأنيث ، ولكنّه عندما يصل إلى قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ ... ) يغير الصيغة الخطابية في التأنيث ويأتي بصيغة التذكير ، فما هو السر في تبديل الضمائر لو كان المراد أزواج النبي ؟ وإليك نص الآيات :

ص: 137


1- النور : 36 - 37.
2- الكافي : 6 / 256 - 257.

( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ) . (1)

( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . (2)

( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللّهِ وَالحِكْمَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) . (3)

ترى أنّه سبحانه يخاطبهن في الآية الأُولى بهذه الخطابات :

1. لستن. 2. اتقيتن. 3. فلا تخضعن. 4. وقلن.

ويخاطبهن في الآية الثانية بهذه الخطابات :

1. قرن. 2. بيوتكن. 3. لا تبرجن. 4. أقمن. 5. آتين. 6. أطعن.

كما يخاطبهن في الآية الثالثة بقوله :

1. واذكرن. 2. بيوتكن.

وفي الوقت نفسه يتخذ في ثنايا الآية الثانية موقفاً خاصاً في الخطاب ويقول :

1. عنكم. 2. يطهركم.

فما وجه هذا العدول إذا كان المراد نساء النبي ؟!

أو ليس هذا يدل على أنّ المراد ليس نساءه صلى اللّه عليه وآله وسلم .

ص: 138


1- الأحزاب : 32.
2- الأحزاب : 33.
3- الأحزاب : 34.

وقد حاول القرطبي التفصّي عن الإشكال فقال : إنّ تذكير الضمير يحتمل لأن يكون خرج مخرج « الأهل » كما يقول لصاحبه : كيف أهلك ، أي امرأتك ونساؤك ؟ فيقول : هم بخير ، قال اللّه تعالى : ( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) . (1)

ولكن المحاولة فاشلة فانّ ما ذكره من المثال على فرض سماعه من العرب ، إنّما إذا تقدّم « الأهل » وتأخّر الضمير ، دون العكس كما في الآية ، فإنّ أحد الضميرين مقدّم على لفظ « الأهل » في الآية كما يقول : ( عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .

وأمّا الاستشهاد في الآية فغير صحيح ، لأنّ الخطاب فيها لإبراهيم وزوجته ، فيصح التغليب تغليب الأشرف على غيره في الخطاب والمفروض في المقام انّ الآية نزلت في زوجاته ونسائه خاصة فلا معنى للتغليب.

نعم انّما تصح فكرة التغليب لو قيل بأنّ المراد منه ، هو أولاده وصهره وزوجاته ، وهو قول ثالث سنبحث عنه في مختتم البحث ، وسيوافيك انّ بقية الأقوال كلها مختلقة لتصحيح الإشكالات الواردة على النظرية الثانية ، فلاحظ.

القرينة الثالثة : الإرادة تكوينية لا تشريعية

سيوافيك الكلام عند البحث في سمات أهل البيت ، انّ من سماتهم ، كونهم معصومين من الذنب وذلك بدليل كون الإرادة في قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ ... ) هي الإرادة التكوينية ، التي لا ينفك المراد فيها عن الإرادة وبكون متحقّقاً وثابتاً في

ص: 139


1- جامع الأحكام : 14 / 182.

الخارج ، وبما أنّ المراد هو إذهاب الرجس وإثبات التطهير وتجهيزهم بالأسباب والمعدّات المنتهية إلى العصمة ، فلا يصح أن يراد من أهل البيت أزواج النبي ، إذ لم يدّع أحد من المسلمين كونهن معصومات من الذنب ومطهرات من الزلل. فلا مناص عن تطبيقه على جماعة خاصة من المنتمين إلى البيت النبوي الذين تحقّق فيهم تعلّقهم بالأسباب والمقتضيات التي تنتهي بصاحبها إلى العصمة ولا ينطبق هذا إلاّ على الإمام علي وزوجته والحسنين عليهم السلام ، لأنّ غيرهم مجمع على عدم اتصافهم بهذه الأسباب.

القرينة الرابعة انّ الآيات المربوطة بأزواج النبي تبتدئ من الآية 28 وتنتهي بالآية 34 ، وهي تخاطبهن تارة بلفظ « الأزواج » ومرتين بلفظ « نساء النبي » الصريحين في زوجاته ، فما هو الوجه في العدول عنهما إلى لفظ « أهل البيت » فإنّ العدول قرينة على أنّ المخاطب به غير المخاطب بهما.

أهل البيت في كلام النبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم

قد وقفت على المراد من أهل البيت في الآية المباركة من خلال دراسة مفردات الآية وجملها وهدفها.

وهناك طريق آخر للتعرّف عليهم ، وهو دراسة الأحاديث الواردة في كلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فإنّها تكشف عن وجه الحقيقة ، فنقول : إنّ للنبي الأكرم عناية وافرة بتعريف أهل البيت لم ير مثلها إلاّ في أقلِّ الموارد ، حيث قام بتعريفهم بطرق مختلفة سيوافيك بيانها ، كما أنّ للمحدّثين والمفسرين وأهل السير والتاريخ عناية كاملة بتعريف أهل بيت نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم في مواضع مختلفة حسب المناسبات التي تقتضي طرح هذه المسألة ، كما أنّ للشعراء الإسلاميين المخلصين في طوال قرون ، عناية بارزة

ص: 140

ببيان فضائل أهل البيت والتعريف بهم ، والتصريح بأسمائهم على وجه يظهر من الجميع اتفاقهم على نزول الآية في حق العترة الطاهرة ، وسيوافيك نزر من شعرهم في مختتم البحث.

كل ذلك يعرب عن أنّ الرأي العام بين المسلمين في تفسير أهل البيت هو القول الأوّل ، وانّ القول بأنّ المقصود منهم زوجاته كان قولاً شاذاً متروكاً ينقل ولا يعتنى به ، ولم ينحرف عن ذلك الطريق المهيع إلا بعض من اتخذ لنفسه تجاه أهل البيت موقفاً يشبه موقف أهل العداء والنصب.

قام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بتعريف أهل البيت بطرق ثلاثة نشير إليها :

1. صرّح بأسماء من نزلت الآية في حقّهم حتى يتعين المنزول فيه باسمه ورسمه.

2. قد أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء ، ومنع من دخول غيرهم ، وأشار بيده إلى السماء وقال : « اللّهم إنّ لكل نبي أهل بيت وهؤلاء أهل بيتي » كما سيوافيك نصه.

3. كان يمر ببيت فاطمة عدة شهور ، كلّ ما خرج إلى الصلاة فيقول : الصلاة أهل البيت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

وبهذه الطرق الثلاثة حدّد أفراد أهل البيت وعين مصاديقهم على وجه يكون جامعاً لهم ومانعاً عن غيرهم ، ونحن ننقل ما ورد حول الطرق الثلاثة في التفسيرين : الطبري والدر المنثور للسيوطي ، ثم نأتي بما ورد في الصحاح الستة حسب ما جمعه ابن الأثير الجزري في كتابه « جامع الأُصول » وأخيراً نشير إلى

ص: 141

الجوامع التي جمعت فيها أحاديث الفريقين حول نزول الآية في حق الخمسة الطيبة ، ونترك الباقي إلى القارئ الكريم ، فإنّ البحث قرآني لا حديثي والاستيعاب في الموضوع يحوجنا إلى تأليف مفرد.

الطائفة الأُولى : التصريح بأسمائهم

1. روى الطبري : عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « نزلت هذه الآية في خمسة : فيّ ، وفي عليّ رضي اللّه عنه ، وحسن رضي اللّه عنه ، وحسين رضي اللّه عنه ، وفاطمة رضي اللّه عنها : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ».

2. عن أبي سعيد ، عن أُم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم انّ هذه الآية نزلت في بيتها ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) قالت : وأنا جالسة على باب البيت ، فقلت : أنا يا رسول اللّه ألست من أهل البيت ؟ قال : « إنّك إلى خير ، أنت من أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم » قالت : وفي البيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي اللّه عنهم.

وفي « الدر المنثور » ما يلي :

3. روى السيوطي عن ابن مردويه ، عن أُم سلمة قالت : نزلت هذه الآية في بيتي ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) وفي البيت سبعة : جبريل ، وميكائيل عليهما السلام ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين رضي اللّه عنهم ؛ وأنا على باب البيت ، قلت : يا رسول اللّه ألست من أهل البيت ؟ قال : « إنّك إلى خير ، إنّك من أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ».

4. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي سعيد الخدري -

ص: 142

رضي اللّه عنه - ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « نزلت هذه الآية في خمسة : فيّ ، وفي علي ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

الطائفة الثانية : إدخالهم تحت الكساء

إدخالهم تحت الكساء أو « مرط أو ثوب » أو « عباءة أو قطيفة » : فقد وردت حوله هذه الروايات :

5. أخرج الطبري قال : قالت عائشة : خرج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات غداة وعليه مِرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله معه ، ثم جاء علي فأدخله معه ، ثم قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

6. أخرج الطبري قال : عن أُمّ سلمة قالت : كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عندي وعلي وفاطمة والحسن والحسين فجعلت لهم خزيرة فأكلوا وناموا وغطّى عليهم عباءة أو قطيفة ثم قال : « اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ».

7. أخرج الطبري : عن أبي عمار قال : إنّي لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا عليّاً رضي اللّه عنه فشتموه ، فلمّا قاموا قال : اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموا ، انّي عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ جاءه علي وفاطمة وحسن وحسين فألقى عليهم كساء له ثم قال : اللّهم هؤلاء أهل بيتي ، اللّهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

8. أخرج الطبري : عن أبي عمار قال : سمعت واثلة بن الأسقع يحدث قال : سألت عن علي بن أبي طالب في منزله ، فقالت فاطمة : قد ذهب يأتي برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ جاء ، فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ودخلت ، فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على

ص: 143

الفراش وأجلس فاطمة عن يمينه وعليّاً عن يساره وحسناً وحسيناً بين يديه ، فلفع عليهم بثوبه ، وقال : « ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) اللّهم هؤلاء أهلي اللّهم أهلي ».

9. أخرج الطبري : عن أبي سعيد الخدري عن أُمّ سلمة قالت : لمّا نزلت هذه الآية ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً ، فجلّل عليهم كساءً خيبرياً ، فقال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي ، اللّهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، قالت : أُمّ سلمة قلت : ألست منهم ؟ قال : « أنت إلى خير ».

10. أخرج الطبري : عن أبي هريرة ، عن أُم سلمة : قالت : جاءت فاطمة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة تحلها على طبق ، فوضعته بين يديه فقال : « أين ابن عمك وابناك ؟ » فقالت : « في البيت » فقال : « ادعيهم » ، فجاءت إلى علي فقالت : « أجب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنت وابناك » ، قالت أُمّ سلمة : فلما رآهم مقبلين مدَّ يده إلى كساء كان على المنامة فمدّه وبسطه وأجلسهم عليه ، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله فضمه فوق رؤوسهم وأومأ بيده اليمنى إلى ربِّه ، فقال : « هؤلاء أهل البيت فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ».

11. أخرج الطبري : عن عمر بن أبي سلمة ، قال : نزلت هذه الآية على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في بيت أُمّ سلمة : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) فدعا حسناً وحسيناً وفاطمة فأجلسهم بين يديه ، ودعا علياً فأجلسه خلفه ، فتجلّل هو وهم بالكساء ، ثم قال : « هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، قالت أُم سلمة : أنا معهم ، قال : « مكانك ، وأنت على خير ».

ص: 144

12. أخرج الطبري : قال عامر بن سعد ، قال : قال سعد : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين نزل عليه الوحي فأخذ علياً وابنيه وفاطمة ، وأدخلهم تحت ثوبه ثم قال : « رب هؤلاء أهلي وأهل بيتي ».

13. أخرج الطبري : عن حكيم بن سعد قال : ذكرنا علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه عند أُم سلمة ، قالت : فيه نزلت ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) قالت أُم سلمة : جاء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بيتي فقال : لا تأذني لأحد ، فجاءت فاطمة فلم استطع أن أحجبها عن أبيها ، ثم جاء الحسن فلم استطع أن أمنعه أن يدخل على جدّه وأُمّه ، وجاء الحسين فلم استطع أن أحجبه ، فاجتمعوا حول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على بساط فجللهم نبي اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بكساء كان عليه ثم قال : « هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط. قالت فقلت : يا رسول اللّه : وأنا ؟ قال : « إنّك إلى خير ».

14. روى السيوطي : وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أُم سلمة رضي اللّه عنهما زوج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان ببيتها على منامة له عليه كساء خيبري ، فجاءت فاطمة رضي اللّه عنها ببرمة فيها خزيرة ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « ادعي زوجك وابنيك حسناً وحسيناً » ، فدعتهم ، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) فأخذ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بفضلة أزاره فغشاهم إياها ، ثم أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء ثم قال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، قالها ثلاث مرات ، قالت أُم سلمة ( رضي اللّه عنها ) : فأدخلت رأسي في الستر ، فقلت : يا رسول اللّه وأنا

ص: 145

معكم ؟ فقال : « إنّك إلى خير » مرّتين.

15. روى السيوطي : وأخرج الطبراني عن أُم سلمة - رضي اللّه عنها - انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لفاطمة - رضي اللّه عنها - : « إئتني بزوجك وابنيه » ، فجاءت بهم ، فألقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليهم كساءً فدكياً ثم وضع يده عليهم ، ثم قال : اللّهم إنّ هؤلاء أهل محمد وفي لفظ : آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ». قالت أُم سلمة - رضي اللّه عنها - : فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال : « إنّك على خير ».

16. روى السيوطي : وأخرج الطبراني عن أُم سلمة - رضي اللّه عنها - قالت : جاءت فاطمة - رضي اللّه عنها - إلى أبيها بثريدة لها ، تحملها في طبق لها حتى وضعتها بين يديه ، فقال لها : « أين ابن عمك ؟ » قالت : « هو في البيت ». قال : « اذهبي فادعيه وابنيك » ، فجاءت تقود ابنيها كل واحد منهما في يد وعلي - رضي اللّه عنه - يمشي في أثرهما حتى دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فأجلسهما في حجره وجلس علي - رضي اللّه عنه - عن يمينه وجلست فاطمة - رضي اللّه عنها - عن يساره ، قالت أُمّ سلمة - رضي اللّه عنها - : فأخذت من تحتي كساء كان بساطناً على المنامة في البيت. (1)

17. روى السيوطي : وأخرج ابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري - رضي اللّه عنه - قال : كان يوم أُمّ سلمة أُم المؤمنين - رضي اللّه عنها - فنزل جبرئيل عليه السلام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بهذه الآية ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) قال : فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بحسن وحسين وفاطمة وعلي فضمهم إليه ونشر عليهم الثوب ، والحجاب على أُم سلمة مضروب ، ثم قال :

ص: 146


1- واجمال الحديث وابهامه يرتفع بالرجوع إلى سائر ما روي عن أُم سلمة في ذلك المضمار.

« اللّهم هؤلاء أهل بيتي ، اللّهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، قالت أُم سلمة - رضي اللّه عنها - : فأنا معهم يا نبي اللّه ؟ قال : « أنت على مكانك ، وأنّك على خير ».

18. روى السيوطي : وأخرج الترمذي وصحّحه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي في سننه ، من طرق ، عن أُمّ سلمة - رضي اللّه عنها - قالت : في بيتي نزلت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين فجلّلهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بكساء كان عليه ثم قال : « هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ».

19. روى السيوطي : وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، ومسلم ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم عن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت : خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود ، فجاء الحسن والحسين - رضي اللّه عنهما - فأدخلها معه ، ثم جاء علي فأدخله معه ، ثم قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

20. روى السيوطي : وأخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه ، عن سعد قال : نزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الوحي ، فأدخل علياً وفاطمة وابنيهما تحت ثوبه ثم قال : « اللّهم هؤلاء أهلي وأهل بيتي ».

21. روى السيوطي : وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن واثلة ابن الأسقع - رضي اللّه عنه - قال : جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى فاطمة ومعه حسن وحسين وعلي ، حتى دخل فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً

ص: 147

وحسيناً كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم ، ثم تلاهذه الآية : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

الطائفة الثالثة : تعيينهم بتلاوة الآية على بابهم

22. أخرج الطبري : عن أنس ، انّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلّ ما خرج إلى الصلاة ، فيقول : الصلاة أهل البيت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ».

23. أخرج الطبري : أخبرني أبو داود ، عن أبي الحمراء ، قال : رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال : رأيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة فقال : الصلاة الصلاة : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

24. أخرج الطبري : عن يونس بن أبي إسحاق باسناده ، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مثله.

25. روى السيوطي : أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسّنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، عن أنس - رضي اللّه عنه - أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يمرّ بباب فاطمة - رضي اللّه عنها - إذا خرج إلى صلاة الفجر ويقول : « الصلاة يا أهل البيت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ».

26. روى السيوطي : أخرج ابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري - رضي اللّه عنه - قال : لما دخل علي رضي اللّه عنه بفاطمة رضي اللّه عنها جاء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أربعين

ص: 148

صباحاً إلى بابها يقول : « السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته ، الصلاة رحمكم اللّه ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) أنا حرب لمن حاربتم ، أنا سلم لمن سالمتم ».

27. روى السيوطي : أخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن أبي الحمراء رضي اللّه عنه قال : حفظت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرّة يخرج إلى صلاة الغداة إلاّ أتى إلى باب علي رضي اللّه عنه فوضع يده على جنبتي الباب ثم قال : « الصلاة الصلاة : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ».

28. روى السيوطي : وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - قال : شهدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه عند وقت كل صلاة ، فيقول : « السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته أهل البيت ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) الصلاة رحمكم اللّه » كل يوم خمس مرّات.

29. روى السيوطي : وأخرج الطبراني عن أبي الحمراء رضي اللّه عنه ، قال : رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يأتي باب علي وفاطمة ستة أشهر فيقول : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . (1)

مرور على ما رواه العلمان

قد تعرفت على أكثر ما رواه الطبري والسيوطي في تفسيرهما ، وتركنا بعض ما

ص: 149


1- لاحظ للوقوف على مصادر هذه الروايات تفسير الطبري : 22 / 5 - 7 ، والدر المنثور : 5 / 198 - 199.

نقلاه في ذلك المجال عن أعلام التابعين ، وما رويناه ينتهي اسناده إلى أقطاب الحديث من الصحابة وعيون الأثر ، وهم :

1. أبو سعيد الخدري.

2. أنس بن مالك.

3. ابن عباس.

4. أبو هريرة الدوسي.

5. سعد بن أبي وقاص.

6. واثلة بن الأسقع.

7. أبو الحمراء ، أعني : هلال بن الحارث.

8. أُمّهات المؤمنين : عائشة وأُم سلمة.

أيصح بعد هذا لمناقش أن يشك في صحة نزولها في حق العترة الطاهرة ؟! وليس الطبري والسيوطي فريدين في نقل تلك المأثورة ، بل سبقهما ، أصحاب الصحاح والمسانيد فنقلوا نزول الآية في حقهم صريحاً أو كناية ، ولا بأس بنقل ما جاء في خصوص الصحاح حتى يعضد بعضه بعضاً فنقول :

30. أخرج الترمذي : عن سعد بن أبي وقاص - رضي اللّه عنه - ، قال : لمّا نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ )(1)الآية ، دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : « اللّهم هؤلاء أهلي ».

ص: 150


1- آل عمران : 61.

31. أخرج الترمذي : عن أُم سلمة رضي اللّه عنها : قالت إنّ هذه الآية نزلت في بيتي ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) قالت : وأنا جالسة عند الباب فقلت : يا رسول اللّه ألست من أهل البيت ؟ فقال : «إنّك إلى خير ، أنت من أزواج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم » ، قالت : وفي البيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين ، فجلّلهم بكسائه وقال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ».

وفي رواية انّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة ثم قال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي وحامَّتي اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ». قالت أُم سلمة : وأنا معهم يا رسول اللّه ؟ قال : « إنّك إلى خير ».

32. أخرج الترمذي : عن عمر بن أبي سلمة قال : نزلت هذه الآية على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) في بيت أُم سلمة ، فدعا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فاطمة وحسناً وحسيناً ، فجلّلهم بكساء ، وعليٌّ خلف ظهره ، ثم قال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ». قالت أُم سلمة : وأنا معهم يا نبي اللّه ؟ قال : « أنت على مكانك وأنت على خير ».

33. أخرج الترمذي : عن أنس بن مالك : انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يمرُّ بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريباً من ستة أشهر يقول : الصلاة أهل البيت ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

34. أخرج مسلم : عن عائشة قالت : خرج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وعليه مِرط مُرَحَّل أسود ، فجاءه الحسن فأدخله ، ثم جاءه الحسين فأدخله ، ثم جاءت فاطمة

ص: 151

فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) الآية.

35. أخرج مسلم : عن زيد بن أرقم : قال يزيد بن حيان : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصلّيت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، قال : يا ابن أخي ، واللّه لقد كبرت سني ، وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فما حدثتكم فاقبلوا ومالا فلا تكلّفونيه ، ثم قال : قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى : خماً ، بين مكة والمدينة ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ، ثم قال : « أمّا بعد : ألا أيّها الناس ، إنّما أنا بشر ، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين أوّلهما : كتاب اللّه فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب اللّه ، واستمسكوا به ، فحث على كتاب اللّه ورغّب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم اللّه في أهل بيتي ، أذكركم اللّه في أهل بيتي ، أذكركم اللّه في أهل بيتي ، فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده قال : ومن هم ؟ قال : آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ، قال : كل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم ، زاد في رواية « كتاب اللّه فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل ».

وفي أُخرى نحوه : غير أنّه قال : « وإنّي تارك فيكم ثقلين أحدهما : كتاب اللّه وهو حبل اللّه فمن اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة ، وفيها

ص: 152

فقلنا : من أهل بيته ؟ نساؤه قال : لا وأيم اللّه انّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته : أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.(1)

هذا ما رواه أصحاب الصحاح حول نزول الآية في حق العترة الطاهرة وتركنا ما رواه الإمام أحمد في مسنده روماً للاختصار ، وفي هذا غنى وكفاية لمن رام الحق واتبعه وعرف الباطل فاجتنبه ، ومن أراد التوسع فعليه الرجوع إلى المصادر التالية :

1. العمدة للمحدث الحافظ يحيى بن سعيد المتوفّى عام 600 ه الطبعة الحديثة.(2)

2. بحار الأنوار : 35 / 206 - 226.

3. غاية المرام : 287 و 294 ، فقد أورد فيه واحداً وأربعين حديثاً من كتب أهل السنّة ، وأربعاً وثلاثين من كتب الشيعة.

4. تفسير البرهان : 3 / 309 - 325 ، فقد أورد فيه خمساً وستين حديثاً.

5. نور الثقلين : 4 / 270 - 277 ، أورد فيه خمسة وعشرين حديثاً.

6. إحقاق الحق : 2 / 502 - 544 ، فقد نقل نزول الآية في حق العترة الطاهرة عن كتب أهل السنة حديثاً وتفسيراً ، ثم استدرك ما فاته في الجزء التاسع والرابع عشر.

ص: 153


1- راجع للوقوف على هذه المأثورات جامع الأُصول لابن الأثير : 10 / 100 - 103 ، وصحيح مسلم : 7 / 122 - 123.
2- حُقّق تحقيقاً أنيقاً ونشر من قبل مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام في عام 1412 ه.

7. آية التطهير في حديث الفريقين فقد استقصى في جزء خاص الأحاديث الواردة حول الموضوع من طريق الفريقين شكر اللّه مساعي الجميع.

وبعد هذا ، حان حين البحث عن دلائل القول الآخر : وهو نزول الآية في نسائه.

نزولها في نسائه عليه الصلاة والسلام

قد تعرفت على دلائل القول وقرائنه ومؤيداته وأحاديثه المتواترة التي أطبق على نقلها تسع وأربعون (1) صحابياً وصحابية من أُمهات المؤمنين ، وقد تلقته الأُمّة بالقبول في القرون الماضية ، وأمّا القول الثاني أعني نزولها في نسائه وزوجاته صلى اللّه عليه وآله وسلم فقد نسب إلى أشخاص نقل عنهم ، منهم :

1. ابن عباس.

2. عكرمة.

3. عروة بن الزبير.

4. مقاتل بن سليمان.

أمّا الأوّل : فقد نقل عنه تارة ، عن طريق سعيد بن جبير ، وأُخرى عن طريق عكرمة ، قال السيوطي في الدر المنثور : وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس عن قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ ... ) قال : نزلت في نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .

وقال أيضاً : أخرج ابن مردويه عن طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس

ص: 154


1- سيوافيك مصدره.

قال : نزلت في نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .

وأمّا الثاني : أعني عكرمة ، فقد نقله عنه الطبري ، عن طريق « علقمة » وانّ عكرمة كان ينادي في السوق : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ... ) نزلت في نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .

ونقل في الدر المنثور : أخرج ابن جرير وابن مردويه ، عن عكرمة في قوله : ( إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم ... ) إنّه قال ليس بالذي تذهبون إليه إنّما هو نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .

وأمّا الثالث : أعني : عروة بن الزبير ، فقال السيوطي : وأخرج ابن سعد عن عروة بن الزبير انّه قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) قال : أزواج النبي نزلت في بيت عائشة.

وأمّا الرابع : فقد نقل عنه في أسباب النزول. (1)

تحليل هذه النقول

أمّا نقله عن ابن عباس فليس بثابت ، بل نقل عنه خلاف ذلك ، فقد نقل السيوطي في « الدر المنثور » قال : وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال : شهدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول : « السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته أهل البيت ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ».

وليس ابن مردويه فريداً في هذا النقل ، فقد نقله عنه الحاكم الحسكاني في

ص: 155


1- تفسير الطبري : 22 / 7 و 8 ؛ والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي : 5 / 198 ؛ وأسباب النزول للواحدي : 204.

شواهد التنزيل (1) بسند ينتهي إلى أبي صالح ، عن ابن عباس : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) نزلت في رسول اللّه وعلي وفاطمة والحسن والحسين. والرجس : الشك.

كما نقله الحافظ الحسين بن الحكم الحبري في « تنزيل الآيات » عن أبي صالح بمثل ما سبق. (2)

وممن رواه عن ابن عباس صاحب أرجح المطالب ص 54 طبع لاهور ، والعلاّمة إسماعيل النقشبندي « في مناقب العترة ».

أضف إلى ذلك أنّ من البعيد أن يخفى على ابن عباس حبر الأُمّة ما اطّلع عليه عيون الصحابة وأُمّهات المؤمنين ، وقد أنهى بعض الفضلاء السادة (3) عدد رواة الحديث من الصحابة إلى تسعة وأربعين صحابياً. وجمعها من مصادر الفريقين في الفضائل والمناقب.

وأمّا عكرمة

فقد ثبت تقوّله بذلك كما عرفت ، لكنّ في نفس كلامه دليلاً واضحاً على أنّ الرأي العام يوم ذاك في شأن نزول الأُمّة هو نزولها في حق فاطمة ، وانّما تفرّد هو بذلك ، ولأجله رفع عقيرته في السوق بقوله : ليس بالذي تذهبون إليه وإنّما هو نساء النبي. أضف إلى ذلك : انّ تخصيص هذه الآية بالنداء في السوق وانّها نزلت في نساء النبي يعرب عن موقفه الخاص بالنسبة إلى من اشتهر نزول الآية في حقهم ،

ص: 156


1- شواهد التنزيل : 2 / 30.
2- تنزيل الآيات : 24 « مخطوط » منه نسخة في جامعة طهران. لاحظ إحقاق الحق : 14 / 53.
3- آية التطهير في حديث الفريقين.

وإلاّ فالمتعارف بين الناس هو الجهر بالحقيقة بشكل معقول لا بهذه الصورة المعربة عن الانحراف عنهم.

هذا كله حول ما نقل عنه ، وأمّا تحليل شخصيته وموقفه من الأمانة والوثاقة ، وانحرافه عن علي وانحيازه إلى الخوارج وطمعه الشديد بما في أيدي الأُمراء فحدث عنه ولا حرج ، ولأجل إيقاف القارئ على قليل مما ذكره أئمّة الجرح والتعديل في حقه نأتي ببعض ما ذكره الإمام شمس الدين الذهبي نقّاد الفن في كتابيه : « تذكرة الحفاظ » ، و « سير أعلام النبلاء » ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب الجرح والتعديل.

نقل الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفّى 748 ه في « سير أعلام النبلاء » هذه الكلمات في حق عكرمة :

1. قال أيوب : « قال عكرمة : إنّي لأخرج إلى السوق فأسمع الرجل يتكلّم بالكلمة فينفتح لي خمسون باباً من العلم ... » ما معنى هذه الكلمة ؟ وهل يقولها إنسان يملك شيئاً من العقل والوقار ؟!

2. قال ابن لهيعة : وكان يحدّث برأي نجدة الحروري (1) وأتاه ، فأقام عنده ستة أشهر ، ثم أتى ابن عباس فسلّم ، فقال ابن عباس : قد جاء الخبيث.

3. قال سعيد بن أبي مريم ، عن أبي لهيعة ، عن أبي الأسود قال : كنت أوّل من سبّب لعكرمة الخروج إلى المغرب وذلك أنّي قدمت من مصر إلى المدينة فلقيني عكرمة وسألني عن أهل المغرب ، فأخبرته بغفلتهم ، قال : فخرج إليهم وكان أوّل ما أحدث فيهم رأي الصفريّة. (2)

ص: 157


1- هو نجدة بن عامر الحروري الحنفي من بني حنيفة رأس الفرقة النجدية ، انفرد عن سائر الخوارج بآرائه.
2- هم فرقة من الخوارج أتباع زياد بن الأصفر.

4. قال يحيى بن بكير : قدم عكرمة مصر ونزل هذه الدار وخرج إلى المغرب ، فالخوارج الذين بالمغرب عنه أخذوا.

5. قال علي بن المديني : كان عكرمة يرى رأي نجدة الحروري.

6. وقال أحمد بن زهير : سمعت يحيى بن معين يقول : إنّما لم يذكر مالك عكرمة - يعني في الموطأ - قال : لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفريّة.

7. وروى عمر بن قيس المكي ، عن عطاء قال : كان عكرمة أباضياً. (1)

8. وعن أبي مريم قال : كان عكرمة بيهسياً. (2)

9. وقال إبراهيم الجوزجاني : سألت أحمد بن حنبل عن عكرمة ، أكان يرى رأي الأباضية ؟ فقال : يقال : انّه كان صفرياً ، قلت : أتى البربر ؟ قال : نعم ، وأتى خراسان يطوف على الأُمراء يأخذ منهم.

10. وقال علي بن المديني : حكى عن يعقوب الحضرمي عن جده قال : وقف عكرمة على باب المسجد فقال : ما فيه إلاّ كافر. قال : وكان يرى رأي الاباضية. (3)

وقال في « ميزان الاعتدال » (4) : وقد وثقه جماعة ، واعتمده البخاري ، وأمّا مسلم فتجنّبه ، وروى له قليلاً مقروناً بغيره ، وأعرض عنه مالك ، وتحايده إلاّ في حديث أو حديثين.

عفان ، حدثنا وهيب قال : شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري ، وأيوب ، فذكرا عكرمة فقال يحيى : كذاب ، وقال أيوب : لم يكن بكذاب.

ص: 158


1- هم أتباع عبد اللّه بن أباض ، رأس الأباضية.
2- فرقة من الصفرية أصحاب أبي بيهس هيصم بن جابر الضبغي رأس الفرقة البيهسية من الخوارج.
3- لاحظ سير أعلام النبلاء للذهبي : 5 / 18 - 22.
4- ميزان الاعتدال : 3 / 93 - 97.

عن عبد اللّه بن الحارث : دخلت على علي بن عبد اللّه بن عباس فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش فقلت : ألا تتقي اللّه ؟ قال : إنّ هذا الخبيث يكذب على أبي.

سئل محمد بن سيرين عن عكرمة ؟ فقال : ما يسؤني أن يكون من أهل الجنة ولكنّه كذّاب.

هشام بن عبد اللّه المخزومي : سمعت ابن أبي ذئب يقول : رأيت عكرمة وكان غير ثقة.

وعن بريد بن هارون قال : قدم عكرمة البصرة ، فأتاه أيوب ويونس وسليمان التيمي ، فسمع صوت غناء فقال : اسكتوا ، ثم قال : قاتله اللّه لقد أجاد.

وعن خالد بن أبي عمران قال : كنّا بالمغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم فقال : وددت أن بيدي حربة فاعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً.

وعن يعقوب الحضرمي عن جده قال : وقف عكرمة على باب المسجد فقال : ما فيه إلاّ كافر. قال : ويرى رأي الأباضية ، انّ عكرمة لم يدع موضعاً إلاّ خرج إليه : خراسان والشام واليمن ومصر وافريقية ، كان يأتي الأُمراء فيطلب جوائزهم.

وقال عبد العزيز الدراوردي : مات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد فما شهدهما إلاّ سودان المدينة.

وعن ابن المسيب أنّه قال لمولاه « برد » : لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.

أفبعد هذه الكلمات المتضافرة الحاكية عن انحراف الرجل عن جادة الحق ،

ص: 159

وتكفيره عامّة المسلمين ، وتمنّيه أن يقتل كل من شهد الموسم ، يصح الاعتماد عليه في تفسير الذكر الحكيم ؟ والأسف أنّ المفسرين نقلوا أقواله وأرسلوها ولم يلتفتوا إلى أنّ الرجل كذّاب على مولاه وعلى المسلمين ، فواجب على عشاق الكتاب العزيز وطلاب التفسير ، تهذيب الكتب عن أقوال وآراء ذلك الدجال ومن يحذو حذوه.

عروة بن الزبير

وأمّا عروة بن الزبير فيكفي في عدم حجية قوله ، عداؤه لعلي وانحرافه عنه ، ففي هذا الصدد يقول ابن أبي الحديد : روى جرير بن عبد الحميد ، عن محمد بن شيبة قال : شهدت مسجد المدينة ، فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران عليّاً عليه السلام فنالا منه ، فبلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام ، فجاء حتى وقف عليهما ، فقال : أما أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك إلى اللّه فحكم لأبي على أبيك ، وأمّا أنت يا زهري فلو كنت بمكة لأريتك كير أبيك.

وقد روي من طرق كثيرة : أنّ عروة بن الزبير كان يقول : لم يكن أحد من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يزهو إلاّ علي بن أبي طالب ، وأُسامة بن زيد.

وروى عاصم بن أبي عامر البجلي ، عن يحيى بن عروة قال : كان أبي إذا ذكر عليّاً نال منه ، وقال لي مرّة : يا بني واللّه ما أحجم الناس عنه إلاّ طلباً للدنيا ، لقد بعث إليه أُسامة بن زيد أن أبعث إلي بعطائي فواللّه انّك لتعلم انّك لو كنت في فم أسد لدخلت معك. فكتب إليه : إنّ هذا المال لمن جاهد عليه ، ولكن لي مالاً بالمدينة ، فأصب منه ما شئت.

ص: 160

قال يحيى : فكنت أعجب من وصفه إياه بما وصفه به ومن عيبه له وانحرافه عنه. (1)

مقاتل بن سليمان

وهو رابع النقلة لنزول الآية في نسائه صلى اللّه عليه وآله وسلم ويكفي في عدم حجية قوله ما نقله الذهبي في حقه في « سير أعلام النبلاء » قال : قال ابن عيينة : قلت لمقاتل : زعموا أنّك لم تسمع من الضحاك ؟ قال : يغلق علي وعليه باب فقلت في نفسي : أجل باب المدينة.

وقيل : إنّه قال : سلوني عمّا دون العرش ، فقالوا : أين أمعاء النملة ؟ فسكت ، وسألوه لما حج آدم من حلق رأسه ؟ فقال : لا أدري. قال وكيع : كان كذّاباً.

وعن أبي حنيفة قال : أتانا من المشرق رأيان خبيثان : جهم معطل (2) ومقاتل مشبّه ، مات مقاتل سنة نيف وخمسين ومائة ، وقال البخاري : مقاتل لا شيء البتة. قلت : اجمعوا على تركه. (3)

تجد اتفاق المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة ومن قبلهم على أنّ القول بالتشبيه انّما تسرب إلى الأوساط الإسلامية من مقاتل ، فهو الزعيم الركن بالقول

ص: 161


1- شرح النهج لابن أبي الحديد : 4 / 102 ؛ وراجع سير أعلام النبلاء : 4 / 421 - 437 ما يدل على كونه من بغاة الدنيا وطالبيها ، وقد بنى قصراً في العقيق وأنشد شعراً في مدحه ، وكان مقرباً لدى الأمويين خصوصاً عبد الملك بن مروان.
2- التعطيل : هو انّ لا تثبت لله الصفات التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم والتشبيه : أن يُشبَه اللّه سبحانه وتعالى بأحد من خلقه.
3- سير أعلام النبلاء : 7 / 202.

بأنّ له سبحانه أعضاء مثل ما للإنسان من اليد والرجل والوجه وغير ذلك ، قاتل اللّه مقاتل ، كيف يفتري على اللّه سبحانه كذباً ويُفسر آياته بغير وجهها ؟!

وقال الذهبي أيضاً في « ميزان الاعتدال » (1) ، ما هذا تلخيصه : قال النسائي : كان مقاتل يكذب.

وعن يحيى : حديثه ليس بشيء. وقال الجوزجاني : كان دجّالاً جسوراً.

وقال ابن حبان : كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم ، وكان يشبّه الرب بالمخلوقات ، وكان يكذب في الحديث.

وعن خارجة بن مصعب : لم استحل دم يهودي ، ولو وجدت مقاتل بن سليمان خلوة لشققت بطنه.

وقال ابن أبي حاتم : حديثه يدل على أنّه ليس بصدوق.

مشكلة السياق ؟!
اشارة

قد تعرفت على ما هو المراد من أهل البيت في الآية الشريفة من خلال الامعان فيها وفي ظل الروايات الواردة في كلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، غير انّ هناك مشكلة باسم مشكلة السياق وهي انّ الآية وردت في ثنايا الآيات المربوطة بنساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على وجه يكون قبلها وبعدها راجعاً إليهنّ ومع ذلك كيف يمكن أن تكون هذه الآية راجعة إلى أهل البيت بالمعنى الذي عرفت ؟

وبعبارة أُخرى : إنّ آية التطهير جزء من الآية الثالثة الثلاثين ، التي يرجع صدرها وذيلها إلى نساء النبي ، فعندئذ كيف يصح القول بأنّها راجعة إلى

ص: 162


1- ميزان الاعتدال : 4 / 172 - 175.

غيرهنّ ، فإنّ وحدة السياق قاضية على أنّ الكل راجع إلى موضوع واحد ، وإرجاعها إلى غير نسائه يستلزم التفكيك بين أجزاء آية واحدة ، نعم لو كانت آية التطهير آية مستقلة لكان الأمر سهلاً إذ كان الإشكال أضعف ، ولكنّها جزء من آية واحدة نزلت في نساء النبي.

والجواب : لا شك أنّ السياق من الأُمور التي يستدل بها على كشف المراد ويجعل صدر الكلام ووسطه وذيله قرينة على المراد ، ووسيلة لتعيين ما أُريد منه ، ولكنه حجة إذا لم يقم دليل أقوى على خلافه ، فلو قام ترفع اليد عن وحدة السياق وقرينيّته.

وبعبارة أُخرى : إنّ الاعتماد على السياق إنّما يتم لو لم يكن هناك نص على خلافه ، وقد عرفت النصوص الدالة على خلافه.

أضف إليه أنّ هناك دلائل قاطعة على أنّ آية التطهير آية مستقلة نزلت كذلك ووقعت في ثنايا الآية المربوطة بأزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لمصلحة كان صاحب الشريعة أعرف بها. (1) وإليك الدلائل الدالة على استقلالها :

الدليل الأُوّل :

أطبقت الروايات المنتهية إلى الأصحاب وأُمّهات المؤمنين والتابعين لهم بإحسان على نزولها مستقلة ، سواء أقلنا بنزولها في حق العترة الطاهرة أو زوجات النبي أو أصحابه ، فالكل - مع قطع النظر عن الاختلاف في المنزول فيه - اتفقوا

ص: 163


1- نقل السيوطي عن ابن الحصّار : إنّ ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنّما كان بالوحي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول : ضعوا آية كذا في موضع كذا. لاحظ الإتقان : 1 / 1. الفصل الثامن عشر في جمع القرآن وترتيبه من طبعة مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

على نزولها مستقلة ، وقد مضت النصوص عن الطبري و « الدر المنثور » والصحاح ترى أنّ أُمَّ سلمة تقول : نزلت في بيتي ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

ويروي أبو سعيد الخدري ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « نزلت هذه الآية في خمسة : فيَّ وفي علي وفاطمة وحسن وحسين ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ».

وروت عائشة : خرج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله معه ، ثم جاء الحسين فأدخله معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه ، ثم جاء علي فأدخله معه ، ثم قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . إلى غير ذلك من النصوص.

حتى انّ ظاهر كلام عكرمة وعروة بن الزبير نزولها مستقلة بقول السيوطي : كان عكرمة ينادي في السوق ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) نزلت في نساء النبي.

وأخرج ابن سعد عن عروة بن الزبير أنّه قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) قال : أزواج النبي ، نزلت في بيت عائشة. (1)

فالموافق والمخالف اتفقا على كونها آية مستقلة إمّا نزلت في بيت أُمّ سلمة أو بيت عائشة ، وإمّا في حق العترة أو نسائه.

وعلى ذلك تسهل مخالفة السياق ، والقول بنزولها في حق العترة الطاهرة ، وانّ الصدر والذيل راجعان إلى نسائه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا ما ورد في ثناياها ، فهو راجع إلى غيرهن.

ص: 164


1- لاحظ : 140 - 153 من هذا الجزء.

ولا غرو في أن يكون الصدر والذيل راجعين إلى موضوع وما ورد في الأثناء راجعاً إلى غيره فإنّ ذلك من فنون البلاغة وأساليبها ، نرى نظيره في الذكر الحكيم وكلام البلغاء ، وعليه ديدن العرب في محاوراتهم ، فربما يرد في موضوع قبل أن يفرغ من الموضوع الذي كان يبحث عنه ثم يرجع إليه ثانياً.

يقول الطبرسي : من عادة الفصحاء في كلامهم انّهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه ، والقرآن من ذلك مملوء ، وكذلك كلام العرب وأشعارهم. (1)

قال الشيخ محمد عبده : إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن ثم يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة. (2)

وروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : « إنّ الآية من القرآن يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء ». (3)

ولأجل أن يقف القارئ على صحة ما قاله هؤلاء الأكابر نأتي بشاهد ، فنقول : قال سبحانه ناقلاً عن « العزيز » مخاطباً زوجته : ( إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ ) . (4) نرى أنّ العزيز يخاطب أوّلاً امرأته بقوله : ( إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ) وقبل أن يفرغ من كلامه معها ، يخاطب يوسف بقوله : ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) ... ثم يرجع إلى الموضوع الأوّل ويخاطب زوجته بقوله : ( وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ) ... فقوله ( يُوسُفُ

ص: 165


1- مجمع البيان : 4 / 357.
2- تفسير المنار : 2 / 451.
3- الكاشف : 6 / 217.
4- يوسف : 28 - 29.

أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) جملة معترضة وقعت بين الخطابين ، والمسوّغ لوقوعها بينهما كون المخاطب الثاني أحد المتخاصمين ، وكانت له صلة تامّة بالواقعة التي رفعت إلى العزيز.

والضابطة الكليّة لهذا النوع من الكلام هو وجود التناسب المقتضي للعدول من الأوّل إلى الثاني ، ثم منه إلى الأوّل ، وهي أيضاً موجودة في المقام ، فإنّه سبحانه يخاطب نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بالخطابات التالية :

1. ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ) .

2. ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ... ) .

3. ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ) .

فعند ذلك صح أن ينتقل إلى الكلام عن أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وذلك لوجهين :

1. تعريفهنّ على جماعة بلغوا في التورع والتقى ، الذروة العليا ، وفي الطهارة عن الرذائل والمساوئ ، القمة. وبذلك استحقوا أن يكونوا أُسوة في الحياة وقدوة في مجال العمل ، فيلزم عليهن أن يقتدين بهم ويستضيئنّ بضوئهم.

2. التنبيه على أنّ حياتهنّ مقرونة بحياة أُمّة طاهرة من الرجس ومطهرة من الدنس ، ولهن معهم لحمة القرابة ووصلة الحسب ، واللازم عليهن التحفّظ على شؤون هذه القرابة بالابتعاد عن المعاصي والمساوئ ، والتحلّي بما يرضيه سبحانه ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ) ، وما هذا إلاّ لقرابتهن منه صلى اللّه عليه وآله وسلم وصلتهن بأهل بيته. وهي لا تنفك عن المسؤولية الخاصة ، فالانتساب للنبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم ولبيته الرفيع ، سبب المسؤولية ومنشؤها ، وفي ضوء

ص: 166

هذين الوجهين صح أن يطرح طهارة أهل البيت في أثناء المحاورة مع نساء النبي والكلام حول شؤونهن.

ولقد قام محقّقو الإمامية ببيان مناسبة العدول في الآية ، نأتي ببعض تحقيقاتهم ، قال السيد القاضي التستري : « لا يبعد أن يكون اختلاف آية التطهير مع ما قبلها على طريق الالتفات من الأزواج إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام على معنى أنّ تأديب الأزواج وترغيبهن إلى الصلاح والسداد ، من توابع إذهاب الرجس والدنس عن أهل البيت عليهم السلام ، فالحاصل نظم الآية على هذا : انّ اللّه تعالى رغب أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى العفة والصلاح بأنّه إنّما أراد في الأزل أن يجعلكم معصومين يا أهل البيت واللائق أن يكون المنسوب إلى المعصوم عفيفاً صالحاً كما قال : ( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ ) (1). (2)

وقال العلاّمة المظفر : وإنّما جعل سبحانه هذه الآية في أثناء ذكر الأزواج وخطابهن للتنبيه على أنّه سبحانه أمرهن ونهاهن وأدّبهن إكراماً لأهل البيت وتنزيهاً لهم عن أن تنالهم بسببهن وصمة ، وصوناً لهم عن أن يلحقهم من أجلهن عيب ، ورفعاً لهم عن أن يتصل بهم أهل المعاصي ، ولذا استهل سبحانه الآيات بقوله : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ) ضرورة أنّ هذا التميّز انّما هو للاتصال بالنبي وآله ، لا لذواتهن فهن في محل ، وأهل البيت في محل آخر ، فليست الآية الكريمة إلاّ كقول القائل : يا زوجة فلان لست كأزواج سائر الناس فتعفّفي ، وتستّري ، وأطيعي اللّه تعالى ، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد اللّه حفظهم من الأدناس وصونهم عن النقائص. (3)

ص: 167


1- النور : 26.
2- إحقاق الحق : 2 / 570.
3- دلائل الصدق : 2 / 72.
الدليل الثاني :

إنّ لسان الآيات الواردة حول نساء النبي لسان الإنذار والتهديد ، ولسان الآية المربوطة بأهل بيته لسان المدح والثناء ، فجعل الآيتين آية واحدة وإرجاع الجميع إليهن ممّا لا يقبله الذوق السليم ، فأين قوله سبحانه : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ) من قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ؟!

كما انّ لسان القرآن في أزواج النبي ، لسان المدح والانذار ويكفيك الإمعان في آيات سورة التحريم فلاحظ.

الدليل الثالث :

إنّ قوله سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ ... ) في المصاحف جزء من الآية الثالثة والثلاثين فلو رفعناه منها لم يتطرق أيّ خلل في نظم الآية ومضمونها وتتحصل من ضم الآية الرابعة والثلاثين إلى ما بقيت ، آية تامة واضحة المضمون ، مبينة المرمى منسجمة الفاصلة ، مع فواصل الآيات المتقدمة عليها ، وإليك تفصيل الآية في ضمن مقاطع :

ألف. ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) .

ب. ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (1)

ص: 168


1- الأحزاب: 33.

ج. ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللّهِ وَالحِكْمَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) . (1)

فلو رفعنا قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ ) وضممنا ما تقدم عليه بما تأخر ، جاءت الآية تامة من دون حدوث خلل في المعنى والنظم ، وهذا دليل على أنّ قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ ) آية مستقلة وردت في ضمن الآية لمصلحة ربما نشير إليها.

إنّ الأحاديث على كثرتها صريحة في نزول الآية وحدها ، ولم يرد حتى في رواية واحدة نزولها في ضمن آيات نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا ذكره أحد حتى القائل باختصاص الآية بأزواج النبي كما ينسب إلى عكرمة وعروة ، فالآية لم تكن حسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي ولا متصلة بها ، وانّما وضعت إمّا بأمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أو عند التأليف بعد الرحلة.

ويؤيده أنّ آية ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) باقية على انسجامها واتصالها لو قدّر ارتفاع آية التطهير من بين جملها. (2)

وليس هذا أمراً بدعاً فله نظير في القرآن الكريم.

فقد تضافرت السنّة ، وروى الفريقان أن قوله سبحانه : ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا (3) ) نزلت في غدير خم عندما نصّب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم علياً إماماً للأُمّة وولياً للمؤمنين ، مع أنّه في المصاحف جزء الآية الثالثة من « سورة المائدة » التي تبيّن أحكام اللّحوم ، وإليك نفس الآية في مقاطع

ص: 169


1- الأحزاب : 34.
2- الميزان : 16 / 330.
3- المائدة : 3.

ثلاثة :

ألف. ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) . (1)

ب. ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) .

ج. ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) . (2)

فإذا رفعنا الجزء الثاني يحصل من ضم الأوّل إلى الثالث آية تامة من دون طروء خلل في مضمونها ونظمها ، وذلك دليل على أنّ الجزء الثاني آية مستقلة وردت في ضمن آية أُخرى بتصويب صاحب الشريعة الغراء أو بتصويب من جامعي القرآن بعد رحلته صلى اللّه عليه وآله وسلم .

أضف إلى ذلك أنّ مضمون الآية - أعني : أحكام اللحوم - قد ورد في آيات أُخر من دون أن تشتمل على هذه الزيادة ، فهذه قرينة على أنّ ما ورد في الأثناء ليس من صميم الآية في سورة المائدة ، وإنّما وضع في أثنائها بأمر من النبي الأكرم لمصلحة عامة نشير إليها.

ما هو السر في جعلها جزءاً من آية أُخرى

قد اتضح مما ذكرنا أن القرآن الكريم إنّما انتقل إلى موضوع أهل البيت

ص: 170


1- المائدة : 3.
2- المائدة : 3.

وخطابهم لأجل إعلام نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بأنّهن في جوار هؤلاء المطهرين فيحب عليهن القيام بأداء حقوق هؤلاء العظماء ، الذين ميّزهم اللّه تعالى عن غيرهم من هذه الأُمّة بالتطهير والعصمة والاقتداء بهم في القول والسلوك.

ولكن يبقى هنا سؤال آخر ، وهو أنّه إذا كانت الآية ، آية مستقلة فلماذا جاءت في المصحف جزءاً من آية أُخرى ، ولم تكتب بصورة آية تامّة في جنب الآيات الأُخرى ؟

الجواب : التاريخ يطلعنا بصفحات طويلة على موقف قريش وغيرهم من أهل البيت عليهم السلام ، فإنّ مرجل الحسد ما زال يغلي والاتجاهات السلبية ضدهم كانت كالشمس في رابعة النهار ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن تجعل الآية في ثنايا الآيات المتعلّقة بنساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من أجل تخفيف الحساسية ضد أهل البيت ، وان كانت الحقيقة لا تخفى على من نظر إليها بعين صحيحة ، وأنّ الآية تهدف إلى جماعة أُخرى غير نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كما بيّناه قبل قليل.

وللسيد عبد الحسين شرف الدين هنا كلام ربّما يفصل ما أجملناه فإنّه - قدّس اللّه سرّه - بعد ما أثبت أنّ قوله سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1) منزل في حق الإمام أمير المؤمنين عليه السلام طرح سؤالاً ، وهو أنّه إذا كان أمير المؤمنين عليه السلام هو المراد من الآية فلماذا عبر عن المفرد بلفظ الجمع ؟

فقال : إنّ العرب قد تعبّر عن المفرد بلفظ الجمع لنكتة التعظيم حيث يستوجب ، ثم قال : وعندي في ذلك نكتة ألطف وأدق ، وهي أنّه إنّما أُتي بعبارة الجمع دون عبارة المفرد بُقياً منه تعالى على كثير من الناس ، فإنّ شانئي علي وأعداء

ص: 171


1- المائدة : 55.

بني هاشم وسائر المنافقين وأهل الحسد والتنافس لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد إذ لا يبقى لهم حينئذ مطمع في التمويه ولا ملتمس في التضليل فيكون منهم بسبب يأسهم حينئذ ما تخشى عواقبه على الإسلام فجاءت الآية بصيغة الجمع مع كونها للمفرد اتقاء من معرتهم ، ثم كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة ومقامات متعددة وبث فيهم أمر الولاية تدريجاً حتى أكمل اللّه الدين وأتمَّ النعمة جرياً منه صلى اللّه عليه وآله وسلم على عادة الحكماء في تبليغ الناس ما يشق عليهم ، ولو كانت الآية بالعبارة المختصة بالمفرد لجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً ، وهذه الحكمة مطردة في كل ما جاء في القرآن الحكيم من آيات فضل أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين كما لا يخفى ، وقد أوضحنا هذه الجمل وأقمنا عليها الشواهد القاطعة والبراهين الساطعة في كتابينا « سبيل المؤمنين » و « تنزيل الآيات » والحمد لله على الهداية والتوفيق والسلام.(1).

ص: 172


1- المراجعات : المراجعة : 42 ص 166.
نظريات أُخرى في تفسير الآية

قد عرفت القولين المعروفين حول الآية ، كما عرفت الحق الواضح منهما ، فهلم معي ندرس سائر الأقوال الشاذة التي لا تعتمد على ركن وثيق وإنّما هي آراء مختلقة لأجل الفرار من المشاكل المتوجهة إلى ثاني القولين ، ونحن نذكرها واحداً بعد آخر على نحو الإيجاز :

1. المراد من « البيت » هو بيت اللّه الحرام والمراد من أهله هم المقيمون حوله.

2. المراد من « البيت » هو مسجد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم والمراد من أهله هم القاطنون حوله ، وكان لبيوتهم باب إلى المسجد.

3. المراد من تحرم عليهم الصدقة وهم ولد أبي طالب : علي ، جعفر ، وعقيل ، وولد العباس.

4. المراد من البيت بيت النسب والحسب ، فيعم أبناء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ونساءه.(1)

وهذه الوجوه كلّها عليلة ، أمّا الأوّل والثاني ، فلأنّ إطلاق « أهل البيت » واستعماله في أهل مكة والمدينة استعمال بعيد لا يحمل عليه الكلام إلاّ بقرينة قطعية ، والمتبادر منه هو أهل بيت الرجل ، وعلى ذلك جرى الذكر الحكيم في موردين أحدهما في قصة إبراهيم قال سبحانه : ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .(2)وثانيهما في قصة موسى قال سبحانه : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ ) .(3)

أضف إليه أنّ الآية واقعة في سياق البحث عن نساء النبي ، فصرف الآية عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وإرجاعها إلى من جاور بيت اللّه أو من بات حول مسجده لا يساعد عليه

ص: 173


1- لاحظ في الوقوف على هذه الأقوال تفسير الطبري : 22 / 5 - 7 ؛ وتفسير القرطبي : 14 / 182 ؛ ومفاتيح الغيب للرازي : 6 / 615 ؛ والكشاف : 2 / 538 ؛ وغيرها.
2- هود : 73.
3- القصص : 12.

ظاهر الآيات أبداً.

ويتلوهما الثالث : فإنّ تفسير « أهل بيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم » بمن تحرم عليه الصدقة من صلب أبي طالب والعباس تفسير بلا شاهد ، وكأنّه حمل البيت على البيت النسبي ، أضف إليه أنّ الصدقة غير محرمة على خصوص أبنائهما ، بل هي محرمة على أبنائهما وكل من كان من نسل عبد المطلب.

قال الشيخ الطوسي في الخلاف : تحرم الصدقة المفروضة على بني هاشم من ولد أبي طالب العقيليين والجعافرة والعلويين ، وولد العباس بن عبد المطلب ، وولد أبي لهب ، وولد الحارث بن عبد المطلب ، ولا عقب لهاشم إلاّ من هؤلاء ، ولا يحرم على ولد المطلب ، ونوفل ، وعبد شمس بن عبد مناف ، قال الشافعي : تحرم الصدقة المفروضة على هؤلاء كلهم وهم جميع ولد عبد مناف.(1)

وقال بمثله أيضاً في كتاب قسمة الصدقات : 2 / 353 ، المسألة 26.

وعلى ذلك فليس لهذه النظرية دليل سوى ما رواه مسلم عن زيد بن أرقم ، وقد قدمنا نصّه عند ذكر الأحاديث الواردة حول الآية.(2)

وأمّا النظرية الرابعة : فقد ذهب إليها بعضهم ، جمعاً بين الأحاديث المتضافرة الحاكية عن نزول الآية في العترة الطاهرة ، وسياق الآيات الدالة على رجوعها إلى نسائه ، فحاول القائل الجمع بين الدليلين بتفسير الآية بأولاده وأزواجه ، وجعل عليّاً أيضاً منهم بسبب معاشرته وملازمته للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .

قال الرازي : والأولى أن يقال هم : أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي معهم ، لأنّه كان من أهل بيته بسبب معاشرته بيت النبي وملازمته.(3)

وقال البيضاوي : والتخصيص بهم أولاده لا يناسب ما قبل الآية .

ص: 174


1- الخلاف : 2 / 227 ، المسألة 4 كتاب الوقوف والصدقات.
2- لاحظ ص 150 ، الحديث 35.
3- مفاتيح الغيب : 6 / 615.

وما بعدها ، والحديث يقتضي أنّهم من أهل البيت لا أنّ غيرهم ليس منهم.(1)

وقال المراغي : أهل بيته من كان ملازماً له من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب.(2)

وهذه النظرية موهونة أيضاً

أوّلاً : انّ اللام في « أهل البيت » ليس للجنس ولا للاستغراق ، بل هي لام العهد وهي تشير إلى بيت معهود بين المتكلم والمخاطب ، وهو بيت واحد ، ولو صح ذلك القول لوجب أن يقول « أهل البيوت » حتى يعم الأزواج والأولاد وكل من يتعلّق بالنبي نسباً أو حسباً أو لعلاقة السكنيّة مثل الإماء.

والحاصل : انّه لو أُريد « بيت النبي » المادي الجسماني لا يصح ، إذ لم يكن له بيت واحد ، بل كان لكل واحدة من نسائه بيت مشخص ، فكان النبي صاحب البيوت لا البيت الواحد.

ولو أُريد منه بيت النسب ، كما يقال : بيت من بيوتات « حمير » أو « ربيعة » ، فلازمه التعميم إلى كل من ينتمي إلى هذا البيت بنسب أو سبب ، مع أنّه كان بعض المنتمين إليه يوم نزول الآية من عبدة الوثن وأعداء النبي ، فإنّ سورة الأحزاب نزلت سنة ست من الهجرة ، وقد ورد فيها زواج النبي من زينب بنت جحش ، وهو حسب ما ذكره صاحب « تاريخ الخميس » من حوادث سنة الخمس ، وعلى ذلك فلا تتجاوز الآيات النازلة في نساء النبي عن هذا الحد وكان عند ذاك ، بعض من ينتمي إلى النبي بالنسب مشركاً ، كأبي سفيان بن عبد المطلب ابن عم رسول اللّه ، وعبد اللّه بن أُمية بن المغيرة ابن عمته ، وقد أسلما في عام الفتح ، وأنشد الأوّل قوله في إسلامه واعتذر إلى النبي ممّا كان مضى منه فقال :

ص: 175


1- أنوار التنزيل : 4 / 162.
2- تفسير المراغي : 22 / 7.

لعمرك إنّي يوم أحمِلُ رايةً *** لتَغْلِبَ خَيلَ اللات ، خيلُ محمدُ

لكا لمُدلج الحيرانِ أظلم ليلُهُ *** فهذا أواني حين أُهدي وأهْتدي(1)

ولو أُريد منه « بيت الوحي » فلازمه الاختصاص بمن بلغ من الورع والتقوى ذروتهما ، حتى يصح عدّه من أهل ذلك البيت الرفيع المعنون ، ومثله لا يعم كل من ينتمي بالوشائج النسبية أو الحسبية إلى هذا البيت ، وإن كان في جانب الإيمان والعمل في درجة نازلة تلحقه بالعاديين من المسلمين.

ثانياً : قد عرفت أنّ الإرادة الواردة في الآية تكوينية تعرب عن تعلّق إرادته الحكيمة على عصمة أهل ذلك البيت ، ومعه كيف يمكن القول بأنّ المراد كل من ينتمي إلى ذلك البيت بوشائج النسب والحسب ؟!

ثالثاً : انّ النظرية في جانب مخالف للأحاديث المتضافرة الدالة على نزول الآية في حق العترة الطاهرة ، وقد قام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بتفسيرها بوجوه مختلفة أوعزنا إليها عند البحث عن القول الأوّل ، والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هو المبين الأوّل لمفاد كتابه الذي أرسل معه قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .(2)

فليست وظيفة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم القراءة والتلاوة بل التبيين والتوضيح من وظائفه التي تنص الآية عليها.

هذا هو موجز القول في تفسير الآية ولا بأس بإكمال البحث بنقل بعض ما أنتجته قريحة الشعراء الإسلاميين حول أهل البيت وفضائلهم ، على وجه يعرب عن أنّ المتبادر من ذلك اللفظ في القرون الإسلامية لم يكن إلاّ العترة الطاهرة ، أعني : فاطمة وأباها وبعلها وابنيها سلام اللّه عليهم أجمعين ، وإليك نزراً يسيراً في هذا المجال.

ص: 176


1- السيرة النبوية : 2 / 401.
2- النحل : 44.
خاتمة المطاف: أهل البيت في الأدب العربي
اشارة

ما حقَّقناه حول الآية كان أمراً واضحاً لا لبس فيه عند المسلمين في الصدر الأوّل فقد فهموا عن الآية الكريمة وبفضل الروايات من هم أهل البيت من دون تردّد أو تريّث ، وصاغوا ما فهموه في قوالب شعرية رائعة ، فنقتطف منها هذه الشذرات.

قال عمرو بن العاص في قصيدته الجلجلية المعروفة يمدح بها الإمام علي ابن أبي طالب ، وفيها هذا البيت في حق العترة الطاهرة :

فوال مواليه يا ذا الجلال *** وعاد معادي أخ المرسل

ولا تنقضوا العهد من عترتي *** فقاطعهم بي لم يوصل(1)

وقال الكميت بن زيد الأسدي في قصيدة له :

ص: 177


1- الغدير : 2 / 115.

ألم ترني من حب آل محمد *** أروح وأغدو خائفاً أترقب

فإن هي لم تصلح لحي سواهم *** فإنّ ذوي القربى أحق وأوجب

يقولون لم يورث ولولا تراثه *** لقد شركت فيها بكيل وأرحب (1)

قال العبدي الكوفي ( المتوفّى 120 ه ) :

ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم *** مذاهبهم في أبحر الغي والجهل

ركبت على اسم اللّه في سفن النجا *** وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل

وأمسكت حبل اللّه وهو ولاؤهم *** كما قد أمرنا بالتمسّك بالحبل (2)

وقال الإمام الشافعي :

يا أهل بيت رسول اللّه حبكم *** فرض من اللّه في القرآن أنزله

ص: 178


1- الغدير : 2 / 191.
2- الغدير : 2 / 290 - 326.

كفاكم من عظيم القدر أنّكم *** من لم يصل عليكم لا صلاة له(1)

وذكر ابن الصباغ المالكي في « الفصول » لقائل :

هم العروة الوثقى لمعتصم بها *** مناقبهم جاءت بوحي وانزال

مناقب في شورى وسورة هل أتى *** وفي سورة الأحزاب يعرفها التالي

وهم آل بيت المصطفى فودادهم *** على الناس مفروض بحكم وإسجال(2)

وذكر الشبلنجي في « نور الأبصار » عن أبي الحسن بن جبير :

أحب النبيّ المصطفى وابنَ عمه *** علياً وسبطيه وفاطمة الزهرا

هم أهل بيت أذهب الرجس عنهم *** وأطلعهم أفق الهدى أنجماً زهرا

موالاتهم فرض على كل مسلم *** وحبهم أسنى الذخائر للأُخرى

ص: 179


1- الغدير : 2 / 303.
2- الغدير : 2 / 310 - 311 ، نقلاً عن الفصول : 13.

وما أنا للصحب الكرام بمبغض *** فإنّي أرى البغضاء في حقهم كفرا (1)

وقال العبدي :

يا سادتي يا بني علي *** يا « آل طه » و « آل صاد »

من ذا يوازيكم وأنتم *** خلائف اللّه في البلاد

أنتم نجوم الهدى اللواتي *** يهدي بها اللّه كل هاد

لولا هداكم إذاً ضللنا *** والتبس الغي بالرشاد

لازلت في حبكم أوالي *** عمري وفي بغضكم أعادي

وما تزودت غير حبي *** إياكم وهو خير زاد

وذاك ذخري الذي عليه *** في عرصة الحشر اعتمادي

ص: 180


1- الغدير : 2 / 311 ، نقلاً عن نور الأبصار : 13.

