شرح حكم نهج البلاغة
للمحدّث المؤرّخ الشيخ عباس القمي رحمه الله
(المتوفى سنة 1359ه-)
بطاقة تعريف: قمی، عباس، 1254 - 1319.
عنوان العقد: نهج البلاغه. شرح
عنوان المؤلف واسمه: شرح حكم نهج البلاغة/ عباس القمي.
تفاصيل النشر: قم: دارالانصار، 1426ق.= 2005م.= 1384.
مواصفات المظهر: 200 ص.
ISBN : 964-8956-01-4
حالة الاستماع: الاستعانة بمصادر خارجية.
لسان : العربية.
ملحوظة: ببليوغرافيا مع ترجمة.
موضوع : علي بن أبي طالب (ع) الإمام الأول 23 قبل الهجرة – 40 ه_. نهج البلاغة -- نقد وتعليق
موضوع : علي بن أبي طالب (ع) الإمام الأول 23 قبل الهجرة – 40 ه_. نهج البلاغة. اختيار
معرف المضافة: علي بن أبي طالب (ع) الإمام الأول 23 قبل الهجرة – 40 ه_. نهج البلاغة. وصف
تصنيف الكونجرس: BP38/02 /ق8 1384
تصنيف ديوي: 297/9515
رقم الببليوغرافيا الوطنية: 2977656
ص: 1
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
ص: 3
ص: 4
- أزْرىٰ بِنَفْسِهِ مَنِ اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ، وَ رَضِيَ بِالذُّلِّ مَنْ كَشَفَ ضُرَّهُ [عن ضرّه]، وَ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَهُ. (1)
هذه ثلاثة فصول: الأوّل: في الطمع.
«أزرىٰ بنفسه» أي حقّرها وقصّر بها. «استشعر الطمع» أي: جعله شعاره أي: لازمه.
وفي الحديث: الطمع الفقر الحاضر (2).
و كان يقال: أكثر مصارع الألباب تحت ظلال الطمع (3).
الثاني: في الشكوىٰ.
«من كشف ضرّه» أي شكىٰ إلى الناس بؤسه و فقره. و في معناه: لا تشكونّ إلى أحدٍ فإنّه إن كان عدوّاً سرّه، وإن كان صديقاً ساءه، و ليست مسرّة العدوّ ولا مساءة الصديق بمحمودة (4).
ص: 5
الثالث: في حفظ اللسان، (1) و قد ورد فيه ما لا يحصىٰ منها: سلامة الإنسان في حفظ اللسان، ومنها: ربّ كلمة سفكت دماً، وأورثت ندماً (2).
قال الشاعر:
يموتُ الفتى من عثْرةٍ بلسانه *** وليس يموتُ المرءُ من عَثْرة الرِجْل (3)
2 - اعْجَبُوا لِهَذَا الإِنْسَانِ يَنْظُرُ بِشَحْمٍ، وَيَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ، وَيَسْمَعُ بِعَظْمٍ، وَيَتَنَفَّسُ من [في - خ ل] خَرْمٍ (4).
قال ابن أبي الحديد: هذا كلام محمول بعضه على ظاهره، لما تدعو إليه الضرورة من مخاطبة العامّة بما يفهمونه، والعدول عمّا لا تقبله عقولهم، ولا تفي به (5) انتهىٰ (6).
والخرم - بضمّ الخاء المعجمة - : الثقب، (7) وهنا ثقب الأنف.
نبّه الله على لطف خلق الإنسان ببعض أسرار حكم الله فيه، و غايته من ذلك الاستدلال على حكمة صانعه ومبدعه، و ذكر أربعة من محالّ النظر والاعتبار؛ وهي آلة البصر والكلام والسمع والتنفّس. وراعى في القرائن الأربع السجع المتوازي. .
ص: 6
3 - إذا أَقْبَلَتِ الدُّنْيا عَلَى أحدٍ [قومٍ - خ ل] أَعارَتْهُ [أعارتهم] مَحَاسِنَ غَيْرِهِ [غيرهم]، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ [عنهم] سَلَبَتْهُ [سلبتهم] مَحَاسِنَ نَفْسِهِ [أنفسهم] (1).
كان الرشيد أيّام كان حسن الرأي في جعفر بن يحيى، يحلف بالله أنّ جعفراً أفصح من قُسِّ بن ساعدة، وأشجع من عامر بن الطفيل، وأكتب من عبد الحميد بن يحيى، وأسوس من عمر بن الخطّاب، وأحسن من مُصعب ابن الزبير، مع أنّ جعفراً ليس بحسن الصورة، وكان طويل الوجه جدّاً، وأنصح له من الحجاج لعبد الملك، وأسمح من عبد الله بن جعفر، وأعفّ من يوسف بن يعقوب؛ فلمّا تغيّر رأيه فيه أنكر محاسنه الحقيقيّة الّتى لا يختلف اثنان أنّها فيه نحو كياسته و سماحته. ولم يكن أحد يجسر أن يردّ على جعفر قولاً ولا رأياً (2).
4 - إذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكراً لِلْقَدرَةِ عَلَيْهِ (3).
روي أنّ مُصعب بن الزبير لمّا ولّى العراق عرض الناس ليدفع إليهم أرزاقهم، فنادى مناديه: أين عمرو بن جُرموز - وهو الّذي قتل أباه الزبير - ؟ فقيل له: أيّها الأمير، إنّه أبعد في الأرض؛ قال: أَوَظنّ الأحمق أنّي أقتله بأبي عبدالله! قولوا له فليظهر آمنا، وليأخذ عطاه مسلّما (4). .
ص: 7
5 - أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسابِ الْإِخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ (1).
روي أنّ النبي - صلی الله علیه و آله و سلم - بكى لمّا قتل جعفر بمؤتة، و قال: المرء كثير بأخيه (2).
وكان أبو أيّوب السجستانيّ (3) يقول: إذا بلغني موت أخ كان لي، فكأَنما سقط عضو منّى (4). قال الشاعر:
أخاك أخاك [إنّ] مَن لا أخاً لَهُ *** کساعِ الهيجا بغير سلاحِ
وَ إنّ ابن عمّ المرء فاعلم جناحُهُ *** وهل ينهض البازي بغير جناحِ (5)
6 - إذَا وَصَلَتْ إِلَيْكُمْ أَطرافُ النّعم فَلَا تُنفّرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُكْر (6).
استعار لفظ التنفير لشبهها بالطير المتّصل إذا سقط أوّله اتصل به آخره إن لم ينفّر. وفيه إيماء إلى أنّ دوام الشكر مستلزم لدوامها و كثرتها كقوله تعالىٰ(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (7) (8) ف
ص: 8
7 - أَقِيلُوا ذَوِي المُروءَاتِ عَثَراتِهِمْ فَمَا يَعْثُرُ مِنْهُمْ عَاثِرٌ إِلَّا وَيَدُ اللَّهِ [ويده بيد الله - خ ل] تَرْفَعُهُ [ يرفعه ] (1).
قيل في المروءة: اللذة ترك المروءة و المروءة ترك اللذة (2).
وقال معاوية لعمرو: ما ألذّ الأشياء؟ قال: مُرْ فِتيان قريش أن يقوموا؛ فلمّا قاموا قال: اسقاط المروءة (3).
قال ابن أبي الحديد: لامَ معاوية يزيدَ على سماع الغِناء وحبّ الفتيان، و قال له: أسقطت مروءتك، فقال يزيد: أتكلّم بلساني كلمةً! قال: نعم، و بلسان أبي سفيان بن حرب و هند بنت عُتْبة مع لسانك، قال: و الله لقد حدّثني عمرو بن العاص - واستشهد على ذلك ابنه عبدالله بصدقه - أنّ أبا سفيان كان يخلع على المغنّي الفاضل والمضاعف من ثيابه، ولقد حدّثني أنّ جاريتي عبدالله بن جُدْعان غَنّتاه يوماً فأطربتاه، فجعل يخلع عليهما أثوابه ثوباً ثوباً حتى تجرَّد العَيْر، ولقد كان هو وعفّان ابن أبي العاص ربّما حملا جارية العاص بن وائل على أعناقهما، فمرّا بها على الأبطح وجلّة قريش ينظرون إليهما؛ مرّةً على ظهر أبيك، ومرّة على ظهر عفّان، فما الذي تنكر منّي؟ فقال معاوية: اسكت لحاك الله! و الله ما أحدٌ ألحق بأبيك هذا إلّا ليغرّك و يفضحك، وإن كان أبو سفيان - ما علمت - لثقيل الحِلم، يقظان الرأي، عازب الهوى، طويل الأناة، بعيد القعر، وما سوّدتْه قريشٌ إلاّ لفضله (4).8
ص: 9
امْشِ بِدَائِكَ مَا مَشَى بِكَ (1).
يقول: مهما وجدت سبيلاً إلى الصبر على أمر من الأمور التي قد دفعت إليك و فيها مشقّة عليك، فاصبر ولا تتعاجز به بل كن في صورة الأصحاء.
وقيل: «فيه إيماء إلى ما أمر به من كتمان المرض كما قال الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: من كنوز البرّ كتمان الصدقة و المرض والمصيبة» (2)
9 - أَفْضَلُ الزُّهْدِ إِخْفَاءُ الزُّهْدِ (3).
إنّما كان كذلك لأنّ الجهر بالعبادة والزّهادة والإعلان بذلك قلّ أن يسلم من مخالطة الرياء.
لطيفة: رأى المنصور رجلاً واقفاً،ببابه، فقال: مثل هذا الدرهمَ بين عينيك وأنت واقف ببابنا! فقال الربيع: نعم، لأنّه ضرب على غير السكّة (4).
10 - إِذَا كُنْتَ فِي إِدْبَارٍ وَالمَوْتُ فِي إِقْبَالٍ، فَمَا أَسْرَعَ الْمُلْتَقَىٰ (5).
هذا ظاهر، لأنّ إدباره هو توجّهه إلى الموت، وإقبال الموت هو توجّه الموت نحوه، فقد حُقّ إذن الالتقاء سريعاً، ومثال ذلك سفينتان بدجلة أو غيرها، تصعد إحداهما، والأُخرىٰ تنحدر نحوها، فلا ريب أنّ الالتقاء يكون وشيكاً. 9
ص: 10
11 - أَشْرَفُ الغِنَى تَرْكُ الْمُنَى (1).
المنى: جمع منيّة بمعنى التمنّي. وظاهر أنّ ترك المنى يستلزم القناعة واستلزامها للغنى النفسانيّ وعدم الحاجة ظاهر.
12 - احْذَرُوا صَوْلَةَ الْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ، وَ اللَّيْيمِ إِذَا شَبعَ (2).
يراد بالكريم شريف النفس، ذو الهمّة العليّة؛ وبجوعه ضيمه و امتهانه، و شدّة حاجته. و ذلك مستلزم لثوران غضبه وحميّته عند عدم التفات الناس إليه، وشبع اللثيم كناية عن غناه وعدم حاجته. وذلك يستلزم تمرّده وأذيّته لمن كان تحت يده، ومن يحتاج إليه من الناس؛ فربما كان جوعه سبباً لتغيّر أخلاقه وتجويدها، ونحن شاهدنا ذلك كثيراً.
13 - أَوْلَى النَّاسِ بِالْعَفُو أَقْدَرُهُمْ بِالْعُقُوبةِ [عَلَى الْعُقُوبَة ] (3).
قالت الحكماء: ينبغي للإنسان إذا عاقب من يستحقّ العقوبة، أن لا يكون سبعاً في انتقامه، وأن لا يعاقب حتّى يزول سلطان غضبه، لئلاً يقدم على ما لا يجوز؛ ولذلك جرت سنّة السلطان بحبس المجرم حتى ينظر في جرمه، ويعيد النظر فيه (4).
وقالوا أيضاً: لذة العفو أطيب من لذّة التشفّى والإنتقام، لأنّ لذّة العفو يشفعها حميد العاقبة، ولذّة الانتقام يتّبعها ألم الندم و قالوا: العقوبة ألأم حالات ذي القدرة و أدناها، وهي طرف من الجزع (5). .
ص: 11
14 - إِذَا حُيِّيتَ بِتَحِيَّةٍ فَحَيِّ بِأَحْسَنَ مِنْهَا، وَإِذَا أُسْدِيَتْ إِلَيْكَ يَدٌ فَكَافِتْهَا بِمَا
يُرْبِي عَلَيْهَا، وَالْفَضْلُ مَعَ ذَلِكَ لِلْبَادِي (1).
هذا الكلام أورده ابن أبي الحديد في الشرح ولم أجده في هذا المقام من النهج، وقال: اللفظة الأولى من القرآن (2) العزيز، والثانية تتضمّن معنىّ
مشهوراً.
وقوله: «والفضل مع ذلك للبادئ»، يقال في الكرم والحثّ على فعل الخير.
ثمّ ذكر توسّل بعض الأشخاص برحم أو قرابة وإسداء معروف ونحو ذلك، فنالوا منهم بسببه مالاً جزيلاً (3).
15 - أَهْلُ الدُّنْيَا كَرَكْبٍ يُسَارُ بِهِمْ وَ هُمْ نِيَامٌ(4).
قال ابن أبي الحديد في الشرح: هذا التشبيه واقع وهو صورة الحال لا محالة.
وقد أتيتُ بهذا المعنى في رسالة كتبتها إلى بعض الأصدقاء تعزيةً، فقلت: ولو تأمّل الناس أحوالهم، وتبيّنوا مآلهم، لعلموا أنّ المقيم منهم بوطنه، و الساكن إلى سكنه أخو سفر يُسرى به وهو لا يَسري، و راكب بحر يُجرى به وهو لا يدري (5)..
ص: 12
16 - إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا تُرِيدُ فَلاَ تُبَلْ كَيْفَ [ما ] كُنْتَ (1).
كان أصل «لا تبل» لا تبال، فحذفت الألف تخفيفاً لكثرة الاستعمال، ومراده علیه السلام بهذا الكلام أي: إذا فاتك مرادك من الأمر فلا تبل بفوات ما أمّلته، ولا تحمل لذلك همّاً كيف كنت، وعلى أيّ حال كنت من حَبْس أو مرض أو فقر أو فقد حبيب؛ وبالجملة لا تبال بالدهر، ولا تكترث بما يعكس عليك من غرضك ويحرمك من أملك؛ وذلك لأنّ الأسف على فوات المراد يستلزم غمّاً و ألماً وهو مضرّة عاجلة لا يثمر فائدة فارتكابه سفه، وهذا مثل قوله علیه السلام: «فلا تكثر على ما فاتك منها أسفاً» (2) و مثل قوله تعالى: (لِكَيْلاً تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) (3).
17 - إِذَا تَمَّ الْعَقْلُ نقص الْكَلَامُ (4).
تمام العقل يستلزم كمال قوّته على ضبط القوى البدنيّة و تصريفها بمقتضى الآراء المحمودة الصالحة، و وزن ما يبرز إلى الوجود الخارجيّ عنها من الأقوال و الأفعال بميزان الإعتبار، وفي ذلك من الكلفة والشرائط ما يستلزم نقصان الكلام، بخلاف ما لا يوزن ولا يعتبر من الأقوال.
قالوا: «إذا رأيتم الرجل يُطيل الصمت و يهرب من الناس، فاقربوا منه فإنّه يُلقّى الحكمة» (5). 7
ص: 13
18 - إِنَّ الامورَ إذا اشْتَبَهَتْ أعْتُبرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَا (1).
روي «إذا استبر مت»، والمعنى واحد وهو حقّ، وذلك أنّ المقدّمات تدلّ على النتائج، والأسباب تدلّ على المسبّبات، فإذا اشتبهت أمور على العاقل الفطن ولم يعلم إلى ماذا تؤول، فإنّه يستدلّ على عواقبها بأوائلها، و على خواتمها بفواتحها (2).
و إلى معنى كلامه علیه السلام أُسير في هذا المثل بالفارسيّة: سالى كه نکوست از بهارش پیداست (3)
19 - أُوصِيكُمْ بِخَمْسٍ لَوْ ضَرَبْتُمْ إِلَيْهَا آبَاطَ الإِبِلِ لَكَانَتْ لِذَلِكَ أَهْلاً: لا يَرْجُوَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا رَبَّهُ.
وَلَا يَخَافَنَّ إلّا ذَنْبَهُ
ولا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ.
ولا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ [مِنْكُمْ] إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الشَّيءَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ،
وَ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الْإِيمَانِ كَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَا خَيْرَ فِي جَسَدٍ لاَ رَأْسَ مَعَهُ، وَ لَا خَيْرَ فِي إِيمَانٍ لَا صَبْرَ مَعَهُ (4).
كنّي علیه السلام بضرب آباط الإبل عن الرحلة في طلبها، وذلك أنّ الراكب للجمل يضرب إبطي راحلته برجليه ليحثّها على السير. 2
ص: 14
فأحد الخمس: الرجاء لله دون غيره، ومن لوازم ذلك إخلاص العمل له، ودوام طاعته.
الثانية: أن يخاف ذنبه دون غيره، و ذلك لأنّ أعظم ما يخافه الإنسان هو عقاب الله، ولمّا كان إنّما يلحق العبد بواسطة ذنبه فبالأولى أن يجعل الخوف من الذنب دون غيره.
الثالثة: عدم استحياء من لا يعلم الشيء من قول: «لا أعلم»، فإنّ الاستحياء من ذلك القول يستلزم القول العمل ] بغير علم وهو ضلال وجهل يستلزم إضلال الغير و تجهيله وفيه هلاك الآخرة. قال صلی الله علیه و آله و سلم من أفتى بغير علم لعنتْه ملائكة السماء و الأرض (1).
الرابعة: عدم استحياء من لا يعلم الشيء من تعلّمه، وإلّا لبقي على جهله و نقصانه.
قالوا: من استحيا من المسألة لم يستحي الجهل منه.
و كان يقال: يحسن بالإنسان التعلّم مادام يقبح منه الجهل، وكما يقبح منه الجهل مادام حيّاً كذلك يحسنُ به التعلّم مادام حيّاً (2).
الخامسة: فضيلة الصبر و الأمر باقتنائها؛ لأنّ كلّ الفضائل لا تخلو منه، و أقلّ ذلك الصبر على اكتسابها ثمّ على البقاء عليها، و لذلك شبّهه من الإيمان بالرأس من الجسد؛ وذلك لأنّ الصبر لمّا كان موجوداً في كلّ الفضائل الّتي مجموعها هو الإيمان فلا يقوم إلّا به أشبه الرأس من الجسد في عدم قيامه بدونه، ثمّ أكّد التشبيه والمناسبة بينهما بقوله: لا خير في جسد.. إلى آخره. 2
ص: 15
20 - أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وُقِفَ على اللِّسَانِ، وَ أَرْفَعُهُ مَا ظَهَرَ فِي الْجَوارحِ وَالْأَرْكَان (1).
هذا حقّ، لأنّ العالم إذا لم يظهر من علمه إلّا لقلقة لسانه من غير أن يظهر منه العمل، كان عالماً ناقصاً؛ وأمّا إذا شاهده الناس عاملاً بعلمه، فإنّ النفع يكون به عاماًّ تامّاً، وذلك لأنّ الناس يقولون: لو لم يكن يعتقد حقيقة ما يقوله، لما أدأب نفسه.
و أمّا الأوّل فيقولون فيه: كلّ ما يقوله نفاق و باطل، لأنه لو كان يعمل حقيقة ما يقول لأخذ به، ولظهر ذلك في حركاته، فيقتدون بفعله لا بقوله.
21 - إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ، فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكَمِ [الحكمة - خ ل] (2).
النفوس قد يقع لها انصراف عن العلم الواحد و ملال للنظر فيه بسبب مشابهة بعض أجزائه لبعض، فإذا اطلعت النفس على بعضه قاست ما لم تعلم منه على ما علمت، ولم يكن الباقي عندها من الغريب لتلتذّ به وتدوم النظر فيه، (3) أو المراد: أنّ القلوب تملّ من الأنظار العقليّة في البراهين الكلاميّة على التوحيد و العدل، فعند ذلك فابتغوا لها طرائف الحكمة، أي: الأمثال الحكميّة الراجعة إلى الحكمة العملية، مثل: مدح الصبر و الشجاعة، و الزهد و العفّة، و ذمّ الغضب و الشهوة، والهوى، وما يرجع إلى سياسة الإنسان نفسه، و ولده و منزله و صديقه، و نحو ذلك.
ص: 16
22 - إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالْأَنْبِيَاءِ أَعْلَمُهُمْ بِمَا جَاؤُوا بِهِ، ثُمَّ تَلا علیه السلام: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ ِبإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هَذَا النَّبِيُّ ...) (1)شرح ابن أبي الحديد، 18 / 252.(2) الأيَةَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَلِيَّ مُحَمَّدٍ مَنْ أَطاعَ اللَّهَ وَ إِنْ بَعُدَتْ لُحْمَتُهُ، وَ إِنَّ عَدُوَّ مُحَمَّدٍ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَ إِنْ قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ (3).
قال ابن أبي الحديد: هكذا الرواية، والصحيح «أعملهم» لأنّ استدلاله بالآية يقتضى ذلك، و كذا قوله فيما بعد: «انّ وليّ محمّد من أطاع الله ...» إلى آخر الفصل، فلم يذكر العلم، و إنّما ذكر العمل.
واللحمة - بالضمّ - : النسب و القرابة، وهذا مثل الحديث المرفوع «ائتوني بأعمالكم، ولا تأتوني بأنسابكم، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم» (3). وقال ابن ميثم: ولمّا كان الغرض من الأنبياء جذب الخلق إلى الله بطاعته، فكلّ من كان أبلغ في الطاعة كان أشدّ موافقة لهم، وأقرب إلى قلوبهم، وأقوى نسبةً إليهم؛ ولمّا لم يكن طاعتهم إلّا بالعلم بما جاؤوا به، كان أعلم الناس بذلك أقربهم إليهم، و أولاهم به و برهان ذلك الآية المذكورة. (4)
انتهى.
22 - اعْقلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لا عَقْلَ رِوَايَةٍ، فَإِنَّ رُوَاةَ العِلْمِ كَثِيرٌ، وَ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ (5)
نها هم علیه السلام أن يقتصروا إذا سمعوا منه أو من غيره أطرافاً من العلم و الحكمة، على أن يرووا ذلك رواية، كما يقرأ أكثر الناس القرآن دراسة 8
ص: 17
و لا يدري من معانيه إلّا اليسير.
و أمرهم أن يعقلوا ما يسمعونه عقل رعاية أي معرفة وفهم.
ثمّ قال لهم: «إنّ رواة العلم كثير ورعاته قليل»، أي من يراعيه ويتدبّره (1).
24 - إِنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ عَدُوَّانِ مُتَفَاوِتَانِ، و سَبِيلَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا وَ تَوَلَّاهَا أَبْغَضَ الْآخِرَةَ وَ عَادَاهَا، وَ هُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ، وَ مَاشٍ بَيْنَهُمَا كُلَّمَا قَرُبَ مِنْ وَاحِدٍ بَعُدَ مِنَ الْآخَرِ، وَ هُمَا بَعْدُ ضَرْتَانِ (2).
هذا الكلام لا يحتاج إلى بيان لأنّ عمل كلّ واحدة من الدّارين مضادّ العمل الأخرى.
25 - إِنَّ الله تَعَالَى افْتَرَضَ عليكم فَرَائِضَ فَلَا تُضَيَّعُوهَا، وَحَدَّ لكم حُدُوداً فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَ نَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ لَكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ وَلَمْ يَدَعْهَا نِسْيَاناً فَلَا تَتَكَلَّفُوهَا (3).
فرائض الله: واجبات دينه و حدوده: نهايات ما أباحه من نعمة و رخّص فيه (4).
و انتهاك الحرمة تناولها بما لا يحلّ: (5) إما بارتكاب ما نهى عنه أو بالإخلال بما أمر به.
و قوله علیه السلام: «فلا تتكلّفوها» أي بالسؤال والبحث عنه، ونحو ذلك.
(1) شرح ابن أبي الحديد 18 / 256.
(2) نهج البلاغه، الحكمة 103
(3) نهج البلاغه، الحكمة 105
(4) شرح ابن میثم، ج 5، ص 274
(5) مجمع البحرين، ج 5، ص 296، مادة نهك.
ص: 18
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَلَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (1)
وجاء في الأثر: أبهموا ما أبهم الله.
و حكي عن بعض الصالحين أنّه قال لبعض الفقهاء: لِمَ تفرض مسائل لَمْ تقع و أتعبت فيها فكرك! حسبك بالمتداول بين الناس، و قال شريك في أبي حنيفة أجهل الناس بما كان، و أعلمهم بما لم يكن.
26 - إِذَا اسْتَوْلَى الصَّلَاحُ عَلَى الزَّمَانِ وَ أَهْلِهِ، ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ حَوْبَةٌ [خزية ] فَقَدْ ظَلَمَ، وَ إِذَا اسْتَوْلَى الْفَسَادُ عَلَى الزَّمَانِ وَ أَهْلِهِ فَأَحْسَنَ رَجُلُ الظَّنَّ بِرَجُلٍ، فَقَدْ غَرَّرَ (2).
«يريد أنّه يتعيّن على العاقل سوء الظنّ حيث الزمان فاسد، و لا ينبغي سوء الظنّ حيث الزمان صالح. وقد جاء في الخبر: النهي عن أن يظنّ المسلم بالمسلم ظنّ السوء، و ذلك محمول على المسلم الذي لم تظهر منه حوبة، كما أشار إليه علیه السلام الهلال والحوبة: معصية» (3).
و في بعض النسخ: الخزية، وهي: الفضحية، «و الخبر هو ما رواه جابر قال: نظر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى الكعبة، فقال: مرحباً بك من بيت ما أعظمك و أعظم حرمتك! و الله إنّ المؤمن أعظم حرمةً منك عند الله عزّوجل، لأنّ الله حرّم منك واحدةً، ومن المؤمن ثلاثة: دمه وماله وأن يظن به ظنّ السوء».
قيل الصوفيّ: ما صناعتك؟ قال: حسن الظنّ بالله، وسوء الظنّ بالناس. .
ص: 19
وكان يقال: ما أحسن حسن الظنّ إلّا أنّ فيه العجز، و ما أقبح سوء الظنّ إلّا أنّ فيه الحزم» (1).
قال الطغرائي:
«وحسن ظنّك بالأيام مَعْجزة» (2)
27 - إِضَاعَةُ الْقَرْصَةِ غُصَّةٌ (3).
أي: إنّ تضييع الأمر وقت إمكانه من نفسه يستلزم الغصّة، والأسف، والحزن على تفويته.
وفي المثل انتهزوا الفرص، فإنّها تمرّ مرّ السحاب (4).
28 - إِنَّ لِلَّهِ مَلَكاً يُنَادِي في كُلِّ يَوْمٍ: لِدُوا لِلْمَوْتِ، وَ اجْمَعُوا لِلْفَنَاءِ، وَابْنُوا لِلْخَرابِ. (5).
اللامات الثلاثة تسمّى لام العاقبة، مثل قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) (6).
فإنّهم ما التقطوه لهذه العلّة، بل للتبنّي، لكن كان عاقبة التقاطهم إيّاه العداوة و الحزن، و كذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) 9
ص: 20
و بالجملة، خلاصة كلامه علیه السلام التنبيه على أنّ الدنيا دار فناء و عطب، لا دار بقاء و سلامة و أنّ الولد يموت، والدور تخرّب، وما يجمع من الأموال يفنى. و قد نظم الشاعر بقوله:
له ملك يُنادي كلّ يوم *** الدوا للموت وابنوا للخراب
29 - اسْتَنْزِلُوا الرّزْقَ بِالصَّدَقَةِ (1).
لا ريب انّ التصدّق على الغير يستلزم تأليف قلبه واجتماع همّه على دعاء الله لصلاح المتصدّق وهو سبب لاستنزال الرزق مع انّ لكلّ نفس رزق مقدّر، فإذا صرت سبب الوصول تستنزل رزقه عليك، و لهذا ورد:
من وَسَّع وُسّع عليه، و كلّما كثر العيال كثر الرزق» (2).
و بهذا المعنى أشار علیه السلام بقوله بعد هذا الكلام: «تَنْزِلُ الْمَعُونَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَؤونة» (3).
30 - أعْتَصِمُوا [استعصموا - خ ل] بِالذّمَمِ فِي أَوْتَادِهَا (4).
الذمم العهود والعقود والأيمان، وفي أوتادها، أي: في مركزها و مظانّها، أي لا تستندوا إلى ذمام الكافرين و المارقين، فإنّهم ليسوا أهلاً للاستعصام بذممهم، كما قال تعالى: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً).(5)
وقال: (إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ) (6). 2
ص: 21
وهذه كلمة قالها بعد انقضاء أمر الجمل وحضور قوم من الطُّلقاء بين يديه ليبايعوه، منهم مروان بن الحكم (1).
31 - الإِعْجَابُ يَمْنَعُ مِنَ الْاِزْدِيَاد (2).
إعجاب المرء بفضيلته الداخلة كعلمه، أو الخارجة كغناه إنّما يكون عن تصوّر كماله فيها واعتقاده أنّه قد بلغ منها الغاية القصوى، وهذا الاعتقاد يمنعه عن طلب الزيادة منها، و إنّما يطلب الزيادة من يستشعر التقصير لا من يتخيّل الكمال.
وورد في ذمّ العجب روايات كثيرة منها قوله علیه السلام: «ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متبع، و إعجاب المرء بنفسه» (3).
32 - الْأَمْرُ قَرِيبٌ، وَالْاصْطِحَابُ قَلِيلٌ (4).
هذه الكلمة تذكرّ بالموت و سرعة زوال الدّنيا، و المراد بالأمر: أمر الله وهو الموت.
33 - إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ (5).
إنّ للنفوس فيما يتوقّع مكروهه انفعالاً كثيراً و فكراً عظيماً فى كيفيّة دفعه، و الخلاص منه، و ذلك أصعب بكثير من الوقوع فيه لطول زمان الخوف هناك وتأكده بتوقع الأمر المخوف. 5
ص: 22
34 - آلَةُ الرِّيَاسَةِ سَعَةُ الصَّدْرِ (1).
الرئيس محتاج إلى أمور: منها الجود، ومنها الشجاعة، و منها - وهو الأهمّ - سعة الصدر، وهي فضيلة تحت الشجاعة، و هي أن لا يدع الإنسان قوّة التجلّد عند ورود الأحداث المهمّة، والخطوب العظيمة عليه، ولا يحار أويدهش فيها بل يتحمّلها.
35 - أزْجُرِ الْمُسِي بِثَوَابِ الْمُحْسِنِ (2).
قال أبو العتاهية:
إذا جازيتَ بالإحسان قوماً *** زجرت المذنبين عن الذنوب
فمالك و التناول من بعيدٍ *** ويمكنك التناول من قريبِ (3)
36 - أَحْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ (4).
هذا يفسّر على وجهين:
أحدهما: أن يريد: لا تضمر لأخيك سوءاً حتّى لا يضمر هو لک سوءاً، لأنّ القلوب يشعر بعضها ببعض، فإذا صفوت لواحد صفالك.
الثاني: أن يريد: لا تعظ الناس، ولا تنههم عن منكر إلا وأنت مقلع عنه.
37 - إِنَّمَا الْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ الْمَنَايَا، وَنَهْبٌ تُبَادِرُهُ الْمَصَائِبُ؛8
ص: 23
وَ مَعَ كُلِّ جُرْعَةٍ شَرَقٌ وَ فِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ؛ وَ لَا يَنَالُ الْعَبْدُ نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى، وَ لَا يَسْتَقْبِلُ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا بِفِرَاقِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ؛ فَنَحْنُ أَعْوَانُ الْمَنُونِ وَ أَنْفُسُنَا نَصْبُ الْحُتُوفِ، فَمِنْ أَيْنَ نَرْجُو الْبَقَاءَ؛ وَ هَذَا اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ لَمْ يَرْفَعَا مِنْ شَيْءٍ شَرَفاً إِلَّا أَسْرَعَا الْكَرَّةَ فِي هَدْمِ مَا بَنَيَا وَ تَفْرِيقِ مَا جَمَعَا؟! (1)
هذا فصل لطيف من الموعظة مشتمل على ثمان كلمات.
الغرض: الهدف تنتضل أي ترتمي، والنهب بمعنى: المنهوب.
وقوله: «مع كل جرعة ...» الى آخره كناية عن تنغيص لذّات الدنيا بما يشوبها و يخالطها من الأعراض و الأمراض.
و أمّا قوله: «ولا ينال العبد نعمة إلّا بفراق أخرى» لأنّ النعمة الحقّة هي اللّذة، و ظاهر أنّ النفس في الدنيا لا يمكن أن يحصل على لذّتين دفعة؛ مثلاً: الذي حصلت له لذّة الجماع حال ما هي حاصلة له، لا بدّ أن
هي يكون مفارقاً لذّة الأكل و الشرب، وكذلك العكس وهكذا.
و المنون الموت، وأمّا كوننا أعوانه باعتبار أنّ كل نفس وحركة من الإنسان فهى مقرّبة له إلى أجله، فكأنّه ساع نحو أجله ومساعد عليه، وهذا كقوله علیه السلام: «نَفَسُ الْمَرْءِ خُطَاهُ إِلَى أَجَلِهِ» (2).
و النصب بمعنى: منصوبة.
وقوله: «فمن أين نرجوا» إلى آخره استفهام عن جهة رجاء البقاء استفهام إنكار لوجودها مع وجود الزمان الذي من شأنه أنّه لم يرفع بشيء شرفاً، و يجمع الأمر شملاً إلا أسرع العود في هدم ما رفع، و تفريق ما جمع. .
ص: 24
38 - إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَ إِقْبَالاً و إِدْبَاراً؛ فأتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَ إِقْبَالِهَا، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أُكْرِهَ عَمِيَ (1).
أمر علیه السلام بإعمال النفوس فيما ينبغي إعمالها فيه من فكر و نظر، حين ميلها إليه، و إقبالها عليه. ونفّر عن حملها عليه مع النفرة عنه و الكراهيّة له؛ لأنّ إكراه النفس على الفكّر في الشيء حين نفرتها عنه ملال أو ضعف قوة يزيدها كراهيّة، ويمنعها ذلك عن إدراك ما تفكّر فيه، فلا يدركه وإن كان واضحاً حتّى يكون كالأعمى.
39 - إِنَّ مَعَ كُلَّ إِنْسَانٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّيَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُ، وَإِنَّ الْأَجَلَ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ (2).
أي: إذا جاء القدر بموته على وفق القضاء الإلهيّ خَلَّيا بينه وبين القدر، وهو كقوله تعالى: ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) (3) الآية.
40 - أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِنْ قُلْتُمْ سَمِعَ، وَ إِنْ أَضْمَرْتُمْ عَلِمَ، وَبَادِرُوا المَوْتَ الَّذِي إِنْ هَرَبْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ، وَ إِنْ أَقَمْتُمْ أَخَذَكُمْ وَإِنْ نَسيتُمُوهُ ذَكَرَكُمْ (4).
