حديث الرزية

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

يعنى بالاستراتيجية الدينية والمعرفية

حديث الرزية

تأليف: السيد محمد مهدي الخرسان

الإخراج الفني نصير شكر

المطبعة دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع

الكمية: 1000 نسخة

الطبعة : الأولى 1436ه / 2015م

ص: 1

اشارة

ص: 2

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

ص: 3

العتبة العباسية المقدسة المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

يعنى بالاستراتيجية الدينية والمعرفية

حديث الرزية

تأليف: السيد محمد مهدي الخرسان

الإخراج الفني نصير شكر

المطبعة دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع

الكمية: 1000 نسخة

الطبعة : الأولى 1436ه / 2015م

ص: 4

في البدء

طلب النبي صحيفة لهم تملى ليأمنهم من الغدر

فأبوا عليه وقال قائلهم قوموا بنا قد فاه بالهجر

ومضوا إلى عقد الخلافة وما حضروه إلّا داخل القبر

جعلوك رابعهم أبا حسن ظلموا وربّ الشفع والوتر

وعلى الخلافة قد سابقوك وما سبقوك في أُحدٍ وبدر (1)

حديث الرزية وما أدراك ما حديث الرزية، حديث يندى له الجبين وتشمئز من وقعه القلوب، حينما طلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) دواةً وكتفاً ليكتب للأُمّة ما يعصمها من الضلال ويقوّم طريقها، فجُوبه بقسوة تامة، واتهم أيما اتهام مما أدّى إلى ضياع الفرصة ونقض الغرض.

ص: 5


1- ديوان ديك الجن : 50

ولتسليط الضوء على هذه الحادثة المؤلمة آثرنا إعادة نشر ما كتبه العلّامة السيد محمد مهدي الخرسان حفظه الله تعالى والمطبوع ضمن موسوعة عبد الله بن عباس في الجزء الأول تتميماً للفائدة

***

ص: 6

المقدّمة

حديث.. وأي حديث ؟! حديث ترك الأمة تخبط في عشواء إلى يوم القيامة..

حديث وأي حديث؟! حديث فتح باب الفرقة والاختلاف بين علي الأمة؛ والنبي (صلی الله علیه و آله)بعدُ بين ظهرانيهم، يدعوهم لما يحييهم فلم يستجيبوا له، بل كايدوه وعاندوه حتى أغمي عليه.

حديث وأيّ حديث بعده يؤمنون؟! حديث ما ذكره حبر الأمة بن عبد الله عباس (صلی الله علیه)إلا ،وبكى بكاء وأيّ بكاء؟! بكاء يبل دمعه الحصى، بكاءٌ كأنّ دموعه حين تسيل نظام اللؤلؤ..

هكذا يصفه الرواة فلنقرأ ولنبك مع حبر الأمة، ولنندب حظ الأمة العاثر حيث أضاعت تلك الفرصة الثمينة، فرفضت ذلك العرض السخي المؤمن من الضلالة أبداً.

فلنقرأ ما يرويه ابن عباس (صلی الله علیه):

قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس؟! يوم اشتد اشتد برسول الله

ص: 7

وجعه فقال: ﴿إيتوني بدواة وبياض اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً﴾ . فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي تنازع - فقال عمر : إنّ النبي يهجر وفي حديث آخر: «إنّه ليهجر»، وفي ثالث: «إنّه هجر» - ثمّ قال: عندنا ،القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف مَن في البيت واختصموا

فمن قائل يقول: القول ما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ومن قائل يقول: القول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغط واللغو، وتمادى القوم في نزاعهم، غضب رسول الله (صلی الله علیه و آله)فقال: (قوموا عني، لا ينبغي عند نبي تنازع)، فقاموا.

قال ابن عباس: فجئناه بعد ذلك بصحيفة ودواة، فأبى أن يكتبه لنا، ثم سمعناه يقول : ﴿ بعد ما قال قائلكم : عدى العدوي وسينكث البكري﴾، ثمّ قال: ﴿ما أنا فيه خير مما تدعوني إليه﴾، ثمّ أوصى بثلاث :فقال احفظوني في أهل بيتي، وأخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به)(1)

فكان ابن عباس الله (صلی الله علیه و آله)بعد ذلك يقول: «الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلی الله علیه و آله)وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، لولا مقالته _يعني مقالة عمر - لكتب لنا كتاباً لم تختلف أمته بعده ولم تفترق».

هذه إحدى صور الحديث الآتية، وأعتقد أنّ القارئ يستفزه مثل

ص: 8


1- نلفت نظر القارئ إلى أن في الفقرات الثلاث اختلاف في النقل، كما سيجده واضحاً فيما يأتي من ذكر صور الحديث فليلاحظ.

هذا الحديث ويتسرّع إلى الحكم بوضعه ،لشدة صدمته، وقد تذهب به المذاهب في الحكم على أولئك الصحابة الّذين شاقّوا الله ورسوله، فنسبوا الهجر إلى نبيّ اصطفاه الله لأداء رسالته إلى الناس كافة، فكان سفيره في خلقه، وأمينه على وحيه ، ورسوله المسدّد﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ﴾[ النجم : 3-4]

.

لكني أعتقد أيضاً أنّ القارئ سيظهر له من متابعة صور الحديث الآتية، وما يتبعها من أقوال العلماء في توجيهه، اعتذاراً عن المعارضة، أنّ الحديث صحيح وأنه حديث رزيّة وأي رزيّة، ولم يكن ابن عباس (صلی الله علیه) مبالغاً حين قال ذلك فيه، لأنّ فيه الردّ على الرسول الله(صلی الله علیه و آله) و هو عين الرد على الله ،تعالى، أوليس الردّ على الله وعلى الرسول من موجبات الكفر فالله سبحانه يقول: ﴿ مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر 3 :].

والمعارضة تردّ على الرسول ما طلب ،وتصر على الامتناع من تلبية طلبه. والله سبحانه يقول: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3-4] .

و المعارضة تقول: إنّه يهجر. والله سبحانه يقول:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا الله وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24]. والمعارضة: تأبى ذلك وترد عليه بعنف وقسوة. والله سبحانه يقول:﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ

ص: 9

الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36].

والمعارضة تأبى ذلك. والله سبحانه يقول لنبيه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 67].

والمعارضة تشاكسه في التبليغ وتردّ عليه بعنف وسوء أدب، وكأنّهم لم يسمعوا جميع تلكم الآيات الكريمة ولم يسمعوا الله سبحانه يقول في كتابه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقُ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال:13].

أليس هذا هو الضلال البعيد؟ أليس هذا هو الخسران المبين؟ الظلم والجفاء؟ أليس هذا هو الغباء والشقاء ؟ أي غباء فوق هذا يتركون طريق التأمين على السلامة إلى الأبد، ويرتطمون أو حال الجهالة !؟

يا الله لقد سبق أن آذوا رسول الله (صلی الله علیه و آله)في نفسه وآله، حتى وبخهم القرآن الكريم في آية ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الله﴾ [الأحزاب: 53]. وآذوه الآن في قدسه وعصمته، منتهكين بذلك حرمته في أداء رسالته.

وهل يعني غير ذلك ردّهم: إنّه يهجر ؟

هذه نبذة عن حديث الرزية، بل نفثة حرّى جاش بها الصدر فباحا، وما قدّمتها إلا لتنبيه القارئ على استعداده لقراءة ما سيقرأه من حديث الرزية وملابساته وما تبعه من أعذار واهية لا تزيد علماً

ص: 10

ولا تغني عملاً، سوى كشف صفحات - لولا حديث الرزية - لسنا بصددها والكشف عنها، ولكنها جناية السلف، وخيانة الخلف ،أودت بأمة محمد (صلی الله علیه و آله)إلى حافة الهاوية والتلف. ولئلا يصدمه عنف الردّ كما صدم الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله)حتى أُغمي عليه كما في بعض الروايات، فليستعد ويتدرع بالصبر من الآن.

لنقرأ (أولاً) صور الحديث في الصحاح والسنن والمسانيد وكتب التاريخ واللغة والأدب، من ثمّ نتابع معه قراءتنا (ثانياً) في مصادر الحديث، و(ثالثاً) مع العلماء في آرائهم حول الحديث.

وليقرأ القارئ كل ذلك بروح موضوعية مع التجرد عن العاطفة والابتعاد عن التعصب، ونترك له الحكم في تلك القضية وبالأصح الرزية، فعلى من تقع المسؤولية؟

ولا نريد أن نستبق الحكم في ذلك بل له ما سيؤديه نظره إليه من رأي حول رموز المعارضة أياً كانوا ومهما كانوا، فهم أولاً وأخيراً إنّما نكنّ لهم الإحترام ما داموا في طاعة النبي وخدمة الإسلام. أما وقد نبذوا أمر الرسول الله (صلی الله علیه و آله)ولم يكتفوا بذلك حتى نسبوا إليه﴿ الهجر كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ﴾ [الكهف: 5] . فنحن في حلّ من حسابهم، وهم كسائر الناس في خطأهم وصوابهم. فهم غير معصومين، ولا نحن في حسابهم بملومين.

ص: 11

صور الحديث :

اشارة

لقد ورد الحديث بصور متعددة تبلغ الثلاثين أو تزيد ، وهذا رقم قد يبعث على الدهشة ! حديث واحد عن واقعة واحدة شهودها من الصحابة ما غصت بهم الحجرة، ثم لا يرويها أربعة من شهودها وهم:

1 - الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) .

2 - الخليفة عمر بن الخطاب بطل المعارضة.

3 - جابر بن عبد الله الأنصاري.

4 - عبد الله بن عباس.

كيف يبلغ اختلاف الصور في رواياتهم إلى ذلك العدد !!

ولو كان العدد يتساوى فيه الشهود لهان الأمر ولا غرابة ، ولكن الغرابة أنا سنقرأ الحديث عن كلّ من الإمام علي (علیه السلام) وعن الخليفة عمر ورد بصورتين، وعن جابر بصورتين.

وباقي الصور كلّها تروى عن ابن عباس لماذا ذلك؟

سؤال يفرض نفسه ، ولابد من تلمّس الجواب عليه، وهذا ما سنجده عند الوقوف على قائمة الرواة عنه، ثمّ في باقي الطبقات من رجال الأسانيد بعدهم، حتى نصل إلى مدوّنيه من أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن والتاريخ وغيرهم.

وهؤلاء بذلوا جهداً كبيراً في التعتيم على رموز المعارضة، فأحاطوه بهالة من التضبيب الكثيف، تكاد أن تخفي معالمه، حفاظاً على

ص: 12

حق الصحبة وإن تم ذلك على حساب قدس صاحب الرسالة، فانظر أيها القارئ - تلكم الصور كما وردت في مصادرها الموثوقة عن أعيان

شهودها.

ولنبدأ بما روي عن الإمام علي(علیه السلام) ، ثم بما روي عن الخليفة عمر ، ثمّ بما روي عن جابر ، وأخيراً بما روي عن ابن عباس.

الصورة الأولى:

ما روي عن الإمام أمير المؤمنين على بن أبي طالب (علیه السلام): أخرج ابن سعد في طبقاته قال:« أخبرنا حفص بن عمر الحوضي عن عمر بن الفضل العبدي عن نعيم بن يزيد عن عليّ بن أبي طالب ان رسول الله (صلی الله علیه و آله)لما ثقل قال: (يا علي إئتني بطبق أكتب فيه ما لا تضلّ أمتي بعدي)، قال: فخشيت أن تسبقني نفسه، فقلت: إنّي أحفظ ذراعاً من الصحيفة.

قال: فكان رأسه بين ذراعي ،وعضدي، فجعل يوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم.

قال: كذلك حتى فاضت نفسه، وأمر بشهادة أن لا اله إلا الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله حتى فاضت نفسه، من شهد بهما حُرّم على النارة . (1)

ص: 13


1- طبقات ابن سعد 2 ق 362 .

أقول : أخرج هذه الصورة أحمد في مسنده: «عن بكر بن عيسى الراسبي عن عمر بن الفضل وإلى قوله: وما ملكت أيمانكم»(1). ورواها البخاري في الأدب المفرد(2) . وهذه الصورة كما تراها مهلهلة الجوانب، تخفق فيها رياح الأهواء، فرسول الله (صلی الله علیه و آله)يأمر علياً باحضار طبق ليكتب فيه ما لا تضل أمته بعده، وعلي لا يمتثل خشية أن تسبقه نفس النبي (صلی الله علیه و آله)؟! وجعل رسول الله (صلی الله علیه و آله)یوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم حتى فاضت نفسه؟! وأمر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله حتى فاضت نفسه ؟(3)

أي نفس هذه بعد أن سبق وأن فاضت نفسه أوّل مرة - كما مرّ - فهل عادت إليه ثانياً فجعل يأمر بالشهادتين حتى فاضت نفسه ثانياً؟! الجواب عن ذلك عند الرواة. غير إني أنبّه القارئ إلى أنّ مارواه الإمام ليس هذا، بل هو عين ما رواه عبد الله بن عباس كما صرح بذلك الحسن البصري وهو من سادة التابعين عند الآخرين، فاقرأ ما يأتي:

الصورة الثانية:

أخرج أبو محمد عبدالسلام بن محمد الخوارزمي في كتابه سير الصحابة والزهّاد والعلماء العبّاد فقال :«حدثني محمد بن عليّ قال:

ص: 14


1- مسند أحمد 1 / 90 .
2- الأدب المفرد / 9
3- أخرجه المتقي الهندي في منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 3 / 114 .

سمعت أبا اسحاق يزيد الفراء عن الصباح المزني عن أبان بن أبي عياش قال: سمعت الحسن بن أبي الحسن قال: سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) - ثم سمعته بعينه من عبد الله بن عباس بالبصرة وهو عامل عليها، فكأنما ينطقان بفم واحد، وكأنما يقرآنه من نسخة واحدة، والذي عقلته قول ابن عباس، والمعنى واحد غير أن حديث ابن عباس أحفظه - قال : سمعته يقول : إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال في مرضه الذي قبض فيه: (إيتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي أبداً)، فقام بعضهم ليأتي به فمنعه رجل من قريش (؟) وقال: إن رسول الله يهجر. فسمعه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فغضب وقال: (إنكم تختلفون وأنا حي! قد أعلمت أهل بيتي بما أخبرني به جبرئيل عن رب العالمين، إنكم ستعملون بهم من بعدي، وأوصيتهم كما أوصاني ربي، فأصبر صبراً جميلاً ) .

فبكى ابن عباس حتى بل لحيته. ثم قال:«لولا مقالته لكتب لنا كتاباً لم تختلف أمته بعده ولم تفترق ... اه- »(1)

ص: 15


1- قال كاتب جلبي في كشف الظنون 1013٫2 ط المعارف التركية سير الصحابة والزهاد والعلماء العباد، لأبي محمد عبد السلام بن محمد الخوارزمي الأندرسقاني المتوفى سنة ... أخذه من مائة مجلد، ووردت ترجمته في هدية العارفين 569٫1. (أقول) وطريقنا إليه غاية المرام في حجة الخصام عن طريق الخاص والعام للسيد هاشم البحراني طبعة حجرية سنة 1272 ه- والحديث المشار إليه أعلاه في ص 598.

الصورة الثالثة :

ما روي عن عمر بن الخطاب :

أخرج ابن سعد في طبقاته قال: أخبرنا محمد بن عمر حدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: كنا عند النبي (صلی الله علیه و آله) وبيننا وبين النساء حجاب، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اغسلوني بسبع قرب وائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً».

فقال النسوة: إنتوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بحاجته. قال عمر: فقلت: اسكتن فإنكن صواحبه، إذا مرض عصر تن أعينكن، وإذا صح أخذتن بعنقه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (هن خير منكم) (1).

وأخرجه عنه المتقي الهندي في منتخب كنز العمال المطبوع بهامش عن ابن أبي شيبة بتفاوت يسير (2). مسند أحمد.

الصورة الرابعة :

ما روي عن عمر بن الخطاب، وهي تقرب من الثالثة إلا أنها أتم ولفظها كما يلي :

ص: 16


1- طبقات ابن سعد 2 ق 37٫2
2- كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد 2٫ 173 ، و 114٫3 .

أخرج النسائي في السنن الكبرى والهيثمي في مجمع الزوائد قال: وعن عمر بن الخطاب قال :لما مرض النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (ادعوا لي - ائتوني - بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي)، فكرهنا ذلك أشد الكراهية ثم قال: (ادعوا لي بصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فقال النسوة من وراء الستر : ألا تسمعون ما يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقلت : إنكن صواحبات (صواحب) يوسف إذا مرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) عصر تن أعينكن، وإذا صح ركبتن عنقه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (دعوهن فإنهن خير منكم) (1) .

قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن جعفر بن إبراهيم الجعفري، قال العقيلي في حديثه نظر، وبقية رجاله وثقوا وفي

بعضهم خلاف... أه-.

أقول: لا يهمني قول العقيلي في محمد بن جعفر بن إبراهيم الجعفري - وهذا منتظر منه في الرجل وأمثاله - ما دام الحديث رواه

أصحاب الصحاح ومنهم البخاري، ولا كلام للعقيلي في رجاله.

لكن الذي يهمني تنبيه القارئ على ما مر في الصورة الثالثة من حذف قول عمر: «فكرهنا ذلك أشد الكراهية» لماذا كرهوا ذلك أشد الكراهية؟ والجواب : سيأتيك بالأخبار من لم تزود. فانتظر ما سوف يأتي من تعقيب على الصور والأسانيد من أقوال علماء التبرير، فستجد

ص: 17


1- السنن الكبرى 433٫3ط العلمية، ومجمع الزوائد 34٫9

هناك من التحوير والتزوير، وعجائب بل وغرائب من التفكير والتصوير.

ثم إن قول النبي(صلی الله علیه و آله): (ادعوا لي بصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً). فقال النسوة ... قد حذف وهذا يكشف عن التواطؤ العملي بين الرواة على تعمية الصورة، بكل ما أمكنهم من حول وطول.

فقد حذفوا دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) ثانياً بإحضار الصحيفة، مما يدل على تصميم النبي (صلی الله علیه و آله) على تنفيذ أمره، كما يدل على إصرار المعارضة على رفضه. وسيأتي في حديث جابر ما يدل عليه.

وقد شوشوا على تدخل العنصر النسوي في تلك المعركة الكلامية الحادة بعد دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) ثانية لهم باحضار الكتاب. مما يدل على مدى الصخب والجدال حتى كانت المرأة كالرجل في ذلك اليوم. وسيأتي مزيد إيضاح عن ذلك في حديث طاوس عن ابن عباس (الصورة 14 ، 15) وحديث عكرمة عن ابن عباس (الصورة 17).

الصورة الخامسة:

ما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري:

أخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمد بن عبد الأنصاري ، عن قرة ابن خالد عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال:

ص: 18

الما كان في مرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي توفي فيه ، دعا بصحيفة ليكتب فيها لأمته كتاباً لا يَضِلُّون ولا يُضِلُّون، قال: فكان في البيت لغط وكلام وتكلم عمر بن الخطاب. قال: فرفضه النبي (صلی الله علیه و آله) (1) .

وبهذا النص ورد في نهاية الارب للنويري (2)، ورواه البيهقي في سننه باب كتابة العلم في الصحف وبتره عند قوله: وتكلم عمر فتر که (3).

وأخرج ابن سعد أيضاً بسنده عن محمد بن عمر عن إبراهيم بن يزيد عن أبي الزبير عن جابر قال : دعا النبي (صلی الله علیه و آله) عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لأمته لا يضلوا ولا يضلوا فلغطوا عنده حتى رفضها النبي(صلی الله علیه و آله) (4) .

أقول: وأخرج هاتين الروايتين الهيثمي في مجمع الزوائد إلا أنه قال في آخر الأولى: فرفضها رسول الله (صلی الله علیه و آله).وقال: رواه أبو يعلى. وعنده في رواية: يكتب فيها كتاباً لأمته قال : لا يظلمون ولا يظلمون. ثم قال: ورجال الجميع رجال الصحيح (5) ثم أخرجها ثانياً وقال:

ص: 19


1- طبقات ابن سعد 2 ق 36٫2.
2- نهاية الأرب 18 ٫ 375.
3- سنن البيهقي 435٫3 ط بيروت سنة 1411.
4- طبقات ابن سعد 2 ق 37٫2
5- مجمع الزوائد 214٫4.

رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وفيه خلاف(1).

أقول: وسند أحمد كما في مسنده عن موسى بن داود عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر (2) ، ونحن لا يهمنا الخلاف في ابن لهيعة بعد ما مر عن ابن سعد بإسنادين ليس فيهما ابن لهيعة ويأتي عن ابن حبان كذلك، لكن الذي يهمنا هو التحريف عنده في آخر الرواية الأولى !

فعن ابن سعد والنويري : وتكلم عمر بن الخطاب فرفضه النبي (صلی الله علیه و آله) ، بينما في روايته الثانية: فتكلم عمر بن الخطاب، فرفضها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وفي تغيير الضمير في الرفض ما يستحق التأمل فيه.

أما عن ابن لهيعة فليس يهمنا فعلاً الدفاع عنه بعد ما روي الحديث بأسانيد ليس فيها ابن لهيعة كما مر عن ابن سعد، ورواه أيضاً ابن حبان في كتابه الثقات بسند ليس فيه ابن لهيعة، فقد روى عن إبراهيم بن خريم عن عبد بن حميد عن عثمان بن عمر عن قرة بن خالد السدوسي عن أبي الزبير عن جابر: «انّ النبي (صلی الله علیه و آله) دعا بصحيفة عند موته فكتب لهم فيها شيئاً لا يضلون ولا يُضلون، وكان في البيت لغط، وتكلم عمر فرفضها ... ا ه- (3).

وبالمقارنة بين رواية ابن حبان وما سبقها، يدرك القارئ مدى

ص: 20


1- نفس المصدر 33٫9.
2- مسند أحمد 1 ٫ 324.
3- الثقات 4 ٫ 212 ط دار الكتب العلمية.

التحريف المتعمد كما هو عند الهيثمي، إلا أن الجديد في رواية ابن حبان هي قوله : ( فكتب لهم فيها شيئاً ......)

فما هو الشيء الذي كتب لهم؟

ثم لماذا كان اللغط ؟ ومن كان؟

وأخيراً لماذا تكلم عمر ؟

ثم من ذا رفضها ؟

أهو عمر ؟ أم النبي ؟

كل هذا يجد القارئ الإجابة عليه في قول عمر لابن عباس: أراده - يعنى علياً - للأمر فمنعت من ذلك، وقوله الآخر وقد مر : فكرهنا ذلك أشد كراهية» (راجع الصورة 4).

ولم يكن ما تقدم من اختلاف في صورة حديث جابر مقتصراً على ما مر، بل له صورة أخرى أخرجها البلاذري في جمل أنساب الأشراف من حديث جابر، فقال: حدثني روح ثنا الحجاج بن نصير عن قرة بن خالد عن أبي الزبير عن جابر أن النبي(صلی الله علیه و آله) دعا بصحيفة أراد أن يكتب فيها كتاباً لأمته فكان في البيت لغط فرفضها (1).

والآن وقد انتهينا من عرض خمس صور للحديث بروايتها عن الإمام أمير المؤمنين وعن الخليفة عمر وعن جابر بن عبد الله، فلنعد

ص: 21


1- أنساب الأشراف 236٫2.

نقرأ باقي الصور بكل أشكالها واختلاف رجالها برواياتهم عن ابن

عباس.

الصورة السادسة :

ما رواه علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه:

قال: «لما حضرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوفاة وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «إيتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال عمر : كلمة معناها إن الوجع قد غلب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ثم قال : عندنا القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف من في البيت واختصموا، فمن قائل يقول القول ما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومن قائل يقول القول ما قال عمر، فلما كثر اللغط واللغو والاختلاف، غضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: (قوموا إنه لا ينبغي لنبي أن يختلف عنده هكذا، فقاموا. فمات رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذلك اليوم. فكان ابن عباس يقول : الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) " يعني الاختلاف واللغط.

أخرج هذه الصورة أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه (السقيفة) عن الحسن بن الربيع عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن علي بن عبد الله بن العباس. ورواها عن كتاب الجوهري ابن أبي الحديد في شرح النهج. ثم قال ابن أبي الحديد: «قلت: هذا

ص: 22

الحديث قد خرجه الشيخان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحهما، واتفق المحدثون كافة على روايته» (1).

أقول كلام ابن أبي الحديد في هذا المقام تعوزه الدقة. فإن هذه الصورة من الحديث سنداً ومتناً لم ترد في الصحيحين، ولم يتفق المحدثون كافة على روايتها بألفاظها. نعم اتفق المحدثون كافة على رواية مضمونها بألفاظ متفاوتة وأسانيد مختلفة، كما سنقرؤها في الصور الآتية.

الصورة السابعة:

ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أخرجه أبو محمد عبد السلام بن محمد الخوارزمي في كتابه سير الصحابة والزهاد بسنده عن عبد الرحمن بن أبي هاشم عن عمرو بن ثابت عن أبيه عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عباس إذا ذكر ليلة الخميس بكي، فقيل له: يابن عباس ما يبكيك؟ قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (يابني عبد المطلب أجلسوني وسندوني أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي أبداً)، فقال بعض أصحابه: إنّه يهجر - قال : وأبى أن يسمي الرجل -

ص: 23


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 51٫6 ط دار احياء الكتب العربية، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

فجئنا بعد ذلك، فأبى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يكتبه لنا، ثم سمعناه يقول: عدى العدوي وسينكث البكري) (1).

الصورة الثامنة :

ما رواه أيضاً سعيد بن جبير عن ابن عباس فيهما أخرجه عنه ابن سعد في الطبقات بسنده عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن الأعمش عن عبيد الله بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: اشتكى النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الخميس فجعل - ابن عباس - يبكي ويقول: يوم الخميس وما يوم الخميس ؟ اشتد برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه فقال: (إيتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً؟ قال: فقال بعض من كان عنده إن النبي (صلی الله علیه و آله) ليهجر، فقال: فقيل له: ألا نأتيك بما طلبت ؟ قال : (أو بعد ماذا؟!)، قال: فلم يدع به »(2).

أقول: أخرج هذه الصورة الطبراني في معجمه الكبير بسنده عن عمر بن حفص السدوسي عن عاصم بن علي عن قيس بن الربيع عن الأعمش إلى آخر السند كما مر عن ابن سعد، ومن دون تفاوت. لكن في المتن إثم واختلاف كبير إذ قال: لما كان يوم الخميس، وما يوم الخميس ؟ ثم بكى فقال : قال رسول الله : (إيتوني بصحيفة

ص: 24


1- أنظر غاية المرام ٫ 598 ط حجرية سنة 1272 .
2- طبقات ابن سعد 2 ق 36٫2.

ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فقالوا: يا رسول الله ألا نأتيك بعد؟ قال: (بعد ما ) ... اه- »(1).

أقول : فلاحظ حذف جملة: (فقال بعض من كان عنده أن نبي الله ليهجر)، فمن ابتلعها من رواة السوء حين غص بذكرها ! ودع عنك من تفاوت دون ذلك.

الصورة التاسعة :

ما رواه سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبيرعن ابن عباس .

ويكاد ينعدم وضوح الرؤية في هذه الصورة، إذ تنبعث منها عدة صور متشابهة مضموناً، متفاوتة سنداً ومتناً، وما ذلك إلا لارتعاش أيادي المصورين ودمدمة المتمتمين - وهم المحدثون والرواة طبعاً .. فقد روى الحديث عن ابن عيينة خمسة عشر علماً من أعلام المحدثين - فيما أحصيت - وربما كانوا أكثر، ولكن لم نجد رواياتهم كلها متفقة تماماً، وحبذا لو كان الخلاف يسيراً لهان الأمر، ولكن بين مروياتهم من التفاوت ما يبعث على الشك والريبة. والآن لنمر عابرين على أسمائهم النقارن بين مروياتهم، ولندرك كم جنى التالون على ما رواه الأولون، وهم:

ص: 25


1- المعجم الكبير 11 ٫ 352 ط الثانية بالموصل.

1_ يحيى بن آدم المتوفى في سنة 203 ه-.

2_عبد الرزاق بن همام المتوفى سنة 211 ه-.

3_ قبيصة بن عقبة المتوفى سنة 215 ه- .

4_ عبد الله بن الزبير الحميدي المتوفى سنة 219 ه-.

5_الحسن بن بشر المتوفى سنة 221 ه- (1).

6_ محمد بن سلام المتوفى سنة 225 ه-.

7_ سعيد بن منصور المتوفى سنة 227 ه-.

8_ محمد بن سعد المتوفى سنة 230 ه-.

9_ عمرو الناقد المتوفى سنة 232 ه-.

10_ علي بن عبد الله المديني المتوفى سنة 234 ه-.

11_ قتيبة بن سعيد المتوفى سنة 240 ه- .

12_أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 ه- .

13_ أبو بكر بن أبي شيبة المتوفى سنة 235 ه- .

14_ الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني المتوفى سنة 259 أو سنة 260 ه-.

15_ أحمد بن حماد الدولابي المتوفى سنة 269 ه- .

ص: 26


1- كما في صحيح مسلم بشرح النووي وط صبيح، دون ط بولاق فليلاحظ بدقة.

وإلى القارئ استعراض رواياتهم:

أما رواية يحيى بن آدم - أول القائمة - فهي تتفق مع رواية أحمد بن حماد الدولابي - الخامس عشر من القائمة - كما أخرجها الطبري، وإليك لفظه: حدثنا أبو كريب قال حدثنا يحيى بن آدم... قال - ابن عباس - : يوم الخميس قال الطبري - ثم ذكر نحو حديث أحمد بن حماد الدولابي، والحديث المشار إليه كان قد ذكره قبل هذا ولفظه قال ابن عباس - يوم الخميس وما يوم الخميس؟! قال: اشتد برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه فقال: (إيتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي أبداً)، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي أن يتنازع، فقالوا: ما شأنه؟ أهجر استفهموه؟ فذهبوا يعيدون عليه، فقال: (دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه)، وأوصى بثلاث قال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة عمداً)، أو قال فنسيتها. قال الطبري في رواية يحيى بن آدم غير أنه قال: ولا ينبغي عند نبي أن ينازع ... اه- (1) .

فهذه رواية الطبري كفتنا مؤنة البحث عن مقارنة حديثين الراويين عن سفيان وهما يحيى بن آدم وأحمد بن حماد، وهما أول القائمة وآخرها.

وأما رواية عبد الرزاق - الثاني من القائمة - فقد أخرجها في

ص: 27


1- تاريخ الطبري 193٫3 ط الحسينية بمصر.

كتابه المصنف عن ابن عيينة بلا واسطة بينهما وهو لا يختلف في حديثه كثيراً عما أخرجه البخاري عن شيخه قبيصة، إلا فيما جاء في آخره قال: فإما أن يكون سعيد سكت عن الثالثة عمداً، وإما أن يكون قالها فنسيها (1). وهذا مر علينا نحوه في حديث البخاري عن شيخه محمد بن سلام.

وأما رواية قبيصة - وهو الثالث من القائمة - فقد رواها عنه البخاري في كتاب الجهاد والسير في باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم (2).

قال: حدثنا قبيصة حدثنا ابن عيينة عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس ؟ ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء فقال: اشتد برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه يوم الخميس فقال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، قال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه)، وأوصى عند موته بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب

ص: 28


1- المصنف 57٫6 و 10 ٫ 361 ط المكتب الإسلامي.
2- عنوان الباب لا يدل عليه حديث الباب الذي لم يذكر البخاري فيه غيره، وقد أربك شراح صحيحه في توجيه ذلك وأكثرهم جهدا ابن حجر في فتح الباري 510٫6 ط الحلبي، فراجع.

وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة (1).

ثم حكى البخاري تحديد جزيرة العرب، وليس ذلك جزءاً من الحديث !

واعلم بأن البخاري لم تقتصر روايته الحديث سفيان على شيخه قبيصة عن سفيان، بل رواه أيضاً عن شيخه الآخر محمد بن سلام - وهو السادس في القائمة - في كتاب الجزية في باب اخراج اليهود من جزيرة العرب، ولدى المقارنة بين الروايتين نجد تفاوتاً في اللفظ وزيادة في رواية محمد بن سلام لم ترد في رواية قبيصة.

وإليك اللفظ برواية محمد بن سلام قال - بعد ذكر السند إلى سعيد بن جبير : سمع ابن عباس (صلی الله علیه و آله) يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس ؟ ثم بكى حتى بل دمعه الحصى، قلت: يا ابن عباس ما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه فقال: (ائتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما له أهجر استفهموه، فقال: (ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه، فأمرهم بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، والثالثة خير،

إما أن سكت عنها، وإما أن قالها فنسيتها» (2).

ص: 29


1- صحيح البخاري 69٫4 ط بولاق.
2- نفس المصدر 99٫4

قال سفيان: هذا من قول سليمان.

وثمة رواية ثالثة للبخاري الحديث سفيان عن شيخه قتيبة - وهو الحادي عشر في القائمة - ذكرها في كتاب المغازي في باب مرض النبي (صلی الله علیه و آله) ووفاته، وهي تتفاوت مع ما مر من روايتي قبيصة ومحمد بن سلام تفاوتاً جزئياً، وفيها : فقالوا: ما شأنه اهجر استفهموه فذهبوا يردون عليه» (1).

أقول: ومع ذلك فيبقى العجب من البخاري، إذ هو يروي الحديث عن سفيان برواية ثلاثة من شيوخه وهم سمعوه من شيخهم سفيان، ومع ذلك لم تتفق رواياتهم على نحو الدقة، بل أن في بعضها زيادة على الأخرى كما مر في رواية محمد بن سلام، فراجع.

وفوق ذلك أن البخاري لم يعقب على الاختلاف بشيء مما يوهم أن ذلك من الرواة، مع ان المتتبع لأحاديث صحيح البخاري يجد كثيراً من نحو هذا، فمثلاً يحسن بالباحث مراجعة فتح الباري في شرح أول حديث للبخاري ليقف على بلبلة العلماء في أول حديث في صحيح البخاري وهو (إنما الأعمال بالنيات وما فيه من خرم حتى قال ابن العربي: لا عذر للبخاري في إسقاطه، لأن الحميدي شيخه فيه قد رواه في مسنده على التمام ... وقال الداودي الشارح: الإسقاط فيه من

ص: 30


1- نفس المصدر 9٫6

البخاري، فوجوده في رواية شيخه وشيخ شيخه يدل على ذلك » (1). وقال ابن حجر : ولا يوجد فيه - في الصحيح - حديث واحد مذكور بتمامه سنداً ومتناً في موضعين أو أكثر إلا نادراً»، فقد عنى بعض من لقيته بتتبع ذلك فحصل منه نحو عشرين موضعاً. وقال: فلا يوجد في كتابه حديث على صورة واحدة في موضعين فصاعداً (2).

فبعد شهادة هؤلاء لا يسعنا إدانة وسائط النقل بين البخاري وبين ابن عيينة، بل التبعة يتحملها البخاري إذ لم يؤد ما حمل من الحديث كما هو .

ثم اعلم أن الحديث برواية قتيبة رواه عنه أيضاً مسلم في صحيحه في كتاب الوصية في باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه فقال: «عن سعيد بن منصور وقتيبة وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد ثم قال: واللفظ لسعيد». وفي قوله هذا إيماء إلى أن في رواياتهم اختلاف فاختار رواية سعيد، وما ذكره يتفق مع ما مر عند البخاري عن محمد بن سلام، ثم رواه عن أبي إسحاق إبراهيم عن الحسن بن بشر عن ابن عيينة (3).

ص: 31


1- فتح الباري 1٫ 17 - 18. .
2- نفس المصدر 91٫1
3- صحیح مسلم 75٫5 ط صبيح بمصر

وأما رواية عبد الله بن الزبير الحميدي - الرابع من القائمة - فقد أخرجها في مسنده(1) عن ابن عيينة بلا واسطة، ولفظه مقارب لما مر

عن عبد الرزاق. وأما رواية الحسن بن بشر - الخامس في القائمة - فقد أخرجها مسلم في . صحیحه (2) نحو ما مر من رواية قتيبة. وكذلك رواية ، وهي : محمد بن سلام وهو السادس في القائمة.

وأما رواية سعيد بن منصور - السابع من القائمة - فقد أخرجها في سننه، وقد مر عن مسلم روايته عنه في صحيحه، كما أخرجها عنه عبد السلام بن محمد الخوارزمي في سير الصحابة عن أبي إسحاق عنه(3)، وأخرجها عنه أيضاً أبو داود في سننه مع شرحه عون المعبود في كتاب الخراج والفيء والإمارة في باب اخراج اليهود من جزيرة العرب. إلا أنه طوى أول الحديث جملة وتفصيلاً فقال: حدثنا سعيد بن منصور نا سفيان بن عينية عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي (صلی الله علیه و آله) أوصى بثلاثة فقال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، قال ابن عباس وسكت عن الثالثة أو قال: فأنسيتها. وقال الحميدي عن

ص: 32


1- مسند الحميدي 241٫1 ط بيروت.
2- صحیح مسلم 5٫ 75ط محمد علي صبيح وط شرح النووي أيضاً (وهي مما سقط من ط بولاق).
3- أنظر غاية المرام ٫ 598 ط حجرية.

سفیان قال سليمان: لا أدري أذكر سعيد الثالثة فنسيتها أو سكت عنها) (1) .

أقول: ما علمت عليه بين قوسين وضع عليه رمز نسخة، يعني لم یرد في جميع نسخ سنن أبي داود.

ونعود إلى ما رواه أبو داود عن سعيد بن منصور، لماذا قطع من الحديث رأسه فلم يذكر أوّله ، بل لم يذكر منه إلا الوصية مع ان حديث سعيد بن منصور أخرجه مسلم في صحيحه والخوارزمي في سير الصحابة ولفظهما متقارب، وقد مر برواية مسلم في هذه الصورة عند ذكر قتيبة شيخ البخاري، فراجع وقارن لتعرف مدى أمانة أبي داود ولعله هو الآخر يفتري على سعيد بن منصور بأنه لم يذكر أوّل الحديث، أو ذكره فنسيه هو الآخر، كما في الوصية الثالثة - وسيأتي مزيد بيان عنها - فقال عنها سليمان لا أدري أذكر سعيد الثالثة فنسيتها أو سكت عنها. لكن أبا داود افترى على ابن عباس فنسب إليه أنه قال: وسكت عن الثالثة، أو قال: فأنسيتها».

وأما رواية محمد بن سعد - الثامن في القائمة - فقد أخرجها في كتابه، ولفظه كما مر إلا في قوله : (إئتوني بدواة وصحيفة)، وفي آخر الحديث: «أو سكت عنها عمداً »(2).

ص: 33


1- سنن أبي داود 3٫ 128 ط الهند.
2- طبقات ابن سعد 2 ق 36٫2 ط ليدن عن سفيان بلا واسطة

وأما رواية علي المديني - العاشر في القائمة فقد أخرجها البيهقي (1) عن علي بن أحمد بن عبدان عن أحمد بن عبيد الصفار عن إسماعيل بن إسحاق القاضي عنه عن سفيان، وفي روايته زيادة لم يشاركه فيها أحد ممن روى عن سفيان سنأتي على ذكرها عند نقل ما قاله البيهقي ضمن علماء التبرير.

وأما رواية أحمد بن حنبل - الثاني عشر في القائمة - فقد أخرجها في مسنده (2) عن ابن عيينة بلا واسطة ويبدو أنه سمع الحديث من سفيان بن عيينة أكثر من مرة لقوله : قال مرة كذا». فحدث تفاوت لفظي لتكرر سماعه، وهذا يسوغ لنا تحميل سفيان عبء الاختلاف إلا فيما لا يسع تحميله، نحو صنيع أبي داود الذي أشرنا إليه. وأما رواية أبي بكر بن أبي شيبة - وهو الثالث عشر في القائمة -

فقد أخرجها . عنها مسلم وأما رواية الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني - الرابع عشر من القائمة - فقد أخرجها البيهقي في سننه وهذا لفظه: «حدثنا أبو محمد عبدالله بن يوسف الأصبهاني املاء، انبأ أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة ثنا الحسن بن محمد الزعفراني ثنا سفيان بن (3) نحو روايته عن سعيد بن منصور.

ص: 34


1- دلائل النبوة 181٫7
2- مسند أحمد 222٫1
3- صحيح مسلم 75٫5

عيينة ... سمعت ابن عباس (صلی الله علیه) يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى، ثم قال: اشتد وجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: (التوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقال: ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه)، وأمرهم بثلاث: فقال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، والثالثة نسيتها» (1) ثم قال البيهقي عقب ذلك: رواه البخاري في الصحيح عن قتيبة وغيره عن سفيان.

ورواه مسلم عن سعيد بن منصور وقتيبة وغيرهما عن سفيان. وأما رواية أحمد بن حماد الدولابي - الخامس عشر في القائمة - فقد أخرجها الطبري في تاريخه (2) وقد مرت الإشارة إليها في رواية يحيى بن آدم - أول القائمة -.

أقول: وعلى القارئ أن يقارن بين ما رواه وبين روايات من أشار إليهم البيهقي وقد مرت ليرى مدى التفاوت من حذف وتغيير، وأربأ بنفسي معه عن سوء التعبير والتقدير.

والآن ونحن قد طالت مسيرتنا مع الصورة التاسعة التي رواها خمسة عشر من أعلام الحفاظ وأئمة الحديث كلهم عن سفيان بن عيينة، فقد رأينا الاختلاف بين رواياتهم، مما يجعلنا نشك في دقة

ص: 35


1- السنن الكبرى 207٫9
2- تاريخ الطبري 193٫3

سلامتها اللفظية وإذا تجوزنا لهم الحمل على الصحة فنقول: إنهم تجوزوا النقل بالمعنى، ولكن ليس هذا بجائز دائماً، خصوصاً ما دام يغير من بنية الحديث المعنوية.

ومهما كان الاعتذار عنهم، فكيف الاعتذار عن حديث راو شارك سفيان بن عيينة في سماعه الحديث من سليمان الأحول، وهو شبل بن عباد، فقد روى هذا الشبل عن الأحول الحديث، وأخرجه الطبراني في معجمه بسنده عن عبدان عن هارون عن أبيه زيد بن أبي الزرقاء عن شبل عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:« يوم الخميس وما يوم الخميس، يوم اشتد فيه وجع النبي (صلی الله علیه و آله) وذكر الحديث»، هكذا ذكره الطبراني (1).

أقول: وإذ لم يسبق من الطبراني أن ذكر قبله حديثاً مشابهاً، فكيف جاز له أن يقول: وذكر الحديث، أي حديث يشير إليه كما تقتضيه الدلالة العهدية. فمن ذا يا ترى هو الذي بتر الحديث وأبلس من ذكره. هل هو شبل ؟ أم هم بقية الرواة ؟ أم هو الطبراني؟ وهو الأقرب لما سيأتي عنه من شاهد آخر يدل على ذلك. ثم أخيراً ما بال محقق معجم الطبراني مر على الحديث عابراً، فلم يعلق عليه بشيء، لا تحقيقاً ولا تخريجاً كما هي عادته في سائر أحاديث الكتاب؟

ص: 36


1- المعجم الكبير 12 ٫ 56 ط الثانية.

الصورة العاشرة:

ما رواه مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وقد أخرج حديثه ابن سعد في الطبقات بسنده عن حجاج بن نصير عن مالك ابن مغول إلى آخر السند عن ابن عباس قال: «كان يقول : يوم الخميس وما يوم الخميس ؟ قال - سعيد - وكأني أنظر إلى دموع ابن عباس على خده كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً) قال: فقالوا: إنما يهجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) (1)» .

وأخرج هذه الصورة أيضاً أحمد في مسنده(2) . عن وكيع عن مالك بن مغول بتفاوت يسير. وأخرجها الطبري في تاريخه (3) عن أبي كريب وصالح بن سمال عن وكيع عن مالك بن مغول بتفاوت يسير. وأخرجها مسلم في صحيحه (4) عن اسحاق بن إبراهيم عن وكيع عن مالك بن مغول بتفاوت يسير. وأخرجها أبو بكر الخلال في كتاب السنة (5).

ص: 37


1- طبقات ابن سعد 2 ق 37٫2 ط لیدن.
2- مسند أحمد 1 ٫ 355
3- تاريخ الطبري 193٫3 ط الحسينية.
4- صحيح مسلم ٫5 75.
5- كتاب السنة 1 ٫ 271 ط دار الراية الرياض سنة 1410 ه-.

وأخرجها أبو نعيم في حلية الأولياء عن الطبراني عن أحمد بن علي البربهاري (1) . عن محمد بن سابق عن مالك بن مغول إلى آخر السند عن ابن عباس ولفظه قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي توفي فيه: (إيتوني بكتف ودواة لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً). صحيح ثابت من حديث ابن عباس ... اه- (2).

فانظر إلى ما رواه أبو نعيم بسنده عن مالك بن مغول وقارن ما مر من حديثه في المصادر السابقة لنرى كم هو الحذف الذي طرأ على الحديث، أليس هو جملة: «فقالوا: إنما يهجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) » كما في طبقات ابن سعد، أو رسول الله (صلی الله علیه و آله) يهجر » كما في مسند أحمد، أو إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يهجر كما في صحيح مسلم وتاريخ الطبري.

وكان هذا هو المقصود من قولنا بتفاوت في مرويات أولئك الثلاثة: أحمد ومسلم والطبري فهل لنا الآن أن نسأل أبا نعيم عن قوله في تعقيبه : صحيح ثابت من حديث ابن عباس. فإذا كان صحيحاً ثابتاً فلماذا لم يذكره بتمامه ؟ وإذا لم يكن صحيحاً وثابتاً لديه فلماذا ذكره في کتابه؟

ولعل الرجل إنما جاءته الآفة من شيخه سليمان بن أحمد - وهو

ص: 38


1- كذا في المطبوع من الحلية 25٫5 ، ولكن ورد في المعجم الصغير للطبراني 33٫1: (البربهار) ولعله الصواب
2- حلية الأولياء 193٫3.

الطبراني - الذي سبق أن عرفنا فيه تلك الآفة كما مرت الاشارة في نهاية الصورة التاسعة، فرواه أبو نعيم عن شيخه الطبراني كما سمعه مبتوراً. ولعل في تعقيبه إشارة تنبيه إلى ما في رواية شيخه من خلل.

ثم إن هذا الحديث أخرجه النويري في نهاية الأرب (1) بلفظ ابن سعد فراجع. كما رواه البلاذري في جمل أنساب الأشراف، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم ثنا أبو عاصم النبيل ثنا مالك بن مغول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال يوم الخميس وما يوم الخميس ؟ اشتد فيه وجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبكى ابن عباس طويلاً ثم قال: فلما اشتد وجعه قال: ائتوني بالدواة والكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلون معه بعدي أبداً، فقالوا: أتراه يهجر وتكلموا ولغطوا، فغم ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأضجره وقال : (اليكم عني ولم يكتب شيئاً) (2).

الصورة الحادية عشرة:

ما رواه الأعمش عن عبيد الله بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وقد أخرجها ابن سعد في طبقاته بسنده عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن الأعمش إلى آخر السند عن ابن عباس قال: اشتكى النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الخميس، فجعل - ابن عباس - يبكي ويقول

ص: 39


1- نهاية الأرب 18 ٫ 374.
2- أنساب الأشراف 236٫2.

يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد بالنبي (صلی الله علیه و آله) وجعه فقال: (التوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً)، قال فقال بعض من كان عنده: أن نبي الله ليهجر ، قال : فقيل له : ألا نأتيك بما طلبت؟ قال: (أو بعد ماذا)، قال: فلم يدع به» (1).

إلى هنا تنتهي صور الحديث التي تنتهي أسانيدها إلى سعيد بن جبير، وهي خمس صور، وقد رأينا بينها من التفاوت ما رأينا. فهل يعقل أن يكون سعيد بن جبير هو مصدر ذلك كله؟ بعد ما قد مر بنا من تعمد التعتيم من أمثال الطبراني والبخاري وغيرهما.

الصورة الثانية عشرة :

ما رواه الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس. وقد روى الحديث عن الزهري ثلاثة وهم: يونس، وأسامة ومعمر.

1_أما رواية يونس فقد رواها عنه جرير وعنه ابنه وهب، وعنه أحمد بن حنبل وحديثه في المسند وهذا لفظه بعد ذكر سنده عن ابن عباس قال: «لما حضرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوفاة قال: (هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال عمر: ان رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله قال: فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول يكتب

ص: 40


1- طبقات ابن سعد 2 ق 36٫2.

لكم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو قال : قربوا يكتب لكم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف وغم رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال : (قوموا عني)، فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم ... ا ه- ) (1).

وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن يحيى بن سليمان عن ابن وهب عن يونس إلى آخر السند ولفظه قال: «لما اشتد بالنبي (صلی الله علیه و آله) وجعه قال: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده)، قال عمر: إن النبي ر غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط قال: (قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع)، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين كتابه ... اه- (2).

فقارن بين ما أخرجه أحمد في مسنده من رواية يونس، وبين ما أخرجه البخاري في صحيحه من رواية يونس أيضاً لتدرك التفاوت بين الروايتين في الكتابين.

