الفعل الإبداعي في كلام الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام

هوية الکتاب

العنوان: الفعل الإبداعي في كلام الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام

المؤلف: أ.د. صباح عباس عنوز

إشراف ومراجعة :مركز الإمام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية

الناشر : مركز الإمام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية -

النجف الاشرف 1444ه- 2022م

المطبعة :مطبعة الثقلين، النجف الأشرف.

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد (989) لسنة 2022م

التصميم والإخراج الفني

أحمد مكّي جعفر

am│AGENCY

ص: 1

اشارة

ص: 2

الفعل الإبداعي

في كلام الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام

أ.د. صباح عباس عنوز

ص: 3

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز

العراق - النجف الأشرف

07802591436

هوية الكتاب

العنوان: الفعل الإبداعي في كلام الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام

المؤلف: أ.د. صباح عباس عنوز

إشراف ومراجعة :مركز الإمام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية

الناشر : مركز الإمام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية -

النجف الاشرف 1444ه- 2022م

المطبعة :مطبعة الثقلين، النجف الأشرف.

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد (989) لسنة 2022م

التصميم والإخراج الفني

أحمد مكّي جعفر

am│AGENCY

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 5

قَالَ تَعَالَى:

«وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا

وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً

وَلَا شُكُورًا »

الإنسان: 8 - 9

ص: 6

المحتويات

مقدمة مركز الإمام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية ... 9

الإهداء ... 11

المقدمة: ... 12

التمهيد ... 16

كلام الإمام علي علیه السلام منْ محاولاتِ تغييبِه إلى عُلُوّ فنيّتِهِ ... 16

المبحث الأول ... 27

الفعل الإبداعي من فرادة اللغة والأداء الخاص إلى الوظيفة النفسية ... 27

رؤية في الفعل الإبداعي والوظيفة النفسية عند المتلقي ... 29

المبحث الثاني ... 55

الفعل الإبداعي وعلاقته بالفنيّة والابتكار في كلام الإمام علیه السلام ... 55

توطئة: ... 57

المبحث الثالث ... 81

الانفرادات البلاغية وعلاقتها بتشكيل الصورة المبتكرة ... 81

توطئة : ... 83

المبحث الرابع ... 109

الفعل الإبداعي بين التكثيف البلاغي و ارتقاء الكلام إلى مستوى المثل ... 109

توطئة: ... 111

المبحث الخامس ... 137

انفرادات الإمام علي علیه السلام البلاغية وعلاقاتها بالعلوم الأخرى ... 137

ثانيا : الاتجاه النفسي والوظائف التربوية: ... 145

الخاتمة ... 177

المصادر والمراجع ... 183

ص: 7

ص: 8

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة مركز الإمام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية

والحمد لله كما يُحب أنْ يُحمد ، وصلى الله على رسوله الأمجد أبي القاسم محمّد وعلى آله الغر الميامين سؤدد الدين ، ولا سيّما أمير المؤمنين سيّد البلغاء والمتكلمين بعد الرسول الأمين.

لا يُنكر أحدٌ أن كلام الإمام أمير المؤمنين علیه السلام كلام يمثّل أصدقَ تجليات الإبداع؛

لأنّ روحه صافية، فلم تصبها أدران الجاهلية و العقائد الإلحادية...

تربّى فتى بني هاشم في بيوت الفصاحة والبلاغة، وفي كنف أفصح من نطق بالضاد ، فتعلّم خصاله وشمائله، واكتسب من منطقه ما اكتسب، فقد كان للأثر النبوي ظهور بيّن في كلامه، كما خَبِرَ الإمام علي فصاحة العرب ووعاها وأضاف لها سحر البيان، ودقة المعنى، وبلاغة المنطق... مما يتطلبه دواعي القول لديه، واكتفى بالنبع الذي لا ينضب من كلام الله تعالى المجيد في القرآن الكريم.

تَتلمذ عند أعظم مدّرس في التاريخ صاحب الخلق العظيم والعلم الرفيع وفي (مدرسة القرآن)، فكان القرآن الكريم ضميره وسلوكه، وعى معانيه وأدرك أسراره، وكان من السبّاقين إلى حفظه ،و جمعه، فأثر ذلك بكلام الإمام في خطبه ورسائله وحكمه..

فلا تجد أبرع منه في توصيف دقائق الأمور وأعاظمها؛ لأنّ المواقف والتجارب التي مرت به جعلته خبيرا بالدنيا وأهلها فكان المُفوّه الذي لا يُجارى والخطيبَ الذي لا يُشق له غبار.

إنّ انتقاء الإمام أمير المؤمنين علیه السلام للكلمات والعبارات في خطبه وعموم كلامه على الرغم من عفويته وسجيته، إلّا أنّه كان مدروساً ومنظًا بشكل يخدم المعنى

ص: 9

والموقف في آن بلا تكلف أو تزويق مخل، وقد حقّق الإمام في ذلك التوازن والتنغيم عن طريق الأسجاع اللطيفة والتكرار الجميل أو من خلال المقابلة والطباق، بما يخلق لدينا أدبا رفيعا عاليا ...

فقد شهدت المفردة اللغوية في كلام الامام أمير المؤمنين علیه السلام انتقاء ينمّ عن فطنة وذكاء، وعن دراية باللغة ومكنوناتها، فاتسمت مفرداته بالدقة والإيحاء واقتباسها من القرآن سواء في اقتباسها الصريح أم اقتباس الاستعمال القرآني لها أم نقلها من محيطها القرآني إلى موقف فني جديد.

لذا كانت تراكيب خطب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ورسائله تتسم بالتوظيف اللغوي المتقن عن طريق توظيفه لطاقات اللغة وخاصة طاقات التركيب ليحقق غاياته القولية التي جعلت من كلامه بأعلى سمات الفصاحة والبلاغة، وكانت سمت الجمل الطويلة من أدلّ سمات كلامه وأبينها، خالقة التشويق والتلذذ والمتابعة لدى المتلقي.

ومن هذه المعطيات الرائعة انبرى الأستاذ الدكتور صباح عنوز مؤلف الكتاب إلى تسليط الضوء على الفعل الإبداعي في كلام الإمام أمير المؤمنين علیه السلام؛ لأنَّ كلامه قد اتصف بخصائص تكوينية جعلته يتبوأ مكانة سامية في مراقي القول العربي، إذ جمع بين جمالية الشكل وأصالة المضمون .... فكل الشكر والتقدير للمؤلف على جهده العلمي المبارك، لذا عمل المركز على مراجعة الكتاب والإشراف عليه، وعرضه على المجلس العلمي الاستشاري التابع للمركز، فتقرر طبعه ونشره ليكون بين يدي القارئ الكريم مساهمة منه لنشر فكر وتراث امام المتقين ووارث علم النبيين والله من وراء القصد.

مركز الإمام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية

النجف الأشرف

جمادي الآخرة 1443 ه- 1 / 1 / 2022م

ص: 10

الإهداء

إليك يامَنْ سَطَعْتَ في سَماءِ الفضيلةِ قِيَماً إنسانيةً ملوّنَةً بالصفاء.

يا مَنْ وقَفْتَ على قمّة الخلودِ صوتاً إنسانيّاً مرتوياً بالعطاءِ..

فبَقِيَتْ أفعالُكَ مضيئةً في صحْوٍ الإنسانِ ... وكلماتُكَ مكتوبَةً في سجلِّ

الوجدانٍ.

يا مَنْ وهَبْتَ للهدايةِ معنى روحيّاً، وللأصالةِ فكراً سامياً..

إليكَ يا مَنْ تَنْذَرِفُ أمواجُ الكِبْرِ مِنْ علياك، ويَعْتكِفُ سمُو ُّ

الشموخِ على مَثْواك فينكشِفُ ليلُ الهمِّ في رُباك..

إليك يا سيّدي هذه رؤاي ترتوي بتجليّات إبداعِكُم، وتكتسي بتأملاتِ نهجِكُم ، باحثاً عن مواطنِ الجمال والأصالَةِ، ومفتشِاً عَنْ مكامنِ الخيالّ والفُرادةِ، إِنصَافاً للحقيقةِ اللامعَةِ، واعْترافاً بالفكرةِ

السَّاطعة ...

إليك يا سيّدي وإمامي الذاكر الهادي، سيّد العُرْب وأمير المؤمنين، والشاهد الداعي، كشّاف الكَرْبِ ويعْسُوب الدين..

هذا جهدي الشاهدُ بِسمُوِّ كلامِكم، والراصدُ لرُقّيِّ بلاغتِكُم..

فتقبّلْهُ منِّي... فإنّي أهبطُ قيعانَ منائِركُم كَيْ أتسلَّقَ مَئْذَنَةَ الروحِ .

إلَيْكَ سيّدي وإمامي يا عليّ بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليك ) .

خادمكم

صباح عباس عنوز

ص: 11

المقدمة:

الحمد لله عالِم السرائرِ، ومنيرِ البصائر ، آنس الأنسين وملاذِ العابدين، ربِ العالَمين، والصلاة والسلام على نبيّنا الأمين وآل بيته الطيبين الطاهرين، والسلام على علیه السلام إمامنا علي القائل: (كُلِّ مُقْتَصَرِ

عليهِ كافٍ)(1).

وبعد:

فيُعَدُّ كلامُ الإمام على علیه السلام وثيقةً أدبيّةً مرتويةً فكرياً، ومَصُوغَةً فنيّاً، ومُرتبةً ،أسلوبيّاً، فاتصف كلامه بخصائص تكوينية جعلته يتبوأ مكانةً سامية في مراقي القَوْلِ العربي، إذ حصل الجمع بين جمالية الشكل وأصالة المضمون، فبانَتْ الدلالة بعيدٌ غَوْرُها عميق معناها، وهنا تجلى التفرّد، لأن المبدعين إذا ركز أحدهم على الشكل ضَعُف عنده المضمون وبالعكس، إلا كلام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم عالية وآل بيته ، فقد تميزت سمات الكلام عندهم من سواه، لذلك كان الأداء خاصاً في تعبير الإمام علي علیه السلام، مبنياً على عمق التأمل، لأنّ الإمام كان رفيق درب للنبي الأكرم يرافقه دائماً في مسيرته الاجتماعية، وأحياناً في خلوتِه الرّسالية، فكم تأمَّل الحوار السماوي مع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، إذ تعلّم منه كل شيء، وبات علمه امتداداً للمدرسةِ النبوية الشريفة، فجاء كلامه إبداعاً لا اتباعاً، وصَحَّ أن تُؤخذ أقواله مثلًا أو تضميناً لينير نصوص الآخرين، إذ تفرّد كلامه علیه السلام في مستوييه التركيبي والتداولي بخصائص أسلوبية ميّزَتْهُ من أقرانه، فأفصح هذا التميّزُ عن قدرة فائقة في ركوبِ مساراتِ الكلامِ

ص: 12


1- بمعنى: (إذا اقتصرت على شيء فقنعت به فقد كفاك)

وبلاغاته، لأنه سَلَكَ البيان فانفردَتْ أساليبه، واختار طرائق التعبير فتألّقَتْ مضامينه، إذ اصطفى الكَلِم بعناية ربّانيّة، وأوْدَعَ اللفظ إيماءةً روحانية، فبات كلامه قيمةً ،وقمّةً، وصار حديثه حُجَّةً وهَجَةً، برهاناً وحَجّةً، دَليلاً وجادّةً، لم ينا المنشئون في كلامهم عن مساراتِ قوله وبلاغته، ولم تَقْوَ قرائحُ المبدعين على مجاراة فكره وأسلوبه، فاتخذ المبدعون كلامه دالة ودلالة، والتزم المتميزون نهجه رؤية وعلامة.

فمن غرائب كلامه وعجائب تعبيره أن فعله الإبداعي هو نفسه في الحرب والسلم، فلا رهبة ولا انفعال، ولا غفلة ولا افتعال ، إنّما ينبثق كلامه نصحاً وعلماً من أعماقه إنبثاق اليقين، وينبعُ أنساً ولُطْفَاً في أسماع ووجدان العارفين، فظل كلامه مورقاً بالإبداع على مر السنين، فرادةً في اللغة، وأصالة في الدلالة، وابتكاراً في الصورة.

لقد قرأتُ كلام الإمام عليّ علیه السلام في المدونات الحديثية وفي نهج البلاغةِ فهالني الغنى، وأدهشني التفرّد، وأنا أسافر وأتلبَّتُ في بحور کلامه و سياقاته، وأحلّقُ وأجوب في فضاء تعبيره ودلالاته فأبهرني الخيال، وأسرني الجمال.

لذلك راودتني فكرة الكتابة عن ذلك الإرث الرائع، ولكنني آثرْتُ أن ألم شتات أمري، وأعضد آليات حججي ، لأردَّ علميّاً على ما جاءت به أقوال السفهاء من شيء، وما أثارته آراء الغرباء في الرأي اؤلئك الذين نعقوا وراء نعيق كهنَةِ ،الجهل، فشكّكوا في نسبة نهج البلاغة للإمام علي علیه السلام ، فجعلني أمر غيّهم أتحرى دوافعهم ، وأحاور مقاصدهم، لأقطَّعَ أوصال شكّهم كي استئصلَهُ من صدور الواهمين، وأثبت الصحيحَ فأزرعه في أذهان المتلقين.

ص: 13

ولم ألجأ إلى حجّة الرأي بالهوى، فأدعها مثلبة علي، ولكن تمسكتُ بتلابيب المنهجية العلمية، والرؤى التي تخصُّ فرادة اللغة والابتكار في السياقات التعبيرية، فضلاً عن مهارات الكلام البلاغية وسبله الفنية، فاستعنت بالنظريات الحديثة وأنا أصفُ مساربَ الكلام وأحللها، وأتابع مقاصد الدلالات وأعللها، - وكل ذلك على حد علمي - فإن صَدَقَتْ آرائي في تعليلاتها عند أصحاب العلم فهي الفيصل والعظةً، وإن قصّرَتْ في تحليلاتها ، فأسأل الله العفو والمغفرة، لأنَّ القصد صادقٌ وكريمٌ ، والمسعى هادف وسليم.

ولا يهمني إذا كُذِّبَتْ آرائي عند المتحاملين على آل بيت الرسول (صلوات الله وسلامه عليهم) ، فلأهل الشكّ الحاقدين الشطط والسَّفهُ، لأنهم غدّوا نفوسهم بالظلم والخراب، فابتعدوا عن جادة الصحو والصواب.

لذلك لملمتُ معلوماتي العلمية ودخلتُ معتركاً لأنصف أهل

الحقيقة، وأدلّي على ماء الفضيلة، ففي كلامه علیه السلام مكمن النبل والجد، ونقاء الرأي والقصد، وهكذا قرّرتُ الكتابة وتطويع معارفي في إنجاز هذا الكتاب، بحسب ما أستطيع إليه سبيلاً، لإثبات الفعل الإبداعي في كلام الإمام علي علیه السلام انفرادات تعبيرية وصواغةً، وقوّةً بلاغيّةً وأصالة، ورُقِيَّ قولٍ ومهارةً، فجاءت خطة البحث على النحو الآتي:

التمهيد: كلام الإمام علي علیه السلام من محاولات تغييبه إلى عُلُوّ فنيّته.

المبحث الأول: الفعل الإبداعي من فرادة اللغة والأداء الخاص إلى الوظيفة النفسية.

المبحث الثاني: الفعل الإبداعي وعلاقته بالفنية والإبتكار.

ص: 14

المبحث الثالث: الانفرادات البلاغية وعلاقتها بتشكيل الصورة

المبتكرة.

المبحث الرابع :الفعل الإبداعي بين التكثيف البلاغي و ارتقاء الكلام إلى مستوى المثل.

المبحث الخامس: انفرادات الإمام علي البلاغية وعلاقاتها بالعلوم

الأخرى.

ثمَّ جاءت الخاتمة وقائمة المصادر.

ختاماً أسأل الله سبحانه التوفيق والسداد، والحمد لله رب العالمين.

المُؤلف

6 /صفر / 1439 ه- - 13/ 9 / 2021م.

ص: 15

التمهيد

كلام الإمام علي علیه السلام مِنْ محاولات تغييبه إلى عُلُوّ فنيته

إنّ القارئ الموضوعيّ الفطن للوقائع التاريخية في العصر الأموي يقفُ عند إعلام بغيض جانب الحقيقة وابتعد عن الحيادية، كثرتِ المحاولات في تغييب كلام الإمام علي علیه السلام، واختلقوا الروايات في عدم نسبة كلام نهج البلاغة للإمام، مع معرفة الفصحاء بعلوّ فنيته، وامتد الأمر إلى أكثر من ذلك فطعنوا بنصوص الحديث الشريف التي تتحدّث عن فضائل الإمام علي وآل بيته علیهم السلام، ولعلّ سؤالاً يَرِدُّ لماذا هذا الأمر؟، مع ان الإمام عليّاً ربيب بیت النبوة، وكان (في أوّل عهده بالنبيّ صلی الله علیه و آله وسلم يتلبث هذا التأمل الدائم في تفكير النبي محمّد صلی الله علیه و آله وسلم، ويترصد هذه الخلوة الروحية لديه، وهو يقلب وجهه في السماء، ويتجه بضميره الله في حالة من الخشوع والترقب والابتهال حتى إذا فاجأه الوحي وعى من النبي هذا الانقطاع الكلي إلى ما يوحى إليه) (1) ، وعلى وفق هذا فالإمام علي علیه السلام أوّل الناس إسلاماً، وأكثرهم معرفة بأمور الدين، فلماذا لم ينصفه المدعون بالإسلام بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم؟ فالجواب على هذا السؤال يؤكد ابتعادهم عن الإنصاف، لأنهم لم يأمنوا بالإسلام عن صدق نية و بقلوب بيضاء، وإنما (من العرب من جرت كلمة الإسلام على لسانه ولكنه احتفظ بالجاهلية كامنة في قلبه وضميره) (2)، فأغلبهم عشش الشيطان في صدورهم فاض وفرخ ودَبَّ ودَرَجَ، كا قال الإمام علي علیه السلام:

ص: 16


1- الإمام علي سيرته وقيادته في ضوء المنهج التحليلي، أ.د محمّد حسين الصغير، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، 1423ه- / - 2002م : 16
2- الفتنة الكبرى، د. طه حسين: 39/1.

اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً، واتخذهم له أشراكاً، فباض وفرّخ في صدورهم، ودبِّ ودرج في حجورهم، فنظرّ بأعينهم، ونطقَ بألسنتهم، فركبَ بهم ،الزلل، وزين لهم الخطل..)(1)، فراح الإعلام الأموي يطمس الحقائق تدفعهم جاهليتهم وعدم الإيمان الصادق بالإسلام، إذْ (دلَّت الحقائق التاريخية أن الناس استأثروا بالسلطة ومالوا إلى الدنيا فمنهم من ظلت الجاهلية كامنة في أعماقه تستيقظ متى تهيأ لها المناخ... ومنهم من جاء إلى الإسلام رهبة لا رغبة، وخوفاً وجزعاً مما قد يصيبه، فلم يكن كل من عاش في زمن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وقد أسلم مسلماً بالحقيقة والصفاء) (2)، فظهر الصراع بين محبي الحياة الدنيا والراكضين وراء شهواتها، وبين المؤمنين حقاً بقيم الإسلام النبيلة، إذ إن الانقسام ظهر عند ارتقاء علي علیه السلام سدة الخلافة حقيقة واقعة فالمسلمون الدنيويون انتصروا لمعاوية الذي كان والياً على الشام ورفضوا مبايعة علي)(3)، فكان المخلصون الذين أسلموا وآمنوا بصدق إيماني قلّة، وقد أخبرنا القرآن الكريم في أكثر من موضع بقلة أصحاب الحق دوماً، فقد قال تعالى:«أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ » (4)، وفي وضع آخر أوضح القرآن الكريم عدم مطابقة اللسان للقلب عند بعض، فديدنهم النفاق والمراوغة، إذ قال تعالى: «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ

ص: 17


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد: 1/ 228.
2- نهج البلاغة صوت الحقيقة، دراسة إثباته في ضوء النص النقلي وماهية المنجز الفني أ. د صباح عباس عنوز طبع دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع، مؤسسة علوم نهج البلاغة، العتبة الحسينية المقدسة، ط 1 ، 1436 ه - 2015م: 17 .
3- الفكر العربي ومركزه في التاريخ، أوليري دي لاسي، ترجمة إسماعيل البيطار، دار الكتاب اللبناني، بيروت: 61 .
4- سورة المؤمنون: 70

وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ »(1)، فلم يكُنْ إيمان بعض من الناس صادراً عن قوة إيمانية ونقاء سريرة، ولا غرابة في ذلك فقد وصفهم الباري عز وجل: «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » (2) ، ولعل الحديث الشريف الآتي يوضح لنا حقيقة بعض ممن يُطلق عليهم بالأصحاب، فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله : ( فأقول يا ربّ أصحابي؟ فيقال: أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) (3)، فلم يكن كلهم على سوية واحدة، إذ لم يتخلص هؤلاء الذين ينطبق عليهم الرأي هذا من شوائب الجاهلية، وإنما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود)(4)، فمسألة تأثير الرسول صلى الله عليه وسلم في الوعي الجاهلي كانت من المعاجز الإلهية، إذ نقل العقول من غياهب الجهل بكل تفاصيله إلى شمس الإيمان بكل تجلياتها، وهذا الأمر يفسّر لنا بقاء عدد المؤمنين حقاً

ص: 18


1- سورة التوبة : 8
2- سورة التوبة/ 97 .
3- بحار الأنوار (كتاب الفتن والمحن) : 28 / 199 ، نص الحديث : [ إنكم تحشرون يوم القيامة حفاة عراة، وإنه سيجاء برجال أمتي ويؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا رب أصحابي ؟ فيقال: أنك لاتدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ] وظ معرفة الرجال طرق ارتداد الناس بعد رسول الله( صلى الله عليه وسلم ) ، الشيخ الطوسي، تصحيح وتعليق ميردامادا لاستربادي، تحقيق السيّد مهدي الرجائي، نشر مؤسسة آل البيت ، مطبعة ،بعثت، قم المقدسة، 1404ه- : 1 / 48 ، أورد الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم : يرد يوم القيامة رهط من أصحابي يحلؤون عن الحوض فأقول يارب أصحابي ؟ فيقال: أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم القهقرى] وظ: أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، (مسند عبد الله بن العباس عبد المطلب) دار صادر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت: 1/ 235 أورد الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم : [ وإنه سيجاء برجال أمتي فيؤ خذهم ذات الشمال فأقول يا رب اصحابي ؟ فيقال: أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم].
4- الفتنة الكبرى . د. طه حسین: 39/1.

بكنه الرسالة المحمّدية قليلٌ، فهم الأصحاب حقاً، فلم يكن الأعم الأغلب كعمار بن ياسر والمقداد وأبي ذر وأقرانهم، لأن هؤلاء عجنت سرائرهم الصعاب وقادهم إلى حب الإسلام الصواب فآمنوا بدعوة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم و فقهوا معنى الدين وشوارده وفهموا نواحيه وموارده، فلم يهنوا عن قولة الحق لحظة، ولم يتراجعوا عن الحقيقة خطوةً) (1)، لقد لقي الإمام علي علیه السلام وأبناؤه ما لقيه من أولئك

الذين حملوا تلول الغيض عليهم ، ولم يعجبهم ما قاله الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في حق الإمام علي، فحاولوا إخفاء كل فضيلة وردت في حق الإمام علي علیه السلام، فقد وردت أحاديث شريفة في حق الإمام علي علیه السلام، منها : (أشبهت خلقي وخلقي)(2) ، و(كانت ضرباته وترا) (3)، و (لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي )(4)، و (أقضاكم علي ) (5) ، و (أنت يعسوب الدين والمال يعسوب الظلمة) (6) ، و (هذا يعسوب المؤمنين وقائد الغر المحجلين) (7)، ومن كنت مولاه فعلي مولاه (8) ، وقال صلی الله علیه و آله وسلم فيه أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (9) ، فضلا عن الأخبار التي

ص: 19


1- نهج البلاغة صوت الحقيقة: 17 .
2- صحيح البخاري، كتاب الصلح (2700) وظ : كتاب المناقب باب مناقب جعفر بن أبي طالب (3765) . وظ: مسند أحمد (859).
3- الصراط المستقيم، العاملي: 1/ 161، بحار الأنوار للمجلسي: 143/41.
4- شرح ابن أبي الحديد: 1/ 20 .
5- صحيح البخاري 4481 ، كتاب تفسير القرآن باب قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا . وظ: مسند أحمد (20581)
6- المعجم الكبير ، الطبراني : 6184 وظ: مسند أحمد، فضائل الصحابة.
7- مسند أحمد، فضائل الصحابة، وظ: حلية الأولياء، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني.
8- مسند أحمد 347/5 ، وظ: الخصائص للنسائي 21 ، والحاكم : 110/3 .
9- ورد في (204) مصدر ، ظ الكشاف المنتقى لفضائل علي المرتضى ، كاظم عبود الفتلاوي مكتبة الروضة الحيدرية: 1/ 188.

ذكرها الناس في شجاعته فما صارع أحداً قط إلا صرعه(1)، (وقد نسي الناس فيها من كان قبله ومحا من يأتي بعده)(2)، وفضائله، وفي قيم الفضائل التي يتمتع بها (تعزى إليه كل فضيلة وتنتهي إليه كل فرقة وتتجاذبه كل طائفة فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عُذرها وسابق مضمارها و مجلي حلبتها كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ و به اقتفى و على مثاله احتذى) (3) ، فهو (المقرّب من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وهو سَنَدُ المحرومين المحبوب من المسلمين، عوْنُ الضعفاء والقريب من البسطاء، المجاهد المهيب التقي، القاضي العادل القوي الشجاع الفقيه الكمي، الحليم العافي النقي، الزاهد المفكر الولي والكريم المعطاء السخي، صاحب الرأي السديد والنصح الحميد، كان عوناً للإسلام والمسلمين) (4)، وقد صار شخص الإمام علیه السلام مثلاً سامياً بکل شمائله، فأحبّه عامة الناس.

وكم كتمَ علیه السلام ما عاناه من استلابِ حقَّه وإهمال أمره، وكم

غَضّ الطرفَ عمّا تلمسَّه في سلوك الحاقدين وأفعال الباغين المارقين، وكان السبب في غضٌّ طرفه من أجل (لا اله إلا الله محمّد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم)، وحتّى يبقى الإسلام عالي السنام شامخاً.

لقد واجه الإمام علي علیه السلام وعياً جمعيّاً أموياً بغيضاً، إذْ مارس

الإعلام الأموي تعتيماً على فضائلهِ أفعالاً وأقوالاً، وحاول مسح الحقيقة التاريخية واقصاء التراث الفكريّ النبيل، فشنَّ طلّابُ الدنيا حَمْلَةً على الإمام علي علیه السلام وتراثه فاتسمّتْ تلك الحملة الشعواء

ص: 20


1- المعارف في التاريخ ابن قتيبه، وظ: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14/1
2- ظ :شرح ابن أبي الحديد: 1/ 13.
3- ظ: المصدر نفسه: 11/1.
4- نهج البلاغة صوت الحقيقة: 19.

بالحَسَدِ القديم والحقد الدفين عليه وعلى أهل بيته علیهم السلام، فتعرض إرثه الإنساني للتغييب والتكذيب، وباتَتْ كلّ مدوناته الإنسانية مرصودةً إعلامياً منهم ، فوصل الأمر بهم إلى نهب تراثه علیه السلام، فتجرأوا وألحقوا أقواله بآخرين حيناً، ومع ذلك بقي إرثه يفوح أريجاً، فماذا يقول أحد (في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بفضله ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله) (1).

إذ إنَّ من عوامل حقدهم على الإمام هو وقوفه دوماً مع الحق، ولا يخاف لومة لائم في سبيل الله سبحانه، فهو لا يساوم على خط الرسالة المحمّدية القويم ، ولا يحب السير إلا على طريق الإسلام المستقيم لأنه ( ربيب الوحي فقد رضع من ثدي النبوه صفاءها، وأنتشق من عطر الرسالة أريجها ، فامتلأ كيانه بهوائها، وامتزج دمه بنقائها، فكان نتاج الإسلام ،وثمره، وإيراق الخير وكنهه، وسماحة الإنصاف وقيمه) (2)، فكم قتل من أشرارهم، وكم أبكى المشركين وأذلهم ، فزاد النكاية بهم، حتى سُمّي بقتال العرب. كل هذه الأمور جعلت أصحاب الضغينة يقفون ضد الإمام علي علیه السلام، فشككوا في الأحاديث التي قيلت في حقه ووقفوا وقفة الضد من نسبة نهج البلاغة للإمام ، فغذت نواز عهم غايات سياسية كي يغيبوا وجه الحقيقة، مع أنهم في حقيقة الأمر يعرفون أن ما قيل في الإمام علیه السلام من الرسول . صحيح ، وأن ما جاء من كلام بليغ منسوب للإمام علي هو فعلا له، لكنهم ينطبق عليهم قول الإمام علي علیه السلام (بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم

ص: 21


1- نهج البلاغة، شرح ابن ابي الحديد: 11.
2- المصدر نفسه: 20 .

وراقهم زبرجها) (1)، ولا يخفى على دارس متخصص عارف بإسرار الكلام ومقاصده أن كلام الإمام علي علیه السلام مصوغ فنياً بأداء خاص وقدرة، ومهارة إبداعية ودربة، كما سنتناوله لاحقاً في هذا الكتاب إذ إن المستوى الظاهري أو التركيبي للنص يقوم على العلاقات النحوية وتكون الروابط السياقية منتجة للمعنى، فكل تشكيل نصي يشتمل على الفنية والإبداع يتأسس على عنصرين مهمين هما الصياغة الأدبية ذات الصلة بالبنى النصية والسياقات النصية المختلفة، والدلالة التي تتسع لتحمل معها وظائف إفهامية وتشريعية وإخبارية وإرشادية وجمالية وإيحائية تقوم على تآلف غريب عجيب بين الفنية و المضمون المتعدد المشارب (2)، وهذا الأمر نجده في كلام الإمام علي علیه السلام.

إذ إنّ نظرةً فاحصةً إلى أقواله تؤكد استعماله لعلوم البلاغة كلها بأعلى مراتب التعبير الفني ورُقِيّه، وهذه أولى الانفرادات التي يؤشرها الباحث المتخصص، ومع أن الدولة الأموية وقفت ضد انتشار كلامه وذيوعه إلا أن أحاديثه وصلت أعماق التلقي الإنساني بمشيئة ربانية، لم يجد عن طريق الحق مُطلقاً، لذلك عُرف أهلُ الحق بقلتهم، لأن القرآن الكريم أخبرنا بذلك: «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ » (3) و «وَأَكْثَرُهُمُ الْفَسِقُونَ »(4)، «أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»(5) ، وآيات أخرى، ولقد كان من العرب من جرت كلمة الإسلام

ص: 22


1- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده، الخطبة الشقشقية: 36
2- اعجازية التكوين الأسلوبي في النص القرآني: 26 .
3- سورة المؤمنون: 70.
4- سورة آل عمران: 110 .
5- سورة النحل : 75 .

على لسانه ولكنه احتفظ بالجاهلية كامنة في قلبه وضميره(1)، حتى في عهد الرسول محمّد صلی الله علیه و آله وسلم كان أصحابه المخلِصين للإسلام (كالشعرة البيضاء في الثور الأسود) (2)، إذ (دلت الحقائق التاريخية أن الناس استأثروا بالسلطة، ومالو إلى الدنيا، فمنهم من ظلت الجاهلية كامنة في أعماقه تستيقظ كلما تهيأ لها المناخ)(3)، إذ إنَّ (من العرب من جرت كلمة الإسلام على لسانه ولكنه احتفظ بالجاهلية كامنة في قلبه وضميره )(4) ولا عجب في ذلك فقد وصفهم الباري عز وجل «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ »(5)

فكانت مسألة منع تدوين الحديث على علاقة بذلك، لأن بعضاً لم يرد وصول الحديث الشريف إلى الآخرين لغايات سياسية وعقدية، فباتتْ مسألة منع تدوين الحديث على علاقة وثيقة بالوضع السياسي الأموي الذي شن حرباً إعلامية على الإمام علي علیه السلام وأهل بيته علیهم السلام؛ لمنع انتشار كلامهم، وقد وُضِع الإعلام آنذاك في خدمة الدولة الأموية التي هيأت كل شيء من أجل إخفاء فضائل الإمام علیه السلام، فالقول عن منع كتابة الحديث مصطنعة رشّحها الحكم الأموي للحد من نشر فضائل أهل البيت علیهم السلام وتخوفاً من اشتهار أحاديث الرسول محمّد صلی الله علیه و آله وسلم

ص: 23


1- الفتنة الكبرى، د. طه حسین: 39/1.
2- المصدر نفسه: 39/1.
3- نهج البلاغة صوت الحقيقة، دراسة اثباته في ضوء النص النقلي وماهية المنجز الفني د. صباح عباس عنوز، مؤسسة نهج البلاغة العتبة الحسينية المقدسة سلسلة الكتب العلمية ، دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع، 1436 ه- - 2015م : 17
4- الفتنة الكبرى، د. طه حسین: 39/1.
5- سورة التوبة : 97 .

في فضل الإمام علي وأبنائه علیه السلام(1) ، ويؤكد هذه الرؤية ذلك الذي نقله الخطيب البغدادي عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن، صحيفة فيها أحاديث

أهل البيت علیهم السلام بيت النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم فاستأذنا على عبد اللهبن مسعود

فدخلنا عليه قال: فدفعنا إليه الصحيفة، قال: فدعا الجارية ثم دعا بطست فيها ماء، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن انظر فيها، فإن فيها أحاديث حسانا، قال: فجعل يميثها فيها، ويقرأ قوله تعالى «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ »(2) ، ويقول القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها ما سواه (3). في حين ذكر الباحثون أن حفيد ابن مسعود أحضر ل (معن). كتاباً بخط أبيه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وكان يشتمل على الأحاديث وفقه ابن مسعود(4)فكيف نعلل هذا الأمر؟ إذن يكمن أمر وراء المناداة بعدم تدوين الحديث غرضه حجب أسماع الناس عن فضائل أهل البيت علیهم السلام التي ذكرها الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فيهم.

فالأمويون منعوا كل ما يُذكر من مناقب الإمام علي علیه السلام، وقد قال ابن أبي الحديد: اجتهدوا بكل حيلة لإخفاء نوره والتحريض عليه... ومنعوا رواية حديث يتضمن له فضيلةً... فما زاده ذلك إلا رفعةً وسمواً، وكان كالمسك كلما شتر انتشر عَرفُه، وكلما كُتم تضوّع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح وكضوء النهار إن حجبت

ص: 24


1- ظ: دراسات في الحديث والمحدثين، هاشم معروف الحسني : 22 .
2- سورة يوسف : 3.
3- ظ : تقييد العلم : 54 .
4- ظ :تاريخ الفسوي (مخطوط) يعقوب بن شعبان الفسوي استانبول مكتبة روان كوشك رقم 1554 ، وظ: منع تدوين الحديث: 59 .

عنده عين واحدة أدركته عيون كثيرة ) (1)، وهذا اعتراف ضمني من عالم جليل خبير بالبلاغة ومكنوناتها، وقف على قول الإمام علي علیه السلام متأنياً متفقهاً، وتعقَبَ كلامه متعرفاً ومعرّفاً به، فكان معللاً رقيَّ حديث الإمام علي علیه السلام، فالمتأمل في أقوال الإمام علیه السلام علييجد علوّ قيمة في كلامه وانفراداته البلاغية، وإيماءاته الإنسانية المعبّرة، لذلك وصلت عباراته المؤثرة إلى كل أرجاء المعمورة متحدياً أطواق الحصار، حتى وصل الأمم المتحدة ،اليوم، فاعتمدوا أقواله علیه السلام بسبب تضمنها للمعاني الإنسانية السامية، ووضعوا كلامه في أروقتها.

فكلامه علیه السلام حمل سمات التدبّر والتفكّر ، الأمر الذي جعل حديثَه أمثالاً تساير النموّ المعرفي الإنساني، وتحمل وظائف إقناعية، وبذلك حاور العقل الإنساني على اختلاف منازله الثقافية في كل زمان ومكان.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال ما الخصائص التي تميز بها كلامه علیه السلام،

لقد بحثت عن الجواب فوجدته يكمن في الفعل الإبداعي الذي كان مهيمنةً عُليا في كل أقواله، فحصل التميّز في فرادة اللغة وحداثة الصورة وابتكار العبارة، والجمع بين الشكل والمضمون والوظيفة عند النظر إلى الموضوعات المختلفة، بما فيها القضايا العلمية التي وددت الحديث عنها، وهنا تجلّتْ قوّة الفعل الإبداعي في كلامه علیه السلام.

ولأجل أن أعضّد هذه الرؤية جاء الكتاب على خمسة مباحث

ذُكِرَتْ آنفاً.

وعلى وفق هذه الرؤية أجد من المناسب أن أجعل منهجي البحثي - في هذا الكتاب - متسلسلاً كي أتمكن من الوقوف على الفعل الإبداعي وأثره في الإنفرادات البلاغية والعلمية

ص: 25


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد: 1/ 11.

في أحاديث الإمام علي علیه السلام، محاولاً بإيماءات موجزة أن أتبعَ وحدة القول المتماسكة بين الفعل الإبداعي لكلام الإمام علیه السلام وفنية القول عنده وعلاقة ذلك بالجوانب العلمية المختلفة، بعد النظرة البسيطة إلى إبداع المنشىء وكلامه بشكل خاص، وسنلاحظ ذلك بحسب المباحث الآتية.

ص: 26

المبحث الأول

الفعل الإبداعي من فرادة اللغة والأداء الخاص إلى الوظيفة النفسية

ص: 27

ص: 28

رؤية في الفعل الإبداعي والوظيفة النفسية عند المتلقي

إن الأداء الخاص لأي منشئ يُعَدُّ علامةٌ مهمة ٌتضعه في سُلّم الرُّقِىٌ في التعبيري، فربّما تجاوز الآخرين بتميّز ، وربَّما ساواهم أو لم يلْحَقُ بهم، فالأداء ينهض على اللغة التي هي مادة الأسلوب، فبوساطة المقدرة على تطويع اللغة في سياقات تركيبية مقصودة يتحقق الأسلوب المتميّز، لأن الاغتراف من اللغة بأسلوب خاص يُظهر سمة الإبداع، فضلاً عن تركيز حدسه في أمر يود الحديث عنه، إذ ( إن قدرة الفنان على الإبداع تكون بفعل قوته الحسية وفي الحال تكون البصيرة أو الحدس ضرباً من الاستدلال العقلي له)(1)، فتتحق ظاهرة الإبداع بإيجاد أسلوب مبتكر يُسهم في توليد الصور الفنية ذات الصلة الوثيقة بالأداء البياني، وهنا يمكن للباحث أن يُفسر منابع ظاهرة الإبداع من خلال التجربة الانفعالية للمنشئ ودوافعه الشعورية واللاشعورية القائمة على فكرة التعامل مع الوجود.

إذ يصاحب العمل الإبداعي التفرّد والخصوصية، لأن الإبداع

إيجاد شيء ولكن لا على مثال) (2)، فلما كانت اللغة مادة الأسلوب والبيان الحامل لشكل الصورة فالعلاقة وطيدة بين العملية الإبداعية وبين نفسية المنشيء، إذ يحرص أي منشئ على إشباع الحاجة الروحية للمجتمع الذي يعيش في كنفه، بمعنى أنه لا بد أن يضطلع بمهمة إعادة التوازن النفسي إلى الحقبة التاريخية التي ينسب إليها ... فإن

ص: 29


1- التفكير السديد جوزيف جاسترو، ترجمة نظمى لوقا، مطبعة السعادة، مصر، ط 1، 1957م: 111.
2- مبادئ علم النفس العام د. يوسف مراد، دار المعرف، مصر، ط5، 1966م: 267 .

عمله الفني لا بد من أن يعني في نظره شيئاً أكثر مما تعنيه حيات-ه الشخصية )(1) ، وبذلك ( يمكن أن ينظر إلى شخصية المبدع من خلال أثره الفني؛ لأنّ هذا الأثر هو نتاج مضامين رمزية متأتية من أعاق الماضي، وتتوارث عن طريق الأسلاف حيث الغرائز الإبداعية للإنسان ومن ترسبت في الذهنية جيلاً بعد آخر )(2) وسماها (يونج) بالنماذج الأولى الأصلية، وإن الفنان هو وحده القادر على إظهار هذه الرموز الإنسانية الخطية المتوارثة من القدم (3)؛ لأنّ رأى الفنان إنساناً بما تحمله الإنسانية من صفة فهو إنسان جمعي حامل لواء

الروح الفعالة اللاشعور للإنسان)(4) ، فالمنشىء يستطيع كشف خفايا اللاشعور الجمعي بالغوص في مكونات الماضي، ومن ثم يحقق جمالية التعبير، لأنّ الجمال في الأسلوب مصدره السمو في التعبير، وهي صفة نفسية تصدر عن خيال الأديب وذوقه)(5)، لذلك عثرنا على إشارات نفسية في المدونة النقدية العربية القديمة، مثلما لمحوا من صلة البلاغة بمختلف العلوم) (6) ، فلم تكن النظرة إلى البلاغة في البدايات الأولى (إلا) تتبعاً لمواقع رضا النفس وعناية بالتأثير فيها )(7) ، فكانت النظرة إلى النصوص تتم بحسب النظرة المنبثقة من الذوق المتصلة بميزان ،الطبع، الأمر الذي جعل التقويم النقدي البلاغي

ص: 30


1- مشكلة الفن، زكريا ابراهيم 194 .
2- أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية 25 .
3- ظ - علم النفس التحليلي يونج ترجمة نهاد خياط، دار الحوار ط1، 198.
4- م، ن: 209 .
5- النظرية النقدية عند العرب حتى نهاية القرن الرابع الهجري، د. هند حسين، 228 .
6- مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، أمين الخولي، دار المعرفة، مصر، ط1، 1961م: 185.
7- م، ن: 183 .

ناظراً إلى تفاضل الشعر واستخلاص لطيف الكلم من غيره، ولا شك في أن جذور هذه الدراسات النقدية العربية أخذت منحى نفسياً، ويمكن تلمس ذلك بالوقوف على الشذرات النقدية الأولى ني تنبه لها أولئك الأوائل فعوّلوا عليها كثيراً، وكانت تؤكد الملامح النفسية، فالإنسان يمتلك وحدة نفسية منذ أن خلق الباري عز وجل البشر، وجعله خليفة له في الأرض، ووهبه العقل تفريقاً له عن باقي مخلوقاته الأخرى، وكل نشاط قام به الإنسان منذ الأزل إلى اليوم يركن إلى ميوله واتجاهاته، ولم تتغير تلك الحال بمرور الأزمنة إلا من خلال ما تهبه الثقافات للبشر، وهي مكتسبة)(1)، فارتباط الكلام بالنفس ارتباط وثيق، ولم تغب تلك الفكرة عن الأوائل في تحليلاتهم للكلام .