رغّب في تقوى الله، و الخشية منه، ومبادرة الموت، ومسابقته بالأعمال الصالحة. .
ص: 25
41 - أَوَّلُ عِوَضِ الْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ أَنْصَارُهُ عَلَى الْجَاهِلِ (1).
فيه ترغيب على فضيلة الحليم بما يلزمه من نصرة الناس لصاحبها على الجاهل عند سفهه عليه.
42 - إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ، فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ (2).
التحلّم: تكلّف الحلم والذي قاله علیه السلام قد جرّب وشوهد مراراً، وذلك لأنّ من تشبّه بقوم و تكلّف التخلّق بأخلاقهم، و التأدّب بآدابهم، و استمرّ على ذلك، ومرن عليه الزمان الطويل، اكتسب رياضة قويّة و ملكة تامّة، و صار ذلك التكلّف كالطبع له، وانتقل عن الخلق الأوّل، و ذلك مشاهد في حال الأعرابيّ الجلْف (3) الجافي إذا دخل المدن و القرى وخالط أهلها فإنّه يصير بعد زمان طويل شبيهاً بساكنى المدن يلطف طبعه، بل هذا مشاهد في الحيوانات كالبازي والصقر والفهد الّتي تراض حتّى تذلّ، و تأنس وتترك طبعها القديم، بل قد شوهّد ذلك في الأسد، و هو أبعد الحيوانات من الإنس، حتّى نقل أنّ عضد الدولة بن بويه كانت له أسود يصطاد بها كالفهود فتمسكه عليه حتّى يدركه فيذكيّه و هذا من العجائب الطريفة (4). 9
ص: 26
43 - أتَّقُوا اللهَ تَقِيَّةَ مَنْ شَمَّرَ تَجْرِيداً، وَجَدَّ [جرّد - خ ل] تَشْمِيراً، وَ أَكْمَش (1) فِي مَهَلٍ، وَ بَادَرَ عَنْ وَجَلٍ، وَ نَظَرَ فِي كَرَّةِ الْمَوْئِلِ، وَ عَاقِبَةِ الْمَصْدَرِ، وَ مَغَبَّةِ المرجع (2).
أكمش، أي جدّ و أسرع و المهل الإمهال. أي: اتقوا الله كتقيّة من شمّر عن ساق الجدّ في طاعة الله، و جرّد نفسه لمرضاته تشميراً، و سارع بالأعمال الصالحة مادام في مهلة الحياة، و بادر مغفرته في وجل من ثمرات سيّئاته. و الكرّة: الرجعة، و الموئل: المرجع والمغبّة: العاقبة.
44 - أَغْضِ عَلَى الْقَذَى وَ الْأَلم تَرْضَ أَبَداً (3).
الإغضاء على القذى كناية عن كظم الغيظ، و احتمال المكروه، و لمّا كانت طبيعة الدّنيا معجونة بالمكاره لم يخل الإنسان في أكثر أحواله من ورودها عليه؛ فما لم يقابلها بالاحتمال بل بالتسخّط و الغضب بها لم يزل ساخطاً تاعباً بغضبه لدوام ورود المكاره عليه.
45 - أكْثَرُ مَصَارِعِ الْعُقُولِ تَحْتَ بُروق المَطامِعِ [الأطماع - خ ل] (4).
اعلم أنّ من شأن النفس مخادعته العقل، و غروره بزينة الحياة الدّنيا، وقيناتها (5) وإطماعه بها؛ فالعقول الضعيفة غير المؤيّدة من الله أكثر ما تتخدّع وتتضرّع في جريها للنفوس الأمّارة إذا لاح لها مطمع وهمّي من الدنيا. ن)
ص: 27
46 - إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ شُكراً فَتِلْكَ عِبادَةُ الْأَحْرَارِ (1).
إنّ العبادة لرجاء الثواب تجارة و معاوضة، وإنّ العبادة لخوف العقاب المنزلة من يستجدي لسلطان قاهر يخاف سطوته، و تلك ليس عبادة نافعة، و هي كمن يعتذر إلى إنسان خوف أذاه و نقمته، و أما العبادة لله شكراً لأنعمه فهي عبادة نافعة، ولكنّ هذا مقام جليل تتقاصر عنه قوى أكثر البشر (2).
47 - اتَّقِ اللهَ بَعْضَ التَّقَى وَإِنْ قَلَّ، وَ اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ سِتْراً وَ إِنْ رَقَّ (3).
يقال في المثل: ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه (4).
فالواجب على من عسرت عليه التقوى بأجمعها أن يتقي الله في البعض، وأن يجعل بينه و بينه ستراً وإن كان رقيقاً.
وفي أمثال العامّة: اجعل بينك و بين الله رؤزنة، و الروزنة لفظة صحيحة معرّبة، أي لا تجعل ما بينك و بينه مسدوداً مظلماً بالكليّة (5).
و بالفارسيّة يقولون: «هميشه جای صلح باقی گذار»..
ص: 28
48 - إِذَا أَزْدَحَمَ الْجَوابُ، خَفِي الصَّوَابُ (1).
أي إذا كثر الجواب في مسألة واحدة خفي الصواب فيها لالتباس الحقّ من تلك الأجوبة.
49 - إِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ حَقّاً، فَمَنْ أَدَّاهُ زَادَهُ مِنْهَا، وَ مَنْ قَصَّرَ فِيهِ خَاطَرَ بِزَوَالِ نِعْمَتِهِ (2).
حق الله في النعمة شكرها الواجب، و أمّا استلزام أدائه للمزيد منها و كون التقصير مظنّة زوالها فلقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ (3) الآية.
50 - إذَا كَثُرَتِ الْقُدْرَةُ [المقدرة - خ ل] قَلتِ الشَّهْوَة (4).
هذا واضح، وله علّة أوردها ابن أبي الحديد في الشرح، ليس هنا مجال نقلها (5).
51 - أَحْذَرُوا نِفَارَ النَّعَمِ، فَمَا كُلُّ شَارِدٍ بِمَرْدُودٍ (6).
هذا أمر بالشكر على النعمة و ترك المعاصي، فإنّ المعاصي تُزيل النَّعم كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعَها *** فإنّ المعاصي تُزيل النّعمْ (7)
(1) نهج البلاغة، الحكمة 243
(2) نهج البلاغة، الحكمة 244.
(3) سورة ابراهيم (14) / 7.
(4) نهج البلاغة، الحكمة 245
(5):انظر شرح ابن ابی الحدید 19 / 78 - 79
(6) نهج البلاغة الحكمة 246،
(7) شرح ابن أبي الحديد 19 / 80
ص: 29
و من كلامهم الشكر جُنّة من الزوال، و أمنة من الانتقال (1).
و أيضاً: إذا كانت النعمة و سيمةً فاجعل الشكر لها تميمة (2). (3)
52 - أَفْضَلُ الْأَعْمَالَ مَا أَكْرَهْتَ نَفْسَكَ عَلَيْهِ (4).
إنّما كان كذلك، لأنّ فائدة الأعمال الصالحة تطويع النفس الأمّارة للنفس المطمئنة و رياضتها بحيث تصير مؤتمرة للعقل، وإكراه النفس على الأمر يكون لشدّته؛ فكلما كان أشدّ كان أقوى في رياضتها، وأنفع في تطويعها وكسرها، وبحسب ذلك يكون أكثر منفعة فكان أفضل.
ولهذا قال صلی الله علیه و آله و سلم: «أفضل الأعمال [العبادة - خ ل] أحمزها»، أي أشقّها (5)
53 - إِذَا أَمْلَقْتُمْ فَتَاجِرُوا اللَّهَ بِالصَّدَقَةِ (6).
الإملاق الفقر. قال تعالى: ﴿وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتيٰه اللهُ) (7)
قال بعض الشعراء في حق أمير المؤمنين علیه السلام يذكر فيه تصدّقه علیه السلام بقرص الخبز، و إعادة الشمس عليه علیه السلام ولقد أجاد فيما أفاد:
جادَ بالقُرص و الطَّوَى مِلُ جنبي- *** -ه و عافَ الطعام وهو سَغُوبُ (8) .
ص: 30
فأعاد القُرص المنير عليه ال- *** -قُرْصَ و المُقرِض الكرامِ كَسوبُ (1)
54 - أَحْسِنُوا فِى عَقِبِ غَيْرِكُمْ تُحْفَظُوا فِي عَقِبِكُمْ (2).
أكثر ما في هذه الدّنيا يقع على سبيل القرض و المكافأة، فقد رأينا عياناً مَن ظلم الناس فَظُلِمَ عقبه و ولده، و رأينا من قتل الناس فقُتل عقبه و ولده، و رأينا من أخرب دوراً فأُخربت داره، و رأينا مَن أحسن إلى أعقاب أهل النعم فأحسن الله إلى عقبه و ولده.
55 - إِنَّ كَلَامَ الْحُكَمَاءِ إِذَا كَانَ صَوَاباً كَانَ دَوَاءً، وَإِذَا كَانَ خَطَأً كَانَ دَاءً (3).
و ذلك لقوّة اعتقاد الخلق فيهم، و شدّة قبولهم لما يقولون؛ فإن كان حقّاً كان دواء من الجهل، وإن كان باطلاً أوجب للخلق داء الجهل.
و لذلك قيل: زلّة العالمِ زلّة العالَم (4).
56 - أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا عَسى أَنْ يَكُونَ بَعْيِضَكَ يَوْماً مَا، وَ أَبْغِضُ بَغيِضَكَ هَوْناً مَا، عسىٰ أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا (5).
الهون - بالفتح - : التأنّي و السكينة و الوقار، و هو صفة مصدر محذوف، أي حبّاً هيّناً معتدلاً. و البغيض: المبغض. و فائدة هذا الكلام الأمر بالاعتدال في المحبّة و البغض و عدم الإفراط فيهما؛ فربّما انقلب مَن تودّ فصار عدوّاً، و ربّما انقلب مَن تعاديه فصار صديقاً. 8
ص: 31
57 - إِنَّ الطَّمَعَ مُورِدٌ غَيْرُ مُصْدِرٍ وَ ضَامِنٌ غَيْرُ وَفِيٍّ؛ وَ رُبَّمَا شَرِقَ شَارِبُ الْمَاءِ قَبْلَ رِيِّهِ؛ وَ كُلَّمَا عَظُمَ قَدْرُ الشَّيْءِ الْمُتَنَافَسِ فِيهِ عَظُمَتِ الرَّزِيَّةُ لِفَقْدِهِ؛ وَ الْأَمَانِيُّ تُعْمِي أَعْيُنَ الْبَصَائِرِ؛ وَ الْحَظُّ يَأْتِي مَنْ لَا يَأْتِيهِ (1).
قوله علیه السلام: «و ربّما شرق ...» إلى آخره كلام فصيح و هو مَثل لمن يُخْترم بغتة (2) أو تطرقه الحوادث و الخطوب و هو في تلهيةٍ من عيشه (3).
و مثل الكلمة الأخرى قولهم: على قدر العطيّة تكون الرزيّة (4).
«و الحظ يأتي من لا يأتيه»، أي الحظّ لمن كان له حظ يصل اليه وإن لم يسع في طلبه.
و بالجملة، نفّر علیه السلام في هذا الفصل عن الطمع في الدنيا، و الحرص في طلبها و تمنّيها و اقتنائها.
و قد ضرب الحكماء مثالاً لفرط الطمع، أحببت إيراده، قالوا:
إنّ رجلاً صاد قُبَّرةً فقالت: ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أَذبحك و أكلك؛ قالت: والله ما أشفي من قَرَم، ولا أسمن، ولا أغنى من جوع و لكنّي أُعلّمك ثلاث خصال هي خير لك خير لك من أكلي؛ أمّا واحدة فأُعلّمك إيّاه و أنا في يدك، و أمّا الثانية فإذا صرتُ على الشجرة، و أمّا الثالثة فإذا صرتُ على الجبل. فقال: هاتي الأولى قالت: لا تَلهّفنّ على ما فات فخلّاها، فلمّا صارت على الشجرة قال: هاتي الثانية، قالت: لا تُصدّقنّ بما
لا يكون أنّه يكون ثمّ طارت، ثمّ طارت، فصارت على الجبل؛ فقالت: يا ق
ص: 32
شقيّ لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درّتين، وزنُ كل واحدة ثلاثون مثقالاً، فعضّ على يديه، وتلهّف تلهّفاً شديداً، و قال: هاتي الثالثة، فقالت: أنت قد أُنسيتَ الإثنتين، فما تصنع بالثالثة، ألم أقل لك: لا تلهّفنّ على ما فات و قد تلهّفت و ألم أقل لك: لا تصدّقن بما لا يكون أنّه يكون و أنا ولحمي و دمي و ريشي لا يكون عشرين مثقالاً، فكيف صدّقت أنّ في حوصلتي درّتين كل واحدة منهما ثلاثون مثقالاً ثمّ طارت و ذهبت (1).
58 - اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُبِكَ مِنْ أنْ تُحسِّنَ فِي لَامِعَةِ الْعُيُونِ عَلَانِيَتي، وتُقَبِّحَ فِيما أُبْطِنُ لَكَ سَرِيرَتي، مُحَافِظاً عَلَى رَئاءِ النَّاسِ مِنْ نَفْسِي بِجَمِيعِ مَا أَنْتَ مُطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنّي، فَأُبْدِيَ ِللنَّاسِ حُسْنَ ظَاهِرِي، وَأُفْضِيَ إِلَيْكَ بِسُوءٍ عَمَلي، تَقَرُّباً إِلَى عِبادِكَ، وَ تَبَاعُداً مِنْ مَرْضَاتِكَ (2).
لامعة العيون إضافة للصفة إلى الموصوف، أي العيون اللامعة.
59 - إِذَا أَضَرَّتِ النَّوافِلُ بِالْفَرَائِضِ فَارْ فُضُوها (3).
وهذا يقرب من قوله علیه السلام: «لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض» (4).
60 - إِذا أَرْذَلَ اللَّهُ عَبْداً حَظَرَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ(5).
أرذله، أي جعله رذلاً.
قيل: من علامة بغض الله تعالى للعبد أن يُبَغَّضَ إليه العلم (6). 9
ص: 33
قال الشاعر:
شكوتُ إلى وَكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي
و علّله بأنّ العلم فضلٌ *** و فضلُ الله لا يؤتيه عاصي (1)
61 - أَصْدِقَاؤُكَ ثَلاثَةٌ، وَ أَعْدَاؤُكَ ثَلاثَةٌ فَأَصْدِقَاؤُكَ: صَدِيقُكَ، وَ صَدِيقٌ صَدِيقكَ، وَ عَدُوُّ عَدُوِّكَ. وَأَعْدَاؤُكَ، عَدُوُّكَ، وَ عَدُوٌّ صَدِيقكَ، وَصَدِيقٌ عَدُوكَ (2).
و الأصل في هذا أنّ صديقك جارٍ مجرى نفسك، فاحكم عليه بما تحكم به على نفسك، و عدوّك ضدّك، فاحكم عليه بما تحكم به علی الضدّ.
62 - إِنَّ المِسْكِينَ رَسُولُ اللهِ، فَمَنْ مَنَعَهُ فَقَدْ مَنَعَ اللَّهَ، وَمَنْ أَعْطَاهُ فَقَدْ أَعْطى اللهَ (3).
هذا حضّ على الصدقة.
وورد: «اتّقوا النار ولو بشقّ تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمةٍ طيّبة» (4).
وورد: «لو صدق السائل لما أفلح من ردّه» (5).
63 - اَتَّقُوا ظُنُونَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الله (6) جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى أَلْسِنَتِهِم (7)
كان يقال: ظنّ المؤمن كهانة (8) وذلك لإنّه لا يتخطاً لصفاء نفسه، 19
ص: 34
و كمال استعدادها للفكر الصحيح كما قال صلی الله علیه و آله و سلم: «اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله» (1).
64 - إِنَّ لِلْقُلوبِ إِقْبالاً و إِدْباراً؛ فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَى النَّوافِلِ، وَ إِذَا أدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِها عَلَى الْفَرائِضِ (2).
لاريب أنّ القلوب تملّ كما تملّ الأبدان؛ و تقبل تارة على العلم و تارة على العمل، وتدبر تارة عنهما.
قال علیه السلام: فإذا رأيتموها مقبلة أي قد نشطت و ارتاحت للعمل فاحملوها على النوافل، أي أدّوا الفريضة و تنفّلوا بعدها. وإذا رأيتموها قد ملّت و سئمت فاكتفوا على الفرائض، فإنّه لا انتفاع بعمل لا يحضر القلب فيه.
65 - أَنَا يَعْسُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَ الْمَالُ يَعْسُوبُ الْفُجَّارِ (3)
قال السيّد: و معنى ذلك أن المؤمنين يتبعونني، و الفجّار يتبعون المال؛ كما تتبع النحلُ يعسوبها، و هو رئيسها (4).
66 - أَتَقُوا مَعَاصِيَ اللهِ فِي الْخَلَوَاتِ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْحَاكِم (5).
إذا كان الشاهد هو الحاكم استغنى عمن يشهد عنده؛ فالإنسان إذن جديرٌ أن يتّقي الله حقّ تقاته، لأنّه تعالى الحاكم فيه و هو الشاهد عليه. 4
ص: 35
67 - إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ: فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مَنع غَنِيُّ، (1) وَ الله تعالى [جدّه] سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ (2).
أراد بذلك الفرض الزكاة، و رهّب علیه السلام الأغنياء بقوله: «والله سائلهم عن ذلك.»
68 - الاِسْتِغْناءُ عَنِ العُذْرِ أَعَزُّ مِنَ الصِّدْقِ بِهِ (3).
روي: «خير من الصدق» (4).
و المعنى: لا تفعل شيئاً تعتذر عنه و إن كنت صادقاً في العذر، فإنّ الاستغناء عن العذر بعدم فعل ما يعتذر عنه أعزّ عليك و أنفع لك من أن تفعل ثمّ تعتذر عنه وإن كنت صادقاً.
ويحتمل أن يكون معنى «أعزّ» أي أكثر عزّة لك، إذ الإتيان بالعذر يحتاج إلى ذلّة و مهانة، كما قيل: لا يقوم عزُّ الغضب بذلّة الاعتذار (5).
69 - أَقَلُّ مَا يَلْزَمُكُمْ لِلّهِ سُبْحانَهُ أنْ لا تَسْتَعِينُوا بِنِعَمِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ (6).
وذلك أنّ العدل أن تستعينوا بنعمه على طاعته، فإن لم تفعلوا ذلك فلا أقلّ من أن يستعملوها فى الأمور المباحة دون معصيته، فإنّ ذلك ممّا يعدّ السخطه، فإنّه من القبيح الفاحش أن ينعم الملك على بعض رعيته بمال و عبيد وسلاح فيجعل ذلك المال مادّة لعصيانه و الخروج عليه، ثمّ 0
ص: 36
يحاربه بأولئك العبيد، و بذلك السلاح بعينه.
70 - إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الطَّاعَةَ غَنِيمَةَ الْأَكْياسِ عِنْدَ تَفْرِيطِ الْعَجَزَةِ (1).
طاعته غنيمة الأكياس باعتبار استلزامها للنعيم المقيم في الآخرة. و سبب الغنيمة غنيمة.
و الأكياس هم الذين استعملوا فطنهم و حركاتهم في تحصيل ما ينبغي من علم و عمل و العجزة هم المقصّرون عمّا ينبغي لهم، و هذا مثل صيدٍ استذفً (2) لرجلين: أحدهما جلد و الآخر عاجز، فقعد عنه العاجز لعجزه و حرمانه، و اقتنصه الجلد لشهامته و قوّة جدّه (3)
71 - أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا أَسْتَهَانَ بِهِ صَاحِبُهُ (4).
و ذلك لأنّ استهانته به يستلزم انهما كه فيه و استكثاره منه، و عدم إقلاعه عنه حتّى يصير ملكة بخلاف ما يستصعبه من الذنوب.
72 - أَكْبَرُ الْعَيْب أَنْ تَعيب ما فيكَ مِثْلُه (5).
هذا مثل قوله علیه السلام: «من نظر في عيوب غيره (6)، فأنكرها، ثمّ رضيها لنفسه، فذلك الأحمق بعينه» (7).
73 - أيُّها النَّاسُ لِيَرَكُمُ اللهُ مِنَ النِّعْمَةِ وَجِلِينَ، كَمَا يَرَاكُمْ مِنَ النُّقْمَةِ فَرِقِينَ إِنَّهُ 9
ص: 37
مَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ فِي ذاتِ يَدِهِ، فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اسْتِدْراجاً فَقَدْ أمِنَ مَخُوفاً، وَ مَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اخْتِباراً فَقَدْ ضَيَّعَ مَأمُولاً (1).
الاستدارج: الأخذ على غرّة. و أمر بالوجل من نعمة الله حال إفاضتها خوف الاستدراج بها كما يخاف من النقمة، و ذلك أن النعمة بلاء يجب مقابلته بالشكر كما أنّ النقمة بلاء يجب مقابلته بالصبر و الغرض الحثّ على فضيلتي الشكر والصبر.
وحذّر من الركون إلى النعمة و الغفلة فيها عن الله بقوله: «إنّه من وسّع» إلى قوله: «مخوفاً» و كذلك حذر الفقير أن يغفل عن كون فقره بلاء أو اختباراً بما يلزم ذلك من تضييع المأمول، و ذلك لأنّه يستعدّ باعتقاد أنّه اختبار من الله له للصبر عليه، و يؤمّل منه تعالى الأجر الجزيل في الآخرة، وإذا لم يعتقد ذلك ضيّع مأموله منه.
74 - إِذَا كَانت لَكَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَاجَةٌ فَابْدَأُ بِمَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النبي صَلَّى (2) اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، ثُمَّ سَلْ حَاجَتَكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ حَاجَتَيْنِ، فَيَقْضِيَ إِحْدَاهُمَا وَ يَمْنَعَ الأُخْرى (3).
75 - إِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ وَضَعَ الثَّوابَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَ الْعِقابَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، ذِيَادَةٌ لِعِبادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ وَ حِياشَةً لَهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ (4)
الذودة: الدفع و المنع. وحياشة مصدر: حشت الصيد - بضمّ الحاء - 8
ص: 38
أحوشه، إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة (1).
أشار علیه السلام إلى غايتي الحكمة الإلهية من وضع الثواب و العقاب و هما دفع عباد الله عن نقمته و جمعهم إلى جنته.
76 - إِنَّ الْحَقُّ ثَقِيلٌ مَرِيءٌ وَ إِنَّ الْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِيءٌ: (2).
مرؤ الطعام - بالضمّ - فهو مريء على «فعيل» كخفيف. و وبي البلد - بالكسر - فهو و بيء على «فعيل» أيضاً (3).
و المراد أنّ الحقّ و إن كان ثقيلاً إلّا أنّ عاقبته محمودة، و الباطل وإن كان خفيفاً إلّا أنّ عاقبته مذمومة، فلا يحملنّ أحدكم حلاوةُ عاجل الباطل على فعله، فلا خير في لذًة قليلة عاجلة، يتعقّبها مضارٌ عظيمة آجلة، و لا يصرفنُ أحدَكم عن الحقٌ ثقلُه، فإنّه سيحمد عقبى ذلك، كما يحمد شارب الدواء المرّ شربه فيما بعد إذا وجد لذّة العافية.
77 - اَحْذَرْ أَنْ يَرَاكَ اللهُ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ، وَيَفْقِدَكَ عِنْدَ طَاعَتِهِ، فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ، وَإِذا قَوِيتَ فَاقْوَ عَلى طَاعَةِ اللهِ، و إِذَا ضَعُفْتَ فَاضْعُفْ عَنْ مَعْصِيَةِ الله (4).
حذّر من الأمرين بما يلزمه من دخوله في زمرة الخاسرين لثواب الله يوم القيامة، ثمّ أمر بالقوّة على طاعة الله ليتمّ الاستعداد بها لرحمته، و بالضعف عن معصيته ليضعف الاستعداد بها عن قبول سخط الله و نقمته. 3
ص: 39
78 - ألاَ و إنّ مِنَ البَلاءِ الفاقَةَ، و أشَدُّ مِنَ الفاقَةِ مَرَضُ البَدَنِ، و أشَدُّ مِن مَرَضِ البَدَنِ مَرَضُ القَلبِ؛ ألاَ و إنَّ مِنَ النِّعَمِ سَعَةُ المالِ، و أفضَلُ مِن سَعَةِ المالِ صِحَّةُ البَدَنِ، و أفضَلُ مِن صِحَّةِ البَدَنِ تَقوَى القَلبِ. (1).
أشار علیه السلام إلى درجات البلاء و تفاوتها بالشدّة و الضعف. وإلى ما يقابلها من درجات النعمة كذلك.
فأمّا مرض القلب و صحّته فالمراد بها التقوى وصحّتها، قال الله تعالى: (إِلّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (2)
وقال بعض الشعراء:
المالُ للمرء في معيشته *** خيرٌ من الوالدين و الولدِ
وإن تَدُمْ نِعمة عليك تَجِد *** خيراً من المال صحة الجسدِ
و ما بمن نال فضلَ عافية *** و قوت يوم فقر إلى أحدِ (3)
79 - أَزْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُبَصِّرْكَ اللهُ عَوْرَاتِها، وَلا تَغْفُلْ فَلَستَ بِمَغْفُولٍ عَنْك (4).
لمّا كانت محبّة الدّنيا مستلزمة لإخفاء عيوبها عن إدراك محبّيها، كما قيل: «حبّك الشيء يعمي ويصمّ» (5)، كان بغضها و السخط عليها رافعاً لذلك الستر.
أمر علیه السلام بالزهد فيها لهذه الغاية؛ فإنّه إذا زهد فيها فقد سخطها، وإذا سخطها أبصر عيوبها مشاهدة لا رواية. و هذا كما قال القائل: 1
ص: 40
و عينُ الرضا عن كلّ عيبٍ كليلةً *** و لكنّ عين السَّخط تُبدي المَساويا (1)
ثم نهى عن الغفلة فيها، إنّك غير مغفول عنك، فلا تغفل أنت عن نفسك؛ فإنّ أحق الناس و أولاهم أن لا يغفل عن نفسه من ليس بمغفول عنه، و من عليه رقيب وشهيد ومن يناقش عليه الفتيل (2) و النقير (3).
80 - إِنَّ لِلْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ حَقّاً، وَ إِنَّ لِلْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ حَقّاً (4)؛ فَحَقُّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يُطِيعَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ وَ حَقُّ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ أَنْ يُحَسِّنَ اسْمَهُ وَ يُحَسِّنَ أَدَبَهُ وَ يُعَلِّمَهُ الْقُرْآنَ (5).
أمّا صدر الكلام فمن قول الله سبحانه: (أنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِليَّ الْمَصِيرُ. وَ إِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُما) (6)
81 - افْعَلُوا الْخَيْرَ وَ لَا تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَ قَلِيلَهُ كَثِيرٌ. وَ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنَّ أَحَداً أَوْلَى بِفِعْلِ الْخَيْرِ مِنِّي، فَيَكُونَ وَ اللَّهِ كَذَلِكَ (7).
القليل من الخير خير من عدم الخير أصلاً.
قوله: «و لا يقولنّ» إلى آخره كناية عن ترك المرء الخير اعتماداً على أنّ غيره بفعله أولى، مثل ردّ السائل عن الباب و إحالته إلى آخر بقوله: 2
ص: 41
اذهب إلى فلان، فهو أولى بأن يتصدق عليك منّي.
«فيكون و الله كذلك» أي أنّ الله يوفّق ذلك الشخص الذي أُحيل السائل عليه فيصدّق عليه، فتكون كلمة ذلك الإنسان الأوّل قد صادف قدراً و قضاءً، و وقع الأمر بموجبها.
82 - إنّ لِلْخَيْرِ و الشَّرِّ أَهْلاً، فَمَهْمَا تَرَكْتُمُوهُ مِنْهُما كَفَا كُمُوهُ أَهْلُهُ (1).
هذا ترغيب في الخير وتنفير عن الشر.
83 - إِنَّ لِلّهِ عِباداً يَخْتَصُّهُمْ [الله] بِالنَّعَمِ لِمَنَافِع الْعِبَادِ، فَيُقِرُّها فِي أَيْديِهِمْ مَا بَذَلُوها؛ فَإِذا مَنَعُوهَا نَزَعَها مِنْهُمْ، ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلى غَيْرِهِمْ (2).
و قريب من ذلك قول الشاعر: (3)
لم يُعطك الله ما أعطاك من نعمٍ *** إلّا لتوسعَ مَن يرجوك إحسانا
فإن منعت فأَخْلِقْ أن تُصادفها *** تطير عنك زَرافاتٍ و وُحدانا (4)
84 - إِنَّ أَعْظَمَ الْحَسَرَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَسْرَةً رَجُلٍ كَسَبَ مَالاٌ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ فَوَرَّثَهُ رَجُلاً (5) فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ فَدَخَلَ بِهِ الْجَنَّةَ وَ دَخَلَ الْأَوَّلُ بِهِ النَّارَ (6).
ويناسب هنا نقل قوله لابنه الحسن علیه السلام: «يَا بُنَيَّ، لَا تُخَلَّفَنَّ وَرَاءَكَ شَيْئاً مِنَ الدُّنيا ...» (7) 6
ص: 42
85 - إِنَّ أَخْسَرَ النَّاسِ صَفْقَةٌ، وَ أَخْيَبَهُمْ سَعْياً، رَجُلٌ أَخْلَقَ بَدَنَهُ فِي طَلَبِ مَالِهِ، وَلَمْ تُسَاعِدَهُ الْمَقَادِيرُ عَلَى إِرَادَتِهِ، فَخَرَجَ مِنَ الدُّنْيا بِحَسْرَتِهِ، وَقَدِمَ عَلَى الْآخِرَةِ بِتَبِعَتِهِ (1).
هذه حال أكثر الناس، و ذلك لأنّ أكثر هم يكدّ بدنه و نفسه في بلوغ الآمال الدنيويّة، و القليل منهم من تساعده المقادير على إرادته، وإن ساعدته على شيء منها بقي في نفسه ما لا يبلغه، فأكثرهم إذن يخرج من الدّنيا بحسرته، و يقدم على الآخرة بتبعته.
86 - أذكُرُوا انْقِطَاعَ اللذّاتِ، وَ بَقَاءِ التَّبِعَاتِ (2).
قال الشاعر:
تفنى اللذاذةُ ممن نال بغيته *** من الحرام، ويبقى الإثمُ و العارُ
نبقى عواقبُ سوءٍ في مَغبَتها *** لا خير في لذّة من بعدها النّارُ (2)
87 - أَخْبُرُ تَقْلِه (3).
قال الرضيّ قدس سره: و من الناس من يروي هذا الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و ممّا يقوّي أنّه من كلام أمير المؤمنين علیه السلام ما حكاه ثعلب، قال: حدّثنا ابن الأعرابيّ قال: قال المأمون: لو لا أن عليّاً علیه السلام قال: أخبر تَقْلِه لَقُلت أنا: أَقْلِهْ تَخْبُرُ (4). 3
ص: 43
المعنى: اخبر الناس و جرّبهم، تبغضهم، فإن التجربة تكشف لك عن مساويهم وسوء أخلاقهم، فضرب مثلاً لمن يظنّ به الخير وليس هناك.
قيل: طيّروا الدم في وجوه الشباب فإن حلموا و أحسنوا الجواب فهم هم، و إلّا فلا تطمعوا فيهم (1)
طيروا الدم في وجوه الشباب، أي أغضبوهم؛ لأنّ الغضبان يحمرّ وجهه.
قال الشاعر:
ذَممتُك أوّلاً حتّى إذا ما *** بلوتُ سواك عاد الذمُّ حمدا
ولم أحمدك من خير ولكن *** وجدتُ سِواك شرّاً منك جدّا
فعدت إليك مضطراً ذليلاً *** لأنّي لم أجد مِن ذاك بُدّا
کمجهودٍ تَحامى أكلَ مَيْتٍ *** فلمّا اضطُرّ عادَ إليه شدّا(2)
88 - أَوْلَى النَّاسِ بِالْكَرَم مَنْ عَرَّقَتْ فِيهِ الْكِرَام (3).
عرّقت أي ضربت عروقه في الكرم، أي له سلف و آباء كرام.
قال البحتريّ:
وأرى النجابةَ لا يكون تمامُها *** لنجيب قومٍ ليس بابن نجيب (4)
89 - إِذَا كَانَ فِي رِجُلٍ خَلَّةٌ رائِقَةٌ [رائعة - خ ل]، فَانْتَظِرُوا مِنْهُ أَخَوَاتِها (5). .
ص: 44
مثال ذلك إنسان مستور الحال عنّا رأيناه و قد صدرتْ عنه حركة تروعك و تعجبك؛ إمّا لحسنها أو لقبحها، فينبغي أن ينتظر ويترقّب منه أخوات ما وقع منه؛ و ذلك لأنّ العقل و الطبيعة التي فيه المحرّكة له إلى فعل تلك الحركة، لابدّ أن تحرّكه إلى فعل ما يناسبها، لأنّها ما دعته إلى فعل تلك الحركة لخصوصيّة تلك الحركة، بل لما فيها من المعنى المقتضي وقوعها، وهذا يتعدّى إلى غيرها مما يجانسها، ولذلك لاترى أحداً قد شرب الخمر إلا وسوف يشربها فيما بعد، وبالعكس في الأمور الحسنة.
90 - أَلاَ حُرُّ يَدَعُ هَذِهِ اللُّمَاظَةَ لِأَهْلِها؟ إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنْ إِلَّا الْجَنَّةَ، فَلا تَبِيعُوها إلّا بِها (1).
اللماظة - بفتح اللام (2) - ما تبقى في الفم من الطعام؛ قال الشاعر يصف الدّنيا:
* لُماظة أيّامٍ كأحلامٍ نائم * (3)
«ألا حرّ» مبتدأ و خبره محذوف، أي في الوجود. و قوله: «ليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنّة»، إشارة إلى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (4). .
ص: 45
91 - إِنَّ لِبَني أُمَيَّةَ مِرْوَداً يَجرون فِيهِ، وَلَوِ اخْتَلَفُوا (1) فِيمَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ كَادَتْهُمْ الضِّباعَ لَغَلَبَتْهُم (2).
قال الرضي قدس سره: و هذا من أفصح الكلام و أغربه، و المرود هاهنا مِفعل من الإرواد، و هو الإمهال و الإنظار، فكأنه علیه السلام شبّه المهلة التي هم فيها بالمضمار الذي يجرون فيه إلى الغاية، فإذا بلغوا منقطعها انتقض نظامهم بعدها (3).