2 _وأما رواية أسامة - بن زيد الليثي - عن الزهري فقد رواها الواقدي عنه، وأخرجها عنه ابن سعد في الطبقات قال: «لما حضرت

ص: 41


1- مسند أحمد 1٫ 324 ط مصر الأولى.
2- صحيح البخاري 34٫1.

رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده)، فقال عمر : إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله ، ومنهم من يقول ما قال عمر. فلما كثر اللغط والاختلاف، وغموا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: (قوموا عني) (1). فقال عبيد الله بن عبد الله فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.

3_ وأما رواية معمر عن الزهري فقد رواها عنه عبد الرزاق في كتابه المصنف (2) ، بنحو ما مر من حديث يونس برواية أحمد، وحديث أسامة برواية ابن سعد، إلا أن المطبوع من كتاب المصنف وردت جملة: هل أكتب لكم كتاباً، بينما مرت في روايتي يونس وأسامة: (هلم أكتب لكم كتاباً)، فهذا التفاوت سواء كان من غلط النسخة أو من الرواة، فهو غير مغتفر ، لأنه مغير للمعنى كثيراً، فبعد أن كانت جملة (هلم) من أدوات النداء والدعوة وتحمل على الأمر، تغيرت إلى (هل) وهي أداة استفهام، وعليها لا ضير ولا وزر على من امتنع وأبي من

ص: 42


1- طبقات ابن سعد 2 ق 37٫2
2- المصنف 438٫5 .

الصحابة لأنه (صلی الله علیه و آله) استفهم منهم، فأبى بعضهم حسب رأيه فلا مؤاخذة عليه إذن.

والذي يلفت النظر أن رواية عبد الرزاق هذه رواها عنه أحمد في مسنده(1) من دون حرف الاستفهام (هل) فصارت تقرأ (أكتب لكم كتاباً) وهي تقرأ إما على نحو الجملة الخبرية وليس لها معنى في المقام، فلابد إذن تقرأ على نحو الاستفهام وهذا هو المطلوب لستر العيوب.

وثمة آخرون غير أحمد رووا ذلك عن عبد الرزاق كالبخاري ومسلم وابن حبان في صحيحه (2) وابن أبي الحديد وابن كثير، وربما غيرهم. وأخيراً فقد حذف في المصنف قول ابن عباس: «وغم رسول الله(صلی الله علیه و آله) » ، كما مر في حديث يونس فراجع.

وهذه الرواية عن طريق عبد الرزاق عن معمر رواها كل من البخاري وابن حبان ومسلم في صحاحهم وأحمد في مسنده وابن أبي الحديد في شرح النهج وابن كثير وربما غيرهم، ولدى المقارنة بين المصادر المشار إليها نجد التفاوت كبيراً في اللفظ والمعنى، وأكثرها تعتيماً على الحقائق ما كان من البخاري الذي روى ذلك (3) بسنده عن علي بن عبد الله عن عبد الرزاق فحذف اسم عمر من المواضع الثلاثة

ص: 43


1- مسند أحمد 336٫1
2- صحيح ابن حبان 562٫14.
3- انظر صحيح البخاري 9٫6.

التي ورد ذكره فيها، ففي الموضع الأول قال: «وفي البيت رجال من دون فيهم عمر بن الخطاب)، وفي الموضع الثاني: «فقال بعضهم قد غلبه الوجع بدل فقال عمر إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد غلبه الوجع»، وفي الموضع الثالث: ومنهم من يقول غير ذلك» بدل ومنهم يقول ما قال عمر». ثم إنه روى الحديث ثانياً بطريقين: أحدهما عن إبراهيم بن موسى عن هشام عن معمر (1) ، وثانيهما عن عبدالله بن محمد عن عبد الرزاق عن معمر، وفي هذا المقام لم يحذف اسم عمر، لكنه لم يسلم من الاختلاف في النقل بل فيه تفاوت في اللفظ كثير .

وقد روى ابن كثير في تاريخه (2)هذا الحديث فاختار رواية البخاري التي حذف منها اسم عمر في المواضع الثلاثة فذكرها، وأشار عابراً إلى بقية روايات البخاري، ولعله إنما اختار ذلك تعتيماً على اسم عمر، بينما ورد في الباقيات، ولنا في الباقيات الصالحات خير عملاً وأبقى.

أما رواية مسلم في صحيحه (3) : فقد رواها عن عبد بن حميد ومحمد بن رافع عن عبد الرزاق، فهي أقرب إلى ما مر عن عبد الرزاق. وأما رواية ابن كثير وابن أبي الحديد فقد اعتمدا رواية الشيخين

ص: 44


1- نفس المصدر ٫120٫7 ، وكذا في 111٫9
2- البداية والنهاية 227٫5
3- صحیح مسلم 76٫5 ط صبيح.

البخاري ومسلم، وقد مرت الإشارة إلى اختيار ابن كثير قريباً، ورواية ابن أبي الحديد (1) فراجع.

هذه بعض نقاط التفاوت بين الروايات في المصادر الأصلية والفرعية، فمن أين جاء الاختلاف ؟ نعم إنه الستر على رموز الخلاف. ومن راجع شروح الصحيحين يجد الغرائب والعجائب في التحوير والتطوير وفي بعضها التزوير، مما لا يترك مجالاً للتشكيك في أن كل شرح من شروح الصحيح - أي صحيح كان - فيه ثعلبة يصيح: لكل منا وجهة هو موليها، وعلى أساس الشيوخ يعليها. فلنتركهم الآن وتركاضهم، ولا تسلني إجهاضهم.

الصورة الثالثة عشرة:

من هنا وهنا: جمال البنا في كتابه: تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم.

لقد ذكر في ص 253 باب كتابة العلم:

[108] حدثنا يحيى بن سليمان قال: حدثني وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عباس، قال: لما اشتد بالنبي وجعه قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا من عبده» قال

ص: 45


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 51٫6 ط محققة.

عمر: إن النبي الله(صلی الله علیه و آله) غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال: قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع فخرج ابن عباس يقول : الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (علیه السلام) وبين كتابه .

قال جمال البنا معقباً على الحديث : [ غير عملي، فما من كتاب يحول دون الضلال والتنازع ولو وجد لكان القرآن].

أقول: وهذا الذي ذكره هو الذي رواه البخاري في (ج1 ٫ 34 ط. بولاق) وهو الصورة الثانية عشرة من صور الحديث التي تفاوت الرواة في أنقالهم وعليهم وزر أثقالهم، فراجع ج 1 ٫ 277، من الموسوعة.

وهي ما رواه الحسن بن أبي الحسن البصري عن ابن عباس وقد مر ذكرها - راجع الصورة الثانية - حيث رواها الحسن البصري عن أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال: سمعت علي بن أبي طالب ثم سمعته بعينه من عبد الله بن عباس بالبصرة، وهو عامل عليها، فكأنما ينطقان بفم واحد، وكأنما يقرآنه من نسخة واحدة. والذي عقلته قول ابن عباس والمعنى واحد غير أن حديث ابن عباس أحفظه، قال: ثم ذكر الحديث كما مر .

ص: 46

الصورة الرابعة عشرة :

وهي ما رواه طاوس عن ابن عباس، ورواها عنه ليث، وعن ليث ثلاثة وهم شيبان وأبو حمزة وهلال بن مقلاص، ولكل منه رواية هي صورة بحد ذاتها. وإليك ما رواه شيبان :

أخرج حديثه أحمد في مسنده عن حسن عن شيبان عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: «لما حضر رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (التوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لا يختلف منكم رجلان بعدي)، قال: فأقبل القوم في لغطهم، فقالت المرأة ويحكم عهد رسول الله(صلی الله علیه و آله) ... » (1).

والفجوات في هذه الصورة بينة، ولا تحتاج في إثباتها إلى بينة، فبعد طي كثير من الكلام في الكتمان، نقرأ لأول مرة قول المرأة ويحكم عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فيا ترى من هي هذه التي أنكرت على القوم لغطهم ؟

ويكفينا من هذه الصورة معرفة عظم الرزية - كما يقول ابن عباس - حتى تدخل العنصر النسوي في المعركة الكلامية. وسيأتي ما

يوضح المستبهم فيها.

ص: 47


1- مسند أحمد 1٫ 293

الصورة الخامسة عشرة:

ما رواه أبو حمزة عن ليث عن طاوس، أخرج حديثه الطبراني في معجمه الكبير بسنده فقال: حدثنا محمد بن يحيى بن مالك الضبي الأصبهاني، ثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، ثنا علي بن الحسن بن شقيق عن أبي حمزة عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: دعا رسول الله(صلی الله علیه و آله) بكتف فقال : ائتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تختلفون بعدي أبداً، فأخذ من عنده من الناس في لغط، فقالت امرأة تمن حضر : ويحكم عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) إليكم، فقال بعض القوم: اسكتي فإنه لا عقل لك ، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) : ( أنتم لا أحلام لكم ) ... ا ه- (1).

أقول: وأخرج هذا الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد وعقب عليه بقوله: «قلت في الصحيح طرف من أوله، رواه الطبراني، وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس وبقية رجاله ثقات (2).

الصورة السادسة عشرة:

ما رواه هلال بن مقلاص عن ليث عن طاوس أخرج حديثه الطبراني في معجمه الكبير بسنده فقال: حدثنا الحسين بن اسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن زكريا بن إبراهيم بن

ص: 48


1- المعجم الكبير 30٫11.
2- مجمع الزوائد 4 ٫ 215.

سويد النخعي، ثنا هلال بن مقلاص عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله) :( ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لا يختلف فيه رجلان)، قال: فأبطأوا بالكتف والدواة، فقبضه الله» (1).

الصورة السابعة عشرة:

ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرج حديثه ابن سعد في الطبقات بسنده فقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس : إن النبي (صلی الله علیه و آله) قال في مرضه الذي مات فيه: ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً). فقال عمر بن الخطاب: من لفلانة وفلانة - مدائن الروم - إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليس بميت حتى نفتتحها، ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسی، فقالت زينب زوج النبي(صلی الله علیه و آله) : ألا تسمعون النبي (صلی الله علیه و آله) يعهد إليكم فلغطوا، فقال: (قوموا ) . فلما قاموا قبض النبي (صلی الله علیه و آله) مكانه ....

اه- (2).

في هذه الصورة جديد من الكشف لم يسبق إليه تشويه الرواة، وذلك هو مقالة عمر وهي نحو التي قالها بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) فأرعد

ص: 49


1- المعجم الكبير 30٫11.
2- طبقات ابن سعد 2 ق 2٫ 38

وتوعد منتظراً مجيء أبي بكر من السنح. كما فيها جديد من الكشف هو تعيين اسم المرأة التي أنكرت على القوم اختلافهم ولغطهم، فلم تعينها الصور السابقة التي وردت الإشارة إليها، بينما عرفنا الآن اسمها من هذه الصورة وأنها زينب زوج الرسول (صلی الله علیه و آله) وهي إحدى أمهات المؤمنين.

الصورة الثامنة عشرة:

ما رواه عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرج حديثه أبو محمد عبد السلام بن محمد الخوارزمي في كتابه سير الصحابة والزهاد، عند استعراضه الموارد خلاف الصحابة فقال: والخلف الثاني في بيت النبي (صلی الله علیه و آله) فيما أخبر به محمد بن أبي عمر قال: حدثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال سمعت عبد الله بن عباس يقول: يوم الاثنين وما يوم الاثنين وهملت عيناه، فقيل له: یابن عباس وما يوم الاثنين ؟

قال: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غمرات الموت فقال: (ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي أبداً)، فتنازعوا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم يجز عنده التنازع ، وقال رجل من القوم: إن الرجل ليهجر، فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمر بإخراجه وإخراج صاحبه، ثم أتوه بالصحيفة والدواة، فقال: بعد ما قال قائلكم ما قال، ثم قال: ما

ص: 50

أنا فيه خير مما تدعوني إليه) ... ا ه- (1) .

أقول: وفي هذه الصورة أيضاً كشف جديد أتانا من عكرمة - هو تألم ابن عباس من يوم الاثنين وانه اليوم الذي دعا فيه (صلی الله علیه و آله) بالدواة والصحيفة، بينما في كثير ما مر من الصور وما سيأتي ذكر فيه يوم الخميس، أوليس ترى أن دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) بالدواة والصحيفة كانت مرتين؟ في يوم الخميس ويوم الاثنين؟ وفي كلا اليومين خالف عليه عمر فيكون خلافه أيضاً مرتين؟ وهذا ليس بممتنع عقلاً وقد صح نقلاً كما دلت عليه بعض الأحاديث السابقة واللاحقة، وسيأتي مزيد بيان لذلك.

الصورة التاسعة عشرة :

ما رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرج حديثه أبو محمد عبد السلام بن محمد الخوارزمي في سير الصحابة والزهاد بسنده فقال : حدثنا عاصم بن عامر عن الحسين بن عيسى عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي قبض فيه : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فقال المعذول: ان النبي(صلی الله علیه و آله) يهجر كما يهجر المريض، فغضب النبي (صلی الله علیه و آله) ، ثم قال النبي (صلی الله علیه و آله): (أنتم لا أحلام لكم)، قال:

ص: 51


1- أنظر غاية المرام ٫ 597 ط حجرية سنة 1272 .

إنما قلت من الورم، قال : ( إنكم قوم تجهلون بهذا أخبرني أخي جبرئيل عن ربي، فأخرجوه فأخرجناه والله لقد مضى في الحال إلى أبي بكر فأخرجه إلى السقيفة وجمع فيها من جمع، وبايع على ما بايع » (1).

وفي هذه الصورة أيضاً كشف جديد هو اعتذار المعذول - كما سمته الرواية وهو من العدل بمعنى اللوم والتأنيب - بأنه إنما قال الذي قاله من الوَرَم ؟ ولا ندري أي وَرَم ذلك، هل كان النبي (صلی الله علیه و آله) متورماً في بدنه ؟ وهذا لم ينقله أحد من الرواة، وإذا كان فهل ثمة ملازمة بين الورم وبين ما قاله المعذول ؟ ولعل الورم الذي يعنيه فدفعه إلى القول هو ما كان في نفسه هو من غضب من قولهم: فلان ورم أنفه إذا غضب وحنق.

كما أن هذه الصورة تؤيد ما قبلها من أن الحديث والحادثة كان في يوم وفاة النبي(صلی الله علیه و آله) ، وسيأتي ما يؤيد ذلك أيضاً.

الصورة العشرون:

ما رواه عبد الله بن محمد عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرج حديثه أبو محمد عبد السلام بن محمد الخوارزمي في سير الصحابة والزهاد بسنده فقال : حدثنا محمد بن علي، قال حدثني أبو اسحاق بن يزيد عن فضل بن يسار عن عبد الله بن محمد قال: سمعت عكرمة

ص: 52


1- نفس المصدر ٫ 598

يقول عن ابن عباس قال: ان النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (إئتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي، فمنعه رجل، فقلت لعكرمة من الرجل؟ فقال: إنكم لتعرفونه مثلي، هو والله المعذول» (1).

وفي هذه الرواية لم يشأ عكرمة أن يحرم القراء الحديثه من فائدة، كما هو ديدنه في أحاديثه في الصور الثلاث السابقة، أما في هذه الصورة فقد أفادنا أنه كان ممن يرى التقية وقد استعملها فعلاً في جواب سائله عن الرجل الذي منع النبي (صلی الله علیه و آله) عن موافاته بالكتف والدواة، فقال: إنكم لتعرفونه مثلي، هو والله المعذول ويعني به عمر فإنه صاحب المقولة النابية.

الصورة الحادية والعشرون :

ما رواه أبان بن عثمان عن بعض أصحابه، وقد أخرج حديثه أبو محمد عبد السلام بن محمد الخوارزمي في سير الصحابة والزهاد بسنده فقال: وحدثني محمد ابن مروان قال: حدثنا زيد بن معدل عن أبان بن عثمان عن بعض أصحابه : ان النبي (صلی الله علیه و آله) قال في المرض الذي قبض فيه: (ايتوني بصحيفة ودواة لأكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي)، فدعا العباس بصحيفة ودواة، فقال بعض من حضر: إن النبي يهجر، ثم أفاق النبي (صلی الله علیه و آله) فقال له العباس : هذه صحيفة ودواة قد أتينا بها يا

ص: 53


1- نفس المصدر ٫ 598

رسول الله فقال: (بعد ما قال قائلكم ما قال)، ثم أقبل عليهم وقال: احفظوني في أهل بيتي واستوصوا بأهل الذمة خيراً، وأطعموا المساكين وأكثروا من الصلاة، واستوصوا بما ملكت أيمانكم)، وجعل يردد ذلك (صلی الله علیه و آله) وإني لأعلم أن منكم ناقض عهدي والباغي على أهل بيتي (1) .

أقول: قد يزعم متنطع أن في نهاية السند إرسال أو انقطاع وبالتالي ضعف السند ( الجهالة بعض أصحابه) ولكن ذلك ليس بضائر بعد أن عرفنا وألفنا الكتمان في أسماء رموز المعارضة في هذا الحديث، ولتكن هذه الصورة من المؤيدات لما سبقها من الصور، على نحو ما يأتي من مرسلات، نأتي على ذكر بعضها.

الصورة الثانية والعشرون :

أخرجها أبو عبيد البكري في كتابه فصل المقال في شرح كتاب الأمثال بلفظ: وقال ابن عباس اشتد برسول الله عليه الصلاة والسلام وجعه فقال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي)، فقالوا: ما شأنه أهجر ؟ ... اه- (2).

ص: 54


1- نفس المصدر ٫ 598
2- فصل المقال في شرح كتاب الأمثال ٫ 28 ط بيروت دار الأمانة.

أقول: من المضحك - وشر البلية ما يضحك - أن تطبع الكتاب دار الأمانة، ومؤلف الكتاب في روايته الحديث تعوزه الأمانة !

الصورة الثالثة والعشرون :

أخرجها الذهبي في المنتقى من أخبار المصطفى قال: «عن ابن عباس قال: اشتد برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه يوم الخميس، وأوصى عند موته بثلاث أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة ... اه- (1)فعقب الذهبي عليه بقوله: متفق عليه، والشك من سليمان الأحول.

أقول: وأخرج هذه الصورة أيضاً الشوكاني في نيل الأوطار(2)، الذي هو شرح لكتاب المنتقى المتقدم ذكره. ومن الطبيعي أن لا يزيد شيئاً في حيثيات الحديث، ولا في ذكر ما تعمد الذهبي إغفاله من فقرات الحديث فمر عليه عابراً، ولم يعنه من أمره إلا شرح جزيرة العرب، وقال في شرح (ونسيت الثالثة) قيل هي تجهيز أسامة، وقيل يحتمل أنها قوله (صلی الله علیه و آله) لا تتخذوا قبري وثناً. وفي الموطأ ما يشير إلى ذلك ... اه-.

ص: 55


1- المنتقى من أخبار المصطفى ٫ 304 ط الهند سنة 1296 ه-.
2- نيل الأوطار 64٫8 .

الصورة الرابعة والعشرون :

أخرجها ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام قال: «بعد أن أخرج الحديث الذي أخرجه البخاري على نحو ما مر في الصورة الثانية عشرة، وحدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن منصور عن سفيان الثوري سمعت سليمان - هو الأحول - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فذكر هذا الحديث وفيه: ( إن قوماً قالوا عن النبي (صلی الله علیه و آله) في ذلك اليوم ما شأنه؟ هجر !).... اه- »(1).

أقول: حيث سبق لابن حزم أن ذكر حديث البخاري المروي في صحيحه في كتاب العلم باب كتابة العلم (2) - قد مر في الصورة الثانية عشرة كما أشرنا آنفاً - فهو الآن يشير إليه بقوله: وحدثناه عبد الله بن ربيع إلى آخر السند... عن سفيان الثوري، وما ذكره بهذا السند يختلف متناً عما مر ولا مؤاخذة عليه لأنه بسند آخر. ولكن المؤاخذة فيما وقع في السند من وهم خفي لم يتنبه له حتى محقق الكتاب - الشيخ أحمد محمد شاكر - وذلك أن سند ابن حزم هذا ينتهي إلى سفيان الثوري، ولم يذكر أحد غيره ذلك، بل إن الأسانيد المنتهية إلى سفيان كلها تنتهي إلى سفيان بن عيينة - كما مرت في الصورة التاسعة - ، ولم نقف على

ص: 56


1- الإحكام في أصول الأحكام ٫122٫7 تح أحمد محمد شاكر .
2- صحيح البخاري 1٫ 39 ط بولاق.

رواية سفيان الثوري للحديث إلا عند ابن حزم في هذا المقام، كما لم نقف على راو عن الثوري أو ابن عيينة اسمه محمد بن منصور، نعم ذكر ابن حجر في التقريب رجلين بهذا الاسم توفي أحدهما سنة 252 والثاني سنة 256. ولم يذكر أنهما من الرواة عن أحد السفيانين. لكن الذهبي ذكرهما في الكاشف (1)فلعله أحدهما أو كلاهما يروي عن ابن عيينة فيما ذكر. ثم لا يبعد - والله العالم - وقوع التصحيف في اسم هذا الراوي، وان الصحيح في اسمه هو سعيد بن منصور وهو صاحب السنن، وقد مر في الصورة التاسعة أنه أحد رواة الحديث عن سفيان بن عيينة. وعلى ذلك يكون احتمال تصحيف اسم (سعيد) ب- (محمد) من سهو القلم، كما يحتمل ذلك أيضاً في تعيين نسبة سفيان، لاشتراك السفيانين في العلمية والشهرة.

الصورة الخامسة والعشرون :

اشارة

أخرجها المقريزي في كتابه إمتاع الأسماع قال: «واشتد به(صلی الله علیه و آله) وجعه يوم الخميس فقال: (إئتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا فقال بعضهم: ما له ؟ أهجر ؟ استعيدوه! وقالت زينب بنت جحش وصواحبها : إنتوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بحاجته، فقال عمر: قد غلبه الوجع وعندكم القرآن! حسبنا كتاب الله، من

ص: 57


1- الكاشف 9٫3 - 100 .

الفلانة وفلانة ؟ - يعني مدائن الروم - إن النبي (صلی الله علیه و آله) ليس بميت حتى يفتحها، ولو مات لانتظرته كما انتظرت بنو إسرائيل موسى !! فلما لغطوا عنده قال : دعوني فما أنا فيه خير مما تسألوني)! ثم أوصاهم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنتم تروني أجيزهم، وأنفذوا جيش أسامة قوموا» (1).

تعقيب عرض الصور وحصيلة ذلك:

هذه هي الصور التي وقفت عليها، ولا شك أنه فاتني كثير غيرها، ومهما يكن ما فات فإنه لا يعدو حصيلة الحاصل مما ذكرت. وهي تكفي في اعطاء الصورة القريبة من الصدق أو هي الصدق بعينه، لكنه منبت في سطور الصور المتفرقة تلك الحصيلة - تلميحية وتصريحية - تكاد تسمعها تجأر بلوعة الرزية كل الرزية، التي كان ابن عباس حبر الأمة يبكي منها لشدة وقعها حتى يبل دمعه الحصى ويقول: الرزية كل الرزية - وهي فعلاً الرزية وكل الرزية - ما حال بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب.

كما تقرأ في حروف تلك الحصيلة حقيقة حية حسية ليست قابلة للإنكار، وهي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أراد الخير لأمته بأن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً، وأن عمر لم يرد ذلك فمنع منه.

ص: 58


1- إمتاع الأسماع ٫ 545 تح- محمود محمد شاكر.

ولا تفسير لذلك الحدث المشؤوم في ذلك اليوم الكالح العبوس، غير ما رسمته تلكم الروايات بشتى صورها، وتعدد رواتها، واختلاف أصحابها وكتابها. وإن كان ما أحيط بها من ضباب كثيف في التضليل على واقع الحدث والحديث شخوصاً، وزماناً ومكاناً، شوش على السذج من القراء، فساءت عندهم الرؤية لبعدهم عنها زماناً ومكاناً أيضاً. فكادت غياهب المتاهات تلفهم، وشكوك الارتياب تتقاذفهم. لكن من أوتي حظاً من النباهة والفطنة، لا يشوشه ذلك بل يدهشه، ويبقى خائراً حائراً بين عظمة الرسول الله (صلی الله علیه و آله) وعصمته، وبين مجابهة عمر وشدته.

وبالتالي يبقى مفكراً في اختلاف مواقف الحضور من أهل البيت ومن الصحابة، كيف انقسموا على أنفسهم، ونبيهم بعد بين ظهرانيهم، فمنهم أنصار ومنهم معارضة ؟ مع شدة الجرأة على النبي (صلی الله علیه و آله) بإعلان رد أمره وهو في تلك الحال التي سيفارقهم عليها عما قريب. أما كانت اللياقة تقضي أن يُمتثل أمره ويسارع في تنفيذه! لكنهم - المعارضة - أكثروا اللغط والاختلاف، فطردهم من بيته ساخطاً عليهم.

ولا خلاف بين المسلمين أن من ردّ عليه قوله بعد موته كان مرتداً، فكيف الحال بمن ردّ عليه في حياته !

ولا خلاف بين المسلمين أن الله سبحانه قال في كتابه: (يَا أَيُّهَا

ص: 59

الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) [الحجرات: 2].

ولا خلاف بين المسلمين أن الله سبحانه قال في كتابه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا الله وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِليه تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةٌ لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [الأنفال : 24-25].

ومهما كان حسن النية وسلامة الطوية عند بعضهم، فهو ما دام ضالعاً مع المعارضة، يعني أنه راد على رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمره، ومشاقق له في دعوته عن سبق إصرار وعمد، فهل ذلك إلا التردي في ضلالة الهوى، ومرد لغيره فيها أيضاً.

ويبقى العجب آخذاً بالألباب كيف يكون عمر هو رأس المعارضة، ومنه تبدر جفوة الكلمة، ويبقى هو المسيطر على الموقف المعلن !؟ وهو هو في صحبته وسابقته، وهو هو الذي كان إلى الأمس القريب يقول للنبي (صلی الله علیه و آله): (رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبك رسولاً) (1).

ص: 60


1- مجمع الزوائد 1 ٫ 173 ، وستأتي مصادر أخرى.

فقد أخرج أبو يعلى وغيره عن عمر وغيره: «قال عمر: انطلقت أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب ثم جئت به في أديم - جلد - فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله): (ما هذا الذي في يدك يا عمر ؟) قال قلت: كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا، فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى احمرت وجنتاه، ثم نودي بالصلاة جامعة فقالت الأنصار: أغضب نبيكم السلاح السلاح، فجاؤوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال : (يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا، ولا يغرنكم المتهوكون) (1) .

قال عمر : فقمت فقلت: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبك

رسولاً ، ثم نزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) (2). ثم العجب كل العجب من عمر وهو الذي كان يقول نادماً على

ص: 61


1- المتهوكون المتحيرون، والتهوك أيضاً مثل التهور، وهو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة، قاله الجوهري.
2- كذا في مجمع الزوائد للهيثمي 173٫1 و 181، وراجع أيضاً جمع الفوائد 30٫1، والمصنف لابن أبي شيبة 313٫10 و 115٫11، والمعجم الكبير للطبراني برقم 1063 - 1065 ، والأسماء المبهمة للخطيب البغدادي 188 - 189. فستجد عدة محاولات بذلت لتضييع اسم عمر من صحيفته التي أتى بها، على نحو ما بذل من تعتيم وتضبيب حول تضييع أسمه من منعه صحيفة النبي (صلی الله علیه و آله).

ما بدر منه يوم صلح الحديبية: «ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيراً - أنظر ! فستجد أنه لم يبدر منه سوى أنه لم يرض بالصلح حمية لدينه حيث أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) - فقال: يا رسول الله ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ فقال: (أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني)، قال عمر: فما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيراً »(1).

فمن كان بهذه المثابة من الخوف والوجل من كلمة صدرت منه ظاهرها حميته للدين كيف غاب عنه ذلك الشعور بالخوف حتى قال

كلمة غم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) منها لشدة وقعها على قلبه؟

فما بال أبي حفص تتباين مواقفه من أوامر الرسول الله (صلی الله علیه و آله) فيناقض نفسه بنفسه؟ فأين الرضا ؟ وأين التسليم ؟ الذي قاله يوم جاء هو بالصحيفة، من هذا العناد والاصرار على الخلاف يوم دعا النبي (صلی الله علیه و آله) بالدواة والصحيفة، ولماذا ذهب به الاشتطاط فلم يخش ما خشيه من كلمته يوم صلح الحديبية؟ وهي التي كانت أخف لهجة وأهون وقعاً،

ص: 62


1- أنظر تاريخ الطبري 2٫ 280 ط الاستقامة بمصر، وسيرة ابن هشام 3٫ 331 ط الحلبي بمصر.

وأقل تأثيراً. مواقف ما كانت لتأخذ الألباب بالحيرة لو صدرت عن غير عمر، من غير أولي السابقة والصحبة والمصاهرة من الأعراب أولي الضرر، أو البداة من أهل الشعر والوبر.

يقول الدكتور صبحي الصالح - أستاذ الإسلاميات وفقه اللغة في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية -: وتحليلاً لهذه الحادثة التاريخية الخطيرة، لابد لنا من رجع النظر فيها لنستقي منها بعض العبر، ولابد لنا من الاعتراف بأنه لم يكن من المنتظر أن يقف من بين الصحابة مثل عمر ليقول ما قال، حتى أكبر عبد الله بن عباس، وهو حبر الأمة الإسلامية هذا الأمر، وعده أكبر رزية أصابت المؤمنين، ولم يكن من المتوقع إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يختار المؤمنون غير ما يختاره لهم المعصوم، والرسول (علیه السلام) كثيراً ما ألقى على مسامع المسلمين أنه تركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها !

ومع ذلك يطلب منهم دواة وقرطاساً ليملي عليهم كتاباً لن يضلوا بعده، فكان المفروض أن يستنتجوا من ذكره هذا الكتاب أشياء غير الجوانب التشريعية والعقيدية التي ما انفك القرآن يتنزل بها حتى آخر لحظة من حياة النبي (علیه السلام) ، وأن يرجحوا أن هذا الكتاب سيحتوي مسائل حساسة تتعلق بتصرفهم الاجتماعي، لقد رأى الرسول (صلی الله علیه و آله) أن منيته قد دنت، فأراد ألا يفسح أمام المسلمين مجالاً كي يتنازعوا بالقرآن على القرآن، وبالسنة على السنة، وبالتشريع على التشريع

ص: 63

وبالقانون على القانون. لذلك ود لو يضع لهم الخطة الدائمة ليتمسكوا بأمر الله لأنه أمر الله ! ولولا هذا لما قال رجل كابن عباس: ان هذه كانت أكبر رزية حاقت بالمسلمين» (1)!

رواة الحديث ومصادره :

اشارة

إن استقصاء جميع ما ورد في كتب الحديث والسنة، والتاريخ والسيرة، واللغة والأدب، مما يتعلق بالحديث لأمر شاق، يصعب معه على الباحث المجد في تحقيقه، والوقوف عليه باستقراء واستيعاب، غير أن ما وقفت عليه - ولا شك قد فاتني الكثير الكثير - يكفي في التدليل على صحة الحديث وتواتره، بالرغم من محاولات بائسة يائسة في التمويه عليه، حرصاً على رموز المعارضة كما سيأتي في كلام أعلام المحدثين في ذلك.

أما البحث في مصادر الحديث كماً وكيفاً - وهي فيما اطلعت عليه كثيرة - فهو بحث شائق شائك، إذ يجد القارئ فيها أمهات المراجع في السنة والحديث، وعيون كتب التاريخ والسيرة، وجوامع اللغة والأدب. ومع ذلك نجدها تختلف اختلافاً شائناً في أدائه - كما مر في

ص: 64


1- النظم الإسلامية نشأتها وتطورها ٫ 78 - 79 تأليف الدكتور صبحي الصالح أستاذ الإسلاميات وفقه اللغة في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية ط دار العلم للملايين بيروت، الطبعة الأولى سنة 1385 ه- سنة 1965م.

صوره - وسواء كان ذلك من الرواة في الأسانيد - وما آفة الأخبار إلا رواتها - أو رجال المسانيد - وهم حفاظها وحماتها - فهو يبقى مادة للنقاش والإدانة، لتحمل أصحابه عبء الأمانة، فلم تصل إلينا إلا وقد لفتها براقع الخيانة. فعرضت حملتها إلى كثير من النقد والتجريح، سواء منهم الصحيح وغير الصحيح.

ولا نستبق رجال الصحاح وغيرهم في الخوض حول الكيفية وما لها وما عليها، إذ سيأتي ذلك مفصلاً ولكنا سنعرض أمام القارئ جانباً من أسماء الرواة بدءاً من يوم الحدث، وانتهاء بمن أودع الحديث كتابه. ليكون على بينة من أمره أزاء ما ألم بالمسلمين من تشرذم، سببه ذلك الحدث في ذلك الحديث.

القرن الأول :

1_ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، روى الحديث عنه الحسن بن أبي الحسن البصري، وأخرجه أبو محمد عبد السلام الخوارزمي في سير الصحابة والزهاد راجع (الصورة 2) ، وروى عنه أيضاً نعيم بن يزيد بصورة مهلهلة وحديثه في مسند أحمد (1) ، وطبقات ابن سعد كما مر في (الصورة (1).

2_ الخليفة عمر بن الخطاب، روى الحديث بنفسه، وعنه أسلم

ص: 65


1- مسند أحمد 90٫1

وغيره (راجع الصورة 3 و 4 ) ، كما اعترف به أيضاً بعد ذلك في حديث له مع ابن عباس، وهو من جملة احتجاج ابن عباس عليه كما سيأتي.

3_ الصحابي الجليل عبد الله بن عباس روى الحديث عنه ابنه علي بن عبد الله كما في (الصورة 6) ، وسعيد بن جبير كما في (الصور 7 - 11)، ورواه أيضاً عنه عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة كما في (الصورة 12)، ورواه عنه الحسن بن أبي الحسن البصري كما في (الصورة 13)، ورواه عنه طاوس كما في الصورة 14 و 15 و 16 ) ، ورواه أيضاً عنه عكرمة كما في (الصور (18 - 20) ... إلى غير ذلك مما أرسل عنه إرسال المسلمات.

4_ الصحابي الجليل جابر بن عبد الله روى الحديث عنه أبو الزبير كما في (الصورة 5).

5_التابعي الجليل سعيد بن جبير تلميذ ابن عباس وقائده قتله الحجاج ظلماً وعدواناً سنة 95 ، روى الحديث عن ابن عباس وعنه ثابت كما في (الصورة 7) وعبيد الله بن عبد الله كما في (الصورة 8)، وسليمان الأحول كما في (الصورة 9) ، وطلحة بن مصرف كما في (الصورة (10)، وقد مرت أحاديثهم عنه في الصور المشار إليها مع مصادرها، فراجع.

6 _ التابعي الجليل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أحد الفقهاء السبعة، وكان أعمى وهو معلم عمر بن عبد العزيز توفي سنة 4 - 5 - 8 - 99 ، روى الحديث عن ابن عباس، وعنه محمد بن

ص: 66

مسلم الزهري كما في (الصورة (12).

7_ التابعي أسلم العدوي مولاهم أبو زيد مولى عمر بن الخطاب مات سنة 70 ه- أو 80 ه- عده الذهبي من كبار التابعين روى الحديث عن عمر ، وعنه ابنه زيد ابن أسلم كما في (الصورة 3).

8_التابعي الجليل نعيم بن يزيد روى الحديث عن الامام علي بن أبي طالب (علیه السلام) وعنه عمر بن الفضل العبدي، كما في (الصورة 1).

القرن الثاني:

1_ عكرمة مولى ابن عباس. ولما كان لابن عباس مولیان اسم كل منهما عكرمة، كما سيأتي ذكرها في تلاميذه، أحدهما هو عكرمة البربري، وهذا توفي سنة 105ه-، فإن كان هو فقد روى الحديث عن مولاه، وعنه داود بن الحصين كما في (الصورة 17) وعمرو بن دينار كما في (الصورة 18) والحكم بن أبان كما في (الصورة 19) وعبد الله بن محمد كما في الصورة 20) والمظنون هو عكرمة الآخر الذي لم يذكر البخاري فيه جرحاً، بينما عكرمة البربري مطعون فيه، وستأتي في الحلقة الرابعة أكاذيب عكرمة، فانتظر.

2_ طاوس اليماني توفي سنة 106ه- روى الحديث عن ابن عباس، وعنه الليث بن سعد كما في الصور 14 و 15 و 16).

3_ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود توفي سنة 108ه- روى الحديث عن ابن عباس، وعنه الزهري كما في (الصورة 12).

ص: 67

4_ الحسن البصري توفي سنة 110 ه- روى الحديث عن الإمام علي وعن عبد الله بن عباس، وعنه أبان بن أبي عياش كما في (الصورتين 2 و 13).

5_طلحة بن مصرف اليمامي توفي سنة 112 ه- روى الحديث عن سعيد بن جبير، وعنه مالك بن مغول كما في( الصورة 10).

6_ علي بن عبد الله بن عباس المتوفى سنة 118 ه- روى الحديث عن أبيه وعنه الزهري كما في (الصورة 6).

7_محمد بن مسلم بن شهاب الزهري المتوفى سنة 124 ه- روى الحديث عن علي بن عبد الله بن عباس كما في (الصورة 6) وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة كما في (الصورة 12).

8_أبان بن عثمان بن عفان الأموي توفي سنة 105ه-، روى الحديث عن بعض أصحابه، وعنه زيد بن معدل كما في (الصورة 21).

9_ عمرو بن دينار المتوفى سنة 126 ه- روى الحديث عن عكرمة وعنه سفيان بن عيينة كما في (الصورة 18).

10_ سليمان الأحول من صغار التابعين روى الحديث عن سعيد بن جبير وعنه سفيان بن عيينة وشبل كما في (الصورة 9).

11 _ أبو الزبير المكي المتوفى سنة 128 ه- روى الحديث عن جابر وعنه إبراهيم بن يزيد وابن لهيعة وقرة بن خالد كما في (الصورة 5).

12_ داود بن الحصين الأموي مولاهم توفي سنة 135 ه- روى

ص: 68

الحديث عن عكرمة، وعنه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة كما في (الصورة 17).

13_ زيد بن أسلم توفي سنة 136 ه- روى الحديث عن أبيه أسلم، وعنه هشام بن سعد كما في (الصورة 3).

14_ يحيى بن سليمان توفي سنة 7 - 8 - 139 ، روى الحديث عن ابن وهب وعنه البخاري في صحيحه كما في (الصورة 12).

15_ أبان بن أبي عياش توفي بعد سنة 140 ه- روى الحديث عن الحسن البصري وعنه الصباح المزني كما في (الصورة 2).

16_ الفضيل بن يسار توفي قبل سنة 148 ه- روى الحديث عن عبد الله بن محمد، وعنه أبو إسحاق بن يزيد كما في (الصورة 20).

17_ سليمان بن مهران الأعمش الثقة الحافظ الورع مات سنة 7 - 148 ه- روى الحديث عن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة، وعنه أبو عوانة الوضاح اليشكري كما في (الصورة 11).

18_ شبل بن عباد توفي سنة 148 ه- روى الحديث عن سليمان الأحول، وعنه زيد بن أبي الزرقاء كما في (الصورة 9).

19_ الليث بن أبي سليم المتوفى سنة 148 ه- أو 143 ه- روى الحديث عن طاوس، وعنه شيبان وأبو حمزة وهلال بن مقلاص كما في الصورة 13 و 14 و 15).

20_ إبراهيم بن يزيد مولى عمر بن عبد العزيز توفي سنة 151ه- روى الحديث عن أبي الزبير المكي وعنه الواقدي كما في (الصورة 5).

ص: 69

21_معمر بن راشد الصنعاني توفي سنة 3 - 154ه- روى الحديث عن الزهري، وعنه عبد الرزاق والواقدي كما في الصورة 6 و 12).

22_ أسامة بن زيد الليثي توفي سنة 153ه- روى الحديث عن الزهري، وعنه الواقدي كما في (الصورة 12).

23_ الحكم بن أبان العدني المتوفى سنة 154ه- روى الحديث عن عكرمة، وعنه الحسين بن عيسى كما في (الصورة 19).

24_ قرة بن خالد السدوسي توفي سنة 154ه- روى الحديث عن أبي الزبير المكي، وعنه محمد بن عبد الله الأنصاري وعثمان بن عمر كما في (الصورة 5).

25_ مالك بن مغول توفي سنة 159 ه- روى الحديث عن طلحة بن مصرف، وعنه وكيع وحجاج بن نصير ومحمد بن سابق كما في (الصورة 10).

26_ يونس بن يزيد بن مشكان مولى معاوية بن أبي سفيان توفي سنة 159 ه- بمصر، روى الحديث عن الزهري، وعنه جرير بن حازم كما في (الصورة 12).

27_ هشام بن سعد يقال له يتيم زيد بن أسلم صحبه وأكثر عنه توفي سنة 160 أو قبلها، روى الحديث عن زيد بن أسلم، وعنه الواقدي كما في (الصورة 3).

ص: 70

28_ شیبان بن عبد الرحمن النحوي المؤدب توفي سنة 164ه- روى الحديث عن الليث، وعنه الحسن بن موسى كما في (الصورة 14).

29 _ إبراهيم بن اسماعيل بن أبي حبيبة توفي سنة 165ه- روى الحديث عن داود بن الحصين، وعنهالواقدي كما في (الصورة 17).

30_جرير بن حازم بن زيد الأزدي توفي سنة 170 ه-، أو قبل سنة 175 ه- روى الحديث عن يونس بن يزيد، وعنه ابنه وهب كما في (الصورة 12).

31_ ابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة الفقيه توفي سنة 3 - 174ه- روى الحديث عن أبي الزبير، وعنه موسى بن داود كما في (الصورة 5).

32_ الوضاح بن عبد الله اليشكري الحافظ أبو عوانة توفي سنة 176ه- روى الحديث عن الأعمش، وعنه ختنه يحيى بن حماد الفراء كما في (الصورة 11).

33_ زيد بن أبي الزرقاء يزيد الثعلبي الموصلي توفي سنة 194ه- روى الحديث عن شبل بن عباد وعنه ابنه هارون كما في (الصورة 9).

34_ هشام بن يوسف الصنعاني المتوفى سنة 197ه-، روى الحديث عن معمر، وعنه إبراهيم بن موسى كما في (الصورة 12).

35_وكيع بن الجراح الرواسي توفي سنة 192 ه- أو سنة 197ه- روى الحديث عن مالك بن مغول، وعنه إسحاق بن إبراهيم أبو كريب، وصالح بن سمال، وأحمد بن حنبل كما في (الصورة 10).

ص: 71

36_ عبد الله بن وهب المتوفى سنة 197 ه- روى الحديث عن يونس بن شهاب، وعنه يحيى بن سليمان كما في (الصورة 12).

37_ سفيان بن عيينة توفي سنة 198 ه- روى الحديث عن سليمان الأحول، وعنه ثلاثة عشر راوياً مرّ ذكرهم كما في (الصورة 9).

38_عمرو بن الفضل العبدي السلمي من صغار التابعين روى الحديث عن نعيم بن يزيد، وعنه حفص بن عمر الحوضي كما في (الصورة 1).

39_ محمد بن عبد الله الأنصاري قال ابن حجر من الطبقة الثامنة - أي مات بعد المائة - جاوز سنه المائة روى الحديث عن قرة بن خالد وعنه ابن سعد كما في (الصورة5).

40 - ثابت بن هرمز - أبو المقدام - من صغار التابعين روى الحديث عن سعيد بن جبير، وعنه ابنه عمرو بن ثابت كما في

(الصورة).

41 - عمرو بن ثابت المتوفى سنة 172 ه- روى الحديث عن أبيه، وعنه عبد الرحمن بن أبي هاشم كما في (الصورة 7).

42_ عبد الله بن عبد الله الهاشمي الرازي قاضي الري قال ابن حجر في التقريب من الرابعة، روى الحديث عن سعيد بن جبير، وعنه الأعمش كما في (الصورة 11).

43 _ أبو إسحاق بن يزيد روى الحديث عن الفضيل بن يسار المتوفى قبل سنة 148 وعنه محمد بن علي كما في (الصورة 20).

ص: 72

44 - قيس بن الربيع المتوفى سنة بضع وستين ومائة روى الحديث عن الأعمش، وعنه عاصم بن علي كما في (الصورة 8).

إلى غير هؤلاء.

القرن الثالث:

1_ يحيى بن آدم القرشي توفي سنة 203 ه- روى الحديث عن ابن عيينة، وعنه أبو كريب كما في (الصورة 9).

2_ بكر بن عيسى الراسبي المتوفى سنة 204ه- روى الحديث عن عمر بن الفضل، وعنه أحمد في مسنده كما في (الصورة 1).

3_ وهب بن جرير توفي سنة 206ه- روى الحديث عن أبيه عن جرير بن حازم، وعنه أحمد بن حنبل كما في (الصورة 12).

4_ يحيى بن حماد الفراء المتوفى سنة 207 ه- روى الحديث عن أبي عوانة وهو ختنه، وعنه ابن سعد كما في (الصورة 8 و 11).

5_ محمد بن عمرو الواقدي المتوفى سنة 207 ه- روى الحديث عن أسامة بن زيد، وإبراهيم بن يزيد، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، ومعمر بن راشد، وهشام بن سعد، وعنه روى ذلك كاتبه محمد بن سعد في الطبقات الكبير كما مر في (الصورة 3 و 5 و 12 و 17). ومما ينبغي التنبيه عليه في المقام، أن كتاب المغازي - المطبوع في أوربا طبع جامعة أكسفورد، وكذلك طبعة مصر سنة 1367 ه- - خلو صل الله من هذا الحديث مع ذكره بعث أسامة ومرض النبي(صلی الله علیه و آله) !!؟

ص: 73

6_ عثمان بن عمر المتوفى سنة 209 ه- روى الحديث عن قرة بن خالد، وعنه عبد بن حميد كما في (الصورة 5).

7_عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 211ه- روى الحديث عن معمر، وعنه الحسن بن الربيع كما في (الصورة 6) وعن سفيان بن عيينة وأخرجه في مصنفه كما في( الصورة 9) وروى الحديث أيضاً عن معمر، وعنه عبد الله بن محمد وعلي بن عبد الله كما في (الصورة 12).

8_علي بن الحسن بن شقيق العبدي المتوفى سنة 215 ه- روى الحديث عن أبي حمزة السكري، وعنه محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة كما في (الصورة 15).

9_ قبيصة بن عقبة السوائي توفي سنة 215 ه- روى الحديث عن ابن عيينة، وعنه البخاري في الصحيح كما في (الصورة 9).

10_ يحيى بن حماد الشيباني المتوفى سنة 215 ه- روى الحديث عن أبي عوانة، وعنه ابن سعد كما في (الصورة 11).

11_ الحجاج بن نصير توفي سنة 214ه- روى الحديث عن مالك بن مغول، وعنه ابن سعد في الطبقات كما في (الصورة 10).

12_ موسى بن داود الضبي المتوفى 14 - 217 ه- روى الحديث عن ابن لهيعة، وعنه أحمد في مسنده كما في (الصورة 5).

13_ أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي المتوفى سنة 219ه-

ص: 74

روى الحديث عن ابن عيينة، وأخرج الحديث في مسنده كما في (الصورة 9).

14_ الحسن بن بشر البجلي توفي سنة 221 ه- روى الحديث عن ابن عيينة، وعنه أبو إسحاق وإبراهيم بن يزيد كما في (الصورة 9).

15_ الحسن بن الربيع البوراني مولى خالد القسري المتوفى سنة 221 ه- روى الحديث عن الحافظ عبد الرزاق، وعنه الجوهري في السقيفة كما في (الصورة 6).

16_ عاصم بن علي الواسطي المتوفى سنة 221 ه- روى الحديث عن قيس بن الربيع، وعنه عمر بن حفص السدوسي كما في (الصورة 8)

17_ محمد بن سلام المتوفى سنة 225ه- من شيوخ البخاري روى الحديث عن ابن عيينة، وعنه البخاري في صحيحه كما في (الصورة 9).

18_ حفص بن عمر الحوضي المتوفى سنة 225ه- روى الحديث عن عمرو بن الفضل وعنه ابن سعد في طبقاته كما في (الصورة 1).

19_ سعيد بن منصور صاحب السنن المتوفى سنة 227 ه- روى الحديث عن ابن عيينة، وعنه مسلم في صحيحه كما في (الصورة 9).

20 - عبد الله بن محمد الجحفي المتوفى سنة 229 ه- روى الحديث عن عبد الرزاق، وعنه البخاري في صحيحه كما في (الصورة 12).

ص: 75

21_ محمد بن سعد كاتب الواقدي المتوفى سنة 230 ه- روى الحديث عن ابن عيينة والواقدي ويحيى بن حماد ومحمد بن عبد الله الأنصاري وحجاج بن نصير وحفص بن عمر الحوضي وأخرج أحاديثهم في طبقاته كما في (الصورة 1 و 3 و 5 و 8 و 9 و 10 و 11).

22_ عمرو بن محمد الناقد المتوفى سنة 232 ه- روى الحديث عن ابن عيينة، وعنه مسلم في صحيحه كما في (الصورة 9).

