فتنة التكفير و جذورها وآثارها في المجتمع

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: السبحاني تبریزي، جعفر، 1308 - .

العنوان والمنشئ: فتنة التكفير و جذورها و آثارها في المجتمع/ تألیف جعفر السبحاني؛ بطلب من المؤتمر العالمي «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرفة والتکفيرية»

تفاصيل النشر: قم: دارالإعلام لمدرسة اهل البیت(ع)، 1393

مواصفات المظهر: 112ص.

شابک: 6-4-94845-600-978

وضعیت فهرست نویسی: فیپا

لسان: العربية

کتابنامه: ص. 109-112

موضوع: تکفیر

موضوع: سلفیه - عقاید

موضوع: وهابیه - عقاید

موضوع: تکفیر - کشورهای اسلامی - تأثیر

موضوع: اسلام و اجتماع - تأثیر تکفیر

معرف المضافة: گنگره جهانی جریان های افراطی و تکفیری از دیدگاه علمای اسلام (نخستین:1393: قم)

تصنيف الكونجرس: 1393 2ف2س/ 3/225 BP

تصنيف ديوي: 464/297

رقم الببليوغرافيا: 93297464

المؤتمر العالمي «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرفة والتکفيرية»

قم، شارع الشهداء، ناصیة زقاق 22، رقم البنایة 618

هاتف: 37842141-025

البرید الالکتروني: info@makhateraltakfir.com

الموقع الالکتروني: www.makhateraltakfir.com

فتنة التكفير و جذورها وآثارها في المجتمع

بطلب من: المؤتمر العالمي «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرفة والتکفيرية»

تألیف: سماحة المرجع الدینی الشیخ جعفر السبحانی

الناشر: دارالإعلام لمدرسة اهل البیت(

الإخراج الفني: محبوب محسنی

الطبعة: الأولى، 2014م

الکمیة: 500 نسخة

الطباعة والتجلید: سلیمان زاده

السعر: 12000 تومان

ردمك: 6-4-94845-600-978

جمیع الحقوق محفوظة للمؤتمر

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

ص: 2

فتنة التكفير و جذورها وآثارها في المجتمع

سماحة المرجع الدینی الشیخ جعفر السبحاني(دام ظله)

المؤتمر العالمي «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرفة والتکفيرية»

قم/2014م

ص: 3

ص: 4

کلمة سماحة المرجع الدینی الشیخ ناصر مکارم الشیرازی(دام ظله)

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

الرئیس الأعلی للمؤتمر:

لا غرو أنّ عصرنا هو عصر الوقائع المريرة و المعقدة و الفتن الخطيرة التي تعصف بالإسلام و المسلمين و تستقي من مؤامرات أعداء الإسلام الأجانب بالتواطؤ مع منافقي الداخل.

إنّ فتنة التکفيريين و المتطرّفين لهي من أعظم الفتن التي ابتُلينا بها، و التي ظهرت لنا في الآونة الأخيرة في صورة الجماعة المسماة «داعش» و أخواتها.

فمن أين أطلّت علينا فتنة التکفير هذه؟ و کيف نشأت و ترعرعت؟ و ما هي أسباب انتشارها؟ و أنّى السبيل لإطفاء نائرتها؟ يحتاج کلّ من هذه الأسئلة إلى بحث مفصّل و دقيق، و يقيناً أنّ الخطط السياسية و العسکرية، مهما کانت ذات مصداقية، فلن تکون، بمفردها، فعالة في دفع هذه الفتن. إذ لا بد لکبار علماء الإسلام أن يهبّوا لاقتلاع جذور هذا الفکر المنحرف بالموعظة الحسنة و المنطق السليم، ليحولوا دون انجذاب الشباب نحوه.

من هذا المنطلق، اتُّخذ القرار و بمساعدة نخبة من العلماء الواعين و المشفقين من جميع المذاهب الإسلامية لعقد مؤتمر عالمي تحت عنوان «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرّفة و التکفيرية» ليتدارسوا خلاله الموضوع بعمق و دقّة، و يضعوا نتائج دراساتهم و أبحاثهم في متناول الجميع، أملاً في توعية الرأي العام الإسلامي و إطفاء نار هذه الفتنة العمياء. وهذا الذي بين يديک عزيزي القارئ هو جانب من تلک الدراسات.

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ)

قم - الحوزة العلمیة

ناصر مکارم الشیرازي

ذو الحجه 1435 ه-

ص: 5

ص: 6

مقدمة المشرف العلمي سماحة المرجع الدینی الشیخ جعفر السبحانی(دام ظله)

بسم الله الرحمن الرحيم

جذور ظاهرة التکفير والدوافع وراء عقد مؤتمر

«آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرفة والتکفيرية»

الإيمان والکفر مفهومان متضايفان، فعندما نذکر أحدهما يتداعى الثاني إلى ذهننا، ويطلق على هذه الحالة في الفلسفة «التضايف».

إنّ مصطلح «الإيمان» يعني التصديق والاعتقاد، ولفظ «الکفر» يقصد به الستر وأحياناً يفيد الإنکار، وبحسب ما اصطلح عليه المتکلمون فإنّ المقصود بالإيمان هو التصديق بنبوة النبي وبرسالته. أما «الکفر» فيراد به تجاهل دعوة هذا النبي وتکذيبه.

ولا شک في أنّ دعوة معلمي السماء تشي أنّه في کل عصر بُعث فيه الأنبياء وجاؤوا بالأدلة والبراهين التي تؤکّد على صدق دعوتهم، انشطرت مجتمعاتهم إلى فئتين: فئة آمنت بالدعوة وأخرى کفرت بها، فالذين آمن بالدعوة وصدّقها يسمى «مؤمنا» والذي قلب ظهر المجن لها وکذّب بها يقال له «کافر».

ومن المعلوم أنّ منهج جميع الأنبياء في الدعوة إلى الأصول واحد، ولا يوجد أي اختلاف بينهم، ففي جميع الدعوات کان أفراد الفئة المؤمنة إنّما يؤمنون بالله الخالق المدبر والحکيم الذي لا معبود سواه، ويصدّقون رسالة نبيّ عصرهم بکل جوارحهم.

وحين قضت إرادة الله تعالى ببعث النبي الخاتم (صلی الله علیه و آله و سلم) کانت علامة إيمان الناس بالدعوة النطق بعبارتين تفصحان عن الإيمان الذي في مکنونهم،

ص: 7

أعني، کل من کان ينطق بالشهادتين «لا اله الا الله محمد رسول الله»، أفراداً أو جماعات، کان يدخل في حظيرة الإسلام، وينفصل عن دائرة الکفر.

من جهة أخرى، فإنّ الإقرار بکلمة الإخلاص - التي تنطوي على سلب الإلوهية من کل موجود إلا الله - تتضمن الإقرار بثلاثة أنواع للتوحيد: 1. توحيد الخالقية، 2. توحيد التدبير، 3. توحيد العبادة. لأنّ هذه الأنواع الثلاثة هي من خصوصيات إله العالمين لا خلائقه.

ناهيک عن أنّ الأساس الذي تقوم عليه أيّ دعوة إلهية هو الإيمان بالآخرة، طبعاً الإقرار بالحياة الأخروية کما التوحيد والرسالة، يعدّ من العناصر الإيجابية في الإيمان الذي يستکنه أعماق کلمة الإخلاص.

لو رجعنا إلى السيرة النبوية المعطرة سوف نطالع صفحة باسم «عام الوفود» وهو العام الذي تقاطرت فيه الوفود على المدينة من کل حدب وصوب، زرافات ووحدانا، لتبايع الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم ، ولتستظل بخيمة الإسلام من خلال النطق بالعبارتين المذکورتين اللتين تختزلان الإيمان الحقيقي. وفي هذا الشأن نزلت سورة النصر المبارکة لتصدح بالآيات الکريمة (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ والْفَتْحُ ! ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ! فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا).

إذن مفتاح دخول هذه الأفواج في الإسلام کان النطق بالشهادتين فحسب، ولم تکن ثمة مسائل کلامية أو فقهية تشترط قبول إسلامهم. مثلاً، لم يکن هؤلاء يُساءَلوا عن مکان الله أو رؤيته في يوم البعث أو خلق القرآن وقدمه، وغير ذلک من الأسئلة، وإنّما إيمانهم الکلي برسالة خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله و سلم کان يغنيهم عن کل هذه المسائل. کما لم يُساءَلوا عن مسألة جواز التوسل بالأنبياء والأولياء أو الصلاة إلى جانب القبور أو زيارة قبور الأولياء.

في العصر الراهن، ثمّة فرقة متطرّفة وجاهلة بأصول الشريعة المحمدية وقواعدها، صارت تحتکر الإسلام والإيمان، فتعتبر فئة قليلة هي المؤمنة وسائر المسلمين کفارا ومهدوري الدم. وتعود جذور هذا النمط من التکفير إلى عصر ابن تيمية (ت 728ه-)

ص: 8

والوهابيين المتطرّفين من بعده، بل إنّ الوهابيين ذهبوا في تطرّفهم إلى مديات أبعد، ذلک أنّ ابن تيمية کان في أغلب الأحيان يستخدم کلمة البدعة، بينما الفرقة الوهابية استعاضت عنها بکلمة الکفر، فأصبح معيار التکفير عندها هو مخالفة أفکارها في المسائل المذکورة آنفاً.

وتعارض هذه الفرقة بشدّة بناء أضرحة الأنبياء وأولياء الله وتعتبر ذلک من مظاهر عبادة الأوثان!! بينما شهد الإسلام عبر تاريخه الطويل بناء أضرحة الأنبياء والمحافظة عليها في فلسطين والأردن والشام والعراق، وکان المسلمون يأتون إلى زيارتها أفواجاً أفواجا، ولم يخرج علينا أحد ليصف هذا العمل بأنّه مخالف للتوحيد.

وحتى عندما فتح الخليفة عمر بن الخطاب بيت المقدس لم يأمر أبداً بهدم تلک المزارات و المقامات المقدسة، وإنّما واصل نهج الماضين في المحافظة عليها وتزيينها.

وطيلة الفترة التي تلت رحلة النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله و سلم) کان جميع الموحّدين يتوسّلون بمقام النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم) ليشفع لهم في قضاء حوائجهم، غير أنّ هذه الفرقة تساوي بين هذا التوسل وبين توسل المشرکين بالأصنام، في حين أنّ جوهر کل منهما متمايز عن الآخر والمسافة بينهما کالمسافة بين الأرض والسماء.

التکفير العنيف

کان التکفير عند أسلاف هذه الفرقة بالقلم واللسان، لکنّه أخذ طابعاً عنيفاً في عهد الوهابيين المتطرّفين، حيث کان أتباعهم يغيرون على القرى والقصبات والقرى المحيطة بمنطقة «نجد» وينهبون ما أمکنهم وبذلک أصبحت لديهم قوة مالية کبيرة.

وللاطلاع على الجرائم التي ارتکبها مؤسّسوا هذه الفرقة ومن جاء بعدهم ينصح بمراجعة مصدرين معتبرين في تاريخ الوهابية هما: «تاريخ ابن غنام» و «تاريخ ابن بشر»، وقد صدرا منذ فترة وأصبحا موضع اهتمام العلماء والمفکرين.

وأخيراً، لا نريد الإطالة في هذا المقام، لذا، سوف نختم کلمتنا بهذا البيت الشعري:

ص: 9

شرح اين هجران و اين خون جگر *** اين زمان بگذار تا وقت دگر

(دع سرد قصة هذا الهجران وهذا الزمان وهذه المصائب لوقت آخر)

يشار إلى أنّه بعد احتلال أفغانستان من قبل الجيش الأحمر السوفيتي اتُخذ قرار بتوظيف الروح الجهادية للشباب المسلم في المنطقة لدحر قوى الکفر وطرد الأعداء من الأراضي الإسلامية، فکان قراراً رائعاً وفيه مرضاة الله، بيد أنّ عدم وجود عالم ورع وقيادة واعية بأصول الجهاد في أوساط هؤلاء الجهاديين لتقودهم وفق النهج السليم، حرفت هؤلاء المقاتلين باتجاه آخر، فتأثّر بعضهم بالأفکار الوهابية وراحوا يکفّرون جميع البلدان الإسلامية وشعوبها.

ولسوء الطالع، انطلقت هذه الحملة أولاً ضدّ دول المقاومة والممانعة الصامدة بوجه الصهاينة، وبدلاً من تحرير القدس، راح هؤلاء يدمرون البنى التحتية في سورية والعراق. وقد بلغ عنفهم وإرهابهم ضدّ الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة والأبرياء مبلغاً شاهت معه صورة الإسلام في العالم، ولم يعد في الغرب من يتعاطف مع هذا الدين. فأين الأعمال المروعة لهذه الجماعات من کلمات الوحي الإلهي حين يقول الباري عزّ و جلّ: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ولَو كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ(. (آل عمران: 159) ويقول النبي الأکرم(صلی الله علیه و آله و سلم) في حديث شريف: «إنّ الرفقَ لا یکونُ في شيء إلّا زانه، ولایُنزَعُ مِن شيء إلّا شانه».

في ظل هذه الظروف المفجعة، قررت المرجعية الرشيدة في الحوزة العلمية بقم عقد مؤتمر عالمي تحت عنوان: «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرفة والتکفيرية» وذلک لتسليط الضوء على هذه الفرقة وما يترتب على أعمالها من نتائج وعواقب وخيمة، وفي هذا الإطارتم توجيه نداء إلى العلماء والباحثين في العالم الإسلامي من أجل سبر جذور التکفير وتعرية جوهره الشرير، والسبل الکفيلة بالخلاص من هذا الوضع. وقد لاقى النداء استجابة طيبة من لدن العلماء انعکس في إرسال العديد من الآثار إلى الأمانة العامة للمؤتمر، وکانت مضامين معظمها على درجة عالية من الجودة والقيمة، وبناءً عليه

ص: 10

قرّرت الأمانة المذکورة أن تأخذ على عاتقها طبع ونشر هذه الآثار ووضعها في متناول أصحاب الرأي وضيوف المؤتمر الأعزاء من داخل البلاد وخارجها، لتکون خطوة على طريق الحؤول دون استفحال خطر هذه الغدة السرطانية المدمرة وانتشار هذا الفايروس المرعب.

في الختام، لا يسعني إلا أن أثني على الجهود المضنية لأعضاء الأمانة العامة المحترمين الذين واصلوا الليل بالنهار، وأقدّر عالياً ما بذلوه خلال الفترة الماضية، کما وأشکر جميع الذين ساهموا في خلق هذه الأجواء الروحانية والعلمية.

قم - جعفر السبحاني

ذوالقعده 1435ه-

ص: 11

ص: 12

دیباجه

«يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».(البقرة: 208)

لقد شهد الإسلام في محطات کثيرة من تاريخه اقتتالاً بين المسلمين، ولکن عدا الخوارج والتيارات التکفيرية، من النادر أن تجد فرقة إسلامية في القرون الأخيرة قامت بتکفير سائر المسلمين واستحلّت دماء أهل القبلة وأموالهم وأعراضهم. لقد سجّل الخوارج أنّهم کانوا في طليعة المکفِّرين للمسلمين، حيث سفک التيار التکفيري في القرون الثلاثة الأخيرة، بدعوى التوحيد، دماء الکثير من المسلمين ودمّر العديد من الأماکن والآثار الإسلامية المقدسة التي تجسّد الهوية الحضارية للمسلمين.

وعلى الرغم من الجهود الحثيثة لکبار العلماء المسلمين في مواجهة التکفير، لکنّنا، وللأسف، نشهد في العصر الراهن تنامي التيارات التکفيرية وانتشارها في کل زاوية من زوايا العالم الإسلامي. تيارات ارتکبت من الجرائم والمجازر ما ليس له نظير في التاريخ الإسلامي. حزّ الرقاب وإشعال الحرائق والتمثيل بالجثث وانتهاک الأعراض ونهب الأموال وتدمير الأبنية المقدسة، وغيرها من الجرائم تمثّل جانباً من الأعمال المروّعة التي ترتکبها هذه الجماعات باسم الإسلام.

على صعيد آخر، فإنّ إغتيال کبار علماء المسلمين، وتهديم البقاع المقدسة التي ترمز إلى الهوية الإسلامية، وارتکاب أفظع الأعمال المحرّمة باسم الإسلام مثل جهاد النکاح... إلخ کلّها طعنات أصابت الجسد الإسلامي في الصميم.

إنّنا إذا ما تأمّلنا خريطة البلدان الإسلامية سنجد آثار خطوات هذه الجماعات في جميع البلاد الإسلامية تقريباً، وهي من قبيل: جبهة النصرة، داعش، تنظيم القاعدة، جند العدل،

ص: 13

حزب التحرير في آسيا، جماعة بوکو حرام في نيجيريا، حرکة الشباب الصومالية، جماعة أنصار السنّة وأنصار الشريعة في أفريقيا وغيرها من الجماعات المتعددة، والتي تؤشّر بمجموعها وجود أزمة کبرى في العالم الإسلامي.

أمّا ما هي الأسباب والعوامل التي آلت إلى هذه الوضعية فذلک يستدعي منّا بحوثاً ودراسات معمقة سوف ننوّه إليها بالتفصيل في مجموعة المقالات، ولکن إجمالاً نقول، أنّه لا ينبغي هنا التغاضي عن دور الغرب في مشروع الإسلاموفوبيا، وبالتبع، محاربة الإسلام. ذلک أنّه ارتأى، في ظلّ النمو السريع للإسلام في العالم، أن يشتغل على مشروع الإسلام ضدّ الإسلام، و أن يعمل عبر مساندة الجماعات المتطرفة وتوظيف الاختلافات الطائفية والمذهبية، على تحريک بعض الجماعات المنبثقة من رحم الإسلام لإضعاف قوة المسلمين وقدراتهم، وليرسم في المقابل صورة مشوّهة عن المسلمين أمام أنظار العالم.

کما أنّ القراءات المنحرفة والضالة لبعض المفاهيم مثل التوحيد والشرک والإيمان والکفر والبدع وأمثال ذلک دفعت المسلمين إلى مستنقع التکفير.

ومع ذلک، يبدو أنّ الجرائم وأعمال التدمير التي ترتکبها التيارات التکفيرية من السعة والصلف بحيث أحدثت موجة من الاشمئزاز والإدانة لهذه الممارسات في العالم الإسلامي.

وبناءً عليه، فإنّ التصدّي العلمي و التنويري لهذا التيار يضع على عاتق العلماء والمفکرين مسؤولية سبر جذور هذه الظاهرة واجتراح الحلول اللازمة للفکاک منها، من هنا انبرى المؤتمر الدولي «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرفة و التکفيرية» بحسب إمکاناته وبإشراف وتوجيه کريمين من لدن سماحة المرجع الديني الکبير آية الله العظمى مکارم الشيرازي «دام ظله الوارف» إلى توظيف الطاقات العلمية في العالم الإسلامي من أجل التصدّي لظاهرة التکفير. وقد تشکّلت لهذا الغرض أربع لجان علمية هي کالتالي:

1. نسابية التيارات التکفيرية؛

2. سبر عقائد التيارات التکفيرية؛

3. التيارات التکفيرية والسياسة؛

ص: 14

4. سبل الخلاص والتصدّي للتيارات التکفيرية.

يتناول المحور الأول نسابية التيارات التکفيرية، وتبحث اللجنة المعنية في منطلقات التکفير ومنابعه وأمثلته على مدى التاريخ الإسلامي.

يخوض المحور الثاني في جذور الضلالات العقدية والقراءات التکفيرية للمعتقدات الإسلامية. هنا تبحث اللجنة المعنية في نقد أصول ومعتقدات هذه الجماعات والتيارات، وتسبر ضلالاتها و انحرافها عن العقيدة الإسلامية.

أما المحور الثالث فيعالج الأسباب السياسية وراء تنامي التيارات التکفيرية وانتشارها، وتحليل تبعيّتها وعمالتها وأهدافها.

وفي المحور الرابع مقترحات ببعض الحلول السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية للخلاص من ظاهرة التکفير.

ولا بدّ من التذکير بأنّ مجموعة المقالات التي بين أيدينا هي حصيلة ما جادت به قريحة العلماء ومفکري العالم الإسلامي حول المحاور المذکورة أعلاه.

مضافاً إلى ذلک، ثمّة بحوث مستقلة تقدّم بها بعض الباحثين تهدف إلى إثراء المؤتمر وإغنائه، وهي کما يلي:

1. التکفیر من منظار علماء الإسلام: يستعرض هذا البحث آراء کبار علماء المذاهب و الفرق الإسلامية حول رفض التکفير، وتشمل آراء علماء القرون السابقة والمعاصرة حول حرمة تکفير أهل القبلة.

2. هدم المزارات الإسلامية في البلدان العربية: يسلّط البحث الضوء على السجل الأسود للتيارات التکفيرية في تهديم الأماکن المقدسة والحضارية في العالم الإسلامي، وهو موثق بصور المزارات قبل الهدم وبعده.

3. فتاوى التيارات التکفيرية في جواز قتل المسلمین: أحياناً تصدر عن التيارات التکفيرية، بسبب انحرافها وضلالها، فتاوى لا تنسجم مع أيّ من القواعد الفقهية، وتتنافى تماماً مع التعاليم الإسلامية، وقد جمع هذا الکتاب الفتاوى التکفيرية لتلک التيارات.

ص: 15

4. ببليوغرافيا التکفير: إذا ما ألقينا نظرة على المصنّفات والکتب المدوّنة في موضوع التکفير سنجد أنّ الحصيلة جمهرة کبيرة من الآثار العلمية. هذه الببليوغرافيا تقدّم سرداً وصفياً لهذه الآثار في موضوع التکفير والردّ عليه.

5. الوهابية المتطرّفة: موسوعة نقدية: ثمّة في الفکر الوهابي تيارات تعتبر المسلمين کفاراً، وتجمع هذه الموسوعة النقدية باقة من مصنّفات العلماء المسلمين في نقد مبادئ وأسس هذا التيار منذ ظهوره وحتى اليوم.