ولاكم والبراءة ممن *** يشنأكم اعتقادي (1)

وقال دعبل الخزاعي :

أتسكب دمع العين بالعبرات *** وبتَّ تقاسي شدّة الزفرات ؟!

وتبكي لآثار لال محمد *** فقد ضاق منك الصدر بالحسرات

ألا فابكهم حقّاً وبلَّ عليهم *** عيوناً لريب الدهر منسكبات

ولا تنس في يوم الطفوف مصابهم *** وداهية من أعظم النكبات

سقى اللّه أجداثاً على أرض كربلا *** مرابيع أمطار من المزنات

وصلّي على روح الحسين حبيبه *** قتيلاً لدى النهرين بالفلوات

قتيلاً بلا جرم فجعنا بفقده *** فريداً ينادي : أين أين حماتي

ص: 181


1- الغدير : 2 / 317.

أنا الظامئ العطشان في أرض غربة *** قتيلاً ومظلوماً بغير ترات

وقد رفعوا رأس الحسين على القنا *** وساقوا نساءً ولّهاً خفرات

فقل لابن سعد عذب اللّه روحه *** ستلقى عذاب النار باللعنات

سأقنت طول الدهر ما هبت الصبا *** واقنت بالآصال والغدوات

على معشر ضلّوا جميعاً وضيّعوا *** مقال رسول اللّه بالشّبهات (1)

وقال أيضاً :

نطق القرآن بفضل آل محمد *** وولاية لعليّه لم تجحد

بولاية المختار من خير الذي *** بعد النبي الصادق المتودد (2)

ص: 182


1- الغدير : 2 / 381 - 382.
2- الغدير : 2 / 381 - 382.

وقال الحماني ( المتوفّى 301 ه ) :

يا آل حاميم الذين بحبهم *** حكم الكتاب منزَّلٌ تنزيلا

كان المديح حُلى الملوك وكنتم *** حلل المدايح غرّةً وحجولا

بيت إذا عَدَّ المآثر أهله *** عدّوا النبي وثانياً جبريلا

قوم إذا اعتدلوا الحمايل أصبحوا *** متقسِّمين خليفة ورسولا

نشأوا بآيات الكتاب فما انثنوا *** حتى صدرن كهولة وكهولا

ثقلان لن يتفرَّقا أو يطفيا *** بالحوض من ظما الصدور غليلا

وخليفتان على الأنام بقوله *** الحق اصدق من تكلم قيلا

فأتوا أكف الآيسين فأصبحوا *** ما يعدلون سوى الكتاب عديلا (1)

ص: 183


1- الغدير : 3 / 66.

وقال العجلوني ( المتوفّى 1162 ه ) :

لقد حاز آل المصطفى أشرف الفخر *** بنسبتهم للطاهر الطيَّب الذكر

فحبهم فرض على كل مؤمن *** أشار إليه اللّه في محكم الذكر

ومن يدعي من غيرهم نسبة له *** فذلك ملعون أتى أقبح الوزر

وقد خص منهم نسل زهراء الأشرف *** بأطراف تيجان من السندس الخضر

ويُغنيهمُ عن لبس ما خصَّهم به *** وجوهٌ لهم أبهى من الشمس والبدر

ولم يمتنع من غيرهم لبس أخضر *** على رأي من يعزى لاسيوط ذي الخبر

وقد صححوا عن غيره حرمة الذي *** رآه مباحاً فاعلم الحكم بالسبر (1)

وقال جرير بن عبد اللّه البجلي :

فصلى الإله على أحمد *** رسول المليك تمام النعم

ص: 184


1- الغدير : 3 / 173.

وصلى على الطهر من بعده *** خليفتنا القائم المدَّعْم

عليّاً عنيت وصي النبي *** يجالد عنه غواة الأُمم

له الفضل والسبق والمكرما *** ت وبيت النبوّة لا المهتضم(1)

وقال الزاهي ( المتوفّى 352 ه ) :

يا سادتي يا آل ياسين فقط *** عليكم الوحي من اللّه هبط

لولاكم لم يقبل الفرض ولا *** رحا لبحر العفو من أكرم شط

أنتم ولاة العهد في الذرِّ ومن *** هواهم اللّه علينا قد شرط

ما أحد قايسكم بغيركم *** ومازج السلسل بالشرب اللمط

إلاّ كمن ضاهى الجبال بالحصى *** أو قايس الأبحر جهلاً بالنقط(2).

ص: 185


1- الغدير : 3 / 233.
2- الغدير : 3 / 391.

وقال أيضاً ضمن أبيات :

هم آل أحمد والصيد الجحاجحة الز *** هر الغطارفة العلوية الغرر

وقال أيضاً :

يا آل أحمد ماذا كان جرمكم *** فكل أرواحكم بالسيف تنتزع (1)

قال الناشئ الصغير ( المتوفّى 365 ه ) :

بآل محمّد عرف الصواب *** وفي أبياتهم نزل الكتاب

هم الكلمات والأسماء لاحت *** لآدم حين عزّ له المتاب

وهم حجج الإله على البرايا *** بهم وبحكمهم لا يستراب

إلى آخر الابيات التي يقول فيها :

يقول لقد نجوت بأهل بيت *** بهم يصلى لظى وبهم يثاب

ص: 186


1- الغدير : 3 / 396.

هم النبأ العظيم وفلك نوح *** وباب اللّه وانقطع الخطاب(1)

وقال البشنوي الكردي ( المتوفّى بعد 380 ه ) :

أليّة ربي بالهدى متمسكاً *** باثني عشر بعد النبي مراقباً

أبقي على البيت المطهر أهله *** بيوت قريش للديانة طالباً(2)

وقال أيضاً :

يا ناصبي بكل جهدك فاجهد *** إنّي علقت بحب آل محمد

الطيبين الطاهرين ذوي الهدى *** طابوا وطاب وليهم في المولد

واليتهم وبرئت من أعدائهم *** فاقلل ملامك لا أباً لك أوزد

فهم أمان كالنجوم وانّهم *** سفن النجاة من الحديث المسند(3).

ص: 187


1- الغدير : 4 / 25.
2- الغدير : 4 / 35.
3- الغدير : 4 / 38.

وقال الصاحب بن عبّاد ( المتوفّى 385 ه ) :

أُواليكم يا آل بيت محمد *** فكلّكم للعلم والدين فرقد

وأترك من ناواكم وهو هتكه *** ينادى عليه مولد ليس يحمد(1)

وقال ابن الحجاج البغدادي ( المتوفّى 391 ه ) :

فما وجدت شفاء تستفيد به *** إلا ابتغاءك تهجو آل ياسين

كافاك ربُّك إذ أجرتك قدرته *** بسب أهل العلا الغرِّ الميامين

إلى أن يقول :

وانّ أجر ابن سعد في استباحة *** آل النبوّة أَجر غير ممنون(2)

وقال أبو الفتح كشاجم ( المتوفّى 360 ه ) من قصيدة :

له في البكاء على الطاهرين *** مندوحة عن بكاء الغزل

ص: 188


1- الغدير : 4 / 60.
2- الغدير : 4 / 89.

فكم فيهم من هلال هوى *** قبيل التمام وبدر أفل

هم حجج اللّه في خلقه *** ويوم المعاد على من خذل

ومن أنزل اللّه تفضيلهم *** فردَّ على اللّه ما قد نزل

فجدّهم خاتم الأنبياء *** ويعرف ذاك جميع الملل(1)

وقال أيضاً :

آل النبي فضّلتم *** فضل النجوم الزاهرة

وبهرتم أعداءكم *** بالمأثرات السائرة(2)

وقال أبو محمد الصوري الشاعر ( المتوفّى 419 ه ) :

فهل ترك البين من أرتجيه *** من الأوّلين والآخرينا

ص: 189


1- الغدير : 4 / 3.
2- الغدير : 4 / 17.

سوى حب آل نبي الهدى *** فحبهم أمل الآملينا

هم عدّتي لوفاتي هم *** نجاتي هم الفوز للفائزينا(1)

وقال من قصيدة في أهل البيت :

بماذا ترى تحتجُّ يا آل أحمد *** على أحمد فيكم إذا ما استعدت

وأشهر ما يروونه عنه قوله *** تركت كتاب اللّه فيكم وعترتي

ولكن دنياهم سعت فسعوا لها *** فتلك التي فلّت ضميراً عن التي(2)

وقال أيضاً من قصيدة :

فلهذا أبناء أحمد أبناء علي *** طرايد الآفاق

فقراء الحجاز بعد الغنى الأكبر *** أسرى الشام قتلى العراق

ص: 190


1- الغدير : 4 / 222 و 225.
2- الغدير : 4 / 227.

جانبتهم جوانب الأرض حتى *** خلت انّ السماء ذات انطباق

ان أقصر يا آل أحمد أو أغر *** ق كان التقصير كالإغراق(1)

وقال الشبراوي الشافعي في كتابه « الاتحاف بحب الأشراف » :

آل طه ومن يقل آل طه *** مستجيراً بجاهكم لا يرد

حبكم مذهبي وعقد يقيني *** ليس لي مذهب سواه وعقد(2)

وقال أيضاً في قصيدة أُخرى :

آل بيت النبي ما لي سواكم *** ملجأ أرتجيه للكرب في غد

لست أخشى ريب الزمان وأنتم *** عمدتي في الخطوب يا آل أحمد

من يضاهي فخاركم آل طه *** وعليكم سرادق العز ممتد

ص: 191


1- الغدير : 4 / 227 - 228.
2- الإتحاف بحبّ الأشراف : 99.

إلى أن يقول في قصيدته هذه :

يا إلهي ما لي سوى حب آل البيت *** آل النبي طه الممجد

أنا عبد مقصر لست أرجو *** عملاً غير حب آل محمد (1)

وقال أيضاً من قصيدة :

يا كرام الأنام يا آل طه *** حبكم مذهبي وعقد ولائي

ليس لي ملجأ سواكم وذخر *** أرتجيه في شدتي ورخائي

فاز من زار حيكم آل طه *** وجنا منكم ثمار العطاء(2)

وقال أيضاً في قصيدة :

أنا في عرض آل بيت نبي *** طهر اللّه بيتهم تطهيراً

سادة أتقياء أعطاهم اللّه *** مقاماً ضخماً وملكاً كبيراً

ص: 192


1- الإتحاف بحب الأشراف : 100 و 101.
2- الإتحاف بحب الأشراف : 100 و 101.

إلى أن يقول :

يا بحور الكمال يا آل طه *** كم مننتم وكم جبرتم كسيراً

هل على غير بيتهم نزل الو *** حي بجبريل خادماً مأموراً

هل سواكم قد أذهب اللّه عنه الرج *** س نصّاً في ذكره مسطوراً(1)

( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )(2)

الشيعة وآية التطهير

استدلت الشيعة عن بكرة أبيها بآية التطهير على عصمة العترة الطاهرة ، وأفاض المفسرون منهم القول حول الآية وأتوا ببيانات شافية في وجه دلالتها على عصمتهم.

وهناك جماعة من العلماء قاموا بتأليف رسائل مفردة حول دلالتها وشأن نزولها ، نشير إلى ما وقفنا عليه في ما يلي :

1. « السحاب المطير في تفسير آية التطهير » ، للسيد السعيد القاضي نور اللّه المرعشي الشهيد عام 1019 ه.

ص: 193


1- الإتحاف بحبّ الأشراف : 106 - 109.
2- الأنعام : 90.

2. « تطهير التطهير » ، تأليف الفاضل الهندي ( المتوفّى عام 1035 ه ).

3. « شرح تطهير التطهير » ، تأليف السيد عبد الباقي الحسيني كتبه شرحاً لكتاب الفاضل الهندي.

4. « إذهاب الرجس عن حظيرة القدس » ، للعلاّمة الشيخ عبد الكريم بن محمد طاهر القمي.

5. « الصور المنطبعة » ، له أيضاً في هذا المجال.

6. « أقطاب الدوائر » ، للعلاّمة عبد الحسين بن مصطفى أحد علمائنا في القرن الثاني عشر فرغ منه عام 1138 ه ، وطبع عام 1403 ه.

7. « تفسير آية التطهير » ، تأليف الشيخ إسماعيل بن زين العابدين التبريزي الملقّب بمصباح ( المتوفّى عام 1300 ه ).

8. التنوير في ترجمة رسالة « آية التطهير » باللغة الأوردية ، تأليف السيد عباس الموسوي ، طبع في الهند عام 1341 ه ، وهو ترجمة لرسالة السيد القاضي نور اللّه.

9. « جلاء الضمير في حل مشكلات آية التطهير » ، للشيخ محمد البحراني ، طبع في بُمباي عام 1325 ه.

10. رسالة قيمة في تفسير آية التطهير ، للعلاّمة المحقق الشيخ لطف اللّه الصافي ، طبعت عام 1403 ه من منشورات دار القرآن الكريم في قم المقدسة ، وله رسالة أُخرى في العصمة طبعت معها ، حيّاه اللّه وبيّاه.

11. « آية التطهير » في جزءين ، للسيد الجليل علي الأبطحي ، وقد استقصى الكلام فيها حول المأثورات الواردة فيها في الجزء الأوّل ، ودلالتها على العصمة في الجزء الثاني.

ص: 194

12. « آية التطهير » ، للشيخ محمد مهدي الآصفي وهي دراسة حول مداليل الآية الكريمة ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ ... ) واختصاصها بأهل البيت عليهم السلام نشرتها مؤسسة دار القرآن الكريم في قم المقدسة سنة 1411 ه.

13. « آية التطهير ، رؤية مبتكرة » ، لآية اللّه الشيخ محمد الفاضل اللنكراني ، طبع في إيران 1970 م بالفارسية. و 1987 م بالعربيَّة.

14. « آية التطهير في الخمسة أهل الكساء » ، للسيد محيي الدين الموسوي الغريفي ، طبع في النجف الأشرف - 1377 ه / 1958 م.

15. أخيرها - لا آخرها - ما قدمناه لكم في هذه الصحائف لكاتب هذه السطور ، عفا اللّه عنه ، ورزقه شفاعة محمد وأهل بيته يوم لا ينفع مال ولا بنون.

ص: 195

ص: 196

الفصل الثاني: سمات أهل البيت عليهم السلام

اشارة

قد تعرَّفت على من هم أهل البيت من خلال التعريف بالحدِّ التامّ الذي عرَّف به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أهل بيته ، أهل بيت النبوّة والرّسالة ، وكأن َّالتعريف السابق كان بمنزلة التعريف بالحدّ أي التعريف بالذات.

ويمكن أن نتعرف عليهم من خلال التعريف على سماتهم وخصوصيّاتهم الّتي تشبه التعريف بالرّسم والتعريف بالعرضي.

وسماتهم وخصوصيّاتهم كثيرة مبثوثة في ثنايا الآيات والأحاديث النبويَّة ، ولكن نقتصر في المقام على ما ورد من السمات في الذكر الحكيم.

ص: 197

ص: 198

من سمات أهل البيت عليهم السلام
1. العصمة
اشارة

لقد تعرفت على ما هو المراد من أهل البيت في الآية المباركة على وجه لم يدع لقائل كلمة ، ولا لمجادل شبهة ، في أنّ المقصود منه هو العترة الطاهرة قرناء الكتاب في كلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم :

فحان البحث للتطرق إلى سماتهم وخصوصياتهم ، وهي على قسمين :

1. ما يستفاد من الآية الشريفة.

2. ما يستفاد من سائر الآيات.

أمّا الأوّل ، فالآية - بعد الإمعان فيها - تدلّ على عصمتهم وطهارتهم من الذنوب ، ويعلم ذلك من خلال دراسة أمرين :

1. ما هو المراد من الرجس ؟
اشارة

2. هل الارادة في الآية المباركة إرادة تكوينية أو تشريعية ؟ 1. ما هو المراد من الرجس ؟

المراد من الرجس : هو القذارة الأعم من المادية والمعنوية ، وقد اتفق على ذلك أئمّة اللغة.

قال ابن فارس : الرجس : أصل يدل على اختلاط ، ومن هذا الباب :

ص: 199

الرجس : القذر لأنّه لطخ وخلط.(1)

وقال ابن منظور : الرجس : القذر ، وكل قذر رجس ، وفي الحديث : أعوذ بك من الرجس النجس. وقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح والعذاب واللعن والكفر. قال الزجّاج : الرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل ... فبالغ اللّه في ذم أشياء وسمّاها رجساً ، وقال ابن الكلبي : رجس من عمل الشيطان أي مأثم.(2)

وقد استعملت هذه اللفظة في الذكر الحكيم ثمانية مرات : ووصف به الخمر والميسر والأنصاب والأزلام والكافر غير المؤمن باللّه والميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والأوثان وقول الزور ... إلى غير ذلك من الموارد التي وصفت به في الذكر الحكيم.

ونكتفي بنقل بعض الآيات قال سبحانه : ( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) .(3)

وقال سبحانه : ( إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) .(4)

وقال سبحانه : ( كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ(5)) ، إلى غير ذلك من الآيات.

والمتفحص في كلمات أئمّة أهل اللغة ، والآيات الواردة فيها تلك اللفظة ،

ص: 200


1- معجم مقاييس اللغة : 2 / 490.
2- لسان العرب : 6 / 94 - 95 ، مادة « رجس ».
3- المائدة : 90.
4- الأنعام : 145.
5- الأنعام : 125.

يصل إلى أنّها موضوعة بمعنى القذارة التي تستنفر منها النفوس ، سواءً أكانت مادية ، كما وردت في الآيات ، أم معنوية كما هو الحال في الكافر وعابد الوثن ووثنه.

فلو وصف به العمل القبيح عرفاً أو شرعاً ، فلأجل انّ العمل القبيح يوصف بالقذارة التي تستنفرها الطباع السليمة ، وعلى هذا فالمراد من الرجس في الآية هي الأعمال القبيحة عرفاً أو شرعاً ، ويدل عليه قوله سبحانه بعد تلك اللفظة : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، فليس المراد من هذا التطهير إلاّ تطهيرهم من الرجس المعنوي الذي لا تقبله النفوس السليمة.

وقد ورد نظير قوله : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) في حق السيدة مريم عليها السلام ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) .(1)

نعم : انّ لتطهير النفوس وطهارتها مراتب ودرجات ، ولا تكون جميعها مستلزمة للعصمة ، وانّما الملازم لها هو الدرجة العليا ، قال سبحانه : ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) .(2)

قال العلاّمة الطباطبائي : الرجس - بالكسر والسكون - صفة من الرجاسة وهي القذارة ، والقذارة هيئة في النفس توجب التجنّب والتنفّر منها ، وهي تكون تارة بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير ، قال تعالى : ( أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) وبحسب باطنه ، أُخرى ، وهي الرجاسة والقذارة المعنوية كالشرك والكفر وأثر العمل السيّء ، قال تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ )(3)، وقال : ( وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا

ص: 201


1- آل عمران : 42.
2- التوبة : 108.
3- التوبة : 125.

حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .(1)

وأيّاً ما كان فهو إدراك نفساني وأثر شعوري يحدث من تعلّق القلب بالاعتقاد الباطل أو العمل السيّء وإذهاب الرجس عبارة عن إزالة كل هيئة خبيثة في النفس تضاد حق الاعتقاد والعمل ، وعند ذلك يكون إذهاب الرجس معادلاً للعصمة الإلهية التي هي صورة علمية نفسانية ، تحفظ الإنسان من رجس باطني الاعتقاد وسيّء العمل.(2)

المنفي مطلق الرجس

إذا كان المراد من الرجس في الآية الكريمة هو الأفعال القبيحة عرفاً أو شرعاً والمعاصي صغيرها وكبيرها ، فيجب أن يقال : إنّ المنفي في الآية هو عموم الرجس ، وذلك لأنّ المنفي هو جنس الرجس لا نوعه ولا صنفه ، ونفي الجنس يلازم نفي الطبيعة بعامة مراتبها ، ولأجل ذلك لم يكتف سبحانه بقوله : ( لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) بل أكّده بقوله : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، فلو كان المراد نفي قسم خاص من الرجس - أعني : الشرك ، أو الأوسع منه كالمعاصي الكبيرة - لما كان لهذه العناية وجه.

والحاصل : انّ المفهوم من قول القائل لا خير في الحياة ، أو لا رجل في الدار ، هو المفهوم من قوله : ليذهب عنكم الرجس ، والتفكيك بين المقامين غير مقبول.هذا هو الأمر الأوّل وإليك الكلام في الأمر الثاني :

ص: 202


1- الأنعام : 125.
2- الميزان : 16 / 330.
2. هل الإرادة في الآية تكوينية أم تشريعية ؟
اشارة

إنّ انقسام إرادته سبحانه إلى تكوينية وتشريعية من الانقسامات الواضحة التي لا تحتاج إلى بسط في القول ، ومجمل القول فيها هو انّه إذا تعلّقت إرادته سبحانه على إيجاد شيء وتكوينه في صحيفة الوجود ، فهي الإرادة التكوينية ولا تتخلّف تلك الإرادة عن مراده ، وربّما يعبّر عنها بالأمر التكويني قال سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) . (1)

ففي هذا المجال يكون متعلّق الإرادة تكوّن الشيء وتحقّقه وتجسّده ، واللّه سبحانه لأجل سعة قدرته ونفوذ إرادته لا تنفك إرادته عن مراده ولا أمره التكويني عن متعلّقه.

وأمّا إذا تعلّقت إرادته سبحانه بتشريع الأحكام وتقنينها في المجتمع حتى يقوم المكلّف مختاراً بواجبه ، فهي إرادة تشريعية ، ففي هذا المجال يكون متعلّق الإرادة تحقيقاً هو التشريع والتقنين ، وأمّا قيام المكلّف فهو من غايات التكليف ، ولأجل ذلك ربّما تترتب عليه الغاية ، وربّما تنفك عنه ، ولا يوجب الانفكاك خللاً في إرادته سبحانه ، لأنّه ما أراد إلاّ التشريع وقد تحقق ، كما انّه ما أراد قيام المكلّف بواجبه إلاّ مختاراً ، فقيامه بواجبه أو عدم قيامه من شعب اختياره ، هذا هو إجمال القول في الإرادتين ، وللتفصيل محل آخر.

والقرائن التي ستمر عليك تدل على أنّ الإرادة في الآية تكوينية لا تشريعية بمعنى انّ إرادته التكوينية التي تعلّقت بتكوين الأشياء وإبداعها في عالم الوجود ، تعلّقت أيضاً بإذهاب الرجس عن أهل البيت ، وتطهيرهم من كل رجس وقذر ، ومن كل عمل يستنفر منه ، وإليك تلك القرائن :

ص: 203


1- يس : 82.

1. انّ الظاهر من الآية هو تعلّق إرادة خاصة بإذهاب الرجس عن أهل البيت ، والخصوصية إنّما تتحقّق لو كانت الإرادة تكوينية ، إذ لو كانت تشريعية لما اختصت بطائفة دون طائفة ، لأنّ الهدف الأسمى من بعث الأنبياء هو إبلاغ تشريعاته ودساتيره إلى الناس عامة لا لأُناس معيّنين ، ولأجل ذلك ترى أنّه سبحانه عندما شرّع للمسلمين الوضوء والغسل بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ... ) علّله بقوله : ( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )(1)خاطب سبحانه المؤمنين عامة بالوضوء والغسل وعلّل تشريعه العام بتطهيرهم وإتمام نعمته عليهم وهذا بخلاف الآية التي نحن بصددها ، فإنّها خصّصت إرادة تطهيره بجمع خاص تجمعهم كلمة « أهل البيت » وخصّهم بالخطاب وقال : « عنكم أهل البيت » أي لا غيركم.

وبالجملة فتخصيص تعلّق الإرادة بجمع خاص على الوجه الوارد في الآية ، يمنع من تفسير الإرادة بالإرادة التشريعية التي عمّت الأُمّة جميعاً.

نعم لا يتوهم من ذلك انّ أهل البيت خارجون عن إطار التشريع ، بل التشريع في كل المجالات يعمّهم كما يعم غيرهم ، ولكن هنا إرادة تكوينية مختصة بهم.

2. انّ العناية البارزة في الآية المباركة أقوى شاهد على أنّ المقصود بالإرادة ، الإرادة التكوينية لا التشريعية ، لوضوح أنّ تعلّق الإرادة التشريعية بأهل البيت لا يحتاج إلى العناية في الآية ، وإليك بيان تلك العناية :

ص: 204


1- المائدة : 6.

أ. ابتدأ سبحانه كلامه بلفظ الحصر ، ولا معنى له إذا كانت الإرادة تشريعية ، لأنّها غير محصورة بأُناس مخصوصين.

ب. عيّن تعالى متعلّق إرادته بصورة الاختصاص ، فقال : ( أَهْلَ الْبَيْتِ ) أي أخصّكم أهل البيت.

ج. قد بيّن متعلّق إرادته بالتأكيد ، وقال بعد قوله : ( لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ... وَيُطَهِّرَكُمْ ) .

د. قد أكّده أيضاً بالإتيان بمصدره بعد الفعل ، وقال : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ليكون أوفى في التأكيد.

ه. انّه سبحانه أتى بالمصدر نكرة ، ليدل على الإكبار والإعجاب ، أي تطهيراً عظيماً معجباً.

و. انّ الآية في مقام المدح والثناء ، فلو كانت الإرادة إرادة تشريعية لما ناسب الثناء والمدح.

وعلى الجملة : العناية البارزة في الآية تدل بوضوح على أنّ الإرادة هناك غير الإرادة العامة المتعلّقة لكل إنسان حاضر أو باد ، ولأجل ذلك فإنّ المحقّقين من المفسرين يفسرون الإرادة في المقام بالإرادة التكوينية ويجيبون عن كل سؤال يطرح عنها.

قال الشيخ الطبرسي : إنّ لفظة ( إِنَّمَا ) محقّقة لما أُثبت بعدها ، نافية لما لم يثبت ، فإنّ قول القائل : إنّما لك عندي درهم ، وإنّما في الدار زيد ، يقتضي انّه ليس عنده سوى الدرهم وليس في الدار سوى زيد ، وعلى هذا فلا تخلو الإرادة في الآية أن تكون هي الإرادة المحضة التشريعية ، أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس ؛ ولا يجوز الوجه الأوّل ، لأنّ اللّه تعالى قد أراد من كل مكلّف هذه الإرادة المطلقة ، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق ، ولأنّ هذا القول يقتضي

ص: 205

المدح والتعظيم لهم بغير شك وشبهة ولا مدح في الإرادة المجرّدة ، فثبت الوجه الثاني ، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيين بالآية من جميع القبائح. (1)

وقال السيد ابن معصوم المدني في تقريب دلالة الآية على عصمة المعنيّين بالآية : إنّ لفظة ( إِنَّمَا ) محقّقة لما أُثبت بعدها ، نافية لما لم يثبت ، فإنّ قول القائل إنّما لك عندي درهم ، وإنّما في الدار زيد ، يقتضي انّه ليس له عنده سوى درهم وليس في الدار سوى زيد ، إذا تقرر هذا فلا تخلو الإرادة في الآية أن تكون هي الإرادة المطلقة أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس ، فلا يجوز الوجه الأوّل ، لأنّ اللّه تعالى قد أراد من كل مكلّف هذه الإرادة المطلقة ، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق. وهذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بغير شك ولا شبهة ولا مدح في الإرادة المجرّدة ، فثبت الوجه الثاني ، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيّين بالآية من جميع القبائح ، لأنّ اللام في الرجس للجنس ، ونفي الماهية نفي لكل جزئياتها ، وقد علمنا أنّ من عدا ما ذكرناه من أهل البيت حين نزول الآية غير مقطوع على عصمته ، فثبت أنّ الآية مختصة بهم ، لبطلان تعلّقها بغيرهم. وما اعتمدوا عليه من أنّ صدر الآية وما بعدها في الأزواج ، فجوابه انّ من عرف عادة العرب العرباء في كلامهم واسلوب البلغاء والفصحاء في خطابهم لا يذهب عليه انّ هذا من باب الاستطراد ، وهو خروج المتكلم من غرضه الأوّل إلى غرض آخر ثم عوده إلى غرضه الأوّل ، واتفقت كلمة أهل البيان على أنّ ذلك من محاسن البديع في الكلام نثراً ونظماً والقرآن المجيد وخطب البلغاء وأشعارهم مملوءة من ذلك. (2)

ص: 206


1- مجمع البيان : 4 / 357 تفسير سورة الأحزاب ؛ وقريب منه ما أفاده الشيخ الطوسي في تبيانه : 8 / 340.
2- رياض السالكين : 497 ، الروضة السابعة والأربعون ، وقد نقلنا عن الطبرسي ما يقرب منه.
أسئلة وأجوبة

قد تعرفت على مفاد الآية : واتضح لديك انّ القرائن الداخلية في نفس الآية تدل بوضوح على أنّ الإرادة الواردة في الآية إرادة تكوينية تعلّقت بطهارة أهل البيت وإذهاب الرجس عنهم ، ويكون وزان الإرادة فيها وزان الإرادة الواردة في الآيات التالية ونظائرها :

1. ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) .(1)

2. ( وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) .(2)

3. ( وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .(3)

وعند ذلك تطرح في المقام أسئلة لا بد من الإجابة عليها :

السؤال الأوّل : هل الإرادة التشريعيّة تتعلَّق بفعل الغير ؟

هل يصح تعريف الإرادة التشريعية بالإرادة المتعلّقة بفعل الغير ، كتكليفه سبحانه عباده بالصلاة والزكاة ، وتكليف الآمر البشري غيره بالسقي والرعي ؟ وإذا كانت الإرادة التشريعية عبارة عمّا ذكر ، فتكون الإرادة التكوينية عبارة عن تعلّقها بفعل نفس المريد كتعلّق إرادته سبحانه بخلق السماوات والأرض ، وإرادة غيره بالأكل والشرب ؟

الجواب : انّ تعريف الإرادة التكوينية بما ذكر وإن كان صحيحاً ، لكن

ص: 207


1- القصص : 5.
2- الأنفال : 7.
3- المائدة : 41.

تعريف التشريعية منها بتعلّقها بفعل الغير غير صحيح قطعاً ، وذلك لأنّ الإرادة لا تتعلّق إلاّ بأمر اختياري وهو فعل المريد ، وأمّا فعل الشخص الآخر ، فهو بما انّه خارج عن اختيار المريد ، لا تتعلّق به إرادته ، وكيف يصح لشخص أن يريد صدور فعل من الغير مع أنّ صدوره منه تابع لإرادة ذلك الغير وليس تابعاً لإرادة المريد الآخر ؟

وإن شئت قلت : إنّ زمام فعل الفاعل المختار بيد الفاعل المباشر ، فلو أراده لقام به. ولو لم يرده لما قام به وليس زمامه بيد الآمر ، حتى يريده منه جداً ولا تصيّره إرادة الآمر مسلوب الاختيار ولا تجعله مضطراً مقهوراً مسخراً في مقابل إرادة الآمر ، لأنّ المفروض انّ الفاعل بعد ، فاعل مختار ، ومن هذا شأنه لا تتعلّق بفعله ، إرادة الغير الجدية ، لأنّ معنى تعلّقها بفعل الغير أنّه في اختيار المريد ومتناوله ، ويوجد بإرادته وينتفي بانتفائه ، مع أنّه ليس كذلك وإنّما يوجد بإرادة الفاعل المباشر وينتفي بانتفاء إرادته ، ولا ملازمة بين إرادة الآمر وإرادة المأمور ولأجل ذلك كثيراً ما يعصى ويخالف.

وفي الجملة : ليست ماهية الإرادة التشريعية أمراً يخالف ماهية الإرادة التكوينية ، بل الكل من واد واحد تختلفان في الاسم وتتحدان في الماهية ، والجميع يتعلّق بفعل نفس المريد ، غير انّ المراد فيهما مختلف حسب الاعتبار ، وهو في التكوينية ، عبارة عن الفعل الخارجي الصادر عنه مباشرة ، كالتكوين والتصنيع ، سواء كان المريد هو اللّه سبحانه أم أحد عباده القادرين على الأفعال الخارجية باقداره ، ولكنّه في التشريعية عبارة عن نفس الطلب والإنشاء بالإيماء والإشارة واللفظ والكتابة ، وهو أيضاً فعل المريد الواقع في اختياره ، وأمّا قيام الغير بالمطلوب فهو من غايات إرادة المريد ومقاصده وأغراضه ، وهي تترتب تارة ،

ص: 208

وتنفك أُخرى ، فلو تكونت في نفسه مبادئ الخوف والرجال لقام به وإلاّ فلا يقوم به ولا تتحقّق الغاية لكن تتم عليه الحجة.

وعلى ذلك فما اشتهر على الألسن من أنّ الإرادة التشريعية عبارة عن تعلّق إرادة الآمر بفعل الغير تسامح في التعبير ومن باب إقامة الغاية مكان ذيها.

والذي يوضح ذلك : انّ إرادته سبحانه لا تنفك عن مراده ، ومن المستحيل أن يخاطب شيئاً ب « كن » ولا يتحقّق ، ولسعة قدرته وعموميتها ، قال سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )(1)، فلو تعلّقت إرادته بفعل العباد كالصلاة والصوم لما انفك عنهم ولو تعلّقت على إيمانهم وهدايتهم ، لما وجد على أديم الأرض عاص ومتمرد ، قال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ )(2)، وتكون نتيجة ذلك كونهم مجبورين في قبول الهداية ، ومضطرين إلى الطاعة ، فلا يقام لمثلها وزن ولا قيمة ، وهذا يعرب بوضوح عن أنّ متعلّق إرادته في مجال التشريع هو فعل نفس المشرع وهو التشريع ، وهو بعد غير منفك عن إرادته ، موجود معها.

السؤال الثاني : هل الإرادة التكوينيّة توجب سلب الاختيار ؟
اشارة

لو كانت الإرادة في المقام إرادة تكوينية فبما انّ إرادته سبحانه لا تتخلّف عن المراد فلازمها هنا كون طهارتهم وابتعادهم عن الرجس أمراً جبرياً لا يتخلّف ، وهذا لا يعد فضيلة وثناء لأهل البيت مع أنّ الآية بصدد الثناء عليهم.

وقد أجاب عنه المحقّقون على وجه الإجمال وقالوا : إنّ القدرة والتمكّن من فعل المعصية ثابت للمعصوم ، والعصمة مانع شرعي ، ولا منافاة بين عدم القدرة الشرعية والقدرة الذاتية ، وهذا الجواب بإجماله كاف لأهل التحقيق ولكن يحتاج

ص: 209


1- يس : 82.
2- الأنعام : 35.

إلى إيضاح ، فنقول :

إنّ مشكلة الجبر تنحل بالتعرّف على كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد ، والإمعان في هذا الموضوع يكفي لحل بعض المشاكل المطروحة في مسألة الجبر والاختيار.

وبعبارة أُخرى : هل تعلّقت إرادته سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم باختيارهم وإرادتهم ، أم تعلّقت بصدورها منهم مطلقاً وإن لم تكن مسبوقة باختيارهم وإرادتهم ، فالجبر لازم القول الثاني ، والاختيار نتيجة القول الأوّل ، والحق هو القول الأوّل فنقول في توضيحه :

إنَّ لازم التوحيد في الفاعلية والخالقية - كما هو منصوص الآيات ومقتضى البراهين - هو انّ كل ما يقع في صفحة الوجود سواء كان فعلاً للعباد أم لغيرهم لا يخرج عن إطار الإرادة التكوينية لله سبحانه ، ولا يقع شيء في الكون إلاّ بإرادته وإذنه سبحانه ، قال تعالى : ( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ ) (1) ، وهذه الآية وغيرها تدلّ بصراحة على أنّ أفعال العباد حلالها وحرامها غير خارجة عن إطار الإرادة التكوينية لله وإلاّ لزم أن يكون الإنسان أو الفواعل الأُخر مستقلة في الفعل والتأثير ، وهو يستلزم الاستقلال في الذات ، وهو عين الشرك ونفي التوحيد في الأفعال والخالقية.

ومع ذلك فليس العباد مجبورين في أفعالهم وتصرفاتهم ، لأنّ إرادته سبحانه وإن تعلّقت بأفعالهم لكن إرادته سبحانه متعلّقة بأفعالهم بتوسط إرادتهم الخاصة وفي طول مشيئتهم ، وبذلك صح أن يقال لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين.

ص: 210


1- الحشر : 5.

وعلى ذلك فاللّه سبحانه وإن أراد طهارتهم عن الذنوب بالإرادة التكوينية ولكن تلك الإرادة تعلّقت بها ، لما علم سبحانه انّهم بما زودوا من إمكانات ذاتية ومواهب مكتسبة نتيجة تربيتهم وفق مبادئ الإسلام ، لا يريدون إلاّ ما شرّع لهم سبحانه من أحكام ، فهم لا يشاءون إلاّ ما يشاء اللّه ، وعند ذلك صح له سبحانه أن يخبر بأنّه أراد تكويناً إذهاب الرجس عنهم ، لأنّهم عليهم السلام ما داموا لا يريدون لأنفسهم إلاّ الجري على وفق الشرع لا يفاض عليهم إلاّ هذا النوع من الوصف.

وحصيلة الكلام : انّ مبنى الإشكال هو الغفلة عن كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد حيث توهّم المستشكل :

أوّلاً : انّ أفعال العباد خارجة عن إطار الإرادة التكوينية لله سبحانه ، وغفل عن أنّ هذا النوع من الاعتقاد يساوق الشرك ويصادم التوحيد.

وثانياً : انّ سبق الإرادة التكوينية على أفعال العباد يستلزم سلب الاختيار عنهم ، وغفل عن أنّ إرادته سبحانه انّما تتعلّق بتوسط إرادة العباد واختيارهم ، فهم إذا أرادوا لأنفسهم شيئاً ، فاللّه سبحانه يريد ذلك الشيء لهم تكويناً ، وليس في ذلك أيّة رائحة للجبر ، بل هو الأمر بين الأمرين.

وعندئذ يكون المراد من تطهيرهم - بعد تجهيزهم بإدراك الحق في الاعتقاد والعمل ، وإعطائهم البصيرة الكاملة لمعرفة الحق في مجال الاعتقاد والعمل - تعلّق إرادته التكوينية بطهارتهم من الذنوب ، لأجل تعلّق إرادتهم بذلك ، فقد تعلّقت إرادته سبحانه بتنزيههم عن طريق إرادتهم واختيارهم ، وأين هذا من الجبر ؟

تفسير آخر للإرادة التكوينية

ما ذكرناه في كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد ، جواب عام سار في

ص: 211

جميع الموارد ورافع للإشكال في مجال الجبر ، وانّ من أعضل الموارد في الجبر والاختيار ، هي تحليل كيفية تعلّق إرادته بأفعال العباد وانّه : هل يوجب الجبر ويسلب الاختيار ، باعتبار انّ إرادته لا تنفك عن المراد ، أم لا ؟ لأنّ إرادته تعلّقت بصدور أفعالهم عن أنفسهم عن مبادئها المكونة فيهم وهي إرادتهم واختيارهم ، فلو صدرت عنهم بلا هذه الخصوصية لزم انفكاك إرادته عن مراده.

ولمّا استشكل هذا المطلب على بعضهم انصرفوا إلى إخراج أفعال العباد عن إطار إرادته سبحانه ، وانّما تتعلّق بالكائنات دون أفعالهم ، وهو كما ترى ، لأنّه يستلزم تحقّق شيء في صحيفة الوجود بغير إذنه وإرادته ، مع أنّ مقتضى التوحيد في الخالقية انتهاء كل ما في عالم الإمكان إلى وجوده وخالقيته ، وبالتالي إلى إرادته ، فإخراج أفعال العباد عن مجال إرادة اللّه ، يخالف الأُسس التوحيدية التي جاء بها القرآن ودعمها العقل.

إلاّ أنّ في مسألة العصمة وكيفية تعلّق إرادته تعالى بعصمة المعصوم تحليلاً آخر يختص بهذا المقام ولا يتعدّاه.

وحاصل هذا التحليل يتوقف على معرفة كيفية العصمة وحقيقتها ، فنقول :

إنّ حقيقة العصمة ترجع إلى الدرجة العليا من التقوى ، بمعنى انّ التقوى إذا بلغت قمتها تعصم الإنسان عن اقتراف الذنب وجميع القبائح.

وإن شئت قلت : العصمة نتيجة العلم القطعي الثابت والعرفان بعواقب المعصية علماً يصد الإنسان عن اجتراح المعاصي واقتراف المآثم ، كالإنسان الواقف أمام الأسلاك التي يجري فيها التيار الكهربائي ، فانّه لا يقدم بنفسه على إمساكها.

ص: 212

وبعبارة ثالثة : العصمة : الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجلاله استشعاراً منقطع النظير حيث يحدث في المستشعر التفاني في الحق ، والعشق لجماله ، وكماله ، بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً.

فإذا كانت حقيقة العصمة نفس هذه الحقائق أو قريباً منها ، فليس اتصاف الإنسان بهذه الحقائق موجباً للجبر وسالباً للاختيار ، بل المعصوم مع هذه المواهب الإلهية قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا غير انّه لأجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى ، والعلم القطعي بآثار المعاصي والاستشعار المنقطع النظير بعظمة الخالق ، يختار الطاعة وترك المعصية مع القدرة على خلاف ذلك ، فحاله كالوالد العطوف لا يقدم على قتل ولده ولو أُعطيت له الكنوز الكثيرة.

إنّ هذه الحقائق الموهوبة للمعصوم أشبه بحبل يلقى إلى الغارق في البحر والساقط في البئر حتى يتمسك به وينجي نفسه ، فلا شك انّ العاقل يتمسّك به دائماً وينجي نفسه ، ولكن هذا العمل لا يخالف قدرته على ترك التمسك به وإلقاء نفسه في مهاوي الهلكة.

فهذه الحقائق النفسانية الموهوبة ليست إلاّ أسباباً لترك العصيان ومقتضيات للطاعات ، ومعدّات لقرب العبد من ربّه ، ومع ذلك تتوسط بينها وبين فعل العبد من طاعة أو عصيان ، إرادته واختياره ، فليست هذه المواهب عللاً تامة لتوجه العبد إلى جانب واحد وانحيازه عن جانب آخر ، بل هي أسباب مقربة ومعدات للإرادة ، ومع ذلك كله فاختيار المعصوم وإرادته باقيان على حالهما.

فمعنى تعلّق إرادته سبحانه بعصمتهم ليس تعلّقها بالطاعة وترك العصيان ، بل معناه تعلّق إرادته التكوينية بإفاضة هذه المواهب عليهم وجعلها في

ص: 213

مكامن نفوسهم وتحليتهم بهذه الحلية الإلهية ، ولكن هذا الجعل والتحلية لا يهدف إلى كونهم مكتوفي الأيدي أمام التكاليف ومسوقين إلى جانب واحد ، فالاشتباه في المقام حصل في تعيين ما هو المفاض من اللّه سبحانه على هذه الشخصيات فتخيل : « انّ المفاض هو العصمة المفسرة بترك المعصية ونفس الطاعة » غفلة عن أنّ المفاض هو هذه الكيفيات والصفات العليا النفسانية عليهم ، وهي توجد استعداداً في النفس بترك العصيان واختيار الطاعة مع القدرة على الخلاف.

نعم : لو كان هناك جبر ، فالجبر في تحليتهم بهذه المواهب والعطايا الإلهية ، ولكنّهم معها مختارون في التوجه ، لأي طرف أرادوا ، وإن كانوا لا يشاءون إلاّ الطاعة وترك المعصية.

ما هو الوجه لتفسير الإرادة بالتشريعية ؟

ثمّ إنّ الجمهور لمّا ذهبوا إلى كون الإرادة تشريعية احتالوا في توجيهها يقول المفسر المعاصر سيد قطب في هذا الصدد : إنّه سبحانه يجعل تلك الأوامر - الأوامر الواقعة قبل الآية من قوله : ( وَقَرْنَ ... وَلا تَبَرَّجْنَ ) - وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت ، فالتطهير وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ويحقّقونها في واقع الحياة العملي ... ويختم هذه التوجيهات لنساء النبي بمثل ما بداها ، بتذكيرهنّ بعلو مكانتهنّ وامتيازهنّ على النساء بمكانتهنّ من رسول اللّه وبما أنعم اللّه عليهنّ فجعل بيوتهنّ مهبط القرآن ومنزل الحكمة وتشرف النور والهدى والإيمان ، وانّه لحظ عظيم يكفي التذكّر به لتحس النفس جلالة قدره ولطيف صنع اللّه فيه وجزالة النعمة التي لا يعد لها نعيم. (1)

ص: 214


1- في ظلال القرآن ، في تفسير سورة الأحزاب.

وحاصل ما ذكره مبني على نزول القرآن في مورد نساء النبي ، وانّه سبحانه علّل خطاباته لهنّ بأنّه يريد من هذه التكاليف إذهاب الرجس عنهنّ ، ويكون المعنى انّ التشديد في التكاليف وتضعيف الثواب والعقاب ليس لانتفاع اللّه سبحانه به ، بل لإذهاب الرجس عنكنّ وتطهيركنّ.

ولا يخفى انّ ما ورد في الآيات من الأحكام ليست أحكاماً خاصة بنساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فهذا قوله سبحانه قبل آية التطهير : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) . (1)

وهذا قوله سبحانه بعد الآية : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللّهِ وَالحِكْمَةِ ... ) كلّها أحكام عامة لنساء المسلمين ، فاللّه سبحانه بهذه التكاليف يريد أن يطهر الكل وإذهاب الرجس عن عموم النساء ، لا عن زوجات النبي خاصة ، وعندئذ لا وجه لتخصيصهنّ بالخطاب بالعناية التي عرفت.

وإنّما ذهب بعض الجمهور إلى ما ذهب ، لأجل انّهم تصوّروا نزول الآية في حق نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فاحتالوا لتفسير الإرادة بما ذكره سيد قطب ونظراؤه ، وانّما ذهبوا إلى ذلك بزعمهم اتصال الآية بما قبلها من الآيات ، مع أنّه سيوافيك انّ الآية آية التطهير آية مستقلة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها ، وانّما وضعت في هذا الموضع لمصلحة خاصة سنشير إليها ، والأحاديث بكثرتها البالغة ناصة على نزول الآية وحدها ، ولم يرد نزولها في ضمن آيات نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ولا ذكره أحد حتى أنّ القائل باختصاص الآية بأزواج النبي ينسب القول إلى عكرمة وعروة لا إلى الرواية.

فالآية لم تكن بحسب النزول من آيات النساء ، ولا متصلة بها ، وستوافيك

ص: 215


1- الأحزاب : 33.

الروايات الكثيرة الواردة في هذا المضمار.

السؤال الثالث : هل العصمة الموهوبة مفخرة ؟

وهذا سؤال ثالث يتردد في المقام وفي غيره ، وقد طرحناه عند البحث عن العصمة على وجه الإطلاق ونطرحه هنا بشكل آخر ، وهو انّ عصمة أهل البيت لو كانت أمراً موهوباً من اللّه سبحانه كيف يمكن أن تعد مفخرة لأهله ؟

والإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الوقوف على معنى العصمة الموهوبة لهم ، وقد عرفت أنّ المراد من هبتها لهم هو إعطاء المقتضيات والمعدات لهم التي لا تسلب الاختيار عنهم وهم بعد قادرون على الطاعة والعصيان والنقض والإبرام ، والسائل تخيل انّ العصمة الموهوبة هي نفس ترك العصيان والمخالفة ، فزعم أنّ شيئاً مثلها لا يعد فخراً ولا يوجب ثناءً ، وقد أوضحنا هذا في السؤال السابق ، فراجع.

السؤال الرابع : هل الآية تدل على فعلية التطهير ؟

وربّما يقال : إنّ أقصى ما تدل عليه الآية هو إخباره سبحانه عن أنّه يريد إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم ، وليس في الآية ما يدل على تحقّق هذه الإرادة بالفعل ، وانّها صدرت منه سبحانه ، مع أنّ القائلين بعصمة أهل البيت يذهبون بدلالتها على اتصافهم بالعصمة ، وفي هذا الصدد ينقل الشيخ زين الدين البياضي العاملي إشكالاً عن المخالف ويقول : ( يُرِيدُ ) لفظ مستقبل ، فلا دليل على وقوعه. (1)

ص: 216


1- الصراط المستقيم : 1 / 184.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال نشأ من اتخاذ موقف خاص بالنسبة إلى أهل البيت بشهادة انّ هذه اللفظة وردت في كثير من الآيات مع أنّه ما خطر ببال أحد مثل هذا الإشكال قال سبحانه : ( يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ) (1) ، وقال : ( وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) (2) ، وقال : ( يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ) (3) ، وقال : ( وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) (4) ، أضف إلى ذلك انّ هناك قرينة واضحة على تحقّق الإرادة بشهادة انّ الآية في مقام المدح والثناء.

وأمّا الإتيان بصيغة المستقبل والعدول عن الماضي ، فهو لأجل ظهور فعل المستقبل في الدوام ، وهو سبحانه يريد إفادة دوام هذه الإرادة واستمرارها مدى الأيام والسنين.

السؤال الخامس : هل الإذهاب يستلزم الثبوت ؟

خلاصة هذا السؤال ترجع إلى أنّ الإذهاب يتعلّق بشيء موجود ، فعلى ذلك يستلزم أن يكون هناك رجس موجود أذهبه اللّه وطهرهم منه ، وهذا يضاد مقالة أهل العصمة ، ولكن السائل أو المعترض غفل عن أنّ هذه التراكيب كما تستعمل في إذهاب الشيء الموجود ، كذلك تستعمل فيما إذا لم يكن موجوداً ، ولكن كانت هناك مقتضيات ومعدات له حسب الطبيعة الإنسانية وإن لم يكن موجوداً بالفعل كقول الإنسان لغيره : أذهبَ اللّه عنك كل مرض ، ولم يكن حاصلاً له ، ولكن كانت بعض المعدات للمرض موجودة.

ص: 217


1- النساء : 26.
2- النساء : 27.
3- النساء : 28.
4- النساء : 26.

وفي المقام نزيد توضيحاً : انّ الإنسان حسب الطبيعة الأوّلية مجهّز بالغرائز والميول العادية المتجاوزة عن الحدود ، ولم يشذ أهل البيت عنها ولم تكن لهم في العالم الجسماني خلقة خاصة بهم ، فكانت هناك أرضية صالحة للتعدي والطغيان ، فلمّا جهّزوا بهذه الغرائز أوّلاً ، ثم بالعصمة - بالمعنى الذي عرفت - ثانياً صح أن يقال : إنّه سبحانه أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً من العصيان.

وهذه الأسئلة وأشباهُها لا تحتاج إلى البسط في المقال ، ولأجل ذلك نطوي الكلام عنها.

ص: 218

من سمات أهل البيت عليهم السلام

2. المحبّة في قلوب المؤمنين

إنّ الإيمان باللّه والعمل الصالح يُورث محبَّة في قلوب الناس ، إذ للإيمان أثر بالغ في القيام بحقوق اللّه أوّلاً ، وحقوق الناس ثانياً ، لا سيَّما إذا كان العمل الصالح نافعاً لهم ، ولذلك استقطب المؤمنون حُبَّ النّاس ، لدورهم الفعّال في إصلاح المجتمع الإنساني. وهذا أمر ملموس لكلّ النّاس ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) . (1)

وبما أنّ الأنبياء بلغوا قمَّة الإيمان كما بلغوا في العمل الصالح ذروته ، نرى أنّ لهم منزلة كبيرة في قلوب الناس لا يضاهيها شيء ، لأنّهم صرفوا أعمارهم في سبيل إصلاح أُمور الناس وإرشادهم إلى مافيه الخير والرشاد. هذا حال الأنبياء ويعقبهم الأوصياء والأولياء والصلحاء.

أخرج أبو إسحاق السعدوي في تفسيره باسناده عن البراء بن عازب ، قال :

ص: 219


1- مريم : 96

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لعلي : « اللّهمَّ اجعل لي عندك عهداً ، واجعل لي في صدور المؤمنين مودَّة » ، فأنزل اللّه تعالى الآية المذكورة آنفاً.

إنّ أهل البيت عليهم السلام لأجل انتسابهم إلى البيت النبوي الرفيع حازوا مودة الناس واحترامهم بكلّ وجودهم. وقد أُشير إلى ذلك في آثارهم وكلماتهم.

روى معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إنّ حبّ علي عليه السلام قُذف في قلوب المؤمنين ، فلا يُحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلا منافق ، وإنّ حبّ الحسن والحسين عليهما السلام قذف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين فلا ترى لهم ذامّاً ، ودعا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الحسن والحسين عليهما السلام قرب موته فقبَّلهما وشمّهما وجعل يرشفهما وعيناه تهملان ». (1)

وقد تعلَّقت مشيئته سبحانه على إلقاء محبتهم في قلوب المؤمنين الصالحين ، حتى كانت الصحابة يميّزون المؤمن عن المنافق بحبّ علي أو بغضه.

روى أبو سعيد الخدري ، قال : إنّا كنّا لَنَعرف المنافقين نحن معشرَ الأنصار ببغضهم عليّ بن أبيطالب عليه السلام. (2)

وقد تضافر عن علي أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : « والَّذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، انّه لعهد النبي اللأُمّي إليّ : انّه لا يحبني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق ». (3)

ويروى عنه عليه السلام أيضاً أنَّه قال : واللّه إنّه ممّا عهد إليَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم انَّه لا

ص: 220


1- المناقب لابن شهر آشوب : 3 / 383 ؛ سفينة البحار : مادة حبب : 1 / 492.
2- جامع الترمذي : 5 / 635 برقم 3717 ؛ حلية الأولياء : 6 / 295.
3- أسنى المطالب : 54 ، تحقيق محمد هادي الأميني.

يبغضني إلاّ منافق ولا يُحبّني إلاّ مؤمن. (1)

وقد أعرب عن ذلك الإمام علي بن الحسين عليهما السلام في خطبته في جامع دمشق ، عند ما صعد المنبر وعرَّف نفسه فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون ، وأوجل منها القلوب ، ثمّ قال :

« أيّها الناس أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع ، أُعطينا : العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبَّة في قلوب المؤمنين ». (2)

ولا عجب في أنّه تبارك وتعالى سمّاهم كوثراً أي الخير الكثير ، وقال : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ... ) قال الرازي : الكوثر : أولاده ، لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت عليهم السلام ، ثم العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني أُمية في الدنيا أحد يُعبأ به ، ثمّ انظر كم كان فيها من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام. (3)

إنّ محبة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للحسين عليه السلام لم تكن محبة نابعة من حبه لنسَبه بل كان واقفاً على ما يبلغ إليه ولده الحسين عليه السلام في الفضل والكمال والشهادة في سبيله ، ونجاة الأُمّة من مخالب الظلم ، والثورة على الظلم والطغيان ، وهناك كلام للعلاّمة المجلسي يقول :

إنّ محبة المقربين لأولادهم وأقربائهم وأحبّائهم ليست من جهة الدواعي

ص: 221


1- مسند أحمد : 1 / 84 ، إلى غير ذلك من المصادر المتوفرة.
2- بحار الأنوار : 45 / 138.
3- تفسير الفخر الرازي : 32 / 124.

النفسانية والشهوات البشرية ، بل تجرّدوا عن جميع ذلك وأخلصوا حُبَّهم ، و وُدَّهم لله. وحُبّهم لغير اللّه إنّما يرجع إلى حبهم له ، ولذا لم يحب يعقوب من سائر أولاده مثل ما أحب يوسف عليه السلام منهم ، ولجهلهم بسبب حبه له نسبوه إلى الضلال ، وقالوا : نحن عصبة ، ونحن أحقّ بأن نكون محبوبين له ، لأنّا أقوياء على تمشية ما يريده من أُمور الدنيا ، ففرط حبّه يوسف إنّما كان لحب اللّه تعالى له واصطفائه إيّاه فمحبوب المحبوب محبوب.(1).

ص: 222


1- سفينة البحار : 1 / 496 ، مادة حبب.

من سمات أهل البيت :

3. استجابة دعائهم :

الابتهال إلى اللّه وطلب الخير منه أو طلب دفع الشرِّ ومغفرة الذنوب ، أمر مرغوب ، يقوم به الإنسان تارة بنفسه ، وأُخرى يتوصل إليه بدعاء الغير.

واستجابة الدعاء رهن خرق الحجب والوصول إليه سبحانه ، حتى يكون الدعاء مصداقاً لقوله سبحانه : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )(1)وليس كلّ دعاء مستجاباً وصاعداً إليه سبحانه ، فانّ لاستجابة الدعاء شروطاً مختلفة قلّما تجتمع في دعاء الإنسان العادي.

نعم هناك أُناس مطهرون من الذنوب يكون دعاؤهم صاعداً إلى اللّه سبحانه ومستجاباً قطعاً ، ولذلك حثَّ سبحانه المسلمين على التشرّف بحضرة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وطلب الاستغفار منه ، قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) .(2)

وقال سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ

ص: 223


1- غافر : 60.
2- آل عمران : 65.

وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ) .(1)

ولذلك طلب أبناء يعقوب من أبيهم أن يستغفر لهم كما يحكيه قله سبحانه : ( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) .(2)

ويظهر ممّا جرى بين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ووفد نجران من المحاجَّة والمباهلة انّ أهل البيت إذا أمَّنوا على دعاء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يُستجاب دعاءه ، فقد وفد نصارى نجران على الرسول وطلبوا منه المحاجَّة ، فحاجَّهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ببرهان عقلي تشير إليه الآية المباركة : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن ف َيَكُونُ ) .(3)

فقد قارعهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بهذا البيان البليغ الذي لا يرتاب فيه ذو مرية ، حيث كان نصارى نجران يحتجون ببنوة المسيح بولادته بلا أب فوافاهم الجواب : « بأنّ مثل المسيح كمثل آدم ، إذ لم يكن للثاني أب ولا أُمّ مع أنّه لم يكن ابناً لله سبحانه » وأولى منه أن لا يكون المسيح ابناً له.

ولمّا أُفحموا في المحاجَّة التجأوا إلى المباهلة والملاعنة ، وهي وإن كانت دائرة بين الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ورجال النصارى ، لكن عمَّت الدعوة للأبناء والنساء ، للدلالة على اطمئنان الداعي بصدق دعوته وكونه على الحقّ ، وذلك لما أودع اللّه سبحانه في قلب الإنسان من محبة الأولاد والشفقة عليهم ، فتراه يقيهم بنفسه ويركب الأهوال والاخطار دونهم ، ولذلك قدَّم سبحانه في الآية المباركة الأبناء على النساء ، وقال : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ

ص: 224


1- المنافقون : 5.
2- يوسف : 97.
3- آل عمران : 59.

أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) .(1)

وإنَّ إتيانه سبحانه بلفظ الأبناء بصيغة الجمع يعرب عن أنّ طرف الدعوى لم يكن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وحده بل أبناؤه ونساؤه ، ولذلك عدَّتهم الآية نفس النبي ونساء النبي وأبناءه من بين رجال الأُمة ونسائهم وأبنائهم.

ثمّ إنّ المفسرين قد ساقوا قصة المباهلة بشكل مبسوط منهم صاحب الكشاف ، قال : لماّ دعاهم إلى المباهلة ، قالوا : حتى نرجع وننظر.

فلّما تخالوا قالوا للعاقب ، وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال : واللّه لقد عرفتم يامعشر النصارى أنّ محمّداً نبيّ مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، واللّه ما باهل قوم نبياً قط ، فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكنّ ، فإن أبيتم إلاّ إِلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.

فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد غدا محتضناً الحسين ، آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ، وعليّ خلفها ، وهو يقول : « إذا أنا دعوت فأمِّنوا ».

فقال أُسقف نجران : يا معشر النصارى ! إنّي لأرى وجوهاً لو شاء اللّه أن يُزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتُهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك ، وأن نقرّك على دينك ، ونثبت على ديننا. قال : « فإذا أبيتم المباهلة ، فأسلموا ، يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم ».

ص: 225


1- آل عمران : 61.

فأبوا. قال : « فإنّي أُناجزكم » ، فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ، ولا تخيفنا ، ولا تردُّنا عن ديننا ، على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلّة ، ألف في صفر ، وألف في رجب ، وثلاثين درعاً عادية من حديد ، فصالحهم على ذلك.

وقال : « والذي نفسي بيده انّ الهلاك قد تدلى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل اللّه نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتى يهلكوا ».

وعن عائشة انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله ، ثمّ جاء الحسين فأدخله ، ثمّ فاطمة ، ثمّ علي ، ثمّ قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) . (1)

الشاهد على استجابة دعائهم أمران :

أ : قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا أنا دعوت فأمّنوا ، فكان دعاء النبي يصعد بتأمينهم ، وأيُّ مقام أعلى وأنبل من أن يكون دعاء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صاعداً بفضل دعائهم.

ب : قول أُسقف نجران : « إنّي لأرى وجوهاً لو شاء اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها » والضمير يرجع إلى الوجوه ، أي لأزاله بدعائهم أو لأزاله بالقسم على اللّه بهم ، وقد أيَّد القول الثاني ابن البطريق في « العمدة » حيث قال : المباهلة بهم تصدق دعوى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فقد صار إبطال محاجَّة أهل نجران في القرآن الكريم بالقسم على اللّه بهم. (2)

ص: 226


1- الكشّاف : 1 / 326 - 327 ، ط عام 1367 ه.
2- العمدة : 243.

وقد تركت مباهلة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأهل بيته أثراً بالغاً في نفوس المسلمين ، يشهد عليها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً ، فقال : ما يمنعك أن تسبَّ أباتراب ؟ فقال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فلن أسبَّه ، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم.

سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه ، فقال له علي : يا رسول اللّه ، خلّفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبوّة بعدي ؟

وسمعته يوم خيبر ، يقول : لأُُعطينّ الراية رجلاً يحب اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله.

قال : فتطاولنا لها ، فقال : ادعوا لي عليّاً ، فأُتي به أرمد العين ، فبصق في عينيه ، ودفع الراية إليه ، ففتح اللّه على يديه.

ولما نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) دعا رسول اللّه عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً ، وقال : اللّهم هؤلاء أهل بيتي.(1).

ص: 227


1- صحيح مسلم : 7 / 120 ، باب فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام.

من سمات أهل البيت عليهم السلام

4. ابتغاء مرضاة اللّه تعالى
اشارة

الإنسان الكامل ، هو الذي لا يفعل شيئاً ولا يتركه إلاّ لابتغاء مرضاة اللّه تبارك وتعالى ، فيصل في سلوكه ورياضاته الدينيَّة إلى مكان تفنى فيه كلّ الدوافع والحوافز إلاّ داع واحد وهو طلب رضا اللّه تبارك وتعالى ، فإذا بلغ هذه الدرجة فقد بلغ الذروة من الكمال الإنساني ، وربَّما يبلغ الإنسان في ظل الرضا درجة لا يتمنّى وقوع ما لم يقع ، أو عدم ما وقع ، وإلى ذلك المقام يشير الحكيم السبزواري بما في منظومته :

وبهجة بما قضى اللّه رضا *** وذو الرضا بما قضى ما اعترضا

اعظم باب اللّه ، في الرضا وُعي(1) *** وخازن الجنة رضواناً دُعي

فقرا على الغنى صبورٌ ارتضى *** وذان سيّان لصاحب الرضا

عن عارف عُمّر سبعين سنة *** إن لم يقل رأساً لأشيا كائنة

يا ليت لم تقع ولا لما ارتفع *** مما هو المرغوب ليته وقع(2).

ص: 228


1- إشارة إلى ما روي انّ الرضا باب اللّه الأعظم.
2- شرح منظومة السبزواري : 352.

وممَّن يمثل ذلك المقام في الأُمّة الإسلامية هو إمام العارفين وسيد المتّقين علي أمير المؤمنين عليه السلام فهو في عامَّة مواقفه ، في جهاده ونضاله ، وعزلته وقعوده في بيته ، وفي تسنّمه منصَّة الخلافة بإصرار من الأُمّة ، فهو في كلّ هذه الأحوال والمواقف ، لا همّ له إلاّ طلب رضوانه تعالى.

وقد صرح الإمام بذلك عندما طلب منه تسلّم مقاليد الخلافة ، فقال : « أما والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ اللّه على العلماء ألاّ يقارُّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ». (1)

وقد تجلّت هذه الخصلة في علي عليه السلام حين مبيته في فراش النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.

روى المحدّثون أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لمّا أراد الهجرة خلّف علي بن أبي طالب عليه السلام بمكة لقضاء ديونه وردّ الودائع التي كانت عنده ، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم له : يا علي اتَّشح ببردي الحضرمي الأخضر ، ثمّ نم على فراشي ، فانّه لا يخلص إليك منهم مكروه ، إن شاء اللّه عزّ وجلّ ، ففعل ذلك عليه السلام فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى جبرئيل وميكائيل عليهما السلام إنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر ، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟ ، فاختار كلاهما الحياة ، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليهما : ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب ، آخيت بينه وبين محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم فنام على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه ، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه.

ص: 229


1- نهج البلاغة : الخطبة 3.