23_ علي بن عبد الله المديني المتوفى سنة 234ه- روى الحديث عن عبد الرزاق، وعنه البخاري في صحيحه كما في (الصورة 12).

24_ أبو بكر بن أبي شيبة المتوفى سنة 235 ه- روى الحديث عن ابن عيينة وأخرجه في مصنفه، ورواه عنه مسلم في صحيحه كما في (الصورة 9).

25_ يحيى بن سليمان الجعفي المتوفى سنة 237ه- روى الحديث عن ابن وهب، وعنه البخاري كما في (الصورة 12).

26_ إسحاق بن إبراهيم بن راهويه المتوفى سنة 238ه- من شيوخ البخاري ومسلم، روى الحديث عن ابن عيينة، وعنه مسلم في صحيحه كما في (الصورة 10).

27_ عثمان بن أبي شيبة المتوفى سنة 239ه- روى الحديث عن يحيى بن زكريا النخعي، وعنه الحسين بن اسحاق التستري كما في (الصورة 16).

ص: 76

28_ قتيبة بن سعيد توفي سنة 240ه- من شيوخ البخاري ومسلم، روى الحديث عن ابن عيينة، وعنه البخاري ومسلم في صحيحيهما كما في (الصورة 9).

29_ أحمد بن حنبل توفي سنة 241ه- روى الحديث عن وهب والحسن وبكر بن عيسى الراسبي وعبد الرزاق ووكيع وابن عيينة، وعنه ابنه عبد الله وأخرج أحاديثهم في مسنده كما في (الصورة 1 و 9 و

10 و 12 و 14).

30_ قتيبة بن سعيد توفي سنة 240ه- من شيوخ البخاري ومسلم، روى الحديث عن ابن عيينة، وعنه البخاري ومسلم في صحيحهما كما في (الصورة 9).

31- محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة المتوفى سنة 241 ه- روى الحديث عن علي بن الحسن بن شقيق، وعنه محمد بن يحيى بن مالك الضبي الاصبهاني كما في (الصورة 15).

32_ محمد بن رافع توفي سنة 245ه- روى الحديث عن عبد الرزاق، وعنه مسلم في صحيحه كما في (الصورة 12).

33_ محمد بن العلاء أبو كريب الهمداني توفي سنة 248 ه- روى الحديث عن وكيع ويحيى بن آدم، وعنه الطبري في تاريخه وغيره كما في (الصورة 9 و 10).

34_ عبد بن حميد توفي سنة 249ه- روى الحديث عن

ص: 77

عبد الرزاق وعثمان بن عمر، وعنه مسلم في صحيحه وإبراهيم بن خزيم كما في (الصورتين 5 و 12).

35_ محمد بن منصور توفي سنة 4 - 256 ه- روى الحديث عن سفيان الثوري، وعنه النسائي كما في (الصورة 24).

36_ محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح توفي سنة 256ه- روى الحديث عن عبد الله بن محمد وعلي بن عبدالله ويحيى بن سليمان وقتيبة وإبراهيم بن موسى وقبيصة ومحمد بن سلام، وأخرج أحاديثهم في سبعة مواضع من صحيحه كما في (الصورة 9 و 12).

37_ الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني المتوفى سنة 259ه- أو سنة 260 ه- أخرج حديثه البيهقي في سننه عن أحمد بن محمد بن زياد البصري كما في (الصورة 9).

38_ هارون بن زيد بن أبي الزرقاء المتوفى بعد سنة 250 ه- روى الحديث عن أبيه، وعنه عبدان كما في (الصورة 9).

39_ مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح توفي سنة 261ه- روى الحديث عن عبد بن حميد ومحمد بن رافع وقتيبة وعمرو الناقد وسعيد بن منصور، وأخرج أحاديثهم في صحيحه كما في (الصورة 9 و 12).

40_ أحمد بن حماد الدولابي توفي سنة 269 ه- روى الحديث عن ابن عيينة، وعنه الطبري في تاريخه كما في (الصورة 9).

ص: 78

41_ أبو داود سليمان بن الأشعث صاحب السنن توفي سنة 275 ه- روى الحديث عن سعيد بن منصور كما في (الصورة 9).

42_ حماد بن شاكر النسوي المتوفى حدود سنة 290 ه- من رواة صحيح البخاري (1).

43_ إبراهيم بن معقل النسفي المتوفى سنة 294ه- من رواة صحيح البخاري فاته من الجامع أوراق رواها بالإجازة عن البخاري (2).

44_ عبدان بن محمد المروزي سمع منه الطبراني بمكة سنة (3) 287 ه- روى الحديث عن هارون بن زيد بن أبي الزرقاء، وعنه الطبراني في معجمه الكبير كما في (الصورة 9).

إلى غير هؤلاء، وكان حسبنا أن نكتفي بذكر البخاري الذي أخرج الحديث في صحيحه في سبعة مواضع وقد سمعه منه تسعون ألفاً، فيما ذكره الفربري وأنه . لم يبق من يرويه . غيره (4) غير أنا ذكرنا

ص: 79


1- أنظر فتح الباري 5٫1 .
2- نفس المصدر.
3- المعجم الصغير للطبراني 234٫1.
4- لقد ناقش ابن حجر العسقلاني في ذلك فقال: وأطلق ذلك بناء على ما في علمه، وقد تأخر بعده يتسع سنين أبو طلحة منصور بن محمد بن علي بن قريبة البزدوي، وكانت وفاته سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ذكر ذلك من كونه روى الجامع الصحيح عن البخاري أبو نصر بن ماكولا وغيره.

غيره ممن روى ذلك سواء من شراح صحيحه ومن غيرهم لنخرج الحديث من حيز الآحاد إلى حظيرة التواتر. وسأقتصر في رواة القرون التالية بما يغني ويقني، والله الهادي إلى سواء السبيل.

القرن الرابع :

1_ أحمد بن شعيب الحافظ النسائي (ت 303ه-) روى الحديث عن محمد بن منصور، وعنه محمد بن معاوية كما في الصورة 24).

2_ محمد بن جرير الطبري ( ت 310ه-) روى الحديث عن صالح بن سمال وأبي كريب وأحمد بن حماد الدولابي، وأخرج أحاديثهم في تاريخه كما في (الصورة 9 و 10).

3_أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد أبو بكر الخلال المتوفى سنة 311ه- في كتاب السنة(1) ولفظه كما في (الصورة (10).

4_ محمد بن يوسف الفربري المتوفى سنة 320ه- من رواة صحيح البخاري، وتفضل روايته على غيره بالضبط لسماعه الصحيح من مؤلّفه مرتين مرة بفربر سنة 248 ه-، ومرة ببخارى سنة 252ه-. وسيأتي ما يشير إلى ذلك.

5_ أبو طلحة منصور بن محمد بن علي بن قرينة البزدوي المتوفى سنة 329ه- وهو آخر من حدث عن البخاري بصحيحه كما جزم به

ص: 80


1- كتاب السنة 1 ٫ 271 طبع أخيراً طبعته دار الراية الرياض سنة 1410 ه-.

ابن ماكولا وغيره (1).

6_ أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري شيخ الحرم المعروف بابن الأعرابي المتوفى سنة 340 ه- روى الحديث عن الحسن بن محمد الزعفراني، وعنه عبد الله بن يوسف الاصبهاني(2).

7_سليمان بن أحمد الطبراني المتوفى سنة 360ه- أخرج الحديث بأسانيده في معجمه الأوسط كما في كنز العمال (3) ومرت بعض الصور عنه وما فيها من تلاعب وسيأتي مزيد في ذلك.

8_ عبد بن أحمد بن حمويه السرخسي المتوفى سنة 381ه- راوي صحيح البخاري، وكان مسند خراسان.

9_ عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن بطة العكبري الحنبلي المتوفى سنة 387ه-، أخرج الحديث عنه ابن شهر آشوب في المناقب.

10_ محمد بن مكي بن ذراع الكشميهني المروزي أبو الهيثم المتوفى سنة 389 ه- يوم عرفة راوية الصحيح عن البخاري.

11_ أبو حاتم محمد بن حبّان بن أحمد التميمي البستي المتوفى سنة 354 ه- روى الحديث في كتاب الثقات(4). إلى غير هؤلاء.

ص: 81


1- فتح الباري 5٫1
2- سنن البيهقي 207٫9
3- كنز العمال 3 138 ، والمعجم الكبير ٫30٫11 و 352 و 056٫12
4- كتاب الثقات 4 ٫ 212 ط دار الكتب العلمية بيروت.

القرن الخامس:

1_ أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني الصوفي مسند خراسان مات سنة 409ه- روى الحديث عن أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة، وعنه البيهقي في السنن الكبرى.

2_ الحافظ أبو نعيم الأصبهاني المتوفى سنة 430ه- أخرج الحديث في كتاب الحلية عن شيخه الطبراني بسنده عن طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي توفي فيه : ايتوني بكتف ودواة لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبدا ثم قال: صحيح ثابت من حديث سعيد عن ابن عباس، غريب من حديث طلحة رواه ادريس الأودي عن طلحة نحوه» (1).

3_أبو ذر الهروي المتوفى سنة 434 ه- روى الحديث عن محمد بن حمويه السرخسي، وعنه أبو الوليد الباجي (2).

4_أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي الشافعي المتوفى سنة 458 ه- أخرج الحديث في : كتابه السنن (3) وقد . مر ذكره في الصورة

التاسعة.

ص: 82


1- حلية الأولياء 25٫5
2- شرح الشفاء (نسيم الرياض ) 4 ٫ 276 .
3- السنن الكبرى 207٫9

5_ أبو حفص الاشبيلي الهوزني 460 ه- روى الحديث في شرحه.

6_ أبو الوليد الباجي سليمان بن خلف المتوفى سنة 474 ه- روى الحديث عن أبي ذر الهروي وعنه أبو علي بن سكرة كما في الشفاء للقاضي عياض (1) و وهو صاحب التجريح لرجال الصحيح.

7_أبو الاصبع الكواكبي المتوفى سنة 486 ه- روى الحديث في شرحه على الصحيح. إلى غير هؤلاء.

القرن السادس:

1_ أبو علي بن سكرة الصدفي الأندلسي المتوفى سنة 514ه- روى الحديث عن أبي الوليد الباجي وعنه القاضي عياض كما في الشفاء.

2_القاضي عياض المالكي المتوفى سنة 544ه- أخرج الحديث في كتابه الشفاء (2) بروايته عن أبي علي بن سكرة.

3_ أبو عبد الله محمد بن حسين بن أحمد بن محمد الأنصاري المري - نسبة إلى المرية - المتوفى سنة 582ه- أخرجه في كتابه ( الجمع بين الصحيحين).

ص: 83


1- الشفاء 2 185 ط اسلامبول سنة 1304 ه-.
2- نفس المصدر 2 ٫ 185 - 186 .

4_أبو محمد عبد الحق الاشبيلي المتوفى سنة 582ه- صاحب كتاب (الأحكام الشرعية الكبرى) أخرجه في كتابه (الجمع بين الصحيحين).إلى غير هؤلاء.

القرن السابع :

1_ الحافظ أبو العباس الاشبيلي المعروف بابن الرومية المتوفى سنة 637 ه- روى الحديث في كتابه المعلم بما رواه البخاري على شرط مسلم.

2_ ابن أبي حجة الأندلسي المالكي سنة 642 ه- روى الحديث في كتابه الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم.

3_الحافظ شرف الدين أبو الحسن علي بن تقي الدين اليونيني الحنبلي المتوفى سنة 658ه- فقد روى الحديث ضمن روايته لصحيح البخاري التي ضبطها وقابل أصله على أصل مسموع على أبي ذر الهروي وعلى الاصيلي وابن عساكر وأبي الوقت وتعد نسخته من

أضبط النسخ (1).

4_القاضي ناصر الدين أحمد بن محمد المالكي المعروف بابن

ص: 84


1- أنظر نيل الأماني في توضيح مقدمة القسطلاني للأبياري ٫ 207 ط دار الكتب العلمية.

المنير الاسكندراني المتوفى سنة 683 ه- روى الحديث في كتابه مناسبات تراجم البخاري. إلى غير هؤلاء.

القرن الثامن:

1_ ابن تيمية الحراني المتوفى سنة 728 ه- ذكر الحديث في منهاج السنة (1)، وسيأتي كلامه في ذلك مع علماء التبرير.

2_ شهاب الدين النويري المتوفى سنة 733ه- ذكر الحديث في نهاية الارب كما في الصورة الخامسة.

3_جمال الدين عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي المتوفى سنة 762ه- أخرج الحديث في كتابه وقال: أخرجه البخاري في الجزية ومسلم في آخر الوصايا كلاهما عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما اشتد برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه قال : ( إئتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي فتنازعوا) وقالوا: ما شأنه أهجر ؟ استفهموه، فقال: دعوني أوصيكم بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، قال: وسكت عن الثالثة» (2)، انتهى.

ص: 85


1- منهاج السنة 315٫6 - 316 ، تح: محمد رشاد سالم ط مؤسسة قرطبة سنة .1406
2- نصب الراية لأحاديث الهداية 3٫ 455 ط المجلس العلمي سنة 1357.

4_ القريمي المعروف بقاضي قرم المتوفى سنة 783ه- في شرحه الصحيح البخاري.

5_ محمد بن يوسف بن علي الكرماني المتوفى سنة 786ه- له الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري وهو مطبوع.

6_ إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي المالكي المتوفى سنة 790 ه- أخرج الحديث في كتابه الاعتصام (1).

7_الحافظ علاء الدين مغلطاي الحنفي المتوفى سنة 792ه- في شرحه التلويح .

إلى غير هؤلاء.

القرن التاسع :

1_سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن الشافعي المتوفى سنة 804ه- في شرحه لصحيح البخاري.

2_ المجد الفيروز آبادي المتوفى سنة 817ه- صاحب القاموس في اللغة وله كتاب سفر السعادة وهو كتاب قيم في خاتمته، وله مصنفات عديدة منها فتح الباري في شرح صحيح البخاري) كما في التاج المكلل لصديق حسن خان (2).

ص: 86


1- الاعتصام 12٫3.
2- التاج المكلل ٫ 467.

3_ شمس الدين البرماوي الشافعي المتوفى سنة 831ه- في شرحه اللامع الصبيح.

4_محمود بن أحمد الحنفي العيني المتوفى سنة 855ه- له عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري وهو كتاب مطبوع متداول.

5_ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن حجر الشافعي العسقلاني في فتح الباري المتوفى سنة 852ه- وهو من خيرة شروح صحيح البخاري في نظري.

6_ شهاب الدين أحمد بن أحمد الشرجي اليمني الحنفي سنة 893ه- في كتابه التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح البخاري.

إلى غير هؤلاء.

القرن العاشر :

1_جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 ه- في الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج(1).

2_ شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني المتوفى سنة 923ه- في ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري (2). إلى غير هؤلاء.

ص: 87


1- طبع أخيراً في دار ابن عفان، الخبر، السعودية سنة 1416ه-.
2- وهو كتاب مطبوع متداول

لماذا الإطالة مع الإسناد ؟

اشارة

لم تكن إطالة البحث عن الإسناد مجرد صيغة أدبية، وترف ولهو يرتاح إليها الباحث في ثبوت الحدث، بل هي كصمام أمان يقي الباحث من إصر المسؤولية عن الأمانة التي يحملها، فهو حين يذكر الإسناد برواته ومصادره يلقي - معذوراً - بثقل المسؤولية على الرواة. وهو بقدر ما يبذله من تحقيق في التماس حقيقة الواقع يدفع عنه ذلك الإصر. كما حكى أبو موسى المديني في مقدمة كتابه (تتمة الغريبين للهروي عن بعض السلف أنه قال: من أحال على غيره فقد استوثق». وقال آخر: «إذا أحلت على غيرك فقد اكتفيت».

لذلك كلما قرب العهد بالحدث كان العناء أقل، وكانت التبعة أخف، لقصر الإسناد أولاً، وعدم أو قلة تدخل الشيع والأهواء في رجاله ثانياً. وتعدد الإسناد كما يكون مدعاة لقوة الإعتماد حيناً ما كذلك يكون أيضاً مدعاة لزيادة العناء أحياناً كثيرة، لكنه يبقى تعدد الإسناد في الروايات، وتنوع مصادرها مادة غنية للباحث يستجلي من خلاله واقع الحدث باطمئنان، بشرط أن يكون موضوعياً ودقيقاً في الملاحظة، خصوصاً في مذاهب الرواة وميولهم، ليميز الغث من السمين، والتافه من الثمين، وإن استوجب ذلك منه الأناة، بل البطء في المسيرة. حتى يتوصل إلى النتائج المرجوة القريبة من تصوير واقع الحدث إن لم تكن هي الواقع بعينه، وعلى ضوء تلك النتائج سيعلم

ص: 88

فلسفة كثير من الأحداث التاريخية التي توالت بعد ذلك الحدث.

والآن هلم بنا لننظر إلى حديث الرزية كل الرزية، هل يستحق منا أن نقف عنده هكذا طويلاً، ونقرأه ملياً، ونستجلي فيه ما تضمه الكلمات، دون اسراف في التفسير، أو تحميل اللفظ ما لا يعنيه في التعبير ؟ أو نمر عليه كحدث عابر ، حدث في الغابر، ورواه لنا الرواة، وفيه اسراف وفيه مغالاة؟

لا أظن إنساناً واعياً لديه مسكة من دين، وأثارة من علم يرضى بأن تمر روايات هذا الحديث كما تمر روايات العابثين، في أقاصيص الأغاني وحكايات ألف ليلة وليلة، وحتى تلكم فقد أوليت من العناية قدر ما تستحق.

وقفة عند الحديث :

لابد لنا من وقفة عند ذلك الحدث والحديث، لأنه كان بداية تحول في تاريخ المسلمين، أسهم صناعه في زرع الفتنة والشقاق، فكان بمثابة رأس الحربة في إعلان تمرد من بعض المسلمين على الإسلام ونبيه. ولا زالت الأمة تعاني من آثار ذلك التمرد، وتكتوي بناره، وحتى في تمحيص أخباره.

فبدلاً من أن تكون سيرة الرسول (صلی الله علیه و آله) هي المثلى يهتدي بها المسلمون، ولهم في سنته قولاً وعملاً وتقريراً خير معين لكن بعضهم

ص: 89

وللأسف تغلبت عليهم رواسب جبلوا عليها، ولم يقووا على التخلي عنها، حتى كانوا يقولون للرسول بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، كما جاء التنزيل مندّداً بهم، ثم طغت تلك الرواسب فصاروا يفصحون عنها حين يلقون إليه بقوارص الكلم.

فبدلاً من (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (1). فإذا هم يردون عليه بوقاحة ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنَا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (2)).

والآن وقد سبق السيف العذل فما هو حقيقة موقف أولئك السادة القادة، هل كان ما صدر منهم عفوياً؟ أم عن سابق عناد وتدبير؟ أم كان حدثاً عابراً فتزيد فيه الرواة؟ أم كان عظيماً فلفه الضباب فلم يستبن منه إلا وجهه الباهت وسط ضباب كثيف ؟ وذلك ما أجرى دموع ابن عباس حتى بل الحصباء.

ولكي نتلمس الإجابة الصحيحة على تلك التساؤلات (بنعم، أو لا) لابد من عرض شامل لمواقف فقهاء الحديث عن حديث الرزية، خاصة منهم علماء التبرير، بدقة في الاستقراء، وأناة في الروية للمدارسة، وبمنتهى التجرد والموضوعية، وبالتالي نعرف الجواب

ص: 90


1- النور ٫ 51
2- النساء ٫ 46 .

(بنعم، أو لا ) فإن تلك اللفظتين المختصرتين تقتضيان كثيراً من البحث والتفكير قبل الإجابة لتلمس الحقيقة الثابتة التي لا تلبيس فيها ولا غبار عليها، وعلى ضوئها توزن القيم والأقدار.

فلنقرأ ما قاله العلماء في ذلك الحديث:

مع علماء التبرير وقراءة بين السطور :

لقد أقض حديث الرزية مضاجع العلماء بدءاً منذ عهد الرواة، وانتهاءاً بأصحاب الصحاح والسنن وسائر المصنفات، وإذا كان ابن عباس قال عنه الرزية كل الرزية، فإن كلمته تركت العلماء يخوضون كل مخاضة في سبيل تبرير ما صدر من بعض الصحابة، الذين جعلوا لهم من الحصانة ما يرفعهم عن الإدانة، فنسج كل على نوله بقوله وأتى بما عنده مكابرة بحوله وطوله.

ولابد لنا من وقفة مع أولئك الذين اشتدوا مكابرة واشتطوا مصادرة؛ ليعرف القارئ مبلغ جهاد ابن عباس، وهو أشد الرواة أمراً، وأكثرهم ذكراً الحديث الرزية، نصرة الرسول الله (صلی الله علیه و آله) عليه كما ينبغي له أن يعرف من هم أولئك النمط الذين جاهدوه في الطريق المعاكس، فناصروا من عارض النبي (صلی الله علیه و آله) ولو على حسابه، برد أمره في إحضار كتف ودواة لما أراد في كتابه.

من هم علماء التبرير ؟

إنهم كثيرون جداً، ولا يسع المقام استيفاء جميع ما قالوه، لكنا

ص: 91

سنختار الواحد والاثنين نماذج من كل قرن، بدءاً من القرن الرابع ثم القرون التي بعده حتى القرن العاشر. ونترك الباقين وتركاضهم فهم من عاقلتهم، وعلى شاكلتهم، وفي سابلتهم.

فمن القرن الرابع: أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي المتوفى سنة 388 ه-، وهو من ذرية زيد بن الخطاب - فيما يزعمون - وزيد هذا أخ لعمر بن الخطاب بطل المعارضة، ولا تخفى حمية النسب في أقواله له تصانيف منها اعلام السنن في شرح صحيح البخاري، ومعالم السنن في شرح سنن أبي داود وكتب أخرى.

ومن القرن الخامس: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري الأندلسي المتوفى سنة 456 ه- صاحب التصانيف الكثيرة كالمحلى والإحكام والفصل في الملل والنحل، ولسانه الجارح على حد سيف الحجاج كما وصفوه، يقال: إن جده يزيد كان من موالي يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي وأيضاً: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي الشافعي المتوفى سنة 458ه- صاحب السنن الثلاث ودلائل النبوة وغير ذلك.

ومن القرن السادس: محمد بن علي بن عمر المالكي المازري المتوفى سنة 536ه- له عدة كتب منها المعلم بفوائد كتاب مسلم.

وأيضاً: القاضي عياض المالكي المتوفى سنة 544 ه- مؤلف كتاب الشفاء وغيره.

ص: 92

ومن القرن السابع: ابن الأثير الجزري المتوفى سنة 606ه- صاحب كتاب النهاية في غريب الحديث وغيره.

وأيضاً: محيي الدين النووي الشافعي المتوفى سنة 677ه- صاحب المنهاج بشرح صحيح مسلم بن الحجاج وكتاب الأذكار والأربعين حديثاً وغيرها.

ومن القرن الثامن: ابن تيمية الحراني المتوفى سنة 728ه- محبوساً بقلعة دمشق بأمر من علماء وحكام الوقت.

وأيضاً: إبراهيم بن موسى بن محمد الغرناطي الشاطبي المتوفى سنة 790 ه- له كتاب الإحكام والموافقات والاعتصام.

ومن القرن التاسع: شهاب الدين ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 ه- له فتح الباري في شرح صحيح البخاري وغيره.

ومن القرن العاشر: شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني المتوفى سنة 923ه- له إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري وغيره. وأخيراً من القرون المتأخرة نذكر ما قاله الدهلوي واللاهوري ومن المعاصرين العقاد والجابري.

ماذا قال علماء التبرير ؟

أولاً: الخطابي :

اشارة

قال: «إنما ذهب عمر إلى أنه لو نص بما يزيل الخلاف البطلت

ص: 93

فضيلة العلماء وعدم الاجتهاد، حكاه عنه ابن حجر في فتح الباري (1).

وقال أيضاً: «ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلّم) أو ظن له غير ذلك مما لا يليق به بحال. لكنه لما رأى ما غلب على رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلم) من الوجع وقرب الوفاة مع ما اعتراه من الكرب، خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه، فتجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام في الدين. »

كذا حكاه النووي عنه : في شرح صحيح مسلم (2)، وحكاه بلفظ آخر وتفاوت يسير في فتح الباري (3)، فراجع.

مع الخطابي :

من المؤسف حقاً تضييع الوقت في رد مزاعمه في الدفاع عن عمه. وما ذكره من الاحتمالات الواهية فهى على عروشها خاوية. فما ذكره أولاً من أنه لو نص النبي (صلی الله علیه و آله) بما يزيل الخلاف يبطل فضيلة العلماء ويعدم الاجتهاد، فليته أوضح مراده من فائدة بقاء الخلاف؟

ص: 94


1- فتح الباري 219٫1 ط مصطفى البابي الحلبي سنة 1378 ه-.
2- شرح صحيح مسلم للنووي ٫91٫11 ط مصطفى الحلبي
3- فتح الباري 1989 - 199

وما قيمة فضيلة العلماء إذا هي لم ترفع الخلاف من بين الأمة؟

وليته استدل لنا على ترجيح الاجتهاد على النص النبوي ؟ مع انه لا اجتهاد مع النص كما هو معروف.

ما باله يعتذر برمه وطمه ويجعل من منعه فضيلة تفوق أمر النبي(صلی الله علیه و آله) - الذي لا ينطق عن الهوى - والذي يضمن لأمته عدم الضلالة أبداً. فهل بعد هذا أعظم فائدة وعائدة منه؟!

وما أدري بماذا يجيب الخطابي وأنصاره عن المسائل الآتية:

1_أليس كتاب النبي(صلی الله علیه و آله) بما يزيل الخلاف أولى بالاعتبار من عدمه وبقاء الخلاف بين الأمة يخوضون في الجهالة وحيرة الضلالة ؟

ماذا يبتغي الخطابي وابن الخطاب من بقاء فضيلة العلماء؟ أليس فضيلتهم لهداية الأمة؟ فإذا كان كذلك فكتابه يغني وهو أولى بالاتباع فلماذا منع منه عمر وأصر على الامتناع ؟

ثم هل كان الخطابي يرى في عمه أنه أعلم من النبي (صلی الله علیه و آله) بما يصلح الأمة؟ ولا أظن مسلماً يفوه بذلك، فإن النبي (صلی الله علیه و آله) حين أمر بالكتاب هل كان يعلم بذهاب فضيلة العلماء أو لا؟ والثاني باطل ومستلزم للكفر، وعلى الأول فلابد من علمه برجحان مصلحة الكتابة على فضيلة العلماء دون العكس، لأنه يستلزم أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بالمرجوح وترك الراجح، وهذا ممنوع من النبي لعصمته وتسديده بالوحي وطلبه الأصلح للأمة.

ص: 95

ثم هل كان أمر النبي (صلی الله علیه و آله) من عند نفسه أو من عند ربه، والأول مدفوع بقوله تعالى: ( وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى) (1)، والثاني مسموع لقوله تعالى: ( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (2)، و( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى) (3) ، و (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) (4) .

وبعد هذا كله لو سلمنا جدلاً أن الخطابي علم بمراد عمه عمر من منعه كتاب النبي (صلی الله علیه و آله) لأنه يلغي فضيلة العلماء ويعدم الاجتهاد، فمن أين له أن كتابه (صلی الله علیه و آله) سوف يشمل جميع الحوادث والأحكام. لأن نص الرسول (صلی الله علیه و آله) على شيء أو أشياء مخصوصة لا يبطل فضيلة العلماء ولا يعدم الاجتهاد، لأن الحوادث لا يمكن حصرها، فليعدم الاجتهاد فيما نص عليه خاصة، ويبقى لاجتهادهم سائر المجالات الأخرى. وبهذا كان تعقب ابن الجوزي للخطابي فيما حكاه عنه ابن حجر حيث قال: وتعقبه ابن الجوزي بأنه لو نص على شيء وأشياء لم يبطل الاجتهاد، لأن الحوادث لا يمكن حصرها.

هذا كله فيما ذكره أولاً. وأما ما ذكره ثانياً:

1 - لماذا لا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط الخ؟

ص: 96


1- النجم ٫ 3
2- النجم ٫ 4
3- الكهف ٫ 110 ، فصلت ٫ 41 .
4- الأعراف ٫ 203.

وقوله : هجر، أهجر ، يهجر ... إلى غير ذلك، من ألفاظ الهجر التي فاه بها عمر، كلها أو بعضها تدل على أن مراده ذلك.

2_ وما المراد من قوله : لما رأى ما غلب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ فهل مراده أن الوجع غلب عليه حتى سلبه اختياره - والعياذ بالله - فان كان ذلك فهذا ما فرّ منه واعتذر عنه لكنه وقع فيه. وإن أراد غلبته على جسمه كاصفراره ونحو ذلك مما يورثه المرض في بدن صاحبه، فليس في ذلك شيء يخشى منه مما خاف منه الخطابي وعمه. وليس ذلك بمانع من إجراء أي حكم من الأحكام، والذي يبدو لي أن مراد الخطابي هو الأول وشاهد ذلك قوله: «خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه» وهل معنى (ما لا عزيمة له فيه) سوى الهجر والهذيان ويعني صدور ما لم يرد فعله ويعزم عليه. هذا هو المعنى الحرفي والعرفي للعزيمة، وهو نفس المعنى اللغوي الذي يعني لم تكن له الإرادة المؤكدة المتقدمة لتوطين النفس على ما يرى فعله أو الجد في الأمر. وهذا الوجه يدفعه ظاهر الأمر في الإلزام، وما أمره بإحضار الدواة والكتف إلا كسائر أوامره الوجوبية، خصوصاً بعد بيان النفع المترتب عليه، وهو عصمة الأمة من الضلالة إلى الأبد.

3_ما معنى قوله: «فيجد المنافقون بذلك سبيلاً ... الخ»، إذ ليس الموجب لكلام المنافقين هو قرب الوفاة منه (صلی الله علیه و آله) ولا ما اعتراه من الكرب كما يقول الخطابي، بل إن حال المنافقين كانت معلومة لديه أيام

ص: 97

حياته، ومعرفته بالكثير منهم وقد نزل القرآن في التحذير منهم. وقد آذوه يوم رجع من غزاة تبوك فآذوه في نفسه وآذوه في أهله، وتقاعدوا عنه، وتقاعسوا متخاذلين ومخذلين كلما أراد الغزو. فهل كان يومئذ قرب وفاة؟ وهل كان مرض ؟ أو هل كان اعتراه كرب؟

4_ ولو سلمنا أن المنافقين كانوا يجدون سبيلاً، فمن أين للخطابي وأضرابه إثبات علم عمر بذلك، وإذا قالوا أدركه بفطنته ففي بقية الصحابة الحاضرين يومئذ من فاقه فطنة وعلماً وحكماً وفهماً، لماذا لم يدرك أولئك ما أدركه عمر ؟ فإن هم سكتوا لعلمهم أنه ليس لهم حق الاعتراض فكان على عمر مثل ذلك.

5_ ثم يا ترى ما هو موقف الخطابي من اعتراف عمر بمراده، وهو يدفع ما قاله هو وغيره من علماء التبرير فانتظر، وسنوافيك به، حينئذ ستجده يعترف بأن النبي (صلی الله علیه و آله) إنما أراد علياً للأمر فمنعه هو من ذلك.

ثانياً: ابن حزم الظاهري :

اشارة

ذكر ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام في جملة كلامه في إبطال القياس في أحكام الدين فقد قارب في بعضه وسدد، وشد في بعضه وأبعد، ومهما يكن فقد ذكر حديث الرزية وعقبه بقوله:

«هذه زلة العالم التي حذر منها الناس قديماً، وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الاختلاف،

ص: 98

وتضل طائفة وتهتدي بهدى الله أخرى، فلذلك نطق عمر ومن وافقه بما نطقوا به مما كان سبباً إلى حرمان الخير بالكتاب الذي لو كتبه لم يُضل بعده. ولم يزل أمر هذا الحديث مهماً لنا، وشجى في نفوسنا، وغصة نتألم لها وكنا على يقين من أن الله تعالى لا يدع الكتاب الذي أراد نبيه (صلى الله عليه وآله) وسلّم أن يكتبه فلن يضل من بعده دون بیان، فيحيا - كذا - من حى عن بينة، إلى أن من الله تعالى بأن أوجدناه فأنجلت الكربة، والله المحمود. وهو ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب ابن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا عبيد الله بن سعيد ثنا يزيد بن هرون ثنا إبراهيم بن سعد ثنا صالح ابن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: «قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلّم في مرضه: ادعي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل : أنا أولى، ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر».

قال أبو محمد - هو ابن حزم - هكذا في كتابي عن عبدالله بن يوسف، وفي أم أخرى (ويأبى الله والمؤمنون).

ص: 99

وهكذا حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام الطرطوسي ثنا يزيد بن هارون - إلى آخر السند المتقدم - بمثله وفيه: «إن ذلك كان في اليوم الذي بدئ فيه (علیه السلام) بوجعه الذي مات فيه بأبي هو وأمي. قال أبو محمد - هو ابن حزم - فعلمنا ان الكتاب المراد يوم الخميس قبل موته (صلى الله عليه وآله) وسلّم بأربعة أيام - كما روينا عن ابن عباس يوم قال عمر ما ذكرنا - إنما كان في معنى الكتاب الذي أراد (علیه السلام) أن يكتبه في أول مرضه قبل يوم الخميس المذكور بسبع ليال، لأنه (علیه السلام) ابتدأه وجعه يوم الخميس في بيت ميمونة أم المؤمنين، وأراد الكتاب الذي قال فيه عمر ما قال يوم الخميس بعد أن اشتد به المرض، ومات (علیه السلام)يوم الاثنين، وكانت مدة علته (صلى الله عليه وآله) وسلّم إثنى عشر يوماً، فصح أن ذلك الكتاب كان في استخلاف أبي بكر لئلا يقع ضلال في الأمة بعده (علیه السلام). فإن ذكر ذاكر معنى ما روي عن عائشة إذ سئلت

من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلف؟ فإنما معناه:لو كتب الكتاب في ذلك» (1) .

ص: 100


1- الإحكام في أصول الأحكام 122٫7 ط السعادة بمصر.

أقول: إلى هنا انتهت الحاجة من نقل كلامه الطويل العريض الذي نفى فيه تقديم أبي بكر للخلافة قياساً على تقديمه للصلاة - كما يروي القياسيون - وقالوا به حتى قال : فيأبى الله ذلك، وما قاله أحد قط يومئذ، وانما تشبث بهذا القول الساقط المتأخرون من أصحاب القياس، الذين لا يبالون بما نصروا به أقوالهم، مع أنه أيضاً في القياس فاسد - لو كان القياس حقاً - لما بينا قبل، ولأن الخلافة ليست علتها علة الصلاة، لأن الصلاة جائز أن يليها العربي والمولى والعبد والذي لا يحسن سياسة الجيوش والأموال والأحكام والسير الفاضلة.

وأما الخلافة فلا يجوز أن يتولاها إلا قرشي صليبة عالم بالسياسة ووجوهها، وإن لم يكن محكماً للقراءة (؟) وإنما الصلاة تبع للإمامة، وليست الإمامة تبعاً للصلاة فكيف يجوز عند أحد من أصحاب القياس أن تقاس الإمامة التي هي أصل على الصلاة التي هي فرع من فروع الإمامة ؟ هذا ما لا يجوز عند أحد من القائلين بالقياس».

وسيأتي عن ابن حزم أيضاً مثل ما تقدم من الكلام، وهناك يحاول اثباته بالقسم والأيمان وهذا من الطرافة بمكان.

وقفة مع ابن حزم :

من المضحك - وشر البلية ما يضحك - أن يكون مثل ابن حزم المتحرر من كثير الرواسب المقيتة عند قومه، وهو ينعى عليهم التقليد،

ص: 101

ويعترف صريحاً بما هو الصحيح في أن قول عمر إنما هو زلة العالم التي حذر الناس منها قديماً، ثم هو يكبو كبوة يقع فيها لوجهه حين يحسب أنه زالت عنه دياجي الظلماء أن كشف له الغطاء بوجدانه حديث عائشة المزعوم، ولقد أغرب كثيراً حين زعم أن ذلك نص على خلافة أبي بكر، فقد قال في كتابه الفصل: فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده (1). وكأنه نسي أو تناسى بأن أبا بكر وقومه، ومن أتى بعده كلهم لم يقولوا بالنص في أمر الخلافة، وإنما قالوا بالاختيار، وما دعاهم إلى ذلك إلا الإضطرار، حيث لا نص ثابت عندهم.

وربما يفاجأ القارئ إذا وجد ابن حزم في كتابه جوامع السيرة يدين عملية المنع من إحضار الدواة والكتف فيقول : «فلما كان يوم الخميس - قبل موته (صلی الله علیه و آله) بأربع ليال - اجتمع عنده جمع من الصحابة فقال (علیه السلام) : (التوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي) فقال عمر بن الخطاب كلمة أراد بها الخير، فكانت سبباً لامتناعه من ذلك الكتاب فقال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد غلب عليه الوجع، وعندنا كتاب الله، وحسبنا كتاب الله. وساعده قوم حتى قالوا: أهجر رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 102


1- الفصل 108٫4

وقال آخرون أجيبوا بالكتف والدواة يكتب لكم رسول الله (صلی الله علیه و آله) كتاباً لا تضلون بعده، فساء ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمرهم بالخروج من عنده؟ فالرزية كل الرزية ما حال بينه وبين ذلك الكتاب، إلا أنه لا شك لو كان من واجبات الدين ولوازم الشريعة لم يثنه عنه كلام عمر ولا غيره ... اه-. »

هذا ما ذكره ابن حزم في جوامع السيرة (1)، ومر عنه ما ذكره في كتابيه الإحكام وكتابه الفصل، فبأيهما يأخذ القارئ؟ وأيها هو الصحيح؟ وهل ذلك منه إلا استغفال لعقول الناس!؟ فالحديث الذي زعم أنه وجده فانجلت به الكربة فكأنه عمي أو تعامى أن الحديث صورة ممسوخة الحديث الرزية، وليته كان كحديث الرزية في تظافر نقله لتتكافأ الكفتان، وينظر عند التعارض لأيهما الرجحان وليختر هو معنى ذلك المزعوم، ثم كيف يخفى هذا على من سبقه تمن خرج الحديثين مثل مسلم وغيره؟ وسيأتي الكلام في ذلك مفصلاً عند حديثنا عن عملية التزوير والمسخ ، وسيقف القارئ على قول ابن أبي الحديد المعتزلي وضعوه - البكرية - في مقابلة الحديث المروي عنه(صلی الله علیه و آله) في مرضه: (إئتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبداً)، فاختلفوا عنده وقال قوم منهم: لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله،

ص: 103


1- جوامع السيرة ٫ 263.

وسيعود ابن حزم مرة أخرى إلى الحديث المزعوم يحاول اثباته بالأيمان؟

ويكفي في تزييفه أنه لم يظهر يوم السقيفة حين كان أبو بكر أحوج إليه من كل ما احتج به، فأين كانت عائشة عن رواية ذلك؟ ولماذا لم تناصر أباها به في أحرج وقت كان محتاجاً لنصرتها بمثله ؟

مضافاً إلى ما سيأتي من كشف حال رجاله فانتظر.

ثالثاً: البيهقي :

اشارة

قال في أواخر كتابه دلائل النبوة بعد ذكره الحديث الرزية بأسانيده إلى علي ابن المديني والحسن بن محمد الزعفراني عن سفيان بن عيينة عن سليمان عن سعيد بن جبير قال قال ابن عباس: «يوم الخميس وذكر الحديث إلى قوله وسكت عن الثالثة أو قالها فنسيتها ثم قال البيهقي: هذا لفظ حديث علي بن المديني وهو أتم، زاد علي قال سفيان: إنما زعموا أراد أن يكتب فيها استخلاف أبي بكر. ثم قال البيهقي رواه البخاري ومسلم في الصحيح (1)....

ثم ذكر الحديث بسند آخر وصورة ثانية وفيه قال - ابن عباس - : «لما حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم وفي البيت رجال

ص: 104


1- دلائل النبوة ٫181٫7 - 182 ط بیروت بتحقيق د عبد المعطي قلعجي

فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): ( هلموا أكتب لكم لن تضلوا بعده أبداً) فقال عمر: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله ومنهم يقول ما قال عمر فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله(صلی الله علیه و آله) قال النبي(صلی الله علیه و آله):

(قوموا).

قال عبد الله : فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم

ولغطهم . »

ثم ذكر رواية البخاري له في الصحيح عن علي بن المديني وغيره. ورواية مسلم عن محمد بن رافع وغيره عن عبد الرزاق. ثم قال : وإنما قصد عمر بن الخطاب بما قال التخفيف على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين رآه قد غلب عليه الوجع، ولو كان ما يريد النبي أن يكتب لهم شيئاً مفروضاً لا يستغنون عنه لم يتركهم لاختلافهم ولغطهم لقوله تعالى: بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ (1)كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه، وإنما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أن يكتب

ص: 105


1- المائدة ٫ 67 .

استخلاف أبي بكر ثم ترك كتبته اعتماداً على ما علم من تقدير الله تعالى ذلك، كما هم به في ابتداء مرضه حي قال : وارأساه، ثم بدا له أن لا يكتب وقال: يأبى الله

والمؤمنون إلا أبا بكر، ثم نبه أمته على خلافته باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها .... إلى آخر ما قال (1)، وكله من الدفع بالصدر.

وقد روى نفسه في سننه الكبرى في كتابة العلم في الصحف حدیث جابر :

ان رسول الله (صلی الله علیه و آله) دعا بصحيفة في مرضه ليكتب فيها كتاباً لأمته لا يضلون بعده ولا يضلون، وكان في البيت لغط وتكلم عمر فتركه (2).

وهذا الذي رواه بتر من آخره ما يدين عمر، ثم ذكر بعده في كتابة العلم في الألواح والأكتاف بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إنتوني باللوح والدواة والكتف والدواة لأكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده

أبداً) قالوا : رسول الله (صلی الله علیه و آله) يهجر (3).

ص: 106


1- دلائل النبوة 7 ٫ 183 .
2- السنن الكبرى 435٫3ط بيروت سنة 1411ه-.
3- نفس المصدر.

مع البيهقي في دعاواه:

وتتلخص دعاواه في الأمور التالية:

1_ زعمه أن حديث علي بن المديني أتم لأنه زاد قول سفيان إنما زعموا أراد أن يكتب فيها استخلاف أبي بكر .

2_ زعمه أن قصد عمر هو التخفيف على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال الذي قال.

3_ زعمه أن النبي (صلی الله علیه و آله) أراد أن يكتب لهم ما هم مستغنون عنه.

4 _ زعمه بل كذبه على سفيان في حكايته قوله.

5_ زعمه تنبيه النبي (صلی الله علیه و آله) لأمته على خلافة أبي بكر استخلافه إياه

في الصلاة.

فأقول: أما زعمه الأول أن حديث علي بن المديني أتم وقال: زاد علي قال سفيان: إنما زعموا ... الخ فهذا كذب وهراء ومحض افتراء، فحديث سفيان لقد رواه عنه خمسة عشر إنساناً كما مر في الصورة التاسعة، وكلهم من الحفاظ وأئمة الحديث، وكان علي ابن المديني واحداً منهم. وحديثه لم يقتصر على رواية البيهقي بأسانيده فقط، بل رواه عنه البخاري أيضاً وليس فيه هذه الزيادة (1)، كما لم ترد في أحاديث الرواة الآخرين عن سفيان فمن أين ألصق البيهقي بابن المديني هذه الزيادة؟

ص: 107


1- أنظر صحيح البخاري ٫ 6 و 9.

وأما زعمه الثاني أن عمر قصد التخفيف على رسول الله (صلی الله علیه و آله). فينفيه ما سيأتي عن عمر نفسه من بيان قصده في منعه، ولو سلمنا جدلاً، فهل أن عمر كان أبصر بنفس النبي (صلی الله علیه و آله) منه بنفسه ؟

وأما زعمه الثالث أن النبي (صلی الله علیه و آله) أراد أن يكتب لأمته ما هم مستغنون، مدفوع للحكمة التي بينها النبي (صلی الله علیه و آله) في كتابة ذلك الكتاب وهي قوله(صلی الله علیه و آله) : ( لن تضلوا بعده أبداً) فإن ذلك يدل على احتياجهم إلى عاصم يعصمهم من الضلالة إلى الأبد، وليس من تأمين على السلامة والصيانة لهم غير كتابة ذلك الكتاب.

ولو سلمنا جدلاً - ولا نسلم - صواب قول البيهقي أراد أن يكتب لهم ما هم مستغنون عنه فيلزم منه أن ينسب القائل بذلك إلى مقام الرسالة ما لا يليق بها من العبث، حيث أن ذلك الكتاب لا يزيدهم فائدة ولا يعود عليهم بعائدة، وهو مناف للعصمة عند من يقول بها، ومناف للحكمة عند من لا يقول بها.

وأما ما استدل به على مقالته فهو مردود بعد أن انتفت الفائدة المتوخاة والتي كان يعلمها (صلی الله علیه و آله) ،حيث فتح عمر باباً واسعاً للطعن فيما يكتبه، ويدل على ذلك ما جاء في بعض صور الحديث مما رواه ابن سعد وغيره وفيه فقال بعض من كان عنده: إن نبي الله ليهجر، قال: فقيل له : ألا نأتيك بما طلبت ؟ قال : أو بعد ماذا؟ قال: فلم يدع به (1).

ص: 108


1- أنظر الصورة الحادية عشرة من صور الحديث.

وأما زعمه الرابع أن سفيان حكى عن أهل العلم قبله. فهذا كذب على سفيان، وما روي عن سفيان على اختلاف صور نسخه الخمس عشرة حسب عدد الرواة عنه فلم يأت في واحدة منها ان سفيان حكى ذلك عن أهل العلم قبله. وإنما الوحيد الذي روى ذلك عنه فيما أعلم - هو البيهقي - ومهما يكن فإن الذي حاول إثباته من الكتابة باستخلاف أبي بكر فقد من الجواب عنه في رد ابن حزم فراجع.

وأما زعمه الخامس أن النبي (صلی الله علیه و آله) نبه أمته على خلافة أبي بكر باستخلافه إياه في الصلاة فيكفي في دحض ما زعمه ما قاله ابن حزم في كتابه الإحكام آنفاً - وقد مر نقل ذلك عنه قبل هذا فراجع - مضافاً إلى قوله: واحتجوا باجماع الأمة على تقديم أبي بكر إلى الخلافة، وان ذلك قياس على تقديم النبي (صلی الله علیه و آله) له إلى الصلاة... وهذا من الباطل الذي لا يحل، ولو لم يكن في تقديم أبي بكر حجة إلا ان رسول الله (صلی الله علیه و آله) (صلی الله علیه و آله) قدمه إلى الصلاة لما كان أبو بكر أولى بالخلافة من علي. لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد استخلف علياً على المدينة في غزوة تبوك وهي آخر غزواته (علیه السلام) الفقياس الاستخلاف على الاستخلاف اللذين يدخل فيهما الصلاة والأحكام أولى من قياس الاستخلاف على الصلاة وحدها ... إلى آخر ما ذكره من مناقشة (1).

ص: 109


1- أنظر كتابه الإحكام 119٫7 - 120 .

رابعاً: المازري :

اشارة

قال:

إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك؛ لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه (صلى الله عليه وآله) وسلم قال ذلك عن غير قصد جازم، فظهر ذلك لعمر دون غيره.

هكذا حكاه النووي في شرح صحيح مسلم، وابن حجر في فتح الباري، والقسطلاني في المواهب اللدنية والبدر العيني في عمدة القارئ (1)، وغيرهم.

مع المازري:

يتلخص اعتذار المازري في النقاط التالية:

1_ اختلاف الصحابة في امتثال أمر النبي (صلی الله علیه و آله) إنما كان لأن الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار.

ص: 110


1- شرح صحیح مسلم 91٫11 ، فتح الباري 198٫9، المواهب اللدنية /2 367، عمدة القارئ 171٫2

2_ تصميم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه (صلی الله علیه و آله)قال ذلك عن غير قصد جازم.

3_ظهور ذلك لعمر دون غيره ؟

وبين النقطة الأولى والنقطة الثالثة نحو تضاد، إذ إن عمر هو الذي ظهر له أن الأمر عن غير قصد جازم، وهذا مختص به دون غيره كما يزعم المازري، ويعني ذلك أنه خفي على الآخرين، وإذا كانوا كذلك فما بالهم يختلفون في امتثال الأمر ما دام لم يظهر لهم ما ظهر العمر دون غيره، ثم إن قول المازري: عن غير قصد جازم يعني ترك الباب مفتوحاً أمام الصحابة فمن شاء أن يمتثل امتثل ومن شاء تخلف، لأن الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار وهذا ما أكده بقوله:« عن غير قصد جازم» والآن لنا أن نسائله.