في الختام، يلزمنا التنويه إلى أنّ کل ما من شأنه إثراء مجموعة المقالات وکذا البحوث المستقلة الخاصة بالمؤتمر الدولي «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرّفة والتکفيرية» يعود الفضل فيه إلى الإشراف العلمي لسماحة آية الله العظمى جعفر سبحاني (أدام الله ظله) وتوجيهاته السديدة المصوّبة التي فتحت مغاليق المسائل أمام اللجان العلمية في المؤتمر وکانت عوناً لها على إنجاز مهمّتها.

کما لا يفوتنا أن نشيد بالدور المضني الذي اضطلع به حجة الإسلام والمسلمين الدکتور فرمانيان - مسؤول اللجان العلمية - من خلال المتابعة الحثيثة والتنظيم الدقيق للمقالات، بمعيّة مسؤولي اللجان المحترمين: حجة الإسلام قزويني وحجة الإسلام ميرأحمدي وحجة الإسلام فرمانيان وسعادة الدکتور أميني، فلهم منا جزيل الشکر والعرفان.

وأخيراً، نأمل أن تثمر الجهود المبارکة لمراجع الدين العظام وعلماء الإسلام عن التقريب بين أجزاء العالم الإسلامي والوحدة بين أوصاله، واجتثاث فتنة التکفير من ربوعه إن شاء الله.

رئيس الهيئة ونائب المشرف العلمي للمؤتمر

السید مهدی علی زاده الموسوی

ذوالقعده 1435ه-

ص: 16

الفهرس

مقدمة... 21

الفصل الأوّل:

الكفر والإيمان في اللغة ومصطلح المتكلّمين

الكفر والإيمان لغةً ...27

الإيمان والكفر في مصطلح المتكلّمين... 28

1. التصديق اللساني... 28

2. التصديق القلبي... 28

3. التصديق لساناً وقلباً مع الاجتناب عن الكبائر... 29

4. المنزلة بين المنزلتين... 29

5. نظرية جمهور العلماء... 30

الفصل الثاني:

ما يجب التصديق به

1. التوحيد في الذات... 35

2. التوحيد في الخالقية... 35

3. التوحيد في الربوبية ...36

4. التوحيد في العبادة ...39

إجابة عن سؤال ...40

5. رسالة النبي الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم ...41

6. إنّ القرآن وحيٌّ مُنزل ...42

ص: 17

7. الإيمان بالمعاد... 42

حكم إنكار الضروريات ...43

الفصل الثالث:

شروط التكفير وموانعه

التكفير المطلق... 47

تكفير الفرد المعيّن... 47

الشرط الأوّل: إقامة الحجّة على المنكر... 48

الشرط الثاني: كونه قاصداً للمعنى المخرج ...48

موانع التكفير... 49

الأول: كونه مختاراً في البيان والعمل...49

الثاني: الإنكار عن شبهة خارجة عن الاختيار ...49

الثالث: عدم احتمال التأويل... 50

1. قتل مالك بن نويرة وتبريره بالتأويل ...51

2. قتل الهرمزان وإمساك الخليفة عن إجراء القصاص... 51

الفصل الرابع:

جذور التكفير في العصور الأُولى

1. أُسامة بن زيد يقتل مسلماً... 55

2. الوليد بن عقبة وتكفير بني المصطلق ...56

3. اعتراض ذي الخويصرة على النبي صلی الله علیه و آله و سلم ... 56

1. تكفير مالك بن نويرة بتأويل باطل ...57

2. تكفير عائشة عثمان... 57

3. الخوارج والتكفير ...57

الفصل الخامس:

إدانة تكفير أهل القبلة على لسان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم والعلماء

إدانة تكفير أهل القبلة ...63

ص: 18

الفصل السادس:

الذرائع الباطلة لتكفير المسلمين

الذرائع التي يكفّر بها عامّة المسلمين... 69

المسألة الأُولى: الاعتقاد بقدرة غيبية في الأولياء وطلب الشفاعة والاستغاثة والتوسّل به...... 70

1. القدرة الغيبية للنبي يوسف علیه السلام ... 71

2. القدرة الغيبية للنبي سليمان علیه السلام ... 72

التوسّل بالأنبياء والأولياء بالصور الثلاثة ...73

كلام حول سند الحديث ...74

توسّل عمر بن الخطاب بعمّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ... 76

شبهة كون النبيّ ميّتاً ...77

المسألة الثانية: الصلاة عند قبور الأنبياء والأولياء... 78

1. الصلاة في مقام إبراهيم علیه السلام ...78

2. إقامة الصلاة على قبور أصحاب الكهف ...79

كيفية الاستدلال 80

دليل المخالف 80

إيضاح مفاد الروايات 81

المسألة الثالثة: حفظ آثار الأنبياء والسلف الصالح من قبورهم وبيوتهم و... 84

الأوّل: مكانة بيوت الأنبياء في القرآن الكريم 85

الثاني: صيانة الآثار ومودّة القربى 87

الثالث: صيانة الآثار تعظيم للشعائر 88

الرابع: القرآن الكريم وحفظ الآثار 88

دليل المخالف 89

المسألة الرابعة: النذر للنبي والإمام 91

المسألة الخامسة: التبرّك بآثار الأنبياء 92

نتيجة البحث 94

ص: 19

الفصل السابع:

الذرائع التي يكفّر بها الشيعة

1. القول بالبداء... 99

2. الإيمان بخلافة الخلفاء... 101

3. علم الأئمة( بالغيب... 102

4. التقيّة من المسلم... 102

5. تكفير الصحابة ...103

نتيجة الدراسة ...105

هذا هو الداء وأمّا الدواء... 105

1. نقد الأفكار الخاطئة التي يشمّ منها رائحة تكفير الفرق الإسلامية... 106

2. تطهير البرامج الدراسية في بعض الدول... 107

المصادر:... 109

ص: 20

مقدمة

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربّنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون، والصلاة والسلام على نبيّ الرحمة وإمام الهدى محمد المصطفى وعلى آله الطيّبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيراً.

أمّا بعد:

فقد ظهرت في عصرنا هذا، ظاهرة التكفير وتبنَّتها جماعة احتكروا الإيمان لأنفسهم وسلبوه عن غيرهم، فقاموا بقتل الأنفس ونهب الأموال بحجّة أنّ غيرهم كفّار يجب قتالهم وسبي ذراريهم والإغارة على ممتلكاتهم وأموالهم!!

وممّا يؤسف له أنّ هؤلاء يدّعون أنّهم يحكمون باسم الإسلام وباسم نبيّ الرحمة الذي قال: «إنّ الرفق لا يكون في شيء إلاّ زانه، ولا يُنزع من شيء إلاّ شانه»((1)

فها هم يقتلون الابرياء والعُزّل من الناس أطفالاً وشيوخاً ونساءً ويقومون بجرائمهم وهم يكبّرون ويصلّون على النبي صلی الله علیه و آله و سلم الذي يصفه سبحانه بقوله: «فَبِمَا رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ»،((2))

ويدّعون رفع لواء الجهاد في سبيل نصرة الدين ومواجهة

ص: 21


1- . نیشابوری، صحيح مسلم، ج8، ص22، كتاب البر والصلة والآداب.
2- . آل عمران، آیة 159.

أعدائه، وهم يعيشون في الأرض فساداً، ويحرقون الحرث والنسل، ويدّمرون المنشآت الاقتصادية، بل يخرّبون كلّ شيء؟!

يقومون بهذه الجرائم الفظيعة التي يهتزّ لها عرش الرحمن باسم الدين، والأنكى من ذلك أنّهم لا يعيرون أهمية الضحايا الأبرياء ولا يقدّرون لها قيمة، وأصبح ذبح الإنسان الذي عرّفه سبحانه بقوله: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ»((1)) أهون عندهم من ذبح الطير أو قتل الهوام!!

إنّ القائمين بهذه الأعمال بين جاهل بقواعد الدين وأحكامه متحمّس في طريقه; أو عالم بالموضوع وحكمه لكنّه ينفذ خطط الكافرين الذين يكنّون الحِقْد والعِداء لنبي الإسلام ورسالته منذ قرون، فتراهم في كلّ عصر يأتون بخطّة جديدة. والذي يتولى كبر هذا الأمر الفظيع هو قائد الوهابية المتشددة محمد بن عبد الوهاب الذي ظهر في القرن الثاني عشر الهجري مدّعياً الدفاع عن التوحيد فكفّر عامّة المسلمين إلاّ مَن تابعه في أفكاره.

وقد اعتبر ابن عبد الوهاب عامّة المسلمين كفّاراً ومشركين ومرتدّين كأهل الجاهلية الأُولى أو أضلّ منهم وقال: فإذا عرفت أنّ هذا الذي يُسمّيه المشركون في زماننا «الاعتقاد» هو الشرك الذي نزل فيه القرآن، وقاتل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الناس عليه، فاعلم أنّ شرك الأوّلين أخفّ من شرك أهل زماننا وذلك:

إنّ الأوّلين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلاّ في الرخاء، وأمّا في الشدّة فيخلصون لله الدعاء، فيدلّ عليه قوله سبحانه: «وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا»((2)« وبذلك تبيّن الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأوّلين.»(3))

ص: 22


1- . الإسراء، آیة 70.
2- . الإسراء، آیة 67.
3- . محمد بن عبدالوهاب، كشف الشبهات، ص33.

واستنتج من عبارته هذه أنّ مشركي أهل زمانه يدعون غير الله في الشدّة والرخاء، فكانوا أكثر شركاً.

وهذه العبارات تدلّ على أنّ جماهير المسلمين - عنده - مشركون شركاً أشدّ من شرك أبي جهل وأبي لهب!!

وأراد من الشرك الذي اتّهم به عامّة المسلمين عبر قرون ما يقومون به من زيارة قبور الأنبياء والأولياء الصالحين والتوسّل بهم مضافاً إلى إعمار قبورهم وأضرحتهم، فهذا هو الذي أسماه ابن عبد الوهاب بالشرك الأكبر، وبذلك صار المسلمون بعد رحيل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى عصر محمد بن عبد الوهاب مشركين وأضلّ من مشركي عصر الجاهلية.

هذا ما يذكره ابن غنّام معاصره ومؤرّخ حياته وحروبه مع المسلمين.

ولمحمد بن عبد الوهاب كلمة أُخرى قال: اتّبع هؤلاء سنن من قبلهم وسلكوا سبيلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حذو القذّة بالقذّة، وغلب الشرك على أكثر النفوس لغلبة الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنّة بدعة والبدعة سنّة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتدّ البأس وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.((1))

والعجب أنّ الشيخ يزعم أنّه من أتباع أحمد بن تيمية!! وحاشا أن يكون ابن تيمية بهذا التشدّد فإنّه ذكر للتكفير شروطاً وموانع سيوافيك بيانها في محلّها. نعم عبّر عمّا يسمّيه محمد بن عبد الوهاب شركاً بالبدعة.

إنّ التسرّع والغلو في التكفير يمزّق المجتمع المسلم، ويغذّي الفرقة والشحناء بين المسلمين بل ربّما يؤدّي إلى إهدار المسلمين دماء بعضهم بعضاً، وهذا على جانب النقيض من قوله سبحانه: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا»((2)).

ص: 23


1- . علماء نجد، الدرر السنية في الأجوبة النجدية، ج1، ص300 و 433.
2- . آل عمران، آیة 103.

إنّ أقلّ ضرر أُصيب به الإسلام هو أنّ بدعة التكفير على النحو الذي تبثّه الفضائيات صارت حائلاً بين الغربيّين وبين اعتناقهم الإسلام.

يا ليت هؤلاء يفهمون أو يعقلون ما عليه علماء الإسلام عامّة حيث قالوا: الخطأ في ترك تكفير ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم امرئ مسلم.((1))

إنّ الآثار السلبية المترتّبة على التكفير خطيرة جداً ويكفي في خطورته:

إنّه يزيل عصمة النفس والنفيس، فالنفوس تُقتل والأعراض تهتك والأموال تُسلب.

إنّه ينشر الفوضى في المجتمع الإسلامي ويجعله شيعاً والذي يعدّه سبحانه من ألوان العذاب ويقول: «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا»((2)).

ويا ليت هؤلاء يكتفون بالتكفير فإنّ خطره قليل، وهؤلاء هم اليهود والنصارى محكومون بالكفر ولكنّهم يعيشون في الأوساط الإسلامية بعيدين عن الخطر والقتل والنهب. غير أنّ هؤلاء يتّهمون مَن يقول لا إله إلاّ الله محمّداً رسول الله ويصلّي إلى الكعبة ويصوم شهر رمضان، بالشرك الذي نتيجته هو الحكم بهدر دمه، واستحلال نهب ماله وهتك حرمة نسائه وأولاده، ولذلك نرى أنّ القائلين بالتكفير بهذا المعنى يمارسون أبشع جرائم العصر الحديث ولا يستثنون أحداً، بل العدو الصهيوني الغاصب عندهم أكثر احتراماً من الشعوب الإسلامية بكافّة مذاهبها وطوائفها!!

ولأجل هذا قمنا بدراسة حقيقة الإيمان والكفر على ضوء الكتاب والسنّة حتى يقف الباحث الواعي على أنّ عمل هؤلاء المنحرفين يخالف حكم القرآن والسنّة.

وتحقيق الحال يتم ضمّن فصول:

ص: 24


1- . غزالی، الاقتصاد في الاعتقاد، ص135.
2- . الأنعام:65.

الفصل الأوّل: الكفر والإيمان في اللغة ومصطلح المتكلّمين

اشارة

ص: 25

ص: 26

الكفر والإيمان لغةً

يظهر من أئمّة اللغة أنّ للكفر أصلاً ومعنى واحداً. يقول ابن فارس: له أصل واحد وهو الستر والتغطية، والكفر ضد الإيمان لأنّه يغطّي الحق.((1))

وقال الجوهري: كلّ شيء غطّى شيئاً فقد كفره، ومنه سُمّي الكافر لأنّه يغطي نعم الله.((2))

وقال الراغب: الكفر في اللغة ستر الشيء، ويوصف الليل بالكافر لأنّه يستر الأشخاص، والزارع لأنّه يستر البذر في الأرض، يقول تعالى: «كَمَثَلِ غَيْث أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ»((3)).((4))

ويمكن أن يقال إنّ للكفر أصلاً آخر وهو الجحد والإنكار وهو غير الستر والتغطية، قال سبحانه: «وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْض وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ».((5))

فمعنى قوله: «يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْض»: أي ينكر بعضكم بعضاً.

هذا كلّه حول الكفر، وأمّا الإيمان فالثلاثي المجرّد مثل قوله: «أمن»، «يأمن» فيراد به السكينة والطمأنينة كقوله تعالى: «وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَني»((6)).

ص: 27


1- . القزوینی، مقاييس اللغة، ج5، ص191.
2- . الجوهری، صحاح اللغة، ج2، ص808، مادة «كفر».
3- . الحديد، آیة 20.
4- . الراغب الاصفهانی، مفردات، ص714، مادة «كفر».
5- . العنكبوت، 25.
6- . النور، آیة 55.

وأمّا الثلاثي المزيد فيه فإن كان مقروناً بلفظة «من» فهو أيضاً بنفس ذلك المعنى، مثل قوله: «وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف»((1))؛ وإن كان مقروناً باللام أو الباء فهو بمعنى التصديق، يقول سبحانه: «وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِن لَنَا»((2)): أي بمصدّق لنا، ويقول سبحانه: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ»((3)): أي صدّق الرسول.

الإيمان والكفر في مصطلح المتكلّمين

اشارة

اتّفق المتكلّمون على أنّ الإيمان بمعنى التصديق ولكن اختلفوا في أنّه بأي جارحة يتحقّق التصديق؟ فهناك أقوال:

1. التصديق اللساني

ذهب ابن كرّام السجستاني (المتوفّى:255ه-) إلى أنّه يكفي في تحقّق الإيمان التصديق باللسان وإن لم يصدّق قلباً، قائلاً: بأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يقبل إيمان من قال: لا إله إلاّ الله محمداً رسول الله.((4))

يلاحظ عليه: أنّ كلامه هذا لا يخلو من إبهام، فلو قال: إنّ من صدّق باللسان فهو مؤمن وإن لم نعلم وفاق لسانه مع قلبه فهو أمر مقبول، إذ لا طريق لنا إلى الغيب والباطن. وأمّا لو قال بكفاية التصديق اللساني وإن علم الخلاف فهو محجوج بالقرآن الكريم، يقول سبحانه: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ»((5)).

2. التصديق القلبي

ذهب جهم بن صفوان (المتوفّى:127ه-) إلى كفاية التصديق القلبي وإن كان منكراً لساناً، واستدلّ على ذلك بإيمان عمّار الذي أنكر رسالة النبي صلی الله علیه و آله و سلم بلسانه ولمّا جاء إلى

ص: 28


1- . قريش، آیة 4.
2- . يوسف، آیة 17.
3- . البقرة: آیة 285.
4- . نقله ابن حزم في الفِصَل، ج3، ص190.
5- . البقرة، آیة 8.

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم باكياً قال له: «فإن عادوا فعُد»، وهذا يدلّ على أنّ الإنكار باللسان لا يضر إذا كان القلب مطمئناً بالإيمان، قال تعالى: «إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ»((1)).

يلاحظ عليه: بأنّ الكلام في معنى الإيمان في غير حالة الاضطرار والتقيّة، وما أُشير إليه من إيمان عمّار مع الإنكار في اللّسان فهو داخل في حالة الاضطرار وقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم «رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه».

أضف إلى ذلك: أنّه سبحانه يكفّر قوم فرعون ويقول: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ»((2)). فقد أذعنوا بصحّة رسالة موسى قلباً، ولكن جحدوها لساناً، فوصفوا بالكفر.

3. التصديق لساناً وقلباً مع الاجتناب عن الكبائر

ذهبت الخوارج إلى أنّ الاجتناب عن الكبائر من مقوّمات الإيمان، فلو آمن وصدّق بلسانه وقلبه ولكن كذّب أو اغتاب سيخرج من خيمة الإيمان ويدخل حظيرة الكفر.((3))

وقد استدلّ هؤلاء بآيات أجبنا عنها في كتابنا «بحوث في الملل والنحل»، وأوضح دليل على أنّ العمل بالفرائض والاجتناب عن المحرّمات ليس من مقوّمات الإيمان، قوله سبحانه: «إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ»((4)) ترى أنّه سبحانه عطف العمل بالصالحات على الإيمان في هذه الآية وفي آيات كثيرة، وهذا يدلّ على أنّ العمل بالفرائض واجتناب الكبائر ليسا من مقومات الإيمان وإن كان لهما مدخلية تامّة في نجاة الإنسان يوم القيامة.

4. المنزلة بين المنزلتين

ذهبت المعتزلة إلى أنّ المؤمن باللسان والقلب إذا ترك فريضة أو ارتكب حراماً يخرج من خيمة الإيمان ولا يدخل في حظيرة الكفر بل يكون في منزلة بين المنزلتين، أي بين

ص: 29


1- . النحل، آیة 106؛ لاحظ الفصل، ج3، ص190.
2- . النمل، آیة 14.
3- . لاحظ: الاباضية في موكب التاريخ، ص 89-92.
4- . العصر، آیة 3.

الإيمان والكفر، فلا هو مؤمن ولا كافر. وقد اشتهرت المعتزلة بهذا الرأي((1)

وهو مردود بقوله سبحانه: «هُوَ الذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».((2))

والآية بصدد الحصر، وقد بسطنا الكلام في نقد هذه النظرية في كتابنا «بحوث في الملل والنحل».

5. نظرية جمهور العلماء

الإيمان عبارة عن التصديق باللسان والإذعان بالجنان، وهذا هو الذي عليه جمهور المسلمين فلو أنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم يقبل إيمان من صدّق باللسان فلأجل أنّه كان طريقاً إلى تصديقه بالجنان.

وها نحن نذكر شيئاً من عبارات القوم سنّة وشيعة، حتى يُعلم أنّ المتكلّمين من الفريقين على هذه النظرية.

قال عضد الدين الإيجي: الإيمان: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، فتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، وإجمالاً فيما عُلم إجمالاً.((3))

وقال التفتازاني: الإيمان: اسم للتصديق عند الأكثرين، أي تصديق النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فيما علم مجيئه به بالضرورة.((4))

وقال الشريف المرتضى(المتوفّى 436ه-): إنّ الإيمان عبارة عن التصديق القلبي ولا اعتبار بما يجري على اللسان، فمن كان عارفاً بالله تعالى وبكلّ ما أوجب معرفته، مقرّاً بذلك ومصدّقاً فهو مؤمن.((5))

وقال ابن ميثم: إنّ الإيمان عبارة عن التصديق اللبّي بالله تعالى، وبما جاء به رسوله من قول أو فعل، والقول اللساني سبب ظهوره،وسائر الطاعات ثمرات مؤكّدة له.((6))

ص: 30


1- . عبدالجبار بن احمد، شرح الأُصول الخمسة، ص697.
2- . التغابن: آیة 2.
3- . الایجی، المواقف، ج3، ص527.
4- . تفتازانی، شرح المقاصد، ج5، ص176.
5- . الشریف المرتضی، الذخيرة في علم الكلام، ص536- 537.
6- . ابن میثم البحرانی، قواعد المرام، ص170.

ثمّ إنّ هنا سؤالين لابدّ من الإجابة عنهما:

1. اتّهام نظرية المشهور بالإرجاء.

2. تعامل النبي مع المنافقين.