فقال جبرئيل : بَخٍّ بَخٍّ مَن مثلك يابن أبي طالب ؟ يباهي اللّه بك الملائكة ، فأنزل اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو متوجِّه إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالب عليه السلام : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ) . (1)

وقد نقل غير واحد نزول الآية في حقّ علي عليه السلام .

وقال ابن عباس : أنشدني أمير المؤمنين شعراً قاله في تلك الليلة :

وقيت بنفسي من وطئ الحصا *** وأكرم خلق طاف بالبيت والحجر

وبتُّ أُراعي منهم ما يسوءني *** وقد صبَّرت نفسي على القتل والأسر

وبات رسول اللّه في الغار آمناً *** ومازال في حفظ الإله وفي الستر (2)

وإلى هذه الفضيلة الرابية وغيرها يشير حسان بن ثابت في شعره عند مدح علي عليه السلام :

من ذا بخاتمه تصدَّق راكعا *** وأسرّها في نفسه إسرارا

من كان بات على فراش محمّد *** ومحمد اسرى يؤم الغارا

من كان في القرآن سمّي *** في تسع آيات تلين غزارا (3)

محاولة طمس الحقيقة لولا ...

إنّ عظمة هذه الفضيلة وأهمية هذا العمل التضحويّ العظيم ، دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الإمام علي عليه السلام ، وإلى أن

ص: 230


1- البقرة : 207.
2- شواهد التنزيل : 1 / 130 ؛ أُسد الغابة : 4 / 25.
3- سبط ابن الجوزي : تذكرة الخواصّ : 25 ، ط عام 1401 ه.

يَصِفُوا بها علياً بالفداء والبذل والإيثار ، وإلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات ، كلّ ما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ إليها. (1)

إنّ هذه الحقيقة لا تنسي أبداً ، فإنّه من الممكن إخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلاّ أنّه سرعان ما تمزّق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الأوهام ، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة وبخاصة للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام ممّا لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة ويخفي حقائقه بوضع الأكاذيب ، ولكنّه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.

فقد عمد « سمرة بن جندب » الذي أدرك عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثمّ انضمّ بعد وفاته صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بلاط معاوية بالشام ، عمد إلى تحريف الحقائق مقابل أموال أخذها من الجهاز الأموي ، الحاقد على أهل البيت.

فقد طلب منه معاوية بإصرار أن يرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن علي عليه السلام ، ويقول للناس أنّها نزلت في حقّ قاتل عليّ ( أي عبد الرحمن بن ملجم المرادي ) ، ويأخذ في مقابل هذه الأُُكذوبة الكبرى ، وهذا الاختلاق الفضيع - الذي أهلك به دينه - ، مائة ألف درهم.

فلم يقبل « سمرة » بهذا المقدار ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتى بلغ أربعمائة ألف درهم ، فقبل الرجل بذلك ، فقام بتحريف الحقائق الثابتة ، مسوَّداً

ص: 231


1- الغدير : 2 / 48.

بذلك صفحته السوداء أكثر من ذي قبل ، وذلك عندما رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية.(1)

وقبل السامعون البسطاء قوله ، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً أنّ ( عبد الرحمن بن ملجم ) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِد بعد آنذاك. فكيف يصحّ ؟!

ولكن الحقيقة لا يمكن أن تخفى بمثل هذه الحجب الواهية ، ولا يمكن أن تُنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد زالت حكومة معاوية وهلك أعوانها ، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الذي وقع في عهدها المشؤوم ، وطلعت شمس الحقيقة من وراء حُجبُ الجهل والافتراء مرة أُخرى ، واعترف أغلبُ المفسرين الأجلّة والمحدّثين الأفاضل - في العصور والأدوار المختلفة - بأنّ الآية المذكورة نزلت في « ليلة المبيت » في بذل علي عليه السلام ومفاداته النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بنفسه.

ص: 232


1- لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 4 / 73.

من سمات أهل البيت عليهم السلام

5. الإيثار

إنّه سبحانه تبارك وتعالى وصف الإيثار في كتابه الكريم ، وهو من صفات الكرام حيث يقدِّمون الغير على أنفسهم ، يقول سبحانه في وصف الأنصار : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .(1)

كما أنّه سبحانه أمر بالوفاء بالنذر ، قال سبحانه : ( مَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ )(2)، وقال سبحانه : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) .(3)

وفي الوقت نفسه ندب إلى الخوف من عذابه ، يقول سبحانه : ( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ... )(4)وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ

ص: 233


1- الحشر : 9.
2- البقرة : 270.
3- الحجّ : 29.
4- النور : 37.

أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) . (1)

ما ذكرنا من الصفات الثلاث هي من أبرز الصفات التي يتحلّى بها أولياؤه سبحانه ، ونجد هذه الصفات مجتمعة في أهل البيت عليهم السلام في سورة واحدة ، يقول سبحانه :

( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) . (2)

فقوله سبحانه : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ) إشارة إلى إيثارهم الغير على أنفسهم ، والضمير في ( عَلَى حُبِّهِ ) يرجع إلى الطعام أي انّهم مع حبّهم للطعام قدَّموا المسكين على أنفسهم ، كما أنّ قوله : ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ... ) إشارة إلى صلابتهم في طريق إقامة الفرائض.

ثمّ قوله : ( وَيَخَافُونَ يَوْمًا ) إشارة إلى خوفهم من عذابه سبحانه يوم القيامة.

وقد نقل أكثر المفسرين لو لم نقل كلّهم ، انّ الآيات نزلت في حقّ أهل البيت عليهم السلام.

روي عن ابن عباس ( رض ) انّ الحسن والحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في أُناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك ، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما ، إن شفاهما اللّه تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام ، فشفيا وما

ص: 234


1- الرعد : 21.
2- الإنسان : 7 - 10.

معهم شيء ، فاستقرض علي عليه السلام من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل ، فقال : السلام عليكم أهل بيت محمّد مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنة ، فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلاّ الماء وأصبحوا صائمين.

فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه ، وجاءهم أسير في الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي عليه السلام بيد الحسن والحسين عليهما السلام ودخلوا على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فلمّا أبصرهم ، وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع ، قال : ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم ، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك.

فنزل جبرئيل عليه السلام وقال : خذها يا محمّد هنّأك اللّه في أهل بيتك ، فأقرأه السورة. (1)

روى السيوطي في الدر المنثور ، وقال : اخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ) الآية ، قال : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم. (2)

ورواه الثعلبي في تفسيره ، وقال : نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة عليهما السلام وفي جاريتهما فضة ، ثمّ ذكر القصة على النحو الذي سردناه لكن بصورة مبسطة.

وقال : وذهب محمّد بن علي صاحب الغزالي على ما ذكره الثعلبي في كتابه

ص: 235


1- الكشاف : 3 / 297 ؛ تفسير الفخر الرازي : 30 / 244.
2- الدر المنثور : 8 / 371 ، تفسير سورة الإنسان.

المعروف ب « البلغة » انّهم عليهم السلام نزلت عليهم السلام مائدة من السماء فأكلوا منها سبعة أيّام ، وحديث المائدة ونزولها عليهم في جواب ذلك مذكور في سائر الكتب.(1)

وقد سرد سبب نزول هذه الآية في حقّ أهل البيت عليهم السلام غير واحد من أئمّة الحديث.(2).

ص: 236


1- العُمدة : 2 / 407 - 410.
2- شواهد التنزيل : 2 / 405 - 408 ؛ أُسد الغابة : 5 / 530 ؛ مناقب ابن المغازلي : 272.

من سمات أهل البيت عليهم السلام

6. هم خير البريّة

إنّ خير الناس في منطق القرآن الكريم من آمن باللّه ورسوله وعرف خالقه ومنعمه ، وقد قال سبحانه : ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ) . (1)

وهذه الصفات المذكورة في الآية تجدها ، متمثلة في أهل البيت عليهم السلام شهد على ذلك سيرتهم ، ولذلك صاروا خير البرية.

أخرج الطبري في تفسير قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) . (2) باسناده عن أبي الجارود ، عن محمد بن علي ، قال : قال

ص: 237


1- البقرة : 177.
2- البيّنة : 7.

النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « أنت يا علي وشيعتك ».(1)

روى الخوارزمي عن جابر قال : كنّا عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأقبل علي بن أبي طالب ، فقال رسول اللّه : « قد أتاكم أخي » ثمّ التفت إلى الكعبة فضربها بيده ، ثمّ قال : « والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة » ، ثمّ قال : « إنّه أوّلكم إيماناً معي ، وأوفاكم بعهد اللّه ، وأقومكم بأمر اللّه ، وأعدلكم في الرعيّة ، وأقسمكم بالسويّة ، وأعظمكم عند اللّه مزيّة » ، قال : وفي ذلك الوقت نزلت فيه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، وكان أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا أقبل عليّ ، قالوا : قد جاء خير البرية.(2)

وروى أيضاً من طريق الحافظ ابن مردويه ، عن يزيد بن شراحيل الأنصاري ، كاتب علي عليه السلام ، قال : سمعت عليّاً يقول : « حدَّثني رسول اللّه وأنا مُسْنده إلى صدري ، فقال أي عليّ ! ألم تسمع قول اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ؟ أنت وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأُمم للحساب تُدعون غرّاً محجّلين ».(3)

وأرسل ابن الصباغ المالكي في فصوله عن ابن عباس ، قال : لمّا نزلت هذه الآية ، قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : « أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة ، أنت وهم راضين مرضيين ، ويأتي أعداؤك غضاباً مقمحين ».(4).

ص: 238


1- تفسير الطبري : 30 / 146.
2- المناقب للخوارزمي : 111 برقم 120.
3- المناقب للخوارزمي : 265 برقم 247.
4- الفصول : 122.

من سمات أهل البيت عليهم السلام

7. أهل البيت عليهم السلام ورثة الكتاب

اختلفت الأُمّة الإسلامية بعد رحيل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في أمر الخلافة - وإن كان اللائق بها عدم الاختلاف فيها ، للنصوص الصحيحة الصادرة عنه في مختلف الموارد - وقد استقصينا البحث فيها في مبحث الإمامة من هذا الجزء.

والذي نركِّز عليه في هذا البحث هو تبيين المرجع العلمي بعد رحيله - سواء أكانت الخلافة لمن نصَّ عليه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في يوم الغدير أو من اختاره بعض الصحابة في سقيفة بني ساعدة -.

والمراد من المرجع العلمي مَن ترجع إليه الأُمّة في أُصول الدين وفروعه ، ويصدر عنهم في تفسير القرآن وتبيين غوامضه ، ويستفهم منه أسئلة الحوادث المستجدَّة.

يقول سبحانه : ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ

ص: 239

الْكَبِيرُ ) . (1)

المراد من الكتاب في قوله : ( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ) هو القرآن بلا شكّ وكونه حقّاً لأجل براهين قطعية تُثبت أنّه منزل من ربّه فانّ قوانينه تنسجم مع الفطرة الإنسانية ، والقصص الواردة فيها مصونة من الأساطير ، والمجموع خالٍ من التناقض إلى غير ذلك من القرائن الدالة على أنّه حقّ. ومع ذلك هو مصدِّق لما بين يدي الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم من الكتاب السماوي.

هذا هو مفاد الآية الأُولى.

ثمّ إنّه سبحانه يقول : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ) المراد من الكتاب هو القرآن : لأنَّ اللاّم للعهد الذكري أي الكتاب المذكور في الآية المتقدمة ، والوراثة عبارة عمّا يستحصله الإنسان بلا مشقة وجهد ، والوارث لهذا الكتاب هم الذين أُشير إليهم بقوله : ( الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) ، فلو قلنا بأنّ « من » للتبيين فيكون الوارث هو الأُمة الإسلامية جميعاً ، ولو قلنا : إنّ « مِن » للتبعيض فيكون الوارث جماعة خاصة ورثوا الكتاب.

والظاهر هو التبيين كما في قولنا : ( وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) . (2)

ولكن الأُمة الإسلامية صاروا على أقسام ثلاثة :

أ : ظالم لنفسه : الَّذين قصَّروا في وظيفتهم في حفظ الكتاب والعمل بأحكامه ، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم ، فلذلك صاروا ظالمين لأنفسهم.

ب : مقتصد : الذين أدُّوا وظيفتهم في الحفظ والعمل لكن لا بنحو كامل

ص: 240


1- فاطر : 31 - 32.
2- النمل : 59.

بل قصَّروا شيئاً فيهما.

ج : سابق بالخيرات بإذن اللّه : هم الجماعة المثلى أدّوا وظائفهم بالحفظ والعمل على النحو الأتم ، فلذلك سبقوا إلى الخيرات كما يقول سبحانه : ( سابِقٌ بالخَيرات بِإِذْنِ اللّه ) .

وعلى هذا فإنَّ ورثة الكتاب في الحقيقة هم الطائفة الثالثة أعني الذين سبقوا بالخيرات.

وأمّا ما هو المراد من الطائفة الثالثة ، فيتكفَّل الحديث لبيان ملامحها.

روى الكليني عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في تفسير الآية انّه قال : « السابق بالخيرات الإمام ، والمقتصد العارف بالإمام ، والظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام ».

وروي نفس الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام.

وهناك روايات أُخرى تؤيد المضمون فمن أراد فليراجع. (1)

ثمّ إنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد أوضح ورثة الكتاب في حديثه المعروف الذي اتّفق على نقله أصحاب الصحاح والمسانيد.

أخرج مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم رضي اللّه عنه ، قال : قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوماً فينا خطيباً ، بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة ، فحمد اللّه تعالى ، وأثنى عليه ووعظ وذكّر ، ثمّ قال :

« أمّا بعد : ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأُجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب اللّه استمسكوا به » ، فحثّ على كتاب اللّه ورغَّب فيه ؛ ثمّ قال : « وأهل بيتي ، أُذكِّركم اللّه في أهل

ص: 241


1- البرهان في تفسير القرآن : 3 / 363.

بيتي ، أُذكِّركم اللّه في أهل بيتي ، أُذكِّركم اللّه في أهل بيتي ». (1)

هذا ما أخرجه مسلم ، ومن الواضح انّه لم ينقل على وجه دقيق ، وذلك لأنّ مقتضى قوله : « أوّلهما » ، أن يقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : ثانيهما أهل بيتي ، مع أنّه لم يذكر كلمة « ثانيهما ».

وقد رواها الإمام أحمد بصورة أفضل ممّا سبق ، كما رواه النسائي في فضائل الصحابة كذلك.

أخرج أحمد في مسنده عن أبي الطفيل ، عن زيد بن الأرقم ، قال : لما رجع رسول اللّه من حَجّة الوداع ونزل غدير خم ، أمر بدوحات فقممن ، ثمّ قال : « كأنّي قد دعيت فأجبت : إنّي قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ».

ثمّ قال : « إنّ اللّه مولاي ، وأنا ولي كلّ مؤمن » ، ثمّ أخذ بيد عليّ ، فقال : « من كنت وليّه فهذا وليّه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ». (2)

هذه إلمامة سريعة بحديث الثقلين ، ومن أراد أن يقف على أسانيده ومتونه فعليه أن يرجع إلى الكتب المؤلفة حوله ، وأبسط كتاب في هذا الموضوع ما ألفه السيد المجاهد « مير حامد حسين » حيث خصّ أجزاءً من كتابه « العبقات » لبيان تفاصيل أسانيده ومضمونه ، وقد طبع ما يخصَّ بالحديث في ستَّة أجزاء.

كما بسط الكلام في أسانيده وأسانيد غيره سيد مشايخنا البروجردي ( 1292 - 1380 ه ) في كتابه « جامع أحاديث الشيعة » ، فقال بعد استيفاء

ص: 242


1- صحيح مسلم : 4 / 1873 برقم 2408 ، ط عبد الباقي.
2- المسند الجامع : 5 / 505 برقم 3828.

نصوص الحديث وأسانيده : وقد ظهر ممّا ذكرنا انّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أوجب على الأُمّة قاطبة التمسُّك بالعترة الطيبة في الأُمور الشرعية والتكاليف الإلهية ، وأكَّد وجوبه وشدَّده وأوثقه وكرَّره بكلمات عديدة وألفاظ مختلفة بحيث لا يمكن إنكاره ولا يجوز تأويله ، وقد اكتفينا بذلك وأنّ كثيراً من طرق الحديث قد ضمن مضافاً إلى المذكورات ، ما يدل على حجّية أقوالهم ووجوب اتّباعهم وحرمة مخالفتهم. (1)

والجدير بالمسلمين التركيز على مسألة تعيين المرجع العلمي بعد رحيل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، إذ لا يسوغ في منطق العقل أن يترك صاحب الرسالة ، الأُمّة المرحومة بلا راع ، وهو يعلم أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم برحيله سوف يواجه المسلمون حوادث مستجدة ووقائع جديدة تتطلب أحكاماً غير مبيّنة في الكتاب والسنَّة ، فلا محيص من وجود مرجع علمي يحُلُّ مشاكلها ويذلّل أمامها الصعاب ، وقد قام صلى اللّه عليه وآله وسلم ببيان من يتصدّى لهذا المنصب بحديث الثقلين.

ومن العجب أنّ كثيراً من المسلمين يطرقون كلّ باب إلاّ باب أئمّة أهل البيت عليهم السلام مع أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يذكر شيئاً ممّا يرجع إلى غير هؤلاء ، فلا أدري ما هو وجه الإقبال على غيرهم والإعراض عنهم ؟!

قال السيد شرف الدين العاملي : والصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابياً متضافرة. وقد صدع بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في مواقف له شتى.

تارة يوم غدير خم كما سمعت ، وتارة يوم عرفة في حجّة الوداع ، وتارة بعد انصرافه من الطائف ، ومرّة على منبره في المدينة ، وأُخرى في حجرته المباركة في

ص: 243


1- جامع أحاديث الشيعة : 1 / 131 - 132.

مرضه ، والحجرة غاصَّة بأصحابه ، إذ قال : « أيّها الناس يوشك أن أُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب اللّه عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي » ، ثمّ أخذ بيد علي فرفعها ، فقال : « هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض ».

وقد اعترف بذلك جماعة من أعلام الجمهور ، حتى قال ابن حجر : ثم اعلم أنّ لحديث التمسك بهما طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً.

قال : ومرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه ، وفي بعض تلك الطرق انّه قال : ذلك بحجّة الوداع بعرفة ، وفي أُخرى انّه قاله بالمدينة في مرضه ، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه ، وفي أُخرى انّه قال : ذلك بغدير خم ، وفي أُخرى انّه قال : ذلك لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف.

قال : ولا تنافي إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة.

وحسب أئمّة أهل العترة الطاهرة أن يكونوا عند اللّه ورسوله بمنزلة الكتاب ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكفى بذلك حجة تأخذ بالأعناق إلى التعبُّد بمذهبهم ، فانّ المسلم لا يرتضي بكتاب اللّه بدلاً ، فكيف يبتغي عن أعداله حولاً.(1).

ص: 244


1- المراجعات : المراجعة رقم 8.

من سمات أهل البيت عليهم السلام

8. حرمة الصدقة عليهم

اتّفق الفقهاء على أنّه لا تحل الصدقة المفروضة على بني هاشم الواردة في الآية المباركة ، أعني : قوله سبحانه : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ) .(1)وذلك لأنّ التطهير والتزكية إنّما يتعلَّق بما فيه وسخ وأهل البيت أعلى من أن يعيشوا بأوساخ الناس.

قال ابن قدامة : « لا نعلم خلافاً في أنّ بني هاشم لا تحلُّ لهم الصدقة المفروضة ».(2)

وقد تضافرت الروايات على ذلك وجمعها ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام ، نقتبس منها ما يلي :

1. عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إنّ الصدقة لا تنبغي لآل محمّد ، إنّما هي أوساخ النّاس ».(3)

وفي رواية : « وانَّها لا تحلُّ لمحمد ولا لآل محمد » رواه مسلم.(4).

ص: 245


1- التوبة : 103.
2- المغني : 2 / 547.
3- بلوغ المرام : 129 ، برقم 665.
4- بلوغ المرام : 129 ، برقم 665.

2. روى أبو هريرة ، قال : أخذ الحسن بن علي عليهما السلام تمرة من تمر الصدقة ، فجعلها في فيه ، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « كخٍ ، كخٍ » ليطرحها ، ثمّ قال : « أما شعرت أنّا لا نأكل الصدقة » ، رواه الشيخان البخاري ومسلم.

ولمسلم : أما علمت أنّا لا تحل لنا الصدقة. (1)

3. عن أنس انّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مرّ بتمرة في الطريق ، وقال : « لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها ».

رواه مسلم وأبو داود. (2)

4. عن عائشة ، قالت : أُتي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بلحم ، فقلت : هذا ما تصدّق به على بريرة ، فقال : « هو لها صدقة ، ولنا هديَّة ».

رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود. (3)

5. كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا أُتي بطعام سأل عنه ، فإن قيل : هدية أكل منها ، وإن قيل : صدقة ، لم يأكل منها.

رواه الترمذي ومسلم. (4)

6. عن عبد اللّه بن حرث الهاشمي - وساق حديثاً حتى قال - : إنّ هذه الصدقات إنّما هي أوساخ الناس وانّها لا تحل لمحمّد ولا لآل محمّد.

رواه مسلم والنسائي. (5)

7. عن أبي رافع أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم ، فقال لأبي رافع : اصحبني فإنّك تصيب منها ، قال : حتى آتي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأسأله ، فأتاه فسأله ، فقال : مولى القوم من أنفسهم وإنّا لا تحلُّ لنا الصدقة.

أخرجه أبو داود والترمذي وصححه. (6)

ص: 246


1- التاج الجامع للأُصول : 2 /1. 31 ، ط الثانية.
2- التاج الجامع للأُصول : 2 /1. 31 ، ط الثانية.
3- التاج الجامع للأُصول : 2 /1. 31 ، ط الثانية.
4- التاج الجامع للأُصول : 2 /1. 31 ، ط الثانية.
5- التاج الجامع للأُصول : 2 /1. 31 ، ط الثانية.
6- التاج الجامع للأُصول : 2 /1. 31 ، ط الثانية.

الفصل الثالث: حقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم

اشارة

قد عرفت من هم أهل البيت عليهم السلام في الآيات والروايات الواردة على لسان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وما جادت به القرائح العربية حولهم من قصائد وأراجيز كما عرفت سماتهم وخصوصياتهم.

وحان البحث لبيان حقوقهم على المسلمين الَّتي نزل بها الوحي في الكتاب العزيز ، وها نحن نذكر بعض حقوقهم :

ص: 247

ص: 248

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

1. ولاية أهل البيت عليهم السلام

قد دلّت الروايات المتضافرة على أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ارتحل وقد نصّب عليّاً عليه السلام للولاية والخلافة ، فأبان ولايته وولاية من بعده من الأئمّة في مواقف مختلفة ، نذكر منها موقفين :

الأوّل : انّ سائلاً أتى مسجد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام راكع ، فأشار بيده للسائل ، أي اخلع الخاتم من يدي ، فنزل قوله سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) .(1)

وقد تضافرت الروايات على نزول الآية في حقّ علي عليه السلام ونقلها الحفّاظ ، منهم : ابن جرير الطبري(2)والحافظ أبو بكر الجصاص الرازي(3)والحاكم النيسابوري(4)والحافظ أبو الحسن الواحدي النيسابوري(5)وجار اللّه الزمخشري(6)، إلى غيرهم من أئمّة الحفاظ وكبار المفسِّرين ربَّما ناهز عددهم السبعين. وهم بين

ص: 249


1- المائدة : 55.
2- تفسير الطبري : 6 / 186.
3- أحكام القرآن : 2 / 542.
4- معرفة أُصول الحديث : 102.
5- أسباب النزول : 113.
6- الكشاف : 1 / 468.

محدِّث ومفسّر ومؤرِّخ.

والذي يجب التركيز عليه هو فهم معنى الولي الوارد في الآية المباركة والذي وقع وصفاً لله سبحانه ولرسوله ومن جاء بعده.

المراد من الولي في الآية هو الأولوية الواردة في قوله سبحانه : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) .(1)

فالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أولى من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ، فهو بما انّه زعيم المسلمين ووليّهم ، يتصرّف فيهم حسب ما تقتضيه المصالح في طريق حفظ كيان الإسلام وصيانة هويَّتهم والدفاع عن أراضيهم لغاية نشر الإسلام.

وليست الغاية من هذه الولاية الموهوبة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هي حفظ مصالح النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الشخصية ، بل الغاية كما عرفت صيانة مصالح الإسلام والمسلمين.

فالولاية بهذه المعنى هي المراد من قوله سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ) والقرائن الدالَّة على تعُّين هذا المعنى كثيرة ، نذكر منها ما يلي :

الأوّل : إذا كان المراد من الوليّ هو الزعامة ، يصحّ تخصيصها باللّه سبحانه ورسوله ومن أعقبه ، وأمّا لو كان المراد منه هو الناصر والمحب ، فهو ليس مختصاً بهؤلاء ، لأنّ كلّ مؤمن محب للآخرين أو ناصر لهم كما يقول سبحانه : ( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) .(2)

الثاني : انّ ظاهر الآية انّ هناك أولياء وهناك مولّى عليهم ، ولا يتحقّق التمايز إلا بتفسير الولاية بمعنى الزعامة حتى يتميّز الزعيم عن غيره ، وهذا بخلاف ما لو فسرّناه بمعنى الحب والود أو النصر ، فتكون الطوائف الثلاث عندئذ على حد سواء.

ص: 250


1- الأحزاب : 6.
2- التوبة : 71.

الثالث : إذا كان المراد من الولي هو الزعيم ، يصحّ تخصيصه بالمؤمن المؤدّي للزكاة حال الصلاة ، وأمّا لو كان المراد بمعنى المحبّ والناصر وما أشبههما يكون القيد زائداً ، أعني : إعطاء الزكاة في حال الصلاة ، فانّ شرط الحب هو إقامة الصلاة وأداء الزكاة ، وأمّا تأديتها في حال الركوع فليس من شرائط الحب والنصرة ، وهذا دليل على أنّ المراد فرد أو جماعة خاصة يوصفون بهذا الوصف لا كلّ المؤمنين.

الرابع : انّ الآية التالية تفسر معنى الولاية ، يقول سبحانه : ( وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) .(1)

فانّ لفظة ( الَّذِينَ آمَنُوا ) في هذه الآية هو الوارد في الآية المتقدمة ، أعني : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) ، وعلى هذا يكون المراد من الولي أخذهم زعيماً وولياً بشهادة انّ حزب اللّه لا ينفك من زعيم يدبِّر أُمورهم.

إلى هنا تبيّن انّ الإمعان في القرائن الحافَّة بالآية تفسّر معنى الولي وتعيَّن المعنى وتثبت انّ المقصود هو الزعيم ، لكن من نكات البلاغة في الآية انّه سبحانه صرح بولايته وولاية رسوله ومن جاء بعده وعلى ذلك صارت الولاية للثلاثة ، وكان اللازم عندئذٍ أن يقول إنّما أولياؤكم بصيغة الجمع لكنّه أتى بصيغة المفرد إشارة إلى نكتة ، وهي انّ الولاية بالأصالة لله سبحانه وأمّا ولاية غيره فبإيهاب من اللّه سبحانه لهم ، ولذلك فرّد الكلمة ولم يجمعها ، لكن هذه الولاية لا تنفك من آثار ، وقد أُشير إلى تلك الآثار في آيات مختلفة ، وإليك بيانها :

1. ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) .(2)

فانّ لزوم إطاعة اللّه والرسول وغيرهما من آثار ولايتهم وزعامتهم ، فالزعيم

ص: 251


1- المائدة : 56.
2- النساء : 59.

يجب أن يكون مطاعاً.

2. ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) .(1)

فينفذ قضاؤه سبحانه والَّذي هو من آثار الزعامة ، ونظيره قوله سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ) .(2)

3. ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .(3)فحرمة مخالفة أمر اللّه ورسوله من توابع زعامتهم وولايتهم.

فهذه الحقوق ثابتة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بنص القرآن الكريم ولمن بعده بحكم انّهم أولياء بعد النبي فانّ ثبوتها للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لأجل ولايته فإذا كانت الولاية مستمرة بعده فيتمتع كلّ وليٍّ بهذه الحقوق.

وبهذا تبيَّنت دلالة الآية على ولاية علي عليه السلام وانّها حقّ من حقوق أهل البيت عليهم السلام لصالح الإسلام والمسلمين.

نعم بعض من لا تروقهم ولاية أهل البيت عليهم السلام وزعامتهم حاولوا تضعيف دلالة الآية بشبهات واهية واضحة الرد ، وقد أجبنا عنها في بعض مسفوراتنا فلنكتف في المقام بهذا المقدار.

غير انّا نركز على نكتة وهي انّ الصحابة الحضور لم يفهموا من الآية سوى الولاية ولذلك صبَّ شاعر عهد الرسالة حسان بن ثابت ما فهمه من الآية بصفاء ذهنه في قالب الشعر ، وقال :

ص: 252


1- الأحزاب : 36.
2- النساء : 105.
3- النور : 63.

فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكعٌ *** فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيد *** ويا خير شارٍ ثمّ يا خير بايعٌ

فأنزل فيك اللّه خيرَ ولاية *** وبيَّنها في محكمات الشرائع(1)

والظاهر ممّا رواه المحدّثون انّ الأُمّة الإسلامية سيُسألون يوم القيامة عن ولاية علي عليه السلام ، حيث ورد السؤال في تفسير قوله سبحانه : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) .(2)

روى ابن شيرويه الديلمي في كتاب « الفردوس » في قافية الواو ، باسناده عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) عن ولاية علي بن أبي طالب.(3)

ونقله ابن حجر عن الديلمي ، وقال : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) أي عن ولاية علي وأهل البيت ، لأنّ اللّه أمر نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يعرف الخلق أنّه لا يسألهم على تبليغ الرسالة أجراً إلاّ المودة في القربى ، والمعنى انّهم يسألون هل والوهم حق الموالاة كما أوصاهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أم أضاعوها وأهملوها فتكون عليهم المطالبة والتبعة.(4)

الثاني(5): من تلك المواقف هو يوم الغدير وهو أوضحها وآكدها وأعمّها وقد صدع بالولاية في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام في منصرفه من حجّة الوداع ، وقد قام في محتشد كبير بعدما خطب خطبة مفصَّلة وأخذ من الناس الشهادة على التوحيد والمعاد ورسالته وأعلن انّه فرط على الحوض ، ثمّ ذكر الثقلين وعرَّفهما ، بقوله : « الثقل الأكبر : كتاب اللّه ، والآخر الأصغر : عترتي ؛ وانّ اللطيف .

ص: 253


1- مناقب الخوارزمي : 178 ؛ كفاية الطالب للكنجي : 200 ؛ تذكرة ابن الجوزي : 25.
2- الصّافات : 24.
3- شواهد التنزيل : 2 / 106.
4- الصواعق المحرقة : 149.
5- مضى الأوّل : 247.

الخبير نبَّأني انّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » ، ثمّ قال : « أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ » قالوا : اللّه ورسوله أعلم ، قال : « إنّ اللّه مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه » ، ثمّ قال : « اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، وأحب من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ».

ففي هذه الواقعة الفريدة من نوعها أعلن النبي ولاية علي عليه السلام للحاضرين وأمرهم بإبلاغها للغائبين ، ونزل أمين الوحي بآية الإكمال ، أعني : قوله سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) . (1)

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « اللّه أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضى الربّ برسالتي ، والولاية لعلي من بعدي ».

ثمّ طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنين عليه السلام وممَّن هنَّأه في مقدّم الصحابة : الشيخان أبو بكر وعمر ، كلّ يقول :

بَخٍّ بَخٍّ لك يابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وقد تلقّى الصحابة الحضور انّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أوجب ولايته على المؤمنين ، وقد أفرغ شاعر عهد الرسالة حسّان بن ثابت ما تلقّاه عن الرسول ، في قصيدته وقال :

فقال له قم يا عليّ فانّني *** رضيتك من بعدي إماماً وهادياً

فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أنصار صدق موالياً

قد ذكرنا مصادر الخطبة والأبيات عند البحث عن الإمامة فراجع.

ص: 254


1- المائدة : 3.

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

2. أهل البيت عليهم السلام وضرورة إطاعتهم

أمر سبحانه بإطاعة الرسول وأُولي الأمر ، وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) . (1)

تأمر الآية بإطاعة اللّه كما تأمر بإطاعة الرسول وأُولي الأمر لكن بتكرار الفعل ، أعني : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) وما هذا إلاّ لأنّ سنخ الإطاعتين مختلف ، فإطاعته سبحانه واجبة بالذات ، وإطاعة النبي وأُولي الأمر واجبة بإيجابه سبحانه.

والمهم في الآية هو التعرُّف على المراد من أُولي الأمر ، فقد اختلف فيه المفسرون على أقوال ثلاثة :

1. الأُمراء ، 2. العلماء ، 3. صنف خاص من الأُمّة ، وهم أئمّة

ص: 255


1- النساء : 59.

أهل البيت عليهم السلام.

وبما انّه سبحانه أمر بإطاعة أُولي الأمر إطاعة مطلقة ، غير مقيَّدة بما إذا لم يأمروا بالمعصية يمكن استظهار أنّ أُولي الأمر المشار إليهم في الآية والذين وجبت طاعتهم على الإطلاق ، معصومون من المعصية والزلل ، كالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى اقترنوا في لزوم الطاعة في الآية.

وبعبارة أُخرى : انّه سبحانه أوجب طاعتهم بالإطلاق ، كما أوجب طاعته ، وطاعة رسوله ، ولا يجوز أن يوجب اللّه طاعة أحد على الإطلاق إلاّ من ثبتت عصمته ، وعلم أنّ باطنه كظاهره ، وأمن منه الغلط والأمر بالقبيح ، وليس ذلك بحاصل في الأُُمراء ، ولا العلماء سواهم ، جلّ اللّه عن أن يأمر بطاعة من يعصيه ، أو بالانقياد للمختلفين في القول والفعل ، لأنّه محال أن يطاع المختلفون ، كما أنّه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه. (1)

وقد أوضحه الرازي في تفسيره ، وذهب إلى أنّ المقصود من أُولي الأمر هم المعصومون في الأُمّة ، وإن لم يخض في التفاصيل ، ولم يستعرض مصاديقهم ، لكنّه بيّن المراد منهم بصورة واضحة ، وقال :

والدليل على ذلك انّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع ، لابدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته ، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأً منهي عنه ، فهذا يُفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد وانّه

ص: 256


1- مجمع البيان : 3 / 100.

محال.

فثبت انّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أنّ كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم ، وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لابدّ وأن يكون معصوماً. (1)

وقد أوضح السيد الطباطبائي دلالة الآية على عصمة أُولي الأمر ببيان رائق وإليك نصّه ، قال : الآية تدل على افتراض طاعة أُولي الأمر هؤلاء ، ولم تقيّده بقيد ولا شرط ، وليس في الآيات القرآنية ما يقيّد الآية في مدلولها حتى يعود معنى قوله : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) إلى مثل قولنا : وأطيعوا أُولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم ، فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم ، وإن علمتم خطأهم فقوِّموهم بالردّ إلى الكتاب والسنّة وليس هذا معنى قوله : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) .

مع أنّ اللّه سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة ، كقوله في الوالدين : ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ) . (2) فما باله لم يُظهر شيئاً من هذه القيود في آية تشتمل على أُس أساس الدين ، وإليها تنتهي عامة اعراق السعادة الإنسانية.

على أنّ الآية جمع فيها بين الرسول وأُولي الأمر ، وذكر لهما معاً طاعة واحدة ، فقال : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ، ولا يجوز على الرسول أن يأمر

ص: 257


1- التفسير الكبير : 10 / 144.
2- العنكبوت : 8.

بمعصية أو يغلط في حكم ، فلو جاز شيء من ذلك على أُولي الأمر ، لم يسع إلاّ أن يذكر القيد الوارد عليهم فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أن تقيّد ، ولازمه اعتبار العصمة في جانب أُولي الأمر ، كما اعتبر في جانب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من غير فرق. (1)

وبذلك تبيَّن أنّ تفسير أُولي الأمر بالخلفاء الراشدين أو أُمراء السرايا أو العلماء أمر غير صحيح ، لأنّ الآية دلَّت على عصمتهم ولا عصمة لهؤلاء ، فلابدّ في التعرُّف عليهم من الرجوع إلى السنَّة التي ذكرت سماتهم ولا سيما حديث الثقلين حيث قورنت فيه العترة بالكتاب ، فإذا كان الكتاب مصوناً من الخطأ ، فالعترة مثله أخذاً بالمقارنة.

ونظيره حديث السفينة : « مَثَل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ». (2)

إلى غير ذلك من الأحاديث التي تنصُّ على عصمة العترة الطاهرة ، فإذاً هذه الأحاديث تشكّل قرينة منفصلة على أنّ المراد من أُولي الأمر هم العترة أحد الثقلين.

بل يمكن كشف الحقيقة من خلال الإمعان في آية التطهير ، وقد عرفت دلالتها على عصمة أهل البيت الذين عيَّنهم الرسول بطرق مختلفة.

وعلى ضوء ذلك فآية التطهير ، وحديث الثقلين ، وحديث السفينة إلى غيرها من الأحاديث الواردة في فضائل العترة الطاهرة كلّها تدل على عصمتهم.

هذا من جانب ومن جانب آخر دلَّت آية الإطاعة على عصمة أُولي الأمر ،

ص: 258


1- الميزان : 4 / 391.
2- الحاكم : المستدرك : 3 / 151 أخرجه مسنداً إلى أبي ذر.

فبضم القرائن الآنفة الذكر إلى هذه الآية يتضح المراد من أُولي الأمر الذين أمر اللّه سبحانه بطاعتهم وقرن طاعتهم بطاعة الرسول.

وأمّا الرواية عن النبيّ : فقد روى ابن شهراشوب عن تفسير مجاهد انّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام حين خلّفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في المدينة ، فقال : « يا رسول اللّه ، أتخلّفني بين النساء والصبيان ؟ » فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « يا علي ، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، حين قال له : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ) ، فقال : أبلى واللّه ؛ ( وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) قال : علي بن أبي طالب ولاّه اللّه أمر الأُمَّة بعد محمّد حين خلّفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالمدينة فأمر اللّه العباد بطاعته وترك خلافه ». (1)

وأمّا ما رُوي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام حول الآية فحدث عنها ولا حرج ، فلنقتصر في المقام على رواية واحدة نقلها الصدوق باسناده عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، قال :

لمّا أنزل اللّه عزّ وجلّ على نبيّه محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) قلت : يا رسول اللّه ، عرفنا اللّه ورسوله ، فمن أولو الأمر الذين قرن اللّه طاعتهم بطاعتك ؟ فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمين من بعدي ، أوّلهم علي بن أبي طالب ، ثمّ الحسن ، ثمّ الحسين ، ثمّ علي بن الحسين ، ثمّ محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ستدركه ياجابر ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام ، ثمّ الصادق جعفر بن محمد ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ علي بن موسى ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ علي بن محمّد ، ثمّ الحسن بن علي ، ثمّ سَمِيِّ محمّد و

ص: 259


1- المناقب لإبن شهراشوب : 3 / 15 ، ط المطبعة العلميّة.

كنيتي ، حجة اللّه في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي ، ذاك الذي يفتح اللّه تعالى على يديه مشارق الأرض ومغاربها ، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيه على القول بإمامته إلاّ من امتحن اللّه قلبه للإيمان ».

قال جابر : فقلت له : يا رسول اللّه فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته ؟ فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « اي والذي بعثني بالنبوة إنّهم يستضيئون بنوره ، وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلاها سحاب.

يا جابر هذا من مكنون سر اللّه ومخزون علم اللّه ، فاكتمه إلاّ عن أهله ».(1).

ص: 260


1- البرهان في تفسير القرآن : 1 / 381.

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

3. وجوب مودَّتهم وحبِّهم
اشارة

قام الرسل بابلاغ رسالات اللّه سبحانه إلى الناس ، دون أن يبغوا أجراً منهم ، بل كان عملهم خالصاً لوجهه سبحانه ، لأنّ إبلاغ رسالاته كانت فريضة إلهية على عواتقهم ، فكيف يطلبون الأجر للعمل العبادي الذي لا يبعثهم إليه إلاّ طاعة أمره وطلب رضاه ، ولذلك كان شعارهم دوماً ، قولهم ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .(1)

فقد ذكر سبحانه على لسان الأنبياء تلك الآية في سورة الشعراء ، ونقلها عن عديد من أنبيائه ، نظراء :

نوح(2)، هود(3)صالح(4)لوط(5)شعيب (6).

وقد جاء هذا الشعار في سور أُخرى نقلها القرآن الكريم عن رسله وأنبيائه ، فقد كانوا يخاطبون أُمَمهم بقولهم :

ص: 261


1- الشعراء : 109.
2- الشعراء : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180.
3- الشعراء : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180.
4- الشعراء : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180.
5- الشعراء : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180.
6- الشعراء : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180.

( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ ) .(1)

( يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ) .(2)

فإذا كان هذا موقف الأنبياء من أُمَمهم ، فكيف يصح للنبي الخاتم صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يطلب الأجر ؟! بل هو أولى بأن يكون عمله خالصاً لله ، لأنّه خاتم الرسل وأفضلهم ، وقد كان يرفع ذلك الشعار أيام بعثته ، بأمر منه سبحانه ويتلو قوله تعالى : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) .(3)

هذه هي حقيقة قرآنية لا يمكن إنكارها ، ومع ذلك نرى انّه سبحانه يأمره في آية أُخرى بأن يطلب منهم مودة القربى أجراً للرسالة.

ويقول : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) .(4)

فكيف يمكن الجمع بين هذه الآية ، وما تقدم من الآية الخاصَّة بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم والآيات الراجعة إلى سائر الأنبياء ، فانّهم عليهم السلام كانوا على نهج واحد ؟

هذا هو السؤال المطروح في المقام.

والإجابة عليه تتوقَّف على نقل ما ورد حول الموضوع في القرآن الكريم ، فنقول :

الآيات التي وردت حول أجر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على أصناف أربعة :

الأوّل : أمره سبحانه بأن يخاطبهم بأنّه لا يطلب منهم أجراً ، قال سبحانه : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) .(5).

ص: 262


1- هود : 29.
2- هود : 51.
3- الأنعام : 90.
4- الشورى : 23.
5- الأنعام : 90.

الثاني : ما يشعر بأنّه طلب منهم أجراً يرجع نفعه إليهم دون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : فيقول سبحانه : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) . (1)

الثالث : ما يُعرّف أجره ، بقوله : ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) . (2) فكان اتخاذ السبيل إلى اللّه هو أجر الرسالة.

الرابع : ما يجعل مودة القربى أجراً للرسالة ، ويقول : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) .

فهذه العناوين الأربعة لابدّ أن ترجع إلى معنى واحد ، وهذا هو الذي نحاول أن نسلّط عليه الأضواء.

الجواب : انّ لفظة الأجر يطلق على الأجر الدنيوي والأُخروي غير انّ المنفي في تلك الآيات بقرينة نفي طلبه عن الناس هو الأجر الدنيوي على الإطلاق ، ولذلك لم ينقل التاريخ أبداً أن يطلب نبي لدعوته شيئاً بل نقل خلافه.

هذه هي قريش تقدَّمت إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي طليعتهم أبو الوليد ، فتقدم إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقال : يابن أخي إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر ، مالاًً ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سوَّدناك علينا ، حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك ، طلبنا لك الطبَّ ، وبذلنا فيه أموالنا حتي نُبرئك منه ، فانّه ربما غلب التابع علي الرجل حتى يداوى منه ، أو كما قال له

ص: 263


1- سبأ : 47.
2- الفرقان : 57.

حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يستمع منه ، قال : أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم ، قال : فاسمع مني قال : أفعل ، فقال : ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ) . (1)

ثمّ مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيها يقرؤها عليه. فلمّا سمعها منه عتبة ، أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه ، ثمّ انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ثمّ قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك. (2)

هذا النصّ وغيره يعرب عن أنّ مدار الإثبات والنفي هو الأجر الدنيوي بعامة صوره ، وهذا أمر منفي جداً لا يليق لنبي أن يطلبه من الناس.

قال الشيخ المفيد : إنّ أجر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في التقرُّب إلى اللّه تعالى هو الثواب الدائم ، وهو مستحق على اللّه تعالى في عدله وجوده وكرمه ، وليس المستحق على الأعمال يتعلَّق بالعباد ، لأنّ العمل يجب أن يكون لله تعالى خالصاً ، وما كان لله فالأجر فيه على اللّه تعالى دون غيره. (3)

إذا عرفت ذلك ، فنقول :

إنّ مودة ذي القربى وإن تجلّت بصورة الأجر حيث استثنيت من نفي الأجر ، لكنّه أجر صوري وليس أجراً واقعياً ، فالأجر الواقعي عبارة عمّا إذا عاد نفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ولكنّه في المقام يرجع إلى المحب قبل رجوعه إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وذلك لأنّ مودة ذي القربى تجرّ المحب إلى أن ينهج سبيلهم في الحياة ، ويجعلهم أُسوة في

ص: 264


1- فصّلت : 1 - 5.
2- السيرة النبوية : 1 / 293 - 294.
3- تصحيح الاعتقاد : 68.

دينه ودنياه ، ومن الواضح انّ الحبّ بهذا المعنى ينتهي لصالح المحب. قال الصادق عليه السلام : « ما أحب اللّه عزّ وجلّ من عصاه » ثمّ تمثَّل ، فقال :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته *** انّ المحبّ لمن يحب مطيع (1)

وسيوافيك انّ المراد من ذوي القربى ليس كلّ من ينتمي إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بنسب أو سبب ، بل طبقة خاصة من أهل بيته الذين عرفهم بأنّهم أحد الثقلين في قوله : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ، وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ». (2)

فإذا كان المراد من ذوي القربى هؤلاء الذين أنيط بهم أمر الهداية والسعادة فحبُّهم ومودَّتهم يرفع الإنسان من حضيض العصيان والتمرد إلى عزّ الطاعة.

إنّ طلب المودة من الناس أشبه بقول طبيب لمريضه بعد ما فحصه وكتب وصفة : لا أُريد منك أجراً إلاّ العمل بهذه الوصفة ، فانّ عمل المريض بوصفة الطبيب وإن خرجت بهذه العبارة بصورة الأجر ، ولكنّه ليس أجراً واقعياً يعود نفعه إلى الطبيب بل يعود نفعه إلى نفس المريض الذي طلب منه الأجر.

وعلى ذلك فلابدّ من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع ، كأن يقول : قل لا أسألكم عليه أجراً ، وإنّما أسألكم مودة ذي القربى ، وليس الاستثناء المنقطع

ص: 265


1- سفينة البحار : مادة حبَّب.
2- أخرجه الحاكم في مستدركه : 3 / 148 ، وقال : هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه ؛ وأخرجه الذهبي في تلخيص المستدرك معترفاً بصحته على شرط الشيخين أقول : هذا حديث متواتر وقد ألَّف غير واحد من المحقّقين رسائل حوله.

أمراً غريباً في القرآن بل له نظائر مثل قوله : ( لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا ) .(1)

وعلى ذلك جرى شيخ الشيعة المفيد في تفسير الآية ، حيث طرح السؤال ، وقال :

فإن قال قائل : فما معنى قوله : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) أو ليس هذا يفيد انّه قد سألهم مودة القربى لأجره على الأداء ؟

قيل له : ليس الأمر على ما ظننت لما قدمنا من حجّة العقل والقرآن ، والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة لكنّه استثناء منقطع ، ومعناه قل لا أسألكم عليه أجراً لكنّي ألزمكم المودة في القربى واسألكموها ، فيكون قوله : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ) كلاماً تاماً ، قد استوفى معناه ، ويكون قوله : ( إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) كلاماً مبتدأً ، فائدته لكن المودة في القربى سألتكموها ، وهذا كقوله : ( فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ ) .(2)والمعنى فيه لكن إبليس ، وليس باستثناء من جملة.(3)

وعلى ضوء ذلك يظهر معنى قوله سبحانه : ( مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) .(4)

وقد تبَّين انّ حبّ الأولياء والصالحين لصالح المحب قبل أن يكون لصالحهم.

كما تبيَّن معنى قوله سبحانه في شأن ذلك الأجر : ( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) .(5).

ص: 266


1- مريم : 62.
2- الحجر : 30 - 31.
3- تصحيح الاعتقاد : 68.
4- سبأ : 47.
5- الفرقان : 57.

فانّ اتخاذ السبيل لا يخلو من أحد احتمالين :

1. مودَّة القربى والتفاني في حبهم الذي سينتهي إلى العمل بالشريعة الموجب لنيل السعادة.

2. نفس العمل بالشريعة الذي يصل إليها الإنسان عن طريق حبهم ومودتهم.

وبذلك ترجع الآيات الثلاث إلى معنى واحد من دون أن يكون بينهما أي تناف واختلاف.

وقد جاء الجمع بين مفاد الآيات الثلاث في دعاء الندبة الذي يشهد علو مضامينه على صدقه ، حيث جاء فيه :

« ثمّ جعلت أجر محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم مودّتهم في كتابك ، فقلت ( لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، وقلت : ( مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) ، وقلت : ( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) ، فكانوا هم السبيل إليك ، والمسلك إلى رضوانك ».

وإلى ذلك يشير شاعر أهل البيت ويقول :

موالاتهم فرض ، وحبهم هدى *** وطاعتهم ودٌّ ، وودُّهم تقوا

* * *

وأمّا القربى فهو على وزن البشرى والزلفى بمعنى القرابة ، يقول الزمخشري : القربى مصدر كالزلفى والبشرى ، بمعنى القرابة والمراد في الآية « أهل القربى ». (1)

وقد استعمل القرآن الكريم لفظة القربى في عامة الموارد بالمضاف ، فتارة

ص: 267


1- الكشاف : 3 / 81 في تفسير الآية.

بلفظة ذي ، قال سبحانه : ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ) .(1)

وأُخرى بلفظة ذوي ، قال سبحانه : ( وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ) .(2)

وثالثة : بلفظة « أُولي » ، قال سبحانه : ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) .(3)

وقد جاءت مرَّة واحدة دون إضافة وهي نفس الآية المباركة ، فلأجل ذلك يلزم تقدير شيء مثل لفظة « أهل » كما قدَّره الزمخشري أو لفظاً غير ذلك مثل كلمة « ذي » أو « ذوي » أو « ذوي قربى ».

إلى هنا تمَّت الإجابة عن السؤال الأوّل حول الآية.

السؤال الثاني

السؤال الثاني(4)

دلَّت الآية الكريمة على أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فرض مودة ذي القربى ، على المسلمين ولكن يبقى هنا سؤال وهو انّ الآية تحتمل وجهين :

أ : أن يكون المراد مودَّة ذوي القربى من أقرباء النبي وأهل بيته.

ب : أن يكون المراد ودّ كلّ مسلم أقربائه وعشيرته ومن يمتُّ إليه بصلة ، وليس في الآية ما يدل على المعنى الأوّل.

أقول : إنّ ذي القربى كما علمت بمعنى صاحب القرابة والوشيجة النسبية ، ويتعيَّن مورده بتعيُّن المنسوب إليه ، وهو يختلف حسب اختلاف موارد الاستعمال ،

ص: 268


1- البقرة : 83.
2- البقرة : 177.
3- التوبة : 113.
4- مضي السؤال الأوّل : 260.

ويستعان في تعيينه بالقرائن الموجودة في الكلام ، وهي :

الأشخاص المذكورون في الآية أو ما دلَّ عليه سياق الكلام.

فتارة يراد منه الأقرباء دون شخص خاص ، مثل قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) .(1)

وقوله سبحانه : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) .(2)

فانّ ذكر النبي والذين آمنوا معه آية على أنّ المراد قريب كلّ إنسان ، كما أنّ جملة ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ) آية أنّ المراد كل إنسان قريب إليه.

وأمّا قوله سبحانه : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) فالفعل المتقدّم عليه يعني ( لاَّ أَسْأَلُكُمْ ) آية انّ المراد أقرباء السائل ، مثل قوله سبحانه : ( مَّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) .(3)

فانّ لفظة ( عَلَى رَسُولِهِ ) آية أنّ المراد أقرباء الرسول.

وعلى ذلك فلابدّ من الرجوع إلى القرائن الحافَّة بالآية وتعيين المراد منه ، وبذلك ظهر أنّ المراد هو أقرباء الرسول.

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ناقداً انتخاب الخليفة الأوّل في السقيفة لأجل انتمائه إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بالقرابة :

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنبي وأقرب(4).

ص: 269


1- التوبة : 113.
2- الأنعام : 152.
3- الحشر : 7.
4- شرح ابن أبي الحديد : 18 / 416.
السؤال الثالث
اشارة

إنّ سورة الشورى سورة مكية ، فلو كان المراد من ذوي القربى هو عترته الطاهرة ، أعني : عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فلم يكن يومذاك بعض هؤلاء كالحسن والحسين عليهما السلام ؟

والجواب : إنّ الميزان في تمييز المكي عن المدني ، أمران ، وكلاهما يدلاّن على أنّ الآية نزلت في المدينة المنورة.

الأمر الأوّل : دراسة مضمون الآيات

فقد كانت مكافحة الوثنية والدعوة إلى التوحيد والمعاد هي مهمة النبي قبل الهجرة ، ولم يكن المجتمع المكّي مؤهلاً لبيان الأحكام والفروع أو مجادلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولذلك تدور أغلب الآيات المكّية حول المعارف والعقائد والعبرة بقصص الماضين ، وما يقرب من ذلك.

ولمّا استتب له الأمر في المدينة المنورة واعتنق أغلب سكّانها الإسلام حينها سنحت الفرصة لنشر الإسلام وتعاليمه ولمناظرة اليهود والنصارى حيث كانوا يثيرون شبهاً ويجادلون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فنزلت آيات حول اليهود والنصارى في السور الطوال.

فلو كان هذا هو الميزان بغية تميّز المكّي عن المدني ، فالآية مدنية قطعاً دون ريب لعدم وجود أيَّة مناسبة لسؤال الأجر أو طلب مودة القربى من أُناس لم يؤمنوا به بل حشَّدوا قواهم لقتله ، بخلاف البيئة الثانية فقد كانت تقتضي ذلك حيث التفَّ حوله رجال من الأوس والخزرج وطوائف كثيرة من الجزيرة العربية.

ص: 270

الأمر الثاني : الاعتماد على الروايات والمنقولات

فلو كان هذا هو الميزان فقد صرح كثير منهم بأنّ أربعة آيات من سورة الشورى مكّية ، حتى أنّ المصاحف المطبوعة في الأزهر وغيره ، تصرح بذلك وتُقرأ فوق السورة هذه الجملة : سورة الشورى مكية الآيات إلا ثلاث وعشرين وأربع وعشرين وسبع وعشرين.

أضف إلى ذلك انّ كثيراً من المفسّرين والمحدِّثين صرحوا بذلك. (1)

وهذا هو البقاعيّ مؤلف « نظم الدرر وتناسب الآيات والسور » يصرح بأنّ الآيات مدنيّة ، كما نقله المحقّق الزنجاني في « تاريخ القرآن ». (2)

السؤال الرابع

الإنسان مفطور على حب الجميل وكراهة القبيح فيكون الودّ أمراً خارجاً عن الاختيار ، فكيف يقع في دائرة السؤال ويطلبه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من المؤمنين مع أنّه كذلك ؟.

والجواب : أوّلاً : انّ الحبّ لو كان أمراً خارجاً عن الاختيار فلا يتعلَّق به الأمر ، كما لا يتعلَّق به النهي ، مع أنّه سبحانه ينهى عن ود من حادَّ اللّه ورسوله ، ويقول : ( لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) . (3)

ص: 271


1- انظر الكشاف : 3 / 81 ؛ تفسير الرازي : 7 / 665 ؛ تفسير أبي السعود في هامش تفسير الرازي نفس الصفحة ؛ تفسير أبي حيان : 7 / 516 ؛ تفسير النيسابوري : 6 / 312.
2- تاريخ القرآن : 57.
3- المجادلة : 22.

كما أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يدعو إلى التراحم والتعاطف النابعين عن الود والحب ، ويقول :

« مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى ». (1)

كلّ ذلك يدل على أنّ الودّ والبغض ليس على النسق الذي وصفه السائل ، ولذلك نرى الدعوة الكثيرة إلى الحب في اللّه والبغض في اللّه.

قال الإمام الصادق عليه السلام : « من أوثق عرى الإيمان أن تحب في اللّه وتبغض في اللّه ». (2)

وقد كتب الإمام علي عليه السلام إلى عامله في مصر مالك الأشتر رسالة قال فيها : « واشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبة لهم ، واللطف بهم ». (3)

روى الخطيب في تاريخه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب عليه السلام ». (4)

وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال علياً بعدي ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً ». (5)

روى أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من أحبني فليحب عليّاً ». (6)

ص: 272


1- مسند أحمد : 4 / 270.
2- سفينة البحار : 2 / 11 مادة الحبّ.
3- نهج البلاغة : قسم الرسائل : الرسالة 53.
4- تاريخ بغداد : 4 / 410.
5- حلية الأولياء : 1 / 86.
6- مسند أحمد : 5 / 336 ؛ صحيح مسلم : كتاب الفتن : 119.

وأخرج أحمد في مسنده عن الرسول : « من أحبني وأحب هذين وأباهما وأُمُّهما ، كان معي في درجتي يوم القيامة ». (1)

وثانياً : أنّ الإيصاء إنّما لا يفيد إذا لم يتوفر في الموصى له ملاك الحب والود كما إذا كان الرجل محطّاً للرذائل الأخلاقية ، وأمّا إذا كان الموصى له إنساناً مثالياً متحلياً بفضائل الأخلاق ومحاسنها ، فانّ الإيصاء به يعطف النظر إليه وبالتالي يجيش حبّه كلَّما تعمَّقت الصلة به.

وحاصل الكلام : أنّ دعوة الناس إلى الحبّ تقوم على إحدى دعامتين :

الأُولى : الإشادة بفضائل المحبوب وكمالاته التي توجد في نفس السامع حبّاً وولعاً إليه.

الثانية : الإيصاء بالحب والدعوة إلى الودّ ، فانّه يعطف نظر السامع إلى الموصى له ، فكلَّما توطَّدت الأواصر بينهما وانكشفت آفاق جديدة من شخصيته ازداد الحبّ والود له. وعلى كلّ تقدير فالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هو المحبوب التام لعامة المسلمين ، فحبُّه لا ينفك عن حبّ من أوصى بحبِّه وأمر بودّه.

وخير ما نختم به هذا البحث حديث مروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نقله صاحب الكشاف حيث قال ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشَّره ملك الموت بالجنة ثمّ منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد يُزفُّ إلى الجنة كما تزفُّ العروس إلى بيت زوجها ،

ص: 273


1- مسند أحمد : 1 / 77.

ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح اللّه له في قبره بابين إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيساً من رحمة اللّه ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنة ».(1)

وروى أيضاً : انّه لما نزلت هذه الآية ، قيل : يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودَّتهم ؟

فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « علي وفاطمة وابناهما ».(2).

ص: 274


1- الكشاف : 3 / 82 ، تفسير سورة الشورى ، ط عام 1367.
2- الكشاف : 3 / 81.

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

4. الصلوات عليهم
اشارة

إنّ من حقوق أهل البيت عليهم السلام هي الصلوات عليهم عند الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) . (1)

ظاهر الآية هو تخصيص الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لكن فهمت الصحابة انّ المراد هو الصلاة عليه وعلى أهل بيته ، وقد تضافرت الروايات على ضمّ الآل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عند التسليم والصلاة عليه ، وقد جاء ذلك في الصحاح والمسانيد ، نقتصر منها على ما يلي :

1. أخرج البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : لقيني كعب بن عجرة ، قال : ألا أُهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فقلت : بلى ، فأهدها لي ، فقال : سألنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فقلنا : يا رسول اللّه ، كيف الصلاة عليكم أهل البيت ، فانّ اللّه قد علّمنا كيف نسلم ؟ قال :

« قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وعلى

ص: 275


1- الأحزاب : 56.

آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، اللّهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد ». (1)

وأخرجه أيضاً في كتاب التفسير عند تفسير سورة الأحزاب. (2)

كما أخرجه مسلم في باب الصلاة على النبي من كتاب الصلاة. (3)

2. أخرج البخاري أيضاً ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قلنا يا رسول اللّه ، هذا التسليم فكيف نصلّي عليك ؟ قال : « قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك ، كما صلّيت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما باركت على إبراهيم ». (4)

3. أخرج البخاري ، عن ابن أبي حازم ، عن يزيد ، قال : « كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وآل محمّد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ». (5)

4. أخرج مسلم ، عن أبي مسعود الأنصاري ، قال : أتانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة ، فقال له بشير بن سعد : أمرنا اللّه تعالى أن نصلِّي عليك ، يا رسول اللّه : فكيف نصلِّي عليك ؟

قال : فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى تمنّينا انّه لم يسأله.

ثمّ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم

ص: 276


1- صحيح البخاري : 4 / 146 ضمن باب « يزفُّون النَسَلان في المشي » من كتاب بدء الخلق.
2- صحيح البخاري : 6 / 151 ، تفسير سورة الأحزاب.
3- صحيح مسلم : 2 / 16.
4- صحيح البخاري : 6 / 151 ، تفسير سورة الأحزاب.
5- المصدر السابق.

في العالمين انّك حميد مجيد ، والسلام كما قد علمتم ».(1)

إنّ ابن حجر ذكر الآية الشريفة ، وروى جملة من الأخبار الصحيحة الواردة فيها ، وانّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قرن الصلاة على آله بالصلاة عليه ، لمّا سئل عن كيفية الصلاة والسلام عليه ، قال : وهذا دليل ظاهر على أنّ الأمر بالصلاة على أهل بيته ، وبقية آله مراد من هذه الآية ، وإلاّ لم يسألوا عن الصلاة على أهل بيته وآله عُقب نزولها ولم يجابوا بما ذكر ، فلمّا أُجيبوا به دلّ على أنّ الصلاة عليهم من جملة المأمور به ، وانّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أقامهم في ذلك مقام نفسه ، لأنّ القصد من الصلاة عليه مزيد تعظيمه ، ومنه تعظيمهم ، ومن ثمّ لمّا أدخل من مرّ في الكساء ، قال : « اللّهمّ انَّهم منّي وأنا منهم ، فاجعل صلاتك ورحمتك ومغفرتك ورضوانك عليّ وعليهم » ، وقضية استجابة هذا الدعاء : انّ اللّه صلّى عليهم معه فحينئذٍ طلب من المؤمنين صلاتهم عليهم معه.

ويروى : لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، فقالوا : وما الصلاة البتراء ؟ قال : تقولون : اللّهمّ صلّ على محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللّهم صلّ على محمّد وعلى آل محمد. ثمّ نقل عن الإمام الشافعي قوله :

يا أهل بيت رسول اللّه حبكم *** فرض من اللّه في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر إنّكم *** من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له

فقال : فيحتمل لا صلاة له صحيحة فيكون موافقاً لقوله بوجوب الصلاة على الآل ، ويحتمل لا صلاة كاملة فيوافق أظهر قوليه.(2).

ص: 277


1- صحيح مسلم : 2 / 46 ، باب الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد التشهد من كتاب الصلاة.
2- الصواعق المحرقة : 146 ، ط عام 1385 ه.

هذا كلّه حول الصلاة على الآل عند الصلاة على الحبيب.

وأما حكم الصلاة على آل البيت في التشهد ، فقال أكثر أصحاب الشافعي : انّه سنّة.

وقال التربجي : من أصحابه هي واجبة ، ولكن الشعر المنقول عنه يدل على وجوبه عنده ، ويؤيده رواية جابر الجعفي - الذي كان من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ، وفي طبقة الفقهاء - ، عن أبي جعفر عن أبي مسعود الأنصاري ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من صلّى صلاة لم يصل فيها عليّ ولا أهل بيتي لم تقبل منه ».(1)

وجابر الجعفي ممَّن ترجمه ابن حجر في تهذيبه ، ونقل عن سفيان في حقّه :

ما رأيت أورع في الحديث منه ، وقال وكيع : مهما شككتم في شيء فلا تشكّوا في أنّ جابراً ثقة.

وقال سفيان أيضاً لشعبة : لأن تكلَّمت في جابر الجعفي لأتكلمنَّ فيك. إلى غير ذلك.(2)

قال ابن حجر : أخرج الدارقطني والبيهقي حديث من صلّى صلاة ولم يصل فيها عليّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه ، وكأنّ هذا الحديث هو مستند قول الشافعي انّ الصلاة على الآل من واجبات الصلاة ، كالصلاة عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم لكنّه ضعيف ، فمستنده الأمر في الحديث المتفق عليه ، قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، والأمر للوجوب حقيقة على الأصحّ.(3)

وقال الرازي : إنّ الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء

ص: 278


1- سنن الدارقطني : 1 / 355.
2- تهذيب التهذيب : 2 / 46.
3- الصواعق المحرقة : 234 ، ط الثانية ، عام 1385 ه.

خاتمة التشهد في الصلاة ، وقوله : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، وارحم محمّداً وآل محمّد.

وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل ، فكلّ ذلك يدل على أنّ حبّ آل محمّد واجب ، وقال الشافعي :

يا راكباً قف بالمحصَّب من منى *** واهتف بساكن خيفها والناهض

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حبُّ آل محمّد *** فليشهد الثقلان أنّي رافضي (1)

وقال النيسابوري في تفسيره عند قوله تعالى : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) كفى شرفاً لآل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وفخراً ختم التشهد بذكرهم والصلاة عليهم في كلّ صلاة. (2)

وروى محب الدين الطبري في الذخائر عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري رضي اللّه عنه انّه كان يقول : لو صلّيت صلاة لم أُصلِّ فيها على محمّد وعلى آل محمّد ما رأيت أنّها تقبل. (3)

وقال المحقّق الشيخ حسن بن عليّ السقاف : تجب الصلاة على آل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في التشهد الأخير على الصحيح المختار ، لأنّ أقصر صيغة وردت عن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثبت فيها ذكر الصلاة على الآل ، ولم ترد صيغة خالية منه في صيغ تعليم الصلاة ، فقد تقدّم حديث سيدنا زيد بن خارجة ، انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال :

ص: 279


1- تفسير الفخر الرازي : 27 / 166 ، تفسير سورة الشورى.
2- تفسير النيسابوري : تفسير سورة الشورى.
3- ذخائر العقبى : 19 ، ذكر الحث على الصلاة عليهم.

« صلّوا عليّ واجتهدوا في الدعاء ، وقولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ». (1)

بلاغ وإنذار

لقد تبين ممّا سبق كيفية الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وانّه لا يصلّى عليه إلاّ بضم الآل إليه ، ومع ذلك نرى أنّه قد راجت الصلاة البتراء بين أهل السنَّة في كتبهم ورسائلهم ، مع أنّ هذه البلاغات من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نصب أعينهم ولكنَّهم رفضوها عملاً واكتفوا بالصلاة عليه خاصة ، حتى أنّ ابن حجر الهيتمي ( 899 - 974 ه ) نقل كيفية الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولكن كتابه المطبوع مليء بالصلاة البتراء. وإليك نصّ ما قال : ويروى لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، قالوا : وما الصلاة البتراء ؟ ، قال : تقولون : اللّهمّ صلّ على محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ولا ينافي ما تقرر حذف الآل في الصحيحين ، قالوا : يا رسول اللّه : كيف نصلّي عليك ؟ قال : قولوا اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى أزواجه وذرِّيته ، كما صليت على إبراهيم إلى آخره.

لأنّ ذكر الآل ثبت في روايات أُخر ، وبه يعلم أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال ذلك كلّه فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظه الآخر. (2)

وفي الختام نذكر ما ذكره الرازي ، انّه قال : أهل بيته ساووه في خمسة أشياء : في الصلاة عليه وعليهم في التشهد ، وفي السلام ، والطهارة ، وفي تحريم الصدقة ، وفي المحبّة. (3)

ص: 280


1- صحيح صفة صلاة النبي : 214.
2- الصواعق المحرقة : 146 ، ط الثانية ، عام 1385.
3- الغدير : 2 / 303 ، ط طهران نقله عن تفسير الرزاي : 7 / 391 ولم نعثر عليه في الطبعتين.

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

5. دفع الخمس إليهم
اشارة

الأصل في ضريبة الخمس ، قوله سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ... ) . (1)

نزلت الآية يوم الفرقان ، يوم التقى الجمعان وهي غزوة بدر الكبرى ، واختلف المفسرون في تفسير الموصول في « ما غنمتم » هل هو عام لكلّ ما يفوز به الإنسان في حياته ، كما عليه الشيعة الإمامية ، أو خاص بما يظفر به في الحرب ، وهذا بحث مهم لا نحوم حوله ، لأنّه خارج عّما نحن بصدده ، وقد أشبعنا الكلام فيه في كتابنا « الاعتصام بالكتاب والسنة » وأثبتنا بفضل القرآن والأحاديث النبوية انّ الخمس يتعلَّق بكلّ ما يفوز به الإنسان في حياته ، وانّ نزول الآية في مورد الغنائم الحربية لا يُخصص الحكم الكلي. (2)

ص: 281


1- الأنفال : 41.
2- الاعتصام بالكتاب والسنَّة : 91 - 105.

إنّما الكلام في تبيين مواضع الخمس ، وقد قسّم الخمس في الآية إلى ستة أسهم ، أعني : لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.

فالسهمان الأوَّلان واضحان ، إنّما الكلام في السهم الثالث وما بعده ، فالمراد من ذي القربى هم أقرباء النبي وذلك بقرينة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وقد سبق منّا القول في تفسير آية المودة : انّ تبيين المراد من القربى رهن القرائن الحافَّة بالآية فربما يراد منها أقرباء الناس ، مثل قوله : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) .(1)المراد أقرباء المخاطبين ، بقرينة قوله : ( قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ) نظير قوله : ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى ) والمراد أقرباء الميت.

وعلى ضوء ذلك فإذا تقدَّم عليه لفظ « الرسول » يكون المراد منه أقرباء الرسول كما في الآية ( لِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ، ومثله قوله : ( مَّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) .(2)وقوله : ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) .(3)فالمراد من ذي القربى هم أقرباء الرسول بقرينة توجَّه الخطاب إليه أعني « فآت ».

ومنه يعلم المراد من المساكين في الآيتين وآية الخمس ، أي مساكين ذي القربى وأيتامهم وأبناء سبيلهم.

هذا هو المفهوم من الآية ، وعلى ما ذكرنا فكلّ ما يفوز به الإنسان في مكسبه ومغنمه أو ما يفوز به في محاربة المشركين والكافرين ، يُقسّم خمسه بين ستة سهام كما عرفت.

ص: 282


1- الأنعام : 152.
2- الحشر : 7.
3- الروم : 38.

ويؤيده الروايات التالية :

1. روي عن ابن عباس : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقسّم الخمس على ستة : لله وللرسول سهمان وسهم لأقاربه ، حتى قبض. (1)

2. وروي عن أبي العالية الرياحي : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة فتكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثمّ يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفه ، فيجعله للكعبة وهو سهم اللّه ، ثم يقسَّم ما بقي ، على خمسة أسهم : فيكون سهم للرسول ، وسهم لذي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل. قال : والذي جعله للكعبة فهو سهم اللّه. (2)

وأمّا تخصيص بعض سهام الخمس بذي القربى ومن جاء بعدهم من اليتامى والمساكين وابن السبيل ، فلأجل الروايات الدالة على أنّه لا تحل لهم الصدقة ، فجعل لهم خمس الخمس.

أخرج الطبري عن مجاهد ، انه قال : كان آل محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم الخمس. (3)

وأخرج أيضاً عنه : قد علم اللّه أنّ في بني هاشم الفقراء فجعل لهم الخمس مكان الصدقة (4).

كما تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ السهام الأربعة من الخمس ، لآل محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم . (5)

ص: 283


1- تفسير النيسابوري : 10 / 4 ، المطبوع بهامش الطبري.
2- تفسير الطبري : 10 / 4 ؛ أحكام القرآن : 3 / 60.
3- الظاهر زيادة لفظ « خمس » بقرينة ما نقله ثانياً عن مجاهد.
4- تفسيرالطبري : 10 / 5.
5- الوسائل : 6 / الباب 29 من أبواب المستحقّين للزَّكاة.

هذا ظاهر الآية ويا للأسف لعب الاجتهاد دوراً كبيراً في تحويل الخمس عن أصحابه وظهرت أقوال لا توافق النص القرآني ، وإليك مجملاً من آرائهم :

1. قالت الشافعية والحنابلة : تقسّم الغنيمة ، وهي الخمس إلى خمسة أسهم : واحد منها سهم الرسول ويصرف على مصالح المسلمين ، وواحد يعطى لذوي القربى وهم من انتسب إلى هاشم بالابوة من غير فرق بين الأغنياء والفقراء ، والثلاثة الباقية تنفق على اليتامى والمساكين وأبناء السبيل سواء أكانوا من بني هاشم أو من غيرهم.

2. وقالت الحنفية : إنّ سهم الرسول سقط بموته ، أمّا ذوو القربى فهم كغيرهم من الفقراء يعطون لفقرهم لا لقرابتهم من الرسول.

3. وقالت المالكية : يرجع أمر الخمس إلى الإمام يصرفه حسبما يراه من المصلحة.

4. وقالت الإمامية : إنّ سهم اللّه وسهم الرسول وسهم ذوي القربى يفوِّض أمرها إلى الإمام أو نائبه ، يضعها في مصالح المسلمين ، والأسهم الثلاثة الباقية تعطى لأيتام بني هاشم ومساكينهم وأبناء سبيلهم ولا يشاركهم فيها غيرهم. (1)

5. وقال ابن قدامة في المغني بعدما روى أنّ أبا بكر وعمر قسَّما الخمس على ثلاثة أسهم : وهو قول أصحاب الرأي أبي حنيفة وجماعته ، قالوا : يقسم الخمس على ثلاثة : اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، وأسقطوا سهم رسول اللّه بموته وسهم قرابته أيضاً.

6. وقال مالك : الفيء والخمس واحد يجعلان في بيت المال.

7. وقال الثوري : والخمس يضعه الإمام حيث أراه اللّه عزّ وجلّ.

ص: 284


1- الفقه على المذاهب الخمسة : 188.

وما قاله أبو حنيفة مخالف لظاهر الآية فإنّ اللّه تعالى سمّى لرسوله وقرابته شيئاً وجعل لهما في الخمس حقاً ، كما سمّى الثلاثة أصناف الباقية ، فمن خالف ذلك فقد خالف نصّ الكتاب ، وأمّا جعل أبي بكر وعمر سهم ذي القربى ، في سبيل اللّه ، فقد ذُكر لأحمد فسكت وحرك رأسه ولم يذهب إليه ، ورأى أنّ قول ابن عباس ومن وافقه أولى ، لموافقته كتاب اللّه وسنة رسوله. (1)

وقد أجمع أهل القبلة كافة على أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يختص بسهم من الخمس ويخص أقاربه بسهم آخر منه ، وأنّه لم يعهد بتغيير ذلك إلى أحد حتى دعاه اللّه إليه ، واختار اللّه له الرفيق الأعلى.

فلمّا ولى أبوبكر تأوّل الآية فأسقط سهم النبي وسهم ذي القربى بموت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ومنع بني هاشم من الخمس ، وجعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم.

قال الزمخشري عن ابن عباس : الخمس على ستة أسهم : لله ولرسوله سهمان ، وسهم لأقاربه ، حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة ، وكذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء ، قال : وروي أنّ أبابكر منع بني هاشم الخمس. (2)

وروي البخاري في صحيحه عن عائشة أنَّ فاطمة عليها السلام أرسلت إلى أبي بكر ، تسأله ميراثها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت ، وعاشت بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ستة أشهر ،

ص: 285


1- الشرح الكبير على هامش المغني : 10 / 493 - 494.
2- الكشاف : 2 / 126.

فلمّا توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلّى عليها.(1)

وفي صحيح مسلم عن بريد بن هرمز ، قال : كتب نجدة بن عامر ( الحروري الخارجي ) إلى ابن عباس ، قال ابن هرمز : فشهدت ابن عباس حين قرأ الكتاب وحين كتب جوابه ، وقال ابن عباس : واللّه لولا أن أرد عن نَتْن يقع فيه ، ما كتبت إليه ولا نُعْمةَ عينٍ ، قال : فكتب إليه إنّك سألت عن سهم ذي القربى الذي ذكرهم اللّه من هم ؟ وإنّا كنّا نرى أنّ قرابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هم نحن فأبى ذلك علينا قومنا.(2).

ص: 286


1- صحيح البخاري : 5 / 139 ، باب غزوة خيبر.
2- صحيح مسلم : 2 / 105 ، كتاب الجهاد و 167 السير ، باب النساء الغازيات.

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

6. الفيء لأهل البيت عليهم السلام

الفيء عبارة عن الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بلا خيل ولا ركاب ، فإنّ هذه الأموال تقع تحت تصرّف الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم باعتباره رئيساً للدولة الإسلامية ، وكان الفيء في حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أمراً هاماً في تنمية الثروة في المجتمع الإسلامي ولا سيَّما انتقال الثروة من يد الأغنياء إلى يد الفقراء.

والأساس فيه قوله سبحانه : ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(1)

( مَّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) .(2)

بيَّن سبحانه أحكام الفيء ، وقال : ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ )

ص: 287


1- الحشر : 6.
2- الحشر : 7.

الضمير يرجع إلى اليهود ، ولكن الحكم سار على جميع الكفّار.

( فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ ) أي الفيء عبارة عن الأموال التي استوليتم عليها بلا إيجاف خيل ولا إبل ولم تسيروا إليها على خيل ولا إبل.

هذا هو الفيء ، وأمّا المواضع التي يصرف بها هذا الفيء فقد بيَّنها سبحانه في الآية الثانية ، وقال : ( مَّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) ، أي ما ردَّ ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك اللّه إيّاهم ذلك ، ( فَلِلَّهِ ) و ( لِلرَّسُولِ ) و ( لِذِي الْقُرْبَى ) ، فهو لله بالذات وللرسول ولذي القربى بتمليك اللّه إيّاهم.

والمراد من ذي القربى بقرينة الرسول أهل بيت رسول اللّه وقرابته ، وهم بنو هاشم.

( وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) أي منهم ، بقرينة الرسول ، فيكون المعنى ويتامى أهل بيته ومساكينهم وأهل السبيل منهم.

وعلى ذلك فالفيء يقسّم على ستة أسهم :

1. سهم لله المالك لكلّ شيء غير محتاج لشيء ، جعل نفسه قريناً لسائر الاسماء تكريماً لهم.

2. سهم الرسول وهو يؤمّن بذلك حاجاته وحاجة الدولة الإسلامية.

3. سهم ذوي القربى أي أقرباء الرسول ، فبما أنّ الصدقة تحرم عليهم حلّ ذلك محلّه.

4. سهم اليتامى.

5. سهم المساكين.

6. سهم أبناء السبيل.

ص: 288

وبكلمة جامعة :

« الغنيمة » - كلّ ما أُخذ من دار الحرب بالسيف عنوة مما يمكن نقله إلى دار الإسلام ، ومالا يمكن نقله إلى دار الإسلام - لجميع المسلمين ينظر فيه الإمام ، ويصرف انتفاعه إلى بيت المال لمصالح المسلمين.

« الفيء » - كلّ ما أُخذ من الكفّار بغير قتال أو انجلاء أهلها - للنبي ، يضعه في المذكورين في هذه الآية ، ولمن قام مقامه من الأئمّة وقد بيّنه سبحانه في ضمن الآيتين.(1).

ص: 289


1- التبيان : 9 / 564.

من حقوق اهل البيت عليهم السلام

7. الأنفال لأهل البيت عليهم السلام

وردت لفظة « الأنفال » في القرآن مرتين في آية واحدة ، قال سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) . (1)

أقول : إنَّ الضرائب الواردة في القرآن الكريم لا تتجاوز الأربع :

أ : الزكاة ومقسمها ثمانية.

ب : الخمس ومقسمه هو الستة.

ج : الفيء ومقسمه مقسم الخمس كما عرفت.

د : الأنفال ومقسمها اثنان ، وهما ما ذكر في الآية من قوله : ( للهِ وَالرَّسُولِ ) ، لكن الكلام في بيان المراد من الأنفال.

اختلف المفسّرون في تفسير الأنفال اختلافاً كثيراً ، والذي يمكن أن يقال انّ الأنفال من النفل وهو الزائد من الأموال ، فيشمل كلّ زائد عن حاجات

ص: 290


1- الأنفال : 1.

الحياة ، ولكن السنَّة المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام فسرته بالنحو التالي :

1. روى حفص البختري عن الإمام الصادق عليه السلام قال : « الأنفال مالم يوجف عليه بخيل أو ركاب (1) أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، وكلّ أرض خربة ، وبطون الأودية ، فهو لرسول اللّه ، وهو للإمام بعده يضعه حيث يشاء ». (2)

2. وروى حماد بن عيسى ، عن بعض أصحابنا ، عن الإمام الكاظم عليه السلام في حديث : « والأنفال كلّ أرض خربة باد أهلها ، وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحاً وأعطوا بأيديهم على غير قتال ، وله رؤوس الجبال ، وبطون الأودية والآجام ، وكلّ أرض ميتة لا ربّ لها ، وله صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب ، لأنّ الغصب كلّه مردود ، وهو وارث من لا وارث له ، يعول من لا حيلة له ». (3)

3. موثقة إسحاق بن عمّار المروية في تفسير القمي قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الأنفال ، فقال عليه السلام : « هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها ، فهي لله وللرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وما كان للملوك فهو للإمام ، وما كان من الأرض الخربة لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، وكلّ أرض لا ربّ لها ، والمعادن منها ، من مات وليس له مولى فماله من الأنفال ». (4)

إلى غير ذلك من الروايات.

وعلى الرواية الأُولى يكون الفيء من أقسام الأنفال ، ولم نجد في تفاسير أهل السنَّة من يوافق الشيعة الإمامية في تفسير الأنفال إلا شيئاً قليلاً ، فقد عقد أبو

ص: 291


1- وعلى هذا يكون الفيء قسماً من الأنفال.
2- وسائل الشيعة : 6 ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث 1 ، 4 ، 20.
3- وسائل الشيعة : 6 ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث 1 ، 4 ، 20.
4- وسائل الشيعة : 6 ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث 1 ، 4 ، 20.

إسحاق الشيرازي باباً للأنفال وفسرها بقوله : يجوز لأمير الجيش أن ينفل لمن فعل فعلاً يفضي إلى الظفر بالعدو ، كالتجسيس ، والدلالة على طريق أو قلعة ، أو التقدم بالدخول إلى دار الحرب أو الرجوع إليها بعد خروج الجيش منها.(1).

ص: 292


1- المهذَّب في فقه الإمام الشافعي : 2 / 243.

من حقوق أهل البيت عليهم السلام

8. ترفيع بيوتهم

لقد أذن اللّه تعالى في ترفيع البيوت التي يذكر فيها اسمه ويسبِّح له بالغدوِّ والآصال في آية مباركة ، وقال : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ) .(1)

وتفسير الآية رهن دراسة أمرين :

الأوّل : ما هو المقصود من البيوت ؟

الثاني : ما هو المراد من الرفع ؟

أمّا الأوّل فربما قيل انّ المراد من البيوت هو المساجد.

قال صاحب الكشّاف : ( فِي بُيُوتٍ ) يتعلّق بما قبله ، مثل نوره كمشكاة في بعض بيوت اللّه ، وهي المساجد.(2)

ولكن الظاهر أنّ التفسير غير صحيح ، لأنّ البيت هو البناء الذي يتشكَّل

ص: 293


1- النور : 36 - 37.
2- الكشاف : 2 / 389.

من جدران أربعة وعليها سقف قائم ، فالكعبة بيت اللّه لأجل كونها ذات قوائم أربعة وعليها سقف ، والقرآن يعبِّر عن البيت بالمكان المسقَّف ، ويقول : ( وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) .(1)

فالمستفاد من الآية أنّ البيت لا ينفك عن السقف ، هذا من جانب. ومن جانب آخر : لا يشترط في المساجد وجود السقف ، هذا هو المسجد الحرام تراه مكشوفاً تحت السماء ودون سقف يظلّله.

وقد ورد لفظ البيوت في القرآن الكريم ( 36 مرّة ) بصور مختلفة ، واستعمل في غير المسجد ، يقول سبحانه : ( طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) .(2)( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللّهِ وَالحِكْمَةِ ) .(3)

إلى غير ذلك من الآيات ، فكيف يمكن تفسيره بالمساجد ؟

وبما أنّ جميع المساجد ليس على هذا الوصف ، التجأ صاحب الكشاف بإقحام كلمة « بعض » ، وقال : في بعض بيوت اللّه وهي المساجد ، وهو كما ترى ، وهناك حوار دار بين قتادة فقيه البصرة وأبي جعفر الباقر عليه السلام يؤيد ما ذكرنا.

حضر قتادة في مجلس الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال له الإمام : من أنت ؟

قال : أنا قتادة بن دعامة البصري.

فقال أبو جعفر : أنت فقيه أهل البصرة ؟

فقال : نعم. قال قتادة : أصلحك اللّه ، ولقد جلستُ بين يدي الفقهاء وقدّام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ، ما اضطرب قدّامك !

ص: 294


1- الزخرف : 33.
2- البقرة : 125.
3- الأحزاب : 34.

فقال أبو جعفر عليه السلام : ما تدري أين أنت ؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ) ونحن أُولئك.

فقال له قتادة : صدقت ، واللّه جعلني فداك ، واللّه ماهي بيوت حجارة ولا طين.(1)

ويؤيّد ما رواه الصدوق في الخصال عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : ان اللّه اختار من البيوتات أربعة ثم قرأ هذه الآية : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2). (3)

وعلى هذا الحوار فالمراد من البيت ، بيت الوحي وبيت النبوَّة ، ومن يعيش في هذه البيوت من رجال لهم الأوصاف المذكورة في الآية الكريمة.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني ، أعني : ما هو المراد من الرفع ؟ فيحتمل وجهين :

الأوّل : أن يكون المراد الرفع المادي الظاهري الذي يتحقَّق بإرساء القواعد وإقامة الجدار والبناء ، كما قال سبحانه : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ) .(4)وعلى هذا تدل الآية على جواز تشييد بيوت الأنبياء والأولياء وتعميرها في حياتهم بعد مماتهم.

الثاني : أن يكون المراد الرفع المعنوي والعظمة المعنوية ، وعلى هذا تدل الآية بتكريم تلك البيوت وتبجيلها وصيانتها وتطهيرها مما لا يليق بشأنها.

ص: 295


1- البرهان في تفسير القرآن : 3 / 138.
2- آل عمران : 33 - 34.
3- الخصال : 1 / 107.
4- البقرة : 127.

قال الرازي : المراد من رفعها ، بنائها لقوله تعالى : ( رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ) (1) وثانيها ( تُرْفَعَ ) اي تعظم. (2)

هذا كلّه حسب ما تدل عليه الآية ، وأمّا بالنظر إلى الروايات فنذكر منها ما يلي :

1. روى الحافظ السيوطي عن أنس بن مالك وبريدة ، انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قرأ قوله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل وقال : أيّ بيوت هذه يا رسول اللّه ؟

فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « بيوت الأنبياء ».

فقام إليه أبو بكر وقال : يا رسول اللّه ، وهذا البيت منها ؟ وأشار إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام.

فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « نعم من أفاضلها ». (3)

2. روى ابن شهراشوب عن تفسير مجاهد وأبي يوسف ، يعقوب بن سفين ، قال ابن عباس في قوله تعالى : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ) (4) : إنّ دحية الكلبي جاء يوم الجمعة من الشام بالميرة ، فنزل عند أحجار الزيت ، ثمّ ضرب بالطبول ليؤذن الناس بقدومه ، فمضوا الناس إليه إلاّ علي والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام وسلمان وأبو ذر والمقداد وصهيب ، وتركوا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قائماً يخطب على المنبر ، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : قد نظر اللّه يوم الجمعة إلى مسجدي فلولا

ص: 296


1- النازعات : 28.
2- تفسير الفخر الرازي : 24 / 3.
3- تفسير الدر المنثور : 5 / 50.
4- الجمعة : 11.

هؤلاء الثمانية الذين جلسوا في مسجدي لأضرمت المدينة على أهلها ناراً ، وحُصبوا بالحجارة كقوم لوط ، ونزل فيهم رجال لا تلهيهم تجارة.(1)

وقد وصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هؤلاء الرجال الذين يسبِّحون في تلك البيوت ؛ عند تلاوته : ( رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ ) : وإنّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدُّنيا بدلاًً ، فلم يشغلهم تجارة ولا بيع عنه ، يقطعون به أيام الحياة ، ويهتفون بالزواجر عن محارم اللّه في أسماع الغافلين ، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه فكأنَّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها ، فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأنّما اطَّلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه ، وحقَّقت القيامة عليهم عِداتُها ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا ، حتى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس ويسمعون ما لا يسمعون.(2).

ص: 297


1- البرهان في تفسير القرآن : 3 / 139.
2- نهج البلاغة : الخطبة 222.

خاتمة المطاف: أهل البيت في كلام الإمام علي عليه السلام

إلى هنا تمّ ما أردنا استعراضه من سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم ، ولو حاول الباحث أن يستعرض أوصافهم وخصوصيّاتهم الواردة في الأحاديث النبوية لاحتاج إلى تأليف مفرد ، وبما انّ محور بحوثنا هو القرآن الكريم اقتصرنا على ذلك ، وهذا لا يمنعنا أن نذكر ما روي عن علي عليه السلام في ذلك المجال :

1. يقول في حقّهم : « ... فَإنّهم عيش العلم ، وموت الجهل ، هم الذين يُخبركم حُكمُهم عن علمهم ، وصَمتُهم عن منطقهم ، وظاهرهُم عن باطنهم ، لا يخالفون الدين ، ولا يختلفون فيه ، فهو بينهم شاهدٌ صادق ، وصامت ناطق ».(1)

2. وفي خطبة أُخرى : « لا يقاس بآل محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم من هذه الأُمّة أحد ، ولا يُسوَّى بهم مَن جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساسُ الدين ، وعمادُ اليقين ، إليهم يفيءُ الغالي ، وبهم يُلحق التالي ، ولهم خصائص حقِّ الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ، الآنَ إذ رجع الحقّ إلى أهله ، ونُقل إلى منتقله ».(2).

ص: 298


1- نهج البلاغة : الخطبة 147.
2- نهج البلاغة : الخطبة 2.

3. وقال عليه السلام : « نحنُ الشعار والأصحاب ، والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى البيوتُ إلاّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سُمّي سارقاً ».

منها : « فيهم كرائمُ القرآن ، وهم كنوز الرحمن ، إن نطقوا صدقوا ، وإن صمتوا لم يسبقوا ».(1)

4. وقال عليه السلام : « ألا إنّ مثل آل محمّدٍ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، كَمَثَلِ نجوم السَّماء : إذا خوى نجم ، طَلَعَ نَجم ، فكأنّكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصنائع ، وأراكم ما كنتم تأملون ».(2)

5. وقال عليه السلام : « ألا وإنّ لكلِّ دمٍ ثائراً ، ولكلِّ حقٍّ طالباً. وإنَّ الثّائِرَ في دمائِنا كالحاكِمِ في حقِّ نفسِهِ ، وهُوَ اللّه الذي لا يُعجِزُهُ من طَلَبَ ، ولا يفُوتُهُ من هرب ».(3)

6. وقال عليه السلام : « أيّها الناس ، خذوها عن خاتم النبيّين صلى اللّه عليه وآله وسلم : إنّه يموت من ماتَ منّا وليس بميِّت ، ويبلى من بَلي منَّا وليس ببال ، فلا تقولوا بما لا تعرِفُون ، فإنّ أكثرَ الحقِّ فيما تُنكِرون ، واعذِروا من لا حُجّة لكم عليه - وهو أنّا - ألم أعمل فيكم بالثَّقل الأكبر ، وأترُك فيكم الثَّقل الأصغر ، قد ركزْتُ فيكُمْ راية الإيمانِ ، ووقفتُكُم على حُدودِ الحلالِ والحرام ، وألبستُكُمُ العافيةَ من عدلي ، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي ، وأريتُكُم كرائمَ الأخلاقِ من نفسي ، فلا تستعملوا الرأيَ فيما لا يُدْرِكُ قعرَهُ البصرُ ، ولا تتغلغل إليهِ الفِكرُ ».(4).

ص: 299


1- نهج البلاغة : الخطبة 154.
2- نهج البلاغة : الخطبة 100.
3- نهج البلاغة : الخطبة 105.
4- نهج البلاغة : الخطبة 87.

إلى غير ذلك ، الكلمات الناصعة في خطبه ورسائله وقصار كلمه مما نقله الرضي في « نهج البلاغة » وغيره في الكتب الحديثية والتاريخية ، ولنقتصر على ذلك فانّ الإفاضة في القول في هذا المضمار يوجب الإطالة.

ص: 300

الشيعة والتفسير تدويناً وتطويراً

اشارة

ص: 301

عرض موجز لتاريخ التفسير عند الشيعة

يتناول بيان القرآن بنفسه، و موقف النبيّ صلی اللّه عليه وآله وسلم و أهل بيته الطاهرين، في مجال تفسيره، و ما قام به أعلام الشيعة طيلة أربعة عشر قرناً، منذ وفاة النبيّ صلی اللّه عليه وآله وسلم إلی هذا اليوم من خدمات كبری في شتّی أصعده التفسير، تدويناً وتطويراً، و ذكر أسماء مشاهيرهم، و نقد الاتّهامات الموجّهة إلی تفاسير العترة و شيعتهم نقداً موضوعياً هادئاً.

ص: 302

الشيعة والتفسير تدويناً وتطويراً

اشارة

إنّ التعرّف على عظمة القرآن الكريم وقيمته المثلى ، لا يتوقّف على الرجوع إلى كاتب شرقيّ وناطق غربيّ ... إلى هذا العالِم أو ذاك الباحث ، لغرض جمع الشواهد على عظمته ، وسموّ منزلته ، وإن كانت هذه الشواهد من مختلف الطبقات لها مكانتها الخاصّة. ومن حسن الحظّ أنّ هناك كمّية هائلة من الدلائل على علوّ شأنه ، وسموّ مقامه ، في اللفظ والمعنى ، وفي الشكل والمحتوى ، يعرفها كلّ من وقف على الدراسات القرآنية التي قام بها الباحثون ، من شرقيّهم وغربيّهم ، منذ نزول القرآن إلى عصرنا هذا.

غير أنّ هناك طريقاً متقناً للاطّلاع على شأن القرآن الكريم ، وعلوّ مقاصده ، وهو الرجوع إلى نفس ذلك الكتاب العزيز ، واستنطاقه في هذا المجال ، والجثوّ أمامه واستفساره ، وما ذاك إلاّ لأنّ الكلّ معترفون بأنّه لا يبالغ في إخباره وتقييمه ، وأنّ كلّ شيء منه ، حتى كلمه وحروفه جاءت في الآيات ووفق حسابات دقيقة ، بلا إفراط ولا تفريط. وعلى هذا الأساس نرجع إلى الذكر الحكيم ، ونسأله عن أهدافه وأبعاده ، وموقفه من الإنسان في الهداية والضلالة ، والسعادة والشقاء ، والسلم والحرب ، إلى غير ذلك من الأبعاد الكثيرة التي يجدها الباحث المتعمّق في ذلك

ص: 303

الكتاب. ولكنّ هذه الدراسة ليست دراسة مختصرة ، بل يمكن أن تقع موضوعاً لبحث خاصّ للدارسين له ، حسب التفسير الموضوعيّ.

وبما أنّ الهدف ليس هو التوسّع في ذلك ، فلنقتصر على نصوص الآيات المليئة بالنكات :

1. القرآن نور وضياء للقلوب والعقول. قال سبحانه : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) .(1)

2. القرآن كتاب هداية للمتّقين وذوي القلوب المستعدّة. قال سبحانه : ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) .(2)

3. القرآن كتاب نفيس مشحون بالمثل والقيم. قال سبحانه : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) .(3)

4. القرآن كتاب الظفر والانتصار بعيد عن وصمة الهزيمة والخذلان. قال سبحانه : ( إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ) .(4)

5. القرآن زاخر بالحكمة والموعظة والبرهنة. قال سبحانه : ( يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ ) .(5)

6. القرآن فيه من العظمة والجلالة والمقدرة لو نزل على جبلٍ لتصدّع أمامه. قال سبحانه : ( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) .(6)

7. القرآن يهدي إلى الطريق المستقيم ، الذي ليس فيه عوج ، ولا أمت. قال .

ص: 304


1- المائدة : 15.
2- البقرة : 2.
3- الواقعة : 77.
4- فصّلت : 41.
5- يس : 1 - 2.
6- الحشر : 21.

سبحانه : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) .(1)

8. القرآن سليم من التناقض ، والاختلاف في التعبير والمضمون. قال سبحانه : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) .(2)

9. القرآن كتاب يدور مع الحقّ حيث دار ، والحقّ يدور معه. قال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ ) .(3)

10. القرآن كتاب مبارك ، حافل بالمعارف والمواعظ التي توقظ العقول ، وتذكر القلوب. قال سبحانه : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) .(4)

11. القرآن كتاب أنزله سبحانه على رسوله ، ليبلغه إلى الناس حتى يقوموا بالقسط. قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) .(5)

12. إنّ القرآن يتضمن أمثالاً بديعة ، تهدف إلى معان سامية في سبيل إيجاد نهضة فكرية بين البشر. قال سبحانه : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) .(6)

13. القرآن كتاب التزكية للأرواح ، والتصفية للقلوب. قال سبحانه : ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) .(7)

14. القرآن جاء بأحسن الحديث وأتقنه ، بحيث تتقبّله النفوس بسرعة ، وتعيه العقول بدون عناء. قال سبحانه : ( اللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا

ص: 305


1- الإسراء : 9.
2- النساء : 82.
3- البقرة : 176.
4- ص : 29.
5- الحديد : 25.
6- الكهف : 54.
7- الجمعة : 2.

مُّتَشَابِهًا ... ) .(1)

15. القرآن يتلو علينا أحسن القصص وأجملها ، ممّا فيه العبر الغالية. قال سبحانه : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... ) .(2)

16. القرآن يبيّن كلّ دقيق وجليل ، ممّا له صلة بسعادة الإنسان وشقائه. قال سبحانه : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ... ) .(3)

17. القرآن أفضل فرقان لتمييز الحقّ من الباطل ، وخير محكّ لمعرفة السراب عن الماء. قال سبحانه : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) .(4)

18. القرآن خير دليل على صدق النبيّ في نبوّته ورسالته ، لفصاحة ألفاظه ، وجمال عباراته ، وبلاغة معانيه وسموّها ، وروعة نظمه وتأليفه ، وبداعة أُسلوبه. قال سبحانه : ( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) .(5)

19. القرآن ذكر وتذكير لما يعرفه الإنسان بفطرته السليمة. قال سبحانه : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) .(6)

20. وفي الختام نقول : إنّ القرآن كتاب يربو عن الريب واعتراء الشكّ. قال سبحانه : ( تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) .(7)

لقد أنزل اللّه سبحانه القرآن الكريم على قلب سيّد المرسلين ، ليكون للعالمين نذيراً ، يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات

ص: 306


1- الزمر : 23.
2- يوسف : 3.
3- النحل : 89.
4- الفرقان : 1.
5- العنكبوت : 51.
6- القمر : 32.
7- السجدة : 2.

إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم ، ويكون مهيمناً لما بين يدي النبيّ من الكتاب. قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ )(1)وقاضياً بين بني إسرائيل فيما يختلفون. قال سبحانه : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .(2)

ولأجل تلك المكانة العليا التي حظي بها ، صار الحجّة القويمة للنبيّ الأكرم في عصره وحياته ، والمعجزة الخالدة بعد مماته ، على مرّ العصور والأحقاب. وما ذلك إلاّ لأنّ الدين الخالد ، والرسالة الأبديّة يحتاج في قضاء العقل إلى حجّة قويّة ، ومعجزة خالدة ، تشقّ الطريق ، وتنير المسير ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ ) ، بل يكون لله الحجة البالغة ... نزل القرآن الكريم نجوماً منذ بعثة النبيّ إلى أُخريات أيّامه في بضع وعشرين سنة ، فقرع الآذان حتى وصل إلى الجنان ، وملك مجامع قلوب الناس ، وسيطر على أحاسيسهم ومشاعرهم ، فدخل الناس في طاعة القرآن زرافاتٍ ووحداناً ، فأقام النبيُّ الأكرم صرح الحقّ على أنقاض الباطل ، بفضل الكتاب الكريم وحجته الخالدة.

هذه لمحة خاطفة عن مكانة القرآن ، وتأثيره في النفوس ، أخذناها من الكتاب العزيز نفسه ، ولا نطيل الكلام فيها. كيف وقد أفاض المحقّقون الكلام في رسائلهم وكتبهم فيه ؟! وإنّما الهدف في المقام الإيعاز إلى ما قام به المسلمون من أروع الخدمات في سبيل كتابهم ، على وجه لا تجد له مثيلاً لدى أصحاب الشرائع والديانات ، حتى صارت تلك الخدمات حافزاً لتأسيس علوم خاصّة لفهم كتاب اللّه سبحانه ، فدوّنوا علم النحو والصرف ، وعلوم البلاغة والفصاحة ، والقراءة

ص: 307


1- المائدة : 48.
2- النمل : 76.

والتجويد ، وقسماً من التاريخ والمغازي والفقه ، لفهم القرآن العزيز. وفي ظلّ تلك العلوم بقي القرآن مفهوماً للأجيال ، وصارت اللغة العربية لغة خالدة على جبين الدهر.

ولقد شارك المسلمون عامّة لتسهيل فهم القرآن في تأليف كتب ورسائل خاصة ، في مجالات مختلفة ، اختلفت بذكرها المعاجم والفهارس ، منذ رحلة النبيّ الأكرم إلى يومنا. فلا تجد ظرفاً من الظروف إلاّ فيه اهتمام كبير بفهم القرآن ، وتفسير مفاهيمه السامية بصور مختلفة ، كلّ ذلك بإخلاص ونيّة طاهرة ، من غير فرق بين السنّة والشيعة. فخدّام القرآن ومفسروه - شكر اللّه مساعيهم - أدّوا وظائفهم الكبرى في سبيل رسالتهم الإسلاميّة ، ولن تجد أُمّة خدمت كتابها الديني مثل الأُمّة الإسلامية طوال قرون ، فقد خدموه بشتّى ألوان الخدمة ، بحيث يعسر إحصاؤها وحصرها. ولو قمنا بجمع ما أُلّف حول القرآن في القرون الغابرة ، لجاء مكتبة ضخمة ، تأتي فهارسها في أجزاء كثيرة.

كما إنّك لا تجد كتاباً سماويّاً ، أوجد رجّة وتحوّلاً في الحياة البشريّة مثلما أوجده القرآن الكريم في حياة الأُمم. فهو كوّن الأُمّة الإسلامية وأرسى كيانها ، وأعطى لها دستوراً كاملاً في مجال الحياة العامّة. وهذا من خصائص الأُمّة الإسلامية في القرآن الكريم.

فها نحن نأتي بأسماء أعلام التفسير - بعد الرسول والأئمّة المعصومين - من الشيعة ، أفاض اللّه على الجميع شآبيب الرحمة والرضوان. ولكنّ ذلك بعد تبيين موقف الرسول الأعظم وأئمّة أهل البيت من الكتاب العزيز.

ص: 308

الرسول الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم هو المفسّر الأوّل

إنّ مهمّة الرسول لم تكن منحصرة في تلاوة القرآن الكريم ، وإقرائه للناس ، بل كان عليه وراء ذلك ، تبيين معالمه ، وتوضيح مقاصده. يقول سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) . (1)

نرى أنّه سبحانه يقول ( لِتُبَيِّنَ ) مكان لتقرأ فمهمّة الرسول الخطيرة هي توضيح مفاهيم الذكر الحكيم ، وسبر أغواره. ولأجل ذلك كان الرسول يفسّر الآيات واحدة بعد أُخرى أو مجموعة بعد مجموعة.

قال أبو عبد الرحمن السلميّ : حدّثنا الذين كانوا يقرأون القرآن كعثمان بن عفّان ، وعبد اللّه بن مسعود ، وغيرهما أنّهما كانوا إذا تعلّموا من النبيّ عشر آيات ، لم يتجاوزوها حتّى يعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا : فتعلّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. ولهذا كانوا يبقون مدّة في حفظ السورة. (2)

فإذا كان الرسول مأموراً من جانبه سبحانه ببيان القرآن وتفسيره ، فأين هذه الأحاديث التي صدع بها الرسول ووعاها السلف الصالح ؟

نرى أنّ جميع ما ورد عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من التفاسير المصرّح برفعها إليه - غير ما ورد من أسباب النزول - لا يتجاوز المائتين وعشرين حديثاً تقريباً. وقد أتعب جلال الدين السيوطيّ نفسه ، فجمعها من مطاوي الكتب في آخر كتابه الإتقان ، فرتّبها على ترتيب السور من الفاتحة إلى سورة الناس. (3) ومن المعلوم أنّ هذا المقدار

ص: 309


1- النحل : 44.
2- الإتقان : 4 / 175 - 176 ، ط مصر.
3- المصدر نفسه : 170.

لا يفي بتفسير القرآن الكريم ، ولا يمكن لنا التقوّل بأنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم تقاعس عن مهمته ، أو أنّه لم يكن مأموراً بأزيد من ذلك.

نعم ؛ قام الرسول بمهمته الكبيرة مع ما له من الواجبات الوافرة تجاه رسالته ، ووعتها عنه أُذُن واعية ، وبلّغها إلى المستحفظين من أُمّة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ، غير أنّ أهل السنّة - إذ لم يهتمّوا بالأخذ والنقل من تلكم الآذان الواعية - قصرت أيديهم عن أحاديث الرسول الأعظم في مجال التفسير. فلو أنّهم رجعوا إلى باب علم النبيّ عليه الصلاة والسلام وأهل بيته المطهّرين من الرجس بنصّ الذكر الحكيم (1) لوقفوا على كميّة هائلة من أحاديث الرسول حول القرآن وتفسيره عن طرقهم ، منتهية إلى صاحب الرسالة ، وإنّ هذا واللّه لخسارة كبيرة ، وحرمان أصاب أهل السنّة والجماعة ، حيث أخذوا الحديث من نظراء كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وتميم الداريّ ، وأمثالهم ومُسْلِمة أهل الكتاب ، أو أخذوا من أُناس كانوا يأخذون قصص الأنبياء ، وبدء الخليقة من أهل الكتاب (2) ، ولم يدقّوا باب أهل بيته حتى يسألوهم عمّا ورثوه عن رسول اللّه ، وقد قال سبحانه : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ... ) (3) . (4)

ولأجل ذلك قامت الشيعة بتدوين آثار الرسول عن طريق أهل بيته ، فألّفوا في هذا المضمار كتباً جليلة ، تفسّر القرآن الكريم بالأثر المرويّ عنه وعن أهل بيته ، كما ستوافيك أسماؤها وأسماء مصنّفيها ، عند البحث عن مفسّري الشيعة في القرون

ص: 310


1- الأحزاب : 33.
2- المقدمة ( ابن خلدون ) : 439 ؛ ولاحظ « بحوث في الملل والنحل » : 1 / 76 - 108.
3- فاطر : 32.
4- فلازم على الباحث أن يبحث عن المصطفين من عباده سبحانه الذين أورثهم فهم الكتاب.

الأُولى. ولنذكر نماذج ممّا أُثر عن النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم في مجال التفسير تيمّناً وتبرّكاً :

1. لمّا نزل قوله سبحانه : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) .(1)قال عديّ بن حاتم : إنّي وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود ، فكنت أنظر فيهما ، فلا يتبين لي. فضحك رسول اللّه حتّى رؤيت نواجذه ثمّ قال : « ذلك بياض النهار ، وسواد الليل ».(2)

2. روى علي عليه السلام في تفسير قوله سبحانه : ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) .(3)قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول : « إنّ اللّه عزّ وجلّ قال : ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلاّ الجنّة ».(4)فالإيمان بتوحيد ذاته وصفاته وأفعاله عمل العبد ، قدّمه إلى بارئه ، فيجزيه بالجنّة. وفي الوقت نفسه كلاهما من جانبه سبحانه ، فهو الذي يوفق عبده للإيمان.

3. ولمّا نزل قول اللّه سبحانه : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ )(5)فقال أصحابه : وأيّنا لم يظلم نفسه ؟ ففسّر النبيّ الظلم بالشرك ، لقوله سبحانه : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (6). (7) وهذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن. كيف واللّه سبحانه يصفه بأنّه تبيان لكلّ شيء ويقول : ( نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ )(8)فهل يمكن أن يكون تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه ؟

ص: 311


1- البقرة : 187.
2- مجمع البيان : 1 / 281 ، ط صيدا.
3- الرحمن : 60.
4- تفسير البرهان : 4 / 272.
5- الأنعام : 82.
6- لقمان : 13.
7- الإتقان : 4 / 214 - 215.
8- النحل : 89.
الوصيّ هو المفسر الثاني

من سبر كتب التفسير والحديث يجد أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام هو المفسر الأكبر بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فعنه أخذ كثير من الصحابة. قال السيوطيّ : أمّا الخلفاء فأكثر ما روي عنه منهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، والرواية من الثلاثة نزرة جداً ، فأمّا عليّ عليه السلام فروي عنه الكثير. وقد روى معمّر عن وهب بن عبد اللّه ، عن أبي الطفيل قال : شهدت عليّاً يخطب ، فيقول : « فواللّه لا تسألوني عن شيء إلاّ أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب اللّه ، فواللّه ما من آية إلاّ وأنا أعلم أبليلٍ نزلت أم بنهار ، في سهل أم في جبل ».

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود ، قال : إنّ القرآن أُنزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلاّ وله ظهر وبطن ، وإنّ عليّ بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن.

وأخرج أيضاً من طريق أبي بكر بن عيّاش ، عن نصير بن سليمان الأحمسيّ ، عن أبيه ، عن عليّ ، قال : « واللّه ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيم أُنزلت ؟ وأين أُنزلت ؟ أنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ، ولساناً سؤولاً ». (1)

يقول الذهبي في مكانة « عليّ » في التفسير : جمع علي رضي اللّه عنه إلى مهارته في القضاء والفتوى ، علمه بكتاب اللّه وفهمه لأسراره وخفيّ معانيه ، فكان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل ، ومعرفة التأويل ، فقد روي عن ابن عبّاس أنّه قال : ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب عليه السلام. (2)

ص: 312


1- الإتقان : 4 / 204.
2- التفسير والمفسّرون : 1 / 89 - 90.
عثرة لا تقال

إنّ الدكتور محمد حسين الذهبيّ جعل علي بن أبي طالب - بحسب كثرة من روى عنه - في الدرجة الثالثة ، وجعل عبد اللّه بن عبّاس في الدرجة الأُولى ، ثمّ ابن مسعود في الدرجة الثانية (1) والرجل بخس حقّ عليّ بخساً بيّناً ، فلو سلّمنا أنّ ما روي عن ابن عبّاس أكثر مما روي عن أمير المؤمنين ، فهل يمكن لنا أن ننكر اعتراف حبر الأُمّة بأنّه تخرّج على يد عليّ بن أبي طالب وأنّ ما أخذ من تفسير القرآن فإنّما أخذه عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ! كيف لا ، وقد لازم عليّاً قرابة ثلاثين سنة كما هو واضح لمن درس حياته ؟! قال ابن أبي الحديد : ومن العلم علم تفسير القرآن ، وعنه أُخذ ، ومنه فرِّع. وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحّة ذلك ، لأنّ أكثره عنه وعن عبد اللّه بن عبّاس. وقد علم الناس حال ابن عبّاس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه ، وأنّه تلميذه وخرّيجه. وقيل له : أين علمك من علم ابن عمّك ؟ فقال : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط. (2)

ومن أراد أن يقف على نموذج من علم الإمام بالتفسير وأقسامه المختلفة ، فعليه الرجوع إلى الخطبة المرويّة عنه حول القرآن وأقسام تفسيره ، وقد رواها القمّي في أوّل كتابه ، وأدرجها البحرانيّ في تفسيره ، عند البحث عن مقدّمات التفسير ، وإليك مستهلّ الخطبة : (3)

« ولقد علم المستحفظون من أُمّة محمّد أنّه قال : إنّي وأهل بيتي مطهّرون ، فلا

ص: 313


1- المصدر نفسه.
2- شرح نهج البلاغة : 1 / 19.
3- تفسير عليّ بن إبراهيم : 1 / 5 - 10 ، والإمعان فيه يعرب عن دخول ما ليس من كلامه فيه ؛ ولاحظ تفسير البرهان : 1 / 32.

تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتخلَّفوا عنهم فتزلُّوا ، ولا تخالفوهم فتجهلوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم. هم أعلم الناس كباراً ، وأحلم الناس صغاراً ، فاتّبعوا الحقّ وأهله حيث كان - إلى أن قال - فالقرآن منه ناسخ ومنسوخ ، ومنه محكم ومتشابه ، ومنه خاصّ وعامٌّ ... » إلى آخر ما ذكر من أقسام ، وأعطى لكلّ قسم مثالاً من القرآن. والخطبة جديرة بالمطالعة ، وهي من خطبه الجليلة ، وربما نسبها الغافل إلى غيره وقد طبعت مع مقدمة قصيرة منسوبة إلى السيّد المرتضى قدس سره باسم « المحكم والمتشابه » ، لكنّه من خطأ الناسخ والطابع.

هذا وإنّ للذهبيّ عثرات كثيرة ، وزلاّت وافرة ، خصوصاً فيما يرجع إلى قضائه في حقّ الشيعة وكتبهم التفسيريّة ، فقد قصّر في أداء الواجب ، وبخس حقّهم ، ولنا مع الرجل موقف آخر نؤدّي فيه حقّ المقال إن شاء اللّه تعالى.

ذكر الذهبيّ مشاهير المفسّرين من الصحابة ، وعدّ منهم - مضافاً إلى من عرفت أسماءهم - أُبيّ بن كعب كما ذكر من مشاهير التابعين : سعيد بن جبير ، مجاهد بن جبر ، عكرمة البربريّ ، عطاء بن رباح ، أبا العالية رفيع بن مهران ، محمّد بن كعب القرظيّ ، علقمة بن قيس ، مسروق بن الأجدع ، الأسود بن يزيد ، مرّة الهمدانيّ ، عامر الشعبيّ ، الحسن البصريّ ، وقتادة الدوسيّ.

ولكنّه تنكّب عن مهيع الطريق ، فلم يعدّ الحسن والحسين ممّن روي عنهما التفسير من الصحابة ، كما لم يعد الإمام زين العابدين ، ومحمّداً الباقر وجعفراً الصادق في التابعين الذين روي عنهم التفسير. وهب أنّه لم يستقص رواة التفسير من الصحابة حتّى يكون له عذر في ترك ذكر الإمامين الهُمامين السبطين الشريفين ، ولكنّه لماذا لم يذكر أئمّة المسلمين وسادة العارفين والصادقين عليهم السلام الذين روي

ص: 314

عنهم العلوم في مجالات شتّى ، وفي التفسير خاصّة ، حتى نقل الناس عن أحدهم ، وهو الإمام جعفر الصادق عليه السلام من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر ذكره في البلدان.

هذا هو الرازيّ يقول في تفسيره سورة الكوثر : « ثمّ انظر كم كان فيهم ( أولاد الرسول ) من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق ، والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكيّة وأمثالهم ». (1)

هذا هو الحسن البصريّ الذي أثنى عليه الذهبيّ ثناءً جزيلاً يكتب إلى السبط الأكبر - الذي أهمل ذكره - قائلاً : « فإنّكم معشر بني هاشم ، الفلك الجاريّة في اللجج الغامرة ، والأعلام النيّرة الشاهرة ، أو كسفينة نوح التي نزلها المؤمنون ، ونجا فيها المسلمون ». (2)

أو ليس عدم الإشادة بذكره وذكر أخيه بخساً لحقّهم ؟! وإن كان الأئمّة الطاهرون الذين أسميناهم ، والذين من بعدهم أعرف من أن يُعرفوا ، وهم روّاد العلم وقادته ، إليهم تنسب كلّ فضيلة غالية ، سواء أتى على ذكرهم الذهبيّ أم لم يأتِ.

من تلقَ منهم تلقَ كهلاً أو فتىً *** علم الهدى ، بحر الندى المورودا

ولأجل ذلك نذكر في مقدم المقال أئمّة الشيعة ، وهم أئمّة المسلمين جميعاً ، وننقل عن كلّ واحد نزراً يسيراً في مجال التفسير ، ومن أراد الاستيعاب في المقام ، فعليه الرجوع إلى كتب التفسير ، بالأثر ، ليجد فيها بُغيته كما يقف بالرجوع إليها على

ص: 315


1- مفاتيح الغيب : 8 / 498 ، الطبعة المصرية في ثمانية أجزاء.
2- تحف العقول : 166 ، طبع بيروت.

مدى تقصير القوم - الذهبيّ وأساتذته - في غابر القرون (1) عن الرجوع إليهم ، والإشادة بذكرهم والاستضاءة بأنوارهم.

على أنّنا نختار من المأثورات الكثيرة عنهم في مجال التفسير ما يدور على أحد المحاور الثلاثة : إمّا أن يكون تفسيراً للآية بأُختها ، أو تفسيراً لغويّاً وبيانيّاً ، أو استدلالاً بالآية على مبدأ اعتقاديّ ، وإن كانت ألوان التفسير في رواياتهم متشعّبة.

نماذج ممّا روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في مجال التفسير

كان عليه السلام يستخرج محاسن المعاني عن الآيات ممّا يبهر العيون ويحيّر العقول قال صلوات اللّه عليه بعد رحلة الرسول :

1. « كان في الأرض أمانان من عذاب اللّه ، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسّكوا به ، أمّا الأمان الذي رفع فهو رسول اللّه ، وأمّا الأمان الباقي فهو الاستغفار ، قال اللّه تعالى : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ». (2)

2. ومن محاسن الاستخراج ولطائف الاستنباط قضاؤه في أقلّ الحملِ ، وفهمه من كتاب اللّه سبحانه ما يلي :

« أخرج الحافظان أبو حاتم والبيهقيّ عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي : أنّ عمر بن الخطاب رفعت إليه امرأة ولدت لستّة أشهر فهمّ برجمها. فبلغ ذلك

ص: 316


1- كالحافظ شمس الدين الداوديّ في طبقات المفسّرين ، وعادل نويهض في معجم المفسّرين ، وأخيراً الذهبيّ في التفسير والمفسّرون.
2- نهج البلاغة : قسم الحكم ، الحكمة رقم 88.

عليّاً ، فقال : « ليس عليها رجم » فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه ، فسأله ، فقال : قال اللّه تعالى : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) وقال : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) فستة أشهر حمله ، وفصاله في حولين ، وذلك ثلاثون شهراً فخلّى عنها ، فقال عمر : اللّهمّ لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب. (1)

3. سأل يهوديّ عليّاً عليه السلام عن مدّة لبث أصحاب الكهف ، فقال : ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) . فقال اليهودي : إنّا نجد في كتابنا : ثلاثمائة ، فقال عليه السلام : « ذاك بسنيّ الشمس ، وهذا بسنيّ القمر ». (2) وبذلك بيّن الإمام وجه عدول الآية عن التعبير الرائج في أمثال المقام إلى ما ورد فيها ، فإنّ التعبير الرائج فيها هو فلبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين ، ولكنّه عبّر عنه بقوله : ( وَازْدَادُوا تِسْعًا ) ، وما هذا إلاّ للإشارة إلى أنّ التعبيرين كليهما صحيحان ، واحد منهما بالسنوات الشمسيّة ، والآخر بالقمريّة.

وكم لعليّ عليه السلام من هذه المواقف في استخراج حكم الوقائع من كتاب اللّه وسنّة نبيّه ، وكم له من حلّ للمعضلات من الأُمور عن طريق تفسير الكتاب ، وبما أنّها مبثوثة في الكتب ، مشهورة بين المحدّثين والمفسّرين اكتفينا بهذه النماذج.

الحسن بن علي عليه السلام والتفسير

الحسن بن علي هو السبط الأكبر ، وريحانة رسول اللّه ، ووارث علم أبيه ، وحامل راية الإمامة بعده ، بتنصيص من الرسول والوالد ، وقد أُثر عنه في مجال

ص: 317


1- السنن الكبرى : 7 / 422 ؛ ولاحظ تفسير الرازي : 7 / 44 ، الطبعة المصريّة القديمة.
2- بحارالأنوار : 58 / 352.

التفسير ما تعلو عليه القوّة والجدارة ، رغم ما منيت به آثاره من إعراض وإنكار. وإليك نماذج من آرائه في القرآن وتفسيره :

« إنّ هذا القرآن فيه مصابيح النور ، وشفاء الصدور ، فليجلُ جالٍ بضوئه ، وليلجم الصفة قلبه ، فإنّ التفكير حياة القلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ».(1)

« ما بقي من الدنيا بقيّة غير هذا القرآن ، فاتخذوه إماماً يدلّكم على هُداكم ، وإنّ أحقّ الناس من عمل به ، وإن لم يحفظه ، وأبعدهم من لم يعمل به ، وإن كان يقرأه ».(2)

« إنّ هذا القرآن يجيء يوم القيامة قائداً وسائقاً : يقود قوماً إلى الجنّة ، أحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه ، وآمنوا بمتشابهه ؛ ويسوق قوماً إلى النار ، ضيّعوا حدوده وأحكامه ، واستحلّوا محارمه ».(3)

« من قال في القرآن برأيه ، فأصاب ، فقد أخطأ ».(4)

وإليك نماذج ممّا روي عنه في مجال التفسير :

1. سئل عليه السلام عن معنى الشاهد والمشهود ، في قوله سبحانه : ( وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ )(5)فقال : أمّا الشاهد فمحمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أما سمعته يقول : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ... ) (3). وقال تعالى : ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) (4).(5)وهذا كما ترى تفسير للقرآن بالقرآن ، وكم له من نظائر في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

ص: 318


1- كشف الغمة : 2 / 195.
2- إرشاد القلوب : 81. 3 و 4. نفس المصدر. 5. البروج : 3.
3- الأحزاب : 45.
4- هود : 103.
5- بحار الأنوار : 1 / 13.

2. وسئل عن تفسير قوله تعالى : ( ... آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ) قال : هي العلم والعبادة في الدنيا ، والجنّة في الآخرة ».(1)فقد نبّه الإمام في كلامه هذا إلى ما يغفل عنه أكثر العامة ، إذ أيّة حسنة أعلى من العلم والمعرفة ، وعبادته سبحانه في الدنيا ؟ وثمرة المعرفة هي الطاعة والعبادة.

3. كان الحسن بن عليّ إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه ، وقال : « إنّ اللّه جميل ، ويحبّ الجمال ، فأتجمّل لربّي ، وقرأ : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) » (2). (3) فالصلاة وفود العبد إلى اللّه سبحانه ، فيليق بالوافد أن يحضر بأجمل الحالات ، وأحسن الأوضاع ، لأنّ الموفود إليه مالك الملك والملكوت.

الإمام السبط الشهيد عليه السلام والتفسير

الإمام السبط الشهيد ريحانة رسول اللّه ، وسبطه الأصغر ، وهو من أهل بيت النبوّة بنصّ من النبيّ الأكرم ، وقد استشهد عام 61 ه في أرض الطفّ بيد الجور والعدوان. وقد عاصر الإمام خلافة معاوية عشر سنين ، وكانت سياسة ذلك الداهية هي سياسة القمع والإرهاب فلم ينتشر من الإمام إلاّ بعض خطبه ورسائله ، وكلماته الحكيمة. ومع ذلك ففي هذا النزر اليسير الذي أفلت من يد الأيّام ، الحجة البالغة والبرهان اللائح على أنّه وارث علم النبيّ وعلم أبيه ، كيف وهو من الثقلين اللّذين أمر النبيّ بالتمسّك بهما ؟ وإليك نماذج ممّا أُثر عنه في مجال التفسير :

1. كتب أهل البصرة إليه يسألونه عن « الصمد » فكتب إليهم : « بسم اللّه

ص: 319


1- الاثنا عشرية ( الحسيني ) : 53.
2- الأعراف : 31.
3- تفسير الصافي : 2 / 189 ، ط بيروت.

الرّحمن الرّحيم ، أمّا بعد ؛ فلا تخوضوا في القرآن ، ولا تجادلوا فيه بغير علم ، فقد سمعت جدّي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول : من قال في القرآن بغير علم ، فليتبوّأ مقعده من النار ، وإنّ اللّه سبحانه قد فسّر الصمد ، فقال : ( اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ ) ثمّ فسره فقال : ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) . لم يلد : لم يخرج منه شيء كثيف كالولد ، وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شيء لطيف كالنفس ، ولا يتشعّب منه البدوات كالسنة ، والنوم ، والخطرة ، والهمّ ، والحزن ، والبهجة ، والضحك ، والبكاء ، والخوف ، والرجاء ، والرغبة ، والسأمة ، والجوع ، والشبع ، تعالى أن يخرج منه شيء ، وأن يتولّد منه شيء كثيف أو لطيف ... بل هو اللّه الصمد الذي لا من شيء ، ولا في شيء ، ولا على شيء. مبدع الأشياء وخالقها ، ومنشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته ، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه ، فذلكم اللّه الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ».(1)

2. سأله رجل عن معنى قوله سبحانه : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ )(2)فقال عليه السلام : « إمام دعا إلى اللّه فأجابوه إليه ، وإمام دعا إلى الضلالة فأجابوه إليها. هؤلاء في الجنة ، وهؤلاء في النار. وهو قول اللّه عزّ وجلّ : ( فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ )(3)(4)

3. سأله نضر بن مالك ، وقال : يا أبا عبد اللّه حدِّثني عن قول اللّه عزّ وجلّ : ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ )(5)فقال عليه السلام : « نحن وبنو أُمية اختصمنا

ص: 320


1- توحيد الصدوق : 56.
2- الإسراء : 71.
3- الشورى : 7.
4- بلاغة الحسين : 87.
5- الحج : 19.

في اللّه عزّ وجلّ ، قلنا : صدق اللّه ، وقالوا : كذب اللّه. فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة ».(1)والإمام فسر الآية بالتنبيه على المصداق الواضح. وعلى هذا جروا في تفسيرهم للآيات القرآنية ، فهم يفسّرونها بمصاديق واضحة ، وجزئيّات خاصّة ، ولا يريدون انحصار مفهومها فيه.

4. سئل عن معنى قول اللّه : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )(2)فقال عليه السلام : « أمر النبيّ أن يحدّث بما أنعم اللّه به عليه في دينه ».(3)وقد لفت الإمام في هذا التفسير نظر السائل إلى أظهر مصاديق النعمة وأكملها ، بما ربما يغفل عنه الإنسان ، ويتصوّر أنّ النعم التي يجب التحدّث بها هي النعم الدنيويّة ، مع أنّها ضئيلة في مقابل النعم الأُخرويّة ، فقد قلنا : إنّ هذا النمط من التفسير في كلامهم كثير ، وهذا التفسير هو ما يسمّيه العلاّمة الطباطبائي بالجري والتطبيق. ولا يراد انحصار الآية في المصداق الخاصّ ، وربما يتصوّر الجاهل بأنّ هذا النوع من التفسير تفسير بالرأي أو تفسير بالباطن ، غافلاً عن أنّه تفسير بالمصداق والتطبيق ، لأنّ إعطاء الضابطة بالمثال أوقع في النفوس ، وأقرب إلى ترسيخها فيها ، خصوصاً إذا كان المصداق ممّا يغفل عنه المخاطب.

هذه نماذج ما روي عن الإمام السبط الشهيد ، حسين الإباء والعظمة أبي الشهداء ، سلام اللّه عليه سلاماً لا نهاية له.

زين العابدين عليه السلام والتفسير

الإمام زين العابدين ، إمام العارفين ، وقائد الزاهدين ، وسيّد الساجدين ،

ص: 321


1- بلاغة الحسين : 87.
2- الضحى : 11.
3- تفسير الصافي : 3 / 368 ؛ ونور الثقلين : 3 / 476 ، نقلاً عن الخصال.

رابع أئمّة العصمة والطهارة ، ولد بالمدينة المنورة سنة ستّ وثلاثين من الهجرة يوم فتح البصرة ونزول النصرة على أبي الأئمّة ، وتوفّي فيها سنة خمس وتسعين مسموماً ، ودفن بالبقيع ، وعاش مع جدّه عليّ أربع سنين ، ومع عمّه الحسن عشر سنين ، ومع أبيه كذلك ، إلى أن استلم الوصاية والولاية من أبيه.

ومن آثاره الباقية أدعيته المعروفة بالصحيفة السجاديّة ، وقد بلغت في جزالة اللفظ ، وبلاغة التعبير ، وجودة السبك ، ورقة المعاني ، ولطافة المفاهيم مبلغاً ، لا يدرك شأوه. كما روي عنه عليه السلام أحاديث وافرة في مجال التفسير ، ونأتي بنماذج قليلة منها ليكون مثالاً لما لم ننقله عنه :

1. كان التقشّف سائداً على زهاد عصره ، فيتخيّلون أنّ الزهد في ترك ملاذّ الحياة وملابسها ، ولبس الثوب الخشن ، وأكل الطعام الجشب ، مع أنه من مظاهر الزهد لا من مقوماته وحقيقة الزهد يرجع إلى أن لا يملك الإنسان شيء ، فجاء رجل ، فسأله عن الزهد ، فقال : إنّ الزهد كلّه في آية من كتاب اللّه : ( لِّكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ )(1).(2)

فكان يشتري كساء الخزّ بخمسين ديناراً ، ويقول : ( مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ )(3).(4)

وعلى هذا مشى الأئمّة فكان الحسن السبط - كما عرفت - إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه ، فقتل الحسين وعليه جبّة خزّ ، وكان للإمام الصادق عليه السلام جبّة خزّ وطيلسان خزّ ، فإذا سئل عن لبسه قرأ قوله سبحانه : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ

ص: 322


1- الحديد : 23.
2- مجمع البيان : 5 / 240.
3- الأعراف : 32.
4- المصدر نفسه : 4 / 413 ؛ ورواه الآلوسيّ في روح المعاني : 8 / 111.

اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) . (1)

فالجاهل ينظر إلى الصور والظواهر ، ويغترّ بها ، ويتخيّل أنّ كلّ متقّشّف خشن الثوب والطعام زاهد ، وإن ملأ قلبه حبُّ الدنيا والرئاسة. والمؤمن ينظر إلى النيّات والبواطن ، فمن كان قلبه فارغاً عن كلّ شيء إلاّ حبّه سبحانه ، فهو زاهد بتمام معنى الكلمة ، ولكن من علّق قلبه بثوب خلق ، وعصاًبالية ، فهو راغب غير زاهد.

2. سئل علي بن الحسين عن قوله سبحانه : ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) فقال : « معناه بيّنه تبياناً ، ولا تنثره نثر البقل ، ولا تهذّه هذّا الشعر (2) فقفوا عند عجائبه ، لتحرّكوا به القلوب ، ولا يكون همّ أحدكم آخر السورة ». (3)

3. قال سعيد بن جبير : سألت عليّ بن الحسين عليهما السلام عن قول اللّه تعالى : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، قال : « هي قرابتنا أهل البيت ». (4) إنّ الآيات القرآنيّة تشهد على أنّ شعار الأنبياء في طريق دعوتهم كان دائماً هو رفض الأجر ، وعدم طلبه من الأُمّة ، وكلّهم يهتفون بهذا ( إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . (5)

وعند ذلك كيف يصحّ للنبيّ أن يبدّل هذا الشعار ، ويجعل مودّة أقربائه أجراً على رسالته ؟! والجواب عن هذا السؤال واضح. فإنّ المراد هي الأُجور

ص: 323


1- المصدر نفسه : 4 / 412.
2- الهذّ : القطع بسرعة.
3- نوادر الراوندي : ص 30 ، طبع مع غيبة الشيخ المفيد.
4- أحكام القرآن : 3 / 475.
5- الشعراء : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180.

الدنيوية التي كان بإمكان البشر تقديمها إلى الرسل. وأمّا مودّة أهل بيتهم وولائهم فليس أجراً دنيويّاً ، بل الاتّصال بهم من خلال هذه المودّة ذريعة لتكامل الأُمّة في المراحل الفكريّة والعمليّة ، فعندئذٍ تنتفع بها الأُمّة الإسلاميّة قبل أن تنتفع بها العترة ، وفي هذه الصورة لا تكون المودّة في القربى أجراً ، وإن أُخرجت في الآية بصورة الأجر. ومن المعلوم أنّ الأُمّة الإسلاميّة إنّما تنتفع ببعض أقرباء النبيّ لا كلّهم ، وهم أهل بيته الذين طهّرهم اللّه عن الرجس.

4. روى ابن كثير في تفسيره ذكر ما جرى بين الإمام والرجل الشاميّ ، يوم جيء به أسيراً إلى الشام ، وقال له عن جهل بالإمام : الحمد لله الذي قتلكم ، فقرأ عليّ بن الحسين عليه آيات من القرآن ومنها هذه الآية ، وقال : « نحن قرابته ».(1)

الإمام محمّد الباقر عليه السلام والتفسير

الإمام محمّد الباقر عليه السلام من أعلام أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وأفذاذ العترة الطاهرة ، قام بالإمامة والقيادة الروحيّة بعد أبيه زين العابدين ، ولد عام ( 57 ه ) ولبّى دعوة ربّه عام ( 114 ه ) ، وقد وقف حياته كلّها لنشر العلم والحديث بين الناس ، ولم يعرف التاريخ له مثيلاً إلا ولده البارّ جعفر الصادق ، وقد غذّى رجال الفكر ، وروّاد العلم بعلمه ، وأرسى مدرسة كبيرة علميّة ، زخرت بكبار الفقهاء والمحدّثين والمفسّرين ، يقف عليها من درس رجال الحديث في الشيعة ، كما صرف قسماً كبيراً من عمره في تفسير القرآن ، وقد تخرّج عليه لفيف من المفسّرين.

فهذا أبو الجارود زياد بن المنذر فسّر القرآن من أوّله إلى آخره.

ص: 324


1- تفسير ابن كثير : 4 / 112.

يقول النجاشي : له كتاب تفسير القرآن ، رواه عن أبي جعفر عليه السلام.(1)

وقال ابن النديم في « الفهرست » ، عند عرضه للكتب المؤلّفة في تفسير القرآن : « كتاب الباقر محمد بن علي بن الحسين رواه عنه أبوالجارود ، زياد بن المنذر »(2)قد روي قسم منه في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ، وسنوافيك بأسماء لفيف من تلامذته ، وخرّيجي مدرسته ، ممّن ألّفوا في مجال التفسير كتاباً ، فانتظر.

نماذج من تفسير الإمام الباقر عليه السلام

1. سئل الإمام عن معنى قوله سبحانه : ( وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى )(3)وما هو المراد من غضب اللّه ؟ فأجاب الإمام : « طرده وعقابه ».(4)وبذلك أعرب الإمام عن أنّ الصفات الخبريّة ، كالغضب والرضا ، واليد والعين ، وغير ذلك إنّما تجري على اللّه سبحانه ، مجرّدة عن لوازم المادّة والجسمانيّات ، فلا مناصَ من تفسيره بمظاهر الغضب ، وهو الطرد والعقاب.

2. سأل بريد العجليّ الإمام الباقر عليه السلام عن الملك العظيم في قوله تعالى : ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا )(5)فقال : « الملك العظيم أن جعل فيهم أئمّة من أطاعهم أطاع اللّه ، ومن عصاهم فقد عصى اللّه ، فهو الملك العظيم ».(6)فقد نوّه الإمام بتفسيره هذا أنّ الملك العظيم في لسان الشرع ليس هو السلطة الجبّارة التي تركب رقاب الناس ، من دون أن تكون لها أيّة مشروعيّة ، وإنّما الملك العظيم من استند في سلطته إلى اللّه سبحانه تكون طاعته

ص: 325


1- رجال النجاشي : 1 / 388 برقم 446.
2- فهرست ابن النديم : 56.
3- طه : 82.
4- الفصول المهمّة : 227.
5- النساء : 54.
6- البحار : 23 / 287 ح 10.

طاعته ، وعصيانه عصيانه.

3. روى جابر الجعفي أنّه سأل الإمام عليه السلام عن قوله سبحانه : ( لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) .(1)فقال الإمام : « ما يقول فقهاء العراق في هذه الآية ؟ » قال جابر : رأى يعقوب عاضاً على إبهامه ، فقال عليه السلام : « حدّثني أبي عن جدّي علي بن أبي طالب عليه السلام : أنّ البرهان الذي رآه أنّها حين همّت به وهمّ بها ، فقامت إلى صنم ، فسترته بثوب أبيض خشية أن يراها ، أو استحياءً منه. فقال لها يوسف : تستحين من صنم لا ينفع ولا يضر ولا يبصر ؟ أفلا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كلّ نفس بما كسبت ؟ ثمّ قال : واللّه لا تنالين منّي أبداً ! فهو البرهان ».(2)

4. جلس قتادة المفسّر المعروف بين يدي الإمام الباقر عليه السلام وقال له : لقد جلست بين يدي الفقهاء ، وقدّام ابن عبّاس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. قال له أبو جعفر الباقر عليه السلام : « ويحك أتدري أين أنت ؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ )(3)فأنت ثمّ ونحن أُولئك » ، فقال له قتادة : صدقت واللّه - جعلني اللّه فداك - ما هي بيوت حجارة ولا طين.(4)

5. روى جابر بن يزيد الجعفيّ عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه سئل عن قوله سبحانه : ( وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ )(5)فقال : « المقصود دين اللّه ».(6)إنّ تفسير « خلق اللّه » ب « دين اللّه » ليس

ص: 326


1- يوسف : 24.
2- البداية والنهاية : 9 / 310.
3- النور : 36 - 37.
4- الكافي : 6 / 256.
5- النساء : 119.
6- تفسير العياشي : 1 / 276.

بأمر غريب ، كيف لا ؟ وقد أسمى سبحانه دين اللّه فطرة اللّه ، وقال : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) . (1)

6. إنّ مذهب الإمام في صلاة المسافر هو لزوم التقصير ، لا التخيير بينه وبين الإتمام ، كما عليه أئمّة المذاهب الأُخرى. فسأله بطلان من تلامذته - زرارة ومحمد بن مسلم - عن معنى قوله سبحانه : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (2) وقالا : كيف صار التقصير في السفر واجباً واللّه سبحانه يقول : ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ) . ولم يقل : افعَلُوا ؟ ( فالإمام فسر الآية بأُختها ) ، فقال : أو ليس قال اللّه : ( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) (3) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض ، وأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكره في كتابه ، وصنعه نبيّه ، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبيّ وذكره اللّه تعالى في كتابه. (4)

7. اختلفت كلمة الفقهاء في وجوب استيعاب الرأس عند المسح أو كفاية البعض ، فقد سأل زرارة الإمام الباقر عليه السلام عن ذلك ، قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : ألا تخبرني من أين علمت ، وقلت ، إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك ، فقال : يا زرارة قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ونزل به الكتاب من اللّه عزّوجلّ ، لأنّ اللّه عزّوجلّ قال : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن

ص: 327


1- الروم : 30.
2- النساء : 101.
3- البقرة : 158.
4- تفسير البرهان : 1 / 410.

يُغسل ، ثمّ قال : ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ ) فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ، فعرفنا أنّه ينبغي لهما ، أن يُغسلا إلى المرفقين ، ثمّ فصل بين الكلام فقال : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) فعرفنا حين قال : ( بِرُءُوسِكُمْ ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه ، فقال : ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ، ثمّ فسّر ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم للناس فضيّعوه ... . (1)

الإمام جعفر الصادق عليه السلام والتفسير

الإمام أبو عبد اللّه جعفر الصادق عليه السلام من أبرز أئمّة المسلمين ، ولد في حجر الرسالة ، ونشأ في بيت النبوّة ، وترعرع في ربوع الوحي ، وتربّى بين جدّه زين العابدين ، وأبيه الإمام الباقر عليه السلام ولد عام ( 83 ه ) ، واستشهد في خلافة المنصور عام (148). نشأ في عصر تنازعت فيه الأهواء ، واضطربت فيه الأفكار ، وتلاطمت أمواج الظلم والإرهاب. فبينما كان القوم يتنازعون في الرئاسة ، والتسنّم على عرش الخلافة ، واشتعلت نيران الحرب بين الأمويّين والعباسيّين ، اغتنم عليه السلام الفرصة وأعطى للأُمّة دروساً خالدة ، وغذّى تلاميذه بروح العلم والتفكير ، وغرس في قلوبهم بذور المعارف الإلهية ، وشحذ أذهانهم ، وأرهف طباعهم ، فتخرّج من مدرسته أعلام يستضاء بأنوارهم.

وقد نقل المؤرّخون أنّه « نقل الناس عن الصادق عليه السلام من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر ذكره في البلدان ، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته صلى اللّه عليه وآله وسلم العلماء ما نقل عنه ، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار ، ولا نقلوا عنهم مثلما

ص: 328


1- وسائل الشيعة : 1 / 290 - 291 ، الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث 1.

نقلوا عن أبي عبد اللّه ، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات ، على اختلافهم في الآراء والمقالات ، فكانوا أربعة آلاف رجل »(1)وهم بين فقيه بارع ، يفتي الناس في مسجد المدينة ، كأبان بن تغلب(2)ومفسّر متضلّع ، ومحدّث واعٍ ، إلى غير ذلك ، حفظ التاريخ والرجال أسماءهم وللإمام خطوات واسعة في التفسير ، وآثار خالدة جمعها بعده تلامذته ، وسنشير إليها عند البحث عن مفسري الشيعة في القرون الإسلامية. وإليك نزراً يسيراً من تفسيره ، حتى يكون نموذجاً من الينبوع المتفجّر ، ونمير علمه الصافي :

1. لقد كانت الزنادقة في عصر الصادق عليه السلام بصدد التشكيك في العقائد ، وبذر الشُّبه في الأوساط. وممّا كان تلوكه أشداقهم هو ما سأله ابن أبي العوجاء ، هشام بن الحكم فقال له : فأخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ : ( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً )(3)أليس هذا فرض ؟ قال هشام : بلى. وقال : فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ : ( وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ )(4)فقال ابن أبي العوجاء أيّ حكيم يتكلّم بهذا ؟

فرحل هشام إلى المدينة ، وقصد دار الإمام الصادق عليه السلام ، فقال : « يا هشام في غير وقت حجّ ولا عمرة ؟ » قال : نعم - جعلت فداك - لأمر أهمّني. إنّ ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة ، لم يكن عندي فيها شيء قال : وما هي ؟ قال : فأخبره بالقصّة ، فقال الإمام : « فأمّا الآية الأُولى فهي في النفقة ، وأمّا الآية الثانية فإنّما

ص: 329


1- إرشاد المفيد : 289 ، طبع إيران.
2- لاحظ الفهرست لابن النديم : 322 ، ط مصر مطبعة الاستقامة ؛ رجال النجاشي : 1 / 73 برقم 6 ، ط بيروت ، وكلّما ننقله فهو من هذه الطبعة.
3- النساء : 3.
4- النساء : 129.

عنت المودّة ، فإنّه لا يقدر واحد أن يعدل بين امرأتين في المودّة ». فقدم هشام بالجواب وأخبره. قال ابن أبي العوجاء : واللّه ما هذا من عندك. وفي حديث آخر قال : هذا حملته من الحجاز.(1)

2. إنّ قوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى )(2)ممّا اضطرب فيه كلمات المفسّرين في تبيينها ، وذهب كلّ إلى مذهب ورأي. ولكنّ الإمام الصادق عليه السلام فسّرها بوجه واضح ينطبق على ظاهر الآية ، فعندما سأل عبد اللّه بن سنان عن قول اللّه عزّوجلّ : ( فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا )(3)ما تلك الفطرة ؟ قال : « هي الإسلام ، فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد ، قال : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) وفيه المؤمن والكافر ». وقد فسّر الإمام آية الذرّ بآية الفطرة ، وبيّن أنّه لم يكن هناك أيُّ كلام عن الاستشهاد والشهادة اللفظيّين.

وجاء في رواية أُخرى رواها أبو بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام كيف أجابوا وهم ذرّ ؟ قال : « جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه ».(4)

وبذلك أعرب الإمام عن مفاد الآية ، وبيّن أنّ الآيتين تهدفان إلى معنى واحد ، وهو أنّ كلّ إنسان في بدء تكوّنه وظهوره ، ينطوي فطريّاً تكوينيّاً على السرّ الإلهي ، أعني : التوحيد ، منذ أن كان موجوداً ذرّياً صغيراً في رحم أُمّه ، وكأنّ أوّل خلية إنسانيّة تستقرّ في رحم الأُمّ تنطوي على هذه الوديعة الإلهيّة ، وهي الشعور الطبيعيّ باللّه ، والانجذاب إليه ، وكأنّ جينات الخليّة لدى كلّ إنسان تحمل بين

ص: 330


1- تفسير البرهان : 1 / 420.
2- الأعراف : 172.
3- الروم : 30.
4- تفسير البرهان : 2 / 47.

جوانحها هذه الخاصيّة الروحيّة ، وأنّ هذه الخاصيّة تنمو وتتكامل مع تكامل الخليّة ونموّها.

وبهذا البيان أغنى الإمام الأُمّة عن كثير من الوجوه المذكورة في الآية التي لا تنطبق على ظاهرها ، وأوضح أنّ المفاد هو كون الإنسان مفطوراً على التوحيد.

3. كانت المرجئة من أخطر الطوائف الإسلاميّة على شباب المسلمين ، حيث ذهبوا إلى أنّ الإيمان قول بلا عمل ، ونيّة بلا فصل ، وأنّه لا يزيد ولا ينقص ، وبذلك أعطوا للعصاة الضوء الأخضر حتى يقترفوا المعاصي الكبيرة ، والآثام الموبقة ، من دون أن يكون لذاك تأثير على إيمانهم. وقد حذّر الإمام في خطبه وكلمه الشيعة من هذه الطائفة ، وقال : « بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة ».

وعند ما سأل أبو عمرو الزبيريّ الإمام الصادق عن الإيمان قائلاً : هل هو عمل أو قول بلا عمل ؟ يجيب الإمام قائلاً : « الإيمان عمل كلّه ، والقول بعد ذلك العمل ». ثمّ عندما يسأله هل الإيمان يتمّ وينقص ويزيد ؟ يقول الإمام : « نعم ». فقال السائل : فما الدليل على أنّه يزيد ؟ فقال : « قول اللّه عزّوجلّ : ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ )(1)وقال سبحانه : ( نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى )(2)فلو كان الإيمان واحداً ، لا زيادة فيه ولا نقصان ، لم يكن لأحدٍ منهم فضل على الآخر ».(3).

ص: 331


1- التوبة : 144 - 145.
2- الكهف : 13.
3- تفسير البرهان : 2 / 173 - 175 ، وقد أخذنا موضع الحاجة من الحديث.

4. روى مسعدة بن صدقة ، قال : قيل لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّ الناس يروون أنّ عليّاً عليه السلام قال على منبر الكوفة : أيّها الناس ؛ إنّكم ستُدعَون إلى سبّي ، ثمّ تُدعون إلى البراءة منّي ، فلا تبرّأوا منّي ، فقال الإمام الصادق عليه السلام : « ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ عليه السلام ، ثمّ قال : إنّما قال : إنّكم ستدعون إلى سبّي ، فسبّوني ثمّ تدعون إلى البراءة منّي ، وإنّي لعلى دين محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم يقل : ولا تبرّأوا منّي » فقال له السائل : أرأيت إن اختار القتل دون البراءة ؟ قال : « واللّه ما ذلك عليه ، وما له إلاّ ما مضى عمار بن ياسر ، حيث أكرهه أهل مكّة وقلبه مطمئن بالإيمان ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) ، فقال له النبيّ عندها : يا عمّار إن عادوا فعد ، فقد أنزل اللّه عزّوجلّ عذرك ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) وآمرك أن تعود إن عادوا ». (1)

ترى أنّ الإمام يرجع الحديث إلى الآية ، ويقضي بها في حقّه ، وأنّه كيف لا يجوز البراءة مع أنّ عماراً ، حسب الرواية ، وظهور الآية ، تبرّأ من النبيّ ، ولم يكن عليه شيء قال سبحانه : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) ، وأئمّة الشيعة - مع شدّة تركيزهم على هذا الموقف ، من إرجاع الأحاديث المشكوكة إلى القرآن ، فما خالف منها القرآن ، يضرب عرض الجدار - قاموا بتطبيق هذا المبدأ عمليّاً في غير واحد من الأحاديث التي لا يسع المقام ذكرها.

5. وقد ورد « الفقراء والمساكين » في آية الصدقات ، وجعلا من الأصناف الثمانية الذين تقسّم الزكاة بينهم. وأمّا الفرق بين الصنفين ، فقد كثر البحث فيها بين الفقهاء تبعاً للمفسّرين ، ولكنّ الإمام الصادق عليه السلام يفسّر الفقراء في ضوء ما يمليه الذكر الحكيم ، ويقول في تفسير قوله سبحانه : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ

ص: 332


1- تفسير البرهان : 2 / 385.

وَالمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .(1)

« أخرج اللّه من الصدقات جميع الناس ، إلاّ هذه الثمانية الأصناف الذي سمّاهم ، والفقراء هم الذين لا يسألون الناس ، وعليهم مؤونات من عيالهم ، والدليل على أنّهم لا يسألون قول اللّه : ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ... )(2)، والمساكين هم أهل الزمانة من العميان والعرجان والمجذومين ، وجميع أصناف الزمنى من الرجال والنساء والصبيان ... ».(3)

والإمام - كما ترى - يفسّر الآية بالآية ، والقرآن بالقرآن ، وكم له من نظير في أحاديثهم عليهم السلام ؟ وهذا من أحسن الطرق ، وأتقنها للتفسير ، ولو قام باحث بجمع ما أُثر عنهم في ذاك المجال لجاء بكتاب.

6. قال الصادق عليه السلام : « ما من شيء إلاّ وله حدّ ينتهي إليه ، إلاّ الذكر فليس له منتهى إليه. فرض اللّه عزّوجلّ الفرائض ، فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ ، وشهر رمضان ، فمن صامه فهو حدّه ، والحجّ فمن حجّ فهو حدّه ، إلاّ الذكر فإنّ اللّه عزّوجلّ لم يرضَ منه بالقليل ، ولم يجعل له حدّاً ينتهي إليه. قال اللّه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) .(4)لم يجعل له حدّاً ينتهي إليه.(5).

ص: 333


1- التوبة : 60.
2- البقرة : 273.
3- تفسير البرهان : 2 / 134 ، الحديث 4.
4- الأحزاب : 41.
5- تفسير نور الثقلين : 4 / 285 ، الحديث 147.

والروايات المأثورة عن الإمام الصادق عليه السلام في مجال التفسير كثيرة ، لا يحيط بها إلاّ من صرف شطراً كبيراً من عمره في علم المأثور عنهم.

ثمّ إنّ هناك جماعة من غير الشيعة رموا الروايات المرويّة عن الباقر والصادق عليهما السلام في مجال التفسير بالطائفية ، وأنّها تخرج الكتاب العزيز عن كونه كتاباً عالمياً ، إلى كتاب طائفيّ ، لا يهمّه إلاّ أهل البيت ، وفي مقدّمتهم الإمام عليّ ابن أبي طالب عليه السلام ، وسيوافيك الجواب عن هذا الاعتراض ، وسنثبت هناك أنّ هؤلاء الناقدين لم يفرقوا بين « التفسير » و « التطبيق » وبين « التنزيل » و « التأويل » ، وأنّ لأئمّة أهل البيت عليهم السلام موقفين متغايرين في تبيين الذكر الحكيم. وسيوافيك توضيحه في خاتمة الفصل ، فانتظر.

الإمام موسى الكاظم عليه السلام والتفسير

إنّ الإمام الكاظم عليه السلام هو الإمام السابع عند الشيعة ، وقد قام بأمر الإمامة بإيصاء من أبيه الإمام جعفر الصادق عليه السلام وقد روى عنه لفيف من محدّثي الأُمّة وعلمائها ، وروت الشيعة عنه أحاديث كثيرة في المعارف العامّة ، والتفسير والفقه والأخلاق ، وقام الباحث عزيز اللّه العطاردي بجمع ما أُثر عنه في كتاب مستقلّ أسماه مسند الإمام الكاظم ، وقد طبع ونشر في ثلاثة أجزاء ، وخصّ باباً مفرداً في التفسير ، ذاكراً فيه كلّ ما روي عنه في هذا الصعيد على ترتيب السور ، ونقتطف منه - مع الإشارة إلى مصادره - قليلاً من كثير ليكون نماذج من تفسيره.

1. روى سليمان الفرّاء عنه عليه السلام في تفسير قوله تعالى : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) . قال : الصبر : الصوم ، إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم.

ص: 334

قال : اللّه تعالى يقول : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) .(1)الصبر : الصوم ».(2)

وهذا تفسير للآية ببعض المصاديق الخفيّة ، وكم له من نظير في تفسير أئمّة أهل البيت.

2. روى محمد بن الفضل عنه عليه السلام في تفسير قوله سبحانه : ( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) .(3)قال : « من اجتنب ما وعد اللّه عليه النار ، إذا كان مؤمناً كفّر اللّه عنه سيّئاته ».(4)

3. روى عمر بن إبراهيم أخو العباسي قال : سألت الإمام الكاظم عليه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) .(5)فقال : « تجدّد لهم النعم مع تجديد المعاصي ».(6)فما أخصر كلامه وأبلغ معناه ! في تبيين معنى الاستدراج.

4. روى أحمد بن عمير عن أبي الحسن الإمام الكاظم عليه السلام قال : سئل عن قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ ) .(7)قال : « إنّ أعمال العباد تعرض على رسول اللّه كلّ صباح أبرارها ، وفجّارها فاحذروا »(8)وعلى ذلك فالمراد من « المؤمنون » طبقة خاصّة منهم ، ولا يعم كلّ من يطلق عليه المؤمن ، كما ورد في تفسير الشهداء في رواية الإمام الصادق عليه السلام .(9).

ص: 335


1- البقرة : 45.
2- تفسير العياشي : 1 / 43.
3- النساء : 31.
4- تفسير العياشي : 1 / 238.
5- الأعراف : 182 - 183.
6- مسند الإمام الكاظم : 2 / 24 ، نقلاً عن أصل علي بن أسباط المخطوط.
7- التوبة : 105.
8- بصائر الدرجات : 204.
9- لاحظ نور الثقلين : 1 / 113 في تفسير قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) ( البقرة : 143 ).

هذه نماذج من تفسير الإمام ، فمن أراد التوسّع فليرجع إلى مسند الإمام الكاظم عليه السلام .

الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام والتفسير

الإمام الرضا ، عالم الأُمّة وإمامها ، ولد عام ( 148 ه ) ، وقبض في صفر سنة ( 203 ه ) ، وقد انتشر عنه العلم ما لم ينتشر من غيره من الأئمّة سوى الصادق عليهما السلام ، وقد أُتيحت له الفرصة ، ولم تعارضه السلطة ، فناظر أحبار اليهود ، وبطارقة النصارى ، والمجسّمة ، والمشبّهة من أصحاب الحديث ، فظهر برهانه ، وعلا شأنه. يقول كمال الدين بن طلحة في حقّه : نما إيمانه ، وعلا شأنه ، وارتفع مكانه ، وظهر برهانه ... فمهما عدّ من مزاياه كان عليه السلام أعظم منه ، ومهما فصّل من مناقبه كان أعلى رتبة منه.(1)

كان عليه السلام يعيش في عصر تفتّحت فيه العقول ، وانتشرت بذور الشكّ والضلال بين المسلمين عن طريق احتكاك الثقافتين الإسلاميّة والأجنبيّة ، وانتشار تراجم الكتب اليونانيّة والهنديّة والفارسيّة ، وكان جبلاً صامداً في وجه الآراء الساقطة المضادة للكتاب والسنّة ، وسيوافيك بعضها :

1. روى صفوان بن يحيى قال : سألت الرضا عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ لإبراهيم : ( أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )(2)أكان في قلبه شك ؟ قال : « لا ، كان على يقين ، ولكنّه أراد من اللّه الزيادة في يقينه ».(3)

2. روى ابن الفضيل عن الرضا عليه السلام قال : سألته عن قول اللّه : ( إِذَا حَضَرَ

ص: 336


1- مطالب السؤول : 85.
2- البقرة : 260.
3- المحاسن : 247.

أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) .(1)قال : « اللّذان منكم مسلمان ، واللّذان من غيركم من أهل الكتاب ، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس ، لأنّ رسول اللّه ، قال : سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب ، وذلك إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة فطلب رجلين مسلمين يشهدهما على وصيّته ، فلم يجد مسلمين يشهدهما فرجلين من أهل الكتاب مرضيّين عند أصحابهما ».(2)

قد شاع الجبر والقدر في عصر الإمام الرضا عليه السلام ، فمن قائل بالجبر السالب للاختيار الجاعل الإنسان مكتوف الأيدي أمام الميول والاحاسيس ، ومن قائل بالتفويض يصوّر الإنسان خالقاً ثانياً لأعماله ، غير أنّ « شبهة الجبر » كانت أرسخ في النفوس من « شبهة التفويض » ، فهلمّ معي نرى كيف يفسر الآيات التي جعلت ذريعة إلى الجبر عند الحشوية.

3. روى إبراهيم بن أبي محمود قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن قول اللّه تعالى : ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ )(3)فقال : « إنّ اللّه تعالى وتبارك لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، ولكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال ، منعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم ». قال وسألته عن قول اللّه عزّوجلّ : ( خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ )(4)قال : « الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم ، كما قال عزّوجلّ : ( بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) »(5).(6)ترى أنّه عليه السلام

ص: 337


1- المائدة : 106.
2- تفسير العياشي : 1 / 349 بتلخيص.
3- البقرة : 17.
4- البقرة : 7.
5- النساء : 155.
6- عيون أخبار الرضا : 1 / 424.

يفسّر الآية بالآية ويجتث شبهة الجبر ببيان أنّ الطبع على القلوب كان عقوبة من اللّه في حقّهم لجرائم اقترفوها ، ولم يكن الطبع ابتدائياً بلا مبرر ، إذ كيف يطلب منهم الإيمان ثمّ يطبع على قلوبهم ابتداء ، أو ليس يصف نفسه بقوله : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ )(1).(2)

4. روى أبو ذكوان ، قال : سمعت إبراهيم بن العباس يقول : كنّا في مجلس الرضا عليه السلام فتذاكروا الكبائر وقول المعتزلة فيها : إنّها لا تغفر ( إذا مات صاحبها بلا توبة ) ، فقال الرضا عليه السلام : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « قد نزل القرآن بخلاف قول المعتزلة ، قال اللّه عزّوجلّ : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ )(3).(4)

وجه الاستدلال أنّ قوله : ( عَلَى ظُلْمِهِمْ ) حال من قوله : ( لِّلنَّاسِ ) ، ومعنى الآية : أنّ غفران اللّه شامل لهم في حال كونهم ظالمين ، والآية نظير قول القائل : « أودّ فلاناً على غدره وأصله على هجره » ، فمن مات بلا توبة عن كبيرة فلا يحلّ لنا الحكم بأنّه لا يغفره ، لأنّ رحمة اللّه تشمل الناس في حال كونهم تائبين أو ظالمين. نعم ليس للمقترف الاعتماد على هذه الآية ، لأنّه وعدٌ مجمل كالشفاعة.

5. وروى الحسين بن بشار ، قال : سألت علي بن موسى الرضا عليه السلام أيعلم اللّه الشيء الذي لا يكون أن لو كان كيف كان ؟ قال : « إنّ اللّه هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء ، وقال لأهل النار : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) .(5)

وقال للملائكة لما قالت : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ) ، قال : ( إِنِّي أَعْلَمُ

ص: 338


1- فصّلت : 46.
2- لاحظ ذيل الحديث.
3- الرعد : 6.
4- التوحيد : 406 ، ولاحظ مجمع البيان : 3 / 278.
5- الأنعام : 28.

مَا لا تَعْلَمُونَ )(1)فلم يزل اللّه عزّوجلّ علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها ».(2)

6. روى الحسين بن خالد ، عن الرضا عليه السلام قلت له : أخبرنا عن قول اللّه : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ ) ، قال : « هي محبوكة إلى الأرض ، مشبكة بين أصابعه » ، فقلت : كيف تكون محبوكة إلى الأرض واللّه يقول : ( رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) ؟ فقال : « سبحان اللّه أليس يقول : ( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) ؟ » قلت : بلى ، قال : « فثمّ عمد ، لكن لا ترونها ».(3)

والإمام يصرّح في كلامه هذا بوجود عمدٍ في السماء غير مرئية ، ولعلّه يريد قانون الجاذبيّة العامّة التي كشف عنها العلم ، والتفصيل موكول إلى محلّه.

7. قد شاع في عصر الإمام الاعتقاد بالرؤية التي دخلت في أوساط المسلمين من طريق الأحبار والرهبان ، واغترّ بها أكثر المحدّثين البسطاء ، وربّما كانوا يستدلّون عليها بما ورد في معراج النبيّ ، وأنّه وصل في معراجه إلى مكان لم يبق بينه وبين ربّه سوى قاب قوسين أو أدنى ، قائلاً : بأنّ المراد من قوله : ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) أي دنا من اللّه ومقامه الكائن فيه ، ولكنّ الرضا عليه السلام يواجه هذه الفكرة بالنقد الحاسم ، والردّ العنيف ، وإليك القصة : دخل أبو قرّة المحدّث على أبي الحسن الرضا فقال : إنّا روينا أنّ اللّه قسّم الرؤية والكلام بين نبيّين ، فقسم الكلام لموسى ولمحمّد الرؤية ؟! فقال أبو الحسن عليه السلام : « فمن المبلّغ عن اللّه إلى الثقلين من الجن والإنس ، ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) و ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) و ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ثمّ أليس محمّد ؟ » قال : بلى. قال : « كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللّه وانّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه فيقول : ( لاَّ

ص: 339


1- البقرة : 30.
2- عيون أخبار الرضا : 1 / 118.
3- تفسير علي بن إبراهيم : 646.

تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) و ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) و ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ثمّ يقول : انا رأيته بعيني ، وأحطت به علماً ، وهو على صورة البشر ؟! أما تستحيون ؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا ، أن يكون يأتي من عند اللّه بشيء ، ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر ». قال أبو قرّة : فانّه يقول : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) فقال أبو الحسن عليه السلام : « إنّ بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى حيث قال : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) يقول : ما كذب فؤاده ما رأت عيناه ، ثمّ أخبر بما رأى ، فقال : لقد رأى من آيات ربّه الكبرى ، فآيات اللّه غير اللّه ، وقد قال : ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) ، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة » ، فقال أبو قرّة : فتكذب بالروايات ؟ فقال أبو الحسن : « إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علماً ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء ». (1)

الإمام محمد الجواد عليه السلام والتفسير

الإمام أبو جعفر محمد الجواد من أئمّة أهل البيت ، وهو تاسع الأئمّة عند الشيعة ، ولد عام ( 195 ه ) (2) ورث الشرف من آبائه وأجداده ، واستسقت عروقه من منبع النبوّة ، ورضعت شجرته ثدي الرسالة ، وتهدّلت أغصانه ثمر الإمامة. قام بأمر الولاية ، بعد شهادة والده الرضا عليه السلام عام ( 203 ه ) ، واستشهد هو مثل الوالد ببغداد عام ( 220 ه ) أدرك خلافة المأمون ، وأوائل خلافة المعتصم. روى عنه لفيف من المحدّثين والفقهاء ، يربو عددهم على (121) (3) ، وروى عنه في مجال

ص: 340


1- تفسير البرهان : 4 / 248.
2- تاريخ بغداد : 3 / 55 ؛ وابن خلكان في وفيات الأعيان : 3 / 315.
3- مسند الإمام محمد الجواد العطاردي ، وقد خصّ باباً للرواة عن الإمام عليه السلام.

الفقه ، والدعاء ، والتفسير روايات وافرة نذكر نماذج ممّا روي عنه في مجال التفسير.

1. روي العياشي ، قال : رجع ابن أبي داود ذات يوم من عند المعتصم ، وهو يروي هذه القصّة :

إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة ، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه ، فسأل الفقهاء عن موضع القطع ، فمن قائل : يجب قطعه من الكرسوع ، لأنّ اليد هي الأصابع والكف إلى الكرسوع لقوله تعالى : ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ )(1)إلى آخر يقول : يجب القطع من المرفق ، لأنّ اللّه قال : ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ )(2)فدلّ على أنّ حدّ اليد هو المرفق ، ولمّا رأى المعتصم اختلافهم التفت إلى « محمد بن علي » فقال : ما تقول في هذا يا أبا جعفر ؟ فقال : « قد تكلّم القوم فيه ». قال : دعني ممّا تكلّموا به. أي شيء عندك ؟ قال : « أعفني عن هذا ، يا أمير المؤمنين ! » قال : أقسمت عليك باللّه لما أخبرت بما عندك فيه. فقال : « أمّا إذا أقسمت عليّ باللّه إنّي أقول : إنّهم أخطأوا فيه السنّة ، فانّ القطع يجب أن يكون من مفصل أُصول الأصابع ، فيترك الكفّ ». قال : وما الحجّة في ذلك ؟ قال : « قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : السجود على سبعة أعضاء : الوجه ، واليدين ، والركبتين ، والرجلين ، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق ، لم يبق له يد يسجد عليها ، وقال تعالى : ( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ ) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدًا )(3)وما كان لله لم يقطع ». فأعجب المعتصم ذلك ، وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف ، قال ابن أبي داود : قامت قيامتي وتمنّيت أنّي لم أك حياً.(4).

ص: 341


1- المائدة : 6.
2- المائدة : 6.
3- الجن : 18.
4- تفسير العياشي : 1 / 319 - 320.

وقد نقل ما ذكره الإمام ، عن سعيد بن جبير ، والفرّاء ، والزجّاج ، وأنّ المراد من المساجد الأعضاء السبعة التي يسجد عليها في الصلاة ، وعلى هذا فالمراد أنّ مواقع السجود من الإنسان لله ، اختصاصاً تشريعيّاً ، والمراد من الدعاء السجدة لكونها أظهر مصاديق العبادة ، أو المراد الصلاة بما أنّها تتضمّن السجود لله.(1)

وروى حماد بن عيسى ، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث : وسجد الإمام على ثمانية أعظم : الكفين ، والركبتين ، وإبهامي الرجلين ، والجبهة والأنف ، وقال : « سبعة منها فرض يسجد عليها ، وهي التي ذكرها اللّه في كتابه فقال : ( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدًا ) ، وهي : الجبهة ، والكفّان ، والركبتان ، والإبهامان ، ووضع الأنف على الأرض سنّة ».(2)

2. عن محمد بن سعيد الأزدي صاحب موسي بن محمدالرضا عن موسى قال لأخيه كتب يحيى بن أكثم المروزي إليه يسأله عن مسائل ، وقال : أخبرني عن قول اللّه : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ) أسجد يعقوب وولده ليوسف ؟ قال : « فسألت أخي عن ذلك ، فقال : أمّا سجود يعقوب وولده ليوسف فشكراً لله ، لاجتماع شملهم ، ألا ترى أنّه يقول في شكر ذلك الوقت : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) ».(3)

3. سأل عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني محمد بن علي الرضا عليه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ : ( أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى )(4)فقال : « يقول اللّه عزّوجلّ : بعداً لك من خير الدنيا بعداً ، وبعداً لك من خير الآخرة ».(5).

ص: 342


1- الميزان : 20 / 125.
2- تفسير البرهان : 4 / 394.
3- تفسير العياشي : 2 / 197.
4- القيامة : 34 - 35.
5- عيون أخبار الرضا : 2 / 54.

لا ريب أنّها كلمة تهديد كرّرت لتأكيد التهديد ، وقد جاء قبل الآية قوله : ( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) .(1)

فاللائق بهذا الإنسان الذي لم يصدق ولم يصل ، ولكن كذب وتولى ، ثمّ ذهب إلى أهله يتمطّى متبختراً مختالاً ، هو البعد عن غفران اللّه سبحانه ورحمته ، وخيره في الدنيا والآخرة ، ونظير الآية قوله سبحانه : ( رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ )(2)، أي هذه الحالة أولى لكم لتذوقوا وبال أمركم في الدنيا والآخرة ، وفي مورد الآية المعنى الابتدائي ، هو أنّ هذه الحالة أولى له ، لأنّه لا يستحق إلاّ إيّاها ليذوق وبال أمره وليبتعد من خير الدنيا والآخرة ، ففسّر الآية بما هو المقصود من كون هذه الحالة أولى له.

4. روى علي بن أسباط ، قال : قلت لأبي جعفر محمد الجواد : يا سيدي إنّ الناس ينكرون عليك حداثة سنّك ( ونيلك مقام الإمامة والقيادة الروحية ) ، قال : « وما ينكرون من ذلك. فو اللّه لقد قال اللّه لنبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ... )(3)وما أتبعه غير علي ، وكان ابن تسع سنين وأنا ابن تسع سنين ».

والآية مكّية تنطبق على ما يذكره الإمام حيث إنّ الأوّل من آمن بمحمّد من الرجال هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام .

هذه نماذج ممّا روي عن الإمام التاسع محمد الجواد عليه السلام في مجال التفسير ، ومن أراد التوسّع فليرجع إلى مسنده وسائر الكتب الحديثيّة التي تضمّنت أخباره عليه السلام .

ص: 343


1- القيامة : 31 - 33.
2- محمّد : 20.
3- يوسف : 108.
الإمام علي الهادي عليه السلام والتفسير

الإمام علي الهادي عليه السلام ، الإمام العاشر ، والنور الزاهر ، ولد عام ( 212 ه ) وتوفي بسامراء سنة ( 254 ه ) وهو من بيت الرسالة ، والإمامة ، ومقر الوصاية ، والخلافة ، وثمرة من شجرة الرسالة ، قام بأمر الإمامة بعد والده الإمام الجواد ، وكان في سني إمامته ، بقية ملك المعتصم ثمّ الواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين والمعتزّ ، وله مع هؤلاء قضايا ليس المقام يسع ذكر البعض ، وقد روت الشيعة عنه أحاديث في مجال الفقه والتفسير ، وإليك نماذج ممّا روي عنه في الأخير :

1. قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحدّ ، فأسلم فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكّل إلى الإمام الهادي يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب ، كتب : « يضرب حتى يموت » ، فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلّة ، فكتب : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) (1)فأمر به المتوكّل فضرب حتى مات. (2)

إنّ الإمام الهادي عليه السلام ببيانه هذا شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم ، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره ، وكانوا يزعمون أنّ مصادر الأحكام الشرعيّة هي الآيات الواضحة في مجال الفقه التي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وبذلك أبان للقرآن وجهاً خاصاً لا يلتفت إليه إلاّ من نزل القرآن في بيته ، وليس

ص: 344


1- غافر : 84 - 85.
2- مناقب آل أبي طالب : 4 / 405.

هذا الحديث غريباً في مورده ، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه عليهم السلام.

2. لما سمّ المتوكّل نذر لله إن رزقه اللّه العافية أن يتصدّق بمال كثير ، أو بدراهم كثيرة ، فلمّا عوفي اختلف الفقهاء في مفهوم « المال الكثير » ، فلم يجد المتوكّل عندهم فرجاً ، فبعث إلى الإمام علي الهادي عليه السلام فسأله ، قال : « يتصدّق بثلاثة وثمانين ديناراً » ، فقال المتوكّل ، من أين لك هذا ؟ فقال : من قوله تعالى : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ... )(1)والمواطن الكثيرة : هي هذه الجملة ، وذلك لأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم غزا سبعاً وعشرين غزاة ، وبعث خمساً وخمسين سرّية ، وآخر غزواته يوم حنين » ، وعجب المتوكّل والفقهاء من هذا الجواب.(2)وقد ورد عن طريق آخر أنّه قال : بثمانين مكان « ثلاثة وثمانين » ، وذلك لأنّ عدد المواطن التي نصر اللّه المسلمين فيها إلى يوم نزول هذه الآية كان أقلّ من ثلاثة وثمانين.(3)

3. إنّ للإمام الهادي عليه السلام رسالة في الردّ على الجبر والتفويض ، وإثبات المنزلة بين المنزلتين ، فقد استعان في إبطال المذهبين الذين كان يدين بهما أهل الحديث ، والمعتزلة بكثير من الآيات على شكل بديع ، ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من إحاطته بالآيات ونضدها بشكل يوصل الجميع إلى الغاية المطلوبة ، نقتبس منها ما يلي :

فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ ، فهو قول من زعم أنّ اللّه - جلّ وعزّ - أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول ، فقد ظلم اللّه في حكمه وكذّبه ورّد عليه قوله : ( ... وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا )(4)وقوله : ( إِنَّ اللّهَ لا

ص: 345


1- التوبة : 25.
2- تذكرة الخواص : 202.
3- مناقب آل أبي طالب : 4 / 402.
4- الكهف : 49.

يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .(1)

فمن دان بالجبر ، أو بما يدعو إلى الجبر فقد ظلم اللّه ونسبه إلى الجور والعدوان ، إذ أوجب على من أجبره العقوبة ، ومن زعم أنّ اللّه أجبر العباد ، فقد أوجب على قياس قوله : إنّ اللّه يدفع عنهم العقوبة ( أي لازم القول بالجبر أنّ اللّه لا يعذّب العصاة ، لأنّه دفعهم إلى المعاصي ) ، ومن زعم أنّ اللّه يدفع عن أهل المعاصي العذاب فقد كذب اللّه في وعيده ، حيث يقول : ( بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .(2)

وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا )(3)وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا )(4)، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا الفن ممّن كذب وعيد اللّه ويلزمه في تكذيبه آية من كتاب اللّه ، الكفر ، وهو ممّن قال اللّه [ في حقّه ] : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .(5)

بل نقول إنّ اللّه عزّوجلّ يجازي العباد على أعمالهم ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملّكهم إيّاها ، فأمرهم ونهاهم بذلك ونطق كتابه : ( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (6) وقال جلّ ذكره : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا

ص: 346


1- يونس : 44.
2- البقرة : 81.
3- النساء : 10.
4- النساء : 56.
5- البقرة : 85.
6- الأنعام:160.

عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ )(1)وقال : ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ )(2)فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ، ومثلها في القرآن كثير. ثمّ شرع في إبطال التفويض وأبان خطأ من دان به وتقلده.

ولنقتصر على هذا المقدار ، وفيه كفاية ، وما جاء في هذه الرواية من التفسير نمط بديع ، وهو ما نسمّيه اليوم بالتفسير الموضوعي ، وقد أتى الإمام عليه السلام في رسالته بأكثر الآيات التي ربّما تقع ذريعة للمجبّرة والمفوّضة ، وأبان تفسيرهما بإرجاع المتشابهات إلى المحكمات ، كما أثبت أنّ الحقيقة هو المنزلة بين الجبر والتفويض ، فمن أراد التوسّع فليرجع إلى نفس الرسالة التي نقلها الحسن بن شعبة الحرّاني في كتابه.(3)

الإمام العسكري عليه السلام والتفسير

أبو محمّد الحسن بن علي أحد أئمّة أهل البيت ، والإمام الحادي عشر عند الشيعة الملقّب بالعسكري ، ولد عام ( 232 ه ).(4)وقال الخطيب في تاريخه وابن الجوزي في كتابه : ولد أبو محمد في المدينة سنة ( 231 ه )(5)وأشخص بشخوص والده إلى العراق سنة (236) وله من العمر أربع سنين وعدّة شهور ، وقام بأمر الإمامة والقيادة الروحية بعد شهادة والده ، وقد اجتمعت فيه خصال الفضل ، وبرز

ص: 347


1- آل عمران : 30.
2- غافر : 17.
3- تحف العقول : 338 - 352.
4- الكافي : 1 / 503.
5- تاريخ بغداد : 7 / 336 ؛ تذكرة الخواص : 362.

تقدّمه على كافة أهل العصر ، واشتهر بكمال العقل والعلم والزهد والشجاعة. روى عنه لفيف من الفقهاء والمحدثين ما يربو على (150) شخصاً ، وقد أدرج « العطاردي » أسماءهم في مسند الإمام العسكري وتوفّي عام ( 260 ه ) ، ودفن في داره التي دفن فيها أبوه بسامراء ، وللإمام روايات تلقّاها الرواة في مجال العقائد والفقه والتفسير ، نذكر نزراً يسيراً لتعلم مكانته في التفسير :

1. لقد شغلت الحروف المقطّعة بال المفسرين فضربوا يميناً ويساراً ، وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها في أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولاً ، ولكن الإمام عليه السلام يعالج تلك المعضلة بأحسن الوجوه وأقربها للطبع ، فقال : كذبت قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا سحر مبين تقوّله.

فقال اللّه : ( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ) . [ فقل : ] يا محمّد ، هذا الكتاب الذي نزّلناه عليك هو الحروف المقطّعة التي منها « الف » ، « لام » ، « ميم » ، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم ، ثمّ بيّن انّهم لا يقدرون عليه بقوله : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (1). (2) وقد روي هذا المعنى عن أبيه الإمام الهادي عليه السلام . (3)

2. كان أهل الشغب والجدل يلقون حبال الشكّ في طريق المسلمين فيقولون : إنّكم تقولون في صلواتكم : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ) ، أو لستم فيه ؟ فما معنى هذه الدعوة ؟ أو أنّكم متنكّبون عنه فتدعون ليهديكم إليه؟ ففسّر الإمام

ص: 348


1- الإسراء : 88.
2- معاني الأخبار : 24 ، وللحديث ذيل فمن أراد فليرجع إلى الكتاب.
3- الكافي : 1 / 24 - 25 ، كتاب العقل والجهل ، الحديث 20.

الآية قاطعاً لشغبهم فقال : « ادم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمالنا ».

ثمّ فسّر الصراط بقوله : « الصراط المستقيم هو صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة. أمّا الأوّل : فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل. وأمّا الطريق الآخر : فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الذي هو مستقيم ، لايعدلون عن الجنّة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنة ».(1)

وقد استفحل أمر الغلاة في عصر الإمام العسكري ، ونسبوا إلى الأئمّة الهداة أُموراً هم عنها براء ، ولأجل ذلك يركز الإمام على أنّ الصراط المستقيم لكلّ مسلم هو التجنّب عن الغلوّ والتقصير.

3. ربّما يغترّ الغافل بظاهر قوله سبحانه : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ... ) ويتصوّر أنّ المراد من النعمة هو المال والأولاد وصحّة البدن ، وإن كان كلّ هذا نعمة من اللّه ، ولكنّ المراد من الآية بقرينة قوله : ( غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) هو نعمة التوفيق والهداية.

ولأجل ذلك نرى أنّ الإمام يفسّر الأنعام بقوله : « قولوا : إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك وهم الذين قال اللّه عزّوجلّ : ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) ، ثمّ قال : ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحّة البدن ، وإن كان كلّ هذا نعمة من اللّه ظاهرة ».(2)

4. لقد تفشت فكرة عدم علمه سبحانه بالأشياء قبل أن تُخلق استلهاماً من

ص: 349


1- معاني الأخبار : 33.
2- معاني الأخبار : 36.

بعض المدارس الفكرية الفلسفيّة الموروثة من اليونان ، فسأله محمّد بن صالح عن قول اللّه : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ )(1)فقال : هل يمحو إلاّ ما كان ، وهل يثبت إلاّ ما لم يكن ؟ فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي. انّه لا يعلم الشيء حتى يكون ، فنظر إليّ شَزَراً ، وقال : « تعالى اللّه الجبّار العالم بالشيء قبل كونه ، الخالق إذ لا مخلوق ، والربّ إذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه.(2)

حصيلة البحث

هؤلاء هم أئمّة الشيعة وقادتهم ، بل أئمّة المسلمين جميعاً ، وكيف لا يكونون كذلك ، وقد ترك رسول اللّه بعد رحلته الثقلين وحثّ الأُمّة على التمسّك بهما ، وقال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ».(3)

ولكن المؤسف أنّ أهل السنّة والجماعة لم يعتمدوا في تفسير كتاب اللّه العزيز على أقوال أهل البيت ، وهم قرناء القرآن وأعداله والثقل الآخر من الثقلين ، وإنّما استعانوا في تفسيره بأُناس لا يبلغون شأوهم ولا يشقّون غبارهم ، نظراء : مجاهد بن جبر ( المتوفّى 104 ه ) وعكرمة البربري ( المتوفّى 104 ه ) وطاووس بن كيسان اليماني ( المتوفّى 106 ه ) وعطاء بن أبي رباح ( المتوفّى 114 ه ) ومحمد بن كعب القرظي ( المتوفّى 118 ه ) ، إلى غير ذلك من أُناس لا يبلغون في الوثاقة والمكانة

ص: 350


1- الرعد : 39.
2- إثبات الوصية : 241.
3- رواه غير واحد من أصحاب الصحاح والمسانيد وهو من الأحاديث المتواترة ، ( لاحظ نشرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية. حول هذا الحديث ، ترى اسنادها موصولة إلى النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم ).

العلمية معشار ما عليه أئمّة أهل البيت صلوات اللّه عليهم ....

وقد بلغت إحاطة أئمّة أهل البيت بالكتاب العزيز إلى حدّ يقول الإمام الباقر عليه السلام : « إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله ، وجعل لكلّ شيء حداً وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه ». (1) ويقول الإمام الصادق عليه السلام : « ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه عزّوجلّ ولكنّ لا تبلغه عقول الرجال ». (2)

أسنادهم موصولة إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم

إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام لا يروون في مجال الفقه والتفسير والأخلاق والدعاء ، إلاّ ما وصل إليهم عن النبيّ الأكرم عن طريق آبائهم وأجدادهم ، وليس مرويّاتهم آراءهم الشخصيّة التي تنبع من عقليّتهم ، فمن قال بذلك وتصوّرهم مجتهدين مستنبطين ، فقد قاسهم بالآخرين ممّن يعتمدون على آرائهم الشخصيّة ، وهو في قياسه خاطئ فهم منذ نعومة أظفارهم إلى أن لبّوا دعوة ربّهم لم يختلفوا إلى أندية الدروس ، ولم يحضروا مجلس أحد من العلماء ، ولا تعلّموا شيئاً من غير آبائهم ، فما يذكرونه علوم ورثوها من رسول اللّه وراثة غيبيّة لا يعلم كنهه إلاّ اللّه سبحانه والراسخون في العلم.

وهذا جابر الجعفي ، قال : قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام : إذا حدثتني بحديث فاسنده لي ، فقال : « حدّثني أبي عن جدّي ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن جبرئيل عن اللّه تبارك وتعالى فكلّ ما أُحدثك بهذا الاسناد ، ثمّ قال : « لحديث واحد

ص: 351


1- الكافي : 1 / 48 من كتاب فضل الأئمة.
2- المصدر نفسه.

تأخذه من صادق عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها ». (1)

وروى حفص بن البختري. قال : قلت لأبي عبد اللّه الصادق عليه السلام أسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك ؟ فقال : « ما سمعته منّي فاروه عن أبي ، وما سمعته منّي فاروه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ». (2)

فأئمّة المسلمين على حدّ قول القائل :

ووال أُناسا نقلهم وحديثهم *** روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

ولقد عاتب الإمام الباقر عليه السلام سلمة بن كهيل والحكم بن عيينة حيث كانا يتعاطيان الحديث من الناس ، ولا يهتمّان بأحاديث أهل البيت ، فقال لهما : « شرّقا وغرّبا ، فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا أهل البيت ».

تلك - واللّه - خسارة فادحة ، حيث إنّ جماعة من المحدّثين والفقهاء والمفسّرين دقّوا كلّ باب ولم يدقّوا باب أهل البيت إلاّ شيئاً لا يذكر ففسّروا كتاب اللّه بآرائهم وأفتوا في المسائل الشرعية بالمقاييس الظنية التي ليس عليها مسحة من الحقّ ، ولا لمسة من الصدق حتى حشوا تفاسيرهم بإسرائيليّات ومسيحيّات بثّها مسلمة أهل الكتاب ككعب الأحبار ووهب بن منبه وتميم الداري وأضرابهم بين المسلمين ، وأخذها عنهم المحدّثون والرواة والمفسّرون في القرون الأُولى ، زاعمين أنّها علوم ناجعة وقضايا صادقة ، فيها شفاء العليل ، ورواء الغليل والحال أنّك إذ فتّشت التفاسير المؤلّفة في القرون الغابرة لا تجد تفسيراً علمياً أو روائياً من أهل السنّة إلاّ وهو طافح بآرائهم الشخصية وأقوالهم التي لا قيمة لها في سوق العلم ، وقد استفحل أمر هؤلاء الرواة حتى اغترّ بهم بعض المفسّرين من الشيعة ، فذكروا

ص: 352


1- وسائل الشيعة : 18 ، الباب8 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 67.
2- المصدر نفسه ، الحديث 86.

جملة من الإسرائيليات في ثنايا تفاسيرهم ، وما ذلك إلاّ لأنّ تلك الأفكار كانت رائجة إلى حدّ كان يعدّ الجهل بها ، وعدم نقلها قصوراً في التفسير وقلّة اطلاع فيه ، ولأجل ذلك لم يجد شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي بداً من نقل آراء هؤلاء في تفسيره « التبيان » ، وتبعه أمين الإسلام في تفسير « مجمع البيان » ، ولكن لم يكن ذكرهم لآراء هؤلاء لأجل الاعتماد عليهم والركون إليهم ، وإنّما ألجأتهم إليه الضرورة الزمنيّة والسياسة العلمية السائدة على الأوساط آنذاك.

إذا وقفت على أئمّة التفسير وأساتذته ، فهلمّ معي ندرس حياة شيعتهم ممّن خدموا القرآن في عصرهم ، وبعدهم وهم الذين تربّوا في حجورهم ، وارتووا من نمير علمهم الصافي ، وتمسّكوا بأهداب معارفهم ، وقد خدموا القرآن بمختلف أشكال الخدمة ، نشير إليها على وجه الإجمال ، ونحيل التفصيل إلى آونة أُخرى.

1. الشيعة وتفسير غريب القرآن

ارتحل النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فعكف المسلمون على دراسة القرآن ، ولكن أوّل ما فوجئوا به كان هو قصور باع لفيف منهم عن معرفة معاني بعض ألفاظه ، فما هذا إلاّ لأنّ في القرآن ما قد ورد بغير لغة أهل الحجاز. انّ القرآن وإن نزل بلغة أهل الحجاز بشكل عام ، لكن ربّما وردت فيه ألفاظ ذائعة بين القبائل الأُخرى ، وقد عقد السيوطي باباً فيما ورد في القرآن بغير لغة أهل الحجاز (1) ، وأظنّ أنّه قد أفرط في هذا الباب ، ولكنّه لا يمكن إنكار هذا الأصل في القرآن الكريم من أساسه ، وممّا يشهد بذلك ( مفاجأة المسلمين بغريب القرآن ) ما رواه القرطبي في تفسيره فقال :

ص: 353


1- الإتقان : 2 / 69 - 104.

عن عمر أنّه قال على المنبر : ما تقولون في قوله تعالى : ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ )(1)فسكتوا ، فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا. التخوّف : التنقص ، قال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم. قال : شاعرنا - زهير - أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقّص السير سنامها بعد تمكِه واكتنازه :

تَخَوَّفَ الرحلُ مِنها تامكاً قَرداً *** كَما تخوّفَ عُود النبعة السفن(2)

فقال عمر : أيّها الناس عليكم بديوانكم لا يضلّ ، قالوا : وما ديواننا ؟ قال : شعر الجاهلية ، فانّ فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.

روى أبو الصلت الثقفي أنّ عمر بن الخطاب : قرأ قول اللّه : ( وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا )(3)بنصب الراء وقرأها بعض من عنده من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بخفض الراء ، فقال : أبغوني رجلاً من كنانة ، واجعلوه راعياً وليكن مدلجياً ، فأتوه به ، فقال له عمر : يا فتى ! ما الحرجة فيكم ؟ فقال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار الّتي لا تصل إليها راعية ولا وحشيّة ولا شيء ، فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير.(4)

روى عبد اللّه بن عمر قال : قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية : ( مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ، ثمّ قال : ادعوا لي رجلاً من بني مدلج ، قال عمر : ما الحرج فيكم ؟ قال : الضيق.(5)

وكم لهذه القصص من نظائر في التاريخ ، وهذا هو نافع بن الأزرق ، لمّا رأى

ص: 354


1- النحل : 47.
2- التفسير ( للقرطبي ) : 10 / 110 ، تَمَكَ السنام : طال وارتفع ، القرد : المتراكم بعض لحمه فوق بعض ، النبعة : شجرة من أشجار الجبال ، يتخذ منها القسي ، السفن : القشر.
3- الأنعام : 125.
4- الدر المنثور : 3 / 45.
5- كنز العمال : 1 / 257.

عبد اللّه بن عباس جالساً بفناء الكعبة ، وقد اكتنفه الناس ويسألونه عن تفسير القرآن ، فقال لنجدة بن عويمر(1)الحروري : قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به ، فقاما إليه فقالا : إنّا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب اللّه فتفسّرها لنا وتأتينا بمصادقة من كلام العرب ، فانّ اللّه تعالى أنزل القرآن بلسانٍ عربي مبين ، فقال ابن عباس : سلاني عمّا بدا لكم ، فقال نافع : أخبرني عن قول اللّه تعالى : ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ )(2)قال : العزون : الحلَق الرقاق ، فقال : هل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم. أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :

فجاءُوا يُهْرَعُونَ إليه حتى *** يكونُوا حولَ منبِرْهَ عِزينا

ثمّ سألاه عن أشياء كثيرة عن لغات القرآن الغريبة ففسّرها مستشهداً بالشعر الجاهلي ، ربّما تبلغ الأسئلة والأجوبة إلى مائتين ، ولو صحّت تلك الرواية لدلّت قبل كلّ شيء على نبوغ ابن عباس في الأدب العربي ، وإلمامه بشعر العرب الجاهلي حيث استشهد على كلّ لغة فسّرها بشعر منهم ، وقد جاءت الأسئلة والأجوبة في الاتقان.(3)

وهذه الأحاديث والأخبار تعرب عن أنّ الخطوة الأُولى لتفسير القرآن الكريم كانت تفسير غريبه وتبيين ألفاظه التي ربّما تشكل على البعض ، ولعلّ ذلك كان الحافز القوي للفيف من جهابذة الأُمّة ، حيث استثمروا تلك الخطوة وبلغوا الغاية فيه من غير فرق بين السنّة والشيعة ، ونحن نذكر في هذا المجال ما ألّفه علماء الشيعة وأُدباؤهم بعد ابن عباس ، ونكتفي من الكثير بمشاهيرهم الذين كان لهم دوي في الأوساط اللغوية والأدبية ، ونترك من لم يكن له ذلك الشأن ، فليكن ذلك

ص: 355


1- الرجلان من رؤوس الخوارج ، توفي نافع عام ( 65 ه ) وتوفي نجدة عام ( 69 ه ).
2- المعارج : 37.
3- الإتقان : 2 / 55 - 88.

عذراً لمن يقف على مؤلّفات لهم في غريب القرآن ، ولم نذكرها في تلك القائمة.

1. غريب القرآن ، لأبان بن تغلب بن رباح البكري ( المتوفّى 141 ه ) من أصحاب علي بن الحسين والباقر والصادق عليهم السلام ، وكانت له منزلة عندهم ، وقد نصّبه أبو جعفر الباقر عليه السلام للافتاء ، وقال : « اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس فانّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك » ، وقال أبو عبد اللّه عليه السلام لمّا أتاه نعيه : « واللّه أوجع قلبي موت أبان ». وقال النجاشي : عظيم المنزلة في أصحابنا ، وكان قارئاً من وجوه القرّاء فقيهاً لغوياً ، سمع من العرب وحكى عنهم ، وكان أبان رحمه اللّه مقدّماً في كلّ فن من العلم ، في القرآن والفقه والحديث والأدب واللغة والنحو. وله كتب منها تفسير غريب القرآن وكتاب الفضائل ، ولأبان قراءة مفردة مشهورة عند القرّاء. مات أبان في حياة الإمام الصادق سنة ( 141 ه ). (1)

2. غريب القرآن : لمحمد بن السائب الكلبي ( المتوفّى 146 ه ) وهو من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ووالد هشام بن محمد بن السائب الكلبي العالم المشهور والنسّابة المعروف. (2)

3. غريب القرآن : لأبي روق (3) عطيّة بن الحارث الهمداني الكوفي التابعي. قال ابن عقدة : كان ممّن يقول بولاية أهل البيت عليهم السلام. (4)

ص: 356


1- رجال النجاشي : 1 / 73 برقم 6 ؛ بغية الوعاة : 76 ؛ تهذيب التهذيب : 1 / 93 ؛ الطبقات الكبرى : 6 / 36 ؛ ميزان الاعتدال : 1 / 5 وغيرهم من أصحاب المعاجم.
2- رجال النجاشي : 1 / 78 ؛ تنقيح المقال : 3 / 119.
3- كذا في رجال النجاشي ، وفي فهرست الشيخ « أبي ورق » ، والصحيح هو الأوّل ذكره ابن النديم أيضاً : ص 57.
4- رجال النجاشي : 1 / 78 ؛ الطبقات الكبرى : 6 / 368 ؛ خلاصة الأقوال : 131 ؛ معجم الأُدباء : 1 / 107 برقم 2.

4. غريب القرآن : لعبد الرحمن بن محمد الأزدي الكوفي ، جمعه من كتاب أبان ومحمد بن السائب الكلبي ، وأبي روق عطية بن الحارث ، فجعله كتاباً واحداً فبيّن ما اختلفوا فيه وما اتّفقوا عليه ، فتارة يجيء كتاب أبان مفرداً ، وتارة يجيء مشتركاً. (1)

ويظهر من سند الشيخ الطوسي إليه في الفهرست أنّه ممّن صحب أبان بن تغلب ، وينقل عنه ابن عقدة المتوفّى عام ( 333 ه ) بواسطة حفيده ( أبو أحمد بن الحسين بن عبد الرحمن الأزدي ) ، فالرجل من علماء القرن الثاني.