1_ ما معنى بيانه (صلی الله علیه و آله) المصلحة الحكم الشرعي من أمره بقوله: (لا تضلون بعدي أبداً). فلو كان على سبيل الاختيار فمن شاء فعل ومن شاء ترك، لما ترتب أمر العصمة من الضلالة لهم جميعاً، بل كان يختص ذلك بمن امتثل ويحرم منه من خالف، ولما كان الخطاب للجميع فلابد أنه (صلی الله علیه و آله) توخى هداية الجميع وبذلك تتم فائدة العصمة من الضلالة وإلا فلا.

2_ ما معنى قوله (صلی الله علیه و آله) في آخر الحديث: (قوموا عني)، وذلك يعني طردهم عنه ولو كان أمره الأول عن غير قصد جازم وليس على

ص: 111

التحتم، بل على الاختيار لما كان لطردهم عنه معنى، وان تنطع متنطع فقال: «ان طردهم عنه إنما كان بعد تنازعهم ولغطهم فتأذى بذلك فقال: (قوموا عني) ». وهذا لا يدل على الوجوب في الامتثال. هنا نقول له ان ذلك النزاع هو وحده كاف في الدلالة على لزوم الأمر، وإلا لو كان الأمر اختيارياً لما حدث النزاع ولما استلزم الطرد.

3_ما معنى قول عمر «حسبنا كتاب الله»؟ أليس يدل على فهمه أمر النبي(صلی الله علیه و آله) أنه كان للوجوب فأراد دفع من يقوم بالامتثال عنه، وإسقاط حجة قول النبي (صلی الله علیه و آله) بالكلية. ولو لم يكن فهم لزوم الامتثال لما احتاج إلى قوله: «حسبنا كتاب الله».

4_ ما معنى بكاء حبر الأمة عبد الله بن عباس وقوله: «الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين كتابة الكتاب»؟ أليس يدل ذلك على فوات أمر عظيم وخطير، وله أثر كبير في حياة الأمة فاستدعى فواته ذلك البكاء حتى يبل دمعه الحصى. ولو كان الفائت أمراً اختيارياً لما لزم ذلك البكاء؟ ولما لزم التعبير عنه ب- ( الرزية كل الرزية ولعيب عليه ذلك التوجع والتفجع، فكم هناك من أمور مندوبة وأحكام مستحبة تركها الناس في أيامه، بل وحتى تغيير بعض الفرائض فلم ينعها ولم يذكر عنه أنه بكى لها، ولم ينقل التاريخ عنه أنه عبر عن فوت واجب آخر بأنه رزية فضلاً عن المندوب.

5_ وأخيراً من أين للمازري إثبات فهم عمر دون غيره بأن أمر

ص: 112

النبي (صلی الله علیه و آله) كان عن غير قصد جازم، وهذا لا يعلم إلا من قبل عمر نفسه، ولم يرد عنه في ذلك شيء.

ثم إن ما ذهب إليه المازري لم يتابعه عليه أحد يعتد به - فيما أعلم- إلا رجل واحد من المتأخرين هو السيد عبد الرحيم الطهطاوي (1).

أما باقي أعلام قومه كالقاضي عياض والقرطبي وابن حجر وغيرهم فقد ذهبوا إلى عكس ما قاله المازري وقالوا بان عمر فهم الوجوب، وإنما قال الذي قاله إنكاراً على من تخلف عن الامتثال، وستأتي مقالاتهم التافهة وما أسسوه من مقدمات لنتائجهم المردودة وقياساتهم الباطلة ...

خامساً: القاضي عياض :

اشارة

قال : في كتاب الشفاء :

فصل: فإن قلت: قد تقررت عصمته (صلى الله عليه وآله) وسلّم في أقواله في جميع أحواله وأنه لا يصح منه فيها خلف ولا اضطراب في عمد ولا سهو ولا صحة ولا مرض ولا جد ولا مزح ولا رضى ولا غضب ولكن ما معنى الحديث في وصيته (صلى الله عليه وآله) وسلم ....

ص: 113


1- أنظر كتابه هداية الباري 8٫1.

ثم ذكر حديث الكتف والدواة بسنده إلى قوله:

فقال بعضهم: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم قد غلبه الوجع ... الحديث.

ثم قال :

وفي رواية: (إئتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً ) فتنازعوا فقالوا: ما له أهجر استفهموه ، فقال : (دعوني فإن الذي أنا فيه خير).

وفي بعض طرقه :

إن النبي (صلى الله عليه وآله) وسلّم : يهجر .

وفي رواية هجر، ويروى :

أهجراً. وفيه فقال عمر: إن النبي (صلى الله عليه وآله) وسلّم قد اشتد به الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، وكثر اللغط فقال : (قوموا عني).

وفي رواية:

واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم كتاباً، ومنهم من يقول ما قال عمر.

قال أئمتنا في هذا الحديث النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم غير معصوم من الأمراض وما يكون من

ص: 114

عوارضها من شدة الوجع وغشى ونحوه مما يطرأ على جسمه، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته، ويؤدي إلى فساد في شريعته من

هذيان و اختلال كلام.

وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث هَجَرَ إذ معناه هذي يقال هَجَرَ هجراً إذا هذى وأهجر هجراً إذا أفحش وأهجر تعدية هجر، وانما الأصح والأولى أهجَرَ على طريق الأنكار على من قال لا يكتب، وهكذا روايتنا فيه في صحيح البخاري من رواية جميع الروات في حديث الزهري المتقدم، وفي حديث محمد بن سلام عن ابن عيينة، وكذا ضبطه الأصيلي بخطه في كتابه وغيره من هذا الطريق، وكذا روينا عن مسلم في حديث سفيان وعن غيره، وقد تحمل عليه رواية من رواه هَجَرَ على حذف ألف الاستفهام، والتقدير أهجر، أو أن يحمل قول القائل هجراً أو أهجر دهشةً من قائل ذلك وحيرة لعظيم ما شاهد من حال الرسول (صلی الله علیه و آله) وشدة وجعه، وهو المقام الذي اختلف فيه عليه، والأمر الذي هم بالكتاب فيه، حتى لم يضبط هذا القائل لفظه، وأجرى الهجر مجرى شدة الوجع، لا أنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر، كما

ص: 115

حملهم الإشفاق على حراسته والله يقول: (والله يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ) (1) ونحو هذا، وأما على رواية أهجراً وهي رواية أبي إسحاق المستملي في الصحيح في حديث ابن جبير عن ابن عباس من رواية قتيبة فقد يكون هذا راجعاً إلى المختلفين عنده (صلى الله عليه وآله) وسلّم ومخاطبة لهم من بعضهم، أي جئتم باختلافكم على رسول الله صلى الله عليه وآله) وسلم وبين يديه هجراً و منكراً من القول، والهجر بضم الهاء الفحش في المنطق.

وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث وكيف اختلفوا بعد أمره لهم صلى الله عليه وآله) وسلّم أن يأتوه بالكتاب فقال بعضهم أوامر النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم يفهم إيجابها من ندبها من إباحتها بقرائن فلعل قد ظهر من قرائن قوله (صلی الله علیه و آله) لبعضهم ما فهموا أنه لم تكن منه عزمة، بل أمر ردّه إلى اختيارهم، وبعضهم لم يفهم ذلك فقال: استفهموه، فلما اختلفوا كف عنه إذ لم يكن عزمة ولما رأوه من صواب رأي عمر.

ثم هؤلاء قالوا ويكون امتناع عمر إما إشفاقاً على النبي صلى الله عليه وآله) وسلّم من تكليفه في تلك الحال

ص: 116


1- المائدة ٫ 67 .

إملاء الكتاب وأن تدخل عليه مشقة من ذلك كما قال إن النبي صلى الله عليه وآله) وسلم اشتد به الوجع.

وقيل: خشي عمر أن يكتب أموراً يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة ورأى أن الأرفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد وحكم النظر وطلب

الصواب، فيكون المصيب والمخطئ مأجوراً.

وقد علم عمر تقرر الشرع وتأسيس الملة وان الله تعالى قال: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (1) وقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: (أوصيكم بكتاب الله وعترتي).

وقول عمر : حسبنا كتاب الله، رد على من نازعه، لا على أمر النبي صلى الله عليه وآله) وسلم.

وقد قيل: إن عمر خشي تطرق المنافقين ومن في قلبه مرض ما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة، وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل ، كادعاء الرافضة الوصية وغير ذلك .

وقيل: إنه كان من النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم لهم على طريق المشورة والاختبار، هل يتفقون على ذلك أم يختلفون فلما اختلفوا تركه.

ص: 117


1- المائدة ٫ 3.

وقالت طائفة أخرى: إن معنى الحديث ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مجيباً في هذا الكتاب لما طلب منه، لا أنه ابتداء بالأمر، بل اقتضاه منه بعض أصحابه، فأجاب رغبتهم وكره ذلك غيرهم للعلل التي ذكرناها .

واستدل في هذه القصة بقول العباس لعلي: انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله) وسلم فإن كان الأمر فينا علمناه، وكراهة علي هذا، وقوله: والله لا أفعل.... الحديث.

واستدل بقوله: (دعوني فإن الذي أنا فيه). أي الذي أنا فيه خير من إرسال الأمر وترككم وكتاب الله وأن تدعوني مما طلبتم، وذكر أن الذي طلب كتابة أمر

الخلافة بعده وتعيين ذلك (1).

أقول: هذا كل ما ذكره في هذا الفصل من كتابه الشفاء وليس فيه من النافع إلا شفى - القليل - إذ هو إما تكرار للسابقين أو تلفيق المتخرصين. ولابد لنا من محاسبته على بعض ما ذكره مما لم يسبق إليه من وجوه الاحتمالات والتمحلات، وإنما نقلناه بطوله لأن جماعة ممن هم على شاكلته تبعوه على رأيه، فإنهم بين من نقل جميع كلامه كما صنع

ص: 118


1- أنظر الشفاء 2 ٫ 185 - 186 ط اسلامبول سنة 1304 ه-.

النويري في نهاية الارب (1) ، ومنهم من الخصه كالقرطبي ولخص من تلخيصه ابن حجر في فتح الباري (2) كما سيأتي تلخيصه.

مع القاضي عياض :

لقد كانت غاية محاولة القاضي هي تبرير ما صدر من عمر بن الخطاب في ذلك اليوم التعيس يوم الخميس، ولكنها محاولة بائسة

ويائسة. فهو استعرض :

أولا : تحقيق الصيغة اللفظية التي كانت سبب الاختلاف، ثم التشكيك في تعيين قائلها وذلك من خلال ما ذكره من سياق الروايات المختلفة. حتى أنهاها إلى ثماني روايات كما يلي:

1_ فقال بعضهم : أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد غلبه الوجع.

2_ وفي رواية: فتنازعوا فقالوا ما له أهجر استفهموه.

وفي بعض طرقه : إن النبي (صلی الله علیه و آله) يهجر - (بفتحتين هكذا في النسخة المعربة المطبوعة بإسلامبول سنة 1304 ه- ) -.

4 _ وفي رواية : هجر.

ه _ ويروى : أهجر.

ص: 119


1- نهاية الأرب 18 ٫ 373 - 378
2- أنظر فتح الباري الجزء التاسع.

6 - ويروى : أهجراً.

وفيه فقال عمر : إن النبي (صلی الله علیه و آله) قد اشتد به الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا وكثر اللغط.

8_وفي رواية واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله (صلی الله علیه و آله) كتاباً ، ومنهم من يقول ما قال عمر.

أقول: وهذه الروايات التي أشار إليها تترك القارئ في حيرة من أمر القاضي، وكأنه يحاول التعتيم على الحقيقة، فيعرض لها دون بيان الصحيح منها، فهو يترك القارئ في دروب من المتاهات.

لكن الباحث الواعي لا يعدم الرواية الصحيحة بينها، وانها هي الثالثة التي ورد فيها : ان النبي يهجر وما تحريكه لها بفتحتين إلا نحو من التعتيم المتعمد، لأن الصحيح يهجر » فانها من باب (نصر ينصر ) وتحريكها بفتحتين يخرجها عن المعنى الأصلي للكلمة، وانحراف بمسارها الصحيح، وذلك ان القراءة بفتحتين تكون بمعنى هجرك الشيء، أي تركه كما نصت على ذلك بعض قواميس اللغة. ولكن ذلك لم يعجب الملا علي القاري شارح كتاب القاضي المذكور فقال في المقام: يهجر» بكسر الجيم مع فتح أوّله بتقدير استفهام إنكار (؟).

وهذا من غرائب الأغراب في مسائل الإعراب، وإنما حدث بعد زمان الحديث والحدث تبريراً لمواقف المعارضة عند الحساب. أما الذي قلناه أنه الصحيح وهي الرواية الثالثة فقد ذكرها

ص: 120

القاري وقال هو الموجود في مستخرج الإسماعيلي من طريق ابن خلاد عن سفيان. كما ذكرها غيره (1)وسيأتي مزيد بيان عن ذلك في محله إن شاء الله .

ثانيا : استعرض ما قاله أئمته في الحديث. ولا يعنينا معرفة أئمته بأعيانهم سواء كانوا هم المالكية، أو الأشعرية، أو أهل السنة والجماعة كما ذكرهم شارح كتابه الملا علي القارئ الحنفي.

والذي يعنينا أن نعرف ماذا قالوا ؟ لم يأتوا بشيء جديد، ولم يخرجوا عن إطار التبرير وإن باؤا بإثم التزوير . فكل ما محض سقاؤهم أن الروايات المختلفة آنفة الذكر يجب تخريجها على نحو الاستفهام الإنكاري، ولم يخرج عن تلك الروايات، إلا الرواية الثالثة التي لم يذكر لهم فيها رأياً ولم يعلق عليها هو بشيء، لكن شارح كتابه لم تفته المشاركة في الحلبة، فحشرها مع سابقها ولاحقها فعلق عليها بقوله: بتقدير استفهام إنكار ...

ثالثاً: ذكر اختلاف العلماء في معنى الحديث، فذكر أربعة آراء كلها تدور في فلك التبرير :

أولها: إن الأوامر إذا اقترنت بقرينة تخرجها من الوجوب إلى الندب والإباحة، فلعله ظهر من قرائن قوله (صلی الله علیه و آله) لبعضهم ما فهموا

ص: 121


1- جاء في سر العالمين للغزالي ٫ 9 ط بومبي الهند على الحجر سنة 1314 : (إن الرجل ليهجر».

منه أنه لم يكن عزمة، وبعضهم لم يفهم ذلك فقال: استفهموه، فلما اختلفوا كف عنه إذ لم يكن عزمة، ولما رأوه من صواب رأي عمر. وهؤلاء قالوا عن امتناع عمر إما إشفاقاً عليه(صلی الله علیه و آله) ، وإما خشي أن يكتب أموراً يعجزون عنها فيحسون بالحرج في المخالفة، فرأى الأرفق بالأمة سعة الاجتهاد الخ.

ثانيها: إن عمر خشي تطرق المنافقين إلى أن يقولوا فيما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة (؟) وأن يتقولوا الأقاويل كادعاء الرافضة الوصية وغير ذلك.

ثالثها: ان النبي (صلی الله علیه و آله) إنما قال لهم ذلك عن طريق المشورة والاختبار ليراهم هل يتفقون أم يختلفون، فلما اختلفوا تركه.

رابعها : ان النبي (صلی الله علیه و آله) كان مجيباً لما طلب منه ولم يكن ذلك منه ابتداء، فأجاب رغبة الطالب، وكره غيره ذلك للعلل التي ذكرها في الرأيين الأول والثاني.

وفي كل هذه الآراء مواقع للنظر نذكر بعضها :

أما الأول وهو احتمال وجود قرينة في المقام عرفها بعضهم ولم يعرفها آخرون، فهو من واهي الاحتمالات وقد مر مثله والجواب عنه فراجع ما مر عن المازري وقبل ذلك ما قلناه مع الخطابي.

وأما الثاني وهو إما احتمال أن يكون عمر أشفق على النبي (صلی الله علیه و آله) فمنع من امتثال أمره، فهذا من قبيل المثل (اكوس عريض اللحية)

ص: 122

فكيف يكون مشفقاً عليه وهو يعلن ردّ أمره ويشغب عليه؟ وأين منه الشفقة وقد سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكلبا. كما في حديث ابن عمر الذي أخرجه الدارقطني في سننه قال: خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بعض أسفاره فسار ليلاً فمروا على رجل جالس عند مقراة له (1) فقال عمر : يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك؟ فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): (يا صاحب المقرأة لا تخبره هذا مكلب، لها ما حملت في بطونها

ولنا ما بقي شراب وظهور) ... ا ه- (2).

أقول: والمكلب - بكسر اللام - معلم الكلاب للصيد، وبفتحها المقيد ولما كان معروفاً بالغلظة والشدة، وإذا لاحاه بعض أهله اصطلم أذنه شبهه النبي (صلی الله علیه و آله) بالمكلب معلم الكلاب، إذ لا يكون معلمها إلا من هو أكلب منها لتخافه، فمن كان كذلك أين منه الشفقة المزعومة ؟

وأما احتمال خشية تطرق المنافقين فيجدوا سبيلاً إلى الطعن فيها لو كتب (صلی الله علیه و آله) فهذا مر عن الخطابي ومر الجواب عنه. وأما تمثيله لتطرق المنافقين بادعاء الرافضة الوصية، فليس ادعاؤهم من دون دعوى البكرية أنه (صلی الله علیه و آله) أراد أن يكتب لأبي بكر بالخلافة، بل ادعاؤهم كان هو الحق الذي لا مرية فيه لأنه قد اعترف بصحة دعواهم عمر بن الخطاب حين قال لابن عباس أراده رسول الله (صلی الله علیه و آله) للأمر فمنعته من ذلك.

ص: 123


1- المقراة كل ما أجتمع الماء فيه - القاموس.
2- سنن الدارقطني 26٫1

وأما الثالث وهو الجديد - فيما أعلم - إذ لم يأت في زبر الأولين، وهو ان النبي (صلی الله علیه و آله) قال لهم على طريق المشورة والاختبار، هل يتفقون فيكتب لهم، أو يختلفون فيتركه، فلما اختلفوا تركه.

وصاحب هذا الرأي الفطير من الغباء بمكان؛ إذ تخيل أن النبي (صلی الله علیه و آله) وهو في أخريات أيامه بعد لم يعرف أصحابه معرفة تامة، وهو الذي عايشهم طيلة ثلاث وعشرين سنة فلم يعرفهم وما كان عليه بعضهم من المخالفة له، وكأن تلك التجارب التي مرت عليه في اختلافهم عند المشورة لم تترك في نفسه أثراً يذكر حتى احتاج إلى اختبارهم مرة أخرى ؟

ألم يستشرهم في حرب بدر فكان منهم السامع المجيب، ومنهم المخذل المريب الذي يقول له : إنها قريش ما ذلت منذ عزت.

ألم يستشرهم في أسارى بدر ؟ فكان منهم من يرى قتل الأسارى، ومنهم من يرى أخذ الفداء حتى نزلت الآية فحسمت الموقف المترجرج وذلك في قوله تعالى: ( حَتَّى إذا أَنْخَمْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) [محمد: 4].

ألم يختلفوا عليه في وقعة أحد ؟!

ألم يختلفوا عليه في وقعة الأحزاب ؟!

ألم يختلفوا عليه في قضية بني النضير ؟!

ألم يختلفوا عليه في صلح الحديبية ؟!

ص: 124

ألم وألم ؟ وكل ألم فيها ألم !!

وأما الرأي الرابع - وهو كشف جديد كسابقه - ما أنزل الله به من سلطان، إذ يقول صاحبه أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يكن مبتدءاً بأمره، بل قال إئتوني أكتب لكم كتاباً لمن طلب منه ذلك، واستدل على ذلك بقول العباس لعلي: إنطلق بنا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن كان الأمر فينا علمناه، وكراهة على هذا وقوله : لا أفعل ... الحديث.

وهذا من الغرابة بمكان فإن قول العباس لعلي - لو صح - إنما كان صبح يوم الوفاة فكان بعد حديث الرزية يوم الخميس بأربعة أيام، فكيف يكون هو السبب لتقديم الطلب ويكون النبي (صلی الله علیه و آله) مجيباً لا مبتدءاً، كما في تاريخ ابن الأثير وغيره فراجع.

سادساً: ابن الأثير الجزري:

اشارة

قال في كتابه النهاية (هجر) ومنه حديث مرض النبي (صلی الله علیه و آله): قالوا ما شأنه أهجر أي اختلف كلامه بسبب المرض على سبيل الاستفهام، أي هل تغيير كلامه واختلط لأجل ما به من المرض، وهذا أحسن ما يقال فيه، ولا يجعل إخباراً فيكون إما من الفحش أو الهذيان، والقائل كان عمر ولا يظن به ذلك (1).

ص: 125


1- النهاية في غريب الحديث والأثر 255٫4ط الأولى مطبعة الخيرية بمصر سنة 1322 ه- (مادة هجر).

التبرير الفطير عند ابن الأثير :

ليس من القسوة عليه ما وصفناه به، فهو إذ لم يأتنا بجديد من عنده، وكل ما بذله من جهده، أنه اجتر أقوال السابقين من علماء التبرير، واستحسن ذلك، وحيث مرت بنا نماذج من أقوالهم وردها، فلا نطيل الوقوف ثانياً عندها. إلا أن من حقنا أن نسأله لماذا ذكر الحديث أوّلاً مبهماً أسماء القائلين وهم جماعة. ثم صرح أخيراً باسم عمر وهو مفرد؟ فهل كان عمر هو الجماعة ؟ (كل عضو في الروع منه

جموع ) ؟

ولماذا قال أخيراً : ولا يظن به ذلك ؟ أليس ذلك من ابن الأثير هو التبرير الفطير، فلماذا لا يظن بعمر ذلك وهو رأس الحربة التي طعنت النبي (صلی الله علیه و آله) في فؤاده، إذ عارضه فلم يمكنه من بلوغ مراده.

فهل أن مقامه فوق مقام الرسول الكريم، فيجب أن يحترم ولو على حساب كرامة النبي(صلی الله علیه و آله) ، اللهم إن هذا الرد بهتان عظيم.

سابعاً: النووي:

اشارة

قال في شرحه صحيح مسلم بعد مقدمة في عصمة النبي (صلی الله علیه و آله) مما يخل بالتبليغ: وليس معصوماً من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام ونحوها، مما لا نقص فيه لمنزلته ولا فساد لما تمهد من شريعته، وقد سحر (صلی الله علیه و آله) حتى صار يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، ولم يصدر منه (صلی الله علیه و آله) وفي هذا الحال كلام في الأحكام مخالف لما

ص: 126

سبق من الأحكام التي قررها.

ثم قال: فإذا علمت ما ذكرناه فقد اختلف العلماء في الكتاب الذي هم النبي (صلی الله علیه و آله) به .

فقيل: أراد أن ينص على الخلافة في إنسان معين لئلا يقع نزاع وفتن.

وقيل : أراد كتاباً يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها، ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه وكان النبي (صلی الله علیه و آله) هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه بذلك، ثم ظهر أن المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك، ونسخ ذلك الأمر الأول.

وأما كلام عمر فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله، ودقيق نظره لأنه خشي أن يكتب (صلی الله علیه و آله) أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى: وما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ » (1) وقوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (2)، فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن من الضلال على الأمة، وأراد الترفيه

على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكان عمر أفقه من ابن عباس (3).

ص: 127


1- الأنعام ٫ 38.
2- المائدة ٫ 3.
3- شرح صحيح مسلم للنووي 90٫11 ط مصر .

مع النووي:

لابد لنا من وقفة مع النووي !

أولا : في المقدمة التي ذكرها في عصمة الرسول (صلی الله علیه و آله) في التبليغ وعدمها من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام فقال في ذلك: وقد سحر (صلى الله عليه وآله) وسلّم حتى صار يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، وقد اعتبر ذلك غير مضر برسالته.

فنقول له: إن ما ورد من أخبار القصاص الجهال بأنه سحر حتى صار كيت وكيت لا يمكن التصديق بها، وإن رواها البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة وغيرها، فهي أشبه بحديث خرافة، ويكفي في ردها جملة وتفصيلاً قول الله تعالى حيث أنكر على الكفار الظالمين قولهم : (وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً )(1) والمسحور هو الذي خبل عقله، فأنكر الله تعالى ذلك. وذلك لا يمنع من جواز أن يكون بعض اليهود قد اجتهد في ذلك فلم يقدر عليه، فأطلع الله نبيه على ما فعله، حتى استخرج ما فعلوه من التمويه، فكان ذلك دلالة على صدقه ومعجزة له.

قال ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد وقد ذكر الحديث عن عائشة فقال: «وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد

ص: 128


1- الإسراء ٫ 47.

الإنكار، وقابلوه بالتكذيب، وصنف بعضهم فيه مصنفاً مفرداً حمل فيه على هشام وكان غاية ما أحسن القول فيه ان قال غلط واشتبه عليه الأمر ولم يكن من هذا شيء، قال: لأن النبي (صلی الله علیه و آله) لا يجوز أن يسحر فإنه يكون تصديقاً لقول الكفّار : ( إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُورًا (1)) قالوا: وهذا كما قال فرعون الموسى : (وإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً )(2) وقال قوم صالح له : ( إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَخَّرِينَ )(3)، وقال قوم شعيب

له: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَخَّرِينَ) ، قالوا : فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا، فإن ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم من الشياطين» (4).

ثانياً: ما ذكره من اختلاف العلماء فذكر قولين:

أولهما: وهو الحق الذي أباه عمر ؛ لأنه أعترف بعد ذلك أمام ابن عباس بأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أراد عليا للأمر فمنعته من ذلك فتبين المراد

عندما تبين العناد.

وأما ثانيهما: فهو من نسج الخيال ولا نطيل فيه المقال لكننا نسأل النووي عن مزاعمه التالية:

1 _ قوله اتفق العلماء ؟ فأين وقع ؟ ومتى وقع؟ ثم كيف يزعم

ص: 129


1- الإسراء ٫ 101.
2- الشعراء ٫ 153 .
3- الشعراء ٫ 185.
4- بدائع الفوائد 223٫2

ذلك وهو الذي سبق منه أن قال: اختلف العلماء في المراد من الكتاب، فهم حين اختلفوا في المراد كيف اتفقوا على أن الحديث من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه خشي أن يكتب أموراً .... الخ وفهم عمر على زعمه لا يتفق مع أصحاب القول الأول ولم يرده عمر. وإنما يتفق مع أصحاب القول الثاني فقط. فكيف يكون اتفاق مع هذا الاختلاف؟

2_ قوله : «إنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره. فكيف يزعم له ذلك ولازمه أن يكون عمر أبصر بمصلحة الأمة من نبيها ؟ ولعل النووي يرى ذلك ولكن لم يجرأ على البوح به فقال الذي قال، ومهما كان عمر فليس يُصدق زعم من يرى فيه أنه خشي أن يكتب أموراً ربما عجزوا عنها، لأن مبنى عذر النووي هو الخشية والاحتمال لا التحقق، ومع ذلك ربما تكون النتيجة العجز ولربما لا تكون، ولو سلمنا جدلاً أنهم عجزوا عنها فهم معذورون و (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (1).

ثم إن عمر لم يكن مسدّداً بالوحي ورسول الله (صلی الله علیه و آله) كان ينزل عليه الوحي، فهلا احتمل هذا بدقيق نظره ؟ - كما يحلو للنووي وصفه بذلك - أن ما أمر به رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان من أمر الوحي فهو مأمور بالتبليغ وعليهم الإطاعة، فإذا هم عصوا تركهم وتركاضهم في

ص: 130


1- البقرة ٫ 286 .

الضلال فلماذا منع عمر من امتثال أمر رسول الله(صلی الله علیه و آله) ؟

3_ كيف يكون عمر أفقه من ابن عباس لأنه قال: «حسبنا كتاب الله». ومن المعلوم يقيناً أن الكتاب المجيد لم يتكفل ببيان جميع أحكام الشريعة بتفاصيلها، فخذ مثلاً حكم فريضة الصلاة التي هي عمود الدين فلم يرد في الكتاب المجيد ما يبين جميع فروضها وأركانها وسائر أحكامها وسيأتي مزيد بيان حول عدم الاستغناء في الأحكام بالكتاب وحده، ولا بد من أخذ السنة معه.

ولنعد إلى تفضيل النووي لعمر على ابن عباس في فقاهته. ولنسأله أين كانت فقاهة عمر غائبة عنه يوم يقول لابن عباس: «قد

طرأت علينا عضل أقضية أنت لها ولأمثالها» (1)

وأين كانت فقاهته حين يقول له: «غص غواص (2).

فكيف يكون عمر أفقه من ابن عباس ؟ وعمر هو القائل: «من كان سائلاً عن شيء من القرآن فليسأل عبد الله بن عباس» (3)، وأين

ص: 131


1- روى ابن سعد قول عمر عن سعد بن أبي وقاص بلفظ آخر : ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات ثم يقول عندك قد جاءتك معضلة ثم لا يجاوز قوله وان حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار (طبقات ابن سعد 2 ق 2 ٫ 122)، وراجع فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل برقم 1913. .
2- طبقات ابن سعد الطبقة الخامسة ) 141٫1 تح- السلمي، وسير أعلام النبلاء 246٫3 ط . مؤسسة الرسالة وفضائل الصحابة 2 ٫ 681 ط. مؤسسة الرسالة.
3- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل برقم 1893 ط مؤسسة الرسالة بيروت.

غابت عنه فقاهته يوم سئل عن مسألة فقال فيها، فقام إليه ابن عباس فساره فقال: يا أمير المؤمنين ليس الأمر هكذا، فأقبل عمر على العباس وكان عنده - فقال له: يا أبا الفضل بارك الله لك في عبد الله إني قد أمرته على نفسي فإذا أخطأت فليأخذ علي(1)... إلى غير ذلك مما قاله عمر وغير عمر في علم ابن عباس.

ولا يفوتني تنبيه القارئ إلى أن النووي لم يكن بدعاً في قومه فله أمثال ابن بطال والقسطلاني من شراح البخاري الذين يذهبون مذهبه فقد قالوا: وعمر أفقه من ابن عباس حيث اكتفى بالقرآن ولم يكتف ابن عباس به ولا حاجة بنا إلى إبطال أقوال ابن بطال وغيره فهم في التزوير أبطال، ولكن لابد من وقفة قصيرة للموازنة بين فقه عمر وبين فقه ابن عباس، بعد معرفة معنى الفقه.

فأقول: لقد جاء في (المفردات في غريب القرآن الكريم) للراغب الأصبهاني، مادة فقه (الفقه): هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخص من العلم... ويعني بذلك أن فقه الشيء يحتاج إلى جهد ذهني من الإنسان ليصل إلى فهم أمره، إما باستنباط من أمر، أو ظاهر نص يجده.

أما العلم فهو قد يحصل دون جهد وتفكير، وقد يحصل ببذل جهد أيضاً، فالفقه أخص من العلم، فكم من عالم ليس بفقيه، ولذلك

ص: 132


1- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 982٫2 برقم 1942 ط مؤسسة الرسالة.

قال علماء اللغة: الفقه هو الفهم، أي فهم حقيقة الشيء وإدراك معناه، ولهذا نفى الله تعالى الفقه عن الكفار فقال: وَلَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بها (1). وإذا عرفنا معنى الفقه وأنه الفهم الحقيقة الأمر، فلنرجع إلى مقالة ابن بطال والنووي لنرى من هو الأفقه من الرجلين ابن عباس أو عمر ؟

أيهما أفقه عمر أم ابن عباس ؟

لا أريد استباق الشواهد الدالة على أفقهية ابن عباس وللحديث عنها مجال آخر. ولكن لابد لي من ذكر شاهد واحد يصلح للموازنة بين الرجلين وذلك ما أخرجه جملة من أئمة الحديث ممن لا يتهمون في نقله كابن الجوزي والحاكم والبيهقي وابن كثير وابن حجر والسيوطي وغيرهم.

عن عكرمة قال : قال ابن عباس: دعا عمر بن الخطاب أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) فسألهم عن ليلة القدر ؟ فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر. فقلت لعمر : إني لأعلم وإني لأظن أي ليلة هي، قال: وأي ليلة هي؟ قلت سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر.

قال: ومن أين تعلم ؟

قال قلت خلق الله سبع سموات، وسبع أرضين، وسبعة أيام

ص: 133


1- الأعراف ٫ 179 .

وإن الدهر يدور في سبع، وخلق الإنسان فيأكل (؟) ويسجد على سبعة أعضاء، والطواف سبع، والجبال سبع.

فقال عمر لقد فطنت لأمر ما فطنا له.

وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: كنت عند عمر وعنده أصحابه فسألهم فقال: أرأيتم قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ليلة القدر التمسوها في العشر الأواخر وتراً أي ليلة ترونها ؟ فقال بعضهم: ليلة إحدى وقال بعضهم: ليلة ثلاث، وقال بعضهم: ليلة خمس، وقال بعضهم: ليلة سبع، وأنا ساكت فقال: مالك لا تتكلم؟ قلت: إنك أمرتني أن لا أتكلم حتى يتكلموا فقال: ما أرسلت إليك إلا لتتكلم فقلت: إني سمعت الله يذكر السبع، فذكر سبع سموات ومن الأرض مثلهن، وخلق الإنسان من سبع، ونبت الأرض سبع.

فقال عمر : هذا أخبرتني ما أعلم، أرأيت ما لم أعلم قولك: (نبت الأرض سبع) قال: قال الله (عز وجل): ﴿ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبَّاً وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبَا (1).

قال: فالأب ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب والأنعام ولا يأكله الناس. قال فقال عمر لأصحابه أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام

ص: 134


1- عبس ٫ 26 - 31.

الذي لم تجتمع شئون رأسه، والله إني لأرى القول كما قلت »(1).

هذا شاهد واحد مما يرويه أصحاب الحديث ممن لا يتهمون على عمر . ثم دع عنك ابن عباس فإنه حبر الأمة وترجمان القرآن، وهلم إلى سائر الناس الذين كانوا أعلم وأفقه من عمر باعترافه، وإليك جملة من

اعترافاته

1_ قال: «كل الناس أفقه منك يا عمر » (2) .

2_ قال : «كل الناس أفقه من عمر قالها في واقعتين (3).

3_قال: «كل أحد أفقه مني قالها ثلاثاً» (4).

4_قال : كل واحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر »(5) .

5_قال: «كل واحد أفقه منك يا عمر » (6) .

6_قال: «كل الناس أعلم منك يا عمر »(7).

ص: 135


1- أنظر مسند عمر ٫ 87، مستدرك الحاكم 438٫1 وصححه، سنن البيهقي 313٫4 ، تفسير ابن كثير 533٫4 ، تفسير السيوطي 374٫6 ، فتح الباري .211٫4
2- العقد الفريد 416٫3
3- أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 61٫1 ، ونور الأبصار للشبلنجي ٫ 79.
4- الرياض النضرة 196٫2.
5- نور الأبصار ٫ 65
6- الرياض النضرة 57٫2
7- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 277٫14

قال : «كل الناس أعلم من عمر » (1).

إلى غير ذلك من أقواله.

فكيف يمكن تصديق الزعم بأنه في تصرفه الشاذ يوم الخميس وكلمته النابية في حق النبي (صلی الله علیه و آله) وأخيراً قوله حسبنا كتاب الله يكون

أفقه من ابن عباس ؟!

ولست في مقام المفاضلة ولكن أود تنبيه القارئ إلى أن ابن عباس كان قد حفظ المحكم على عهد النبي (صلی الله علیه و آله) . وعمر لم يحفظ سورة البقرة

إلا في اثنتي عشرة سنة (2).

ثم أليس عمر هو الجاهل والسائل من أبي واقد الليثي: «بأي شيء كان النبي (صلی الله علیه و آله) يقرأ في مثل هذا اليوم(3) - وكان ذلك يوم العيد - فمن كان يجهل ما كان يقرأه النبي في صلاة العيد كيف يمكن أن يزعم له بأنه أفقه من ابن عباس ؟

ص: 136


1- تفسير الكشاف 2٫ 445
2- في شرح الموطأ للزرقاني 2٫ 194 ما لفظه وأخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر قال : تعلم عمر في أثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزوراً. جاء في ربيع الأبرار 77٫2 ط الأوقاف ببغداد: حفظ عمر سورة البقرة فنحر وأطعم.
3- هذا ما أخرجه عنه أصحاب الصحاح والسنن كمسلم في صحيحه 242٫1، وأبي داود في سننه 2٫ 280 ، ومالك في الموطأ 147٫1 ، وابن ماجة في سننه 188٫1، والترمذي في صحيحه 106٫1 ، والنسائي في سننه 184٫3، والبيهقي في سننه 3 ٫ 294.

اللهم إن ذلك من أكبر الشطط والغلط.

وأخيراً لا آخراً فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان، والضياء المقدسي في المائة المختارة والخوارزمي في الجامع عن إبراهيم التيمي قال: «خلا عمر ذات يوم فأرسل إلى ابن عباس فقال له: كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟

قال ابن عباس: إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيم نزل، وأنه يكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن لا يعرفون فيم نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي، وإذا كان كذلك اختلفوا ... » (1).

وأخرج أحمد في مسنده (2)، والبيهقي في السنن الكبرى (3) بعدة طرق عن كريب عن ابن عباس أنه قال له عمر : «يا غلام هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله) وسلّم أو من أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع ؟

قال: فبينما هو كذلك إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف، قال: فيم أنتما ؟

ص: 137


1- كنز العمال 2٫ 215 ط حيدر آباد (ثمانية)، ومفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي 46٫1 ط الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ط الثالثة، والجامع الأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي 194٫2 ط مكتبةالمعارف بالرياض.
2- مسند أحمد 1 ٫ 190 و 195.
3- السنن الكبرى 332٫2

فقال عمر : سألت هذا الغلام هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله) وسلّم أو أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع ؟ فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله) وسلم يقول: (إذا شك أحدكم .... الحديث».

فعمر الخليفة وهو لا يعرف حكم الشك في الصلاة - وهي فريضة يأتي بها المسلم كل يوم خمس مرات - حتى يسأل عن حكم الشك فيها من ابن عباس وهو بعد غلام. ولم يكن عند ابن عباس في ذلك سماع في الحكم. كيف يكون هو أفقه ؟

ثامناً : ابن تيمية :

اشارة

قال في كتابه منهاج السنة بعد حكايته قول العلامة ابن المطهر الحلي في حديث الكتف والدواة فقال رداً عليه:

والجواب أن يقال: أما عمر فقد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر، ففي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم أنه كان يقول : قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر (!؟).

قال ابن وهب تفسير: (محدثون ملهمون)... إلى آخر ما ذكره من سياق وشواهد على إلهام عمر بما لا ينفعه بل عليه أضر.

ص: 138

ثم قال :

وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلّم يريد أن يكتبه فقد جاء مبيناً في الصحيحين عن عائشة قالت قال رسول الله الله في

مرضه ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر. ثم ساق حديثاً آخر عن البخاري نحو ما سبق، وأتبعه بثالث: عن مسلم عن عائشة وسئلت من كان رسولالله (صلی الله علیه و آله) مستخلفاً لو استخلف؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها : ثم من بعد أبي بكر ؟ قالت: عمر. قيل لها : ثم من بعد عمر قالت : أبو عبيدة عامر بن الجراح ثم انتهت إلى هذا. ثم قال: وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قولالنبي (صلی الله علیه و آله) من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة، والمرض جائز على الأنبياء ولهذا قال : ما له أهجر، فشك في ذلك ولم يجزم بأنه هجر، والشك جائز على عمر، فإنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وآله) وسلم، لاسيما وقد شك بشبهة فإن النبي (صلی الله علیه و آله) كان مريضاً فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض، أو

ص: 139

كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله.

ولذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات، والنبي (صلی الله علیه و آله) قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره العائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع، علم أن الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة.

وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه، كما قال: (ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر).

وقول ابن عباس : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله) وسلم وبين أن يكتب الكتاب، يقتضي أن هذا الحائل كان رزية، وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر، فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك.

فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه والله الحمد.

ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة (؟).

أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه.

وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً

ص: 140

جلياً ظاهراً معروفاً، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب.

وإن قيل: إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهورفلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى.

وأيضاً فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته

لكان النبي (صلی الله علیه و آله) يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له، فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ، إذ لو وجب لفعله.

ولو أن عمر اشتبه عليه أمر ثم تبين له أو شك في بعض الأمور فليس هو أعظم ممن يفتي ويقضي بأمور، ويكون النبي (صلی الله علیه و آله) قد حكم بخلافها مجتهداً في ذلك، ولا يكون قد علم حكم النبي (صلی الله علیه و آله) فإن الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه، وكل هذا باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الذي رفع المؤاخذة به (1) ....

إلى آخر ما ذكره من تهويش وتشويش لا يسمن ولا يغني.

ص: 141


1- منهاج السنة 3 ٫ 134 - 135 ط أفست بولاق سنة 1322ه-.

مع ابن تيمية :

وفي كلامه مواقع كثيرة للنظر نشير إلى بعضها :

أولا : زعمه فضل عمر على الأمة بعد أبي بكر وانه كان محدثاً ملهما ؟ وهذا منطق علماء التبرير في كل زمان، ولكن لنا أن نسأل أين يغيب عنه ذلك الفضل والإلهام حين تعتاص عليه الأمور، فلا يجد مخرجاً إلا عند الآخرين، فيلجأ إلى الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وما أكثر المواطن التي قال فيها : لولا علي لهلك عمر»، و«لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن» ؟

وأين يكون ذلك الفضل المزعوم والإلهام الموهوم حين تطرأ عليه العضل وهو لا يعرف لها مخرجاً، فيدعو ابن عباس فيقول له: «قد طرأت علينا عضل أقضية أنت لها ولأمثالها »؟

وخل عنك علياً وابن عباس فالأول باب مدينة علم النبي(صلی الله علیه و آله) ، والثاني حبر الأمة، ولا غضاضة عليه لو رجع إليهما. ولكن كيف يفضل على جميع الأمة عدا أبي بكر، وهو دون مستوى الكثير الكثير من الصحابة وقد مرت بنا أقواله التي قالها: «كل الناس أفقه منك يا عمره (1).

ص: 142


1- كشف الخفاء للعجلوني 466٫1 و 2 ٫ 153 و 155 ط مؤسسة الرسالة بيروت.

وقوله الآخر : كل أحد أفقه من عمر (1). لكن علماء التبرير يأبون ذلك لا عن حجة ولكن دفعاً بالصدر.

ثانياً: زعمه أن الذي أراد أن يكتبه النبي (صلی الله علیه و آله) هو خلافة أبي بكر، وهذا قد مر مثله عند ابن حزم وغيره، فلا حاجة إلى الوقفة عنده طويلاً سوى إنا نود أن نسأل ابن تيمية الذي استدل بثلاثة أحاديث كلها عن عائشة فالأول عن الصحيحين ثم الثاني عن البخاري وحده وهذا ما استدل به غيره أيضاً ومر ما عندنا فيهما، ولكن ما رأي علماء التبرير وابن تيمية منهم في الحديث الثالث الذي رواه عن مسلم. وفيه ترشيح أبي عبيدة للخلافة من بعد عمر ؟ فأين كان الرواة عنه يوم السقيفة لحسم النزاع بين المهاجرين والأنصار وأحسبه لم يختلق بعد، بل أحسبه من الموضوعات أيام النفرة بينها وبين عثمان حين كانت تقول: «اقتلوا نعثلاً فقد كفر (2) ، ولو كان له أدنى نصيب من الصحة الذكر فيه عثمان بعد عمر لأنه الذي تولى الخلافة، وعلماء السلطان يروون في ترتيبهم ما ينسبونه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في مثل ذلك.

ثالثاً: زعمه أن عمر اشتبه عليه الأمر، لماذا ذلك وهو صاحب الإلهام المزعوم وأنه لو كان من المحدثين أحد في هذه الأمة لكان هو ؟

ص: 143


1- سنن سعيد بن منصور 195٫1 ط دار العصيمي بالرياض، وكتاب الزهد لا بن أبي عاصم 114٫1 ط دار الريان للتراث بالقاهرة.
2- شرح النهج لابن أبي الحديد 3٫ 97 و 114 ط الأولى بمصر.

ثم كيف يشتبه عليه قول النبي (صلی الله علیه و آله) هل كان من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة ؟ فهل أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال مبهماً ومتمتما ؟ أو لم يقلها كلمة صريحة فصيحة إئتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً)؟ أين الكلام الذي يوجب الاشتباه ؟

ثم لماذا لم يشتبه ذلك على غير عمر ممن حضر عنده؟ ولماذا أحصر عمر عندما اشتبه عليه الحال إلا أن يقول: «إن النبي ليهجر »؟

نعم كل ما يهدف إليه ابن تيمية هو تبرئة عمر من وزر الكلمة وإن تم ذلك على حساب قدسية النبي (صلی الله علیه و آله) وكرامته. ولكن الاعتذار باشتباه عمر لا يرفع عنه الوزر ما دام هو يقر لابن عباس بأنه عرف مراد الرسول (صلی الله علیه و آله) من الكتاب وأنه أراد أن يكتب لابن عمه فمنع منه، وفيما تقدم في الصورتين الثالثة والرابعة من صور الحديث ما يؤكد منعه عن معرفته بالمراد، وكان المنع منه عن سبق إصرار وعناد فراجع.

رابعاً: زعمه أن قول ابن عباس :« الرزية كل الرزية» إنما هو في حق من شك في خلافة أبي بكر أو اشتبه عليه الأمر، فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه؟

ولنا أن نسأل ابن تيمية عن ابن عباس صاحب الكلمة هل كان شاكاً أو مشتبهاً عليه الأمر ؟ أو كان عالماً بحقيقة خلافة أبي بكر؟ والثاني منفي لأنه هو صاحب الكلمة وهو يتحدث عن نفسه ويعبر عن شعوره، إذن هو من الشاكين أو المشتبه عليهم الأمر في تحديد ابن

ص: 144

تيمية. وإذا كان كذلك، فابن عباس غير مؤمن بحكم ما يرويه البخاري عن عائشة من حديث إرادة استخلاف أبي بكر

وفيه: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر . فهل يقول بذلك ابن تيمية ؟ وإذا قال بذلك فليعطف عليه كل من أبى خلافة أبي بكر من سائر الصحابة. ثم بعد ذلك ليبحث ابن تيمية وأضرابه عن حجة لإثبات عدالة جميع الصحابة خصوصاً من أبي خلافة أبي بكر ولم يبايعه حتى مات مثل فاطمة الزهراء (علیه السلام) وسعد بن عبادة، أو تخلف عن البيعة إلى ستة أشهر كعلي وجميع بني هاشم وآخرين من شيعته من الصحابة كما ستأتي أسماؤهم، أو يتخلوا عن مقولة الصحابة كلهم عدول.

خامسا: زعمه أن من توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس الخ. إذا كان هذا حكم ابن تيمية فيمن توهم ذلك، فما هو حكمه فيمن تيقن وقطع به؟ فهل يبقى ضالاً أم يزيد في عقوبته ؟

ومهما يكن حكمه فإنا نقول له لقد حكمت على إمامك عمر بالضلالة من دون أن تشعر. لأن عمر كان يقول بذلك جازماً غير شاك ولا مرتاب، وقد اعترف به لابن عباس كما أشرنا إلى ذلك مراراً، وذلك من عمر اعتراف خطير يدمغ رؤوس علماء التبرير.

سادساً: زعمه اتفاق عامة الناس، وتلفيقه الاتفاق من أهل السنة الذين يقولون بتفضيل أبي بكر وهذا لا كلام لنا فيه، ولكن هلم

ص: 145

الخطب فيما زعمه اتفاق الشيعة معهم على أن الكتاب لم يكن بخلافة علي بتقريب أن الشيعة يقولون بالنص الجلي على علي قبل ذلك اليوم، فهو لا يحتاج إلى الكتاب يومئذ.

وهذا من مناوراته الخبيثة، وكأن تأكيد النص كتابة بعد أن كان شفاهاً ممنوع عقلاً أو شرعاً.

فليكن الشيعة وهم يذكرون النص السابق الجلي الظاهر - وهو بيعة يوم الغدير - وما سبقها منذ بدء الدعوة وما لحق بها، لكن لا مانع من تأكيد ذلك بالكتاب ليكون أقوى حجة في دفع الخصوم الذين سولت لهم أنفسهم فنابذوه وأضبوا على عداوته مع وجود النبي (صلی الله علیه و آله) بين ظهرانيهم.

ولماذا لا يكون الكتاب - لو تم - أقوى حجة وأظهر دليلاً وهو المتكفل بعصمة الأمة من الضلالة.

لكن عناصر الشغب الذين أظهروا كوا من أحقادهم عرفوا أنه لو تم الكتاب فلا يبقى لهم حساب، لذلك أصروا على التمرد والعناد وعدم امتثال أوامر النبي (صلی الله علیه و آله) وكانت الصلعاء والشوهاء منهم تخلفهم عن جيش أسامة والنبي (صلی الله علیه و آله) ينادي: (أنفذوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عن جيش أسامة ) (1)، وما كان ذلك منهم إلا بعد

ص: 146


1- أنظر الملل والنحل للشهرستاني 23٫1 ط الثانية سنة 1395 ه-.