قال الفاضل المؤرّخ الأديب عبد الحميد المشهور بابن أبي الحديد: هذا إخبار عن غيب صريح، لأنّ بني أمية لم يزل ملكهم منتظماً لمّا لم يكن بينهم اختلاف، و إنّما كانت حروبهم مع غيرهم كحرب معاوية في صفين، و حرب يزيد أهل المدينة، وابن الزبير بمكّة، وحرب مروان الضحّاك و حرب عبدالملك ابنَ الأشعث وابن الزبير، وحرب يزيد ابنه بني المهلب و حرب هشام زيد بن عليّ، فلمّا ولي الوليد ابن يزيد وخرج عليه ابن عمّه يزيد بن الوليد و قتله، اختلفت بنو أميّة فيما بينهما، و جاء الوعد - و صدق من وعد به - فإنّه منذ قتل الوليد دعت دعاة بني العباس بخراسان، و أقبل مروان بن محمّد من الجزيرة يطلب الخلافة، فخلع إبراهيم بن الوليد، و قتل قوماً من أميّة، واضطرب أمر الملك و انتشر و أقبلت الدولة الهاشميّة و نمت، و زال ملك بني أمية، و كان زوال ملكهم على يد أبي مسلم، وكان في بدايته أضعف خلق الله و أعظمهم فقراً 7
ص: 46
ومسكنة، وفي ذلك تصديق قوله علیه السلام: «ثمّ كادتهم الضباع لغلبتهم». (1) انتهى
قلت: و لفظ الضباع قد يستعار للأراذل و الضعفاء. ونحن قد ذكرنا شرح حال الخلفاء و ما وقع في أيّامهم في كتابنا المسمّى «تتمّة المنتهى في وقايع أيام الخلفاء»
92 - إِذا أَحْتَشَمَ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ فَارَقَهُ (2).
ليس يعني أنّ الاحتشام علّة الفرقة بل هو دلالة و أمارة على الفرقة، لأنّه لو لم يحدث عنه ما يقتضي الاحتشام لانبسط على عادته الأولى، فالانقباض أمارة المباينة.
ص: 47
93 - بَقِيَّةُ السَّيْفِ أَنْمَى عَدَداً، وَ أَكثرُ وَلَداً (1).
قال ابن ميثم: لا أرىٰ ذلك إلّا للعناية الإلهيّة ببقاء النوع وحفظه وإقامته (2)
و قال ابن أبي الحديد في شرحه: قال شيخنا أبو عثمان: ليته لمّا ذكر الحكم ذكر العلّة!
ثمّ قال: قد وجدنا مصداق قوله في أولاده و أولاد الزبير و بني المهلَّب و أمثالهم ممّن أسرع القتلُ فيهم.
وأتي زياد بامرأة من الخوارج فقال: أما والله لأحصدنّكم حضْداً، ولأفنينُكم عدّاً، فقالت: كلاً، إن القتل ليزرعنا، فلمّا هم بقتلها تستّرت بثوبها فقال: اهتكوا سترها لحاها الله (3) فقالت: إنّ الله لا يهتك ستر
(1) نهج البلاغة، الحكمة 84
(2) شرح ابن میثم 283/5
(3) قال في الصحاح 2481/6 - مادة لحي: وقولهم لحاه الله، أي قبحه ولعنه.
ص: 48
أوليائه، ولكن الّتي هتك (1) سترها على يد ابنها سميّة، فقال: عجّلوا قتلها أبعدها الله فقتلت (2)
94 - بِئْسَ الزَّادُ إلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ إلى (3) الْعِبَادِ (4).
لأنّ الظلم رذيلة عظيمة مستلزمة للشقاء الأشقىٰ في يوم الطامة الكبرى. وفي الحديث: الظلم ظلمات يوم القيامة (5)
95 - بِكَثْرَةِ الصِّمْتِ تَكُونُ الْهَيْبَةُ، وَبِالنَّصَفَةِ يَكْثُرُ الْوَاصِلُونَ (6) وَبِالاِفْضَالِ تَعْظُمُ الأَقْدَارُ، وَبِالتَّوَاضُع تَتِمُّ النِّعْمَةُ، وَبِاحْتِمَالِ الْمُؤَنِ يَجِبُ السُّودَدُ، وَبِالسِّيرَةِ الْعَادِلَةِ يُقْهَرُ الْمُنَاوِيُّ، وَبِالْحِلْمِ عَنِ السَّفِيهِ تَكْثُرُ الْأَنْصَارُ عَلَيْهِ (7).
قال يحيى بن خالد ما رأيت أحداً قطّ صامتاً إلّا هبتُه حتى يتكلّم فإما أنْ تزداد تلك الهيبة أو تنقص (8)
ولا ريب أنّ الإنصاف سبب انعطاف القلوب إلىٰ المنصف، وأنّ الإفضال والجود يقتضي عظم،القدر، لأنّه إنعام، و المنعم مشكور، وهكذا إلى آخره، فإنّ الاستقراء و اختبار العادات تشهد بجميع ذلك. 9
ص: 49
قوله: «وبالسيرة العادلة يقهر المناوئ» المناواة: المعاداة، و ذلك لأنّ العدوّ لا يجد لصاحب السيرة العادلة عيباً يستظهر به عليه، ويسعى به في فساد أمره فيبقى مقهواً مأموراً.
96 - بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَوْعِظَةِ حِجَابٌ مِنَ الْغِرَّةِ (1).
اعلم أنّ الدنيا بشهواتها ولذاتها حجاب بين العبد وبين الموعظة، لأنّ الإنسان يغترّ بالعاجلة، ويتوهم دوام ما هو فيه، وإذا خطر بباله الموت وعد نفسه رحمة الله وعفوه؛ هذا إذا كان ممّن يعترف بالمعاد، و إلّا فإنّ كثيراً ممّن يُظهر القول بالمعاد فهو في الحقيقة غير مستيقن له.
وبالجملة الإخلاد إلى عفو الله والاتّكال على المغفرة مع الإقامة على المعصية، غرور لا محالة، و الحازم من عمل لما بعد الموت ولم يُمنّ نفسه الأماني الباطلة.
97 - اَلْبُخْلُ جَامِعٌ لِمَسَاوِيءِ الْعُيُوبِ، وَهُوَ زِمَامٌ يُقَادُ بِهِ إِلَى كُلِّ سُوءٍ (2).
البخل رذيلة التفريط من فضيلة السخاء، و هي مستلزمة للجهل والفجور وحبّ الدّنيا والجبن والظلم والحرص والحسد والشرّ و دناءة الهمّة والكذب والغدر والخيانة وقطع الرحم وعدم المواساة.
وبالجملة، أكثر الرذائل من توابع البخل ولواحقه، وإنّه زمام إلى كلّ منها.
وفي الحديث النبوي صلی الله علیه و آله و سلم: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوىً متّبع و إعجاب المرء بنفسه (3). 9
ص: 50
98 - تَذِلُّ الأُمورُ لِلْمَقَادِيرِ، حتَّى يَكُونَ الْحَتْفُ فِي التَّدْبِير (1).
قال ابن أبي الحديد: إذا تأملت أحوال العالم وجدت صدق هذه الكلمة ظاهراً، و لو شئنا أن نذكر الكثير من ذلك لذكرنا ما يحتاج في تقييده بالكتابة مثل حجم كتابنا هذا (2) أي كتاب شرحه على النهج.
ثمّ ذكر قليلاً منه طوينا عن ذكره كشحا.
99 - تَوَقَّوُا الْبَرْدَ فِي أَوَّلِهِ، وتَلَقَّوْهُ فِي آخِرِه: فَإِنَّهُ يَفْعَلُ فِي الْأَبْدَانِ كَفِعْلِهِ فِي الأَشْجَارِ، أَوَّلُهُ يُحْرِقُ، وَآخِرُهُ يُورِقُ (3).
هذه مسألة طبيعية قد ذكرها الحكماء، قالوا: لمّا كان تأثير الخريف في الأبدان وتوليده الأمراض كالزكام و السعال وغيرهما أكثر من تأثير الربيع، مع أنّهما جميعاً فصلا اعتدال، وأجابوا بأن برد الخريف يفجأ
ص: 51
الإنسان وهو معتاد للحرّ بالصيف فينكأ فيه، و يسدّ مسامّ دماغه، لأنّ البرد يكثف ويسدّ المسامّ فيكون كمن دخل من موضع شديد الحرارة إلى خیش بارد (1).
فأمّا المنتقل من الشتاء إلى فصل الربيع فإنّه لا يكاد برد الربيع يؤذيه ذلك الأذى، لأنّه قد اعتاد جسمه بردَ الشتاء، فلا يصادف من برد الربيع إلّا ما قد اعتاد ما هو أكثر منه، فلا يظهر لبرد الربيع تأثير في مزاجه، على أنّ الصيف و الخريف يشتركان في اليبس فإذا ورد البرد حينئذٍ ورد على أبدان استعدّت بحرارة الصيف و يبسه للتخلخل و تفتّح المسام و الجفاف فاشتدّ انفعال البدن عنه، و أسرع تأثيره في قهر الحرارة الغريزيّة، فيقوى بذلك فى البدن قوّتا البرد و اليبس اللّتان هما طبيعة الموت فيكون بذلك يبس الأشجار واحتراق أوراقها، وضمور الأبدان وضعفها.
فأما لِمَ أورقت الأشجار و أزهرت في الربيع دون الخريف؟ فلما في الربيع من الكيفيتين اللّتين هما منبع النموّ والنفس النباتيّة، و هما الحرارة و الرطوبة، والخريف خال من هاتين الكيفيّتين و مستبدل بهما ضدّهما و هما البرودة و اليبس المنافيان للنشوء و حياة الحيوان و النبات (2).
100 - تَنْزِلُ الْمَعُونَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَؤُونَةِ (3).
المؤونة: التعب و الشدّة، و المراد أنّ الشدّة و الثقل بالعيال و نحوهم 9
ص: 52
معدّ لاستنزال معونة الله برزقه وقوّته على القيام بأحوالهم ودفع المؤونة من جهتهم.
وقد مرّ قريباً من هذا في قوله علیه السلام: (استنزلوا الرزق بالصدقة)) (1).
101 - تَرْكُ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَب التَّوْبَةِ (2).
إذ الترك لا كلفة فيه لكونه عدماً، بخلاف التوبة؛ فإنّه إذا واقع الإنسان الذنب، ثمّ طلب التوبة، فقد لا يخلص داعيه إليها، ثمّ لو خلص فكيف له بحصولها على شروطها، ولا ريب أنّ ترك الذنب من الابتداء أسهل من طلب توبة هذه صفتها.
102 - تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا، فَإِنَّ الْمَرْءَ مَخبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ (3).
قال ابن أبي الحديد: هذه إحدى كلماته علیه السلام التي لا قيمة لها، ولا يقدر قدرها (4)؛ والمعنى قد تداوله الناس قال:
وكائن تَرى مِن صامتٍ لك مُعجبٍ *** زيادتُه أو نقصُه في التكلُّمِ (5)
لسانُ الفتى یصفٌ و نصفٌ فؤادُهُ *** فلم يَبْقَ إِلّا صورةُ اللّحم و الدَّمِ (6) 0
ص: 53
103 - التُّقىَ رَئيسُ الْأَخْلاقِ (1).
التّقى هو الورع والخوف من الله، وإذا حصل حصلت الطاعات كلّها، وانتفت القبائح كلّها، وتلك طبقة عالية أُشرف من جميع الطبقات التي يُمدح بها الإنسان. 0
ص: 54
106 - الْجُودُ حَارِسُ الْأَعْرَاضِ، وَ الْحِلْمُ فِدَامُ السَّفِيهِ، وَ الْعَفْوُ زَكَاةُ الظَّفَرِ، وَ السُّلُوُّ عِوَضُكَ مِمَّنْ غَدَرَ، وَ الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ، وَ قَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ، وَ الصَّبْرُ يُنَاضِلُ الْحِدْثَانَ، وَ الْجَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ الزَّمَانِ، وَ أَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى، وَ كَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ عِنْدَ (1) هَوَى أَمِيرٍ، وَ مِنَ التَّوْفِيقِ حِفْظُ التَّجْرِبَةِ، وَ الْمَوَدَّةُ قَرَابَةٌ مُسْتَفَادَةٌ، وَ لَا تَأْمَنَنَّ مَلُولاً [مَلولا - خ ل] (2).
مثل قوله علیه السلام: الجود حارس الأعراض قولهم: كلّ عيب فالكرم يغطّيه (3).
و الفدام: خرقة تجعل على فم الإبريق، فشبّه الحلم بها، فإنّه يردّ السفيه عن السفه كما يردّ الفدامُ الخمر عن خروج القذى منها إلى
ص: 55
104 - ثَمَرَةُ التَّفْرِيطِ النَّدامَةُ، وَ ثَمَرَةُ الحَزْمِ السَّلامَة (1).
التفريط: إضاعة الحزم في الأمور، و أصل الحزم قوّة العقل، و كثرة التجربة؛ فإنّ العاقل خائف أبداً، و الأحمق لا يخاف ومن خاف أمراً توقاّه، فهذا هو الحزم.
105 - الثَّناءُ بِأَكْثَرَ مِنَ الاسْتِحْقَاقِ مَلَقٌ، وَ التَّقْصِيرُ عَنِ الاسْتِحْقَاقِ عِيٌّ أَوْ حَسَدٌ (2)
الملق هو اللطف الشديد بالقول، و الإفراط في المدح و أمّا إذا قصّر به عن استحقاقه كان المانع إمّا من جانب المُثني فقط من غير تعلّق له بالمثنى عليه، أو مع تعلّق به؛ فالأوّل هو العيّ و الحصر، والثاني هو الحسد و المنافسة.
ص: 56
الكأس (1).
و المناضلة: المراماة (2).
قوله: «و الجزع من أعوان الزمان»، يعني أنّ الإنسان إذا جزع عند المصيبة فقد أعان الزمان على نفسه، و أضاف إلى نفسه مصيبة أخرى.
و قد سبق القول ترك المنى.
و حفظ التجربة: لزومها ومداومتها لغاية الانتفاع بها.
«و لا تأمننّ ملولاً» لأنّ الملول يصرفه ملاله عن الثبات على الصداقة و العهد وكتمان السرّ ونحوها.
107 - جَاهِلُكُمْ مُزْدَادُ، عَالِمُكُمْ (3) مُسَوَّفٌ (4).
أي مزداد الإثم، مسوّف بالتوبة. 3
ص: 57
108 - الْحَذَرَ الْحَذَرَ! فَوَ اللَّهِ لَقَدْ سَتَرَ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ غَفَرِ (1)
حذّر من سخط الله بسبب معصيته لطول إمهاله و ستره إلى الغاية المذكورة، فيجب أن يحذر غضبه و يجتنب معصيته، و يرجع إلى طاعته التي هي الغاية من عنايته بستره.
109 - حَسَدُ الصَّدِيقِ مِنْ سُقْمِ الْمَوَدَّةِ (2).
إذا حسدك صديقك على نعمة أُعطيتها لم تكن صداقته صحيحة، فإنّ الصديق حقّاً من يجري مَجرى نفسك، و الإنسان لم يحسد نفسه.
110 - الْحَجَرُ الْغَصْبُ (3) في الدَّارِ رَهْنُ عَلَى خَرَابِهَا (4)
قال الرضيّ قدس سره: و قد روي ما يناسب هذا الكلام عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم و لا
ص: 58
عجب أن يشتبه الكلامان؛ فإن مستقاهما من قليب، ومفرغهما من ذَنوب (1).
الذنوب - بالفتح - : الدلو الملأى، ولا يقال لها وهي فارغة (2).
ومعنى الكلمة أنّ الدار المبنيّة بالحجارة المغصوبة و لو بحجر واحد لابدّ أن يتعجّل خرابها، و كأنّما ذلك الحجر رهْن على حصول التخرّب، أي كما أنّ الرهن لابدّ أن يُفتكّ، كذلك لابدّ لِما جُعل ذلك الحجر رهناً عليه أن يحصل.
وقال ابن بسّام لأبي عليّ بن مُقْلة لما بنی داره بالزاهر ببغداد من الغصب و ظلم الرعيّة:
قل لابن مُقلة مهلاً لا تكن عَجِلاً *** فإنَّما أنت في أضْغاث أحلامِ
تَبْني بأنقاض دورِ الناس مجتهداً *** داراً ستُنْقَضُ أيضاً بعد أيامٍ
وكان ما تفرّسه ابن بسّام فيه حقّاً، فإنّ داره نُقِضتْ حتّى سوّيت بالأرض في أيام الراضي بالله (3).
111 - الْحِدَّةُ ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ، لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَنْدَمُ، فَإِنْ لَمْ يَنْدَمْ فَجُنُونُهُ مُسْتَحْكم (4).
كأن يقال: لا يصحّ لحديد رأي، لأنّ الحدّة تصدى العقل كما يصدئ الخلّ المرأة فلا يَرى صاحبه فيه صورة حسن فيفعله، ولا صورة قبيح 5
ص: 59
فيجتنبه (1)
وكان يقال أيضاً: أوّل الحدّة جنون، وآخرها ندم (2)
112 - الْحِلْمُ عَشِيرَةٌ. (3)
لأنّه يحمي صاحبه ممّن ينافره ويعاديه كما يحميه عشيرته.
قالوا: من غرس شجرة الحلم، اجتنى ثمرة السلم (4)
وقالوا أيضاً: الحلم جنود مجنّدة لا أرزاق لها (5).
قال الشاعر:
وَلَلْكَفُّ عن شتْم اللئيم تكرّماً *** أضرُّ له من شتْمه حين يشتم (6)
113 - اَلْحِلْمُ غِطَاءُ سَاتِرُ وَالْعَقْلُ حُسَامٌ قَاطعٌ؛ فَاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِكَ بِحِلْمِكَ، وَقَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِكَ (7).
لمّا جعل الله الحلم غِطاء، والعقل حساما، أمره أن يستر خلل خلقه بذلك الغطاء، وأن يقاتل هواه بذلك الحُسام، و كون الحلم غطاء باعتبار انّه. يستر سورة الغضب و قبيح ما يصدر عنه من الأفعال. 4
ص: 60
114 - الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ تَوْأَمَانِ، يُنْتِجُهما عُلُوُّ الْهِمَّةِ (1).
و ذلك لأنّ عالي الهمّة يستحقر كلّ ذنب ومذنب في حقّه، فيحلم عنه ويتأنّى عن المبادرة إلى مقابلته.
قالوا: علّمنا الله تعالى فضيلة الأناة بما حكاه عن سليمان، (سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (2) (3).
وكان يقال: الأناة حصن السلامة، والعجلة مفتاح الندامة (4).
و قيل أيضاً: التأنّي مع الخيبة خير من التهوّر مع النجاح (5) ق
ص: 61
115 - خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةٌ إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ). (1)
حنّوا - بالحاء المهملة - من الحنين و هو الشوق وتوقان النفس من حنّ إليه يحنُّ - بالكسر - حنيناً (2).
وقال ابن أبي الحديد و قد روي «خنّوا» بالخاء المعجمة، من الخنين؛ وهو صوت يخرج من الأنف عند البكاء. وإلى تتعلّق بمحذوف، أي حنّوا شوقاً إليكم (3). وفيه كما ترى.
و بالجملة، هذا الكلام في الأمر بإحسان العشرة مع الناس، وقد ورد في هذا الباب كثير واسع.
ص: 62
قال محمّد بن الحنفيّة قد يدفع باحتمال المكروه ما هو أعظم منه (1)
و روي: حسن السؤال نصف العلم، ومداراة الناس نصف العقل والقصد في المعيشة نصف المؤونة (2).
و في معنى كلامه علیه السلام القول السعديّ بالفارسيّة: (3)
چنان زی که ذکرت به تحسین کنند *** چو مردی نه برگور نفرین کنند
116 - خُذِ الْحِكْمَةَ أَنَّى كَانَتْ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ تَكُونُ فِي صَدْرِ المُنَافِقِ فَتَلَجْلَجَ صَدْرِهِ حَتَّى تَخْرُجَ فَتَسْكُنَ إِلَى صَوَاحِبِهَا في صَدْرِ الْمُؤْمِنِ (4).
قال الرضي - رضی الله عنه - : وقال علیه السلام في مثل ذلك:
117 - اَلْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، فَخُذِ الْحِكْمَةَ وَ لَوْ مِنْ أَهْلِ النِّفاقِ (5).
أمر علیه السلام بأخذ الحكمة وتعلّمها أين وجدت، ولو من المنافقين ورغب من عساه يستنكف من أخذها من بعض المواضع أن يأخذها من كلّ موضع وجدها.
و كنّى بتلجلجها أو اختلاجها على الروايتين عن اضطرابها، و عدم ثباتها في صدر المنافق إلى أن تخرج إلى مظنّها و هي صدر المؤمن، فتسكن إلى صواحبها من الحكم فيه. 0
ص: 63
واستعار لفظ الضالّة للحكمة بالنسبة إلى المؤمن باعتبار أنّها مطلوبه الّذي يبحث عنها وينشدها كما ينشد الضالّة صاحبُها.
و حكي أنّه خطب الحجّاج فقال: إنَّ الله أمرنا بطلب الآخرة، و كفانا مؤونة الدّنيا، فليْتَنا كُفينا مؤونة الآخرة، وَ أُمرنا بطلب الدنيا! فسمعها الحسن، (1) فقال: هذه ضالّة المؤمن خرجت من قلب المنافق (2)
118 - اَلْخِلافُ يَهْدِمُ الرَّأْي (3).
أصله: أنّ رأي الجماعة يجتمع على أمر تكون المصلحة فيه، فيقع من بعضهم خلاف فيه، فيهدم ما اجتمعوا عليه ورأوه من المصلحة.
كما رأى هو علیه السلام وجماعة من أصحابه عند رفع أهل الشام المصاحف صبيحة ليلة الهرير من إتمام القتال، وهو المصلحة، فهدم ذلك الرأي من خالف فيه من أصحابه حتّى وقع بذلك ما وقع (4).
119 - خِيَارُ خِصَالِ النِّسَاءِ شِرارُ خِصَالِ الرِّجَالِ: الزَّهْوُ، وَالْجُبْنُ، وَالْبُخْلُ؛ فَإذَا كَانَتِ المرأَةُ مَزْهُوَّةٌ لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِهَا، وَإِذَا كَانَتْ بَخِيلَةٌ حَفِظَتْ مَالَهَا وَمَالَ بَعْلِهَا، وَإِذَا كَانَتْ جَبَانَةً فَرِقَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَعْرِضُ لَهَا (5).
الأخلاق الثلاثة المذكورة رذائل للرجال و هي فضائل للنساء، وبيان ذلك ما ذكره علیه السلام.
و المزهوّة: المتكبّرة تقول: زُهي الرجل علينا، فهو مزهوّ، إذا افتخر. .
ص: 64
و فرقت: خافت (1)
120 - خُذْ مِنَ الدُّنْيَا مَا أَتَاكَ، وَتَوَلَّ عَمَّا تَوَلَّى عَنْكَ فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَأَجْمِلْ في الطَّلَبِ (2).
الإجمال في طلب الدنيا طلبها برفق من الوجه الذي ينبغي، وعلى الوجه الذي ينبغي، وهي من الألفاظ النبوية، قال صلی الله علیه و آله و سلم: «إن روح الأمين نفث في روعي أنّه لن تموت نفس حتّى تستكمل رزقها [ألا - ظ] فَأَجملوا في الطلب (3)..
ص: 65
121 - الدَّهْرُ يُخْلِقُ الْأَبْدَانَ، ويُجَدِّدُ الأَمَالَ، ويُقَرِّبُ الْمَنِيَّةَ، وَيُبَعِّدُ (1) الْأُمْنِيَّةَ؛ مَنْ ظَفِرَ بِهِ نَصِبَ، وَمَنْ فَاتَهُ تَعِبَ (2).
إخلاق الدهر للأبدان إعداده لضعفها وفسادها بمروره، وما يلحق أجزاءه و فصوله من الحرّ والبرد والمتاعب المنسوبة إليه، وتجديده للآمال بحسب الغرور الحاصل بالبقاء، والصّحة فيه وأكثر ما يعرض ذلك للمشايخ، فإنّ طول أعمارهم وتجاربهم لما يعرض فيه من الحاجة والفقر، يغريهم بالحرص على الجمع، ومد الأمل فيه لتحصيل الدنيا وتقريبه للمنيّة بحسب إخلاقه للأبدان، وتبعيده للأُمنية بحسب تقريبه للمنيّة.
ومن ظفر بالدهر، شقي بضبطها و حفظها، ومن فاته، تعب في تحصيلها.
ص: 66
ولا يخفى ما في كلّ من القرينتين من السجع (1).
قال بعض الحكماء: الدنيا تسرُّ لِتَغُرّ، وتفيد لتكيد، كم راقد في ظلّها قد أيقظتْه، وواثق بها قد خذلتْه، بهذا الخُلُق عُرفت، وعلى هذا الشرط صُوحِبت (2).
وقال شاعر فأحسن:
كأنّك لم تَسْمَعْ بأخبار من مضى *** ولم تر بالباقين ما صنع الدَهْرُ
فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم *** عفاها فحال الريح بعدك و القَطْرُ
وهل أبصرت عيناكَ حيّاً بمنزلٍ *** على الدهر إلا بالعراء له قَبْرُ
فلا تحسبنّ الوفر مالاً جمعتَه *** ولكنّ ما قدمْتَ من صالحٍ وفْرُ
مضى جامعو الأموال لم يتزوّدوا *** سوى الفقر يا بؤسَى لمن زاده الفقرُ
فحتّامَ لا تصحو وقد قرب المدى *** وحتّام لا ينجاب عن قلبك السكْرُ
بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا *** و تذكر قولي حين لا ينفع الذكْرُ 8
ص: 67
وما بين ميلاد الفتى و وفاته *** إذا انتصح الأقوام أنفسهم عَمْرُ
لأنّ الذي يأتیه شبهُ الذي مضى *** و ما هو إلّا وقتك الضيقُ النَّزْرُ
فصبراً على الأيّام حتى تجوزَها *** فعمّا قليلٍ بعدها يُحمد الصبرُ (1)
122 - الدُّنْيا دَارُ مَمَرٍّ لا دارُ مَقَرٍّ، وَ النَّاسُ فِيها رَجُلَانِ: رَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ (2) فَأَوْبَقَهَا، وَرَجُلٌ أَبْتَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَها (3).
أوبقها، أي أهلكها، وكون الدنيا دار ممرّ باعتبار أنّها طريق إلى الآخرة التي هي دار المقرّ.
123 - الدَّاعِي بِلا عَمَلٍ كَالرَّامِي بِلا وَتَرٍ (4).
من خلا من العمل فقد أخلّ بالواجبات، ومن أخلّ بالواجبات فقد فسق و الله تعالى لا يقبل دعاء الفاسق.
وشبّهه بالرامي بلا وتر، فإنّ سهمه لا ينفذ (5).
و نحوه قول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: أحمق الناس من ترك العمل وتمنّى على الله (6) /5
ص: 68
124 - الدّهرُ يَوْمَانِ: يَوْمٌ لَكَ، وَيَوْمٌ عَلَيْكَ، فَإِذَا كَانَ لَكَ فَلَا تَبْطَرْ، وَإِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ (1).
قد ذكر هذا المعنى في كلمات الفصحاء وأشعار الشعراء كثيراً، فمن كلامهم: الدهر يومان: يوم بلاء، ويوم رخاء. والدهر ضربان حَبرة (2) و عَبرة. و الدّهر وقتان: وقت سرور، و وقت ثبور (3) (4)
و من أشعارهم: (5)
فيوم علينا و يوم لنا *** فيوم نساءُ و يوم نسرّ
وقال آخر:
هي طورا هجر وطورا وصال *** ما أمرّ الدنيا و ما أحلاها
إلى غير ذلك.
125 - الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، وَلَمْ تُخْلَق لِنَفْسِهَا (6).
أي خلقت للاستعداد فيها و بها لدرك ثواب الله في الآخرة، لا ليلتذّ بها الجاهلون.
قال أبو العلاء المَعرّيّ - مع ما كان يرمى به:
خُلق الناسُ للبقاء فضلّتْ *** أمَةٌ يحسبونهم للنَّفادِ
إنّما يُنْقَلون من دارٍ أعما *** لٍ إلى دار شِقْوةٍ أو رَشادِ (7) .
ص: 69
126 - رَأْيُ الشَّيْخِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَلَدِ الْغُلَامِ. ويروى: مِن مَشْهَدِ الْغُلَامِ (1).
جلد الغلام: قوّته. وخصّ الرأي بالشيخ، و الجلد بالغلام لأنّ كلّاً منهما مظنّة ما خصّه به وإنّما قال: «رأي الشيخ أحبّ إليّ من جلد الغلام» لأنّ الشيخ كثير التجربة، فيبلغ من العدوّ برأيه ما لا يبلغ بشجاعته الغلام الحدث غير المجرّب، لأنّه قد يغرّر بنفسه فيهلك و يُهلك أصحابه، ولا ريب أنّ الرأي مقدّم على الشجاعة، ولذلك قال أبو الطيّب (2).
الرأي قبل شجاعة الشُّجعانِ *** هو أوّلٌ و هي المحلّ الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مرّةٍ *** بلغتْ من العلياء كلّ مكانٍ
127 - رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ، وَعِلْمُهُ مَعَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ (3).
قال ابن أبي الحديد: قد وقع مثل هذا كثيراً، كما جرى لعبد الله بن
ص: 70
المقفّع، وفضله مشهور، وحكمته أشهر من أن تذكر.
ثم ذكر كيفيّة قتله و مجمله أنه كان كاتباً لعيسى و سليمان ابني عليّ بن عبدالله بن عباس، وكتب لعبد الله بن عليّ عمّ المنصور كتاب أمان ليعرض على المنصور، ويوجد فيه خطّه، فكان من جملته:
ومتى غدر أمير المؤمنين بعمّه عبد الله، أو أبطن غير ما أظهر أو تأوّل في شيء من شروط هذا الأمان فنساؤه طوالق، ودوابّه حُبس، وعبيده وإماؤه أحرار، والمسلمون في حلّ من بيعته.
فاشتدّ ذلك على المنصور، فكتب إلى عامله بالبصرة سفيان بن معاوية يأمره بقتله.
وكيفيّة قتله أنّه كان سفيان عليه ساخطاً لأنّه قال يوماً له: يا بن المغتلمة! فدخل ابن المقفّع يوماً على سفيان، وعنده غلمانه و تنور نارٍ يسجر، فقال له سفيان: أتذكر يوماً قلتَ لي كذا و كذا! أمي مغتلمة، إنْ لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد؛ ثمّ قطع أعضاءه عضواً عضواً، وألقاها [في النار] و هو ينظر إليها، حتّى أتى على جميع جسده، ثم أطبق التنور عليه ... (1)
128 - الرَّاضِي بِفِعْلِ قَوْمٍ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَهُمْ، وَعَلَى كُلِّ دَاخِلٍ فِي بَاطِلٍ إثْمَانِ: إِثْمُ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِثْمُ الرَّضا بِهِ (2).
وجه التشبيه اشتراكهم في الرضا به المستلزم للعمل إليه، ونفّر عن. الدخول في الباطل بما يلزمه من الإثمين: أحدهما من حيث إنّه أراد القبيح، والآخر من حيث إنّه فعله. 4
ص: 71
139 - الرَّحِيلُ وَشِيكٌ (1).
الوشيك: السريع، و المراد من الرحيل ها هنا الرحيل عن الدنيا وهو الموت.
و من كلامه علیه السلام: كان كثيراً ما ينادي به أصحابه:
تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللهُ! فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ، وَأَقِلُّوا الْعُرْجَةَ (2) عَلى الدنيا، وَأنْقَلِبُوا بِصَالِح ما بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ (3).
130 - رَسُولُكَ تَرْجُمَانُ عَقْلِكَ، وَ كِتَابُكَ أَبْلَغُ مَا يَنْطِقُ عَنْكَ (4).
قالوا في المثل: الرسول على قدر المرسِل (5).
وقال الشاعر: (6)
تَخيّرْ إذا ما كنت في الأمر مرسِلاً *** فمبلغ آراء الرجال رسولُها
ورؤِّ و فكِّر في الكتاب فإنّما *** بأطراف أقلام الرجال عقولُها
وأمّا أنّ الكتاب أبلغ من ينطق عنه فلضبط مراده فيه دون لسان الرسول، لأنّه ربّما لم يؤدّ الرسالة على وجهها سهواً أو لغرض، فيقع الخلل بسبب ذلك، و ربّما قد يكون فيه هلاك المرسِل. ق
ص: 72
131 - رُدُّوا الْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، فَإِنَّ الشَّرَّ لا يَدْفَعُهُ إِلا الشَّرُّ (1).
الحجر كناية عن الشرّ، وردّه من حيث جاء كناية عن مقابلة الشرّ بمثله، ولا ريب أنّ هذا ليس عامّاً لأمره بالحلم في مواضع كثيرة، بل كلّ ما لا يقطع إلا بالشرّ فواجب أن يقطع به.
و هذا مثل قولهم: إنّ الحديد بالحديد يُفلَح (2).
قال الشاعر: (3)
فلّما صرّح الشرّ *** فأمسي و هو عريانُ
ولم يبقَ سوى العدوا *** نِ دِنّاهم كما دانُوا
وبعض الحلمِ عند الجه- *** -ل للذُلّة إذعانُ
وفي الشرّ نجاة حی- *** -نَ لا يُنجيك إنسانُ
وفي وصايا النبي - صلی الله علیه و آله و سلم - لأبي ذر رضی الله عنه: كن ذئباً و إلّا أكلتْكَ الذئابُ (4).
132 - رُبَّ مُسْتَقْبِلٍ يَوْماً لَيْسَ بِمُسْتَدْبِرِهِ، وَمَغْبُوطٍ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ قَامَتْ بَوَاكِيهِ في آخِرِهِ (5).
الغرض التنبيه من رقدة الغفلة و المعنى ظاهر. ي
ص: 73
ومثله قول الشاعر: (1)
یا راقد الليل مسروراً بأوّله *** إنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا
ومثله: (2)
لا يَغُرُنْكَ عِشَاءٌ ساكنٌ *** قد يوافي بالمنيّات السَّحَرُ
وقال السعدي: (3)
شخصی همه شب بر سر بیمار گریست *** چون روز آمد بمرد و بیمار بزیست
وقال آخر: (4)
کم سالمٍ صیِحَتْ به بغتةً *** وقائلٍ عهدي به البارحهْ
أمسى و أمست عنده قينة *** و أصبحتْ تندبه النائحهْ (5)
طوبى لمن كان موازینه *** يوم يلاقي ربّه راجحهْ
133 - الرُّكُونُ إِلَى الدُّنْيا مَعَ مَا تُعايِنُ مِنْها جَهْلُ، وَ التَّقْصِيرُ في حُسْنِ الْعَمَلِ إذَا وَثِقْتَ بِالثَّوابِ عَلَيْهِ غَبْنٌ، وَالطُّمَأْنِينَةُ إلى كُلِّ أَحَدٍ قَبْلَ الإختبار لَهُ عَجْزٌ (6).