الوظيفة النفسية للكلام وتأصيل الإمام علي لها

تطالعنا المدونة النقدية العربية بآراء مهمة عن علاقة الكلام بالنفس، ولكننا عثرنا على نص للإمام يؤكد تلك العلاقة، ولمّ تزل تدور على ألسنة النقاد حتّى يومنا هذا، فكان مؤصلاً لها نقديّاً، وهو ينظر ببصيرة العربي المتفهم لغته، ويقين العالم العارف مدركات القول إلى العلاقة النفسية بين القائل وقوله في تفضيل امرئ القيس بن حجر على غيره، فقال الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام( ت 40 ه-) : ( وإن يكن أحد أفضلهم، فالذي لم يقل رغبة ولا رهبة امرؤ القيس بن حجر، فإنّه كان أصحهم بادرة، وأجودهم نادرة) (2)،

ص: 31


1- نهج البلاغة صوت الحقيقة، دراسة إثباته في ضوء النص النقلي وماهية المنجز الفني، د. صباح عباس عنوز: 94 .
2- الأغاني، أبو الفرج الاصفهاني، تحقيق محمّد السقا، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1381ه-، 1961م: 376/16-377.

فظهرتْ هنا الإشارة النفسية إلى أثر البواعث النفسية للقول، إذ يؤدي الكلام وظيفة فنيّةً مبنية على الحال النفسية للقائل، فحصل هنا التفرّد في الرؤية النفسية والتأصيل لها.

إذ أومأ الإمام علي علیه السلام إلى مرافقة الإبداع للشاعر إذا ما شعر بالاستقرار النفسي، وذلك لانعدام ميوله النفسية إلى طمع أو توجسه من شيء مخيف.

ويمكن أن نستنتج من قوله علیه السلام أعلاه أن هناك حالتين تأخذ بالمتكلم إلى القول كي تحققان اهتماماته الشخصية، أو من أجل التعبير عن واقعه المعيش بحسب ما تفرضه البواعث الداخلية والخارجية، فقد تتحقق الحال الأولى بسبب دافع داخلي المتمثل بالرغبة، أمّا الحال الثانية فيكون سببها الدافع الخارجي المتمثل بالرهبة، ففي الأولى يحضر الإبداع؛ لأنّها تظهر (الرغبة في البحث والمعرفة والشعور بالسعادة في اكتشاف الوقائع وإعطاء الأفكار الجديدة، وهي العامل الأساسي لعملية الإبداع) (1)، أمّا الثانية فتقوم على المصالح الذاتية القابعة تحت سلطة التأثير الخارجي من أجل تحقيق أمر ،عرضي، فالأولى تلقائية آنية تنأى عن الثانية المبنية على الاهتمام الشخصي، فالرغبة النابغة من أعماق المبدع تجعله يلتحم مع تجربته الكاملة في الحياة، شوقاً في اقتحام الغامض ) (2)، وتجعله قادراً على تنظيم وتوضيح ما هو غامض فيها ) (3)، وهنا تأتي الدافعيتان الأولى والثانية - اللتان مرّ ذكرهما - بسبب باعث معين .

ص: 32


1- الإبداع العام والخاص، الاسكندر روشكا، ترجمة د. غسان عبد الحي عبد أبو الفخر، سلسلة عالم المعرفة، (144) ، الكويت، 1989: 71 .
2- أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية: 19
3- الإبداع العام والخاص، الاسكندر روشکا: 71.

وجاءت بعد هذه الالتفاتة التأصيلية للإمام علي علیه السلام آراء النقاد

العرب الآخرين بحسب تسلسلهم الزمني، فقد نبه رأيُ الإمام علي علیه السلام النقاد العرب القدماء إلى مثل تلك الرغبات النفسية المحفزة على القول الإبداعي إذْ أكّد هذه الرؤية بشر بن المعتمر ( 210ه-) في صحيفته بوصفها (أقدم آثار وصلتنا لها علاقة بأفأنين التعبير )(1) معتمدةً على رؤية الإمام علي علیه السلام السابقة، فقد قال بشر: (النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع المحبة) (2) ، وبذلك تأتي العلاقة واضحة بين الانفعال النفسي والكلام بالبحث عن مفهومي الترغيب والترهيب فيه، فهما ( مما يثير الانفعالات بل كل منهم انفعال في ذاته، وهما وسيلة أريد بها اجتذاب القلوب والسيطرة على القوى عند الإنسان) (3)، إذ إنّ الخلاص من الرغبة والرهبة معاً تبري النص من أوشابهما في أغلب الأحيان فالرغبات استجابة إلى دوافع خارجية)(4)، حينئذ يكون الأثر الفني عند المنشيء استجابةً وجدانية، وعلى وفق ذلك يكون النص فناً إبداعياً خالصاً، ومثلما تحد الرغبة من العمل الإبداعي وتضعه ضمن دائرة الاهتمامات الشخصية، فإن الرهبة تكبح النشاط الإبداعي؛ لأنّها إحدى العوامل السلبية للحياة الانفعالية - الشخصية التي تعيق أو تكبح النشاط الإبداعي)(5)، ولا

ص: 33


1- النظريات البلاغية عند العرب، عبد القادر المهيري، كلية الآداب، تونس، السلسة الجامعية، 1972، 1973م: 10 .
2- ظ :البيان والتبيين، دار أحياء التراث العربي، بيروت لبنان 1968 : 1/ 95 وما بعدها.
3- الصورة الفنية في المثل القرآني، د. محمد حسين علي الصغير دار الهادي، بيروت، ط1، 1412ه-، 1992م: 379.
4- أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية: 18.
5- المصدر نفسه: 18.

تخفى أهمية صحيفة بشر بن المعتمر على ناقد، إذْ دلّتْ على المستوى العالي لتفكير العربي في صياغة السياق التعبيري، فقد نصح المبدع في مراعاة الحال النفسية في إثناء الكتابة (1)، فأعلن عن ضرورة اختيار اللحظة المؤاتية للكتابة، فقال: (خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إيّاك، فإنَّ قليل تلك الساعة أكرم جوهراً وأشرف حسباً، وأحسن في الأسماع)(2) ، إذ أكّد ضرورة الكتابة إذا حضرت الرغبة، ورأى لحظات خاصة للكتابة الإبداعية، فطلب من المبدع أن يختار اللحظة المؤاتية في أثناء عملية الإبداع إذ تنشط الرغبة الداخلية، ويقوى باعث الاستجابة الوجدانية للفعل الإبداعي فقال: (فإن ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة، وتعاصى عليك بعد إجالة الفكرة، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك وسواد ليلتك وعاوده عند نشاطك و فراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة)(3)، فنشاهد هنا نصحاً وإرشاداً للمبدع إذا ما أراد أن يسلك طريق الإبداع، إذ يُصبحُ الباعث موجهاً لانفعالات المبدع وأخذاً بها نحو رُقِيِّ الكلام، فتُعَدُّ صحيفته منطلقاً واضحاً لمسار البلاغة العربية وعلاقتها بالنفس المبدعة جاءت تالية لرؤية الإمام علي علیه السلام التأصيلية في هذا الجانب.

ثم تطلعنا آراء المبدعين أنفسهم في عملية الإبداع، فالتفتوا إلى الوظيفة النفسية في رُقِيّ الكلام الإبداعي، وقد أكد المبدعون العرب القدماء حضور الوظيفة النفسية في أثناء الفعل الإبداعي عند الكتابة أو الكلام، فقد سُئِل كُثير ( 105ه-)، (كيف تصنع إذا عسر عليك

ص: 34


1- المصدر نفسه.
2- البيان والتبيين، الجاحظ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1986م: 1/ 95 .
3- البيان والتبيين الجاحظ، 95 وما بعدها

الشعر؟ فقال: أطوف في الرباع المحيلة، والرياض المعشبة، فيسهل عليّ أرصنه ويسرع إلى أحسنه) (1) ، كما نسب إلى الفرزدق (110ه-) قوله: (أنا أشعر تميم عند تميم، وربما أتت علي ساعة ونزع ضرس أسهل عليّ من قول بيت) (2)، وقد أجاب ذو الرمة(117 ه-) على سؤال وُجّه إليه، كيف تفعل إذا انقفل دونك الشعر ؟ فقال : ينقفل دوني وفي يدي مفتاحه، قيل ما هو؟ فقال: (الخلوة بذكر الأحباب) (3)، و في المضمون نفسه سُئِل أيضاً أبو نواس (199 ه-) فأعطى جواباً(4)، فإدراك الصلة بين الأثر والباعث والوظيفة النفسية أمر قديم فقد أورد ابن رشيق القيرواني قولاً لدعبل (220ه-) (من أراد المديح فبالرغبة ، ومن أراد الهجاء فالبغضاء ، ومن أراد التشبيب فبالشوق والعشق) (5)، فالمبدعون الأوائل انتبهوا إلى ضرورة اختيار الأوقات في قول الشعر، وأكدوا مطابقة الكلام لمقتضى الحال لتتحقق الوظيفة النفسية في العمل الإبداعي، كما في وصية أبي تمام (231ه-) للبحتري (204ه-) يا أبا عبادة، تخيّر الأوقات، وأنت قليل الهموم، صفر الغموم)(6).

وتتالى النقاد راصدين العلاقة بين النفس والعمل الإبداعي

ص: 35


1- المصدر نفسه 1/ 206
2- الشعر والشعراء، ابن قتيبة، تحقيق أحمد محمّد شاكر، القاهرة، دار المعارف، ط2، 1971م، 1: 81.ّ
3- العمدة ابن رشيق: 1/ 206.
4- ظ :المصدر نفسه: 1/ 207 .
5- العمدة ابن رشيق 1 / 122 .
6- العمدة في محاسن الشعر وآدابه و نقده ابن رشيق القيرواني، حققه وفصله وعلق حواشيه محمّد محي الدين عبد الحميد، الناشر: دار الجيل للنشر والتوزيع والطباعة بيروت، ط5 ، 1401ه-، 1981 م ، 2/ 114 .

فقد نبّه ابن قتيبة (276ه-) إلى حال الشاعر النفسية، حين رأى أن للشعر تارات يبعد فيها قريبه ويستصعب فيها ريّضه ... وللشعر أوقات يسرع فيها أتيه، ويسمح فيها أبّيه : منها أوّل الليل قبل تغشي الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في الحبس والميسر، ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل المترسل) (1)، ويظهر الأمر جلياً في تركيز ابن قتيبة على اختيار اللحظات النفسية في حال قيام الشاعر بمجهود فكري معبر عن الأحاسيس، فأوضح البواعث النفسية التي تجعل من الشاعر مبدعاً، وجاء بالفعلين (تحت) و (تبعثُ)، (للشعرِ دواع تحتُّ البطيء، وتبعث المتكلّف منها: الطمعُ ، ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب ) (2)

ولا يخفى ذلك على متأمل، فإنّ الدراسات الحديثة أعلنت حقائق مهمة (أهمها إحساس الإنسان بإظهار وجهه الحقيقي المكبوت استجابة لمثير خارجي) (3)، الأمر الذي يدل على بواعث نفسية في نقدهم مذ (ربطوا النقد بالذوق الصادر عن الإحساس)(4)، وبحق فإن أثر آراء بشر بن المعتمر ظل ظاهراً في رؤى الدارسين من بعده من حيث الإيغال إلى النفس المبدعة، والوقوف على جوانبها المخفية وتظهر البواعث وعلاقتها بالنفس واضحة عند ابن رشيق ( 456 ه-) ؛ لأنه رأى مع الرغبة يكون المدح والشكر ومع

ص: 36


1- الشعر والشعراء، ابن قتيبة تحقيق أحمد محمّد شاكر، القاهرة، دار المعارف، ط2، 1971م: 1/ 80-81
2- المصدر نفسه: 1/ 78 .
3- الاتجاه النفسي في النقد العربي الحديث، د. عبد القادر فيدوح: منشورات إتحاد الكتاب العرب، 1992م: 24 .
4- الأداء البياني في شعر الشيخ علي الشرقي، د. صباح عباس عنوز، 87.

الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق ورقة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والتوعد والعتاب الموجع) (1) ، وكان على صواب في ذلك، لأنَّ علاقة وثيقة الصلة في عملية الكلام الإبداعي تستمد فعاليتها من إحساس المنشيء وقدرته على تثوير قواه الانفعالية. وذهب حازم القرطاجني (684 ه-) إلى أنَّ البواعث النفسية (أمور تحدث عنها تأثيرات وانفعالات للنفوس فتكون تلك الأمور بما يناسبها أو ينافرها ويقبضها)(2)، فوقف على أهمية الانفعال في تدفق القول الإبداعي الشعري، وقد عوَّل كثيراً على الكوامن الداخلية للنفس المبدعة، فضلاً عن أنه تنبه إلى مسألة ارتباط الإبداع بالانفعال حين رأى الوجد والاشتياق والحنين إلى المنازل المألوفة) (3)، سبباً في إثارة المبدع، مركزاً ذلك على العاطفة، وهيمان النفس الإنسانية التي تحكم نفسها من خلال الإحساس المبني على استجابة وجدانية لباعث خارجي أسهم في إيقاد جذوة القول، إذ يُصبح الشعور دافعاً لمكونات الكلام الأسلوبية، ويمنحها

جمالية تعبيرية بأساليب بلاغية تتواءم وظرف القول.

وقد نشطت الدراسات الرابطة بين علم النفس والأدب في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فاتجهت في بحثها وتحليلها أعماق النفس الإنسانية فأكدت الربط بين القول الإبداعي والنفس الإنسانية، وتنبهوا إلى ذلك مثلما تنبّه العرب الأوائل إلى

هذه الصلة.

ص: 37


1- العمدة، ابن رشیق: 1/ 120.
2- منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، تحقيق وتقديم محمّد الحبيب ابن الخوجة الناشر دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط3، 1986م:، 11.
3- المصدر نفسه 249 .

فأخذت القضايا النفسية مكانة متميزة في هذا الجانب، بوصفها تُعنى بدراسة حال الإنسان وتراثه الفكري متخذه من ذلك إنطلاقة إلى أعماق حقيقة النفس الإنسانية ونوازعها وطريقة تفكيرها، فأفاد الدارسون في مجال الأدب من ذلك كثيراً .

إن مسألة الإحساس ملازمة للنفس الإنسانية منذ الأزل، ولا يمكن التخلي عن الشعور الإنساني سواء أكان سلباً أم إيجاباً في النظرة والتفاعل مع الواقع المعيش، إذ إن هذا الإحساس الفكرة المتكونة بسبب باعث ما، فتتجلّى حقائق النفس الإنسانية أو من خلال المثير والاستجابة الوجدانية بحسب تداعيات الإحساس، فالدافع لذلك كله الشعور، الذي توقضه مسحة جمالية تعبيرية يؤديها الأداء البياني، من خلال عمل صورة وأثرها على الإبانة والإفهام، (ولا يرجع في تفهمه ولا تبينه إلا إلى الأثر النفسي)(1)، وهنا لابد من القول بأن جماليات النص يرسمها أسلوب بياني ينتخبه المنشىء في لحظة الكتابة على وفق اللحظة الانفعالية في نفسه، فكل تشكيل بلاغي يتأسس على رؤى نفسية ترافق الانفعال، فيأتي الأداء البياني كي (يصور (يصور العلائق النفسية المتقاطعة من شدّة الاضطراب)(2)، ومن هنا تتحقق النفسية باستعمال الأداء البياني الذي يرومه المنشىء لإيصال الدلالة المطلوبة، فتترتب على مجيء أداء بياني من دون آخر انعكاسات وجدانية تحقق وظائف ،نفسية، فتأتي الصياغة الجمالية

لسياق تركيبي أفكاره إشباعاً لرغبة وتحقيقاً لوظيفة نفسية.

فترابط الكلمات ضمن سياق معين لحظة الفعل الإبداعي لا

ص: 38


1- أمين الخولي، مناهج تجديد : 252.
2- البلاغة عرض وتوجيه وتفسير د. أحمد بركات أبو علي ، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 1403ه-، 1983م : 147 .

يتأتى عن فراغ، فضلاً عن الأداء البياني الذي ينقل المعنى للمتلقي تسوقه انفعالات وجدانية، فيكون حينئذ للكلمات معنى وللصورة معنى ، فتظهر إيماءة نفسية تمنح التعبير حالة شعورية، ومن ثمَّ تعطي المتلقي بُعداً تواصليّا يقدم وظيفة نفسية للسامع، فالوظيفة النفسية تثير (الانفعالات التي تؤثر في النفس وتسيطر على القوى الشعورية عند الإنسان، فهي تسرح في أعماقه، وتشتد نحو سريرته، فتدعو إلى التبشير تارة وإلى التحذير أخرى، فهي مقياس التأثير النفسي والتجاوب الداخلي عكساً وطرداً، وقد كان الأمل والخوف والرغبة والرهبة مجالات لأبعادها ) (1) ، فللأساليب البلاغية قوة تواصليّة نفسية إذا ما أحسن المنشي تضمينها للدلالات التي يرومها، لأن البلاغة في محاولاتها الأولى ليست إلا تتبعاً لمواقع رضا النفس وعناية بالتأثير فيها ) (2)، فضلا عن أن لمجيئها في السياق صلة بمختلف العلوم)(3)، فأدّت النظرة النقدية القائمة على الحضور البلاغي في السياق إلى ظهور وجهات النظر في بنية التقويم النقدي المتأثرة بفعل ميزان الطبع، الأمر الذي جعل الأداء البلاغي يدخل علامة نقديةً في محاولات تفاضل الشعر واستخلاص لطيف الكلم من غيره، وبذلك حصل الأثر الانطباعي للناقد القديم، فكان مبنياًّ على الفطرة في الحكم على جيد القول من عدمه، لأن التلبث الدقيق عند مرافئ التراث العربي يوضح إن لكثير من النقاد قدرات لافتة في موضوع العناية بالخلق الفني سواء ما كان منها عن طريق

ص: 39


1- الصورة الفنية في المثل القرآني د. محمّد حسين علي الصغير دار الهادي بيروت، لبنان ط 1 ، 1992م ، 385.
2- م، ن: 183 .
3- مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، أمين الخولي، دار المعرفة، مصر، ط1، 1961 م ، 185 .

التأثيرات الخارجية، أم ما اهتدوا إليه بفطرتهم البديهية)(1)، وفي كل حالٍ بيِّنتْ دراساتهم الأدبية العلاقة النفسية بين الأدب المُنتَج وصاحبه، فجذور هذه الدراسات وعلاقتها بعلم النفس تمتد إلى الشذرات الأولى التي تنبه لها أولئك الأوائل، كما أن الدراسات الحديثة أكدت ملامح نفسية عول عليها الأوائل كثيراً، فالأسلوب المبدع والأداء البياني المختار بعناية والصورة الابتكارية كلها تؤسس لوظيفة نفسية . لأن المنشىء يوظّف صيغ التعبير التي يراها مناسبة إذا رام إصابة المعنى المقصود بخصوصية تميّز تعبيره من الآخرين، فلا يغفل عن أهمية الصورة الفنية في إيصال ذلك المعنى، فيأتي الأداء البياني بدور واضح في إظهار ملامح تلك الصورة الساندة للدلالة المبتغاة، فضلاً عن ذلك فقد تضافرت مجموعة علاقات تسهم في تكوين بنية النص المؤدي للدلالة المقصودة، وهنا كلما أدّى المنشىء تركيباً ابتكارياً أعلن عن فرادة تعبيره، وأقام تفاعلاً بين أسلوبه وغايته من القول، وفي هذه الحال يأتي الإبداع نقيضاً للاتباع، علما بأن باعثاً معيناً، يكمن خلف أي كلام أو سلوك إنساني، فلا فاصل بين العاطفة والإبداع والباعث ، وما الأسلوب إلا الشكل والتركيب الحامل للانفعالات، وقد يذهب المنشيء إلى انتقاء أداء بياني يرسم شكل الوجدان لدى المتكلم ، فذلك الرسم لانفعال الوجدان هو الصورة، وهنا نقف عند الآصرة الرابطة بين عملية الفعل الإبداعي ونفسية المنشيء، وما الأداء البياني إلا الصورة الكاشفة والموضحة لذلك التصوّر الوجداني، وإذا كان الإنزياح في المعاني يؤدي غرضاً دلالياً وواجباً معنوياً، فإن الوصول إلى هذه المهمة ابتكارياً يتم بالأداء الخاص، لأن للإنزياح الدلالي أو لظاهرة العدول( عدّة مظاهر

ص: 40


1- الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، د. عبدالقادر فيدوح : 21 .

يستعمل فيها اللفظ المفرد بغير معناه الحقيقي، كالاستعارة، والمجاز المرسل ، والكناية الخ، كما أن معنى اللفظ قد يعرض له ما يخصص دلالته أو يعممها أو يغيرها، كالذي يحدث في نقل المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي، وفي مجاز الحذف الخ )(1) ، ولما كانت اللغة مادة الأسلوب فإنّ البيان شكل الأسلوب ولا يخرج عنها، لأنّه ربيبها(فمكانه من فقه اللغة كمكان علم المعاني من النحو، لأنّ اختصاص كل من فقه اللغة وعلم البيان باللفظ المفرد)(2)، وعلى وفق ذلك تكون القصيدة نتاج خليط من الدلالات داخل بودقة اللغة ( فالكلمة الشعرية تتضمن موت اللغة وبعثها في آن واحد)(3)، إذ تتكاثف العلاقات السياقية مع البيانية من أجل وضوح الدلالة لأنّ الأسلوب (اكثر ارتباطاً بالبلاغة منه بفن الشعر )(4) ، فهو نظام الأفكار وتسلسلها(5)، والبناء العام للنص (6)، وأن المناغمة بين الأداء البياني والأسلوب تفضي دائماً إلى انزياح أو عدول في المعنى، وبناء على ذلك تُقاس الكثافة الشعرية بمعدل الانزياحات؛ لأنّ الشعرية تعني (الطاقة المتفجرة في الكلام المتميز بقدرته على الانزياح والتفرد وخلق حالة التوتر)(7)، فلكل منشئ درجة في سلّم الرُقِيِّ الإبداعي

ص: 41


1- الأصول د. تمام حسان، 325.
2- الأصول، د. تمام حسان: 325.
3- نظرية البنائية في النقد الأدبي، صلاح فضل، 360.
4- الأسلوب والأسلوبية، كراهام هاف، ترجمة كاظم سعد الدين، دار آفاق عربية للصحافة والنشر، بغداد، 1985م: 19 .
5- ظ : علم الاسلوب مبادئه وإجراءاته، د. صلاح فضل الهيئة العامة للكتاب، القاهرة ط 2، 1985م: 73
6- ظ : الشعر والشعراء، ابن قتيبة : 74-75 .
7- الشعرية، د. أحمد مطلوب، مجلة المجمع العلمي العراقي، بغداد، 1410ه-، 1989م، المجلد الاربعون، الجزء الثالث والرابع: 64 .

تُقاسُ بدرجة استعماله للكثافة الشعرية في كلامه، وبذلك تظهر ملامح الأداء الخالص إبداعاً بين فرادة الأداء وتوجهات النفس، فكل سياق أسلوبي موجّه بارع لمسار الدلالة وهو الذي يُعلن عن ابتكار القائل للكلام من عدمه، لأنّ السياق الأسلوبي المبتكر نموذج لساني مقطوع بوساطة عنصر غير متوقع، فإذا بحثنا في مسألة الإبداع والمتكلم نجد المنشىء المبدع يقف يومياً على جوانب الحياة المتشعبة، ويتفاعل مع الواقع ويختصر كل شيء ليضاف إلى خزينه المعرفي، وحين يتوجه المبدع إلى موضوع ما، فإنّ مواضيع كثيرة ستتوارد إلى ذهنه لحظة الكتابة، وتلك هي حالات شعورية تحصل عند عملية التعبير، وتلك هي حالات شعورية يتشابه فيها المبدعون معاً؛ لأنّها تعرض الأفكار والاتجاهات أكثر مما تولدها(1)، وحين يدبٌّ شعور الكاتب أو القائل في سدى النص فإنّ الفعل الإبداعي سيحيي بصوره وينمو عن طريق توليد الأفكار واستدعاء المعاني، فتتحقق وحدة الشعور بين التداعي والحضور، ومن المؤكد إنّ التداعي لا يذهب إلى حد يجعل النص يعاني من التفكك، وإنّما يتحول لمصلحة الإخبار والأخبار، وحينها يُصبح الأخبار صادقاً إن كان مضبوطاً، وتكون وحدة الكلام صادقة، أن كانت مترابطة الأجزاء(2)، ويظهر جمال النص؛ لأنه سوف يتساوى بالحقيقة

(3)

ص: 42


1- ظ : قضايا في النقد الأدبي، ك . ك ،روثفن، ترجمة د. عبد الجبار المطلبي، مراجعة د. محسن جاسم الموسوي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1 ، 1989م: 355 .
2- ظ :قضايا في النقد الأدبي، ك ، ك روثفن . م ، ن: 357 .
3- التداعي (Association) مصطلح استعير من المدرسة الترابطية ويعني كل ارتباط بين عنصريين نفسيين أو أكثر تشكل سلسلتها رابطة من التداعيات، ويطلق هنا على كل الأفكار التي ترد إلى الذهن أمّا أنطلاقاً من عنصر معين او بشكل عفوي (ظ: معجم مصطلحات التحليل النفسي، جان لانش و .ج. ب بونتالیس (170) ويعني التعدد والتنوع في الشعور (ظ : تداعي الوعي في الشعر الجاهلي ، ناصر اسطنبول، 166).

فيصل الترابط إلى الحال التي ترضي المتلقي، إذ تعرض الحقيقة في الترابط بأنّها علاقة أجزاء داخل جمل)، وأن التداعي الجمعي سوف يكون بالجمع بين العواطف والأفكار معتمداً على كوامن المتكلم في إنشاء تعبيره حتى تصل لحظة الإدراك، فإذا كان يُقصد بالانتباه(تركيز الشعور في الشيء فالإدراك هو معرفة هذا الشيء)(1)، وبموجب ذلك تتجلى الحال الشعورية بعملية نفسية تتناول جانبين من الشخصية وهما الجانب الإدراكي والجانب الوجداني(2)، فحالة الوعي(تستلزم ذاتاً وموضوعاً، وأداة للربط بينها، تتمثل في أجه-زة الإحساس التي تسمح بإقامة علاقة بين الذات والموضوع)(3)، حينها يكون التداعي (Association) أو التلوين الشعوري مرتبطاً باستجابة المبدع الوجدانية، إذ يرتبط الاحساس بالجانب المعرفي، فينشأ الفعل الإبداعي بسبب تأمل واستحضار للصور المتداعية مصحوبة بالتخيل، ويدخل الإحساس دخولاً مباشراً عندما يحصل التفاعل بين التداعي والحضور، وتُظهر وحدة الشعور النصَّ متماسكاً منسجماً، حينها ستتحقق الصورة الكاملة (وأن ما يسميه النقد الحديث بالوحدة العضوية في الحقيقة ليس إلا وحدة الصورة ووحدة الصورة معاً؛ لأنها تعرض الأفكار والاتجاهات أكثر مما تولدها)(4)، فالصورة نتاج أداء أسلوبي ، ولا شك في أن باعثاً معيّنا يكمن دائماً وراء كل أداء اسلوبي ولاسيما الخاص، وفي هذه الحال

ص: 43


1- علم النفس الفني، د. ابو طالب محمّد سعيد : 205 .
2- ظ : علم النفس الفني، جميل صلبيا ، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط3، 1972 م، 12 . وظ: الإسلام وعلم النفس، د. محمود البستاني، الناشر مجمع البحوث الإسلامية، مشهد، ایران، ط1، طبع مؤسسة الاستانة الرضوية المقدسة، 1409 ه- : 7 ، 15 .
3- علم النفس الفني، د. ابو طالب محمّد سعید: 203 .
4- ظ :قضايا في النقد الأدبي ك . ك روثفن، ترجمة د. عبد الجبار المطلبي، مراجعة د. محسن جاسم الموسوي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1 ، 1989م: 355 .

يكون البيان ركنا مهماً في المنظومة الكلامية، لذلك شغل هذا الأمر حيّزاً مهمّاً من اهتمامات العرب النقدية، إذْ وقف العرب قديما عند تلك العلاقة، وتتبّعوا سبب حضور البيان، فوجدوه يتكوّن بالإنزياح الدلالي أو العدول، ومن ثمَّ يحقق صوراً فنيّة تُسهم في الوصول إلى المعنى المُراد، إذ إن من تعريفات البيان إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة مع وضوح الدلالة عليه) (1)، فنعثر في كلام المنشيء على أدائه الخالص وتجلّي إبداعه المنظور بين فرادة تعبيره وابتكاره للصور المتأسسة على أداء بيانيٍّ مقصود في سياق أسلوبي منبثق من توجهات النفس ومحاور لانفعالاتها.

فرادة اللغة: تأتي لغة النص خاصة بالمتكلم فيعوّل كثيرا على الأسلوبية التي تنبىء عن السجل اللغوي له، وتدلّ على كيفية استعماله التراكيب والأشكال التعبيرية في نصوصه، فيهتم كثيرا بفرادة اللغة وغرابتها، أي التكلم بطرائق تعبيرية خاصة بالمتكلم فيتجاوز بذلك التعبير النمطي أو المألوف، فالغرابة في مصادر اللغة تعني: (مصدر غَرُبَ... غرابة ذوق : ما يجعل الشيء غريبا مختلفا عن غيره وخارجا عن المألوف... في كلامه غرابة غموض)(2).

لأن الغرابة في التعبير تتمثل في رغبة المتكلم في ( ادخال قيم تعبيرية في النص تبتعد عن المألوف) (3)، فالغرابة في الكلام تعني هي التي يغادر فيها المتكلم (مدلولات الأشياء ومنطقها فتأتي خارج منطقة

ص: 44


1- الايضاح ، الخطيب القزويني. 326.
2- معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي.
3- ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيوية تكوينية، محمّد بنيس الدار البيضاء المركز الثقافي العربي، دار التنوير، بيروت، ط2 ، 1985م : 230 .

الألفة، وهنا يكمن سر التأثير الذي يحدثه الخطاب)(1)، أي يميز نفسه من سواه، فضلاً عن استعماله للقيم التعبيرية التي يودعها عواطفه وأحاسيسه، وهنا تتجلى لنا الأسلوبية هي نفسها الألسنية، لأنّ كليهما تعطيان النتائج نفسها، إذ إنَّ اللغة (قوام الأدب، وأن مفرداتها وتراكيبها هي أدواته، في حين إن الأسلوب) الذي يتميز به نص من آخر هو ألق ألسني لتنظيم الأديب مفرداته، جمله... ولما كان (النقد الأدبي) أدبا ثانيا، فالقاسم المشترك بين الألسنية والأدب ونقده المادة اللغوية، والانتظام الذي ينتظمها الأسلوب في النص) (2)، فالمنشىء المبدع ( يتكلم بلغة خاصة، ولغته لسان خاص به و بجمهوره، فهو لا يتكلم كما يتكلم الناس العاديون... هناك وظيفتان تقوم ا اللغة بهما : (وظيفة الإيصال)، وذلك حين تكون العناية فيها متجهة نحو المدلول، و الوظيفة الشعرية حين تكون العناية فيها متجهة نحو الإشارة الدالة ..) (3)، ففرادة اللغة تنماز باللغة الشعرية وبحسب رؤية (جاكوبسون) تأتي المنظومة الكلامية الحاملة للوظيفة

الشعرية قائمة على ثلاثة مبادىء هي:

1 - تحول النبرة الكلامية في اللغة الشعرية (الرسالة) فيقوم

التحوّل من العناية بالمدلول إلى العناية بالدال.

2-(الإيقاع) وهو المبدأ المنظم لتوظيف العناية فتقترن به عناصر

صوتية وظيفية، وخاصة التكرار.

3-(الغرابة) .. وتخص استعمال الفعل الفعل ما هو بالقوة ،

ص: 45


1- الأدب والغرابة، دراسات بنيوية في الأدب العربي، عبد الفتاح كيليطو، دار الطبيعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1997م : 60 .
2- النقد والأسلوبية بين النظرية والتطبيق، عدنان بن ذريل: 321.
3- المصدر نفسه.

فتجعل الكلام يحقق المضمرات غير المستعملة في اللغة(1)، فالعلاقة بين الشعرية في الكلام والدلالة الإيحائية وثيقة تتأسس بالعدول أو الانزياح ، فيكتسب الكلام سمات خاصة بأسلوب صاحبه، فغرابة اللغة مفهوم ارتبط بصواغة الكلام الخاصة بوصفه انبثاقاً وجدانيا، ومن هنا فالعلاقة بين فرادة اللغة والأداء الخاص وثيقة، فالأداء يشير إلى البراعة التي يستعمل فيها الفرد قدرته اللغوية في الإنتاج الفعلي للجمل وفهمها (2)، فاللغة ليست وظيفة الفرد لأنها نظام اجتماعي مستقل عن الفرد، أما الكلام فهو فعل فردي عقلي مقصود (3) فالنص سلسلة من الملفوظات اللسانية التي تتركب لتكون النص المتصف بخصائص صوتية ونحوية وتركيبية، فيصير إلى وحدات نصية ذات علاقات فيما بينها، شريطة احتمالها لمستوى دلالي واضح(4).

وفي ضوء هذه الرؤية يتمّ رصد المنهجية الأسلوبية وكيفية الكتابة الإبداعية في التجارب الاستثنائية، بحثاً عمّا يجعلها متفردة موصولة بكاتبها ومنتسبة له ، فجدتها قائمة على ركيزتين هما: الانزياح والتفرد. لقد وجدنا هاتين الخصيصتين في كلام الإمام علي علیه السلام، فليس من أسلوب جاء به كلامه إلا وقد كان متميزاً، فجاء مكتنزا بأشكال الانزياح ، موصوفا بفرادة اللغة، مرسوما بابتكار الصورة، عميق في سبر الدلالة، بعيد الدلالة في المعنى، فقامت السياقات اللغوية في كلامه على أبعاد ثلاثة هي: البعد الدلالي،

ص: 46


1- النقد والأسلوبية بين النظرية والتطبيق، عدنان بن ذريل : 17-18 .
2- ظ : معرفة اللغة طبيعتها أصلها وأستخدامها د نعوم تشومسكي، ترجمة: محيي الدين حميدي، 11 .
3- ظ : علم اللغة العام دي سوسير، ترجمة ديوئيل يوسف عزيز، مراجعة د مالك المطلبي، 27، . 40 ،39 ،33 32
4- المعجم الموسوعي لعلوم اللغة، 63 .

والبعد التعبيري، والبعد التأثري، وللبعدين الأخيرين أهمية في إظهار ملامح الأسلوب، فبالأسلوب تظهر القيم الوجدانية محمولة على ألفاظ ومفردات المنشىء، إذ يتدخل البيان في اظهار تلك القيم، فيأتي التركيب البياني متماشيا مع ما يعنيه المنشيء)(1) ومن هنا اتصف كلام الإمام علي علیه السلام بسمات خاصة، فارتقت القدرة الإبداعية في أقواله أيُّ نص أدبي بشري باستثناء حديث الرسول صلی الله علیه و آله وسلملذلك كان كلامه نهج البلاغة وكفى.

تطبيق: لقد تجلّى الإبداع في كلام الإمام علي علیه السلام بأعلى مراتبه، وتحققت فرادة الأداء الخاص بفرادة اللغة وأثمرّ التعبير الوظيفة النفسية عند المتلقي، إذ إنه عند التأمل

في كلامه ل نلاحظ ذلك التميز الإبداعي في أقواله التي لم يرق إلى مصافها المبدعون - فباتت الانفرادات البلاغية في كلامه علیه السلام تُظهر التَميّزَ واضحاً ومتفرّداً في نصوص كلامه ، الأمر الذي جعل أساطين الكلام والباحثين يصفون كلامه علیه السلام بصفات الثناء والإكبار، فقد وصفوا كلامه (كالمسك كلما سُتر انتشر عَرفُه، وكلما كُتم تضوّع نشره) (2)، كما مر سابقاً، فجمع كلامه بين فنية القول والقصدية ووظيفة ،الإقناع، فضلاً عن وظائف أخرى متعددة المشارب، إن مثل هذا الجمع يُضعف فنية القول إلا عند الإمام علي علیه السلام، فحصل التميّز والانفرادت المتعددة تعبيراً وموضوعاً في كلامه -كما سنرى لاحقاً، إذ لا يمكن لباحث أن يلم بتلك الانفرادات، ولكن باستقرائي لكتاب نهج البلاغة - وعلى حد علمي ومعرفتي – توقفتُ

ص: 47


1- أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية، ا.د. صباح عباس عنوز 103.
2- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد تحقيق محمّد ابو الفضل ابراهيم / دار احياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه 11/1 .

على أشياء كثيرة يمكن أن أذكِّرَ القارىء بها على وفق نقاط ثبتُّ عنواناتها التي جمعت الإبداع المتمثل بفرادة الأداء الخاص والرؤى النفسية التي يجدها السامع ماثلةً في أطواء النصوص ومن الله

سبحانه وتعالى التوفيق.

قال الإمام علي علیه السلام: (قد أضاءَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ)، يجد

المتأمل في هذا الحديث فرادة اللغة وتوظيفها بأداء خاص في نقل الفكرة، فالناظر إلى كلامه بتفَكِّر يجدهُ قد جاء بعد تأمّل

واسع وتدبّر عميق ليؤدّي أغراضه الدلالية، إذْ إنّ المنشئ ليجد عبارة يكتبها، فإنّه يحاول أن يلفظها أوّلاً، ويكفي أن يلفظها باطنياً، فتكتسي الألفاظ أثواب الأفكار (1)، فضلا عن ذلك فإن الأثر الأدبي المصوغ بفنية عالية هو الذي نتج عن مكوّن فكريٌّ نائم على باعثِ مؤثر عند المنشيء، ثم يودعه الأخير في مكوّن أسلوبيَّ، فيفرغ فيه طاقة عاطفية تجمعت بإفراط على بعض الميول بسبب كبتها واستحالة إفراغها، ومن هنا نفهم إلى أي حد يمكن أنّ يكون الفن تحققاً (2) ، فالكلام الفنّي الخارج إلى السامع

هو إرادة تظهرها إلى الوجود رغبة المتكلم. فبدأ الإمام علي علیه السلام كلامه بأسلوب التوكيد، ليحقق دلالة تكتسي بوشاح الحكمة فحواها : إنّ الحقيقة تنجلي وتتضح لمن يمتلك عينيين تميزان الضوء من الظلام.

فحمل النص السابق دلالة إيحائية، تأسست بأسلوب بياني

ص: 48


1- ظ : الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة، مصطفى سويف، دار المعارف، مصر، القاهرة ، ط 4 ، 1981م: 90 وما بعدها..
2- ظ: الإبداع النفسي في الشعر العربي وإبداعه، ثائر حسن جاسم، سلسلة الموسوعة الصغيرة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1979م: 60 - 61 .

ساعد على تأويل المعنى ،وقصديته ، فأسهمت الكناية بتعدد دوائر المعنى ، وأومأت إلى الإحساس الصادق حين تكتمل الرؤية النابعة عن معرفة؛ فوضّح استعمال الأداء البياني - الكناية - صورة حسية حملت وظيفة نفسية ساعدتْ على الإقناع، لأنّ الصبح ينماز باللون الأبيض بخلاف الظلام الذي يلوّنه السواد، فوجود شيء حسي(محل شيء آخر مثله، وخاصة فيما يتصل بمجال الألوان ... ندرك أنّها بدائل حسية عن عناصر حسية أيضاً ... فإن اللون نفسه يتحول إلى (دال) يؤدي دلالة ثانية ذات طبيعة وجدانية )(1)، فضلا عن أن تضمّن التعبير لدلالة إيحائية قد منحه الصورة التي تجاوزت اللغة العادية إلى فرادتها، فحققت التأويل والمعاني المقنعة، إذْ إنّ إسناد الفعل (أضاء) إلى (الصبح ) ، وبشرط وجود (ذي العينين)، فأسهم التعبير في إيحائية المعنى المؤدية إلى الوظيفة النفسية لدى المتلقي، فبالإيحائية يتم العبور ( عن طريق الالتفاف خلف كلمة تفقد معناها على مستوى لغوي أولي لتكسبه على مستوى آخر ) (2) ، فکان انطلاق السياق من باعث تعليم الناس وارشادهم للحقائق مبنيّاً على فرادة لغة ومحققاً للوظيفة النفسية للمتلقي، والمتمثلة بالتعلّم وإنصاف الحقيقة، ولنتأمل الدلالة الإيحائية التي تمت بالعدول الذي حدث في التركيب من خلال التخطيط الآتي:

اصل معنى الكلام: (قَدْ أَضَاءَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ) ،

( قَدْ أَضاءَ الصُّبْحُ لِذِي عينين) (ب التأويل وتعدد المعنى )

ص: 49


1- نظرية البنائية في النقد الأدبي، صلاح فضل: 359.
2- م ، ن: 359

ومما سبق توضح الفعل الإبداعي واتسم بفرادة اللغة وخصوصية

الأداء الذي حمل الوظيفة النفسية، ولنتأمل الأمر نفسه في قوله علیه السلام:

(إنَّ الحقَّ ثَقِيلٌ مَرِيءُ، َوإِنَّ الباطِلَ خَفِيفٌ وَبيءُ)، لقد قدّم الحديث وظيفة تربوية إرشادية لبست ثوب النفسية، فمعنى الحديث: (مريء من مراء الطعام - مثلثة الراء- مراءة فهو مريء أي هنيء حميد العاقبة، والحق وإن ثقل إلا أنه حميد العاقبة، والباطل وإن خف فهو وبِيء وخيم العاقبة)(1)،

لقد حضر الفعل الإبداعي قائما على تخير الألفاظ، والسياق الموصل إلى الوظيفة التربوية بخصوصية أداء بياني كنائيٍّ متّصفٍ بفرادة لغوية فتجلّت الوظيفة النفسية، فكان الكناية قد جعلت التأويل خاضعاً لسلطة التعبير المتفق عليه فثقل الحق ناجم عن صراع الإنسان مع أهواء نفسية تأخذ به النفس الأمارة بالسوء، لكنه حين يطوّع تلك النفس ويرغمها لسبيل الحق تُصبح الفعل الأنساني متسما بالمراء والهناءة وحميد العاقبة، لكنه حين يستسلم لتلك النفس ويداهن الباطل وإن رآه خفيفاً فهو في النتيجة وبيء وخيم العاقبة، فلا مجال لمجانبة الحق.