أن تيقنوا ان المراد بالكتاب هو خلافة علي، فألقحها ابن الخطاب فتنة عمياء حين قال كلمته الرعناء : ان النبي ليهجر» فنسف كل ما أراده النبي (صلی الله علیه و آله) ، لذلك (غم) أغمي عليه من شدة الصدمة، ووقع الاختلاف والنزاع، فأفاق(صلی الله علیه و آله) وطردهم وقال : (قوموا عني).

ولما قال له بعض أهل بيته : ألا نأتيك بالذي طلبت وإن رغمت معاطس ؟ فقال: (أبعد الذي قال قائلكم هذا بعض ما في كلام ابن تيمية من شطط في القول وخطل في الرأي.

تاسعاً: الشاطبي:

اشارة

قال في كتاب الاعتصام :

ولقد كان (صلی الله علیه و آله) ظ(علیه السلام) حريصاً على الفتنا وهدايتنا، حتى ثبت من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال: لما حضر النبي صلى الله عليه وآله) وسلم قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب - فقال : (هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده فقال عمر : ان النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وآله) وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول كما قال عمر،

ص: 147

فلما كثر اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم قال: (قوموا عني فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.

فكان ذلك - والله أعلم - وحياً أوحى الله إليه أنه إن كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة، فتخرج الأمة عن مقتضى قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ )بدخولها

تحت قوله : ( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (1). فأبى الله إلا ما سبق به علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم. رضينا بقضاء الله وقدره، ونسأله أن يثبتنا على الكتاب والسنةويميتنا على ذلك بفضله (2).

مع الشاطبي:

لعل القارئ أدرك كيف حاول الشاطبي استغفال القراء في تبريره، ومراوغته، فهو حين يبدو حريصاً على إظهار نفسه بواقعية مقبولة يكسب فيها قارئ كلامه لكنه سرعان ما تطغى عليه جبريته في سبيل تبرئة عمر، فيلقى اللوم على السماء، وبتعبير أصحيلتمس

ص: 148


1- الحديد ٫ 7.
2- الاعتصام 12٫3.

العذر له من السماء. فانظر إلى قوله : «إنّ النبي (صلی الله علیه و آله) كان حريصاً على ألفتنا وهدايتنا، واستدل بحديث ابن عباس (رضي الله عنهما) وهو حديث الرزية. وهذا صحيح في واقعه ولا غبار عليه. وانظر إلى قوله في تعقيبه على ذلك:

فكان ذلك - والله أعلم - وحياً أوحى الله إليه إنه إن كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة، فتخرج الأمة عن مقتضى قوله: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) بدخولها تحت قوله : ( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ (1)) .

وهذا أيضاً من مقبول القول وبه كسب القارئ إلى قبول ما يقوله. فسرعان ما استغفله بقوله: فأبى الله إلا ما سبق به من علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم .

فانظر إلى هذا التبرير الفج !

الله سبحانه وتعالى هو الذي أوحى إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) بأن يأمر بالكتاب الذي لا يضلون بعده والنبي (صلی الله علیه و آله) بدوره يأمر بذلك. وعمر يمنع من ذلك، ويُحدث الفرقة في الحاضرين، ثم يقع الخصام وينتهي" بطرد النبي (صلی الله علیه و آله) للمنازعين. ومع ذلك كله يقول: «فأبى الله إلا ما سبق في علمه من اختلافهم. »

ص: 149


1- الحديد ٫ .

ومن الغريب العجيب ينأى عن إدانة السبب في المنع، ويحمل السماء تلك الإدانة، وإن الله أبى إلا ما سبق في علمه ؟ وهل هذا إلا استغفال للقراء واستخفاف بالعقول !! وليس لنا إلا أن نقول كما قال : رضينا بقضاء الله وقدره.

عاشراً: ابن حجر العسقلاني:

قال في فتح الباري كلاماً كثيراً نثره وكرر أكثره في أجزاء كتابه، تبعاً لصحيح البخاري لورود الحديث في مختلف أبوابه، لكنه أطال الكلام في موضعين في كتاب العلم باب كتابة العلم (1)، وفي كتاب المغازي باب مرض النبي (صلی الله علیه و آله) (2) ، ولم يأتنا بشيء جديد، ولم نتجن عليه في ذلك فقد اعترف بذلك في الموضع الثاني فقال: وقد تكلم عياض وغيره على هذا الموضع فأطالوا، ولخصه القرطبي تلخيصاً حسناً ثم لخصته من كلامه وحاصله، فذكر ما لخصه، ولما كنا نحن قد ذكرنا كلام عياض بطوله، وناقشناه فيه، لذلك أعرضنا عن ذكر كلام القرطبي إلا عرضاً، وكذلك نعرض عن ابن حجر إلا ما جاء به من عند نفسه. فقد قال وهو ينقل الاحتمالات التي ذكرها القرطبي في تعريف قائل الكلمة:

ص: 150


1- فتح الباري 1٫ 219
2- نفس المصدر 197٫9

ويظهر منه ترجيح ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبي ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام، وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع قد

يشتغل به عن تحرير ما يريد أن يقوله الجواز وقوع ذلك. ولهذا وقع في الرواية الثانية فقال بعضهم: أنه قد غلبه الوجع. ووقع عند الإسماعيلي من طريق محمد ابن خلاد عن سفيان في هذا الحديث فقالوا: ما شأنه يهجر ؟! استفهموه، وعن ابن سعد من طريق أخرى عن سعيد بن جبير : إن نبي الله ليهجر ، ويؤيده أنه بعد أن قال ذلك استفهموه بصيغة الأمر بالاستفهام، أي اختبروا أمره بأن يستفهموه عن هذا الذي أراده وابحثوا معه في كونه الأولى، أو لا.

مع ابن حجر العسقلاني:

من الغريب أمر هذا الرجل فهو يختار مرجحاً ان القائل لكلمة الهجر سواء كانت إخباراً أو إنشاءاً هو من بعض قرب دخوله في الإسلام؟ مع أنه سبق منه في تفسير معنى الهجر والهذيان فقال: والمراد به - يعني الهجر - في الرواية ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم فائدته. ووقوع ذلك من النبي (صلى الله عليه وآله) وسلّم مستحيل، لأنه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى:

ص: 151

(وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى) (1)، ولقوله صلى الله عليه وآله) وسلم: (إني لا أقول في الغضب والرضا إلا حقاً)، وإذا عرف ذلك، فإنما قاله من قاله

منكر على من توقف في امتثال أمره بإحضار الكتف والدواة.

فكأنه قال كيف تتوقف ؟ أتظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه وأحضره ما طلب فإنه لا يقول إلا الحق ... اه-.

أقول: فأين صار ترجيحه بأن القائل هو من قرب دخوله في الإسلام وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع الخ؟ ثم ما باله يشرق تارة ويغرب أخرى بين الرأيين، بينما يعترف هو بنفسه تبعاً لما ورد في صحيح البخاري في الموارد الآتية بأن القائل هو عمر. فأي أقواله هو الصحيح ؟ ليس ذلك منه إلا استماتة في الستر على مقولة عمر. وهل هذا منه إلا كذباً من القول وتمويهاً على القارئ وتشويها للحقيقة.

وما أدري كيف استساغ أن يقول ذلك، وفي صحيح البخاري الذي هو يشرحه قد ورد التصريح بأن القائل هو عمر، ورد ذلك في ثلاثة مواضع، وهي كما يلي:

1_ في كتاب العلم باب كتابة العلم : قال عمر: «ان النبي صلى الله عليه وآله) وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا.

فاختلفوا ...»(2).

ص: 152


1- النجم ٫ 3.
2- صحيح البخاري 1 ٫ 30.

2_ في كتاب المرضى باب قول المريض قوموا عني: فقال عمر : ان النبي (صلى الله عليه وآله) وسلّم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول : قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وآله) وسلّم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر ... » (1) .

3_في كتاب الاعتصام باب كراهية الاختلاف قال عمر: «ان النبي (صلى الله عليه وآله) وسلّم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وآله) وسلّم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر .... (2).

هذه هي الموارد التي صرح فيها بإسم عمر، وقد شرحها ابن حجر في كتابه وصرح بها بذكر عمر تبعاً للبخاري، أما الموارد الأربعة الأخرى التي غمغم فيها البخاري أو الرواة قبله فلم يذكروا اسم عمر . نجد ابن حجر في شرحه لها يورد اسم عمر مدافعاً عنه.

ثم إذا كان في نظره أن القائل( هو بعض من قرب دخوله في الإسلام)، فهل يعني بذلك أن عمر كان كذلك؟ وهذا ما لا يمكن تصديقه ولا يمكن أن يكون مراده، لأن عمر أسلم قبل ذلك اليوم

ص: 153


1- نفس المصدر 120٫7
2- نفس المصدر 111٫9

بأكثر من خمس عشرة سنة، وليس هو بقريب عهد بالإسلام وإذا لم يكن يعني عمر فمن هو ذلك الرجل المزعوم الذي قرب دخوله في الإسلام؟ وما اعتذاره إلا استخفاف بعقول الناس واستجهال لهم على غير استحياء، فهو إذ لم يصب الهدف المنشود يكشف عن بلادته أيضاً حين جانب الدقة في كلامه، فتخيل بهذه الفهفهة الفجة يغطي ما لا يضمه ستر، وأنى له ذلك، فهو مهما أوتي من براعة التزييف وامعان في المغالاة لا يستطيع التستر على اسم القائل، ولا الإعتذار عنه، ولكن ما الحيلة معه ومع أمثاله، وهذا شأن من يقول ما يشاء من دون تورع، ولا يبالي بما يقال فيه، وهذه سجية علماء التبرير إذ يسوقهم خطأ التقدير، إلى مهاوي التحوير والتزوير.

الحادي عشر : القسطلاني:

وهذا الرجل لدة قومه يدلي بدلوهم ويمتح من غربهم، ولا يجاوز طريقتهم في تضارب الأقوال، فهو وبعبارة أوضح يجتر أقوال السابقين من دون التفات لما فيها من هنات وهنات. لذلك كثر عنده التناقض، وأظن أن القارئ يكتفي ببعض الشواهد على ذلك:

1_ فمثلاً قال في كتابه إرشاد الساري في شرح أكتب لكم كتاباً): «فيه النص على الأئمة بعدي أو أبين فيه مهمات الأحكام (1).

ص: 154


1- إرشاد الساري 207٫1.

ولكنه جاء بجديده فيما يحسب في شرح ولا ينبغي عند نبي تنازع) فقال:

«والظاهر إن هذا الكتاب الذي أراده إنما هو في النص على خلافة أبي بكر ...» (1) ، وأبطل قول من قال إنه بزيادة أحكام..... لكنه عاد في شرح لكم كتاباً) فقال: «فيه استخلاف أبي بكر بعدي أو فيه مهمات الأحكام» (2).

فأنظر إلى أقواله هذه فهو أولاً جعل المراد كتابته النص على الأئمة أو بيان مهمات الأحكام، ثم استظهر أن الكتاب إنما هو في النص على خلافة أبي بكر قال ذلك بضرس قاطع وقد جاء بأداة الحصر (إنما) وأبطل زعم أن فيه زيادة أحكام، ثم عاد ثالثاً فجعل المراد مردداً بين استخلاف أبي بكر أو مهمات الأحكام.

2_ وشاهداً آخر على تناقضه قال: (فاختلفوا) أي الصحابة عند ذلك (3). قال :

(فاختلف أهل البيت الذين كانوا فيه من الصحابة لا أهل بيته (صلى الله عليه وآله) وسلم (4).

ص: 155


1- نفس المصدر 169٫5
2- نفس المصدر 355٫8
3- نفس المصدر 1٫ 207
4- نفس المصدر 463٫6.

لكنه قال مرة أخرى:

(فاختلف أهل البيت) النبوي (1)؟

فانظر إلى تناقضه !!

فهو أولاً قال : هم الصحابة، وأكد ذلك ثانياً ونفى أن يكون أهل بيته (صلی الله علیه و آله) من أولئك الذين جاؤا بالاختلاف، ولكنه فجأة وبجرة من القلم بوعي أو غير وعي قال : فاختلف أهل البيت النبوي !!

ولا نطيل المقام عنده فمن شاء أن يستزيد من عجائب تناقضاته فليرجع إلى كتابه (2) ليرى كيف حب الشيء يعمي ويصم. ولا عجب من علماء التبرير خصوصاً شراح الصحيحين فكم لهم من تأويلات وتمحلات لو أتينا على جميع ما قالوه لاحتجنا إلى تأليف مخصوص في ذلك، والآن ولا نبخل على القارئ ببعض الأسماء منهم وشيء مما عندهم، فعسى أن يقيض الله لنصرة دينه من يجمع جميع ما قالوه ويفند ما زعمه أولئك الخصوم نصرة للحق المهضوم والولي المظلوم.

الثاني عشر : الوشتاني الآبي المالكي:

اشارة

ومن علماء التبرير أيضاً أبو عبد الله محمد بن خلفة الوشتاني الآبي المالكي المتوفى سنة 828 ه- قال في كتابه إكمال إكمال المعلم بشرح

ص: 156


1- نفس المصدر 355٫8
2- نفس المصدر 462٫6 - 463 .

صحيح مسلم في شرح قوله :

قال ابن عباس رضي الله عنه) يوم الخميس وما يوم الخميس قلت هو - والقائل هو - استعظام وتفجع باعتبار ما اتفق فيه من موته (صلى الله عليه وآله) وسلم وانقطاع الوحي وخبر السماء ... (1)؟

مع الوشتاني وفتحه الجديد!

أنظر بربك إلى قوله مفسراً سر بكاء ابن عباس هو الموت النبي (صلی الله علیه و آله) كيف يزعم ذلك وهو يقول: يوم الخميس وهذا اليوم قبل يوم موته (صلی الله علیه و آله) بأربعة أيام، إذ أن وفاته كانت يوم الاثنين راجع كتب السيرة والتاريخ ؟ أليس هذا تهرباً من كشف الحقيقة؟

ثم اقرأ واضحك - وشر البلية ما يضحك - قال: «قوله: بكي حتى بل دمعه الحصى، قلت - والقائل هو أيضاً - : يحتمل بكاؤه لموته صلى الله عليه وآله) وسلّم، أو لما ذكر من شدة وجعه وهو يدل على أن شدة المقاساة والنزع عند الاحتضار لا تدل على المرجوحية كما يعتقد بعض العوام ... (2).

ص: 157


1- إكمال إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم 352٫4.
2- نفس المصدر 353٫4.

والآن إن شئت أيها القارئ أن تبكي فابك على إبل حداها غير حاديها، فهذا الرجل جاء بما يضحك الثكلى، لكنه يبكي من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فاقرأ ما يقوله أيضاً: «قوله: (لا تضلوا بعدي)، قلت - وهو القائل : لا يعني بالضلال الضلال بعد الهدى لأنه تقدم في تأويل ما أراد أن يكتب أنه ما يرفع الخلاف بين الفقهاء في المسائل، أو ما يرفع ذلك الاختلاف في الخلافة، والخلاف الواقع في كل منهما إنما هو عن اجتهاد والخطأ في الاجتهاد ليس بضلال.... اه-(1).

أقول: وهذا هو بيت القصيد كما يقولون. فكل ما حدث من خلاف في الخلافة وأريقت بسببه دماء المسلمين، ليس فيه مؤاخذة فجميع أهل الجمل وصفين والنهروان وما بعدها من حروب طاحنة، كلهم معذورون فالقاتل والمقتول في الجنة، يا سلام؟!

وعلى هذا الوتر كان ضرب الباقين من علماء التبرير، فلا عجب إذا ما تبعه السنوسي الحسيني المتوفى سنة 895 ه- في كتابه مكمل إكمال الإكمال قال: « لن تضلوا بعدي قيل: أراد أن ينص على خلافة إنسان معين حتى لا يقع فيها نزاع ولا فتن.

وقيل : أراد كتاباً يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة، ليرتفع نزاع العلماء فيها بعد، فالضلال إذن على الوجهين ليس ضلالاً عن هدى،

ص: 158


1- نفس المصدر 357٫4 في أدنى الصفحات.

إذ المخطئ في الاجتهاد على القول بالخطأ ليس بضال »(1).

أقول - ومن دون تعليق -: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )(2) فهل تجدون للضلال معنى غير الضلال عن الهدى. فدونكم كتب اللغة والتفسير ستجدون الضلال ضد الرشاد وهو بمعنى الباطل والهلاك.

الثالث عشر : البدر العيني:

وهذا من شراح صحيح البخاري ومعاصر لابن حجر، وقيل في كتابه (عمدة القاري) سطو على فتح الباري، ولا يعنينا هذا بقدر ما يعنينا ما جاء فيه من قوله:

«قوله (صلى الله عليه وآله) وسلم: (لا ينبغي عندي التنازع)، فيه إشعار بأن الأولى كان المبادرة إلى امتثال الأمر وإن كان ما اختاره عمرصواباً»(3)؟

أقول: أتريد تهالكاً في التبرير أكثر من هذا، الأولى المبادرة إلى امتثال أمره (صلی الله علیه و آله) ، وإن كان ما اختاره عمر صواباً؟ لماذا؟ فإن كان مراده لفظ ( لا ينبغي إنما يدل على الكراهة، كما أن لفظ ينبغي يدل على

ص: 159


1- مكمل إكمال الإكمال 353٫4.
2- النحل ٫ 43.
3- عمدة القاري 172٫2

الاستحباب، فمن أجل ذلك يكون فيه إشعار بأولوية المبادرة، فيكون ما اختاره عمر صواباً وان كان خلافاً لما هو أولى، فهذا إنما يتم له لو كان خالياً عن القرينة، فكيف والقرينة حالية ومقالية. فالحالية زمان

ومكان الصدور والمقالية:

أولا : قوله(صلی الله علیه و آله) : ( إنتوني ) هو أمر والأمر ظاهر في الوجوب إلا أن تكون قرينة صارفة وليست في المقام.

ثانيا: قوله (صلی الله علیه و آله): ( لن تضلوا بعده أبداً) وهذا نص في أن الحق هو إمتثال أمره وعند عدمه لابد أن يبقوا عرضة للضلال، فماذا بعد

الحق إلا الضلال. وهل ترك المندوب يوجب الضلال؟

ثالثا: قوله(صلی الله علیه و آله) : (قوموا عنى) فلو لم يكن أمره للوجوب لما كان لتنازعهم معنى، كما لا موجب لطردهم من بيته.

رابعاً: بكاء ابن عباس (صلی الله علیه) حتى يبل دمعه الحصى. فهل كان لفوات امتثالهم أمراً ندبياً؟ أم أن بكاءه يدل على تفويتهم أمراً وجوبياً يعصمهم وجميع الأمة من كل ضلالة ؟ ... إلى غير ذلك، ولكن علماء

التبرير لا تقنعهم القرائن ولو كانت ألف قرينة.

وقال أيضاً في عمدة القاري: واختلف العلماء في الكتاب الذي هم صلى الله عليه وآله) وسلّم بكتابته، قال الخطابي يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أراد أن ينص على الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن العظيمة كحرب الجمل وصفين. وقيل أراد أن يبين كتاباً فيه مهمات

ص: 160

الأحكام ليحصل الاتفاق على المنصوص عليه، ثم ظهر للنبي صلى الله عليه وآله) وسلّم أن المصلحة تركه، أو أوحي إليه به. وقال سفيان بن عيينة أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع منهم الاختلاف، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة رضي الله عنها : (ادعو لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر). أخرجه مسلم، وللبخاري معناه، ومع ذلك فلم يكتب.

قوله : قال عمر : إن رسول الله عليه الصلاة والسلام غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، قال النووي: كلام عمر هذا مع علمه وفضله لأنه خشي أن يكتب أموراً فيعجزوا عنها فيستحقوا العقوبة عليها، لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، وقال البيهقي: قصد عمر التخفيف عن النبي عليه الصلاة والسلام حين غلبه الوجع ولو كان مراده عليه الصلاة والسلام أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركهم لاختلافهم...

وقال البيهقي : وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قيل إن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر ثم ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى، وذلك كما هم في أول مرضه حيث قال : وارأساه ثم ترك الكتاب وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر، ثم قدمه في الصلاة، وقد كان سبق منه قوله (علیه السلام): إذا

ص: 161

اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجره، وفي تركه (صلى الله عليه وآله) وسلّم الإنكار على عمر دليل على استصوابه.

فإن قيل : كيف جاز لعمر أن يعترض على ما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام.

قيل له: قال الخطابي : لا يجوز أن يحمل قوله إنه توهم الغلط عليه أو ظن به غير ذلك مما لا يليق به بحاله، لكنه لما رأى ما غلب عليه من الوجع وقرب الوفاة خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه فيجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام في الدين، وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم يراجعون النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها كما راجعوه يوم الحديبية، وفي الخلاف وفي الصلح بينه وبين قريش، فإذا أمرنا بالشيء أمر عزيمة فلا يرجعه أحد. قال: وأكثر العلماء على أنه يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه فيه الوحي، وأجمعوا كلهم على أنه لا يقر عليه.

قال: ومعلوم أنه (صلى الله عليه وآله) وسلّم وإن كان قد رفع درجته فوق الخلق كلهم فلم يتنزه من العوارض البشرية، فقد سها في الصلاة فلا ينكر أن يظن به حدوث بعض هذه الأمور في مرضه فيتوقف في مثل هذه الحال حتى يتبين حقيقته، فلهذه المعاني وشبهها توقف عمر وأجاب المازري ..... ثم ذكر ما تقدم من أقوال المازري، وختم الكلام فقال:

ص: 162

«بيان استنباط الأحكام:

الأول: فيه بطلان ما يدعيه الشيعة من وصاية رسول الله عليه الصلاة والسلام بالإمامة. لأنه لو كان عند علي (رضي الله عنه) عهد من رسول الله عليه الصلاة والسلام لأحال عليها (كذا).

الثاني: فيه ما يدل على فضيلة عمر وفقهه.

الثالث: في قوله : (إئتوني بكتاب أكتب لكم) دلالة على أن للإمام أن يوصي عند موته بما يراه نظراً للأمة. الرابع: في ترك الكتابة إباحة الاجتهاد لأنه وكلهم إلى أنفسهم واجتهادهم.

الخامس: فيه جواز الكتابة والباب معقود عليه» (1).

أقول: هذا بعض ما جادت به قريحته من تعقيب وتصويب مضغ طعام الأولين فلم يحسن مضغه، وقد سبق منا ذكر ما قاله الخطابي والبيهقي والمازري، وبينا ما في أقوالهم من ملاحظات، فلا حاجة بنا فعلا إلى إعادة ما قد سبق.

ولكن الذي ينبغي التنبيه عليه في كلام العيني من تفاوت في نقله

ص: 163


1- عمدة القاري 171٫2 دار إحياء التراث بيروت.

عن سفيان بن عيينة، حيث حكي عن الخطابي أولاً انه قال سفيان بن عيينة أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع منهم الاختلاف. ثم حكى عن البيهقي قوله وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم، قيل ان النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر ... ومن البين الواضح الفاضح ما بين القولين من تفاوت! ففي الأول النص على أسماء الخلفاء بعده. وفي الثاني أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر ... فأي القولين هو الصحيح، أو لا صحيح في المقام، وإنما ذلك من أضغاث الأحلام ؟!

وبعد أن شرق وغرب، وفي جميع ذلك أغرب، ختم كلامه ببيان استنباط الأحكام، ومنه يعرف القاري مدى تضلعه والأصح ضلوعه مع فقهاء الحكم ، فقال : الأول : فيه بطلان ما يدعيه الشيعة من وصاية رسول الله عليه الصلاة والسلام بالإمامة، لأنه لو كان عند علي (رضي الله عنه) عهد من رسول الله عليه الصلاة والسلام لأحال عليها (كذا). ولا نرد عليه إلا بما قاله عمر ولا نزيد عليه وحسبنا به شاهداً عليه وحاكماً: قال: «ولقد أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلّم في أن يصرح باسمه يعني علياً - فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام (1).

وستأتي أقوال العمر في هذا الشأن نذكرها إن شاء الله فيما يأتي.

ص: 164


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 97٫2 ط الأولى بمصر.

الرابع عشر : الدهلوي:

اشارة

وهو الشاه ولي الله الدهلوي من علماء المسلمين في الهند في القرن الثاني عشر الهجري وله مؤلفات عديدة أشهرها كتابه حجة الله البالغة ومن مؤلفاته شرح تراجم أبواب صحيح البخاري وهو مطبوع مكرراً، وما ننقله عنه هنا فمن طبعة حيدر آباد الدكن الطبعة الثانية.

قال:

إعلم إن هذا المقام، من مزالق الأقدام، كم زلت فيه الأعلام، وصغت فيه الأفهام، وإني قد تحققت بعد تتبع طرق هذا الحديث - يعني أمره (صلى الله عليه وآله) وسلّم بالكتاب أن قول ابن عباس: الرزية كل الرزي إنما كان بطريق الشبهة مثل سائر شبهاته، لأنه ثبت في الروايات الصحيحة أن كبار الصحابة مثل أبي بكر وعلي وغيرهما كانوا حاضرين، ففهموا من أمره (صلى الله عليه وآله) وسلّم أن مقصوده بالكتابة ليس إلا ما جاء في القرآن والتوثيق به، ولو كان شيئاً آخر لأمرهم به ثانياً وثالثاً. لأنه عاش صلى الله عليه وآله) وسلم مفيقاً بعد ذلك أياماً، ومع ذلك روي أنه صلى الله عليه وآله) وسلّم أمر عليا باحضار القرطاس والدواة، فخاف علي فوته بعد أن يذهب، فقال يا رسول الله : أسمع وأعي، فبين له

ص: 165

رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم من أحكام الصدقات، واخراج الكفار من جزيرة العرب، وإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم،والإستيصاء بالأنصار خيراً، وغير ما بين أكثره قبل ذلك أيضاً.

فبعد ذلك لم يبق مجال في أن يتمسك بشبهة ابن عباس رضى الله عنه، ويقال ما يقال في خيار الصحابة، لأنه كان حديث السن مناهز البلوغ، والاعتبار بما فهمه كبار الصحابة (1).

إلى هنا انتهى ما قاله الدهلوي.

مع الدهلوي :

هذا قول الدهلوي، وهو محق في أوله ومبطل في آخره !

وبيان ذلك : ان المقام من مزالق الأقدام ويكفي ما قدمناه من نماذج العلماء التبرير أمثال الخطابي وابن حزم والبيهقي والمازري وعياض وابن الأثير والنووي وابن تيمية وابن حجر والقسطلاني والوشتابي والعيني وغيرهم ممن ورد ذكرهم تبعاً كابن بطال والنويري والقرطبي والطهطاوي وأضرابهم فجميع هؤلاء الأعلام ممن زلت

ص: 166


1- شرح تراجم أبواب صحيح البخاري للدهلوي ٫ 14 ، ط حيدر آباد.

قدمه في سبيل تبرير عمر من سوء كلمته. ولم يكن الدهلوي آخرهم بل هو أسوأ فهماً منهم، فقد خبط خبط عشواء، واستدل مكابراً بالهباء، وذلك منه منتهى الغباء، ولو لم يكن غبياً لما قال : إن الاعتبار بما فهمه كبار الصحابة وضرب مثلاً بعلي وأبي بكر. وهم فهموا مراده بالكتابة ليس إلا تأكيد ما جاء في القرآن والتوثيق به. ونحن نقول له ما دام كبار الصحابة فهموا ذلك فلماذا إذن اختلفوا وتنازعوا ؟ وما ضرهم لو أنهم امتثلوا أمره (صلی الله علیه و آله) فكتب لهم ذلك التأكيد؟ وما داموا هم ملتزمين بالقرآن، فالقرآن يأمر بإطاعة أمره إذ فيه: و أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (1) ، وفيه: اسْتَجِيبُوا اللَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لَمَا يحييكم (2) فلماذا لم يستجيبوا ولم يطيعوا ؟

ومن الغريب والغباء أن يستدل على مرامه بقوله: «ولو كان شيئاً آخر لأمرهم به ثانياً وثالثا ؟!». إنما لم يأمرهم به ثانياً وثالثاً لعدم الجدوى في ذلك حتى ولو كرر ذلك مائة مرة ومرة، فقد سبق السيف العدل - كما يقول المثل - فعمر حين قال إنه يهجر أصاب مرماه وضيع الهدف المنشود للنبي(صلی الله علیه و آله) ، ولو أنه(صلی الله علیه و آله) كرر ذلك، لصدقت مقولة عمر زمرة المنافقين وكان مجالاً للطعن في شخصه الكريم. لذلك

طردهم وقال: (قوموا عني).

ص: 167


1- النساء ٫ 59
2- الأنفال ٫ 24.

وإن ما ذكره من وصاياه التي خص بها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) ، تثبت أن علياً وصي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ،فكيف يزعم قومه عن عائشة بأن النبي مات ولم يوص، ثم هي القائلة: «متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري »(1). والآن فقد استبان أن علياً

أوصى إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله)!!

وبعد هذا أوليس ابن عباس كان على حق في قوله: «الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده؛ أفهل كان على شبهة أم كان على يقين؟

الخامس عشر : اللاهوري :

هذا هو الملا يعقوب اللاهوري أحد شراح صحيح البخاري واسم كتابه (الخير الجاري في شرح صحيح البخاري)، فقد قال فيه في كتاب العلم باب كتابة العلم :

لا شك في أن رسول الله صلى الله عليه وآله) وسلم رأى المصلحة في كتابة الكتاب، بدليل قوله (علیه السلام): (لن تضلوا بعدي). ولا شك أيضاً: أن عمر نهي الأصحاب عن إحضار الدواة والكتف.

ص: 168


1- أنظر صحيح البخاري (كتاب الوصايا باب الوصايا) 3٫4.

ولا شك أيضاً: أن أهل البيت ألحوا على إحضارها، وطال النزاع بين الفريقين حتى أخرجهم النبي صلى الله عليه وآله) وسلم جميعاً.

وهذا القدر مما يتبادر إلى الذهن من نص الحديث ولا يرتاب فيه أحد (1).

مع اللاهوري:

وليس من تعليق على ما لا شك فيه، غير أنا نقف عند قوله: أخرجهم جميعاً كيف يصح ذلك، وكتب الحديث والتاريخ والسيرة تقول: ان الذين طردهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) هم الذين تخلفوا عن امتثال أمره وتنازعوا مع أهل البيت في ذلك، أما أهل البيت فلم يخرج منهم أحد، وبقوا عنده، ومنهم الذي قال له بعد خروج أولئك الذين لم يستجيبوا لرسول الله (صلی الله علیه و آله) :« ألا نأتيك بما طلبت؟» فقال: (لا، أو بعد الذي قال قائلهم ) ؟!

وفي بعض المصادر أن القائل كان هو عمه العباس: «ألا نأتيك بالذي طلبت وإن رغمت فيه معاطس«.

وإلى هنا نطوي كشحاً عن استعراض ما قاله علماء التبرير.

ص: 169


1- نقلا عن تشييد المطاعن ٫ 411 ط الهند

عمريون أكثر من عمر !

اشارة

لقد أوردنا نماذج من أقوال علماء التبرير، فوجدناهم في اندفاعهم يركبون الصعب والذلول، ويقولون المقبول وغير المقبول، بل وحتى غير المعقول، في سبيل تبرئة عمر من معرة كلمته الجافية النابية، والتي لم يتبرأ هو منها، ولكن القوم على مقولة: ملكيون أكثر من الملك». فعمر قال كلمته دون استعمال تورية أو كناية. بملء فيه، متحدياً شعور النبي (صلی الله علیه و آله) ، ومشاعر الشرعية النبوية التي تؤيدها رسالة السماء. ولنقرأ ثانية بعض ما قاله في روايته الحديث الرزية، وقد مر في الصورة الرابعة: قال: «لما مرض النبي صلى الله عليه وآله) وسلم قال: (إنتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي)، فكرهنا ذلك أشد الكراهية ......»

لماذا يا أبا حفص كرهتم ذلك أشد الكراهية ؟! ولا عليك من الإجابة، فان علماء التبرير مستعدون للدفاع عنك، ولو كان ذلك على حساب قدسية الرسالة، وقد مرت بنا نماذج من أقوالهم فليرجع القارئ إليها.

وعمر يقول لابن عباس بعد لأي من الزمن: «ولقد أراد رسول الله صلى الله عليه وآله) وسلّم في أن يصرح باسمه - يعني علياً - فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام» (1).

ص: 170


1- أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 3٫ 97 ط الأولى.

وعلماء التبرير يقولون في تبريرهم: ربما أراد أن يكتب شيئاً من الأحكام، أو أن يكتب خلافة أبي بكر من بعده لا كما يقول الرافضة ؟ فليرجع القارئ ثانية إلى أقوالهم.

وعمر يقول أيضاً لابن عباس في كلام بينهما في شأن علي: «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلّم أراد ذلك وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله ؟! أو كل ما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم كان »(1).

وعلماء التبرير يقولون: ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله ... كما قال ذلك الخطابي وأضرابه. وعمر يقول ثالثة لابن عباس : لقد كان من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذرواً من قول، لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً» (2).

وعلماء التبرير يقولون: كان ذلك من دلائل فقه عمر وفضائله و دقیق نظره، كما مر عن النووي.

ورابعة عمر يقول لابن عباس في كلام في شأن علي أيضاً: «أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان علي فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر (3).

ص: 171


1- نفس المصدر 114٫3 ط الأولى.
2- نفس المصدر 3٫ 97 ط الأولى.
3- أنظر محاضرات الراغب 2٫ 213 ط مصر الأولى.

وعلماء التبرير يقولون ومهما كانت كلمته فلا يظن به ذلك. كما مر عن ابن الأثير.

وعمر يقول خامسة لابن عباس في كلام في شأن علي أيضاً: «أول من رائكم عن هذا الأمر أبو بكر، إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة» (1).

وعلماء التبرير يقولون: فإن عمر اشتبه عليه هل كان قول النبي صلى الله عليه وآله) وسلّم من شدة المرض فشك في ذلك فقال: (ما له أهجر ؟)، كما مر عن ابن تيمية.

وبالتالي يقولون: وإنما قصده التخفيف عن النبي (صلی الله علیه و آله). كما مر عن البيهقي.

ويقولون: كان ما اختاره عمر صواباً، كما مر عن العيني.

وهكذا ظهرت كوامن نفوسهم على ألسنتهم فخطوها بأقلامهم، وبانت عمريتهم أكثر من عمر. إن ذلك لعجيب.

وأعجب من ذلك كله ، ما سال به قلم العقاد في عبقرياته من مكابراته ، ولابد من المرور به ولنقرأ ما يقول، فإنه جاوز القوم في عمريته ، وأتى بالعجاب في عبقريته !!

ص: 172


1- أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 497٫4.

مع العقاد ونظراته :

قال في عبقرية محمد (صلی الله علیه و آله):

يكفي أن نستحضر اليوم ما قيل عن الخلافة بعد النبي (علیه السلام) ، لتعلم مبلغ ذلك الذكاء العجيب في مقتبل الشباب، وتكبر ذلك النظر الثاقب إلى أبعد العواقب، ونلتمس لها العذر الذي يجمل بامرأة أحبها محمد ذلك الحب وأعزها ذلك الإعزاز.

فقد قيل في الخلافة بعد النبي كثير : قيل فيها ما يخطر على بال الأكثرين، وما يخطر على بال الأقلين، وما ليس يخطر على بال أحد إلا أن يجمح به التعنت والاعتساف أغرب جماح. قيل: إن وصول الخلافة إلى أبي بكر إنما كان مؤامرة بين عائشة وأبيها ؟

وقيل : أنه كان مؤامرة بين رجال ثلاثة أعانتهم عائشة على ما تآمروا فيه، بما كان لهما من الحظوة عند رسول الله، وكان هؤلاء الرجال على زعم أولئك القائلين : أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح، وهم الذين أسرعوا - من المهاجرين - إلى سقيفة بني ساعدة ليدركوا الأنصار قبل أن يتفقوا على اختيار أمير أو خليفة لرسول الله.

وقيل : ان هؤلاء الرجال الثلاثة اتفقوا على تعاقب الحكم واحداً بعد واحد أبوبكر فعمر فأبو عبيدة. ولهذا قال عمر حين حضرته الوفاة: لو كان أبو عبيدة حياً لعهدت إليه لأنه أمين هذه الأمة. كما قال فيه رسول الله؟ وهذا زعم روجه بعض المستشرقين ولقي بين القراء

ص: 173

الأوربيين كثيراً من القبول، لأنه شبيه بما عهدوه في أمثال هذه المواقف من أحاديث التدبير والتمهيد وروايات التواطؤ والائتمار»(1).

وقال في عبقرية عمر :

«ونفس عمر بن الخطاب هي تلك النفس التي تدعم علم الأخلاق من الأساس، وهي ذلك الصرح الشامخ الذي ننظر إلى أساسه فكأننا تسلقنا النظر إلى ذروته العليا، لأنه قرب بين الآمال والقواعد أوجز تقريب، إذ هو التقريب الملموس » (2).

وقال بعد ذكره ما صدر من عمر في صلح الحديبية: «هذه المراجعة كانت من خلائق عمر التي لا يحيد عنها ولا يأباها النبي (علیه السلام) (؟) وكثيراً ما جاراه واستحب ما أشار به وعارض فيه (؟).

فلا جرم يراجع النبي في كل عمل أو رأي لم يفهم مأتاه ومرماه ما أمكنته المراجعة وما قلقت خواطره حتى تثوب إلى قرار. اللهم إلا أن تستعصي المراجعة ويعظم الخطر، فهناك تأتي الخليقة العمرية بآية الآيات من الاستقلال والحب والحزم الذي يضطلع بجلائل المهمات. فلما دخل النبي (علیه السلام) في غمرة الموت ودعا بطرس يملي على المسلمين كتاباً يستر شدون به بعده، أشفق عمر من مراجعته فيما سيكتب وهو

ص: 174


1- موسوعة عباس محمود العقاد الإسلامية ( العبقريات الإسلامية) ٫ 180 .
2- نفس المصدر ٫ 438 .

جد خطير (؟) وقال: ان النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، ومال النبي إلى رأيه (؟) فلم يعد إلى طلب الطرس وإملاء الكتاب ولو قد علم النبي أن الكتاب ضرورة لا محيص عنها لكان عمر يومئذ أول المجيبين(1) .

وقال في عبقرية الإمام علي (علیه السلام) :

وربما كانت أصح العلاقات المعقولة لأنها وحدها العلاقة الممكنة المأمونة، وكل ما عداها فهو بعيد من الأمكان بعده من الأمان. فهو يحبه ويمهد له وينظر إلى غده، ويستره أن يحبه الناس كما أحبه، وأن يحين الحين الذي يكلون فيه أمورهم إليه...

وكل ما عدا ذلك، فليس بالممكن وليس بالمعقول...

ليس بالممكن أن يكره له التقديم والكرامة.

وليس بالممكن أن يحبهما له، وينسى في سبيل هذا الحب حكمته الصالحة للدين والخلافة..

وإذا كان قد رأى الحكمة في استخلافه، فليس بالممكن أن يرى ذلك ثم لا يجهر به في مرض الوفاة أو بعد حجة الوداع.

وإذا كان قد جهر به، فليس بالممكن أن يتألب أصحابه على كتمان وصيته وعصيان أمره إنهم لا يريدون ذلك مخلصين، وإنهم إن أرادوه

ص: 175


1- نفس المصدر ٫ 444 .

لا يستطيعونه بين جماعة المسلمين، وإنهم إن استطاعوه لا يخفى شأنه ببرهان مبين، ولو بعد حين.. فكل أولئك ليس بالممكن وليس بالمعقول..

وإنما الممكن والمعقول هو الذي كان، وهو الحب والإيثار، والتمهيد لأوانه، حتى يقبله المسلمون ويتهيأ له الزمان» (1).

هذا ما تفتقت عنه عبقرية العقاد، ولا نطيل عند أقواله. ولكن لنا أن نسأل منه. ونحن أيضاً نكبر فيه ذلك النظر الثاقب إلى أبعد العواقب. حين حاول جاهداً دفع معرة النشاط المحموم الذي كان من عائشة في تهيئة الأجواء لأبيها وصاحبيه، فدفع ذلك بالصدر دون حجة، بينما هي التي تقول كما رواه مسلم في الصحيح واحتج به ابن تيمية - كما مر - وقد سئلت عمن كان يستخلف النبي (صلی الله علیه و آله) لو استخلف فسمت أباها ثم عمر ثم أبا عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا. فلماذا جعل هذا زعماً روجه بعض المستشرقين

وأين هم من عائشة ومعنى ما رواه مسلم عنها، ومن أين لها علم ذلك إن لم يكن ثمة تدبير وتمهيد، وتواطؤ وائتمار ؟!

ثم الذي قاله في عبقرية عمر من أن نفس عمر هي تلك النفس التي تدعم الأخلاق من الأساس وهي ذلك الصرح الشامخ ... كيف يتم له صدق ذلك وهو الذي يقول بعد هذا - في مراجعة عمر

ص: 176


1- نفس المصدر ٫ 795

للنبي (صلی الله علیه و آله) في صلح الحديبية -: «انها كانت من خلائق عمر التي لا محيد عنها ولا يأباها النبي؟ وكثيراً ما جاراه واستحب ما أشار به

وعارض فيه (؟) » .

أليس هذا من زخرف القول ؟ فهذه كتب السيرة والتاريخ تذكر ان عمر كان فظاً غليظاً ولا يهمنا ذلك بمقدار ما يهمنا تنبيه القارئ إلى ان هذه نفس عمر التي كانت تدعم علم الأخلاق من الأساس كما يقول العقاد.

ثم ليت العقاد تروى قليلاً ولم يرسل القول على عواهنه، وراجع الكلمة قبل أن يكتبها.

فقوله: «وكثيراً ما جاراه واستحب ما أشار به وعارض فيه؟ لماذا لم يوثق دعواه بشاهد صدق واحد من ذلك الكثير الذي زعمه.

وأين كان ذلك المستحب من مشورته الذي جاراه فيه النبي (صلی الله علیه و آله) وما أدري هل أن ما كان من إعراض النبي (صلی الله علیه و آله) عن أبي بكر وعن عمر حين شاور الناس في يوم بدر فتكلما فأعرض عنهما، كان ذلك من شواهد الكثير الذي زعمه (1)؟

وما أدري لماذا تغير وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين قال أبو بكر وحين قال في أناس من قريش: إنهم جيرانك وحلفاؤك... الخ» (2) فهل

ص: 177


1- أنظر مسند أحمد 3 219 و 257.
2- نفس المصدر 155٫1 .

هذا من شواهد ذلك الكثير الذي زعمه !

وما أدري لماذا قال (صلی الله علیه و آله) بعد الذي مرٍّ: (يا معشر قريش والله ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان فيضربكم على الدين أو يضرب بعضكم)، فقال أبوبكر : «أنا هو يا رسول الله؟» قال: (لا)، قال عمر: «أنا هو يا رسول الله؟ قال: (لا، ولكن ذلك الذي يخصف النعل ) - وكان أعطى علياً (علیه السلام) نعلاً يخصفها (1). وهل هذا من شواهد ذلك الكثير الذي زعمه، ثم إن قوله أشفق عمر من مراجعته فيما سيكتب وهو جد خطير وقال إن النبي غلبه الوجع ... الخ.

كيف يكون قد أشفق من المراجعة، وهو الذي صده عن الكتابة وشاق الكلمة وشطر الحاضرين إلى فريقين فريق معه وفريق عليه، حتى وقع النزاع والخصومة فطردهم النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: (قوموا عني لا ينبغي عندي تنازع ) ؟ فهل هذا كان من الإشفاق؟ أو هو من إعلان الشقاق ؟

ثم يقول العقاد من دون استحياء: «ولو قد علم النبي ان الكتاب ضرورة لا محيص عنها لكان عمر يومئذ أول المجيبين »؟

يا الله أهكذا تقلب الحقائق ويتلاعب بالعقول ؟ أما ما قاله في عبقرية الإمام فقد أتى فيه بالمغالطة الفاضحة حيث

ص: 178


1- أنظر الخصائص للنسائي ٫ 11 .

أنكر النص وتنكر لجميع ما قاله النبي في حق الإمام علي (علیه السلام) مصحراً وجهراً بالقول، بدءاً من يوم حديث الإنذار: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (1) ومروراً بيومي المؤاخاة ويوم المناجاة بالطائف وأيام براءة وحجة الوداع والغدير كل ذلك لم ير العقاد فيها نصا بل هو إلماح وتأهيل للمستقبل وأقصى ما تدل على الحب والإيثار والتمهيد لأوانه (!) وخل عنك كل ذلك ولكن هلم فاسأل العقاد عن حديث الكتف والدواة فيم كان التنازع بين الصحابة فمنهم من قال القول ما قال النبي، ومنهم من قال القول ما قال عمر ؟

سؤال وجواب :

اشارة

لابد لنا الآن من العودة إلى حديث الرزية وطرح الأسئلة الآتية، لنتعرف من أجوبتها على مدى صدق العقاد في مقاله بأن ذلك تأهيل

وتلميح وليس هو نص صريح

1_ماذا أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يكتب في ذلك الكتاب؟

2_ومن أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يكتب باسمه ذلك الكتاب؟

3_ولماذا أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يكتب له ذلك الكتاب؟

4_ولماذا أراد النبي (صلی الله علیه و آله) عليا دون غير، أن يكتب له ذلك الكتاب؟

ص: 179


1- الشعراء ٫ 214.

أربعة أسئلة قد تبدو متشابهة، وليست كذلك بل هي متشابكة يأخذ تاليها برقبة أولها والجواب عن أولها يقضي بالجواب عن ثانيها وهكذا. للتداخل فيما بينها، وأخيراً سنعرف من الجواب عليها الجواب على ما قاله العقاد الذي حاول تعقيد الواقع الذي حدث بإنكاره جملة وتفصيلا فجاوز بعبقريته ما قاله علماء التبرير، وزاد عليهم. والآن إلى الأجوبة عن تلك الأسئلة

:

أولا - ماذا أراد النبي (صلی الله علیه و آله) صلى الله أن يكتب في ذلك الكتاب؟

لا يخفى على كل انسان يمتلك قدرة البحث والوعي ويتحلى بالنزاهة أن يدرك قصد النبي (صلی الله علیه و آله) من أمره باحضار الدواة والكتف، فهو حين يرجع إلى جو الحديث - حديث الكتف والدواة - زماناً ومكاناً وملاحظة سائر الحيثيات التي أحاطت ذلك الجو المكفهر بوجوه الصحابة، تزول عنه أغشية التضليل التي نسجها علماء التبرير. ويزداد إيماناً واطمئناناً بأن ا النبي (صلی الله علیه و آله) واله لم يرد أن يكتب للصحابة حكماً لم يبلغه كما أحتمله أو طرحه بصورة الاحتمال بعض علماء التبرير.

لأن احتمال ذلك موهون ومردود بقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (1) والآية تقطع جهيزة كل متنطع .

ص: 180


1- المائدة ٫ 3.

ولو تنزلنا جدلاً وقلنا بذلك، فهو أيضاً غير مقبول ولا معقول:

أولاً: لأنه (صلی الله علیه و آله) دعا بدواة وكتف ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده. وكتابة الحكم الواحد أو المهم كما زعمه بعض علماء التبرير، لا تفي بالغرض ولا تأتي بالنتيجة المرجوة، وكتابة جميع الأحكام تحتاج إلى عدة أكتاف إذ لا يحويها الكتف الواحد، ولا أقل على مثل كتاب الله تعالى في تعدد الأكتاف لأن الأحكام وما جاء به الرسول(صلی الله علیه و آله) تساوي الكتاب ان لم تزد حجماً عليه.

ثانياً: لم يعهد منه (صلی الله علیه و آله) أنه كان يكتب لهم الأحكام الشرعية أو يأمر بكتبها، وإنما كان يبلغهم ذلك شفاهاً، نحو قوله (صلی الله علیه و آله) : «صلوا كما رأيتموني أصلي»، و«خذوا . عني مناسككم ونحو ذلك مما عرفهم من الأحكام من طرق قوله وعمله وتقريره، ولم يعهد أن كتب لهم حكماً واحداً. نعم قد يوجد في بعض كتبه وعهوده ومراسلاته إلى الملوك ورؤساء القبائل مما ينبغي التعرض له فهو حين يدعوهم إلى الإسلام فلهم كذا وكذا، وإن أبوا فالجزية عن يد وهم صاغرون، وكل ما كان كذلك فهو لمن بعد عنه، ولم يكن لمن معه في المدينة، ولم يذكر (صلی الله علیه و آله) كتب لأهل المدينة مثلاً والذين هم معه حكماً واحداً.

ثالثاً: لو تجاوزنا ما تقدم فالذي سيكتبه من الأحكام ليس بعاصم الجميع الأمة إنما يعصم من ابتلي بالحكم فقط ولا يعصم غيره ما دام باب الاجتهاد والتأويل قد فتحه علماء التبرير على مصراعيه،

ص: 181

والنبي (صلی الله علیه و آله) يريد ضمان السلامة الجميع أمته من الضلالة.

إذن فاحتمال كتابة حكم أو مهمات الأحكام مستبعد من ساحة الجدل.