لا ريب أنّ الطمأنينة إلى من لا يعرف ولم يختبر، عجز أي عجز في 4
ص: 74
العقل والرأي، فإنّ الوثوق مع التجربة فيه ما فيه، فكيف قبل التجربة!
قال الطغرائيّ:
«و حسن ظنّکَ بالأيّام مَعْجَزَةٌ» (1)
قال الشاعر: (2)
وكنتُ أرى أنّ التجارب عُدّةٌ *** فخانت ثقات الناس حين التجارب
134 - رُبَّ قَوْلٍ أَنْقَذُ مِنْ صَوْلٍ (3).
أي قد يبلغ الأنسان بالقول ما لا يبلغه بالشدّة و الصولة، فيكون القول أنفذ في غرضه.
و من هذا قولهم: و القول ينفذ ما لا تنفذ الإبَرُ (4).
وروي مكان أنفذ، أشدّ (5). و المعنى: ربّ قول يقوله الإنسان، فيكون ضرره عليه أشدّ من صولة عدوّه، أو ربّ قول يسمعه من غيره كقذف أو هجر مثلاً يكون أشدّ عليه من صولة العدوّ و هذا كما قال القائلُ: (6)
جِراحات السِّنانِ لها التيامُ *** و لا يَلْتامُ ما جرح اللسانُ .
ص: 75
شرح حكم نهج البلاغة
135 - الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طالِبٌ وَمَطْلُوبٌ؛ فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْها وَمَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْها رِزْقَهُ (1).
هذا تحريض على طلب الآخرة، و وعد لمن طلبها بأنّه سيكفي طلب الدنيا، وإنّ الدنيا ستطلبه حتّى يستوفي رزقه منها.
و قد قيل: مَثَل الدّنيا مَثل ظلّك، كلّما طلبْتَهُ بَعُدَ عنك، فإن أدبرت عنه تبعك (2).
ولهذا قال - علیه السلام - كما في الديوان المنسوب إليه:
«إنَّما الدّنيا كظلُّ زائلٍ» (3)
136 - رُبَّ مَفْتُونِ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ (4).
طالما فُتن الناس بثناء الناس، فقصّروا في تكميل الفضائل، كما رأينا كثيراً من طلبة العلم قصّر في اكتساب العلم اتّكالاً على ثناء الناس عليه، و هكذا العابد في عبادته، فينبغي أن لا يغترّ الإنسان بثناء الناس، ولا أعجب بنفسه فيهلك، ولهذا ورد:
احثوا في وجوه المداحين التراب (5). ق
ص: 76
137 - الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: (لِكَيْلَا تَأْسَوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ، وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (1)، وَمَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي، وَلَمْ يَفْرَحْ بالآتِي فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ (2).
ويناسب هنا نقل كلام له علیه السلام كتبه إلى ابن عباس (3).
138 - زُهْدُكَ فِي راغِبٍ فِيكَ نُقْصَانُ حَظٍّ، وَ رَغْبَتُكَ فِي رَاهِدٍ فِيكَ ذُلُّ نَفْسٍ(4)
أي نقصان حظّ لك، لأنّه ليس مِن حقّ مَن رغب فيك أن تزهد فيه، لأنّ الإحسان لا يُكافأ بالإساءة.
ص: 77
قال العباس بن الأحنف في نسيبه، وكان جيد النسيب:
مازلتُ أزهد في مودّة راغبٍ *** حتى ابتُليتُ برغبةٍ في زاهدِ
هذا هو الداء الذي ضاقت به *** حيل الطبيب وطال يأسُ العائدِ (1)
يقول المؤلف العباس بن محمد رضا القمّيّ (عفي عنه): وما أشبه حالي بحال العبّاس! 0
ص: 78
139 - سَيِّئَةٌ تَسُوءُكَ خَيْرٌ [عند الله ] مِنْ حَسَنَةٍ تُعْجِبُكَ (1).
لأنّ السيئة التي تسوءه مستلزمة للندم و التوبة عليها، والتوبة ماحٍ لها مع أنّ التوبة و الرجوع إلى الله تعالى فضيلة ندب الشارع لها بخلاف الحسنة المستعقبة للعجب.
140 - السَّخَاءُ مَا كانَ ابْتِدَاءً فَإذا كان (2) عَنْ مَسْأَلَةٍ فَحَياءٌ وَتَذَمُّمٌ (3)
التذمّم: الاستنكاف و السخاء عبارة عن ملكة بذل المال لمن يستحقّه بقدر ما ينبغي ابتداءً عن طيب نفس، و حسن المواساة لذوي الحاجة منه، و بهذا الرسم يتبيّن أنّ ما كان عن مسألة فخارج عن رسم السخاء.
و ذكر علیه السلام سببين: أحدها: الحياء من السائل أو من الناس فيتكلّف البذل لذلك.
ص: 79
الثاني: الاستنكاف ممّا يصدر من السائل من لجاج أو نسبته إلى البخل ونحوه.
ويعجبني في هذا المقام ذكر هذا الشعر:
ما اعتاض باذلُ وجهه بسؤاله *** عوضاً و لو نال الغني بسؤالِ
وإذا النّوالُ إلى السؤال قرنْتَهُ *** رجح السؤالُ وخفَّ كلُّ نَوالِ (1)
141 - سُوسُوا إِيمَانَكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَحَصِّنُوا أَمْوالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَأَدْفَعُوا أَمْواجَ البَلاءِ بِالدُّعَاءِ (2).
سوسوا: أي املكوا. و ذلك أنّ الصدقة من الإيمان التامّ مملكه وحفظه لا يكون بدونها، وقد ورد في الصدقة و الزكاة والدعاء ما لا يخفى.
و في الحديث: إنّ الدعاء يرد البلاء وقد أبرم إبراماً (3).
142 - السُّلْطانُ وَزَعَةُ اللهِ فى أَرْضِهِ (4)
الوازع عن الشيء: الكافّ عنه، و المانع منه، و الجمع: وزعة، مثل قاتل و قتلة.
و قد قيل هذا المعنى كثيراً، قالوا: لابدّ للناس من وزعة (5). 9
ص: 80
143 - الشَّفِيعُ جَنَاحُ الطَّالِبِ (1).
استعار له لفظ الجناح باعتبار كونه وسيلة له إلى مطلوبه كجناح الطائر.
144 - شَتَّانَ بَيْنَ (2) عَمَلَيْنِ: عَمَلٍ تَذْهَبُ لَذَّتُهُ وَتَبْقَى تَبِعَتُهُ، وَعَمَلٍ تَذْهَبُ مَؤُونَتُهُ وَيَبْقَى أَجْرُهُ (3).
شتّان بين العملين: أي بعد ما بينهما. و الأوّل: العمل للدنيا، وتبعته هو ما يتبعه من الشقاوة الأخرويّة. و الثاني: عمل الآخرة، وظاهر أنّ فيهما فرقاً عظيماً وبوناً بعيداً.
ص: 81
145 - شَارِكُوا الَّذِينَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقُ (1)، فَإِنَّهُ أَخْلَق لِلغنى، وَأَجْدَرُ بِإِقْبَالِ الْحَقِّ (2).
أخلق و أجدر: أي أولى. ولمّا كان إقبال الرزق بتوافق أسبابه في حق من أقبل عليه، كانت مشاركته مظنّة إقبال حظّ الشريك، و إقبال الرزق عليه بمشاركته.
146 - شَرّ الإخْوَانِ مَنْ تُكُلِّفَ لَهُ (3).
أي من أحوج إلى الكلفة له. وذلك لأنّ الإخاء الصادق بينهما يوجب الانبساط وترك التكلّف، فإذا احتيج إلى التكلّف له فقد دلّ ذلك على أن ليس هناك إخاء صادق، ومن ليس بأخ صادق فهو من شرّ الإخوان. )
ص: 82
147 - الصَّبْرُ صَبْرَانِ: صَبْرٌ عَلى مَا تَكْرَهُ، وَصَبْرٌ عَمَّا تُحِبُّ (1).
النوع الأوّل أشقّ من النوع الثاني؛ لأنّ الأوّل صبر على مضرّة نازلة، و الثاني صبر على محبوب متوقّع لم يحصل.
سئل بزرجمهر في بليته عن حاله، فقال: هوّن عليّ ما أنا فيه فكري في أربعة أشياء: أوّلها أنّي قلت: القضاء و القدر لابدّ من جريانهما، و الثاني أنّي قلت: إن لم أصبر فما أصنع! و الثالث أنّي قلت: قد كان يجوز أن تكون المحنة أشدّ من هذه! و الرابع أنّي قلت: لعل الفرج قريب! (2)
148 - الصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَفِيُّ، وَالْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْبَدَنِ الصَّوْمُ، (3) وَجِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبعل (4).
إنما كان الحجّ جهاد الضعيف لما فيه من مشقّة السفر، و مجاهدة
ص: 83
الطبيعة، ومقاومة النفس الأمّارة بالسوء، وخصّ الضعيف بذلك لأنّ للقويّ جهاد آخر هو المشهور.
و أمّا أنّ الصوم زكاة البدن، فلما فيه من تنقيص قوته وكسر شهوته لغاية طاعة الله والثواب الأخرويّ، كما أنّ الزكاة تنقيص في المال مستلزم الزيادة الثواب في الآخرة.
وأمّا أنّ جهاد المرأة حسن التبعّل فمعناه حسن معاشرة بعلها وحفظ ماله وعرضه، وطاعته فيما يأمر به وينهى عنه، وترك الغيرة ونحو ذلك.
قيل أوصت امرأة ابنتها - و قد أهدتْها إلى بعلها - فقالت: كوني له فراشاً، يكن لكِ معاشاً، وكوني له وِطاء، يكن لكِ غطاءً، وإياكِ و الإكتئاب إذا كان فَرِحاً، و الفرح إذا كان كثيباً، ولا يطّلعنّ منكِ على قبيح، ولا يشمّنَّ
منكِ إلا طيب ريح (1)
149 - صِحَّةُ الْجَسَدِ مِنْ قِلَّةِ الْحَسَدِ (2).
معناه أنّ القليل الحسد لا يزال معافىّ في بدنه، و الكثير الحسد يمرضه ما يجده في نفسه من مضاضة المُنافسة، وما يتجرّعه من الغيظ ومزاج البدن يتبع أحوال النفس.
ولقد أحسن الشيخ الشيرازيّ: (3)
الا تانخواهی بلا بر حسود *** که آن بخت برگشته خود در بلاست 9
ص: 84
چه حاجت که با او کنی دشمنی *** که او را چنین دشمنی در قفاست
150 - صَاحِبُ السُّلْطانِ كَرَاكِب الأَسَدِ: يُعْبَطُ بِمَوْقِعِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَوضِعِهِ (1).
أي يتمنّى موقعه و هو يعلم أنّه في غاية من المخاطرة بالنفس والتعزير بها.
و قريب منه قولهم: صاحب السلطان كراكب الأسد يهابه الناس، وهو المركوبه أهيب (2).
151 - صَوَابُ الرَّأْي بِالدُّوَل: يُقْبِلُ بِإِقْبَالِهَا، وَ يُدْبِرُ بِإِدْبَارهَا [و يذهب بذهابها - خ ل](3).
حكي أنّه اجتمع بنو برمك عند يحيى بن خالد في آخر دولتهم و هم يومئذٍ عشرة، فأداروا بينهم الرأي في أمر فلم يصلح لهم، فقال يحيى: إنّا لله! ذهبتْ و اللهِ دولتنا! كنّا في إقبالنا يبرم الواحد منّا عشرة آراء مشكلة في وقت واحد، و اليوم نحن عشرة في أمر غير مشكل، ولا يصحّ لنا فيه رأي! نسأل الله حسن الخاتمة (4).
ص: 85
152 - ضَعْ فَخْرَكَ، وَ أَحْطُطُ كِبْرَكَ، وَاذْكُرْ قَبْرَكَ (1).
قيل الحكيم: ما الشيء الذي لا يحسن أن يقال وإن كان فخراً [صدقا - ظ ]؟ قال: مدح الإنسان نفسه (2)
(1) نهج البلاغة، 398
(2) شرح ابن أبي الحديد 253/19
ص: 86
153 - الطَّمَعُ رِقٌ مُؤَبَّدٌ (1).
استعار لفظ الرقّ للطمع باعتبار ما يستلزمه من التعبّد للمطموع فيه، و الخضوع له كالرقّ، و تأييده باعتبار دوام التعبد بسببه؛ فإنّ الطامع دائم العبوديّة لمن يطمع فيه مادام طامعاً.
قال الشاعر:
تعفّف و عِشْ حُرّاً و لا تك طامعاً *** فما قطع الأعناقَ إلّا المطامعُ (2)
وفي المثل: أطمع من أشعب (3) رأى سلالاً يصنع سلّة، فقال له:
ص: 87
أوسِعْها. قال: مالكَ و ذاك؟ قال: لعلّ صاحبها يُهدي لي فيها شيئاً (1).
و قيل: لم يكن أطمع من أشعب الّا كلبه؛ رأى صورة القمر في البئر فظنّه رغيفاً، فألقى نفسه في البئر يطلبه، فمات (2)
154 - الطَّامِعُ فِي وِثَاقِ الذُّلِّ (3).
قال الشاعر: (4)
واليأس إحدى الراحتين ولن ترى *** تعباً كظنِّ الخائب المكدودِ
و من الكلمات المشهورة قولهم: عزّ من قنع وذلّ من طمع (5) 9
ص: 88
155 - الظَّفَرُ بِالحَزْمِ، وَالْحَزْمُ بِإِجَالَةِ الرَّأْيِ، وَالرَّأْيُّ بِتَحْصِينِ الْأَسْرَارِ (1).
الحزم أن يقدّم العمل في الحوادث الواقعة في باب الإمكان قبل وقوعها بما هو أقرب إلى السلامة، و أبعد من الغرور.
وإجالة الرأي: إعماله. وتحصين الأسرار: كتمانها.
أشار إلى المبدأ القريب للظفر و هو الحزم، وإلى البعيد منها و هو كتمان السرّ، و إلى الوسط منها و هو إجالة الرأي.
قالوا: إذاعة السرّ من قلّة الصبر، و ضيق الصدر، وتوصف به ضعفة الرجال و النساء و الصبيان، والسبب في أنّه يصعب كتمان السرّ أنّ للإنسان قوّتين: إحداهما، آخذة، و الأخرى معطية، وكلّ واحدة منهما تتشوّق إلى فعلها الخاصّ بها، فعلى الإنسان أن يمسك هذه القوّة ولا يطلقها إلّا حيث يجب إطلاقها (2).
ص: 89
156 - عَيْبُكَ مَسْتُورٌ مَا أَسْعَدَكَ جَدُّكَ (1).
سعادة الجدّ عبارة عن حسن البخت وتوافق أسباب المصلحة في حقّ الإنسان و من مصالحه ستر العيوب و الرذائل، وبحسب دوام ذلك يدوم سترهما.
سمع من امرأة من الأعراب تُرقص ابناً لها فتقول له: رزقك الله جَدّاً يخدمك عليه ذو و العقول، ولا رزقك عقلاً تخدم به ذوي الجدود (2).
157 - العَفَافُ زِينَةُ الْفَقْرِ، وَ الشُّكْرُ زِينَةُ الْغِنَى (3).
العفاف: العفّة. و هي فضيلة القوّة الشهويّة و الفقير إذا ضبط شهوته بزمام عقله عن ميولها الطبيعيّة، كملت نفسه بفضيلة العفّة، وزان فقره بفضيلته في أعين المعتبرين، وإذا أهملها وأسلس قيادها تقحّمت به في
ص: 90
موارد الهلكة، و قادته إلى الحرص و الهلع و الحسد و المنى و الكدية و حصل بسببها في أقبح صورة.
و أنشد الأصمعيّ لبعضهم:
أُقسم بالله لمصُّ النوى *** و شربُ ماء القُلُب المالحهْ
أحسنُ بالإنسان من ذُلّهِ *** و من سؤال الأوجه الكالحهْ
فاستغن بالله تكن ذا غنىّ *** مُغتبطاً بالصفقة الرابحهْ
طوبى لمن يصبح ميزانه يوم يلاقي ربّه راجحه (1)
وقال بعضهم: وقفت على كنيفٍ و في أسفله كناف وهو ينشد:
و أُكرمُ نفسي عن أمورٍ كثيرةٍ *** ألا إنّ إكرام النفوس من العقلِ
و أبخل بالفضل المبين على الأولى *** رأيتهم لا يكرمون ذوي الفضل
وما شانني كنْس الكنيف و إنّما *** يَشينُ الفتى أن يَجتدي نائل النذْلِ (2).
و أقبحُ ممّا بي وُقوفي مؤمِّلاً *** نَوالَ فتئ مثلي، وأيّ فتى مثلي (3)
ونظير قوله علیه السلام: «و الشكر زينة الغنى»، قولهم: العلم بغير عملٍ قولٌ باطل، و النعمة بغير شكر جيّد عاطل (4). 8
ص: 91
158 - عَجِبْتُ لِمَنْ يَقْنَطُ وَ مَعَهُ الْاِسْتِغْفَارُ (1).
القنوط هو اليأس من الرحمة.
و ورد: الاستغفار دواء الذنوب (2)
وحكى عنه أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر علیه السلام أنّه قال: كان في الأرض أمانانِ مِن عذاب الله فرُفع (3) أحدُهما، فدونكمُ الآخرَ فتمسَّكوا به: أمّا الأمان الذي رفع فهو رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و أمّا الأمان الباقي، فالاستغفار؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (4)
قال الرضي قدس سره: و هذا من محاسن الاستخراج، و لطائف الاستنباط (5)
159 - عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ الْفَقْرَ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ وَ يَفُوتُهُ الْغِنَى الَّذِي إِيَّاهُ طَلَبَ، فَيَعِيشُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ وَ يُحَاسَبُ فِي الْآخِرَةِ حِسَابَ الْأَغْنِيَاءِ؛ وَ عَجِبْتُ لِلْمُتَكَبِّرِ الَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ نُطْفَةً وَ يَكُونُ غَداً جِيفَةً؛ وَ عَجِبْتُ لِمَنْ شَكَّ فِي اللَّهِ وَ هُوَ يَرَى خَلْقَ اللَّهِ؛ وَ عَجِبْتُ لِمَنْ نَسِيَ الْمَوْتَ وَ هُوَ يَرَى مَنْ يَمُوتُ (6) الْمَوْتَى؛ وَ عَجِبْتُ لِمَنْ أَنْكَرَ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى وَ هُوَ يَرَى النَّشْأَةَ الْأُولَى؛ وَ عَجِبْتُ لِعَامِرٍ دَارَ الْفَنَاءِ وَ تَارِكٍ دَارَ الْبَقَاءِ. (6). 6
ص: 92
تعجب علیه السلام من ستّة هم محلّ العجب، والغرض التنفير عن رذائلهم.
قيل: الرزق الواسع لمن لا يستمتع به بمنزلة الطعام الموضوع على قبر (1)
و رأى حكيم رجلاً مُثرياً يأكل خبزاً و ملحاً، فقال: لِمَ تفعل هذا؟
قال: أخاف الفقرَ، قال: فقد تعجّلته (2)
وقوله علیه السلام: «عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى» الخ، أي عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى و إعادة الأبدان بعد عدمها مع اعترافه بالنشأة الأولى و هي الوجود الأوّل للخلق من العدم الصرف، و ظاهر أنّ هذا محلّ التعجّب؛ لأنّ الأخرى أهون، كما قال تعالى: ﴿وَ هُوَ أَهْونُ عَلَيْهِ) (3).
160 - عَظِّمِ الْخالِقَ عِنْدَكَ يُصَغِّرِ المَخْلُوقَ في عَيْنِكَ (4).
هذا أمر وجده العارفون بالله؛ فإنّ من عرف عظمة الله وجلاله ولحظ جميع المخلوقات بالقياس إليه حتّى علم ما لها من ذواتها و هو الإمكان و الحاجة، علم أنّها في جنب عظمته عدم، و لا أحقر من العدم. و شدّة صغر المخلوق في اعتبار العارف بحسب درجته في عرفانه.
قيل لبعض العارفين: فلان زاهد فقال فيماذا؟ فقيل: في الدنيا، فقال: الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، فكيف يعتبر الزهد فيها؟ والزهد إنّما يكون في شيء و الدّنيا عندي لا شي. (5) 2
ص: 93
161 - عَلَيْكُمْ بِطَاعَةِ مَنْ لا تُعْذَرُونَ في جَهَالَتِهِ [بجهالته - خ ل] (1).
يمكن أن يكون أراد بالموصول «الله» تعالى، أو أراد به نفسه علیه السلام؛ لأنّه إمام واجب الطاعة بالنصّ، فلا يعذر أحد من المكلّفين في جهالة إمامته.
وقيل: هو إيجاب لطاعة من يجب طاعته من أئمّة الحقّ الذين يجب العلم بحقيّة إمامتهم، ولا يعذر الناس في الجهل بهم لتعلّم قوانين الدين وأحكامه منهم (2)
162 - عَاتِبْ أَخَاكَ بِالْإِحْسانِ إِلَيْهِ، وَأَرْدُدْ شَرَّهُ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ (3). أي اجعل مكان عتابه بالقول و الفعل الإحسان إليه و الإنعام في حقّه؛ فإنّهما أنفع في دفع شرّه عنك و عطف جانبه إليك. قال الله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (4)
163 - عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدٌ حُسَّادِ عَقْلِهِ (5).
يعني أنّ الحاسد لا يزال مجتهداً في إظهار معايب المحسود و إخفاء محاسنه، فلمّا كان عجب الإنسان بنفسه كاشفاً عن نقص عقله كان كالحاسد الذي دأبه إظهار عيب المحسود ونقصه. 2
ص: 94
164 - الْعَجَبُ لِغَفْلَةَ الْحُسَّادِ، عَنْ سَلَامَةِ الْأَجْسَادِ! (1)
لما كان الغالب أنّ الحسد إنّما يكون بالغنى و الجاه وسائر قينات الدّنيا فترك الحسّاد الحسد بصحّة الجسد مع كونها أكبر نعم الدّنيا محلّ التعجّب.
165 - عَرَفْتُ اللهَ سُبْحَانَهُ بِفَسْخِ الْعَزائِمِ، وَحَلَّ الْعُقُودِ (2).
هذا أحد الطرق إلى معرفة الباري سبحانه، وهو أن يعزم الإنسان على أمر، ويصمّم رأيه عليه، ثمّ لا يلبث أن يخطر الله بباله خاطراً صارفاً له عن ذلك الفعل، ولم يكن في حسابه، أي لو لا أنّ في الوجود ذاتاً مدبّرة لهذا العالمَ لما خطرت الخواطر التي لم تكن محتسبة.
166 - الْعُمْرُ الَّذِي أَعْذَرَ اللهُ فِيه إِلَى ابْنِ آدَمَ سِتُّونَ سَنَةٌ (3).
«أعذر الله فيه» أي سوّغ لابن آدم أن يعتذر، يعني أنّ ما قبل الستّين هي أيّام الصبا والشبيبة والكهولة، وقد يمكن أن يعذر الإنسان فيه على اتّباع هوى النفس لغلبة الشهوة، و شَرَه الحداثة، فإذا تجاوز الستّين دخل في سنّ الشَّيْخُوخة، وذهبتْ عنه غُلواء شهرته، فلا عذر له في الجهل.
و قد قالت الشعراء نحو هذا المعنى في دون هذا التي عينها علیه السلام.
قال بعضهم:
إذا ما المرء قصّر ثمّ مرتْ *** عليه الأربعون عن الرجالِ
و لم يَلحق بصالحهم فَدَعْهُ *** فليس بلاحقٍ أخرى الليالي (4) 8
ص: 95
وقال الشيخ الشيرازيّ بالفارسيّة: (1)
چو دوران عمر از چهل در گذشت *** مزن دست و پاکابت از سر گذشت
نزیبد مرا با جوانان چمید *** که بر عارضم صبح پیری دمید
167 - اَلْعِلْمُ عِلْمَانِ: مَطبُوعٌ وَ مَسْمُوعٌ، وَ لا يَنْفَعُ الْمَسْمُوعُ إِذا لَمْ يَكُنِ المطبوع (2).
المراد من المطبوع هو العقل بالملكة و هو الاستعداد بالعلوم الضرورية للانتقال منها إلى العلوم المكتسبة و المسموعة من العلماء فإذا لم يكن هناك استعداد لم ينفع الدرس و التكرار.
و قد ذكر الغزّاليّ في أقسام العلوم هذين القسمين أيضاً، ثم قال: وكلا القسمين قد يسمّى عقلاً، قال علی علیه السلام: (3)
رأيت العقل عقلين *** فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع *** إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس *** وضوء العين ممنوع
168 - عِنْدَ تَنَاهِي الشِّدَّةِ تكونُ الْفَرْجَةُ، وَعِنْدَ تَضَايُقِ حَلَقِ الْبَلَاءِ يَكُونُ الرَّخَاءُ (4).
الفرجة - بفتح الفاء - : التفصّي من الهمّ، قال الشاعر: 1
ص: 96
ربما تجزع النفوس من الأمرِ بله فَرجةٌ كحل العقال (1)
و من كلامه علیه السلام: إنّ للنكبات غايات (2).
وكان يقال: إذا اشتدّ المَضيق، اتّسعت الطريق، ويقال أيضاً توقّعوا الفرج عند ارتتاج المخرج (3).
169 - اَلْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، وَ الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَ وَ إلّا أرْتَحَلَ (4).
إنّ الله تعالى جعل للنفس العاقلة قوّتين: علميّة و عمليّة، وجعل كما لها باستكمال هاتين القوّتين بالعلم و العمل، ولا كمال لها بالعلم دون اقترانه بالعمل بل هو حجّة على صاحبه، و كذلك العكس.
قال علیه السلام: قصم ظهري رجلان؛ عالم متهتّك، و جاهل متنسّك (5)
170 - اَلْعَيْنُ حَقٌّ، وَالرُّقى حقٌّ، والسِّحْرُ حَقٌّ، والطَّيَرَةُ لَيْسَتْ بحَقِّ، وَ الْعَدْوَى لَيْسَتْ بحقِّ، وَ الطَّيبُ نُشْرَةٌ، وَ الْعَسَلُ نُشْرَةٌ، وَ الرُّكُوبُ نُشْرَةٌ، وَ النَّظَرُ إلى الخُضْرَةِ نُشْرَةُ (6)
و يروى: «الغسل نشرة» بالغين المعجمة، أي التطهير بالماء (7).
و في الحديث: العين حقّ، و لو كان شيء يسبق القَدَر لسبقته العين (8). بق
ص: 97
و الإصابة بالعين هي أن تستحسن النفس صورة مخصوصة و تتعجّب منها، و تكون تلك النفس خبيثة جدّاً؛ فينفعل جسم تلك الصورة مطيعاً لتلك النفس كما ينفعل البدن للسمّ.
و حكي أنّ علماء الفرس و الهند و أطباء اليونانيّين ودهاة العرب. وأهل التجربة يكرهون الأكل بين يدي السباع يخافون عيونها للّذي فيها من النّهم و الشره، ولما ينحلّ عند ذلك من أجوافها من البخار الرديء و ينفصل من عيونها ممّا إذا خالط الإنسان نقض بنية قلبه و أفسده. وكانوا يكرهون قيام الخدم بالمذابّ (1) و الأشربة على رؤوسهم خوفاً من أعينهم و شدّة ملاحظتهم إيَّاهم، و كانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا، وكانوا يقولون في الكلب و السنّور إمّا أن يطرد أو يشغل بما يطرح له (2).
و قالت الحكماء: نفوس السباع أردأ النفوس و أخبثها لفرط شَرَهها و شرّها (3).
و عن الكافي مسنداً عن الصادق علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: الكلاب من ضعفة الجنّ، فإذا أكل أحدكم الطعام و شيء منها بين يديه فليطعمه أو ليطرده فإنّ لها أنفس سوء (4)
وعن الأصمعي، قال: رأيت رجلاً عيوناً (5) كان يذكر عن نفسه أنّه إذا أعجبه الشيء وجد حرارة تخرج من عينه (6)
(1) جمع المذبة و هو ما يذب به الذباب. منه رضی الله عنه
(2) كتاب الحيوان للجاحظ 131/2 - 132
(3) نفس المصدر 132/2
(4) الكافى 553/6، الحديث 9.
(5) أى الشديد الإصابة بالعين
(6) شرح ابن أبي الحديد 377/19
ص: 98
حرف العين
وقد حكي من تأثير العين آثار عجيبة؛ منه ما نقل أنّه سمع عيون صوت بول من وراء جدار حائط، فقال: إنّك كثير الشخب، فقالوا هو ابنك؛ فقال: أوه انقطع ظهره! فقيل: لا بأس عليه إن شاء الله، فقال: والله لا يبول بعدها أبداً، فما بال حتى مات (1).
و الكلام في كلّ ذلك يخرج عن وضع الكتاب، وقد أطنب الفاضل ابن أبي الحديد في شرحه لهذا الكلام و ذكر حكايات كثيرة تتعلّق بالطير والفأل و نكتاً ممتّعة من مذاهب العرب وتخيّلاتها وخرافاتها والأعاجيب الكثيرة من اعتقاداتها، من أرادها فليراجع ثمّة (2).
والنشرة كالعوذة و الرقية، نشّرت فلاناً تنشيراً، أي رقَيْتُه وعوّدتُه (3).
171 - عَلامَةُ (4) الأيمَانِ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ، وَ أَنْ لا يَكُونَ فِي حَدِيثَكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ (5) وَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ (6).
ينبغي أن يكون هذا الحكم مقيّداً لا مطلقاً، أي إذا كان الضرر غير عظيم؛ لأنه إذا أضرّ الصدق ضرراً عظيماً يؤدّي إلى تلف النفس أو قطع العضو لم يَجُزْ فعله صريحاً، و لزمت المعاريض حينئذ.
قوله علیه السلام: «و أن تتّقي الله في حديث غيرك»، قيل: أراد به أن يحتاط 8
ص: 99
في النقل و الرواية فيرويه كما سمعه من غير تحريف (1).
172 - اَلْعَيْنُ وِكَاءُ السَّتَهِ (2).
قال السيد رضی الله عنه: و هذه من الاستعارات العجيبة، كأنّه شبّه السته بالوعاء، و العين بالوكاء، فإذا أطلق الوكاء لم ينضبط الوعاء وهذا القول في الأشهر الأظهر من كلام النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و قد رواه قوم لأمير المؤمنين علیه السلام،
و ذكر ذلك المبرّد في الكتاب المقتضب في باب اللفظ المعروف. (3)
و قد تكلّمنا على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم بمجازات الآثار النبوية. (4) انتهى.
استعار علیه السلام لفظ الوكاء و هو رباط القربة للعين باعتبار حفظ الإنسان في يقظته لنفسه من أن يخرج منه ريح و نحوها كما يحفظ الوكاء ما يوكى به، و في ذلك ملاحظة تشبيه السته بالوعاء كالقربة.
و من تمام الخبر عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: فإذا نامت العينان استطلق الوكاء (4). .
ص: 100
173 - الْغِنى فى الْغُرْبَةِ وَطَنٌ، وَ الْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ (1).
قال رجل لسقراط (2) ما أشدّ فقرك أيّها الحكيم؟ قال: لو عرفت راحة الفقر لشغلك التوجّع لنفسك عن التوجّع لي، الفقر ملك ليس عليه محاسبة (3).
قال بعض الحكماء: ألا ترون ذا الغنى ما أدوم تَعبه، وأقلّ راحته، وأخسّ من ماله حظّه، و أشدّ من الأيام حذره، و أغرى الدهر بنقصه و ثلمه! و قد بعث الغنى عليه من سلطانه العناء، و من أكفائه الحسد، و من أعدائه البغي، ومن الحقوق الذمّ، و من الولد الملامة وتمنّي الفقدان، لا كذي البلغة فقنع فدام له السرور (4)
(1) نهج البلاغة الحكمة 56
(2) في شرح ابن أبي الحديد: لبقراط
(3) شرح ابن أبي الحديد 18 / 190.
(4) شرح ابن أبي الحديد 191/18.
ص: 101
و قالوا: حسبك من شرف الفقر أنّك لا ترى أحداً يعصي الله ليفتقر؛ أخذه الشاعر فقال: (1)
يا عائب الفقر ألا تَزْدَجِرْ *** عَيْبُ الغِنى أكبر لو تَعتبرْ
إنّك تعصي الله تبغي الغِني *** وليس تعصي كي تفتقرْ
174 - غَيْرَةُ الرَّجُلِ إيمانٌ، وَغَيْرَةُ المَرْأَةِ كُفْرٌ (2).
أمّا الأوّل فلأنّ غيرة الرجل يستلزم سخطه لما سخط الله من اشتراك رجلين في امرأة و ذلك إيمان بخلاف المرأة فلأنّها تقوم بغيرتها في تحريم ما أحلّ الله وهو اشتراك مرأتين فما زاد في رجل واحد و يقابله بالردّ و الإنكار وتحريم ما أحلّ الله و سخطه ما رضيه ردّ عليه وهو لا محالة كفر.
و أيضاً فإنّ المرأة قد تؤدي بها الغيرة إلى ما يكون كفراً على الحقيقة كالسحر، فقد ورد في الحديث: أنّه كفر (3)
175 - الغِنَى الْأَكْبَرُ الْيَأْسُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ (4).
أشار بهذا إلى ذمّ الطمع و مدح الناس و قد أكثر الناس في هذا المعنى نظماً و نثراً، و ممّا يروى لعبد الله بن المبارك الزاهد (5)
قد أرحنا و استرحْنا *** مِن غُدُوِّ ورَواحِ
و اتّصال بأميرٍ *** ووزير ذي سماحِ
(1) نفس المصدر 18 / 190.
(2) في نهج البلاغة، الحكمة 124، تقديم وتأخير في الفقرتين.
(3) شرح ابن أبي الحديد 312/18
(4) نهج البلاغة الحكمة 342
(5) شرح ابن أبي الحديد 246/19
ص: 102
بعفافٍ و كفافٍ *** و قُنوع وصلاحِ
و جعلنا اليأس مفْتا *** حاً لأبواب النجاحِ
176 - الْغِنَى و الْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ (1).
أي لا يعدّ الغني غنيّاً في الحقيقة، إلّا من حصل له ثواب الآخرة، و لا يعدّ الفقير فقيراً إلّا من لم يحصل له ذلك، فإنّه لا يزال شقيّاً معذّباً، و ذاك هو الفقر بالحقيقة.