5. غريب القرآن : للشيخ أبي جعفر أحمد بن محمد الطبري الآملي الوزير الشيعي المتوفّى عام ( 313 ه ). (2)

6. غريب القرآن : للشيخ أبي الحسن علي بن محمد العدوي الشمشاطي النحوي المعاصر لابن النديم الذي ألّف فهرسته عام ( 377 ه ). قال النجاشي : « كان شيخنا بالجزيرة ، وفاضل أهل زمانه وأديبهم ، له كتب كثيرة منها كتاب « الأنوار والثمار ». قال لي سلامة بن ذكاء : إنّ هذا الكتاب ألفان وخمسمائة ورقة يشتمل على ذكر ما قيل في الأنوار والثمار من الشعر ». ثمّ عدّ كتبه ، ومنها كتاب غريب القرآن إلى أن قال : قال سلامة : وكتاب مختصر الطبري ، حيث حذف الأسانيد والتكرار ، وزاد عليه من سنة ثلاث وثلاثمائة إلى وقته فجاء نحو ثلاثة آلاف ورقة ، وتمّم كتاب « الموصل » لأبي زكريا زيد بن محمد ، وكان فيه إلى سنة

ص: 357


1- فهرست الطوسي : 641 ؛ رجال النجاشي : 1 / 78. وفي الثاني « الحارث » مكان « الحرث » كما عرفت الاختلاف في « روق » و « ورق ».
2- فهرست ابن النديم : 58.

( 321 ه ) ، فعمل فيه من أوّل سنة ( 322 ه ) إلى وقته ، وذكر النجاشي فهرس كتبه ، منها غريب القرآن. (1)

7. غريب القرآن : للشيخ فخر الدين الطريحي المتوفّى عام ( 1085 ه ) ، وقد طبع في النجف الأشرف في جزء واحد عام ( 1372 ه ) ، وأسماه المؤلّف ب « نزهة الخاطر وسرور الناظر وتحفة الحاضر ».

8. مجمع البحرين ومطلع النيرين : وهو في غريب القرآن والحديث ولغتهما للشيخ الطريحي أيضاً ، وهو كتاب كبير معجم للغاتهما ، طبع في ستة أجزاء.

9. البيان في شرح غريب القرآن : للشيخ قاسم بن حسن آل محيي الدين طبع بالنجف عام ( 1374 ه ) ، بإشراف وتصحيح مرتضى الحكمي.

10. غريب القرآن : للسيد محمد مهدي بن السيد الحسن الموسوي الخرسان يقع في جزءين. (2)

هذه عشرة كاملة نكتفي بها ، وهناك كتب أُلّفت في توضيح مفردات القرآن بغير اللغة العربية ، فمن أراد فليرجع إلى الفهارس.

فإذا كانت هذه الكتب تهدف إلى تفسير غريب القرآن وتبيين مفرداته ، فهناك كتب تهدف إلى تفسير غريب جمله التي جاءت في القرآن بصورة المجاز أو الكناية أو الاستعارة على الفرق الواضح بينها ، وإليك بعض ما أُلّف في ذلك المجال :

1. مجاز القرآن : لشيخ النحاة الفرّاء يحيى بن زياد بن عبد اللّه الديلمي

ص: 358


1- رجال النجاشي : 2 / 93 برقم 687 ، وترجمة الياقوت في معجم الأُدباء : 14 / 240 برقم 39.
2- الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 16 / 50 برقم 308.

الكوفي الذي توفّى في طريق مكّة عام ( 207 ه ). (1)

2. المجاز من القرآن : لمحمّد بن جعفر أبو الفتح الهمداني ، المعروف ب « المراغي ». يقول النجاشي : كان وجيهاً في النحو واللغة ببغداد ، حسن الحفظ ، صحيح الرواية فيما نعلمه ، ثمّ ذكر كتبه وقال : كتاب ذكر المجاز من القرآن. (2)

3. مجازات القرآن : للشريف الرضي وهو أحسن ما أُلّف في هذا المجال ، وأسماه « تلخيص البيان في مجازات القرآن » ، وقد طبع مرّات أحسنها ما قام بطبعه مؤتمر الذكرى الألفيّة للسيد الشريف الرضي عام (1406) ، وهو من أنفس الكتب.

هؤلاء مشاهير المؤلّفين في غريب القرآن ولغته ومجازاته ، وهناك عدّة أُخرى جالوا في هذا الميدان ، لكن لا على وجه الاستقلال ، بل أدرجوه في التفسير. فهذا هو الشيخ الطوسي يبيّن مفردات القرآن واشتقاقاتها بوجه دقيق في تبيانه ، كما أنّ أمين الإسلام الطبرسي قام بهذه المهمّة في تفسيره « مجمع البيان » ، ولو قام الباحث باستخراج ما ذكره هذان العلمان في مجال مفردات الكتاب العزيز لجاء كتاباً حافلاً.

وفي الختام ننبّه على نكتة ، وهو أنّ التفسير اللغوي للقرآن صار أمراً رائجاً في عصرنا هذا واشتهر باسم التفسير البياني ، ومن المصرّين على هذا النمط من التفسير أمين الخولي المصري ، والكاتبة المصرية عائشة بنت الشاطئ ، وقد انتشرت منهما في ذلك المجال كتب ، وقاما بتفسير القرآن بالرجوع إلى نفس القرآن الكريم ، والتفتيش عن موارد استعمالها في جميع الآيات ، وهذا النمط من التفسير يعالج

ص: 359


1- الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 17 / 351 برقم 1567.
2- رجال النجاشي : 2 / 319 برقم 1054.

جانباً واحداً من مهمّة التفسير ، وهناك جوانب أُخرى لا يستغني الباحث عنها إلاّ بالتمسّك بصحيح الأثر وغيره.

2. الشيعة والتفسير الموضوعي بأقسامه
اشارة

إنّ نزول القرآن نجوماً ، وتوزع الآيات الراجعة إلى أكثر الموضوعات في سور القرآن يقتضي نمطاً آخر من التفسير غير تفسير القرآن سورة فسورة وآية فآية ، وهذا النمط عبارة عن تفسيره حسب الموضوع بجمع آيات كلّ موضوع في محلّ واحد وتفسير مجموعتها مرّة واحدة ، مثلاً المفسّر الذي يحاول التعمق في الحديث عن السماء والأرض ، أو عن المعاد ، أو قصص الأنبياء ، أو في أفعال الإنسان من جهة الجبر والاختيار ، لابدّ أن يتبع هذا النمط الذي ذكرناه ليتمكّن من جمع أطراف الموضوع جمعاً كاملاً وشاملاً.

إنّ من جملة الأسباب التي دعت إلى ظهور عقائد مختلفة بين المسلمين ، وتشبّث صاحب كلّ مذهب بآيات القرآن ، هو أنّهم اهتمّوا بقسم خاص من آيات الموضوع دون الأخذ بكلّ ما يرجع إليه ، ولو أنّهم اهتموا في كلّ مسألة من المسائل الاعتقادية بمجموع الآيات لدرؤوا عن أنفسهم الوقوع في المهاوي السحيقة.

ومن باب المثال نذكر أصحاب عقيدة الجبر في أفعال الإنسان ، أو مذهب التفويض فيها ، فانّهم ابتلوا بما ذكرناه ، وخبطوا خبطة عشواء في فهم المقاصد الإلهيّة وتفسيرها. إنّ الرجوع إلى الفهارس ومعاجم الكتب خصوصاً فيما ألّف في أحوال رجال كانوا يعيشون في القرون الأُولى الإسلامية إلى رابعة القرون وخامستها يكشف عن أنّ هناك لفيفاً من علماء الشيعة وفطاحلهم اهتموا بهذا النمط من

ص: 360

التفسير في إطار خاصّ ، فترى أنّهم ألّفوا كتباً تفسيريّة في خصوص موضوعات محدودة ، فجمعوا آياتها في رسائلهم وكتبهم وأدّوا حقّ الكلام في الموضوع الذي لا يمكن في النمط الآخر من التفسير ، ونذكر في المقام بعض ما ألّف في ذلك المجال :

أ : المحكم والمتشابه

إنّ القرآن الكريم يصنّف الآيات القرآنية ويقسّمها إلى محكم ومتشابه ، فالمحكم هو أُمّ الكتاب ، والمتشابه ما يجب أن يرجع إليها في تبيين مفهومه ، فكأنّ المحكم أصل ، والمتشابه فرع ، ويجب أن نستعين في فهم المتشابه بالأُمّ ، قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) .(1)

ثمّ إنّه وقع الاختلاف في تفسير المتشابه إلى أقوال كثيرة ذكرها الفخر الرازي في تفسيره ، وأنهاها إلى قرابة عشرين قولاً لا يسع المقام ذكرها ونقدها ، وإنّما الغرض هو الإشارة إلى ما قام به الشيعة الإمامية طوال القرون من تأليف رسائل خاصّة في ذلك الموضوع ، والبحث عن الآيات المتشابهة إلى جانب الآيات المحكمة ، ونذكر في هذه القائمة مشاهير المؤلّفين ونترك الباقي لأصحاب المعاجم :

1. متشابه القرآن : لإمام القرّاء أحد البدور السبعة ، أبي عمارة ، حمزة بن حبيب الزيّات الكوفي ، من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ، والمتوفّى أيّام المنصور ، عام ( 158 ه ) ، ذكره ابن النديم.(2).

ص: 361


1- آل عمران : 7.
2- فهرست ابن النديم : 61.

2. محكم القرآن ومتشابهه : لسعد بن عبد اللّه بن أبي خلف الأشعري القمي. قال النجاشي : شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها ، إلى أن قال : ولقي مولانا أبا محمد عليه السلام ، له كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ، والظاهر أنّ كتابه في فصلين أحدهما : الناسخ والمنسوخ ، والثاني : في المحكم والمتشابه ، أو هما رسالتان جمعهما في جزء واحد ، توفّي سعد عام ( 301 ه ).(1)

3. متشابه القرآن : تأليف أبي محمد الحسن بن موسى النوبختي. قال النجاشي : شيخنا المتكلّم المبرز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها ، ثمّ عدّ كتبه الكثيرة وقال : « ... متشابه القرآن ، وله مجالس مع الشيخ أبي القاسم البلخي المعتزلي ( المتوفّى 319 ه ).(2)

4. متشابه القرآن : للشيخ أبي عبد اللّه محمد بن هارون ، أُستاذ الشيخ محمد ابن المشهدي ، صاحب « المزار » ، ( المتوفّى عام530 ه ).(3)

5.متشابه القرآن ومختلفه : تأليف الشيخ رشيد الدين محمد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني ، المولود عام ( 488 ه ) ، والمتوفّى عام ( 588 ه ) ، وهو كتاب نفيس ينبئ عن طول باعه ، وسيوافيك الكلام فيه في قائمة أعلام التفسير في القرن السادس.

6.متشابه القرآن : لصدر المتألّهين المولى محمد بن إبراهيم الشيرازي ، المولود عام ( 979 ه ) ، والمتوفّى عام ( 1050 ه ).(4).

ص: 362


1- رجال النجاشي : 1 / 401 برقم 465.
2- رجال النجاشي : 1 / 179 برقم 146.
3- أمل الآمل : 2 / 311 برقم 947 ، يعرّفه بقوله : فاضل جليل ، صالح فقيه ، له كتب : منها : مختصر التبيان في تفسير القرآن ، وكتاب متشابه القرآن ....
4- الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 19 / 62 برقم 328.

7. متشابهات القرآن ومحكماته : تأليف العلاّمة محمد هادي معرفة ، وهو يشكّل جزءاً خاصّاً من موسوعته : « التمهيد في علوم القرآن » ، وقد درس الآيات المتشابهة حسب ترتيب السور ، وهو كتاب ممتع.

8. أضواء على متشابهات القرآن : تأليف الشيخ خليل ياسين المعاصر ، طبع في بيروت في جزءين عام ( 1388 ه ).

ونكتفي بما ذكر ، وقد قام المعاصرون بتأليف رسائل مستقلة حول متشابهات القرآن ، وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

ب : الناسخ والمنسوخ

إنّ البحث عن الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم من الموضوعات التي لفتت نظر الباحثين والمحقّقين ، وقد ألّف في ذلك الموضوع كتب ورسائل ، وقد قام أبو بكر النحّاس بجمع الآيات التي ادّعى نسخها في كتاب أسماه « الناسخ والمنسوخ » فبلغت (138) آية.

إنّ النسخ في الاصطلاح عبارة عن « رفع أمر ثابت » في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه ، والمعروف بين الإلهيين ، جواز النسخ أي رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والإنشاء ، وخالف في ذلك اليهود ، فادّعوا استحالة النسخ ، واستندوا في ذلك إلى شبه واهية. (1)

والمقصود في المقام هو نسخ الأحكام الواردة في القرآن الكريم ، لا مطلق نسخ الأحكام وإن لم يرد في القرآن الكريم ، فانّ القسم الثاني ممّا لا كلام فيه ، فقد

ص: 363


1- قوانين الأُصول : 2 / 92 ، المقصد الخامس في النسخ.

صرّح القرآن الكريم بنسخ لزوم التوجّه إلى القبلة الأُولى في الصلاة ، والكلام في أن يكون شيء من أحكام القرآن منسوخاً بالقرآن أو بالسنّة القطعية أو بالإجماع ، وقد قسّموا النسخ إلى ثلاثة أقسام :

1. نسخ التلاوة والحكم.

2. نسخ التلاوة دون الحكم.

3. نسخ الحكم دون التلاوة.

والأوّل : بيّن الفساد لا يقول به إلاّ القائل بالتحريف في الكتاب العزيز ، والمسلمون برآء منه إلاّ الحشوية من العامّة وبعض الأخباريّين من الخاصّة.

ومُثّل للثاني : بآية الرجم ، وانّه كان في القرآن الكريم ثمّ نسخ ، والقول به أيضاً يلازم القول بالتحريف المصون عنه كتاب اللّه العزيز.

والقسم الثالث : هو المشهور بين العلماء والمفسّرين ، فأنكر جماعة وجوده ، وخالفهم بعض آخر بعد الاتّفاق على الإمكان ، والعدد الذي ذكره النحّاس إفراط ، كما أنّ نفيه من رأس تفريط ، والتحقيق موكول إلى محلّه ، وها نحن نذكر في هذا المقام الرسائل المؤلّفة في هذا الموضوع من غير فرق بين أن يكون المؤلّف مثبتاً ، أو نافياً وإليك البيان :

1. الناسخ والمنسوخ : لعبد اللّه بن عبد الرحمن الأصم المسمعي ، المنسوب إلى طائفة من العرب باسم المسامعة ذكره النجاشي ، وقال : وله كتاب الناسخ والمنسوخ (1) يروي عنه محمد بن عيسى بن عبيد المتوفّى عام ( 262 ه ) ، ويروي هو عن مسمع بن كردين ، وهو من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام .

ص: 364


1- رجال النجاشي : 2 / 15 برقم 564 ؛ الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 24 / 12 برقم 59.

2. الناسخ والمنسوخ : تأليف حسن بن واقد الذي هو أخو عبد اللّه بن واقد المعدود من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام .(1)

3. الناسخ والمنسوخ : لدارم بن قبيصة التميمي الدارمي السائح ، وهو ممّن روى عن الإمام الرضا عليه السلام وله كتاب آخر باسم الوجوه والنظائر.(2)

4. الناسخ والمنسوخ : تأليف حسن بن علي بن فضّال الكوفي ، من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام(3)المتوفّى عام ( 422 ه ).

5. الناسخ والمنسوخ : لأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري. قال النجاشي : شيخ القميين ووجههم وفقيههم غير مدافع ، وكان أيضاً الرئيس الذي يلقى السلطان ، ولقي الرضا عليه السلام وله كتب ، ولقي أبا جعفر الثاني وأبا الحسن العسكري ، له كتاب الناسخ والمنسوخ(4)توفي بعد سنة (274) ، أو (280).

6. الناسخ والمنسوخ : لسعد بن عبد اللّه بن أبي خلف الأشعري القمي ، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها ، ولقي مولانا أبا محمد العسكري ، ثمّ ذكر كتبه ، منها ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ، توفّي عام ( 299 ه ) أو ( 301 ه ).(5)

7. الناسخ والمنسوخ : لشيخ القميين علي بن إبراهيم بن هاشم الذي كان حيّاً عام ( 307 ه ) ، وقد أكثر الكليني النقل عنه.(6).

ص: 365


1- فهرست ابن النديم : 57 ؛ الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 24 / 11 برقم 52 ونقله عن النجاشي أيضاً ولم نجده ، وله تفسير أيضاً سيوافيك في محلّه.
2- رجال النجاشي : 1 / 372 برقم 427.
3- رجال النجاشي : 1 / 127 برقم 71.
4- رجال النجاشي : 1 / 216 برقم 196.
5- رجال النجاشي : 1 / 401 برقم 465.
6- رجال النجاشي : 2 / 86 برقم 678.

8. الناسخ والمنسوخ : لعبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى الجلودي الأزدي البصري ، شيخ البصرة وأخباريها ، وكان عيسى الجلّودي من أصحاب أبي جعفر عليه السلام ذكره النجاشي وذكر له كتباً كثيرة ، منها كتاب الناسخ والمنسوخ ، كما ذكر له كتاب التفسير وسيجيء في محلّه ، وهو من شيوخ محمد بن جعفر بن قولويه ، مؤلّف كامل الزيارات ( المتوفّى عام 367 ه ). (1)

9. الناسخ والمنسوخ : لمحمد بن العباس المعروف بابن الحجام يروي عنه التلعكبري سماعاً عنه سنة ( 328 ه ). (2)

10. الناسخ والمنسوخ : للشيخ الصدوق ، ( المتوفّى عام381 ه ) ، والنسخة موجودة بالنجف الأشرف مكتبة الشيخ علي كاشف الغطاء (3) واحتمل شيخنا المجيز الطهراني أن تكون النسخة للناسخ والمنسوخ تأليف الشيخ عبد الرحمن بن محمد العتائقي الحلي ، كما سيجيء.

11. الناسخ والمنسوخ من القرآن العظيم : لقطب الدين سعيد بن هبة اللّه ابن الحسن الراوندي ( المتوفي عام573 ه ) توجد منه نسخة في طهران ، وهو مؤلّف « الخرائج والجرائح » المعروف. (4)

12. الناسخ والمنسوخ : لعبد الرحمن بن محمد العتائقي الحلي ، المتوفى عام ( 760 ه ) ، والنسخة موجودة في النجف. (5)

ص: 366


1- رجال النجاشي : 2 / 54 برقم 638 ؛ الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 24 / 11 برقم 56.
2- فهرست الطوسي : 177 برقم 652.
3- رجال النجاشي : 2 / 311 برقم 1050 ؛ الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 24 / 11 برقم 55.
4- الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 24 / 11 برقم 57.
5- الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 24 / 14 برقم 69.

13. الناسخ والمنسوخ : لجمال الدين أحمد بن عبد اللّه بن محمد بن علي بن الحسن بن المتوّج البحراني من أجلاّء تلاميذ فخر المحقّقين ( المتوفّى عام 771 ه ) ، والمعاصر للشهيد الأوّل ، ( المتوفّى عام 786 ه ) ، وقد بسط في الكتاب القول في بيان الآيات الناسخة والمنسوخة ، قال سليمان الماحوزي : « وقد قرأته على بعض مشايخي في حداثة سنّي ، سنة ( 1091 ه ) » والنسخة موجودة في النجف الأشرف (1).

14. الناسخ والمنسوخ : لعلي بن شهاب الدين الحسيني العلوي الهمداني ، ( المتوفّى عام 786 ه ) ، ومنه نسخة في مكتبة المرعشي بقم. (2)

15. الناسخ والمنسوخ من الآيات القرآنية : لفخر الدين أحمد بن عبد اللّه بن سعيد بن المتوّج البحراني ، شيخ ابن فهد الحلي ، ( المتوفّى عام 841 ه ) ، وتلميذ فخر المحقّقين ، ( المتوفي عام 771 ه ) وهو غير جمال الدين أحمد بن عبد اللّه الذي مضى برقم 13. (3)

16. الناسخ والمنسوخ : لشهاب الدين أحمد بن فهد الاحسائي مؤلّف خلاصة التنقيح ( المتوفّى 806 ه ) شرحه عبد الجليل الحسيني القاري ، شارح الجزرية في التجويد سنة ( 972 ه ) ، وقد شرح هذا الكتاب سنة ( 976 ه ) ، وطبع في طهران ( عام 1384 ه ). (4)

17. الناسخ والمنسوخ : للشيخ محمد مهدي بن جعفر الكاشاني الموسوي ،

ص: 367


1- المصدر نفسه : 24 / 9 برقم 47.
2- المصدر نفسه : 24 / 12 برقم 62.
3- المصدر نفسه : 24 / 13 برقم 68.
4- الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 24 / 10 برقم 49.

ألّفه عام ( 1250 ه ) ، وهو حفيد الوحيد البهبهاني.(1)

18. الناسخ والمنسوخ : للشيخ محمد شريف الموسوي الاصفهاني المجاز من الفاضل الايرواني ، ( المتوفي عام 1206 ه ) ، والشيخ زين العابدين المازندراني الحائري ، طبع مع رسالته « نسيم السحر » في سنة ( 1323 ه ).(2)

هؤلاء مشاهير المؤلّفين في الناسخ والمنسوخ ، ومن أراد التوسّع فليرجع إلى المعاجم والفهارس ، غير أنّ هنا لفيفاً من أعلام الطائفة درس مسألة الناسخ والمنسوخ في الذكر الحكيم دراسة معمّقة في ثنايا تفسيرهم أو مقدّماته ، وأخصّ بالذكر مادبّجته يراعة المرجع الإسلامي الكبير السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي - دام ظلّه - ، فقد طرح القسم الثالث من الناسخ والمنسوخ في كتابه « البيان في تفسير القرآن » ، واقتصر في البحث على (36) آية ، وخرج بأنّها غير منسوخة.(3)

والجدير بالذكر أنّه لم يبحث عن آية العدّة ، أعني قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ )(4)، فانّ هذه الآية ناظرة إلى الحول المعروف في الجاهلية الذي كان عدّة للنساء فيها ، وقد أقرّ القرآن هذا الحكم مؤقّتاً ونسخ حكماً بقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا )(5)، فقد تضافرت النصوص على ذلك من أئمّة أهل البيت.(6).

ص: 368


1- الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 24 / 13 برقم 65.
2- المصدر نفسه : 24 / 11 برقم 54.
3- البيان : 277 ، 381.
4- البقرة : 240.
5- البقرة : 234.
6- وسائل الشيعة : 15 / 451 ، الباب 30 من أبواب العدد.
ج : آيات الأحكام

الآيات التي تقع ذريعة لاستنباط الأحكام الشرعية المتعلّقة بعمل المكلّف في حياته الفردية والاجتماعية هي الآيات المعروفة بآيات الأحكام ، وهي على المشهور ثلاثمائة آية تقريباً ، وهناك أُناس يستنبطون من كثير من الآيات القرآنية أحكاماً عملية ، ولا تعدّ من آيات الأحكام وقد تعرّفت على بعضها في الأحاديث المرويّة عن الإمام الجواد والإمام الهادي عليهما السلام.

وقد أفردها لفيف من علماء الشيعة بالتأليف والتفسير بين رسائل صغيرة إلى كتب حافلة بالتحقيق ، وربّما حازوا قصب السبق في هذا المضمار كما سيتضح ، وإليك أسماء مشاهيرهم في هذا الفصل مقتصرين عليهم :

1. آيات الأحكام : لأبي نصر محمد بن السائب بن بشر الكلبي من أصحاب أبي جعفر الباقر وأبي عبد اللّه الصادق عليهما السلام ( المتوفّى عام 146 ه ) ، وهو والد هشام الكلبي النسابة الشهير ، وصاحب التفسير الكبير الذي هو أبسط التفاسير كما أذعن به السيوطي في الإتقان.

قال ابن النديم في الفهرست عند ذكره للكتب المؤلّفة في أحكام القرآن ما لفظه :

« كتاب أحكام القرآن للكلبي رواه عن ابن عباس ، وهو أوّل من صنّف في هذا الفن لا الإمام الشافعي محمّد بن إدريس المتوفّى سنة ( 204 ه ) كما زعم السيوطي ، وكيف لا يكون كذلك وقد توفّي الكلبي قبل ولادة الشافعي بأربع سنين حيث ولد الشافعي عام 150. (1)

ص: 369


1- فهرست ابن النديم : 57 ؛ تأسيس الشيعة لفنون الإسلام : 321. لاحظ الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 1 / 40 برقم 192.

2. آيات الأحكام ، الموسوم بمنهاج الهداية : للشيخ جمال الدين أحمد بن عبد اللّه بن محمد بن علي بن الحسن بن المتوّج البحراني ، تلميذ فخر المحقّقين. (1)

3. آيات الأحكام ، الموسوم بالنهاية في تفسير خمسمائة آية : للشيخ فخر الدين أحمد بن عبد اللّه بن سعيد بن المتوّج البحراني ، وهذا المؤلّف ، والمؤلِّف المتقدّم من أُسرة واحدة ، وكلاهما من تلامذة فخر المحقّقين. (2)

4. آيات الأحكام : للشيخ ناصر بن الشيخ أحمد بن الشيخ عبد اللّه بن المتوّج البحراني ، ووالده الشيخ أحمد من تلامذة فخر المحقّقين ابن العلاّمة الحلّي ( المتوفّى عام 771 ه ) ، حكى شيخنا المجيز في « الذريعة » عن أُستاذه المجيز السيد حسن الصدر أنّه رآه في مكتبات النجف. (3)

5. آيات الأحكام : للشيخ أبي عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه بن محمد بن الحسين بن محمد السيوري الأسدي الحلي ( المتوفّى عام 826 ه ) ، وقد طبع باسم « كنز العرفان في فقه القرآن » ، وهو من أنفس الكتب في موضوعه ، وقد ترجم إلى الفارسيّة والاردية حسب ما حكاه السيّد شهاب الدين المرعشي قدس سره في تقديمه على مسالك الأفهام.

6. آيات الأحكام ، الموسوم بمعارج السؤول ومدارج المأمول : لكمال الدين حسن بن شمس الدين محمد الاسترآبادي النجفي ، ألّفه سنة ( 891 ه ). (4)

7. آيات الأحكام ، للمولى شرف الدين علي بن محمد الشيفنكي ( المتوفّى عام

ص: 370


1- الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 1 / 42 برقم 211.
2- المصدر السابق : برقم 213.
3- المصدر السابق : برقم 220.
4- المصدر السابق : برقم 217.

907 ه ) حكاه شيخنا المجيز عن رياض العلماء ، وحكاه هو عن تاريخ حسن بيك روملو. (1)

8. آيات الأحكام ، للمحقّق أحمد بن محمد الأردبيلي ثمّ النجفي ، ( المتوفّى عام 993 ه ) ، وطبع باسم « زبدة البيان في براهين أحكام القرآن » مرّتين ، مرّة بطهران عام ( 1305 ه ) ، وأُخرى في سنة ( 1386 ه ) ، محقّقة منقّحة.

9. آيات الأحكام ، للعلاّمة الأمير أبو الفتح بن الأمير مخدوم بن الأمير شمس الدين محمد الحسيني ألّفه للسلطان محمد قطب شاه سنة ( 1021 ه ) ، وطبع في تبريز.

10. آيات الأحكام ، للسيد ميرزا محمد الحسيني الاسترآبادي ، صاحب الكتب الرجالية الشهيرة : « الكبير » و « الوسيط » و « الصغير » ، وقد توفّي عام ( 1026 ه ) ، ومنه نسخة في مكتبة المرعشي. (2)

11. آيات الأحكام : للشيخ أبي عبد اللّه محمد بن الجواد شمس الدين الكاظمي ، والمشتهر بالفاضل الجواد من تلاميذ شيخنا البهائي ( المتوفّى 1030 ه ) ، وقد شرح كتاب أُستاذه في الحساب ، أعني : خلاصة الحساب ، وطبع الشرح بطهران عام ( 1273 ه.ق ) ، وقد طبعت آيات الأحكام باسم « مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام » في جزءين كبيرين وعنيت بنشره وتحقيقه المكتبة المرتضوية.

12. آيات الأحكام : للشيخ أحمد بن إسماعيل بن العلاّمة الشيخ عبد النبيّ الجزائري النجفي ( المتوفّى سنة 1150 ه ) طبع باسم « قلائد الدرر » ، وقد

ص: 371


1- مقدّمة مسالك الأفهام ( تقديم آية اللّه المرعشي ) : 10.
2- الذريعة : 1 / 43 ؛ مقدمة مسالك الأفهام : 11.

طبع مرّتين ، مرّة في طهران وأُخرى بالنجف الأشرف عام ( 1386 ه ) ، شكر اللّه مساعي الجميع.

هذه اثنا عشر تأليفاً حول آيات الأحكام اكتفينا بها ، ومن أراد التوسّع والوقوف على ما ألّفه أصحابنا حول آيات الأحكام من رسائل وكتب وموسوعات ، فعليه الرجوع إلى معاجم الكتب.(1)

وهذه الكمّيّة الهائلة تعرب عن عناية الشيعة بفهم القرآن الكريم ، وتبويب مفاهيمه.

د : ما نزل من القرآن في حقّ النبيّ والآل

لم ينحصر هذا النمط من التفسير ( أي التفسير الموضوعي ) فيما سبق من الموضوعات ( المحكم والمتشابه ، الناسخ والمنسوخ ، وآيات الأحكام ) ، بل توجّهت همم الأصحاب وعنايتهم إلى تأليف رسائل وكتب في موضوعات قرآنية ، نظير ما نزل من الآيات في حقّ أهل البيت ، وإليك نزراً يسيراً ممّا أُلّف في هذا المجال من الأقدمين ، وأمّا المتأخّرين فهو على عاتق المعاجم القرآنيّة.

إنّ أهل البيت عليهم السلام ممّن خصّهم اللّه سبحانه بالذكر في غير واحد من الآيات ، فقال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا )(2)وقال سبحانه : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )(3)، وقال سبحانه : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا )(4).

ص: 372


1- لاحظ : الذريعة : 1 / 40 - 44 وج 4 / 234 - 351 ، وتقديم آية اللّه المرعشي لكتاب مسالك الأفهام.
2- الأحزاب : 33.
3- الشورى : 23.
4- الإسراء : 26.

إلى غير ذلك من الآيات ، فلا عتب على المفسّر الواعي أن يخصّ أهل البيت بالتفسير الموضوعي ويفرد آياته بالتأليف ، وكيف لا يكون كذلك وقد روى عكرمة عن ابن عباس ، وقال : ما نزل من القرآن ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلاّ وعليٌّ رأسها وأميرها ، وقد عاتب اللّه أصحاب محمد في غير مكان ، وما ذكر عليّاً إلاّ بخير. (1)

وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما نزل في أحد من كتاب اللّه ما نزل في علي. (2)

وقال ابن عباس : نزلت في عليّ أكثر من ثلاثمائة آية في مدحه. (3)

ولأجل هذا وذاك قام لفيف من المفسّرين والمحدّثين من العامّة والخاصّة بتأليف رسائل مفردة في هذا المجال ، وفي الحقيقة كلّها تفاسير موضوعيّة نذكر منها ما يلي :

1. ما نزل من القرآن في علىّ عليه السلام : تأليف هارون بن عمر بن عبد العزيز ابن محمد ، أبو موسى المجاشعي ، صحب الإمام الرضا عليه السلام وله هذا الكتاب. (4)

2. ما نزل من القرآن في عليّ عليه السلام : تأليف عبد العزيز بن يحيى بن أحمد ابن عيسى الجلودي الأزدي البصري من أصحاب الإمام الجواد عليه السلام فله تآليف كثيرة ذكرها النجاشي ، وله كتاب التفسير كما سيوافيك في قائمة التفاسير الروائيّة. (5)

3. ذكرما نزل من القرآن في أهل البيت عليهم السلام : تأليف أحمد بن الحسن

ص: 373


1- مسند أحمد بن حنبل : 1 / 190 ؛ تاريخ الخلفاء : 171.
2- الصواعق المحرقة : 76 ، الباب التاسع ، الفصل الثالث.
3- تاريخ الخلفاء : 172.
4- رجال النجاشي : 2 / 406 ، برقم 1183.
5- رجال النجاشي : 2 / 54 برقم 637.

الاسفرائيني ، المفسّر الضرير ، قال النجاشي : له كتاب المصابيح في ذكر ما نزل من القرآن في حقّ أهل البيت عليهم السلام ، وهو كتاب حسن كثير الفوائد ، سمعت أبا العباس أحمد بن علي بن نوح يمدحه ويصفه. (1)

4. ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليه السلام : تأليف إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي ، أصله كوفي ، وسعد بن مسعود أخو أبي عبيد بن مسعود عم المختار ، وانتقل إلى إصفهان وأقام بها ، وقد وفد إليه أحمد بن خالد المتوفّى عام ( 274 ه ) وسألوه الانتقال إلى قم فأبى ، وله كتب ممتعة في التاريخ والسيرة ، وهو مؤلف « الغارات » المعروفة. (2)

5. كتاب ما نزل من القرآن في أهل البيت عليهم السلام : تأليف محمد بن العباس بن علي بن مروان الماهيار المعروف بابن الحجام ، قال النجاشي : ثقة ثقة ، من أصحابنا عين ، سديد ، كثير الحديث ، له كتاب ما نزل من القرآن في أهل البيت ، وقال جماعة من أصحابنا : إنّه كتاب لم يصنّف في معناه مثله ، قيل : إنّه ألف ورقة ، وذكره الشيخ في رجاله في باب من لم يرو عنهم عليهم السلام برقم (71) ، وقال : سمع منه التلعكبري سنة ( 328 ه ) ، وله منه إجازة ، وذكره في الفهرست برقم 649. (3)

6. كتاب ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليه السلام : تأليف محمد بن أحمد بن عبد اللّه بن إسماعيل الكاتب ، أبو بكر يعرف بابن أبي الثلج ، وأبو الثلج هو عبد اللّه بن إسماعيل ، ثقة ، عين ، كثير الحديث ، وذكر النجاشي فهرس كتبه ، ومنها

ص: 374


1- رجال النجاشي : 1 / 238 برقم 229.
2- رجال النجاشي : 1 / 90 برقم 18 ؛ فهرست الطوسي : 27 - 29 برقم 7.
3- رجال النجاشي : 2 / 294 برقم 1031 ، ولاحظ الرجال والفهرست للشيخ الطوسي.

تاريخ الأئمّة عليهم السلام ، وقد طبع أخيراً ، وذكره الخطيب في تاريخه(1)وذكره الشيخ في رجاله في باب من لم يرو عنهم برقم (64) ، وقال : سمع منه التلعكبري سنة ( 322 ه ) ، وما بعدها إلى سنة ( 325 ه ) ، وفيها مات ، وله منه إجازة.(2)

7. ما نزل من القرآن في أهل البيت عليهم السلام : تأليف الحسين بن الحكم الجبري الكوفي ، وطبع عام ( 1375 ه ) ، وقدّم له : العلاّمة السيد أحمد الحسيني استقصى فيها ما ألّف من التفاسير في أهل البيت من القدماء فبلغ (44) كتاباً(3)حياه اللّه وبياه.

هذه نماذج ممّا أُلّف حول أهل البيت من الكتب والرسائل بشكل التفسير الموضوعي نقتصر على ذلك ، وانّ التوسّع يخرجنا عمّا هو الهدف ، وهو الإشادة بذكر المفسّرين من الشيعة في المجالات المختلفة ، ومن سبر المعاجم ، وكتب التراجم وقف على أنّ موضوع مناقب أهل البيت وفضائلهم - كتاباً وسنة - كان موضع اهتمام العلماء منذ الصدر الأوّل وفي القرون التالية إلى القرن الحاضر.

ولو جمعت تلك الكتب المطبوعة والمخطوطة الموجودة منها ، لشكّلت مكتبة كبرى ، والجدير بالذكر أنّ المحقّق السيد عبدالعزيز الطباطبائي - رحمه اللّه - قام مشكوراً بفهرسة كبيرة في خصوص مناقب آل البيت ، وأسماه ب « أهل البيت في المكتبة العربية » ، ولو ضمّ إليها ما أُلّف بسائر اللغات لضاق النطاق على المحصي والمؤلّف.

ص: 375


1- تاريخ الخطيب : 1 / 249.
2- رجال النجاشي : 2 / 299 برقم 1038 ، وقد عرفت سائر المصادر في المتن.
3- لاحظ المقدّمة للمصحّح : 12 - 17.
ه : التأليف حول أمثال القرآن وأقسامه وقصصه

قد ورد في القرآن الكريم قرابة ستين مثلاً ، والمثل بطبعه يقرب البعيد ، ويصبّ المعقول في قالب المحسوس ، وقد أفرد غير واحد من علماء الشيعة أمثال القرآن بالبحث والتأليف. هذا ابن النديم يعرف أبا علي بن أحمد بن الجنيد ( المتوفّى 381 ه ) بأنّه قريب العهد ، من أكابر الشيعة ، ثمّ يذكر كتبه ويقول في موضع آخر منه عند تسمية الكتب المؤلّفة في معان شتّى من القرآن ما لفظه : « وكتاب الأمثال لابن الجنيد ». (1)

فلو قام ابن الجنيد وهو من قدماء علمائنا بهذا المجهود ، فقد قام الشيخ أحمد بن عبد اللّه التبريزي النجفي ( المتوفّى عام 1327 ه ) بجمع الأمثال القرآنية وتفاسيرها وما يتعلّق بها وأسماه « روضة الأمثال » وطبع عام ( 1325 ه ) (2) ، وقد تضافر التأليف حول أمثال القرآن في العصر الحاضر من أكابر الشيعة باللغتين العربية والفارسية ، وطبع الأكثر باسم أمثال القرآن. (3)

كما قد ورد في القرآن الكريم قرابة أربعين قسماً حلف فيه سبحانه بالشمس والقمر والليل والنهار إلى غير ذلك من عظائم الموجودات ، المليئة بالأسرار ، وما هذا إلاّ ليتدبّر الإنسان فيها ويقف على ما فيها من العجائب والغرائب ، حتى أنّه سبحانه حلف في سورة الشمس أحد عشر مرّة بأشياء كالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض والنفس ، ثمّ رتّب عليها جواباً ، وقال : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن

ص: 376


1- فهرست ابن النديم : 64 و 219.
2- الذريعة : 11 / 28 برقم 1750.
3- كأمثال القرآن للدكتور إسماعيل ، ط طهران / 1368 ه.ش ؛ وأمثال القرآن لعلي أصغر حكمت الشيرازي.

زَكَّاهَا ) ، وقد بحث المفسرون عن هذه الأقسام وتركوا البحث عن أمر مهم ، وهو ما هو الصلة بين المقسم به وجوابه ، حتى أنّ ابن القيّم ( المتوفّى 751 ه ) أفرد كتاباً في أقسام القرآن ، طبع باسم أقسام القرآن ، ولكنّه بحث عن المقسم به في جميع الآيات ، وأهمل البحث عن الصلة بينه وبين جوابه في شتّى الآيات. نعم قام أخيراً ولدنا الفاضل الروحاني الشهيد أبو القاسم الرزاقي (1) بتأليف كتاب حول أقسام القرآن ، وسدّ هذا الفراغ الموجود في التفاسير ، وقد أغرق نزعاً في التحقيق ، وطبع حديثاً.

إنّ قصص القرآن من المواضيع الهامّة التي تحتاج إلى دراسات فنية ، وفيها من العبر ما لا يحصى ، وقد أفرد غير واحد من أصحابنا قصص القرآن قديماً وحديثاً (2) بالتأليف ، أخيرهم ما ألّفه الدكتور محمود البستاني ، فبحث عن القصص القرآنية حسب تسلسلها في السور الكريمة ، وطبع عام ( 1408 ه ) وقد خصّصنا الجزء التاسع من هذه الموسوعة بالأمثال والأقسام.

و : معارف القرآن واحتجاجاته

معارف القرآن تشكّل قسماً هامّاً من مفاهيمه ، خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد ، وقد ورد أكثر ما يرجع إلى المعارف الغيبية في السور المكيّة حيث كان النبي يحتج على المشركين ، كما ورد فيما يرجع إلى الكتب والشرائع السماوية وديانات اليهود والنصارى في السور الطوال حيث نزلت أوائل الهجرة.

فقد أفرد غير واحد من أصحابنا كتباً ورسائل حول معارف القرآن أخيرها -

ص: 377


1- استشهد قدس سره في الحرب المفروضة على إيران الإسلامية في حادث إسقاط طائرتهم على يد العدوان البعثي العفلقي قرب مطار الأهواز ، ومعه لفيف من العلماء والمسؤولين الكبار.
2- لاحظ الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 17 / 102 و 107.

لا آخرها - معارف القرآن للشيخ محمد تقي المصباح ، طرح فيه الآيات المتعلّقة بمعرفة العالم والملائكة والجنّ والشيطان ، نقله إلى العربية عبد المنعم الخاقاني ، وطبع في بيروت.

كما أنّ الحوار والاحتجاج في القرآن له أساليبه ومعطياته ، فقد قام بالاحتجاج على الملحدين والمشركين وعلى أهل الكتاب ، فقد أفرد غير واحد من أصحابنا بالتأليف أخيرها - لا آخرها - الحوار في القرآن للسيد محمد حسين فضل اللّه العاملي ، طبع في بيروت.

ز : أسباب النزول

إنّ التعرّف على أسباب النزول يسلّط الضوء على مفاد الآية ومفهومها وهو غير خفي على من له إلمام بالتفاسير ، فقد قام غير واحد من أصحابنا بالتأليف حوله ، نذكر نموذجين :

1. أسباب النزول ، للشيخ قطب الدين سعيد بن هبة اللّه الراوندي ، ( المتوفّى عام573 ه ) ، وهو من مصادر بحار الأنوار. (1)

2. الأسباب والنزول على مذهب آل الرسول ، للشيخ رشيد الدين محمد بن علي شهر آشوب السروي ( المتوفّى عام 588 ه ). (2)

هذه نماذج من التفسير الموضوعي أتينا بها إيقافاً للقارئ على جهود علماء الشيعة في العصور السابقة والعصر الحاضر ، وقد تركنا كثيراً من الموضوعات القرآنيّة التي أفردت بالتأليف كالأخلاق والسياسة والمسائل العائلية وغير ذلك

ص: 378


1- الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 2 / 12 برقم 35 و 37.
2- الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 2 / 12 برقم 35 و 37.

من الموضوعات الهامّة التي تداولتها أقلام المحقّقين في العصر الحاضر بالبحث والتحقيق ، ومن راجع المكتبات العربية ، أو استعرض فهارس مكتبات العالم يقف على مجموعة كبيرة من الكتب تبحث عن موضوعات قرآنيّة حسب التفسير الموضوعي ، وبما أنّ الهدف هنا الإيجاز تركنا التفصيل في ذلك.

التفسير الموضوعي في العصر الحاضر

لقد استقطب « التفسير الموضوعي » للقرآن الكريم في العصر الحاضر قسطاً كبيراً من اهتمام العلماء نظراً لأهميّة هذا النهج من التفسير ومساعدته على درك المفاهيم القرآنيّة ، والمعارف الإلهية الدقيقة العميقة ، فانّ القرآن كما أسلفنا ذكر هذه المعارف بصورة متفرّقة تبعاً للمناسبات ، ولو جمعت هذه المعارف في محل ، ثمّ درس المفهوم القرآني المعيّن في ضوء كلّ ما يرتبط به من آيات ، لأمكن الحصول على فكرة متكاملة وصورة شاملة لذلك المفهوم.

ولهذا اندفع العلماء المهتمون بالثقافة القرآنية في عصرنا هذا إلى خوض هذا الميدان الشريف الهام بمختلف الصور ، وأتوا بنتائج طيّبة ، وأثمرت جهودهم ثماراً يانعة ، ومن وقف على الدراسات القرآنيّة في جامعة « قم » يرى أنّ لهذا القسم من الدراسات قسطاً كبيراً.

وقد اتّبعنا هذا المنهج منذ عام ( 1389 ه ) وكانت حصيلة هذه السنوات عشرة أجزاء من التفسير الموضوعي تحت عنوان « مفاهيم القرآن » ، تناولت بالترتيب قضايا التوحيد والشرك ، والحكومة الإسلامية ، والأسماء والصفات ، والنبوة العامّة والخاصّة ، وما يرتبط بالسيرة النبوية في ضوء القرآن الكريم.

ولقد لقيت هذه الدراسات إقبالاً واسعاً ممّا يكشف عن أهمية هذا المنهج

ص: 379

من التفسير.

ومن الجدير بالذكر أنّ العلاّمة المجلسي هو أوّل من فتح هذا الباب على مصراعيه في جمع موضوعات القرآن والبحث عنها بحثاً قرآنياً. فانّ ما وصل إلينا من القدماء هو تخصيص موضوع خاصّ بالتفسير ، وأمّا غوّاص بحار درر الأحاديث الشيخ محمد باقر المجلسي ، ( المتوفّى عام 1111 ه ) ، اتّبع هذا المنهج في جميع أبواب كتابه وموسوعته النادرة ، فجمع الآيات المربوطة بكلّ موضوع في أوّل الأبواب وفسّرها تفسيراً سريعاً ، وهذه الخطوة وإن كانت قصيرة لكنّها جليلة في عالم التفسير ، وقد قام بذلك مع عدم توفّر المعاجم القرآنية الرائجة في هذه الأعصار.

وتجدر الإشارة إلى أنّ جهاز الكمبيوتر الذي ثبتت له قدرة كبرى في عملية فرز المعلومات وتجميعها وتحضيرها وبالتالي تقديم تسهيلات هامّة في مجال التحقيق العلمي في شتّى حقول المعرفة ... لو أنّ هذا الجهاز الفعّال استخدم في مجال التفسير الموضوعي لحصل الباحث على نتائج باهرة.

وكلّ أملنا أن تهتمّ الشخصيّات والمؤسسات المهتمة بالمسائل القرآنيّة بهذا الاقتراح ، أو توليه المزيد من العناية به لنستطيع مواكبة العصر الحديث في تقدّمه الصاعد وتلبية حاجاته الماسّة الملحّة.

الشيعة والتفسير الترتيبي

قد تعرّفت على منهج التفسير الموضوعي فهلمّ معي ندرس المنهج الرائج بين المفسّرين وهو المنهج الترتيبي ، وأظنّ أنّ القارئ في غنى عن تعريفه لشيوعه. وقد قام المسلمون بهذا النمط من التفسير على اختلاف مشاربهم في تفسير القرآن ،

ص: 380

وقام فضلاء الشيعة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وسائر الأئمّة المعصومين بهذا النمط من التفسير ، وقد أخذوا علوم القرآن وتبيين مفاهيمها عن أئمّتهم ، فأوّل من دوّن أقواله في التفسير منهم هو عبد اللّه بن العباس ( المتوفّى سنة 68 ه ) ، وأوّل من كتب تفسيراً تلميذه سعيد بن جبير ( المتوفّى عام 95 ه ) (1) ، واستمرّ الأمر إلى عصرنا هذا ، بل لم يكتف كثير منهم بتأليف تفسير واحد حتى ضمّ إليه آخر ، بل كثير منهم عزّزهما بثالث ورابع ، وقد استخرج أسماء هؤلاء المعزّزين شيخ الباحثين « آغا بزرگ الطهراني » في معجمه. (2)

والغالب على التفاسير المدوّنة في القرون الأُولى هو تفسير القرآن بالأثر ، ومن نماذجه تفسير « فرات بن إبراهيم الكوفي » الراوي عن جعفر بن محمد بن مالك البزاز الفزاري الكوفي ( المتوفّى حوالي 300 ه ) ، والمعلّم لأبي غالب الزراي ( المولود 285 ه ) ، وتفسير « علي بن إبراهيم القمي » ( حياً عام 307 ه ) ، و« تفسير العياشي » محمد بن مسعود أُستاذ الشيخ الكليني ( المتوفّى عام 329 ه ) ، إلى غير ذلك من التفاسير المؤلّفة في العصور الأُولى ، فانّ الجلّ لولا الكلّ تفاسير روائية ، وكأنّهم كانوا يجتنبون تفسير القرآن تفسيراً فكرياً تحليليّاً علمياً تحرّزاً من وصمة التفسير بالرأي ، وقد كان هذا النمط سائداً إلى أواخر القرن الرابع بين الشيعة ، حتى أحسّ العلماء بالحاجة الشديدة إلى التفسير العلمي والتحليلي ، منضمّاً إلى ما روي عن النبيّ والأئمّة عليهم السلام ، وأوّل (3) من فتح هذا الباب الشريف الرضي ( المتوفّى 406 ه ) فألّف كتاب « حقائق التأويل » ، في عشرين جزءاً ، ثمّ أخوه الشريف المرتضى ( المتوفّى 436 ه ) في أماليه المسمّى ب « الغرر والدرر » ، ثمّ تلميذه

ص: 381


1- فهرست ابن النديم : 57.
2- الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 4 / 233 - 346.
3- نذكر ذلك على وجه التقريب ، لأنّه لم يصل إلينا ممّن تقدّم عليه ، تفسير عليه ذاك الطابع.

الأكبر الشيخ الطوسي مؤلف « التبيان » ( المتوفّى 460 ه ) إلى أن صار هذا المنهج هو المنهج المتّبع الشائع في جميع الأعصار إلى عصرنا هذا ، وقلّت العناية بالمنهج الروائي المحض إلاّ في بعض الأعصار ( القرنين الحادي عشر والثاني عشر ) ، كما سيوافيك تفصيله ، وبذلك حصل التطوّر الواضح في تفسير القرآن الكريم ، ولعلّ العناية بالأثر وصيانة تلك الكنوز عن الاندراس حملت المفسّرين في تلك الأعصار على تفسير القرآن بنمط واحد ولون فارد ، وهو التفسير بالأثر من غير فرق بين السنّة والشيعة حتى أنّ أبا جعفر الطبري ( المتوفّى 310 ه ) ، وضع تفسيره على ذلك المنهج ، وقلّما يتّفق أن يستكشف أسرار الآيات ويبسط الكلام فيها.

غير أنّ احتكاك الثقافات والضرورات الاجتماعية فرضت على المفسّرين المنهج العلمي من التفسير حتى يكون ملبّياً لحاجاتهم ، فانّ القرآن بحر لا ينزف. فأدخلوا في التفسير قراءة القرآن ، وإعرابه ، وغوامضه ، ومشكلاته ، ومعانيه ، وجهاته ، ونزوله ، وأخباره ، وقصصه ، وآثاره ، وحدوده ، وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، والكلام على مطاعن المبطلين ، والاستدلال على ما يتفرّد به المفسّر في المذهب الفقهي أو الاعتقادي ، وقد ألّف في أواسط القرن الرابع علي بن عيسى الرماني تفسيره المعروف ، وهو بمنهجه العلمي تفوّق على التفاسير المتقدّمة عليه.

وها نحن نذكر أسماء أعلام المفسّرين بالأثر المروي عن النبيّ والآل ، ثمّ نبتعهم بسرد أسماء مشاهير المفسّرين بالتفسير العلمي ، فالمنهج الأوّل يمتد إلى نهاية القرن الرابع ، كما أنّ المنهج الثاني يبتدئ بطلوع القرن الخامس حسبما وصل إلينا من كتبهم ، وبما أنّ أكثر ما أُلّف في العصور الأُولى غير واصلة إلينا ، لا يمكن لأحد القضاء الباتّ في الموضوع ، وأنّ جميع ما في تلك القرون تفاسير روائيّة ، وإنّما نعتمد في ذلك على الحدس وما ذكره الشيخ في أوّل التبيان ، واللّه العالم.

ص: 382

مشاهير المفسّرين بالرواية والأثر من الشيعة

اشارة

إذا كان التفسير البياني أو اللغوي أمراً رائجاً بعد رحلة النبيّ الأكرم ، كان التفسير بالرواية والأثر أيضاً رائجاً ، ولا يمكن لنا أن نقضي قضاءً باتّاً بتقدّم إحدى المرحلتين على الأُخرى ، وليس من البعيد أن يكون كلا النمطين رائجين في عصر واحد ، وقد تعرّفت على مشاهير مفسّري الشيعة بالتفسير البياني فحان وقت ذكر مشاهير مفسّريهم بالحديث والأثر سواء أكان مرويّاً من النبيّ الأكرم ، أو من أئمّة أهل البيت ، وقد عرفت أنّ أسانيدهم في الرواية تنتهي إلى الرسول الأعظم ، ونحن نقتصر في القائمة التالية بالمشاهير دون كلّ من ألّف تفسيراً حديثيّاً ، وإلاّ فيحوجنا الاستقصاء إلى تأليف مفرد ، كما نذكر من روي منه التفسير بالأثر ، سواء أكان له تأليف أو لا ، وسيوافيك أنّ عصر التدوين متأخّر عن عصر بزوغ التفسير ، وتداوله بين الصحابة والتابعين ، وإليك أسماء الشخصيّات اللامعة في أربعة قرون خدموا القرآن عن طريق الأثر عن النبيّ والآل :

أعلام التفسير في القرن الأوّل

1. عبد اللّه بن عباس : هو ترجمان القرآن ، ابن عمّ النبيّ الأكرم ، ولد قبل

ص: 383

الهجرة بثلاث سنين ، وتوفّي بالطائف سنة ( 68 ه ) ، ذكره ابن النديم في تسمية الكتب المصنّفة في التفسير بعد ما ذكر كتاب التفسير للإمام الباقر عليه السلام وقال : كتاب ابن عباس ، رواه مجاهد وهو أبو الحجاج المقري ، المفسّر المكّي مجاهد بن جبر ، ( المتوفّى عام 102 ه ) ، ورواه عن مجاهد حميد بن قيس الذي توفّي في زمن السفّاح ... ، وسيوافيك أنّ عبد العزيز بن يحيى الجلودي ( المتوفّى عام 332 ه ) يروي تفسيراً عن ابن عباس. (1) وقد طبع تفسير موسوم ب « تنوير المقباس من تفسير عبد اللّه بن عباس » في أربعة أجزاء ، وطبع في بولاق مصر عام ( 1290 ه ) ، وأمّا من هو المؤلّف لهذا التفسير فقد نسبه الحافظ شمس الدين السخاوي في « الضوء اللامع » إلى محمد بن يعقوب الفيروزآبادي ، صاحب القاموس ( المتوفّى عام 818 ه ) ، والكلام في هذا الكتاب ذو شجون ، والتحقيق موكول إلى محله ، وعلى أي تقدير فالرجل في الرعيل الأوّل من المفسّرين بين الصحابة والتابعين ، وقد عرفت مأخذ تفسيره فلا نعيد ، ولم يثبت له كتاب.

2. ابن جبير : هو سعيد بن جبير ( الشهيد عام 95 ه ) بأمر الحجاج بن يوسف الثقفي ، ذكره ابن النديم في « الفهرست » ، وقد استشهد الرجل لولائه وتشيّعه ، وقصته معروفة. (2)

3. عطيّة العوفي : هو المعروف بالجدلي ، وهو غير عطيّة العوفي المعروف

ص: 384


1- فهرست ابن النديم : 56. قال في فهرس كتبه : الكتب المتعلّقة بعبد اللّه بن العباس رضي اللّه عنه - : مسنده ، كتاب التنزيل عنه ، كتاب التفسير عنه ، كتاب تفسيره عن أصحابه ، كتاب القراءات عنه ، كتاب الناسخ والمنسوخ عنه. الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 4 /1. 244 برقم 1185.
2- فهرست ابن النديم : 57. وسعيد بن جبير أوّل مؤلّف من الشيعة في التفسير ، كما سيوافيك ، وعلى فرض ثبوت تأليف لابن عباس يكون هو المؤلّف الأوّل ، وقد أثبت ابن النديم لهما كتاباً.

بالبكالي ، فانّ الثاني من أصحاب أمير المؤمنين ، والأوّل من أصحاب الإمام الباقر الذي توفّي سنة ( 114 ه ) ، وقد أخذ عنه : أبان بن تغلب ، وخالد بن طهمان ، وزياد بن المنذر ، كما ذكره النجاشي في تراجم هؤلاء ، وقد جاءت ترجمته في كتب رجال العامّة كتهذيب الكمال وخلاصة التهذيب. (1)

أعلام التفسير في القرن الثاني

4. السُدّي : أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي التابعي الكوفي ( المتوفّى سنة 127 ه ) المعروف بالسدي الكبير ، نسبة إلى سدة مسجد الكوفة ، من أصحاب الأئمّة : علي بن الحسين ومحمد بن علي الباقر وجعفر الصادق عليهم السلام. قال السيوطي في « الإتقان » : إنّ تفسير إسماعيل السدّي من أمثل التفاسير ، ونرى المرويّات عنه في كتب التفسير كثيراً. (2)

5. جابر بن يزيد الجعفي : قال النجاشي : عربي قديم ، ثمّ سرد نسبه وقال : لقى أبا جعفر وأبا عبد اللّه عليهما السلام ، مات سنة ( 128 ه ) ، له كتب منها التفسير. عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام . (3)

6. زيد بن أسلم العدوي : عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام السجّاد والإمام الصادق عليهما السلام. (4) وذكر ابن النديم له كتاب التفسير ، وقال : كتاب التفسير عن زيد بن أسلم ، وهو بخط السكري ، وهو أبو سعيد الحسن بن حسين

ص: 385


1- الذريعة : 4 / 282 برقم 1293.
2- فهرست ابن النديم : 57 ؛ الذريعة : 4 / 276 برقم 1275.
3- رجال النجاشي : 1 / 313 برقم 330 ؛ رجال الطوسي : 111 برقم 6.
4- فهرست ابن النديم : 57 ؛ رجال الطوسي : 90 و 197 ؛ الذريعة : 4 / 275 برقم 1273.

ابن عبد اللّه السكري ، النحوي ، اللغوي ، ( المتوفّى عام 275 ه ).

7. أبان بن تغلب : وهو أبان بن تغلب بن رباح البكري الجريري ، ( المتوفّى عام 141 ه ) ، قال ابن النديم : كتاب التفسير لابن تغلب ، ثمّ ذكر في مكان آخر ما لفظه : كتاب معاني القرآن ، لطيف وكتاب القراءات ، والظاهر أنّ المراد من معاني القرآن هو تفسير غريبه ، وقد مرّ ذكره. (1)

8. محمّد بن السائب الكلبي : هو محمد بن السائب بن بشر الكلبي ، ( المتوفّى 146 ه ) ، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ، وهو والد أبي المنذر هشام الكلبي النسّابة ( المتوفّى 206 ه ) ، ترجمه ابن النديم وذكر تفسيره ، وقال : وهو تفسير كبير ، وقد عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام. (2)

9. أبو حمزة الثمالي : هو ثابت ابن أبي صفيّة. قال النجاشي : كوفي ثقة ، وكان آل المهلب يدّعون ولاءه ، وليس من قبيلتهم ، لأنّهم من العتيك ( والعتيك : بطن من الأزد ) ، لقي علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد اللّه وأبا الحسن ( الكاظم ) عليهم السلام ، وروى عنهم ، وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم في الرواية والحديث ، وروى عن أبي عبد اللّه أنّه قال : أبو حمزة في زمانه مثل سلمان في زمانه ، ومات سنة ( 150 ه ) ، وذكره ابن النديم في فهرسته ، والكاتب الجلبي في كشف الظنون ، ويروي عن هذا التفسير : الثعلبي ( المتوفّى 427 ه ) في الكشف والبيان ، كما يروي عن هذا التفسير ابن شهر آشوب في كتابيه « الأسباب والنزول » ، و « المناقب ». وقال ابن حجر في « التقريب » ( 1 / 116 ) : رافضي مات في خلافة أبي جعفر المنصور. (3)

ص: 386


1- فهرست ابن النديم : 50 و ص 322.
2- فهرست ابن النديم : 57 ؛ رجال الطوسي : 289 برقم 144.
3- فهرست ابن النديم : 57 ؛ رجال النجاشي : 1 / 289 برقم 294 ؛ الذريعة : 4 / 252 برقم 1205.

10. أبوالجارود : زياد بن المنذر ، المعروف بأبي الجارود الهمداني. عرّفه النجاشي بقوله : كوفي من أصحاب أبي جعفر ، وروى عن أبي عبد اللّه ، له كتاب تفسير القرآن ، رواه عن أبي جعفر ، ومات في حياة الإمام الصادق عليه السلام ، وذكره الشيخ في أصحاب الإمام الباقر. وراجع ترجمته في تقريب التهذيب ، وتهذيب التهذيب. (1)

11. حسن بن واقد : هو أخو عبد العزيز ، عبد اللّه بن واقد الذي هو من أصحاب الإمام الصادق ، وذكر ابن النديم في فهرسته كتاب التفسير له كما ذكر له الناسخ والمنسوخ. (2)

12. أبو جنادة السلولي : هو الحصين بن المخارق بن عبد الرحمن السلولي ، بن ورقاء بن حبشي بن جنادة ويعدّ جدّه الحبشي من الصحابة ، وقد عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق والكاظم عليهما السلام ، وذكر له التفسير. قال النجاشي : الحبشي ( جدّه ) صاحب النبيّ ، روى عنه ثلاثة أحاديث ، أحدها : « عليّ منّي وأنا منه » ، ثمّ قال : له كتاب التفسير والقراءات. (3)

13. وهيب بن حفص : هو المعروف بأبي علي الحريري مولى بني أسد ، روى عن أبي عبد اللّه وأبي الحسن ( الكاظم ) ، وكان ثقة وصنّف كتباً ، منها : كتاب تفسير القرآن وكتاب في الشرائع. (4)

14. علي بن أبي حمزة البطائني : عرّفه النجاشي بقوله : كوفي ، روى عن أبي

ص: 387


1- رجال النجاشي : 1 / 387 برقم 446 ؛ رجال الطوسي : 122 برقم 4 وتعليقته للعلاّمة السيد صادق بحر العلوم.
2- فهرست ابن النديم : 57 ؛ الذريعة : 4 / 271 برقم 1260.
3- رجال الطوسي : 178 برقم 222 ؛ رجال النجاشي : 1 / 342 برقم 374.
4- رجال النجاشي : 2 / 393 برقم 1160.

الحسن موسى ( الكاظم ) ، وروى عن أبي عبد اللّه ، وصنّف كتباً ، منها : كتاب جامع في أبواب الفقه ، وكتاب التفسير وأكثره مروي عن أبي بصير ، وذكره الشيخ في أصحاب الصادق عليه السلام. (1)

أعلام التفسير في القرن الثالث

15. الإمام الحافظ الكبير عبد الرزاق بن همام اليماني ، ( 126 - 211 ه ) ، ترجمه الذهبي في « تذكرة الحفاظ » وعدّه الشيخ في عداد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ، وذكر النجاشي اسمه في ترجمة أبي علي محمد بن همام بن سهيل الاسكافي البغدادي ، وتوجد نسخة من تفسيره في بعض مكتبات مصر ، سنة كتابته ( 724 ه ) ، وقد أكثر فيه الرواية عن أبي عروة : معمر بن راشد الصنعاني البصري من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام. (2)

16. ابن محبوب : هو الحسن بن محبوب ( 150 - 224 ه ) ، قال الشيخ : كوفي ثقة ، روى عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، وروى عن ستين رجلاً من أصحاب أبي عبد اللّه ، وكان جليل القدر ويعدّ من الأركان الأربعة في عصره ، ثمّ عدّ كتبه ، وقال : وزاد ابن النديم كتاب التفسير. (3)

17. ابن فضّال الكبير : وهو أبو محمد الحسن بن علي الفضّال الكوفي ، ( المتوفي عام 224 ه ) ، ذكر تفسيره ابن النديم ، وله أيضاً « الشواهد من كتاب اللّه »

ص: 388


1- رجال النجاشي : 2 / 69 برقم 654 ؛ رجال الطوسي : 242 برقم 312.
2- رجال النجاشي : 2 / 295 برقم 1033 ؛ الذريعة : 4 / 350 برقم 1200.
3- فهرست الطوسي : 71 برقم 162 ؛ الذريعة : 4 / 248 برقم 1193.

وذكر النجاشي له خصوص الناسخ والمنسوخ ، وقال الشيخ : روى عن الرضا عليه السلام ، وكان خصيصاً به ، وكان جليل القدر عظيم المنزلة زاهداً ورعاً ثقة في الحديث وفي رواياته ، ثمّ ذكر كتبه ، وقال : وزاد ابن النديم كتاب التفسير. (1)

18. الحسن بن سعيد الأهوازي : قال النجاشي : شارك أخاه الحسين في الكتب الثلاثين المصنّفة. خاله جعفر بن يحيى بن سعد الأحول من رجال أبي جعفر الثاني ( الجواد ) ، وكُتبُ ابني سعيد كتب حسنة معوّل عليها وهي ثلاثون كتاباً ، ومنها : كتاب تفسير القرآن. وقد ذكرهما الشيخ من أصحاب الرضا عليه السلام وتوفّي الإمام الرضا عليه السلام عام ( 203 ه ). (2)

19. محمد بن خالد بن عبد الرحمان الكوفي البرقي : قال النجاشي : وكان أديباً حسن المعرفة بالأخبار وعلوم العرب ، له كتب منها : كتاب التفسير ، وعدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الجواد عليه السلام ، كما عدّه أيضاً في موضع آخر من أصحاب الرضا عليه السلام . (3)

20. عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى الجلودي : من أصحاب الإمام الجواد ، وذكر النجاشي له كتباً كثيرة ، وقال : كتاب التفسير عن علي ، ثمّ قال : وكتاب تفسيره عن الصحابة ، وهو من المكثرين في التفسير ، وقد مرّ أنّ له كتب التفسير عن ابن عباس وغيره ، وقد ذكر له ما يقرب من مائتي كتاب ، وقال الشيخ : « عبد العزيز الجلودي من أهل البصرة ، امامي المذهب ، له كتب في السير والأخبار ... » ، وقد ذكر المعلّق على فهرست الشيخ أنّه توفّي سنة ( 232 ه ). (4)

ص: 389


1- رجال النجاشي : 1 / 127 برقم 71 ؛ فهرست الطوسي : 73 برقم 164 ؛ فهرست ابن النديم : 226.
2- رجال النجاشي : 1 / 171 برقم 135 ؛ رجال الطوسي : 395.
3- رجال النجاشي : 2 / 200 ، برقم 899 ؛ رجال الطوسي : 404 و 386.
4- رجال النجاشي : 2 / 54 برقم 638 ؛ فهرست الطوسي : 145 ؛ فهرست ابن النديم : 172.