ويبقى السؤال الذي فرض نفسه، ماذا أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يكتب في ذلك الكتاب؟

ولابد في الجواب الصحيح من أن يكون الاحتمال الآخر وقد طرحه علماء التبرير، وقال غيرهم بتعينه وهو كتابته بتعيين ولي الأمر من بعده. ليتولى تسيير الأمة وفق مصالحها المشروعة، وإذا تعين ذلك لهم فهو الذي يحل مشاكلها من بعده، ومن ثم هو الذي يعصمها من الوقوع في هوة الضلالة.

إذن مراده (صلی الله علیه و آله) كان كتابة اسم من يخلفه في قيادة الأمة ويكون على رأس النظام الحاكم، فيتولى قيادة الأمة إلى شاطئ النجاة بما يصلح

أمورها في الدين والدنيا.

قال الشيخ محمد الغزالي في كتابه فقه السيرة: «وكان النبي نفسه قد هم بكتابة عهد يمنع شغب الطامعين في الحكم، ثم بدا له فاختار

أن يدع المسلمين وشأنهم ينتخبون لقيادتهم من يحبون ... ا ه-» (1).

ولقد كان في أول كلامه مصيباً ولكنه أخطأ في آخره ويعرف جوابه مما سيأتي.

ص: 182


1- فقه السيرة ٫ 353.

ثانيا - من ذا أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يكتب اسمه في ذلك الكتاب؟

والجواب على هذا يختلف عليه المسلمون. ومن الطبيعي أن يكون كذلك، تبعاً لاختلاف الواقع عن الشرعية، فأهل السنة لهم جواب التبرير الواقع ، والشيعة لهم جواب آخر بحسب الشرعية وإرادة النبي (صلی الله علیه و آله) :

1_ أما أهل السنة فقد قالوا إلا من شذ منهم : إن النبي (صلی الله علیه و آله) أراد أن يكتب كتاباً لأبي بكر ثم أعرض عنه بمحض اختياره، وقال: «يأبى الله ذلك والمؤمنون إلا أبابكر»، مستندين إلى روايات تنتهي كلها إلى عائشة، وأخرجها البخاري ومسلم. وقد مرت الإشارة إليها والرد

عليها في جملة مناقشة أقوال علماء التبرير. فلا حاجة إلى اعادتها.

2_ وأما الشيعة فقد قالوا إنه (صلی الله علیه و آله) أراد أن يكتب الكتاب باسم علي بن أبي طالب (علیه السلام) ويعطيه حجة تحريرية بخلافته من بعده، لكنه صد عن ذلك باعتراض عمر ومن تابعه، فترك ذلك بعد انتفاء الغرض المطلوب من الكتاب لطعن عمر في الكاتب فضلاً عن الكتاب وهم حججهم على ذلك.

والباحث المتجرد عن الهوى والتعصب يدرك أن الحق معهم، ويؤيدهم في ذلك اعترافات خطيرة صدرت عن عمر بعد ذلك اليوم بقرابة عقدين من الزمن.

ص: 183

وقد مر في مناقشات علماء التبرير الإلماح إليها. وستأتي بأوفى من ذلك عند البحث عن ( ماذا قال عمر ؟ وماذا أراد عمر ؟).

والآن لنقرأ شيئاً مما ساقه علماء الشيعة في حجتهم على أن المراد للنبي (صلی الله علیه و آله) هو كتابة الكتاب باسم علي. وهو لا يتنافى مع قولهم بالنص عليه قبل ذلك بل هو منه لأنهم قالوا إنما أراد التأكيد لما رأى من بوادر الشر المحدق بالأمة، فلنقرأ ذلك.

ثالثا - لماذا أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يكتب له الكتاب؟

اشارة

قالوا: إن الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله) لما نزل عليه الوحي في حجة الوداع بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ) (1) وكان قد وصل المسلمون معه إلى غدير خم بين مكة والمدينة فأمر بحط أوزار المسير عند الغدير، وقام في المسلمين في رمضاء الهجر على منبر من حدوج الإبل ليستشرف الناس، وخطب خطبة طويلة، أبان لهم فيها ان الله تعالى أمره بأن ينصب علياً إماماً وعلماً لأمته من بعده، ثم أخذ بيد علي فرفعها حتى بان بياض أبطيهما وقال:« من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ....» إلى آخر الخطبة ثم نصب لعلي خيمة خاصة وأمر المسلمين بالسلام على علي بأمرة المؤمنين، فبايعوه.

ص: 184


1- المائدة ٫ 67 .

وكان ممن دخل عليه وبايعه الشيخان أبو بكر وعمر وقالا له: بخ بخ لك يابن أبي طالب أصبحت مولانا ومولى كل مؤمن ومؤمنة» (1) .

وهذا هو النص الذي كان بعد حجة الوداع وجهر به النبي (صلی الله علیه و آله) ، ولكن الاستاذ العقاد يأباه ويقول: فليس من الممكن أن يرى ذلك فلا يجهر به في مرض الوفاة وبعد حجة الوداع». وما أدري أي جهر بالقول أوضح وأفصح من ذلك ؟ وما أدري لماذا لم يقرأ العقاد حديث أم سلمة قالت : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي قبض فيه - وقد امتلأت الحجرة من أصحابه - : (أيها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي، وقد قدمت اليكم القول معذرة إليكم، ألا إني مخلف فيكم كتاب ربي (عز وجل) وعترتي أهل بيتي.

ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا علي الحوض فاسألوهما ما خلفت فيهما ) » (2) .

ولماذا لم يقرأ الأستاذ وأضرابه أسباب النزول في قوله تعالى:

ص: 185


1- راجع كتاب الغدير للمرحوم الشيخ الأميني الجزء الأول ستجد تفصيل ذلك موثقاً بالمصادر المقبولة عند المسلمين من السنة لأنها من كتبهم.
2- الصواعق المحرقة ٫ 75 ط اليمنية، وفي جمع الفوائد للروداني 332٫2 عن أم سلمة رفعته (علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض)، وأرجح المطالب للأمر تسري ٫ 340 و 598 ط لاهور.

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دينا) (1) وإن حاول هو أو بعض التشكيك في زمان نزولها في ذلك، فليقل لنا هو وغيره ما سبب نزول قوله تعالى ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ واقع (2) أليس كان من أسباب نزولها مجيء بعض الحاقدين الحاسدين لعلي فقال للنبي (صلی الله علیه و آله) «أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصلاة والزكاة والصوم فقبلناها منك، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: (من كنت مولاه فهذا مولاه)، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله ؟

قال: (الله الذي لا اله إلا هو إن هذا من الله).

فولّى وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو إنتنا بعذاب أليم، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله فأنزل الله تعالى : ( سَأَلَ سَائِلٌ)» (3).

بعث أسامة إجراء وقائي:

ولما رأى النبي (صلی الله علیه و آله) حالة المسلمين يومئذ وما أحدق بهم من شر مستطير، لابد له من اتخاذ تدبير وقائي لوحدة الصف، وما ذلك إلا

ص: 186


1- المائدة ٫ 3.
2- المعارج ٫ 1.
3- راجع كتاب الغدير للمرحوم الشيخ الأميني الجزء الأول ستجد تفصيل ذلك موثقاً بالمصادر المقبولة عند المسلمين من السنة لأنها من كتبهم.

إبعاد عناصر الشغب الذين كان يخشى منهم الجفاء والعداء لولي الأمر من بعده، لتخلو المدينة منهم ويصفو الجو الخليفته الذي أمرته السماء بنصبه يوم الغدير. وقد تبين له - والوحي يخبره ويأمره - ان الحاقدين والموتورين ممن وترهم علي في سبيل الدين - فقتل آباءهم وإخوانهم وعشيرتهم - قد بدت منهم كوامن الشحناء على وجوههم، وبدأ التآمر والكيد. كل ذلك أحس به النبي (صلی الله علیه و آله) ورأى دنو أجله، فلابد له من اتخاذ ذلك التدبير الوقائي الذي لو تم، لتم الأمر لولي الأمر من دون منازع.

فأمر بتجهيز جيش أسامة إلى بلاد مؤتة، وفي تأميره شاباً لم يتجاوز العشرين من عمره على قيادة جيش يضم من شيوخ المهاجرين والأنصار أشخاصاً بأعيانهم مؤكداً عليهم الخروج، ولعن المتخلف منهم، كل ذلك له دلالة واضحة وعملية، على أن الفضل للكفاءة وليس للسن مهما كان صاحبه وإن هذا الاجراء الاحتياطي الوقائي لو تم لكانت الأمة في راحة من عناء الشقاء والشقاق، والذي لم تزل ولا تزال تكتوي بناره، فهو (صلی الله علیه و آله) حين اختار أسامة دون غيره ممن سبق له أن ولاهم قيادة السرايا في الغزوات، كان يعطي أمته درساً بليغاً بأن الجدارة والاستحقاق إنما تكونان بقدر الكفاءة لا بقدر السن، ولا شك في أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يرشح في توليته الرجال للمناصب إلا مستحقي الجدارة، فمن استحق بكفاءته موقعاً في القيادة قدمه، وإن كان صغيراً في سنه، لأن كبر السن لا يهب الأغبياء عقلاً، ولا صغر

ص: 187

السن ينقص الأكفاء فضلاً.

فما الحداثة عن فضل بمانعة ولا الكفاءة في سن وإن هرموا

قد أرسل الله عيسى وهو ابن ساعته فلم يجاب شيوخاً ما الذي نقموا

وكأنه (صلی الله علیه و آله) هيأ المسلمين لقبول (قاعدة الكفاءة) في ولاية أمورهم، ونبههم عملياً إلى أن ليست الشهرة أو السن أو غيرها من مقومات الشخصية، كفيلة باستحقاق الإمارة والولاية، فلذا قال (صلی الله علیه و آله) رداً على من نقم تأمير أسامة عليهم:

( وأيم الله إن كان - زيد - الخليقاً للإمارة، وان ابنه الخليق للإمارة)، كما سيأتي ذلك عن صحيح البخاري وغيره.

وبهذا التدبير الحازم قطع حجة الزاعمين ان الأمارة والولاية لمن كان في السن متقدماً.

من كان تحت إمرة أسامة :

قال الرواة: لقد عقد اللواء لأسامة بيده، وأمره على جيش عدته ثلاثة آلاف فيهم من قريش سبعمائة إنسان.

وقد روى الرواة أسماء بعض الشيوخ الذين كانوا في ذلك الجيش فكان منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم وأسيد بن حضير

ص: 188

وبشير بن سعد، وهناك آخرون (1) ولكن كل من سمينا منهم ومن لم نسم لم يمتثلوا أمر النبي (صلی الله علیه و آله) ، بل تخلفوا وطعنوا في تأمير أسامة عليهم.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي: فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على جلة المهاجرين والأنصار ؟

فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما سمع ذلك، وخرج عاصباً رأسه، فصعد المنبر وعليه قطيفة فقال: (أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ لئن طعنتم في تأمير أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله وايم الله ان كان الخليقاً بالامارة، وابنه من بعده الخليق بها ...)(2) .

ص: 189


1- طبقات ابن سعد 46٫4 و 136 ، وتاريخ اليعقوبي 93٫2، وشرح النهج لابن أبي الحديد 159٫1 ط محققة، وفتح الباري لابن حجر 218٫9 219 ، وكنز العمال 312٫5 ط الأولى، وتهذيب تاریخ ابن عساکر 391٫2 و من كتب المتأخرين حياة محمد المحمد حسين هيكل ٫ 467. والملاحظ في هذه المصادر المذكورة كلها قد ورد اسم أبي بكر واسم عمر فيمن سماهم النبي (صلی الله علیه و آله) أن يخرجوا تحت قيادة أسامة، ولم تذكر أنهما سمعا وأطاعا، بل ذكرت أنهما كانا يخرجان ويعودان بحجة أو بغير حجة، ويكفي وجودهما عند النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الخميس حين أمر بأحضار الدواة والكتف وهو دليل على أنهما كانا يرقبان حالة النبي (صلی الله علیه و آله) ويترقبان موته ولديهما خطة يجب أن يقوما بتنفيذها.
2- شرح النهج لابن أبي الحديد 159٫1 ط محققة، صحيح البخاري (كتاب المغازي باب بعث النبي أسامة بن زيد في مرضه).

وقال أيضاً: وثقل رسول الله (صلی الله علیه و آله) واشتد ما يجده، فأرسل بعض نسائه إلى أسامة وبعض من كان معه يعلمونهم ذلك. فدخل أسامة من معسكره ... فتطأطأ أسامة عليه فقبله ورسول الله (صلی الله علیه و آله) قد اسكت فهو لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة كالداعي له، ثم أشار إليه بالرجوع إلى عسكره، والتوجه لما بعثه، فرجع أسامة إلى عسكره.

ثم أرسل نساء رسول الله (صلی الله علیه و آله) يأمرنه بالدخول وقلن: ان رسول الله قد أصبح بارئاً، فدخل أسامة من معسكره يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، فوجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) مفيقاً، فأمره بالخروج وتعجيل النفوذ، وقال: (أغد على بركة الله).

وجعل يقول: (أنفذوا بعث أسامة)، ويكرر ذلك، فودع رسول الله وخرج ومعه أبو بكر وعمر . فلما ركب جاءه رسول أم أيمن فقال : إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يموت.

فأقبل ومعه أبو بكر وأبو عبيدة، فانتهوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين زالت الشمس من هذا اليوم وهو يوم الاثنين وقد مات، واللواء مع بريدة بن الحصيب، فدخل باللواء فركزه عند باب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو مغلق (1).

هذا ملخص حادث بعث أسامة ورزية من تخلف عنه.

ص: 190


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 1٫ 160 ط محققة.

(سؤال بعد سؤال فهل من جواب) ؟

أولاً : لقد مر بنا ان أبا بكر وعمر وابن عوف وسعداً أو سعيداً والزبير وأبو عبيدة كانوا فيمن سماهم النبي (صلی الله علیه و آله) وأمرهم بالخروج فتخلفوا، وقد لعن (صلی الله علیه و آله) من تخلف عن جيش أسامة(1) فهل هم تمن شملتهم لعنة الرسول (صلی الله علیه و آله) ؟ وكيف وهؤلاء ممن زعم الزاعمون أنهم من المبشرين بالجنة، فهل يجوز أن يلعن النبي له من شهد له بالجنة وبشره بها ؟

ثانياً: لقد مر بنا أن بعض نساء النبي (صلی الله علیه و آله) أرسلت إلى أسامة وبعض من كان معه.

فمن هي تلكم البعض من نسائه (صلی الله علیه و آله) ؟ ومن هم أولئك البعض ممن كان مع أسامة ؟

ولماذا لم يفصح الراوي بأسمائهم؟ فهل من المستبعد أن يكون تلكم البعض (الأول) هي من نسائه اللائي سبق للنبي (صلی الله علیه و آله) أن أسر إليهن حديثاً فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن

بعض كما في سورة التحريم ؟

وهل من المستبعد أن يكونا هما اللتان تظاهرا عليه كما في سورة

التحريم ؟

ص: 191


1- أنظر الملل والنحل للشهرستاني 23٫1 ط الثانية سنة 1395، وشرح المواقف للجرجاني 408٫8 ط دار الكتب العلمية بيروت.

ثالثاً: لقد مر بنا أيضاً ان نساء النبي (صلی الله علیه و آله) أرسلن إلى أسامة ثانياً يأمرنه بالدخول، فهل كن جميع نسائه ؟ أو هن اللائي أرسلن إليه أولاً؟ ومهما يكن فهل من حقهن الإرسال ؟ وما هو حقهن في الأمر ؟

رابعاً: لقد مر بنا أيضاً ان أسامة : وبعض من كان معه امتثلوا أمر النساء المرسلات، فهل كان أمرهن أوجب طاعة من أمر النبير (صلی الله علیه و آله) ؟ فما بالهم تخلفوا عن امتثال أمره (صلی الله علیه و آله) ولم يذهبوا حيث أمرهم وتباطؤا متثاقلين ؟ ثم هم هبوا سراعاً لامتثال من أمرتهم من النساء طائعين

سامعين فيعودوا مسرعين ؟

خامساً : لقد مر بنا كتمان الرواة لأسماء تلكم النسوة فهل كان كل الرواة نسياً فنسوا أسماء من كما نسوا الوصية الثالثة في حديث الكتف والدواة؟ أم ان في كتمان ذلك ستر عليهن والله يحب الساترين ؟

ومهما تكن حقيقة ذلك فسيبقى التساؤل قائماً - وبدون جواب مقنع - هل كان ثمة تنسيق وتدبير بين بعض نساء النبي (صلی الله علیه و آله) وبين أسامة وبعض من كان معه ؟

وهذا أيضاً ليس بالمستبعد من ساحة التصور، كما أنه غير مستبعد حتى في مرحلة التصديق، لأن أسماء الذين ذكرتهم الرواية أنهم أقبلوا مع أسامة هم الثالوث - أبو بكر وعمر وأبو عبيدة - ونجد لهذا الثالوث أهلية الترشيح للخلافة فيما ترويه عائشة وقد مر حديثها، كما نجد لهذا الثالوث تنسيقاً في المواقف من بعد موت النبي (صلی الله علیه و آله). كل ذلك يصدق

ص: 192

ما قيل من وجود تنسيق وتدبير بينهم وبين بعض نساء النبي (صلی الله علیه و آله) ويوحي بأن ثمة تخطيط وتآمر، حيث كان تشاور وتحاور، لاقتناص الخلافة من صاحبها بأي ثمن كان ولو على حساب الشرعية والدين.

لذلك لم يكن تخلف من تخلف عن جيش أسامة عفوياً.

كما لم يكن تثاقل أسامة بالخروج عاجلاً عفوياً أيضاً.

ولم تكن تلك المراسلات بين بعض أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) وبين أسامة وبعض من كان معه عفوياً أيضاً.

كل ذلك يوحي بضلوع عناصر فاعلة وخطيرة في تلك المؤامرة، لذلك كان النفر الذين وردت أسماؤهم يراوحون بيت النبي ولا يبارحونه، وان بارحه الرجال فلهم من نساء النبي (صلی الله علیه و آله) عون وعين.

فهذا كله قد أحس به (صلی الله علیه و آله) مضافاً إلى أن السماء توحي إليه بأخبارهم، ثم تأمره بتنفيذ أمر الله سبحانه، وإن كلفه عناء وجهداً، ولاقي عناداً ونصباً، فلذلك اتخذ التدبير الحازم والسريع. والأكثر ضماناً للنجاح - لو تم - فأمر أن يأتوه بالدواة والكتف، ليكتب للأمة كتاباً لن يضلوا بعده أبداً. وتلك الوثيقة هي الحجة الشرعية التحريرية التي لا يمكن أن تنكر أو تتناسى كسائر ما سبق منه شفاهاً. وتبقى حجة يحتج بها الخليفة من بعده.

فهذا هو ما أرادها صل الله النبي (صلی الله علیه و آله) .

وهذا هو ما أدركه عمر وبقية من حضر من طائعين وعاصين.

ص: 193

فنبذه عمر وتبعه قوم فشاقوا النبي (صلی الله علیه و آله) في أمره، وقبله آخرون ودعوا إليه سامعين طائعين.

وهذا هو الذي لم يخف من بعد على الصحابة فرووه كما رأوه.

وهذا هو الذي لم يخف على التابعين وتابعي التابعين، وحتى علماء التدوين، لذلك أجهزوا عليه فحرفوه وزوروا فيه، وقد مرت رواياتهم في صور الحديث وستأتي شواهد أخرى.

وهذا هو الذي تهرب من ذكره صراحة بشكل وآخر علماء التبرير، فحاولوا جاهدين ليكتموا الحق ، فقالوا إنه أراد أن يكتب لأبي بكر، ولعمري لو كان ذلك صحيحاً لكان عمر أول المجيبين المستحبين. ولكن ذلك شأن الجدليين المعاندين، إيغالاً في صرف النظر عن حق الإمام علي (علیه السلام) الذي أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يكتب له ذلك الكتاب، فأمعنوا في إخفاء الحقيقة. وهيهات أن تخفى الشمس وإن جللها السحاب.

رابعاً - لماذا أراد عليا دون غيره ؟

والجواب على هذا يستدعي مقدمة نعرف منها دور الرسول (صلی الله علیه و آله) في ذلك. وتلك هي أن ننظر بتجرد وموضوعية إلى ذلك الدور، فهل

كان (صلی الله علیه و آله) فيه مأموراً ؟ أو مختاراً؟ إذ لا يخلو من هاتين الحالتين.

فإن كان مأموراً - وهو لابد أن يكون كذلك كما هو شأن الرسالة

ص: 194

(وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )(1) - وما كان شأنه في التبليغ إلا على حد قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ) (2).

ومن كان دوره التبليغ والتبليغ فقط لأن الله سبحانه يقول: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ )(3).

فليس من حقه أن يكون له أي دور سوى تبليغ ما أمره الله به، وقد مر التصريح منه (صلی الله علیه و آله) بذلك حين اعترض عليه جلف جاف في أمر بيعة الغدير لعلي (صلی الله علیه و آله): منك أو من الله ؟ فأجاب قائلاً: الله الذي لا إله إلا هو. من الله .

وحيث أن بيعة الغدير وكتابة الكتاب لو تمت كلتاهما كانت البيعة علي (علیه السلام) وخلافته، وهما من واد واحد، وفي الأولى كان عبداً مأموراً فكذلك هو في الثانية كان عبداً مأموراً، وأيضاً ليس من حق أي أحد أن يعترض عليه في تنفيذ أمره.

وإذا لم نقل بهذا فما هو إلا الاختيار، وإنما أراد علياً من نفسه العواطف شخصية - والعياذ بالله - فلننظر لماذا تلك العواطف ؟

ص: 195


1- النور ٫ 54 .
2- المائدة ٫ 67 .
3- الحاقة ٫ 44 - 46 .

هل كانت نسبية، فهو قريبه وابن عمه ؟ وهذا غير مقبول ولا معقول، لأن للنبي (صلی الله علیه و آله) من العمومة وأبناء العمومة غير علي، وفيهم من هو أكبر سناً من علي، وليس فيهم من تحقد عليه قريش كما كانت تحقد على علي لأنه قتل صناديدهم ووترهم في الله. فلماذا لم يشر إلى أي واحد من أولئك الأحياء فيؤهله لأي قيادة أو إمارة أو ولاية لا تصريحاً ولا تلميحاً.

إذن ليست رابطة النسب وحدها هي المرجح لعلي دون غيره وليس القاعدة النسب أي دور في الترشيح.

ثم هل كانت رابطة المصاهرة لأنه كان صهراً له على ابنته؟ وهذا أيضاً غير مقبول ولا معقول إذ لم تكن رابطة المصاهرة تكفي للترشيح، على أنها ليست أقوى من رابطة القربي.

وقد كان للنبي (صلی الله علیه و آله) أصهار غير علي، وهم أقدم مصاهرة منه، وتجمعه وإياهم قربى نسب من بعد، كما في عثمان وهو من بني عبد مناف. فلماذا لم يحظ . عثمان بشرف ذلك الاختيار ؟

إذن ليس تعيين على (علیه السلام) للخلافة دون غيره على حساب القربي النسبية وحدها، ولا عليها وعلى رابطة المصاهرة. ولابد من أن يكون ليس للاختيار الشخصي من النبي (صلی الله علیه و آله) في تعيينه أي دور، وإنما هو أمر من الله تعالى، ودوره هو التبليغ فقط للمؤهلات التي كانت في علي (علیه السلام) ولم توجد في غيره.

ص: 196

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنِ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (1).

النتائج:

لقد تبين بوضوح على الأسئلة المتشابكة على النحو الآتي:

1_ ماذا أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يكتب في الكتاب؟ الجواب: أراد أن يكتب كتاباً يعين فيه ولي الأمر بعده.

2_من أراد أن يكتب اسمه في الكتاب ؟ الجواب: أراد أن يكتب اسم علي في ذلك الكتاب.

3_لماذا أراد أن يكتب له ذلك الكتاب؟ الجواب: لأنه رأى ضغائن قوم خشي عليه منهم.

4_لماذا أراد عليا (علیه السلام) دون غيره ؟ الجواب: لأن الله تعالى أمره بذلك.

من هم المعارضة ؟

إذا رجعنا نستقرئ صور الحديث نجد تعتيماً متعمداً على أسماء المعارضة سوى اسم عمر بطلها المقدام صاحب الكلمة النافذة،

ص: 197


1- الأحزاب ٫ 36.

كالسهم في قلب النبي (صلی الله علیه و آله) حتى (غم) أغمى عليه. وباختصار نجد: في الصورتين (1،2) المرويتين عن علي (علیه السلام) وابن عباس، فقام بعضهم ليأتي به فمنعه رجل من قريش (؟) وقال: «ان رسول الله

يهجر».

وفي الصورتين (3،4) المرويتين عن عمر: «فكرهنا ذلك أشدالكراهية » (؟).

وفي الصورة (5)المروية عن جابر : فكان في البيت لغط وكلام وتكلم عمر ...

وفي الصورة (6) فاختلف من في البيت واختصموا فمن قائل يقول: القول ما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومن قائل يقول: القول ما قال عمر.

وفي الصورة (7) فقال بعض أصحابه : «انه يهجر»، قال: - وأبي أن يسمي الرجل - فجئنا بعد ذلك، فأبى رسول الله أن يكتبه لنا.

وفي الصورة (8) فقال بعض من كان عنده: «إن نبي الله ليهجر».

وفي الصورة (9) برواية البخاري: فتنازعوا ... فقالوا: «هجر رسول الله».

وبروايته الأخرى عن سفيان ... فقالوا: ما له أهجر» استفهموه. و برواية الطبري فقالوا: ما شأنه أهجر» استفهموه.

وفي الصورة (10) برواية البلاذري، فقال: «أتراه يهجر»،

ص: 198

وتكلموا ولغطوا.

وبرواية ابن سعد، فقالوا : «إنما يهجر رسول الله».

وفي الصورة (11) فقال بعض من كان عنده: «ان نبي الله ليهجر».

وفي الصورة (12) فقال عمر : قد غلبه الوجع فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول يكتب لكم... ومنهم من يقول ما قال عمر ... فلما كثر اللغط والاختلاف، وغموا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال:

(قوموا عني).

وفي الصورة (14) فأقبل القوم في لغطهم.

وفي الصورة (15) فأخذ من عنده من الناس في لغط .

وفي الصورة (17) فلغطوا فقال : قوموا.

وفي الصورة (18) فتنازعوا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال رجل من القوم: ان الرجل ليهجر، فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمر بإخراجه وإخراج صاحبه.

وفي الصورة (19) فقال المعذول: ان النبي يهجر كما يهجر المريض، فغضب النبي ، قال (صلی الله علیه و آله): فأخرجوه فأخرجناه.

وفي الصورة (20) فمنعه رجل ....

وفي الصورة (21) فدعا العباس بصحيفة ودواة، وقال بعض من

ص: 199

حضر : «ان النبي (صلی الله علیه و آله) يهجر».

وفي الصورة (22) فقالوا: «ما شأنه أهجر».

وفي الصورة (24) إن قوما قالوا عن النبي (صلی الله علیه و آله) في ذلك اليوم: «ما شأنه هجر». رواه ابن حزم

وفي الصورة (25) فتنازعوا فقال بعضهم: ما له أهجر استعيدوه، فقال عمر قد غلبه الوجع . كما في رواية المقريزي.

هذه حصيلة ما ورد في صور الحديث الذي تكثرت وتكسرت حتى يصعب على الرائي فيها تجميع أجزائها بصورة واحدة. وهذا ما يدل على مدى التضبيب الذي لف الهالة لتمييع الحالة، وتضييع القالة. ولكن لم يخف وجه الكراهية التي أبدتها المعارضة بشدة، فهم الذين نابذوا الرسول (صلی الله علیه و آله) منذ بدء دعوته حتى ساعة وفاته وما بينهما من مواقف، وما بالهم نسوا أن الخير كان ويكون فيما كانوا يكرهون.

«وَمَا يَنْطِقُ عَنْ اهْوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى» (1) .

وبعد هذا هل يصح أن يقول علماء التبرير أخيرهم العقاد وليس آخرهم، إن النبي كان يحب أن يحب الناس علياً، فهو يحبه ويمهد له وينظر إلى غده... ثم يقول : وليس من الممكن ... وليس من الممكن .... وليس دون العقاد في التعقيد من عقدة الخلافة الدكتور الجابري الذي

ص: 200


1- النجم ٫ 3 - 4 .

جعل التخمين أولى بابن عباس من التهويل والتهوين، فلنقرأ مع

الجابري في تخمينه:

قال الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (مدخل إلى القرآن الكريم الجزء الأول في التعريف بالقرآن ص 87، ط1، بيروت سنة 2006 ، مركز دراسات الوحدة العربية:

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما حديثاً ورد فيه أن ابن عباس قال: «اشتد برسول الله (صلی الله علیه و آله) وجعه (في مرض وفاته) فقال:« ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي فتنازعوا». كما روى البخاري الحديث نفسه في صيغة أخرى ورد فيها أن النبي قال لمن حضروا بيته لعيادته أثناء مرض وفاته: «هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده». ويضيف الراوي: فقال بعضهم: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قوموا». ويضيف الراوي: فكان يقول ابن عباس: إن الرزية كل الرزية (هي) ما حال بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، لاختلافهم ولغطهم. ويقال إن ابن عباس قصد بهذا أنه لو استجابوا لطلب النبي وأعطوه كتاباً يكتب فيه، لكتب وصية يوصي فيها بالخلافة لعلي بن أبي طالب من بعده. غير أن هذا مجرد تخمين. وما يهمنا نحن هنا هو أن النبي طلب أن يكتب وأنه لا أحد من المحيطين

ص: 201

به استغرب منه ذلك، بل بالعكس كان فيهم من قال: «قربوا يكتب

لكم كتاباً».

أقول: من عجيب الغريب أن يقول الأستاذ الجابري : «ويقال إن ابن عباس قصد بهذا أنه لو استجابوا لطلب النبي وأعطوه كتاباً يكتب فيه، لكتب وصية يوصي فيها بالخلافة لعلي بن أبي طالب من بعده. غير أن هذا مجرد تخمين، كيف يكون هذا مجرد تخمين وعمر بن الخطاب يقول لابن عباس لقد أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يصرح باسمه يعني علياً - فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام» (1) .

وقال أيضاً مرّة أخرى: لقد كان من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذروا من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً» (2).

وقال له مرة ثالثة : إن رسول الله له أراد ذلك وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله، أوكل ما أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان ؟ (3).

ويبدو أن الأستاذ الجابري مأخوذ برواسبه الموروثة في هذا المقام التبرئة عمر من وصمة الهجر التي فاه بها، فكان الجابري مع فريق

(عمريون أكثر من عمر ).

ص: 202


1- موسوعة عبد الله بن عباس، الحلقة الأولى، الجزء الأول، ص 380.
2- ن. م: ج 1 ٫ 380.
3- ن . م: ج 1 ٫ 380.

ولا بد لنا الآن من النظر في حال عمر وماذا أراد بقوله ؟

ماذا قال عمر ؟

ليس من شك . فيما قال عمر، إذ نسب قول النبي (صلی الله علیه و آله) ! لله إلى الهجر : إن النبي يهجر، إنما يهجر رسول الله.

وليس من شك في أن علماء التبرير أضفوا على جفاء هذه الكلمة، نسيجاً أوهى من نسيج العنكبوت وألقوا ظلالاً - وضلالاً - من التشكيك في تحوير ما قال لسماجته، وقد مر في صور الحديث ما طرأ على الكلمة من تحريف شائن كما مر في أقوال علماء التبرير مقالة متهالك مائن في تصريف الكلمة على وجوهها غير الصرفية، فقالوا يهجر إلى ليهجر، إلى أهجر إلى هجر هجر واستنبطوا لكل وجهاً في القراءة، حتى جعلوها من الإنشاء إلى الاخبار ثم عادوا إلى الاستفهام في مقام الإنكار وهو تشريق وتغريب، وتصعيد بلا تصويب، وإذ لم يجدوا مناصاً في إنكارها، جعلوها فضيلة لعمر بعد أن كانت وصمة عليه. فقالوا إنما قال ذلك إنكاراً على من تخلف عن امتثال أمر النبي (صلی الله علیه و آله) ، وهذا التفسير : يأباه عليهم حتى عمر .

ومهما يكن فإن الصحيح عندي أنه قال: «ان الرجل ليهجر» كما رواها الغزالي (1) ، وإن ورد أيضاً: «أنه يهجر» كما في الصورة الحادية

ص: 203


1- ستر العالمين ٫ 9 ط مصر سنة 1314 ه-. ولا يضرنا التشكيك في نسبة الكتاب إلى الغزالي بعد أن نسبه إليه سبط ابن الجوزي الحنبلي في تذكرة الخواص.

عشرة من صور الحديث، وقد مرت نقلاً عن ابن سعد في الطبقات (1)، ونقلها البيهقي مسنداً (2)، وذكرناها عن المستخرج للإسماعيلي، نقلاً عن الملا علي القارئ في شرح الشفاء(3)، وفي طبقات ابن سعد أيضاً، ومسند أحمد (4)، وكتاب السنة للخلال المتوفى سنة 311(5)، ومعجم الطبراني الكبير (6)، وغيرها: «فقالوا: إنما يهجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) » ، وفي لفظ الطبري: «ان رسول الله يهجر » تر (7)، وفي تاریخ ابن خلدون: فتنازعوا وقال بعضهم : أنه يهجر، وقال بعضهم:

أهجر ؟ يستفهم (8) .

وجاء في حديث سليم بن قيس الهلالي عن ابن عباس: «فقال رجل منهم : ان رسول الله يهجر» (9) ، وغير هؤلاء.

ص: 204


1- طبقات ابن سعد 2 ق 36٫2.
2- سنن البيهقي 3٫ 435 ط بيروت سنة 1411 باب كتابة العلم في الألواح والأكتاف).
3- شرح الشفاء لملا علي القارئ 353٫2 ط استنابول سنة 1316، ونسيم الرياض للخفاجي 279٫4 ط أفست دار الكتاب العربي بيروت
4- مسند أحمد 355٫5.
5- كتاب السنة 271٫1 ط الرياض.
6- معجم الطبراني الكبير 11 ٫ 445 ط الموصل.
7- تاريخ الطبري 193٫3 ط دار المعارف.
8- تاریخ ابن خلدون 849٫1 ط دار الكتب اللبناني.
9- وسيأتي الحديث بتمامه.

ويدلنا على نسبة عمر الهجر إليه (صلی الله علیه و آله) ، تلجلج بعضهم عند ذكر كلمته فيقول: «قال كلمة معناها إن الوجع غلب عليه»، وهذا ما صنعه ابن أبي الحديد وسائر من استهجن الكلمة من علماء التبرير لما فيها من مساس بقداسة الرسول وقدسية رسالته. فحذفوها وأثبتوا البديل عنها: «قد غلب عليه الوجع».

والآن ليفكر القارئ في أمر عمر أي شيء كان يدعوه لتلك المقالة النابية والكلمة القارصة ؟ وماذا عليه لو كان النبي (صلی الله علیه و آله) كتب ذلك

الكتاب ليعصم عمر وغير عمر من الأمة من الضلالة إلى الأبد؟

وهل كان عمر يجب أن يبقى الناس في طخياء الضلالة يعمهون؟ فليقل علماء التبرير ما عندهم؟ وهل كان عمر يعتقد في نفسه «إن النبي يهجر»؟ وكذلك فليقولوا ما شاؤا في ذلك، وقد مر بعض ما عندهم من تخليط.

أم كان عمر يريد أمراً آخر من وراء كلمته، فلم ير لديه أبلغ مما قاله ليبلغ مراده؟ وهذا ما نراه ولا نتجنى عليه، فقد كان هو أيضاً يراه، وقد صرح بذلك، ومرت بعض تصريحاته في التعقيب على ما قاله علماء التبرير ( عمريون أكثر من عمر ) فراجع حيث علم أن النبي (صلی الله علیه و آله) يريد أن يكتب الكتاب باسم علي فمنع من ذلك.

فمنها قوله: «ولقد أراد - رسول الله (صلی الله علیه و آله) - أن يصرح باسمه - يعني علياً - فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام»؟!

ص: 205

ومنها قوله: «لقد كان من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذروا من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً».

ومنها قوله: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أراد ذلك وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله، أو كل ما أراد رسول الله كان»؟!

ومنها قوله: «فكرهنا ذلك أشد الكراهية» (؟)

ولماذا يا أبا حفص ؟ ولا نحتاج إلى الجواب، ما دمت أنت القائل لابن عباس: «إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة». ولماذا أيضاً؟ وأنت تعلم أن علياً كان أحق بها من غيره، وأنت الذي اعترفت بذلك وقلت لابن عباس : أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان علي فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر.

وهذه الأقوال جميعها قد مرت مسندة إلى مصادر موثوقة فراجع

(عمريون أكثر من عمر ) .

من أين علم عمر مراد الرسول (صلی الله علیه و آله) ؟

والآن لنبحث من أين علم عمر أن النبي (صلی الله علیه و آله) أراد أن يكتب الكتاب باسم علي (علیه السلام) ، وهو لم يذكره باسمه كما في الحديث، ولم يكتب بعد كتابه ليعلم بذلك عمر، فمن أين علم بذلك فقال« انه ليهجر »؟

لقد علم ذلك من قوله (صلی الله علیه و آله) : (لن تضلوا بعده - بعدي - أبداً) .

وهذه الكلمة لم ترد في شيء من الأحاديث النبوية إلا في بضعة

ص: 206

أحاديث كلها توحي بفضل علي منفرداً أو مجتمعاً مع أهل بيته خاصة، وهم فاطمة والحسن والحسين الذين هم قرناء الكتاب، كما في حديث الثقلين والتمسك بهما عاصم من الضلالة.

وإلى القارئ تلكم الأحاديث التي وردت فيها جملة: (لن تضلوا)، وهي دالة على ان التمسك بعلي وأهل بيته أمان من الضلالة

ولم ترد في حق أي إنسان سواهم:

أولاً: حديث الثقلين وهو من الأحاديث المتواترة رواه أكثر من أربعين صحابياً في ستة مواطن، وأخرجت أحاديثهم المصادر الكثيرة وقد نافت على المائة (1). ولفظه كما في أكثر من موطن قاله رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيه ذلك:( أيها الناس إنّي تركت فيكم الثقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهما - الأكبر كتاب الله، والأصغر عترتي أهل بيتي - وإن اللطيف الخبير عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين - أشار بالسبابتين - ولا أن أحدهما أقدم من الآخر، فتمسكوا بهما، لن تضلوا ولا تقدموا منهما ولا تخلفوا عنهما، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم).

وهذا ما قاله في حجة الوداع في يوم عرفة وفي مسجد الخيف بمنى وفي غدير خم، سوى ما قاله قبل ذلك في يوم فتح الطائف عام ثمان من الهجرة، وسوى ما قاله بعد حجة الوداع وآخر مرة في هجرته

ص: 207


1- أنظر كتاب على إمام البررة ٫292٫1 - 318 ط دار الهادي.

و على منبره يوم قبض (صلی الله علیه و آله).

وقد كان أبو بكر يقول: علي عترة رسول الله (صلی الله علیه و آله) »، كما أخرج ذلك عنه السيوطي في جمع الجوامع وعنه المتقي الهندي في كنز العمال (1).

ثانياً: ما رواه الحسن بن علي وعائشة وأنس وجابر مرفوعاً قال:« ادعوا إلى سيد العرب - يعني علي بن أبي طالب - فقالت عائشة: ألست سيد العرب؟ فقال: (أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب)، فلما جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه فقال لهم: (يا معشر الأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به (لن تضلوا) بعده أبداً)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي، فان جبرئيل أمرني بالذي قلت لكم من الله (عز وجل) »(2).

ثالثاً: ما روته أم سلمة قالت : «خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلّم إلى صرح يحل هذا المسجد الجنب ولا لحائض إلا لرسول الله وعلي وفاطمة رحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته فقال: (ألا لا یحلّ هذا المسجد لجنب و لا لحائض إلاّ لرسول الله وعليِّ و فاطمة

ص: 208


1- كنز العمال 15 ٫ 101 ط الثانية حيدر آباد.
2- أخرجه أبو نعيم في الحلية 63٫1 وقال رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير عن عائشة، نحوه في السؤدد مختصراً، والطبراني في معجمه الكبير 88٫3، والهيثمي في مجمع الزوائد 1319 ، والمحب الطبراني في الرياض النضرة 177٫2 ، وفي الذخائر ٫ 70 ، والسيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه، كنز العمال 2٫ 216 و 126٫5 ، وغيرهم وكلهم عن عائشة.

والحسن والحسين، ألا قد بينت لكم الأسماء أن لا تضلوا) »(1).

رابعاً: ما رواه زيد بن أرقم قال: «كنا جلوساً عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال : (ألا أدلكم على من لو أستر شد تموه (لن تضلوا) ولن تهلكوا)؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال : (هو هذا وأشار إلى علي بن أبي طالب) ثم قال: (و آخوه و وازروه وصدقوه وانصحوه فإن جبرئيل أخبرني بما قلت لكم)» (2) .

خامساً: وثمة حديث - رواه ابن حجر في الصواعق (3) - جاء فيه التصريح باسم علي عقب ذكر حديث الثقلين فاقرأ ذلك: «إنه رقال - في مرض موته -( أيها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم، ألا وإني مخلف فيكم كتاب ربي (عز وجل) وعترتي أهل بيتي ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض، فاسألوهما ما خلفت فيهما) ».

سادساً: ما رواه ابن عباس (رضي الله عنه) قال: «قال رسول اللهر : ( لن تضلوا ولن تهلكوا وأنتم في موالاة على، وإن خالفتموه

ص: 209


1- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 65٫7 ، والسيوطي في اللثالي المصنوعة 183٫1 ط مصر الأولى نقلاً عن سنن البيهقي - وعلى القارئ المقارنة ليجد كيف تلاعبت الأهواء بالسيوطي فحرف وغير.
2- أخرجه ابن المغازلي المالكي في المناقب ٫ 245
3- الصواعق المحرقة ٫ 75 ط الميمنية 1312.

فقد ضلت بكم الطرق والأهواء في الغي فاتقوا الله، فإن ذمة الله علي بن أبي طالب)» (1) .

وأحسب ان هذا هو تتمة ما مر قبله، ومهما يكن فهذه جملة أحاديث وردت فيها صيغة ( لن تضلوا ) ( أن لا تضلوا) وكلها في أهل البيت (علیه السلام) منها ما يخص علياً بمفرده، ومنها ما يعمه وبقية أهل بيته فهل من المعقول والمقبول دعوى ان عمر لم يسمعها؟ ليس من الممكن أن لا يكون عمر سمعها من النبي (صلی الله علیه و آله) أو ممن سمعها منه كلها أو بعضها، وحيث لم يرد في مورد جملة (لن تضلوا) إلا وهي توحي بذكر علي وأهل بيته (علیه السلام) ، فلذلك لما قال (صلی الله علیه و آله) :( ائتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا)، أستشعر عمر من ذلك ما هو إلا التصريح باسم علي في ذلك الكتاب، فتلك حجة مكتوبة ليس من السهل عليه ولا على غيره إنكارها. وذلك هو ما اعترف به لابن عباس بعد ذلك، فلم يجد سلاحاً أقوى عنده يشهره في وجه الشرعية في ذلك الوقت غير كلمة «ان النبي ليهجر» وبذلك نسف للمحاولة الفعلية ولجميع المحاولات اللاحقة التي ربما يفاجأ بها، وهذا معنى كلماته التي مرت على القارئ في اعترافاته الخطيرة، فراجع.

فنسبة الهجر إلى النبي المعصوم إقدام جريء، مع إساءة أدب مع النبي (صلی الله علیه و آله) ومساس بشخصه الكريم، وأجرأ من ذلك دعواه في كلمته

ص: 210


1- أنظر ينابيع المودة للقندوزي 2٫ 280.

الأخرى «وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله،» ولنستذكر ما مر من أقوال علماء التبرير الذين رأوا في هذه الكلمة دليلاً على فقاهة عمر بل وأفقهيته على ابن عباس، حيث اكتفى بالقرآن ولم يكتف ابن عباس به (؟!) وهذا ما مر عن ابن بطال والنووي وغيرهما فراجع. فقد بينا هناك من هو الأفقه منهما بحجج لا يقوى زوامل الأسفار على حملها فضلاً عن ردها.

والآن فلنعد إلى تفسير كلمته حسبنا كتاب الله وما تعنيه من دلالة ظاهرة وما تخفي من معنى اشتملت عليه، وماذا أراد عمر بقوله: «وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله »:

ماذا أراد عمر بقوله: «حسبنا كتاب الله» ؟

اشارة

ليس في قوله: «حسبنا» أي غموض لغوي، ولا اشتراك لفظي، ومعناه كفانا، و (حَسبَ) اسم معنى لا اسم فعل، بدليل زيادة الباء عليه في قولهم بحسبك درهم، وهكذا قول الداعي حسبي الله، أي كفاني دون غيره، كما يصح أن يقول (بحسبي) أي كفاني، هذا من ناحية المعنى في اللغة العربية.

إذن ماذا أراد عمر غير ذلك ؟

وهل وراء ذلك مراد لعمر ؟

نعم إنه الكناية عن الاستغناء بالقرآن دون عديله، وما عسى

ص: 211

ذلك الرفض إلا لمن عينه رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حديث الثقلين، وهم العترة، الذين هم الثقل الأصغر، وهو الآخر الذي يأباه عمر فاستبعده جاهداً وجاحداً، وفرض الاستغناء بالقرآن وحده فقال: وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله. وذلك ما دلّ عليه معنى (حسبنا ) أي كفانا، وإن قيل ما الدليل على ان ذلك مراد عمر ؟

فإنا نقول : دليلنا على ذلك اعترافاته السابقة بأنه فهم ذلك فقال: «حسبنا ... الخ ».

ولولا أن يكون ذلك مراد عمر لما كان معنى لقوله: «حسبنا كتاب الله » ولا معنى لقوله:« وعندكم القرآن»، واحتمال أنه أراد الاستغناء بالقرآن وحده لأنه فيه تبيان كل شيء، لقوله تعالى: (ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (1) ، كما قاله علماء التبرير فليس ذلك بصحيح ولا يمكن أن يُصحح له، لأن القرآن وحده لا يغني ما لم يكن معه من يعلم تأويله قال تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (2) ، والله سبحانه يقول: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (3) ، وقد ورد عن الإمام علي (علیه السلام) قوله في تفسير هذه الآية فقال: (نحن أهل الذكر ) ولا شك أن علياً (علیه السلام) كان منهم بل ومن

ص: 212


1- الأنعام ٫ 38.
2- آل عمران ٫ 7.
3- النحل ٫ 43.

أفاضلهم، كيف لا وهو الذي دعا له الرسول بأن يكون الأذن الواعية، وفيه نزل قوله تعالى: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (1)، وهذا هو الذي أدركه عمر وفهمه، لذلك استبعد الضميمة عن القرآن، فرفضها ومنع النبي (صلی الله علیه و آله) من كتابة الكتاب الذي لن تضل أمته من بعده ما إن تمسكوا

به.

وفي حديث الثقلين دلالة واضحة أن التمسك بهما معاً - القرآن والعترة - هو السبيل العاصم من الضلالة وليس التمسك بأحدهما دون الآخر بعاصم وحده.

ونحن إذا استذكرنا ما مر آنفاً من ان عمر كان جاداً في دفع علي عما أراده الله تعالى له على لسان نبيه، ولما كان علي (علیه السلام) هو واحد من العترة بل هو سيدهم، أدركنا المعنى الحقيقي لكلمة عمر: «حسبنا كتاب الله» وهي تعني التفكيك بين القرآن والعترة عند التمسك بهما. والرد الحاسم على استبعاد العترة من أهلية التمسك بها، لذلك ارتكب ما ارتكب مما لا يجوز لمثله أن يفعله، وقال ما قال مما ليس من حقه أن يقوله. ولكنه اليقظ الحذر والمتمرس على الخلاف على النبي (صلی الله علیه و آله) ،

ص: 213


1- شواهد التنزيل للحسكاني 272٫2، وحلية الأولياء 67٫1، وفرائد السمطين للحمويني، وكنز العمال 157٫15ط الثانية، ومناقب ابن المغازلي الحديث ٫ 366، وسمط النجوم العوالي 504٫2، وتفسير الطبري 55٫29 ، وتفسير الدر المنثور للسيوطي في تفسير الآية نقلاً عن ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه.

وشواهد ذلك يكفي منها يوم صلح الحديبية، ويوم الصلاة على ابن

أبي. وغير ذلك.

فأي مانع له الآن أن يعلن الخلاف، ويقول ما لا يحل له ولا لأي مسلم أن يقوله فينسب الهجر إلى النبي المعصوم. ما دام هو بذلك يرفض قرناء الكتاب، وكان من الطبيعي لمثله، وهو يريد ذلك أن يقول للحاضرين: «وعندكم القرآن» - يعني لا حاجة لنا بالعترة التي يدعونا

الرسول (صلی الله علیه و آله) إلى ا التمسك بالكتاب وبها كما في حديث الثقلين ..