أمّا السؤال الأوّل، فربّما يقال: أي فرق بين نظرية الجمهور حيث اكتفوا بالتصديقين من دون إدخال العمل بالفرائض في صميم الإيمان، وما عليه المرجئة الذين اشتهروا بقولهم:«لا تضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة»؟

أقول: بين النظريتين بعد المشرقين، وذلك لأنّ القول بأنّ الإيمان هو التصديقان، لا يُدخل القائل في عداد المرجئة إذا كان مهتمّاً بالعمل، لأنّ جمهور العلماء يرون النجاة والسعادة فيه، وأنّه لولاه لكان خاسراً غير رابح، أمّا المرجئة فهم الذين يهتمّون بالعقيدة ولا يهتمّون بالعمل ولا يعدّونه عنصراً مؤثّراً في الحياة الأُخروية ويعيشون على أساس العفو والرجاء، فهم يهتمّون بالرغبة ولا يهتمّون بالرهبة، والله سبحانه يقول: «إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْر * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ»((1)) فكلام الجمهور على طرف النقيض ممّا هم عليه، خصوصاً على ما نقله شارح المقاصد من المرجئة بأنّهم ينفون العقاب على الكبائر إذا كان المرتكب مؤمناً على مذهبهم.((2))

وقد شعر أئمة أهل البيت( بخطورة الموقف، وعلموا بأنّ إشاعة هذه الفكرة عند المسلمين عامّة، والشيعة خاصّة، سترجعهم إلى الجاهلية، فقاموا بتحذير المجتمع الإسلامي من خطر المرجئة فقالوا: «بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة».((3))

كيف يمكن القول بأنّ التصديقين سبب النجاة يوم القيامة، والله سبحانه يقول: «فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ! وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَة! أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْم ذِي مَسْغَبَة * يَتِيًما ذَا مَقْرَبَة ! أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَة ! ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ».((4))

ص: 31


1- . العصر، آیات2-3.
2- . لاحظ: تفتازانی، شرح المقاصد، ج2، ص229 و 238.
3- . الکلینی، الكافي، ج6، ص47، الحديث 5.
4- . البلد، آیات 11- 17.

وأمّا السؤال الثاني فالإجابة عنه كالتالي: لا شكّ أنّ المنافقين كانوا كفّاراً، ومَن قرأ سورة البراءة يقف على ذلك، يقول سبحانه: «وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ»((1))، ولكنّ الرسول صلی الله علیه و آله و سلم - لمصلحة ملزمة - كان يتعامل معهم معاملة المسلم، لأنّ كثيراً منهم كانوا ذا قرابة وصلة نسبية أو سببية مع المؤمنين، فطرد هؤلاء يومذاك يسبب فوضى في المجتمع الإسلامي ويشتّت كلمتهم ويفرّقهم، فلم يكن بد يوم ذاك من التعامل معهم معاملة المسلم، ولذلك جاء الوحي بنفي الإيمان عنهم، قال سبحانه: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ»((2))

ص: 32


1- . التوبة، آیة 54.
2- . المنافقون، آیة 1.

الفصل الثاني: ما يجب التصديق به

اشارة

ص: 33

ص: 34

إذا كان الإيمان بمعنى التصديق، فهو من الأُمور الإضافية القائمة بين المصدِّق والمصدَّق به، فالمصدِّق هو المؤمن، وأمّا المصدَّق به الذي يُناط به الإيمان وجوداً وعدماً، فهو كالتالي:

1. التوحيد في الذات

ويراد به توحيده سبحانه وتنزيهه عن المثل وعن التركيب، فالله سبحانه واحد لا مثيل ولا نظير له، موجود بسيط لا جزء ولا تركيب في ذاته، وسورة الإخلاص تتكفّل ببيان ذينك التوحيدين:

أمّا الأوّل فيبيّنه قوله تعالى: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ».

وأمّا الثاني - أي بسيط لا جزء له - فيكفي فيه قوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ».

2. التوحيد في الخالقية

ويراد به أنّه لا خالق في صحيفة الوجود على وجه الاستقلال إلاّ الله سبحانه، وقد تضافر التنصيص عليه في الذكر الحكيم، قال سبحانه: «قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»((1))

قلنا: إنّ الخالقية على وجه الاستقلال منحصرة بالله سبحانه، خرجت الخالقية على وجه التبعية وبإقدار من الله سبحانه كما هو الحال في خلق الإنسان ما بدا له من الصنائع، ويكفي في ذلك أنّه سبحانه ينسب خلق الطير إلى نبيّه المسيح علیه السلام ويقول: «وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ

ص: 35


1- . الرعد، آیة 16.

الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي»((1)).

3. التوحيد في الربوبية

بما أنّ الربّ بمعنى الصاحب، فيقال: ربّ الدار، وربّ البستان، أو ربّ الفرس، فيكون المراد به مَن يدبّر ويدير حاجات المربوب، فصاحب الدار يحمي الدار من الخراب، كما أنّ ربّ البستان يدبّر أمره بالسقي والحراسة ونحو ذلك، فعلى هذا فالله سبحانه هو خالق السماوات والأرض وما فيهما وهو المدبّر بعد الخلقة لا غيره. فإيجادها مظهر للخالقية، وتدبيرها عبر الزمان هو مظهر ربوبيته، ولذلك نرى أنّه سبحانه بعد ما يذكر خلق السماوات والأرض، يصف نفسه بالتدبير، قال: «اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لاَِجَل مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الاْيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ».((2))

إلى غير ذلك من الآيات التي تنصّ على حصر تدبير الكون بالله.

ثمّ إنّ مشركي عصر الرسالة كانوا موحّدين في الخالقية دون الربوبية فزعموا أنّ تدبير العالم والإنسان موكول إلى الآلهة المكذوبة من الملائكة والجن والأصنام والأوثان، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا»((3)«، وقوله تعالى: )وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ»((4)) فكانوا يرون العزّ في الحياة والنصرة في الحرب بيد الآلهة، وبذلك يُعلم أنّ ما ذهب إليه محمد بن عبد الوهاب من أنّ مشركي عصر الرسالة كانوا موحّدين في الربوبية والمدبّرية، أمر لا يصدقه الكتاب الكريم ولا التاريخ الذي يصف عادات الجاهلية.

ص: 36


1- . المائدة، آیة 110.
2- . الرعد، آیة 2.
3- . مريم، آیة 81.
4- . يس، آیة 74.

قال ابن هشام: حدّثني بعض أهل العلم أنّ عمرو بن لحيّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أُموره، فلمّا قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق - و هم ولد عِملاق. ويقال: عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح - رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا؛ فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنماً، فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدوه؟ فأعطوه صنماً يقال له: هبل، فقدم به مكّة، فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه.((1))

والذي يدلّ بوضوح على كونهم مشركين في الربوبية بمعنى التدبير أنّ مشركي قريش حملوا «العزى» معهم في خروجهم لغزوة أُحد، وكان شعارهم في تضعيف معنويات المسلمين قولهم:

نحن لنا العُزّى ولا عُزّى لكم

ولمّا سمع النبي صلی الله علیه و آله و سلم شعارهم هذا أمر المسلمين أن يردّوا عليهم بقولهم:

الله مولانا ولا مولى لكم

ثم كيف يمكن لباحث أن ينكر وجود الشرك في الربوبية بين الأُمم السابقة وهذا هو نبي الله إبراهيم الخليل علیه السلام كان يحتجّ على عبدة الأجرام السماوية ويركّز على لفظ الرب يقول سبحانه: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَيْلُ رَأى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ ! فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ! فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي»((2))، كلّ ذلك يكشف أنّ عبدة الأصنام في عصر إبراهيم علیه السلام كانوا مشركين في الربوبية ويرون أنّ تدبير العالم أو تدبير حياة الإنسان بيد الأجرام السماوية أو الأجسام الأرضية.

ص: 37


1- . ابن کثیر، السيرة النبوية، ج1، ص62.
2- . الأنعام، آیات 76- 77.

بل يظهر من قوله سبحانه: «اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ»((1)) أنّ دائرة الشرك في الربوبية أوسع، بل تشتمل ما إذا دفع الإنسان زمام التشريع والتقنين إلى يد الأحبار والرهبان، فهذا أيضاً شرك في الربوبية فالله سبحانه له الحقّ في التشريع وحده دون غيره.

روى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية: «اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا»((2)) حتى فرغ منها، فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه، ويحلّون ما أحلّ الله فتستحلّونه؟ قال: فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم.((3))

إنّ القرآن الكريم يركّز على التوحيد في الربوبية أكثر ممّا يركّز على التوحيد في الخالقية، فكأنّ الأمر الثاني كان مسلّماً بين مشركي عصر الرسالة، دون الأوّل; ولذلك ترى أنّه سبحانه يقيم عليه البرهان العقلي الذي يعرفه العقل الحصيف ويقول: )لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(((4))، ويقول في آية أُخرى: «وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ»((5)) فإنّ تقرير البرهان في هاتين الآيتين مبني على وحدة التدبير وتعدّده.

وإن شئت قلت:وحدة المدبّر وتعدّده. فلو لم يكن الشرك في التدبير متفشّياً في القوم لما ركّز القرآن الكريم على ذلك. وأمّا تقرير البرهان في كلتا الآيتين على وجه التفصيل فموكول إلى محلّه.

إنّ الله سبحانه يردّ على المشركين بأنّ عليهم ابتغاء الرزق من الله سبحانه ويقول: «إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا

ص: 38


1- . التوبة، آیة 30.
2- . التوبة، آیة31.
3- . الطبرسی، مجمع البيان، ج5، ص44.
4- . الأنبياء، آیة 22.
5- . المؤمنون، آیة 91.

عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»((1))، فلو لم يكن القوم معتقدين بأنّ الرزق بيد آلهتهم لما صحّ للوحي الإلهي أن يردّ عليهم بأنّ الرزق بيد الله.

كما أنّه سبحانه يردّ على المشركين بأنّ كاشف الضر أو مرسل الرحمة هو الله سبحانه ويقول: «قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَني اللهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَني بِرَحْمَة هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبي اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ».((2))

إلى غير ذلك من الآيات التي تردّ على المشركين بأنّ الهداية والضلالة ومغفرة الذنوب والرزق وكشف الضرّ كلّها بيد الله فهي أفضل دليل على تسرّب الشرك في هذه المواضيع بين الوثنيّين; ويؤيّد ذلك ما رواه الطبري في تفسير قوله تعالى: «وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ...» عن قتادة أنّه قال: «بعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم خالد بن الوليد إلى شعب بسقام، ليكسر العزى، فقال سادنها، وهو قيمها: يا خالد أنا أحذركها إنّ لها شدّة لا يقوم لها شيء، فمشى إليها خالد بالفأس فهشم أنفها».((3))

إلى غير ذلك من الدلائل التي تدلّ بوضوح على أنّ مشركي عصر الرسالة كانوا مشركين في الربوبية.

وممّا يجب التنبيه عليه: خطأ الوهابية في التعبير عن التوحيد في الخالقية، بالتوحيد في الربوبية، وبذلك خلطوا بين التوحيدين. وفسّروا «الرب» بغير معناه اللغوي.

4. التوحيد في العبادة

اشارة

العبادة عبارة عن الخضوع بالجوارح أمام من بيده مصير العابد في الحياة على جميع الأصعدة، اعتقاداً صحيحاً أو باطلاً، فقد بعث الأنبياء كلّهم لأجل نشر هذا الأصل وأنّه لا معبود إلاّ إيّاه، قال سبحانه: «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّة رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ»((4)).

ص: 39


1- . العنكبوت، آیة 17.
2- . الزمر، آیة 38.
3- . الطبری، جامع البیان، ج24، ص9.
4- . النحل، آیة 36.

وجه الحصر أنّه سبحانه هو المؤثّر الواحد في الكون خلقة وتدبيراً، فكان هو اللائق بالعبادة، وأمّا المنحرفون عن أصحاب رسالات السماء فبما أنّهم وزعوا أمر التدبير على آلهتهم المكذوبة، لا يرون حصر العبادة بالله سبحانه، بل كانوا يعبدون غيره لكي يتقرّبوا بعبادتهم إلى الله سبحانه.

إجابة عن سؤال

بقي هنا سؤال وهو أنّه لم يرد في سيرة النبيّ أخذ الاعتراف بهذه المراتب الأربع من التوحيد، وكان النبي صلی الله علیه و آله و سلم يقبل إيمان من يعترف بكلمتين: لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، حتّى أنّه صلی الله علیه و آله و سلم أمر عليّاً بقتال الخيبريّين إلى أن يعترفوا بهاتين الكلمتين; فقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنّه قال: ما أحببت الأمارة إلاّ يومئذ، قال: فتساورتُ لها رجاء أن أُدعى إليها، قال: فَدَعا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عليّ بن أبي طالب فأعطاه إيّاها، وقال: «إمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك» فسار (عليٌّ) شيئاً ثم وقف ولم يلتفت وصرخ: يا رسول الله على ماذا أُقاتل الناس؟ قال صلی الله علیه و آله و سلم : «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد مُنِعوا منك دماؤهم وأموالُهم إلاّ بحقّها وحسابهم على الله»((1))؟!

الجواب: لا شكّ أنّ السؤال جدير بالدراسة، فإنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم يعترف بإيمان مَن ينطق بالشهادتين، لكن الحقّ أنّ لفظ الإله - كما حقّق في محلّه - ليس بمعنى المعبود، بل هو ولفظ الجلالة سيّان في المعنى لكن الثاني علم والآخر اسم جنس، فإذا أطلق الإله كان يتبادر منه معنى إجمالي تفصيله كونه خالق السماوات والأرض ومدبّرهما وخالق الإنسان ومدبّره، فإذا قيل «لا إله إلاّ الله» تكون نتيجة نفي الأُلوهية عن غيره سبحانه وإثباتها لله هي كونه سبحانه متوحّداً في الخلق والربوبية وكون العبادة منحصرة به.

ص: 40


1- . النیشابوری، صحيح مسلم، ج7، ص17، باب فضائل عليّ علیه السلام

روى المفسّرون((1)) أنّ أشراف قريش وهم خمسة وعشرون، منهم: الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم، وأبو جهل، وأُبيّ وأُمية ابنا خلف، وعتيبة وشيبة ابنا ربيعة، والنضر بن الحارث، أتوا أبا طالب وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فإنّه سفّه أحلامنا، وشتم آلهتنا، فدعا أبو طالب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقال: يابن أخي، هؤلاء قومك يسألونك، فقال صلی الله علیه و آله و سلم : «ماذا يسألونني؟» قالوا: دعنا وآلهتنا ندعك وإلهك، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم؟» فقال أبو جهل: لله أبوك، نعطيك ذلك عشر أمثالها، فقال: «قولوا: لا إله إلاّ الله»، فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً. فنزل قوله تعالى: «أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ»((2)). فإنّ نفورهم من كلمة لا إله إلاّ الله يدلّ على علمهم بأنّ مَن ينطق بها يتجرّد عن كلّ ما يعتقد به من أنّ العزّة والانتصار والأمطار بيد الآلهة، وأنّه لا يُعبد إلاّ الله سبحانه، فلذلك كان الاعتراف بالكلمتين اعترافاً إجمالياً على ما ذكرنا من مراتب التوحيد.

5. رسالة النبي الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم

كان شعار الإسلام وشعار مَن يدخل تحت خيمته هو الاعتراف بتوحيده سبحانه ورسالة نبيّه محمد صلی الله علیه و آله و سلم ، وقد مرّ في رواية صحيح البخاري أنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم أمر عليّاً بالقتال إلى أن يعترفوا بأمرين ثانيهما رسالة النبي الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم .

ويشهد على ذلك - مضافاً إلى ما مرّ - قوله سبحانه حيث يصف المؤمنين بقوله: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»((3)) كيف لا يكون التصديق به جزءاً من الإيمان مع أنّ رسالات السماء قبل ظهور النبي صلی الله علیه و آله و سلم بشرّت بظهوره ونبوّته

ص: 41


1- . الطبری، مجمع البيان، ج8، ص342.
2- . ص، آیة 5.
3- . الأعراف، آیة 157.

وخصاله على نحو كان أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم قال تعالى: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»((1)).

6. إنّ القرآن وحيٌّ مُنزل

إنّ نواة النزاع بين رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ومشركي قريش كانت تتمثّل في كون القرآن وحياً منزلاً من الله على رسوله، فقد كانوا منكرين لذلك أشدّ الإنكار وينسبونه إلى السحر تارة، والكهانة أُخرى، أو أخذه من أهل الكتاب ثالثة.

وبهذا يتّضح أنّ الإقرار والإيمان بأنّ القرآن وحي من الله هو من صميم الإيمان، ويكفي في ذلك قوله سبحانه: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»((2)).

كيف لا يكون من صميم الإيمان والقرآن هو المعجزة الكبرى للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم والبرهان الخالد على رسالته عبر الزمان، إلى قيام القيامة، يقول سبحانه: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا».((3))

وبما أنّ الموضوع من الواضحات لا نطيل الكلام فيه.

7. الإيمان بالمعاد

اشارة

الإيمان بالمعاد وأنّه سبحانه يحيي الناس بعد مماتهم يوم القيامة ويحاسبهم ويجزيهم حسب أعمالهم من صميم الإيمان، ولذلك كثيراً ما يجمع القرآن الكريم الإيمان بهما معاً، ويقول: «مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ»((4)).

ص: 42


1- . البقرة، آیة 146.
2- . البقرة، آیة 285.
3- . الإسراء، آیة 88.
4- . البقرة، آیة 62.

هذه هي العناصر التي تحقّق الإيمان وتخرج الإنسان من دائرة الكفر، إلى فسحة الإيمان، وكلّ من حاز هذه الأُمور يحرم دمه وماله وعرضه وتحلّ ذبيحته وتحرم غيبته إلى غير ذلك من الحقوق التي تكفل ببيانها الكتاب العزيز والسنّة الشريفة.

ونحن نريد بالإيمان في هذا المقال هذا المعنى أي مَن يحرم دمه وماله، وتحلّ ذبيحته، وتحرم غيبته والافتراء عليه. وأمّا كونه محكوماً بالنجاة يوم القيامة فهو أمر آخر لأنّه مشروط بشروط خاصّة أهمها الإتيان بالفرائض والاجتناب عن المحرّمات، والاعتقاد بخلفاء الله سبحانه في أرضه، إلى غير ذلك ممّا هو مذكور في كتب العقائد.

حكم إنكار الضروريات

لا شكّ أنّ قسماً من الأحكام الشرعية يُعدّ من الضروريات كوجوب الصلاة والزكاة وحجّ بيت الله الحرام، إلى غير ذلك من الأحكام التي يعرفها كلّ مسلم على وجه الإجمال، فقد ذكر الفقهاء أنّ إنكار الحكم الضروري يُسبّب خروج الإنسان عن خيمة الإيمان والإسلام، لأنّ إنكار حكم الضروري يلازم إنكار رسالة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فهو بنفسه وإن لم يكن سبباً للخروج والارتداد، لكنّه بما أنّه يلازم إنكار رسالة النبي صلی الله علیه و آله و سلم يكون سبباً للكفر.

إنّما الكلام في ظرف الملازمة فهل الميزان هو وجود الملازمة بين الإنكارين في نظر المنكر، أو وجود الملازمة في نظر المسلمين؟

المحقّقون على الأوّل فلو كان المنكر يعيش بين المسلمين فترة طويلة ووقف على وضوح هذه الأحكام ومع ذلك أنكر واحداً منها عناداً ولجاجاً، فيحكم بكفره وخروجه، لأنّ مثل هذا الإنكار يلازم إنكار رسالة الرسول ونبوّته. وأمّا إذا لم تكن الملازمة إلاّ عند المسلمين لا عند المنكر، كما إذا كان جديد الإسلام أو نزيلاً في البوادي، فإنكار مثل هذا لا يسبب الكفر إذ ليس عنده تلك الملازمة.

ص: 43

قال المحقّق الأردبيلي: الظاهر أنّ المراد بالضروري الذي يكفّر منكره، هوالذي ثبت عنده يقيناً كونه من الدين.((1))

وقال الفاضل الاصفهاني في حدّه للمرتد: وكلّ مَن أنكر ضروريّاً من ضروريّات الدين مع علمه بأنّه من ضروريّاته.((2))

وقال الفاضل النراقي: وإنكار الضروري إنّما يوجبه ]الكفر[ لو وصل عند المنكر حدّ الضرورة.((3))

وقال صاحب الجواهر: فالحاصل أنّه متى كان الحكم المنكَر في حدّ ذاته ضرورياً من ضروريات الدين ثبت الكفر بإنكاره ممّن اطّلع على ضروريته عند أهل الدين.((4))

وقال السيد اليزدي: والمراد بالكافر مَن كان منكراً للأُلوهية... أو ضرورياً من ضروريات الدين مع الالتفات إلى كونه ضرورياً.((5))

ص: 44


1- . الاردبیلی، مجمع الفائدة والبرهان، ج3، ص199.
2- . الفاضل الهندی، كشف اللثام، ج1، ص402.
3- . النراقی، مستند الشيعة، ج1، ص207.
4- . النجفی، جواهر الكلام، ج6، ص49.
5- . الیزدی، العروة الوثقى، ج1، ص143-144.

الفصل الثالث: شروط التكفير وموانعه

اشارة

ص: 45

ص: 46

قد وقفت في الفصل الثاني على العناصر المقوّمة للإيمان وأنّها لا تتجاوز عن سبعة، فبقي الكلام في الأُمور التي تسبّب الارتداد والخروج عن خيمة الإسلام، فيقع الكلام تارة في التكفير المطلق، وأُخرى في تكفير الفرد المعيّن، وبين التكفيرين بون شاسع، كما سيظهر.

التكفير المطلق

وهو عبارة عن تكفير مَن ينكر أحد هذه الأُصول السبعة من دون أن يشير إلى تكفير فرد معيّن، كما يقول الفقهاء في كتبهم الفقهية: منكر التوحيد مرتد كافر، أو منكر الحكم الضروري كذلك، فهذا النوع من التكفير أمر سهل بالنسبة إلى التكفير المعين حيث لا يشير إلى ارتداد فرد خاص وإنّما يطرح حكماً كليّاً ناظراً لإنكار أحد من الأشخاص.

تكفير الفرد المعيّن

اشارة

ويراد به الإشارة إلى خروج فرد معيّن كزيد عن خيمة الإسلام وأنّه غير محقون الدم والمال إلى غير ذلك من الأحكام، فهذا النوع من التكفير من أصعب الأُمور وأشقّها، إذ لا يصار إليه إلاّ بعد اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع، فإنّ للتكفير شروطاً وموانعاً، فلو فقد أحد الشروط أو وجد أحد الموانع كان التكفير أمراً حراماً، وربّما يسبب كفر المكفّر كما سيوافيك. ولذلك يحرم التسرّع في التكفير من دون دراسة وجود الشروط وعدم الموانع، وإليك بيان الشروط والموانع.