فأمّا غنى الدّنيا وفقرها عرضيّان، زوالهما سريع و انقضاؤهما وشيك.
177 - الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجِزِ (2).
أكثر ما تصدر الغيبة عن الأعداء و الحسّاد الذين يعجزون عن بلوغ أغراضهم، و شفاء صدورهم فيعدلون إلى إظهار المعايب لما يجدون فيه من اللّذّة.
و نفّر عنها بنسبة فاعلها إلى العجز، و أنّها غاية جهده ليأنف من ذلك النقصان و لا يرضى به.
قيل للأحنف، من أشرف الناس؟ قال: من إذا حضر ها بوه، وإذا غاب اغتابوه (3). 0
ص: 103
178 - فَاعِلُ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْهُ، وَ فَاعِلُ الشَّرِّ شَرٌّ مِنْهُ (1).
و ذلك لأن الخير و الشر ليسا عبارة عن ذات حية قادرة، و إنّما هما فعلان، أو عدمان، أو مختلفان، فلو قطع النظر عن الذات الحيّة القادرة الّتي يصدران عنها، لما انتفع أحد بهما و لا استضرّ؛ فالنفع والضرر إنّما حصلا من الحيّ الموصوف بهما لا منهما على انفرادهما، فلذلك كان فاعل الخير خيراً من الخير وفاعل الشرّ شرّاً من الشرّ.
قال ابن أبي الحديد: (2)
خيرُ البضائِع للإنسان مكرمةٌ *** تنمي وتزكو إذا بارتْ بضائعُهُ
فالخير خيرٌ وخيرٌ منه فاعلهُ *** و الشرّ شرّ و شرّ منه صانعُهُ
(1) نهج البلاغة، الحكمة 32
(2) شرح ابن أبي الحديد 149/18
ص: 104
179 - فَقْدُ الْأَحِبَّةِ غُرْبَةٌ (1).
استعار لفظ الغربة لفقد الأحبّة باعتبار ما يلزمهما من الوحشة وعدم الإنس.
و مثله قوله علیه السلام: الغريب من ليس له حبيب (2).
قال الشاعر:
إذا ما مضى القرن الذي كنت فيهم *** و خُلّفتَ في قرنٍ فأنت غريب (3)
180 - فَوْتُ الْحَاجَةِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِهَا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا (4).
قال كمال الدين بن ميثم: غير أهلها هم اللئام و محدثوا النعمة و ساقطوا الأصول، وإنّما كانت أهون لأنّ فوتها يستلزم غمّاً واحداً وأمّا طلبها إلى غير أهلها فإنّما لا تحصل غالباً فيستلزم غمّ فوتها ثمّ ثقل الاستنكاف و الندم [الذم - ظ] من رفعها إليهم ثمّ غمّ ذلّ الحاجة إلى اللئام و له ألم عظيم، كما قال: الموت أحلى من سؤال اللئام. ثمّ غمّ ردّهم لها و هي غموم أربعة. و كذلك إن قضيت كان فيها غمّ ثقل الاستنكاف، ثمّ ذلّ الحاجة إليهم فكان فوتها أهون على كلّ حال. وهذه الكلمة تجذب إلى فضيلتي القناعة و علو الهمّة.(5) انتهى.
و من كلامهم: لا تطلبوا الحوائج إلى ثلاثة: إلى عبد يقول: الأمر إلى 3
ص: 105
غيري، و إلى رجل حديث الغنى، وإلى تاجر همّته أن يستربح في كلّ عشرين ديناراً حبّة (1).
181 - الفَقِيهُ كُلُّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوحِ اللهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ (2).
قلّ موضع من الكتاب العزيز يذكر فيه الوعيد إلّا و يمزجه بالوعد، مثل أن يقول: «إنَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ» ثمّ يقول: «وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»، فالفقيه التامّ في العلم من يعلم فقه وضع الكتاب العزيز و جذب الناس إلى الله بوجوه من الترغيب و الترهيب و الوعد و الوعيد والبشارة والنذارة ولم يكتف مثلاً على قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهَ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً) (3) بل على قوله تعالى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (4).
182 - الْفَقْرُ الْمَوْتُ الْأَكْبَرُ (5).
أمّا كونه موتاً فلانقطاع الفقير عن مشتهياته ومطلوباته التي هي مادّة الحياة، وتألّمه لفقدها.
وأمّا أنّه أكبر فلتعاقب آلامه على الفقير مدّة حياته.
و أمّا ألم الموت ففي وقت واحد، و هو مبالغة في شدّته. 3
ص: 106
183 - في تَقَلُّبِ الْأَحْوالِ، عُلِمَ جَواهِرُ الرِّجالِ (1).
أي في تقلب أحوال الدنيا على المرء كرفعته بعد اتّضاعه وبالعكس، وكنزول الشدائد به يعلم جوهره و باطنه من خير و شرّ وجلادة وضعف.
قال الشاعر:
لا تَخمدنَّ امرأً حتّى تجرّبه *** و لا تذمّنّه إلا بتجريب (2)
184 - في الْقُرْآن (3) نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَ خَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَ حُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ (4)
الأقسام الثلاثة كلّها موجود في القرآن فنبأ ما قبلهم أخبار القرون الماضية، و خبر ما بعدهم ذكر أحوال الموت والقيامة و الوعد الوعيد و غيرها، وحكم ما بينهم بيان الأحكام الخمسة المتعلّقة بأفعالهم.
185 - الْفِكْرُ مِرْآةُ صَافِيَةٌ، وَ الْاِعْتِبارُ مُنْذِرٌ نَاصِحٌ، وَ كَفَى أَدَبَا لِنَفْسِكَ تَجَنُّبُكَ مَا كَرِهْتُهُ لِغَيْرِك (5).
و في المثل: كفى بالاعتبار منذراً، و كفى بالشيب زاجراً، وكفى بالموت واعظاً (6).
و قال بعض الحكماء: إذا أحببت أخلاق امرىءٍ فكُنْه، و إن أبغضتها فلا تكُنْه. أخذه شاعر فقال:
إذا أعجبتْك خصالُ امرىءٍ *** فكُنْه يكنْ منك ما يعجبكْ
فليس على المجد و المكرمات *** إذا جئتها حاجب يَحْجُبُكْ (7) 9
ص: 107
186 - قُرِنَتِ الهَيْبَةُ بِالْخَيْبَةِ و الحَياءُ بِالْحِرْمانِ، وَ الفُرْصَةً تَمُرُّ مَرَّ السَّحاب، فَانْتَهِزُوا فَرَصَ الْخَيْرِ (1).
كانت العرب إذا أوفدت و افداً قالت له: إيّاك و الهيبة، فإنّها خيبة، ولا تبت عند ذنّب الأمر و بِتْ عند رأسه (2).
187 - قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ، وَصِدْقُهُ عَلَىٰ قَدْرِ مُرُوءَتِهِ، وَشَجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ، وَ عِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ (3).
اعلم أنّ كبر الهمّة خلق مختصّ بالإنسان فقط، و أمّا سائر الحيوانات فليس يوجد فيها ذلك، و إنّما يتجرّ أكلّ نوع منها الفعل بقدر ما في طبعه.
وعلوّ الهمّة حال متوسطة بين التفتّح - وهو تأهل الإنسان لما لا يستحقّه - و بين دناءة الهمّة - و هو صغر الهمّة - أي تركه لما يستحقّه
(1) نهج البلاغة الحكمة 21
(2) شرح ابن أبي الحديد 131/18
(3) نهج البلاغة، الحكمة 47.
ص: 108
لضعفٍ في نفسه. ثمّ اعلم أنّ كبير الهمّة من لا يرضى بالهمم الحيوانيّة، و لا يقنع لنفسه أن يكون عند رعاية بطنه و فرجه، بل يجتهد في معرفة صانع العالم و مصنوعاته، و في اكتساب المكارم الشرعيّة ليكون من أولياء الله في الدنيا و مجاوريه في الآخرة.
188 - قُلُوبُ الرِّجَالِ وَحْشِيَّةٌ، فَمَنْ تَألّفَهَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ (1)
جعل علیه السلام أصل طبيعة القلوب التوحّش، و إنّما تستمال لأمر من خارج وهو التألّف والإحسان.
وفي معنى كلامه قولهم: من لان استمال، ومن قسا نفّر، وما استُعبد الحرُّ بمثل الإحسان إليه (2)
189 - اَلْقَناعَةُ مَالٌ لاَ يَنْفَذُ (3)
قال رجل لسقراط (4) الحكيم و رآه يأكل العشب: لو خدمت الملك لم تحتج إلى أن تأكل الحشيش، و قال له الحكيم: و أنت لو أكلت الحشيش لم تحتج أن تخدم الملك (5).
و قد أخذ هذا المعنى شيخنا البهائيّ، و نظمه بالفارسيّة في كتاب «نان و حلوا» (6) نوجوانی از خواص پادشاه إلى آخره. ف
ص: 109
و من كلام الحكماء: قاوم الفقر بالقناعة، و قاهر الغني بالتعفّف و طاول عناء الحاسد بحسن الصنع، و غالب الموت بالذكر الجميل (1)
وقال الشاعر: (2)
أنا كالثعبان جلدي ملبسي *** لست محتاجاً إلى ثوب الجمالِ
فالخمول العِزّ و اليأس الغنى *** و القُنوع المُلكُ هذا ما بدا لي
190 - قِيمَةُ كُلِّ أَمْرِيءٍ مَا يُحْسِنُهُ (3).
قال الرضيّ: هذه الكلمة التي لا تُصاب لها قيمة، و لا توزن بها حكمة، و لا تقرن اليها كلمة (4).
الغرض من هذا الكلام التحريض و الترغيب في أعلى ما يكتسب من الكمالات النفسانيّة و الصناعات و نحوها؛ فإن أرفع الناس في نفوس الناس منزلة أعظمهم كمالاً، و أنقصهم درجة أحسنهم فيما هو عليه من
حرفة أو صناعة و نحو ذلك. 2
ص: 110
191 و 192 و 193 - قِلَّةُ الْعِيَالِ أَحَدُ الْيَسَارَيْنِ، وَالتَّوَدُّدُ نِصفُ الْعَقْلِ، وَأَلْهَمُّ نِصْفُ الْهَرَمِ (1)
اليسار الثاني كثرة المال؛ يقول علیه السلام: إنّ قلّة العيال مع الفقر كاليسار الحقيقيّ مع كثرتهم، فإنّ العيال أرضَة المال كما في أمثال الحكماء (2).
وأمّا التودّد، و هو جميل المعاشرة و حسن الصحبة والمسامحة والمعاملة بين الناس على الظاهر، و هو نصف العقل أي العقل العمليّ، فلا يحتاج إلى بيان.
و أما الهمّ نصف الهرم، فلأنّ الهرم إمّا طبيعيّ و إمّا لسبب من خارج وهو الهمّ و الحزن والخوف المستلزم له، فهو اذن قسيم للسبب الطبيعيّ للهرم و قسم من أسبابه، فصار بمنزلة النصف له، أي نصف سبب الهرم.
194 - قَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ، وَقَدْ هُدِيتُمْ إِن أَهْتَدَيْتُمْ، وَأُسْمِعْتُمْ إِن اسْتَمَعْتُمْ (3)
قال الله تعالى: ﴿وَ أَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدى) (4)
وقال: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (5). 0
ص: 111
195 - قَدْ أَضَاءَ الصُّبْحُ لِذي عَيْنَيْنِ (1).
هذا الكلام جارٍ مجرى المثل و مثله: و الشمس لا تخفى عن الأبصار (2).
196 و 197 - قَلِيلٌ تَدُومُ عَلَيْهِ أَرْجَى (مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ) مِنْ كَثِيرٍ مَمْلُولٍ مِنْهُ (3).
لا ريب أنّ من أراد حفظ كتاب مثلاً، فحفظ منه قليلاً قليلاً، ودام على ذلك، فإنّ ذلك أنفع له و أرجى لفلاحه من أن يحفظ كثيراً ولا يدوم عليه لملاله إيَّاه و ضجره منه، والتجربة تشهد بذلك.
و القول في غير الحفظ كالقول في الحفظ، نحو العطاء اليسير الدائم الذي هو خير من الكثير المنقطع إلى غير ذلك.
قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إنّ هذا الدين متين، فأوغِل فيه برفْق، فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظَهْرا أبقى (4).
و يعجبني نقل كلام السعدي - ولو كان بالفارسيّة - هاهنا (5)
به چشم خویش دیدم در بیابان *** که آهسته سبق برداز شتابان
سمند بادپای از تک فروماند *** شتربان همچنان آهسته میراند
198 - قَطَعَ الْعِلْمُ عُذْرَ الْمُتَعَلِّلِينَ (6) 4
ص: 112
أي العلم بالدين و ما بلغه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم من البشارة و النذارة، فإنّ ذلك قاطع لعذر من عساه يقول:
(أنّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِين) (1)، و يعلّلون أنفسهم بالباطل و يقولون: إنّ الربّ كريم رحيم، فلا حاجة لنا إلى إتعاب أنفسنا بالعبادة.
199 - الْقَلْبُ مُصْحَفُ الْبَصَرِ (2).
أي كما أنّ الإنسان إذا نظر في المصحف قرأ ما فيه، كذلك إذا أبصر الإنسان صاحبه فإنّه يرى قلبه بوساطة رؤية الخطّ الذي في المصحف ما يدلّ الخطّ عليه. قال الشاعر: (3)
إنّ العيون لَتُبدي في تقلُّبها *** ما في الضمائر من وُدَّ ومن حَنَقِ (4)
وقال آخر: (5)
تُخبّرني العينان ما القلب كاتمٌ *** وما جنّ بالبغضاء والنظر الشِّزْرِ (6))
ص: 113
200 - كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبونِ، لا ظَهْرُ فَيُرْكَبَ، وَلاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ (1).
ابن اللّبون: ابن الناقة الذكر إذا استكمل السنّة الثانية و دخل في الثالثة وهو لا يكون قد كمل و قوي ظهره على أن يركب و ليس بأنثى ذات ضرع فتحلب و هو مطّرح لا ينتفعُ به.
و أيام الفتنة هي أيّام الخصومة و الحرب بين رئيسين ضالّين يدعوان كلاهما إلى ضلالة كفتنة عبد الملك وابن الزبير، وفتنة الحجّاج و ابن الأشعث و نحو ذلك، فأمّا إذا كان أحدهما صاحب حقّ فليست أيّام فتنة كالجمل وصفّين و نحوهما بل يجب الجهاد مع صاحب الحقّ ببذل المال و النفس.
و في الكلام،حذف تقديره: له (2).
ص: 114
201 - كُنْ سَمَحاً وَلاَ تَكُنْ مُبَذِّراً، وَكُنْ مُقَدِّراً وَلاَ تَكُنْ مُقَتِّراً (1).
كلّ كلام جاء في هذا فهو مأخوذ من قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (2)
و نحو قوله: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (3).
و قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) (4).
202 - كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ، وَكُلُّ مُتَوَفَّعٍ آتٍ (5).
الفقرة الأولى إشارة إلى أنفاس العباد و حركاتهم، والثانية تخويف بما يتوقّع من الموت و توابعه.
203 - كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجِ بِالاحْسَانِ إِلَيْهِ، وَ مَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ، وَمَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَولِ فِيهِ! وَ مَا أَبْتَلى اللهُ أحَداً بِمِثْلِ الإِمْلاءِ لَهُ. (6)
المستدرج: المأخوذ على غرّة. و الإملاء: الإمهال و تأخير المدّة. و لمّا كانت غاية الابتلاء بهذه الأمور التي كلّها نعم في الحقيقة، إمّا شكرها أو كفرها، وكان الشكر هو الغاية الخيريّة المطلوبة بالذات نبّه المبتلى بالنعمة الأولى على وجوب شكرها بأنّه كثيراً ما يستدرج بها فينبغي أن لا يغفل عنها و نبّه المبتلى بالثانية على أنّها كثيراً ما يكون سبباً لغرّته بالله 66
ص: 115
والأمن من مكره فينهمك في المعاصي ونبه الثالث بكون نعمته قد يكون سبباً لفتنته و ارتكابه لرذيلة العجب بنفسه. و نبّه الرابع بكون نعمته أعظم ما يبتلى به من النعم (1).
204 - كَمْ مِنْ صَائمِ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلّا الْجُوعُ وَ العَطَش [و الظمأ - خ ل]، وَكَمْ مِنْ قائمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلا السَّهَرُ وَالْعَنَاءُ، حَبَّذَا نَوْمُ الْأَكْياسِ وَ إفطارُهُمْ (2).
إنّما مدح نوم الأكياس وإفطار هم، لأنّ الكيّس هو الذي يستعمل ذكاه و فطنته في طريق الخير و على الوجه المرضيّ للشارع، ويضع كل شيء،موضعه و من كان كذلك كان نومه و إفطاره وجميع تصرّفاته في عباداته مُوضعةً موضعها من رضاء الله ومحبّته بخلاف الجاهلين بالله و بشرائط العبادة، فإنّ نصيبهم من الصيام و القيام ما ذكره أمير المؤمنين علیه السلام.
قال تعالى: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً) (3).
و ورد: ربّ تال القرآن و القرآن يلعنه (4).
205 - كَمْ مِنْ أَكْلَةٍ مَنَعَتْ (تمنع - خ ل) أكَلاتٍ! (5)
هذا حقّ - و قد أخذ هذا المعنى بلفظه الحريري، فقال في المقامات: ربّ أكلة هاضت الآكل، ومنعتْه مآكل (6). .
ص: 116
وأخذه ابن العلّاف الشاعر فقال في سنّوره الذي يرثيه: (1)
أردتَ أن تأكل الفِراخَ ولا *** يأكُلكَ الدهر أكلَ مضطهدِ
یامن لذيذ الفِراخ أوقعه *** ويحك هلاً قنعت بالغدد
كم أكلةٍ خامرت حَشاشَرِهٍ *** فأخرجت روحَه من الجسدِ (2)
و العرب تعيّر بكثرة الأكل، و تعيب بالجشع و الشره و النهم، وقد كان فيها قوم موصوفون بكثرة الأكل منهم معاوية؛ كان يأكل حتّى يستلقي ويقول: يا غلام ارفع فلأنّي و الله ما شبعت ولكن مللت (3)
قال الشاعر:
وصاحب لي بطنه كالهاويهْ *** كأنّ في أمعائه معاويهْ
وكان عبيد الله بن زياد يأكل في اليوم خمس أكلات أخراهنّ خيبة (؟) بعسل، و يوضع بين يديه بعد أن يفرغ الطعام عَناق أو جَدْي فيأتي عليه وحده (4)
وكان سليمان بن عبد الملك المصيبة العظمى في الأكل. حكي أنّه دخل الحمام فأطال، ثمّ خرج فأكل ثلاثين خروفاً بثمانين رغيفاً، ثمّ قعد على المائدة فأكل مع الناس كأنّه لم يأكل شيئاً (5).
و نوادر آثاره في الأكل كثيرة.
وكان الحجّاج وهلال بن أشعر المازنيّ و هلال بن أبي بردة و عنبسة وميسرة الرأس موصوفين بكثرة الأكل ولهم نوادر أوردها ابن أبى الحديد ق
ص: 117
في الشرح (1).
وكان أبو الحسن العلّاف والد أبي بكر العلّاف الشاعر المحدّث أكولاً؛ دخل يوماً على الوزير أبي بكر محمد المهلبيّ، فأمر الوزير أن يؤخذ حماره فيذبح و يطبخ بماء و ملح، ثمّ قدّم له على مائدة الوزير فأكل وهو يظنّه لحم البقر، ويستطيبه حتى أتى عليه، فلّما خرج ليركب طلب الحمار، فقيل له: في جوفك (2).
وكان أبو العالية أكولاً، نذرت امرأة حامل إن أتتْ بذكر تشبع أبا العالية خبيصاً، فولدتْ غلاماً، فأحضرتْه، فأكل جفان خبيصاً، ثمّ أمسك، وخرج، فقيل له: إنّها كانت نذرت أن تشبعك، فقال: والله لو علمتُ ما شبعت إلى الليل (3).
206 - كُلُّ وِعَاءٍ يَضيقُ بِمَا جُعِلَ فِيهِ إِلّا وِعَاءَ الْعِلْمٍ، فَإِنَّهُ يَتَّسِعُ بِهِ (4).
الأوعية المحسوسة لمّا كانت متناهية الاتّساع، فمن شأنها أن يضيق بما يجعل فيها، و أوعية العلم معقولة و هي النفوس، وقوّة إدراك العلوم فيها غير متناهية، و كلّ مرتبة من إدراكها تعدّ لما بعدها إلى غير النهاية فبالواجب أن يتّسع بالعلم و يزيد بزيادته.
207 - كَفى بِالْقَنَاعَةِ مُلكاً، و بِحُسْنِ الْخُلُقِ نَعيماً (5).
استعار لفظ الملك للقناعة لأنّ غاية الملك الغناء عن الخلق، والترفّع 9
ص: 118
عليهم بذلك. والالتذاذ و القناعة مستلزمة لهذه الغايات و كذلك استعار لفظ النعيم لحسن الخلق باعتبار استلزامها للالتذاذ.
وما ورد في فضل القناعة أكثر من أن يحصى.
وسئل علیه السلام عن قول الله عزّ و جل: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (1)، فقال: هي القناعة (2)
و ذلك لأنّه لا ريب أنّ الحياة الطيّبة هي حياة الغني، و الغنى هو القنوع، لأنّه إذا كان الغنى عدم الحاجة فأغنى الناس أقلّهم حاجة إلى الناس، ولذلك كان الله تعالى أغنى الأغنياء، لأنّه لا حاجة به إلى شيء، و على هذا دلّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بقوله:
ليس الغنى بكثرة العَرَض، إنّما الغنى غنى النفس (3)
208 - الْكَرَمُ أَعْطَفُ مِنَ الرَّحِم (4).
أي الكريم بكرمه أعطف على المنعم عليه من ذي الرحم على رحمه؛ لأنّ عاطفة الكريم طبع وعاطفة ذي الرحم قد يكون تكلّفاً وقد لا يكون أصلاً.
و مثل هذا قول أبي تمّام لابن الجهم (5):
إلّا يكن نسبٌ يؤلَّف بيننا *** أدب أقمناه مُقام الوالدِ .
ص: 119
أو يختلفْ ماءُ الوصالِ فماؤُنا *** عذبٌ تحدَّرَ من غمامٍ واحدٍ
209 - كُلُّ مُعَاجَلٍ يَسْأَلُ الْإِنْظَارَ، وَكُلُّ مُؤَجَّلِ يَتَعَلَّلُ بِالتَّسْوِيفِ(1).
قال الله سبحانه: (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ...) (2) الآية.
فهذا سؤال الإنظار لمن عوجل، فأمّا من أجل فإنّه يعلّل نفسه بالتسويف، و يقول: سوف أتوب، سوف أقلع عمّا أنا عليه، فأكثرهم يُخترم (3) من غير أن يبلغ هذا الأمل. وتأتيه المنيّة وهو على أقبح حال وأسوئها، ومنهم من تشمله السعادة فيتوب قبل الموت، وأولئك الذين ختمت عاقبتهم بخير وقليل ماهم!
جعل الله عواقب أمورنا خيراً بمحمّد وآله - صلوات الله عليهم.
210 - كفَى بِالأَجَل حَارِساً (4).
استعار له لفظ الحارس باعتبار أنّ الإنسان لا يهلك مادام أجله كالحارس.
وكان علیه السلام يقول: إنّ عليّ من الله جُنّة حصينة، فإذا جاء يومي أسلمتْنى، فحينئذٍ لا يطيش السهم، ولا يبرأ الكلْم (5).
وعن مناقب ابن شهر آشوب: كان مكتوباً على درع أمير المؤمنين علیه السلام: 2
ص: 120
أي يومَيّ من الموت أفرْ *** يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أخشى الوَغى *** يوم قد قدّر لا يُغني الحذر (1)
211 - الْكَلَامُ فِي وَثَاقِكَ مَالَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَ وَرِقَكَ؛ فَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةً وَ جَلَبَتْ نِقْمَةٌ (2).
كان يقال: لا خير في الحياة إلّا لصموت واعٍ، أو ناطق مُحس (3)
و قيل الحذيفة قد أطلت سجن لسانك! فقال: لأنّه غير مأمون (4). ومن أمثال العجم: زبان سرخ سر سبز میدهد برباد!(5)
212 - كُلُّ مُقْتَصَرٍ عَلَيْهِ كَافٍ (6).
هذا من باب القناعة، وإنّ من اقتصر على شيء وقنعتْ به نفسُه فقد كفاه، و قام مقام الفضول التي يرغب فيها المترفون.
213 - كَفَاكَ أَدَبَاً لِنَفْسِكَ اجْتِنَابُ مَا تَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِكَ (7).
و قد قال علیه السلام نظير هذه الكلمة فراجع به.
214 - كَفَاكَ مِنْ عَقْلِكَ مَا أَوْضَحَ لَكَ سُبُلَ غَيْكَ مِنْ رُشْدِكَ (8).
الغرض من العقل العمليّ هو ما ذكره علیه السلام وكفى به. 1
ص: 121
215 - لَنَا حَقٌّ، فَإِنْ أُعْطِينَاهُ، وَ الّأَ رَكِبْنا أَعْجَازَ الْإِبِلِ، وَإِنْ طَالَ السُّرى (1).
قال السيد الرضي قدس سره: و هذا القول من لطيف الكلام و فصيحه، ومعناه: أنّا إن لم نُعْطَ حقّنا كنّا أذلّاء، وذلك أنّ الرديف يركب عجز البعير، كالعبد والأسير ومن يجري مجراهما. (2) انتهى.
قد فسّر کلامه علیه السلام على وجهين: أحدهما أنّ راكب عجز البعير يلحق مشقّة و ضرراً، وهذا قريب ممّا فسّره الرضيّ. والثاني أنّ راكب عجز البعير إنّما يكون إذا كان غيره قد ركب على ظهر البعير، و راكب الظهر متقدّم على راكب العجز، فأراد أنّا إذا منعنا حقّنا تأخّرنا وتقدّم غيرنا علينا، فكنّا كالراكب رديفاً لغيره، وأكّد المعنى على كلا التفسيرين بقوله: «وإن طال السرى» السرى سير الليل أي المشقّة.
ص: 122
وهذا الكلام قاله يوم السقيفة أو في تلك الأيام، وقيل: قاله يوم الشورى (1).
216 - لا قُرْبَةَ بِالنَّوافِل إذا [ما - خ ل] أَضَرَّتْ بالفَرائِضِ (2).
هذا الكلام يمكن أن يحمل على حقيقته و يمكن أن يحمل على مجازه؛ فإن حمل على حقيقته فمعناه: لا يصحّ التنقّل ممّن عليه قضاء فريضة فاتته، و هذا مذهب كثير من الفقهاء. و أمّا إذا حمل على مجازه فإنّ معناه: يجب الابتداء بالأهمّ وتقديمه على ما ليس بأهمّ نحو أن تقول لمن توصيه لا تبدأ بخدمة حاجب الملك قبل أن تبدأ بخدمة ولد الملك فإنّك إنّما تروم القربة للملك بالخدمة، ولا قربة إليه في تأخير خدمة ولده وتقديم خدمة غلامه.
217 - لِسانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ، وَقَلْبُ الْأَحْمَقِ وَراءَ لِسانِهِ (3).
قال الرضيّ قدس سره: و هذا من المعاني العجيبة الشريفة، والمراد به أنّ العاقل لا يطلق لسانه إلّا بعد مشاورة الرويّة، ومؤامرة الفكرة، والأحمق تسبق حذفتاتُ لسانه، وفلتاتُ كلامه مراجعةَ فكره، ومماخضةَ رأيه، فكأنّ لسان العاقل تابع لقلبه، وكأنّ قلب الأحمق تابع للسانه (4).
قال: و قد روي عنه علیه السلام هذا المعنى بلفظ آخر، وهو قوله علیه السلام. .
ص: 123
218 - قَلْبُ الْأَحْمَقِ في فِيهِ، وَلِسانُ الْعَاقِلِ فِي قَلْبِهِ (1).
ومعناهما واحد. انتهى.
الكلام في العقل والحمق أكثر من أن يذكر ونحن نذكر هاهنا نبذاً يسيراً على حسب دأبنا في هذا الشرح.
قالوا: كلّ شيء إذا كثر رخص إلّا العقل؛ فإنّه كلّما كان أكثر كان أعزّ و أغلى (2).
و كان عبد الملك يقول: أنا للعاقل المدبر أرجى منّي للأحمق المقبل (3).
قيل لبعضهم: العقل أفضل أم الجَدّ؟ فقال: العقل من الجَدّ (4).
وقال أرسطو: العاقل يوافق العاقل، والأحمق لا يوافق العاقل و الأحمق (5) كالعود المستقيم الذي ينطبق على المستقيم، فأمّا المعوجّ فإنّه لا ينطبق على المعوجّ و لا على المستقيم (6)
قلت: ومنه قول الطغرائيّ في «لاميّة العجم»:
و شانَ صدقَكَ عند الناس كذبُهُمُ *** وهل يُطابقُ معوجِّ بِمُعْتَدِلِ (7)
قال هشام بن عبد الملك يوماً لأصحابه: إنّ حمق الرجل يعرف .
ص: 124
بخصال أربع طول لحيته، و بشاعة كنيته، و نقش خاتمه، و إفراط نهمته. فدخل عليه شيخ طويل العُثنون فقال هشام أما هذا فقد جاء بواحدة فانظروا أين هو من الباقي؟! قالوا له: ما كنية الشيخ؟ قال: أبو الياقوت فسألوه عن نقش خاتمه، فإذا هو: ﴿وَ جَاؤُوا عَلَى قَميصهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) (1) فقيل له: أي الطعام تشتهي؟ قال الدبّاء (2) بالزيت، فقال هشام: إنّ صاحبكم قد كمل (3).
و أرسل ابنٌ لعجل بن لجيم فرساً له في حلبة، فجاء سابقاً، فقيل له: سمّه باسم يعرف به، فقام ففقاً عينه، وقال: قد سمّيته الأعور، فقال شاعر يهجوه:
رمتْني بنو عِجل بداء أبيهمُ *** و أيّ عباد الله أنوك من عجلٍ!
أليس أبوهم عار عيْنَ جواده *** فأضحتْ به الأمثالُ تُضرب بالجهلِ (4)
و كان عبد الملك بن هلال عنده زنبيل مملوء حصاً للتسبيح، فكان يسبّح بواحدة واحدة، فإذا ملّ طرح اثنتين اثنتين، ثمّ ثلاثاً ثلاثاً، فإذا ازداد ملالُه قبض قبضةً و قال: سبحان الله عددك! فإذا ضجر أخذ بِعُرا الزنبيل و قلّبه، و قال: سبحان الله بعدد هذا (5).
وصف بعضهم إنساناً أحمق، فقال: و الله للحكمة أزلّ عن قلبه من .
ص: 125
المداد عن الأديم الدهين (1). (2)
ومن حمقى العرب و جهلائهم كلاب بن صعصعة، خرج إخوته يشترون خيلاً، فخرج معهم، فجاء بعجل يقوده، فقيل له: ما هذا؟ فقال: فرس اشتريته؛ قالوا: يا مائق! (3) هذه بقرة، أماتري قرنيها! فرجع إلى منزله فقطع قرنيها، ثمّ قادها، فقال لهم: قد أعددتها فرساً كما تريدون، فأولاده يُدعون بني فارس البقرة (4).
و استعمل معاوية عاملاً من كلب، فخطب يوماً، فذكر المجوس فقال: لعنهم الله! ينكحون أمّهاتهم، والله لو أُعطيت عشرة آلاف درهم ما نكحت أُمّي، فبلغ ذلك معاوية، فقال: قبّحه الله! أترونه لو زادوه فعل! وعزله (5)
وشرد بعير لهبنّقة - واسمه يزيد بن شَرْوان - فجعل ينادي: لمن أتى به بعيران، فقيل له: كيف تبذل و يلك بعيرين في بعير! فقال: لحلاوة الوجدان (5).
219 - لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِنِ بِسَيفي هذَا عَلَى أَنْ يُبْغِضَني مَا أَبْغَضَنِي؛ وَلَوْ صَبَيْتُ الدُّنْيا بِجَمَّاتِها عَلَى الْمُنَافِقِ عَلَى أَنْ يُحِبَّني مَا أَحَبَّني. وَذَلِكَ أَنَّهُ قُضِيَ فَانْقَضَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَنَّهُ قَالَ: يَا عَلِيُّ لا يُبْغِضُكَ 8
ص: 126
مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُحِبُّكَ مُنافِقُ (1).
جمّاتها - بالفتح - : جمع جمّة، وهي المكان يجتمع فيه الماء. وهذه استعارة لمجتمع المال.
والخيشوم: أقصى الأنف، و مراده علیه السلام من هذا الفصل إذكار الناس ما قاله فيه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و هو: لا يبغضك مؤمن و لا يحبّك منافق.
220 - لا غِنَى كَالْعَقْلِ وَلَا فَقْرَ كَالْجَهْلِ وَلَا مِيراثَ كَالأَدَبِ وَلَا ظَهير كَالْمُشَاوَرَةِ (2).
قال بزرجمهر الحكيم: ما ورثّت الاباء ابناءها شيئاً أفضل من الأدب، لأنّها إذا ورّثتها الأدب اكتسبتْ بالأدب المالَ، فإذا ورثّتها المال بلا أدب اتلفته بالجهل، وقعدت صفراً من المال و الأدب (3).
وكان يقال: عليكم بالأدب؛ فإنّه صاحب في السفر، ومؤنس في الوحدة، وجمال في المحفل، وسبب إلى طلب الحاجة (4).
و سيأتي مثل هذا الكلام بعد هذا.
221 - اللِّسَانُ سَبُعٌ، إِنْ خُلِّيَ عَنْهُ عَقَرَ (5).
قالت الحكماء: النطق أشرف ما خُصّ به الإنسان لأنّه صورته المعقولة الّتى بايَنَ بها سائر الحيوانات، و لذلك قال سبحانه: (خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (6)، ولم يقل: «وعلّمه» بالواو، لأنّه سبحانه جعل 4
ص: 127
قوله: «علّمه البيان» تفسيراً لقوله: «خلق الإنسان»، لا عطفاً عليه؛ تنبيهاً على أنّ خلقه له هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهّم مرتفعاً لارتفعت إنسانيّته؛ ولذلك قيل: ما الإنسان لولا اللسان إلّا بهيمة مهملة، أو صورة ممثّلة (1)
قالوا: والصمت من حيث هو صمت مذموم، و هو من صفات الجمادات، فضلاً عن الحيوانات وكلام أمير المؤمنين علیه السلام وغيره من العلماء والحكماء في مدح الصمت محمول على من يسيء الكلام، فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين و الدنيا، كما ورد في الخبر: إنّ الإنسان إذا أصبح قالت أعضاؤه للسانه: اتق الله فينا، فإنّك إن استقمتَ نجونا، وإن زُغْتَ هلكنا (2).