ولندع هذا الجانب التفسيري لكلمته، ولنعد إلى الجانب اللفظي لها. ولنستغفل عقولنا ثانية، وكأننا نبحث عن حاق المعنى لقوله. فماذا كان يعني بكلمته: «حسبنا كتاب الله»؟ أو ليس معنى ذلك هو رفض السنة؟ التي هي تلو الكتاب ؟ أفهل كان يرى حقاً عدم حجية السنة؟ نعم كان وكان، ولسنا نحمله إلا تبعة أفعاله، لأنه من أمر في أيامه بتحريقها ومحوها (1). وما دام ليس من حقنا أن نحمله خشية الاتهام بأنا لسنا معه على رأي فلنترك الحديث لأئمة عمريين لا يشك في ولائهم لعمر، مثل الإمام الشافعي وابن حزم، والبيهقي والسيوطي.

فلنقرأ ما يقول كل واحد في عدم الاستغناء بالكتاب وحده

ص: 214


1- الجامع لأحكام القرآن ٫17٫ 5 و 108٫14 ، وشواهد التنزيل 1٫ 334 - 337

ولابد من السنة معه، وهم غير متهمين فيما يقولونه في إدانة من قال بالاستغناء بالكتاب وحده حتى ولو كان عمر :

1_ ماذا قال الشافعي ؟

قال الإمام الشافعي في الرسالة ونقله عنه البيهقي في المدخل (1): قد وضع الله رسوله (صلى الله عليه وآله) وسلم من دينه وفرضه وكتابه الموضع الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علماً لدينه بما افترض من طاعته، وحرم من معصيته وأبان من فضيلته، بما قرن بين الإيمان به مع الإيمان به فقال تبارك وتعالى: ( فَآمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ )(2) وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ )(3) فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله معه.

قال الشافعي: وفرض الله على الناس إتباع وحيه وسنن رسوله فقال في كتابه: ( لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )(4) .

قال الشافعي : فذكر الله الكتاب والقرآن، وذكر الحكمة فسمعت

ص: 215


1- نقل كلامه بنصه السيوطي في رسالته مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة ٫ 3 - ضمن مجموعة الرسائل المنيرية أواخر المجلد الثاني.
2- الأعراف ٫ 158 .
3- النور ٫ 62 .
4- آل عمران ٫ 164 .

من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلّم. وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ) (1) - ثم ساق الكلام إلى أن قال: فأعلمهم أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله) وسلّم طاعته فقال: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيهَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (2) .

واحتج أيضاً في فرض اتباع أمره بقوله: ( وَ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (3) وقوله: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(4) وغيرها من الآيات التي دلت على اتباع أمره ولزوم طاعته فلا يسع أحد رد أمره لفرض الله طاعة نبيه».

2_ ماذا قال ابن حزم ؟

قال ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام: لا تعارض بين شيء من نصوص القرآن ونصوص كلام النبي (صلی الله علیه و آله) وما نقل من

ص: 216


1- النساء ٫ 59 .
2- النساء ٫ 65 .
3- النور ٫ 63 .
4- الحشر ٫ 7

أفعاله فقال سبحانه خبراً عن رسوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (1) ، وقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (2)، وقوله: ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (3). فأخبر (عز وجل) ان كلام نبيه وحي من عنده كالقرآن في أنه وحي ... اه- » (4) .

3_ ماذا قال البيهقي ؟

وقال البيهقي بعد احكامه هذا الفصل : «ولولا ثبوت الحجة بالسنة لما قال (صلى الله عليه وآله) وسلّم في خطبته بعد تعليم من شهده أمر دينهم (ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب حامل مبلغ أوعى من سامع ) ثم أورد حديث: (نصر الله امرؤاً سمع منا حديثاً فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع) ». وهذا الحديث متواتر كما سأبينه.

قال الشافعي: «فلما ندب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها ، دل على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدي إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلال يؤتى،

ص: 217


1- النجم ٫ 3 - 4 .
2- الأحزاب ٫ 21.
3- النساء ٫ 82.
4- الإحكام في أصول الأحكام 1٫ 174.

وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين و دنيا» .

ثم أورد البيهقي من حديث أبي رافع قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتي الأمر من أمري مما أمرت به أو

نهيت عنه فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)» (1).

وأخرج البيهقي بسنده عن شبيب بن أبي فضالة المكي: «ان عمران بن حصين ( رضي الله عنه) ذكر الشفاعة فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن؟ فغضب عمران وقال للرجل : قرأت القرآن ؟ قال : نعم، قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاً ووجدت المغرب ثلاثاً، والغداة ركعتين، والظهر أربعاً، والعصر أربعاً؟ قال: لا، قال: فعن من أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟!

أوجدتم فيه من كل أربعين شاة شاة، وفي كل كذا بعير كذا، وفي كل كذا درهماً كذا؟ قال: لا، قال فعن من أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وآله) وسلم.

وقال: أوجدتم في القرآن: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (2)، أو

ص: 218


1- رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة، والحاكم، والبيهقي في دلائل النبوة، وإسناده صحيح، وقال الترمذي حسن صحيح، مشكاة المصابيح 57٫1
2- الحج ٫ 29.

وجدتم فيه فطوفوا سبعاً، واركعوا خلف المقام؟ أو وجدتم في القرآن: لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام؟

أما سمعتم الله يقول في كتابه: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(1)؟

قال عمران: فقد أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أشياء ليس لكم بها علم» (2).

وأخرج البيهقي والحاكم عن الحسن قال: «بينما عمران بن الحصين يحدث عن سنة رسول الله إذ قال له رجل يا أبا نجيد حدثنا بالقرآن، فقال له عمران أنت وأصحابك تقرؤون القرآن!؟ أكنت تحدثني عن الصلاة وما فيها وحدودها ؟

أكنت تحدثني عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال؟ ولكن قد شهدت وغبتَ أنتَ ، ثم قال: فرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) في

الزكاة كذا وكذا، فقال الرجل : أحييني أحياك الله.

قال الحسن فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين(3).

ص: 219


1- الحشر ٫ 7.
2- مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي ٫ 5 ضمن مجموعة الرسائل المنيرية المجلد الثاني.
3- مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي ٫ 23 ضمن مجموعة الرسائل المنيرية المجلد الثاني.

4_ ماذا قال السيوطي ؟

قال في ديباجة كتابه:« اعلموا يرحمكم الله ان من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة، وان تما فاح ريحه في هذا الزمان. وكان دارساً بحمد الله تعالى منذ أزمان، وهو ان قائلاً رافضياً (؟) زنديقاً أكثر في كلامه: ان السنة النبوية والأحاديث المروية - زادها الله علواً وشرفاً - لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن خاصة، وأورد على ذلك حديث: ما جاءكم عني من حديث فاعرضوه على القرآن، فإن وجدتم له أصلاً فخذوا به وإلا فردوه. هكذا سمعت هذا الكلام بجملة منه وسمعه منه خلائق غيري... فاعلموا رحمكم الله من أنكر كون حديث النبي (صلی الله علیه و آله) وقولاً كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول حجة، كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة ....

وأصل هذا الرأي الفاسد أن الزنادقة وطائفة من غلاة الرافضة ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن...» (1) إلى آخر کلامه.

ونحن لا نريد مناقشته في حكمه الكلي على الكبرى فهو عين الصواب، ولكن هلم الخطب في تطبيق الحكم على الصغرى في المقام.

ص: 220


1- نفس المصدر ٫ 2.

ويجب أن لا يُستغفل القارئ بما قاله السيوطي الذي شنها حرباً شعواء على ذلك الرافضي المجهول الهوية. كما يجب أن لا نظلمه مادامت حجته صحيحة كما حكاها عنه السيوطي نفسه.

فإن الذي زعمه السيوطي في حكاية قوله: «هو إهمال السنة بالمرة فلا يحتج بها». بينما الذي حكاه من فحوى دليله هو وجوب عرض السنة على الكتاب، والأخذ بها ما دامت غير مخالفة له. وأين هذا من عدم حجيتها والاكتفاء بالقرآن؟.

وإذا صح ما ذكره السيوطي عنه من الدليل يكون الرافضي المجهول الهوية على حق في كلامه، لأن الحديث الذي يخالف القرآن زخرف وباطل ويضرب به عرض الجدار. وهذا هو المنطق الصحيح والسليم الذي يقطع جهيزة كل الوضاعين والمدلسين الذين كذبوا في الحديث ونسبوه زوراً إلى النبي (صلی الله علیه و آله) ، وهو منه ومنهم بريء.

وأين هذا مما شهر به السيوطي بقوله: «إنكار الاحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن ...»؟ وهل من الإنصاف أن يرمى بالزندقة لأنه يقول إن السنة ليست ناسخة للقرآن ولا قاضية عليه، ولأن السنة الصحيحة هي التي لا تخالف القرآن!

ثم ما رأي السيوطي في قول عمر : «حسبنا كتاب الله وعندكم القرآن» أليس ذلك نبذه للسنة نبذ الحصاة وراء ظهره ؟

ثم ما رأي السيوطي في قول عمر في خطبته: «لا يبقين أحد عنده

ص: 221

كتاباً إلا أتاني به فأرى فيه رأيي، فظنوا أنه يريد النظر فيها ليقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار (1). كما بعث إلى الامصار يأمرهم من كان عنده شيء فليمحه ؟ (2).

فهل يا ترى من هو الذي أنكر الاحتجاج بالسنة؟ ذلك الرافضي المنكود حظه ؟ أم هو عمر بن الخطاب المشهود رفضه ؟

ثم هل من حقنا ان نسأل السيوطي عن حكمه هل هو مخصوص بذلك الرافضي ؟ أم هو عام لكل من أنكر الاحتجاج بالسنة؟ وهل يرضى أن يحكم به على عمر ؟ وهل يرضى بذلك علماء التبرير وهو منهم؟ ثم ما باله وهو من أهل السنة، ومادام غيوراً على السنة، يستنكر ما قاله الرافضي الذي حامى عن حريم السنة بأن لا تشوبها شوائب الكذابين، بل كان الأولى أن يدعو له ويستغفر له، فهو يريد حماية السنة لا عدم الاحتجاج بها ونبذها كمن قال: «حسبنا كتاب الله وعندكم القرآن»، بالله لقد صح المثل السائر: (رمتني بدائها وانسلت)، وما علينا الآن إلا أن نقول للسيوطي رضينا بك حكماً بيننا وبينك ورضينا بحكمك على كل من قال بعدم الاحتجاج بالسنة من الأولين والآخرين من أي فرق المسلمين.

ويكفينا في إدانة السيوطي كتابه: (اللآلئ المصنوعة في الأحاديث

ص: 222


1- طبقات ابن سعد 188٫5 ، وتقييد العلم للخطيب البغدادي
2- جامع بيان العلم لابن عبد البر.

الموضوعة) لماذا كتبه ؟ أليس لتخليص السنة من الشوائب. إذن فقول الرافضي بعرض السنة على الكتاب خير ميزان وليس فيه عين، وكتابه المذكور لم يخلص السنّة من كل شين. (وأَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقَّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ )(1) .

وأخيراً فقد تبين لنا أن عمر إنما قال: «حسبنا كتاب الله، عليكم بالقرآن ليستفرد بالكتاب وهو الثقل الأكبر ويستبعد الثقل الأصغر وهم العترة، وسيد العترة علي كما هو معلوم عند المسلمين، وكان أبو بكر يقول ذلك أيضاً (2) . وليس معنى ذلك الاستبعاد لأهل البيت عن ساحة الخلافة، يعني بالضرورة أن لا نجد عمر يتحدث بفضائلهم كما كان أبو بكر يفعل كذلك، حتى لقد عقد المحب الطبري في الرياض النضرة باباً في ذكر ما رواه أبو بكر في فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) وباباً (في ذكر ما رواه عمر في علي)، ووردت عنهما أحاديث كثيرة في فضائل أهل البيت، يقف عليها الطالب في كتب المناقب للخوارزمي الحنفي وابن المغازلي المالكي والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي سوى ما أورده الحاكم في المستدرك وابن عساكر الشافعي في تاريخ دمشق وغيرهم وغيرهم. فالحديث بفضائل أهل البيت ليس بضار لهما بل ربما أصابا منه نفعاً من تطييب النفوس بإظهار المودة بعد ما تم

ص: 223


1- يونس ٫ 35.
2- كنز العمال 15 ٫ 10 ط حيدر آباد الثانية.

استبعادهم عن الخلافة، ثم تجريدهم حتى من بعض اختصاصهم.

ألم يرو الطبراني في الأوسط وعنه الهيثمي في مجمع الزوائد عن عمر قال: «لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) جئت أنا وأبو بكر إلى علي فقلنا ما تقول فيما ترك رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قال : نحن أحق الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله) قال : فقلت : والذي بخيبر ؟ قال : والذي بخيبر، قلت: والذي بفدك ؟ قال : والذي بفدك. فقلت أما والله حتى تحروا رقابنا بالمناشير فلا» (1).

5_ ماذا قال السندي في حاشيتيه على البخاري ؟

قال: إن الأمر الصادر يفيد أنه أمن من الضلال، فالكتاب الذي يريد الرسول (صلی الله علیه و آله) أن يكتبه سبب للأمن من الضلال ودوام الهداية. فكيف يخطر على بال إنسان أنه سيترتب عليه عقوبة أو فتنة أو

عجز.

أما قوله: «حسبنا كتاب الله» لأنه تعالى قال: (ما فرطنا في الكتاب من شيء )(2) ، ويقول : (اليوم أكملت لكم دينكم )(3)، فكل من الآيتين لا يفيد الأمن من الضلال ودوام الهداية للناس، ولو كان كذلك لما وقع الضلال، ولكن الضلال والتفريق في الأمة قد وقع

ص: 224


1- مجمع الزوائد 39٫9.
2- الأنعام ٫ 38.
3- المائدة ٫ 3.

بحيث لا يرجى رفعه، كما أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يقل لهم أن مراده أن يكتب لهم الأحكام حتى يقال على ذلك: إنه يكفي فهمها من كتاب الله، ولو فرض أن مراد النبي (صلی الله علیه و آله) كان كتابة بعض الأحكام، فلعل النص على تلك الأحكام منه (صلی الله علیه و آله) سبب للأمن من الضلالة.

وعلى هذا لا وجه لقولهم: «حسبنا كتاب الله»، بل لو لم يكن فائدة النص إلا الأمن من الضلالة لكان مطلوباً جداً، ولا يصح تركه للاعتماد على أن الكتاب جامع لكل شيء، كيف والناس محتاجون إلى السنة أشد احتياج مع كون الكتاب جامعاً، وذلك لأن الكتاب وإن كان جامعاً إلا أنه لا يقدر كل أحد على الاستخراج منه. وما يمكن لهم استخراجه منه لا يقدر كل أحد استخراجه منه على وجه الصواب.

ولهذا فرض الله لرسوله البيان مع كون الكتاب جامعاً فقال تعالى النبيه : (ولِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم) (1)، ولاشك في أن استخراجه (صلی الله علیه و آله) من الكتاب على وجه الصواب يكفي ويغني في كونه نصاً مطلوباً لنا، لاسيما إذا أمرنا به، ولاسيما إذا وعد على ذلك الأمن من الضلال فما معنى قول حسبنا كتاب الله بعد ذلك (2) ؟

ص: 225


1- النحل ٫ 44 .
2- حاشية السندي على صحيح البخاري 33٫1 ، نقلاً عن معالم الفتن السعيد أيوب ٫ 260.

6_ماذا في القراءة الخلدونية؟

(1)

ليس من جديد عند ابن خلدون سوى التفافه على حديث الدواة والكتف بقفزة غير بارعة فطواه وطمس معالم الإدانة فيه في موضع من مقدمته فقال : - وهو يذكر أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بإحضار الدواة والقرطاس ليكتب (صلى الله عليه وآله) الوصية - : «وان عمر منع من ذلك» (!). ثم قال: «وما تدعيه الشيعة من وصيته لعلي (رضي الله عنه) وهو أمر لم يصح ولا نقله أحد من أئمة النقل.

والذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية وان عمر منع من ذلك، فدليل واضح على أنه لم يقع »(2).

ثم عاد في تاريخه فقال: «في مرضه (صلی الله علیه و آله) :ثم جمع أصحابه فرحب بهم وعيناه تدمعان ودعا لهم كثيراً وقال : (أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم واستخلفه عليكم، وأودعكم إليه إني لكم نذير وبشير ألا تعلوا على الله في بلاده وعباده فإنه قال لي ولكم و( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (3).

ص: 226


1- القراءة الخلدونية اسم الكتاب كان يدرس في الصف الأول من المدارس الابتدائية في العهد الملكي في العراق نسبة لمؤلفها أبو خلدون، وهزءاً بعقلية ابن خلدون في رأيه في المقام شبهنا ما لديه بما في القراءة الخلدونية.
2- مقدمة ابن خلدون ٫ 380 ط دار الكتاب اللبناني
3- القصص ٫ 83.

وقال : ( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ )(1)»

. ثم سألوه عن مغسله ؟ فقال: (الأدنون من أهلي).

وسألوه عن الكفن ؟ فقال : ( في ثيابي هذه أو بياض مصر أوحلة يمانية ) .

وسألوه عن الصلاة عليه ؟ فقال : (دعوني على سريري في بيتي على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة، حتى تصلي علي الملائكة، ثم ادخلوا فوجاً بعد فوج فصلوا وليبدأ رجال من أهل بيتي ثم نساؤهم).

وسألوه عمن يدخله القبر؟ فقال: (أهلي).

ثم قال: (إئتوني بدواة وقرطاس، اكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده) فتنازعوا وقال بعضهم: إنه يهجر، وقال بعضهم: أهجر ؟ يستفهم، ثم ذهبوا يعيدون عليه، ثم قال : (دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه). وأوصى بثلاث أن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأن يجيزوا الوفد كما كان يجيزهم. وسكت عن الثالثة أو نسيها الراوي، وأوصى بالأنصار فقال: (إنهم كرشي وعيلتي التي أويت إليها، فأكرموا كريمهم، وتجاوزوا عن مسيئهم، فقد اصبحتم يا معشر المهاجرين تزيدون والأنصار لا يزيدون). ثم قال: (سدوا هذه

ص: 227


1- العنكبوت ٫ 68 .

الأبواب في المسجد إلا باب أبي بكر فإنّي لا أعلم أمرءاً أفضل يداً عندي في الصحبة من أبي بكر ولو كنت متخذاً خليلاً لا تخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صحبة إخاء وإيمان حتى يجمعنا الله عنده).

ثم ثقل به الوجع واغمي عليه، فاجتمع إليه نساؤه وبنوه، وأهل بيته والعباس وعلي.

ثم حضر وقت الصلاه فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فقالت عائشة: «إنه رجل أسيف لا يستطيع أن يقوم مقامك فمر عمر». فامتنع عمر وصلّى أبو بكر، ووجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلّم خفة فخرج، فلما أحس به أبو بكر تأخر فجذبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأقامه مكانه، وقرأ من حيث انتهى أبو بكر ثم كان أبو بكر يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي بكر.

قيل صلوا كذلك سبع عشرة صلاة. وكان يدخل يده في القدح وهو في النزع فيمسح وجهه في الماء ويقول: (اللهم أعني على سكرات

الموت). فلما كان يوم الاثنين وهو يوم وفاته خرج إلى صلاة الصبح عاصباً رأسه، وأبو بكر يصلي فنكص عن صلاته ورده رسول الله (صلی الله علیه و آله) بيده صلّى قاعداً على يمينه ثم أقبل على الناس بعد الصلاة فوعظهم وذكرهم. ولما فرغ من كلامه قال له أبو بكر: «إني أراك قد أصبحت بنعمة الله وفضله كما تحب، وخرج إلى أهله في السنح، ودخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بيته فاضطجع في حجرة عائشة. ودخل عبد الرحمن بن

ص: 228

أبي بكر عليه وفي يده سواك أخضر فنظر إليه وعرفت عائشة أنه يريده قالت: «فمضغته حتى لان واعطيته إياه فاستن به ثم وضعه»، ثم ثقل في حجري(1)فذهبت أنظر في وجهه، فإذا بصره قد شخص وهو يقول: (الرفيق الأعلى من الجنة)، فعلمت أنه خير فاختار. وكانت تقول: قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين سحري ونحري وذلك نصف نهار يوم الاثنين لليلتين من شهر ربيع الأول ... » (2).

ص: 229


1- وابن خلدون حين يروي لنا حديث عائشة عن السواك الأخضر الذي بيد عبد الرحمن بن أبي بكر ومضغ عائشة له وأعطته للنبي فاستن به ثم وضعه ثم ثقل في حجرها ... الخ ولم يعقب عليه بشيء، وكأنه مصدق به، ومهما تباله الراوي واستغفل القارئ فلا يكاد يُصدق بأن إنساناً في حالة النزع يمكنه أخذ السواك ليستن به، وما أدري كيف غفل ابن خلدون أو تغافل عن ذكر تتمة معزوفة السواك الذي مضغته السيدة عائشة حين قالت - فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا ( سير أعلام النبلاء للذهبي 431٫1 نقلاً عن البخاري. وفي الهامش تخريجه عن مسلم في صحيحه، والقرطبي في تفسيره، والبيهقي في سننه الكبرى، والتبريزي في مشكاة المصابيح، والزبيدي في اتحاف السادة المتقين، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار، وابن حجر في فتح الباري فراجع موارد ذكرهم). وفي لفظ آخر : وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت (سير أعلام النبلاء 431٫1) نقلاً عن البخاري وفي الهامش مصادر تخريجه فراجع، ولعل الرجل كان على قدر من الحنكة أحس بأن ذكر الحبكة بجميع خيوطها سيكشف للقارئ عن زيفها جملة وتفصيلاً فطوى ما يثير عليه علائم الاستفهام.
2- تاریخ ابن خلدون 849٫2 ط دار الكتاب اللبناني

هذا ما أردنا نقله من قراءة ابن خلدون في مقدمته وتاريخه لنوقف القارئ على تخبطه في عرض ما جرى في مدة مرض النبي (صلی الله علیه و آله) ما الله حتى وفاته (صلی الله علیه و آله).

وكأنه قد جند نفسه لتكثيف حضور أبي بكر وآل أبي بكر. فأبو بكر فهم نعي النبي (صلی الله علیه و آله) نفسه حين قال : (ان عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده ، وفهمها أبو بكر فبكى فقال:« بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا» فقال: (على رسلك يا أبا بكر )؟

وأبو بكر يحظى ببقاء بابه شارعاً إلى المسجد وتغلق سائر الأبواب غير بابه ؟

وأبو بكر يؤمر بالصلاة دون غيره ؟ وأخيراً اضطجع النبي (صلی الله علیه و آله) في حجرة ابنة أبي بكر، وعبد الرحمن بن أبي بكر يدخل وفي يده سواك أخضر فينظر إليه النبي (صلی الله علیه و آله) وتعلم عائشة ابنة أبي بكر أنه يريده فتأخذه وتمضغه حتى لان وتعطيه فيستن به. وأخيراً توفي وهو في حجرها وبين سحرها ونحرها. فهذا الحضور المكثف لأبي بكر وآل أبي بكر يثير التساؤل عن عمل أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) وبقية نسائه أين كانوا وماذا كان في حضورهم ؟ في قراءة ابن خلدون؟

ألم يقرأ ابن خلدون حديث سلمان الفارسي قال: دخلت عليه - أي على النبي (صلی الله علیه و آله) - صبيحة يوم قبل اليوم الذي مات فيه فقال لي: (يا سلمان ألا تسأل عما كابدته الليلة من الألم والسهر أنا وعلي) فقلت

ص: 230

يارسول الله: ألا أسهر الليلة معك بدله ؟ فقال: (لا هو أحق بذلك منك) (1)» .

ألم يقرأ ابن خلدون حديث حذيفة قال: «كان علي أسند رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى ظهره فقلت لعلي هلم أراوحك؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ( هو أحق به ) (2) .

وإذا كان ابن خلدون لم يقرأ ذلك، فهل هو لم يقرأ حضور العباس وحديث اللدود (3) ؟ قال ابن أبي الحديد: «وقد وقع اتفاق المحدثين كلهم على ان العباس كان ملازماً للرسول (صلی الله علیه و آله) أيام مرضه في بيت عائشة وهذا لا ينكره أحد» (4) .

وهو لم يقرأ حديث مسارة النبي (صلی الله علیه و آله) لابنته فاطمة ؟ مرتين بكت في الأولى وضحكت في الثانية وهذا ما رواه الشيخان وغيرهما مما جل عن البيان (5).

ص: 231


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 591٫2 ط مصر الأولى.
2- ذخائر العقبي ٫ 95 ط القدسي.
3- سيرة ابن هشام تح السقا ورفاقه 225٫4 ، وطبقات ابن سعد 232٫2 وتاريخ الطبري 3٫ 188 - 189 و 195 وغيرها.
4- شرح النهج لابن أبي الحديد 591٫1 ط الأولى و 268٫10 ط محققة بمصر .
5- صحيح البخاري برقم 6285 و 6286، وصحيح مسلم برقم 2450 و 98٫2450 و 99٫2450 و سنن ابن ماجه ٫ 2621، ومسند أحمد 282٫6، وطبقات ابن سعد 2 ق ومشكل الآثار للطحاوي 48٫1، ومشكاة المصابيح للتبريزي ٫ 6129 ، وحلية أبي نعيم 40٫2 ، وغيرها .

وهو لم يقرأ حديث ابن عباس: «إنه خرج في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بعصابة دسماء ملتحفاً بملحفة على منكبيه فجلس على

المنبر وأوصى بالأنصار فكان آخر مجلس جلسه» (1).

وهو لم يقرأ حديث الفضل بن العباس: «وقال له النبي (صلی الله علیه و آله) : يا فضل شد هذه العصابة على رأسي فشدها ... الخ (2).

وهو لم يقرأ حديث أم الفضل قالت: «خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو عاصب رأسه في مرضه وصلى بنا المغرب فقرأ بالمرسلات، فما صلى بعدها حتى لقي الله تعالى (3).

وهو لم يقرأ حديث أم المؤمنين زينب : - وهي تقول لأصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) الذين لغطوا عندما أمر بإحضار الدواة وصحيفة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً. فقال عمر بن الخطاب من لفلانة وفلانة - مدائن الروم - إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليس بميت حتى نفتتحها ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى فقالت زينب زوج النبي (صلی الله علیه و آله) : ألا تسمعون النبي (صلی الله علیه و آله) يعهد اليكم فلغطوا فقال:

(قوموا)، فلما قاموا قبض النبي (صلی الله علیه و آله) مكانه (4) .

ص: 232


1- صحيح البخاري برقم 3799 و 3801 وغيره.
2- طبقات ابن سعد 2 ق 2 ٫ 45 .
3- مسند أحمد 91٫3
4- طبقات ابن سعد 2 ق 2٫ 38 ط لیدن.

وهو لم يقرأ حديث أم المؤمنين أم سلمة قالت: «والذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله (صلی الله علیه و آله) قالت عدنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) غداة بعد غداة يقول : جاء على - مراراً - قالت: وأظنه كان بعثه في حاجة قالت: فجاء بعد وظننت إن له عليه حاجة، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب فكنت من أدناهم إلى الباب، فأكب عليه علي فجعل يساره ويناجيه، ثم قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) من يومه ذلك فكان أقرب الناس به عهداً» (1).

وإذا كان ابن خلدون لم يقرأ كل ذلك، فهل يعقل أنه لم يقرأ ما روته عائشة وأخرجه البخاري عنها مكرراً وكلاهما عنده في المقام الأسمى من خروجه (صلی الله علیه و آله) متوكئاً على العباس ورجل - هو علي - ولكن عائشة لا تطيق لها نفس أن تذكره بخير وهي تستطيع كما قال

ابن عباس فيما رواه الطبري (2).

ألم يقرأ ابن خلدون هذا الحضور لعلي والعباس عند النبي (صلی الله علیه و آله) وقد خرج متوكئاً عليهما حين صلّى أبو بكر فنحاه وصلى هو (صلی الله علیه و آله) بالناس؟ أوليس هذا في صحيح البخاري وتاريخ الطبري وطبقات

ص: 233


1- مسند أحمد 6 ٫ 300 ، والخصائص للنسائي ٫ 40 ط التقدم، ومستدرك الحاكم 139-138٫3 ، وغيرها.
2- تاريخ الطبري 433٫2 ، صحيح البخاري 135٫1 باب إنما جعل الإمام ليؤتم به ... ط . بولاق.

ابن سعد، وابن خلدون قد رأى تلك الكتب جميعها وأخذ عنها خصوصاً عن كتاب الطبري الذي قال عنه - في ذكره أمر الجمل - اعتمدناه للوثوق به لسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة. ثم ما بال الناس الذين سألوه عن مغسله وكفنه والصلاة عليه وحتى عمن يدخله القبر، ما بالهم لم يسألوه عمن يتولى أمرهم من بعده؟

ثم ما باله (صلی الله علیه و آله) لم يقدم أبا بكر للصلاة عليه أولاً مادام قد أمر بتقديمه للصلاة بالمسلمين مكانه كما يروي ابن خلدون وغيره؟ ولندع ذكر ما في قراءة ابن خلدون من مثار التساؤل، ونعود إلى إنكاره الوصية للإمام كما مر عن مقدمته. وإلى إقراره بأن الذي منع من كتابة ذلك هو عمر، وما صرح به ثانياً بأن الذي منع قال: «إنّه يهجر» فتكون النتيجة ما سبق أن ذكرناه في ( ماذا قال عمر ؟) وأنه الذي قال: «ان الرجل ليهجر».

وأما كون النبي (صلی الله علیه و آله) لم يكتب الكتاب لمنع عمر ليس يعني أنه لم يكن قد أوصى علياً، فما نعى به على الشيعة في ذلك، وزعم أنه أمر لم يصح ولا نقله أحد من أئمة النقل. فنقول له إنه أمر صحيح ونقله جماعة من أئمة النقل.

ونحن لا نطيل الوقوف معه في سرد ما يستدل به الشيعة على وصاية علي عن النبي (صلی الله علیه و آله) إذ لم يكن دليلهم منحصراً بذلك الكتاب

ص: 234

الذي أراد (صلی الله علیه و آله) أن يكتبه ومنع عمر منه فلم يقع. فإن لديهم من الأدلة الأخرى والتي رووها عن مصادرهم ومصادر غيرهم وفي هذا القسم الثاني ما يرغم ابن خلدون على قبول أحاديثهم ففيها من صحاح قومه وسنتهم ومسانيدهم وتواريخهم، وفيها أحاديث دلت على أن علياً كان وصي رسول الله (صلی الله علیه و آله) (صلی الله علیه و آله) من قبل يوم الخميس يوم حديث الرزية، بل كان هو وصي رسول الله (صلی الله علیه و آله) من يوم بدء الدعوة كما في حديث الإنذار. وإليك بعض ما جاء في ذلك صريحاً بالوصية:

1_ قال (صلی الله علیه و آله): (إن هذا أخي ووصتي وخليفتي فيكم ) (1).

2_ قال (صلی الله علیه و آله): فأنت أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي ... ) (2).

فإذا كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) جعله وصياً واختاره أخاً ووزيراً ووصياً ووارثاً وخليفة من بعده منذ بدء الدعوة حتى سائر المشاهد بعد ذلك وفيها أكثر من شاهد، فما ذنب الشيعة إذا آمنوا بصحة ما رواه أسلافهم وأخلافهم، ووافقهم عليه سواهم من لم يمنعهم خلافهم.

ص: 235


1- أنظر تاريخ الطبري 216٫2 ط الحسينية، و 319٫2 ط دار المعارف، و 1172٫3 ط ليدن، وكنز العمال 392٫6 - 397 ط الأولى حيدر آباد، و 15 ٫ 100 ط الثانية حيدر آباد، نقلاً عن ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي كليهما في الدلائل.
2- أنظر السيرة الحلبية 286٫1 ط البهية عن ابن جرير والبغوي انهما رويا ذلك.

وحديث الوصية شائع ذائع هتف به الصحابه شعراً ونثراً، ولم ينكر عليهم أحد ذلك.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي - على ما يبالي - : "ومما رويناه من الشعر المقول في صدر الإسلام المتضمن كونه (علیه السلام) وصي رسول الله قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب :

ومنا علي ذاك صاحب خيبر وصاحب بدر يوم سالت كتائبه

وصي النبي المصطفى وابن عمه فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه

_ ثم استطرد يذكر أشعاراً الجماعة من الصحابة في ذلك منهم: عبد الرحمن بن جعيل، وأبو الهيثم بن التيهان - وكان بدرياً - وعمر بن حارثة الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وزياد بن لبيد الأنصاري، وحجر بن عدي الكندي، وخزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين - وكان بدرياً - وابن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعمرو بن أحيحة، وزحر بن قيس الجعفي ... - وقال بعد ذكر أشعار هؤلاء العشرة - ذكر هذه الأشعار والأراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن يحيى في كتاب وقعة الجمل، وأبو مخنف من المحدثين وممن يرى صحة الإمامة بالاختيار، وليس من الشيعة ولا معدوداً من رجالها ثم قال:

و ما رويناه من أشعار صفين التي تتضمن من تسميته (علیه السلام) بالوصي ما ذكره نصر بن مزاحم بن يسار المنقري في كتاب وقعة صفين وهو من رجال الحديث، ثم ذكر أشعاراً وأراجيز لكل من الإمام أمير

ص: 236

المؤمنين نفسه، وللأشعث بن قيس، وزحر بن قيس أيضاً، وجرير بن عبد الله البجلي، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وعبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي، والمغيرة بن الحرث بن عبد المطلب وأخيراً قول صاحبنا عبد الله بن عباس حبر الأمة :

وصي رسول الله من دون أهله وفارسه إن قيل هل من منازل

فدونكه إن كنت تبغي مهاجرا أشم كنصل السيف غير حلاحل

_ثم ختم ابن الحديد ذلك بقوله : - والأشعار التي تتضمن هذه اللفظة كثيرة جداً، ولكنا ذكرنا منها ههنا بعض ما قيل في هذين الحربين - يعني الجمل وصفين - فأما ما عداهما فإنه يجل عن الحصر، ويعظم عن الإحصاء والعد ولولا خوف الملالة والإضجار، لذكرنا من ذلك ما يملأ أوراقاً كثيرة ... اه-» (1).

ولنعم ما استدل به عبد الرزاق الصنعاني صاحب المصنف فقد ذكر فيه بسنده عن معمر عن قتادة أن علياً قضى عن النبي (صلی الله علیه و آله) أشياء بعد وفاته كان عامتها عدة. قال : حسبت أنه قال خمس مائة ألف.

قال عبد الرزاق: يعني دراهم.

ص: 237


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 47٫1 ط الأولى بمصر. وقد ترجم المرحوم السيد هاشم البحراني في كتابه التحفة البهية طائفة من أقوال قدماء الشعراء المتضمنة ان أمير المؤمنين (علیه السلام) وصي النبي (صلی الله علیه و آله) فناهزت التسعين، وما فاته منهم ومن أشعار المحدثين أضعاف ذلك.

قلنا لعبد الرزاق وكيف قضى النبي (صلی الله علیه و آله) وأوصى إليه النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك ؟

قال: نعم لا أشك أن النبي (صلی الله علیه و آله) أوصى إلى علي، فلولا ذلك ما تركوه أن يقضي (1).

فبعد هذا كيف يستنكر ابن خلدون ما تدعيه الشيعة من وصية النبي (صلی الله علیه و آله) العلي (علیه السلام) ومادام هو نفسه اعترف بأن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر بإحضار دواة وقرطاس ليكتب لأمته كتاباً لن يضلوا بعده أبداً، واعترف أيضاً بأن عمر هو الذي منع، واعترف بأن بعضهم - المانعين - قال: (إنه يهجر). ولم يكن ذلك إلا عمر. فما دام ابن خلدون اعترف بجميع ذلك عليه أن يذعن بصحة ما تدعيه الشيعة، لأن ذلك ورد في اعترافات عمر، كما ذكرنا في (عمريون أكثر من عمر ).

فقد اعترف لابن عباس حبر الأمة - في حديث بينهما حول الإمام والخلافة - :« ولقد أراد - رسول الله (صلی الله علیه و آله) - أن يصرح باسمه - يعني

علياً - فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام».

وقال مرة أخرى في محاورة بينهما في الموضوع نفسه: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أراد ذلك وأراد الله غيره فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله»؟!

وقال في مرة ثالثة: لقد كان من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذروا من قول

ص: 238


1- أنظر المصنف لعبد الرزاق 294٫7

لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً».

إلى آخر ما هنالك من اعترافات خطيرة ذكرناها هناك فليرجع إليها من شاء.

والذي يلفت النظر في القراءة الخلدونية التصريح بأن النبي (صلی الله علیه و آله) هو الذي عين قبره في بيته فقال : (دعوني على سريري في بيتي على شفير قبري)، فهو لم يترك ذلك مجهولاً حتى يحار أهل البيت في مكان دفنه فينقذهم من الخيرة أبو بكر بتعيين المكان كما يحلو رواية ذلك للبكريين، كما أن في تصريحه ذلك أيضاً نفياً لمن زعم أن البيت هو العائشة بل هو بيت النبي (صلی الله علیه و آله) وإنما لها حجرتها فيه.

ومهما قيل عن فهم ابن خلدون في الاجتماع وفلسفة التاريخ فهو غير بارع في التحوير ولا صادق في النقل، ولا أمين في العرض، كما رأيناه فيما مر من خلط عنده وخبط مما لا يخفى على القارئ النبيه.

وإن لم يكن هو بدعاً في ذلك فقد رأينا قبله من وافق ابن خلدون في هواه ومن بعده من شايعه على دعواه، وذلك هو الشهاب الخفاجي الذي بهت الشيعة كما بهتهم ابن خلدون، فقال: «وقد ادعى الرافضة أن الكتاب الذي أراد النبي (صلى الله عليه وآله) وسلّم كتابته كان فيه الوصية بخلافة علي، فلذا منع منه عمر. وهو كذب منهم عليه» (1).

ص: 239


1- نسيم الرياض بشرح الشفاء للقاضي عياض للشهاب الخفاجي 284٫4 ط أو فست دار الكتاب العربي بيروت.

وبقيت تهمته للشيعة بوضع حديث الرزية منطوقاً ومفهوماً حتى الأمس القريب. ألم يقل محمد عزة دروزة في كتابه (تاريخ العرب في الإسلام تحت راية الخلفاء الراشدين): «ونحن لا نستبعد أن تكون الرواية من مصنوعات الشيعة المتأخرين» (1).

أقول: ونحن قد ذكرنا مصادر الرواية وعرضنا أسماء الرواة حسب القرون ولم نذكر فيهم من الشيعة أحداً، فهل كل أولئك الحفاظ كانوا في غفلة عما رآه دروزة أو أنها منه طعنة الهمزة اللمزة!

والرجل بالرغم من كثرة كتبه التأريخية لا أراه إلا راجلاً في تمييز أحداث التاريخ، ولست متجنياً عليه، فهنا يقرأ له قوله بعد ذكر رواية الطبري في إجبار أمير المؤمنين على البيعة لأبي بكر: «ونرجح أن هذا (2) الخبر مصنوع مدسوس من الشيعة »، و (2)، ولم يزل : يرسل في غير سدد، حتى جعل رواية أبي بكر في مطالبة الزهراء (علیه السلام) بفدك فروى لها "إنا لا نورث ما تركناه صدقة، هي نهاية الخصام وبها انقطع الكلام، ولعله يحاول من طرف خفي إشارة إلى الوئام فقال : ويكون ما عدا ذلك من مزيدات الشيعة ومدسوساتهم» (3).

وكم له ولغيره من تهم بهتوا بها الشيعة، ومرت نحو هذه النغمة

ص: 240


1- تاريخ العرب في الإسلام تحت راية الخلفاء الراشدين ٫ 16 - 17 .
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر.

عن غيره، ومهما يكن فالجواب على بهتانه يعلم مما مر في رد ابن خلدون وبطلانه ومما مر فيما سبق من بيان ماذا أراد أن يكتبه النبي (صلی الله علیه و آله) ، فراجع.

ثم إن من الغريب من ابن خلدون وأضرابه من الناصبة ذكرهم القول عائشة: «مات بين سحري ونحري»، من دون أي تعليق عليه، أو توجيه له، مع أنها لما حدثت به من سألها عن مرض النبي (صلی الله علیه و آله) وجاء السائل فذكر ذلك لحبر الأمة عبد الله بن عباس فاستنكر عليه قولها وأبى تصديقها في زعمها، فقال له:« أتعقل والله لتوفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإنه لمستند إلى صدر على» (1) ، وفي حديث ثان رواه الطبراني عن ابن عباس قال:« جاء ملك الموت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي قبض فيه فأستأذن ورأسه في حجر علي »(2).

وفي حديث ثالث عن ابن عباس أيضاً: «ان النبي (صلی الله علیه و آله) ثقل وعنده عائشة وحفصة إذ دخل علي فلما رآه النبي (صلی الله علیه و آله) رفع رأسه ثم قال أدن مني أدن مني فأسنده إليه فلم يزل عنده حتى توفي »(3).

فهذا يعني أن قول عائشة لم يكن متفقاً على صحته بل هو مرفوض من قبل حبر الأمة عبد الله بن عباس وهو من أهل البيت

ص: 241


1- طبقات ابن سعد 2 ق 2 ط لیدن.
2- مجمع الزوائد 35٫9
3- نفس المصدر 36٫9.

الذين كانوا عند النبي (صلی الله علیه و آله) حين الوفاة، فكان على من يقول بقول عائشة معالجة ما ورد عن ابن عباس في رفضه، وليعلم القارئ أنه لم يكن ابن عباس وحده يرفض ذلك فعن أم سلمة ورد مثل ذلك كما مر (1) وعن عمر ما يؤيده أيضاً(2).

أيهما الشفيق الرفيق النبي (صلی الله علیه و آله) أم عمر؟

اشارة

لقد مرت بنا كلمة عمر - مراراً -« فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام؟» كما مر في أقوال علماء التبرير ان ذلك اشفاقاً منه على النبي (صلی الله علیه و آله) ومرت كلمته الأخرى: «أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددت عنه خوفاً من الفتنة»، وليس فيها من الشفقة شيء، وقد استوجب ذلك علينا أن نعمل الموازنة في الشفقة على المسلمين والرفق بهم بين الرسول الكريم الأمين (صلی الله علیه و آله) ،وبين عمر.

وإنها من سخرية القدر واحدى الكبر، ولكن فرضها علينا أبناء عمر ورددها الببغائيون فلا ضير ولا جير في ذلك :

ص: 242


1- مسند أحمد 6 ٫ 300 ط مصر الأولى، والخصائص للنسائي ٫ 40 ط التقدم بمصر، ومستدرك الحاكم 3٫ 138 - 139 ، والرياض النضرة 180٫2 ط الخانجي، وذخائر العقبى ٫ 72 ط القدسي، ومجمع الزوائد 112٫9، وتذكرة الخواص ٫ 47 ط الغري.
2- طبقات ابن سعد 2 ق 51٫2

فالرسول الكريم (صلی الله علیه و آله) الذي وصفه الله تعالى بقوله: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم)(1) ، وقال فيه تعالى مخاطباً المؤمنين: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (2)، فهل بعد هذا من مجال للقول؟ أم هل يكون من المقبول والمعقول أن لا يكون شفيقاً رفيقاً بالمؤمنين ويكون عمر هو الشفيق الرفيق فيحتاط على الإسلام ويخاف الفتنة ؟!

سبحانك اللهم إن هذا إلا بهتان عظيم. وإشفاق عمر على من؟ أعلى النبي (صلی الله علیه و آله) وقد صدمه بكلمته حتى أغمي عليه ! أم على المسلمين وقد أضاع عليهم نعمة الاعتصام من الضلالة بالكتاب؟ وكيف يصدق ذلك إنسان في مثل عمر الذي كان في أخلاقه وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة - كما وصفه ابن أبي الحديد - وهو ممن لا يتهم عليه (3) فهل يصدق في زعمه ؟ اشفاقاً وحيطة على الإسلام؟

وعمر هو الذي قال فيه الصحابة لأبي بكر حين أراد استخلافه عليهم بعده: «تستخلف علينا فظاً غليظاً، فلو قد ولينا كان أفظ وأغلظ فما تقول لربك إذا لقيته » (4) .

ص: 243


1- القلم ٫ 4 .
2- التوبة ٫ 128.
3- شرح النهج لابن أبي الحديد 183٫1 ط محققة.
4- كنز العمال 136٫3 ط الأولى.

وعمر هو الذي خطب في الناس فقال:« بلغني ان الناس قد ها بوا شدتي، وخافوا غلظتي، قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله (صلی الله علیه و آله) بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر (رضي الله عنه) والينا دونه، فكيف الآن وقد صارت الأمور إليه. ولعمري من قال ذلك فقد صدق» (1).

وهو الذي وصف الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في خطبته الشقشقية أيامه وطبيعته في الحكم فليرجع إليها ليقرأ قوله (علیه السلام) :« .... حتى مضى الأول - يعني أبا بكر - لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده، ثم تمثل بقول الأعشى:

شتان ما يومي على كورها ويوم حيان أخي جابر

فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء، يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس، وتلوّن واعتراض ...... »

أهكذا إنسان يمكن أن يوصف بأن ما صدر منه بتلك الغلظة والشدة، ونبو الكلمة وجفوة اللهجة، كان منه ذلك إشفاقاً وحيطة وخوف الفتنة !!

ص: 244


1- أنظر حياة الحيوان للدميري 49٫1.

والرسول الصادق الأمين الذي يسدده الوحي ( وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الهوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (1) ، ويقول لأمته: (ائتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً) ليس شفيقاً على أمته !؟ وعمر بمنعه يكون منه اشفاقاً وحيطة على الإسلام؟!

ولا مجال لأن يكونا معاً شفيقين لتعارضهما في مورد الشفقة، وهكذا تضيع المقاييس عند ضياع العقول في متاهات الهوى، فما ذكر من تعليل زعم الشفقة من عمر تعليل عليل، وليس هو بمقبول، حتى لدى السذج وبسطاء العقول، فضلاً عن النابهين والباحثين من العلماء الواعين.

عملية التزوير من أنحاء التبرير :

لما كان حديث الكتف والدواة واضح الدلالة على أن المراد منه كان هو تأكيد النص على ولاية علي (علیه السلام) ولذلك منع منه عمر كما اعترف هو بذلك، وقد مر ذكره والإشارة إليه مراراً. وكذلك فهمه من تابعه على منعه .

ولكن تعرض للمسخ والتشويه والتشكيك ولم يسلم من زبانية الوضاعين، ويزيد القارئ إيماناً بأنهم فهموا ذلك منه، ما تشبث به

رواة السوء وسجلته الأقلام المشبوهة تشويهاً للحقيقة، وإمعاناً في

ص: 245


1- النجم ٫ 3 - 4 .

غثيثة التزوير حيث انبرى فريق منهم إلى مسخ أصل الحديث وتحوير نصه، بعد ان عجزوا في تبرير ما قاله عمر وما ساقوه من أعذار تافهة. فذكروا ان الحديث كان لصالح أبي بكر، فرووا في ذلك عن عائشة وعن أخيها عبد الرحمن.

فقد أخرج مسلم وأحمد والبغوي وغيرهم عن عائشة قالت: «قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي مات فيه: (ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه أحد). ثم قال: (معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر )» (1).

وأخرج ابن عساكر كما نقله عنه المتقي في كنز العمال عن عبد الرحمن ابن أبي بكر عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (ائتني بدواة وكتف أكتب كتاباً لا تضلوا بعده أبداً). ثم قال : (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ) (2) .

ص: 246


1- وروى نحو هذا الحديث كثير من المؤلفين في الحديث والتاريخ فراجع مصابيح السنة للبغوي 194٫2 ، وصواعق ابن حجر ٫ 13، ومشكاة المصابيح 220٫3، وشرح مشارق الأنوار لابن الملك 258٫2، وبهجة المحافل للعامري، وشرح البهجة للأشخر اليماني، ونور الأبصار للشبلنجي، وقد مر اعتماد ابن حزم في كتابه الأحكام 123٫7 على هذا الحديث في حل ما استشكل عليه من حديث أبن عباس في حديث الرزية، ومر منا التعقيب عليه في أقوال علماء التبرير.
2- تهذیب تاریخ ابن عساکر 139٫3 ، ومنهاج السنة لابن تيمية 3٫ 135 ط الأولى. وغير ذلك.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج :«وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه (صلی الله علیه و آله) في مرضه : ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبداً)، فاختلفوا عنده، وقال قوم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله »(1).

وفي قول هذا المعتزلي وهو غير متهم على الوضاعين البكريين وهو من علماء التبرير أيضاً. ما يغني عن التعليق على ما في الحديثين من نظر، وفيه ما يكفينا للتدليل على كذب الحديثين.

ففي آخر الحديث الأول : (معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر) وهذا ما قد وقع في السقيفة وخارجها، وتخلف عن بيعته أمير المؤمنين (علیه السلام) ومعه بنو هاشم وتخلف عنها سعد بن عبادة ومن معه من الأنصار وتخلف عنها سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وبريدة و و و فهل يجرؤ أحد ان يقول هؤلاء جميعاً ليسوا من المؤمنين - والعياذ بالله - معاذ الله أن يقول ذلك أحد، كيف وهم من خيرة المؤمنين وفيهم أول المؤمنين إيماناً وهو على (علیه السلام) .