فكان (الحق) و (الباطل) رمزين لكل منهما مفهومه الذي غذى مساحة الذهن ،بدلالته، فضلاً عن أنهما يمثلان قوتي الصراع الأبدي المتصارعتان دوماً في الحياة، وما داما هما رمزين متضادين، فللرمز (رسالة مرسلة من النفس إلى النفس... معالجة الوقائع الداخلية كما لو كانت وقائع خارجية)، وبالرمز يحقق المتكلم

ص: 50


1- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده : 90/4 .

لغة تتعدى وتتجاوز اللغة نفسها) (1) ، لذلك كان لكل من كلمتي (الحق) و (الباطل) رمزاً لفكرة قام عليها المعنى العام، فظهر التعبير أداء خاصا بالإمام قائم على فعل إبداعي تفرد به الإمام قوامه فرادة اللغة والسياق الخاص المبتكر، فسهل ذلك على المتلقي عملية الفهم والافهام باستجابة وجدانية حققت الوظيفة النفسية.

كما في قوله الآتي: (الحمد لله الذي لا تُدْرِكَهُ الشَّواهِدُ، ولا تَحْوِيهِ المَشَاهِدُ، وَلَا ُترَاهُ النَّوَاظِرُ، وَلَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ، الدَّالُ عَلَى قِدَمِهِ بحُدُوثِ خَلْقِهِ، وَبِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ، وَبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لا شِبْهَ لَهُ الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِه ، وارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ..)(2).

لقد جاء الفعل الإبداعي في هذا النص قائماً على صيغ تعبيرية بلغة متميزة، حضر في سياقاتها عناصر بلاغية وايقاعية فأكسبت التعبير أداء خاصّاً، قدّم الوظائف التربوية والعلمية والنفسية ،معاً، فاستهلَّ الكلام بالتحميد(الحَمْدُ الله)، فالاستهلال من محاسن الكلام، ولأهميته وحتى يتوافق مع الغرض الذي يرمي إليه المتكلم ، سُمّي (حسن الإبتداء)(3)، ويسمّى أيضا براعة المطلع (وهو أن يتأنق المتكلم في أول كلامه ويأتي بأعذب الألفاظ وأجزلها وأرقها واسلسها وأحسنها، نظماً وسكباً، وأصحها مبنى، وأوضحها معنى ..)(4)، وقد اهتم النقاد بالاستهلال أو حُسن

ص: 51


1- خمسة مداخل إلى النقد الأدبي الحديث، ويلبريس سكوت وآخرون، ترجمة وتقديم وتعليق د. عدنان غزوان إسماعيل وجعفر صادق الخليلي، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1981م : 268 .
2- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده:2/ 115.
3- الإيضاح، الخطيب القزويني، 428 ، وظ : أنوار الربيع في أنواع البديع، ابن معصوم المدني: 34/1.
4- أنوار الربيع في أنواع البديع : 1/ 34 .

الابتداء في الكلام (فما يُعتَملُ في الصدر يجيش به لسان المتكلم، لأن الاستهلال يأخذ حيزا مهما من الاهتمام النفسي للمتكلم، ويأتي هذا الموضوع ضمن ترابط أجزاء النص ووحدة مضمونه)(1)، وقد سار الإمام علي علیه السلام خطى مدرسة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم. في التعبير إذْ ( وجدنا كل أحاديث الرسول وأحاديث آل بيته الأطهار يتقدمها حسن ابتداء يربط بين مفتتح الحديث ومضمونه ونهايته)، وعوداً إلى تحليل النص، نجد حضور علم المعاني، فقد بدأ كلامه بجملة إسمية، ثم حضرت المحسنات اللفظية متمثلة بالجناس الكثيف غير التام ليمنح النص أنسجاماً صوتياً (الشَّواهِدُ المَشَاهِدُ، النَّوَاظِرُ، السَّوَاتِرُ، مِيعَادِه ، عِبَادِهِ..)، وحضرت أيضا المحسنات المعنوية متمثلة بالطباق، وهو الجمع بين متضادين أو بين معنيين متقابلين في الجملة، تُدْرِكَهُ، تَحْوِيهِ، وَترَاهُ، تَحْجُبُهُ) وقد تم الحديث هنا بالنفي لا تُدْرِكَهُ، لا تَحْوِيهِ، وَلا تَرَاهُ، ولا تَحْجُبُهُ) ليؤكد عدم وجود شيء كمثله سبحانه، فأكد هذا المعنى بمحسن معنوي هو حسن التعليلَ الدَّالّ عَلَى قِدَمِهِ بحُدُوثِ خَلْقِهِ، وَبِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ، وَبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لا شِبْهَ لَهُ، الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِه ، وارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ..)، وهنا نجد فرادة التعبير بأدائه الخاص تمثلت بالجمع بين الشكل والمضمون وفنية القول والوظائف النفعية المختلفة، ومنها الوظيفة النفسية، ثم أننا نسمع أيقاعا صوتيّاً يزيد التعبير جمالا ويُكسبه بهاءً، فيّسهم في تحقيق وظيفة نفسية بالاستجابة الوجدانية المتمثلة بلذة الاستماع.

فأسهم التوازي الذي تضمنه النص فضلاً عن العلاقات

ص: 52


1- الأداء البلاغي في الحديث الشريف د. صباح عباس عنوز ، مطبعة شركة المارد ، النجف الأشرف ، 2018م : 303 .

النحوية وحركات الكلمات الاعرابية بايقاع داخلي، فكان التعبير المقصود واضحاً كاشفاً عن المعاني التي أرادها الإمام علي والتي ركّزتْ على وحدانية الله سبحانه وعدم امكان وصفه، وقد تم ذلك بترابط منطقي وايضاح سببي، فأضاء كلامه علیه السلام، مناطق ذهنية في تصوّر السامع ، وكشف السياق عن فلسفة الإمام علي علیه السلام ورؤيته لفضل الخالق سبحانه على المخلوقات، فكانت سياقات الكلام متكونةً من ترابط الوحدات الصغرى(المونيات) الدالة على المعاني والمؤدية للايقاع الصوتي بغرائبية، فبانت قوة التعبير الأنشائية بفعل ابداعي هيمنت عليه الارادة المعرفية وترد الأسلوب، فأثمر التعبير إيحاءات وأنزياحات سياقية حفلت بها التراكيب النحوية والبلاغية المتمثلة بعلوم المعاني والبديع والبيان إذ هيمن التعبير الكنائي بيانياً على السياق، فهو يهتم بمعنى يقف خلف سياق ظاهري، فجاء المستوى الأسلوبي الخاص بأدائه قائماً على بعد فكري أو باعث جعل الإمام علي علیه السلام، ينبه الناس إليه وهو الإيمان بالواحد الأحد، والايماءة إلى عظيم خلقه و فضائل صنيعه للمخلوقات والكون، فكان التعبير ناهضاً على ألفاظ مختارة، وعلى أداء أسلوبي خاص، فاكتسبت الكلمات بذلك الاختيار أهمية تعبيرية أكّدت فرادة اللغة عنده علیه السلاملأن اختيار المنشيء للألفاظ (من شأنه أن يخرج بالعبارة من حيادها وينقلها من درجتها الصفر، إلى خطاب يتميّز بنفسه) (1) ، وهكذا نجد التفرّد في الاستعمال اللغوي عند الإمام علي علیه السلام يصاحبه ايقاع صوتي يصنع استجابة وجدانية عند المتلقي قدرة الأداء الخاص في تطويع اللغة واختيار مفرداتها تحت

ص: 53


1- د. عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب الدار الدبية للكاتب / ط3 ليبيا: 102، وظ: د. محسن طبل / اسلوب الالتفات في البلاغة، 1418 ، 1998 م / ملتزم الطبع والنشر : 34

ظل فعل ابداعي خاص ومبتكر، وبذلك تتجلّى الوظيفة النفسية، إذْ تحصل المُوَاءَمة بين التكوين الأسلوبي للنص و بين حروف البناء الخاص بالكلمة من خلال وجودها في السياق، إذ تستمد الدلالة الصوتية نغمتها و جرسها من طبيعة الأصوات، فتوحي بوقع موسيقي خاص يُستنبط من ضم الحروف بعضها إلى بعض، فتعطي الحروف مجتمعة لفظاً موسيقياً خاصاً يمنحها الخصوصية بجرسها الخاص المؤثر في الحس والوجدان ، إذ لا يمكن لأي ناقد تجاهل دور الموسيقى في عملية الإبداع؛ لأنّ التشكيل الموسيقي في مجمله يخضع

مباشرة للحال النفسية والشعورية التي يصدر عنها النص.

فحصل في كلامه علیه السلام التميّز والتفرّد في التعبير مضموناً وشكلاً، وتمّ الجمع بين فنية القول والقصدية ووظيفة الإقناع التي أدت وظيفة نفسية، فضلاً عن وظائف أخرى متعددة المشارب، وكا ذكرنا سابقاً: إن مثل هذا الجمع يُضعف فنية القول إلا عند الإمام علي علیه السلام، فقد أظهر الفعل الإبداعي فرادة لغته وأداءه الخاص تحقيقاً للوظيفة النفسية .

ولأهمية القول أؤكد هنا أيضا - و كا مرَّ سابقا - أنّ كلامه يجمع دوماً بين أعلى مراتب الفنية في سياقات كلامه، وبين المُراد من الكلام، فيحصل المتلقي على وظيفتي الإقناع والنفسية، فتمَّ التواصل مع الكلام بحضور دهشة التواصل القائمة على الاستجابة الوجدانية، فهو علیه السلام يقدّم تعبيراً متضمناً عدة وظائف لمعاني متنوّعة المشارب بطرائق فنية مختلفة المسارب من دون أن تؤثّر في مبنى الكلام أو تخلّ في معناه ، وهنا يتجلى التميّزُ والتفرّدُ والأصالة فيتحقق الفعل

الإبداعي بإنفرادت نصية خاصة في كلامه علیه السلام تعبيراً وموضوعاً .

ص: 54

المبحث الثاني

الفعل الابداعي وعلاقته بالفنية والإبتكار في كلام الإمام علي علیه السلام

ص: 55

ص: 56

الفعل الإبداعي في كلام الإمام علي بن أبي طالب

توطئة

سيتناول البحث الفعل الإبداعي المتحقق بالأنفرادات البلاغية وأثرها في ايجاد موضوعات فنيّة القول والأداء الإبداعي الخاص أو الابتكار في نصوص الإمام علي علیه السلام.

وقبل الحديث عن ذلك أتوقف عن معنى الفعل الإبداعي عند المنشىء البشري، وعلاقة تلك الحدات بالمتلقي، إذ يتأسس الفعل الإبداعي على ثلاث وحدات بدءاً من التكوين الفكري الذي يصدر عن باعث معين ووصولا للتكوين الأسلوبي ثم المستوى التواصلي، وبموجب ذلك تتكوّن العملية الإبداعية عند المتكلم وتتحقق الاستجابة الوجدانية عند المتلقي، وهذه الوحدات هي:

الأولى وحدة الصراع هي التي تتحدد من جراء موقف المتكلم من الوجود، لأن وحدة الصراع هي (استجابة الشاعر لتجربته الشعورية حين تشكل عاطفته مجموعة من الصور قد تكون مرتبطة بتداعي الماضي واستحضاره عبر قنوات خفية)(1)، ويتحدد وجوده-ا بكونها نتاج الواقع المعيش للمنشئ ، فهو لم يقم بفعل كلامي أو سلوكي إلا حين يعترضه باعث ما، فيكون موقفه من الوجود أو وحدة الصراع رد فعل لهذا الباعث، وهذا الفعل يستوجب من المنشىء موقفا إمّ أن يكون رافضا للمؤثر أو مستجيباً له و مؤيداً إيّاه وفي كلا الحالين فأن موقفه من الوجود سيكون بإزاء تلك المشكلة)، فيأتي الكلام في أي غرض يؤسسه الباعث على ردة الفعل كلاما أو سلوكاً، فإذا كانت ردة الفعل قولاً أو كتابةً تظهر مقدرة المنشيء

ص: 57


1- د. عبد القادر فيدوح ، الاتجاه النفسي في نقد الشعر ، دار صفاء للطباعة والنشر والتوزيع، عمان / الأردن: 299 .

القائمة على هبة الخيال الذي توفره له طبيعة الحياة المستمدة من إحساساته. وتجاربه الخاصة التي تعكس وجوده في هذا الإقلي المحدود، بحياة متزامنة، فحينئذ يأتي القول في إطار فعل ابداعي متصل بحركة الوجود أو الواقع المعيش المؤثر في المتكلم، و تظهر أنعكاسات ذلك التأثر على السياقات الكلامية وجدانياً وفكريا وحينئذ لابد من ظهور موقف المتحدث من الوجود.

الثاني: الوحدة الحيوية تعني الأنسجام بين موضوعات القصيدة ( في العاطفة المسيطرة، وفي الاتجاه المركزي نحو حقائق الكون وتجارب الحياة)(1)، وتتأسس هذه الوحدة بناء على متأتي به وحدة الصراع من تأثيرات تؤدي إلى السلوك أو الكلام، فقد يقدّم المنشىء كلُّ ما يرتبط بتكوينه الفكري والثقافي القائم على أنعكاسات وحدة الصراع . فإذا تحقق الأنسجام بين وحدة الصراع والوحدة الحيوية عند المنشيء فإن ذلك دليل الموقف الصادق من الواقع المعيش، لأن الوحدة الحيوية تلتصق بوحدة الصراع أو موقف المتكلم من الوجود، فلا بد من أن يتنامى لديه الإنفعال و تثور أحاسيسه وعواطفه بسبب ما يتركه الباعث الخارجي عليه من إستجابة وجدانية سلبا أو إيجابا ، وكلما كان التأثير أكثر كلما ازداد أثر الوحدة الحيوية ،طرديا، فيعبئ الكاتب كلماته بأحاسيسه و عواطفه لتخرج مغمسة بوجدانه، أي كلما كانت الصدمة الخارجية للفعل الإبداعي البشري بسبب (الباعث) قويةً، كلما كان الرد الوجداني قويا، حينئذ يكون الكلام خارجا من القلب إلى القلب وفي هذه الحال يتضمن الفعل الإبداعي للمنشيء لغة تعبيرية ذات سياقات خاصة تتحقق بعلاقة جديدة سترفع المضمون المُستخلّص

ص: 58


1- د. عبد القادر فيدوح ، الاتجاه في نقد الشعر : 292 .

من الحس والفكر والواقع، فقيمة أي نص مؤثر تأتي من قوة الباعث وقدرة المنشيء على صواغة جمال اللغة برغبة متناهية مستندة على بواعث القول)، فالبواعث تحفّز الرغبة في القول تسهم في ظهار الاحساس، فيظهر الفعل الإنشائي متوثبا بإزاء قوة الباعث، ثم يأتي المعنى ليستقر في ذهن المبدع وتظهره الألفاظ كاشفة عن الحال الأنفعالية لذلك المبدع بوسائل البيان المختلفة)، إذ تظهر غرارة التجربة الإبداعية المقنعة بناء على قدرة المنشيء في الجمع بين المعنى السامي والشكل الفني الراقي، فيكون المعنى أولاً، وصورته ثانيا، و (أما أن تتصوّر في الألفاظ أن تكون المقصودة قبل المعاني بالنظم و الترتيب، وأن يكون الفكر في النظم الذي يتواصفه البلغاء فكرا في نظم الألفاظ، أو أن تحتاج بعد ترتيب المعاني إلى فكر تستأنفه لأن تجيء الألفاظ على نسقها فباطل من الظن)(1)، وبموجب ذلك فأن الباعث يؤسس لموقف من الوجود، ويكون رد الكاتب معالجة نفسية عبر خطابه المنتقى، ويمكن أن أصوّر ذلك بالمخطط الآتي:

باعث

موقف من الوجود أو وحدة الصراع

فعل إبداعي (يتأسس بعمليات

الكلام أو العقل )

وهذه الوحدة أي ( وحدة الصراع ) تؤسس مخاضا وعمليات إبداعية في عقل المنشيء ونفسه فيرسم معادلا موضوعيا لما يريد القول فيه، فيكون حينها إما رافضا لذلك الواقع أو مؤيدا له ومستجيباً وجدانيا، وفي كلا الحالين يترتب على ذلك الموقف موقف شعوري يتحدد عبر الوحدة الحيوية. فهل نجد ذلك في النص القرآني؟ ستأتي الإجابة لاحقاً.

ص: 59


1- عبد القاهر الجرجاني ، كتاب دلائل الاعجاز قرأه وعلق عليه محمود محمّد شاكر، الناشر مكتبة الخانجي، القاهرة: 52 .

ثانيا: الوحدة الحيوية : تلتصق بالوحدة الأولى حتما، بناء على رد فعل الكاتب و موقفه من الوجود، فلا بد من أن يتنامى لديه الإنفعال و تثور أحاسيسه وعواطفه بسبب ما يتركه الباعث الخارجي عليه من إستجابة وجدانية سلباً أو إيجاباً، وكلما كان التأثير أكثر كلما ازداد أثر الوحدة الحيوية طرديا، فيعبئ الكاتب كلماته بأحاسيسه و عواطفه لتخرج مغمسة بوجدانه، أي كلما كانت الصدمة الخارجية للفعل الإبداعي البشري بسبب (الباعث) قويةً، كلما كان الرد الوجداني قويا، حينئذ يكون الكلام خارجا من القلب إلى القلب)، وأن لم يتفاعل الكاتب مع ذلك الأثر فهنا تكون الكتابة محض لهو، وأن كلماته ستكون سنابل خالية من الثمر لا تأثير لها في المتلقي، فالوحدة الحيوية فيض وجداني لبداية الحال الأنفعالية، ومن ثم ينمو سريانها في أطواء النص، إذ تتشابك مع كل جزء من الملفوظ قولا وكتابة فضلاً عن ذلك فهي الأثر الأول الذي يدخلنا إلى مختلف أقسام النص ويسجل المتناقضات العاطفية الكثيرة فيه (1) ، وهي التي تتواءم بين نصوص المبدع وتؤلف بينها وحدة حيوية قوية، إذا يجلّي لنا عاطفته المسيطرة المتحدية ل-كل م--ا تلقاه من هموم..)(2)، وهي المسار الأول الذي يدلنا على تفكك النص أو تماسكه، إذ يرجع الأمر إلى نفسية القائل ( وتفسيره يكمن في تعمق حالته الأنفعالية ) (3) ، ومن هذا يتبين لنا أن استجابة المنشيء استجابة مرتكزة على دور الإنفعال المتبادل بين مشاعر الذات

ص: 60


1- ظ :الشعر الجاهلي (منهج في دراسته وتقويمه)، محمّد النويهي، الدار القومية للطباعة والنشر مصر : 450/2-452 .
2- المصدر نفسه 2/ 452 -450 .
3- المصدر نفسه: 457 / 458 .

وقواها الطبيعية الدافقة) (1) ، فتحمل الصور المتناسلة في أثناء النص خصوصية المنشىء البشري، فضلاً عن ذلك فأن حاجة النص إلى السياق تُظهرها خصوصيته، إذ تُظهر أول بؤرة بيانية يرتضيها المنشيء صورة تعادل ما يحدث في الواقع المعيش، فتعوّض له أثر ذلك الواقع وصورته الحقيقية(2).

ثالثا : وحدة التداعي أو التلوين الشعوري: حين يرد الكلام بناء على باعث وسبب موقفا للمتكلم من الوجود، حين يتنامى لديه الإنفعال وتحضر العاطفة والاحساس، ويأتي الردُّ من المنشيء فإن الأحداث سيجري تصوّرها وعند ذلك فأن صور الأحداث التي رافقت تلك الصدمة سواء أكانت مفرحة أم مؤذية سوف تتقافز إلى ذهنه، وربما كانت هذه الوحدة أكثر مقياسا لمعرفة تماسك وحدة الموضوع من عدمه، فذه-اب ذهن المنشيء مع تلك الصور وإطلاق الحبل على غاربه لها يجعل نصه عرضة للتفكك، إذ تتغلغل هذه الوحدة مع حال المنشىء الشعورية لحظة ولادة (النص) (3) فيصبح الكلام وثيقة تجمع أحداث الماضي وتدلي عليه، فشأن الكلام هنا شأن القصيدة التي هي حضور يلم بشتات الماضي والحاضر معا، لأنها تعرض الأفكار والاتجاهات أكثر مما تولدها(4)، فالكلام المتحقق في الفعل الإبداعي وبوساطة هذه الوحدة سيكون عن طريق تولد الأفكار واستدعاء المعاني فتتحقق وحدة الشعور

ص: 61


1- الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي 291.
2- ظ :اثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية : 128
3- اعجازية التكوين الأسلوبي في النص القرآني 36 .
4- ظ : قضايا في النقد الأدبي، ك.ك، روثفن، 355

بين التداعي والحضور (1)، وعند ذاك تتحرر الوثبات النفسية عند المنشىء البشري على هيئة صور ناتجة عن علاقة آنية بينه و بين الواقع واستيعابه له (2)، وسنلاحظ هذا الأمر في كلام الإمام علي علیه السلام.

تطبيق : إن المتأمل في الفعل الفعل الإبداعي وعلاقته بالفنية

والإبتكار عند الإمام علي علیه السلام يجد توظيف هذه الوحدات في وحدة موضوعية، الأمر الذي يدل على قوة بناء الفعل الإبداعي وعلوّ الفنية وأصالة الابتكار في أقواله كما سنرى، فقد قال: (مَنْ عَظَمَ صِغَارَ المَصَائِبِ ابْتَلاهُ اللهُ بِكِبَا رِهَا)(3)، إذْ نجد وحدات الفعل الإبداعي حاضرة في النص بدءا من وحدة الوجود أي الموقف من الواقع المعيش، بمعنى: (من تفاقم به الجزع ولم ييجمل منه الصبر عند المصائب الخفيفة حمله الهم إلى ما هو أعظم)(4) ، ثم غذّت الوحدة الحيوية النص بالأنسجام العاطفي، فتآزرت أجزاء النص فضلاً عن فعل الشرط وجوابه اللذين منح الكلام أنسجاماً وسبكاً أخذ به إلى مصاف الحكمة، فتمت الأصالة وتحقق الإبتكار في كلام الإمام علي علیه السلام تحت إطار الصور الفنية، ثم جاءت وحدة التداعي مبنية على تسلسل أحداث لتوضح أنَّ مَنْ يُعظَّمَ صِغَارَ المَصَائِبِ يبتليه اللهُ بِكِبَارِهَا، فالصورتان المتلاحقتان كانت الثانية سبباً لوجود الأولى، فحقق التلوين الشعوري تماسكاً للنص، وليس بمقدور كل واحد أن يحافظ على وحدة الموضوع وتماسكه إذا حضر التداعي أو

ص: 62


1- ظ تداعي الوعي في الشعر الجاهلي ناصر اسطمبول، جامعة وهران، تونس، 1986م: 43 - 44-45 .
2- ظ : النص الأدبي من التكوين الشعري إلى أنماط الصورة البيانية وهيمنة التلوين الشعوري، د. صباح عباس عنوز 74.
3- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده: 104/4 .
4- المصدر نفسه: 104/4 .

التلوين الشعوري في النص، ومن هنا تجلّت لنا قوة الفعل الإبداعي في تعبيره، فهو فضلاً عن ذلك التماسك النصي فقد حقق وظائف تربوية، فبان التفرّد وحضر التميّز في التعبير عنده علیه السلام. فلا غرابة في أن ما يعانيه المنشيء هو السيطرة على تسلسل الصور المتناسلة في أثناء التعبير، ومن ثم تطويع تلك الصور لخدمة الدلالة المقصودة، إذ تأتي هذه الصور بالتداعي المتوثب إلى الذهن عنوة، فالتداعي يسهم في ارتباط الأفكار النفسية الواثبة إلى الذهن فتأخذ محلها في النص بشكل عفوي ، ولابد من حضور التداعي في عمليات الفعل الإبداعي لأنَّ الأفكار تقتحم الذهن رغما عنه، وهذه الخصيصة تظهر قوّة الفعل الإبداعي حينما يهيمن على وجود تلك الصور ويوظفها لخدمة الدلالة، وهذا ما ألفناه في كلام الإمام علي علیه السلام، فقد أظهر فعله الإبداعي تعبيرا حافلاً بالصور التي رافقت السبك النصي فأخضع كل ذلك التداعي إلى وحدة النص، وتوجيه وظيفته الدلالية والفنية معاً. قال علیه السلام: (قليل تَدُومُ عَلَيْهِ أَرْجَى مِنْ كَثِيرٍ مَمْلُولٍ ) (1) ، لقد جاء التكوين السياقي البلاغي ناهضا على علم المعاني بالجملة الاسمية وخبرها، والأداء البياني بالكناية تعريضاً، لأن التعريض ( لا يكون في الكلمة المفردة، وإنما هو في اللفظ المركب أو السياق العام للجملة الدال على المعنى أو ما ينتجه المفهوم) (2) فضلا الأداء البديعي بالمحسن البديعي الطباق (قَلِيلٌ ، كثير ، تَدُومُ علَيْهِ ، مَمْلُول) فقد تم الجمع بين الاسمين والمعنيين المتضادين، فحصل التفرّد البلاغي لأنه تمّ فيه الجمع بين الشكل والمعنى بشكل متساو، ويجد المدقق في التعبير حضور المساواة أيضاً في

ص: 63


1- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده : 4 / 68 .
2- الأداء البلاغي في الحديث الشريف ا.د. صباح عباس عنوز : 126 .

التعبير، والتي هي لفظ الكلام بمقدار معناه لا ناقصا عنه بذف غيره، ولا زائدا عليه بنو تتميم أو تكرير أو اعتراض)(1)، فجاء الفعل الإبداعي بوحداته المتمثلة بالموقف من الوجود أي ما يفهمه المتلقي من فحوى الكلام وما يتخذه من موقف من واقعه المعيش وجاءت الوحدة الشعورية المتمثلة بشعور المتلقي وأحاسيسه بإزاء هذا الكلام، وجاءت وحدة التداعي التي نقلت المتلقي بين صورتين، فكانت الوحدة العضوية للنص نسيجا متكاملا، فحصل التميّز والأنفرادات البلاغية في تعبير الإمام علیه السلام، فقدم السياق وظيفة تربوية، بمعنى اعمل قليلا وداوم عليه فهو أفضل من من كثير تسأم منه) (2)، وتظهر سمات الفعل الإبداعي عند الإمام علي علیه السلام في مواضع منها : إنه لم يترك الإمام للتعبير سطوة التحكم في تكاثر الصور البيانية وبذلك يحص النأي عن قصدية النصوص، فكان التحكم في سيرورة الفعل الإبداعي مقياساً ودليلاً على قدرته الإبداعية التي هيمنت على تطويع فنّية القول مسارب في أثناء الكلام الإبداعي ومسارب دلالاته، فجاءت الصور الحاملة للمعاني مبتكرة حفلت بالدلالات وقيم التعبير المختلفة، و أثرتْ في تكوين فعله الإبداعي عناصر متعددة مثل المعرفة القرآنية والثقافة الإسلامية و البيئة الاجتماعية، غيرها من قيم الفضيلة، فوظفها في فعله الإبداعي، قدّم وظائف متعدة الموضوعات للملقي، فتجلّى عنده الفعل الإبداعي وتوضّحت علاقته بالفنيّة والإبتكار، ومن هنا تميّز التعبير في نهج البلاغة بمستويه التركيبي والتوليدي فصاحبهما الإبتكار والإبداع، لذلك وصفه كبار العلماء البلاغيون بصفات أدبية رائعة

ص: 64


1- ظ :المصباح في علم المعاني والبيان والبديع بدر الدين بن مالك، القاهرة، 1341ه- : 35.
2- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده : 4 / 68 .

فقد قال الشريف الرضي المتوفي (406 ه-) ، كان أمير المؤمنين علیه السلام مَشرَع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه علیه السلامظهر مكنونها، ومنه أخذت قوانينها. وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ . ومع ذلك فقد سبق وقصروا. وتقدّم وتأخروا (لأنّ كلامه علیه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي) (1) ، وعلى وفق ذلك فإن نهج البلاغة يجمع بلاغة الكلام بأقسامه الفنية المتعددة و وظائفه الإنسانية المختلفة ، فمن أراد أن يركب ظهر واحد من الأقسام تلك ليس له إلا أن يسلك مسلك الإمام علي علیه السلام في تناوله الكلم وتركيبه للجمل ومتابعة دلالاته وبيان أنتظام عباراته ، ولا يخفى على دارس منصف أحب مهنته مبتعدا عن الهوى، وآمن أن يوماً عصيباً ينتظره وسؤالا كبيراً يستنطقه، بما تحمله نصوص نهج البلاغة من حقائق إنسانية،)(2)، وتتحقق هذه الرؤية جليّةً للباحث العارف بأساليب القول وأفانينه ، إذ يؤدي تعبيره وظائف مختلفة الإتجاهات بسبل فنية عالية الدقة والبناء، فآبَ تعبيره علیه السلام بإنفرادات إبداعية مبتكرة أدبياً ودالة علميّاً، وبحسب تتّبع البحث سأوميء إلى بعض من تلك الأنفرادات البلاغية وعلاقتها بالمجالات الأخرى التي يرى البحث ضرورة التعريف بها هنا. لأن البحث فكرة تقدح في الذهن وليس لي إلّا أن أفيض بها وفاءً لإمامنا علي علیه السلام، وطلباً للثواب، فقد ورد عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: (يجيء الرجل يوم القيامة، وله من الحسنات كالسحاب الركام، أو كالجبال الرواسي، فيقول: يارب أنى لي ولم أعملها؟ فيقول: هذا علمك الذي علّمته الناس، يُعمل بهِ مِن

ص: 65


1- نهج البلاغة: تحقيق الشيخ محمّد عبده: مقدمة الشريف الرضي: 11.
2- نهج البلاغة صوت الحقيقة: 16 .

بعدك )(1). إن القارئء لأحاديث الإمام علي علیه السلام قراءة فنيةً وموضوعيةً يجد الفعل الإبداعي متحققاً بأنفراداته البلاغية التي تؤثر في تكوين السياقات التركيبية، فتتجلّى للمتلقي موضوعاتُ فنيّة القول والأداء الإبداعيٌّ الخاص أو الابتكار في نصوصه علیه السلام، إذْ تُبنى هذه الموضوعات وتتأسس مضامينها على الإنفرادات البلاغية التي تتوطن كلامه، فأسلوبه يمتدُّ إلى مدرسة النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله وسلم، وقد حمل الوظائف الإرشادية والتعليمية بأنواعها، فتميّزتْ دلالات كلامه (2) بوظائف مختلفة وعظاً وإرشاداً وتربيةً ،وعلماً ، فبات كلامه يحاور العقل الإنساني على اختلاف مشاربه، بوصف كلامه علیه السلام رسائل حاضرة تصلح لكل زمان و مکان فکلامه متفرد بسياقاته بعد القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، لأنه باب علّمَ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كما ورد في الحديث الشريف : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ولن تدخل المدينة إلا من بابها) (3)، فالتشبيه هنا ( مؤكد إذ حُذِفَتْ منه الأداة في (أنا مدينة العلم) و (علي بابها ، وذكر وجه الشبه في دخول المدينة من بابها، فدخول مدينة العلم التي تمثل علم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم. يتم عن طريق بابها الذي يمثله علّمَ الإمام علي ، فبهذا المعنى الايحائي، ذكر الشبه وهو عملية الدخول إلى المدينة من الباب الخاص

بها الى علم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم عن طريق علم الإمام علي علیه السلام، فالمدينة محصنّة ولا يمكن الوصول إليها إلّا من بابها، لقد أدت الوظيفة الإفهامية للتشبيه دلالة واضحة المقاصد، فبيّنت مكانة الإمام علي علیه السلام عند الرسول الكريم، فالمشبه شخص الرسول (أنا) والمشبه به

ص: 66


1- بحار الأنوار المجلسي: 75/1.
2- د. عبد القادر القط .
3- المجازات النبوية الشريف الرضي: 208 .

( مدينةُ العلم)، بوصفه حاملا لكل العلوم التي يبتغيها الطالب، ولكنَّ بابَ دخولها واحدٌ لا غير وهو عن طريق علم الإمام علي، فكان المشبه الثاني شخص الإمام (علي)علیه السلام والمشبَّه به باب المدينة (بابها)، وهل تُدخل المدينة إلّا من بابها؟ فكان وجه الشبه يؤكد صلة علم الإمام علي علیه السلام بعلم الرسول (ولن تدخل المدينة إلّا من بابها، فأي أهمية كبرى خصَّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بها الإمام علي علیه السلام ؟ إذ جعله منفذ الوصول إلى الحاجات التي يرومها السائل من علم الرسول الكريم، وهذا ما أراده الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم لتبيان مكانة

الإمام علي ، فاشتغلت الدلالة الايحائية بطاقاتها القصوى لايصال هذا المقصود عبّر الأداء البياني التشبيهي المؤكد المفصل)(1)، وفي السياق نفسه عبّر عن ذلك الإمام الحسن علیه السلام في خطبة له بعد أن أمره الإمام علي علیه السلام أن يخطب الناس في جامع الكوفة : الحمد لله الواحد بغير تشبيه، والدائم بغير تكوين القائم بغير كُلفة، الخالق بغير منصبةِ ..... أمّا بعد: فإنَّ عليّاً باُب الله من دخلَهُ كان مؤمناً، ومَن خَرَجَ منه كان كافراً) (2) ، فكان التشبيه في هذا الحديث أيضاً (مؤكداً مفصلاً حُذِفَتْ منه الأداة وذُكِرَ فيه وجه الشبه، وكان متمثلا بالإنقياد إلى فكر الإمام علي علیه السلام رؤاه لأنه يمثل امتداد المدرسة المحمّدية فالذي يلتزم بها شأنه شأن مَن يدخل الباب آمنا، ومن لا يلتزم سيفقد سبيل الحق وسيكون كافراً، فالمشبه (علي) والمشبه به باب الله)، ووجه الشبه (من دخلَهُ كان مؤمناً، ومَن خَرَجَ منه كان كافرا)، وبذلك حققت الدلالة التشبيهية وظيفتها الإفهامية عند المتلقي (3)) ،

ص: 67


1- الأداء البلاغي في الحديث الشريف: 56 .
2- بحار الأنوار، المجلسي: 351/43.
3- الأداء البلاغي في الحديث الشريف، ا.د. صباح عباس عنوز : 56-57 .

فآراء الإمام علي علیه السلام تمثل امتداداً للمدرسة المحمّدية، ثمَّ جاء من بعده الأئمة الأطهار علیهم السلام، إذ قال الإمام علي علیه السلام(نحن الشّعَارُ ،

، وَالأَصْحَابُ والخَزَنَةُ والأبواب، لا تُؤتَى البيوت إلا من أبوابها .. فيهم كرائِمُ القُرْآنِ، وَهُمْ كُنُوزُ الرَّحْمنِ إِنْ نَطَقوا صَدَقُوا، وَإِنْ

. صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا.. )(1) بمعنى ( نحن الشِّعَارُ : ما يلي البدن من الثياب، والمراد بطانة النبي صلی الله علیه و آله وسلم، والضمير لآل النبي، كرائم : جمع كريمة، والمراد أنزلت في مدحهم آيات كريمات ، والقُرآن كريم كله، وهذه كرائِم من كرائم لا يسبقهم أحد إلى الكلام وهم سكوت أي يُهاب سكوتُهم فلم يجرؤ أحد على الكلام فيما سكتوا عنه) ((2)، فكلامه يتضمن علماً لدنيّاً، ففي هذا الجانب يطالعنا قول الشريف الرضي رحمه الله في مقدمة نهج البلاغة وبكلامه استعان كل واعظ بليغ . : لأنَّ كلامه عليه السلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي. وفيه عبق من الكلام النبوي ) (3)، فأقواله الشريفة أنمازت بالرقي الفني والإيحاء الدلالي. ويستطيع الباحث الجاد بفطنته أن يتلمس فعلاً ابداعيّاً في أقواله، رسمته الإنفرادات البلاغية التي منحت السياق فنيّةً وابتكاراً، ولنتأمل تحقق الفعل الإبداعي وعلاقته بالفنية والإبتكار في نصوصه ، فمن أنفرادته التي تحققُ فعلا ابداعياً منظوراً في نصوصه علیه السلام ابتکاره أسلوباً خاصاً به، قوامه فرادة اللغة وتوظيف طاقات التعبير بأقصى مداياتها، فجاءت الإنزياحات في نصوصه سياقية مبتكرة جمعت بين الشكل والمضمون، ومن هنا بأن التميّز والتفرد في أقواله، فأثر ذلك في أساليبه التعبيرية التي بقيت تحاور

ص: 68


1- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده: 2/ 43 - 44 .
2- المصدر نفسه .
3- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده مقدمة الشريف الرضي: 11 .

العقل الأنساني، وتقدّم سياقاً بلاغياً تكاثف القول فيه حتى وصل إلى مستوى المثل الصالح لكل زمان ومكان كما سنراه لاحقاً في هذا الكتاب، فباتتْ أقواله و حكمه القصار أمثالا يستعين بها كل أديب لتمنح الكتابة تفاعلا نصيّاً يعضد الفكرةَ، ويشدُّ أواصر الوحدة الموضوعية، وهو بذلك لا يفارق الأنفرادات البلاغية ولا فنية القول، فيتمَّ التعبير بأصالة وابتكار على وفق فعل ابداعي خاص به علیه السلام، تأمل معي قوله : (إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ مَثَلُ السِّرَاج في

: الظُّلْمَةِ يَسْتَضِيءُ بِهِ مَنْ وَجَهَا، فَاسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَعُوا ، وأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا)(1)، حضرت علوم البلاغة هنا، إذ بدأ الإمام علي علیه السلام) قوله بجملة مؤكدة بخبر انكاري وجملة إنشائية بإسلوب الأمر خرجت إلى غرض مجازي هو النصح والارشاد، وتضمن النص البيان بالتشبيه التمثيلي، والكناية عن موصوف والكناية تعريضاً والاستعارة، وفي الوقت نفسه حضر البديع بالجناس وحسن التعليل، فأوضحت الصورة أهمية السراج في الظلمة فالحاجة تكون له أوجب وأكثر، لأنه يدلّي الناظر على ما يريد وينير له أجواء الفضاء المحيط به، وهيأ التشبيه التمثيلي وعلم المعاني بجملته الاسمية إلى اظهار صورة فنية ابتكارية تأسست على وفق فعل ابداعي خاص، أنتجته الصورة الآتية: وأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا)، أي استمعوا من أعماقكم وتدبّروا القول وتفكّروا فيه، فتسامت الصورة هنا تشكيلاً ووظائف تعليمية، لأن الصورة تمثل الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بسياق بياني واستعمال طاقات اللغة وامكاناتها في الدلالات والتركيب والايقاع والحقيقة (2) ،

ص: 69


1- نهج البلاغة تحقيق الشيخ محمّد عبده: 2 / 127 .
2- الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر ، د. عبد القادر القط، دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع مكتبة الشباب، القاهرة، 1988 م: 435.

فمن البديهي أن فهم النص لدى المتلقي يحدده الأسلوب الذي يتخذه المنشيء، ويتم ذلك باستقراء بنية النص، فهي تمتلك قيماً فنية كثيرة التي تتآلف فيما بينها مثل قيم المعنى وقيم الموسيقى وما تمنحه هذه الأمور من جمالية للنص، لأن الكلام المتضمن لتعبيرات لغوية مؤثرة في حقيقته يمنح النص جمالية، فاللغة هنا عبارة عن جواهر منشورة والأسلوب عقد منتظم منها لا تكتسب الابهار إلا إذا أنسحبت في أسلوب وأنتظمت في كلام)(1)، فجمالية النص تنبيء عنها الدلالات العامة أو الخاصة للبنية التركيبية في أي نص، ، سواء أكان الأمر متحققاً بسياقات أسلوبية خاصة، أو تكوينات بلاغية مراعية للمعنى، أو بصفات صوتية يقصدها القائل ليوظفها في إنتاج الدلالة العامة للنص، فالعلاقة بين اللفظ والمعنى ترسمها إشارات واضحة تنبئ عن اهتمام المتكلم، إذ إن كل شيء يخرجه المتكلم على لسانه له صلة بما يعتمل في نفسه، فما يخرجه إلا ليظهر شكل إحساسه وتصوراته، فتكون الكلمات علامات تنقل رسائل أطواء المتكلم ، فبها يستطيع المتلقي فك شفرات النص، وتحليل معانيه و معرفه ،مغزاه، فالكلمات تفتح عيونها في أعماق المتلقي و تصبح طريقاً يدلي السامعين على قصدية القائل، فعلم الإمام الناس بوصف نفسهإِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ مَثَلُ السِّرَاج في الظُّلْمَةِ يَسْتَضِي بِهِ مَنْ وَجَهَا) وبذلك أعطى التعبير وظيفة افهامية للسامع ، فأباح بمضمون ما يجيش في أعماقه، فصار كلامه رسالة ابلاغية، أكدت أهمية وجوده بينهم، فتسلسل موقع العبارات وأثمر دلالات ايحائية بطاقات تعبيرية أظهرت أهمية وجوده في المجتمع لأن في وجوده تتمّ

ص: 70


1- الكتابة من موقع العدم، مساءلات حول نظرية الكتابة، عبد الملك مرتاض، مؤسسة اليمامة الصحيفة 1999 م ، الأصل من جامعة مشيغان، من كتاب الرياض، طبع 2008 م: 89.