21. محمد بن عباس بن عيسى : قال النجاشي : كان يسكن بني غاضرة ، روى عن أبيه والحسن بن علي بن أبي حمزة وعبد اللّه بن جبلة ، له كتب منها : كتاب التفسير. (1)

22. علي بن الحسن بن فضّال : قال النجاشي : « كان فقيه أصحابنا بالكوفة ووجههم وثقتهم وعارفهم بالحديث المسموع قوله فيه ، سمع منه شيء كثير ، ولم يعثر له على زلّة فيه ولا ما يشينه ، وقلّما روى عن ضعيف ، وصنّف كتباً كثيرة منها : كتاب التفسير ، ومنها : كتاب التنزيل من القرآن والتحريف » ، ولعلّ المراد أسباب النزول الصحيحة والمحرّفة. عدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الهادي والعسكري ، توفّي أبوه سنة ( 224 ه ). وقال الشيخ : ثقة كوفي كثير العلم ، واسع الرواية والأخبار ، جيد التصانيف ، وعدّ كتبه ومنها : كتاب التفسير. (2)

23. أحمد بن محمد بن خالد البرقي : مؤلّف كتاب « المحاسن » ، وهو مشتمل على عدّة كتب منها كتاب التفسير والتأويل ، وله كتاب فضل القرآن أيضاً ، توفي عام ( 274 ه ) ، وذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الجواد والهادي عليهما السلام. (3)

أعلام التفسير في القرن الرابع

24. فرات بن إبراهيم الكوفي : وقد أكثر فيه الرواية عن الحسن بن سعيد

ص: 390


1- رجال النجاشي : 2 / 232 برقم 917.
2- رجال النجاشي : 2 / 82 برقم 674؛ فهرست الطوسي : 118 برقم 393؛ ورجال الطوسي : 419 و 433.
3- رجال النجاشي : 1 / 204 برقم 180 ؛ رجال الطوسي : 398 برقم 8 ، و 410 برقم 16.

الكوفي الأهوازي الذي أدرك الإمام الرضا والجواد والهادي عليهم السلام ، كما أكثر فيه من الرواية عن جعفر بن مالك البزاز الكوفي ( المتوفّى حدود 300 ه ) ، كما أكثر من الرواية عن عبيد بن كثير العامري الكوفي ( المتوفّى سنة 294 ه ) ، فالمؤلّف من أعيان الإمامية ، في أوائل القرن الرابع ، ويروي عنه والد الشيخ الصدوق علي بن الحسين ابن بابويه القمي ( المتوفّى سنة 329 ه ). طبع مرّتين ، المرّة الثانية طبعة محقّقة. (1)

25. محمد بن أوْرَمة : أبو جعفر القمي ، ترجمه النجاشي في رجاله ، وذكره الشيخ في باب من لم يرو عن الأئمّة عليهم السلام ، وذكر النجاشي له كتباً كثيرة منها : كتاب تفسير القرآن. (2)

26. علي بن إبراهيم بن هاشم الكوفي القمي : أُستاذ الكليني ، وكان في عصر أبي محمد العسكري وبقي حياً إلى سنة ( 307 ه ) ، وقد روى الصدوق في « عيون أخبار الرضا » ، عن حمزة بن محمد بن أحمد بن جعفر ، قال : أخبرنا علي بن إبراهيم بن هاشم سنة ( 307 ه ) ، وطبع تفسيره مرّات ، ولنا بحث ضاف حول تفسيره. قال النجاشي : ثقة في الحديث ، ثبت ، معتمد ، صحيح المذهب ، سمع فأكثر وصنّف كتباً ، وله كتاب التفسير. (3)

27. ابن بابويه : أبو الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، المتوفّى سنة تناثر النجوم ( 329 ه ) ، قال النجاشي : له كتب ، منها : كتاب التفسير ، ثمّ رواه عنه بواسطة أبي الحسن العباس ، بن عمر بن العباس وقال المجيز : أخذت أجازة علي بن الحسين بن بابويه لمّا قدم بغداد سنة (328) بجميع كتبه.

ص: 391


1- الذريعة : 4 / 298 برقم 1309.
2- رجال النجاشي : 2 / 211 برقم 892 ؛ رجال الطوسي : 502 برقم 112.
3- رجال النجاشي : 2 / 86 برقم 678 ؛ كليات في علم الرجال : 311 - 320.

وقال الشيخ في « الفهرست » : كان فقيهاً جليلاً ثقة ، وله كتب كثيرة ، ثمّ عدّ كتبه ، منها : كتاب التفسير ، وذكره في الرجال في باب من لم يرو عن الأئمّة ، وقال : روى عنه التلعكبري ، قال : سمعت منه في السنة التي تهافتت فيها الكواكب ، دخل بغداد فيها وذكر أنّ له منه إجازة بجميع مرويّاته. وذكره ابن النديم في الفهرست وهو والد الصدوق مؤلّف أحد الكتب الأربعة الفقهية المطبوعة. (1)

28. العياشي : أبو النضر محمد بن مسعود السمرقندي ، المؤلّف لما يزيد على مائتي كتاب في عدة فنون : الحديث ، الرجال ، التفسير ، النجوم ، وهو في طبقة مشايخ الكليني ، وشيخ الكشي.

قال النجاشي : ثقة ، عين من عيون هذه الطائفة ، وسمع من شيوخ الكوفيين والبغداديين والقميين ، أنفق تركة أبيه على العلم والحديث ، وكانت ثلاثمائة ألف دينار ، وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو مقابل أو قارئ أو معلّق ، مملوءة من الناس.

وقال الشيخ : جليل القدر ، واسع الأخبار ، بصير بالروايات ، مطّلع عليها. له كتب كثيرة تزيد على مائتي مصنّف ، ذكر فهرس كتبه أبو إسحاق النديم ، منها : كتاب التفسير ، وقد طبع جزءان من هذا التفسير ينتهي إلى سورة الكهف ، وقد جنى الناسخ على الكتاب وأسقط أسانيد الحديث. (2)

النعماني : أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب النعماني الراوي عن ثقة الإسلام الكليني ( المتوفّى سنة 329 ه ). قال الشيخ الحرّ العاملي : رأيت

ص: 392


1- رجال النجاشي : 2 / 9 برقم 681 ؛ فهرست الطوسي : 119 برقم 394 ؛ الرجال له أيضاً : 482 برقم 34 ؛ فهرست ابن النديم : 291.
2- رجال النجاشي : 2 / 247 برقم 945 ؛ فهرست الطوسي : 163.

قطعة من تفسيره (1) ولعلّ ما رآه هو رسالة المحكم والمتشابه المطبوع باسم السيد المرتضى ، وقد أدرجها القمي في أوّل تفسيره ، والسيد هاشم البحراني في تفسير البرهان ، ولأجل أنّه لم يتحقّق لنا أنّ له تفسيراً وراء هذا لم نذكر له رقماً خاصّاً.

29. ابن الوليد : محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد. قال النجاشي : شيخ القميين وفقيههم ومتقدّمهم ووجههم ثقة ثقة أي مسكون إليه ، له كتب منها : كتاب تفسير القرآن. وقال الشيخ : جليل القدر ، عارف بالرجال ، موثوق به ، له كتب منها : كتاب الجامع وكتاب التفسير ، وقال ابن النديم مثله. (2)

30. محمد بن أحمد بن إبراهيم الصابوني : مؤلّف تفسير « معاني القرآن » من قدماء أصحابنا ، وأعلام فقهائنا ممّن أدرك الغيبتين : الصغرى والكبرى. ذكر النجاشي فهرس كتبه وعدّ منها : التفسير ، كما عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام الهادي ، وهو أُستاذ جعفر بن محمد بن قولويه ( المتوفّى عام 369 ه ). (3)

31. أبو منصور الصرام : عرّفه الشيخ في فهرسته ، وقال : وكان رئيساً مقدّماً ، وله كتب كثيرة ، منها : كتاب في الأُصول سمّاه بيان الدين ، وقال : له كتاب تفسير القرآن كبير حسن ، ورأيت ابنه أبا القاسم ، وكان فقيهاً وسبطه أبا الحسن ، وكان من أهل العلم. (4)

32. الصدوق : محمد بن علي بن بابويه ، نزيل الري. قال النجاشي : شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان ، وكان ورد بغداد سنة ( 355 ه ) ، وسمع منه

ص: 393


1- الذريعة : 4 / 318 برقم 1342.
2- رجال النجاشي : 2 / 301 برقم 1043 ؛ فهرست ابن النديم : 327.
3- رجال النجاشي : 2 / 282 برقم 1023 ؛ تنقيح المقال : 3 / 65 برقم 10291.
4- تنقيح المقال : 3 / 36 ( فصل الكنى ).

شيوخ الطائفة وهوحدث السن ، ثمّ ذكر فهرس كتبه الكثيرة منها : كتاب مختصر تفسير القرآن.

وقال الشيخ : جليل القدر ، يكنّى أبا جعفر ، كان جليلاً حافظاً للأحاديث ، بصيراً بالرجال ، ناقداً للأخبار ، لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة علمه ، له نحو ثلاثمائة مصنّف ، وفهرس كتبه معروف(1)وقد توفّي عام ( 381 ه ).

هؤلاء اثنان وثلاثون شخصاً ، وكلّ واحد منهم كوكب في سماء التفسير والحديث ، وقد حافظوا بكتبهم على حديث رسول اللّه وأهل بيته المطهّرين ، ضربوا آباط الإبل لتحصيل الحديث ، وهاجروا من بلد إلى بلد وتشهد بذلك تراجمهم ، ولو أردنا أن نستقصي أسماء من كتب تفسيراً للقرآن من الشيعة في هذه القرون الأربعة لضاق بنا المجال وتجاوز الرقم المائة ومن أراد التوسّع فعليه الرجوع إلى المعاجم.

وأنت ترى أنّ النمط السائد على كتب هؤلاء ، هو التفسير بالأثر والرواية ، ولكنّ الذين جاءوا من بعدهم أحسّوا أنّ هناك نمطاً آخر من التفسير أكمل من النمط السابق ، وهو تفسير القرآن تفسيراً علمياً جامعاً ، والبحث عمّا يتعلّق بلفظ القرآن ومعناه ، فأدخلوا فيها علم القراءات ، وإقامة الحجج عليها ، وأسباب النزول ، والمغازي ، والقصص ، والحكايات ، والأبحاث الكلامية التي يستدلّ عليها المفسّر بالقرآن الكريم ، وإليك أسماء من أتى بعدهم وهم بين مقتفين لأثر السابقين ، ومبدعين نمطاً جديداً باسم التفسير العلمي.

ص: 394


1- رجال النجاشي : 2 / 221 برقم 1050 ؛ فهرست الطوسي : 184 برقم 709.
أعلام التفسير في القرن الخامس

لقد حل القرن الخامس ، في حين استفحل أمر الفرق الإسلامية ، وتشتّت المذاهب الكلامية فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد خصوصاً في أسمائه وصفاته ، وهم :

بين مشبّه لله سبحانه بمخلوقه « يثبت له يداً ورجلاً ووجهاً وحركةً » وانتقالاً كالإنسان ، ويكفر من ينكر ذلك ، ويباهي بعقيدته ، ويرفع عقيرته : بأنّا نثبت لله سبحانه ما أثبته لنفسه في الكتاب والسنّة ، وكأنّهم لم يسمعوا قوله سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) أو قوله عزّ من قائل : ( مَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) .

وبين معطّل في فهم الأسماء والصفات فيفوض معانيها إلى اللّه سبحانه ، ويرتدع عن تفسيرها على ضوء الكتاب والسنّة والعقل ، وكأنّ القرآن لم ينزل إلاّ للقراءة والكتابة ، لا للفهم والدراية ، وكأنّ الوحي لم ينقر أسماعهم ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) .

وبين مؤوّل للآيات حسب عقيدته وفكرته يُخضعون كلام اللّه لآرائهم ، وكأنّ النبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يحذّرهم عن تفسير القرآن بالرأي ولم يقل : « من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ».

ففي هذه الظروف القاسية قام علماء الشيعة بتفسير القرآن تفسيراً علمياً غير مائلين لا إلى اليمين ولا إلى الشمال ، غير عاضدين لهذه الفرق ، مقتفين أثر الكتاب العزيز ، مستلهمين من أثر الرسول ، ومتدبّرين في الآيات ، فألّفوا في هذا المجال موسوعات تفسيريّة لم تزل تشعّ منذ تكوّنها إلى يومنا هذا ، وإليك أسماءهم :

33. أبو الحسن الشريف الرضي : نقيب العلويّين ، محمّد بن الحسين بن

ص: 395

موسى المعروف بالسيد الرضي ، ولد عام ( 359 ه ) وتوفّي عام ( 406 ه ) ، وهو صاحب الأثر الخالد : نهج البلاغة ، الذي قام فيه بجمع خطب الإمام ورسائله وكلمه من هنا وهناك ، وله « حقائق التأويل في متشابه التنزيل » وهو تفسيره الكبير التي يعبّر عنه تارة « بحقائق التأويل » ، وأُخرى بالكتاب الكبير في متشابه القرآن ، وعبّر عنه النجاشي بحقائق التنزيل ، وصاحب عمدة الطالب بكتاب المتشابه في القرآن. ذكره ابن شهر آشوب في معالم العلماء ، وقال : يتعذّر وجود مثله. وقال النسابة العمري في المجدي : شاهدت له جزءاً مجلداً من تفسير منسوب إليه في القرآن ، مليح حسن ، يكون بالقياس في كبر تفسير أبي جعفر الطبري أو أكبر.

وقال ابن خلّكان : « يتعذّر وجود مثله ، دلّ على توسّعه في علم النحو ، واللغة ، وصنّف كتاباً في مجازات القرآن فجاء نادراً في بابه » ، وقد طبع منه الجزء الخامس ، أوّله تفسير قوله : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ... ) .

ونقل الخطيب في تاريخ بغداد عن شيخه أحمد بن محمد ( المتوفّى 445 ه ) أنّ الرضي صنّف حول معاني القرآن ما يتعذّر وجود مثله ، فيذكر الآيات المشكلة أو المتشابهة ، فيزيل إشكالها وغموضها ، وكتابه هذا غير مجازات القرآن المنتشرة.(1)

34. محمد بن محمد بن النعمان المفيد ( 336 - 413 ه ).

يقول النجاشي : شيخنا وأُستاذنا - رضي اللّه عنه -. فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم.

ص: 396


1- رجال النجاشي : 2 / 326؛ الذريعة : 7 / 32 برقم 260؛ وفيّات الأعيان : 4 / 416 ، تحقيق الدكتور احسان عباس ؛ الغدير : 4 / 198.

يقول الشيخ الطوسي - تلميذه الآخر - : « يكنّى أبا عبد اللّه المعروف بابن المعلم ، من جملة متكلّمي الإماميّة انتهت إليه رئاسة الإماميّة في وقته ، وكان مقدّماً في العلم وصناعة الكلام ، وكان فقيهاً متقدّماً فيه ، حسن الخاطر ، دقيق الفطنة ، حاضر الجواب ، توفّي لليلتين خلتا من شهر رمضان ، سنة ( 413 ه ) ، وكان يوم وفاته يوماً عظيماً لم ير أعظم منه ، من كثرة الناس للصلاة عليه ، وكثرة البكاء من المخالف والموافق ».

وقال ابن كثير : « توفّي في سنة ( 413 ه ) ، عالم الشيعة ، وإمام الرافضة ، صاحب التصانيف الكثيرة المعروف بالمفيد ، وبابن المعلم أيضاً ، البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة بالجلالة والعظمة في الدولة البهية البويهيّة ، وكان كثير الصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، خشن اللباس ، وكان عضد الدولة ربّما زار الشيخ المفيد ، وكان شيخاً ربعاً نحيفاً أسمر ، عاش ( 76 سنة ) ، وله أكثر من مائتي مصنّف ، وكان يوم وفاته مشهوداً وشيّعه ثمانون ألفاً من الرافضة والمعتزلة » ، وقد سرد تلميذه النجاشي أسماء كتبه وفيها ما يمسّ بالموضوع 1. كلام في دلائل القرآن ، 2. البيان في تأليف القرآن ، 3. النصرة في فضل القرآن ، 4. الكلام في حدوث القرآن ، 5. البيان عن غلط قطرب في القرآن ، 6. الردّ على الجبائي في التفسير ، ولأجل هذه الكتب الكثيرة حول القرآن فهو من أكبر المهتمين بالقرآن ، وكيف لا يكون ذلك وقد تربّى في مدرسته العلمان الكبيران المفسران : المرتضى والطوسي بل والشريف الرضي. (1)

ص: 397


1- رجال النجاشي : 2 / 327 برقم 1068؛ فهرست الطوسي : برقم 710؛ البداية والنهاية : 12 / 15 ؛ ولاحظ : تاريخ بغداد : 3 / 231 برقم 1299.

35. السيد المرتضى علم الهدى ، أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى.

يصفه النجاشي بقوله : حاز من العلوم ما لم يحزه أحد في زمانه ، وسمع من الحديث فأكثر ، كان متكلّماً شاعراً أديباً عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا ، وهو من المكثرين في التأليف حول القرآن ، أهمّها « الدرر والغرر » ، المطبوع عدّة مرّات.

ووصفه الشيخ في فهرسته بقوله : المرتضى متوحّد في علوم كثيرة ، مجمع على فضله ، مقدّم في العلوم ، مثل علم الكلام والفقه وأُصول الفقه ، والأدب والنحو والشعر ومعاني الشعر ، واللغة ، وغير ذلك ، له من التصانيف ومسائل البلدان شيء كثير مشتمل على ذلك فهرسه المعروف.

وقال في رجاله : انّه أكثر أهل زمانه أدباً وفضلاً ، متكلّم ، فقيه ، جامع العلوم كلّها ، مدّ اللّه في عمره. إلى غير ذلك من كلمات الثناء من مشايخ العامة والخاصّة التي يضيق بنا المجال لنقل معشارها ، وقد ترجمه كثير من أصحاب المعاجم. راجع لفهرسها كتاب الغدير. يقول الذهبي : « كتاب غرر الفوائد ودرر القلائد » كتاب يشتمل على محاضرات أو أمالي أملاها الشريف المرتضى في ثمانين مجلساً ، تشتمل على بحوث في التفسير والحديث ، والأدب ، وهو كتاب ممتع ، يدل على فضل كثير ، وتوسّع في الاطّلاع على العلوم ، وهو لا يحيط بتفسير القرآن كلّه ، بل ببعض من آياته التي يدور أغلبها حول العقيدة.

إنّ من الجناية على العلم وأهله رمي السيد المرتضى بأنّه يسعى في كتابه هذا للتوفيق بين آرائه الاعتزالية وآيات القرآن التي تتصادم معها ». وهذا ما يقوله الذهبي ، وهو شنشنة أعرفها من كلّ من لم يفرق بين مبادئ التشيّع والاعتزال ، فزعم أنّ اشتراكهما في بعض المبادئ كامتناع رؤية اللّه سبحانه ، وحريّة الإنسان في حياته ، وسعادته وشقائه ، بمعنى اتحادهما في جميع الأُصول والمبادئ ، ولم يقف على

ص: 398

أنّ المعتزلة في بعض آرائهم وعقائدهم عيال على خطب الإمام أمير المؤمنين وكلماته ، هذا والكتاب قد طبع مرّات محقّقة. (1)

36. محمد بن الحسن الطوسي ، أبو جعفر ، جليل من أصحابنا.

قال النجاشي : ثقة ، عين من تلامذة شيخنا أبي عبد اللّه.

وقال العلاّمة في الخلاصة : شيخ الإمامية ورئيس الطائفة ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، ثقة ، عين ، صدوق ، عارف بالأخبار والرجال والفقه والأُصول والكلام والأدب ، وجميع الفضائل تنتسب إليه ، صنّف في كلّ فنون الإسلام ، وهو المهذِّب للعقائد في الأُصول والفروع ، والجامع لكمالات النفس في العلم والعمل ، وكان تلميذ الشيخ المفيد ، ولد - قدّس اللّه روحه - في شهر رمضان سنة ( 385 ه ) ، وقدم العراق في شهور سنة ( 408 ه ) ، وتوفّى - رضي اللّه عنه - ليلة الاثنين ، الثاني والعشرين من المحرّم سنة ( 460 ه ) بالمشهد المقدّس الغروي ، ودفن بداره.

وقد ترجمه أصحاب المعاجم من العامّة والخاصّة ، وكفانا عن مؤونة البحث ، ما ألّفه حول حياته شيخ الباحثين شيخنا المجيز الطهراني الذي طبع في مقدمة كتاب التبيان ، وأمّا كتاب « التبيان » ، فيكفي فيه قول الطبرسي :

« إنّه الكتاب الذي يقتبس منه ضياء الحقّ ، ويلوح عليه رواء الصدق ، قد تضمن من المعاني ، الأسرار البديعة ، واحتضن من الألفاظ اللغة الوسيعة ، ولم يقنع بتدوينها دون تبيينها ، ولا بتنميقها دون تحقيقها ، وهو القدوة أستضيء بأنواره وأطأ

ص: 399


1- رجال النجاشي : 2 / 102 برقم 706 ؛ فهرست الطوسي : 99 ؛ الخلاصة : 46 ؛ التفسير والمفسّرون : 404. ولاحظ : رسالة الإسلام ، العدد الثاني ، من السنة الثانية عشرة ، مقالة الشيخ محمد جواد مغنية ، تحت عنوان : « الإمامية بين الأشاعرة والمعتزلة » تجد فيها حقّ المقال.

مواقع آثاره ». (1)

وأمّا منهجه في التفسير فيظهر من قوله في مقدمته. يقول « سمعت جماعة من أصحابنا قديماً وحديثاً يرغبون في كتاب مقتصد ، يجتمع على جميع فنون علم القرآن من القراءة ... والجواب عن مطاعن الملحدين فيه ، وأنواع المبطلين كالمجبّرة والمشبّهة والمجسّمة وغيرهم ، وذكر ما يختصّ أصحابنا به من الاستدلال بمواضع كثيرة منه على صحّة مذاهبهم في أُصول الديانات وفروعها ».

ثمّ إنّ كتاب التبيان تداولته العلماء ، وأخذوا في تحقيقه ، فمنهم من اختصره كابن إدريس الحلي ( المتوفّى عام 598 ه ) ، وأبي عبد اللّه محمد بن هارون ( المتوفّى عام 597 ه ) ، كما أرّخه الجزري في طبقات القرّاء ، وسيوافيك أسماؤهما في القرن السادس فانتظر.

37. أبو سعيد ، إسماعيل بن علي بن الحسين السمان ، المعاصر للسيد المرتضى والشيخ الطوسي ، حيث يروي عنه من يروي عنهما كإسماعيل وإسحاق ابني محمد بن الحسن بن الحسين بن علي بن موسى بن بابويه القمي. وذكره الشيخ منتجب الدين في فهرسته ، وقال : ثقة وأيّ ثقة ، حافظ ، له « البستان في تفسير القرآن » في عشر مجلّدات. (2)

أعلام التفسير في القرن السادس

38. محمّد بن علي الفتّال ، قال الشيخ منتجب الدين : الشيخ محمد بن علي

ص: 400


1- رجال النجاشي : 2 / 332 برقم 1069 ، الخلاصة : 148 ؛ مجمع البيان : 1 / 10. وراجع لسان الميزان : 5 / 135 برقم 452.
2- فهرست منتجب الدين : 8 برقم 8.

الفتّال النيسابوري صاحب التفسير ، ثقة وأيّ ثقة. أخبرنا جماعة من الثقات عنه بتفسيره. ويظهر منه أنّه غير الفتّال المعروف مؤلّف روضة الواعظين ، حيث عنونه أيضاً وقال : ... الشيخ الشهيد محمد بن أحمد الفارسي مصنّف « روضة الواعظين » (1) ، ولم يذكر له التفسير ، واحتمل المصحّح وحدتهما وأشار في التعليقة أنّه تقدّم ، ولكنّه خلاف الظاهر ، إذ لا وجه لعنوان شخص واحد مرّتين.

39. محمد بن الحسن الفتّال النيسابوري : له كتاب « التنوير في معاني التفسير » ، « روضة الواعظين وبصيرة المتعظين » (2) ويأتي هناك ما ذكرناه سابقاً من احتمال الوحدة ، وانّ هناك فتّالاً واحداً باسم محمد بن الحسن بن علي بن أحمد ، وقد أضافه ابن شهر آشوب إلى أبيه ، وقال : محمد بن الحسن ، وأضافه منتجب الدين إلى جدّه ، وقال « محمد بن علي » ، كما يحتمل تعدّدهما ، وعلى كلّ حال فقد قتل شيخنا الفتّال عبد الرزاق رئيس نيسابور ابن أخي الخواجة نظام الملك الطوسي. (3)

40. فضل بن الحسن بن الفضل المعروف بالطبرسي والمقام يضيق عن نقل معشار ما ذكروا في حقّه ، وهو من أكابر علماء الإماميّة في القرن السادس ، وتفسيره المسمّى ب « مجمع البيان » يقع في عشرة أجزاء طبع في إيران وبيروت ومصر ، ولد عام ( 471 ه ) ، وتوفّي عام ( 548 ه ) ، وقد ترجمه أصحاب المعاجم بأبلغ الألفاظ ، يقول الدكتور محمد موسى في مقالة حول « مجمع اليبان » :

- بعد نقل كلام الطبرسي في وصف كتابه - القارئ لهذا الكتاب ، والباحث الذي يلجأ إليه فيما يعاني من تفسير كتاب اللّه العظيم ومعضلاته ، والمتتبع لتطوّر

ص: 401


1- فهرست منتجب الدين : 166 برقم 395 ، وص 191 برقم 511.
2- معالم العلماء : 118 برقم 769.
3- شهداء الفضيلة : 38.

علم التفسير وما كتب فيه على مرّ القرون. كلّ من أُولئك يتبيّن كيف وفِّق المؤلّف رضوان اللّه عليه للوفاء بكلّ ما قال في المقدّمة من علوم القرآن المتعدّدة ، وإلى أيّ مدى عال مرموق بلغ من ذلك كلّه ، وبأيّ أُسلوب بليغ عالي المنزلة عالج النواحي التي عالجها ، وبأيّ أمانة وصدر رحب نقل ما نقل من آراء مخالفيه في الرأي أو المذهب ، على ندرة هذه الخطة الأخيرة بين غير قليل من العلماء الذين يتصدون للتأليف في العلوم والفنون التي يكثر فيها الاختلاف ، ويشتدّ ، كما ترى بوضوح في كثير من المؤلّفات في علم الكلام ، وعلم الفقه.(1)

يقول الطبرسي في مقدمة مجمع البيان : ابتدأت بتأليف كتاب هو في غاية التلخيص والتهذيب وحسن النظم والترتيب ، يجمع أنواع هذا العلم وفنونه ، ويحوي فصوصه وعيونه ، من علم قراءاته وإعرابه ، ولغاته وغوامضه ومشكلاته ، ومعانيه وجهاته ، ونزوله وأخباره ، وقصصه وآثاره ، وحدوده وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، والكلام على مطاعن المبطلين ، وذكر ما ينفرد به أصحابنا - رضي اللّه عنهم - من الاستدلالات بمواضع كثيرة منه على صحّة ما يعتقدونه من الأُصول والفروع والمعقول والمسموع على وجه الاعتدال والاختصار ، فوق الإيجاز ودون الإكثار - إلى أن يقول : - إنّي قد جمعت في عربيته كلّ غرّة لائحة ، وفي إعرابه كلّ حجّة واضحة ، وفي معانيه كلّ قول متين ، وفي مشكلاته كلّ برهان مبين ، وهو بحمد اللّه للأديب عمدة ، وللنحوي عدّة ، وللمقرئ بصيرة ، وللناسك ذخيرة ، وللمتكلّم حجّة ، وللمحدّث محجّة ، وللفقيه دلالة ، وللواعظ آلة ... .

ص: 402


1- الدكتور محمد يوسف موسى الأُستاذ بكلية أُصول الدين في القاهرة مجلة رسالة الإسلام ، العدد الأوّل من السنة الثانية ص 68.

والشيخ الذهبي مؤلّف « التفسير والمفسّرون » مع عناده ولجاجه لعلماء الشيعة لم يستطع أن ينكر ما للطبرسي في كتابه « مجمع البيان » من مقدرة كبيرة في مجال التفسير. يقول : « والحقّ أنّ تفسير الطبرسي - بصرف النظر عمّا فيه من نزعات تشيّعيّة ، وآراء اعتزالية - ، كتاب عظيم في بابه ، يدلّ على تبحّر صاحبه في فنون مختلفة من العلم والمعرفة ، والكتاب يجري على الطريقة التي أوضحها لنا صاحبه في تناسق تام وترتيب جميل ، وهو يجيد في كلّ ناحية من النواحي التي يتكلّم عنها ، فإذا تكلّم عن القراءات ووجوهها أجاد ، وإذا تكلّم عن المعاني اللغوية للمفردات أجاد ، وإذا تكلّم عن أسباب النزول وشرح القصص استوفى الأقوال وأفاض ، وإذا تكلّم عن الأحكام تعرّض لمذاهب الفقهاء وجهر بمذهبه ونصره إن كانت هناك مخالفة منه للفقهاء ، وإذا ربط بين الآيات آخى بين الجمل ، وأوضح لنا عن حسن السبك وجمال النظم ، وإذا عرض لمشكلات القرآن أذهب الإشكال وأراح البال ، وهو ينقل أقوال من تقدّمه من المفسّرين معزوّة لأصحابها ، ويرجّح ويوجّه ما يختار منها - إلى أن قال - : والحقّ أن يقال : إنّه ليس مغالياً في تشيّعه ولا متطرّفاً في عقيدته ». (1)

ثمّ إنّ الذهبي يقول :

« وإذا كان لنا بعض المآخذ عليه ، هو تشيّعه لمذهبه وانتصاره له ، وحمله لكتاب اللّه على ما يتّفق وعقيدته ، وتنزيله لآيات الأحكام على ما يتناسب مع الاجتهادات ... ».

يلاحظ عليه : أنّه لو صحّت تلك الموآخذه فلا تختصّ بالطبرسي ومجمعه ،

ص: 403


1- التفسير والمفسّرون : 2 / 104.

بل يعمّ كلّ من ورد في مجال التفسير وكتب تفسيراً علمياً ، فانّ كلّ مفسّر يتشيّع لمذهبه وينتصر له ، فالحنابلة والسلفيّون الذين يصرّون على إمكان رؤية اللّه سبحانه يوم القيامة ويسعون لأن يثبتوا له سبحانه أعضاء كأعضاء الإنسان ، متدرّعين بلفظ « بلا كيف » ، ينتصرون لمذهبهم ويتشيّعون له ، ولكنّهم في نظر الذهبي موضوعيون واقعيّون ! وأمّا من حاول تنزيه اللّه سبحانه عن الرؤية والأعضاء البشرية فهو عنده طائفي متعصّب لمذهبه ! وممّا جعله الذهبي دليلاً لتعصّبه ، أنّه يصرّ على عدم رؤية اللّه تبارك وتعالى ، ويستدلّ على مذهبه بما يدلّ عليه. ولو كان ذلك دليلاً على تعصّبه لمذهبه ، فليكن ذلك دليلاً على تعصّب مفسّري أهل السنّة من أهل الحديث والأشاعرة كالرازي والآلوسي ، حيث يصرّون على إمكان رؤيته ، ويستدلّون بما ظاهره إمكان رؤيته. فلماذا ، « باؤك » تجرّ و « بائي » لا تجرّ ؟!

ثمّ إنّ لشيخنا الطبرسي تفاسير أُخرى منها « جوامع الجامع » الذي لخّص فيه كتاب الكشّاف وضمّن فيه نكات كتابه « مجمع البيان » ، وهو تفسير بديع في بابه ، طبع عدّة مرّات.

إنّ الشيخ الطبرسي بعد أن ألّف « مجمع البيان » ، اطّلع على الكشاف ، فأراد أن يجمع بين فوائد الكتابين على وجه الاختصار ، فألّف ذلك الكتاب المعروف ب « جوامع الجامع » ، وقد ذكروا في ترجمته تفسيراً آخر له باسم الوسيط في أربعة مجلّدات ، والظاهر أنّه هو ذلك الكتاب ، وله تفسير آخر باسم الوجيز ، فكأنّه ألّف تفاسير بألوان ثلاثة على وجه التبسيط وهو مجمع البيان ، وعلى وجه الإيجاز والاختصار وهو « الوجيز » ، وعلى نمط بين التبسيط والإيجاز وهو « جوامع الجامع » ، وقد فرغ من الكتاب « مجمع البيان » عام ( 536 ه ) ، وفرغ من الجزء الأوّل من عشرة أجزاء عام ( 530 ه ) ، وكأنّه استغرق تأليف مجمع البيان سبع سنوات ، وقد

ص: 404

قام بهذا الجهد البليغ ، وقد ذرف على الستين.

41. ضياء الدين ، أبو الرضا فضل اللّه بن علي الراوندي الحسني ، وهو مؤلّف الكافي في التفسير ، صرّح به العلاّمة في إجازته لبني زهرة والمؤلّف شيخ منتجب الدين الرازي ، ( المتوفّى سنة 600 ه ) ، وشيخ ابن شهر آشوب ، ( المتوفّى عام 588 ه ) ، وكان المؤلّف ( حيّاً عام 548 ه ).

قال الرازي : « علاّمة زمانه ، جمع مع علو النسب كمال الفضل والحسب ، وكان أُستاذ أئمّة عصره » ، ثمّ ذكر تصانيفه ، منها التفسير ، قال : شاهدته وقرأت بعضها عليه. (1).

42. جمال الدين ، أبو الفتوح الحسين بن علي الخزاعي ، النيسابوري ، الرازي. شيخ منتجب الدين ، وابن شهر آشوب ، وقد تعرّفت على سنة وفاتهما ، والمدفون في جوار سيدنا عبد العظيم الحسني ، له تفسيران أحدهما : عربي أشار إليه في مفتتح تفسيره الفارسي ، والآخر : فارسي في عشرة أجزاء كبار ، وهو المتداول الموسوم ب « روض الجنان » ، طبع مرّتين مرّة عام ( 1323 ه ) ، وثانياً عام ( 1370 ه ) بتصحيح العارف الشيخ مهدي الإلهي القمشئي ، في عشرة أجزاء ، وقد طبعت ترجمة المؤلّف في الطبعة الأُولى بقلم الكاتب الأديب محمد القزويني ، والتفسير مشحون بالأبحاث الأدبية ، وما يرجع إلى القراءة وحجّتها ، وأسباب النزول ، والاحتجاج على المذهب المختار ، ولعلّ المؤلّف توفّي عام ( 550 ه ) (2) ، وربّما

ص: 405


1- العلاّمة الحلي : الإجازة الكبيرة لبني زهرة. لاحظ البحار : 104 / 1. ويروي عنه بواسطة أبيه عن السيد صفي الدين ، عنه ؛ فهرست منتجب الدين : 144.
2- وقد أجاز لبعض تلامذته عام ( 547 ه ). لاحظ مقدمة المحدّث الأرموي لجلاء الأذهان : ص (ل).

يقال : إنّ الرازي وضع تفسيره على منوال هذا التفسير(1)والمؤلّفان رازيّان غير أنّ الفخر متأخّر عنه قليلاً.

43. رشيد الدين ، أبو علي محمد بن علي بن شهر آشوب السروي ، ( المتوفّى عام 588 ه ) عن مائة سنة إلاّ أربعة أشهر ، له كتاب في التفسير عبّر عنه في كتابه « معالم العلماء » ب « متشابه القرآن » ، وهو كتاب نفيس منبئ عن طول باعه. يقول في مقدمة الكتاب : سألتم - وفّقكم اللّه للخيرات - املأ كتاب في بيان المشكلات من الآيات المتشابهات ، وما اختلف العلماء فيه من حكم الآيات ، ولعمري أنّ لهذا التحقيق بحراً عميقاً فأسأل اللّه المعونة على إتمامه ، وأن يوفّقني لإتمام ما شرعت فيه من كتاب أسباب نزول القرآن ، فانّ بانضمامهما يحصل جلّ علوم التفسير.(2)

وقد طبع الكتاب في طهران سنة ( 1370 ه ) ، وأمّا الكتاب الآخر الذي أشار إليه ، فلم نقف على نسخته ، وقد ترجم المؤلّف لفيف من أعلام الطائفة وغيرهم من أهل السنّة.

44. قطب الدين ، سعيد بن هبة اللّه بن حسن الراوندي ، ( المتوفّى سنة 573 ) ، المدفون بقم ، في صحن السيدة معصومة سلام اللّه عليها ، له « فقه القرآن

ص: 406


1- القائل هو الشيخ محمد علي السهوري في كتابه « عدّة الخلف في عدّة السلف » يقول : وترجمان الذكر ذو الاعزاز *** آس الهدى أبو الفتوح الرازي فخر المشككين شيخ القالة *** للأخذ من أفضاله أفضي قد سرق الحقّ له لغير حقّ *** له نعم ومن قبل له أخ سرق
2- مقدمة تأويل متشابهات القرآن ؛ معالم العلماء : 119 برقم 791.

في بيان آيات الأحكام » ، وربما يسمّى بأُمّ القرآن ، والكتاب مرتّب على ترتيب كتب الفقه ، ابتدأ فيه بكتاب الطهارة ، ثمّ الصلاة ، وهكذا إلى كتاب الديات ، فرغ منه سنة ( 563 ه ) ، وله أسباب النزول ، وهو من مصادر كتاب « بحار الأنوار » ، صرّح به العلاّمة المجلسي وينقل عنه فيه. (1)

45. أبو عبد اللّه محمد بن هارون ، المعروف والده بالكال أو الكيّال ، ولد عام ( 515 ه ) ، وتوفّي عام ( 597 ه ) ، ترجمه الجزري ( المتوفّى سنة 833 ه ) ، في طبقات القرّاء ، وترجمه ابن العماد في « شذرات الذهب » ، كما ترجمه الشيخ الحرّ العاملي في أمل الآمل. ومن تصانيفه « مختصر التبيان في تفسير القرآن » ، وكتاب « متشابه القرآن ». (2)

46. الشيخ أبو جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي : مؤلّف السرائر في الفقه ، الطائر الصيت ، ( المتوفّى عام 598 ه ) له مختصر التبيان ، طبع في جزءين ، وقد فرغ منه عام ( 582 ه ) ، ونسخه متوفرة. عسى أن يبعث اللّه بعض ذوي الهمم العالية لنشره.

47. برهان الدين محمد بن أبي الخير ، علي بن أبي سليمان ، ظفر الحمداني ، مؤلّف « مفتاح التفسير » و « دلائل القرآن » ، ترجمه منتجب الدين في فهرسته ، وقال : عالم مفسّر ، صالح واعظ ، كما ترجم ولده محمد بن برهان الدين أيضاً ، ولكن بقي ولده إلى المائة السابعة ، فانّه كتب بخطه نسخة فهرست الشيخ منتجب الدين في ( 613 ه ) ، كما ذكره الشيخ الشهيد الأوّل في آخر نسخته التي استنسخها عن تلك

ص: 407


1- روضات الجنات : 4 / 6 ؛ بحار الأنوار : 1 / 12.
2- شذرات الذهب : 4 / 333 ؛ أمل الآمل : 2 / 311 برقم 947. لاحظ الذريعة : 4 / 245 برقم 1190.

النسخة. (1)

هذه عشرة كاملة من أعيان القرن السادس اكتفينا بهم وطوينا الكلام عن غيرهم ، وما هذا إلاّ لأنّ الغاية هي إراءة نماذج من مشاهير المفسّرين من الشيعة في كلّ قرن.

أعلام التفسير في القرن السابع والثامن

كانت نهاية القرن السادس ومجموع القرن السابع والثامن عصر البؤس والدمار وبالتالي شرّ القرون وأسوأها بالنسبة إلى المسلمين ، فقد حلّت فيها بالمسلمين فجائع ونكبات لم يسجّل التاريخ لواحد من الأُمم مثلها ، فبينما كانت الحروب الصليبية لا تزال طاحنة ومشتعلة في أواخر القرن السادس ينتصر فيها المسلمون على العدو الصليبي في فترة بعد فترة ، إذ بدأت الحملات الأُخرى من جانب الشرق على يد التتار والمغول ، فكان مختتم الحروب الصليبية مبدأ للحروب الوثنية على يد عبدة الشمس والكواكب ، وكان هذا يعكس اتّفاق الصليب والصنم وبالتالي الصليبين والوثنيين على تدمير الحضارة الإسلامية.

وفي سنة ( 616 ه ) قصد چنگيزخان البلاد الإسلامية ودمّرها هو وأولاده وأحفاده ، عصراً بعد عصر ، وقد هجم هولاكو على مركز الخلافة العباسي ، بغداد عام ( 656 ه ) ، ففتحوا البلد ، وقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والكهول والشبّان ، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحوش وقنى الوسخ ، فبلغ عدد القتلى في نفس بغداد فضلاً عن ضواحيها 000 ، 800 قتيل.

ص: 408


1- فهرست منتجب الدين : 161 ؛ الذريعة : 8 / 252 برقم 1038 و 21 / 323 برقم 5287.

وقد ارتكب مثل ذلك في خراسان والري وهمدان وبلد الجبل ثمّ آذربيجان إلى كثير من الأقطار والأصقاع ، ولم يتوقّف هجومهم على فتح بغداد حتى وصل جيش العدو إلى عين جالوت وغزة في فلسطين ، وكانت الأُمنية الكبرى للعدو هو الاستيلاء على الشامات ثمّ مصر ، والزحف وإن توقّف بتدبير الملك الظاهر بيبرس ، ولكنّ العدو بقى يهاجم الشام بين الحين والآخر ، وهذا هو اليافعي يقول في تاريخه في حوادث سنة ( 702 ه ) :

« طرق غازان بالشام ولكن انهزم عند سور دمشق وتفرّقت جيوشه ، ثمّ جهّز غازان جيوشه فساروا إلى مرج دمشق وتأخّر المسلمون وبات أهل دمشق في بكاء واستغاثة باللّه وخطب شديد وقدم السلطان وانضمت إليه جيوشه ». (1)

وقد امتدّ الدمار إلى أواخر القرن الثامن ، وقد أدّى ذلك إلى مجزرة للمسلمين عامّة والعلماء من بينهم خاصة ، فأُحرقت مكتباتهم ، ودمّرت آثارهم في ذينك القرنين ، حيث ابتدأت الحروب التترية عام ( 616 ه ) ، وانتهت عام ( 807 ه ) بموت تيمور لنگ الذي تظاهر هو بالإسلام وبعض من قبله ، ولكن لم تزل القلوب مضطربة باستيلاء هؤلاء على المناطق الإسلامية.

وعلى ضوء هذا التحليل الإجمالي للوضع المأساوي في ذينك القرنين لا عجب من قلّة العثور على أعلام التفسير فيهما أو قلّة العناية به جرّاء القلاقل ، حيث إنّ التأليف والتصنيف يتوقّف على توفّر الأمن والهدوء ، فلا عتب علينا إذا لم نقف إلاّ على فئة قليلة من أعلام التفسير في هذين القرنين ، ولعلّ الداثر أكثر من الباقي.

هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى لما استقرت السلطة التترية في المناطق

ص: 409


1- مرآة الجنان : 4 / 264 - 235.

المحتلّة وضربت بجرانها في البلاد الإسلامية أخذت تحرّك دفّة العلم باتجاه العلوم الطبيعية والرياضية وأخيراً العقلية ، فصار الغور في هذه الموضوعات ، الشغل الشاغل لأكثر العلماء المتواجدين في المناطق الشرقية من العالم الإسلامي ، ولأجل ذلك أنجبت المدارس العلمية في ذينك القرنين ( السابع والثامن ) ، بل والقرن الذي يليهما مئات الكتب حول النجوم والفلكيّات والرياضيات ، وصارت المسائل الكلاميّة مدار التفكير ، فمن مختصرات إلى مطوّلات ، ومن متون إلى شروح ، نرى أعيانها في المكتبات والمتاحف أو نقرأ أسماءها في مختلف المعاجم ، وصار ذلك هو السبب الثاني لقلّة التأليف حول التفسير إلى أواخر القرن العاشر ، ومع ذلك فنأتي بأسماء أعلام التفسير في هذه القرون :

48. رضي الدين علي بن موسى بن طاووس الحسني الحلّي ، المولود بالحلّة في (15) محرم من سنة ( 589 ه ). أقام ببغداد زمن العباسيين خمسة عشر سنة ، ثمّ رجع إلى الحلّة ، ثمّ جاور النجف ، ثمّ رجع إلى بغداد في أوّل عصر المغول ، وتولّى النقابة من قبل نصير الدين الطوسي عن هولاكو ثلاث سنين وأحد عشر شهراً. قال ابن الفوطي في « الحوادث الجامعة » أنَّه وليّ النقابة للطالبيين بالعراق سنة ( 661 ه ) وتوفّي سنة ( 664 ه ).

له مشايخ وتلاميذ كثيرون ، كما أنّ له تآليف قيّمة ، ومنها « سعد السعود في تاريخ القرآن ». (1)

49. السيد جمال الدين ، أحمد بن موسى بن طاووس الحسني الحلي ، من مشايخ العلاّمة الحلّي وتقي الدين الحسن بن داود صاحب الرجال ، له مؤلّفات كثيرة ، ذكرها تلميذه ابن داود في رجاله ، تبلغ إلى اثنين وثمانين مجلداً ، له خطوات

ص: 410


1- الحوادث الجامعة : 107 ؛ الأنوار الساطعة : 117.

مشكورة في تحقيق الرجال والدراية والتفسير ، وله شواهد القرآن ، توفي عام ( 673 ه ) ، بعد أخيه رضي الدين بتسع سنين.(1)

50. بهاء الدين يوسف بن أبي الحسن بن أبي القاسم الديلمي الجيلاني ، المعاصر لمحمد بن صالح بن مرتضى التيهاني الذي توفّي عام ( 675 ه ) ، له تفسير ذكره القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال اليمني ( المتوفّى بصنعاء عام 1092 ه ) في كتابه « مطلع البدور » ، وحكاه شيخنا المجيز في « الذريعة » ، وهو جد أبي الفضل الديلمي صاحب التفسير الذي هو من علماء القرن الثامن كما سيوافيك.(2)

51. مؤلّف نهج البيان عن كشف معاني القرآن ، والمؤلّف من أعيان القرن السابع ، ألّفه لخزانة المستنصر العباسي سنة ( 640 ه ) ، وذكر شيخنا المجيز مستهلّ الكتاب وهو الحمد لله ذي العزّة والجلال والقدرة والحكمة ... ، ثمّ ذكر الصلوات على خاتم الأنبياء وعلى ابن عمّه أمير المؤمنين وولديه السيدين الإمامين الحسن والحسين ، وينقل فيه عن الشيخ المفيد وعن « تبيان » الشيخ الطوسي ، ويوجد نسخ منه في العراق.(3)

52. عبد الرشيد بن الحسين بن محمد الاسترآبادي مؤلّف تأويل الآيات ، التي يتعلّق بها أهل الضلال ، ينقل عنه السيد رضي الدين علي بن طاووس ، المتوفّى سنة ( 664 ه ) ، في كتابه : « سعد السعود » في تفسير لفظ « يس » ولعلّ المؤلّف من أعيان أوائل القرن السابع.(4).

ص: 411


1- فهرست منتجب الدين : 161 ؛ الذريعة : 8 / 252 برقم 1038 و 21 / 323 برقم 5287.
2- مطلع البدور كما في الذريعة : 4 / 322.
3- الذريعة : 24 / 414.
4- الذريعة : 4 / 303 برقم 1128.

53. عبد الرزاق بن أحمد الكاشي ، العارف ، الحكيم ، المعاصر للعلاّمة الحلّي ، له « السراج الوهّاج في تفسير القرآن » و « تأويلات القرآن » ، وقد سرد تآليفه شيخنا في طبقات أعلام الشيعة. (1)

54. العلاّمة الحلّي ، جمال الدين حسن بن يوسف بن مطهر ، المولود عام ( 648 ه ) ، والمتوفّى عام ( 726 ه ) ، وهو آية من آيات اللّه الكبرى المشتهر بالعلاّمة على الإطلاق ، وهو أظهر من أن يعرف وأشهر من أن يذكر ، وله جهود كبرى وخطوات واضحة في العلوم الإسلامية ، وله في مجال التفسير تأليفات ثلاثة :

1. « السر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز » ، كما ذكره في فهرس كتبه في كتابه « خلاصة الأقوال في علم الرجال ».

2. « نهج الإيمان في تفسير القرآن » لخّص فيه « الكشّاف » و « التبيان » و « مجمع البيان ».

3. « تلخيص الكشاف » حكى شيخنا المجيز في الذريعة أنّه رآه بعض المطّلعين عند بعض علماء العامّة ببغداد ، ولكن يحتمل اتحاد الثالث مع الثاني. (2)

55. قطب الدين ، محمد بن محمد الرازي البويهي ، ( المتوفّى سنة 766 ه ) ، تلميذ العلاّمة الحلّي ، وأُستاذ الشهيد الأوّل ( المتوفّى عام 786 ) ، له تفسيران :

1. « تحفة الأشراف » ، وهو تفسير كبير أبسط من تفسيره الآخر ، يوجد مجلّدان منه في المكتبة الخديوية بمصر من أوّله إلى آخر سورة طه ، وهو كالحاشية على الكشّاف.

ص: 412


1- الحقائق الراهنة في أعيان المائة الثامنة : 112 ؛ الذريعة : 3 / 303.
2- خلاصة الأقوال : 46 ، ط النجف ؛ الذريعة : 12 / 170 برقم 1138 و 24 / 412 برقم 217 و 4 / 425 برقم 1873.

2. « بحر الأصداف » ، يوجد منه نسخة في العراق في مكتبة الجوادين بالكاظمية ، فرغ منه المؤلّف سنة ( 733 ه ).

56. ركن الدين حيدر بن علي بن حيدر الحسيني الآملي له المحيط الأعظم في تأويل كتاب اللّه العزيز المحكم ، فرغ من إتمامه سنة ( 777 ه ) ، وهي موجودة في الخزانة الغروية ، قد ذكر شيخنا المجيز الطهراني ثلاثة تفاسير أُخرى له وهي : « التأويلات » و « جامع الأسرار » و « منتخب التأويل ». (1)

57. جمال الدين أحمد بن متوّج البحراني ، مؤلّف « منهاج الهداية في تفسير آيات الأحكام الخمسمائة » يقول الشيخ سليمان بن عبد اللّه الماحوزي في رسالته في أحوال علماء البحرين : انّ الشيخ جمال الدين كان شيخ الإمامية في وقته ، وكان من أعظم تلاميذ فخر المحقّقين ، ( المتوفّى عام 771 ه ) ، واتّفق اجتماعه مع الشهيد الأوّل بمكّة ، فلمّا تناظرا غلب عليه الشهيد ، وقد توفّي الشهيد عام ( 786 ه ) ، فالرجل من أعيان القرن الثامن وإن أدرك قليلاً من أوائل القرن التاسع ، وينقل عنه الفاضل المقداد ، ( المتوفّى عام 828 ه ) في كنز العرفان ، والنسخة موجودة في العراق ، كما حكاه شيخنا المجيز في الذريعة. (2)

58. الشيخ فخر الدين أحمد بن متوّج ، مؤلّف « النهاية في تفسير الخمسمائة آية » ، وهو أيضاً تلميذ فخر المحقّقين الذي توفّي عام ( 771 ه ) ، وشيخ أبي العباس أحمد بن فهد الحلّي ، ( المتوفّى عام 841 ه ) ، وهو أيضاً من المكثرين ، له

ص: 413


1- الذريعة : 20 / 161 برقم 2396 ؛ الحقائق الراهنة له أيضاً : 69.
2- الذريعة : 23 / 108 برقم 8558 و 4 / 246 برقم 1192 ولاحظ : طبقات أعلام الشيعة في المائة الثامنة : 8.

تفسيران : كبير مطوّل وصغير مختصر ، وله أيضاً كتاب الناسخ والمنسوخ (1) وهو أيضاً من أعيان القرن الثامن وإن أدرك أوائل القرن التاسع ، ولأجل ذلك ذكرناه في مشاهير المفسرين في القرن الثامن.

59. أبو الفضل ، نجل الفقيه العالم بهاء الدين يوسف بن أبي الحسن الديلمي الجيلاني الذي مرّ عند ذكر مشاهير المفسّرين في القرن السابع ، وقد ذكره القاضي أحمد بن صالح اليمني ، المتوفّى بصنعاء عام (1092) في حرف الفاء من كتابه « مطلع البدور » بعنوان المشهورين بأبي الفضل من علماء العراق ، وذكر من تصانيفه تفسير القرآن ودلائل التوحيد في الكلام ، وذكر شيخنا المجيز أنّ تفسيره كبير في مجلدين ضخمين على كيفية خاصّة ، ثمّ ذكر كيفيته ، ونسخته موجودة في النجف الأشرف ، ويكثر النقل عن احتجاج الطبرسي وتفسير الشيخ الطبرسي والكشّاف وغيرها. (2)

60. فضل اللّه بن عماد الدولة ، أبو الخير ، هو الوزير العالم ، مربي العلماء رشيد الدين فضل اللّه الهمداني الشهيد في ربيع الأوّل عام ( 718 ه ). كان عالماً مهر في العلوم الطبيعية والفلسفة والرياضيات ، تلمّذ في العلوم على رضي الدين الطوسي مع زميله ابن الفوطي ، ترجم له ابن كثير في البداية والنهاية ، وتعصّب عليه كما هو ديدنه ضدّ الشيعة ، وقال : إنّه فسّر القرآن على طريقة الفلاسفة ، فنسب إلى الإلحاد ، ومن تآليفه مفتاح التفاسير ، وقيل : إنّه قرّظه مائة رجل من العلماء وله « جامع التواريخ » في ثلاثة أجزاء ، ومن آثاره « الربع الرشيدي » بتبريز. (3)

ص: 414


1- روضات الجنات : 1 / 68 ؛ الذريعة : 4 / 246 برقم 1191. ولاحظ أيضاً : الضياء اللامع في القرن التاسع : 5.
2- الذريعة : 4 / 256 برقم 1213.
3- الحقائق الراهنة في أعيان المائة الثامنة : 160.

61. كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم المعروف بابن العتايقي الحلّيّ ، صاحب التصانيف ، الموجود بعضها بخطّه في الخزانة الغروية منها « صفوة الصفوة » ، الذي فرغ منه سنة ( 787 ه ). له « الناسخ والمنسوخ » ونسخه متوفّرة في النجف ويعبّر عن العلاّمة الحلّي في كتابه « الإيضاح » ب « شيخنا المصنّف » ، فالرجل من أعيان أواخر القرن الثامن ، بسط شيخنا المجيز الكلام في ترجمته. (1)

أعلام التفسير في القرن التاسع

62. أبو عبد اللّه مقداد بن جلال الدين عبد اللّه السيوري الحلّي ، تلميذ الشهيد الأوّل وشارح الباب الحادي عشر ، ( المتوفّى عام 826 ه ) ، رتّبه على مقدمة وكتب بترتيب كتب الفقه ، وخاتمة ، وقد طبع عدّة مرّات ، منها ما طبع مستقلاً سنة ( 1313 ه ) ، وله تفسير « مغمضات القرآن » ، وقد رآه شيخنا المجيز في كربلاء المقدسة. (2)

63. طيفور بن سراج الدين جنيد ، المفسّر الجليل له تفسير القرآن بالحديث والرواية ، حكى شيخنا المجيز أنّه رآى تفسيره الكبير ، وقد فرغ منه يوم الغدير سنة ( 876 ه ). (3)

64. كمال الدين الحسن بن محمد بن الحسن الاسترآبادي النجفي ، شارح الفصول النصيريّة ، له آيات الأحكام المستخرج من كتاب عيون التفاسير الذي فرغ من مجلّده الأوّل ، سنة ( 891 ه ) ، وأسماه « معارج السؤول ومدارج المأمول » في

ص: 415


1- الحقائق الراهنة في أعيان المائة الثامنة : 109 - 112 ؛ الذريعة : 21 / 323 برقم 5286.
2- روضات الجنات : 7 / 170. ولاحظ الذريعة : 4 / 315.
3- الذريعة : 4 / 280 برقم 1286.

تفسير آيات الأحكام ، واشتهر بكتاب اللباب وهو أبسط من كنز العرفان للفاضل المقداد. يقول في أوّله : إنّه لمّا منّ اللّه عليه بتأليف عيون التفاسير ، استخرج منه تفسير آيات الأحكام على نهج ما ألّفه شيخه المقداد ، فهو ذو تأليفين في التفسير أحدهما : يعم جميع القرآن ، والآخر : يختصّ بآيات الأحكام ، وهو من تلاميذ الفاضل المقداد ، ومن الكتاب نسخة في المكتبة الرضوية وغيرها. (1)

أعلام التفسير في القرن العاشر

65. حسين بن علي الواعظ الكاشفي مؤلّف « جواهر التفسير لتحفة الأمير » ألّفه باسم الوزير الأمير نظام الدين علي شير ، قدّم فيه أربعة أُصول فيها اثنان وعشرون عنواناً من الفنون المتعلّقة بتفسير القرآن وفضله وأنواعه ، ثمّ شرع التفسير من سورة الفاتحة ، وله تفسير آخر أسماه ب « المواهب العليّة » ، وقد توفّي عام ( 910 ه ). (2)

66. كمال الدين الحسين بن شرف الدين ، عبد الحقّ الأردبيلي ، المعروف بالإلهي ، توفّي عام ( 950 ه ) ، وعبّر في كشف الظنون عنه بتفسير الأردبيلي ، وفي رياض العلماء أنّ هذا التفسير كبير لتمام القرآن الشريف ، وهو في مجلدين. (3)

67. عبد العلي ابن نظام الدين محمد بن الحسين البيرجندي ، ( المتوفّى عام 922 ه ) ، له شرح تحرير المجسطي وجاء في خطبته : مسلماً على الأئمّة المنتجبين

ص: 416


1- الضياء اللامع : 41.
2- إحياء الداثر : 69 ، الذريعة : 5 / 265 برقم 1268.
3- كشف الظنون : مادة التفسير ؛ رياض العلماء : 2 / 98 ، الذريعة : 4 / 261 برقم 1222.

المكرمين المتشرقين بتشريف ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ) و ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) له « شرح الدر النظيم في خواص القرآن العظيم » ألّفه سنة ( 901 ه ) ، وقد أتمّ بعض كتبه سنة ( 932 ه ).(1)

68. علم النجفي ابن سيف بن منصور الحلّي ، صاحب كنز الفوائد المنتخب من كتاب « تأويل الآيات الباهرة » انتخبه منه سنة ( 937 ه ) في المشهد الغروي.(2)

69. محمّد خواجه كي ، شيخ ابن أحمد الشيرازي ، مؤلّف شرح باب حادي عشر ، ألّفه سنة ( 952 ه ) ، له مختصر مجمع البيان.(3)

70. أبو المحاسن ، الحسين بن الحسن ، يعرّفه عبد اللّه الأفندي بقوله : فاضل عالم متكلّم محدث مفسّر. كان من مشاهير الإمامية ، ومن مؤلّفاته كتاب « جلاء الأذهان في تفسير القرآن » وهو تفسير حسن كثير الفوائد.(4)

أقول : قد طبع الكتاب في عشرة أجزاء بتصحيح وتعليق المحقّق السيد جلال الدين الحسيني الارموي قدس سره ، والكتاب من حسنات الدهر ، والمؤلّف من علماء القرن العاشر ، كما حقّقه المصحح في المقدمة ، فمن أراد فليرجع إليه ، وفيه فوائد أُخرى لا غنى للباحث عنها.

71. عبد الجليل القارئ ، ابن أحمد الحسيني ، له شرح القصيدة الجزرية في التجويد ، سمّاه في آخره « الفوائد » ، وفرغ منه أوائل رجب عام ( 972 ه ) ، وله شرح الناسخ والمنسوخ تأليف ابن المتوج البحراني.(5).

ص: 417


1- إحياء الداثر : 125.
2- المصدر نفسه : 144.
3- المصدر نفسه : 217.
4- رياض العلماء ، كما في الذريعة : 5 / 123 برقم 502.
5- المصدر نفسه : 118.

72. المحقّق الأردبيلي ، أحمد بن محمّد ، المتوفّى في صفر ( 993 ه ) ، أُستاذ الفقهاء والمجتهدين ، صاحب التصانيف الكثيرة ، مثل « مجمع الفائدة » وهي دورة فقهية تشتمل على جميع أبواب الفقه إلاّ النكاح و « زبدة البيان في تفسير آيات أحكام القرآن » تفسير مشحون بالتحقيق.(1)

73. فتح اللّه بن شكر اللّه الكاشاني ، ( المتوفّى عام 988 ه ) وقيل : ( 997 ه ) ، له « منهج الصادقين في تفسير القرآن المبين » ، طبع مرّة في ثلاث مجلدات كبار ، وأُخرى في عشرة أجزاء ، وله « خلاصة المنهج » ، فرغ من بعض أجزائه أعني سورة الأنفال سنة ( 984 ه ). وله شرح « نهج البلاغة » مطبوع.

74. غياث الدين ، المفسّر الزواري ، المعاصر للمحقّق الكركي ، أُستاذ أبي الحسن علي بن الحسن الزواري ، المفسّر المشهور وينسب إليه « تفسير الگازر » المعروف.(2)

75. الأمير أبو الفتح بن الأمير مخدوم بن الأمير شمس الدين محمد بن الأمير السيد الشريف الحسيني الجرجاني ، ( المتوفّى سنة 986 ه ) ، مؤلّف « تفسير شاهي » تفسير لآيات الأحكام ، ألّفه باسم الملك طهماسب الصفوي ، توجد منه نسخة خطّية في الخزانة الرضويّة ، وقد طبع أخيراً في عدّة أجزاء في تبريز.(3)

أعلام التفسير في القرن الحادي عشر

إنّ السابر في التفاسير المؤلّفة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر يرى -

ص: 418


1- روضات الجنات : 1 / 79 ، وغيره.
2- إحياء الداثر : 43 ، الذريعة : 4 / 309.
3- الذريعة : 4 / 277 برقم 1278.

بوضوح - أنّه قد سادت على الأوساط الشيعيّة في هذه الظروف نزعتان مختلفتا المنحى ومتضادتا المنهج لا تجد لهما مثيلاً في العصور السابقة ، وهاتان النزعتان هما :

1. النزعة العقليّة البحتة التي تدفع المفسّر إلى الاهتمام بالآيات الواردة في المبدأ والمعاد والأسماء والصفات وما يمت إليهما بصلة ، ويضرب - في ظلّها - عمّا سواها صفحاً ، ولا ينظر إليه إلا نظرة خاطفة كأنّ القرآن كتاب عقلي فلسفي لا يهتم إلاّ بالمسائل العقليّة ، ولا شأن له بمسائل المجتمع وما تدور عليه رحى الحياة.

2. النزعة الأخبارية التي لا تهتم إلاّ بنقل الروايات وجمعها من مختلف الكتب من دون تحقيق في اسنادها ومتونها حتى ألّف في هذه الظروف أكبر المجاميع الروائية حول التفسير التي لا يشذ منها من أحاديث التفسير إلاّ النزر اليسير.

وقد كان لهاتين النزعتين تأثير خاصّ في تطوّر التفسير في تلك العصور ، ولما قضى الأُستاذ الأكبر المحقّق البهبهاني ( المتوفّى 1206 ه ) على النزعة الاخبارية التي تتسم بالقشرية والسطحية في أواخر القرن الثاني عشر ومستهلّ القرن الثالث عشر عزت العناية بالتفسير الروائي وتوفرت الدوافع نحو التفسير العلمي الذي يهتم بأكثر المسائل التي يتوقّف عليها فهم الآيات ، فراج منهج الشيخ الطوسي في تبيانه ، والطبرسي في مجمعه ، خصوصاً في أواخر القرن الثالث عشر ومستهلّ الرابع عشر.

نعم حدثت رجّة عنيفة في أواسط القرن الرابع عشر ودفعت الضرورات الاجتماعية إلى تطوير المنهج التفسيري كما سيوافيك بيانه ، وإليك اعلام التفسير في القرن الحادي عشر :

ص: 419

76. محمد بن علي بن إبراهيم الاسترآبادي ، المجاور لبيت اللّه الحرام ، والمتوفّى فيه سنة ( 1026 ه ) ، صاحب الكتب الرجالية الثلاثة ، له شرح آيات الأحكام. (1)

77. بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي ، الطائر الصيت ( المتوفّى 1030 ه ) له تفاسير ثلاثة : 1. العروة الوثقى طبع مع مشرق الشمسين في طهران ( 1321 ه ) ، وقد صرّح في أوائله بحاشيته على تفسير البيضاوي ، فيظهر أنّه كتبه بعده ، 2. عين الحياة ، وهو تفسير مزجيّ نظير تفسير الصافي ، 3. ما قد عرفت من حاشيته على تفسير البيضاوي ، وقد كثرت التحشية من أصحابنا على ذلك التفسير.