222 - لَا تَسْتَحِ مِنْ إِعْطاءِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ (3).
أراد بقوله: أقلّ منه، أي أحقر بالاعتبار، وهذا نوع من الحثّ على الإفضال والجود لطيفٌ.
سئل: أرسطو: هل من جود يستطاع أن يتناول به كلّ أحد؟ قال: نعم، أن تنوي الخير لكلّ أحد (4).
223 - لا تَرَى الْجَاهِلَ إِلا مُفْرِطاً أَوْ مُفَرِّطا (5).
العدالة هي الخلق المتوسّط، و هو محمود بين مذمومين فالشجاعة 0
ص: 128
محفوفة بالتهوّر والجبن، والذكاء بالغباوة والجربزة، والجود بالشحّ والتبذير، والحلم بالجمادية والاستشاطة، وعلى هذا كلّ ضدّين من الأخلاق فبينهما خلق متوسّط، وهو المسمّى بالعدالة، فلذلك لا يرى الجاهل إلّا مفرطاً وهو الجهل المركّب - أو مفرّطاً - وهو الجهل البسيط كصاحب الغيرة، فهو إما أن يفرط فيها، فيخرج عن القانون الصحيح فيغار لا من موجب، بل بالوهم وبالخيال و بالوسواس، و إمّا أن يفرّط فلا يبحث عن حال نسائه و لا يبالي ما صنعن و كلا الأمرين مذموم، و المحمود الاعتدال.
224 - لا يَسْتَقِيمُ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ إِلا بِثَلاثٍ: بِاسْتِصْغَارِها لَتَعْظُمَ، وَ بِاسْتَكْتَامِها لِتَظْهَرَ، وَ بِتَعْجِيلِها لِتَهْنُو (1).
اشترط في استقامة الحوائج ثلاث شرائط:
أحدها: استصغار قاضي الحاجة لها ليعرف بالسماحة و كبر النفس فيعظم عطاؤه و يشتهر.
الثانية: أن يكتمها؛ طباع الناس أدعى إلى إظهار ما استكتم، و أكثر عناية به من غيره.
الثالثة: أن يعجّلها لتهنؤ، أي لتكون هنيئة، وذلك لأنّ الإبطاء بقضاء الحاجة ينغّصها على طالبها، فتكون لذّتها مشوبة بتكدير بطؤها.
ولهذا قالوا: و خير الخير ما كان عاجله (2).
و كان يقال: المنع أروح من التأخير (3). 8
ص: 129
وقال خالد بن صفوان: لا تطلبوا الحوائج في غاير حينها، ولا تطلبوها إلى غير أهلها و لا تطلبوا مالستم له بأهل فتكونوا للمنع خلقاء (1)
225 - لَا يَتْرُكُ النَّاسُ شيئاً مِنْ أَمْرِ دينهم لِاسْتِصْلاحِ دُنْيَاهُمْ إِلّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ (2).
مثال ذلك إنسان يضيّع وقت صلاة الفريضة عليه، و هو مشتغل بمحاسبة وكيله ومخافته على ماله، خوفاً أن يكون خانه في شيء منه، فهو يحرص على مناقشته عليه، فتفوته الصلاة.
226 - لَا يُقيمُ أَمْرَ اللهِ سُبْحَانَهُ إِلّا مَنْ لايُصانعُ، وَلَا يُضَارِعُ، وَلَا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ (3).
المصانعة: بذل الرشوة، وفي المثل: من صانع بالمال، لم يحتشم من طلب الحاجة (4).
و يضارع: يتعرّض لطلب الحاجة، ويجوز أن يكون من الضراعة، وهي الخضوع.
227 - لا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ، وَ لَا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ، وَ لَا عَقْلَ كالتَّدْبِيرِ وَلَا كَرَمَ كالتَّقْوى وَلا قَرِينَ كَحُسْنِ الْخُلْقِ، وَلَا مِيرَاثَ كَالْأَدَبِ، وَ لَا قَائِدَ كَالتَّوْفِيقِ، وَلا تِجارة كَالْعَمَلِ الصَّالح، وَلا زَرْعَ (5) كَالثَّوَابِ، وَلَا وَرَعَ كَالْوُقُوفِ
(1) شرح ابن أبى الحديد 258/18
(2) نهج البلاغة، الحكمة 106
(3) نهج البلاغة الحكمة 110
(4) شرح ابن أبي الحديد 18 / 274
(5) في النهج ولا ربح.
ص: 130
عِنْدَ الشُّبْهَةِ، وَلَا زُهْدَ كَالزُّهْدِ فِي الْحَرَامِ، وَ لَا عِلْمَ كَالتَفَكَّرِ، وَ لا عِبَادَةَ كَأَدَاءَ الْفَرائضِ، وَ لَا إِيمَانَ كَالْحَياءِ وَ الصَّبْرِ، وَ لَا حَسَبَ كَالتَّواضع، وَلا شَرَفَ كَالْعِلمٍ، وَ لاَ عزَّ كَالْحِلْمٍ، وَ لَا مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ (1).
أمّا المال فإنَّ العقل أعود منه، لأنّ الأحمق ذا المال طالما ذهب ماله بحمقه، فعاد أحمق فقيراً، والعاقل الذي لا مال له طالما اكتسب المال بعقله.
وأمّا العُجب فيوجب المقت، و مَن مُقِت أفرد عن المخالطة واستوحش منه.
ولا ريب أنّ التدبير هو أفضل العقل، لأنّ العيش كلّه في التدبير.
و أما التقوى فقد قال الله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (2).
و أمّا الأدب فقالت الحكماء: ما ورّثت الآباء أبناءها كالأدب (3).
و أمّا التوفيق فمن لم يكن قائده ضلّ.
و أمّا العمل الصالح، فإنّه أشرف التجارات، فقد قال الله تعالى: ﴿هَلْ أدُلُّكُمْ عَلى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أليم). (4) ثمّ عدّ الأعمال الصالحة.
و أما الثواب فهو الربح الحقيقيّ، و أمّا ربح الدنيا فشبيه بحلم النائم.
و أمّا الوقوف عند الشبهات فهو حقيقة الورع.
ولا ريب أن من يزهد في الحرام أفضل ممن يزهد في المباحات، كالمآكل اللذيذة، و الملابس الناعمة. 10
ص: 131
و قد وصف الله أرباب التفكّر فقال: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمواتِ و الأرضِ) (1)شرح ابن أبي الحديد 277/18(2) وقال: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) (3).
و لا ريب أنّ العبادة بأداء الفرائض فوق العبادة بالنوافل.
و الحياء مخّ الإيمان، والصبر رأس الإيمان.
و التواضع مصيدة الشرف، و ذلك هو الحسب.
و أشرف الأشياء العلم، لأنّه خاصة الإنسان، و به يقع الفصل بينه وبين سائر الحيوان.
و المشورة من الحزم، فإنّ عقل غيرك تستضيفه إلى عقلك.
و من كلام بعض الحكماء: إذا استشارك عدوّك في الأمر فامحضه النصيحة في الرأي، فإنّه إن عمل برأيك و انتفع ندم على تفريطه في منا وأتك، وأفْضَتْ عدواته إلى المودّة، وإن خالفك واستضرّ عرف قدر أمانتك بنصحه، وبلغْتَ مُناك فى مكروهه (3).
228 - لَأَنْسُبَنَّ الإِسْلَامَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي الإِسْلاَمُ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَ التَّسْلِيمُ هُوَ الْيَقينُ، و الْيَقينُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَ التَّصْدِيقُ هُوَ الإقرارُ، وَ الْإقرارُ هُوَ الْأَدَاءُ، وَ الْأَدَاءُ هَوَ الْعَمَلُ (4).
حاصل هذا الترتيب يؤول إلى نتاج أن الإسلام هو العمل بمقتضى أوامره، وهو تفسير بخاصّة من خواصّه. 5
ص: 132
229 - لا يَكُونُ الصَّديقُ صَدِيقاً حَتَّى يَحْفَظَ أَخَاهُ في ثَلاث في نَكْبَتِهِ. وَغَيْبَهِ وَ وَفَاتِهِ (1).
النكبة ما تصيب الإنسان من حوادث الدهر من قصر ومرض إلى غير ذلك. قال الشاعر:
وكان أخلّائي يقولون مرحبا *** فلّما رأوني مقتراً مات مرحبُ (2)
230 - لِكُلِّ أَمْرِى عَاقِبَةٌ حُلْوَةٌ أَوْ مُرَّة (3).
هكذا وجد في كثير من النسخ و وجدوا أيضاً في بعض النسخ «لكل أمر» و هو الأليق (4).
و على كلّ حال فمعناه ظاهر.
231 - لِكُلِّ مُقْبِل إِدْبَارٌ، وَ مَا أَدْبَرَ فَكَأَنْ [كَأَنْ خ ل] لَمْ يَكُن (5).
هذا معنى قد استعمل كثيراً، فمنه:
ما طار طير و ارتفعْ *** إلّا كما طار وَقَعْ (6)
و قول الشاعر:
بقدر العلوّ يكون الهبوط *** وإيّاك و الرتب العاليّة (7) ق
ص: 133
و في أمثال العجم فوّاره چون بلند شود سرنگون شود (1)
قال بعض الحكماء: حركة الإقبال بطيئة، و حركة الإدبار سريعة، لأنّ المقبل كالصاعد من مرقاة إلى مرقاة، و مرقاة المدير كالمقذوف به من علو إلى أسفل (2).
232 - لا يَعْدَمُ الصَّبُورُ الظَّفَر وَ إِنْ طَالَ بِهِ الزَّمانُ (3).
قالت الحكماء: الصبر ضربان: جسميّ ونفسيّ؛ فالجسمي تحمّل المشاقّ قدر القوّة البدنيّة، كالصبر على المشي ورفع الحجر والصبر على المرض واحتمال الضرب والقطع، وليس ذلك بفضيلة تامّة، وأما النفسيّ ففيه تتعلّق الفضيلة، وهو ضربان: صبر عن مشتهى، ويقال له عفّة وصبر على تحمّل مكروه أو محبوب. و تختلف أسماؤه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان في نزول مصيبة لم يتعدّ به اسم الصبر، و يضادّه الجزع والهلع والحزن، وإن كان في محاربة سمّي شجاعة ويضادّه الجبن، وإن كان في إمساك النفس عن قضاء وطر الغضب سمّي حلماً، ويضاده الاستشاطة. وإن كان عن فضول العيش سمّي قناعة وزهداً، ويضادّه الحرص والشره، إلى غير ذلك.
فهذه كلّها أنواع الصبر، ولكن اللفظ العرفيّ واقع على الصبر الجسمانيّ، وعلى ما يكون في نزول المصائب، وينفرد باقي الأنواع بأسماء تخصّها (4). 8
ص: 134
233 - لِلظَّالِمِ الْبَادِي غَداً بِكَفِّهِ عَضَّةٌ (1).
هذا من قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) (2)، و إنّما قال: «للبادي» لأنّ «من انتصر بعد ظلمه فلا سبيل عليه» (3).
234 - لا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ(4).
قال ابن ميثم: وذلك كالوضوء بالماء [المغصوب]، و الصلاة في الدار المغصوبة. و يحمل النفي هنا على نفي جواز الطاعة، كما هو المنقول عنه و عن أهل بيته علیه السلام و عند الشافعيّ: قد يصح الطاعة و النفي لفضيلتها (5).
235 - لا يُعَابُ الْمَرْءُ بِتَأْخِيرِ [بِأَخْذِ - خ ل] حَقِّهِ، إِنَّمَا يُعَابُ مَنْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ (6).
236 - الدَّجَاجَةُ تَسُلُّ الرَّأْيَ (7).
أي: تأخذه و تذهب به. وهذا قريب من قوله علیه السلام: «لا رأي لمن لا يطاع» (8)، و ذلك لأنّ عدم الطاعة هو اللجاجة، و هو خلق يتركّب من 27
ص: 135
خلقين أحدهما الكبر، و الآخر الجهل بعواقب الأمور.
237 - لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ كَمَا أَنَّهُ لا خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ (1).
هذان طرفا تفريط و إفراط، و الحقّ العدل هو النطق بالحكمة و فيه الخير كلّ الخير.
و كان يقال: ما الإنسان لولا اللسان إلّا بهيمة مهملة أو صورة ممثّلة (2).
238 - لَمْ يَذْهَبْ مِنْ مَالِكَ مَا وَعَظَكَ (3).
هذا مثل قولهم: إنّ المصائب أثمان التجارب (4)
و في أمثال العجم: هر ضرری عقلی را زیاد میکند (5)
239 - لا يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ مَنْ لا يَشْكُرُهُ لَكَ، فَقَد يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لا يَسْتَمْتعُ بِشيءٍ مِنْهُ، وَقَدْ تُدْرِكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ، وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (6).
نهى عن الزهد في المعروف بسبب عدم شكر المحسن إليه.
240 - لَتَعْطِفَنَّ الدُّنْيَا عَلَيْنَا بَعْدَ شِمَاسِها عَطفَ الضَّرُوسِ عَلَى وَلَدِهَا، وَتَلاَ عقيب ذلك: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (7).
ص: 136
الشماس: مصدر شمس الفرسُ إذا صنع من ظهره، و الضروس: الناقة السيئة الخلق تعضّ حالبها ليبقى لبنها لولدها، و ذلك لفرط شفقتها عليه.
و هذا إشارة إلى دولتهم في آخر الزمان - عجل الله فرجهم - .
241 - لَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ الْقَضَاءُ عَلَى الثَّقَةِ بِالظَّن (1).
أي من كان عندك ثقة معروفاً بالأمانة فحكمك عليه بالخيانة عن ظنّ خروجٌ عن العدل و هو رذيلة الجور.
242 - لَوْ قَدِ اسْتَوَتْ قَدَمَايَ مِنْ هَذِهِ الْمَدَاحِضِ لَغَيَّرْتُ أَشْيَاءَ (2).
المداحض: المزالق و استواء قدميه كناية عن ثباته و تمكّنه من إجراء الأحكام الشرعيّة على وجوهها، وذلك لأنّه في خلافته لم يتمكّن من تغيير شيء من أحكام الخلفاء قبله، و كان له في بعضها رأي غير ما رأوه، و لهذا قال لقضاته: «اقضوا كما كنتم تقضون حتّى يكون للنّاس جماعة» (3)
243 - لا تَجْعَلُوا عِلْمَكُمْ جَهْلاً، وَيَقِينَكُمْ شَكّا إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا، وَ إِذَا تَيَقَّنْتُمْ فَأَقْدِمُوا (4).
أمرهم بالعمل على وفق علمهم، و الإقدام على وفق يقينهم، و نهاهم عن ترك العمل. 74
ص: 137
244 - لَيْسَتِ الرَّوِيَّةُ مَعَ الْإِبْصَارِ (1) فَقَدْ تَكْذِبُ الْعُيُونُ أَهْلَهَا، وَلَا يَغُشُ العَقْلُ مَن أَنْتَصَحَهُ [اسْتَنْصَحَهُ - خ ل] (2).
هذا تنبيه على وجوب إعمال الفكر فيما ينبغي، و أنّ العقل هو مستند الحواسّ وهو الناقد البصير و الناصح الشفيق الذي لا يغشّ من استنصحه.
«فقد تكذب العيون أهلها» أي قد يكذب الأحكام الوهميّة على مدركات العيون كالحكم بكون القطرة النازلة خطّا مستقيماً، و الشعلة الّتي تدار بسرعة كالدائرة ونحوه.
245 - لَوْ لَمْ يَتَوَعَّدِ اللَّهُ [سبحانه] عَلَى مَعْصِيَتِهِ لَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يُعْصَى شُكراً لِنِعَمِهِ (3).
246 - لا تَصْحَب أَلْمائِقَ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَكَ فِعْلَهُ، وَيَوَدُّ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ (4).
المائق: الشديد الحمق، وإنّما يزيّن لك فعله لأنّه يعتقد فعله صواباً بحمقه فيزيّنه لك كما يزيّن العاقل لصاحبه فعله لاعتقاد كونه صواباً.
وقوله علیه السلام: «ويودّ أن تكون مثله و ذلك لأنّ كلّ أحد يود أن يكون صديقه مثل نفسه في أخلاقه و أفعاله، إذ كلّ أحد يعتقد صواب أفعاله و طهارة أخلاقه و لا يشعر بعيب نفسه كما تخفى عن العاشق عيوب المعشوق. 3
ص: 138
247 - لا يَصْدُقُ إِيمَانُ عَبْدٍ، حَتَّى يَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ [سبحانَهُ] أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدِهِ (1).
هذا كلام في التوكّل. قال بعض العلماء: لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيّع أمر آخرتك، و لاتنال من الدّنيا إلّا ما كتب الله لك (2).
248 - لَوْ رَأَى الْعَبْدُ الْأَجَلَ وَ مَسِيره (3) لَأَبْغَضَ الْأَمَلَ وَغُرُورَهُ (4).
أي لو كان الأجل بصورة سائر محسوس فشاهد العبد سيره به إلى الموت، وعلم غايته لقطع آماله الدنيويّة، ولم يغترر بها.
وكان يقال: واعجبا لصاحب الأمل الطويل! و ربما يكون كفنه في يد النسّاج وهو لا يعلم (5).
249 - لِكُلِّ أَمْرِىءٍ فِي مَالِهِ شَرِيكَانِ: الْوَارِثُ وَ الْحَوَادِثُ (6)
أخذه الرضيّ - قدس سره - فقال:
خُذْ تراثكَ ما استطعتَ فإنّما *** شركاؤكَ الأيّامُ والورّاثُ
لم يقضِ حقَّ المال إلّا معشرٌ *** نظروا الزمانَ يعيث فيه، فعاثُوا (7) .
ص: 139
و من كلامه علیه السلام: بشّر مال البخيل بحادث أو وارث (1).
250 - لِلظَّالِمِ مِنَ الرِّجَالِ ثَلاثُ عَلامَاتٍ: يَظْلِمُ مَنْ فَوْقَهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَمَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ، وَيُظَاهِرُ الْقَوْمَ الظَّلَمَةَ (2).
لابدّ لكلّ ظالم من اجتماع هذه العلامات الثلاث فيه.
قال كمال الدين بن میثم ظلمه لمن فوقه عصيان الله وتعدّيه لحدوده العادلة، و الثانية مستلزمة للأولى و الثالثة مستلزمة للأوليين (3).
251 - لا تَظُنُّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءاً، وَ أَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلاً (4).
بهذا المضمون و ردت روايات كثيرة. و قال الشاعر:
إذا ما أتتْ من صاحبٍ لك زَلَّةٌ *** فكنْ أنت مُحتالاً لزلّته عذرا (5)
252 - لاتَسْأَلْ عَمَّا لَمْ يَكُن، (6) فَفِي الَّذِي قَدْ كَانَ لكَ شُغْلٌ. (7)
قال كمال الدين بن ميثم أمر علیه السلام بالسلو عمّا لا يكون من زيادة رزق و نحوه من المطالب الدنيوية بما قد كان و وقع من المطالب التي أعطيها الإنسان.
قلتُ: يمكن أن يكون لكلامه علیه السلام معنى آخر و هو المنع عن المسائل 4
ص: 140
التي لم تقع ولم تتّفق بل السؤال عن المطالب الّتي اتّفقت ووقعت، فإنّها أكثر من أن تحصى وكفى بها شغلاً، وهذا ظاهر (1).
253 - لَا شَرَفَ أَعْلَى مِنَ الْإِسْلَامِ، وَ لَا عِزَّ أَعَزُّ مِنَ التَّقْوَى، وَ لَا مَعْقِلَ أَحْسَنُ مِنَ الْوَرَعِ، وَ لَا شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ، وَ لَا كَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقَنَاعَةِ، وَ لَا مَالَ أَذْهَبُ لِلْفَاقَةِ مِنَ الرِّضَى بِالْقُوتِ، وَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ فَقَدِ انْتَظَمَ الرَّاحَةَ وَ تَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ، وَ الرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ وَ مَطِيَّةُ التَّعَبِ، وَ الْحِرْصُ وَ الْكِبْرُ وَ الْحَسَدُ دَوَاعٍ إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ، وَ الشَّرُّ جَامِعُ مَسَاوِئِ الْعُيُوبِ. (2)
استعار للورع لفظ المعقل باعتبار تحصّن الإنسان به من عذاب الله.
قوله علیه السلام: «ولا شفيع ...» إلى آخره، وذلك لاستلزام التوبة العفو عن جريمة التائب.
«انتظم الراحة»، أي في سلك الراحة من الهمّ بطلب الدّنيا ومجاذبة أهلها.
«و تبوّأ خفض الدعة»، أي اتّخذ لين السكون مباءة ومرجعا.
«و الرغبة مفتاح»، أي الرغبة في الدّنيا تفتح باب التعب على الراغب، و النصب كتعب لفظاً و معنى و التقحّم الدخول بسرعة.
254 - لَا تَأْمَنَنَّ عَلَى خَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَذَابَ اللهِ، لقوله سبحانه (3): ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (4) وَ لَا تَيْأَسَنَّ لِشَرِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ لقوله سبحانه (5) لى
ص: 141
(إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (1). (2)
قال كمال الدين بن ميثم: أدّب السامع بهذين الأدبين محتجّاً بعموم الآيتين، ولفظ المكر مستعر لإمهال الله، ثمّ أخذه فهو في صورة المكر والخداع، والمراد ظاهر. (3) انتهى.
255 - لا تَقُلْ مَا لا تَعْلَمُ، بَلْ لا تَقُلْ كُلُّ مَا تَعْلَمُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ فَرَضَ (4) عَلَى جَوَارِحِكَ كُلِّهَا فَرَائِضَ يَحْتَجُ بِهَا عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (5).
نهى علیه السلام عن قول ما لا يعلم، لأنّه كذب أو محتمل للكذب، أو لأنّه قول بالجهل فيجب الاحتراز فيه. و أمّا النهي عن قول كلّ ما يعلم فلجواز أن يكون فيه مضرّة لنفسه أو لغيره كإذاعة سرّ يستلزم أذاه أو أذى من أسرّه إليه ونحو ذلك. ولهذا قيل: ماكلّ ما يعلم يقال.
256 - لِلْمُؤْمِنِ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ: فَسَاعَةٌ يُنَاجِي فِيها رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يَرُمُّ فيها مَعَايِشَهُ، (6) وَسَاعَةٌ يُخَلِّي فيها (7) بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ. وَلَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ شَاخِصاً إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: مَرَمَّةٍ لِمَعاشِ، أَوْ حُظْوَةٍ (8) في مَعَادٍ أَوْ لَذَّةٍ في غَيْرِ مُحَرَّمٍ (9).
(1) سورة يوسف (12) / 87
(2) نهج البلاغة، الحكمة 377
(3) شرح ابن میثم 431/5
(4) في النهج فإن الله فرض
(5) نهج البلاغة، الحكمة 382
(6) في النهج يرم معاشه
(7) ليست فيها» في النهج
(8) في النهج خطوة
(9) نهج البلاغة، الحكمة 390
ص: 142
رمّ المعاش: إصلاحه. والشاخص، أي الراحل و الذاهب من بلد إلى بلد. والحُظوة - بالحاء المهملة و الظاء المعجمة - أي عمل المعاد وهو العبادة والطاعة.
قسّم علیه السلام الزمان المؤمن العاقل إلى ثلاثة أقسام بحسب ما ينبغي له بمقتضى الحكمة العمليّة، و الرأي الحقّ. قسم في العبادة و المناجات - وهو المطلوب بنفسه - وقسم في تحصيل المعاش، وقسم ثالث في تخليته بين النفس و لذاتها المباحة، وهذان القسمان مرادان للأوّل، إذ لا يمكن بدونهما.
والى الأمور الثلاثة يرجع قوله علیه السلام: «وليس للعاقل ...» إلى آخره.
257 - لاَ تَجْعَلَنَّ ذَرَبَ لِسَانِكَ عَلَى مَنْ أَنْطَقَكَ، وَ بَلاغَةَ قَوْلِكَ عَلَى مَنْ سَدَّدَكَ (1).
ذرب اللسان: حدّته، أي قبيح لمن يحصّل من إنسان علماً وفائدة أن يستعين بها عليه، كأن يتفاصح على من علّمه الفصاحة، وهذا كمن ينعم على إنسان بسيف فإنّه يقبح منه أن تقتله بذلك السيف ظلماً قبحاً زائداً على ما لو قتله بغيره قال الشاعر:
أُعلّمه الرمايةَ كُلّ يومٍ *** فلمّا استدَّ ساعدُه رَماني (2)
و كم علّمتُه نظمَ القوافي *** فلمّا قال قافيةً هَجاني (3) .
ص: 143
258 - لا يَنْبَغِي لِلْعَبدِ أَنْ يَبْقَ بِخَصْلَتَيْنِ: الْعَافِيَةِ وَ الْغِنَى بَيْنَا تَرَاهُ مُعَافِي إِذْ سَقِمَ؛ وَبَيْنَا تَرَاهُ غَنِيِّاً إِذ أَفْتَقَرَ (1).
قد قال الشعراء في هذا المعنى كثيراً، و منها قول الشاعر:
وربَّ غَنیُّ عظيم الثراء *** أمسى مُقلّاً عديماً فقيرا
وكم بات من مُترفٍ في القصور *** فعُوّض في الصبح عنها القبورا (2)
وقال آخر:
و إذا ما أعارك الدهر شيئاً *** فهو لابدّ أخِذٌ ما أعارا (3)
259 - لَيْسَ بَلَدٌ بِأَحَقُّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ. خَيْرُ الْبِلادِ مَا حَمَلَكَ (4).
ما حملك أي ما حمل مؤونتك، ووجدت فيه صلاح معاشك فأمكنك الإقامة به. قال الشاعر:
لي عن بلاد الأذى والهون متّسع *** ما بين حرّ وبين الدار من نسب (5) 5
ص: 144
260 - مَنْ ضَيَّعَهُ الْأَقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الْأَبْعَدُ (1)
أي ضيّعه و خذله قومه وأهله قدّر لمنفعته ومعونته الأبعد، فإنّ الإنسان قد ينصره مَنْ لا يرجو نصره وإنْ أهمله أقربوه وخذلوه، فقد تقوم به الأجانب من الناس، وقد وجدنا ذلك في حقّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؛ ضيّعه رهطه من قريش و خذلوه، وتمالئوا عليه، فقام بنصره الأوس والخزرج و هم أبعد الناس نسباً منه، لأنّه من عدنان وهم من قحطان.
وقامت ربيعة بنصر أمير المؤمنين علیه السلام لها في صفين، و هم أعداء مُضَر الذين هم أهله ورهطه.
و قامت الخراسانيّة - وهم عجم - بنصر الدولة العبّاسيّة، و هي دولة العرب (2)
ص: 145
261 - مَا كُلُّ مَفْتُونِ يُعَاتَبُ (1)
هذه الكلمة قالها أمير المؤمنين علیه السلام السعد بن أبي وقّاص، ومحمد بن مسلمة، و عبد الله بن عمر لمّا امتنعوا من الخروج معه لحرب أصحاب الجمل (2).
وقال فيهم أيضاً:
262 - خَذَلُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَنْصُرُوا الْبَاطِل (3).
و نظير قوله علیه السلام: «ما كلّ مفتون يعاتب» أو قريب منه قول أبي الطيّب:
فما كلّ فعّالٍ يجازى بفعله *** ولاكلّ قوّالٍ لديّ يجابُ
و ربّ كلام مرّ فوق مَسامعي *** كما طنّ في لوح الهجير ذبابُ (4)
قال ابن ميثم: الفتنة قد تكون في الدين، وقد تكون في الدنيا وقد تكون فيهما، و على التقديرات فقد تلحق الإنسان بسبب منه من جهل بسيط أو مركّب، وقد تلحقه بأسباب قدريّة خارجيّة معلومة وغير معلومة. والذي يعاتب على فتنته من هؤلاء مَن كانت أسباب فتنته منه أو بعضها كوقوع الفتنة لمصاحبة الفسّاق ونحوه.
هذا إذا حملنا اللفظ على ظاهره، ويحتمل أن يريد ليس كلّ مفتون ينفع معه العتاب (5). 5
ص: 146
263 - مَنْ جَرَى فِي عِنَانِ أَمَلِهِ عَشَرَ بِأَجَلِهِ (1).
روى أبو سعيد الخُدْرِيّ أنّ أسامة بن زيد اشترى وليدةً بمائة دينار إلى شهر! فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ألا تعجبون من أسامة يشتري إلى شهر! إنّ أسامة لطويل الأمل (2).
قال أبو عثمان الهنديّ: قد بلغت نحواً من ثلاثين ومائة سنة، فما من شيء إلّا قد عرفت النقص فيه إلّا أملي، فإنّه كما كان.
كما قال الشاعر:
أراك تزيدك الأيام حِرصاً *** على الدنيا كأنّك لا تموتُ
فهل لك غاية إن صرتَ يوماً *** إليها قلتَ حَسبي قد رضيتُ (3)
264 - مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ حَسَبُهُ [نَسَبُهُ - خ ل] (4).
هذا الكلام حثّ و حضّ و تحريض على العبادة، وله نظائر كثيرة.
265 - وفي رواية أخرى: مَنْ فَاتَهُ حَسَبُ نَفْسِهِ لَمْ يَنْفَعُهُ حَسَبُ آبَائِهِ (5).
كان يقال: أجهل الناس مَنْ افتخر بالعظام البالية، وتبجّح (6) بالقرون الماضية، و اتّكل على الأيام الخالية.
قال الشاعر:
كن ابنَ مَنْ شئت واكتسبْ أدباً *** يُغنيك محمودُه عن النسب له
ص: 147
إنّ الفتى مَنْ يقول ها أنا ذا *** ليس الفتى من يقول كان أبي (1)
266 - مِنْ كَفَّارَاتِ الذُّنُوبِ الْعِظامِ إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ، وَالتَّنْفِيسُ عَنِ المَكْرُوبِ (2).
قد جاء في هذا المعنى آثار كثيرة و أخبار جميلة لا يتّسع لذكره نطاق البيان.
267 - مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلَّا ظَهَرَ في فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَ صَفَحَاتِ وَجْهِهِ (3).
الفلتة: الأمر يقع من غير تروّ. وصفحة الوجه: بشرته.
و ما قاله علیه السلام شهدت به التجربة. قال الشاعر:
تخبّرني العينانِ ما القلبُ كاتمٌ *** وما جنّ بالبغضاء والنظر الشَّزْرِ (4)
268 - مَنْ أَسْرَعَ إِلى النَّاسِ بِمَا يَكْرَهُونَ، قَالُوا فِيهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ (5).
هذا المعنى كثير واسع ولنقتصر على حكاية مختصرة:
روي عن أبان بن الأحمر أنّ شريك ابن الأعور دخل على معاوية، فقال له: والله إنّك لشريك وليس له شريك، وإنّك لابن الأعور و البصير خيرٌ من الأعور، و إنّك لدميم والجيّد خير من الدميم، فكيف سدت قومك؟ قال: إنّك معاوية و مامعاوية إلّا كلبة عوت فاستعوت [واستعرت - خ ل]، و إنّك لا بن صخر و السهل خير من الصخر، و إنّك لابن حرب و السلم .
ص: 148
خير من الحرب، وإنّك لابن أُمية وما أُميّة إلّا تصغير أمة صغّرت فاستصغرت فكيف صرت أمير المؤمنين؟ فغضب معاوية و خرج شريك وهو يقول:
أيشتمني معاوية بن صخر *** وسيفي صارمٌ ومعي لساني
وحولي من ذوي يزن ليوثٌ *** ضراغمة تهشُّ إلى الطعانِ
فلا تبسط علينا يا ابن هند *** لسانك إن بلغت ذرى الأماني (1)
269 - مَنْ أَطَالَ الأَمَلَ أَسَاء الْعَمَلَ (2).
لمّا كان طول الأمل في الدّنيا مستلزماً للإقبال عليها والانهماك في العمل لها و الغفلة عن الآخرة، كان ذلك عملاً سيئاً بالنسبة إلى الآخرة.
وقد تقدّم منّا كلام في الأمل.
270 - الْمَالُ مَادَّةُ الشَّهَوَاتِ (3).
كان يقال: ثلاثة يؤثرون المال على أنفسهم: تاجر البحر، والمقاتل بالأجرة، و المرتشي في الحكم، وهو شرّهم، لأن الأولين ربّما سلما، ولا سلامة للثالث من الإثم (4)
271 - مَنْ حَذَّرَكَ كَمَنْ بَشَّرَكَ (5).
هذا مثل قولهم: اتّبع أمر مُبكياتك، لا أمر مُضحكاتك (6). 9
ص: 149
و مثله صديقك مَنْ نهاك، لا مَنْ أَغراك (1).
و بالفارسيّة يقولون: دوست آن است که بگریاند دشمن آن است که بخنداند (2)
قال الشاعر:
به نزد من آن کس نکو خواه تست *** که گوید فلان خار در راه تست
چه خوش گفت یک روز دارو فروش *** شفا بایدت داروی تلخ نوش (3)
ثمّ أعلم أنّ التحذير هو النصح، و هو تعريف الإنسان ما فيه صلاحه، ودفع المضرّة عنه.
و معنى قوله علیه السلام: «كمن بشّرك»، أي ينبغى لك أن تسرّ بتحذيره لك، كما تسرّ لو بشّرك بأمرّ تحبّه، و أن تشكره على ذلك، كما تشكر لو بشّرك بأمر تحبه، لأنّه لو لم يكن يريد بك الخير لما حذّرك من الوقوع في الشرّ.
272 - المَرأَة عَقْرَب حُلوة اللسْبَة (4).
استعار للمرأة لفظ العقرب باعتبار أنّ من شأنها الأذى، لكن أذاها مشوب بما فيها من اللذّة بها، وهو كأذى الجرب المشوب بلذّته في زيادة حكّته.
اللّسبة: اللّسعة، لَسبتْه العقرب - بالفتح - ولسبت العسل - بالكسر - :1
ص: 150
لعقتْه.
و منه قولهم: من الفواقر امرأة سَوءٍ إن حضرتها لسبتك، وإن غبتَ عنها لم تأمنها (1).
قد أكثروا القول في ذمّ النساء، ولا يناسب كتابنا الطويل.
نظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة، فقال: ليت كلّ شجرة تحمل مثل هذه الثمرة (2).
كتب فيلسوف على باب داره: ما دخل هذا المنزل شرّ قطّ، فقال بعضهم: اكتب: إلّا المرأة (3).
و في كلام الحكماء: اعص هواك و النساء، وافعل ما شئت (4).