المعرفة، وبتوجيهاته تضيء سرائر النفوس معرفةً ومَثَلِي بَيْنَكُمْ ---> و مَثَلُ السِّرَاج في الظُّلْمَةِ .(يَسْتَضِيءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا) وختم نصه المتحقق بفَعل ابداعي أظهر سموّاً فنياً في التعبير، وابتكاراً في الرؤى ، فأنماز تعبيره بطاقات ايحائية متعددة المضامين، وهذه السمة مهيمنة في عموم نصوصه علیه السلام، وختم نصه بمنح السامع وظيفة تعليمية بقوله: (فَاسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَعُوا ، وأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا ) ، فتحركت كلمة (آذَانَ) المضافة إلى( قُلُوبِكُمْ) في بنية السياق حركة حيّة فمنحته ومضةً دلاليةً أضاءت التعبير وختمت معناه بوظيفة تعليمية تربوية، وأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا أي هيوا أعماق قلوبكم للنظر في كنه الأشياء (تَفْهَمُوا)، فهل وجدت تعبيرا تميز بفعل ابداعيٌّ أسهم في فنية التعبير وابتكار السياق مثل هذا الكلام ، ومثل ذلك قوله علیه السلام: (الناس أعداء ما جهلوا)(1) ، إن المتأمل في مدرسة أهل البيت الحديثية يجدها قد تميزن بالجمع بين أساليب البلاغة عامة وفروعها الدقيقة كما ذكرنا ذلك في أكثر من موضع وهذا دليل بلاغتهم في التكثيف الدلالي لأحاديثهم الشريفة، و رُقِي فنّية كلامهم، الأمر الذي يؤكد سموَّ مدرستهم واتصالها مع بعضها السلسلة الذهبية لأئمتنا العظام علیهم السلام حتى توصل مدرسة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم المتميزة بالأصالة والإبداع في سياقها التعبيري ودلالاتها المقصودة والحاملة للوظائف التربوية ) (2) ، قدّم التعبير الذي تحقق بالجملة الخبرية بوساطة الخبر الابتدائي غرضه الدلالي، فضلاً عن الأداء البياني بالكناية، التي أومأت إلى الذي لم يتمكن من معرفة الصواب فهم أعداء ما جهلوا من أمر، إذ إن عدم المعرفة تللك تكون عدوّاً

ص: 71


1- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده : 4 / 42 .
2- الأداء البلاغي في الحديث الشريف: ا.د. صباح عباس عنوز: 179.

لمن لا يعي ،مضانها، فقدّم الحديث المكثّف وظيفة إفهامية للمتلقي، وبات التعبير يصلح لمن ينطبق عليه المضمون في كل زمان ومكان. فنجد الفعل الإبداعي قد أسهم في تكوين إضفاء الفنيّة على السياق، فضلاً عن إبتكاره ، الأمر الذي أسهم في تكثيف الكلام ومنحه دلالته ووظيفته الاقناعية معاً، فصار الكلام مثلاً حاضراً في أقواله علیه السلام ومن ذلك قوله: (الحكمة ضالة المؤمن)(1)، أي على المؤمن

: متابعة الحكمة للإفادة منها، لكي يقوّم مسيرته، فالأسلوب البياني تشبيه بليغ وعلم المعاني خبر ،ابتدائي، والسياق مبتكر بفرادة اللغة وتكوين الصورة، فنهضت الدلالة مبنيّة على المواءمة بين الشكل والمضمون والصياغة الأسلوبية. ونجد حصول الإيجاز غير المُخل في أقوال الإمام علیه السلام حتى تصل العبارة بالتكثيف إلى كلمتين، فتستوي مثَلاً دائم الحضور في كل الأزمنة، مثل قوله : (الرحيل وشيك) (2)فالأداء البياني كناية وعلم المعاني خبر ابتدائي، وقوله علیه السلام: (الحِلْمُ عَشِيرَةُ) (3)، فهنا تكثيف الكلام بأداء بلاغي تم بالتشبيه البليغ (ما أروع هذه الدعوة إذ تبني مجتمعا آمنا مطمئنا تسوده مباديء الاحترام والتسامح ونبذ الاحقاد والمشاحنات التي تكثر عادة في المجتمعات البشرية .. فإذا تجاوز ذلك وتعداه إلى فضيلة الاعضاء عن الاساءة مع القدرة على الرد، فيكون قد كسب أنصاراً وأعواناً على شؤون الحياة وشجونها ، حتى ليتكون لديه عدد كثير بما يسد مسد العشيرة، ويقوم بوظائفها المعتادة من النصرة والمؤازرة)(4)، لقد

ص: 72


1- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده : 4 / 18 .
2- المصدر نفسه: 43/4 .
3- المصدر نفسه: 98/4 .
4- أخلاق الإمام علي علیه السلام، تأليف محمّد صادق السيّد محمّد رضا الخرسان: دار الكوكب للتصميم والطباعة والنشر، ط14368ه- ، 2015م، النجف الأشرف: 1/ 165 .

تشكل السياق بعلم المعاني من مبتدأ وخبر ابتدائي، وعضده علم البيان بالكناية تعريضاً أي تمَّ اطلاق الكلام وتمت الإشارة به إلى معنى آخر يُفهم من السياق ومن ظرف القول، بمعنى تم فهم المعنى من السياق ورافق التأويل المعنى ليتضح معنى الحديث، فاشترك الأداء ان البلاغيان علم المعاني وعلم البيان فتجسدا في كلمتين كوّنا السياق تام الدلالة، وقدما المعنى القائم على التدبر والتأمل ، فحصل التكثيف من دون التأثير في الدلالة، وتجلت فنية القول وابتكار الأداء الناهض على التجربة الاجتماعية، فصار الحديث مثلا صالحا لكل زمان ومكان. ومن ايجاز كلامه علیه السلام هو الذي قام على النفي والتشبيه فبات مثلاً، كقوله: (لا ميراثَ كالأدب)(1)، وقوله (لا علم كالتفكّر )(2)، فهنا وظائف اجتماعية تتمثل بالحث على الأدب لأنه أفضل ميراث، وعلى التفكّر لأنه يمثل أس العلم بل العلم نفسه. ومن ميزات الإبتكار في كلام الإمام علي علیه السلام التي تظهر فنّاً ابداعياً في كلامه هي: اجتماع أقسام البلاغة في كلامه فحصل الأنسجام، وتشكلتْ وحدة موضوعية بسبك فني تؤدي الدلالة المقصودة، قال علیه السلام: صحة الجسد من قلة الحسد)(3)، نجد هنا علم المعاني متجسداً في الخبر الإبتدائي، وهو ما خلا من المؤكدات، ونجد علم البديع متمثلاً بالجناس غير التام في كلمتي (الجسد، الحسد)، فضلاً عن وجود الأداء البياني متمثلاً بالكناية تعريضا أي أن يطلق الكلام ويشار به إلى معنى آخر يفهم من السياق ومن ظرف القول )(4) ، فهذا تفرّد في التعبير أنبأ عن القدرة

ص: 73


1- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده : 27/4 .
2- المصدر نفسه: 27/4 .
3- المصدر نفسه 678/4.
4- ظ :مفتاح العلوم، السكاكي: 194 ، وظ: البلاغة والتطبيق، د. أحمد مطلوب، ود. كامل حسن البصير، ط 2 ، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، 1410 ه- - 1990م : 373.

البلاغية التي تمتّع بها الإمام علي علیه السلام، فتشكلت الصورة المبتكرة باختيار مقصود و حملت معها الوظيفة الإقناعية، لأنّ الحسد مكروه كما في قوله صلی الله علیه و آله وسلم: ( إياكم والحسد، فأن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)(1)، فغرض التشبيه هنا هو تقرير حال المشبه في نفس السامع، إذْ جاءت وظيفة هذا الغرض ليوضح حال المشبه عند السامع حين يكون ما أسند إلى المشبه يحتاج الى التأكيد والإيضاح ليكون أثبت في نفس السامع وأقوى في ذهنه وأظهر جلاء، ولكي تترسخ حال المشبه في ذهن السامع ويتم ذلك بإظهار الأمور الذهنية في صور حسية، لذلك تم تشبيه الحسد بالنار من جانبين، الأوّل: أكل السيئات للحسنات، والثاني : أكل النار للحطب، وشبَّه الحسد بذلك لأنه يجري في قلب الإنسان مجرى النار اللاهبة لاهتياجه وإحراقه، فأوضح بذلك حال المشبه في نفس السامع ومكن معناه من خاطره ورسّخه في نفسه، بإظهار الأمور المعنوية الذهنية في صور محسوسة استجاب لها ذهن السامع) (2) فحصلت المواءمة بين وحدات الفعل الإبداعي المتمثلة في وحدة الصراع، أي الموقف من الواقع المعيش والوحدة الحيوية أي وحدة المشاعر، ووحدة التداعي، أي التلوين الشعوري أو التذكر، وكل ذلك تم في تكوين أسلوبي، وتكثيف دلاليُّ، ورافقه الإيجاز في القول الذي ارتقى إلى مستوى المثل الصالح لكل زمان ومكان، فضلاً عن التساوي والتوازن بين السياق التركيبي الذي يمثل الشكل والقصدي--ة الت-ي تمثل المضمون، ومن المعلوم أن المنشىء البشري إنْ ركَّز على المضمون

ص: 74


1- المحجة البيضاء في تهذيب الاحياء محسن الفيض الكاشاني، تحقيق الشيخ علي أكبر الغفاري، قم مؤسسة المحبين ، ط 1 ، 1426ه-، كتاب آفات اللسان: 264/5 .
2- الأداء البلاغي في الحديث الشريف: ا.د. صباح عباس عنوز: 80.

ضَعُف عنده الشكل أو الصورة، وإن ركّز على الشكل ضَعُف عنده المضمون، لكننا وجدنا موازنة بين الشكل والمضمون عند الإمام علي علیه السلاموبالعكس، وكذلك في عموم الحديث الشريف، فضلاً عن ذلك فهناك سمات أخرى في نصوص نهج البلاغة، كالحكمة ومحاورة الواقع ثقافيا واجتماعيا، والإيماءة إلى الأمور العلمية بشتى مناحيها، حضرت في نصوصه السابقة وكما سنراها في نصوص لاحقة من هذا الكتاب، ولنقف عند الفعل الإبداعي وعلاقته بالفنية والإبتكار في قوله علیه السلام: الغِنَى فِي الغُرْبَةِ وَطَنَّ ، والْفَقْرُ فِي الْوَطَن غُرْبَةٌ)(1). إذ يتخذ الفعل الإبداعيُّ مساراته التعبيرية وأثاره الفنية في صيرورة التكثيف البلاغي، فيتماسك التعبير وتتعاضد أواصره لتقدّم المعنى ووظائفه إلى المتلقي، فنجد في هذا النص استثمار الطاقات التعبيرية بأداء إبداعي خاص فتجلّى الابتكار، فالمتأمل في النص يجد تكراراً للحروف (فقد تكررت اللام أربع مرات، والغين ثلاث مرات ومثلها النون والفاء والواو، وتكررت الباء والطاء مرتين ، فأسبغ هذا التكرار وقعاً موسيقياً، لأنه هيمن على السياق التعبيري، فأعطى تماثلاً صوتياً، ولا يمكن تجاهل دور التكرار هنا في بنية النص، إذ هناك علاقة بين الصوت ،والمعنى، وأن الافتراض الذي يرى تحليل الصوت بمعزل تام عن المعنى، هو افتراض غير صحيح(2)، فالصوت يُسهم في إدراك معنى النص وطبيعته، لأنَّ ائتلاف الجرس في الكلام هو القيمة المحسوسة في شكل التعبير الأدبي) (3)، فضلا عن ذلك فقد تعاضدت علوم البلاغة لتتحقق الأنفرادات البلاغية، فتجلى الابتكار، فقد

ص: 75


1- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده : 14/4 .
2- نظرية الأدب، أوستن وارين رينيه ويليك ترجمة محي الدين صبحي، مراجعة د. حسام الخطيب، مطبعة خالد الطرابيشي للطباعة والتغليف دمشق 1392 ه-، 1972م: 206.
3- جرس الألفاظ ودلالتها في البحث البلاغي والنقدي عند العرب، د. ماهر مهدي هلال: 303.

جاء علم المعاني بعلم البيان متمثلا بالخبر الابتدائي والوصل وعلم البيان بالتشبيه والكناية عن صفة والكناية بالتعريض، وجاء علم البديع بالجناس وحسن التعليل في قوله ( الغِنَى فِي الغُرْبَةِ وَطَنٌ ، والْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ)، فارتقى الكلام إلى مستوى المثل، وتبيّنَ جليّاً توظيف الإمام علي علیه السلام العناصر البنائية في كلامه، إذ حقق فعله الإبداعي كلامه، ابتكاراً تكوينياًّ في اسلوبه، فتكاثفت العبارة في النص أعلاه، وتعاضد السياق، وتماسكت الوحدة الموضوعية، وتجلّتْ وظيفة كلامه الافهامية لتحاور العقل الجمعي لكل الأنسانية مرّ العصور واختلاف المكان. وهنا تميّزَ كلام علیه السلام مِنْ سواه بفعل ابداعي نهض بناءُه على أنفرادات بلاغيةِ بأداء خاص، راعي الوظيفة الاجتماعية التي تحتْ على ضرورة العمل وعدم التهاون في العيش. وفي الوقت نفسه ظهرت علاقة الفعل الإبداعي بالفنيّة البلاغية وابتكار الأسلوب، فحصل التفرّد بالتكثيف الدلالي، ووجدنا تلاءم الفعل الإبداعي مع الوظيفة النفعية للأنسان كما في قوله الذي أن يتخذها المرء وثيقة عمل دوما، إذ قال علیه السلام: لا مَالَ أعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ، ولا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ. وَلا عَقْلَ كَالْتَدْبِيرِ. ولا كَرَمَ كالتَقْوَى. ولا قَرِينَ تَحُسْنِ الْخَلْقِ)(1)، إن المتأمل في هذا النص يجد السبك قائما بأعلى مراتبه، إذ للسبك دور مهم في اظهار تماسك الوحدة الموضوعية للكلام معنى وصورة ببنية لغوية متعاضدة، وإن ملامح هذه البنية ودلالاتها تقوم على الأركان الأربعة التي نادى بها عبد القاهر الجرجاني وهي النظم والبناء والترتيب والتعليق فلا تقدم الكلمة ماهيتها إلا من خلال نيلها رتبتها التي تستحقها

ص: 76


1- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده : 26/5-27 .

في سياق القول (1)، فالكلام الراقي هو الذي يأتي في-ه الس-بك (متحدراً كتحدر الماء المنسجم بسهولة سبك وعذوبة لفظ وسلامة تأليف) (2)، لأن (خير الكلام المحبوك المسبوك الذي يأخذ بعضه برقاب بعض) (3)، فضلا عن ذلك فإن الكلام البشري عمليات عقلية متتابعة يحكمها زمانها ومكانها، إذ يتولد الأسلوب هنا بتدخل الإنفعال الوجداني عبر طرائق متعددة للوصول إلى المبتغى، فيأتي الأسلوب وتخير اللفظ وصوغ التراكيب والعدول والإيقاع وغيرها من عناصر السبك النصي مجتمعة مكونة لبنية الكلام)(4)، وتتحقق هذه العناصر بالوظائف الجمالية للنص بوساطة الروابط النحوية وقواعد اللغة المعيارية، لأنَّ للنحو أثراً في تكوين المعنى الكامل للنص ووحدته الموضوعية، فهو رابط عضوي مهم لاحتوائه على ثلاثة أنواع زمانيا : يتمثل باللغة المنطوقة والإشارات البصرية والموسيقية فتلك تمثل تتابعا زمنيا و مكانيا: يتمثل بالرسم الذي يضع الإشارات في حيز المكان، ونوعا آخر :مختلطا تتداخل فيه إشارات الزمان والمكا(5)، وهنا يتداخل النص مع الرسم عبر الصورة المتكونة، وقد وجدنا كلام الإمام علي علیه السلام قوي السبك، متآزر المعنى في كل كلامه وفي قوله أعلاه، إذ تكاتفت العبارات وترابطت الصور ترابطاً منطقياً ورُسمت بصور ذهنية قد حققت

ص: 77


1- دلائل الإعجاز ، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمّد الداية وفائز الداية مكتبة نور الدين، مصر (31971) 288-287 .
2- البرهان في إعجاز القرآن أو بديع القرآن، تحقيق د. أحمد مطلوب و د خديجة الحديثي: 227 .
3- البديع في نقد الشعر ، تحقيق: أحمد أحمد بدوي و حامد عبد المجيد: 163.
4- اعجازية التكوين الأسلوبي في النص القرآني، ا.د. صباح عباس عنوز: 21-22.
5- ظ : علم الإشارة، بيير جيرو، ترجمة منذر عياشي، دار طلاس، 1992 ، 30 .

وظائف ،ارشادية، فقامت على لغة متينة حققت التواصل مع السامع ومنحته وظائف تعليمية وارشادية، إذ نهض البناء اللغوي للنص أعلاه على نظم الكلام نظماً مقصوداً، فاجتمعت فيه علوم البلاغة أيضا، وكان اسلوب النفي باللام النافية للجنس مهيمنا على استهلال الكلام (لا) مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْل، ولا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْب)، وقد استند هذا النفي على التعليل والإجابة مهيمنا لأن ( لا ) النافية للجنس أفادت نفي الخبر عن الجنس على سبيل الاستغراق، لا على سبيل الاحتمال، فنفت النفع من المال على حساب العقل، لأن أعود أنفع، وكذلك ليس هناك خصيص-ة ثاني-ة أوحش من العُجْبِ، فجاء اسم التفضيل وكان ما قبله مفضلاً وما بعده مفضلاً عليه، ثم تألف اسلوب النفي ب (لا) مع التشبيه (وَلا عَقْلَ كَالْتَدْبِيرِ. ولا كَرَمَ كالتَقْوَى ولا قَرِينَ كَحُسْنِ الْخُلْقِ)، فتآزر علم المعاني مع علم البيان مع علم البديع بالجناس في ((أعْوَدُ، أوْحشُ) فضلاً عن تكرار الصيغة الصرفية (أفعل)، والأداة (لا) التي تكررت ست مرات، وبعض من الحروف، إذ إن للتكرار مواضع يحسن فيها .. فأكثر ما يقع التكرار في الألفاظ دون المعاني وهو في المعاني دون الألفاظ أقل) (1) ، فللتكرار نوع من أنواع الإحالة، وهي الإحالة التكرارية أي تكرار اللفظ أو عدة ألفاظ قصد التأكيد (2) ، فحصل المعنى منسجما مع المستوى السياقي والوظيفة، لأن قدرة الإمام علي الإبداعية تمثلت بمعرفته بأسرار اللغة، وموهبته الفنية العليا في رصف الكلام، وسيطرته على تطويع اللغة لأخراج

ص: 78


1- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ابن رشيق القيرواني، قدم له وشرحه وفهرسة د. صلاح الدين الهواري وأ. هدى عودة، دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر، بيروت، 2002م: 2/ 121 .
2- ظ :نسيج النص بحث في ما يكون به الملفوظ نصا، د الأزهر الزناد، المركز الثقافي العربي، ط1، 1993م : 119.

مكنونات الدلالات المطلوبة، فيتميّز فعله الإبداعي بالابتكار وتعاضدت وحدات الفعل الإبداعي في صيرورة التكوين الأسلوبي وعلاقته بفنيّة ،القول، فتتماسك الوحدة الموضوعية بأجزائها، وأدى الكلام وظيفته الاقناعية، الأمر الذي دلَّ على قوّة بناء الفعل الإبداعي وعلوّ الفنية وأصالة الابتكار في أقواله علیه السلام، فأنعكس ذلك على التفرّد والتكثيف الدلالي في كلامه.

ص: 79

ص: 80

المبحث الثالث

الإنفرادات البلاغية وعلاقتها بتشكيل الصورة المبتكرة

ص: 81

ص: 82

توطئة

هناك علاقة وطيدة بين فرادة اللغة وتشكيل الصورة.

تأتي الإنفرادات البلاغية عند الإمام علي علیه السلام متميزة لتقوم بتشكيل صورة فنية مبتكرة في أقواله، وتستند على فعل ابداعي متضمن لوحداته التي مرّ ذكرها، والتي تسهم في بناء النص ومنحه وحدة موضوعية، إذ للأداء البياني أثرٌ في تكوين الصورة الفنية، إذ تستند قدرة المنشيء على الأحاسيس و الخيال في منح نوع الصورة ولونها، فيحدد المنشيء بذلك موقفه من الوجود على غرار تلك الاحاسيس المنبعثة منه والمتضمنة لدلالة الصورة، ويكون لتلك الأحاسيس أثرُ فاعل في شدّ أجزاء الموضوع من خلال إنسجام العاطفة مع الخيال التصويري، فتتأس الدلالة التي يبتغيها القائل والتي تقع تحت طائلتها عملية الفعل الإبداعي، لأن الصورة بنية حاصلة من مجموعة علاقات تتفاعل فتنير أبعاد العمل الأدبي(1)، فالصورة المقصودة، هي التي تحدد رسم قصدية المتكلم، لأنها بؤرة بيانية تكوّنت بسبب باعث معين، الذي أسس بدوره لأنطلاق لحظة أنبثاق الفعل عند المنشيء، إذ إن نقطة البداية في العمل الفني تتمثل في توفير شحنة أنفعالية عند الفنان) (2)، فتتحق ملامح الصورة البيانية ودلالاتها على وفق تأثير الباعث، لأنه (دليل القصد ومعيار لتوازن الواقعين النفسي والخارجي في نفس المبدع، وبذلك يفضيان إلى نص فني.. يتولد العمل الإبداعي ويتأسس على مجموعة أدوات

ص: 83


1- ظ: جدلية الخفاء والتجلي كمال أبو ديب دار العلم للملايين، ط 3، 1984م: 70.
2- الإبداع الفني سالم محمّد عزيز، مؤسسة الجامعة للطباعة والتوزيع، الإسكندرية، 1985م: 14 .

تكون الأداة البيانية واحدة منها) (1)، ويتم اختيار البنية البيانية في التعبير الأدبي بحسب الدوافع النفسية، فالبنية البيانية واحدة من البنيات التي تُسهم في التكوين الأسلوبي وتصوير الدلالة، لأنّ هناك علاقة بين القيم التصويرية والقيم التعبيرية (2)، فالقيم التعبيرية تحمل خصائص أسلوبية تنبيء عن ثقافة المتكلم وقدراته الإبداعية، لأنها رسالة المتكلم إلى المتلقي، ولها الأثر الفعال في إنتاج النص الأدبي لما للقيم التعبيرية من سمة التجسيد والترجمة في نفس المبدع، ولكي يحاول المبدع أن يعيد بناء واقع بصيغ فنية خاصة وحتى يستطيع تركيز فنه، فأنّ أموراً ثلاثة تؤسس بناء عمله الفن-ي وه-ي الواقع المعيش والباعث والنص الفني) (3)، وتأتي العلاقة بين فرادة اللغة والإنزياح وتكوين الصورة الفنية مهمةً وطيدة، وسنتناول الصورة الفنية بوصفها مفهوماً بلاغياً ومن ثم نبحث قدرة الإنزياح في

رسمها .

وقد وقف النقاد عند مفهوم الصورة فجاء مفهومها ناضجا في المدونات النقدية العربية، فقال ابن رشيق (463 ه-) : (اللفظ جسم وروحه المعنى ..) (4)وهذه إشارة إلى علاقة الصورة بالمعنى وهو تعريف ناضج، فمن البديهي أن الأشياء لا تأتي ناضجة ما لم تمر بمراحل صيرورة ممنهجة زمانيا للمعرفة، فتجمع بين الزمان والمكان نمواً عقلياً وفكرياً يغذيان المعرفة الأنسانية بتفاصيلها، ولما كان الإدراك ملازما للعقل حضر التصور عنده للأشياء المنطوقة

ص: 84


1- أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية، ا.د. صباح عباس عنوز: 33.
2- ظ: النقد الأدبي اصوله ومناهجه، سید قطب، دار الشروق القاهرة، 1424ه-، 2003م: 7.
3- أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية، ا.د. صباح عباس عنوز 33.
4- ابن رشيق، العمدة 124 .

منه، أو المسموعة من غيره، فتلتصق حينها الصورة بإحساس الإنسان ، لأنها شكل الإحساس الذي يغذي الوجدان) (1)، ولا يتحقق تكوين الصورة إلا بأحد أساليب البيان، فيتحدد نوعها على وفق الأداء البياني المختار، وتنقل المعنى إلى المتلقي، لأن أي كلام يتأسس على مكوّن فكري وآخر أسلوبي وثالث تواصلي، وبوجود أداء بياني معيّن ينهض عليه بناء الصورة الفنية، وبموجبه تتحدد قيمتها الجمالية المؤدية للدلالة، لذلك تنوّعت الصور الفنية بين (الحسية والذهنية والمركبة، وتُعدّ الصورة الحسية أقدم هذه الأنواع، لأنّها رافقت الإنسان منذ نشأته، وهي أعلى مراتب الصور البيانية اقناعا، لأنها معنية بمحاكاة الحس على اختلاف أنتما ءاته (2) . ومن هنا فإن الصورة البيانية في العمل الأدبي علامة تتحدث عن العالم المعيش و تشي عن نفسية المبدع ، لأن مكونات العلمية الإبداعية تبدأ من تلك الرؤى الجمالية أو الصور المتخيلة)(3)، فالمتكلم له موقف من الوجود يدفعه إلى الكلام، فربما كان الكلام لغاية تعليمية أو وصف أو غير ذلك، وقد حفل كلام الإمام علي علیه السلام بوظائف ارشادية كانت دستور حياة مليء بالقيم الإنسانية النبيلة، وجوانب الخير.

التطبيق : إن المتأمل في كلامه علیه السلام يجد العلاقة واضحة بين الإنفرادات البلاغية وتأثيرها في تشكيل الصورة المبتكرة، وقد حضرت الصور المبتكرة بأنواعها في كلامه متواشجة ومتعاضدة مع

ص: 85


1- اعجازية التكوين الأسلوبي في النص القرآني، ا.د. صباح عباس عنوز: 209.
2- ظ : النص الأدبي من التكوين الشعري إلى أنماط الصورة البانية وهيمنة التلوين الشعوري، .ا. د. صباح عباس عنوز 32.
3- علم النفس الفني، أبو طالب محمد سعيد، مطبعة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة، 1410ه-، 1990م: 123 .

إنفراداته البلاغية ،

قال علیه السلام: ( مَنْ جَرَى فِي عَنانِ أَمَلِهِ ، عَشَرَ بأَجَلِهِ)(1)، لقد اجتمعت في هذا الكلام فرادة اللغة مع تميّز الاسلوب، فأثمر التكوين الأسلوبي صوةً متفرّدةً في هيئتها وتشكيلها، ومقنعةً في دلالتها، لأن الصورة تُعدُّ من أهم عناصر الرؤية الجمالية التي تترجمها الأنفعالات، لأنها الحامل الشعوري للرؤية الجمالية ) (2)، وفي هذا النص تجلّت الرؤية الجمالية للمتلقي جامعة بين تشكيل الصورة القائمة على التفرّد البلاغي ووظيفة التعبير الاقناعية، إذ يجد المتلقي التكوين البلاغي تكوّن بإنفرادات بلاغية مختارة، اجتمعت فيها علوم البلاغة المعاني والبيان والبديع) ، وهذه أول ايماءة إلى أصالة الاسلوب في كلام الإمام علي علیه السلام، فتحقق ما يخص علم المعاني بإسلوب الشرط، لأنه دل على تلازم جملتين فارتبطتا بأداة الشرط (مَنْ) ، فجملة الشرط الفعلية (مَنْ جَرَى فِي عَنانِ أَمَلِهِ )تماسكت و تآزرت مع جملة جواب الشرط الفعلية أيضًا (عَثَرَ بأَجَلِهِ)، وكان فعل الشرط ماضياً (جَرَى)، وكان فعل جواب الشرط ماضياً أيضاً عَثَرَ) فأدّت الوحدة الموضوعية غاية النص، إذ بُني تحقيق الجملة الثانية على الأولى فبان السبك، والتحم النسج ، أما ما يخص حضور علم البيان في النص فقد تحقَّقَ بأكثر من أسلوب، وهنا تحققت الأنفرادات البلاغية، وهذا الأمر نتلمسه في كلام الإمام علي، فقد جاءت الاستعارة المكنية، إذ غاب المشبه به وهو الأقوى في التشبيه وحضر المشبه (عَنانِ أَمَلِهِ): (الفرس) في الحال الأولى، و(أَجَلِهِ) : (الصدّ) في الحال الثانية، فالاستعارة لها

ص: 86


1- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمّد عبده: 7/4.
2- فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة محمّد علي أبو ريان دار المعرفة الجامعية (د.ط) 1991م : 91 .

قدرة في تفعيل التأمل عند المتلقي وأنتاج خاصية التأويل في تواصله مع المسموع أو المقروء، لأن الاستعارة تمنح المتكلم الحرية في توليد صور جديدة وغريبة وصادمة عن طريق علاقات اللغة الشعرية)(1)، وتعاضد المعنى وتماسك في الوقت نفسه بوجود الكناية بحسب الوسائط، أي بالتعريض، فالمعنى يستنطق من فحوى السياق ودلالته، بينما جاء علم البديع متحققاً في هذا الكلام بالمحسنات المعنوية عن طريق حُسن التعليل، فعلة العثور ارتبطت بعلة الجري السريع وراء آماله الدنيوية، فمعنى النص : ( من كان جريه إلى سعادته بعنان الأمل يمني نفسه بلوغ مطلبه بلا عمل سقط من أجله بالموت قبل أن يبلغ شيئا مما يريد، والعنان - ككتاب - سير اللجام تمسك به الدابة)(2)، فالصورة التي تشكّلتْ في النص هي حس-ية حركية ذهنية في آن واحد، تمت الصورة الحسية الحركية بالفعلين: (جَرَى) و (عَثَرَ)، وتمت الصورة الذهنية بعبارتي: (جَرَى فِي عَنانِ أَمَلِهِ ) و (عَشَرَ بأَجَلِهِ)، إذ إن الصورة الذهنية تساعد على استخراج الماهيات ذهنيا من الموجودات والارتفاع بها من المحسوسات والجزئيات إلى الأمور الكلية الشاملة ) (3)، فضلا عن أدواتها التوصيلية أدوات حسية بها يتم الأنزياح وبها يتم الانتقال الدلالي داخل الصورة المركزية)(4)، فأبتْ الصورة الكلية مركبةً من اجتماع الصور الجزئية التي تمثل كل واحدة منها بنية بيانية، فتآلفتْ واتحدث لتكوّن وحدة عضويةً في إطار صورة مركبة، قدمت وظيفة نفعية للمتلقي، أرادت دلالة

ص: 87


1- لغة الشعر في الخطاب النقدي المعاصر، محمّد رضا مبارك: 65 .
2- نهج البلاغة ، تحقيق الشيخ محمّد عبده : 4 / 7 .
3- المعجم الأدبي، الدكتور جبور، عبد النور، دار العلم للملايين، ط 2 ، 1984م ، 59 .
4- اعجازية التكوين الأسلوبي في النص القرآني ومهمتا البيان التفسيرية والتأويلية .ا.د. صباح عباس عنوز : 254 .

الكلام الدعوة إلى أن لا يتمادى الإنسان كثيرا في مشاريع المستقبل وطموحات الايام لأنه سيصطدم بالموت والرحيل ...بل عليه أن يتعقل الأمور وينظر لها بمنظارها المناسب والصحيح لتسلم له النتائج) (1)، فالسامع الذي يتأمل في هذا الكلام ينال وظيفة تربوية، حققتها له الصور وهي ترسم حال الواقع الجديد بصورة كلية أو مركبة تآزت فيها الصورتان ،الجزئيتان ، فالصورة تمثّل : موضوع الحدس الجمالي للمتكلم .. وهي صياغة جديدة للواقع والطبيعة من خلال التفسير المبدع (2)، وبهيمنة الصور البيانية على النص يظهر عمق المدى البياني وعلاقته في ترابط أجزاء النص، فهو دلال-ة ع-لى ما يصطرع في اطواء الفنان وفي الوقت نفسه محاولة منظمة لإشباع حاجات المبدع وبوساطته يجري التعبير عن الإحساس المباشر قبالة ظواهر مؤثرة في الطبيعة أو الحياة، والمهم هنا ليس الإحساس نفسه، ولا استيعابه السلبي، بل رد الفعل الداخلي لذلك الأنطباع الذي يستلم من الخارج)(3)، على وفق ما سبق كان كلام الإمام علي مناسباً للحدث والفعل، فاكتسب فعله الإبداعي تميّزاً وتفرداً، تحقق باجتماع إنفراداته البلاغية وقدرته الإبداعية على تطويعها في تشكيل صوَرٍ مُبْتَكَرةٍ، إذ حقق الفعل الإبداعي الخاص رسالة أدّت وظائفها الفنية والنفعية المختلفة.

قال الإمام علي علیه السلام:( اعْتَصِمُوا بالدِّمَم في أَوْتَادِهَا)(4)، لما كانت

الصورة الإبداعية المبتكرة هي موضوع الحدس الجمالي للفنان وهي

ص: 88


1- أخلاق الإمام علي علیه السلام محمّد صادق السيّد محمّد رضا الخرسان: 373 .
2- علم النفس الفني، أبو طالب محمّد سعيد، 123.
3- نظرية الأدب، أوستن وارين ورينيه ،ويلك، ترجمة د. جميل نصيف التكريتي، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشید، بغداد: 1980 م: 40 .
4- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : مكتبة النهضة، بغداد: 40/4 .

صياغة جديدة للواقع والطبيعة من خلال التفسير المبدع)(1)، فإن الصورة هنا كانت عقلية حملت معنى فحواه (تحصنوا بالذمم أي بالعهود واعقدوها بأوتادها، أي الرجال النجدة الذين يوفون بها، وإياكم والركون لعهد مَنْ لا عهد له ) (2) ، فجاءت الصورة متعشقة بين الفنية والوظيفة التربوية، إذ نجد في قوله صورة مركبة من الحسية والذهنية، فتآزرت الصورتان وشكلتا وحدة عضوية للنص فتوازن الشكل والمضمون في رقيّهما الإبداعي، ومعلوم أن المنشىء إن ركّز على المضمون في قوله ضعف عنده الشكل، ولكننا نشاهد هنا مزاوجة ابداعية بين الشكل والمضمون تم تحقيقها بصورة فنية رائعة، إذ نجد في كلام الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام ثروة معنوية تفرد له مكانا خاصاً في أداب ذلك العهد، وثروة معنوية تجعل من كلامه متعة أدبية وجملاً فنياً) (3) فاشتملت الصورة على زمن نفسي ظل يساير المعرفة الإنسانية حكمةً وتبصرةً على مدى نفسي يتمثل بالحذر من لا موقف له، وضرورة الركون إلى الآخر الثقة، فالكلام يساير التجربة الإنسانية على طوال العيش الإجتماعي، إذ جاء الزمن النفسيٌّ إطاراً حدثت داخله العملية الإبداعية في أطواء النص، وبه صارت الصورة محاولة منظمة لإتباع حاجات المبدع نفسياً، وعند هذا الكلام يستريح المتلقي، لأنه يأنس للكلام ويعدّه مجالاً للتجربة والحكمة، ولا ريب في ذلك، فاتكأ الكلام اللاحق سياقاً ومعنى على الاستهلال أو المطلع، فبدأ بفعل الأمر (اعْتَصِمُوا) ثم جاء الجار والمجرور ( بالذَّمَم)، فاكتمل النص معناه بعبارة (في أَوْتَادِهَا)، فمثّل

ص: 89


1- علم النفس الفني، د. أبو طالب محمّد سعيد، جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة 1410ه- 1990م، 123 .
2- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 40 .
3- تاريخ الأدب العربي، حنا الفاخوري، المطبعة البولسية / بيروت / 1953م، 327.

الإستهلال هُوية الكلام وصفته، وأعلن قصدية الإمام والوظيفة التربوية لكلامه، وأنبأ عما يختلج في أطوائه من رؤى معتمدة على علم وتجربة فارتقى الكلام بسبب هذه الرؤية وتكثيفها إلى مستوى المثل، وحين جاء أوان قولها أظهرها اللسان فأصبحت وثيقة إنسانية، ولأن الشكل والمضمون ارتقيا معنى وفنيّةً، فدخل النصُّ في مصاف الكلام الإبداعي، فالإبداع مرة هو (التحقيق العيني، المتكامل للروح في إمكانياتها الخالصة للإدراك والفعل) (1) ، ومرة (إيحائية تضم الذات والموضوع في وقت معاً) (2)، فهنالك خصائص تدعو إلى تحريك القرائح وإنتاج العمل الإبداعي، ولاسيما الكلام المصوغ فنياً، فهناك بواعث للكلام ، إذ ( إن الدواعي إذا قامت في النفوس، وحركت القرائح أعملت القلوب، وإذا جاشت بمكنون ودائعها، وتظاهرت مكتسبات العلوم وضرورياتها نبّعتْ المعاني ودرّتْ أخلاقها)(3). فصار عند السامع موقف من الوجود تمثل بوحدة الصراع، فضلاً عن الوحدة الحيوية، ووحدة التداعي، فتآزرت وحدات الفعل الإبداعي ليتسم الكلام بسبك فنيُّ مقصود، تغذيه الأنفعالات الوجدانية.

فعملية القول حين يحين وقت أنبثاقها فأنها مدفوعة بالعاطفة والرغبة معاً على وفق ما أصّل له الإمام علي علیه السلام، كما مرّ سابقاً- ورآه بشر بن المعتمر (210 ه-) (والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات، لأن النفوس لا تجود بمكنونها

ص: 90


1- الأن سس النفسية للإبداع الفني: مصطفى سويف، 90 .
2- المصدر نفسه 90 .
3- شرح ديوان الحماسة المرزوقي، نشره أحمد أمين بالاشتراك مع مطبعة لجنة التأليف، القاهرة، ط 1 12:1952

مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع الشهوة والمحبة )(1) . إذن هناك علاقة بين العمل الفني الإبداعي والزمن النفسي، (لأن عملية الخلق الفني تعتمد على القدرة الباطنية في إثارة القوى الأنفعالية للذات) (2). وهناك إيحائية تفرضها القوى الباطنية النامية عن الإحساس بحرارة الأشياء، أو قل تأثيرها الباطني على الذات الإنسانية، فهناك وجهان رئيسان لجوهر العمل الإبداعي:

الوحي، والإخراج الشكلي (3). ومن هنا كان كلام أمير المؤمنين علیه السلام مقصوداً، لأنه يحمل وظائف تربوية للسامع، وفي الوقت نفسه لم يهمل البناء الفني في قوله، وهذه ميزة واضحة في جميع أقواله لذلك وصف ابن الحديد قوله : (فقد علمت أنه استولى بنو أميه على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة

في إطفاء نوره والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له. وتوعدوا مادحيه، بل وحبسوهم وقتلوهم ومنعوا رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكرا، حتى حظروا أن يُسمى أحدٌ باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعةً وسمواً، وكان كالمسك كلما سُتر أنتشر عَرْفَه وكلما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح وكضوء النهار إن حجبت عنه عينٌ واحده أدْرَكتْهُ عيونٌ كثيرةٌ )(4)، فكان كلامه علیه السلام مرتويا بفنون البلاغة وقصدية القول الحاملة للوظائف التربوية وغيرها. فتحققت الإنفرادات البلاغية التي أسهمت

ص: 91


1- البيان والتبيين، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان 1968م : 1/ 95 وما بعدها.
2- الاتجاه النفسي في النقد العربي الحديث، د. عبد القادر فيدوح : 36
3- ظ : مسألة اللاوعي في الصورة الشعرية، د. صبحي البستاني، مجلة الفكر العربي المعاصر ، ع 23 ، 1982-1903:99.
4- شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد / تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه القاهرة ، ط ، 1378 ه- - 1959م : 17/1.

بتشكيلات الصور المبتكرة القائمة على وحدات الفعل الإبداعي في أقوال الإمام علي علیه السلام . فقد قال: (لِكُلِّ امْرِيءٍ عَاقِبَةُ حُلْوَةٌ أَوْ مُرَّةٌ )(1)، نجد الصورة المركبة من الذهنية المتمثلة ب(عَاقِبَةُ) والحسية الذوقية المتمثلة ب ( حُلْوَةٌ أَوْ مُرَّةً)، فالصورتان أسستا وحدة موضوعية في النص القصير، تحققت فيها أولى وحدات الفعل الإبداعي وهي الموقف من الوجود الذي حصر العاقبة بين الاتجاهين الذهنين الصالح والطالح بالمذاقين الحلو والمر، لأن في الحديث الشريف توجد (الدعوة إلى اختيار الأفضل من خلال الأداء الأحسن الذي من شأنه أن يؤثر على توجهات الإنسان واختياراته... فلا بد من العمل على تحصيلها، حتى يتم المشروط.. فكان الحث على اتباع الشروط المهيأة والإصرار على تحصيلها مهما تعسرت، تجنباً للأسوء والأردأ ) (2)، فكان التكثيف الدلالي ،ابداعيا، قلّت فيه الكلمات فقَصُرت العبارة، ومن ثم تكاثر المعنى محققاً وظيفة تربوية تعليمية بصورة ابداعية حققت وظيفة اقناعية، لأنَّ العبارة نهضتْ على صورتين جزئيتين، كل واحدة منهما بنية صغيرة ضمن بنية اكبر فتناسب هذا التشكيل بفعل التداعيات التي حققت صورة أوضحت الدلالة المطلوبة فكانت الصورة النهائية نتاج ترابط الصورتين الجزئيتين اللتين حققتا أيضاً الوحدة العضوية المطلوبة، وهنا تآزر الشكل مع المعنى في تقديم النصيحة والإرشاد للمتلقي ببناء فني إبداعيٌّ، فسيطرت نفسية المتكلم والسامع على إظهار كل ما قفز إلى ذهن، فتحقق الفهم ضمن وحدة التداعي الملون التي هي جزء من الوحدة الموضوعية (حُلْوَةٌ أَوْ مُرَّةً)، فحصل التذكر تحت إطار الصورة

ص: 92


1- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 40 .
2- أخلاق الإمام على علیه السلام تأليف محمّد صادق السيّد محمّد رضا الخرسان: دار الكوكب للتصميم والطباعة والنشر، ط 14362 ه- ، 2015 م / النجف الأشرف : 2/ 221 .

المقصودة التي هي الصورة الحسية الذوقية ولكنها وُصِفَتْ للأمر الذهني (العاقبة)، فاشتغل تراسل الحواس بأقصى طاقته ليجمع بين المعنى ،والصورة، لأن ظاهرة تراسل الحواس في الكلام تؤدي معنى ايحائيا يسهم في تفعيل مفهومي التأمل والتفكر ذهنيا، لأن تراسل الحواس (عملية عقلية غير واقعية ولا مادية، ولكن العقل يستند في نسجها إلى ما هو واقعي أو مادي)(1)، فبتراسل الحواس يتمّ ابتكار صورة فنية، لأنّ ابتكار الصورة يدل على مقدرة ابداعية تعبيرية وأن ابتكارها يساعد على تحويل المعاني المجردة إلى هيئات تُنقل بالحواس (2)، فيأتي التأويل ليساعد على تحريك دوائر المعنى المتشكلة في الذهن، لأن تأويل الكلام وهو عاقبته وما يؤول إليه، وذلك بحسب قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ )(3): دبَّره وقدره (4)، ويأتي بمعنى التفسير و البيان، وفي لسان العرب : (أَوَّلَ الكلامَ وتأوَّله: دبّره وقدره....) (5)، ويأتي بمعنى سياسة (6)، فالتأويل مفهوم يُسْهمُ في تفعيل خاصية التأمل في الذهن، ويساعد على فك شفرات النص وصولا إلى المعنى المستور خلف الألفاظ، ولا يتحقق مساره الصحيح

ص: 93


1- نظرية تراسل الحواس (الأصول - الأنماط - الإجراء) د. أمجد حميد عبد الله، المركز العلمي العراقي، بغداد، 2010م : 199.
2- في الشعر الأوربي المعاصر ، عبد الرحمن بدوي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1965م، 72 .
3- سورة الأعراف : 53 .
4- معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي (ت: 395ه-)، 1 . 159 / .
5- لسان العرب ، محمّد بن مكرم بن على أبو الفضل جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (ت: 711ه-) : 11 / 33 . مادة (أوّل).
6- قيل من الإيالة وهي السياسة كان المؤول للكلام ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه. :أنظر الإتقان في علوم القرآن ، عبد الرحمن بن أبي بكر ، جلال الدين السيوطي (ت: 911ه-)، 2 / 1199 .