ص: 47

الشرط الأوّل: إقامة الحجّة على المنكر

إنّه سبحانه عادل لا يحتجّ على الإنسان إلاّ بعد بيان تكليفه، يقول سبحانه: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»((1)) فإنّ بعث الرسول كناية عن قيام الحجّة على الإنسان سواء أكان ببعث الرسول أم بالنقل عنه، ولذلك اتّفق العلماء على أنّه «ليس لأحد أن يكفّر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجّة وتتبيّن له المحجّة، ومَن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشكّ، بل لا يزول إلاّ بعد إقامة الحجّة وإزالة الشبهة».((2))

ولذلك قلنا: إنّ منكر الضروري إذا كان جديد الإسلام أو من أهل البادية البعيدة لا يحكم عليه بالكفر; لأنّ المفروض أنّه لم تتمّ عليه الحجّة، لحداثة دخوله في الإسلام أو بُعد محلّه عن العلم والعلماء. روى النسائي أنّ رجلاً قال للنبي صلی الله علیه و آله و سلم : ما شاء الله وشئت. قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم : «أجعلتني نداً لله، فقل: ما شاء الله ثم شئت».((3))

الشرط الثاني: كونه قاصداً للمعنى المخرج

إذا كان تعبير الرجل ذا احتمالات ووجوه، فهي بين صحيح وباطل فلا يحكم عليه بالكفر بعبارة ذات وجوه. وسيوافيك أنّ القول بوحدة الوجود، ذو وجوه واحتمالات فلا يحكم على القائل الناطق به بالكفر إلاّ إذا أراد منه عينية الوجود الإمكاني مع وجود الواجب.

وبذلك يعلم أنّ كثيراً من العبارات المنقولة عن الصوفية التي لا تنسجم مع أُصول الإسلام المذكورة سابقاً، هي من شطحاتهم التي ينطقون بها في الأحوال غير العادية في مجالس الذكر التي يعقدونها في محافلهم; وأمّا إذا تجرّدوا عن هذه الحالة ورجعوا إلى حالتهم العادية فلا ينطقون بشيء من هذه العبارات.

ص: 48


1- . الإسراء، آیة 15.
2- . ابن تیمیة، مجموع الفتاوى، ج12، ص466.
3- . النسائی، السنن الصغرى، ج7، ص307.

ومَن نطق بمثل ذلك لا يحلّ تكفيره، إذ هو ليس قاصداً للمعنى الكفري في حالة يؤخذ فيها أقاريره.

إلى هنا تمّ ذكر ما هو الشرط للحكم بالخروج عن الإيمان وبقي هنا بيان بعض الموانع:

موانع التكفير

اشارة

إنّ للتكفير شروطاً وموانع نذكر منها ما يلي:

الأول: كونه مختاراً في البيان والعمل

إذا كان الإنسان مكرهاً على الكفر، كما هو الحال في قضية عمّار (رضي الله عنه)، فلا يحلّ تكفيره، قال سبحانه: «مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ»((1)). وقد روى المفسّرون أنّ الآية نزلت في جماعة أُكرهوا، وهم عمّار وياسر أبوه وأُمّه سميّة، وصهيب وبلال وخبّاب عذّبوا، وقتل أبو عمّار وأُمّه، فأعطاهم عمّار بلسانه ممّا أرادوا منه، ثم أُخبر بذلك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ، فقال قوم: كفر عمّار، فقال صلی الله علیه و آله و سلم : «كلاّ إنّ عمّاراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» وجاء عمّار إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو يبكي فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما وراءك». قال: شرٌّ يا رسول الله، ما تُركت حتى نِلتُ منك، وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت».((2))

الثاني: الإنكار عن شبهة خارجة عن الاختيار

ربّما يتّفق لبعض الناس إنكار حكم ضروري لشبهة طرأت على ذهنه بسبب مخالطته للكفّار ومجالسته للمنكرين، فنحن نعيش الآن في عصر تطوّر الاتّصالات، وفضائيات الأعداء تبثّ كلّ يوم وليلة عشرات الشُّبَه من على شاشات التلفزيون، ولم تزل وسائل الإعلام في الخارج والداخل تتولّى بذر الشُّبَه في الأُصول والمعارف، فالشاب غير العارف

ص: 49


1- . النحل، آیة 106.
2- . الطبرسی، مجمع البيان، ج6، ص203. وغيره من التفاسير.

بالمبادئ والبراهين ربّما يتأثّر بعض التأثّر ببعض هذه المقالات والخطابات فربّما ينطق بشيء ممّا يلقى إليه دون عناد وعداء، فإذا أُحضر إلى المحاكم فعلى الحاكم أن يزيل شبهته ويحيله إلى أُستاذ يعرف الداء والدواء حتى يزيل ما طرأ على ذهنه من جانب الأعداء.

نعم لو استمر على الإنكار بعد أن تقام عليه الحجّة فيحكم عليه بالكفر آنذاك.

الثالث: عدم احتمال التأويل

اشارة

ربّما يكون تعبير الإنسان عن موضوع ديني على وجه يقبل التأويل والحمل على الوجه الصحيح; مثلاً: إنّ القائل بوحدة الوجود والموجود (الذي يعبّر عمّا تبنّاه بقوله: الحمد لله الذي خلق الأشياء وهو عينها)، ربّما يقصد من عبارته هذه شدّة تعلّق الممكنات بالواجب لذاته، تعلّق المعنى الحرفي بالاسمي على نحو لو انقطعت الصلة بين الواجب والممكن لعمّ العدم صفحة الوجود الإمكاني، فكأنّه صار الوجود والموجود شيئاً واحداً لانغماس نور الممكنات في نور الواجب. وهذا النوع من الاحتمال في حق القائل يصدُّنا عن التسرّع في تكفيره.

ونظير ذلك لو قال فقيه بعدم جواز دفع الزكاة إلى المؤلّفة قلوبهم وإن ورد النصّ به، قال سبحانه: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ...»((1)) وعمل به النبي صلی الله علیه و آله و سلم ؛ وذلك لأنّ الآية وعَمَلَ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم كان في زمان ضعف الإسلام ووجود المسلمين والحاجة إلى تأليف قلوب هذه الطائفة، وأمّا الآن فقد قويّت شوكة الإسلام وظهرت قوّته فلا ملاك لتأليف القلوب.

وعلى ضوء ذلك فكلّ ما كانت المسألة قابلة للتأويل يمكن قبول قول المؤوّل، ثمّ هدايته إلى الحقّ المقبول.

نعم المسائل التي صارت من الوضوح كالشمس في رائعة النهار فالتأويل فيها باطل مرفوض يضرب به عرض الجدار، كما هو الحال في المسائل التالية:

ص: 50


1- . التوبة، آیة 60.
1. قتل مالك بن نويرة وتبريره بالتأويل

اتّفق المؤرّخون على أنّ خالد بن الوليد قتل مالك بن نويرة ثم نزى على امرأته، فلمّا انتشر الخبر في المدينة وأنّ الرجل ارتكب جريمة شنيعة يستحقّ عليها القتل، أصرّ عمر على أبي بكر على إجراء الحدّ، ووصفه بقوله: عدو الله عدى على امرئ مسلم فقتله ثم نزى على امرأته، ولما ورد خالد المدينة كلّمه عمر بقوله: قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنّك بأحجارك; ومع ذلك فقد اعتذر أبو بكر عن إجراء الحدّ، وقال: يا عمر تأوّل فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد فإنّي لا أشيم((1))

سيفاً سلّه الله على الكافرين.((2))

ولو صحّ تبرير هذه الجريمة بهذا النوع من التأويل لما استقرّ حجر على حجر، ولعمّت الفوضى المجتمع كلّه. فإنّ التأويل إنّما يقبل في مسائل ساد عليها الخفاء، وأمّا قتل الأنفس وهتك الأعراض وسلب الأموال، فهو في منأى عن التأويل.

2. قتل الهرمزان وإمساك الخليفة عن إجراء القصاص

لمّا قُتل عمر ولم يظفر عبيد الله بن عمر بقاتل أبيه، قتل الهرمزان وبنت أبي لؤلؤة الصغيرة، ولمّا أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عن القصاص، صعد المنبر وقال: قد كان من قضاء الله أنّ عبيد الله بن عمر أصاب الهرمزان وكان الهرمزان من المسلمين ولا وارث له إلاّ المسلمون عامّة وأنا إمامكم وقد عفوت أفتعفون؟ قالوا: نعم. فقال عليّ علیه السلام : «أقِدِ الفاسق فإنّه أتى عظيماً، قتل مسلماً بلا ذنب». وقال لعبيد الله: «يا فاسق لئن ظفرت بك يوماً لأقتلنّك بالهرمزان».((3))

وبهذا التأويل الباطل يبرّر عمل معاوية حيث رفض خلافة عليّ علیه السلام الذي بايعه المهاجرون والأنصار ولم يتخلّف عن بيعته إلاّ نفر يسير، ومع ذلك نرى أنّه جهّز جيشاً جراراً في وجه علي علیه السلام وقتل في معركة صفين حوالي 70 ألف مسلم من الطرفين، وفيهم

ص: 51


1- . أي لا أُغمد.
2- . الطبری، تاریخ الرسل و الملوک، ج3، ص279، حوادث السنة 11ه- .
3- . نفس المصدر، ج4، ص240، حوادث سنة 23ه- .

الصحابة العدول وقد شهد بعضهم بدراً وأُحداً. وهذا النوع من التأويل مرفوض في منطق الشريعة والعدل، ولو فتح هذا الباب بوجه المجرمين لاستحلّوا حرمات الله وهتكوها بذريعة التأويل.

ص: 52

الفصل الرابع: جذور التكفير في العصور الأُولى

اشارة

ص: 53

ص: 54

قد ظهرت بادرة التكفير في عصر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بصورة بسيطة، وقد واجهها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بشدّة، ونذكر فيما يلي بعض النماذج:

1. أُسامة بن زيد يقتل مسلماً

روى المفسّرون في أسباب نزول قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا»((1))؛ قيل: نزلت في أُسامة بن زيد وأصحابه، بعثهم النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم في سرية فلقوا رجلاً قد انحاز بغنم له إلى جبل، وكان قد أسلم، فقال لهم: السلام عليكم، لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، فبدر إليه أُسامة فقتله واستاقوا غنمه; عن السدّي.((2))

وروى السيوطي في تفسير الآية، قال: بعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سرية عليها أُسامة بن زيد إلى بني ضمرة، فلقوا رجلاً منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنم له وجمل أحمر، فلمّا رآهم آوى إلى كهف جبل واتّبعه أُسامة، فلمّا بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ثم أقبل إليهم، فقال: السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، فشدّ عليه أُسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته، وكان النبي صلی الله علیه و آله و سلم إذا بعث أُسامة أحب أن يُثنى عليه خير ويسأل عنه أصحابه، فلمّا رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدّثون النبي صلی الله علیه و آله و سلم ويقولون: يا رسول الله لو رأيت أُسامة ولقيه رجل فقال الرجل: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ، فشدّ عليه فقتله، وهو معرض عنهم، فلمّا أكثروا عليه رفع رأسه إلى أُسامة فقال:

ص: 55


1- . النساء، آیة 94.
2- . الطبرسی، مجمع البيان، ج3، ص163.

كيف أنت ولا إله إلاّ الله، فقال: يا رسول الله إنّما قالها متعوذاً تعوّذ بها. فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه...، فأنزل الله خبر هذا.((1))

وقد روى البغوي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال: إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم أذاناً فلا تقتلوا أحداً.((2))

2. الوليد بن عقبة وتكفير بني المصطلق

روى المفسّرون أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقونه فرحاً به، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية، فظن أنّهم همّوا بقتله، فرجع إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقال: إنّهم مَنَعُوا صدقاتهم، وكان الأمر بخلافه، فغضب النبي صلی الله علیه و آله و سلم وهمّ أن يغزوهم، فنزل قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»((3)).((4))

3. اعتراض ذي الخويصرة على النبي صلی الله علیه و آله و سلم

اشارة

روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حضرت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حين كلّمه التميمي يوم حنين حيث قال: يا محمد قد رأيتُ ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : أجل، فكيف رأيت؟ فقال: لم أرك عدلت، قال: فغضب النبي صلی الله علیه و آله و سلم ثم قال: «ويحك! إذا لم يكن العدل عندي، فعند من يكون!»، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ألا أقتله؟ فقال: «لا، دعه فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة».((5))

إلى هنا تمّ ما يشير إلى ظهور بادرة التكفير أو الاعتراض الملازم له في أوائل عصر الرسالة، وقد ظهرت في زمن الخلافة حوادث أُخرى نذكر منها ما يلي:

ص: 56


1- . السیوطی، الدر المنثور، ج2، ص635.
2- . بغوی، معالم التنزیل، ج1، ص467.
3- . الحجرات، آیة 6.
4- . الطبرسی، مجمع البيان، ج9، ص220.
5- . ابن هشام، السيرة النبوية، ج4، ص933.

1. تكفير مالك بن نويرة بتأويل باطل

وقد مرّ عليك تفصيل قصّته.

2. تكفير عائشة عثمان

أخرج البلاذري في «الأنساب» لمّا غضب عثمان على عمّار على النحو المذكور في التاريخ، وبلغ عائشة ما صنع بعمّار فغضبت وأخرجت شعراً من شعر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وثوباً من ثيابه ونعلاً من نعاله، ثم قالت: ما أسرع ما تركتم سنّة نبيّكم وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد! فغضب عثمان غضباً شديداً حتى ما درى ما يقول.((1))

وفي كتاب لأمير المؤمنين علیه السلام كتبه - لمّا قارب البصرة - إلى طلحة والزبير وعائشة وممّا جاء فيه خطاباً لها قوله: «وأنتِ يا عائشة خرجت من بيتك عاصية لله ولرسوله تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً... إلى أن قال: ثم إنّك طلبت على زعمك دم عثمان، وما أنت وذاك، عثمان رجل من بني أُمية وأنت من تيم، ثم بالأمس تقولين في ملأ من أصحاب رسول الله: اقتلوا نعثلاً قتله الله فقد كفر، ثم تطلبين اليوم بدمه، فاتقي الله وارجعي إلى بيتك واسبلي عليك سترك».((2))

نعم لم تكن الإدانة بالتكفير من خصائصها فقط، بل مَن اجتمع من الصحابة وغيرهم على قتله كانوا يكفّرونه، ومن أراد التفصيل فعليه الرجوع إلى المصادر التاريخية.

3. الخوارج والتكفير

إنّ الخوارج الذين ظهروا في عصر علي علیه السلام هم الذين كانوا يكفّرون عثمان بسبب أعماله الخارجة عن الكتاب والسنّة، ولمّا بويع عليّ بالخلافة التحقوا به علیه السلام كسائر المسلمين غير أنّهم خرجوا عليه في مسألة التحكيم.

وأمّا ما هي قضية التحكيم فتوضيحها:

ص: 57


1- . البلاذری، أنساب الأشراف، ج5، ص538.
2- . سبط بن جوزی، تذكرة الخواص، ص71.

إنّه لمّا ظهرت آثار انتصار جيش علي علیه السلام وكان مالك الأشتر قائد الجيش بمقربة من خيام معاوية، فلجأ معاوية بإشارة من عمرو بن العاص إلى مكيدة أثّرت في جيش عليّ. وأمّا ما هي المكيدة؟ فهي أنّهم ربطوا المصاحف على أطراف رماحهم وكان بينهم خمسمائة مصحف ونادوا: الله الله في نسائكم، وبناتكم، هذا كتاب الله بيننا وبينكم، إنّك أنت الحكيم الحقّ المبين. وعندئذ اختلف أصحاب علي في الرأي فطائفة قالت بالقتال، وطائفة مالت إلى المحاكمة إلى الكتاب وأنّه لا يحلّ لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب. وقد أثّرت تلك المكيدة في همم كثير من جيش عليّ ولم يقفوا على أنّها مؤامرة ابن النابغة وقد تعلّم منه ابن أبي سفيان، وإنّها كلمة حقّ يراد بها باطل وأنّ الغاية القصوى منها إيجاد الشقاق والنفاق في جيش عليّ علیه السلام ، فلمّا رأى علیه السلام تلك المكيدة وتأثيرها في السذّج من جيشه قام خطيباً وقال: «أيّها الناس أنا أحقّ مَن أجاب إلى كتاب الله ولكن هؤلاء ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن». وقد كان لخطاب علي أثر في قسم كبير من جيشه، ولكنّه فوجئ بمجيء زهاء عشرين ألفاً مقنّعين بالحديد شاكي سيوفهم وقد اسودّت جبهاهم من السجود ويتقدّمهم عصابة من القرّاء - الذين صاروا خوارج من بعد - فنادوه باسمه لا بأمرة المؤمنين وقالوا: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله، إذا دعيت وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان، فوالله لنفعلنّها إن لم تجبهم.

وبعد محادثات كثيرة بين علي وبينهم لم يجد الإمام بدّاً من قبول التحكيم، وصارت النتيجة أن بعث عليّ قرّاء أهل العراق وبعث معاوية قرّاء أهل الشام حتى ينظروا ويحكموا ويحيوا ما أحياه القرآن وأن يميتوا ما أماته القرآن.

ولمّا تمّت الاتّفاقية بين الطرفين جاء الذين حملوا عليّاً على الرضا بالتحكيم، زاعمين أنّ التحكيم على خلاف القرآن الكريم، حيث يقول سبحانه: «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ» فحاولوا أن يفرضوا على عليّ نقض الميثاق ورفض كتاب الصلح، وقالوا: إنّ التحكيم كان منّا زلة حين رضينا بالحكمين فرجعنا وتُبْنا، فارجع أنت يا عليّ كما رجعنا وتب إلى الله كما تبنا وإلاّ برأنا منك، فقال علي: «ويحكم، أبعد الرضا (والميثاق) والعهد نرجع؟ أو ليس الله

ص: 58

تعالى قال: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»((1))، وقال: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ»((2))» فأبى عليّ أن يرجع، وأبت الخوارج إلاّ تضليل التحكيم والطعن فيه، وبرئت من عليّ علیه السلام ، وبرئ منهم.((3))

وصار هذا مبدأ تكفيرهم عليّاً وأصحابه ودامت بينهم مشاجرات وانتهت إلى حرب دامية قضى عليّ علیه السلام على أكثرهم ولم يبق منهم إلاّ عدد يسير تفرّقوا في البلاد.

ص: 59


1- . المائدة، آیة 1.
2- . النحل، آیة 91.
3- . المنقری، وقعة صفين، ص514.

ص: 60

الفصل الخامس: إدانة تكفير أهل القبلة على لسان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم والعلماء

اشارة

ص: 61

ص: 62

إدانة تكفير أهل القبلة

لمّا كان التكفير من أخطر الأُمور على الإسلام في طريق تشويه صورته ظلماً وعدواناً، ومورثاً للفوضى ومعدماً للأمن الذي هو من أهمّ الحاجات الفطرية، وهادفاً إلى تمزيق الأُمّة الإسلامية وإضعاف المسلمين، ونابعاً عن طغيان العاطفة الكاذبة على العقل والاستدلال، صار نبي العظمة ومظهر الرحمة صلی الله علیه و آله و سلم يدين تكفير المسلم، وها نحن نذكر شيئاً ممّا رواه المحدّثون في المجامع الحديثية:

1. «بني الإسلام على خصال: شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله، والجهاد ماض منذ بعث رسله إلى آخر عصابة تكون من المسلمين... فلا تكفّروهم بذنب ولا تشهدوا عليهم بشرك».((1))

2. روى البخاري بسنده عن أبي ذر أنّه سمع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلاّ ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك».((2))

قال ابن دقيق العيد في شرح هذا الحديث:

وهذا وعيد عظيم لمن كفّر أحداً من المسلمين وليس هو كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها كثير من المتكلّمين ومن المنسوبين إلى السنّة وأهل الحديث لمّا اختلفوا في العقائد فغلطوا على مخالفيهم وحكموا بكفرهم .((3))

3. «إذا كفّر الرجل أخاه، فقد باء بها أحدهما».((4))

ص: 63


1- . المتقی الهندی، كنز العمال، ج1، ص29، رقم 30.
2- . البخاری، صحيح البخاري، برقم 6045.
3- . لاحظ: ابن دقیق العید، إحكام الأحكام، ج2، ص210.
4- . النیشابوری، صحيح مسلم، ج1، ص56، كتاب الإيمان، باب من قال لأخيه المسلم: يا كافر.

4. «أيّما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلاّ رجعت عليه».((1))

5. «ليس على العبد نذر فيما لا يملك، ولاعن المؤمن كقاتله، ومَن قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله».((2))

وقد ورد في هذا الصدد الكثير من الروايات عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) اكتفينا بهذا المقدار لأجل الاختصار، ومَن أراد المزيد فليرجع إلى المصادر الحديثية المذكورة وغيرها.

وقد اقتدى بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم الكثير من علماء الإسلام في كتبهم العقائدية وغيرها، فحذّروا عن تكفير أهل القبلة بأشدّ التحذير نذكر منهم ما يلي:

1. قال ابن حزم عندما تكلّم فيمن يُكفّر ولا يكفّر: وذهبت طائفة إلى أنّه لا يُكفّر ولا يفسَّق مسلم بقول قال في اعتقاد، أو فتيا، وإنّ كلّ من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنّه الحق فإنّه مأجور على كلّ حال إن أصاب فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد.

ثم قال: وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي، وهو قول كلّ من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة(رضي الله عنهم) لا نعلم منه خلافاً في ذلك أصلاً.((3))

2. كان أحمد بن زاهر السرخسي الأشعريّ يقول: لمّا حضرت الشيخ أبا الحسن الأشعريّ الوفاة بداري في بغداد أمرني بجمع أصحابه فجمعتهم له، فقال: اشهدوا على أنّني لا أُكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب، لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمّهم.((4))

ص: 64


1- . نفس المصدر، ج1، ص57، كتاب الإيمان، باب من قال لأخيه المسلم: يا كافر؛ احمد بن حنبل، مسند، ج2، ص18و 60 و112.
2- . الترمذي، سنن، ج4، ص132، كتاب الإيمان.
3- . ابن حزم، الفصل، ج3، ص247.
4- . الشعرانی، اليواقيت والجواهر، ص31.