78. الشيخ جواد بن سعد اللّه الكاظمي ، تلميذ شيخنا البهائي له « مسالك الأفهام في آيات الأحكام » ، طبع في جزءين ، صنّفه عام ( 1043 ه ) ، وللشيخ عبد القاهر الحويزي المعاصر للشيخ المحدّث الحر العاملي تعلقيات على ذلك الكتاب.

79. صدر المتألهين محمد بن إبراهيم الشيرازي ( المتوفّى 1050 ه ) ، فله من التفاسير تفسير « الاستعاذة » والفاتحة وسورة البقرة إلى قوله : ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) ، ثمّ تفسير آية الكرسي ، ثمّ آية النور ، ثمّ سورة الم السجدة وياسين والواقعة والحديد والجمعة والطارق والأعلى والزلزال ، ثمّ آية ( وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ) ، و ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ) وهو مقدّمة لتفسيره ، طبع من تفاسيره عدّة أجزاء في قم المشرّفة. (2)

ص: 420


1- الذريعة : 1 / 43 برقم 219.
2- الذريعة : 15 / 252 برقم 1626 ، و 12 / 227 برقم 1484.

80. محمد الرضا بن عبد الحسين النصيري الطوسي ، مؤلّف كشف الآيات الذي فرغ منه في ( 1067 ه ) ، وله تفسير كبير أسماه ب « تفسير الأئمّة لهداية الأُمّة » ، حكى شيخنا المجيز عن بعض المطّلعين أنّه في ثلاثين مجلداً ، وقال : رأيت مجلّدين منها الأوّل : مجلد كبير ضخم بدأ فيه بمقدمات التفسير فيما يقرب من عشرين فصلاً فيما يتعلّق بالقرآن ، ثمّ شرع في تفسير الفاتحة الخ ، والمجلد الثاني : مجلد ضخم كبير من أوّل سورة التوبة إلى آخر سورة هود. ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الذريعة. (1)

81. الحكيم العارف علي قلي ، المولود عام ( 1020 ه ) ، المعاصر للفيض الكاشاني ، له تفسير « خزائن جواهر القرآن » ، ذكر في أوّله أنّه تضرّع إلى اللّه في أن يوفّقه لجمع جميع ما في القرآن من آيات التوحيد والإيمان والأحكام والقصص والمواعظ والحكم وخلق السماوات والأرض وأحوال الرجعة والبرزخ والحشر والنشر والجنة والنار وايراد تفاسيرها المرويّة وتحقيق كلمات الروايات المفسّرة جملة جملة ، فوفّقه اللّه وشرع في التأليف في رمضان ( 1083 ه ) ، توجد نسخة خط المؤلّف في قم. (2)

82. عبد الوحيد بن نعمة اللّه الاسترآبادي ، العارف المتكلّم تلميذ شيخنا البهائي ، له أسرار القرآن في تفسير كلام اللّه العزيز ، ذكره صاحب الرياض مع سائر تصانيفه البالغة إلى ما يقرب من الستين. (3)

83. فخر الدين بن محمد الطريحي النجفي ، ( المتوفّى عام 1085 ه ) ، له

ص: 421


1- الذريعة : 4 / 134 برقم 1168.
2- الذريعة : 7 / 154 برقم 732.
3- رياض العلماء : 3 / 284 ؛ الذريعة : 2 / 54 برقم 215.

« كشف غوامض القرآن » ، وتقدّم له غريب القرآن. (1)

84. تاج الدين الحسن بن محمد الاصفهاني ، ( المتوفّى سنة 1085 ه ) ، والد الفاضل الهندي صاحب « كشف اللثام » ، المتوفّى سنة ( 1135 ه ) ، له « البحر المواج » في تفسير القرآن ، كثير الفوائد. (2)

85. المحدّث الفيض الكاشاني ، محمد بن مرتضى ( المتوفّى 1091 ه ) ، له تفاسير ثلاثة : الصافي ، الأصفى ، والمصفّى ، والثاني ملخّص الأوّل والثالث ملخّص الثاني ، وقد طبع الأوّل والثاني ولكنّ الثالث بعد مخطوط.

86. عبد علي الحويزي ، استاد المحدّث الجزائري ، الذي توفّي سنة ( 1112 ه ) ، له تفسير نورالثقلين ، فسّر القرآن على هدى الروايات عن أئمّة أهل البيت ، وهو من المجامع الكبيرة للتفسير بالأثر ، فرغ من الجزء الأوّل الذي ينتهي إلى آخر الأعراف في النجف سنة ( 1065 ه ) ، ومن الجزء الثاني في ( 1066 ه ) ، والثالث أيضاً في تلك السنة ، ومن الرابع في ( 1072 ه ) ، وتوفّي في حياة الشيخ الحرّ العاملي ، كما يظهر من « أمل الآمل » للشيخ الحرّ العاملي ، المؤلّف سنة ( 1091 ه ) ، وطبع الكتاب أخيراً في خمسة أجزاء ضخام.

ونكتفي من أعلام التفسير في هذا القرن بهذه العشر الكاملة.

أعلام التفسير في القرن الثاني عشر

87. السيد هاشم بن سليمان الحسيني البحراني ، ( المتوفّى سنة 1107 ه ) أو ( 1109 ه ) ، مؤلّف « البرهان في تفسير القرآن » ، طبع عام ( 1302 ه ) في جزءين

ص: 422


1- روضات الجنات : 5 / 349 ؛ الذريعة : 12 / 50 برقم 630.
2- الذريعة : 3 / 49 برقم 118 ، نقله عن الروضات ولم نجد ترجمة الوالد في محلّه.

كبيرين ، وطبع أخيراً في أربعة أجزاء ، جمع فيه شطراً وافراً من الأحاديث المأثورة عن أئمّة أهل البيت في تفسير الآيات القرآنية ، وله تفسيران آخران تفسير الهادي ، وتفسير نور الأنوار والهداية القرآنية ، والكلّ على نمط واحد. قال صاحب الرياض : إنّ له ما يساوي خمساً وسبعين مؤلّفاً بين صغير وكبير ووسيط أكثرها في العلوم الدينيّة ، ويقال له : « العلاّمة البحريني ». (1)

88. محمد بن محمد رضا بن إسماعيل بن جمال الدين القمي المشهدي ، ( المتوفّى عام 1113 ه ) ، صاحب « التحفة الحسينية في عمل السنة » ، له « كنز الحقائق وبحر الدقائق » في تفسير القرآن ، وقد قرّظه جمال المحقّقين الخوانساري والعلاّمة المجلسي ، وإليك نصّ الأخير : « لله در المولى ، الأولى ، الفاضل ، الكامل ، المحقّق ، المدقّق ، البدل ، النحرير ، كشّاف دقائق المعاني بفكره الثاقب ، ومخرج جواهر الحقائق برأيه الصائب » ، وقد طبع الكتاب محقّقاً بتقديم زميلنا العلاّمة محمّد هادي معرفة يقول - في تقديمه في حقّ الكتاب - : إنّ تفسيره هذا مقتبس من تفسير البيضاوي والطبرسي والزمخشري وحواشي العلاّمة البهائي ، وقد جمع فيه من لباب البيان وعباب التعبير ما وجده في التآليف السابقة ، وقد قامت بنشر خمسة أجزاء منه مؤسّسة النشر الإسلامي شكر اللّه مساعيها الجميلة. (2)

89. السيد نعمة اللّه بن عبد اللّه التستري ( الجزائري ) ( المتوفّى 1112 ه ) ، له « العقود والمرجان في تفسير القرآن » في ثلاث مجلّدات. قال في رياض العلماء : إنّه يبلغ سبعين ألف بيت ، فرغ منه عام ( 1102 ه ). (3)

ص: 423


1- رياض العلماء : 5 / 298 ؛ الذريعة : 3 / 93 برقم 294 ، و 25 / 118 برقم 191.
2- لاحظ تفسير « كنز الدقائق » التقديم بقلم هادي معرفة ، ص 6 - 16.
3- رياض العلماء : 5 / 253 ؛ الذريعة : 15 / 305 برقم 1951.

90. محمد إسماعيل بن الأمير محمد باقر الاصفهاني ، المولود (1031) ، والمتوفّى ( 1116 ه ) ، كان مدرّساً بالجامع العباسي باصفهان ، له التفسير الكبير في أربعة عشر مجلّداً ترجمه الجَزّي في « تذكرة القبور ». (1)

91. الشيخ علي بن حسين العاملي ، له « الوجيز في تفسير القرآن العزيز » وهو مختصر نافع كاف في معرفة ما يتوقّف عليه فهم المعنى من وجوه الإعراب واختلاف القراءات ، فرغ منه مؤلّفه في ( 1118 ه ) ، وفي بعض النسخ فرغ منه سنة ( 1120 ه ) توجد نسخ منه في النجف الأشرف. (2)

92. أحمد بن الحسن بن علي الحر العاملي ، أخو الشيخ الحرّ العاملي المعروف ، ذكر تفسيره أخوه في كتابه « أمل الآمل » ، وكان حيّاً إلى سنة ( 1120 ه ). (3)

93. أبو الحسن بن شيخ محمد طاهر الفتوني النباطي العاملي الغروي ، له كتاب « مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار » ، وقد طبع الجزء الأوّل منه وحده في إيران ونسخه متوفرة في العراق ، وقد طبع الجزء الأوّل باسم « عبداللطيف الكازروني » وهو من هفوات الناشر. (4)

94. بهاء الدين محمد بن تاج الدين الحسن بن محمد الاصفهاني ، المولود ( 1062 ه ) ، والمتوفّى بها ( 1135 ه ) ، وصفه في الروضات بأنّه كبير مبسوط. (5)

95. عبد اللّه الأفندي بن عيسى التبريزي ، ثمّ الاصفهاني ، له « الأمان من

ص: 424


1- الذريعة : 4 / 261 برقم 1220.
2- الذريعة : 25 / 44 برقم 224.
3- أمل الآمل : 1 / 31 ؛ الذريعة : 4 / 259 برقم 1218.
4- الذريعة : 20 / 264 برقم 2893.
5- روضات الجنات : 6 / 111.

النيران » في تفسير القرآن والمؤلّف حجة التاريخ وبحّاثة عصره ، له أثره الخالد « رياض العلماء » الذي بدأ بتأليفه سنة ( 1106 ه ) ، وتوفي حدود ( 1130 ه ) ويصف السيد عبد اللّه التستري في إجازته الكبيرة هذا التفسير بقوله : مشتمل على أكثر الأخبار المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام في تفسير القرآن وآياته. (1)

96. محمد بن علي النجار التستري ، ( المتوفّى 1140 ه ) ، له « التفسير الكبير » وهو من تلاميذ المحدّث الجزائري ويسمّى ب « مجمع التفاسير ». (2)

تلك عشرة كاملة في هذا القرن نكتفي بها ونحيل تسجيل أسماء الباقين إلى عهدة المعاجم.

أعلام التفسير في القرن الثالث عشر

دخل القرن الثالث عشر وقد ارتج الغرب بنهضة علمية عظيمة بهرت العيون وأدهشت العقول واتسم بتسليط الضوء على عالم الطبيعة وطرح المسائل الحيوية في مجال العلوم الإنسانية ، ولكن - يا للأسف - كان السبات والذهول عمّا يجري في ذاك الجانب من العالم سائداً على الشرق وعلمائه ، ولأجل ذلك نرى أنّ ما أُلّف في هذا العصر من التفاسير كان استمراراً للخطوط السابقة ، فالتفسير في هذا القرن إمّا تفسيرٌ بالأثر المحض ، أو تفسير علمي مقتصرٌ على موضوعات خاصّة ، مع أنّهم كانوا أمام بحر موّاج بالحقائق العلمية ، لا يدرك غوره ولا يمكن الوصول إلى أعماقه ولا ينتهي ما فيه من الأسرار والعجائب ، وإليك أسماء أعلام التفسير في ذلك القرن على وجه الإيجاز.

ص: 425


1- الذريعة : 2 / 343 برقم 1364.
2- المصدر نفسه : 4 / 49 برقم 1197.

97. الشيخ عبد النبي الطسوجي ، وطسوج من مضافات « خوي » ، وهو تلميذ المقدّس رفيع الدين الجيلاني المشهدي ، ( المتوفّى عام 1160 ه ) ، وأُستاذ علاّمة عصره الشيخ حسن الزنوزي ، له تفسير كبير وفيه نكات بديعة ، أكثر النقل عنه الشيخ الزنوزي في موسوعته « رياض الجنة » ، توفّي عام ( 1203 ه ).(1)

98. السيد عبد اللّه بن محمد رضا العلوي الحسيني الشهير بالشبّر ، المولود بالنجف سنة ( 1188 ه ) ، والمتوفّى عام ( 1242 ه ) ، كان فقيهاً محدّثاً مفسّراً ، آية في الأخلاق عكف مدّة حياته العلمية على التأليف والتصنيف ، له « صفوة التفاسير » و « الجوهر الثمين في تفسير القرآن المبين » و « التفسير الوجيز » ، وهذا الأخير هو المعروف الموجود في أيدي الناس ، وقد طبع مراراً.(2)

99. محمد جعفر الاسترآبادي ، المعروف ب « شريعتمدار » ، المتوفّى عام ( 1263 ه ). حكى شيخنا المجيز أنّه رآى بعض أجزائه وهو من أوّل سورة الكهف إلى آخر سورة الأحزاب ، وتاريخ كتابة النسخة ( 1261 ه ) ، وله تفسير آخر على وجه الاختصار أسماه « مظاهر الأسرار ».(3)

100. السيد محمد تقي بن مير مؤمن القزويني ، المتوفّى عام ( 1270 ه ) ، له خلاصة التفاسير وهو موجود في مدينة قزوين عند أحفاده.(4)

101. السيد محمد مهدي بن محمد جعفر الموسوي التنكابني ، له « خلاصة التفاسير » ، كما أنّ له خلاصة الأخبار ، وقد طبع الثاني ، عام ( 1275 ه ).(5).

ص: 426


1- المصدر نفسه : 4 / 281 برقم 1290.
2- روضات الجنات : 4 / 461.
3- الذريعة : 4 / 269 برقم 1250.
4- الذريعة : 4 / 211 برقم 1065.
5- المصدر نفسه : 220 برقم 1063 ، وص 210 برقم 1030.

102. الشيخ صالح بن محمد البرغاني القزويني ، المتوفّى بالحائر عام ( 1275 ه ) ، له تفاسير ثلاثة : الكبير وأسماه « بحر العرفان » في سبعة عشر مجلّداً ، و« الوسيط » في تسعة أجزاء و« الصغير » في مجلّد واحد(1) ، وقد طبع منه مجلّد واحد في النجف الأشرف.

103. السيد حسين بن السيد رضا الحسيني البروجردي ، صاحب « نخبة المقال » المشهور الذي شرحه المولى علي العلياري ، توفّي عام ( 1276 ه ) ، وله تفسير خرج منه مجلّد كبير في مقدّمات التفسير وتفسير سورة الفاتحة وقسم من سورة البقرة. (2)

أعلام التفسير في القرن الرابع عشر و ...

حلّ القرن الرابع عشر وقد خطا الغرب خطوات واسعة في الصناعة والتكنولوجيا والعلوم الإنسانية وفي مجالات مختلفة لاتمتّ إلى الدين بصلة وأبدى فيه نظريات إلحادية ، ورفع كثير من الغربيّين عقيرتهم بنفي العوالم الغيبية والانتصار لأصالة المادّة.

ولقد وصلت أمواج هذه الهزاهز إلى الشرق الذي استيقظ بعد سبات طويل ، فواجه العلماء وفي مقدّمتهم المفسّرون آراء ونظريات في بدء الخليقة ، وتكوّن العالم بما لا يوافق ظواهر القرآن فضلاً عن نصوصه ، كما واجهوا أفكاراً جديدة ونظريات مادّية بحتة في تحليل النبوّة واتصال الإنسان المثالي بعالم الغيب والوحي النازل عليه والشريعة المأمور بتبليغها.

ص: 427


1- المصدر نفسه : برقم 1282.
2- المصدر نفسه : 4 / 272 برقم 1263.

إنّ وفود هذا النوع من التفكير المزيج بسوء الظنّ بالغيب والمعارف الإلهية ، بعث المفسّرين الإسلاميين من سنّيهم وشيعيّهم إلى التطوير في المنهج التفسيري ، وإيداع مسائل جديدة في كتبهم باحثين عنها ومخضعين إياها للمشراط العلمي ، وهم في ذلك بين مُفرط ومفرّط ومقتصد ، فأفرط بعض في تأويل الآيات حسب الأُسس الطبيعية والنواميس الكونية المكتشفة ، غافلاً عن أنّ هذه الآراء والمكتشفات فرضيات متزلزلة ، سوف تتبدّل إلى آراء غيرها ، كما فرّط بعضهم فتمسّك بالأُصول الموروثة عن الأغارقة حول السماء والعالم ، وهناك طبقة وسطى مشوا بين الخطّين ، فلم يمنعهم التعبّد بالقرآن عن التنسيق بين الوحي القرآني والنظريات القطعية الحديثة التي ثبتت بوضوح ، وأيّده الحسّ والتجربة.

لقد أثّرت الحضارة الغربية على المناهج التفسيرية ، فأدخلت في التفسير جملة من المسائل الفلسفية والطبيعية والاجتماعية والنفسية والمسائل العائلية إلى غير ذلك ممّا تقوم عليه الحياة في هذه الأعصار ، فصار ذلك سبباً لبروز لون خاصّ من التفسير لم يكن معهوداً في القرون السابقة ، كما أنّ ذلك صار سبباً لرجوع المسلمين إلى القرآن من جديد كيما يتخلّصوا بفضله من التيّارات الالحاديّة ، فأُلّفت في ذلك القرن تفاسير لا يحيط بها الباحث إلاّ بشدّ الرحال إلى البلاد وتسجيل أسمائها في رسالة مفردة ، ولإيقاف القارئ على نزر يسير من الجهود العلميّة التي نهض بها علماء الشيعة في هذا القرن ، نأتي بأسماء أعلام التفسير فيه ونخصّ بالذكر المؤلّفين باللغة العربية. والّتي طبعت وانتشرت في البلاد ، ونترك المخطوط والمؤلّف بغير اللغة العربية لضيق المجال.

104. الشيخ محمد حسين بن الشيخ باقر البروجردي ، له « أسرار التنزيل » اختاره من تفسيره الكبير ، وتوفّي في نيف وثلاثمائة بعد الألف.

ص: 428

105. العلاّمة السيد نور الدين العراقي ( المتوفّى عام 1341 ه ) ، له « القرآن والعقل » ، طبع في ثلاثة أجزاء ، وهو تأليف منيف مبتكر في بابه.

106. المجاهد الكبير ، الشيخ محمد جواد البلاغي ، ( المتوفّى عام 1352 ه ) ، وقد أفنى عمره في الذبِّ عن المذهب ، وكافح الآراء المادية ، كما ناضل المسيحية بكتبه القيّمة ك « الرحلة المدرسية » ، و « الهدى إلى دين المصطفى » وله « آلاء الرحمن في تفسير القرآن ». خرج منه جزءان.

107. السيد علي بن الحسين الحائري ( 1270 - 1353 ه ) من تلاميذ المجدّد الشيرازي ، مؤلف « مقتنيات الدرر وملتقطات الثمر » ، طبع في اثني عشر مجلّداً في سنة 1377 - 1381 ه.

108. العلاّمة السيد محمد مولانا ، ( المتوفّى عام 1363 ه ) ، له « التفسير الوجيز » وهو على غرار تفسير الجلالين ، طبع وانتشر في تبريز.

109. العلاّمة الحجّة المفسّر الكبير ، السيد محمد حسين الطباطبائي ( المتوفّى عام 1402 ه ) له « الميزان في تفسير القرآن » وهو في عشرين جزءاً ، يرى القارئ فيه تطويراً في التفسير وآفاقاً مفتوحة أمامه ، وقد قرّظه مشايخ الأزهر وأعلام الأُمّة ، طبع بعض التقاريظ في أوائل الجزء الخامس من الميزان.

110. العلاّمة الحجّة ، الشيخ محمد جواد مغنيه ( المتوفّى محرم 1400 ه ) ، ذلك الكاتب الكبير ، في مجالات مختلفة ، له « الكاشف في تفسير القرآن » ، صدر في سبعة أجزاء وطبع في بيروت ، وله تفسير آخر وجيز كتبه للشباب ، وطبع في بيروت.

111. المحقّق الكبير السيد أبو القاسم الخوئي النجفي ( المتوفّى سنة 1413 ه ) ، المرجع الأعلى للشيعة ، له « البيان في تفسير القرآن » صدر منه جزء واحد.

ص: 429

112. العلاّمة الحجّة الشيخ محمد باقر الناصري ، أحد علماء العراق المجاهدين المناضلين للبدع والاضطهاد. له تلخيص مجمع البيان في ثلاثة أجزاء ، مطبوع.

113. العلاّمة الحجّة الشيخ حسن المصطفوي ، أحد الباحثين المعاصرين ، له « التحقيق في كلمات القرآن » خرجت منه تسعة أجزاء ، وهو كتاب لطيف يهتم بتبيين لغات القرآن على وجه بديع.

114. العلاّمة الحجّة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ، له التفسير الأمثل في عشرين جزءاً ، طبع وانتشر في بيروت.

115. المحقّق الشيخ محمد هادي معرفة ، أحد المولعين بعلوم القرآن ، له « التمهيد في علوم القرآن » صدرت منه سبعة أجزاء.

116. العلاّمة الحجّة السيد عبد الأعلى السبزواري النجفي ، أحد المدرسين الكبار في حوزة النجف الأشرف ، له « مواهب الرحمن في تفسير القرآن » ، خرجت منه عدّة أجزاء.

117. العلاّمة الحجّة السيد محمد حسين فضل اللّه ، من أكابر علماء لبنان ، له « من وحي القرآن » خرج في عشرين جزءاً.

118. العلاّمة الحجّة السيد محمد باقر الأبطحي ، له « المدخل إلى التفسير الموضوعي » وقد صدر منه ثلاثة أجزاء.

119. العلاّمة المفضال الشيخ محمد السبزواري ، له « الجديد في تفسير القرآن المجيد » في سبعة أجزاء. وهو تفسير ، حديث في أُسلوبه ، جميل في عباراته.

120. كاتب هذه السطور جعفر السبحاني ، له « مفاهيم القرآن » ، خرجت

ص: 430

منه عشرة أجزاء وهو تفسير موضوعي.

هؤلاء أعلام التفسير في أربعة عشر قرناً وهم مائة وعشرون ، وقد اكتفينا بهم مع أنّ عدد أعلام التفسير فضلاً عن غيرهم يتجاوز عن ذلك ، غير أنَّ المجال لا يسع أكثر من ذلك.

تاريخ التدوين والتطوير في التفسير

إنّ هذا البحث الضافي حول تاريخ تفسير القرآن عند الشيعة الإمامية ، يوقفنا على تاريخ التدوين والتطوير في مجال التفسير لديهم ، فانّ الظاهر أنّ أوّل من ألّف تفسيراً للقرآن من الشيعة هو سعيد بن جبير - ذلك التابعي الشيعي - ( المستشهد عام 95 ه ) لتشيّعه وموالاته علياً ، هذا ولو صحّ ما نسب من الكتب إلى عبد اللّه بن عبّاس ( المتوفّى سنة 69 ه ) ، لكان هو متقدّماً على ابن جبير وهو تلميذ الوصي أمير المؤمنين ، ثمّ توالت بعدهما كتابة التفسير حسب ما عرفت في قائمة القرون ، ولا نطيل الكلام في تاريخ التدوين.

وأمّا تطوير التفسير فقد عرفت أنّ التفسير الرائج بعد رحلة النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم كان بعد تفسير « غريب القرآن » ، هو التفسير بالأثر ، فكانت هذه هي السنّة المتبعة لدى الشيعة إلى نهاية القرن الرابع ، وإنّما حصل التطور في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس ، وأوّل تفسير ظهر في الأوساط العلمية بالطابع العلميّ الجديد ، هو تفسير الشريف الرضي قدّس اللّه سرّه.

ثمّ استمر هذا النمط في الأوساط العلميّة إلى أوائل القرن العاشر ، وفيه راج التفسير بالأثر من جديد ، فأُلّفت موسوعات كبار لتفسير القرآن بالأثر ولم نر لها

ص: 431

مثيلاً في القرون الأُولى ، وقد دام ذلك النمط حتى غلب على النمط العلمي ، وذلك عند تسرّب الاتجاه الاخباري إلى الأوساط العلميّة.

ولمّا حل القرن الرابع عشر ، وقف غير واحد من المفكّرين الإسلاميّين وقادتهم على الوضع المؤسف المحدق بالمسلمين بسبب تأخرهم عن موكب الحضارة ، ونشوب أظفار الاستعمار ببلاد المسلمين ، وعند ذلك شعروا بأنّ إحياء المجد الداثر وتجديد الحضارة الإسلامية في جميع أبعادها رهن العودة إلى القرآن الكريم من جديد وتطبيقه على الحياة بدل العناية الزائدة بقراءات القرآن وحججها أو المناقشة في الاعراب ودلائله ، فرجعوا إلى أحضان كتاب اللّه ، ونظروا إليه بمنظار خاصّ فاكتشفوا - حقّاً - آفاقاً جديدة ، غفل عنها الأقدمون ، آفاقاً ترتبط بالحياة عن قريب ، وتعدّ أُسساً لها ، فعطفوا اهتمامهم على تلك المباحث والآفاق المكتشفة ، وعكفوا على دراستها دراسة معمّقة ، فازدهرت المدارس ومحافل العلماء بالأبحاث القرآنية ، وانتشرت تفاسير بنمط حديث لم يكن لها مثيل في القرون السابقة ، فعند ذلك حصل تطوير جديد أعمق بكثير من التطوير العلمي الحاصل بيد أمثال الشريف الرضي وأخيه المرتضى ، وفي الحقيقة هذا المنهج الموجود في عصرنا الحاضر تطوير حديث ومنهج متكامل يتفوّق على المنهج العلمي ، ولم يكن بدّ للمفكرين من إبداع هذا التطوير وذلك لوجهين :

الأوّل : انّ الغزو الفكري الذي تعرّض له الإسلام والمسلمون بمختلف أشكاله من خلال تأسيس علوم اجتماعية ونفسيّة واقتصادية و ... ، وابداع نظريات حديثة حول النبوّة والوحي وغير ذلك ألجأ المفكّرين إلى دراسة هذه الآراء والبحث عنها بحثاً جذرياً حتى يصونوا بأبحاثهم القيّمة ، الإسلام والمسلمين عن تأثير هذه السموم التي بثّها ويبثها علماء الغرب في الشرق في صورة حقائق راهنة.

ص: 432

وقد نجح علماء التفسير في تحقيق أُمنيّتهم هذه نجاحاً باهراً وأدخلوا في التفسير مسائل هامّة أُلهموا بها من خلال الآيات القرآنية ، بيد أنّ بعضهم أفرط عند تطبيق الآيات الكونيّة على المكتشفات العصريّة ، وقد كان عليهم الأخذ بالحدّ الأوسط.

الثاني : انّ طبيعة الذكر الحكيم تقتضي ذلك التطوير ، بل ولن يقف الركب على هذا الحد وسيواجه المستقبل تطويراً ثالثاً ، ورابعاً في تفسير الذكر الحكيم ، كيف والنبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم يعرّف معجزته الكبرى بقوله : « ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له تخوم وعلى تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ». (1)

وهذا أمير المؤمنين عليه السلام يصف الذكر الحكيم بقوله : « أُنزل عليه ( النبي ) الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره ، ومنهاجاً لا يضلّ نهجه ، وشعاعاً لا يظلم ضؤوه ، وفرقاناً لا يخمد برهانه ، وتبياناً لا تهدم أركانه » - إلى أن قال - : و « بحر لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ». (2)

وهذا هو الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا عليهما السلام ، سأله سائل وقال : ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلاّ غضاضة ؟ فقال : « إنّ اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، وهو في كلّ زمان جديد وعند كلّ قوم غض إلى يوم القيامة ». (3)

ص: 433


1- الكافي : 2 / 599.
2- نهج البلاغة : الخطبة 198 ، ط ( صبحي صالح ).
3- تفسير البرهان : 1 / 26.
التفاسير الشيعية في قفص الاتّهام

قد تعرّفت على خدمة الشيعة للذكر الحكيم منذ رحلة صاحب الرسالة إلى يومنا هذا ، ولعلّ ما مرّ عليك أقلّ من معشار ما حفظته يد التاريخ ومعاجم التفسير والرجال ، فحقيق على كلّ من يحب الحقّ والحقيقة تقدير تلكم الثلّة الجليلة من الأُمّة ، ومن حسن الحظ أنّه قام بذلك الواجب الضمائر الحرّة من أهل العلم والفضل شكر اللّه مساعيهم.

بيد أنّ بعض المتسرّعين في القضاء أرادوا اتّهام تفاسير الشيعة بأُمور :

1. تعصّبهم لأثبات معتقداتهم ومقالاتهم.

2. كون تفاسيرهم تفاسير طائفيّة.

3. قولهم بتحريف الذكر الحكيم.

وإليك شرح تلك الاتهامات ونقدها.

أمّا الأوّل : فقد أشار إليه الدكتور الذهبي في كتابه « التفسير والمفسّرون » ، واستدلّ بمواضع من تفاسير الشيعة كمسألة الرؤية ، والمسح على الرجلين ، وحلّيّة المتعة إلى غير ذلك ، حيث إنّ الشيخ الطبرسي يسعى في تلك الموارد لإثبات مذهب الشيعة.

يلاحظ عليه : أنّه لو كان ذلك أمراً خطأ فهو شامل لحال جميع التفاسير من غير فرق بين السنّة والشيعة ، فانّ الطبرسي ونظراءه لو أصرّوا على إثبات امتناع رؤية اللّه - تبارك وتعالى - عند الوصول إلى تفسير قوله سبحانه : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (1) فالرازي وهو من أئمّة

ص: 434


1- الأنعام : 103.

الأشاعرة عندما وصل إلى تفسير قوله سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ... )(1)أخذ بتفسير الآية على مذاق الأشاعرة ، فلماذا كان سعي الطبرسي لإثبات معتقده خطأ ، ولكن كان سعي الرازي على ما يرويه من إثبات الرؤية(2)أمراً صحيحاً ؟! وليس الرازي بمنفرد في هذا العمل ، بل التفاسير عامّة مصبوغة بهذه الصبغة ، فانّ لكلّ مفسّر آراء ومعتقدات يراها عقائد صحيحة ، نزل بها الوحي أو دلّ عليه العقل ، ففي كلّ موضع يهتم بدعم عقائده واستعراض الآيات الدالّة عليه حسب معتقده ، وليس ذلك أمراً خطأ إذا كان البحث موضوعياً هادئاً ، وليس المترقّب من كلّ مؤلّف هادف إلاّ ذلك ، وإنّما البغيض التعصّب على الباطل مع العلم به.

يقول الأُستاذ الشيخ محمود شلتوت ، شيخ الأزهر في تقديمه لكتاب « مجمع البيان » :

فليس من الإنصاف أن نكلّف عالماً مؤلّفاً بحّاثة درّاكة ، أن يقف من مذهبه وفكرته التي آمن بها موقف الفتور ، كأنّه لا تهمّه ولا تسيطر على عقله وقلبه ، وكلّ ما نطلبه ممّن تجرد للبحث والتأليف ، وعرض آراء المذاهب وأصحاب الأفكار ، أن يكون منصفاً ، مهذب اللفظ ، أميناً على التراث الإسلامي ، حريصاً على أخوّة الإيمان والعلم ، فإذا جادل ففي ظل تلك القاعدة المذهبيّة التي تمثل روح الاجتهاد المنصف البصير : « مذهبي صواب يحتمل الخطأ ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب ».

وهذا هو تفسير « المنار » الذي طبق العالم صيته وصوته يستعرض آيات الأحكام ويستدلّ بها على ما يوافق مذهبه ، كما يستعرض آيات العقائد والمعارف

ص: 435


1- الأعراف : 143.
2- مفاتيح الغيب : 4 / 293 ، ط مصر في ثمانية أجزاء.

فيستشهد بها على مختاره ، ولو جمع ما أورده على الشيعة في مجال الأحكام والعقائد لجاء رسالة حتى أنّ سبّب ذلك قيام عالم بارع من علماء الشيعة(1)بنقد ما أورده على الشيعة في مناره ، ونقده نقداً علمياً موضوعياً انتشر في حياة صاحب المنار ، ولم يقدر السيد محمد رشيد رضا على الإجابة عنه ثانياً.

وأمّا الثاني : وهو اتهام تفاسير الشيعة بأنّها تفاسير طائفية يحاولون تطبيق الآيات القرآنية على أئمّتهم وقادتهم خصوصاً الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فنقول :

إنّ اتّهام تفاسير الشيعة بكونها تفاسير طائفية(2)يعرب عن أنّ القائل لم يفرّق بين التفسير والتطبيق ، فحمل الروايات الواردة في حقّ الإمام أمير المؤمنين كلّها على التفسير ، ولم يقف على أنّ الروايات الواردة في ذلك المجال على قسمين :

1. ما يتضمّن أسباب النزول ويبيّن أنّ الآية حسب النصوص الروائية نزلت في حقّ شخص خاصّ كما هو الحال في غير واحد من الآيات الواردة في حقّ الإمام ك « آية الإكمال »(3) و« آية التبليغ »(4) و« آية الولاية »(5) ، إلى غير ذلك من الآيات التي اعترف المحدّثون والمفسّرون بنزولها في حقّ الإمام ، فنقل ما يدعم ذلك لا يكون دليلاً على الطائفية لو لم يكن دليلاً على البخوع بالحقيقة وخضوعاً أمام الحقّ.

2. ما يتضمّن الجري والتطبيق لا بمعنى أنّ الآية وردت في حقّ فرد خاصّ ، بل الآية على معناها العامّ ، ولكن الرواية تشير إلى مصداقها المثالي الذي

ص: 436


1- العلاّمة الحجّة السيد محسن الأمين العاملي ، المتوفى عام (1373) ، في كتابه « الحصون المنيعة فيما أورده صاحب المنار على الشيعة ».
2- الدكتور أحمد محمود صبحي : نظرية الإمامة لدى الشيعة الإمامية : 505.
3- المائدة:3.
4- المائدة:67.
5- المائدة : 55.

هو أكمل المصاديق ، وليس هذا بعيداً عن طبيعة القرآن ، بل بما أنّ القرآن كتاب الأجيال والقرون ، يقتضي صحّة ذلك الجري والتطبيق ، فانّ القرآن كما عرّفه الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام : « ... حي لا يموت والآية حيّة لا تموت ، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ؛ ماتت الآية ومات القرآن. فالآية جارية في الباقين كما جرت في الماضين ». (1)

ولأجل إيقاف القارئ على الفرق بين التفسير والتطبيق نأتي ببعض ما ورد في كتب أهل السنّة حول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .

قال سبحانه : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) . (2)

قال جلال الدين السيوطي في الدر المنثور : أخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والديلمي وابن عساكر وابن النجّار ، قال : لمّا نزلت ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يده على صدره فقال : أنا المنذر وأومأ بيده إلى منكب عليّ - رضي اللّه عنه - فقال : « أنت الهادي يا علي ، بك يهتدي المهتدون من بعدي ».

وقال : وأخرج ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي - رضي اللّه عنه - سمعت رسول اللّه يقول : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ) ووضع يده على صدر نفسه ، ثمّ وضعها على صدر علي ويقول : ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) . (3)

ولا يشكّ أحد أنّ علياً من المصاديق الجليّة الكاملة لقوله : ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) ، وليس مصداقاً منحصراً فيه ، وكان تفسير النبي الآية بعلي من باب الجري

ص: 437


1- مرآة الأنوار ( أبوالحسن الفتوني ) : 2.
2- الرعد : 7.
3- الدرّالمنثور : 4 / 45 ، وقد أورد نصوصاً أُخرى في ذلك المجال تركناها للاختصار.

والتطبيق ، وبإراءة فرد مثالي يفوق جميع الأفراد ، فكلّ ما ورد في التفاسير الشيعية من هذا الباب أي الجري والتطبيق ، حتى يقف المسلمون على أمثل المصاديق وأوسطها.

إنّ النبيّ الأكرم هو الأُسوة والقدوة ، فقد طبّقت الآية الماضية على فرد مثالي تعليماً للأُمّة ، وقد اقتدت به الأئمّة في هذا المضمار ، وإليك بعض الأمثلة ، قال سبحانه : ( الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ )(1)انّ الآية الكريمة تندّد بالذين ينقضون العهد ويقطعون الصلة ويفسدون في الأرض ، ولا يشكّ ذو مسكة أنّ الآية تتضمّن حكماً كلّياً عامّاً حيّاً إلى يوم القيامة ، ولها عبر القرون آلاف المصاديق والجزئيات غير أنّ أئمّة الشيعة يفسّرون قوله : ( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ) بقطع الصلة الواجبة في حقّ علي وعترته الطاهرة ، وليس ذلك تفسيراً بمعنى حصر الآية في هذا الفرد ، بل تطبيقاً للآية على الحقّ المهضوم عبر الأجيال ، وقد قال سبحانه : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (2).(3)

قال سبحانه : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ... )(4)فقد فسّر بصراط الأنبياء كما فسّرت بالإمام أمير المؤمنين(5)ولا شكّ أنّ كلّ ذلك تطبيق على المصداق الأجلى ، وعلى ضوء ذلك يقدر القارئ الكريم الملمّ بالتفاسير الشيعيّة ، على تمييز التفسير عن الجري والتطبيق ، وعند ذلك يقف على قيمة النسبة المذكورة.

ص: 438


1- البقرة : 27.
2- الشورى : 23.
3- نور الثقلين : 1 / 38.
4- الحمد : 7.
5- المصدر نفسه : 17 الحديث 86 ؛ تفسير البرهان : 1 / 18.

وأمّا الثالث : فمن رجع إلى كتب المحقّقين من الشيعة الذين يعبأ بقولهم ورأيهم ، ويعدّ كلامهم مثالاً لعقيدة الشيعة يقف على أنّ رمي الشيعة وتفاسيرها بالتحريف بهتان عظيم ، وانّ من نسب التحريف إلى الشيعة إنّما استند إلى وجود روايات في تفاسيرهم الروائية مشعرة بالتحريف أو دالّة عليها ، ولكنّ الرواية غير العقيدة ، وليس نقل الرواية دليلاً على صحّتها ، ولو كان ذلك دليلاً على التحريف فهناك رواياتٌ دالّة على التحريف مبثوثة في كتب التفسير والحديث والتاريخ والسنّة ، ولكنّا نجلّ المحقّقين منهم عن القول بذلك ، فروايات التحريف تديّن بها الحشوية من العامّة وبعض الغلاة من الخاصّة ، والشيعة وأئمّتهم وعلماؤهم برآء منهم ومن مقالتهم.

ولأجل إيقاف القارئ على صحّة هذا المقال نأتي بأسماء مجموعة من محقّقي الشيعة عبر القرون صرّحوا بصيانة القرآن الحكيم من التحريف :

1. أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، المعروف بالصدوق ( المتوفّى 381 ه ) ، يقول : اعتقادنا في القرآن أنّه كلام اللّه ووحيه وتنزيله وقوله ، وأنّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم عليم ، وأنّه القصص الحقّ ، وأنّه لحق فصل وما هو بالهزل ، وانّ اللّه تبارك وتعالى محدثه ومنزله وربّه وحافظه والمتكلّم به ».(1)

2. السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي ( المتوفّى 436 ه ) قال : إنّ جماعة من الصحابة مثل عبد اللّه بن مسعود ، وأُبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي عدّة ختمات وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوت.(2).

ص: 439


1- الاعتقادات : 93.
2- مجمع البيان : 1 / 10 نقلاً عن جواب المسائل الطرابلسيات للسيد.

3. أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة ( المتوفّى 460 ه ) قال : وأمّا الكلام في زيادة القرآن ونقصانه فممّا لا يليق به أيضاً ، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى و هو الظاهر في الرواية. قيل : إنّه رويت روايات كثيرة من جهة الشيعة وأهل السنّة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ؟ لكنّ طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً والأولى الإعراض عنها.(1)

4. أبو علي الطبرسي ، صاحب تفسير « مجمع البيان » يقول : الكلام في زيادة القرآن ونقصانه. أمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامّة أنّ في القرآن تغييراً أو نقصاناً ، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه.(2)

5. السيد علي بن طاووس الحلي ( المتوفّى 664 ه ) قال : إنّ رأي الإمامية هو عدم التحريف.(3)

6. الشيخ زين الدين العاملي النباطي البياظي ( المتوفّى 877 ه ) يقول في تفسير قوله : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) أي إنّا لحافظون له من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان.(4)

7. القاضي السيد نور اللّه التستري صاحب كتاب « إحقاق الحق » ( المتوفّى 1019 ه ) يقول : ما نسب إلى الشيعة الإمامية من وقوع التغيير في القرآن ليس ممّا

ص: 440


1- التبيان : 1 / 3.
2- مجمع البيان : 1 / 10.
3- سعد السعود : 144.
4- اظهار الحقّ : 2 / 130.

يقول به جمهور الإمامية إنّما قال به شرذمة قليلة منهم ، لا اعتداد بهم فيما بينهم. (1)

8. الشيخ بهاءالدين نابغة عصره ونادرة دهره محمد بن حسين المشتهر ببهاء الدين العاملي ( المتوفّى 1030 ه ) قال : الصحيح انّ القرآن العظيم محفوظ من ذلك زيادة كان أو نقصاناً ، وما اشتهر بين العلماء من إسقاط اسم أمير المؤمنين عليه السلام في بعض المواضع فهو غير معتبر عند العلماء والمتتبّع للتاريخ والأخبار والآثار يعلم بأنّ القرآن ثابت بغاية التواتر وبنقل الآلاف من الصحابة ، وانّ القرآن الكريم كان مجموعاً في عهد الرسول. (2)

9. المحدّث الأكبر الفيض الكاشاني صاحب كتاب الوافي الذي يعدّ من الجوامع الحديثية المتأخّرة ( المتوفّى 1091 ه ) قال : وقال اللّه تعالى : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) وقال : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) عندئذٍ كيف يتطرّق إليه التحريف والتغيير ... ، مع أنّ خبر التحريف مخالف لكتاب اللّه ، مكذّب له فيجب ردّه والحكم بفساده وتأويله. (3)

10. الشيخ الحرّ العاملي ( المتوفّى 1104 ه ) يقول في كتابه : والمتتبّع للتاريخ والأخبار والآثار يعلم يقيناً بأنّ القرآن ثابت بغاية التواتر وبنقل الآلاف من الصحابة ، وانّ القرآن كان مجموعاً مؤلفاً في عهد الرسول.(4)

هذه هي الشخصيات الكبيرة من الإمامية الذين عرفت تنصيصهم على عدم طروء التحريف على الذكر الحكيم ، وقد جئنا بأسماء القائلين بعدم التحريف إلى نهاية القرن الحادي عشر ، وأمّا الذين نصّوا على عدم التحريف في

ص: 441


1- 1 و 1. آلاء الرحمن : 25.
2- تفسير الصافي : 1 / 15.
3- راجع آلاء الرحمن : 1 / 25.

القرون الأخيرة فحدّث عنهم ولا حرج ، كيف وقد ألّفوا رسائل كبيرة وصغيرة حول الموضوع ، ونحن نسأل من يرمي الشيعة بالقول بالتحريف بأنَّه بأي دليل يقول : بأنّ تنصيص الشخصيات الأربع الأُول على عدم التحريف من باب التقية(1)، أهكذا أدب العلم وأدب الإسلام ؟ أليس اللّه تعالى يقول : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا )(2)والعجب أنّه يستشهد على هذا النظر بقول أعداء الشيعة ويترك قول علمائهم ، وبما أنّ الكاتب يستند في بعض أبحاثه إلى كلمات قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني قدس سره نأتي بنصّ كلامه في هذا الموضع ، وهذا ما جاء في محاضراته التي أُلقيت قبل خمسين سنة :

إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه قراءة وكتابة ، يعترف ببطلان تلك المزعمة « التحريف » ، وأنّه لا ينبغي أن يركن إليها ذو مسكة ، وما وردت فيه من الأخبار ، بين ضعيف لا يستدلّ به ، إلى مجعول يلوح منه أمارات الجعل ، إلى غريب يقضي منه العجب ، إلى صحيح يدلّ على أنّ مضمونه تأويل الكتاب وتفسيره ، إلى غير ذلك من الأقسام التي يحتاج بيان المراد منها إلى تأليف كتاب حافل ، ولولا خوف الخروج عن طور البحث لأرخينا عنان البيان إلى تشريح تاريخ القرآن وما جرى عليه طيلة القرون ، وأوضحنا لك أنّ الكتاب هو عين ما بين الدفّتين ، والاختلاف الموجود بين القرّاء ليس إلاّ أمراً حديثاً لا ربط له بما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين.(3).

ص: 442


1- الندوي : صورتان متضادتان لنتائج جهود الرسول الأعظم ، طبع لكهنو.
2- النساء : 94.
3- تهذيب الأُصول ( تقريرات الإمام الخميني ) : 2 / 96.
الرسائل المفردة حول صيانة القرآن من التحريف :

إنّ علماء الشيعة الإمامية لم يقتصروا على هذه الجمل القصيرة حول صيانة الذكر الحكيم من التحريف ، بل ألّفوا حولها رسائل مفردة منذ أربعة قرون :

1. الشيخ الحر العاملي قد أفرد رسالة في هذا الموضوع أسماها « تواتر القرآن ». (1)

2. الشيخ عبد العالي الكركي ، فقد ألّف رسالة في نفي النقيصة عن القرآن ، ذكرها العلاّمة الشيخ محمد جواد البلاغي في « آلاء الرحمان » (2) وقد جاء في الرسالة كلام الصدوق ، ثمّ اعترض على نفسه بورود روايات تدلّ على التحريف فأجاب بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب والسنّة المتواترة أو الإجماع ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه ، وجب طرحه.

3. المتتبّع البارع الشيخ آغا بزرگ الطهراني مؤلّف « الذريعة إلى تصانيف الشيعة » ، فقد أفرد رسالة أسماها « النقد اللطيف في نفي التحريف ».

4. العلاّمة الحجّة الشيخ عبد الحسين الرشتي الحائري ، فقد ألّف رسالة حول الموضوع أسماها « كشف الاشتباه ».

5. خصّص العلاّمة المحقّق السيد الطباطبائي في ميزانه بحثاً مبسوطاً بصيانة الذكر الحكيم عند تفسير قوله : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) . (3)

6. إنّ العلاّمة المحقّق السيد الخوئي - دام ظلّه - قد أفرد بحثاً ضافياً حول

ص: 443


1- أمل الآمل : 1 / 31.
2- آلاء الرحمن : 1 / 26.
3- الميزان : 12 / 106 - 137.

صيانة الذكر الحكيم في كتابه « البيان في تفسير القرآن » ، وقد أغرق نزعاً في التحقيق فلم يبق في القوس منزعاً.

7. وقد قام العلاّمة الشيخ رسول جعفريان بتأليف رسالة نافعة حول الموضوع أسماها « أُكذوبة تحريف القرآن » حياه اللّه وبياه.

8. زميلنا العلاّمة الحجّة الشيخ محمد هادي معرفة ، صدر منه كتاب باسم « صيانة القرآن من التحريف » وهو كتاب جليل.

9. العالم الجليل السيد علي الميلاني ، قام بنشر كتاب أسماه « التحقيق في نفي التحريف » حفظه اللّه.

وليست عقيدة الشيعة حول الذكر الحكيم أمراً خفياً على المحقّقين من السنّة ، فهذا علاّمة الهنود رحمة اللّه الهندي نقل عقيدة الشيعة في كتابه ، وقال : « إنّ القرآن المجيد عند جمهور علماء الشيعة الإمامية الاثني عشرية محفوظ عن التغيير والتبديل ، ومن قال منهم : بوقوع النقصان فيه ، فقوله مردود غير مقبول عندهم ». (1)

وأخيراً نلفت نظر القارئ إلى محقّق عصرنا السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي ، فقد قال في كتابه « أجوبة موسى جار اللّه » : نسب إلى الشيعة القول بتحريف القرآن بإسقاط كلمات وآيات ، ثمّ قال : نعوذ باللّه من هذا القول ونبرأ إلى اللّه تعالى من هذا الجهل ، وكلّ من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفتر علينا ، فانّ القرآن العظيم والذكر الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته وسائر حروفه وحركاته وسكناته تواتراً قطعياً عن أئمّة الهدى من أهل البيت عليهم السلام ،

ص: 444


1- اظهار الحقّ : 2 / 128.

ولا يرتاب في ذلك إلاّ معتوه. (1)

ثمّ إنّ المتحاملين على الشيعة في مسألة تحريف القرآن يستندون إلى كتاب « فصل الخطاب » للمحدّث النوري الذي جمع فيه المسانيد والمراسيل التي استدلّ بها على النقيصة ، ولكن غفل المتحامل عن الرسائل الكثيرة التي أُلّفت ردّاً عليه وكفى بذلك ما ذكره العلاّمة البلاغي فقال : إنّ القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار ، وقد وصف علماء الرجال كلاً منهم بأنّه :

1. إمّا ضعيف الحديث ، فاسد المذهب ، مجفوّ الرواية.

2. وإمّا أنّه مضطرب الحديث والمذهب يعرف حديثه وينكر ، ويروي عن الضعفاء.

3. وإمّا بأنّه كذّاب متّهم لا أستحلّ أن أروي من تفسيره حديثاً واحداً ، وأنّه معروف بالوقف وأشدّ الناس عداوة للرضا عليه السلام .

4. وإمّا بأنّه كان غالياً كذّاباً.

5. وإمّا بأنّه ضعيف لا يلتفت إليه ، ولا يعول عليه ومن الكذّابين.

6. وإمّا بأنّه فاسد الرواية يرمى بالغلوّ ، ومن الواضح أنّ أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئاً ، هذه حال المسانيد ، وأمّا أكثر المراسيل فمأخوذة من تلك المسانيد. (2)

هذا وصف إجمالي لهذه الروايات التي يستند إليها أعداء الشيعة في هذه النسبة ، ويكفي في ذلك أنّ ثلاثمائة حديث من هذه الأحاديث ، يرويها السيّاري ، ويكفي في ضعفه قول الرجالي المحقّق النجاشي في حقّه : إنّه ضعيف الحديث

ص: 445


1- أجوبة مسائل موسى جار اللّه : 34.
2- آلاء الرحمن : 26.

فاسد المذهب ، مجفوّ الرواية ، كثير المراسيل ، متهم بالغلوّ.

كما أنّ كثيراً من هذه الروايات تنتهي إلى يونس بن ظبيان الذي وصفه النجاشي بقوله : « ضعيف جداً لا يلتفت إلى ما رواه ، كلّ كتبه تخليط ».

كما أنّ قسماً منه ينتهي إلى منخّل بن جميل الكوفي ، وقد نصّ النجاشي على كونه : « ضعيفاً فاسد الرواية ». (1)

الكافي كتاب حديث لا كتاب عقيدة

ثمّ إنّ كلّ من يتهم الشيعة بالقول بالتحريف يستند إلى وجود روايات التحريف في الكافي ، ولكنّه غفل عن أنّ كتاب الكافي في نظر الإمامية ليس كالصحاح في نظر أهل السنّة الذين يقولون : إنّ كلّ ما في البخاري صحيح ، وإنّما هو كتاب فيه الصحيح والضعيف والمرسل وما يوافق الكتاب وما يخالفه ، فلا يمكن الاستدلال بوجود الرواية فيه على عقيدة الشيعة ، وما يلهج به علماء الحديث في حقّ صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد ويقولون :

وما من صحيح كالبخاري جامعاً *** ولا مسند يلفي كمسند أحمد

أقول : إنّ ما يلهجون به في حقّ كتبهم مخصوص بهم ، فليس كلّ ما في الجوامع الحديثية عند الشيعة ، صحاحاً يستدلّ بكلّ حديث ورد فيها في كلّ موضوع ومورد ، بل الاستدلال يتوقّف على اجتماع شرائط الصحّة التي ذكرها علماء الدراية والحديث ، ونحن واللّه نعاني من عدم اطلاع هؤلاء على « أبجدية »

ص: 446


1- راجع في الوقوف على نصوص النجاشي حول هؤلاء الثلاثة ، رجاله : 1 / 211 برقم 190 وج 2 / 423 برقم 1211 وص 372 برقم 1128.

عقائد الشيعة ومداركها ومصادرها.

التحريف في كتب أهل السنّة

نحن نجلّ علماء السنّة ومحقّقيهم عن نسبة التحريف إليهم ، ولكن لو كان وجود الرواية في كتب التفسير والحديث دليلاً على العقيدة ؛ فقد رويت أحاديث التحريف في كتبهم ، أيضاً ، ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من هذه الروايات نشير إلى بعضها.

1. أخرج أبو عبيد في الفضائل وابن مردويه وابن الأنباري ، عن عائشة قال : « كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم مائتي آية ، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلاّ على ما هو الآن ».(1)

2. عن عمر : « لولا أن يقول الناس : إنّ عمر زاد في كتاب اللّه لكتبت آية الرجم بيدي ».(2)

3. نقل عن ابن مسعود أنّه حذف المعوذتين من المصحف ، وقال : إنّهما ليستا من كتاب اللّه.(3)

وهناك روايات كثيرة مبثوثة في كتب التفاسير والحديث والتاريخ تحكي عن طروء التحريف على الذكر الحكيم ، ونحن نقتصر على الأقل القليل منها ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب « أُكذوبة تحريف القرآن بين الشيعة والسنّة ».(4).

ص: 447


1- الدر المنثور : 5 / 180 ؛ تفسير القرطبي : 14 / 113.
2- صحيح البخاري : 9 / 69 ، باب الشهادة تكون عن الحاكم في ولاية القضاء ، ط مصر ، 1372 ه.
3- الدر المنثور : 6 / 416.
4- انظر من ص 27 - 33.

ونحن نرى أنّ في الإصرار على نسبة التحريف إلى أيّة طائفة من الطوائف الإسلامية ضرراً واسعاً على الإسلام والمسلمين ولا يستفيد منه إلاّ المستعمرون وأذنابهم.

وعلى الرغم من كثرة هذه الروايات نحن لا نؤمن بصحّتها كما لا يؤمن علماء أهل السنّة المحقّقون بها ولا تبتني عقيدتهم عليها فهي بين ضعاف السند ، أو ضعاف الدلالة وقبل كلّ شيء تخالف الذكر الحكيم وإجماع الأُمّة.

ص: 448

كلمة ختاميّة

نحمد اللّه سبحانه ونشكره على ما أولانا من تفسير كتابه الكريم على النهج الموضوعي في أجزاء عشرة ، وقد اقتصرنا في بحوثنا على المسائل العقائديّة ، وتركنا الخوض في غيرها من الموضوعات الّتي جاءت في الكتاب العزيز.

وقد نجز الجزء الأوّل من هذه الموسوعة عام 1393 ه ، وهذا هو الجزء العاشر والأخير نزفّه إلي الطبع ونحن في ثنايا عام 1420 ه.

والحمد لله الذي وفقنا لإنجاز ما كنّا نصبو إليه من نشر هذه الأجزاء العشرة ، أسأل اللّه سبحانه أن يعصمنا من الزلل ، في القول والعمل ، انّه بذلك جدير وبالإجابة قدير.

* * *

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم - مؤسسه الإمام الصادق عليه السلام

في صبيحة يوم الثلاثاء الموافق ل 12 من شهر رمضان المبارك

من شهور عام 1420 ه

ص: 449

ص: 450

فهرس المحتويات

مقدمة المؤلّف ... 5

العدل والإمامة

المقدّمة ... 7

العدل الإلهي

الفصل الأوّل : العدل الإلهي في الكتاب العزيز ... 13

التحسين والتقبيح العقليين ... 14

شمولية عدله سبحانه ... 17

أقسام العدل ... 19

الفصل الثاني : مظاهر العدل الإلهي في عالم الخلق ... 21

1. السماوات ورفعها بغير عمد ... 21

2. الجبال وحركاتها ... 24

ص: 451

3. الحياة وتوازنها الدقيق ... 24

الفصل الثالث : مظاهر العدل الإلهي في عالم التشريع ... 26

نماذج من عدله سبحانه في عالم التشريع ... 27

الأشاعرة والتكليف بما لا يطاق ... 32

مظاهر العدل الإلهي في تنفيذ العقوبات ... 36

الفصل الرابع : العدل الإلهي وفاعلية الإنسان ... 38

حرية الإرادة من منظار قرآني ... 41

لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين ... 43

الفصل الخامس : شبهات وحلول ... 45

الشبهة الأُولى : خلق الأعمال ... 45

الشبهة الثانية : علمه سبحانه وإرادته السابقة ... 50

إيضاح آيات ثلاث ... 55

الشبهة الثالثة : العدل الإلهي والقضاء والقدر ... 57

أصناف القضاء والقدر ... 59

الفصل السادس : العدل الإلهي والمصائب والبلايا ... 66

1. الآثار التربويّة للبلايا والمصائب ... 69

أ : تفجير الطاقات ... 69

ب : المصائب والبلايا جرس إنذار ... 69

ج : تقاعس الإنسان عن تحمل مسؤوليته ... 70

ص: 452

2. اختلاف الناس في المواهب العقلية والاستعدادت ... 71

3. الفواصل الطبقية بين الناس ... 71

الفصل السابع : العدل الإلهي والعقوبة الأُخروية ... 73

شبهة عدم التعادل بين الجريمة والعقوبة ... 75

الإمامة والخلافة

الإمامة والخلافة عند أهل السنة ... 80

الإمامة والخلافة عند الشيعة ... 83

الفصل الأوّل : المصالح العامة ومقتضيات نظام الحكم ... 89

مثلث الخطر ... 89

سيادة الروح القبلية على المجتمع الإسلامي الفتيّ ... 91

فذلكة وتحليل ... 94

الصحابة ومؤهلات القيادة ... 95

الفصل الثاني : أهل السنَّة ومعالم الحكومة الإسلامية ... 98

هل الشورى أساس الحكم الإسلامي ... 99

شواهد على خلاف تلك الفكرة ... 100

هل البيعة أساس الحكم الإسلامي ... 103

نقد فكرة أنّ البيعة أساس الحكم ... 104

ص: 453

الفصل الثالث : نظرية الحكم عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ... 106

بلاغات غير رسمية لإمامة الإمام عليّ عليه السلام ... 109

1. دعوة الأقربين وتنصيب علي عليه السلام للخلافة ... 109

2. آية الولاية وخلافة علي عليه السلام ... 112

بلاغ رسمي بخلافة الإمام علي عليه السلام في غدير خم ... 116

القرائن القطعية على المراد من لفظ المولى ... 120

أهل البيت :

سماتهم وحقوقهم

أهل البيت : في القرآن الكريم

الفصل الأوّل من هم أهل البيت ؟ ... 129

أ. أهل البيت لغة وعرفاً ... 130

ب. أهل البيت في الآية المباركة ... 134

القرائن المحدِّدة لمفهوم أهل البيت في الآية ... 134

أهل البيت في كلام النبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم ... 140

الطائفة الأُولى : التصريح بأسمائهم ... 142

الطائفة الثانية : إدخالهم تحت الكساء ... 143

الطائفة الثالثة : تعيينهم بتلاوة الآية على بابهم ... 148

مرور على ما رواه الطبري والسيوطي ... 149

ص: 454

نقد القول بنزول آية التطهير في نساء النبي ... 154

مشكلة السياق وحلّها ... 162

ما هو السر في جعلها جزءاً من آية أُخرى؟ ... 170

نظريات أُخرى في تفسير الآية ... 173

خاتمة المطاف : أهل البيت في الأدب العربي ... 177

الشيعة وآية التطهير ... 193

الفصل الثاني : سمات أهل البيت عليهم السلام ... 197

1. العصمة ... 199

1. ما هو المراد من الرجس ؟ ... 199

المنفي مطلق الرجس ... 202

2. هل الإرادة في الآية تكوينية أم تشريعية ؟ ... 203

أسئلة وأجوبة ... 207

تفسير آخر للإرادة التكوينية ... 211

ما هو الوجه لتفسير الإرادة بالتشريعية ؟ ... 214

2. المحبّة في قلوب المؤمنين ... 219

3. استجابة دعائهم عليهم السلام ... 223

4. ابتغاء مرضاة اللّه تعالى ... 228

محاولة طمس الحقيقة لولا ... ... 230

5. الإيثار ... 233

6. هم خير البريّة ... 237

7. أهل البيت عليهم السلام ورثة الكتاب ... 239

8. حرمة الصدقة عليهم ... 245

ص: 455

الفصل الثالث : حقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم ... 247

1. ولاية أهل البيت عليهم السلام ... 249

2. أهل البيت عليهم السلام وضرورة اطاعتهم ... 255

3. وجوب مودتهم وحبهم ... 261

4. وجوب الصلوات عليهم عند التشهد ... 275

5. دفع الخمس إليهم ... 281

6. الفيء لأهل البيت عليهم السلام ... 287

7. الأنفال لأهل البيت عليهم السلام ... 290

8. ترفيع بيوتهم ... 293

خاتمة المطاف : أهل البيت في كلام الإمام علي عليه السلام ... 298

عرض موجز لتاريخ التفسير عند الشيعة

الشيعة والتفسير تدويناً وتطويراً ... 303

الرسول الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم هو المفسّر الأوّل ... 309

نماذج من تفسيره صلى اللّه عليه وآله وسلم ... 311

أميرالمؤمنين علي عليه السلام هو المفسر الثاني ... 312

عثرة لا تقال ... 313

نماذج ممّا روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في التفسير ... 316

الإمام الحسن عليه السلام والتفسير ... 317

نماذج ممّا روي عنه عليه السلام ... 318

الإمام الحسين عليه السلام والتفسير ... 319

ص: 456

نماذج مما روي عنه عليه السلام ... 322

الإمام زين العابدين عليه السلام والتفسير ... 321

نماذج ممّا روي عنه عليه السلام ... 322

الإمام محمّد الباقر عليه السلام والتفسير ... 324

نماذج من تفسير الإمام الباقر عليه السلام ... 325

الإمام جعفر الصادق عليه السلام والتفسير ... 328

نماذج مما روي عنه عليه السلام ... 329

الإمام موسى الكاظم عليه السلام والتفسير ... 334

نماذج ممّا أُثر عنه عليه السلام ... 334

الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام والتفسير ... 336

نماذج ممّا روي عنه عليه السلام ... 336

الإمام محمد الجواد عليه السلام والتفسير ... 340

نماذج ممّا أُثر عنه عليه السلام ... 341

الإمام الهادي عليه السلام والتفسير ... 344

نماذج ممّا روي عنه عليه السلام ... 344

الإمام العسكري عليه السلام والتفسير ... 347

نماذج ممّا أُثر عنه عليه السلام ... 348

أسنادهم عليهم السلام موصولة إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ... 351

الشيعة وألوان التفسير ... 353

الشيعة وتفسير غريب القرآن ... 353

التفسير ومجازات القرآن ... 358

ص: 457

الشيعة والتفسير الموضوعي ... 360

المحكم والمتشابه ... 361

الناسخ والمنسوخ ... 363

تفسير آيات الأحكام ... 369

ما نزل من القرآن في حقّ النبي وعترته ... 372

التأليف حول أمثال القرآن وأقسامه وقصصه ... 376

معارف القرآن واحتجاج بها ... 377

أسباب النزول ... 378

التفسير الموضوعي في العصر الحاضر ... 379

الشيعة والتفسير الترتيبي ... 380

مشاهير المفسّرين من الشيعة

أعلام المفسرين الشيعة في القرن الأوّل ... 383

أعلام المفسرين الشيعة في القرن الثاني ... 385

أعلام المفسرين الشيعة في القرن الثالث ... 388

أعلام المفسرين الشيعة في القرن الرابع ... 390

أعلام المفسرين الشيعة في القرن الخامس ... 395

أعلام المفسرين الشيعة في القرن السادس ... 400

أعلام المفسرين الشيعة في القرن السابع والثامن ... 408

أعلام المفسرين الشيعة في القرن التاسع ... 415

أعلام المفسرين الشيعة في القرن العاشر ... 416

أعلام المفسرين الشيعة في القرن الحادي عشر ... 418

ص: 458

أعلام المفسرين الشيعة في القرن الثاني عشر ... 422

أعلام المفسرين الشيعة في القرن الثالث عشر ... 425

أعلام المفسرين الشيعة في القرن الرابع عشر و ... ... 427

تاريخ التدوين التفسير وتكامله ... 431

التفاسير الشيعة في قفص الاتّهام ... 434

تهمة التحريف ونقدها ... 439

الرسائل المفردة حول صيانة القرآن من التحريف ... 443

كتاب الكافي كتاب حديثي لا عقائدي ... 446

التحريف في كتب أهل السنّة ... 447

مضاعفات رمي فرق المسلمين بالتحريف ... 448

فهرس المواضيع ... 451

والخمد لله ربّ العالمين

ص: 459

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.