إلّا لأصحاب العقول الراجحة، إذْ يحضرُ كلما حصلت غرابة في اللغة والتراكيب السياقية وابتكار في الصورة.

فالعلاقة بين غرابة اللغة وتراسل الحواس وثيقة، إذ يتعاضدان ليسهما في صناعة الجدة والابتكار في السياقات الكلامية، ويحفزا (النشاط التخيلي الذي يتصف بالنوعية المميزة، وهي الابتكار والقدرة على ادراك الأشياء بهيئات مختلفة، أي يعيد تشكيل صور المحسوسات في تركيبات مختلفة، إذ يتمكن من الجمع بين الأشياء المتباعدة التي لا تربط بينها علاقة ظاهرة، فتوقع الائتلاف بين أشد الأشياء تباعدا)(1)، وبذلك أدّتْ الإنفرادات البلاغية قوتها في تشكيل الصورة المبتكرة

المتآلفة بأنواعها في كلامه علیه السلام: الأمر الذي دلّ على اهتمام الإمام علیه السلام بوحدة النص الكلية وغايته، والحق أن هذا التداعي قضية مهمة في قيام العملية الإبداعية، وهو قريب في دلالته من (التوارد) (2) في اللغة وبفضل التداعي وتناسل الأفكار يحصل التنوع في المشاعر الذي يسهم في إنضاج الدلالة العامة للنص، حيث تكتمل الصورة ويهمين الاحساس ويصل المعنى إلى اكتمال ثمرته، بعد اشتباك علاقات المعنى المعجمي الذي يتصف بالتعدد والتنوع والاحتمال ويأتي هذا التعدد والاحتمال من ارتباط الإفادة، وهي الوصول إلى المعنى التام الذي يحسن السكوت عليه) (3)، فيأخذ التداعي مساراً في أي كلام ابداعي، وتظهر قوة المنشىء الإبداعية في السيطرة عليه

ص: 94


1- الغرابة وشعرية المعنى المبتكر في النقد العربي القديم، د. نسيبة العرفي، مجلة اللغة العربية العدد/ 43 ، المجلد 21 ، السنة الأولى، 2019 م : 335.
2- يقصد بالتوارد أن بعض الكلمات يرد مع بعض ولا يرد مع بعض ثالث، ظ: اللغة العربية معناها ومبناها، د. تمام حسان : 216، 124 وظ: كتابه الاصول، 334، 336.
3- الأصول، تمام حسان، 292.

وتطويعه لصالح وحدة الموضوع، إذ يرتبط التداعي بالقوى الثلاثي التي تهيمن على ذهن الشاعر وهي الحافظة والمائزة والصانعة وتلك مؤثرة في طبعه (1)، وبها تتحقق الوحدة الموضوعية، إذْ إن هذه الوحدة الموضوعية المتحققة فضلاً عن وحدات أخرى هي: وحدة الصراع ووحدة الشعور اللوني والوحدة الحيوية، كلها تنضوي تحت الصورة ودلالاتها في أقوال الإمام علي علیه السلام، وعلى وفق ذلك تتحقق الإنفرادات البلاغية وتتعاضد علاقتها لتشكيل الصورة المبتكرة المتأسسة على وحدات الفعل الإبداعي في أقوال الإمام علي علیه السلام.كما مرّ في المثال السابق واللاحق وسنرى ذلك لاحقاً،

فمن الباعث المنطلق من الواقع المعيش والمؤثر في موقف المتكلم من ذلك الباعث، تتحقَّقُ وحدات الفعل الإبداعي وهي وحدة الصراع التي تعني موقف المتكلم من الواقع، و وحدة الشعور اللوني التي تعني التذكر والتداعي، والوحدة الحيوية التي تعني الإنسجام العاطفي بين موضوعات وأجزاء القصيدة، وهذه العملية الإبداعية ألفناها في كلام الإمام علي علیه السلام، فتمّت الأصالة وتحققَّ الإبتكار في التعبير تحت إطار الصور الفنية، وفي مثل هذه الحال تكون الصلة بين أجزاء النص (محكمة، صادرة عن ناحية وحدة الموضوع ووحدة الفكر فيه، ووحدة المشاعر التي تنبعث منه) (2)، إذ تُظهر وحدة الصراع استجابة الشاعر لتجربة شعورية حين تشكل عاطفته مجموعة من الصور ، قد تكون مرتبطة بتداعي الماضي

ص: 95


1- ظ :منهاج البلغاء وسراج الادباء، القرطاجني، تحقيق محمّد الحبيب ابن الخوجة، تونس، ط1، 1966م: 42 - 43 .
2- النقد الأدبي الحديث، د. محمّد غنيمي هلال منشورات دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1988م، 395 .

واستحضاره عبر قنوات خفية)(1)، وفي مثل هذه المواقف يتجلّى أيضا موقف القائل من الواقع المعيش أي من الوجود، فيأتي أثر الأداء البياني واضحاً في رسم الصورة؛ لأنه يعني برسم تلك الاحاسيس واظهار ذلك الموقف، كما هي الحال في قول الإمام علي علیه السلام: (اسْتَنْزِلوا الرزق بالصدقة) (2)، ظهر الموقف من الوجود واضحاً

في هذا النص، فتجلّت رؤية الإمام علي علیه السلام بالتكافل الاجتماعي ومساعدة الفقراء لنشر العدل بين الناس، حتى يتحقق مجتمع متماسك تسوده الرأفة والقيم الاجتماعية النبيلة، فالصورة مركبة من الذهنية والحسية، وقد أدى الخيال دوراً واضحاً في تكوين الصورة المبتكرة، إذ إن العمل الأدبي يعتمد على واحدة من قوى الإدراك الحسي أو العقلي أو الخيالي، فلا بد من وجود وحدة مؤتلفة في هذه القوى) (3)، فقدمت كلمة ( الصدقة) وظيفة اجتماعية بوصفها رمزا معنويا دينيا بها يحصل العدل الاجتماعي، فمنحت السياق وظيفة رشادية، إذ تصبح الكلمة علامة تضيء السياق بالمعنى غير المحتاج إلى التأويل كثيرا... تعمل على إضاءة ذه-ن المتلقي فيكون عملها كعمل الرمز لكنها تختلف عنه في المبنى، فكل منهما يضيء الذهن ويسهم في ربط اواصر النص وصولاً الى المراد)(4)، فنزول الرزق صورة ذهنية، واعطاء الصدقة صورة حسية، فكانت الوظيفة التربوية قائمة على وحدات الفعل الإبداعي وحدة الصراع أو الموقف من الواقع ، ووحدة الشعور ، ووحدة التداعي)، لأن تعاضد

ص: 96


1- الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي د. عبد القادر فيدوح: 299 .
2- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 34/4.
3- استقبال النص عند العرب، محمّد المبارك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2017م : 219 .
4- إعجازية التكوين الأسلوبي في النص القرآني، ا.د. صباح عباس عنوز: 176.

هذه الوحدات دلّ المتلقي على طريق فعل الخير بوساطة تقديم الصدقة، فبانت الوحدة الحيوية معلنةً انسجام العاطفة بين اجزاء النص، ويعني هذا وجود تفاعل بين مشاعر المنشىء والمتلقي والأفكار الناتجة عن استحضار تلك الصور، ومن ثم التذكر وما ترد من المعاني، وهنا يحدث التعدد (التلوين) في المشاعر وينعكس ذلك على المتلقي أيضا، بناء على كل ما يتجدد من أفكار بموجب التداعي المستند على ضرورة اعطاء الصدقة، ولكن التلوين هذا يجمع تحت قوة الاحساس الموحد، وبذلك تحقق وحدة الشعور اللوني في عموم النص القصير الذي تماسك وتكثّف حتى بات وظيفة تربوية تحمل الوعظ والارشاد، فقد ترتبت عند هذا القول دلالات هامشية مثل النفسية، والتداعي والاستذكار، فتآلفت علوم البلاغة تكوين-ا وأنسجاما في هذا النص لتقدم المعنى بأداء خاص في كلام الإمام علي ، إذ حضر علم المعاني بأسلوب الإنشاء الطلبي عن طريق اسلوب الأمر الذي يتحقق بفعله على وجه الاستعلاء(1)، وقد خرج إلى غرض مجازي هو الوجوب (اسْتَنْزِلوا الرزق بالصدقة)، فقد جعل الله سبحانه الصدقة فريضةً، إذْ قال تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » (2) ولأهمية الصدقة فقد تعهد سبحانه باستئصال المال وهلاكه وذهاب بركته، إن كان حاصلا بالربا، (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) : أي ينمّيها وينزل البركة في المال الذي أخرجت منه وينمّي أجر صاحبها، إذْ قال:

ص: 97


1- ظ: الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز، يحيى بن حمزة العلوي، القاهرة، 1332 ه- ، 1914م : 281/3 .
2- سورة التوبة/ 60

«يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ» (1)، وقد قال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: (الصدقة عن ظهر غنى) (2). إذ شبه الغنى في القوة بالظهر الذي عليه اعتماده و إليه سناده، لأن الصدقة تدلي المؤمن على مكامن الخير وتفتح له أبواب الرحمة، وتجعله قويا بإيمانه وقناعته ومساعدته لمستحقي الصدقة ، ففي ذلك رضا الله تعالى ومن ثم رضا للنفس الملبية لحقوق الآخرين) (3)، قال في حديث صلی الله علیه و آله وسلم آخر: (الصوم جُنة والصدقة تطف- الخطيئة )(4)، وقد تم حضور علم البيان فأسهم في رسم الصورة بالكناية بوساطة التعريض، أي الفهم من سياق الكلام، وحضر أيضا علم البديع بمحسناته المعنوية عن طريق حُسن التعليل ودل على المقصود، فكانت الجملة الثانية (بالصدقة)ِ ، مسببة لمجيء الرزق في الجملة الأولى (اسْتَنْزِلوا الرزقَ)، لأن العلاقة المسببة يذكر فيها المسبب والنتيجة والمراد سببه (5) ، فالمسبب (الصدقة)، والنتيجة نزول الرزق، فتعاضد النص وارتبطت أجزاءه، فاكتمل المعنى بوحدة موضوعية، فكان التداعي حاضراً في عملية التلقي عند السامع، لأنَّ بدء الكلام بالفعل (اسْتَنْزِلوا) أمر قائم على حال حاصلة ومنطقية لوجود الحال الثانية ( الرزق) ، ولكن بوساطة (الصدقة)، التي هي لي رمز معنوي

ص: 98


1- سورة البقرة/ 276 .
2- صحيح البخاري، أبو محمّد عبد الله بن اسماعيل بن ابراهيم البخاري، دار القلم، بيروت، ط1، 1407ه- ، 1987م ، 243/3 ، وظ: سنن أبن داود محيي الدين المكتبة العصرية، بيروت، برقم 1676 ، ظ: المجازات النبوية، تحقيق وشرح طه محمّد الزيني (الاستاذ في الأزهر)، منشورات مكتبة بصيرتي، قم(د.ت)، 75.
3- الأداء البلاغي في الحديث الشريف: ا.د. صباح عباس عنوز: 63 .
4- سنن الترمذي، محمّد بن عيسى الترمذي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 1403ه-، رقم 2619 في الأيمان، وظ: المجازات النبوية، 189.
5- ظ :البلاغة والتطبيق، د. احمد مطلوب و د. كامل حسن البصير: 334 .

اسلامي يحقق عدالة اجتماعية، فكانت الصورة رمزيةً، لأنّ الرمز الأدبي ما هو إلاّ عبارة أو كلمة تعبر عن شيء أو حدث)(1)، فحرف الجر الباء أدى دلالته النحوية والمعنوية معاً، فاستوت الوظيفة التربوية قائمةً على هذا المعنى بالصورة المركبة، إذ تشكلت الصورة الحسية البصرية الجزئية الأولى (اسْتَنزلوا الرزقَ) منسجمة شعورياً مع الصورة الثانية الذهنية (بالصدقة)، أي سوَّغتْ تلك الصورة الثانية إلى إظهار صورة الأولى فقامت سياقياً على الجار والمجرور (بالصدقة)، فأسهمت وحدات الفعل الإبداعي في تماسك النص، وحققت الإنفرادات البلاغية عند الإمام علي علیه السلام علاقتها بتشكيل الصورة المبتكرة ، فهيأ التكثيف الدلالي في هذا النص المختزل إلى ولادة فكرة النص كاملة، فقد بيِّنت أثر الصدقة في استنزال الرزق، وكان الشعور متصلاً والعلاقات مترابطة بين الصورتين، فأسهمت وحدات الفعل الإبداعي في تماسك النص إذ كانت الجملة الثانية سبباً لمجيء الجملة لأولى، وكان التداعي حاضراً في عملية التلقي عند السامع، لأنَّ بدء الكلام بالفعل (اسْتَنْزِلوا) أمرٌ قائم على حال حاصلة ومنطقية لوجود الحال الثانية (الرزق)، فقامت الكناية باحتواء السياق وحافظت على اخراج ملامح الصورتين المرتبطتين دونما خلل، واستمرت الوقائع الخارجية المترتبة على مساعدة الفقراء وتنفيذ قيم الفضيلة التي دعا إليها الإسلام فكانت الصورة الكلية تقوم على فكرة موحدة تسيّدتْها وحدة شعور أرادها الإمام علیه السلام تمثلتْ بالعدالة الاجتماعية أو التعاون الاجتماعي، ففي وحدة الشعور قد تجمع (الذات اثر هذا التنوع في وحدة الشعور المتباين الذي يقوم بين وحداته التجاذب القائم على

ص: 99


1- الشاعر العربي الحديث رموزه وأساطيره الشخصية، د. علي جعفر العلاف: 5 .

احداث الترابط ) (1)، فكان الباعث متمثلاً بحثِّ الناس على فعل الخير، فنهض المكون الفكري على مكوّن أسلوبي تحقق باستعمال الكناية التي أسهمت في رصف ووصف الموضوع، وساعدتْ في توازن المعنى بالجمع بين مضامين الصور الجزئية تحت ظل وثبة شعورية ابداعية، وكان استعمال الأداء البياني مبتكراً في أقوال الإمام علي علیه السلام، إذ إنه من السمات الفنية في أقواله (الاستعمال غير العادي لأساليب البيان، فمن المعروف أن الإنسان كلما اشتد انفعاله واشتد أوار الغضب او الخوف لديه، فأن مسافات التأمل تكاد تنغلق عليه فيهرع إلى التشبيه الحسي، بغية إيصال قصديته سريعا إلى السامع، لكي يكون الأخير مستعدا لقبول المراد عبر الوظيفة الافهامية)(2)، ومن المعروف أن استجابة المتكلم إلى القول (استجابة مرتكزة على دور الإنفعال المتبادل بين مشاعر الذات وقواها الطبيعية الدافقة) (3)، فيقف وراء كلٌّ قول باعث خارجيٌّ يدفع الشخص إلى السوك الآني قولاً أو فعلاً، فكلما كان الباعث قوي الأثر مخلّفاً أنفعالاً وجدانياً في النفس كلما حصل توثرٌ في الذات المتكلمة، إذ يلازم نفس المنشيء (قدر من التوتر النفسي اللازم للإبداع على أن يكون هذا التوتر مصحوبا بمناخ نفسي متميز بخصائص) (4)، وفي هذه الحال يظهر الفعل الإبداعي محكوماً بأواصر نفسية لَعَلَّ الإنفعال من أقوى ما يصاحبها، ويوجهها تجاه تعبير معيّن يكون اقرب إلى إيصال القصدية بأسرع ما يمكن واقرب أساليب البيان إلى ذلك التشبيه، لأنه أقصر الطرق المؤدية إلى إيصال الوظيفة الافهامية لدى المتلقي،

ص: 100


1- تداعي الوعي في الشعر الجاهلي، ناصر اسطنبول: 166 .
2- نهج البلاغة صوت الحقيقة، ا.د. صباح عباس عنوز: 96 .
3- الإتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، د. عبد القادر فيدوح، 291.
4- المصدر نفسه 389.

ولا سيّما حين يحرص المتكلم على إيصال القول مباشرة، وغالباً ما يحدث عندما يرافقه الإنفعال الذي يتصاعد في مواقف ومنها الحرب وما يصاحبها من خوف)(1)، إلّا أننا لم نجد مثل هذه الحال في تعبير الإمام علي علیه السلام وهو في أصعب الأوقات وفي ضراوة الحروب فلم يتأثر بذلك نفسياً، وبذلك اختلف عن غيره من المنشيء، لإن للرهبة عوامل تأثيرية في النفس الإنسانية المنشيء ة، فكل (حالة شعورية كالرغبة أو الشعور بالخوف أو النشاط العقلي في أثناء عملية التفكير، وكل استعداد لا شعوري كالرغبة المكنونة في الأنتقام م--ن شخص أو الهرب من موقف محرج، هذه الحالات والاستعدادات لا يمكن أن تكون موضع دراسة علمية أن لم يستطع الشخص أن يعبر عنها تعبيرا خارجيا عن طريق اللغة أو الحركات أو الإشارات المختلفة، أي عن طريق السلوك ) (2)، وفي هذه الحال يكون التعبير المباشر أقرب الى القائل، لأن للواقع البيئي المعيش أثراً يظهر في سلوكه الاجتماعي، يجذب أنتباهه ويتحكم بسلوكه، فينعكس ذلك على ابداعه لأن البيئة السيكولوجية التي يدركها الإنسان ويشعر بها فيستجيب لها هي التي تثير انتباهه واهتمامه ونشاطه (3)، وبذلك يظهر أثر ردة الفعل في سلوك الشخص أيّاً كان ذلك السوك تصرفاً أو كلاماً. بمعنى أن الإنسان إن وقع تحت طائلة الانفعال مال في كلامه إلى التعبير المباشر، ويكون التشبيه الحسي أقرب الأداءات البيانية لديه، لأن هذا الأداء البياني يقرّب عمليه الفهم سريعاً إلى السامع ،( بينما في حالة الرخاء النفسي يهرع الإنسان إلى الاستعارات

ص: 101


1- نهج البلاغة صوت الحقيقة ا.د. صباح عباس عنوز: 97-96 .
2- أصول علم النفس، أحمد عزت راجح : 17 .
3- ظ : المصدر نفسه: 19.

والكنايات والمجازات التي تتطلب منه ترفا نفسيا وهدوءا أنفعالي-ا لكي، يدع القول محاطاً بالتأمل والتدبر والتفكر، حيث يتواجد العدول أو الأنزياح بالعبارة إلى معنى مكثف بالشعرية، وحيث تشتغل الطاقة الإيحائية بأعلى قدراتها التوصيلية، وحيث يعمل العقل فيربط بين أجزاء القول ومقاصده، فيتأمل ويتدبّر، ويشعر بلذة الاكتشاف وينبهر بمتعة التصوير، ويطمئن البديع الدلالة ويتلطف بإنسجام العبارة) (1) ، ومن هنا يظهر تميّز الإمام علي علیه السلام في كلامه من غيره، (لأنّه في أصعب المواقف وأحرجها، وفي فضاء الحرب وأهوالها، وفي ساعة الراحة وغيرها، فهو لم يعبأ للإنفعال فتذعن له قريحته، ولم تأخذ منه الرهبة فتنساق لها حالته، فقد بقي تعبيره خارجا عن المألوف، الأمر الذي يدل على وحدة إيمانه المتماسكة في الحرب والسلم، وقوة شكيمته في الكرب والنعم، وعبقرية بلاغته في الحبِّ والسّامِ، والغضب والألم، ومصداق رؤيته في الراحةِ والهمِّ) (2)، فكلامه يصدر عن نفس لا يقرّب منها الإنفعال الذي يأخذ بالكلام إلى المباشرة، بل تصوغه النفس بتأمل وتدبّرِ في أصعب الظروف، ويتّفقُ البحث مع مَنْ رأى كلامَه (عليه مسحة ن العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي.... وأمّا كلامه البحر الذي لا يساجل، والجم الذي لا يحافل)(3)، وبهذا تجلّى تميّز كلامه من غيره باستثناء كلام الله سبحانه وكلام الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم، إذ إننا عندما نستقرئ كلامه، ونستنطق بيانه، ونتلبث عند كنه الدلالات وننظر في فحوى العبارات، نجد كلامه علیه السلام

ص: 102


1- نهج البلاغة صوت الحقيقة ا.د. صباح عباس عنوز: 98.
2- المصدر نفسه 98 .
3- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد ا.د. صباح عباس عنوز: 45/1-46 .

سايكلوجياً، قد اختلف عن مَنْ سواه، فهو لم ترهبْه الحرب، وذلك دليل إيمانه، وهو لم يغضب إلا لأجل الله سبحانه وهذا منارُ إسلامه، فقد آمن بالقول الإلهى المبارك «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ » (1)، فأشاح ) وجها ، فأشاح وجهاً عن الخوف (2) والإنفعال، وظهرتْ رؤيته الفلسفية في الحياة الدنيا بقوله الذي ارتقى أيضا إلى مستوى

المثل : ( الدنيا حلم والآخرة يقظة، ونحن بينهما أضغاث أحلام) (3)، وبذلك ظلّ علیه السلام مؤمناً دوماً بقدر الله سبحانه وقضائه ومطمئناً له، فلم يذهب إلى غير هذه الرؤية، إذ إنه علیه السلام قال: (الزهد بين كلمتين من القرآن قال الله سبحانه: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا » (4) ، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالاتي فقد أخذ الزهد بطرفيه ) (5)، فلهذا السبب بقيّ الاستقرار النفسي مهيمناً على كل أفعاله أو سلوكه في الحياة التي عاشها، وهذا الاستقرار النفسي جاء بنتائج مهمة ميّزَتْ أفعاله الإجتماعية من غيره، ومنحثْ سياقات

كلامه تميّزاً إبداعياً بأداء خاص ، ويكفي أن نقف على كلام له علیه السلام بخطبة ( خطبها بعد مقتل طلحة والزبير مخاطباً بها لهما ولغيرهما من أمثالهما) (6)، قائلًا: (بنا اهتديتم في الظلماء، و تسنمتم العلياء وبنا أنفجرتم عن السّرار ، وقِرَ سمع لم يفقه الواعية، وكيف يراعي النبأة مَنْ أصمته الصيحة ربط جنان لم يفارقه الخفقان، ما زلت أنتظر

بكم عواقب الغدر، وأتوسمكم بحلية المغترين سترني عنكم

ص: 103


1- سورة النساء : 78.
2- نهج البلاغة صوت الحقيقة، 98 .
3- نهج البلاغة ، شرح ابن ابي الحديد 20/ 326 .
4- سورة الحديد: 23 .
5- نهج البلاغة ، شرح ابن أبي الحديد: 87/20.
6- المصدر نفسه: 1/ 139 .

جلباب الدين، وبصرنيكم صدق النية، أقمت لكم على سنن الحق في جواد المضلة حيث تلتقون ولا دليل، وتحتفرون ولا تميهون اليوم أنطِقُ لكم العجماء ذات البيان، عزب رأي إمرئ تخلف عني، ما شككت في الحق مذ أريتُه، لم يشفق موسى خيفةً على نفسه، أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال، اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل، من وثق بماء لم يظمأ)(1). ففي مثل هذا الموقف لابد من أن ينفعل لإنسان، فيأخذ كلامه مدى آخر على وفق أساليب القول والبيان، أي يلجأ إلى المباشرة أو التشبيه الحسي البسيط المعروف، غير أننا وجدنا عكس ذلك هنا، فقد حضرت الاستعارات والمجازات والكنايات، فضلاً عن القدرة الفائقة في تماثل الكلام والتوازي وهيمنة الإيقاع الداخلي واستعمال الرمز، الأمر الذي يدل على رباطة جأشه، وعدم ضعف قواه النفسية في إزاء الحدث المحزن (2)، إذ بدأ علیه السلام خطبته بالاستعارة: أي( بنا اهتديتم )في الجهالة، فكنا نبراسا لكم تشقون ظلمتكم به، ثم انتقل إلى الاستعارة (وتسنمتم العلياء)، أي بنا نحن ركبتم سنامها، وارتقيتم إلى أعلاها، فهذه استعارة مكنية عملت الإيحاء في المعنى، فحظر المشبه (العلياء) وغاب المشبه به أصلاً (سنام الجمل) فجاء بشيء من لوازم المستعار منه، وهنا يستوجب الأمر هدوءاً نفسياً عند التعبير، لكي تأتي مثل هذه الإستعارات والعبارات مكثفة شعرياً(3)، إذ إنَّ الاستعارة (فن بياني يتأسس على سعة التأمل وانفتاح آفاق الخيل عند المنشيء، فلها القابلية على احتواء تراسل الحواس في أنتاج الصورة الفنية أكثر من

ص: 104


1- نهج البلاغة شرح ابن ابي حديد : 1/ 137 - 138 . وظ: نهج البلاغة شرح الشيخ محمّد عبده 39/1 .
2- هج البلاغة صوت الحقيقة ا.د. صباح عباس عنوز: 99.
3- المصدر نفسه: 99 .

غيرها، لذلك تعد منتجة جيدة للإنزياحات ولا سيما السياقية منها) (1)، فتعددت أساليب البيان في هذا النص، وكانت الهيمنة لأسلوب الكناية، ومن ذلك وبنا أنفجرتم عن السّرار) كناية عن دخولكم الفجر بعد ركام السحاب، أي دخلتم الوضوح بعد الظلام الذي كنتم غارقين فيه، (وُقِرَ سَمْعُ لم يَفْقَه الواعية) كناية عن عدم فهم العبر والمواعظ شديدة الأثر ف (وُقِر) دعاء بالصم على من لم يفهم الزواج والعبر (وكيف يراعي النَّبأَةَ مَنْ أَصَمَّتْه الصيحةُ) كناية عن عدم سماع الأصوات الخافتة إن لم يسمع الأصوات الشديدة، أي لا يعي ما يدور حوله من موضاعات ولا يعرف مضامينها البعيدة، فكيف يرجى منه ذلك وهو لا يأبه للأشياء الواضحة الجلية حوله،( حيث تلتقون ولا دليل) كناية عن عدم الدليل والمرشد ، أي لا دليل يرشدهم في أثناء اجتماعهم (وتحتفرون ولا تميهون) كناية عن اللا جدوى، أي يحفرون الآبار بحثاً عن الرواء فلا يصلون إلى الماء، اليوم أنطِقُ لكم العجماء ذات البيان)، أي (اليوم أنطق لكم الأشياء الصامتة، فهي تتكلم معكم كناية عن معرفة الأمور المخفية في صدوركم فتتوضح لكم الحقائق إن أصغيتم لي، فهي وأن كانت غامضة على من لا بصيرة لهم لكنها جلية ظاهرة واضحة لمن يُعمل عقله في تدبّر الأشياء، (عزب رأي إمرئ تخلف عني كناية عن عدم صواب الرأي ومخالفة الحقيقة بالنسبة لمن تخلف عن بيعة الإمام ونصرته، (ما شككت في الحق مذ أريتُه)، كناية عن شدة إيمانه ويقينه بالله سبحانه وتعالى، (لم يشفق موسى خيفةً على نفسه، أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال)، كناية عن عدم خوف موسى على نفسه، بل خاف أن يغلبه السحرة فتؤيد

ص: 105


1- الاداء البلاغي في الحديث الشريف ا.د. صباح عباس عنوز 105.

الناس ،فرعون، فكان اشفاق الإمام على المسلمين المساكين من غلبة الجائرين الظالمين واستيلائهم على أمور المسلمين لا على نفسه، وهي اياءة إلى عدم بيعته بالخلافة، وهو الأحق بها، (اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل، كناية عن معرفة طريق الحق وهو طريقه علیه السلام و ، ومعرفة طريق الباطل وهو طريق أعدائه فلا حجة لهم بعدُ، لأنّ كلّ طرف عرف الطريق الصحيحة، (من وَثقَ بماء لم يَظْمَأ)، كناية عن عدم اهتمام الأنسان بعواقب الأمور، فإن كان الإنسان على حق فهو لا يبالي في ذلك.

إنّ المتأمل في هذا النص يجد عباراته ارتقت إلى مستوى الأمثال الصالحة لكل زمن ويشاهد أيضا التعبير الكنائي شكّل مهيمنة في التعبير، لأن الكناية تعبر عن معنى مستور يرومه المتكلم تحت ألفاظ ظاهرة، فهي (أن يريد المتكلم اثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيوميء به إليه ويجعل-ه دليلاً عليه)((1)، فتمت الاشارة بالكناية إلى المعاني التي صارت أمثالاً، بعدما حصل فيها تكثيف وايجاز، وهكذا حققت الإنفرادات البلاغية علاقتها الوثيقة بتشكيل الصورة المبتكرة فانعكس الأمر على المبنى والمعنى بأداء خاص في كلام الإمام علي علیه السلام، فالتقت عملية تراسل الحواس مع تكوين الصورة الفنية ودلالات المعاني، فتحققت الدهشة في أثناء التلقي، لأن استعمال تراسل الحواس في الأداء الأسلوبي الخاص يصنع صورة فنية تمنح التعبير جمالاً وتحوله إلى غير المألوف من أجل الاستعجاب والادهاش) (2)، فالمتأمل في أقوال الإمام علي علیه السلام، هنا حصلت الغرابة الا

ص: 106


1- دلائل الاعجاز، عبد القاهر الجرجاني: 52 .
2- نظرية تراسل الحواس، الأنماط الاجراء، الأصول، د. أمجد حميد عبدالله: 204.

و تجلّت فرادة تعبير ففي الرؤية النفسية لأساليب البيان نجد الأنفعال مصاحباً للحدث في الحرب حين يتنامي العتاب والأسف على فعل الآخرين، ويكون أقرب الأساليب البيانية إلى ذلك التشبيه الحسي، لكننا ألفناه تعبيراً استعارياً راقياً هنا عند الإمام، إذ خالف الإمام علي علیه السلام الآخرين في مثل هذه الحال، فلم يذهب إلى التعبير بإسلوب التشبيه في احتدام الوقائع والأحداث، أي لا أنفعال في كلامه علیه السلام، وذلك دليل على قوة إيمانه بالله سبحانه وبقدره، الأمر الذي يؤكد ثبات نفسه في كل آن وحصول الطمأنينة النفسية عنده فلا جزع ولا أنفعال، لقد وقفنا عند أقوال الإمام علي علیه السلام وهو في أصعب المواقف وأحرجها، وفي فضاء الحرب وأهوالها، وفي ساعة الراحة وغيرها، فهو لم يعبأ للإنفعال فتذعن له قريحته، ولم تأخذ منه الرهبة فتنساق لها حالته، فقد بقي تعبيره خارجاً عن المألوف، الأمر الذي يدل على وحدة إيمانه المتماسكة في الحرب والسلم وقوة شكيمته في الكرب والنعم، وعبقرية بلاغته في الحب والسأم والغضب والألم، ومصداق رؤيته في الراحة والهم) (1)، فيقينا ولاشك في أن كلامه ( عليه مسحة من العلم الإلهي ، وفيه عبقة من الكلام النبوي ..)(2) ، فمن المعروف عند علماء التحليل النفسي أنّ كل حالة شعورية كالرغبة أو الشعور بالخوف أو النشاط العقلي في أثناء عملية التفكير، وكل استعداد لا شعوري كالرغبة المكنونة في الأنتقام من شخص أو الهرب من موقف محرج هذه الحالات والاستعدادات لا يمكن أن تكون موضع دراسة علمية أن لم يستطع الشخص أن يعبر عنها تعبيراً خارجياً عن طريق اللغة أو الحركات أو الإشارات

ص: 107


1- نهج البلاغة صوت الحقيقة ا.د. صباح عباس عنوز: 98 .
2- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد: 45/1 .

المختلفة، أي عن طريق السلوك )(1)، فيكون التعبير المباشر أقرب الى المتكلم فهناك بيئة ،واقعية، وهي ما يحيط بالفرد من عوامل مادية فيزيقية واجتماعية لها أثر في ابداعه، و إن البيئة السيكولوجية التي یدركها الإنسان ويشعر بها فيستجيب لها هي التي تثير انتباهه واهتمامه ونشاطه (2). لكن الذي يتأمل في كلام الإمام علي علیه السلام يجد عدم تأثره بالحالات التي تقلّص من الإبداع في أثناء التعبير عند الآخرين، كما ذكرنا سابقاً، من حالة شعورية أو رغبة أو شعور بالخوف أو أيّ نشاط عقلي في أثناء عمليتي التفكير والتكوين

الأسلوبي.

لذلك نشاهد في الأمثلة السابقة واللاحقة سياقات كلامية نهضتْ على الأداء الخاص، وتضمنت وحدات الفعل الإبداعي القائمة على أصالة التعبير وابتكار السياق وفرادة اللغة، فتحققتْ مضامين الكلام بالإنفرادات البلاغية المؤسسة للصور الفنية المبتكرة في أقواله علیه السلام ، الأمر الذي دلّ على رُقِيّ الفعل الإبداعي في كلامه وما يتضمنه من

وظائف تربوية وعلمية وفنية أفادت المتلقي.

ص: 108


1- أصول علم النفس، أحمد عزت راجح : 17 .
2- المصدر نفسه: 19.

المبحث الرابع

الفعل الإبداعي بين التكثيف البلاغي وارتقاء الكلام إلى مستوى المثل.

ص: 109

ص: 110

توطئة:

سيتناول المبحث الإنفرادات البلاغية وأثرها في صيرورة الفعل الإبداعي في أثناء التعبير، وعلاقتها باجتماع أقسام البلاغة في كلام الإمام علیه السلام في العبارة الواحدة، حتّى يرتقي الكلام إلى مستوى المثل، فظلَّ كلامه محاورا الوعي في كل زمان والمكان، فحملت تلك الإنفرادات البلاغية وظائف تعبيرية متعددة للمتلقي في الوقت نفسه، ومنها: (اجتماع أساليب البلاغة بفروعها الدقيقة في القول، وهي سمة توميء إلى علوّ صيرورة الفعل الإبداعي فنيّاً، وأثره في التكثيف البلاغي ومن ثم ارتقاء الكلام إلى مستوى المثل، فحصل التميز ، فنصوص نهج البلاغة وثيقة أدبية مصوغة فنية، ومرتب-ة فکریا ، اتسمت بخصائص كلامية لم نجدها في كلام الآخرين فكان اداؤه خاصا به، فجاء كلاما ابداعا لا اتباعاً فصح أن يؤخذ مثلاً أو اقتباساً ل-ي-ن-ير نصوص الآخرين)(1)، وسنتابع هذا الأمر في ما يأتي.

التطبيق :

لنتأمل هذا الأمر في اجتماع علوم البلاغة في كلامه، قال الإمام علي علیه السلام: (إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ عَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ ) (2)، فمن الأنفرادات البلاغية المتميزة هنا جاء اجتماع الفروع الدقيقة للعلم البلاغي، ففي هذا النص نجد اجتماع الخبر بالإنشاء في علم المعاني فتمثل بالغرض الأصلي للخبر وهو فائدة الخبر في قوله : ( إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ)، لأنّ معنى هذا الخبر (افادة المخاطب الحكم الذي تضمنته الجملة أو الكلام، وهذا

ص: 111


1- نهج البلاغة صوت الحقيقة ا.د. صباح عباس عنوز : 164 .
2- نهج البلاغة ، شرح ابن أبي الحديد /16 113 .

هو الأصل في كل خبر، لأن فائدته تقديم المعرفة إلى الآخرين)(1)، فخرج الخبر إلى غرض مجازي هو التحذير، وفي الوقت نفسه كان اسلوب الشرط حاضرا في هذه الجملة، فآبت العبارة مثلا يصلح لكل زمان ومكان، ونجد في النص نفسه الأنشاء متمثلا بقوله: (سَلْ عَن الرَّفِيقِ قَبْلَ الطريق وَعَن الجَارِ قَبْلَ الدَّارِ)، فالأنشاء تمثل بأسلوب الأمر، وهو طلب أو صيغة أو قول يتم به استدعاء الفعل على وجه الاستعلاء(2)، وقد خرج أسلوب الأمر هنا من معناه الأصلي إلى النص الارشاد، وتعضّد معنى النص بعلم البيان عن طريق الكناية فهي: (أن يريد المتكلم اثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيوميء به إليه ويجعله دليلاً عليه) (3)، وكانت الكناية هنا في ضوء هذا السياق تعريضاً، لأن الكلام تم اطلاقه هنا وأشار إلى معنى يفهم من السياق ومن ظرف القول(4)، ففي ضوء السياق أراد الإمام علي علیه السلام السؤال :( عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ وَعَن الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ )، كناية عن اختيار الصاحب والجار، وفي هذا الكلام نجد الأداء البديعي بمحسناته اللفظية متمثلاً بالجناس، فكان نوعه غير تام اختلف اللفظان فيه بأنواع الحروف، ولم يقع الاختلاف بأكثر من حرف واحد، وهذا ما أراده البلاغيون في مدوناتهم النقدية، فكان الجناس متحققاً في وسط الكلمتين، في كلمتي (الرفيق) و (الطريق) ، وكلمتي ( الجار) و(الدار) باختلاف اللفظين في

ص: 112


1- البلاغة والتطبيق، د. احمد مطلوب و د. كامل حسن البصير، 115 .
2- ظ : الطراز المتضمن لاسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز، يحيى بن حمزة العلوي القاهرة 1332 - ه- 1914م : 281/3 .
3- دلائل الاعجاز ، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمّد رشيد رضا، القاهرة، 1372ه-: 52.
4- ظ: الايضاح، الخطيب القزويني: 324.

أنواع الحروف في وسط الكلمة، وهو جناس ناقص، فقدّم الحديث الشريف وظيفة تربوية، إذ إنَّ مدرسة الإمام علي علیه السلام الثقافية تستمد مصادرها من القرآن الكريم، وهي امتداد المدرسة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم. فقد قال تعالى: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا »(1)، وقد حث الرسول على احترام الجار في قوله : ( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: وَمَنْ يا رسول الله؟ قال: الذي لا يؤمن جاره بوائقه) (2)، فحقق هذا الحديث معناه بالقسم الذي تم بوساطة الواو وتداخلت الأداءات البيانية أيضاً، وقدّم الحديث الشريف وظيفة إرشادية تربوية تحتْ على احترام الجار وحفظ جورته وصيانتها من كل دنس ورذيلة) (3)، فنجد الفعل الإبداعي بدأ بالاستهلال ولأهمية الأمر كان الاستهلال قسماً، ثم تحققت الوحدات الثلاث التي هي:

1 - الموقف من الواقع ، والتذكير بواقعنا اليومي بحكم وجود

الجار وأثر العلاقة الاجتماعية في حياتنا اليومية.

2 - وحدة الحيوية أو الشعورية التي أوضحت حس التعامل مع

الجار.

3- وحدة التداعي التي تنقل لك صورة الجار ومعاملاتنا اليومية

ص: 113


1- سورة النساء : 36 .
2- ظ: كنز العمال الباب الرابع: في حقوق تترتب على الصحبة المتقي الهندي: 9 / 50، أورد الحديث بقوله صلی الله علیه و آله وسلم: [ والله لا يؤمن،[ والله لا يؤمن، والله لا يؤمن الذي لا يأمن جاره بوائقه ].
3- الأداء البلاغي في الحديث الشريف: ا.د. صباح عباس عنوز: 183 .

معه، فتعاضدت لإنتاج وحدة موضوعية، إذ اكتمل المعنى وتماسك وحصل السبق في تكوينه السياقي، فأدى وظيفة فنية وتربوية معاً، تآزر الشكل والمضمون بأنفرادات بلاغية لا يمكن أن تصدر إلا من رجل خبر الحياة، وسبر أغوارها ونظر في حالاتها، وفي عموم أحاديثه علیه السلام وفي كل نص تأتي كلماته مرتوية بمشاعره وغارفة من فيض وجدانه، فهيمنت الكلمات المعبأة بالأحاسيس على عموم نصوصه، لذلك كانت تحاور القلوب وبانت وحدات الفعل الإبداعي المتمثلة بوحدة الصراع والوحدة الحيوية والتلوين الشعوري للمتلقي جليّةً، فكان كل كلام للإمام علي علیه السلام يصدر عن تجربة ومعرفة بأمور الحياة، لذلك تميّز كلامه بوجدان معرفي متكامل ، أي عكس علاقة الإمام علي علیه السلام بغيره من الناس في الواقع ، ثم تفرد كلامه بوعي جمالي فطري غير مصطنع، لنتأمل قوله علیه السلام: (آلة الرياسة سعة الصدر)(1)، تتحقق الإدارة الناجحة بالابتعاد عن مسالك الظلم، وتأتي سعة الصدر عاملا مهما في ذلك، وعلى المتصدّي التفريق بين العمل الذي يقوم به بعض بقصد والذي يكون بجهالة، لأن الظلم يأخذ بأهله إلى الهلاك، قال تعالى: «وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ » (2)، فالظلم مكروه يحاسب عليه مَنْ يفعله، وعلى الذي يسوس الناس بإدارته أن يكظم غيظه، ويحسن إلى رعيته فقد قال تعالى: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » (3)، فالمسؤول عن الجماعة يقع عليه عبء تعليمهم وإنصافهم ومداراتهم

ص: 114


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد 27/19 ، وظ: شرح محمّد عبده، 4 / 42 .
2- سورة آل عمران : 57 .
3- سورة آل عمران : 134 .