3. قال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي: إنّ الإقدام على تكفير المؤمنين عسر جدّاً، وكلّ من كان في قلبه إيمان، يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع مع قولهم لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، فإنّ التكفير أمر هائل عظيم الخطر (إلى آخر كلامه وقد أطال في تعظيم التكفير وتعظيم خطره).((1))

4. قال القاضي الإيجي: جمهور المتكلّمين والفقهاء على أنّه لا يكفّر أحد من أهل القبلة. واستدلّ على مختاره بقوله: إنّ المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون الله تعالى عالماً بعلم أو موجداً لفعل العبد، أو غير متحيّز ولا في جهة ونحوها لم يبحث النبي عن اعتقاد من حكم بإسلامه فيها ولا الصحابة ولا التابعون، فعلم أنّ الخطأ فيها ليس قادحاً في حقيقة الإسلام.((2))

5. قال التفتازاني: إنّ مخالف الحقّ من أهل القبلة ليس بكافر ما لم يخالف ما هو من ضروريات الدين كحدوث العالم وحشر الأجساد، واستدلّ بقوله: إنّ النبي ومن بعده لم يكونوا يفتشون عن العقائد وينبهون على ما هو الحق.((3))

6. قال ابن عابدين: نعم يقع في كلام أهل المذهب تكفير كثير، لكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون، بل من غيرهم ولا عبرة بغير الفقهاء، والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا.((4))

ص: 65


1- . نفس المصدر، ص399.
2- . الإیجي، المواقف، ج3، ص560.
3- . التفتازانی، شرح المقاصد، ج5، ص227- 228.
4- . ابن عابدین، رد المختار، ج4، ص237.

ص: 66

الفصل السادس: الذرائع الباطلة لتكفير المسلمين

اشارة

ص: 67

ص: 68

إنّ ظاهرة التكفير لا تستهدف طائفة دون أُخرى، بل هي تشمل كافّة المسلمين بعامّة طوائفهم من شيعة وسنّة، من أشعري ومعتزلي، إلى غير ذلك من الفرق الإسلامية.

نعم لهم ذرائع خاصّة لتكفير الشيعة فلذلك يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: تبيين الأسباب التي يكفّرون بها عامّة المسلمين.

الثاني: الذرائع الوهمية لتكفير الشيعة خاصّة.

ونخصّ هذا الفصل بالأوّل.

الذرائع التي يكفّر بها عامّة المسلمين

إنّ الاُمور التي يكفّرون بها المسلمين قاطبة فهي عبارة عن المسائل التالية:

***

الأُولى: الاعتقاد بقدرة غيبيّة في الأنبياء والأولياء وأنّهم يسمعون كلام المتوسّل.

وبما أنّ الاعتقاد بسماع كلام المتوسّل يلازم وجود قدرة غيبيّة في الأولياء، رتبوا على ذلك حرمة الأُمور التالية وأنّها من مظاهر الشرك:

أ. طلب الشفاعة من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كقولنا: اشفع لنا عند الله.

ب. التوسّل بهم في قضاء الحاجات.

ج. الاستغاثة بهم في الشدائد والمصائب.

فالجميع من مظاهر الشرك لأنّها مبنيّة على أنّ الموتى يسمعون كلام الأحياء وأنّ الصلة موجودة بينهما، وهي تلازم الاعتقاد بوجود قدرة غيبية في النبي وغيره.

ص: 69

الثانية: الصلاة عند قبور الأنبياء والأولياء.

الثالثة: حفظ آثار الأنبياء والسلف الصالح من قبورهم وبيوتهم وما يمت إليهم بصلة.

الرابعة: النذر للنبي والإمام.

الخامسة: التبرّك بآثار الأنبياء.

هذه هي أُمّهات المسائل التي جُعلت ذريعة لتكفير المسلمين، وهناك مسائل جزئية أُخرى يُعلم حالها ممّا سندرسه حول هذه المسائل.

وبما أنّا أشبعنا الكلام حول هذه الذرائع في غير واحد من مؤلّفاتنا، وكانت الإحالة لا تخلو من مشقّة على القرّاء، ندرس هذه المسائل على وجه الإجمال، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المصادر التي سنشير إليها في ختام البحث.

المسألة الأُولى: الاعتقاد بقدرة غيبية في الأولياء وطلب الشفاعة والاستغاثة والتوسّل به

اشارة

اتّفق المسلمون على أنّ نبي الإسلام صلی الله علیه و آله و سلم وغيره من الأنبياء يشفعون في حقّ المذنبين يوم القيامة، وهذا لا كلام فيه بيننا وبين الوهابيّين، إلاّ أنّهم يحرّمون الاستشفاع بأولياء الله في الدنيا، وربّما يعدّونه شركاً، ولهم في ذلك دلائل واهية أهمها أنّ طلب الشفاعة من نبي أو إمام يرقد تحت التراب أو يعيش في بلدة أُخرى ومكان آخر، أو كان غائباً عن الأبصار، هو شرك بالله تعالى; لأنّ الطالب يعتقد بأنّ ذلك النبي أو الإمام يستطيع أن يُهيّئ الماء، خارج القوانين والأسباب الطبيعية، أي بالقدرة الغيبية، وهذا اعتقاد بإلوهيّة ذلك المدعو: النبي أو الإمام.

وقد صرّح بهذا الرأي الكاتب الهندي «أبو الأعلى المودودي» حيث قال: إنّ التصوّر الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرّع إليه - هو لا جرم - تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة.((1))

ص: 70


1- . المودودی، المصطلحات الأربعة، ص18.

الجواب أوّلاً: أنّ الشيخ المودودي لم يفرّق بين القدرة الغيبية المستقلة القائمة بنفس القادر، وبين القدرة التي يكتسبها الإنسان في ظل الطاعة ويستخدمها بإذن من الله تعالى.

فالقدرة الغيبية بالمعنى الأوّل تختصّ بالله سبحانه، وأمّا بالمعنى الثاني فالاعتقاد بها ليس بالشرك بل هو نفس التوحيد، لأنّه سبحانه قادر على كلّ شيء، فأي مانع أن يمنح قدرة غيبية لنبيّه إعجازاً أو كرامة أو لغاية أُخرى، بأن يغيث المستغيث في أرض جرداء.

وما ذكرنا هو الأساس في كثير من المسائل التي يتخبّط فيها الوهابيّون فهم لا يفرّقون بين المستقل والمأذون.

وما ذكره في ثنايا كلامه من أنّه لو طلب الإنسان العطشان في الصحراء ماءً من خادمه، فإنّ طلبه هذا ليس طلباً لخرق القوانين الطبيعية فهو جائز وليس شركاً، فلابدّ فيه من القول بالتفصيل المذكور.

فلو اعتقد الرجل العطشان بأنّ الخادم يقوم بسقيه بقدرة مستقلة قائمة بنفسه فهو شرك قطعاً، وأمّا لو اعتقد بأنّه يقوم بهذا العمل بإذن من الله سبحانه وإقدار منه فهو نفس التوحيد.

وبما ذكرنا ظهر أنّ الفارق بين التوحيد والشرك هو كون الفاعل مستقلاً في عمله أو كونه مأذوناً من غير فرق بين الأُمور العادية والغيبية.

وثانياً: أنّ الذكر الحكيم ينسب أُموراً غيبية نابعة عن قدرة فوق الطبيعية لأُناس، نظير:

1. القدرة الغيبية للنبي يوسف علیه السلام

قال يوسف لإخوته )اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا(((1))، )فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا(((2)).

إنّ ظاهر الآيتين يدلّ على أنّ النبيّ يعقوب علیه السلام استعاد بصره الكامل بالقدرة الغيبية التي استخدمها يوسف علیه السلام من أجل ذلك، ومن الواضح أنّ استعادة يعقوب بصره لم تكن من

ص: 71


1- . يوسف، آیة91.
2- . يوسف، آیة 95.

الله بصورة مستقلّة مجردة عن الاستعاثة به سبحانه، بل تحققّت بإذنه سبحانه، بواسطة النبيّ يوسف علیه السلام .

إنّ إرادة النبيّ يوسف علیه السلام كانت هي السبب في عودة بصر أبيه كاملاً، ولولا ذلك لما أمر إخوانه بأن يذهبوا بقميصه ويلقوه على وجه أبيه، بل كان يكفي أن يدعو الله تعالى لأن يعيد بصره.

إنّ هذا التصرّف الغيبيّ صدر من أحد أولياء الله - يوسف - من غير المجرى الطبيعي لكن بإذنه سبحانه، ولا يقدر على هذا التصرّف إلاّ من منحه الله السلطة الغيبية. ولم يقم بهذا العمل إعجازاً وإثباتاً لنبوته بل تفضّلاً منه لأبيه وتكريماً له.

2. القدرة الغيبية للنبي سليمان علیه السلام

إنّ نبي الله سليمان علیه السلام كان يتمتّع بقدرات غيبية متعدّدة، وقد عبّر عن تلك المواهب والمنح الإلهية العظيمة بقوله: )وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْء(((1)) وقد جاء تفصيل الحديث عن تلك المواهب والقدرات الإلهية الممنوحة له في السور التالية:

سورة النمل من الآية 16 إلى الآية 44.

سورة سبأ، الآية 12.

سورة الأنبياء، الآية 81.

سورة ص من الآية 36 إلى 40.

ونحن لا نشير إلى جميع القدرات الغيبية التي منحت له كرامة لا إعجازاً، بل نشير إلى مورد واحد، ليُعلم أنّ الاعتماد على تلك القدرة لا ينافي التوحيد.

يحدّثنا القرآن الكريم أنّ النبي سليمان علیه السلام طلب من الحاضرين عنده أن يحضر أحدهم عرش بلقيس، بقدرة غيبية وخارقة للطبيعة، فسألهم بقوله: )أَيُّكُمْ يَأْتِيني بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُوني مُسْلِمِينَ(((2))؟ وعندئذ أُجيب بجوابين: أحدهما ما اقترحه عفريت من الجن، والآخر ما أشار

ص: 72


1- . النمل، آیة 16.
2- . النمل، آیة 38.

إليه مَن عنده علم من الكتاب.

أمّا الأوّل فأجاب: )أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ(((1)).

فأخبر أنّه يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين قبل أن ينفضّ مجلس سليمان، ومعنى ذلك أنّه يأتي به ضمن ساعة أو ساعتين.

وأمّا الثاني فأجاب بقوله: )أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ(، ولم يرتدّ طرف سليمان علیه السلام إلاّ وقد رأى حضور العرش لديه كما يقول: )فَلَمَّا رَاَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي(((2))، فلو صحّ ما ذكره المودودي من أنّ طلب الأعمال الخارقة التي لا يقوم بها إلاّ الله شرك، لزم -نعوذ بالله- القول بشرك سليمان علیه السلام ، والله سبحانه يقول: )وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا(((3)) ونحن نقتصر في نقد هذا القول بهذا المقدار، وإلاّ ففي القرآن الكريم والسنّة النبوية شواهد كثيرة على وجود القدرة الغيبية التي يتمتّع بها المرتاضون تارة - ومَن كرس نفسه لطاعة الله سبحانه أُخرى.

وبذلك يُعلم أنّ الاستغاثة بالأنبياء والتوسّل بهم وطلب الحاجات منهم، مع كونهم راحلين إلى لقاء الله ليس شركاً; لأنّهم يطلبون منهم حاجاتهم زاعمين بأنّ الله سبحانه منحهم تلك القدرة. وهذا النوع من الاعتقاد لا يخلو من صورتين:

1. أن يكونوا صادقين في اعتقادهم، فعندئذ يتمّ المطلوب.

2. أن يكونوا خاطئين فيكون الطلب خطأ لا شركاً.

التوسّل بالأنبياء والأولياء بالصور الثلاثة

ومن فروع هذه المسألة، مسألة التوسّل بالأنبياء والأولياء، فالوهابيّون يرون أنّ التوسّل على أقسام ستة: ثلاثة منها جائزة بلا إشكال، والثلاثة الأخيرة إمّا محرمة أو موجبة للشرك.

ص: 73


1- . النمل، آیة 39.
2- . النمل، آیات 38-40.
3- . البقرة، آیة 102.

أمّا الثلاثة الأُولى: فالتوسّل بأسماء الله أوّلاً، أو التوسّل بالأعمال الصالحة التي قام بها المتوسّل طول عمره، أو التوسّل بدعاء المؤمن الحي.

وأمّا الثلاثة الممنوعة:

1. التوسّل بدعاء الميّت من غير فرق بين النبي وغيره.

2. التوسّل بمنزلة النبي وجاهه عند الله.

3. التوسّل بذات النبي ونفسه المقدّسة.

وبما أنّهم يمنعون الأخير أشد المنع فنحن ندرسه حتى يتبيّن به حكم الأوّلين.

روى الحاكم في مستدركه عن عثمان بن حنيف أنّه قال: إنّ رجلاً ضريراً أتى إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقال: ادعُ الله أن يُعافيني. فقال صلی الله علیه و آله و سلم : «إن شئت دعوت، وإن شئت صَبَرت وهو خير؟».

قال: فادعه، فأمره صلی الله علیه و آله و سلم أن يتوضّأ ويحسن وضوءه ويصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء:«اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتقضى، اللّهمّ شفّعه فيّ».

قال ابن حنيف: فوالله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضرٌّ.((1))

كلام حول سند الحديث

لا شكّ أنّ الحديث صحيح بلا كلام لم يخدش أحد في سنده، كيف وقد رواه الحاكم في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، كما أقرّ الذهبي بصحّته في تلخيصه للمستدرك المطبوع في هامشه، مضافاً إلى أنّ كثيراً من الأعلام قد رووا هذا الحديث، منهم:

1. ابن ماجة في سننه برقم 1385 وقال: هذا حديث صحيح.

ص: 74


1- . ابن ماجة، سنن، ج1، ص441، برقم 1385؛ احمد بن حنبل، مسند، ج4، ص138، عن مسند عثمان بن حنيف؛ الحاکم، المستدرك، ج1، ص313؛ السیوطی، الجامع الصغير، ص227.

2. أحمد في مسنده:4/138.

3. السيوطي في الجامع الصغير:227، إلى غير ذلك من الاعلام.

أمّا دلالته على جواز التوسّل بنفس النبي صلی الله علیه و آله و سلم العزيزة المكرمة فمن جهات نشير إليها:

قوله صلی الله علیه و آله و سلم : «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك»، فقد توسّل بذات النبي صلی الله علیه و آله و سلم مرّتين; لأنّ قوله: «بنبيّك» متعلّق بفعلين أي:

1. «أسألك بنبيّك».

2. «أتوجّه إليك بنبيّك».

3. «محمد».

4. «نبيّ الرحمة».

5. «يا محمد».

6. «أتوجّه بك إلى ربّي».

وأنت إذا قدّمت هذا الحديث إلى مَن يحسن اللغة العربية ويتمتّع بصفاء فكر بعيد عن مجادلات الوهابيّين وشبهاتهم ثم سألته: بماذا أمر النبي صلی الله علیه و آله و سلم ذلك الأعمى عندما علّمه ذلك الدعاء؟ لأجابك أنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم علّمه دعاءً تضمّن التوسّل إلى الله بنبيّه: نبيّ الرحمة الذي اسمه محمد، فجعل ذاته المقدّسة ذريعة ووسيلة لقبول دعائه.

ثمّ إنّ الوهابيّين لما وقفوا أمام هذا الحديث الذي يهدم ما اختلقوا من الأوهام، التجأوا إلى تأويل الحديث وهو تقدير «الدعاء» في المواضع الستة. وعلى هذا يكون معنى الحديث حسب زعمهم:

1. أسألك بدعاء نبيّك.

2. أتوجّه إليك بدعاء نبيّك.

3. بدعاء محمد.

4. بدعاء نبيّ الرحمة.

5. بدعاء محمد.

6. أتوجّه بدعائك إلى ربّي.

ص: 75

وإنّا نسأل مشايخ الوهابيّين: هل يجوز لنا أن نتصرّف بالحديث بهذا الشكل من التصرّف الذي يردّه كلّ عارف باللغة العربية أو كلّ عارف بالأحاديث الإسلامية.

وهؤلاء مكان أن يدرسوا القرآن والحديث ثم يعكسوا عقائدهم عليهما، عكسوا الأمر فحاولوا تطبيق القرآن والحديث على عقائدهم.

توسّل عمر بن الخطاب بعمّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم

وأحب أن أذكر هنا نكتة يظهر منها بطلان ما يذكره كثير منهم، وهي: ما رواه البخاري في صحيحه، قال: إنّ عمر بن الخطاب كان إذا قُحِطُوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللّهمّ ] إنّا[ كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا، قال: فيُسقون.((1))

لا شكّ أنّ هذا الحديث من أوضح الدلائل على جواز التوسّل بالذات حيث قدّم الخليفة عمّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)وسيلة وذريعة بينه وبين الله، حتى روى غير واحد كيفية توسّل عمر بالعباس وأنّه قال:«اللّهمّ إنّا نستسقيك بعمّ نبيّك ونستشفع إليك بشيبته» فسقوا.

وفي ذلك يقول: العباس بن عتبة بن أبي لهب:

بعمّي سقى الله الحجاز وأهله *** عشية يستسقي بشيبته عمر((2))

ثمّ إنّ الوهابيين مكان أن يأخذوا الحديث مقياساً لتصحيح التوسّل بدأوا النقاش وقالوا: لو كان التوسل بالذات أمراً جائزاً لما عدل عمر بن الخطاب عن التوسّل بالنبي إلى التوسّل بالعباس، ولما ترك الأفضل بالرجوع إلى الفاضل.

وقد غاب عنهم أمران:

1. أنّ الخليفة ما اختار العباس بن عبد المطلب مع وجود الأفضل منه بين صحابة النبي صلی الله علیه و آله و سلم كعثمان وغيره، إلاّ لأنّ العباس كان من أرحام النبي صلی الله علیه و آله و سلم فكان التوسّل به في

ص: 76


1- . البخاری، صحيح البخاري، ج2، ص27، باب صلاة الاستسقاء.
2- . السمهودي، وفاء الوفا، ج4، ص196.

الواقع توسّلاً بنفس النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، ولذلك يقول: «وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا» ولولا ذلك لما اختار العباس في مقام التوسّل مع وجود الأفضل منه.

2. إنّما اختار العباس دون النبي فلأجل أنّ العباس كان يشاركهم في المصير وفي السعة والضيق دون النبي صلی الله علیه و آله و سلم الذي انتقل إلى جوار ربّه، فوسط بينه وبين الله إنساناً طاهراً مشاركاً لهم في الضرّاء والسرّاء، ولذلك عدل عن التوسّل بالنبي مباشرة إلى عمّه المتواجد بينهم.

ويؤيّد ذلك أنّ المسلمين أُمروا في صلاة الاستسقاء بصحبة الشيوخ والأطفال إلى الصحراء، معربين بعملهم هذا أنّ المستسقين وإن لم يكونوا أهلاً للسقي ولكن هؤلاء الأبرياء أهل لأن تشملهم رحمة الله تعالى.

قال الإمام الشافعي: وأُحبّ أن يخرج الصبيان ويتنظّفوا للاستسقاء وكبار النساء ومن لا هيبة منهن ولا أُحب خروج ذات الهيبة.((1))

شبهة كون النبيّ ميّتاً

يقولون: انّ أنبياء الله والنبي الخاتم ميّتون والميّت لا يقدر على شيء، فلو صحّ ما ذُكر من الاعتقاد بالقدرة الغيبية أو جواز التوسّل فإنّما يصحّ إذا كان المتوسّل به حيّاً لا ميتاً؟!

وهذا من أغرب الشبه وأتفهها، وذلك للأسباب التالية:

1. إذ لو كان ميّتاً فما معنى قول المسلمين جميعاً في صلاتهم: «السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته».

2. ولو كان ميّتاً فما معنى قوله صلی الله علیه و آله و سلم : «إنّ لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أُمّتي السلام».((2))

ص: 77


1- . الشافعی، كتاب الأُمّ، ج1، ص284.
2- . ابن أبي شیبه، المصنّف، ج2، ص399، باب ثواب الصلاة على النبي صلی الله علیه و آله و سلم .

3. لو كان ميّتاً فما معنى كون النبي من شهداء الأعمال يوم القيامة، فهل يمكن أن يكون الميّت شاهداً على الأعمال وقد قال سبحانه: )فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا(((1)) .

4. أفيمكن أن يكون الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون ولكن نبي الشهداء غير حيّ لا يدرك شيئاً ولا يعرف؟!

ثمّ إنّ المراد من كون النبيّ حيّاً هو الحياة البرزخية، فالنبيّ انتقل بموته من حياة إلى حياة أُخرى.

إلى هنا تبيّن حال طلب الشفاعة والاستغاثة والتوسّل بالنبي والأولياء والأُمور التي زعموا أنّها شرك لاستلزامها الاعتقاد بوجود قدرة غيبية فيهم، وإليك الكلام في سائر المسائل الّتي يكفّرون بها عامة المسلمين.

المسألة الثانية: الصلاة عند قبور الأنبياء والأولياء

اشارة

إنّ الصلاة عند قبور الأولياء ليس إلاّ لأجل التبرّك بالمكان الذي دفنت فيه تلك الذوات الطاهرة المقدّسة أو مسّت أجسادهم الطاهرة وبذلك صارت مباركة، وهذا هو أحد الأُمور الواضحة في الشريعة المقدّسة، بشرط أن يتجرّد الإنسان عمّا اتّخذ هؤلاء من الضوابط والقواعد للتوحيد والشرك، وإليك بعض ما ورد:

1. الصلاة في مقام إبراهيم(عليه السلام)

أمر سبحانه المسلمين بالصلاة في المقام الذي قام به النبي إبراهيم(عليه السلام) وقال: )وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى(((2)) فما هو الوجه في أمر المسلمين بالصلاة في موضع إبراهيم؟ ما هذا إلاّ للتبرّك به، فقد مسّ جسده الطاهر هذا المقام وصار مباركاً عبر القرون إلى يوم القيامة.

ص: 78


1- . النساء، آیة 41.
2- . البقرة، آیة 125.