و في الحديث: المرأة ضِلَع عوجاء إن داريتها استمتعتَ بها، وإن رُمت تقویمها كسرتها (5)
قال الشاعر في هذا المعنى:
هي الضَّلَع العوجاء لستَ تقيمها *** ألا إنّ الضّلوع انکسارُها
أيجمعن ضعفاً و اقتداراً على الفتى *** أليس عجيباً ضعفُها واقتدارُها! (6) .
ص: 151
و من كلامهم: ليس ينبغي للعاقل أن يمدح امرأة إلّا بعد موتها (1)
و في الأمثال: لا تحمدنّ أمةً عام شرائها، ولا حرّة عام بنائها (2)
وكان يقال: ما نهيتْ امرأة عن أمر إلّا أتته (3)
وقال حكيم: أضرّ الأشياء بالمال والنفس والدين والعقل والعرض شدّة الإغرام بالنساء، ومن أعظم ما يبتلى به المغرم بهنّ أنّه لا يقتصر على ما عنده منهنّ ولو كنّ ألفاً، و يطمح إلى ما ليس له منهنّ (4).
وقال بعض الحكماء: مَن يحصي مساوئ النساء؟! اجتمع فيهنّ نجاسة الحيض و الاستحاضة ودم النفاس ونقص العقل و الدين، وترك الصوم والصلاة في كثير من أيّام العمر ليست عليهنّ جماعة ولا جمعة ولا يسلّم عليهنّ، ولا يكون منهنّ إمام ولا قاضٍ ولا أمير، ولا يسافرن إلّا بوليّ (5).
قلت: وكفى في هذا المقام كلام أمير المؤمنين علیه السلام: «معاشر الناس إنّ النساء ...» (6)
273 - مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ (7) بِتَعْلِيم نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ وَمُعَلَّم نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلَالِ .
ص: 152
مِنْ مُعَلِّم النَّاسِ ومُؤَدِّبِهِم (1).
اعلم أنّ الفروع تابعة للأصول، فإذا كان الأصل معوجًا استحال أن يكون الفرع مستقيماً، كما قال صاحب المَثَل: «وهل يستقيم الظلّ و العود أعوج»، (2) فمن نصب نفسه للناس إماماً، ولم يكن قد علّم نفسه ما (3) انتصب ليعلّمه الناس، كان مثل من نصب نفسه ليعلّم الناس الصياغة و النجارة، و هو لا يحسن أن يصوغ خاتماً، و لا ينجر لوحا، وهذا نوع من السفه، بل السفه كلّه.
ثمّ قال علیه السلام: و ينبغي أن يكون تأديبه لهم بفعله و سيرته قبل تأديبه لهم بلسانه، وذلك لأنّ الفعل أدلّ على حال الإنسان من القول، والطباع لمشاهدة الأفعال أطوع و أسرع انفعالاً منها للأقوال. و لهذا قال بعض الخلفاء: أنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال.
ثمَّ رغّب في تأديب النفس بكون مؤدّب نفسه أحقّ بالتعظيم و الإجلال من مؤدّب غيره، لأنّ من علّم نفسه محاسن الأخلاق أعظم قدراً ممّن تعاطى تعليم الناس ذلك و هو غير عامل بشيء منه.
274 - مَنْ تَرَكَ قَوْلَ لا أَدْرِي» أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ (4).
ترك هذا القوال كناية عن القول بغير علم، و إصابة المقاتل كناية عن الهلاك الحاصل بسبب القول بالجهل لما فيه من الضلال و الإضلال وربّما يكون بسببه هلاك الدّنيا و الآخرة. 5
ص: 153
جاءت امرأة إلى بزرجمهر فسألته عن مسألة، فقال: لا أدري، فقالتْ: أيعطيك الملك كلّ سنة كذا وكذا وتقول: لا أدري، فقال: إنّما يعطيني الملك على ما أدري، ولو أعطاني على ما لا أدري لما كفاني بيت ماله (1).
و كان يقول: «لا أعلم» نصف العلم (2)
275 - مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ أَصْلَحَ أَمْرَ آخِرَتِهِ أَصْلَحَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَاعِظُ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ (3)
مثل الكلمة الأولى قولهم: رضا المخلوقين عنوان رضا الخالق.
و السرّ في ذلك أنّ رضا الخالق يكون بالتقوى، و من تقوى العبد إصلاح قوّتي الشهوة و الغضب اللذين هما مبدءا الفساد بين الناس ولزوم العدل فيهما، فإذا جانب العبد من الفساد بين الناس رضي الناس عنه.
وإلى مفاد الكلمة الثانية أشار بعض من دعا في قوله:
أنا شا - ر أنا مادح أنا حامد *** أنا خائف أنا جائع أنا عارِ
هي ستّةٌ وأنا الضّمين بنصفها *** فكنِ الضّمين بنصفها ياباري (4) 8.
ص: 154
ومثل الكلمة الثانية قوله تعالى: (إنَّ اللهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ) (1).
276 - مَثَلُ الدُّنْيا كَمَثَلِ الْحَيَّةِ لَيِّنْ مَسُّهَا، وَ السُّمُّ النَّاقِعُ فِي جَوْفِهَا، يَهْوِي إِلَيْهَا الْغِرُّ الْجَاهِلُ، وَ يَحْذَرُهَا ذُو اللُّبِّ الْعَاقِلُ (2).
قد أخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال:
إنّما الدهر أرقمٌ ليّن المسّ *** وفي نابه السِّقامُ العُقامُ (3)
277 - مَنْ قَصَّرَ فِي الْعَمَلِ ابْتُلِيَ بِالْهَمِّ، وَلَا حَاجَةَ لِلَّهِ فِيمَنْ لَيْسَ اللَّهِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ نَصِيبٌ (4)
قوله علیه السلام: «من قصّر في العمل، هذا مخصوص بأصحاب اليقين و الاعتقاد الصحيح، فإنّهم الذين إذا قصّروا في العمل ابتلوا بالهمّ، فأمّا غيرهم من المسرفين على أنفسهم وذوي النقص في اليقين والاعتقاد، فإنّه لاهم يعروهم وإن قصّروا في العمل.
وقال ابن ميثم: المقصّر في العمل لله يكون غالب أحواله متوفّراً على الدّنيا مفرطاً في طلبها وجمعها، وبقدر التوفّر عليها يكون شدّة الهمّ في جمعها وتحصيلها أولاً، ثمّ في ضبطها و الخوف على فواتها ثانياً. و في المشهور: «خذ من الدّنيا ما شئت ومن الهمّ ما ضعفه». فنفّر علیه السلام عن التقصير في الأعمال البدنية و الماليّة بقوله: ولا حاجة لله ... الى آخره. و كنّي 7
ص: 155
بعدم حاجته فيه عن إعراضه عنه و عدم النظر إليه بعين الرحمة لعدم استعداده لذلك (1).
278 - مَنْ أُعْطِيَ أَرْبَعاً لَمْ يُحْرَمْ أَرْبَعاً؛ مَنْ أُعْطِيَ الدُّعَاءَ لَمْ يُحْرَمِ الْإِجَابَةَ، وَ مَنْ أُعْطِيَ التَّوْبَةَ لَمْ يُحْرَمِ الْقَبُولَ، وَ مَنْ أُعْطِيَ الِاسْتِغْفَارَ لَمْ يُحْرَمِ الْمَغْفِرَةَ، وَ مَنْ أُعْطِيَ الشُّكْرَ لَمْ يُحْرَمِ الزِّيَادَةَ.(2).
قال الرضيّ: وتصديق ذلك في كتاب الله سبحانه، قال في الدعاء: (أدْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (3).
و قال في الاستغفار: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) (4). وقال في الشكر: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (5).
(وقال في التوبة: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (6). (7)
الأمور الأربعة الأولى إذا كانت بإخلاص كان كلّ منها سبباً في إعداد النفس لقبول صورة الرحمة الإلهيّة من واهبها.
279 - مَا عَالَ مَن أَقْتَصَدَ (8).
أي ما افتقر من أنفق بقدر الحاجة المتعارفة، وذلك لأن قدر الحاجة 0
ص: 156
من المال قد تكفلّ الله تعالى بإدراره مدّة البقاء و هو ما لابدّ للمقتصد منه. قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) (1).
280 - الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ (2).
أي حاله مستور عند عدم نطقه و تحت لسانه كناية عن سكوته و ذلك لأنّ مقداره بمقدار عقله و مقدار عقله يعرف من مقدار كلامه.
و هذه اللفظة لا نظير لها في الإيجاز و الدلالة على المعنى، وهي من ألفاظه المعدودة.
و إليه أشار سعديّ في نظمه بالفارسيّة:
تا مرد سخن نگفته باشد *** عيب و هنرش نهفته باشد (3)
281 - مَا اخْتَلَفَتْ دَعْوَتَانِ إِلَّا كَانَتْ إِحْدَاهُما ضَلالَةٌ (4).
لمّا كانت الدعوة إمّا إلى الحقِّ أو إلى غيره، و كان كلّ ما عدا الحقّ ممّا يدعى إليه فهو ضلال عن الحقّ و عدول عن سبيل الله لا جرم لم تختلف دعوتان إلّا كانت إحداهما حقّاً والأخرى ضلالة.
282 - مَا كَذَبْتُ وَ لاَ كُذِّبْتُ، وَلاَ ضَلَلْتُ وَلاَ ضُلَّ بي (5)
هذه كلمةٌ قد قالها مراراً، إحداهنّ فى وقعة النهروان (6) 8
ص: 157
ولا كُذَّبْتُ - بالضمّ - أي لم يخبرني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن المُخْدَج (1) خبراً كاذباً، لأن أخباره صلی الله علیه و آله و سلم كلّها صادقة.
283 - مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ (2).
أي: مَن نابذ الله وحاربه هلك، يقال لمن خالف و كاشف: قد أبدى صفحته (3).
284 - ما شَككتُ في الحَقِّ مُذ رأيتُه (4)
أي: منذ أُعْلِمْتُه، ويجب أن يقدّر هاهنا مفعول محذوف، أي منذ أريته حقّاً، لأنّ «أرى» يتعدّى إلى ثلاثة مفاعيل.
285 - مَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مَوَاضِعَ التُّهَمَةِ فَلا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ (5).
لأنّه هو السبب في إساءة الظنّ بنفسه.
قال ابن أبي الحديد: رأى بعض الصحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم واقفاً في درب من دروب المدينة ومعه أمرأة فسلّم عليه، فردّ عليه، فلمّا جاوزه ناداه فقال: هذه زوجتي فلانة قال: يا رسول الله، أو فيك يظنّ!
فقال: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (6).
286 و 287 - مَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ، وَ مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجالَ.
ص: 158
شَارَكَهُمْ فِي عُقُولِهم (1).
هذه ثلاث كلمات: تريد بالأولى: أنّ الأغلب في كلّ ملك أن يستبدّ و يستأثر على الرعيّة بالمال و العزّ و الجاه، وذلك لتسلّطهم و عدم المنازع لقواهم الأمّارة بالسوء.
و نحو هذا المعنى قولهم: مَن غَلَب سَلَب، ومَنْ عَزَّبزَّ (2)
و أريد بالثانية: أنّ من انفرد برأيه، ولم يقبل النصيحة فهو في مظنّة الهلاكة، وذلك معلوم.
و بالثالثة: الترغيب في الاستشارة، و ذلك لأنّه يستنتج منها الرأي الأصلح ليعمل به.
قالوا: المشورة لقاح العقول، و رائد الصواب.
و من ألفاظهم البديعة: ثمرة رأي المشير أحلى من الأري المشور (3)
288 - مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَتِ الْخِيَرَةُ بِيَدِهِ (4).
أي كان مختاراً في إذاعته و كتمانه بخلاف مَنْ أذاع سرّه، فإنّه لا يتمكن بعد ذلك من كتمانه.
قال الشاعر:
فلا تُفْشِ سرّك إلّا إليك *** فإنّ لكلّ نصيح نصيحا (5) 4
ص: 159
289 - مَنْ قَضَى حَقَّ مَنْ لاَ يَقْضِي حَقَّهُ فَقَدْ عَبَّدَهُ (1)
عبّده - بالتشديد - أي: اتّخذه عبداً، و المقصود مدح من يقضي حقّ من لا يقضي حقّه، أي من فعل ذلك بإنسان فقد استعبد ذلك الإنسان، لأنّه لم يفعل ذلك معه مكافأة له عن حقّ قضاه إيّاه، بل فعل ذلك إنعاماً مبتدأ، فقد استعبده بذلك.
290 - مَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوهَ الْآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَا (2).
لا شكّ أن المتصفّح لوجوه الآراء و المفكّر في أيّها أصوب لابد أن يعرف مواقع الخطأ في الأمور و مظانّها - و هو ترغيب في الاستشارة و الفكر في استصلاح الأعمال.
291 - مَنْ أَحَدٌ سِنَانَ الْغَضَبِ لِلَّهِ قَوِيَ عَلَى قَتْلِ أَشِدَّاءِ الْبَاطِلِ (3).
هذا من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، والمعنى أنّ من أرهف عزمه على إنكار المنكر، و قوي غضبه في ذات الله، ولم يخف مخلوقاً أعانه الله على إزالة المنكر وإن كان قويّاً.
292 - مَنْ لَمْ يُنْجِحْهُ الصَّبْرُ أَهْلَكَهُ الْجَزَع (4).
يحتمل أن يريد بالهلاكة هلاكة الدّنيا، أو هلاكة الآخرة أو كليهما، فإن الجزع سبب لكلّ ذلك. 9
ص: 160
293 - مَتَى أَشْفِي غَيْظِي إِذَا غَضِبْتُ؟ أَحِينَ أَعْجِزُ عَنِ الْانْتِقَامٍ فَيُقَالُ لِي: لَوْ صَبَرْتَ! أَمْ حِينَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لِي: لَوْ عَفَوْتَ (1).
هذا الفصل فصيح لطيف المعنى، أي لا سبيل لي إلى شفاء غيظي عند غضبي، لأنّي إمّا أن أكون قادراً على الانتقام فيصدّني عن تعجيله قول القائل: لو عفوت لكان أولى! و إمّا أن لا أكون قادراً فيصدّني عنه كوني غير قادر عليه.
294 - مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ، وَ مَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ، وَمَنْ خَافَ أَمِنَ، وَمَنِ اعْتَبَرَ أَبْصَرَ، وَ مَنْ أَبْصَرَ فَهِمْ، وَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ (2).
قد جاء في الحديث: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا (3).
قوله علیه السلام: «ومن خاف أمن» أي من اتّقى الله أمن من عذابه.
«و من اعتبر أبصر» أي من قاس الأمور بعضها ببعض، واتّعظ بآيات الله و أيّامه أضاءت بصيرته، و من أضاءت بصيرته فهم، ومن فهم علم.
و الفهم هاهنا معرفة المقدّمات، والعلم هو معرفة النتيجة (4).
295 - مَنْ لاَنَ عُودُهُ كَنُفَتْ أَغْصَانُهُ (5).
تكاد هذه الكلمة أن تكون إيماء إلى قوله تعالى: ﴿وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ4
ص: 161
يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (1).
و المعنى أنّ من حسن خلقه، ولانت كلمته كثر محبّوه و أعوانه وأتباعه.
و نحوه قوله: مَنْ لانت كلمته، وجبت محبّته (2).
قال تعالى: (وَ لَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (3)، و الأصل في الكلمة أنّه إذا كان اليبس غالباً على شجرة كانت أغصانها أخفّ، وكان عودها أدقّ، و إذا كانت الرطوبة غالبة كانت أغصانها أكثر، و عودها أغلظ؛ و ذلك لاقتضاء اليبس الذبول، و اقتضاء الرطوبة الغلظ و العبالة والضخامة، ألا ترى أنّ الإنسان الذي غلب اليبس على مزاجه لا يزال مهلوساً نحيفاً، و الذي غلبت الرطوبة عليه لا يزال ضخماً عبلاً.
296 - مَنْ نَالَ اسْتَطَالَ (4).
يجوز أن يريد به: من أثرى ونال من الدّنيا حظّاً استطال على الناس. و يجوز أن يريد به: مَنْ جاد استطال بجوده.
يقال: نالني فلان بكذا، أي جاد به عليّ، ورجل نالٌ، أي جواد (5)
297 - مِنْ أَشْرَفِ أَفْعَالُ الْكَرِيمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُ (6).
أي تغافله و إغضاؤه عمّا يعلم من معائب الناس، ومن هفواتهم. يم
ص: 162
وكان يقال: التغافل من السؤدد (1).
وقال أبو تمام:
ليس الغبيّ بسيّد في قومه *** لكنّ سيّد قومه المُتغابي (2)
298 - مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ، لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ (3).
قيل: الحياء انقباض النفس عن القبائح، وهو من خصائص الإنسان، و هو خلق مركّب من جبن وعفّة، و لذلك لا يكون الفاسق مستحياً، و لا المستحي فاسقاً. و قلّما يكون الشجاع مستحياً والمستحيي شجاعاً، ولعزّة وجود ذلك ما يجمع الشعراء بين المدح بالشجاعة والحياء. (4)
299 - مَنْ أَصْبَحَ عَلَى الدُّنْيَا حَزِيناً، فَقَدْ أَصْبَحَ لِقَضَاءِ اللَّهِ سَاخِطاً؛ وَ مَنْ أَصْبَحَ يَشْكُو مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِهِ، فَقَدْ أَصْبَحَ يَشْكُو رَبَّهُ (5)؛ وَ مَنْ أَتَى غَنِيّاً فَتَوَاضَعَ لَهُ لِغِنَاهُ، ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ؛ وَ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ، فَهُوَ مِمَّنْ كَانَ يَتَّخِذُ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً؛ وَ مَنْ لَهِجَ قَلْبُهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا، الْتَاطَ قَلْبُهُ مِنْهَا (5) بِثَلَاثٍ: هَمٍّ لَا يُغِبُّهُ، وَ حِرْصٍ لَا يَتْرُكُهُ، وَ أَمَلٍ لَا يُدْرِكُهُ. (6)
قيل في قوله علیه السلام: «و مَن أتى غنيّاً ...» إلى آخره وجوهاً، منها: أنّ مدار الدين على الاعتقاد بالقلب و الإقرار باللّسان و العمل بالأركان، ومن شأن 8
ص: 163
المتواضع للغنيّ لغناه اشتغال لسانه بمدحه وشكره، و اشتغال جوارحه بخدمته عن طاعة الله و القيام بشكره، فهو مهمل لثلثي دينه.
قوله علیه السلام: «التاط بقلبه» أي لصق. و «لا يغبّه»، أي لا يأخذه غبّا - و هو يوم ويوم لا بل يلازمه دائماً، وذلك لأنّ حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة، و حبّ الدّنيا هو الموجب للهمّ و الغمّ و الحرص والأمل والخوف على ما اكتسبه أن ينفد والشحّ بما حوت يده، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة.
300 - مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ الْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطويلة (1).
قال الرضي قدس سره: ومعنى ذلك أنّ ما ينفقه المرء من ماله في سبيل الخير و البرّ - و إن كان يسيراً - فإنّ الله تعالى يجعل الجزاء عليه عظيماً كثيراً، و اليدان هاهنا عبارة عن النعمتين، ففرق بين نعمة العبد ونعمة الربّ تعالى ذكره، بالقصيرة و الطويلة، فجعل تلك قصيرةً و هذه طويلةً، لأنّ نعم الله أبداً تضعّف على نعم المخلوقين أضعافاً كثيرة؛ إذ كانتْ نعم الله أصل النعم كلّها، فكل نعمة إليها ترجع، ومنها تنزع (2).
301 - الْمَرْأَةُ شَرُّ كُلُّهَا، وَ شَرُّ ما فِيها أَنَّهُ لابدَّ مِنْها! (3).
أي أنّ أحوالها كلّها شرّ على الرجل؛ أمّا من جهة مؤونتها فظاهر و أمّا من جهة لذّتها و استمتاعه بها فلاستلزام ذلك البعد عن الله و الاشتغال عن طاعته.
و أسباب الشرّ شرور و إن كانت غرضيّة. ولمّا كان كونها لابدّ منها أعني و جوب الحاجة إليها في طبيعة الوجود الدنيويّ هو السبب في
(1) نهج البلاغة، الحكمة 232
(2) نهج البلاغة ص 509
(3) نهج البلاغة الحكمة 238
ص: 164
تحمّل الرجل للمرأة، و وقوعه في شرورها وجب أن يكون ذلك الاعتبار أقوى الشرور المتعلّقة بها، لأنّ السبب أقوى من المسبّب (1)
302 - مَنْ أَطَاعَ التَّوَانِيَ ضَيَّعَ الْحُقُوقِ، وَ مَنْ أَطَاعَ الْوَاشِيّ ضَيَّعَ الصَّدِيق (2).
الواشي: النّمام.
303 - مَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقَ ظَنَّهُ (3).
من كلام بعضهم: إنّي لأستحيي أن يأتيني الرجل يحمر وجهه تارة من الخجل، و يصفرّ أخرى من خوف الردّ قد ظنّ بي الخير وبات عليه وغدا عليّ أن أردّه خائباً (4).
304 - مَرَارَةُ الدُّنْيا حَلاَوَةُ الْآخِرَةِ، وَ حَلاَوَةُ الدُّنْيا مَرارَةُ الْآخِرَةِ (5).
لمّا كانت الدنيا ضدّ الآخرة وجب أن يكون مرارة آلام الدّنيا اللازمة عن ترك اللذّة طلباً للآخرة مستلزمة لحلاوة الآخرة و لذّاتها، و كذلك العكس.
305 - مَنْ تَذَكَّرَ بُعْدَ السَّفَرِ اسْتَعَد (6).
306 - مَا قَالَ النَّاسُ لِشَيءٍ «طُوبَى لَهُ» إِلَّا وَ قَدْ خَبَأَ لَهُ الدَّهْرُ يَوْمَ سَوْءٍ (7). 6
ص: 165
أي: ما استحسن الناس من الدنيا شيئاً إلّا وفي قوّة الدهر إعداد لفساده وإهلاكه يوماً ما. وقد شاهدنا ذلك في الدّنيا كثيراً.
307 - مَا أَكْثَرَ الْعِبَرَ وَأَقَلَّ الاعْتبَارَ (1).
ما أوجز هذه الكلمة و ما أعظم فائدتها! ولا ريب أنّ العبر كثيرة جدّاً، بل كلّ شيء في الوجود ففيه عبرة، ولا ريب أنّ المعتبرين بها قليلون، و أنّ الناس قد غلب عليهم الجهل و الهوى، و أرداهم حبّ الدنيا، و أسكرهم خمرها، و أنّ اليقين في الأصل ضعيف عندهم، ولولا ضعفه لكانت أحوالهم غير هذه الأحوال.
308 - مَنْ بَالَغَ فِي الْخُصُومَةِ أَيْمَ، وَ مَنْ قَصَّرَ فِيهَا ظُلِمَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ مَنْ خَاصَمَ (2).
هذا مثل قوله علیه السلام في موضع آخر: الغالب بالشرّ مغلوب (3).
وكان يقال: ما تساب اثنان إلّا غلب الأمهما.
وقد نهى العلماء عن الجدل و الخصومة في الكلام و الفقه، و قالوا: إنّهما مظنّة المباهاة و طلب الرئاسة و الغلبة، والمجادل يكره أن يقهره خصمه؛ فلا يستطيع أن يتّقي الله. وهذا هو كلام أمير المؤمنين علیه السلام بعينه (4)
309 - مَا أَهَمَّنِي أَمْرٌ [ذَنْبٌ - خ ل] أُمْهِلْتُ بَعْدَهُ حَتَّى أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ 19
ص: 166
وَأَسْأَلَ اللهَ العافِيَةَ (1).
أي: ما أحزنني ذنب أمهلني الله بعده حتى أُصلّى ركعتين، لأنّ الصلاة تكفّر الذنب.
قال السيد الطباطبائي قدس سره في «الدرّة» (2).
و إنّها لَلْحَسَناتُ المُذهبهْ *** للسيّئات و المعاصي المُوجَبهْ
وشأنُها كشأن نَهْرِ جارِ ت*** تَقْلَعُ رَيْنَ الذنْبِ بالتكرارِ
تنهى عن المنكر والفحشاءِ *** أُقصُرْ فذاك مُنتهى الثناءِ (3)
310 - مَا الْمُبْتَلَى الَّذِي قَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْبَلاءُ، بِأَخْرَجَ إِلَى الدُّعَاءِ مِنَ الْمُعَافَى الذي لا يأْمَنُ البَلاءَ (4).
أي إنّهما سواء في الحاجة إلى دعاء الله؛ فذاك لحاجته إلى الخلاص من بلائه، وهذا البقاء عافيته و أمنه من لحوق البلاء. و هو حثّ لأهل العافية على الدعاء والتضرّع إلى الله تعالى.
311 - مَا زَنَى غَيُورٌ قَطُّ (5).
و ذلك لأنّ الغيور إذا همّ بالزنا تخيّل مثل ذلك في نفسه من الغير فيعارض خياله داعيه فيحجم عنه.
فقد ورد: من زنى زُني به ولو في عقب عقبه (5) 9
ص: 167
وهذا قد جرّب فوجد حقّاً، وقل مَنْ ترى مقداماً على الزنا إلّا والقول في حرمه وأهله وذوي محارمه كثير فاش.
312 - مَوَدَّةُ الْآبَاءِ قَرابَةٌ بَيْنَ الْأَبْنَاءِ، وَالْقَرَابَةُ أَحْوَجُ إِلَى الْمَوَدَّةِ مِنَ الْمَوَدَّةِ إلى القَرَابَةِ (1).
استعار لفظ القرابة للمودّة المتأكّدة بين الأبناء فهى كالقرابة.
قال الشاعر:
أبقى الضّغائنَ آباءٌ لنا سلفوا *** فلن تبيدَ و للآباء أبناءُ (2)
وورد: الحبّ و البغض يتوارثان (3).
و من كلام بعضهم لمّا قيل له: أيُّما أحبّ إليك؟ أخوك أم صديقك؟ [فقال: ] إنّما أحبّ أخي إذا كان صديقاً (4).
فالقربي محتاجة إلى المودّة، و المودة مستغنية عن القربى.
313 - مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الإِثْمُ بِهِ، وَالْغَالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوبٌ (5).
هذا مثل قوله: من بالغ في الخصومة أَثم إلى آخره (6).
314 - اَلْمَسْوُولُ حُرٌّ حَتَّى يَعِدَ (7).
قد كثر القول في الوعد و المطْل. ومن كلام يحيى بن خالد لبنيه: يا 6
ص: 168
بنيّ، كونوا أُسْداً في الأقوال، نُجازاً في الأفعال، ولا تعدوا إلّا و تنجزواء فإنّ الحرّ يثق بوعد الكريم، وربما اذان عليه (1).
315 - مَعَاشِرَ النَّاسِ، أَتَّقُوا اللَّهَ، فَكَمْ مِنْ مُؤَمِّلٍ مَالَا يَبْلُغُهُ، وَبَان مالا يَسْكُنُهُ، وَ جَامِعٍ مَا سَوْفَ يَتْرُكُهُ، وَ لَعَلَّهُ مِنْ بَاطِلٍ جَمَعَهُ، وَمِنْ حَقٌّ مَنَعَهُ، أَصَابَهُ حَرَاماً، وَ احْتَمَلَ بِهِ آثَاماً، فَبَاءَ بِوِزْرِهِ، وَ قَدِمَ عَلَى رَبِّهِ، آسِفاً لاَهِفاً، قَدْ (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (2) (3)
معاني هذه الفقرات واضحة، وكم قد شاهدنا من أمل ما لا يبلغه و من بنى ما لا يسكنه، وجمع ما تركه.
ولقد أحسن من قال:
واحسرتا مات حظّي من وصالكمُ *** و للحظوظ كما للناس أجالُ
إنْ متّ شوقاً ولم أبلغ مَدى أملي *** كم تحت هذي القبور الخُرْس آمالُ (4)
316 - مِنْ الْعِصْمَةِ تَعَذُّرُ الْمَعَاصِي (5).
أي من أسباب العصمة، وذلك لأنّ الإنسان يتعوّد بتركها حين لا يجدها حتّى يصير ذلك ملكة له. 5
ص: 169
317 - مَاءُ وَجْهِكَ جَامِدٌ يُقْطِرُهُ السُّؤَالُ، فَانْظُرْ عِنْدَ مَنْ تُقْطِرُه (1)
قد أخذ الشعراء معنى هذا الكلام، وذكروها في أشعارهم.
قال الشاعر:
ما ماءُ كفّيك إن أرسلت مُزنته *** من ماء وجهي إذا استقطرته عوضٌ (2)
318 - مَنْ نَظَرَ فِي عَيْبِ نَفْسِهِ اشْتَغَلَ عَنْ عَيْبِ غَيْرِهِ، وَ مَنْ رَضِيَ بِرِزْقِ اللَّهِ لَمْ يَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَهُ، وَ مَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْيِ قُتِلَ بِهِ، وَ مَنْ كَابَدَ الْأُمُورَ عَطِبَ، وَ مَنِ اقْتَحَمَ اللُّجَجَ غَرِقَ، وَ مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ السُّوءِ اتُّهِمَ، وَ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ، وَ مَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ، وَ مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَ مَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ، وَ مَنْ مَاتَ قَلْبُهُ دَخَلَ النَّارَ؛ وَ مَنْ نَظَرَ فِي عُيُوبِ غَيْرِهِ (3) فَأَنْكَرَهَا، ثُمَّ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ، فَذَلِكَ الْأَحْمَقُ بِعَيْنِهِ؛ وَ الْقَنَاعَةُ مَالٌ لَا يَنْفَدُ، وَ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَ مَنْ عَلِمَ أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ، قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ. (4)
تلك عشرة كاملة، رابعها: «من كابد الأمور عطب، و من اقتحم اللجج غرق»، أي من قاساها بنفسه استعدّ بها للهلاك. مثل هذا قول القائل:
مَن حارب الأيّام أصبح رمحُه *** قَصِداً و أصبح سيفهُ مفلولا (5)
و سادسها: «من كثر كلامه ... إلى قوله: دخل النار» هذا تنفير عن 19
ص: 170
المنطق الزائد، وما فيه من المحذور.
وكان يقال: قلما سلم مكثار، أو أمن من عثار (1).
وعاشرها: من علم أنّ كلامه ... إلى آخره، لا ريب أنّ الكلام عمل من الأعمال، وفعل من الأفعال، فكما يستهجن من الإنسان أن لا يزال يحرّك رأسه أو يده وإن كان عابثاً، كذلك يستهجن أن لا يزال يحرّك لسانه فيما هو عبث، أو يجري، مجرى العبث.
319 - مَنْ ضَنَّ بِعِرْضِهِ فَلْيَدَع المِراءَ (2).
ضنّ، أي بخل، وحدّ المراء الجدال المتّصل لا يقصد به الحقّ، ولا ريب أنّ المراء داعية ثوران القوّة الغضبيّة، من الممارين ومبدء المشاتمة و المسابّة.
قيل لميمون بن مِهران: مالك لا تفارق أخاً لك عن قلىّ؟ قال: لأنّي لا أُشاريه ولا أُماريه (3).
320 - مِنَ الْخُرْقِ الْمُعَاجَلَةُ قَبْلَ الْإِمْكَانِ، وَالْأَناةُ بَعْدَ الْفُرْصَةِ (4).
الخرق: الحمق و قلّة العقل، وكلتا الجملتين دليل على الحمق و النقص.
321 - مِنْ هَوَانِ الدُّنْيا عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُعْصَى إلّا فيها، وَلَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا 3
ص: 171
بِتَرْكِهَا (1)
قد ورد في ذمّ الدّنيا أكثر من أن يحصى. وورد أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مر علی شاة ميّتة، فقال: أترون أنّ هذه الشاة هيّنة على أهلها؟ قالوا: نعم، و من هو انها ألقوها. فقال: والذي نفسي بيده لَلدّنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها، ولو كانت الدّنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما سقى كافراً منها شربة ماء (2).
322 - مَنْ طَلَبَ شَيْئاً نَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ (3).
هذا مثل قولهم: مَنْ طلب شيئاً وجدّ وجد، و من قرع باباً ولجّ ولج (4).
وظاهر أنّ الطلب معدّ لحصول المطلوب، فإن تمّ الإستعداد له نال الكلّ و إلّا فبقدر نقصان الإستعداد يكون نقصان المطلوب
323 - مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ، وَمَا شَرٌّ بِشَرِّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ، وَكُلٌّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ فَهُوَ مَحْقُورٌ، وَ كُلُّ بَلاءِ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌ (5).
«خیر» برفع اسم «ما» و «بعده النار» صفة له، وموضعه رفع، و موضع الجارّ و المجرور نصب لأنّه خبر ما و الباء زائدة، و التقدير ما خير تتعقّبه النار بخير، وكذلك قوله علیه السلام: «ما شرّ بشرّ بعده الجنّة» و الجملتان الأقربان تكونان كالتفسير للفقرتين الأوليين. 7
ص: 172
324 - المَنيَّةُ وَلا الدَّنيَّةُ، والتَّقَلُّلُ وَلَا التَّوَسُّلُ (1).
أي المنيّة أسهل من الدنيّة، أي الخسيسة من الأمر ترتكب في طلب الدنيا. وهذا كما قال الحسين علیه السلام:
الموت أولى من ركوب العار *** والعار أولى من دخول النار (2)
و معنى الفقرة الثانية أنّ القناعة بالقليل من العيش و التبلّغ به خير من التوسل إلى أهل الدنيا في طلبها. قال الشاعر: أُقسم بالله لَمصُّ النّوى *** وشربُ ماء القُلُبِ المالحهْ
أحسنُ بالإنسان من ذلّه *** و من سؤال الأوجه الكالحهْ
فاستغن بالله تكن ذا غنىّ *** مغتبطاً بالصفقة الرابحهْ
فالزهد عزّ و التقى سُؤددٌ *** وذلّة النفس لها فاضحهْ
كم سالمٍ صیح به بغتة *** وقائلٍ عهدي به البارحهْ
أمسى وأمستْ عنده قَيْنةٌ *** وأصبحت تَنْدُبه نائحهْ
طوبى لمن كانتْ موازينهُ *** يوم يلاقي ربّه راجحهْ (3)
325 - مَنْ لَمْ يُعْطَ قَاعِداً لَمْ يُعْطَ قَائِماً (4).
أي إنّ الرزق قد قسمه الله تعالى؛ فمن لم يرزقه قاعداً لم يجب عليه القيام و الحركة قال ولده الشهيد المظلوم علیه السلام:
و إنْ تكن الأرزاق قسماً مقدّراً *** فقلّة حرص المرء في الرزق أجملُ (5) 1
ص: 173
وقال الشاعر:
جرى قلم القضاء بما يكونُ *** فسيّان التحرّكُ و السكونُ
جنونٌ منك أن تسعى لرزق *** و يرزق في غشاوته الجنينُ (1)
326 - مُقَارَبَةُ النَّاسِ فِي أَخْلَاقِهِمْ أَمْنٌ مِنْ غَوَائِلِهِمْ (2).