حتى يبتعدوا عن عمل السوء، فقد قال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: (ما من أمير عشرة إلّا وهو يجيء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه حتّى يكون عمله الذي يطلقه أو يوقفه) (1)، لقد أكد الرسول مسؤولية الراعي و حق رعيته عليه، فسّماه أميرا باعتبار ما كان عليه في الحياة الدنيا من إمارة ، فحققت العلاقة المجازية هنا النظر إليه بما كان عليه في الزمن الماضي، وهنا يراجع المتلقي نفسه إن كان مسؤولا ليصحح مسارَه ويعالج هفواته لأنّ حسابا شديدا ينتظره يوم القيامة، وقد حققت العلاقة المجازية باعتبار ( ماكان في الماضي) بوساطة هذا الأداء البياني المجازي وظيفةً حملت النصح والإرشاد والتحذير لمن يتأمّر على مجموعة في حياته الدنيوية، فعليه أن ينأى عن الظلم والإجحاف بحق المرؤوسين) (2)، فالمتأمل في كلام الإمام علي علیه السلام (آلة الرياسة سعة الصدر) يجد تكامل الوحدة الموضوعية المتحققة بإنفراداتٍ بلاغية خاصة، إذْ أدّتْ هذه التكوينات البلاغية المتآلفة وظيفةً تربويةً تمثلتْ بالنصح والارشاد إلى المسؤول، فعليه انصاف رعيته بأفعاله الادارية وقد أفضى هذا الكلام إلى مثل تنتفع به الناس في كل زمان ومكان، لأنّ الإمام علي علیه السلام (وضع أسسا متينة للنظام الاداري والاقتصادي للمجتمع، ونفذ قواعد في مدة توليه السلطة بين 36 - 40 ه-، وكانت ارشاداته ونصائحه للحاكمين واضحة، وأن عهده لواليه على مصر مالك الأشتر مثال رائع للراعي والرعية)(3)، ولكي تتم المنفعة من العهد والعمل به فقد أرسل هذا العهد إلى جميع عماله في البلدان

ص: 115


1- النهاية في غريب الحديث والأثر ابن الأثير، تحقيق طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمّد الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت، 1391ه-، وطبعات أخرى: 2-207.
2- الأداء البلاغي في الحديث الشريف: ا.د. صباح عباس عنوز: 89.
3- الإمام علي علیه السلام في الدراسات الاستشراقية، رؤية معاصرة: 23 .

والأمصار ، فهو( أشبه بالأوامر الإدارية)(1)، ففي كلام الإمام علي علیه السلام السابق (آلة الرياسة سعة الصدر) نجد علمَ المعاني حضر بالمساواة

لأنها تعني( أن يكون لفظ الكلام بمقدار معناه لا ناقصاً عنه .. زائداً عليه)(2)، أي كان ألفاظ الكلام قوالب لمعانيه لا يزيد بعضها على بعض (3) ، وهذا الأمر ألفناه في هذا النص، فضلًا عن ذلك

فقد حضر علم البيان بالكناية عن صفة، فالصفة معنوية كناية عن رحابة الصدر وسعة البال لإحتواء الرعية وتحمّل ما يظهر منهم بجهالة و معالجته، ثم حضر علم البديع متمثلا بالتكرار، أي تكرار الحروف التي أحدثت جرساً ايقاعياً في الكلام تلاءم بهمسه مع كظم الغيظ، مثل تكرار التاء المربوطة والألف والسين والراء، أي تكرار الحروف الصوت، فحققت الصيغ المتكررة عبر جرس خاص بها، فأفصح تكرار حرفالسين عن وجوب الراعي التزام الهدوء والسكينة؛ لأنه بقدر ما تفيد الدلالة الصوتية إيحاء معنى اللفظة مفردة، نجد الألفاظ تكتسب دلالةً يوحيها السياق المنظومة فيه)(4)، وهذا التطابق ماثل بين ما يوحي به حرفالسين) الهاجس وبين ضرورة النظر الإداري الثاقب في أمور الرعية، فاتفقت دلالات الكلمات المتكررة والحروف مع المعنى المحمول بوساطة اجتماع علوم البلاغة بأجزاء منها، فأعطى تآلف هذه الأقسام البلاغية انفرادات تعبيرية خاصّة بالإمام علي علیه السلام، أظهرت قوة الفعل

ص: 116


1- ظ : الإمام علي علیه السلام في الدراسات الاستشراقية رؤية معاصرة ، 23 . وظ محمّد رسولا نبیا عبد الرزاق نوفل، مطبعة العالم العربي القاهرة، 1961م : 139 .
2- المصباح في علم المعاني والبيان والبديع، بدر الدين بن مالك: 35.
3- ظ :كتاب الصناعتين، أبو هلال العسكري: 177.
4- جرس الألفاظ ودلالتها في البحث الدلالي عند العرب، د. ماهر مهدي هلال: دار الحرية للطباعة - دار الرشيد للنشر ، بغداد، 1980 م ، 297 .

الإبداعي المتحقق بالتكثيف البلاغي حتّى بات الكلام مثلاً يحاور الوعي الجمعي في كل زمان ومكان بسبب ما تضمنه كلامه من وظائف اقناعية، فتألفت ائتلاف سياقات التعبير الممثلة للشكل مع الدلالات المطلوبة المتمثلة بالمضمون، فصار التميّز، وحصل التفرّد في التعبير، على وفق باعث تمثل بضرورة نأي القائد عن التعصب والأنفعال، فتماسك الكلام وارتبطت أجزاءه، وتعاضدت دلالاته، فسَمَتْ معانيه حتى كوّن وحدة عضوية للنص تحمل الوظيف التعليمية والإقناعية معا.

فوجدنا الفعل الإبداعي سيطر على صيرورة المستوى التركيبي للسياقات التعبيرية بتكثيف بلاغي ابداعي متفرّد في الابتكار، وفي ضوء ذلك ارتقى الكلام إلى مستوى المثل. أي أن (ماحقته الصور بوضوح وكمال أغنى النص، فآب لوحة فنية وتاريخية في آن واحد وأناز النص بالاستجابة الوجدانية، أي عملية التأثر والتأثير بمحيط الإمام علي علیه السلام فحصل توافق بين ما استنبطه الإمام علي علیه السلام مر الأحداث، وبين ما هو متجل في الواقع الملموس، فوصل نصه إلى الآخرين وثيقةً مقنعة ) (1)، وقد تميّزت نصوصه أيضاً النص باليقين المعرفي، إذ قدّر الإمام علي علیه السلامجوهر الحقيقة من خلال معرفته الواسعة وإلمامه بعناصر الأمور، فحرّك في المتلقي معاني الوقائع التاريخية والفنية معا بإنتقائه الصور والأمثلة، والأسلوب المرتكز على الفطنة الدربة والدراية، وهذا ما لم نشهده عند سواه هي خصائص تمتع فيها وحدهُ علیه السلام (2)، وهذه هي حقائق واضحة الله للمتلقي في كلامه، فقد تحدّث قبلنا أساطين العلماء العارفين

ص: 117


1- نهج البلاغة صوت الحقيقة، ا.د. صباح عباس عنوز :89 .
2- المصدر نفسه: 89 .

بمسارب الكلام السياقية وطرائقه الفنية فقالوا: (عليه مسحه من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي... فهو البحر الذي لا يساجل والجم الذي لا يحافل) (1) ، فضلا عن ذلك فقد حضرت فرادة اللغة والأصالة والابتكار في كلامه، فبأساليب تعبيره تمسك جهابذة الإبداع، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ... لأن كلامه عليه السلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي. وفيه عبق من الكلام النبوي)(2). فالمتدبّر في كلامه علیه السلام يجده عالي المقام، عميق الغور بعيد السنام غريب السير، لا يقوى على مسايرته الأدباء، ولا ينأى عن الاقتداء به العلماء، فهو قول و مثل، وقيم ومثل وحقيقة وحقائق وعجيبة وعجائب، سلك أساليب البيان فانفرد بها، وركب مسالك السياق فتألق فيها، اختار الكلم بعناية ربانية، وأودع اللفظ إيماءة روحانية، فبات كلامه قيمة وقمة، وصار حديثه حجة ومحجةً ، لم ينأى كلام المتفنّين عن مساراته، ولم تقو قرائح المبدعين على مجاراته فاتخذه المبدعون دالة، والتزمه القائلون رؤية) (3)، فبقيَ كلامه مثلا قائماً على فعل ابداعي أصيل خارق لحدود الإبداع جامعا بين الشكل والمضمون، بين الفنية العالية والمعاني السامية، وتكثيف بلاغي دلالي حافظ على وحدة الموضوع، فكثرت المعاني وقلت الألفاظ، فارقت نصوص كلامه علیه السلام إلى مستوى المثل الذي ظل يحاور الوعي الجمعي زمانا ومكانا، كما سنراها في الأمثلة اللاحقة التي حفلت بالتميّز والابتكار.

إن الذي يتتبع الإنفرادات البلاغية في أساليبه الإمام علي علیه السلام

ص: 118


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد: 31/1.
2- نهج البلاغة، تشرح الشيخ محمّد عبده : مقدمة الشريف الرضي: 11 .
3- نهج البلاغة صوت الحقيقة، ا.د. صباح عباس عنوز: 164.

السياقية يجدها حاضرةً جميعاً في أقواله بأعلى مراتب الفن القولي فقد وردت أقسام البلاغة في كلامه - كما مرّ سابقا مثل: علوم البيان وعلم المعاني والبديع وبجميع فروعها في العبارة الواحدة،

الأمر الذي يؤكد بلاغة نهجه وفنية قوله، ومن سمات انفراداته علیه السلام في الإتجاه البلاغي يتداخل أداء ان بلاغيان أو أكثر من دون أن يكون خرق للبلاغة في قوله علیه السلام، وهذا الفن القولي الرائع قد ألفناه عند الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم، فكلام السلسلة الذاهبية يتسم بروابط فنية

عالية الإبداع، وكيف لا وهم أخذوا علمهم عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم مثل قوله علیه السلام: (مَثَلُ الدنيا كَمَثَلِ الحَيَّةِ لَيِّنٌ مَسُّها والسُّمُّ الناقعُ في جوفها، يهوي إليها الغِرُّ الجاهل ويَحْذَرُها ذو اللبِ العاقِلُ)(1). فهنا تشبيه مرسل كما في (مَثَلُ الدنيا كَمَثَلِ الحَيَّةِ) وكنايةَ في الوقت نفسه نحت المعنى دلالة ايحائية (لين مَسُّها والسُّمُّ الناقعُ في جوفها)، واستعارة وكناية ومجاز ورمز (يهوي إليها الغِرُّ الجاهلُ ويَحْذَرُها ذو اللُّبِ العاقل)، فضلاً عن علمي البديع بالطباق (الجاهل، العاقل) والمعاني بالخبر الطلبي الذي أخذا التأكيد، والخبر الإبتدائي الذي خلا من المؤكدات في شق العبارة الثانية . وقوله علیه السلام: (القناعة مال لا ينْفَدُ )(2) فكان الإتجاه البلاغي قد جاء بيانياً بالتشبيه المفصل، أي ذكر فيه المشبه (القناعةُ) والمشبه به (مالٌ) ووجه الشبهلا ينْفَدُ)،

وجاء التعبير في علم البياني بالخبر الإبتدائي الذي خلا من المؤكدات والمساواة التي تعني أن يكون الكلام بمقدار معناه، لا ناقصا عنه.. ولا زائدا عليه)(3)، وقد أدى التعبير المختزل وظيفة تربوية، إذ تكثّف

ص: 119


1- نهج البلاغة ، شرح الشيخ محمّد عبده : 28/4 .
2- المصدر نفسه: 14/4 .
3- الإيضاح الخطيب القزويني باشراف محمّد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة: 177، وظ: المصباح في علم المعاني والبيان والبديع، بدر الدين بن مالك ، القاهرة 1341ه- ، 35 .

الكلام حتى ارتقى إلى مستوى المثل . ونجد الأمر نفسه في قوله علیه السلام:(العَببببفاف زينة الفَقْرِ والشكر زينةُ الغِنى)(1)، إذ حضر علم المعاني متمثلا وعلم المعاني متمثلا بالخبر الابتدائي أي خلا من المؤكدات، والوصل أي عطف جملة على أخرى وكانتا متفقتين خبرا وأنشاء لفظا ومعنى، وحضر أيضا علم البديع متمثلا بالطباق أي الجمع بين لفظين مثبتين متضادين (الفَقْرِ الغِنى)، والجناس التام في كلمة زينةُ) فضلاً عن ذلك فقد حضر علم البيان بالتشبيه البليغ في عبارتي النص. ونجد المثل أيضا في قوله علیه السلام، (المالُ مادّةٌ الشَّهواتِ)(2) ، إذ تداخلت علوم البلاغة جميعا بأجزاء منها، فتجلت الإنفرادات البلاغية وتحقق الفعل الإبداعي بأعلى مراتبه الفنية والدلالية، فقد حضر كل من علم البيان بالتشبيه البليغ ، وعلم المعاني بالخبر الإبتدائي، وعلم البديع بالجناس الناقص الذي اختلف لفظان فيه في أنواع الحروف (مالٌ، مادّةُ)، ومثل هذا الأمر عُلُوّ التكوين البلاغي في كلام الإمام علي علیه السلام حتّى ارتقت العبارة

الله المكثفة والجامعة للتكوينات البلاغية إلى مستوى المثل .

ونجد الشيء نفسه في قوله علیه السلام: (الهمُّ نِصْفُ الهَرَمِ) (3)، إذْ جاء علم المعاني ممثلاً بالخبر الابتدائي، فالكلام خلا من التأكيد، وجاء البديع في النص متمثلا بالجناس الناقص، وهو بزيادة حرف الراء في الثنية الهمُّ) و (الهَرمَ) ، وفي الوقت نفسه جاء علم البيان متمثلاً بالكناية على وفق المكنى عنه كناية عن صفة، أي تخصيص صفة ،بموصوف، فهو كناية عن صفة معنوية لا النعت، وتعشق التعبير

ص: 120


1- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 80/4 .
2- المصدر نفسه: 14/4 .
3- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 34/4 .

بالكناية بحسب الوسائط أيضاً، أي كناية بالتعريض وهو كلام يُفهم من السياق، فحصل التلازم بين أجزاء الأداء البياني الواحد، ومن هنا تفرّد الفعل الإبداعي وتسامي في كلام الإام علي علیه السلام، حتّى أدّى هذا التعشق بين الأداءات البلاغية إلى ارتقاء الكلم إلى مستوى المثل وهذا الأمر دائم الحضور في أقواله كما مرّ سابقاً وما سنلاحظه لاحقاً.

إن الذي يتأملُ في كلامه علیه السلام ويدقق في بنيته التكوينية ويستنطق مضامین نصوصه، يلاحظ حضور إنفراداته البلاغية ومنها التكثيف أي إيجاز القول، فأدّتْ إلى ارتقاء كلامه فنيّاً ودلاليّاً، حتّى صار مثلاً يُصح لكلِّ زمان ومكان، فحاور الإنسان أيّاً كان جنسه ونوعه وعرقه، ثم جاء بوظائف متعددة، منها مثلاً الوظيفة الإجتماعية، لأنّه علیه السلام قدم النصائح والارشادات لعماله وفي مقدمتها رعاية

المجتمع، وتحقيق العدالة على وفق الادارة الميدانية ) (1)، فكان علیه السلام يجوب الأسواق ويثقف على الأسعار، ويراقب الموازين والمكاييل، ويخاطب الباعة بما يوافق الشرع الإسلامي ويحثُّ التجار على أن لا يظلموا الناس (2)، لذلك أحبّه الناس واتخذوه قدوة في العدالة والتعامل الأنساني، وربما لهذا السبب اعتمدت الأمم المتحدة أقواله وعلّقَتْه في أروقتها.

ونجد مفهوم الاستباق والاسترجاع يحضران في كلام الإمام علي علیه السلام لأنهما يحملان وظائف تعليمية للمتلقي، وهذا الأمر ألفِناه دوماً في حديث الرسول وأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم )،

ص: 121


1- الإمام علي علیه السلام في الدراسات الاستشراقية، رؤية معاصرة، أ.د حسن عیسی الحکیم، نشر مرکز الإمام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية، 1442ه-، ، 2022م، 24 .
2- الفهرست ابن الندیم تحقيق رضا ،تجدد مطبعة دانشكاه طهران: 223.

فمدرستهم الحديثية واحدة تقدم الوظيفة النفعية للإنسان، إذ نجد ملازمة الاستباق والاسترجاع (للوظائف الإرشادية لدى المتلقي في الحديث الشريف، فالإستباق يُخبر عن المجهول القادم، والإسترجاع يذَكِّرُ بما تمَّ عمله في الدنيا، ولكليهما نتائجهما في الدنيا والآخرة بسبب أعمال المرء، فمرةً يُحذِّر الحديث الشريفُ من عمل السوء وما يُلقيه العملُ من أعباء على الإنسان في دنياه وآخرته، وتارةً يُخبر عن ثواب العمل الصالح في الدنيا والآخرة، إذ يصبح الإنسان قبالة حال تأتي بالمُسِّرّ أو المخيف مستقبلا فيراجع سلوكه اليومي بدقة، فيزيد من عمله الصالح وينأى عن الطالح، إذ يقدَّم الحديث الشريف للمتلقي وظيفة تربوية إرشادية، ومع تلك المعاني فقد جمعت الأحاديث الشريفة بين الفنية وتعدد الدلالات)(1)، ومن أمثلة ذلك كلام الإمام علي علیه السلام احذروا صولة الكريمِ إذا جاع واللئيم إذا شَبعَ ) (2) ، فهنا تحذير للقائمين على شؤون الناس من عدم تطبيق مفهومي العدالة والمساواة، إذ يُبيّن البعد التداولي للنص بدلالته الإيحائية وجوب النأي عن فوضوية اضطراب المعايير، لأن في ذلك خطراً اجتماعياً، فجاء الإتجاه البلاغي متحققاً باجتماع علوم البلاغة، فتحقق بيانياً بالمجاز المرسل والعلاقة سببية أي، بُني للفاعل وأسند للسبب، وكذلك علاقة اعتبار ما يكون وبها يُطلق الوصف على شيء باعتبار اتصاف الشيء بهذا الوصف في المستقبل، وإن لم يكن موصوفاً به في زمن الحال، وكذلك تعشق هذا الأداء البياني المجاز المرسل بالكناية تعريضاً، وهو كلام يُطلق ويُشار به إلى معنى آخر

ص: 122


1- الأداء البلاغي في الحديث الشريف: ا.د. صباح عباس عنوز: 321.
2- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده: 4 / 14 .

يُفهم من السياق ومن ظرف القول(1)، وحضر علم المعاني في هذا النص متمثلاً بالإنشاء الطلبي الذي خرج فيه فعل الأمر (احذروا) إلى النصح والإرشاد والتحذير في الوقت نفسه، وحضر أيضاً البديع بمحسناته المعنوية (الطباق) الذي كان فيه اللفظان المتضادان فعلين هما: (جاع، شَبعَ)، فتسامى الفعل الإبداعي بناءً حين حضرت الإنفرادات البلاغية فأنتجت تكثيفاً بلاغيّاً ودلاليّاً أخذ بالكلام إلى مستوى المثل .

ومن أمثلة الجمع بين الوظائف النفسية والإجتماعية والتربوية قول الإمام علي علیه السلام:( الطامع في وثاق الذل) (2)، لقد أراد الإمام معنى منظورا في المستقبل، فجاء مفهوماً الإستباق والاسترجاع واضحين في النص، أي اتصاف الطامع في نهاية الأمر أو في المستقبل بالذل وإن لم يكن موصوفا به في زمن الحال، وذلك بعد ركونه إلى الطمع، لأن الذل هنا وصف جاء لتبين حال الطامع، بعد ازدياد الطمع وليس قبله، أي بما يتصف به الطامع مستقبلاً بعد أن ركض نفسه وراء طمعه في الوقت الحاضر، فكان التعبير محمولا بالكناية تعريضاً وإيحاء، فاستوى الكلام إلى مستوى المثل حاملاً وظيفة تعليميةً ارشادية، لأن الطع يؤدي إلى هلكة صاحبه، فقد قال علیه السلام: أَكْثَرُ مَصَارِعِ العُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ المُطَامِع )(3)، فكان الأداء البلاغي متحققاً في هذا الكلام بيانيّا بالإستعارة، وبديعيّا بالجناس في كلمتي مصارع) و (مَطَامِعِ)، وحسن التعليل، وفي علم المعاني الجملة اسمية لأن

ص: 123


1- ظ :مفتاح العلوم، السكاكي: 194 ، وظ: البلاغة والتطبيق، د. أحمد مطلوب، ود. كامل حسن البصير، ط 2 ، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، 1410 ه- - 1990م : 373 .
2- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 50 .
3- المصدر نفسه: 49/4 .

(أَكْثَرُ) اسم تفضيل مبتدأ مضاف إلى (مصارع)، و(تَحْتَ) ظرف مكان منصوب وهو مضاف و بروق مضاف اليه وجملة تَحْتَ بُرُوقِ المَطَامِع شبه الجملة في محل رفع خبر، فقدّم الخبر غرضاً أصلياً هو فائدة الخبر ، أي أفادت السامع بمضمون الكلام، فتسامى الفعل الإبداعي بناءً حين حضرت الأنفرادات البلاغية فأنتجت

تكثيفاً بلاغياً ودلالياً أخذ بالكلام إلى مستوى المثل.

وقد قال علیه السلام:( الطَّمَعُ رقٌ مؤبَّدٌ)(1)، إذ اجتمع علم البيان بالتشبيه البليغ المؤكد، وعلم المعاني بالخبر الإبتدائي الذي خلا من المؤكدات في هذه العبارة الواحدة، فقدم وظيفة ارشادية تحذيرية أكّدت رفض الطمع والإبتعاد عنه لأنه موصل للذل ، ودخل البديع من أجل الابانة والافهام في هذا النص بوساطة التورية المبينة التي تجمع ملائماً للمعنى البعيد المورى عنه، أو المعني البعيد المستور الذي يعنيه المتكلم (2)، فحصلت التورية في عبارة (رقَّ مؤبّدٌ)، وكذا اجتمعت علو البلاغة بإنفرادات ابداعية أداها الأداء الخاص للإمام علي علیه السلام، فحصلت الوظيفة في مجال تربية النفس وضرورة ترويضها، فارتقى الكلام إلى مستوى المثل.

وكذلك نجد الأمر نفسه في قوله علیه السلام: (مَنْ نال استطال) (3)، فقد قدّم الكلام وظيفة إرشادية وكان المعنى : الدعوة إلى نيل الأشياء بالحق كالعلم والمال فمن نال ذلك بما يرضي الله سبحانه استطال على الناس (4)، إذ إنّ من أعطى وقدّم للأنسانية شيئاً نافعاً فأنّ

ص: 124


1- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 42 .
2- ظ: البلاغة والتطبيق : 428 ، 430 .
3- نهج البلاغة، شرح ابن ابي الحديد : 21/19 . وظ: نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده: 4/ 49 .
4- ظ :نهج البلاغة شرح ابن ابي الحديد: 21/19.

شأنه سيعلو ، وقيل المقصود بالمعنى: ن(ال أي أعطى.. وهذا مثل قولهم مَن جادَ سادَ، فإن الاستطالة الاستعلاء بالفضل) (1) ، وربِّما يذهب المعنى إلى مَن أعطى الصدقة فإنه يعلو، فكان الإسترجاع متمثلا بإعطاء الصدقة يؤدي إلى الاستباق الذي يتحقق بنيل الثواب

مستقبلاً، فكانت الوظيفة التربوية حاضرة، ونجد في كلامه علیه السلام المثل المؤدي إلى الحكمة، فقد حضرت أنفرادته البلاغية في مجال الحكمة لتتحقق بتفوق فنّيِّ تَمثَّلَ بتداخل الأداءات البلاغية والإرتقاء إلى مستوى المثل بالتكثيف الدلالي المتحقق بعلم المعاني بواسطة موضوع الإيجاز والحذف، لأن الإيجاز يعني أن يكون اللفظ أقل من المعنى، أو أن تكون العبارة المؤدية للغرض بأقل ما يكون من الحروف (2)، أمّا الحذف فيتمثل بحذف كلمة أو جملة أو أكثر مع قرينة تُعيّن المحذوف (3)، وتداخلت جملة الشرط في السياق نفسه بأنفرادات الإمام البلاغية ، لأنّ مَنْ : اسم شرط للعاقل جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وقد ربط بين فعل الشرط وجوابه بذات ،واحدة عاقلة، وهو في الوقت نفسه مساواة، وضم التكثيف الدلالي علم البيان فهو كناية بالتعريض، وكذلك ضم التعبير علم البديع بحسن الاستهلال وحسن التعليل، فحقق الفعل الإبداعي بوساطة التكثيف البلاغي كلاما ارتقى إلى مثل حاور العقل بهذه الحكمة ذات الوظيفة التربوية للإنسان.

ومن الأمثلة على سيطرة الفعل الإبداعي في تكثيف الكلام بلاغيّاً حتّى يكون مثلاً صالحاً لمحاورة العقل الأنساني أينما كان

ص: 125


1- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 49/4 .
2- العمدة، ابن رشيق القيرواني، 221/1 . وظ: نهاية الإيجاز ، فخر الدين الرازي: 145
3- المثل السائر ابن الأثير : 78/2.

وفي أي وقت قوله علیه السلام: (الخِلاف يهدم الرأيَ)(1)، لقد تحقق المعنى المطلوب بالجمع بين أسلوبي الكناية تلويحاً وعلم المعاني بالخبر الإبتدائي، وعلم البديع بوحدة الموضوع، فقدّم الكلام وظيفةً تربويةً حملت نصحاً وإرشاد، فجاء الفعل المضارع ( يهدم) بوظيفة استباقية فيها استشراف للمستقبل، فأومأ وحدّر، وقد جاء غرضان للخبر هنا – وهذه الخصيصة من الأنفرادات البلاغية المهمة في كلام الإمام علي علیه السلام- أولهما فائدة الخبر الذي أفاد المخاطب الحكم الذي

. تضمنه الكلام وهو هدم الخلاف للرأي فعلينا تجنبه ومناقشته من دون تعصب، والغرض الثاني خروج الخبر إلى وظيفة التحذير، فحمل الكلام ووظيفة تربوية وجهت الأنسان نحو السلوك الصحيح في أثناء المناقشات عن أمر ما .

ومثل ذلك قوله علیه السلام : ( من تذكر بُعد السفر استعد)(2)، وقد تحقق التعبير البلاغي جامعاً بين علمي البيان والمعاني، فتحقق الأسلوب البياني بالكناية عن موصوف، وتحقق علم المعاني بأسلوب الشرط، وتداخل معه أسلوب الفصل، فقد كانت الجملة الثانية (استعد) جوابا للأولى( من تذكر بُعد السفر)، وجاء البيان بالكناية تعريضاً، لأن الكلام أعطى معنى فُهم من السياق، وحضر البديع بحسن التعليل ، فتآزرت علوم البلاغة لتقدّم وحدة موضوعية لهذا النص

ومن ثمّ حققت الوظيفة التربوية للكلام، إذْ أوضح الإمام علیه السلام النتيجة مستقبلياً، وحضر أيضاً مفهوما الاستباق والاسترجاع فتمّ المعنى، وظهرت ملامح تماسك وحدة الموضوع لأن الثانية المتمثلة بالإستعداد للآخرة كانت نتيجة للأولى التذكّر، أو التذكّر كان سبباً

ص: 126


1- نهج البلاغة شرح الشيخ محمّد عبده: 49/4 .
2- المصدر نفسه: 68/4 .

لحصول الإستعداد. ومنح مفهوما الاستباق والاسترجاع في هذا الكلام خاصية التأويل والتدبّر للمتأمل في مضمونه، ومن الجدير بالذكر أنَّ مفهومي الاستباق والاسترجاع وردا كثيراً في الحديث الشريف للرسول وآل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم) ، لأنهما يحملان وظائف تعليمية للمتلقي، وقد وجدنا هذه الخصيصة حاضرة في أحاديثهم، ولم يفترق كلام الأئمة علیهم السلام عنها ، فثقافتهم امتداد قویم سلیم لسمات مدرسة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ، فحرصت مدرستهم العلمية على تقديم الوظيفة النفعية للإنسان، ومن هذه المدرسة كلام الإمام علي علیه السلام، ففي مضمون مفهومي الاستباق والاسترجاع وظائف تعليمية للإنسان، لأن (الاستباق يُخبر عن المجهول القادم والإسترجاع يذَكّرُ بِما تمَّ عمله في الدنيا، ولكليهما نتائجهما في الدنيا والآخرة بسبب أعمال المرء، فمرةً يُحذّر الحديث الشريفُ من عمل السوء وما يُلقيه العمل من أعباء على الإنسان في دنياه وآخرته، وتارةً يُخبر عن ثواب العمل الصالح في الدنيا والآخرة، إذ يصبح الإنسان قبالة حال تأتي بالمُسِرٌ أو المخيف مستقبلاً فيراجع سلوكه اليومي بدقة)(1)، وفي أثناء ذلك ينتبه إلى أعماله اليومية في المجتمع، فيزيد من عمله الصالح وينأى عن الطالح، إذ يقدَّم الحديث الشريف للمتلقي وظيفة تربوية إرشادية، ومع تلك المعاني فقد جمعت الأحاديث الشريفة بين الفنية وتعدد الدلالات، إذ وصلت أحاديث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بوساطة السلسلة الذهبية الأئمة الأطهار علیهم السلام إلى الناس مدليةً وموضحةً ومرشدة ومربية ، ودالة ومُخبرةً) (2)، إذ نجد مفهومي الإستباق والإسترجاع في قوله علیه السلام في صفة الدنيا: (تَغُرّ وتَضُرٌ وَتَمرّ ،

ص: 127


1- الأداء البلاغي في الحديث الشريف: ا.د. صباح عباس عنوز 39.
2- الأداء البلاغي في الحديث الشريف : د. صباح عباس عنوز ، مطبعة شركة المارد النجف الأشرف، 2018م : 39 .

إن الله تعالى لم يَرْضَها ثوابا لأوليائه ولا عقابا لأعدائه، وإنَّ أهلَ الدنيا كَرَكْب بَيْنَاهُمْ حَلّوا إِذْ صاحَ بهم سائِقُهم فارتحلوا) (1)، لقد جاءت كل أساليب البلاغة هنا، فقد جاء البديع بمحسناته اللفظية جناساً ناقصاً باختلاف اللفظين في أنواع الحروف في الوسط، كما فيتَغُرّ وتَضُرٌ وَتَمرّ)، وجاء البديع بمحسناته المعنوية طباقا إيجابا، أي الجمع بين لفظين مثبتين (ثواباً، عقاباً)، وجاء البيان بالكناية عن صفة وأقصد الصفة المعنوية لأنها غرارة وضارة وغير باقية، فهي تَغُرّ وتَضُرٌ وَتَمَرٌ ، و ( إن الله تعالى لم يَرْضَها ثوابا لأوليائه ولا عقاباً لأعدائه) كناية عن عدم جدواها، ثم جاء التشبيه المرسل ليبيّن حال الدنيا وعدم ثباتها على حال معينة، فهي لا تعرف الإستقرار (وإنَّ أهلَ الدنيا كَرَكْب)، وجاءت الكناية بالتعريض (بَيْنَا هُمْ حَلّوا إِذْ صاحَ بهم سائقهم فارتحلوا أي تمَّ اطلاق الكلام وتمت الإشارة به إلى معنى آخر يُفهم من السياق ومن ظرف القول - كما مرّ سابقاً بمعنى أن الحياة الدنيا رحلة عابرة لم تثبت على حال، وقد أومأت الدلالة الإيحائية إلى معنى آخر هو يجب على المرء أن يستثمر وجوده في الدنيا لعمل الخير، لأنها كرحلة في ركب مهما كان نوعه، وعند الوصول يصيح بهم الرائد أو السائق فيغادرون المركب، وكذلك حال الدنيا، فنجد التشبيه المرسل والتمثيلي أو تشبيه الصورة لأنّ وجه الشبه محذوف دائما ويأتلف من صفات متمازجة ننتزعها من المشبه والمشبه به ونتخيلها صورة تجمع بينها سواء أكانت هذه الصورة محضة أم عقلية) (2)، وجاء علم المعاني بالخبر الإنكاري الذي تم تأكيده بأكثر من مؤكد، وهكذا اجتمعت الأداءات البيانية علم

ص: 128


1- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 96 .
2- البلاغة والتطبيق، د. احمد مطلوب و د. كامل حسن البصير : 304.

البيان بالكناية والتشبيه والكناية عن الصفة المعنوية و علم المعاني بالخبر الإنكاري وعلم البديع بمحسناته اللفظية (الجناس الناقص)، وبمحسناته المعنوية طباق الإيجاب، فأنتج اجتماع الأداءات البيانية دلالة إيحائية، وأراد الإمام علیه السلام عدم الركون إلى الدنيا لأنها تمتلك صفات الغرور ومن نتائجه الضرر وبعد ذلك تمرّ في غير باقية فاللبيب مَن أخذ العبرة، لأنّه علیه السلام وصف حال أهل الدنيا كمن ركبوا مركبا فإذا وصل محطته صاح بهم السائق وأعلمهم وصول النهاية، فالدلالة الإيحائية في هذا الحديث الشريف تُعلن أن لكل حياة نهاية، ونستشف الوظيفة الإرشادية بضرورة الاتعاظ والنأي عن المهلكات التي تأخذ بالفرد إلى الحساب يوم القيامة.

ومن هذه الخصيصة الجمع بين أساليب البلاغة في كلام الإمام علي علیه السلام ومن ثم ارتقاء الكلام إلى مستوى المثل، قوله : (الولايات مضامير الرجال) (1) ، في هذا النص الذي حصل التكثيف في العبارة حتى ارتقى إلى مستوى المثل الصالح لكل زمان ومكان المضامير جمع مضمار وهو المكان الذي تضمر فيه الخيل للسباق، والولايات أشبه بالمضامير، إذ يتتبين فيها الجواد من البردون)(2)، فحصل اجتماع علم المعاني بوجود الخبر الإبتدائي، أي خلو العبارة من المؤكدات مع علم البيان بحضور التشبيه البليغ الذي خلا من الأداة ووجه الشبه ، فاحتُزِلت العبارة وتكاثفتْ حتى صارت مثلاً يصلح لكل زمان ومكان أعطت معنى للمسؤول بأن ولايته ميداناً للسباق نحو الصالح من الأعمال، وفعلاً يكون هذا الأمر للذي يعي أهمية المسؤولية وثِقَل واجبها، لأنّه يجب على المسؤول يكون راعياً لرعيته

ص: 129


1- نهج البلاغة شرح الشيخ محمّد عبده: 4 / 102.
2- المصدر نفسه : 4 / 102 - 103 .

ومؤدياً لأمانته، لذلك قال الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم: (ما من أمير عشرة إلّا وهو يجيء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه حتى يكون عمله الذي يطلقه أو يوقفه)(1)، فالمجاز هنا مجاز عقلي علاقته باعتبار ما كان في الماضي،( وفيها يتم النظر الى الشيء بما كان عليه في الزمن الماضي، أي ينطبق عليه مفهوم الإسترجاع، فيحمل هذا المجاز وظيفة تربوية وارشادية، يراجع السامع نفسه عند سماع هذه الأحاديث ويُسهم سماع الحديث الشريف في تهذيب النفس، ولا يقتصر مفهوم الإسترجاع على هذا النوع من المجاز لكنه يتوغل في كثير من أنواع

البيان، ومثال هذه العلاقة هنا قول الرسول .. فسّماه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أميرا باعتبار ما كان عليه في الحياة الدنيا من إمارة، فحققت العلاقة المجازية هنا النظر إليه بما كان عليه في الزمن الماضي، وهنا يراجع المتلقي نفسه إن كان مسؤولاً ليصحح َمسارَه ويعالَج هفواته لأن حساباً شديداً ينتظره يوم القيامة، وقد حققت العلاقة المجازية وظيفةً حملت النصح والإرشاد والتحذير لمن يتأمر على مجموعة في حياته الدنيوية، فعليه أن ينأى عن الظلم والإجحاف بحق المرؤوسين) (2)، ولنتأمل قوله علیه السلام: (الكرَمُ أَعْطَفُ مِنَ الرَّحِمِ) (3)، نجد هنا الفعل الإبداعي قد تحقق بالتكثيف البلاغي فارتقى الكلام إلى مستوى المثل، بمعنى ( إن الكريم ينعطف للاحسان بكرمه أكثر مما ينعطف القريب لقرابته، وهي كلمة من أعلى الكلام)(4)، وقد تكون التكثيف البلاغي من اجتماع علم المعاني بعلوم البلاغة

ص: 130


1- النهاية، ابن الأثير : 2-207 .
2- الأداء البلاغي في الحديث الشريف: ا.د. صباح عباس عنوز: 88-89.
3- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 54/4 .
4- المصدر نفسه: 54/4 .

الأخرى، فعلم المعاني حضر بالخبر الابتدائي، لأن الكلام خلا من المؤكدات، وفي الوقت نفسه هو مساواة، لأن لفظ الكلام بمقدار معناه، وهنا ظهرت أولى سمات الأنفرادات البلاغية، وحضر علم البيان بالكناية بحسب المكنى عنه، فكانت الكناية عن موصوف والمراد به غير صفة ولا نسبة، فالكرم الموصوف بالعطف أكثر من الرحم، وفي الوقت نفسه نجد علم البديع متققا بمحسناته اللفظية عن طريق الجناس غير التام باختلاف لفظتي ( الكرَمُ ، الرَّحِم ) في أنواع الحروف، فاكتسب النص وقعاً ايقاعيّاً بجرس الألفاظ المتحقق صوتياً في هذا النص، لأنَّ الجرس الألفاظ أهمية في بناء الكلمة ، إذ يرى أرسطو (جمال الكلمات وقبحها ينشأ عن جرسها أو معناها)(1)، ولتآلف الألفاظ اسهاماً جادّاً في توجيه المعنى المرتبط بنفسية المنشيء والمتلقي معاً لإصابة الحجة.

وفي قول الإمام علیه السلام: (نَفَسُ المَرْءِ خُطاه إلى أجَلِه) (2) ، نجد الفكرة الفلسفية الإبداعية التي ترى دنوَّ الإنسانِ من الموت يوميّاً، قد بُنِيَتْ على فعل ابداعيَّ أنصهرت فيه علوم البلاغة، فحضر علم المعاني بالخبر الابتدائي، وبأسلوب المساواة، وأنصه-ر عل--م البيان في السياق نفسه عن طريق التشبيه البليغ والكناية في الوقت نفسه، وجاء عل-م البديع بالمحسنات اللفظية عن طريق حسن الابتداء وحسن التخلص وحسن الإنتهاء والمحسنات المعنوية بوساطة حسن التعليل، فحصل التكثيف البلاغي، وبموجب ذلك ارتقى الكلام في هذا النص إلى مستوى المثل، وقدّم وظيفة تعليمية للمتلقي، أي بمعنى أن (كلّ

ص: 131


1- نهج البلاغة، شرح محمّد عبده: 252 .
2- نهج البلاغة، شرح ابن الجديد، 325/18 ، وظ : نهج البلاغة ، شرح الشيخ محمّد عبد: 16/4 .

نَفَس يتنفّسَه الإنسانُ خطوة يقطعها إلى الأجل)(1)، وعلى وفق هذا الحديث فإن الإنسان يقترب كل ثانية مِنَ الموت، لأنَّ النفس له نهاية وينتهي فالإنسان يسعى في كل جزئية من الوقت إلى نهايته المقطوعة بالموت، فاشتغل التأويل بأقصى طاقته الإيحائية، إذْ أسهم الفعل الإبداعي مرّةً في التكثيف البلاغي في كلام الإمام علي علیه السلام، وتارة في تفعيل خصيصة التفكّر في مضمون النص، فصاب التأويل الدلالة الهامشية - كما سيرد ذكرها لاحقاً - فقد يحدث التأمل والتدبر حين تصاحبُ الدلالة اللفظ عند اطلاقه، فينظر السامع للمعنى بحسب ثقافته، وهنا منحت عبارة (نَفَسُ المَرْءِ خُطاه إلى أجَلِه) فهماً خاصاً للدلالة عند المتلقي بما أوحاه إليه معنى اللفظ، فحصل التأويل، أي تحقق الربط بين المعنى المستور وبين ما لا يدل عليه ظاهر اللفظ ، وفي هذا النص أسهم تراسل الحواس بوساطة مفردتي النَفَسُ وخُطَاه)

في أنتاج هذا المعنى التأويلي بالعدول أو الأنزياح ، لأنّ الإمام علیه السلام استعمل قيما تعبيرية لم تأتي على مألوف التعبير، فحصل الربط بين الادراك الذهني والادراك الوجداني، أي تُدرك خطوات النَفَس )ذهنياً، ويُدرك معنى الموت وجدانيّاً، فكانت الوظيفة تركز بدلالتها على ضرورة التزام الإنسان بقيم الفضيلة التي أرادها الله سبحانه من عباده، وبذلك تتم مراجعة السلوك ومن ثم الابتعاد عن كل ما يعكر صفو الأنسانية، فتداخلت علوم البلاغة في تكوين هذا النص، وصار الكلام محاوراً للعقل الإنساني في كل وقت، ليحقق

الوظيفة الإفهامية، حتّى ارتقى الكلام إلى مستوى المثل .

ونجد الأمر نفسه في كلام الإمام علي علیه السلام: (الدَّجَاجَةُ تَسُلُّ

ص: 132


1- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 16 .

الرّأيَ)(1)، إذْ يقف الباحث على معاني ففعل المضارع (تَسُلُّ) وماضيهسلّ) فيجدها في المعجمات تأخذ معاني تنتزع، وتخرج الرأي وتذهب به أو الخصومة وعدم الإذعان للرأي الصواب (2)، وحتى إذا أخناها بمعنى تسُلّ أصيب بالسل، أو تسرق(3)، فالمعنى البلاغي يكون قوياًّ بدلالته الايحائية، وكان اللجاجة تسرقُ الرأي، أو تصيبه بالمرض، فاللجاجة تعني الخصومة، فهي (شدة الخصام تعصبا لا للحق، وهي تسّل الرأي أي تذهب به وتنزعه)(4)، ففي النص أعلاه تكتفت العبارة حتى لمع المعنى، فحقق السبك الفني اتساقا وتناسقا، وتمَّ ترابطُ الكلام بشقيه اللفظي والنحوي، فأعطى مدلول النص أنسجاماً في التعبير، إذْ انصهرت مكونات الاسلوب في سبك مقصود قام على المكوّن الفكري وهو سبب القول الذي وجده الإمام علیه السلام عند الآخرين، فكان المكوّن قائما على باعث القول، لأنّ هذا النص (الدَّجَاجَةُ تَسُلُّ الرَّأْيَ ) ( مشتق من قوله علیه السلام لا رأي لمن لا يطاع، وذلك لأن عدم الطاعة هو اللجاجة، وهو خلق يتركب من خلقين: أحدهما الكبر، والاخر الجهل بعواقب الأمور)(5)، ثم جاء المكون النصي أو الأسلوبي أداءً يحمل هذه الرسالة الفكرية للسامع، وهنا جاء دور الفعل الإبداعي في كلام الإمام علي علیه السلام مراعياً سبك الكلام مع دلالته، لأن السبك معنيُّ ( بإحكام علاقات الأجزاء،

ص: 133


1- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 42
2- ظ :القاموس الفيروز آبادي، المطبعة الحسينية، القاهرة، 1330ه-: 1/ 205، وظ: جمهرة اللغة ابن دريد، طبعة حيدرآباد، 1345 ه-، 1 / 254 ، وظ : معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي مادة (سل)ُّ.
3- ظ : معجم المعاني مادة (سلُّ).
4- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 42 .
5- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد: 18 / 412

ووسيلة ذلك إحسان إستعمال المناسبة المعجمية من جهة، وقرينة الربط النحوي من جهة أخرى) (1)، فأنتج الفعل الإبداعيٌ تكثيفاً بلاغيّاً في النص أعلاه وصولاً إلى الوظيفة الافهامية، فصار هذا الكلام مثلاً ارتقى إلى مستوى المثل.