2. إقامة الصلاة على قبور أصحاب الكهف

اشارة

إنّ أصحاب الكهف بعد أن انكشف خبرهم اختلف الناس في كيفية احترامهم وتكريمهم وانقسموا إلى صنفين:

1. صنف قالوا: )ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ(.((1))

وهذا التعبير أي )رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ( يكشف عن أنّ القائلين به لم يكونوا من الموحّدين، حيث حقّروا أُمورهم بقولهم: )ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ(: أي ربنا أعلم بأحوالهم من خير وشرّ وصلاح وفساد.

2. صنف آخر دعوا إلى بناء مسجد على الكهف كي يكون مركزاً لعبادة الله بجوار قبور الذين رفضوا عبادة غير الله وخرجوا من ديارهم، هاربين من الكفر ولاجئين إلى توحيد الله وطاعته، وقد حكى عنهم الذكر الحكيم بقوله: )قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا( فالضمير في قوله سبحانه: )غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ( يرجع إلى أصحاب الكهف، أي وقفوا على مكانتهم وكشفوا الستر عن حقيقة أمرهم، فقالوا: )لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا( وقد اتّفق أعاظم المفسّرين على أنّ القائلين بذلك هم الموحّدون، قال الطبري: فقال المشركون: نبني عليهم بنياناً فإنّهم أبناء آبائنا، وقال المسلمون: بل نحن أحقّ بهم هم منّا نبني عليهم مسجداً نصلّي فيه ونعبد الله فيه.((2))

وقال الرازي: وقال آخرون: بل الأولى أن يبنى على باب الكهف مسجد، وهذا القول يدلّ على أنّ أُولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة.((3))

وقال الزمخشري: )قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ( من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم )لَنَتَّخِذَنَّ( على باب الكهف )مَسْجِدًا( يصلّي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم.((4))

ص: 79


1- . الكهف، آیة 21.
2- . الطبری، جامع البیان، ج15، ص149.
3- . الرازي، مفاتیح الغیب، ج21، ص105.
4- . الزمخشری، الکشّاف، ج2، ص711.

وقال النيسابوري: )الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ( المسلمون وملكهم المسلم؛ لأنّهم بنوا عليهم مسجداً يصلّي فيه المسلمون، ويتبرّكون بمكانهم، وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم حفظاً لتربتهم بها، وضنّاً بها.((1))

إلى غير ذلك من الكلمات في تفاسير الأعاظم، والّتي يتراءى منها أنّ بناء المسجد كان على باب الكهف أو عند الكهف، على خلاف ظاهر الآية، فإنّ ظاهرها يدلّ على أنّ المقترح هو بناء المسجد على قبورهم.

كيفية الاستدلال

الاستدلال بالآية ليس مبنيّاً على استصحاب حكم شرع مَن قبلنا، بل مبني على أمر آخر وهو أنّا نرى أنّ القرآن الكريم يذكر اقتراح الطائفتين بلا نقد ولا ردّ، ومن البعيد جدّاً أن يذكر الله تعالى كلاماً للمشركين ويمرّ عليه بلا نقد إجمالي ولا تفصيلي، أو يذكر اقتراحاً للموحّدين وكان أمراً محرّماً في شرعنا من دون إيعاز إلى ردّه.

إنّ هذا النوع من النقل تقرير من القرآن على صحّة اقتراح أُولئك المؤمنين، ويدلّ على أنّ سيرة المؤمنين الموحّدين في العالم كلّه كانت جارية على هذا الأمر، وكان يُعتبر عندهم نوعاً من الاحترام لصاحب القبر وتبرّكاً به.

دليل المخالف

تمسّك الوهابيون على حرمة الصلاة عند قبور الأولياء بالروايات التالية:

روى البخاري: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجداً». قالت عائشة: لولا ذلك لابرزوا قبره، غير أنّي أخشى أن يتّخذ مسجداً.((2))

وروى مسلم عنه صلی الله علیه و آله و سلم : «ألا ومن كان قبلكم كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد، إنّي أنهاكم عن ذلك».((3))

ص: 80


1- . النیشابوری، غرائب القرآن، ج4، ص411.
2- . البخاري، صحيح البخاري، ج2، ص88، كتاب الجنائز.
3- . النیشابوری، صحيح مسلم، ج2، ص68، كتاب المساجد.

وروى أيضاً أنّ أُمّ حبيبة وأُمّ سلمة ذكرتا كنيسة رأينها في الحبشة، فيها تصاوير لرسول الله. فقال رسول الله: إنّ أُولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجداً وصوّروا فيه تلك الصور، أُولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.((1))

أقول: إنّ مضمون الحديثين الأوّلين مهما صحّ سندهما لا يخلو من شذوذ، إذ من المعلوم من حياة اليهود أنّهم كانوا يقتلون أنبياءهم عبر القرون، كما يحكي ذلك قوله سبحانه: )سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ(((2))، وقوله تعالى: )قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(((3)) إنّ تأكيد القرآن على عملهم الفظيع يدلّ على أنّ قتل الأنبياء كان عندهم سيرة مستمرة تتحقّق في زمن بعد زمن، فالقوم الذين هذا شأنهم وتكريمهم لأنبيائهم هل يتّخذون قبور أوليائهم وصالحيهم، مساجد يصلّون في جوارهم.

أضف إلى ذلك: ما في الرواية الثالثة من أنّ المرأتين ذكرتا كنيسة رأينها في الحبشة فيها تصاوير لرسول الله، ومعنى ذلك: أنّ صيت رسالة الرسول في أوائل البعثة وصل إلى الحبشة وصوّروا تصوير رسول الله في كنيستهم. والظاهر أيضاً من لفظة رسول الله النبي الخاتم لا المسيح.

نعم رواه النسائي والبيهقي والعيني مجرداً عن عبارة (رسول الله).

وعلى كلّ تقدير فالاستدلال بما ذكر من الروايات على موضوع اشتهر خلافه بين المسلمين أمر بعيد.

إيضاح مفاد الروايات

هذا وعلى فرض الصحّة يجب التحقيق والتأمّل فيما تهدف إليه تلك النصوص.

أقول: إنّ هنا قرائن تشهد على أنّ اليهود والنصارى كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم قبلة لهم تصرفهم عن التوجّه إلى القبلة الواجبة، بل ربّما يعبدون أنبيائهم بجوار قبورهم بدل

ص: 81


1- . نفس المصدر، ص66، كتاب المساجد.
2- . آل عمران، آیة 181.
3- . آل عمران، آیة 183.

أن يعبدوا الله الواحد القهّار، أو كانوا يجعلون أنبياءهم شركاء مع الله سبحانه في العبادة، والشاهد على هذا المعنى الأُمور التالية:

1. إنّ الهدف من وضع صور الصالحين في حديث أُمّ حبيبة وأمّ سلمة بجوار قبورهم إنّما كان لأجل السجود عليها وعلى القبر بحيث يكون القبر والصورة قبلة لهم، أو كانتا كالصنم المنصوب يعبدان ويسجد لهما.

إنّ هذا الاحتمال - اللائح من هذا الحديث - ينطبق مع ما عليه المسيحيّون من عبادة المسيح ووضع التصاوير والتماثيل المجسّمة له وللسيّدة مريم، ومع هذا المعنى فلا يمكن الاستدلال بهذه الأحاديث على حرمة بناء المسجد على قبور الصالحين أو بجوارها من دون أن يكون في ذلك أيّ شيء يوحي بالعبودية، كما عليه المسيحيّون.

2. إنّ أحمد بن حنبل يروي في مسنده - كما يروي مالك في الموطأ - تتمة لهذا الحديث وهي: أنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال - بعد النهي عن اتّخاذ القبور مساجد -:«اللهمّ لا تجعل قبري وثناً يُعبد».((1))

فالحديث يدلّ على أنّ اليهود والنصارى كانوا يتّخذون القبر والصورة التي عليه إمّا قبلة يتوجّهون إليها، أو صنماً يعبدونه من دون الله سبحانه.

3. إنّ التأمّل في حديث عائشة - أعني قولها: لولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنّي أخشى أن يتّخذ مسجداً - يدلّ على ما ذكرنا، وذلك لأنّ المسلمين بعد رحيل رسول الله، وضعوا جداراً بين قبره وبين المسجد، وعندئذ نسأل أنّ إقامة الجدار حول القبر من أي شيء يمنع، ومن المعلوم أنّه يمنع من أمرين تاليين:

أ. أن يتّخذ قبره وثناً يعبد.

ب. أن يتّخذ قبلة يتوجّه إليها.

وأمّا الصلاة بجوار القبر إلى القبلة (الكعبة) تقرّباً إلى الله تعالى فلا يمنع من ذلك، بشهادة أنّ المسلمين منذ أربعة عشر قرناً يصلّون بجوار قبر رسول الله، في حين أنّهم

ص: 82


1- . أحمد بن حنبل، مسند، ج3، ص248.

يعبدون الله ويتوجّهون إلى الكعبة، فوجود الحاجز لم يمنعهم من هذا كلّه.

والذي يؤيّد ذلك أنّ شرّاح الحديث فهموا ما ذكرنا، يقول القسطلاني في كتاب «إرشاد الساري»: إنّما صوّروا أوائلهم الصّور ليستأنسوا بها ويتذكّروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم ويعبدوا الله عند قبورهم، ثمّ خلفهم قوم جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أنّ أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فحذَّر النبي عن مثل ذلك.

إلى أن يقول: قال البيضاوي: لمّا كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجّهون في الصلاة نحوها واتّخذوها أوثاناً، مُنع المسلمون في مثل ذلك، فأمّا مَن اتّخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرّك بالقرب منه - لا للتعظيم ولا للتوجّه إليه - فلا يدخل في الوعيد المذكور.((1))

ويقول النووي في شرح صحيح مسلم: قال العلماء إنّما نهى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم عن اتّخاذ قبره وقبر غيره مسجداً، خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربّما أدّى ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الأُمم الخالية، ولمّا احتاجت الصحابة والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حين كثر المسلمون وامتدّت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أُمّهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة، مدفن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وصاحبيه بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد فيصلّي إليه العوام... ولهذا قالت عائشة في الحديث: ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنّه خُشي أن يُتّخذ مسجداً.((2))

مع هذه القرائن ومع ما فهمه شرّاح الحديث لا يمكن الاستدلال به على منع الصلاة عند قبور الصالحين.

وفي ختام المطاف نذكر أمرين:

ص: 83


1- . القسطلاني، إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري، ج1، ص430، باب بناء المساجد على القبور. واختار هذا المعنى ابن حجر في فتح الباري، ج3، ص208 - حيث قال: إنّ النهي إنّما هو عمّا يؤدي بالقبر إلى ما عليه أهل الكتاب، أمّا غير ذلك فلا إشكال فيه.
2- . النووي، شرح صحيح مسلم، ج5، ص13-14.

1. إنّ النبي نهى عن بناء المساجد، ولكن لا دليل على أنّ النهي تحريمي، بل يحتمل أن يكون نهياً تنزيهيّاً وهذا بالضبط ما استنبطه البخاري في صحيحه حيث ذكر هذه الأحاديث تحت عنوان: باب ما يُكره من اتّخاذ المساجد على القبور.((1))

ويشهد لهذا الحمل ما رواه النسائي من أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لعن زائرات القبور، والمتّخذين عليها المساجد والسرج.((2))

ومن المعلوم أنّ زيارة القبر للمرأة مكروه لا حرام، كيف وقد كانت فاطمة سيدة نساء العالمين تزور قبر عمّها حمزة في كلّ أُسبوع ((3)

وقد زارت السيدة عائشة قبر أخيها عندما وردت مكة المكرمة.((4))

ومن حسن الحظ أنّ أئمّة أهل البيت( فسّروا الرواية، وهذا هو أبو جعفر الباقر علیه السلام لمّا سأله زرارة بقوله: قلت له: الصلاة بين القبور؟ أجاب بقوله: «صل في خلالها ولا تتّخذ شيئاً منها قبلة، فإنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نهى عن ذلك، وقال: لا تتّخذوا قبري قبلة ولا مسجداً فإنّ الله تعالى لعن الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد».((5))

المسألة الثالثة: حفظ آثار الأنبياء والسلف الصالح من قبورهم وبيوتهم وما يمتّ إليهم بصلة

اشارة

ونحن في الوقت الذي نلقي فيه هذه المحاضرات نسمع أخباراً مؤسفة عن تفجير وهدم قبور الأنبياء كيونس(عليه السلام) في الموصل وغيره من قبور الأنبياء والأولياء، على يد عصابة شاذّة تربّت على يد مبلّغين تأثّروا بالفكر الوهابي، ونحن ندرس هذه المسألة الهامّة لنزيل الشبه عن فكر المسلمين عسى أن يبلغ ما نقوله إلى أفكار هؤلاء فيتوبوا إلى الله من أعمالهم الخاطئة.

ص: 84


1- . لاحظ: البخاري، صحيح البخاري، ج2، ص88، كتاب المساجد.
2- . النسائي، سنن، ج4، ص94.
3- . لاحظ: النیشابوری، مستدرك، ج1، ص377؛ البیهقي، السنن الکبری، ج4، ص131.
4- . لاحظ: التزمذي، سنن، ج3، ص371، باب ما جاء الرخصة في زيارة القبور، برقم 1055.
5- . الصدوق، علل الشرائع، ج2، ص358.

فنقول: إنّ رسالة الإسلام رسالة خالدة أبدية وسوف يبقى الإسلام ديناً للبشرية جمعاء، إلى يوم القيامة ولابدّ للأجيال القادمة على طول الزمن أن تعترف بأصالتها وتؤمن بقداستها، ولأجل تحقيق هذا الهدف يجب أن نحافظ دائماً على آثار صاحب الرسالة المحمدية كي نكون قد خطونا خطوة في سبيل استمرارية هذا الدين وبقائه على مدى العصور القادمة، حتى لا يشكّك أحد في وجود نبي الإسلام كما شكّكوا في وجود النبي عيسى المسيح علیه السلام .

إنّ الشاب الغربي لم يعثر على شيء ملموس يؤدّي به إلى الاطمئنان بأصالة شخصية عيسى علیه السلام والركون إلى أنّها واقعة حقيقية لا يمكن التردّد فيها.

ولذلك تلقّى كثير منهم مسألة شخصية المسيح، أُسطورة تاريخية أشبه بقصة مجنون العامري وليلاه. ومن هنا ينبغي علينا نحن المسلمين أن نأخذ العبر والدروس من التاريخ المسيحي، وأن نسعى بكلّ ما أُويتنا من قوّة وجهد في سبيل صيانة الآثار الإسلامية عامّة، وآثار الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) خاصّة مهما كانت صغيرة، وذلك لأنّها تمثّل الشاهد الحيّ على أصالتنا وأحقيّة دعوتنا، وأن نتجنّب عن تدميرها بمعول محاربة الشرك الذي اتّخذه البعض - وللأسف الشديد - ذريعة للقضاء على هذا التاريخ الأثري الملموس والمعلَم الإسلامي المهم، كي لا يصيب أجيالنا القادمة ما أصاب الشباب الغربي من داء الترديد والشكّ في شخصية السيد المسيح علیه السلام . ولتوضيح هذه المسألة بكافّة جوانبها نبحث الأُمور التالية:

الأوّل: مكانة بيوت الأنبياء في القرآن الكريم

لقد أولى القرآن الكريم عناية خاصّة ببيوت الأنبياء والأولياء، وليس هذا الاهتمام إلاّ لأجل أنّ هذه البيوت تبرّكت بأُناس يسبّحون لله سبحانه في الغدو والآصال، قال تعالى: )فِي بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ(((1)).

ص: 85


1- . النور، آیة 36.

لقد تحدّثت الآية المباركة عن تلك البيوت بلحن يشعر بالتعظيم والتكريم وأشارت إلى سمات الرجال الإلهيّين الذين يسكنونها بأنّ دأبهم التسبيح والتمجيد والتهليل والتكبير، والمراد من البيوت في الآية هو بيوت الأنبياء.

روى الحافظ جلال الدين السيوطي قال: أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة: أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قرأ هذه الآية: )فِي بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ( فقام إليه رجل، قال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: «بيوت الأنبياء» فقام إليه أبو بكر، وقال: يا رسول الله، وهذا البيت منها؟ - مشيراً إلى بيت عليّ وفاطمة' - فقال رسول الله:«نعم ومن أفاضلها».((1))

وعلى هذا فالمراد من البيوت هو بيوت الأنبياء وبيوت النبيّ الأكرم وبيت عليّ وما ضاهاها، فهذه البيوت لها شأنها الخاص لأنّها تخصّ رجالاً يسبّحون الله ليلاً ونهاراً غدواً وآصالاً يعيش فيها رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وقلوبهم مليئة بالخوف من يوم تتقلّب فيه القلوب والأبصار.

وقد ثبت في التاريخ أنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم دفن في نفس البيت الذي قبض فيه، كما أنّ الإمامين العسكريين' دفنا في البيت الذي قبضا فيه وكان بيتهما معبداً لهما. وقد روى أحمد أنّ عبد الله بن سعد سأل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقال: أيّما أفضل الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال: «فقد ترى ما أقرب بيتي من المسجد ولئن أُصلّي في بيتي أحب إليّ من أن أُصلي في المسجد إلاّ أن تكون صلاة مكتوبة».((2))

وقد عقد مسلم في صحيحه باباً لاستحباب إقامة النافلة في البيت وروى فيه روايات.((3))

فعلى ضوء هذه الآية يجب رفع البيوت التي كان النبي صلی الله علیه و آله و سلم وعترته الطاهرة دفنوا فيها، وهم كانوا يتلون فيها ليلاً ونهاراً آيات الله ويسبّحونه.

بقي الكلام: فيمَ هو المراد من الرفع؟

لقد ذكر المفسّرون للرفع معنيين تاليين:

ص: 86


1- . السیوطي، الدر المنثور، ج6، ص203.
2- . أحمد بن حنبل، مسند، ج4، ص349.
3- . النیشابوری، صحيح مسلم، ج2، ص187-188، باب استحباب صلاة النافلة في البيت.

الأوّل: المراد من الرفع هو البناء بشهادة قوله تعالى: )أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ! رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا(.((1))

الثاني: المراد تعظيمها والرفع من مقدارها، قال الزمخشري: ترفعها إمّا بناؤها فأمر الله أن تبنى، وإمّا تعظيمها، والرفع من قدرها.((2))

أقول: لا يخفى أنّ المراد من رفع البيوت ليس إنشاؤها؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ الآية المباركة تتحدّث عن بيوت مبنيّة، وعلى كلّ تقدير فهذه البيوت يجب إعمارها وصيانتها من الاندثار، على التفسير الأوّل، وذلك إكراماً منه سبحانه لأصحابها، أو صيانتها ممّا لا يلائم قداستها على التفسير الثاني، وعلى هذا فهدم هذه البيوت يضاد ترفيعها بناءً وقداسة، وإذا ثبت الحكم في هذه البيوت التي تضمّنت الأجساد المقدّسة يثبت الحكم في سائر المراقد بعدم القول بالفصل بينهما.

الثاني: صيانة الآثار ومودّة القربى

دلّت الآيات والروايات على لزوم مودّة الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بيته الطاهرين، قال سبحانه: )قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(.((3))

تشير الآية إلى معيار دقيق وهو أنّ المؤمن الحقيقي الذي عجن الإيمان بدمه ولحمه وجميع مشاعره، هو الذي يقدّم حُبّه لله ولرسوله والجهاد في سبيله على جميع العلاقات والروابط التي تحيط به من الأهل والأرحام والأموال والعقارات، والتجارة والمعاملات.

وفي آية أُخرى تعدّ المودّة في القربى كأجر للرسالة قال تعالى: )قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى(((4)).

ص: 87


1- . النازعات، آیة 27-28.
2- . الزمخشري، الكشّاف، ج3، ص242، بتصرّف يسير؛ القرطبي، الجامع لأحکام القرآن، ج2، ص226.
3- . التوبة، آیة24.
4- . الشورى، آیة23.

ومن المعلوم أنّ حبّ الله ونبيّه وعترته يتجلّى بوجهين:

1. أن يعتمد في منهج حياته، السيرَ وفقاً لأوامره سبحانه ونواهيه ولذلك يقول: الحب هو الانقياد والاتّباع للمحبوب، وقد استشهد الإمام الصادق علیه السلام لهذا النوع من الود بالبيتين التاليين:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه *** هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إنّ المحبّ لمن أحب مطيع

2. نشر تعاليمهم وخطبهم وأحاديثهم وصيانة آثارهم ومعالمهم والاهتمام بمشاهدهم بحيث تكون رمزاً ومعلّماً إسلامياً بارزاً، ولا يشكّ ذو مسكة أنّ بناء القباب على تلك القبور التي ضمّت جسد الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وعترته الطاهرة يُعد مظهراً لإظهار الودّ والحب.

الثالث: صيانة الآثار تعظيم للشعائر

دلّ قوله سبحانه: )ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ(((1)) والآية من مصاديق الحذف والإيصال أي: ومن يعظم شعائر دين الله. فالآية بصفة كلّية تدلّ على تعظيم ما يمت إلى دين الله بصلة.

ثمّ إنّه سبحانه يذكر مصداقاً لتعظيم شعائر دين الله ويقول: )وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ(((2))، فإذا كانت البُدن التي صارت معلمة للذبح في مكة أو نواحيها، من شعائر الله، فالأنبياء والأولياء والذين جاهدوا لأجل رفع كلمة الله بنفسهم ونفيسهم، أولى أن يكونوا من علائم دين الله، ومن المعلوم أنّ حفظ آثارهم وقبورهم وما يمتّ إليهم بصلة، تعظيم لشعائر دين الله.

الرابع: القرآن الكريم وحفظ الآثار

اشارة

دلّ القرآن الكريم على أنّ الأُمم السالفة كانت تحتفظ بآثار أنبيائها وتحافظ عليها وتصونها وتتبرّك بها، وكانت تحملها معها في الحروب، ليتسنّى لها من خلال التبرّك بها التغلّب والانتصار على عدوهم.

ص: 88


1- . الحج، آیة32.
2- . الحج، آیة 36.