فمعاذ الله أيضاً أن يكون النبي (صلی الله علیه و آله) قال كذلك.

واعطف على ذلك ما جاء في الحديث الثاني: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، فقد أبى ذلك حين تخلف عنه من ذكرنا واختلفوا فيه، فأين ما نسب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) من قوله : ( يأبى الله)، والذي وقع خارجاً

ص: 247


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 17٫3 ط الأولى.

يثبت أنه تعالى لم يأب ذلك، وأن المؤمنين أيضاً لم يأبوا ذلك حين تخلفوا عنه واختلفوا فيه.

قال الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه: «ولا شك أن الوضع ظاهر في هذا الحديث وانه أريد به معارضته حديث الشيعة في أمر كتاب النبي (صلی الله علیه و آله) الذي ينسب إلى عمر أنه منعه، ولو صح كتاب النبي (صلی الله علیه و آله) إلى أبي بكر لكان نصاً جلياً لأبي بكر، وهو مالم يقل به جمهور المسلمين، ثم لم يطلب النبي أن يكتب الكتاب ثم يعدل عنه؟ ولم يثبت ان عائشة دعت أباها ولا أخاها وما أحرصها على دعوتها في أمر جليل

كهذا ... اه-ه»(1).

سبحان الله حديث الدواة والكتف الذي ترويه كتب الصحاح والمسانيد والتاريخ والسير من جميع المسلمين، يقول عنه الدكتور: (حديث الشيعة)؟ وحديث عائشة الذي لا يشك هو بوضعه يقول لو لكان نصاً جلياً لأبي بكر ؟ وهو . مالم يقل به جمهور المسلمين؟ ولعله لم يقف على قول ابن حزم في الفصل: «فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده ...» (2) وهكذا تبقى ازدواجية المعايير عند المحدثين كما كانت عند السابقين. ونعود لحديث عائشة وحديث عبد الرحمن فنقول: ولو كان

ص: 248


1- نظرية الإمامة لدى الشيعة الإثني عشرية ٫ 236 ط دار المعارف بمصر.
2- الفصل 4 ٫ 108

للحديث أدنى نصيب من الصحة لأظهراه عند حاجة أبيهما إلى أدنى دعم في أحرج وقت، فلماذا كتماه وهما ولداه.

ولا يبعد - كما أرى - أن الحديثين كانا في بطن الريب، ولم ينزلا من ظهر الغيب. ولم يولدا إلا بعد حين من الدهر، ولم يكونا من قبل شيئاً مذكوراً، لكن صرار معاوية وتعاون الحاقدين على الإمام معه اختلق كثيراً من نحو ذلك.

محاولات بائسة يائسة :

لقد كان حديث الكتف والدواة واضح الدلالة على المراد من كتابته، وهو تأكيد النص - تحريرياً - على خلافة الإمام علي (علیه السلام) وهذا هو الذي فهمه الحاضرون، ومنهم عمر لذلك منع منه، وقد مرت بنا في أجوبة التساؤلات الأربعة إثبات ذلك فلا حاجة إلى إعادته. ولما كان الحديث المذكور أقض مضاجع كثير من القائلين بخلافة أبي بكر، فبذلوا جهداً جهيداً وأصروا عناداً على التماس مخرج من المأزق الذي أوقعهم فيه الحديث المذكور. فقالوا وقالوا وقد مرت بنا نماذج من ذلك في أقوال علماء التبرير.

وأظن ان القارئ على ذكر من مقالة ابن حزم الظاهري الذي ذكر الحديث ثم عقب قائلاً :

«هذه زلة العالم التي حذر منها الناس قديماً، وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الاختلاف وتضل طائفة وتهتدي بهدى الله

ص: 249

أخرى، فلذلك وافق عمر ومن وافقه بما نطقوا به، مما كان سبباً إلى حرمان الخير بالكتاب الذي لو كتبه لم يضل بعده.

ولم يزل أمر هذا الحديث مهماً لنا، وشجى في نفوسنا، وغصة نتألم لها، وكنا على يقين من الله تعالى لا يدع الكتاب الذي أراد نبيه (صلى الله عليه وآله) وسلم أن يكتبه فلن يضل من بعده دون بيان، ليحيا - كذا من حي عن بينة، إلى أن من الله تعالى بأن أوجدناه فانجلت الكربة والله المحمود» (1).

ثم ذكر ما انجلت به عنده الكربة وذلك ماروته عائشة وعبد الرحمن ابنا أبي بكر لصالح أبيهما وقد مر ذكرهما قريباً في التلاعب الرخيص، كما ذكرنا أوجه الخلل فيهما في التعقيب على ما قاله ابن حزم، وفي التلاعب الرخيص، وليس يعنينا ذلك.

لكن هلم الخطب فيمن زاد على ابن حزم في حزمته، وأفرغ كل ما في جعبته من سهام مسمومة لأسباب معلومة، ذلك هو ابن كثير الشامي الذي أغرب وأسهب، وشرق وغرب فهو ذكر في سيرته حديث الكتف والدواة نقلاً عن البخاري ومسلم ثم عقب قائلاً: وهذا الحديث مما قد توهم به بعض الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم، كل مدع أنه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم، وهذا هو التمسك بالمتشابه وترك المحكم.

ص: 250


1- الإحكام في أصول الأحكام 122٫7

وأهل السنة يأخذون بالمحكم ويردون المتشابه إليه، وهذه طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله (عز وجل) في كتابه. وهذا الموضع مما زل فيه أقدام كثير من أهل الضلالات، وأما أهل السنة فليس لهم مذهب إلا اتباع الحق يدورون معه كيفما دار.

وهذا الذي كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتبه قد جاء في الأحاديث الصحيحة بالتصريح بكشف المراد منه.

فإنه قد قال الإمام أحمد: ثم ذكر حديث عائشة» (1).

كشف جديد في رواية الحديث عن عكرمة:

لقد مر في صور الحديث رواية عكرمة لأربع من صوره، وهي على ما بينها من تفاوت الألفاظ الذي قد تحمل عبأه الرواة عنه، لكن القاسم المشترك بينها يوحي بأن حديث الكتف والدواة، كان يوم الاثنين اليوم الذي مات فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) (الصورة 17 و 18 و 19 و 20).

وهذا كشف جديد لم يسبق إليه غير عكرمة، ولما كان احتمال أن يكون النبي (صلی الله علیه و آله) دعا بكتابة الكتاب مرتين، مرة في يوم الخميس في مرضه قبل وفاته بأربعة أيام، ومرة أخرى في يوم الاثنين يوم وفاته، احتمال مستبعد جداً، لأنه (صلی الله علیه و آله) لما كان في دعوته يوم الخميس لم يلق

ص: 251


1- أنظر البداية والنهاية 4٫ 450 - 451 .

استجابة مرضية، بل سمع كلمة نابية جافية، لماذا يكرر الطلب ثانياً وهو القائل لمن سأله في يوم الخميس بعد طرد المنازعين: أنأتيك بالذي طلبت فقال أو بعد ماذا؟ (الصورة (18).

وفي رواية عكرمة (الصورة 18): ثم أتوه بالصحيفة والدواة فقال: (بعد ما قال قائلكم ما قال ؟ فمن أبى أن يكتب بعد الذي سمعه من عمر، كيف يستدعي مرة أخرى بإحضار الدواة والكتف ليسمع عين الجواب الأول منه أيضاً ؟

فما ورد في روايات عكرمة في المقام لا يخلو من نظر، خصوصاً وان عكرمة كان كذاباً وقد كذب على ابن عباس حتى حبسه علي بن

عبد الله بن عباس على باب الكنيف فقيل له فيه: فقال: «أنه يكذب على أبي» (1)، وأمره في الكذب مشهور، حتى أن ابن عمر قال لمولاه سالم: «اياك أن تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس» (2).

فالصحيح ما عليه بقية الرواة عن ابن عباس (رضي الله عنه) من ان الحديث كان يوم الخميس.

ما هي الوصية الثالثة؟

سؤال فرضته صورة الحديث التاسعة، المروية عن طريق سفيان

ص: 252


1- سير أعلام النبلاء 512٫5 ط دار الفكر.
2- نفس المصدر.

بن عيينة عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رضي الله عنه) بأشكالها المختلفة.

ولما كانت تلك الصورة - كما قلنا عندها - تكاد ينعدم عندها وضوح الرؤية، لاختلاف الرواة عن سفيان إلى نحو من خمس عشرة رواية، يمكن أن تكون كل رواية صورة بحد ذاتها. ومهما كان الاختلاف بين الرواة عن سفيان، فثمة أمر بالغ الأهمية يرويه سفيان عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وذلك ان النبي (صلی الله علیه و آله) بعد أن طرد المنازعين له المشاقين أمره: قال أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وسكت عن الثالثة عمداً أو قال: فنسيتها ؟

هذه الوصايا الثلاث لم ترد مسندة عن غير طريق سفيان بن عيينة، وإن وردت مرسلة كما في الصورتين (21 - 23).

ثم ما ورد عن طريق سفيان فيه غمغمة في تعيين الثالثة، فمن هو الذي غص بريقه فلم يفصح بها، ولابد من عرض نماذج لما ورد عسى أن نستشف كنه الوصية الثالثة التي شق على الراوي الإفصاح بها لأي غرض كان :

1_ أوصى بثلاث أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد... وسكت عن الثالثة عمداً، أو قال فنسيتها ( وهذا ما رواه يحيى بن آدم وأحمد بن حماد عن سفيان).

ص: 253

فيا ترى من هو الذي سكت عمداً؟ أهو رسول الله (صلی الله علیه و آله) -وحاشاه - لماذا أراد أن يوصي بها ؟ ولماذا سكت عنها ؟ فإن كان هو لماذا لم يستفهموه عنها ؟ أهو ابن عباس ؟ فلماذا حدث بها؟ ولماذا سكت عنها ؟ أهو سعيد بن جبير الراوي عنه ؟ أهو سليمان الأحول، أهو سفيان؟ سؤال بعد سؤال. يطول بذلك المقام والمقال. والجواب على احتمال أن يكون الرسول (صلی الله علیه و آله) أو من ذكرنا أسماءهم هو الذي سكت عنها يدفعه ما يأتي من قول سفيان إن هذا من قول سليمان. إذن لماذا اختلف الرواة في النقل عن سفيان في ذلك، فقد جاء: «ونسيت الثالثة» كما في رواية قبيصة عن سفيان.

وجاء: «والثالثة خير، إما أنه سكت عنها، واما ان قال فنسيتها كما في رواية محمد بن سلام عن سفيان، وجاء في هذه الرواية قال سفیان هذا من قول سليمان.

وجاء: «فإما أن يكون سعيد سكت عن الثالثة عمداً، وإما أن يكون قالها فنسيتها كما في رواية عبد الرزاق عن سفيان أنه قال الخ .... وجاء: «قال ابن عباس وسكت عن الثالثة أو قال: فأنسيتها كما في رواية سعيد بن منصور عن سفيان برواية سنن أبي داود في المتن. وجاء في رواية في هامش سنن أبي داود: «قال الحميدي عن سفیان قال سليمان: لا أدري أذكر سعيد الثالثة فنسيتها أو سكت عنها. »

ص: 254

إلى غير ذلك من تهويش وتشويش لتضييع الوصية الثالثة. ولكن الباحث المجد والقارئ الواعي لا يخفى عليه ما وراء الأكمة، فقد ورد في رواية أبان بن عثمان عن بعض أصحابه - وذكر حديث الدواة والصحيفة - وقد مرّ بلفظه في (الصورة 21) وفيها فدعا العباس بصحيفة ودواة فقال بعض من حضر : «ان النبي يهجر» ثم أفاق النبي (صلی الله علیه و آله) فقال له العباس: «هذه صحيفة ودواة قد اتينا بها يارسول الله فقال: (بعد ما قال قائلكم ما قال) ثم أقبل عليهم وقال: احفظوني في أهل بيتي واستوصوا بأهل الذمة خيراً، وأطعموا المساكين، واكثروا من الصلاة، واستوصوا بما ملكت أيمانكم - وجعل يردد ذلك 5_ وإني لأعلم أن منكم ناقض عهدي، والباغي على أهل بيتي).

فتبين أن الثالثة هي الوصية بأهل بيته فهي التي تغص بها النفوس فلا تطيق ذكرها أما لنصب أو من خوف الحاكمين، وإذا عرفنا ان الساكت هو سليمان الأحول - وهو صاحب القول: «أو فنسيتها» - عرفنا ان الرجل كان في أيام الحجاج الذي كان يطارد سعيد بن جبير حتى القي القبض عليه وهو عائذ بمكة، فلعله كان معه بمكة مختفياً، أما الوصايا الأخر فليس فيها ما يدعو للسكوت عنها أو زعم نسيانها. ولشراح الحديث حول تفسير ونسيت الثالثة تشريق وتغريب، فمنهم من رأى انها تجهيز جيش أسامة، ومنهم من قال: «يحتمل انها

ص: 255

قوله (صلی الله علیه و آله) : (لا تتخذوا قبري وثنا)».

إلى غير ذلك مما لا يقره المنطق، فإن كل ما ذكروه ليس فيه ما يستدعي الكتمان والتحايل عليه، وما ذلك إلا استهجان بالعقول الواعية.

والذي يؤكد ما نذهب إليه شهادة ثلاثة من الصحابة أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان آخر ما تكلم به هو الوصية بأهل بيته كما قال ابن عمر :

1_ فقد قال ابن حجر في صواعقه نقلاً عن الطبراني عن ابن عمر: «إن آخر ما تكلم به النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم: (اخلفوني في أهل بيتي)» (1) .

2،3_وأخرج التابعي الجليل سليم بن قيس الهلالي في كتابه السقيفة قال: «قلت: لعبد الله بن العباس - وجابر بن عبد الله الأنصاري إلى جنبه - : شهدت النبي عند موته؟ قال: نعم، لما ثقل رسول الله (صلی الله علیه و آله) جمع كل محتلم من بني عبد المطلب وامرأة وصبي قد عقل، فجمعهم جميعاً فلم يدخل معهم غيرهم إلا الزبير - فإنما دخل لمكان صفية - وعمرو بن أبي سلمة (2) وأسامة بن زيد. ثم قال (3) : إنما هؤلاء الثلاثة منا أهل البيت أسامة مولانا ومنا، وقد كان رسول

ص: 256


1- الصواعق المحرقة ٫ 89 - 90 .
2- أمه أم المؤمنين أم سلمة.
3- القائل هو ابن عباس

الله (صلی الله علیه و آله) استعمله على جيش وعقد له - وفي ذلك الجيش أبوبكر وعمر، فقال كل واحد منهما لا ينتهي أمره - يعني النبي (صلی الله علیه و آله) فإنه يستعمل علينا هذا الصبي - فاستأذن أسامة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليودعه ويسلم عليه، فوافق ذاك اجتماع بني هاشم فدخل معهم، واستأذن أبو بكر وعمر وأسامة ليسلمها على النبي (صلی الله علیه و آله) فأذن لهما .

فلما دخل أسامة معنا - وكان من أوسط بني هاشم، وكان شديد الحب له - فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لنسائه: قمن عني فأخلينني وأهل بيتي، فقمن كلهن إلا عائشة وحفصة، فنظر إليهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: (أخلياني وأهل بيتي)، فقامت عائشة آخذة بيد حفصة وهي تذمر غضباً وتقول : قد أخليناك وإياهم، فدخلتا بيتاً من خشب.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (يا أخي أقعدني)، فأقعده علي الله وأسنده إلى نحره.

فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:( يا بني عبد المطلب اتقوا الله واعبدوه، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ولا تختلفوا، ان الإسلام بني على خمس على الولاية، والصلاة والزكاة، وصوم رمضان، والحج، فأما الولاية فلله ولرسوله وللمؤمنين الذين يؤتون الزكاة وهم راكعون ، (وَمَنْ يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهَ

هُمُ الْغَالِبُونَ )(1).

ص: 257


1- المائدة ٫ 56 .

قال ابن عباس: فجاء سلمان والمقداد وأبو ذر، فأذن لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع بني عبد المطلب فقال سلمان: يا رسول الله للمؤمنين عامة؟ أو خاصة لبعضهم؟ يعني الولاية. قال: بل خاصة لبعضهم الذين قرنهم الله بنفسه ورسوله في غير آية من القرآن. قال: من هم؟ قال: أولهم وأفضلهم وخيرهم هذا أخي علي بن أبي طالب - ووضع يده على رأس علي (علیه السلام) - ثم ابني هذا من بعده - ووضع يده على رأس الحسن بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) - ثم ابني هذا من بعده - ووضع يده على رأس الحسين (علیه السلام) - والأوصياء تسعة من ولد الحسين واحداً بعد واحد، حبل الله المتين وعروته الوثقى، هم حجة الله على خلقه، وشهداؤه في أرضه من أطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله وعصاني هم مع الكتاب والكتاب معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه حتى يردوا على الحوض)»(1).

فهؤلاء الثلاثة من الصحابة شهد اثنان منهم - وهما ابن عباس صلى الله وابن عمر - بالوصية بأهل البيت كانت آخر وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) عند موته وشهادة الثالث - وهو جابر بن عبد الله - كانت بتقريره صحة شهادة ابن عباس (رضي الله عنهما).

وأوضح مما تقدم صورة وأفصح دلالة ما رواه الطبرسي (2) عن

ص: 258


1- السقيفة ٫ 905 - 906 تح الأنصاري نشر الهادي.
2- اعلام الورى للطبرسي : 2 ٫ 164 ، ط مؤسسة آل البيت (علیه السلام) قم.

عبدالله بن عباس قال: سألت النبي (صلی الله علیه و آله) حين حضور وفاته فقلت: إذا كان ما نعوذ بالله منه فإلى من؟ فأشار إلى علي وقال: «إلى هذا فإنه مع الحق والحق معه، ثم يكون من بعده أحد عشر إماماً مفترضة طاعتهم كطاعته ».

تدخل العنصر النسوي في النزاع :

لقد مرت بنا صور الحديث، وقرأنا فيها ما يشجي النفوس وقرأنا في خمس منها تدخل العنصر النسوي عندما وقع الخلاف على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووقع التنازع بين الصحابة، فمنهم القائل قربوا الرسول الله (صلی الله علیه و آله) يكتب ما أراد، ومنهم القائل القول ما قال عمر .

فقد جاء في (الصورة 14) قال:« فأقبل القوم في لغطهم فقالت المرأة: ويحكم عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ...»، ولئن كانت هذه الصورة غير واضحة المعالم، فإنّ التي بعدها مثلها إلا أنها أشمل لبعض ما جرى. فقد جاء في (الصورة 15): «فأخذ من عنده من الناس في لغط فقالت امرأة ممن حضر : ويحكم عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) إليكم، فقال بعض القوم: اسكتي فإنّه لا عقل لك، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): (أنتم لا أحلام لكم) ».

وأوضح منها ما جاء في (الصورة 17): «فقالت زينب زوج رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ألا تسمعون النبي يعهد إليكم، فلغطوا. فقال: .» (... قوموا)

ص: 259

وإذا بحثنا في ثنايا تلك الصور نجد فيما رواه عمر نفسه، أن من استنكر ذلك من النساء أكثر من واحدة فقد جاء عنه كما في (الصورة 3):« فقال النسوة التوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بحاجته، قال عمر فقلت: اسكتن فإنكن صواحبه إذا مرض عصر تن أعينكن، وإذا صح أخذتن بعنقه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (هن خير منكم ) ».

ونحو ذلك جاء في (الصورة 4) «فقال النسوة من وراء الستر ألا تسمعون ما يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) ،فقلت: إنكن صواحبات (صواحب) يوسف، إذا مرض رسول الله عصر تن أعينكن، وإذا صح ركبتن عنقه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم: (دعوهن فإنهن خير منكم) ».

ولئن كان عمر لم يفصح عن أسماء تلكم النساء اللائي دخلن المعركة الكلامية من وراء الستر، فليس يعسر على الباحث معرفتهن خصوصاً وقد عرفنا اسم واحدة منهن وهي أم المؤمنين زينب بنت جحش.

ولما كن نساء النبي (صلی الله علیه و آله) حزبين كما في حديث عائشة وقد أخرجه البخاري في صحيحه(1): قالت: ان نساء رسول الله (صلی الله علیه و آله) كن حزبين، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة

ص: 260


1- أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الهبة باب قبول الهدية 156٫3 ط بولاق.

وسائر نساء رسول الله (صلی الله علیه و آله) ... (1) وإذ لا يعقل أن تكون عائشة وحزبها هن اللائي أنكرن الاختلاف.

ولما كانت أم المؤمنين زينب بنت جحش من سائر نساء رسول الله (صلی الله علیه و آله) اللائي لم تذكر هن عائشة بأسمائهن عرفنا أنها هي ومن كان معها من حزبها من اللائي أنكرن على عمر ومن معه امتناعهم من امتثال أمر النبي (صلی الله علیه و آله) وفيهن ممن يوالين أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) عليه وإلى القارئ أسماؤهن.

1_ أم المؤمنين أم سلمة.

2_ أم المؤمنين زينب بنت جحش.

3_ أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث.

4_ أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان.

5_ أم المؤمنين جويرية بنت الحارث فهذه هي النسوة اللائي أدركن ما يريده النبي (صلی الله علیه و آله) وهو العهد بالأمر إلى : ولي الأمر من بعده لكن عمر يجبههن وينتصر لهن النبي (صلی الله علیه و آله) فيقول له: (أنتم لا أحلام لكم دعوهن فإنهن خير منكم).

عمر يقول بالغيبة ويقول بالرجعة فماذا يقول العمريون ؟!

اشارة

لقد مرت في بعض صور الحديث لمحات عابرة، ذات دلالة

ص: 261


1- انظر معجم الطبراني 41٫23 ط الثانية بالموصل.

معينة، وهي تكفي لإدانة منكري الغيبة والرجعة، والذين كثر منهم الهرج والمرج على الشيعة لقولهم بالغيبة وبالرجعة، فنسبوا اليهم كل قبيح، وأكثروا التشنيع والتبديع.

ولسنا في مقام اثبات صحة عقيدة الغيبة والرجعة، وامكان وقوعها، ومن نافلة القول الخوض فيما أثبته الله سبحانه في كتابه بقوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا) (1) وليس يعني ذلك الحشر يوم القيامة، لأن ذلك قال فيه: ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدًا) (2) فإذن هو حشر خاص (3). كما قال في الغيبة في موسى واستدل بذلك عمر نفسه لقوله تعالى: ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا

ص: 262


1- النمل ٫ 83.
2- الكهف ٫ 47 .
3- يستدل القائلون بالرجعة على إثباتها بآيات من القرآن المجيد مثل قوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجِ مِنْ سبيل المؤمن ٫ 11 . وقوله تعالى : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ البقرة ٫ 259. وقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ البقرة ٫ 243. وقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وقوله تعالى في أصحاب الكهف في الآية ٫ 25 وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَمِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تسعا فقال فيهم ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لَمَا لَبِثُوا أَمَدًا الكهف ٫ 12 .

بِعَشْرِ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ )(1).

ولسنا بصدد البحث عن ذلك، لكن وجدنا لعمر بن الخطاب مقالة على نحو ما قاله يوم وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) حين أوعد وتوعد من قال مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومقالته في ذلك اليوم لا يخفى غرضه منها فقد كان منتظراً مجيء أبي بكر من السنح. أما يوم حديث الرزية فلماذا قال:« من الفلانة وفلانة - مدائن الروم - إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليس بميت حتى نفتحها، ولو مات لانتظرناه، كما انتظرت بنو إسرائيل موسى» ؟

وليس من شك ان ذلك كان لبلبلة الأفكار، وهو في نفس الحال كان تمهيداً لما سيحدث مما دبّر أمره. ومهما يكن الغرض فإن عمر قائل بالرجعة فماذا يقول العمريون؟

صور من مسخ الحديث :

لقد جرت على حديث الكتف والدواة عمليات مسخ وتحريف، بل وتقطيع أوصال، كل ذلك لتضييع معالم الحق وتشويه الحقيقة.

وإلى القارئ بعض النماذج من تلك الصور :

1_ فمنها ما أخرجه البخاري بسنده إلى نعيم بن زيد قال:

ص: 263


1- الأعراف ٫ 142 .

«حدثنا علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أن النبي (صلی الله علیه و آله) : لما ثقل قال: (يا علي ائتني بطبق أكتب فيه ما لا تضل أمتي)، فخشيت أن يسبقني فقلت: إني لأحفظ من ذراعي الصحيفة، وكان رأسه بين ذراعي وعضدي، يوصي بالصلاة وبالزكاة وما ملكت أيمانكم، وقال: كذلك حتى فاضت نفسه، وأمره بشهادة أن لا إله إلا الله وان محمداً عبده ورسوله من شهد بها حرم على النار ... ا ه-» (1).

فهذا الحديث الذي رواه البخاري صريح في أن النبي (صلی الله علیه و آله) أوصى علياً والمسلمين بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانهم، حتى فاضت نفسه بين ذراع علي وعضده.

على حين روى البخاري نفسه في صحيحه «عن عائشة: ان النبیيّ (صلی الله علیه و آله) (علیه السلام) (علیه السلام) مات بين سحرها ونحرها وقالت: متى أوصى إليه» (2).

فيا ترى أي الحديثين أولى بالاعتبار؟ على أنه قد ورد في صحاح الآثار والأخبار ما يدل على وصاية علي عنه ، كما ورد أيضاً ما يدل على موته (صلی الله علیه و آله) وهو مستند إلى صدر على (3).

ص: 264


1- الأدب المفرد ٫ 50 تحق محمد فؤاد عبد الباقي المطبعة السلفية سنة 1375 ه-، ولقد من هذا في الصورة الأولى من صور الحديث مروياً عن ابن سعد في الطبقات وأحمد بن حنبل في المسند. فراجع.
2- راجع كتاب الوصايا من صحيح البخاري 3٫4، وصحيح مسلم 75٫5.
3- أنظر ما رواه ابن سعد في الطبقات 2 ق 51٫2

لكن الذي يستريب الباحث فيه هو ما ورد في حديث البخاري في الأدب المفرد من تقاعس الإمام عن إحضار الطبق، وبذلك يكون شأنه شأن من لم يحضر الدواة والكتف، فالكل لم يمتثل أمر النبي (صلی الله علیه و آله) ، وإن كان في حديث البخاري في الأدب المفرد ما ينم عن جهل واضعه حين ذكر الطبق، ولم يعهد الكتابة عليه ولم يرد في شيء من النصوص ما يدل على ان الطبق من الأدوات الكتابية، ودون القارئ المعاجم اللغوية ليرى معاني الطبق فليس بينها ما يشير إلى ذلك.

2_ ومنها ما جاء من تزيد فاضح لراويه، وذلك نحو ما قاله ابن أبي الحديد المعتزلي معقباً على ما رواه عن أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة من حديث الكتف والدواة فقال: «هذا الحديث قد خرجه الشيخان محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحهما. واتفق المحدثون كافة على روايته».

ولدى مقابلة ما رواه عن الجوهري بما خرجه الشيخان وغيرهما نجد حشواً زائداً فيه وهو قول الراوي: فمات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلّم في ذلك اليوم، وهذا مثل ما قد مر في (الصورة 16) من صور الحديث رواية هلال بن مقلاص وفي آخرها: «فأبطأوا بالكتف والدواة فقبضه الله». وهذا أيضاً من التزيد الفاضح إذ ليست هذه الزيادة جزءاً من الحديث، ولا يصح أن تكون جزءاً، لأن الحديث كان يوم الخميس كما هو صريح قول ابن عباس (رضي الله عنه) حين

ص: 265

كان يقول: «يوم الخميس وما يوم الخميس». ومن المعلوم والمتيقن ان وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) كانت يوم الاثنين، فتكون وفاته بعد يوم الحديث بأربعة أيام، فكيف يصح قول الراوي: فمات رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذلك اليوم». وقد صرح شراح الصحيحين وغيرهم بذلك (1).

3_ومنها النقص الواضح من أصل الحديث. كما صنع السمهودي في كتابه وفاء الوفا فإنه ذكر الحديث من آخره ولم يذكر أوله تحاشياً من ذكر ما جرى من عمر ومن شايعه في ذلك اليوم (2).

4_ ومنها ما هو أقبح فعلاً من صورتي التزيد السابق والتنقص اللاحق في الحديث، وذلك كما أجهز عليه جماعة، فألغوا حديث الكتف الدواة جملة وتفصيلاً، ولم يذكروا منه سوى وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) في آخره كما مر في رواية أبي داود في سننه (3) فلا بكاء ابن عباس وتلهفه وأسفه على ما فات الأمة من الخير في الأمن من الضلالة. ولا دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) بالدواة والكتف ولا قول عمر : «إن النبي ليهجر». ولا قوله: «حسبنا كتاب الله ولا وقوع النزاع والتخاصم بين الحاضرين. ولا طرد النبي (صلی الله علیه و آله) لمن شاقه في أمره وقوله: (لا ينبغي عندي تنازع).

ص: 266


1- راجع فتح الباري لابن حجر 1٫ 168 ، والأحكام لابن حزم 124٫7 .
2- أنظر وفاء الوفا 1٫ 227 - 228
3- راجع (الصورة 9) من صور الحديث.

5_ ومنها ما صنعه كثيرون ممن كتبوا في السيرة النبوية من الغاء الحديث من صفحة السيرة بالمرة ولم يشيروا إليه بأدنى إشارة، كما صنع محمد بن عبد الوهاب - إمام الوهابية - في كتاب مختصر سيرة الرسول (صلی الله علیه و آله) ، وكما فعل مثل ذلك أمين الدويدار في كتابه صور من حياة الرسول (صلی الله علیه و آله) . إلى غيرهما من الكتاب المحدثين.

فهكذا تعرض الحديث العمليات كثيرة من ابتزاز إلى تحريف إلى إجهاز عليه وإلى إهمال. كل ذلك إخفاء للحقيقة، وفات المغرضون أن الحق أقوى منهم، ولا يقهر بتلك الأساليب، ولا تخفى الشمس وإن جللها السحاب، أو لفها الضباب.

كيف ؟ وأني ؟ والحديث - كما يقول المثل - سارت بذكره الركبان فتناقله الرواة قرناً بعد قرن - كما مر عليك - وأخرجه الحفاظ وأئمة الحديث من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد ومعاجم اللغة وأسفار التاريخ والسيرة فراجع ما مر من ذكر مصادر الحديث.

الحديث في الشعر العربي:

لم أبحث كثيراً عن الشعراء الذين أشاروا إلى الحديث، وليس ذلك من غرض كتابي هذا ، ولكني وقفت على شعر شاعر مؤمن ممن لم يتبع الغاوين، لهج به فنظم مشيراً إليه بقوله:

ص: 267

وصى النبي فقال قائلهم قد ظل يهجر سيد البشر

ورووا أبا بكر أصاب ولم يهجر وقد وصى إلى عمر (1)

و من النظم في ذلك قول الشاعر :

وما رأيت من الآيات معتبرا إن كنت مذكرا أو كنت معتبرا

أوصى النبي أمير النحل دونهما وخالفاه الأمر عنده اشتورا

وقال هاتوا كتاباً لا تضلوا به بعدي فقالوا رسول الله قد هجرا

تعصباً لأبي بكر فحين ثوى وفی فوصى به من بعده عمرا

تحمل العبء فيها ميتاً عجبا وقال حياً أقيلوني بها ضجرا

إن قال ان رسول الله غادرها شوری فهلا اقتفى من بعده الأثرا

أو قال أوصى فلم تقبل وصيته يوم الغدير فلا تعجل فسوف ترى (2)

ص: 268


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 202٫1 ، وكشف الغمة للأربلي 1٫ 165 منشورات الشريف الرضي، والصراط المستقيم للبياضي:
2- اثبات الهداة للحر العاملي 424٫4، والصراط المسقيم للبياضي 7٫3. ووردت هذه الأبيات في أول الحجة الخامسة من كتاب الوصية لأحد معاصري الشيخ الصدوق المتوفى سنة 381 ه-. والكتاب في مجموعة برقم / 13 مجاميع خطية بمكتبة المرحومالحجة المغفور له الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء.

نهاية البحث عن المأساة في حديث الرزية :

لقد طالت مسيرتنا مع حديث الكتف والدواة، والذي سميناه حديث الرزية، لأنه كان حديث مأساة وهو كذلك حديث رزية وزرية.

ولئن طالت المسيرة، فلا ضير ما دامت تكشف العمى عن البصيرة، وما دمنا أنا قرأنا جوانب في الحديث فيها مآس مريرة.

1_ فلقد قرأنا صور الحديث المتفاوتة، وذكرنا منها (25) صورة لا تتفق صورة منها مع أخرى. بل لقد قرأنا في الصورة التاسعة عدة صور، مما زادت العدد، وذلك يكشف لنا مدى الدور الذي قام به الرواة في إخفاء معالم الإدانة.

2_ولقد قرأنا ذكر رواة الحديث جمهرة كثيرة مرتبين حسب القرون، حتى لا يرقى الشك إلى أصل الحديث، وبذلك يثبت التواتر.

3_ وقرأنا أيضاً مصادر الحديث منبثة في ثنايا أسماء الرواة، وكلها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد وأمهات كتب التاريخ والتراجم، مما لا يرقى الشك إليها.

4_ وقرأنا السبب في إطالة البحث في الأسانيد، لإلقاء تبعة التضبيب على الرواة فهم الذين يحملون إصر ذلك.

5_وقرأنا موقف المعارضة المحمومة ضد أمر الرسول (صلی الله علیه و آله). وتبينا من كان هو أبرز رموزها في وقفة مع الحديث.

ص: 269

6_ وقرأنا ماذا كان عند علماء التبرير أزاء موقف الرد والإباء، وعرفنا من هم ؟

7_وقرأنا ماذا قال كل واحد من علماء التبرير ؟ وماذا كان عند كل واحد من هنات؟ كما قرأنا الرد على ما قالوه هم دفعاً بالصدر.

8_ وقرأنا ماذا قاله العمريون وعرفناهم في عمريتهم أكثر من عمر.

9_وقرأنا تحقيق ماذا قال عمر ؟ واثبات رواية كلمته النابية الجافية: «ان النبي ليهجر».

10_ وقرأنا الجواب على التساؤلات الأربعة التي فرضتها حادثة الرزية، وتبينا أخيراً لماذا أراد النبي (صلی الله علیه و آله) علياً دون غيره.

11_ وقرأنا ستر المنع وتصميم عمر عليه، لأنه علم مراد النبي (صلی الله علیه و آله) ، كما عرفنا من أين علم عمر مراد النبي (صلی الله علیه و آله).

12_ وقرأنا ان عمر نبذ السنّة نبذ الحصاة وراء ظهره حين قال: «حسبنا كتاب الله». «وعندكم القرآن»، وهو بذلك يحتجز الاحتجاج بالقرآن للقرآن وحده فقط وفقط، وليس للسنة عنده أي دور أو كرامة.

13_ وقرأنا آراء علماء السنّة وأئمتهم في الرد على من يرى مثل رأي عمر في ذلك الاحتجان والاحتجاج.

14_وقرأنا بعد ذلك آراء عمرية خطيرة ويأباها العمريون.

ص: 270

15_ وقرأنا الموازنة بين شفقة النبي (صلی الله علیه و آله) على أمته وبين شفقة عمر.

16_ وقرأنا ما جرى على الحديث من تلاعب رخيص لصالح أبي بكر ؟

17_ وقرأنا كشفاً جديداً في رواية عكرمة. وهو من رواة الحديث. حين سرب الشك إلى يوم الحديث.

18_ وقرأنا تحقيقاً حول تعيين الوصية الثالثة التي في آخر الحديث والتي لفها الغموض، وحشرجت في فم الرواة فغصوا بها، فلا هم ابتلعوها ولم يذكروها بالمرة، ولاهم صرحوا بها. فقالوا عنها : إما نسيها أو سكت عنها.

19_وقرأنا كيف اشتدت الأزمة ذلك اليوم حتى تدخل العنصر النسوي في النزاع، وقرأنا من كان يمثل ذلك العنصر من نساء النبي (صلی الله علیه و آله) ، لأنهن كن حزبين.

20_ وقرأنا ان عمر ممن كان يقول بالرجعة، ولا غضاضة في ذلك، ولكن لتنبيه العمريين الذين يشهرون بالقائلين بها من بقية فرق المسلمين.

21_ وقرأنا صوراً من مسخ الحديث، مما دلنا على تضافر الجهود المتوالية في القرون المتتالية لطمس معالمه.

22_ وأخيراً قرأنا الحديث في الشعر العربي في نموذج منه.

ص: 271

كل ذلك قرأناه، وأحسب أن هناك جوانب لم نشبع البحث فيها، فعسى أن يتهيأ لها من يشبعها بحثاً وتدقيقاً، كما أحسب أن هناك جوانب لم نبحثها، فعسى أن يذكرها من يلتفت إليها.

وبعد كل تلك القراءات الفاحصة المتأنية، تبين لنا :

أن ابن عباس (رضي الله عنه) كان على حق لو أبدى أسفه وتلهفه حين قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس.»

وأنه كان على حق لو بكى وجرى دمعه مثل نظام اللؤلؤ على خديه.

وأنه كان على حق لو بكى حتى يبل دمعه الحصباء.

وأنه كان على حق لو قال: «الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين أن يكتب لنا ذلك الكتاب».

لقد كان على حق في جميع ذلك.

وإنا على حق كذلك إن طالت بنا مسيرتنا مع ذلك الحديث، فهو حديث الرزية، ولولاها لما حدثت في المسلمين بلية، إنها لرزية ما مثلها رزية، لن تمحى آثارها المحزنة من الذاكرة، كما لا تضيع معالمها مهما تكثرت نزوات الاقلام الماكرة. إذ لولاها لما استولت على المسلمين الحكومات الجائرة وحتى الكافرة.

ص: 272

قال المعلمي في الأنوار الكاشفة:« تكلم بعض المتأخرين في هذا الحديث وذكر أنه لو كانت الواقعة بنحو هذه الصورة لما أغفل الصحابة ذكرها والتنويه بشأنها، فما باله لم يذكرها إلا ابن عباس مع أنه كان صغيراً يومئذ. ويميل هذا المتأخر إلى أنها كانت واقعة لا تستحق الذكر تجسمت في ذهن ابن عباس واتخذت ذاك الشكل.... اه-»(1)

أقول: ولا يهمنا معرفة ذلك البعض النكرة وإنما الذي يهمنا تنبيه القراء على حكمة إطالتنا الحديث حول ذلك الحديث بدءاً من الصحابة الذين رووه وهم الإمام علي وعمر وجابر وابن عباس، ومروراً بصور الحديث وانتهاء بما قاله علماء التبرير حوله ، ومع كل ذلك ينق بعض النكرات من المتأخرين ، ويميل إلى( انها واقعة لا تستحق الذكر تجسمت في ذهن ابن عباس واتخذت ذاك الشكل).

كيف لا تستحق الذكر ! ومنها كان المنطلق نحو الخلافة، وعليها بنى أصحاب النص ادعاءهم، وبها هدموا على أصحاب الاختيار بناءهم.

قال سليم بن قيس الهلالي - تابعي جليل-: «إني كنت عند عبد الله بن عباس في بيته وعنده رهط من الشيعة، فذكروا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وموته، فبكى ابن عباس وقال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم الاثنين - وهو

ص: 273


1- الأنوار الكاشفة ٫ 58 ط السلفية.

اليوم الذي قبض فيه - وحوله أهل بيته وثلاثون رجلاً من أصحابه: (أيتوني بكتف اكتب لكم فيه كتاباً لن تضلوا بعدي، ولن تختلفوا بعدي...)، فقال رجل: إن رسول الله يهجر (!)، فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال : ( إني أراكم تخالفوني وأنا حي فكيف بعد موتي)؟ فترك الكتف.

قال سليم: ثم أقبل علي ابن عباس فقال: يا سليم لولا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتاباً لا يضل أحد ولا يختلف.

فقال رجل: يا ابن عباس، ومن ذلك الرجل، فقال: ليس إلى ذلك سبيل، فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم فقال: هو عمر فقلت: صدقت، قد سمعت علياً وسلمان وأبا ذر والمقداد يقولون: إنه عمر، فقال: یا سليم اكتم إلا من تثق به من اخوانك، فإن قلوب هذه الأمة أشربت حب هذين الرجلين كما أشربت قلوب بني إسرائيل حب العجل والسامري» (1).

فهذا الخبر يدل بتكرار المحاولة مرة أخرى يوم الاثنين، يوم وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) وتكرر الموقف من عمر ، وليس ذلك ببعيد، لأن الموقف دقيق والظرف حساس ولولا كلمة عمر لما أصاب الأمة ما أصابها.

فهلم واقرأ ما قاله أحمد أمين في كتابه (يوم الإسلام): «وقد أراد

ص: 274


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي 2 ٫ 794ط الهادي سنة 1415 تح الشيخ محمد باقر الأنصاري.

الرسول (صلی الله علیه و آله) في مرضه الذي مات فيه أن يعين من يلى الأمر من بعده، ففي الصحيحين أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما احتضر قال: (هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده وكان في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب فقال عمر : أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف القوم واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا إليه يكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول: ما قاله عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عنده (علیه السلام) قال لهم: (قوموا) فقاموا. وترك الأمر مفتوحاً لمن شاء، جَعَل المسلمين طوال عصرهم يختلفون على الخلافة حتى إلى عصرنا هذا بين السعوديين والهاشميين»(1).

وهذا من أحمد أمين غمز على استحياء واستخذاء للموروث المقدس عن الصحابة.

فهذا هو السبب الذي جعلنا نطيل البحث، ونجتر المرارة، ونكرّر ذكر حديث الرزية . ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (2).

أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أنس قال: «ما نفضنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلّم الأيدي - من دفنه - حتى أنكرنا قلوبنا» (3).

ص: 275


1- يوم الإسلام ٫ 41 .
2- الشعراء ٫ 227.
3- المصنف لابن أبي شيبة 13 ٫ 364 ، وابن ماجة في سننه ٫ 119 ، والهيثمي في موارد الضمان 530.

وأخرج ابن حجر في تهذيب التهذيب عن الآجري: «قال عمرو بن ثابت لما مات النبي (صلی الله علیه و آله) كفر الناس إلا خمسة » (1) .

وقد يستفز هذا الخبر كثيراً من القراء ويطعنون في صحته. ولكن نطمئنهم بأن ذلك صحيح، وليس هو بدعاً مما أخرجه البخاري في عشرة مواضع من صحيحه من أحاديث الحوض.

وإلى القارئ ذكر واحد منها: «أخرج في صحيحه في كتاب التفسير باب وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ (2) الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) بسنده عن ابن عباس (رضي الله عنه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وآله) وسلم فقال: (أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا (3) .

ثم قال: ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ... )(4) إلى آخر الآية، ثم قال :( ألا وإنّ أوّل الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ

ص: 276


1- تهذيب التهذيب 9٫8
2- المائدة ٫ 117
3- غرل: أي غير مختونين.
4- الأنبياء ٫ 104.

أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) (1) ، فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) »(2).

لقد مر بنا ما كان من الرزية التي حاقت بالمسلمين في يوم الخميس، وهو اليوم الذي أعلن فيه التمرد على النبي (صلی الله علیه و آله) فرد أمره الناطق عن المعارضة، وصدمه بكلمةٍ غم منها وأغمي عليه لشدة وقعها، وكانت بداية النهاية المحزنة، أما نهاية تلك البداية فكانت وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) في يوم الاثنين، وما حدث من الصحابة فيما بين اليومين الخميس والاثنين - من أحداث تتابعت بعنفها على النبي (صلی الله علیه و آله) حتى تبرم بأصحابه وسأم منهم وتمنى أن يريحه الله ...

والحمد لله أولاً وآخراً ...

ص: 277


1- الأنبياء ٫ 104.
2- صحيح البخاري 55٫6ط بولاق، وأخرجه مسلم في صحيحه 2٫ 355 ط بولاق في كتابه الجنة وصفة نعيمها باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة. فالحديث متفق عليه كما يقول علماء الحديث من أهل السنة.

ص: 278

فهرس المحتويات

في البدء...5

المقدمة...7

صور الحديث...12

الصورة الأولى...13

الصورة الثانية...14

الصورة الثالثة...16

الصورة الرابعة...16

الصورة الخامسة...18

الصورة السادسة...22

الصورة السابعة...23

الصورة الثامنة ...24

الصورة التاسعة...25

الصورة العاشرة...37

ص: 279

الصورة الحادية عشرة...39

الصورة الثانية عشرة...40

الصورة الثالثة عشرة...45

الصورة الرابعة عشرة...47

الصورة الخامسة عشرة...48

الصورة السادسة عشرة..48

الصورة السابعة عشرة...49

الصورة الثامنة عشرة...50

الصورة التاسعة عشرة...51

الصورة العشرون..52

الصورة الحادية والعشرون..53

الصورة الثانية والعشرون...54

الصورة الثالثة والعشرون...55

الصورة الرابعة والعشرون...56

الصورة الخامسة والعشرون...57

تعقيب عرض الصور وحصيلة ذلك...58

رواة الحديث ومصادره...64

القرن الأول...65

القرن الثاني...67

ص: 280

القرن الثالث...73

القرن الخامس.... 82

القرن السادس ...83

القرن السابع...84

القرن الثامن...85

القرن التاسع...86

القرن العاشر...87

لماذا الإطالة مع الإسناد ؟...88

وقفة عند الحديث...89

مع علماء التبرير وقراءة بين السطور...91

من هم علماء التبرير ؟...91

ماذا قال علماء التبرير ؟...93

أولاً: الخطابي...93

مع الخطابي...94

ثانياً : ابن حزم الظاهري...98

وقفة مع ابن حزم...101

ثالثاً: البيهقي...104

مع البيهقي في دعاواه...107

رابعاً: المازري...110

ص: 281

مع المازري...110

خامساً: القاضي عياض...113

مع القاضي عياض...119

سادساً: ابن الأثير الجزري...125

التبرير الفطير عند ابن الأثير...126

سابعاً: النووي...126

مع النووي...128

أيهما أفقه عمر أم ابن عباس ؟...133

ثامناً: ابن تيمية...138

مع ابن تيمية...142

تاسعاً: الشاطبي...147

مع الشاطبي...148

عاشراً: ابن حجر العسقلاني...150

مع ابن حجر العسقلاني...151

الحادي عشر : القسطلاني...154

الثاني عشر : الوشتاني الأبي المالكي...156

مع الوشتاني وفتحه الجديد...157

الثالث عشر : البدر العيني ...159

الرابع عشر : الدهلوي...165

ص: 282

مع الدهلوي...166

الخامس عشر : اللاهوري...168

مع اللاهوري...169

عمريون أكثر من عمر !...170

مع العقاد ونظراته...173

سؤال وجواب...179

أولاً - ماذا أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يكتب في ذلك الكتاب ؟...180

ثانياً - من ذا أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يكتب اسمه في ذلك الكتاب؟...183

ثالثاً - لماذا أراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن يكتب له الكتاب ؟...184

بعث أسامة إجراء وقائي...186

من كان تحت إمرة أسامة...188

(سؤال بعد سؤال فهل من جواب) ؟...191

رابعاً_لماذا اراد علیّاً دون غیره؟...194

النتائج...197

من هم المعارضة ؟...197

ماذا قال عمر ؟...203

من أين علم عمر مراد الرسول (صلی الله علیه و آله) ؟...206

ماذا أراد عمر بقوله «حسبنا كتاب الله؟...211

1_ ماذا قال الشافعي ؟...215

ص: 283

2_ماذا قال ابن حزم ؟...216

3_ ماذا قال البيهقي ؟...217

4 _ ماذا قال السيوطي ؟...220

5 _ ماذا قال السندي في حاشيتيه على البخاري ؟...224

6 _ ماذا في القراءة الخلدونية ؟...226

أيهما الشفيق الرفيق النبي (صلی الله علیه و آله) أم عمر ؟...242

عملية التزوير من أنحاء التبرير...245

محاولات بائسة يائسة...249

كشف جديد في رواية الحديث عن عكرمة...251

ما هي الوصية الثالثة ؟...252

تدخل العنصر النسوي في النزاع...259

عمر يقول بالغيبة ويقول بالرجعة فماذا يقول العمريون ؟!...261

صور من مسخ الحديث...263

الحديث في الشعر العربي267

نهاية البحث عن المأساة في حديث الرزية...269

ص: 284

حديث الرزية وما أدراك ما حديث الرزية، حديث يندى له الجبين وتشمئز من وقعه القلوب، حينما طلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) دواة وكتفاً ليكتب للأمة ما يعصمها من الضلال ويقوم طريقها، فجوبه بقسوة تامة، واتهم أيما اتهام! مما أدى إلى ضياع الفرصة ونقض الغرض. ولتسليط الضوء على هذه الحادثة المؤلمة آثرنا إعادة نشر - ما كتبه العلامة السيد محمد مهدي الخرسان حفظه الله تعالى والمطبوع ضمن موسوعة عبد الله بن عباس في الجزء الأول تتميماً للفائدة.

www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

رقم الإصدار (12)

ص: 285

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.