فتجلّى المكون التواصلي الذي قام على المستوين الفكري والاسلوبي بأبهى صوره محققا الوظيفة التواصلية الاقناعية، لأنه يُعنى بإيصال الدلالة إلى المتلقي بحسب مراعاة مقتضى الحال، إذن يمثل السبك المستوى الخارجي للنص، فجمع الكلام الوظيفة الاجتماعية مع الوظيفة التعليمية بصيغة تركيبية مقصودة راعى الإمام فيها التواصلية مع الآخر، عن طريق وصف مخاطر اللجاجة، فحققت اللغة المعتمدة على الواقع الاجتماعي والبيئي في النص وظيفة افهامية، لأن اللغة (لم تكن مجرد أداة للإيصال والإبلاغ وإنما هي بيئة للتواصل والتفاعل بين المتكلمين الذين هم فاعلون لغويون يتبادلون الأدوار ، بحيث أن كل قول يطلقه المتكلم على سبيل الطرح والإقتراح أو القصد والحمل إنما يستدعي فعلاً آخر من جانب السامع على سبيل الفهم والتأويل والتفكيك للعلامات التي هي رسائل حمالة أوجه بقدر ماهي متعددة المعاني والأبعاد) (2) ومن هنا أظهرت اللغة في كلام الإمام اللجاجَةُ تَسُلُّ الرَّأْيَ صورةً حملت

( الدلالة التي أرادها الإمام علي علیه السلام، وهكذا كانت العلاقة وطيدة بين الفعل الإبداعيّ والإنفرادات البلاغية، فبها وبالقدرة الإبداعية على تطويعها في خدمة السياق اللغوي تحقق التكثيفُ البلاغيُّ بناءً

ص: 134


1- البديع بين البلاغة العربية اللسانيات النصية، دجميل عبد المجيد: 79-78.
2- العلم ومأزقة منطق الصدام ولغة التداول، مكتبة شغف المركز الثقافي العربي، لبنان، علي حرب وظ :، طبعة الدار البيضاء، المركز الثقافي، 2002، 154 .

ودلالةً ووظيفةً إفهاميّةً، فصار هذا الكلام وثيقة تربوية واجتماعيّة ًارتقت إلى مستوى المثل المفيد لكل إنسان في أي عصر ومكان.

ص: 135

ص: 136

المبحث الخامس

إنفرادات الإمام علي علیه السلام البلاغية وعلاقاتها بالعلوم الأخرى

ص: 137

ص: 138

توطئة :

هناك علاقة بين إنفرادادته البلاغية والعلوم الأخرى، إذ تحدّث عنها حديث العارف، ولا غرابة في ذلك فهو ربيب بيت الوحي، إذ امتاز بين السابقين الأولين بأنه نشأ نشأة إسلامية خاصة، وامتاز كذلك بأنه نشأ في منزل الوح بأدق معاني هذه الكلمة وأضيقها) (1)، فقد كان الإمام علي علیه السلام قريبا من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وشاهد اللحظات التي كان ينزل فيها الو. على الرسول الأمين، (وتبصر في هذا التلاحم - الغريب على حياة العرب - بينه وبين الله تعالى، فإذا بنفسه تمتليء غبطة بما يشاهد، وإذا بالرؤى تزدحم عليه فيما يجد حياة روحية خالصة)(2) ، فكان الإمام عارفا بما يعلّمه النبي ويرشده إليه دينياًّ وعلميّاً واجتماعيّاً، فهو امتداد لمدرسته، فاجتمعتْ عند الإمام خصائل علمية لم تجتمع عند غيره بعد الرسول، إذ ( إن عليا لمن عمالقة الفكر والروح والبيان في كل زمان ومكان) (3) ، فقد كان الإمام علي علیه السلام(الجامع الشامل للعلوم والمعارف والآداب، والمتفرد بالشجاعة والفروسية، والصوت المدوي للإنسانية.. فقد جمع بين المتراس والنبراس، وقد أحاطت به الأولية والإنفرادية كما توضحه كلماته في نهج البلاغة)(4)، وبذلك تميّز الإمام علي علیه السلام من أقرأنه في رؤاه الثقافية والفكرية والإنسانية بجوانبها المختلفة، ومنها الرؤى العلمية، وسنتابع هذا الموضوع في التطبيقات الإجرائية الآتية.

ص: 139


1- الفتنة الكبرى، طه حسين: 151/1 .
2- الإمام علي علیه السلام سيرته وقيادته في ضوء المنهج التحليلي، د. محمد حسين الصغير: 16 .
3- تاريخ الفلسفة في الإسلام دي بور، ترجمة محمّد عبد الهادي أبو ريدة، لجنة التأليف والنشر، القاهرة، 1948م : 142 .
4- الإمام علي علیه السلام في الدراسات الاستشراقية، رؤية معاصرة، ا.د. حسن عيسى الحكيم : 10.

تطبيق:

أوّلا: الإعجاز العلمي

لقد تحدّث الإمام علي علیه السلام عن قضايا علمية منها:

أ- وجود المخلوقات في السماء التي أومأ إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: «إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَبُهُمْ وَعَدَّهُمْ عَذَا وَكُلُّهُمْ عَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وَذَا» (1).

وُدًّا نجد في هذا القول اسم الموصول (من) الذي يُستعمل للعاقل جاء في الآية المباركة للعاقل وغير العاقل في السماوات والأرض. فالعلماء قالوا السماء أكبر من السماوات وهي ثلاث سماوات الأثيرية، والغازية المحيطة بالأرض والمادية ويقصد بها الكواكب والنجوم والكواكب السيارة حول الشمس (الزهرة والمريخ والأرض وغيرها)، والدليل على أن السماء أكبر من السماوات قوله تعالى: ﴿«وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ »(2)، وقوله تعالى: سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ (3)، إذ إنه سبحانه لما جاء بكلمة (السماوات) قال: « عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ »)، فجعل المكان للمتقين وهم قلة، ولما جاء ب (السماء) وهي أعم قال: (عَرْضُهَا

ص: 140


1- سورة مريم: 93-96 .
2- سورة آل عمران : 133.
3- سورة الحديد: 21 .

كَعَرْض السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ))، فالمؤمنون أكثر من المتقين، فلا يكون المتقى إلا مؤمنا، أما المؤمن فقد لا يكون متقيا، ثم هناك( سارعوا) تتناسب مع القلة بينا سابقوا تتناسب مع الكثرة لأن الذي يسرع في السباق يفوز، ثم جاء بكاف التشبيه، لأن السماء أعرض بكثير من السماوات.

عوداً على رؤية الإمام علي علیه السلام وإنفراداته بلاغياً في هذا الجانب فهو يؤكد وجود مخلوقات في السماء، فقد قسم الملائكة على أربعة أصناف(1) ، تدخل الحذف والتشبيه المقترن بالكناية تعريضاً ليفهم السامع الكلام من فحوى النص، إذ قال علیه السلام: ثم فتق ما بين السموات العُلا فملأ هن أطواراً من ملائكته، منهم سجودٌ لا يركعون، ورُكوعٌ لا ينتصبون ، وصافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون))(2)، في هذا النص الذي حفل بعلوم البلاغة، إذْ حضر علم المعاني بأسلوب الاخبار والوصل، وجاء علم البيان بأساليبه محققاً الصور الحركية والسمعية، فضلاً عن البديع ببعض أنواعه، فحصل التميّز والتفرّد.

وفي موضع آخر من خطبته اجتمعت علوم البلاغة لتقدم نصّا علميّاً أدبيّاً في آن واحد، فقد قال علیه السلام الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون ولا يؤدي حقه المجتهدون.... فطر الخلائق بقدرته ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه، أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به... أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداءً... ثم أنشأ سبحانه فَتْقَ الأجواء، وشقَّ

ص: 141


1- الاعجاز القرآني ، رسالة الحقيقة لكل زمان ومكان د صباح عباس عنوز، دار الصادقين، النجف الأشرف، 2021م، 89 .
2- نهج البلاغة ، شرح الشيخ محمّد عبده : 19/1 .

الأرجاء وسكائكَ الهواء، فأجرى فيها ماءً متلاطماً تياره، متراكماً زخٌارُه، حَمَلَهُ على متن الريح العاصفة، والزَّعْزَع القاصفة.. وأجرى فيها سِراجٌ مُسْتَطِيراً، وقمَرَاً مُنِيراً، في فَلَكٍ دائِرٍ، وسقْفٍ سَائِرِ، ورقيم مائِرٍ ، ثمَّ فَتَقَ ما بين السماواتِ العُلاَ، فملاهُنَّ أطواراً مِنْ مَلائِكَتِه ... والمناسبة لقوئم العرش أكتافهم، ناكِسةٌ دونَه أَبْصَارُهُمْ، مُتَلفَعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ ، مَضروبة بينهم وبينَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ العِزّةِ وأشتارُ الْقدْرَةِ. لا يَتَوَهّمُونَ رَبَّهُم بالتصوير، ولا يُجرون عليْهِ صِفَاتِ المَصْنوعينَ ، ولا يَحدُّونَه بالأَمَاكِن، ولا يُشيرونَ إِلَيْهِ بالنَّظَائِرِ ) . (1)، إن المتأمل في هذه الخطبة يجد أيضا اجتماع علوم البلاغة كلها، أي جاءت أنواع علم المعاني متمثلة بالخبر وأنواعه والوصل والفصل والمساواة والايجاز، وجاءت كل أساليب البيان متمثلة بالاستعارة والتشبيه والمجاز والكناية، فضلاً عن علم البديع بمحسناته المعنوية متمثلة بالتورية وحسن التعليل، ومحسناته اللفظية متمثلة بالجناس وقدرته الايقاعية في إضفاء الجرس الموسيقي في أطواء النص، وحضر الاقتباس بالمعنى وحسن الابتداء وحسن التخلص وحس الإنتهاء، فكان كل قسم من أقسام علوم البلاغة وحدة عضوية، فتآلفت هذه الوحدات لتكوّن وحدة موضوعية فتآزرت الأنفرادات البلاغية مع العلمية ليرتقي الكلام إلى وثيقة

علمية أدبية في آن واحد، وهذا الأمر يؤيد من قال: كلامه علیه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي) (2)، فقد تحدّث علیه السلام هنا عن الخلق نشأة وابتداء من العدم، ثم تتالت مراحل الخلق لهذا الكون، وقد طابقت رؤية العلم

ص: 142


1- نهج البلاغة، تحقيق، الشيخ محمّد عبده، مكتبة النهضة، بغداد: 1/ 17-20.
2- نهج البلاغة: تحقيق الشيخ محمّد عبده: مقدمة الشريف الرضي: 11 .

الحديث مع ما ورد في القرآن الكريم حول خلق الكون، والذي بخطبة الإمام علي علیه السلام السابقة )(1) ، فقد وجدنا الإنفرادات البلاغية المقترنة بالإنفرادات العلمية، فقد تكلم الإمام علي علیه السلام عن خلق الكون بإسلوب أدبي متميز، فرأى الكون كان سدياً أو دخانا ثم خلق الله السماء والأرض، وقد أكد العلم الحديث في هذا الجانب رؤية الإمام علیه السلام (2)، إذ قدّم معرفة علمية للمتلقي بأرقى قيم الكلام التعبيرية، فتمّتْ المواءمة بين الشكل والمضمون بلمسة خارجة عن قدرة المبدعين الآخرين، فحصل التميز والتفرد في كلامه.

ب- الشمس مصدر الضوء :

إنّه علیه السلام أول من نبّه في خطبته إلى أن الشمس مصدر الضوء، وأن ضوء القمر إنعكاس لسقوط أشعة الشمس كما قال العلم به الآن، فضلاً عن إشارته إلى دورة الفلك أو الرقيم الذي هو اسم من أسماء الفلك، فقد قال كناية عن موصوف كلاما يُفهم من السياق وأجرى فيها سراجا مستطيراً، وقمرا مُنيرا في فَلَكٍ دائر، وسقف سائر ورقيم مائر)(3)، (الرقيم : اسم من أسماء الفلك، لأنه مرقوم بالكواكب ومائر : متحرك، ويفسر الرقيم باللوح، وشبه الفلك باللوح لأنه مسطح فيما يبدو للنظر )(4) ، وقد حضر في الخطبة علم المعاني بفائدة الخبر

))، الابتدائي، وعلم البيان بكل أنواعه، وعلم البديع بمحسناته اللفظية والمعنوية ، فظهر التميّز والتفرّد في الكلام، وبذلك يُعدّ الإمام علي علیه السلام

ص: 143


1- الاعجاز القرآني رسالة الحقيقة لكل زمان ومكان، د صباح عباس عنوز، دار الصادقين، 2021م، 88 .
2- المصدر نفسه: 87 .
3- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده: 1/ 19.
4- المصدر نفسه: 1/ 18-19.

قد نبّه إلى هذه المسألة العلمية مبكّراً، واتصفت فرادة كلامه بالجمع بين علوم البلاغة والجوانب العلمية بأسلوب بلاغي حفل بأصالة الرؤية العلمية وأصالة البناء البلاغي للنص، فظهرت فرادة اللغة مع الصورة المبتكرة.

ص: 144

ثانيا :الاتجاه النفسي والوظائف التربوية :

تطالعنا أحاديث الإمام علي علیه السلام وهي توميء إلى قضايا نفسية كثيرة تحقق وظائف تربوية، فقد أوضح الجوانب النفسية المتعشقة ع الوظيفة التربوية معاً في أحايين كثيرة، فمن المعروف أن النص البشريقائم على قوانين لغوية تأخذ دلالاتها من خصائص اللغة المعيارية المرتبطة بالمجتمع، لإتاحة عملية التواصل مع المتلقي)(1)، إذ تقوم عملية التلقي في وقتها بسبب باعث معين، إذ يُمهّد لها البعدُ، فتُفصح التواصلية عن غايةً المتكلم، أنها تحمل وظيفةً إقناعيةً يرومها المتكلم، وهنا تتم مراعاة مقتضى حال المتكلم والمخاطب معا، فأيُّ نص أدبي هادف يحمل قصدية المتكلم بوصفها ردَّ فعل على موقف القائل من واقع معيش، وتمثل في الوقت نفسه بوحاً لوجدان المتكلم، فيتجلى مفهوما الرفض أو

الاستجابة لأحداث ذلك الواقع، والمتأمل في أحاديث الإمام علي علیه السلام يجد الوظائف التربوية والتعليمية والعلمية والإقناعية والجمالية والنفسية وغيرها مرافقةً لفحوى النصوص، ومنها قوله علیه السلام: (تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه) (2)، فهنا إشارة واضحة إلى أهمية بدء الكلام الخارج من المتحدث لأنه يُفصح عن اهتمامه به أو بالإستهلال، فالمتكلم يهتم بما يخرج أول مرة بالكلام الذي يعتمل في صدره، إذ يمثل الإستهلال أول دفقة كلامية، وبالتأكيد هو مهم، وقد أسموه العرب سابقاً بحُسن الإبتداء، وهو يمثل اللبنة الأولى في بناء للنص الأدبي، وقد أكد الإمام علي علیه السلام أهميته قائلا: (ما أضمر

ص: 145


1- اعجازية التكوين الأسلوبي في النص القرآني ا.د صباح عباس عنوز، 21 . 93/4 .
2- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 93/4 .

أحدٌ شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفات وجهه)(1)، فحصل هنا التفرّد بالرؤيا والتأصيل للإتجاه النفسي، وانطلق التعبير إلى أقاصي الخيال المرء مخبوء تحت لسانه)، فالخيال يمنح الصور الفنية شكلاً موحياً يرومه المتكلم ليحمل وظيفة اقناعية للمتلقي، لأنه (القوة السحرية التي توفق بين صفات متناثرة، تظهر أشياء قديمة مألوفة بمظهر الجدة والنضارة... إنه اجتماع حالة غير عادية من الإنفعال بحالة غير عادية من النظام) (2)، إذ إن للخيال أثراً ( في ادراك الجزئيات المتناثرة من الأفكار وربطها لتشكيل وحدة فنية متكاملة) (3)، فكان الاتجاه البلاغي في قوله علیه السلام: تَكَلَموا تُعْرَفُوا فَإِنَّ المَرْءَ تَخْبُوهُ تَحْتَ لِسَانِه) متكوّناً من علم المعاني بإسلوب الأمر عن طريق الفعل (تَكَلَمْوا) ، فخرج سياق الأمر للإباحة تارة، لأن الكلام يبيح لك معرفة المتكلم ، فضلاً عن وجود أسلوب المساواة فقد تساوى اللفظ والمعنى، وفي الوقت نفسه حضر الاطناب عن طريق الايغال، أي ختم النص بنكتة بلاغية أو ومضة معنوية (تَكَلَموا تُعْرَفُوا)، وحضر اسلوب الفصل أي كان بين الجملتين كمال الأنقطاع خبرا وأنشاء لفظا ومعنى، وفي السياق نفسه حضر اسلوب الشرط فكانت الأداة محذوفة، وتقدير الكلام: إن تتكلموا تعرفوا ، وهنا بين الإمام سبب هذه الحكمة فجاءت تتمة الحكمة فَإنَّ المَرْءَ عُجُوءُ تَحْتَ لِسَانِهِ)، إِذْ

ربط التعبير بالفاء، فجاء اسلوب التوكيد بخبر طلبي، ما هذه البلاغة المتفردة؟!!! ، ومما يؤكد قمّة الأنفرادات البلاغية حضور البيان بإسلوب الكناية بالتعريض، فضلاً عن اسلوب البديع

ص: 146


1- المصدر نفسه: 6/4.
2- تمهيد في النقد الأدبي، روز ،غریب دار المكشوف، بیروت، 1971م : 89.
3- الصورة الشعرية عند خليل حاوي، هدية جمعة البيطار، نشر هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2010م : 21 .

بإسلوبي حُسن الابتداء وحُسن التعليل، وبذلك حصل التميّز والتفرّد في كلامه علیه السلام، فأدى تعبيره وظائف تربوية ونفسية في آن واحد، إذ أظهر القول أهميَّةَ الكلام الذي يعتمل في الصدر، ويجيش في أطواء النفس، ويُعَدُّ الإمام علیه السلام مؤصلاً لهذه الرؤية النفسية عند العرب، لأننا إذا تناولنا آراء البلاغيين العرب نجد بعضٌ منهم قد حذا حذْوَه، فَخصّوا مصطلح براعة الإستهلال بالمنظوم، وذهبوا إلى أحسن الإبتداءات ما ناسب المقصود، وهنا وضع البلاغيون شروطاً للاستهلال، منها: ينبغي أن يأتي بأعذب الألفاظ، وأجزلها وأرقها وأسلسها، وأحسنها نظما وسبكا، وأصحها مبنى، وأوضحها معنى، وأخلاها من الحشو والركة والتعقيد(1) ، فالإستهلال يتحد مع حسن التخلص وحسن الإنتهاء تحت مظلة الوحدة الموضوعية، إذ يتلمس الباحث ذلك الإنسجام التام والوحدة الموضوعية في كلامه فكان نصُّه كلاً منسجها، حكَمْته وحدة حيوية وشعورية وموضوعية وموقف من الوجود، وتداخلت الضمائر والكلمات في سدى نصُّه، إذ لم نجد هفوة في البناء العام للسياق وهذا يعني أنها نفثة وجدانية صدرت من نفس واحدة في زمان واحد .. صياغة، اسلوباً وفنّيةً)(2).

وعوداً على قول الإمام علي علیه السلام نجد الرؤية النفسية تتمثل في عملية الكلام منذ انطلاقها، لإن بدء الكلام يأخذ بالمتلقي إلى التفاعل النصي، ولاسيما في الإستهلال الذي يراه (جينيت ) المصطلح الأكثر تداولا(3)، فحققت الكناية بالتعريض وظيفة نفسية تشي عن

ص: 147


1- ظ :خزانة الأدب وغاية الأرب، إبن حجة الحموي، القاهرة ، 3،51403. وظ: أنوار الربيع في أنواع البديع، ابن معصوم المدني، تحقيق شاكر هادي شكر ، النجف 1380ه - 1960م، 34/1.
2- نهج البلاغة صوت الحقيقة، دراسة اثباته في ضوء النص النقلي وماهية المنجز الفني، د. صباح عباس عنوز: 90 .
3- ظ : عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص عبد الحق بلعابد: 112 .

ما ينطمر في النفوس قبل تدفّق الكلام مِنْ صاحبِهِ (تكلموا تُعرفوا)، ونجد أيضاً علم المعاني بالخبر الطلبي عضّد هذه الرؤية، لأن المتلقي احتاج إلى مؤكّد ليطمئن نفسيّا إلى الكلام فجاءت (إن) في قوله فَإِنَّ المَرْءَ مَحْبُوءُ تَحْتَ لِسَانِه)، فأدت العبارة وظيفة نفسية تعليمية وفي الوقت نفسه، وهكذا نجد اجتماع علوم البلاغة اجتماعاً متوازناً وانصهارها معاً لتقديم المعنى الذي أراده الإمام علیه السلام من دون خلل أو نقص في الدلالة، فتعاضدت جميعها لتشكيل معنى له وظائف علمية، كما في هذا النص أعلاه، إذ أظهرتْ إنفرادات الإمام علیه السلام علاقتها بالعلوم الأخرى ولاسيما الإتجاه النفسي، فحققت وظائف

تربوية.

ومن كلام الإمام علي علیه السلام الذي يحق وظائف تربوية تزدوج مع الوظيفة النفسية قوله: (الحِلْمُ وَ الْأَناةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُو الهِمَّةِ)(1)، أكد الأداء البلاغي القائم على علم المعاني بالجملة الاسمية وخبرها الجملة الأسمية فضلاً عن علم البيان بالتشبيه البليغ وعلم البديع بمحسناته المعنوية في حسن التعليل ، فلماذا هما توأمان لأن عُلُو الِهِمَّةِ يُنْتِجُهُمَا ، فتوضحت الوظيفتان التربوية والنفسية في الكلام، لأن المعنى يؤكد ذلك، فالمعنى : حبس النفس عند الغضب والأناة يريد بها التأني، والتوأمان المولودان في بطن واحد، والتشبيه : الاقتران والتولد من أصل واحد)، وكل هذه الأمور تنمّي الطاقة الايجابية عند الانسان الذي يتمتع بذلك، لأن للتنمية البشرية تأثير في حياة الأنسان فهي تنمّي قدراته وطاقاته الروحية والعقلية والنفسية والبدنية، فيواجه متغيرات الحياة عبر نظرة عميقة حكيمة، ولا

ص: 148


1- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 105 .

ينكص عنها، بل يتواصل مع الآخر )(1)، وبذلك يحقق كلام الإمام علي علیه السلام الاتجاه النفسي بجوانبه الايجابية عند المتلقي، فالهمة إن أخذت مسارها الصحيح، فإنها تثمرُ الحِلْمَ الأناة، ومن ثم فإنها تُسهم في تفعيل الدوافع الايجابية عند الأنسان، وتصوّب رؤيته نحو ما يرومه.

ومن الأمور التي وجدناها في أقوال الإمام علیه السلام وتهدف إلى مراعاة مسألة التلقي وتنبىء عن اتجاه نفسي قوله: (قيمة كل آمريء ما يُحسنه)(2)، وعلق الشيخ محمّد عبده حول هذه العبارة قائلا: (وهذه الكلمة التي لا تُصابُ لها قيمة، ولا تُوزن بها حكمةٌ، ولا تُقرن إليها كلمة) (3)، فالإتجاه البلاغي تكون من الأداء البياني متمثلاً بالكناية التعريض وعلم المعاني بالخبر الإبتدائي الخالي من المؤكدات، ومن الإنفرادات البلاغية في كلام الإمام علي علیه السلام وعلاقاتها بالإتجاه النفسي تمثلت في قوله : (الغيبة جهد العاجز)(4)، فالإتجاه البلاغي تمّ بالأداء البياني بوساطة التشبيه البليغ، إذ تساوى المشبه (الغيبة) والمشبه به (جهد العاجز)، وهي ايماءة نفسية واضحة تساوي بين الغيبة وجهد العاجز الذي لايقوى على فعل قيم الفضيلة، وكذلك جاء الكلام بعلم المعاني بالخبر الإبتدائي الذي خلا من المؤكدات، فهو لا يحتاج إلى ما يؤكده، لأن الغيبة فعل شين يقوم به العاجز عن فعل الخير، فالعاجز ينتقم من عدوه، لأنه لا يقوى نفسياً على المواجه، لذلك جاء الوصف بالتشبيه البليغ

ص: 149


1- مدرسة الإمام الصادق علیه السلام ودورها الإنساني، محمّد صادق السيّد محمّد رضا الخرسان: طبع الكلمة الطيبة، النجف الأشرف، العراق، نشر دار البذرة، 1434ه- - 2013م: 63 .
2- نهج البلاغة ، شرح محمّد عبده : 4 / 18.
3- نهج البلاغة ، شرح محمّد عبده : 4 / 18.
4- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 106.

والخبر الخالي من المؤكدات.

ومن الإنفرادات البلاغية في كلام الإمام علي نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 106. وعلاقاتها بالإتجاه النفسي، والذي يقدّمُ وظائف تربوية قوله : (إمش بدائك ما مشى بك)(1)، بمعنى مادام الداء سهل الإحتمال يمكنك معه العمل في شؤونك فاعمل، فإن أعياك فاسترح له)(2) فبيانياً جاء الكلام بالمجاز العقلي بعلاقة سببية، لأن الكلام جاء من طريق المعنى والمعقول في الجملة (إمش بدائك وليس من طريق الكلمة في اللغة هو كناية تلويح تشير إلى غيرك من بُعد في الوقت نفسه، وهو في علم المعاني أنشاء طلبي جاء بفعل الأمر (إمش) الذي خرج إلى النصح الإرشاد، وبذلك توضح الإتجاه النفسي للسامع وقدّم ل-ه وظيفة تربوية تحثه على كتمان ما يتعرض له مادام الأمر سهلاً،

فإن أتعبه فعليه أن يستريح ، لكي لا يكون احدوثة للآخرين. ويدخل ضمن الإتجاه النفسي قوله : (أفضل الزهد إخفاء الزهد ) (3) ، فهنا خبر ابتدائي بالنسبة لعلم المعاني و كناية بالتعريض عن عدم التبجح بالنفس، وهنا بديع بالجناس، فأدى كلامه وظيفة نفسية تربوية، كالتي نتلمسها في قوله: (ثَمَرةُ التفريطِ الندامةُ ، وثَمَرةُ الحزم السلامة ) (4) ، فبالكناية تعريضاً ، وبعلم المعاني بالخبر الإبتدائي قد حث على النأي ومغادرة التفريط في كل جوانب الحياة فحصيلة ذلك الندم، في حين ترافق السلامة التأنّي، وهذه وظيفة تربوية تدخل ضمن الإتجاه النفسي في أقواله نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 106. ، ومثل ذلك قوله: (رب

ص: 150


1- المصدر نفسه : 6/4.
2- المصدر نفسه: 6/4.
3- المصدر نفسه: 6/4.
4- نهج البلاغة ، شرح الشيخ محمّد عبده : 43/4 .

قول أنفذ من صَوْلٍ) (1) هنا كناية عن موصوف، فالصول السطوة، فكان القول حكمة تصلح لكل الأزمنة والأمكنة، وهي إيماءة لرؤية نفسية في الوقت نفسه تؤكد سطوة القول أحياناً، فعلى المتكلم مراعاة حال السامع.

ج- إنفرادات الإتجاه البلاغي والعلوم النقدية الحديثة:

إذا أوغلنا في الموروث العربي نجد جذور البلاغة تغور في طي

الأزمان ، ويكفي أن نقف على قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام (40 ه-) عندما عرّف البلاغة، فهو أول من عرَّفها بقوله: (البلاغة إفصاح قول عن حكمة مستغلقة وإبانة عن مشكل)(2)، وعرّف البليغ : ( ما رأيت بليغا قط إلا وله في القول إيجاز وفي المعاني إطالة)(3)، وقد أومأ ضمنا إلى التعبير حين قال : ( البلاغة إفصاح قول عن حكمة مستغلقة وإبانة عن مشكل )(4) ، فالإفصاح يقوم على آليات التعبير للقول ومن ثم تتبعه الإبانة، ونجد الأمر نفسه عند الإمام الحسن علیه السلام ( 50 ه-) حين عرف البلاغة (بتقريب بعيد الحكمة بأسهل العبارة ) (5)، وعرّفها أيضا : (البلاغة ايضاح الملتبسات وكشف عوار الجهالات بأسهل ما يكون من العبارات ) (6)، ومن ثم عرف العلما البلاغة بعد الإمام علي علیه السلام، فهو يعد الرائد في ذلك، إذ وجدنا له

ص: 151


1- المصدر :نفسه 94/4 .
2- كتاب الصناعتين، أبو هلال العسكري، تحقيق محمّد البجاوي ومحمّد أبو الفضل إبراهيم، ط2، القاهرة 1971م : 58 .
3- المصدر نفسه: 180.
4- المصدر نفسه: 58 .
5- كتاب الصناعتين أبو هلال العسكري: 58 .
6- المصدر نفسه : 58 .

تعريفين مختلفين ومثال على ذلك الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام فهو في الأوّل نشد الوظيفة التعليمية وتمسك بالناحية النافعة من القول فلم يخرج البلاغة عن معناها اللغوي (الإفصاح والإبانة)، أما في التعريف الثاني فقد أشار إلى قضية من صميم خصائص اللغة ويعتمد في تعريفه على ابراز طاقة من طاقاتها الكامنة وهي الطاقة الإيحائية) (1) فضلًا عن ذلك فقد تحدّث عن قضايا تمس شغاف العلم والنقد وغير ذلك.

فمثلاً تحدثت المصادر النقدية عن نظرية العلامة، وأرجعتها إلى نقاد غربيين في العصر الحديث كما سنرى لاحقاً، ولكن الباحث الفَطِنَ المتأمل يجد الأمر ليس كذلك، فإنه في حقيقة الأمر أنّ معنى العلامة أو ما يدل عليه ورد في القرآن الكريم إذ جاءت لفظة (سيماهم) في قوله تعالى: «سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ »(2)، وإذا تتبعنا أصولها في الموروث النقدي العربي وجدنا الإمام علي علیه السلام قد ذكرها لفظا في قوله : (الخط ،علامة، فكلما كان أبين كان أحسن) (3)، فكان التشبيه بليغاً، وأرى هذا النص أوّل إشارة إلى أهمية موضوع العلامة التي تؤكدها النظرية السيميائية ، فهو أوّل من أطلق هذا المصطلح فجعل الخط علامة فسّماها صراحة، ولم يذكر البلاغيون ذلك، بل نسبوا هذا الأمر إلى الجاحظ (256ه-) بأنه أول من قال بالخط، حين تحدّث عن دلالة البيان على المعاني، فحدد مدلوله وفصّل أدواته فرآها خمسة أشياء وهي: اللفظ والإشارة والعقدة

ص: 152


1- ظ : التفكير البلاغي عند العرب، حمادي صمود: 114.
2- سورة الفتح : 29 .
3- كنز العمال، الهندي: 10 / 312 .

والخط ثم الحال التي تُسمّى نُصبة)(1)، وإذا دققنا في المعجمات العربية نجد إشارة إلى هذا المعنى لاحقاً، فقد رأى ابن فارس (395ه) لفظة (سوّم) تدل على معنى ( العلامة تجعل في الشيء، والسيما مقصور من ذلك، قال تعالى: «سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ »(2) ، فإذا مدوه قالوا السيمياء)(3)، ويقال: {إن أصل (اسم) سمو، وهو من العلو، لأنه دلالة على المعنى فهي تدل على أثر ومعْلم تقول وسمّت الشيء وسما : أثرت فيه بسمّة، والوسمّي أول المطر، لأنه سم الأرض بالنبات، وسمّي موسم الحاج موسوما لأنه معلم يجتمع إليه الناس، وفلان موسوم بالخير، وفلانة ذات ميسم، إذا كان عليها أثر الجمال، والوسامة : الجمال، وقوله تعالى: (إِنَّ في ذلك لآيات لِلْمُتوسّمين (4) }(5)، وقال ابن الأنباري (328ه-) في قولهم (سيما فلان حسنة): (معناه علامته، وهي مأخوذة من وسمت الشيء أَسِمُهُ إذا أعلمته .. قال الشاعر:

غلام رماه الله بالحسن مقبلاً له سيمياء لا تشقُّ على البصرْ

كان الثريا عُلقتْ فوق نحره وفي جيده الشعرى وفي وجهه القمرْ

فزاد على (سيما ) ألفاً ممدودة، ومعنى الحرف في مده كمعناه في قصره) (6) وبهذا المعنى تلتقي الرؤية المعجمية العربية مع الرؤية

ص: 153


1- ظ :فنون بلاغية، د. أحمد مطلوب : 15 - 20 ، وظ مصطلحات بلاغية، د. أحمد مطلوب، 69 - 74 ، وظ : البلاغة والتطبيق : 254 .
2- الفتح / 29 .
3- معجم مقاييس اللغة احمد بن فارس: 3/ 119 .
4- سورة الحجر : 75 .
5- ظ: مقاييس اللغة احمد بن فارس: 3/ 98-99 .
6- الزاهر في معاني كلمات الناس : 2/ 145 .

الأجنبية، ويرى باحث هذه الرؤية ترجع إلى النواة اللغوية اليونانية القديمة (1) ، ومهما يكن من أمر فالعلامة مفهوم يستعمل من أجل نقل معلومة أو قول أو اشارة إلى شيء ما، وهي تعد جزءاً من سيرورة ابلاغية تُدرك في حدود وجود سنن ثقافية، وتتكون من عنصرين: (الدال والمدلول) ويشكل ذلك كنه المعنى، إذ يرى (سوسير) هناك وحدة أساسية للبنية اللسانية وهي التي تصنع النسق ويطلق عليها اسم (العلامة sign)، وتعني اتحاد الدال والمدلول (2). لقد اهتم (دي سوسير) بالعلاقات التي تربط سدى النص وتتبع نظاماً معيناً تكون فيه الكلمة على علاقة مع الكلمات السابقة واللاحقة لها، فيكون لها اسهاماً في تكوين المعنى ترتيبيا وعلاقته، ويرى الكلمات خزينا لغويا يكوّن لغة كل متكلم (3)، وهكذا تمنح العلامة التعبير أهمية بوصفها كلمة أو رمزاً في السياق، لأنّها تضيء السياق دلالياً بأنضمامها إليه، فهي تقوم على الأبعاد الدلالية أي علاقتها بما تدل عليه، والتركيبية أي: قدرتها على الإنطواء داخل مقاطع النص، والتداولية :أي: بما تقدمه من معنى من خلال وظيفتها اللغوية، ويتحقق ذلك حين تكون الكلمة مختارة بعناية فيؤدي التحام وجودها بالتكثيف الدلالي معنى فنياً مقصود الوظائف، وهذا ما ألفناه في الحديث الشريف) (4) قال الإمام علي علیه السلام : (وأشْرَفُ الغِنَى ترك المنى)(5)، بمعنى: المنى - بضم ففتح - جمع منية

ص: 154


1- ظ: السيميائية وفلسفة اللغة، امبرتو إيكو، 39 .
2- ظ : علم اللغة العام فردنيان دي سوسير ترجمة يوئيل يوسف عزيز، مراجعة مالك المطلبي بيت الموصل، 1988م: 84.
3- ظ : علم اللغة العام 118 .
4- الأداء البلاغي في الحديث الشريف: 42 - 43 .
5- نهج البلاغة، شرح محمّد عبده : 4 / 48 .

وهي مايتمناه الإنسان) (1)، لقد تتعدد وظائف التعبير في كلام الإمام علي علیه السلام، وتتجلى التواصلية مقرونة بالتفاعل مع المتلقي لتعليمه ، تبصيره بأمور الدنيا، وفي هذا النص جاء التعبير قائما على الجمع بين علم المعاني بالخبر الإبتدائي الذي خلا من المؤكدات، وبين البديع بالجناس الناقص الذي اختلف الحرفان في الوسط الغين والميم ( الغِنَى، المُني)، وبالكناية تعريضاً، إذ يفهم الكلام من السياق، فتمَّ الجمع بين الوظائف التربوية والاتجاهات البلاغية، فحثَّ التعبيرُ المتلقيَ على تفعيل العقل والتأمل والمقارنة ومن ثم التدبّر في أمره، حتى يختار المسار الصحيحَ في حياته، فكانت الكلمة علامة في التعبير منحت السياق معاني ايحائية، ونجد الأمر نفسه في قول الإمام علي علیه السلام (بقيَّةُ السَّيْفِ أَبْقَى عَدَدَاً وأكثَرُ وَلَدَاً) (2) بمعنى:

(بقية السيف هم الذين يبقون بعد الذين قتلوا في حفظ شرفهم ودفع الضيم عنهم ، وفضلوا الموت على الذل فيكون الباقون شرفاء نجداء، فعددهم أبقى وولدهم يكون أكثر، بخلاف الأذلاء فأن مصيرهم إلى المحو والفناء) (3)، نشاهد الإتجاه البلاغي قد رسم بعلم البلاغي بالخبر الإبتدائي، وبعلم البيان بالكناية تعريضاً، فكانت كلمة (السَّيْفِ )علامة دارتْ حولها دوائر المعنى، وقدَّمتْ بأنضمامها للسياق معنى تجلّى فيه مفهوما الإستباق والإسترجاع بالمعنى، لأنهم فضلوا الموت على الذل في حينه، فكانت الأفضلية لهم مستقبلاً، فعدد ذريتهم أبقى وأكثر، بخلاف الطرف المعاكس فأن مصيرهم آيل إى الزوال. ومن ذلك قوله : (عَجِبْتُ لَنْ يَقْنَطُ

ص: 155


1- المصدر نفسه 48/4 .
2- نهج البلاغة ، شرح محمّد عبده : 19/4.
3- المصدر نفسه: 19/4.

وَمَعَهُ الإِسْتِغْفَارُ) (1) ، فالإستغفار درع حصين للمستغفر، إذ ورد عن الإمام أبي جَعْفرِ مُحمّد بن عليٌ الباقر (عليهما السلام) أنه قال : { كان في الأرضِ أمانانِ مِنْ عذابِ اللهِ وَقَدْ رُفِعَ أحدُهُما فَدُونَكُمُ الآخَرَ فتَمَسَّكُوا بِهِ أمَّا الأمانُ الذي رُفِعَ فَهُوَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله وسلم وَأَمَّا الأَمَانُ الباقي فالإسْتِغْفَارُ ، قال تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » (2)، (وهذا من محاسنِ الإِسْتِخْراج ولَطَائِفِ الإِسْتِنْبَاطِ ) (3) ، وعوداً على قول الإمام علي علیه السلام فإنه تعَجَبَ من الذي ييأس ومعه التوبة، فعلى الإنسان أن لا ييأس من لطف الله ورأفته، وقد جاء الإتجاه البلاغي جامعا بين علمي المعاني بالخبر الإبتدائي، وعلم البيان بالكناية تعريضا، إذ يُفهم الكلام من السياق، فحقق التعبير وظائف نفعية للسامع، إذ نجد دائماً الوظائف الإرشادية وغيرها في الحديث الشريف، فضلاً عن ما تحققه (من وظائف جمالية ودلالية وايحائية، وصلت السمة الفنية في الحديث الشريف عبر الأداء البلاغي بأنواعه إلى أقصى طاقاتها، جامعةً غرض القول والمواءمة بينه وبين أنتقاء النوع من الأداء البلاغي مرة ، والجمع بين أداء بلاغي وآخر من أساليب البيان أو علم المعاني أو البديع مرة أخرى من دون أن يؤثر ذلك في دلالة الحديث الشريف المقصودة) ((4)، فكانت كلمة الإسْتِغْفَارُ) علامةً، لأن المعنى تَمَّ بها، فقوله علیه السلام: عَجِبْتُ لَنْ يَقْنَطُ وَمَعَهُ...) أي شيء؟ يأتي الجواب (الإستغفار)

ص: 156


1- المصدر نفسه 19/4.
2- سورة الأنفال: 33.
3- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده: 19/4 - 20 .
4- الأداء البلاغي في الحديث الشريف: أ.د. صباح عباس عنوز : 42-43 .

فكانت الكلمة علامةً ، لأن العلامة مفهوم يستعمل من أجل نقل معلومة أو قول أو اشارة إلى شيء ما، وتتكون من اتحاد الدال والمدلول في اطار النسق ليتشكل بذلك صميم المعنى، وهكذا شاهدنا الكلمات في الأحاديث الشريفة قد منحتْ النصوص دلالات ايحائية.

د- الإتجاه الأخلاقي وترويض النفس.

يظهر مفهومان في عملية الإبداع الأدبي هما سيكولوجية الأدب و سيكولوجية الجمهور، ونعني بسيكلوجية الأدب الدراسة النفسية للكاتب بوصفه نموذجاً وفردا، أو دراسة عملية الإبداع، أو دراسة الأنماط والقوانين التي توجد في الأعمال الأدبية، أما سايكولوجية الجمهور فنعني بها آثار الأدب وتأثيره في قرائه (1) ؛ لأنّ دراسة عملية الإبداع أو دراسة الأنماط التي تدرس في العملية الإبداعية تهتم بدراسة فرعين هما : السايكلوجية والفن. إذ تتكون الأنماط من السايكلوجية التي نستشفها من تأثير الرواية في المجتمع والفن وهما اتجاهان تربویان ملازمان لدراسة الأدب (2)، فهناك علاقة بين الأدب والمجتمع والنظرية الأدبية، لأن الأدب مؤسسة اجتماعية أداته اللغة التي هي من صنع المجتمع، فضلاً عن الوسائل التقليدية فهي اجتماعية في صميم طبيعتها (3)، ثم يأتي الأدب والأفكار بما يتضمنه الشكل من معنى مؤثر ، فعلى الدارس للأدب من الداخل أي المضمون أن يعرف ما يتضمه من موضوعات مختلفة الأغراض،

ص: 157


1- ظ :نظرية الأدب أوستن وأرين ورينيه ويليك ترجمة محي الدين صبحي، مراجعة حسام الخطيب، مطبعة ،الطرابيشي، 1392ه- ، 1972م : 101 . .
2- المصدر نفسه: 101.
3- المصدر نفسه: 119.