ومن النماذج التي ذكرها القرآن الكريم في هذا المجال صندوق بني إسرائيل الذي كانت فيه مواريث آل موسى وآل هارون، قال تعالى: )وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(.((1))

ولا ريب أنّ هذا الصندوق كان عظيم البركة بشهادة أنّ الملائكة هي التي تحمله، وإنّ فيه سكينة من الله لبني إسرائيل، فلو كان حفظ الآثار وصيانتها بصورة عامّة وحفظ هذا الصندوق الأثري بصورة خاصّة غير لائق وغير جدير بالاهتمام، فلماذا يتحدّث عنه القرآن الكريم بهذا اللحن من الخطاب الإيجابي الذي يظهر منه تأييد الفكرة واستحسانها؟! ولماذا تتصدّى الملائكة على عظمتها وقداستها لحمله؟! ولماذا تكون عملية استرجاعه من أيدي العمالقة آية على حقّانية قائد الجيش في وقته؟!

دليل المخالف

احتجّ المخالف على تهديم القباب والبيوت التي تحتضن الأجساد الطاهرة بحديث أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي، الذي رواه مسلم في صحيحه، قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته.((2))

أقول: لا يمكن الاحتجاج بهذا الحديث لا سنداً ولا دلالة.

أمّا سنداً فيكفي أنّ أبا وائل كان من المنحرفين عن الإمام علي أمير المؤمنين علیه السلام وممّن نصب له العداء والبغضاء.((3))

فكيف يعتمد عليه، وقد قال لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق».((4)) وروى قريباً منه الترمذي في سننه((5)). وأمّا أبو الهياج فليس له حديث في الصحاح

ص: 89


1- . البقرة، آیة 248.
2- . النیشابوری، صحيح مسلم، ج3، ص61، كتاب الجنائز.
3- . شرح نهج البلاغة، ج9، ص99.
4- . الهیثمي، مجمع الزوائد، ج9، ص133.
5- . الترمذي، سنن، ج2، ص301.

والسنن إلاّ هذا الحديث فكيف يعتمد على قول رجل ليس له إلاّ رواية واحدة، أفيمكن الاعتماد عليه في تهديم الآثار الإسلامية التي اهتمّ ببقائها المسلمون كافّة، عبر قرون.

وأمّا دلالة الحديث فهي كسنده، وذلك لأنّ الوارد في الحديث: «ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته» ففقه الحديث يتوقّف على تفسير ذينك اللفظين:

1. مشرفاً. 2. سوّيته.

أمّا الأوّل: فهو مردّد بين كونه بمعنى العالي، ومطلق الارتفاع. أو المرتفع على شكل سنام البعير، وهذا هو المراد كما سيوافيك.

وأمّا الثاني فإنّ فعل التسوية إذا كان ذا مفعول واحد يكون وصفاً لنفس الشيء، يقول تعالى: )وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا(((1)) وإذا كانت ذا مفعولين فالمفعول الثاني يتعدّى بالباء، نظير قوله سبحانه: )إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(((2))يراد بها مساواة الشيء مع الشيء الآخر في المقدار; والآية من القسم الأوّل فيتعيّن أن تكون التسوية وصفاً لنفس القبر بنفسه لا بالقياس إلى شيء آخر مثل الأرض، فيكون المراد جعل سطحه مستوياً ومسطحاً على خلاف القبور التي تبنى على شكل ظهر السمكة وسنام البعير، فيكون الحديث دليلاً على لزوم تسوية القبر وتسطيحه، وأين هذا من تهديم القبر وجعله مساوياً للأرض.

وممّا يدلّ على ما ذكرنا من المعنى أنّ مسلماً أورد الحديث وحديثاً آخر تحت عنوان (باب الأمر بتسوية القبر)((3))، ولو كان المراد هدم القبر يجب أن يقول: تسوية القبر بالأرض.

ثمّ إنّا نغض النظر عن كلّ ما ذكرنا، فالحديث على فرض الدلالة ناظر إلى القبر لا إلى القباب والأبنية فوق القبر، فبأي دليل تهدم هذه الآثار التي تعد كالمظلّة لمن يريد زيارة القبور وقراءة القرآن.

ص: 90


1- . الشمس، آیة 7.
2- . الشعراء، آیة 98.
3- . النیشابوري، صحيح مسلم، ج3، ص61، كتاب الجنائز.

المسألة الرابعة: النذر للنبي والإمام

النذر عبارة عن إلزام الإنسان نفسه بأداء شيء معيّن إذا تحقّق هدفه وقضيت حاجته، ويقول: لله عليّ أن أعطي مبلغاً معيّناً للفقراء إذا قضيت حاجتي، وقد مدح الله سبحانه عليّاً وفاطمة والحسن والحسين( بقوله: )يُوفُونَ بِالنَّذْرِ(((1)).

فالنذر سنّة معروفة بين كافّة المسلمين، بل في العالم كلّه، وقد تعارف النذر لله وإهداء ثوابه لأحد أولياءالله وعباده الصالحين، ولم يشكّ فيه أحد حتى جاء ابن تيمية فزعم حرمة ذلك وشنّ الهجوم على المسلمين وقال: مَن نذر شيئاً للنبي أو غيره من الأنبياء والأولياء من أهل القبور، أو ذبح ذبيحة، كان كالمشركين الذين يذبحون لأوثانهم وينذرون لها، فهو عابدٌ لغير الله، فيكون بذلك كافراً.((2))

والرجل نظر إلى ظاهر أعمال الناذرين ولم يقف على نيّاتهم فهم ينذرون لله سبحانه ويقصدون إهداء ثوابه للنبي وغيره، فكلّ مَن ينذر لأحد من أولياء الله إنّما يقصد في قلبه النذر لله وإهداء الثواب لذلك الولي الصالح ليس إلاّ.

ومَن استخبر حال مَن يفعل ذلك من المسلمين، وجدهم لا يقصدون بذبائحهم ونذورهم للأموات - من الأنبياء والأولياء - إلاّ الصدقة عنهم وجعل ثوابها إليهم، وقد علموا أنّ إجماع أهل السُّنّة منعقد على أنّ صدقة الأحياء نافعة للأموات، والصلة إليهم، والأحاديث في ذلك صحيحة مشهورة.

ومنها: ما صحّ عن سعد أنّه سأل النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وقال: يا نبي الله إنّ أُمّي افتلتت((3))

وأعلم أنّها لو عاشت لتصدّقت، أفإن تصدَّقتُ عنها أينفعها ذلك؟

قال صلی الله علیه و آله و سلم : نعم.

فسأل النبيّ: أي الصدقة أنفع يا رسول الله؟

قال: الماء.

ص: 91


1- . الإنسان، آیة 7.
2- . العزامی، فرقان القرآن، ص132، نقلاً عن ابن تيمية.
3- . أي ماتت.

فحفر بئراً وقال: هذه لأُمّ سعد.((1))

لقد أخطأ محمّد بن عبد الوهّاب فادّعى أنّ المسلم إذا قال: هذه الصدقة للنبيّ أو للوليّ، فاللاّم فيها هي اللام الموجودة في قولنا: «نذرتُ لله» ولكن اشتبه عليه الأمر فإنّما يُراد منها الغاية، فالعمل لله، فلو قال: للنبيّ، يريد بها الجهة التي يُصرف فيها الصدقة من مصالح النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم في حياته ومماته.

وفي هذا الصّدد يقول العزامي - بعد ذكر قصة سعد - :

«اللام في «هذه لأُمّ سعد» هي اللام الداخلة على الجهة الّتي وُجّهت إليها الصدقة، لا على المعبود المتقرّب إليه، وهي كذلك في كلام المسلمين، فهم سعديُّون لا وثنيّون!

وهي كاللام في قوله تعالى: )إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ( لا كاللام في قوله سبحانه: )رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا...(((2)) أو في قول القائل: صلّيتُ لله ونَذَرْتُ لله، فإذا ذَبح للنبيّ أو الوليّ أو نَذَر الشيء له فهو لا يقصد إلاّ أن يتصدّق بذلك عنه، ويجعل ثوابه إليه، فيكون من هدايا الأحياء للأموات المشروعة المثاب على إهدائها، والمسألة مبسوطة في كتب الفقه وفي كتب الردّ على الرجل ومن شايعه».((3))

وهكذا ظهر لك - أيّها القارئ - جواز النذر للأنبياء والأولياء، من دون أن يكون فيه شائبة شرك، فيُثاب به الناذر إن كان لله وذبح المنذور باسم الله، فقول القائل: «ذبحتُ للنبيّ» لا يريد أنّه ذبحه للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بل يريد أنّ الثواب له، كقول القائل:ذَبحتُ للضيف، بمعنى أنّ النفع والفائدة له، فهو السبب في حصول الذبح.

المسألة الخامسة: التبرّك بآثار الأنبياء

قد تعلّقت المشيئة الإلهية على إفاضة نعمه ومواهبه من خلال الأسباب، فتارة يكون السبب سبباً طبيعياً كالشمس والقمر والماء والنار، وأُخرى سبباً غير طبيعي كما هو الحال

ص: 92


1- . العزامی، فرقان القرآن، ص133.
2- . آل عمران، آیة 35.
3- . العزامی، فرقان القرآن، ص133.

في عمل الأنبياء; مثلاً كان المسيح يبرئ الأكمه والأبرص، فالمبرئ في الحقيقة هو الله سبحانه ولكن عن مجرى خاص وهو نبيّه. ولذا كان الصحابة يتبرّكون بالنبي الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم ، ومن صور هذا التبرّك، أنّهم كانوا يأتونه بأطفالهم فيحنّكهم بالتمر، أو أن يمسح على رؤوسهم ويبارك لهم، كما أنّ صحابته كانوا يتبرّكون بماء وضوئه.((1))

هذا في حياته وأمّا بعد وفاته صلی الله علیه و آله و سلم فقد كان الصحابة يتبرّكون بقبره، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

أ. روى الحاكم في المستدرك عن داود بن صالح، قال:

«أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته، ثمّ قال: هل تدري ما تصنع؟ فقال: نعم.

فأقبل عليه فإذا هو أبو أيّوب الأنصاري، فقال: إنّما جئت رسول الله ولم آت الحجر، سمعت رسول الله يقول:«لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن إبكوا على الدين إذا وليه غيرُ أهله»((2)).

إنّ هذه الظاهرة التي نقلها الحاكم في «المستدرك» تحكي أنّ سيرة صحابة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)كانت قائمة على التبرّك بقبره الشريف بوضع الخد عليه، كما تحكي في الوقت نفسه عن عداء مروان وغيره من رجال البيت الأُموي وخصومتهم للرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم حتى بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى.

ب. أقام الصحابي الكبير ومؤذّن الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بلال الحبشي في الشام في عهد عمر بن الخطاب، فرأى في منامه النبي صلی الله علیه و آله و سلم وهو يقول له:

«ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني يا بلال؟»

ص: 93


1- . الإصابة، ج1، ص6-7؛ ابن عبدالبر، الاستيعاب (في حاشية الاصابة)، ج3، ص361؛ ج1، 539-540، رقم الترجمة 2856؛ المتقي الهندي، كنز العمال، ج10، ص493؛ زیني دحلان، سيرة النبویة، ج2، ص246؛ النیشابوری، صحيح مسلم، ج3، ص1943.
2- . النیشابوري، مستدرك، ج4، ص560، رقم الحديث 8571.

فانتبه حزيناً وجلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي صلی الله علیه و آله و سلم فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين صلی الله علیه و آله و سلم ، فجعل يضمّهما ويقبلهما...».((1))

ج. انّ فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين بنت رسول الله، حضرت عند قبر أبيها(صلى الله عليه وآله وسلم)وأخذت قبضة من تراب القبر تشمّه وتبكي، وهي تقول:

ماذا على من شمّ تربة أحمد *** ألاّ يشم مدى الزمان غواليا

صبّت عليّ مصائب لو أنّها *** صُبّت على الأيام صِرن لياليا((2))

ومن الواضح إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء يدلّ على جواز التبرّك بقبر رسول الله و تربته الطاهرة.

نكتفي هنا بذكر هذه المجموعة القليلة جداً من بين الكثير من الوقائع التي تحكي عن اتّفاق الصحابة على التبرّك بآثار النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ، ومَن تتبّع كتب السير والحديث والتاريخ والصحاح والمسانيد يرى أنّ مسألة التبرّك بالنبي والصالحين قد بلغت حدّ التواتر بحيث يستحيل عند العقل أن تكون موضوعة ومجعولة.

نتيجة البحث

إنّ دراسة التاريخ الإسلامي وسيرة المسلمين في صدر الإسلام تكشف وبوضوح أنّ التبرّك بآثار النبي صلی الله علیه و آله و سلم وبكلّ ما يرتبط به صلی الله علیه و آله و سلم كقبره، وتربته، وعصاه، وملابسه، والصلاة في الأماكن التي صلّى فيها صلی الله علیه و آله و سلم ، أو مشى فيها، وكلّ ذلك كان يمثّل في الواقع ثقافة إسلامية رائجة في ذلك الوقت، وكانوا يرومون من ورائه أحد أمرين:

1. التبرّك بالآثار تيمّناً بها لغاية استنزال الفيض الإلهي من خلال ذلك الطريق، كما حدث ليعقوب علیه السلام عن طريق قميص ولده يوسف علیه السلام .

ص: 94


1- . ابن اثیر، أُسد الغابة، ج1، ص28.
2- . السمهودي، وفاء الوفا، ج4، ص218؛ القسطلاني، المواهب اللدنية، ج4، ص563.

2. الدافع والباعث لهم هو حبّهم ومودتهم للرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ، إذ يحثّانهم لتكريم كلّ ما ينتسب إليه صلی الله علیه و آله و سلم من درع، أو سيف، أو ملابس، أو قدح قد شرب بها، أو بئر، أو عصاً كان قد استعملها، أو خاتم، أو...، فكلّ تلك الآثار كانت مورد اهتمام أصحابه وأنصاره صلی الله علیه و آله و سلم ، بل كان الخلفاء يتوارثون ختمه وخاتمه صلی الله علیه و آله و سلم .

إلى هنا تمّت دراسة الذرائع الباطلة التي يكفّر على أساسها المسلمون من وجهة نظر اتباع ابن عبد الوهاب، وبقي هنا بعض الذرائع الوهمية كتكريم مواليد أولياء الله ووفياتهم، أو الحلف على الله بحق الأولياء، أو البكاء على الميّت، فإنّ الجميع من الأُمور الواضحة وإن وقعت ذريعة لهؤلاء، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا «الوهابية في الميزان».

ص: 95

ص: 96

الفصل السابع: الذرائع التي يكفّر بها الشيعة

اشارة

ص: 97

ص: 98

قد عرفت أنّ القوم يكفّرون عامّة المسلمين بالأُمور التي ذكرناها، وأشباهها، وهناك أُمور يكفّرون بها الشيعة الإمامية شيعة أهل بيت النبي صلی الله علیه و آله و سلم خاصّة، فقسم منها أُمور مكذوبة وافتراءات واضحة منها:

1. تأليه الشيعة لعلي وأولاده وأنّهم يعبدونهم ويعتقدون بإلوهيّتهم .

2. إنكار ختم النبوة برحيل سيدنا محمد صلی الله علیه و آله و سلم وأنّ الوحي لم يزل ينزل على علي وأولاده(.

3. أنّ النبوة كانت لعلي ولكن جبريل خان الأمانة وأعطاها لمحمد صلی الله علیه و آله و سلم ، حتى أنّ بعضهم أفرغ ذلك في قالب الشعر وقال:

ويحمل قلبهم بغضاً شنيعاً *** لخير الخلق ليس له دفاع

يقولون الأمين جنى بوحي *** وخان وما لهم عن ذا ارتداع((1))

4. بغض أصحاب النبي صلی الله علیه و آله و سلم وسبّهم ولعنهم وأنّهم أعداء الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم.

5. تحريف القرآن الكريم وأنّه حُذف منه أكثر ممّا هو الموجود. إلى غير ذلك من المفتريات التي ليس لها حدّ في حقّ الشيعة. ومَن قرأ شيئاً من كتب الشيعة أو عاش بين ظهرانيهم يقف على أنّ الجميع فرية وكأنّهم أُمروا بالكذب مكان الصدق.

نعم للشيعة مسائل كلامية يختلفون فيها مع بعض الفرق، نشير إلى بعضها:

1. القول بالبداء

إنّ البداء حقيقة قرآنية تضافرت الآيات عليها وحقيقتها أنّه ليس للإنسان تقدير واحد لا يتغيّر، بل يمكن أن يبدّل مصيره بعمل صالح أو طالح.

ص: 99


1- . البيتان من قصيدة للشيخ عبد الظاهر إمام المسجد الحرام وخطيبه(المتوفّى 1370ه-.).

ويدلّ على ذلك قوله سبحانه: )يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ(((1))، ويقول سبحانه: )وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(((2))

روى القرطبي في تفسير قوله سبحانه: )يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ( أنّ عمر بن الخطاب كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فأمتني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أُمّ الكتاب».((3))

فعلى هذا فالبداء بهذا المعنى عقيدة إسلامية عامّة.

لكن يقع الكلام: لماذا عُبّر عنه بالبداء، فيقال: بدا لله، حيث إنّ معناه: ظهر لله ما خفي عليه.

ومن المعلوم أنّه سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، والجواب عن ذلك بوجهين:

الأوّل: أنّ هذا التعبير اقتباس من كلام النبي الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم حيث روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنّه سمع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: «إنّ ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص... إلى آخر ما ذكره».((4))

الثاني: انّ هذا التعبير من باب المشاكلة نظير قوله سبحانه: )وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(((5))، وقوله سبحانه: )إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ! وَأَكِيدُ كَيْدًا(((6))، وقوله سبحانه: )نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ(((7))، وهذا من مظاهر البلاغة فإنّ الإنسان إذا ظهر ما خفي عليه يعبّر عنه بالبداء ويقول: بدا لي، كذلك فالله سبحانه يعبّر عمّا ظهر للناس بعد ما خفي عنهم بالبداء ويقال:

ص: 100


1- . الرعد، آیة 39.
2- . الأعراف، آیة 96.
3- . القرطبي، الجامع لأحکام القرآن، ج9، ص330، تفسير سورة الرعد.
4- . البخاري، صحيح البخاري، ج4، ص171، كتاب أحاديث الأنبياء، الباب 53، برقم 2464.
5- . آل عمران، آیة 54؛ الأنفال، آیة30.
6- . الطارق، آیات 15و16.
7- . التوبة، آیة 67.

بدا لله، وكأنّه ينطق بلسان المخاطب. ومن مظاهر البداء في الكتاب العزيز فداء إسماعيل بعد أمر خليله إبراهيم علیه السلام بذبحه حيث ابتلاه الله وخرج من الابتلاء ناجحاً مرفوع الرأس ونسخ ما أمر به بالفداء.

هذا ولعلمائنا الأبرار رسائل في البداء تعرب عن أنّ النزاع بينهم وبين غيرهم لفظي بحت، وليس حقيقياً.

2. الإيمان بخلافة الخلفاء

هل الإيمان بخلافة الخلفاء من الأُصول، حتى يُكفَّر مَن يرفض خلافتهم من الرسول أو هو من الفروع الّتي لا يضر الاختلاف فيها كما هو الحقّ؟ ويشهد لِما قلناه كلمات أئمة أهل السنّة:

قال التفتازاني: لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق، لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات، وهي أُمور كلّية تتعلّق بها مصالح دينية أو دنيوية، لا ينتظم الأمر إلاّ بحصولها فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كلّ أحد، ولا خفاء في أنّ ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية((1)).

وقال الإيجي: المرصد الرابع: في الإمامة ومباحثها عندنا من الفروع وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسيّاً بمن قبلنا((2)).

وقال الجرجاني: الإمامة ليست من أُصول الديانات والعقائد، بل هي عندنا من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين، إذ نصب الإمام عندنا واجب على الأُمّة سمعاً((3)).

فإذا كانت الإمامة من الفروع فما أكثر الاختلاف في الفروع فكيف يكون الاختلاف موجباً للكفر؟!

ص: 101


1- . التفتازانی، شرح المقاصد، ج5، ص232 .
2- . الایجي، المواقف، ص395 .
3- . میر سید الشریف، شرح المواقف، ج8، ص344 .

3. علم الأئمة( بالغيب

لاشكّ أنّ العلم بالغيب علماً ذاتياً غير مكتسب وغير محدّد بحدٍّ، يختصّ بالله سبحانه، ولكن لا مانع من أن يُعلِّم سبحانه شيئاً من الغيب لبعض أوليائه فيخبر عن الملاحم لأجل كونهم محدَّثين، والمحدَّث يسمع صوت الملك ولا يراه، وهو ليس أمراً بدعيّاً في مجال العقيدة، فقد رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم : «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء...»((1)).

وقد تضافرت الروايات عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم في حقّ المحدّثين، فأئمة أهل البيت( عند الشيعة من المحدَّثين، فأي إشكال في ذلك؟! وهل هو يوجب مشاركتهم الله في علم الغيب ؟! وأين العلم بالغيب مكتسباً من الله محدوداً بحدّ خاص، من علمه الواسع غير المكتسب ولا المحدود؟!

4. التقيّة من المسلم

وممّا يخطِّئون به الشيعة هو تقيّتهم من المخالف المسلم، بناءً على اختصاص التقية بالكافر مع أنّه أمر صرّح بجوازه غير واحد من أئمة السنّة .

قال الرازي في تفسير قوله سبحانه: )إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً(((2)): ظاهر الآية على أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين، إلاّ أنّ مذهب الشافعي أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقيّة محاماة عن النفس.((3))

وقال ابن الوزير اليمانيّ((4)) في كتابه «إيثار الحقّ على الخلق» ما هذا نصّه: وزاد الحقّ غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفين - مع قلّتهم - من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقيّة عند ذلك بنصّ القرآن، وإجماع أهل الإسلام، وما

ص: 102


1- . البخاري، صحيح البخاري، ج5، ص12، باب مناقب المهاجري فضلهم.
2- . آل عمران، آیة 28.
3- . مفاتيح الغيب، ج8، ص13 .
4- . أبو عبدالله بن إبراهيم بن علي بن المرتضى الحسني (المتوفّى 840 ه-). أثنى عليه الشوكاني، ونعته بالمجتهد المطلق، ثم قال: وكلامه لا يشبه كلام أهل عصره وكلام من بعده، بل هو من نمط كلام ابن حزم وابن تيميّة. (الشوکاني، البدر الطالع، ج2، ص91 برقم 561.)

زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ، ولا برح المحقّ عدوّاً لأكثر الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة أنّه قال، في ذلك العصر الأوّل: حفظت من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس، وأمّا الآخر فلو أبثّه لقطع هذا البلعوم.((1))

قلت: إنّ هذا ليس أمراً مبتدعاً، فقد عمل به أربعة وعشرون محدِّثاً في مقابل السلطان الجائر المسلم، أعني: المأمون، وقد نقل تفصيل القصة الطبري في تاريخه، قال: جاءت رسالة المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم فأحضر لفيفاً من المحدِّثين والذين يربو عددهم على ستة وعشرين محدّثاً فقرأ عليهم رسالة المأمون مرّتين حتّى فهموها، ثم سأل كلّ واحد منهم عن رأيه في خلق القرآن، وقد كانت عقيدة المحدّثين بأنّ القرآن غير مخلوق أو غير حادث، فلمّا شعروا بالخطر وقرئت عليهم رسالة المأمون ثانياً وأمره بالتضييق عليهم وأن توثق أيديهم ويرسلوا إليه، أجاب القوم الممتنعون كلّهم وقالوا بخلق القرآن إلاّ أربعة منهم: أحمد بن حنبل، وسجّادة، والقواريري، ومحمد بن نوح; فلمّا كان من الغد أظهر سجّادة الموافقة وقال بأنّ القرآن مخلوق وخلّي سبيله، ثم تبعه بعد غد القواريري وقال بأن القرآن مخلوق، فخلّي سبيله، وبقي أحمد بن حنبل ومحمّد بن نوح، وللقصة تكملة ذكرناها بتفاصيلها في كتابنا بحوث في الملل والنحل، فلاحظ.((2))

5. تكفير الصحابة

)سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ(((3)) إنّ تكفير الصحابة من الافتراءات الّتي تشهد الضرورة ببطلانها، كيف؟ وثمّة طائفة من الصحابة هم من روّاد التشيّع، ثم كيف؟ وهذا إمامهم (الّذي يقتدون به ويقتفون أثره)، بل إمام المسلمين عامّة، أعني: علي بن أبي طالب علیه السلام يقول في حق الصحابة: «أَيْنَ إِخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ، وَ مَضَوْا عَلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ عَمَّارٌ؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وَأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ، وَأُبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ!

ص: 103


1- . ابن الوزیر، إيثار الحقّ على الخلق، ص141-142.
2- . السبحاني، بحوث في الملل والنحل، ج3، ص605-614.
3- . النور، آیة 16.

أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ. دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ»((1)).

ويقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين علیه السلام في حقّهم: «اللهمّ وأصحابُ محمّد خاصّةً، الذين أحَسنوا الصحبة، والذين أبلَوُ البلاءَ الحسَن في نصرهِ، وكانَفُوه، وأسرعوا إلى وِفادتهِ، وسابقوا إلى دعوتهِ... فلا تنسَ لَهُمُ اللهمّ ما تركوا لك وفيك، وأَرضِهِم من رضوانك...»((2))

ثم إنّ لعضد الدين الإيجي في «المواقف» وشارحه السيد الجرجاني في شرحها كلاماً في عدم جواز تكفير الشيعة بمعتقداتهم نأتي بنصّهما متناً وشرحاً، فقد ذكرا الوجوه وردّها:

الأوّل: أنّ القدح في أكابر الصحابة الذين شهد لهم القرآن والأحاديث الصحيحة بالتزكية والإيمان (تكذيب) للقرآن و (للرسول حيث أثنى عليهم وعظّمهم) فيكون كفرا.

قلنا: لا ثناء عليهم خاصة، أي لا ثناء في القرآن على واحد من الصحابة بخصوصه، وهؤلاء قد اعتقدوا أنّ مَن قدحوا فيه ليس داخلاً في الثناء العام الوارد فيه وإليه أشار المصنّف بقوله: «ولاهم داخلون فيه عندهم» فلا يكون قدحهم تكذيباً للقرآن، وأمّا الأحاديث الواردة في تزكية بعض معيّن من الصحابة والشهادة لهم بالجنّة فمن قبيل الآحاد، فلا يكفَّر المسلم بإنكارها أو تقول ذلك، «الثناء عليهم»، وتلك الشهادة لهم مقيّدان، بشرط سلامة العاقبة ولم توجد عندهم، فلا يلزم تكذيبهم للرسول.

الثاني: الإجماع منعقد من الأُمّة، «على تكفير من كفّر عظماء الصحابة»، وكلّ واحد من الفريقين يكفّر بعض هؤلاء العظماء فيكون كافراً.

«قلنا: هؤلاء»، أي من كفّر جماعة مخصوصة من الصحابة، لا يسلّمون كونهم من أكابر الصحابة وعظمائهم، فلا يلزم كفره.

ص: 104


1- . نهج البلاغة، الخطبة 182 .
2- . الصحيفة السجادية الكاملة: الدعاء الرابع (في الصلاة على أتباع الرُّسل ومصدّقيهم)، ص40.

الثالث: قوله علیه السلام : «مَن قال لأخيه المسلم يا كافر، فقد باء به - أي بالكفر - أحدهما».

قلنا: المراد مع اعتقاد أنّه مسلم، فإنّ مَن ظن بمسلم أنّه يهودي أو نصراني فقال له: ياكافر، لم يكن ذلك كفراً بالإجماع((1)).

هذا كلامهما ونحن نقول ليس هنا مَن يكفّر الصحابة بل الموجود هو دراسة حياة الصحابة بعد رحلة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وهو أمر درج عليه السلف من أصحاب السيرة والتاريخ والرجال كدراسة حال التابعين لهم، وأخذ الدين عنهم لا يصدّنا عن تلك الدراسة العلمية بل يدفعنا إلى أخذها من أُناس صادقين عادلين، فمَن زعم أنّ دراسة حياة الصحابي يورث الضعف في الدين أو يوجب الخلل في الإسلام فقد أتى بكلام غير مقبول ولا معقول، وهؤلاء هم علماء الرجال قد ألّفوا موسوعات في أحوال رجال الحديث مبتدئين من التابعين، ونحن نعطف الصحابة على التابعين أيضاً، ونكيل لكلّ من قال الحق وعمل به، المدح العظيم والثناء الجميل.

نتيجة الدراسة

اشارة

هذا هو حدّ الإيمان والكفر وحدّ الشرك والبدعة قد وقفت عليها عن كثب، وأنّ فِرَق الإسلام عامّة (غير الغلاة والنواصب) كلّهم داخلون في حظيرة الإسلام، فيجب أن تُحقَن دماؤهم وتُصان أموالهم وأعراضهم وكل ما يمتّ إليهم بصلة، وأنّ مَن يقوم بتكفير أُمّة أو أُمم من المسلمين فإنّما يصدر عن عصبية وعناد، أو عن غرض خبيث يخدم به قوى الكفر والاستبداد والاستكبار. والله سبحانه هو الهادي إلى الطريق الحقّ.

هذا هو الداء وأمّا الدواء

اشارة

لا أظن أنّ ذا مسكة يرضى بما تمارسه الزمرة الداعشية من فتك وقتل وهدم وتخريب وأسر وزواج جهادي وبالتالي استئصال المسلمين الموحّدين تحت غطاء الشرك، غير أنّ هذا الداء أخذ يتفّشى في البلاد الإسلامية خصوصاً بين الشباب المتحمّسين الذين تنبض قلوبهم للجهاد من أجل نحر التوحيد.

ص: 105


1- . السيد الشريف الجرجاني، شرح المواقف: ج8، ص344.

فلابدّ من قلع هذه الفكرة الشيطانية التي اكتست ثوب التوحيد من خلال الخطوات التالية:

1. نقد الأفكار الخاطئة التي يشمّ منها رائحة تكفير الفرق الإسلامية

نذكر هنا أسماء بعض من اتّخذ هذا المنهج:

إنّ ابن تيمية لمّا كان مجسّماً في الواقع ومتظاهراً على الخلاف ولكنّه مصرّحاً بوجود الجهة لله سبحانه وأنّه مستو على عرشه، يقول في نفي نظر جمهرة المسلمين في أنّه سبحانه ليس بجسم وليس في جهة ولا يشار إليه يقول: وأمّا إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه، فهذا ممّا يعلم العقل استحالته، وبطلانه.((1))

ترى أنّه يستهدف بكلامه هذا، كافّة المسلمين المنزّهين لله سبحانه، ويتّهمهم بالارتداد، فما ظنّك بمن يتّخذ ابن تيمية شيخاً للإسلام ويصدر عنه فيما يقضي ويبرم!!

وليس هذا كلامه الوحيد، بل له كلمات كثيرة يكفّر تلويحاً أو تصريحاً مَن يخالف فكرته، فيقول: فمَن قال أنا شافعي الشرع، أشعري الاعتقاد، قلنا له: هذا من الأضداد لا بل من الارتداد.((2))

أنا لا أدري أية ملازمة بين تقليد الشافعي في الفقه والرجوع في العقائد إلى الشيخ الأشعري الذي كان هو شافعياً في الفقه، فعلى ضوء هذه الفتوى فثلث أهل السنّة أو الأكثر مرتدّون، يحلّ دمهم وأموالهم وتفارق زوجاتهم عنهم.

وأمّا محمد بن عبد الوهاب فحدّث عنه ولا حرج، فهو يقول في الرسالة الرابعة المعنونة أربع قواعد الدين تميّز بين المؤمنين والمشركين: القاعدة الرابعة: أنّ مشركي زماننا أعظم شركاً من الأوّلين، لأنّ الأولين كانوا يخلصون لله في الشدّة ويشركون في الرخاء، ومشركو زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدّة. والدليل قوله تعالى: )فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ!لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(((3)).((4))

ص: 106


1- . ابن تیمیة، منهاج السنة النبوية، ج2، ص335.
2- . ابن تیمیة، مجموع الفتاوى، ج4، ص177.
3- . العنكبوت، آیات 65-66.
4- . لاحظ: محمد بن عبدالوهاب، كشف الشبهات، ص33، وقد مرّ النصّ بكامله في صدر الرسالة فراجع.

هذا نموذج من كلماته وإلاّ فهو في مواضع كثيرة من كتاب «كشف الشبهات» يكفّر عامّة المسلمين، منها قوله: فإذا تحقّقت أنّهم مقرّون بهذا - يقصد بأنّ الله هو الخالق الرازق - وأنّه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعا إليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ، وعرفت أنّ التوحيد الذي جحدوه هو (توحيد العبادة)، الذي يسمّيه المشركون في زماننا الاعتقاد.((1))

وتعليقاً على هذه الفقرة يقول الشيخ حسن بن فرحان المالكي: سامح الله الشيخ محمداً، ففي هذا النص تكفير صريح لعلماء المسلمين في زمانه أو كثير منهم، فإن كان يقصد كلّ الذين يطلقون كلمة (الاعتقاد) على كتب العقيدة، فقد كفّر كلّ العلماء في زمانه، وإن كان يقصد الاعتقاد الخاص (اعتقاد الصوفية) فقد كفّر بعض العلماء دون نظر لتأويلهم فالتأويل مانع كبير من موانع التكفير، فإن كان قصده الأوّل فهذا من التكفير الخفيّ الذي لا يدركه كلّ قارئ، إذ يصبح مقصود الشيخ بالمشركين في زمانه هم الذين لهم كتب يسمّونها (الاعتقاد) وهذه ليست في أُمّة سوى أُمّة المسلمين.((2))

2. تطهير البرامج الدراسية في بعض الدول

إنّ وزارات التربية والتعليم في بعض الدول قد أدخلت في برامجها الدراسية الفكر الوهابي في تكفير المسلمين، وتدرّس هذه الأفكار لطلاب المدارس بمراحلها المختلفة، ونحن نذكر أُنموذجاً من منهج التربية الإسلامية للصف العاشر في دولة الكويت، فقد جاء فيه تحت عنوان «نواقض التوحيد»:

الشرك نوعان:

أ. الشرك الأكبر: وهو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله سبحانه وتعالى كالدعاء لغير الله عزّ وجلّ، أو التقرب بالذبائح والنذور لغير الله عزّ وجلّ من القبور والجن والشياطين، والخوف من الموتى أو غيرهم أن يضرّوه أو يمرضوه وعبادة غير الله كالذين

ص: 107


1- . محمد بن عبدالوهاب، كشف الشبهات، ص6.
2- . حسن بن فرحان المالکي، داعية وليس نبياً، ص43.

عبدوا العجل والكواكب والأحجار والأصنام، قال تعالى: )وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ(((1)).

ثمّ إنّه يضع جدولاً يفرق فيه بين حكم الشرك الأكبر والشرك الأصغر، فيذكر أنّه من حيث العقيدة الشرك الأكبر يخرج من ملّة الإسلام، ومن حيث العقوبة فعقوبة الشرك الأكبر هي إباحة دم المشرك وماله وخلوده في النار.((2))

وهنا أُمور أُخرى في علاج هذه المشكلة نذكرها باختصار:

إظهار الموقف الشرعي الواضح والصريح بإدانة التكفير لأحد من أهل القبلة على أساس الاختلافات المذهبية والعقدية المعروفة في الأُمّة. وتحريم وتجريم ممارسات العنف والإرهاب.

تحذير أبناء الأُمّة وتوعيتهم عبر مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، ومنابر الخطاب الديني، من شر وخطر هذه الاتّجاهات التكفيريّة، فهي أعظم منكر يجب النهي عنه والوقوف أمامه في هذا العصر.

نشر ثقافة الإسلام، وتعاليمه السامية، في التآخي والرحمة والمحبة والتسامح، بين المسلمين، بل بين أبناء البشرية جمعاء، فالناس صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق؛ كما قال أمير المؤمنين علي علیه السلام .

الجدّية في الحوار والتقارب والتواصل بين قادة المذاهب الإسلامية، وزعامات الأُمّة، ومؤسسات المجتمع المدني.

استمرار بذل الجهود وتضافر القوى لمواجهة تيارات التكفير عبر انعقاد المؤتمرات، والنشاط العلمي والإعلامي، وتشكيل لجان المتابعة للقرارات والمقترحات.

ص: 108


1- . يونس، آیة 18.
2- . لاحظ: التربية الإسلامية للصف العاشر في دولة الكويت، ص22-23 و 44-45، الطبعة الثانية، 1423ه- ، نقلاً عن كتاب: دشتي، تطهير المناهج من التكفير، ص10.

المصادر:

1. القرآن الکریم.

2. ابن أبي شيبه، عبدالله بن محمّد، المصنّف في الأحاديث والآثار، تحقيق وتعليق: سعيد اللحام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1409 ه- .

3. ابن الوزير، محمد بن إبراهيم، إيثار الحقّ على الخلق، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1407ه- .

4. ابن تيميه، احمد بن عبد الحليم، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى، 1406 ه- .

5. ------------------------------ ، مجموع الفتاوى، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، 1416ه- .

6. ابن حجر العسقلاني، احمد بن علي، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، 1379ه- .

7. ابن حزم الأندلسي، علی بن احمد، الفصل في الملل والأهواء والنحل، دار الصادر، بيروت، الطبعة الأولی، 1317 ه- .

8. ابن حنبل شيباني، احمد بن محمّد، مسند أحمد بن حنبل، دار صادر، بيروت.

9. ابن دقيق العيد، إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام، مطبعة السنة المحمدية.

10. ابن عابدين، محمّد امين بن عمر، رد المحتار على الدر المختار، دار الفکر، بيروت، الطبعة الثانیة، 1412ه- .

11. ابن كثير الدمشقي، إسماعيل بن عمر، السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1395ه- .

12. ابن ماجة القزويني، محمد بن يزيد، سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، (لا ت).

13. ابن ميثم البحراني، قواعد المرام في علم الكلام، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، الطبعة الثانية، 1406 ه- .

14. ابن هشام الحميري، عبدالملک، السيرة النبوية، تحقيق وضبط وتعليق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة، 1383ه- .

15. الأردبيلي،أحمد، مجمع الفائدة، تحقيق: مجتبى العراقي، علي پناه الاشتهاردي، حسين اليزدي الأصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1404 ه- .

16. الإمام زين العابدين علیه السلام ، الصحيفة السجادية الكاملة، تحقيق: حاج عبد الرحيم أفشاري زنجاني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، 1404 ه-.

ص: 109

17. الايجي، عبدالرحمن بن احمد، المواقف، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1417 ه-.

18. البخاري، محمّد بن اسماعيل، الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلّي الله عليه وسلّم وسننه و أيامه، تحقيق: محمد زهير بن ناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422ه- .

19. البغوي، حسين بن مسعود، معالم التنزيل في تفسير القرآن، تحقيق: خالد عبد الرحمن العك، دار المعرفة، بيروت، (لا ت)

20. البَلَاذُري،أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف، تحقيق: سهيل زكار ورياض الزركلي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1417 ه- .

21. البيهقي، أحمد بن حسين، السنن الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة، 1424 ه- .

22. الترمذي، محمّد بن عيسي، سنن الترمذي، تحقيق وتصحيح : عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية، 1403 ه- .

23. التفتازانى، مسعود بن عمر، شرح المقاصد في علم الكلام، نشر الشريف الرضي، قم، الطبعة الأولى، 1409ق.

24. الجوهري، اسماعيل بن حماد، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1407 ه- .

25. خطب الإمام علي علیه السلام ، نهج البلاغة، شرح: الشيخ محمد عبده، دار الذخائر، قم، الطبعة الأولى، 1412 ه-

26. الدشتی،عبدالله، تطهیر المناهج من التکفیر، الطعبة الأولی، 1428 ه- .

27. الرازي، محمّد بن عمر، مفاتيح الغيب، الطبعة الثانیة، (لا م، لا ت)

28. الراغب الأصفهانى، الحسين بن محمد، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1412 ه-

29. الزمخشري، محمود بن عمرو، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1407 ه-.

30. السبحانی، جعفر، بحوث فی الملل والنحل، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، (لا ت).

31. سبط بن جوزى، تذكرة الخواص من الأمة في ذكر خصائص الأئمة، منشورات الشريف الرضي، قم، الطبعة الأولی، 1418 ه- .

32. السمهودي، علي بن عبد الله، وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1419 ه- .

ص: 110

33. السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الجامع الصغير، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1401 ه- .

34. ----------------------------------- ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، بيروت، (لا ت).

35. الشافعی، محمّد بن ادریس، كتاب الأم، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403ه- .

36. الشريف المرتضى، علی بن الحسین، الذخيرة في علم الكلام، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1411 ه- .

37. الشعرانی، عبد الوهاب بن احمد، الیواقیت والجواهر فی بیان عقائد الأکابر، دار الکتب العلمیة، بیروت، الطبعة الثانیة، 2007م.

38. الشوكاني، محمّد بن علي، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، دارالمعرفة، بيروت، (لا ت)

39. الشيخ الطبرسي، تفسير مجمع البيان، تحقيق وتعليق : لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، الطبعة الأولی، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1415 ه- .

40. الصدوق، محمّد بن علی بن بابویه، علل الشرائع، کتابفروشی داوری، قم، الطبعة الأولی، 1386 ه- .

41. الطبري، محمّد بن جرير، تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري، دار التراث، بيروت، الطبعة الثانية، 1387 ه- .

42. ------------------------، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق و تقديم: الشيخ خليل الميس، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1415ه- .

43. عبد الجبّار بن احمد، شرح الاصول الخمسة، تحقیق: عبد الکریم عثمان، مكتبة وهبة للطباعة والنشر، القاهرة (لا ت).

44. علماء نجد، الدرر السنية في الأجوبة النجدية، تحقیق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، موقع مكتبة المدينة الرقمية، الطبعة السادسة، 1417 ه- ، (لا م).

45. الغزالي، محمد بن محمد، الاقتصاد في الاعتقاد، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1424ه- .

46. الفاضل الهندي، محمّد بن الحسن، كشف اللثام، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، الطبعة الأولى، 1416 ه- .

47. القرطبي، محمّد بن احمد، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب، الرياض، 1423 ه- .

48. القزويني الرازي، احمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399ه- .

ص: 111

49. القسطلاني، احمد بن محمّد، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، الطبعة السابعة، 1323 ه- .

50. الكليني، محمّد بن يعقوب، الكافي، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الثالثة، 1367 ش.

51. المالكي، حسن بن فرحان، داعیة ولیس نبیاً، دار الرازی للطباعة والنشر، عمان، الطبعة الأولی، 1425ه- .

52. المتقي الهندي، علي بن حسام، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، تحقيق: بكري حياني وصفوة السقا، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة، 1401ه-.

53. محمّد بن عبد الوهّاب، كشف الشبهات، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1418 ه- .

54. المنقري، نصر بن مزاحم، وقعة صفين، تحقيق وشرح : عبد السلام محمد هارون، المؤسسة العربية الحديثة للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الثانية، 1382ه- .

55. المودودی، ابو الاعلی، المصطلحات الاربعة فی القرآن، تعریب محمّد کاظم سباق، دار الفتح، دمشق.

56. مير سيد الشريف، شرح المواقف، نشر الشريف الرضي، قم، الطبعة الأولی، 1325ه- .

57. النجفی، محمّد حسن، جواهر الكلام، تحقيق وتعليق : الشيخ عباس القوچاني، دار الكتب الإسلامية،

طهران، الطبعة الثانية، 1365ش.

58. النراقی، احمد بن محمّد مهدی، مستند الشيعة، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بمشهد المقدسة، نشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، الطبعة الأولی، 1415ه- .

59. النسائي، احمد بن شعيب، السنن الصغرى، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، الطبعة الثانیة،1406ه-.

60. النووي، يحيى بن شرف، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانیة، 1392ه- .

61. النيسابوري، الحسن بن محمد، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، تحقيق: الشيخ زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى،1416ه- .

62. النيشابوري، محمّد بن عبدالله، المستدرك على الصحيحين، دار المعرفة، بیروت، (لا ت).

63. النيشابوري، مسلم بن حجّاج، المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(صحیح مسلم)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الکفر، بيروت، (لا ت).

64. اليزدي، محمّد کاظم، العروة الوثقى، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الأولی، 1417ه- .

ص: 112

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.