الغائله: الحقد، وذلك لأنّ مباعدة الناس في أخلاقهم تستلزم منافرتهم وعداوتهم وأحقادهم فالعدول عنها إلى المقاربة المشاكلة يستلزم الأمن من ذلك منهم.
وكان يقال: إذا نزلتَ على قوم فتشبَّة بأخلاقهم؛ فإن الإنسان من حيث يوجد، لا من حيث يولد (3).
327 - مَنْ أَوْمَأ إِلَى مُتَفَاوِتٍ خَذَلَتْهُ الْحِيَلُ (4).
المتفاوت: كالأمور المتضادّة أو التي يتعذّر الجمع منه.
328 - مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ طَلَبَاً لِمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَ أَحْسَنُ مِنْهُ تِيهُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِياءِ أَتَّكَالاً عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ (5).
تيه الفقراء على الأغنياء أصعب عليهم وأشقّ من تواضع الأغنياء لهم. إذ كان تيههم يستدعي كمال التوكّل على الله، وهو درجة عالية في الطريق إليه، فلذلك كان أفضل وأحسن لقوله صلی الله علیه و آله و سلم: أفضل الأعمال ج
ص: 174
أحمزها (1).
قال الشاعر:
قنعتُ فأعتقتُ نفسي ولنْ *** أُملِّك ذا ثروةٍ رِقَّها
و نزّهتُها عن سؤال الرجالْ *** ومنّةِ من لا يرى حقّها
وإنّ القناعة كنز اللبيب *** إذا ارتتقتْ فتقتْ رتقَها
فما فارقتْ مُهْجةٌ جسمَها *** لعمرك أو وُفِّيَتْ رزقَها (2)
329 - مَا اسْتَوْدَعَ اللهُ أَمْرَأً عَقْلاً إِلَّا لِيَسْتَنْقِذَهُ به يوماً ما (3).
العقل إمّا أن ينقذ الإنقاذ الدينيّ، و هو الفلاح و النجاح على الحقيقة، أو ينقذ من بعض مهالك الدنيا و آفاتها.
كان يقال: العاقل يُروّي ثمَّ يَرْوي ويَخْبُر ثمّ يُخْبِرُ (4)
330 - مَنْ صَارَع الْحَقَّ صَرَعَهُ (5).
هذا مثل قوله علیه السلام: ومن أبدى صفحته للحقّ هلك (6)
331 - مَنْ صَبَر صَبْرَ الْأَحْرارِ وَ إِلَّا سَلَا سُلُوَّ الأَغْمَارِ (7).
و في خبر آخر أنّه علیه السلام قال للأشعث بن قيس معزياً عن ابن له: 3
ص: 175
332 - إِنْ صَبَرْتَ صَبْرَ الْأَكَارِمِ، وَ إِلَّا سَلَوْتَ سُلُوَّ الْبَهَائِمِ (1)
الأغمار: الجهّال، جمع غمر. و ذكر أبو تمّام هذا الخبر في قوله:
وقال عليّ ٌفي التّعازي لأشعثٍ *** وخاف عليه بعض تلك المآثمِ
أتصبر للبلوى عزاءً وحِسْبةً *** فتؤجر أم تسلو سُلُوَّ البَهائمِ (2)
333 - مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ! مَكْتُومُ الْأَجَلِ مَكْنُونُ العِللِ، مَحْفُوظُ الْعَمَلِ، تُؤلِمُهُ اَلْبَقَّةُ، وتَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ، وتُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ (3).
«مسكين» خبر ل- «ابن آدم» و التقدير: ابن آدم مسكين، ثمّ بيّن مسكنته من ستّة أوجه: أجله مكتوم لا يدري متى يخترم، وعلله باطنة لا يدري بها حتّى تهيج عليه و عمله محفوظ: (ممَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (4)، وقرص البقّة يؤلمه، و الشرقة بالماء تقتله، وإذا عرق أنتنتْه العَرقة الواحدة وغيّرت ريحه؛ فمن كان على هذه الصفات فهو مسكين لا محالة، لا ينبغي أن يأمن ولا أن يفخر.
334 - مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللهُ عَلانِيَتَهُ، وَمَنْ عَمِلَ لِدِينِهِ كَفَاهُ اللهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَحْسَنَ اللهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ. (5)
لا ريب أنّ الأعمال الظاهرة تبع للأعمال الباطنة، فمن صلح باطنه 3
ص: 176
صلح ظاهره و بالعكس، و ذلك لأنّ القلب أمير مسلّط على الجوارح و الرعيّة تتبع أميرها و لا ريب أنّ من عمل لدينه كفاه الله أمر دنياه، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (1) ولهذا أيضاً علّة ظاهره؛ وهي أنّ الناس إذا حسنتْ عقيدتهم في إنسان و علموا متانة دينه بوّبوا له إلى الدنيا أبواباً لا يحتاج أنّ يتكلّفها، ولا يتعب فيها، فيأتيه رزقه من غير كلفة ولا كدٍّ.
وقوله: «و من أحسن ... إلى آخره، وذلك لأنّ القلوب بالضرورة تميل إليه و تحبّه، و ذلك لأنّه إذا كان محسناً بينه و بين الناس عفّ عن أموالهم و دمائهم و أعراضهم، وترك الدخول فيما لا يعنيه، ولا شبهة أنّ من كان بهذه الصفة فإنّه يحسن ما بينه و بين الناس.
335 - مَنْ شَكَا أَلْحَاجَةَ إِلى مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّما شَكَاهَا إِلَى اللَّهِ، وَمَنْ شَكَاهَا إِلَى كافر فَكَأَنَّما شَكَا اللهَ (2).
شكاية المؤمن إلى المؤمن شكاية في موضعها. إذ كانت ثمرة الشكاية المعاونة على دفع الأمر المشكوّ منه، و المؤمن شأنه ذلك، بخلاف الكافر. و رغّب في الأوّل بتشبيهها بالشكاية إلى الله، ووجه الشبه أن المؤمن حبيب الله ومقرّب عند الله فكأنّ المشتكى إليه جعله وسيلة إلى الله في شكواه فأشبه الشكوى إليه، بخلاف الشكاية إلى الكافر فإنّه عدو الله؛ فمن شكا إليه أمراً فكأنّما شكا من الله إلى عدوّه. .
ص: 177
336 - مَا كَانَ اللهُ لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدِ بَابَ الشُّكْرِ وَيُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الزَّيَادَةِ، وَلَا لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدِ بَابَ الدُّعَاءِ وَ يُغلِقَ عَنْهُ بَابَ الإِجَابَةِ، وَلَا لِيَفْتَحَ عَلَيْهِ (1) بَابَ التَّوْبَةِ وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الْمَغْفِرَةِ (2).
فتح الله هذه الأبواب بقوله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (3) و (أدْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (4).
337 - مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ! (5)
قال ابن میثم: «ما» هاهنا للتعجّب. و هذه الكلمة تجري مجرى المثل يضرب لمن يعزم على أمر فيغفل عنه أو يتهاون فيه و يتراخي عن فعله حتّى ينتقض عزمه عنه. و أصله أنّ الإنسان قد ينوي السفر مثلاً أو الحركة بقطعة من الليل ليتوفر في نهاره على سيره فيغلبه النوم إلى الصباح، فيفوت وقت عزمه فينتقض ما كان عزم عليه في يومه (6).
338 - مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْهٍ فَقَدِ ارْتَطَمَ فِي الرِّبا (7).
ارتطم فلان في الوحل والأمر إذا ارتبك فيه و لم يقدر على الخروج منه، وإنّما قال ذلك لأنّ مسائل الربا مشتبهة بمسائل البيع ولا يفرق 7
ص: 178
بينهما إلّا الفقيه الكامل.
339 - مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ أَبْتَلاهُ اللهُ بِكِبَارِها (1).
وإنّما لزمه ذلك لاستعداده بتضجّره وتسخّطه من قضاء الله لزيادة البلاء ولو قد حمد الله على بلائه لاستعدّ بذلك لدفعه.
340 - مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ (2).
قال الشاعر:
فإنّك إنْ أَعطيتَ بطنك سؤلَه *** و فَرْجَك نالا منتهى الذمّ أجمعا (3)
341 - مَا مَزَح أَمْرُؤٌ مَرْحَةً إِلَّا مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً (4).
استعار لفظ المج بما يطرحه الإنسان من عقله في مزحه أو مزحاته فكأنّه قد مجّه كما يمجّ الماء من فيه.
و كان يقال: خير المزاح لا يُنال، وشرّه لا يستقال (5)
و قيل: لكلّ شيء بذر و بذر العداوة المزاح (6).
وقيل: سمّي المزاح مزاحاً لأنّه أزيح عن الحقّ (7). .
ص: 179
342 - مَازَالَ الزُّبَيْرُ رَجُلاً مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ حَتَّى نَشَأَ ابْنُهُ المَشْؤُومُ عَبْدُ اللَّهِ (1).
عبدالله بن الزيبر: أمّه أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر. قيل: هو أوّل مولود ولد في الإسلام من المهاجرين بعد الهجرة، ففرحوا به فرحاً شديداً، وذلك لأنّه قيل لهم: إنّ اليهود سحرتكم فلا يولد لكم. وشهد مع أبيه وخالته الجمل، و كان شديد البأس، و مبارزته مع الأشتر و قوله: «اقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي» معروف. وكان أطلس لا لحية له ولا شعر في وجهه كقيس بن سعد الأنصاري، و أحنف بن قيس، و شريح القاضي، ويقال لهم: السادات الطُلْس.
وكان بخيلاً، ضيّق العطن، سيّيء الخّلق، حسوداً كثير الخلاف، و أخرج محمد بن الحنفيّة من مكّة و المدينة، و نفى عبدالله بن عبّاس إلى الطائف و الكلمات التي ردّت بينهما معروفة.
وكان عدوّاً لأمير المؤمنين علیه السلام وكانت عائشة تحبّه شديداً حتى قيل: لم يكن أحد أحبّ إليها بعد أبي بكر من عبد الله بن الزبير.
وكان لَسِناً، و هو الذي قال في جواب فضالة بن شريك الوالبيّ حيث قال له: لعن الله ناقة حملتني إليك، قال: إنّ و راكبها (2). و من اطّلع على هذه القضيّة يطّلع على شدّة بخله أيضاً.
و قد ذكر المسعوديّ وغيره أنّ عبد الله بن الزبير جمع بني هاشم كلّهم و منهم محمّد بن الحنفيّة في سجن عارم، و أراد أن يحرقهم بالنار، فجعل في فم الشعب حطباً كثيراً إذ ورد أبو عبدالله الجدلي من جانب المختار في أربعة آلاف و قصد الشعب بإخراج الهاشميّين منه وهرب ابن الزبير فلاذ .
ص: 180
بأستار الكعبة (1).
قال ابن أبي الحديد: قال المسعوديّ: وكان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبدالله في حصر بني هاشم في الشعب، وجمعه الحطب ليحرقهم و يقول: إنّما أراد بذلك أن لا تنتشر الكلمة، ولا يختلف المسلمون، وأن يدخلوا الطاعة، فتكون الكلمة واحدة، كما فعل عمر بن الخطّاب ببني هاشم لما تأخروا عن بيعة أبي بكر، فإنه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدّار (2).
وروى أيضاً عن المسعوديّ عن سعيد بن جبير، أنّ ابن عباس دخل على ابن الزبير، فقال له ابن الزبير: إلامَ تؤنّبني و تعنّفني! قال ابن عباس: إنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: «بئس المرء المسلم يشبع و يجوع جاره!» وأنت ذلك الرجل، فقال ابن الزبير: و الله إنّي لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة. وتشاجرا، فخرج ابن عبّاس من مكّة، فأقام بالطائف حتى مات (3).
و بالجملة قتلة الحجّاج الثقفي في أيّام عبد الملك بمكّة و صلب جسده، وبه أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه في قوله: «خبّ ضبّ يروم أمراً ولا يدركه ينصب حبالة الدين لا صطياد الدنيا، وهو بعد مصلوب قریش» (4)
343 - مَالِابْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ أَوَّلُهُ نُطْفَةً، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ. لَا يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلَا يَدْفَعُ 7
ص: 181
حَتْفَهُ (1)
وقد أخذ الشاعر هذا الكلام في قوله:
ما بالُ مَن أوّله نطفة *** وجيفة آخره يفخّرُ
يصبح ما يملك تقديم ما *** يرجو ولا تأخير ما يحذَرُ
قال بعض الحكماء: الفخر هو المباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان و ذلك نهاية الحمق لمن نظر بعين عقله، و انحسر عنه قناع جهله فأعراض الدّنيا عارية مستردّة، لا يؤمَن في كلّ ساعة أن ترتجع و المباهي بها مباهٍ بما في غير ذاته (2)
344 - مَنْهُومانِ لا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيا (3).
نهم فلان بكذا فهو منهوم أي مولع به، واقتبس علیه السلام هذه الكلمة من النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «منهو مان لا يشبعان: منهوم بالمال، ومنهوم بالعلم» (4).
345 - مَا الْمُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللهِ بِأَعْظَمَ أَجْرَاً مِمَّنْ قَدَرَ فَعَفَّ، لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلائِكَةِ (5).
في حكمة سليمان بن داود: إنّ الغالب لهواه أشدّ من الذي يفتح المدينة وحده (6).
و قال سليمان بن داود: يا بني إسرائيل، أوصيكم بأمرين أفلح من 0
ص: 182
فعلهما: لا تُدخلوا أجوافكم إلّا الطيّب، ولا تُخرجوا من أفواهكم إلّا الطيّب (1)
346 - مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّىٰ أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلمِ أَنْ يُعلِّمُوا (2).
لمّا كان التعلّم على الجاهل فريضة، و لا يمكن إلّا بمعلّم عالم كان وجوب التعلّم على الجاهل مستلزماً لوجوب التعليم على العالم. روي: مَن علّم علماً وكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجامٍ من نار (3) 0
ص: 183
347 - نَفَسُ الْمَرْءِ خُطَاهُ إِلَى أَجَلِهِ (1).
استعار للنفس لفظ الخُطا باعتبار أنّه على التعاقب و التقضّي؛ فهو مقرّب من الغاية التي هي الأجل كالخُطا المتعاقبة الموصلة للإنسان إلى غايته من طريقه.
348 - نَحْنُ النُّمْرُقَةُ الْوُسْطَى الّتي يَلْحَقُ بِهَا التَّالِي وَإِلَيْها يَرْجِعُ الْغَالِي (2).
النمرق والنمرقة - بالضمّ فيهما - : وِسادة صغيرة، ويقال للطنفسه فوق الرحل نمرقة.
و المعنى أنّ كلّ فضيلة فإنها مجنّحة بطرفين معدودين من الرذائل والمراد أنّ آل محمد (عليهم السلام) هم الأمر المتوسط بين الطرفين
ص: 184
المذمومين، فكلّ من جاوزهم فالواجب أن يرجع إليهم، وكلّ من قصّر عنهم فالواجب أن يلحق بهم.
349 و 350 - اَلْنَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهلُوا (1).
والعلّة فى أنّ الإنسان عدوّ ما يجهله أنّه يخاف من تقريعه بالنّقص وبعدم العلم بذلك الشيء، خصوصاً إذا ضمّه نادٍ أو جمعٌ من الناس فإنّه تتصاغر نفسه عنده إذا خاضوا فيما لا يعرفه، ويحقره في أعين الحاضرين وكلّ شيء آذاك ونال منك عدوّك.
وفي الديوان: «والجاهلون لأهل العلم أعداء» (2)
351 - النَّاسُ فِي الدُّنْيا عَامِلان:ِ عَامِلٌ في الدُّنْيا (3) لِلدُّنْيا قَدْ شَغَلَتْهُ دُنْياهُ عَنْ آخِرَتِهِ، يَخْشَى عَلَى مَنْ يُخَلَّفُ (4) الْفَقْرَ، وَيَأْمَنُهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَيُفْنِي عُمْرَهُ فِي مَنْفَعَةٍ غَيرِهِ وَ عَامِلٌ عَمِلَ فِي الدُّنْيا لِمَا بَعْدَهَا، فَجَاءَهُ الَّذِي لَهُ مِنَ الدُّنْيا بِغَيْرِ عَمَلٍ، فَأَحْرَزَ الْحَظَّيْنِ مَعاً، وَمَلَكَ الدَّارَيْنِ جَمِيعاً، فَأَصْبَحَ وَجيهاً عِنْدَ اللهِ لا يَسْأَلُ اللهَ حَاجَةٌ فَيَمْنَعُهُ (5).
قوله علیه السلام: «ويأمنه على نفسه»، أي لا يبالي أن يكون هو فقيراً، لأنّه يعيش عيش الفقراء وإن كان ذا،مالٍ لكنّه يدّخر المال لولده فيفني عمره في منفعة غيره.
و يجوز أن يكون معناه أنّه لكثرة ماله قد أمن الفقر على نفسه مادام 9
ص: 185
حيّاً، ولكنّه لا يأمن الفقر على ولده لأنّه لا يثق من ولده بحسن الاكتساب.
352 - النَّاسُ أَبْنَاءُ الدُّنْيا وَلا يُلامُ الرَّجُلُ عَلَى حُبِّ أُمِّهِ (1).
و قال علیه السلام في موضع آخر: «الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم» (2).
353 - نِعْمَ الطَّيبُ الْمِسْكُ، خَفِيفٌ مَحْمِلُهُ، عَطِرٌ رِيحُهُ (3).
كان النبي صلی الله علیه و آله و سلم كثير التطيّب بالمسك و بغيره من أصناف المسك (4)
وعن عائشة قالت: كأنّي أنظر إلى و بيض المسك في مفارق رسول الله وهو مُحرِم (5).
وجاء في الخبر عنه صلی الله علیه و آله و سلم: حُبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث: الطيب و النساء، و قرّة عيني في الصلاة (6).
وورد: خير طيب الرجال ما ظهر ريحه و خفي لونه، وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه (7). .
ص: 186
354 - وَاعَجَبا! أَتَكُونُ الْخِلافَةُ بِالصَّحابَةِ وَالْقَرابَةِ (1)
قال الرضي قدس سره: وروي له شعر في هذا المعنى:
فإن كنتَ بالشورى ملكت أمورهم *** فكيف بهذا و المشيرون غُيَّبُ
وإن كنتَ بالقربي حججتَ خصيمهم *** فغيرُك أولى بالنبي و أقربُ (2)
قال ابن أبي الحديد: حديثه في النثر والنظم المذكورين مع أبي بكر و عمر، أمّا النثر فإلى عمر توجيهه، لأنّ أبابكر لما قال لعمر: أمدد يدك قال له عمر: أنت صاحب رسول الله في المواطن كلّها، شدّتها ورخائها، فامدد أنت يدك، فقال على علیه السلام: إذا احتججتَ لاستحقاقه الأمر بصحبته إيّاه في المواطن، فهلا سلّمت الأمر إلى من قد شركه في ذلك، وزاد عليه
ص: 187
«بالقرابة»! وأمّا النظم فموجّه إلى أبي بكر؛ لأنّ أبا بكر حاجّ الأنصار في السقيفة، فقال: نحن عترة رسول الله و بيضته التي تفقّأتْ عنه، فلمّا بويع احتجّ على الناس بالبيعة، و أنّها صدرت عن أهل الحلّ والعقد، فقال علي علیه السلام: أمّا احتجاجك على الأنصار بأنّك من بيضة رسول الله ومن قومه، فغيرك أقرب نسباً منك إليه، وأمّا احتجاجك بالاختيار ورضا الجماعة بك، فقد كان قوم من جملة الصحابة غائبين، لم يحضروا العقد فكيف يثبت؟! انتهى (1)
ويمكن أن يكون توجّه كلامه إلى عثمان لما روي هذا القول عنه علیه السلام بعد بيعة عثمان و اختار ذلك ابن ميثم في الشرح (2).
355 - وَاللَّهِ لَدُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَهْوَنُ فِي عَيْنِي مِنْ عِراقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُومٍ (3).
العراق: جمع عِرْق، وهو العظم عليه شيء من اللحم. وذلك نهاية حقارة الدنيا و هوانها في عينه علیه السلام، لأنّ العرق لا خير فيه، فإذا تأكّد بكونه من خنزير ثمّ بكونه في يد مجذوم بلغت النفرة منه الغاية. ومن تأمّل سيرته في حالتي خلوّه من العمل وولايته الخلافة يعرف أنّ الدنيا كانت فى عينه بهذه المنزلة بل أهون صلوات الله وسلامه عليه.
356 - الْوَفَاء لِأَهْلِ الْغَدْرِ غَدْرٌ عِنْدَ اللهِ، وَ الْغَدْرُ بأَهْل الغَدْرِ وَفَاء عِنْدَ اللهِ (4).
وذلك أنّ من عهد الله في دينه الغدر و عدم الوفاء لهم إذا غدروا، لقوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ 9
ص: 188
الْخَائِنِينَ) (1)
قيل: نزلت في يهود بني قينقاع و كان بينهم وبين الرسول صلی الله علیه و آله و سلم عهد، فعزموا على نقضه، فأخبره الله تعالى بذلك، وأمره بحربهم ومجازاتهم بنقض عهدهم؛ فكان الوفاء لهم غدراً بعهد الله، والغدر بهم إذا غدروا وفاء بعهد الله (2)
357 - الْوِلايَاتُ مَصَامِيرُ الرِّجَالِ (3).
قال ابن میثم: أراد بالمضامير مظانٌ معرفة جودة الفرس [وردائته]، وهي الأمكنة التي يقرن فيها الخيل للسباق، واستعار علیه السلام لفظها للولايات باعتبار أنّها مظانّ ظهور جودة الوالي من خسّته،وردائته، كما أنّ المضامير للخيل كذلك (4) 5
ص: 189
358 - هَلَكَ فِيَّ رَجُلانِ: مُحبُّ غَالٍ، وَمُبْغِضٌ قال (1).
لمّا كانت محبّة أولياء الله فضيلة نفسانيّة كان الطرفان منها رذيلتين يستلزمان هلاك صاحبهما في الآخرة.
قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: والله لولا أنّي أشفق أن تقول طوائف من أُمَّتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم، لقلت فيك اليوم مقالاً لا تمرّ بأحدٍ من الناس إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة (2).
ومع كونه صلی الله علیه و آله و سلم لم يقل فيه ذلك المقال فقد غلت فيه غلاة كثيرة العدد منتشرة في الدّنيا.
359 - هَلَكَ أَمْرُؤٌ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَهُ (3).
لا ريب أنّ من لا يعرف منزلته و محلّه يوشك أن يتجاوز عن مرتبته،
ص: 190
فيدركه هلاك الدنيا، مثل أن يجلس من ليس له من العلم مثلاً مجلس العالم، فبذلك تلعّب ألسنة الناس و أيديهم به ويكون هلاكه بذلك، أو متصدّي لمنصب القضاء فيكون هلاك آخرته بذلك و هكذا.
ص: 191
360 - يَا ابْنَ آدَمَ، إِذَا رَأَيْتَ رَبِّكَ سُبْحَانَهُ يُتابع عَلَيْكَ نِعَمَهُ وَ أَنْتَ تَعْصِيهِ فَاحْذَرْهُ (1).
هذا الكلام تخويف و تحذير من الاستدراج، قال الله تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (2). و ذلك لأن العبد بغروره يعتقد أنّ موالاة النعم عليه وهو عاص من باب الرضا عنه، ولا يعلم انّه استدراج له و نقمة عليه فينبغي له الحذر؛ فإنّ ترادف النعم عليه وهو مصرّ على المعصية كالمنبّه له على وجوب الحذر.
مثال ذلك من هو في خدمة ملك، وهو عون ذلك الملك في دولته و يعلم أنّ الملك قد عرف حاله، ثمّ يرى نعم الملك مترادفة إليه، فإنّه يجب بمقتضى الاحتياط أن يشتدّ حذره، لأنّه يقول: ليست حالي مع
(1) نهج البلاغة الحكمة 25
(2) الأعراف (7) / 182
ص: 192
الملك حال من يستحقّ هذه النعم، وما هذه إلّا مكيدة وتحتها غائلة، فيجب عليه إذن أن يحذر.
361 - يَنْزِلُ الصَّبْرُ عَلَى قَدْرِ الْمُصيبَةِ، وَ مَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ (فخذيه - خ.ل) عِنْدَ مُصيبَتِهِ حَبِطَ أَجْرُهُ (1).
إنّ الله سبحانه جعل للإنسان قوّة استعداد لأن يصبر بمقدار مصيبته؛ فمن تمّ استعداده أفيض عليه ذلك المقدار من الصبر، ومن قصر في الاستعداد لحصول هذه الفضيلة و ارتكب ضدّها و هو الجزع، حبط أجره و هو ثوابه على الصبر.
و كنّى عن الجزع بما يلزمه في العادة من ضرب اليدين على الفخذين.
و قيل: بل يحبط ثوابه السابق، لأنّ شدّة الجزع يستلزم كراهيّة قضاء الله وسخطه و عدم الإلتفات إلى ما وعد به الصابرين، وهذا موجب لمحو الحسنات (2).
وقد ورد في فضيلة الصبر ما لا يخفى. وكان أمير المؤمنين علیه السلام يقول عند التعزية: عليكم بالصبر، فإنّ به يأخذ الحازم، ويعود إليه الجازع (3).
وقال أبو خِراش الهُذليّ يذكر أخاه عُروة:
تقول أراه بعد عُروة لاهياً *** وذلك رُزءٌ لو علمتِ جليل
فلا تحسبي أنيّ تناسيت عهده *** ولكنّ صبري يا أُميم جميلٌ .
ص: 193
362 - يَا ابْنَ آدَمَ مَا كَسَبْتَ فَوْقَ قُوتِكَ، فَأَنْتَ فِيهِ خَازِنٌ لِغَيْرِكَ (1).
أخذ هذا المعنى بعضهم، فقال:
مالي أراك الدهر تجمع دائباً *** البعل عرسك لا أباً لك تجمع! (2)
363 - يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ (3).
المراد بيوم المظلوم على الظالم يوم القيامة، و كان أشدّ، لأن ذلك اليوم يوم الجزاء الكلّي، و الانتقام الأعظم، و قصارى أمر الظالم في الدّنيا أن يقتل غيره فيميته ميتةً واحدةً، ثم لا سبيل له بعد إماتته إلى أن يُدخل عليه ألماً آخر، وأما يوم الجزاء فإنّه يوم لا يموت الظالم فيه فيستريح بل عذابه دائم متجدّد. نعوذ بالله من سُخْطه وعذابه!
وقرب منه قوله علیه السلام في موضع آخر:
364 - يَوْمُ الْعَدْلِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْم الْجَوْرِ عَلَى الْمَظْلُوم! (4).
365 - يَا ابْنَ آدَمَ كُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ، وَ أَعْمَلْ فِي مَالِكَ مَا تُؤْثِرُ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ مِنْ بَعْدِكَ (5).
أي كما توصي من بعدك أن يوضع مالك موضع القربات و انتفاع أهلك به فكن أنت ذلك الوصيّ، وضَعْه تلك المواضع في حياتك. .
ص: 194
366 - يَا ابْنَ آدَمَ لا تَحْمِلْ هَمَّ يَوْمِكَ الَّذِي لَمْ يَأْتِكَ عَلَىٰ يَوْمِكَ الَّذِي أَتَاكَ، فَإِنَّهُ إِنْ يَكُنْ مِنْ عُمُرِكَ يَأْتِ الله فِيهِ برِزْقِكَ (1).
خلاصة هذا الكلام النهي عن الحرص على الدّنيا و الاهتمام لها وإعلام الناس أنّ الله قد قسم الرزق لكلّ حيّ مِن خلقه فلو لم يتكلّف الإنسان لأتاه رزقه من حيث لا يحتسب، وإذا نظر الإنسان إلى الدودة المكنونة داخل الصخرة كيف تُرزق، علم أنّ صانع العالم قد تكفّل لكلّ ذي حياة بمادّة تقيم حياته إلى انقضاء عمره.
و هذا مثل قوله علیه السلام لبعض أصحابه:
367 - لَا تَجْعَلَنَّ أَكْثَرَ شُغُلِكَ بِأَهْلِكَ وَ وَلَدِكَ، فَإِنْ يَكُنْ أَهْلُكَ وَ وَلَدُكَ أَوْلِياءَ الله فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَولِياءَهُ، وَإِنْ يَكُونُوا أَعْدَاءَ اللهِ، فَما هَمَّكَ وَ شُغْلُكَ بِأَعْدَاءِ اللهِ؟! (2)
ومثل قوله علیه السلام:
368 - لَوْ سُدّ عَلَى رَجُلٍ بَابُ بَيْتٍ وَتُرِكَ فِيهِ، مِنْ أَيْنَ كَانَ يَأْتِيهِ رِزْقُهُ؟ فقال علیه السلام: مِنْ حَيْثُ يَأْتِيهِ أَجَلُهُ (3).
369 - يَنَامُ الرَّجُلُ عَلَى الثُّكْلِ، وَلاَ يَنَامُ عَلَى الْحَرَبِ (4).
قال السيد: ومعنى ذلك أنه يصبر على قتل الأولاد، ولا يصبر على سلب الأموال (5). 9
ص: 195
قال كمال الدين بن ميثم: الحَرَب سلب الأموال. وإنّما كان كذلك، وإن كان المال و الولد محبوبين للطمع في استخلاص المال بالنهوض له و الحرب عنه، دون الثكل (1).
370 - يَا أَسْرَى الرَّغْبَةِ، أَقْصِرُوا فَإِنَّ الْمُعَرِّجَ عَلى الدُّنْيَا لَا يَرُوعُهُ إِلَّا صَرِيفُ أَنيابِ الْحِدْثَانِ. أَيُّهَا النَّاسُ تَوَلَّوْا عَنْ أَنْفُسِكُمْ تَأْدِيبَهَا، وَأَعْدِلُوا بِها عَنْ ضِرايَةِ عاداتِها (2).
التعريج بالشيء: الإقامة و الانعطاف عليه و الصريف: صوت الأسنان إمّا عند رِعدة أو عند شدّة الغضب و الحنق، والحرص على الانتقام، أو نحو ذلك.
شبّه علیه السلام الحدثان وهو الموت بالبعير الهائج أو بالفهد إذا وثب و الذئب إذا حمل. وذلك، لأنّ الفهد و الذئب في هذه الحالات يصرف نابها، ويقولون لكلّ خطب وداهية جاءت تصرف نابها.
وضرى - كرمى - أي جرى وسال. أي اعدلوا بها عن عاداتها الجارية، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف (3)
371 - أْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ وَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ؛ وَ مَسَاجِدُهُمْ يَوْمَئِذٍ عَامِرَةٌ مِنَ الْبِنَاءِ، خَرَابٌ مِنَ الْهُدَى، سُكَّانُهَا وَ عُمَّارُهَا شَرُّ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ مِنْهُمْ تَخْرُجُ الْفِتْنَةُ، وَ إِلَيْهِمْ تَأْوِي الْخَطِيئَةُ، يَرُدُّونَ مَنْ شَذَّ عَنْهَا فِيهَا، وَ يَسُوقُونَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا إِلَيْهَا؛ يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَبِي حَلَفْتُ لَأَبْعَثَنَّ 9
ص: 196
عَلَى أُولَئِكَ فِتْنَةً تَتْرُكُ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ، وَ قَدْ فَعَلَ، وَ نَحْنُ نَسْتَقِيلُ اللَّهَ عَثْرَةَ الْغَفْلَةِ. (1).
هذه صفة حال أهل الضلال والفسق والرياء من هذه الأُمّة، ولعلّ المراد بقوله: «فتنة»، أي استئصالاً وسيفاً حاصداً يترك الحليم أي العاقل اللبيب، «وروي: الحكيم» (2) فيها حيران، لا يعلم كيف وجه خلاصه.
وقوله علیه السلام: «وقد فعل»، ينبغي أن يكون قد قال هذا الكلام في أيّام خلافته، لأنّها كانت أيّام السيف المسلّط على أهل الضلال من المسلمين. والله أعلم.
372 - يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ، يَعَضُّ الْمُوسِرُ فِيهِ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ وَ لَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ (وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (3)؛ تَنْهَدُ فِيهِ الْأَشْرَارُ وَ تُسْتَذَلُّ الْأَخْيَارُ وَ يُبَايِعُ الْمُضْطَرُّونَ، وَ قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّينَ (3)
«زمان عضوض»، أي كلبٌ على الناس، كأنّه يعضّهم، وفَعول للمبالغة. «يعض الموسر»، أي يبخل و يمسك و«ينهد»: يرتفع ويعلو، أي ينهضون إلى الولايات و الرياسات، وترتفع أقدارهم في الدّنيا. «و يبايع المضطرّون»، أي يكون على وجه الاضطرار و الإلجاء كمن بيع ضيعته وهو ذليل،ضعيف من ربّ ضيعةٍ مجاورة لها ذي ثروة و عزّ وجاه فيلجئه بمنعه الماء واستذلاله الأكرة و الوكيل إلى أن يبيعها عليه، وذلك .
ص: 197
منهيّ عنه، لأنّه حرام محض (1).
373 - يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلانِ: مُحِبُّ مُطرٍ، وَبَاهِتٌ مُفْتَرٍ (2).
قال السيد: و هذا مثل قوله علیه السلام: يَهْلِكُ فِي اثْنَانِ: مُحِبُّ غَالٍ، وَمُبْغِضٌ قالٍ (3)
المحبّ المطري بكثرة المدح كالغلاة و هم في طرف الإفراط، و الذي يبهته و يفتري عليه بأنّه - العياذ بالله - كافر ومخطئ كالخوارج وهم طرف التفريط وكلاهما رذيلتان خارجتان عن فضيلة العدل و الرذائل مهاوي الهلاك الأخرويّ.
وقد تقدّم قريب من هذا الكلام في باب الها. (4)
قد تمّ على يد جامعه عبّاس بن محمد رضا القمّيّ عفي عنه في سنة 1328ه- .
ص: 198
حرف الألف ... 5
حرف الباء ... 48
حرف التاء ... 51
حرف الثاء ... 55
حرف الجيم ... 56
حرف الحاء ... 58
حرف الخاء ... 62
حرف الدال ... 66
حرف الراء ... 70
حرف الزاء ... 77
حرف السين ... 79
حرف الشين ... 81
حرف الصاد ... 83
حرف الضاد ... 86
حرف الطاء ... 87
حرف الظاء ... 89
حرف العين ... 90
ص: 199
حرف الغين ... 101
حرف الفاء ... 104
حرف القاف ... 108
حرف الكاف ... 114
حرف اللام ... 122
حرف الميم ... 145
حرف النون ... 184
حرف الواو ... 187
حرف الهاء ... 190
حرف الياء ... 192
الفهرس ... 199
ص: 200
الصورة
ص: 201