لأن المتكلم يقصد حضورها في نصه.

وقد أخذ الدرس التربوي في أقوال الإمام علي علیه السلام حيّزاً مهماً، إذ نجد الوظيفة التربوية تعضّد الجانب الأخلاقي كثيرا، ومن ثم فإن هذا الإهتمام يقدّم وظيفة نفسية للسامع ، فقد قال علیه السلام: لا طَاعَةَ

له ( لمخلوقِ في مَعْصِيةِ الخَالِقِ)(1) ، فنجد الإتجاه الأخلاقيَّ يركّز على تربية النفس وحثها على طاعة الله سبحانه وتعالى، فطاعته عز وجل لا تدانيها أي طاعة، فكيف إذا كان الإنسان مطيعا لإنسان آخر وهو في خضم المعاصي، وأن هذا المخلوق على علم بذلك: فالنهي هنا جاء على وجه الإستعلاء والإلزام، فاتفق مع الأمر في الإستعلاء واختلف معه بأنه دال على المنع ، بينما يدل الأمر على الطلب، وفي موضع آخر قال علیه السلام:( مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كانَتِ الخِيَرَةُ بِيَدِهِ) (2)، بمعنى (لو : أسر عزيمة فله الخيار في أنفاذها أو فسخها، بخلاف ما لو أفشاها، فربما ألزمته البواعث على فعلها أو أجبرته العوائق التي تعرضُ له على فسخها، وعلى هذا القياس ) (3)، فقد تحقق المعنى باجتماع اسلوبي علم المعاني باسلوب الشرط، وعلم البيان بالكناية تعريضاً، وتجلّت الوظيفتان التربوية والنفسية معاً، ومن ذلك قوله في وصيته المحمّد بن الحنفية: (إلقِ عنك واردات الهموم بعزائم الصبر فنعم الخُلُقُ الصبر، واحملها على ما أصابك من أهوال الدنيا وهمومها)(4)، فقد خرج الإنشاء الطلبي باسلوب الأمر إلى غرض مجازي هو الوجوب أي كان أمراً واجباً، فقد قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » (5).

ص: 158


1- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 41 .
2- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 41 .
3- المصدر نفسه: 41/4 .
4- الوسائل ج 3ح/208/11.
5- سورة آل عمران: 200.

ومن الإتجاه الأخلاقي في تربية النفس وترويضها نطالع التفاتات الإمام علي علیه السلام العلمية التي تؤكد الإتجاه الأخلاقي في تربية النفس وترويضها، وقد نظرتْ إليها العلوم التربوية بأن محاسبة النفس أجدى نفعا من محسابة الآخرين، لأن تقويم الفرد لنفسه وتثقيفها من الإعوجاج يبدأ من نفسه، إذ إن محاسبة النفس أقوم وأجدى قال علیه السلام:( من أصلح سريرتَهُ أصلحَ اللهُ عَلَا نِيَتَهُ، وَمَنْ عَمِلَ لِدِينِهِ كَفاهُ أمر دنياهُ. وَمَنْ أَحْسَنَ فِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله كفاهُ اللهُ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ النَّاسِ) (1)، فإصلاح سريرة : اسم وجمعها سَرائر، السريرة : ما يُكْتَمُ ويُسَرُّ ، وطيب السريرة: طيب القلب، صافي النية (2)، يؤدي الى تعاضد علما المعاني بأسلوب الشرط، وعلم البيان بأسلوب الكناية في إظهار المعنى، وجاءت الوظيفة التربوية واضحة، لأن معاينة الإنسان لتصرفاته ومحاورة

ومن الإتجاهات الأخلاقية المهمة في تربية النفس وحتّها على عدم التقهقر أمام قول الحق، قال تعالى: «وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » (3) ، أي لا تخلطوه به، وقد قال الإمام علیه السلام في موضع آخر بالخبر المؤكد والكناية تعريضاً : (لا يُقيمُ أَمْرَ الله سبحانَهُ إلا مَنْ لا يُصانِعُ ولا يُضارعُ ولا يَتَّبِعُ المطامِعَ)(4)، فالمعنى لا يصانع أي لا يداري في الحق، والمضارعة المشابهة، والمعنى أن لا يشتبه عمله

ص: 159


1- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 99/4 .
2- ظ : معجم المعاني الجامع، (تعريف ومعنى سريرة).
3- سورة البقرة: 42 .
4- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 26 .

بالمبطلين، واتباع المطامع الميل معها المطامع وإن ضاع الحق) (1) .

فقد تحدث الإمام علي علیه السلام عن للمرائين الساكتين عن قول الحقيقة العلمية، الّذين يتلفظون بها ولا تظهر في سلوكهم، إذ قال علیه السلام: أوضَعُ العلم ما وق-ف على اللسان، وأرفعه ما ظهرَ في الجوارح والأركان) (2)، فالمعنى: أوضع العلم أي أدناه ما وقف على اللسان ولم يظهر أثره في الأخلاق والأعمال، وأركان البدن أعضاؤه الرئيسة كالقلب والمخ ) (3) ، فأظهر الوظيفة التربوية ميزة مهمة ينبغي أن تتمثل في أخلاق القائل وأعماله، فهنا بيان بالتشبيه التمثيلي وعلم المعاني بالمساواة، وتمت الوظيفتان التربوية التعليمية والنفسية، حتى يعي المتكلم المتكلم أهمية نشر العلم، إذ إن( بذل العلم زكاة العلم )(4) و

(زكاة العلم نشره)(5) ، فيجب أن لا يقف العلم على اللسان. ومن انفراداته البلاغية التي تنضوي تحت الإتجاه الأخلاقي في تربية النفس ملاحظة ظاهرة يقوم بها المدعون، المتبجحون بالعلم الممتلؤون فراغاً، إذ وصفهم إمامنا علیه السلام قائلاً: (رُبَّ عالِم قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ، وَعِلْمُهُ مَعَهُ لَا يَنْفَعُهُ ) (6)، أي ( هو العالم الذي يحفظ ولا يدري، أو يعلم ولا يعمل، أو ينقل ولا بصيرة له ) (7)، فالإتجاه البلاغي لهذا القول كناية عن ما ورد

ص: 160


1- المصدر :نفسه 4 / 26 .
2- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 20/4 .
3- نهج البلاغة، شرح محمّد عبده: 20/4 - 21 .
4- غرر الحكم: 4436 .
5- غرر الحكم، ودرر الحكم 5444 .
6- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 25 .
7- ظ: المصدر نفسه : 4 / 25 .

عدم السكوت عن قول الحق من انفرادته البلاغية الوصف

الذي يرتقي إلى مستوى المثل والصالح لكل زمان و مکان مثل وصفه الساكتين عن الحق، فمثلا جاء قوله علیه السلام بالتشبيه والكناية والبديع معاً، فأصبح الكلام مَثَلاً يصلح لكل زمان و مكان: مثل قوله واصفاً البرج بن مسهر الطائي: (فو الله لقد ظهر الحق فكنتَ فيه ضئيلاً شخصُكَ، خَفِيّاً صوتُكَ، حتى إذا نَعَرَ الباطل نَجَمْتَ نُجومُ قَرْنَ الماعز ) (1)، أي كناية عن هزولك وضعفك في قول الحق، وتشبيها إذا نَعَرَ الباطل أي صاحَ، ونجمت : ظهرتَ وبرزت، والتشبيه بقرن الماعز التي تظهر فجأة على غيرِ شور (2)،

ثم تجد الطباق في ظهر خفي والجناس في نجمت ونجوم، لأنه علیه السلام أكد في موضع آخر بالخبر والكناية (من صارع الحق صرعه)(3)، نستقريء من النص استمرار الصراع بين الخير والباطل، وعند التأمل في البناء الفني لهذا النص، نرى قيام الأداء البلاغي فيه

على اجتماع علوم البلاغة، كما هي الحال في أقوال الإمام علي علیه السلام التي تؤكد فرادة اسلوبه وأصالته، فَبُنِيَ علم المعاني على اسلوب الشرط، لأنه دل على تلازم جملتين فارتبطتا بوساطة الأداة (مَنْ)، فجملة الشرط فعلية، كان فعل الشرط فيها ماضياً (صَارَعَ الحَقِّ)، وأنَّ جوابها جملة فعلية أيضاً، فعلها ماض (صرَعَه)، وقد تحققت جملة جواب الشرط (صرَعَهُ) لتحقق جملة فعل الشرط (صَارَعَ الحَقَ)، وفي السياق نفسه نجد علم البيان متحققاً بالكناية تعريضاً، أي يحصل المتلقي على معنى مفهوما من السياق ايحاء، فهناك اشارة

ص: 161


1- نهج البلاغة ، شرح الشيخ محمّد عبده: 2/ 114-115.
2- ظ :المصدر نفسه: 2/ 114 - 115 .
3- المصدر نفسه: 95/4 .

تفي بالغرض الذي يتحقق في ذهن السامع وكانه ومضة دلالية ثمَّ نجد علم البديع متحققاً بالمحسنات اللفظية عن طريق الجناس غير التام، وذلك بزيادة أكثر من حرف (صَارَعَ)، (صَرَعَهُ)، فهنا (تشير الحكمة إلى معنى كنائي تعبيري يوحي بشيء من التفصيل، وأن على الإنسان أن لا يستقوي ولا يستعلي على مراكز الحق كيفما كانت وأينما كانت لأنّه لو تغلب عليها بالقوة البدنية والعضلية والعقلية والتخطيطية فإنها حتما تتغلب عليه عندما لا تنفعه قواه البدنية والعضلية والتخطيطية) (1)، فتجلى الإتجاه الأخلاقي في تربية النفس وترويضها في أقواله علیه السلام، وكثيرة هي أحاديثه في هذا الجانب، فقد يطول الكلام عنها، وليس بمقدور أحد أن يلمَّ بإنفراداته في هذا الجانب أو غيره، مالم تنبري مؤسسات مكونة مجموعت من الباحثين ليدرسوا كلامه على وفق منهج علمي رصين.

ه-- إنفرادات الإتجاه البلاغي وعلاقته بالتأمل الفكري وأنواع

الدلالة وفنية القول

إن فهم النص من حيث طبيعته الخاصة وعلاقته العامة بوظيفة القول يرتبط بإعمال الفكر وصولاً إلى المراد، إذ إن الوظيفة الأولى والرئيسة للنص يجب أن يحقق القصدية على وفق مراد المتكلم ومن هنا يأتي التأمل الفكري مهما لأنه يلج أطواء النص بحثاً عن غاية المتكلم، فبالتأمل الفكري يتتم فهم المضمون، معرفة مكونات الشكل بجوانبه الفنية ومعرفة الاجناس الأدبية، والصواغة، ومن ثم فهم الغاية المركزية للنص الأدبي بوصفه يُسهم في حل اشكالات المجتمع واشكالات الإنسان، فتأتي الدلالات بأنوعها، لتسهم في

ص: 162


1- أخلاق الإمام علي ، محمّد صادق السيّد محمّد رضا الخرسان: 1/ 380.

عملية تثوير الفكر والوصول إلى قصدية المتكلم، مثل:

1 - الدلالة الصوتية والإيقاع :

التي تعمل مُوَاءَمة بين التكوين الإسلوبي للنص و بين حروف البناء الخاص بالكلمة من خلال وجودها في السياق إذ تستمد الدلالة الصوتية نغمتها و جرسها من طبيعة الأصوات، فتوحي بوقع موسيقي خاص يستنبط من ضم الحروف بعضها إلى بعض، فتعطي الحروف مجتمعة لفظاً موسيقياً خاصاً يمنحها الخصوصية بجرسها الخاص المؤثر في الحس والوجدان، إذ لا يمكن لأي ناقد تجاهل دوراً للموسيقى في عملية الإبداع؛ لأنّ التشكيل الموسيقي في مجمله يخضع مباشرة للحال النفسية والشعورية التي يصدر عنها النص، و في هذا الاعتبار ( صورة موسيقية متكاملة تتلاقي فيها الأنغام وتفترق، محدثة نوعاً من الإيقاع الذي يساعد على تنسيق مشاعره وأحاسيسه) (1)، وبذلك ترتبط الموسيقى في أي نصارتباطاً وثيقاً بحركة النفس وتموجاتها، وبحركة الأنفعال وذبذبته)(2)، لأنّ المنشيء يستعمل الكلمات استعمالاً خاصاً من شأنه أن يبرز جوانبها الوجدانية ومضامينها العاطفية، ويمكن أن نصل إلى هذه النواحي عن طريق دراسة صلة الكلمات بمدلولاتها الاجتماعية، فللكلمات لها معانيها ومغزاها ، وبتفاعلها مع نصوصها التي وجدت فيها تتضح لنا قيمتها الوجدانية فضلاً عن مضمونها الفكري)(3)، لأنّ اختيار الكلمات يخضع لسيطرة شعور، وبذلك تكون الوحدة الحيوية نتاج

ص: 163


1- الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، د. عزالدين إسماعيل: 63 .
2- لغة الشعر العربي الحديث د. السعيد البيومي الورقي233.
3- عضوية الموسيقى في النص الشعري، عبد الفتاح صالح نافع ، مكتبة المنار، الأردن، ط2، 1985 م: 36 .

التحام المشاعر مع الدلالات الخارجية لمفردات في النص؛ وبذلك قال هيجل ( أن العمل الفني يؤلف بين عناصر عقلية وعناصر حسية، ومن ثم فإنّ الفنان يستعين بعقل إيجابي نشط وحساسية حية عميقة )(1) ، ويحاول المتكلم الحفاظ على وحدة النص منذ بدء انطلاقه في الفعل الإبداعي على الرغم من مهاجمة الأفكار لذاكرته وذلك من خلال إقامة العلاقات بين عناصر النص، وبذلك يكون حضور الشعور المكثف طاقة أخرى يوظفها المتكلم على تماسك وحدة النص، وعن طريق التداعي ينزع المنشيء إلى الحصول على كمية كبيرة من الشعور يودعها نصه، لأن التداعي نتيجة تطرأ بعد التفاعل بين النفس والوقائع الخارجية وما يقفز إلى الذهن من رؤى؛ لأنّ ما يقوم به التداعي هو أشبه ما تقومه الجاذبية في الموجودات المشتتة حيث يقوم بعملية الاستدعاء اللاشعوري لمحتويات الذات الكامنة)(2)، وعن طريق التوليد للأفكار وتفاعلها مع نفسية المتكلم تتحققُ وحدة الشعور اللوني فهي تأسس على تلازم وتكاثف الأجزاء الشعورية الحاصلة من إنسجام العواطف مع الأفكار، فالدلالة الصوتية تثمر إيقاعاً يحققُ مُوَاءَمة بين التكوين الإسلوبي للنص و بين حروف البناء الخاص بالكلمة من خلال وجودها في السياق، إذ تستمد الدلالة الصوتية نغمتها و جرسها من طبيعة الأصوات الداخلة في أطواء السياق المختار لحمل الدلالة، وسنرصد هذه الفكرة في أحاديث الإمام علي علیه السلام، فلنتأمل قوله : (سُوسُوا إِيمَانَكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَصِّنُوا أَمْوَالَكُم بِالزَّكَاة وَادْفَعُوا أَمْوَاجَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ) (3)، فمن إنفرادات الإمام

ص: 164


1- الأسس النفسية للإبداع الفني، د. مصطفى يسويف: 188.
2- تداعي الوعي في الشعر الجاهلي ناصر اسطنبول جامعة وهران، الجزائر، 1986م: 168 .
3- نهج البلاغة، شرح محمّد عبده : 4 / 35.

علیه السلام : ( في الإتجاه البلاغي أنه جمع بين الفنية والوظيفة الإفهامية والإرشادية في عملية التلقي ومراعاة وظائف الكلام، فخرج الأمر مثلا إلى النصح والإرشاد، فنجد أساليب البلاغة حاضرة بعلم البديع جناساً، وبعلم البيان بوساطة الكناية تعريضاً، وبعلم المعاني بوساطة الإنشاء الطلبي بفعل الأمر الذي خرج إلى النصح والإرشاد بأفعال الأمر : سُوسُوا وَحَصِّنُوا ادْفَعُوا فقدم الغرض المجازي وظيفة تربوية إفهامية ، وقال علیه السلام: (مَا أَكثَرَ العِبَرَ وأَقَلَّ الإِعْتِبَارَ)، فنجد هنا المُوَاءَمة حاضرةً بين سياق النص وحروف الكلمات التي قام عليها بناء الجملة، فاكتسبتت الدلالة الصوتية نغمتها و جرسها وأوحت بوقع موسيقي خاص، عمله تكرار الراء العِبَرَ ، الإعْتِبَارَ)، فكان علم البديع حاضراً بالجناس الناقص، أي اختلاف اللفظين في أعداد الحروف، وبالتضاد أو طباق الإيجاب وهو الجمع بين لفظين مثبتين متضادين في كلمتي أكثَرَ وأَقَلَّ)، حضر علم المعاني بالإنشاء غير لبي بوساطة إسلوب التعجب، بصيغة ( ما أفعل) (مَا أكثَرَ وأَقَلَّ الإِعْتِبَارَ)، فأعطت الحروف مجتمعة لفظاً موسيقياً خاصاً منح التعبير خصوصية اتسمت بجرسها الخاص المؤثر في الحس و الوجدان، فتجلّت إنفرادات الإتجاه البلاغي وتوضَّحت علاقته بالتأمل الفكري و الدلالة الصوتية، وأنعكس ذلك على فنية القول.

فحققت القدرة اللغوية الوظيفة الاقناعية بمطابقة الصوت للمعنى، فالتعبير الذي يراعي حضور الصوت في النص يُيسّر الاقناع ، بتآلف اللفظ مع المعنى، وبذلك جعلت( الالفاظ أدلة على إثبات معانيها لا على سلبها)(1)، وهكذا نجد الأنفرادات البلاغية

ص: 165


1- ابن جني، الخصائص: 3/ 100.

اجتمعت مع الايقاع، لتؤدي أصالة وابتكاراً في أقوال الإمام علي علیه السلام. الأمر الذي أنتج لنا في هذا الحديث وظائف اجتماعية ونفسية وفنية معاً، فارتقى الابتكار في كلام الإمام إلى مثل يحاور العقول في كل زمان ومكان.

ص: 166

2 - الدلالة الاجتماعية

وهي الدلالة التي تستقل بها الكلمة عما سواها بما توحيه من فهم خاص بها، أي هي دلالة لغوية في حدود العُرف العام بما يكون متبادراً إلى الذهن منها عند الإطلاق وقد يطلق عليها اسم الدلالة المركزية التي يسجلها اللغوي في معجمه فمرجعها التبادر العام في العُرف العربي بما يعطي للكلمة من دلالة خاصة، إذْ قال علیه السلام: (أيُّها الناسُ شُقّوا أمواج الفِتَنِ بِسُفِنِ النَّجَاةِ..)(1)، فدلالة الاستعمال للفظتي أمواج وسُفن) دلالة اجتماعية إذ تأتي كلمة (أمواج )في مناط استعمال كلمة (البحر)، ولكن الموقف هنا أخذ حكمةً ووظيفة تربوية وفنية، فالتربوية تمثلت بالنصح والإرشاد، والفنية تمثلت بالعدول حين عَدِلَت الكلمتان( أمواج وسُفن) بإضافتهما (أمواج الفِتَنِ، سُفِنِ النَّجَاةِ) فحصل أنزياح أنتج صورةً فنية قامت على إنفرادات الإتجاه البلاغي الذي قامت تكويناته الأسلوبية على علم المعاني بإسلوب الإنشاء الطلبي، فكان النداء ب(أي) المضافة إلى المخاطب، ثم فعل الأمر (شُقّوا) الذي خرج إلى غرض مجازي هو النصح والإرشاد، فضلاً عن حضور علم البيان بالكناية تعريضا، وعلم البديع بالتورية في عبارة (أمواج الفِتَنِ بِسُفِنِ النَّجَاةِ)، إذ ظهر معنى كانت دلالته خفية احتاجت إلى تأويل وتأمل فكري ، فأسهمت الإتجاهات البلاغية في تفعيل التأمل الفكري وكانت المهيمنة فيه الدلالة الإجتماعية، فإنعكس هذا الأمر هذا بتفاصيله على فنية القول.

ويجد الباحث كثرة الدلالات الإجتماعية التي تأسست على

ص: 167


1- نهج البلاغة، شرح محمّد عبده : 1 / 40 ..

إنفرادات الإتجاه البلاغي في نصوص الإمام علي علیه السلام، وعبّرتْ عن الحال النفسية ثم أدّت وظائف اجتماعية، فالدلالة الإجتماعية هي دلالة لغوية في حدود العُرف العام بحسب ما يتبادر إلى ذهن المتلقي عند إطلاق اللفظ، أي هي الدلالة المركزية التي تستقل بها الكلمة عما سواها بما توحيه من فهم خاص بها، كما في قوله علیه السلام: (الحِلْمُ عَشِيرَةٌ) (1) ، فهنا تكثيف الكلام بأداء بلاغي تم بالتشبيه البليغ المركب، فالمشبه عقلي (الحِلْمُ) والمشبه به حسي (عَشِيرَةٌ)، وتمَّ بعلم المعاني بوساطة الخبر الإبتدائي، إذ خلا من المؤكدات، فكلمة ( الحِلْمُ) لها دلالة اجتماعية، أي لها إستعمال لفظي خاص ولكنها في مناط استعمال آخر، أي أن( خُلق الحلم يجمع إليك من معاونة الناس لك ما يجتمع لك بالعشيرة، لأنه يوليك محبة الناس فكانه عشيرة) (2)، لأنّ معنى الحِلْمُ : الأناة وضبط النفس والعقل، وجمعه : أحلام وحلوم ) ، فالحلم خلاف الطيش، وهو ضبط النفس (3) والتحكم بها في لحظات الغضب، و لأهمية الحلم فقد اشتقت منه صيغة الحليم وصارت اسماً من أسماء الله الحسنى، وعوداً على قول الإمام علي علیه السلام:( الحِلْمُ عَشِيرَةُ ) نجد العبارة ارتقت إلى مستوى المثل وصارت حكمةً ، فكانت وظيفة النص تربوية وفنية في آن واحد، فالتربوية تمثلت بالنصح والإرشاد، والفنية تمثلت بالعدول حين عَدِلَت الكلم (الحِلْمُ ) إى معنى آخر فحصل أنزياحٌ أنتج صورةً فنية قامت على إنفرادات الإتجاه البلاغي الذي قامت تكويناته الأسلوبية على علم البيان بالتشبيه البليغ المركب من العقلي

ص: 168


1- نهج البلاغة، شرح محمّد عبده : 4 / 98 .
2- نهج البلاغة ، شرح محمّد عبده : 98/4 .
3- ظ :معجم المعاني الجامع (الحلم).

والسي، وبعلم المعاني بوساطة أسلوب الخبر الإبتدائي فضلاً عن حضور علم البديع بالتورية في كلمة (الحِلْمُ)، لأنه ظهر معنى آخر لها کانت دلالته خفية فاحتاجت إلى تأويل وتأمل فكري فإسهمت الإتجاهات البلاغية في تفعيل التأمل الفكري وكانت المهيمنة فيه الدلالة الإجتماعية، فأنعكس هذا الأمر هذا بتفاصيله على فنية القول، ولأهمية (الحِلْم) فقد جاءت مفردت حليم (خمس عشرة مرة) في القرآن الكريم اقترنت منها بالمغفرة والعلم والرشد والغنى والشكر والإنابة أوّاه منيب) أي دعاء مترحم، قال تعالى : «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ » (1) ، ولأهمية الحِلْمُ أيضاً فقد قال الإمام علیه السلام في موضع آخر قال أيضا: (الحِلمُ غطاء ساتر ، والعقل حسام قاطع) (2)، بإسلوب البيان بوساطة التشبيه البليغ المركب من العقلي والحسي، وبعلم المعاني بالخبر الإبتدائي، فتحققت الدلالة الإجتماعية عندما استقلت بها كلمة (الحِلْمُ) بما منحته من ايحاء وفهم خاص بها في هذا السياق لغوياً في حدود العرف العام، وعلى وفق ما تبادر إلى الذهن من معنى يخص السياق هذا، فكانت الدلالة المركزية منحت مفردة (الحِلْمُ ) دلالة خاصة تحققت بإنفرادات المكونات البلاغية وعلاقتها بالتأمل الفكري وفنيّة القول.

-3- الدلالة الهامشية

هي التي تصاحب اللفظ عند اطلاقه فتكسب دلالة معينة يفيد منها السامع بحسب تجاربه، أو أي هي التي تجري مجرى الفهم

ص: 169


1- سورة التغابن : 17 .
2- نهج البلاغة، شرح محمّد عبده : 99/4 .

الخاص بما يوحيه معنى اللفظ ، و هي أكثر التصاقاً بالتأويل، أي ترتبط بما لا يدل عليه ظاهر ،اللفظ ، فتحمل في طياتها العدول و تعتمد على التخصص في تمكينه من الاستنتاج أي تجري مجرى الفهم الخاص عند كل متلق، فهي مجال مجال خصبٌ لمختلف الاجتهادات لذلك فرّعوها أي (قسموها) بحسب تخصص المتلقي فمثلاً:

اللغوي: ينظر نظرة جانبية بحسب حروف المعجم العربي فيحقق بذلك ضالته في تأكيد هذا الجانب من الالفاظ، أي لا ينظر الا لحروف الالفاظ و كيف كوّنت حروف الهجاء.

النَّحْوِيُّ: ينظر الى النص من جانب تخصصه، أي يفيد النّحوي من النص بحسب التخريجات و توجيه المعنى أداءً بحسب قصدية النص،

فنظر الى ما تولده الدلالة الهامشية من معنى بحسب تخصصه.

المُنْطِقِيُّ: ينظر الى النص أيضاً من وجهة نظره المحدد بين التصور و التصديق، وهكذا، فبالتأمل الفكري تتم الاستعانة بأساليب الثقافة في تفسير العمل الادبي، ومعرفة الاتجاهات النفسية، والاتجاهات الأجتماعية والاقتصادية، والتاريخية، والفلسفية، بالتأمل الفكري يحدد المتلقي الفَطِن العمل الإبداعي، لأنه أحد أطراف ثلاثة في العملية النقدية هي: النص، ومنشئ النص، والمتلقي وهو السامع والمتأمل، وهذا العمل كله يسمى بنظرية التواصل التواصلية) ، فهناك البعد الفكري أي ما يعن للمنشئ في أول مرة، ثم يأتي البعد التكويني، ويسمى أيضاً بالبعد الإسلوبي، ثم البعد التواصلي ، لأن التواصل يحقق فهم غايات النص بسبب التفاعل مع عناصر مكونات النص المتعددة، فيتهيأ التأمل والتفكير لدى المتلقي المتلقي هو الذي يستطيع أن يركز على أساليب المبدع التي صنعت المعنى ويرجع به الى المعجمات، وإلى الأساليب النحوية

ص: 170

فيقف عند التركيب السياقي بشقيه الظاهري، والتوليدي، فيتأمل القارئ المتأمل عمَّا يُثيره النص من المعاني الواردة في التعبير فيخطو بوساطة تحليل النص على وفق الثقافات التي يشكلها شكل النص ومحتواه، وهنا تأتي قيمته ممّا يأتي به المضمون مؤثراً في السامع، فقد يؤول النص كما فعل الرمزيون وأصحاب نظرية الفن للفن، وينظر اللغوي نظرة جانبية فعملية أنتاج العمل الإبداعي تعتمد عناصر يوظفها المنشيء، ومن ثم يستنطق السامع المتأمل دلالتها الهامشية أو غيرها بحسب وجودها في نصّه معتمداً على العناصر التي

يستعملها المتكلم من لغة وعاطفة وخيال وفكر لهذا السبب اتج النقاد الى مناقشة ثنائية اللفظ والمعنى، أو الشكل والمحتوى، ومن هذه الرؤية يمكن أن نقف عند تميّز كلام الإمام علي علیه السلام بإنفراداته البلاغية الخاصة وعلاقتها بالتأمل الفكري وأنواع الدلالة وفنية السياق في نصوصه، وقد ذكرنا سابقاً ان فهم النص من حيث طبيعته الخاصة وعلاقته العامة بوظيفة القول يرتبط بإعمال الفكر وصولا إلى المراد، ومن ثم يستعمل المتلقي أدواته النقدية التي اكتسبها بالمعرفة والمهارة، ليستنتج تفاعل الذات المبدعة مع الواقع المعيش ؛ لأنّ المبدع لا يكتب إلا بسبب واقع خارجي، وسنقف عند قول الإمام علي علیه السلام :( نَفَسُ المرء خُطاه إلى أجله)(1)تحقق المعنى بالأداء البياني بالتشبيه التمثيلي، وبعلم المعاني بالخبر الإبتدائي الذي خلا من المؤكدات، فكانت الوظيفة علمية نفسية تعليمية تربوية فلسفية بتأمل فكري، لأننا حين نتنفس إنما نعد لحظات من أعمارنا تقترب من النهاية، فتحققت القصدية بإنفرادات التكوين البلاغي وعلاقته بالتأمل الفكري، وأنعكس الفعل الإبداعي على فنيّة القول، لأن

ص: 171


1- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 16 .

الدلالة الهامشية. هي التي تصاحب اللفظ عند اطلاقه فتكسب دلالة معينة يفيد منها السامع بحسب تجاربه من الجانب اللغوي أو النحوي أو المنطقي، فهي التي تجري مجرى الفهم الخاص بما يوحيه معنى اللفظ ، و هي أكثر التصاقاً ،بالتأويل، فالخطى تسير إلى مثابة مقصودة لكنها هنا سارت إلى الأجل، وهذا هو المنطق، لأنّ الناس يقترب من أجله كلما مرَّ يومٌ من حياته، وعلى وفق هذا التحليل يأتي قوله علیه السلام: (الهَمُّ نصفُ الهَرَمِ )(1)، فكلمة (الهم) حققت هنا نصف

(الهرم) أو الكبَر ، فعلمياً يسهم (الهَمُّ) في حرق الخلايا الجسمية وله دور في تسريع الشيخوخة، وقد رسم البيان البلاغي بالتشبيه البليغ والكناية معاً، وبالخبر الإبتدائي في علم المعاني، وهذه الحال من انفراداته علیه السلام بالجمع بين أساليب البلاغة أو الجمع بين أدائين في علم ،واحد ، فسارت الدلالة الهامشية مجرى الفهم الخاص بما منحه معنيا اللفظين (الهَمُّ و الهَرَمِ)، فبانفرادات الإتجاه البلاغي وعلاقته بالتأمل الفكري والدلالة الهامشية تحققت فنية القول، ونجد الأمر نفسه في قوله علیه السلام: (أفيضُوا في ذِكْرِ الله فَإِنَّهُ أحسنُ الذِّكْرِ ) (2)، فقد تحقق الإتجاه البلاغي بالخبر الطلبي لوجود أداة التأكيد (إنّ) وبإسلوب الإنشاء الطلبي بفعل الأمر (أفيضوا) الذي وخرج إلى غرض مجازي هو النصح والإرشاد، وتم الاسلوب البياني بالكناية رمزا بكلمة (الذِّكْرِ ) وتعريضاً بما منحه السياق من معنى للمتلقي، فاشتغلت الدلالة الهامشية أيضا وقدمت وظيفة تربوية للمتلقي، إذ تحقق الأسلوب البلاغي بالجمع بين أنواع الأداءات في الاسلوب الواحد من جهة، وبين العلوم البلاغية مجتمعة من جهة أخرى، وقد وردت أنواع البديع بمحسناته اللفظية والمعنوية في أحاديثه مع علمي المعاني والبيان، ففي قوله علیه السلام( إذا ازدحم الجواب خفي

ص: 172


1- المصدر نفسه: 34/4.
2- نهج البلاغة، شرح محمّد عبده، 216/1 .

الصواب)(1) بمعنى: ( ازدحام الصواب تشابه المعاني حتى لا يدري أيهما أوفق بالسؤال وهو ممّا يوجب خفاء الصواب) (2) ورد الطب-اق في لفظتي ( ازدحم خفي)، وورد الجناس باختلاف اللفظين في أنواع الحروففي لفظتي (الجواب الصواب)، وورد علم المعاني بأسلوب الشرط، والبيان تعريضاً، فنجد الدلالة الهامشية قد فعلت المضمون قد منحت النص فهماً خاصاً بما أوحته معاني الألفاظ في النص فكانت أكثر إلتصاقاً بالتأويل، ونجد الأمر نفسه

في قوله علیه السلام: و (صحة الجسد من قلة الحسد)(3)، فنجد هنا علم البديع بمحسناته اللفظية متمثلاً بالجناس الناقص باختلاف الحرفين في أنواع الحروف (الجسد، الحسد)، والمحسنات المعنوية بحسن التعليل، وبعلم المعاني بالخبر، فتجلت الوظيفة التعليمية، وحققت الدلالة الهامشية فنية الكلام.

وفي قوله علیه السلام: (الحدَّةً ضربٌ من الجنون) لأن صاحبها يندم،( فإن لم يندم فجُنُونُه مُستحكمٌ) (4)، تعانق أكثر من موضوع بلاغي فجاء البديع بحسن التعليل، والمعاني بالخبر الإنكاري الذي احتاج إلى أكثر من مؤكد، وعلم البيان بالتشبيه البليغ ((الحدة ضرب من الجنون)، والكناية تعريضاً فإن لم يندم فجُنُونُه مُستحكم)، وبذلك

( تجلت الإنفرادات البلاغية وظهرت الدلالة الهامشية مسايرة مجرى الفهم الخاص بما منحه معنى مفردتي (الحدة، الجنون) من علاقة بالتأمل الفكري، فحققت الدلالة الهامشية فنية القول، وأسهمت في منح المتلقي فهماً خاصاً بحسب ما أعطاه معنى اللفظين، فكان

ص: 173


1- المصدر نفسه: 54/4 .
2- المصدر نفسه: 54/4 .
3- المصدر :نفسه 56/4.
4- نهج البلاغة، شرح محمّد عبده : 56/4 .

السياق أكثر إلتصاقاً بالتأويل، ونجد الأمر نفسه في حديثه علیه السلام:(القلبُ مُصحفُ البصر ) (1) فظهرت هذه الوحدة بنية متكاملة لتصبح معياراً دلالياً متأسساً على الوحدة العضوية، وهذه إنفرادة في أقوال الإمام علي علیه السلام، تأمل قوله : ( القلب مصحف البصر )(2). أي ما يتناوله البصر يحفظ في القلب كأنه يكتب فيه(3) ، لقد تحقق الكلام هنا بأداء علم المعاني فقام التعبير بوساطة المسند والمسند إليه، فكان الخبر ابتدائياً، وقُيِّد بالإضافة، فتكامل السياق( ليعطي ومضة دلالية تؤكد أن كل شئ يلتقطه البصر في النظر يرسل إلى القلب لينسطر فيه، أي أن الذاكرة الحافظة التي تعتمد أساساً على الحواس، والبصر منها، إنما يخزن فيها كل ما هو واقع في الفعل المنتمي إلى الحواس، هكذا كانت الوحدة العضوية حاضرة في شد أزر الوحدة الموضوعية إذ تأسست الأخيرة عليها، أي أحكمت الأولى وحدة النص من جهة، ومن جهة أخرى كانت عاملاً مساعداً على إيضاح الدلالة)(4)، فحضر علم البديع بالتورية في مفردة (مُصحفُ)، لأنَّ التورية هي أن يذكر لها معنيان بالإشتراك أو التواطؤ أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية، فيقصد المتكلم المعنى البعيد(5)، وهذا الأمر من ضروب الإعجاز القولي لأنه احتاج إلى تأويل فكان الكلام ملتصقا بالدلالة الهامشية، وحضر علم المعاني بالخبر الإبتدائي الذي خلا من المؤكدات، فقدمت الدلالة الهامشية وظيفة نفعية للمتلقي، لأنها التي تصاحب اللفظ عند اطلاقه

ص: 174


1- المصدر نفسه: 96/4 .
2- نهج البلاغة، شرح ابن ابي الحديد: 20/ 275 .
3- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده : 4 / 96 .
4- نهج البلاغة صوت الحقيقة ا.د. صباح عباس عنوز: 150 .
5- ظ: خزانة الأدب وغاية الأرب، ابن حجة الحموي، القاهرة، 1304ه-، 239 ، وظ: أنوار الربيع في أنواع البديع، ابن معصوم المدني، تحقيق شاكر هادي شكر النجف، 1388ه- - 1968م : 5/ 5 . وظ: الإيضاح، الخطيب القزويني (بإشراف محمّد محيي الدين عبد الحميد)، القاهرة: 353.

فتكسب دلالة معينة يفيد منها السامع بحسب تجاربه، وهي التي تجري مجرى الفهم الخاص بما يوحيه معنى اللفظ ، و التصاقاً بالتأويل ،

ومثل ذلك نجد في قوله علیه السلام: (التقى رئيس الأخلاق)(1)، ففي بناء هذا الحديث الذي ارتقى إلى مستوى المثل قامت شبكات المعنى على البناء نفسه في المسند والمسند إليه المقيد، وكانت الوحدة العضوية ومضة دلالية أيضا تمنح معنى القمة للتقى الذي يتسيد م الأخلاق ) (2) ، ولا ريب في ذلك فأن الله سبحانه أكبر من شأن المتقين ومدحهم. فالمتتبع لأقوال الإمام علي علیه السلام يجد عملية الفعل الإبداعي في أحايثه الإمام قد اعتمدت على عناصر وظفها الإمام خزينه المعرفي المعتمد على العلم الذي يمتلكه من رسول الله النبي محمّد صلی الله علیه و آله وسلم ، فهو باب علمه، فضلاً عن ذلك فقد تميّزت معرفته اللغوية بعمقها، وقدرته البلاغية بسموها، فتربع كلامه على قمة التعبير البشري بعد قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم، فكل عنصر من عناصر كلامه التي استعملها في تعبيره وُسمَتْ بتفوّق ورُقِيٌّ معرفي في اللغة والعاطفة والخيال والفكر، وهنا يأتي دور التلقي أو التواصلية، إذ يستنطق السامع المتأمل دلالات التعبير بأنواعها بحسب وجودها في نصوص الإمام علي علیه السلام ليقف على ثنائية اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون في تعبيره الإبداعي، لأنّ لسياقات كلامه دلالةً فنيّةً خاصةً، ومن هذه الرؤية يمكن أن نقف عند تميّز كلامه من سواه، ونتأمل أنفراداته البلاغية الخاصة، وعلاقتها بالتأمل الفكري وأنواع الدلالة وفنية السياق في نصوصه الحاملة للوظائف النبيلة بأنواعها،

ص: 175


1- نهج البلاغة، شرح محمّد عبده: 96/4 .
2- نهج البلاغة صوت الحقيقة ا.د. صباح عباس عنوز : 150 .

فضلاً عن البناءات الفنية المرسومة بقيم الإبداع العليا، وليس على المتلقي إلّا إعمال الفكر - كا ذكرنا سابقاً - وصولاً نحو القصدية الهادفة إلى تعليم السامع ، لأن فهم النص من حيث طبيعته الخاصة وعلاقته العامة

بوظيفة القول يرتبط بإعمال الفكر وصولاً إلى المراد.

وهكذا وجدنا - بوساطة التطبيق الإجرائي - الفعلَ الإبداعي في كلام الإمام علي علیه السلام يفارق الإنفرادات البلاغية ولا الرؤى العلمية مَعَاً، فأظهرَ كلامه تأصيلاً لتلك العلوم المختلفة وايماءةً إلى مضامينها، بإسلوب ابداعي زاوج بين الفنية الأدبية العالية والمعرفة الموسوعية الفائقة.

ص: 176

الخاتمة

بعد هذه الرحلة البحثية الشيقة تدرّج البحثُ متسلسلاً في ما يبتغيه من أفكار ، فوقف بإيجاز عند مسألة عدم تدوين الحديث، فأكّد وجودَ أمر يكمنُ وراء القول بعدم تدوين الحديث الشريف، وكان غرضُه حجَّبَ أسماع الناس عن فضائل أهل البيت علیهم السلام التي ذكرها الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فيهم.

ثمَّ عرّجَ البحثُ على تمهيد تناول فيه مكانة الإمام علي علیه السلام عند الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم، وتوقّفَ عند محاولات تغییب کلامه علیه السلام وأسبابها السياسية، وقدم البحث رؤيةً عنْ رُقي تعبيره وعُلُو فنيّه. بعد ذلك حاور البحثُ علاقة الفعل الإبداعي بفرادة اللغة والأداء الخاص في كلام الإمام علیه السلام، ومن ثم تناول أثر ذلك في تكوين الوظيفة النفسيّة، فوجد البحث الأداء الخاص لأي منشئ له ساته الخاصة، وأن قوام الأداء الخاص في كلام الإمام علي علیه السلام جاء بوساطة استثمار طاقات اللغة والقدرة الفائقة على تكوين السياقات التعبيرية ودلالاتها الايحائية ووظائفها الكلامية، فكانت ركيزتا الأنزياح والتفرّد اللغوي علامتين مهمتين في سُلّم الرقي التعبيري عنده، إذ هيمنت هاتان الخصيصتان على سياقات كلام الإمام علي علیه السلام، فهما اللتان رسمتا القدرة الإبداعية في كلامه، وبذلك تجاوز الإمام علي الآخرين تعبيريّاً بتميّز ، فحصل هنا التفرّد في الرؤيا النفسية والتأصيل لها. فتجلّى اسلوبه قائماً على فعل إبداعي خاصٌ توطّدتْ علاقته بالفنية والابتكار، فضلاً عن ذلك فقد حصل التلازم بين أجزاء الأداء البلاغي الواحد، ومن هنا تسامى تفرّد الفعل الإبداعي في كلام الإمام علي علیه السلام، وهو ما توقّفَ عنده البحثُ في التطبيق الاجرائي.

ص: 177

إذْ إن الباحث الجاد والمتأمل في أقواله علیه السلام يجدُ التميز الإبداعي الذي لم يرقَ إلى مصافه المبدعون، فقد رصدت المنهجية الإسلوبية كيفيات الكتابة الإبداعية في التجارب الإستثنائية بحثاً عما يجعلها متفردة موصولة بكاتبها ومنتسبة له، ولدى تتّبعي وجدتُ ذلك الإستثناء والتميز في نصوص نهج البلاغة، فقد تآزرت وحدات الفعل الإبداعي وهي: الموقف من الوجود والوحدة الحيوية، ووحدة التلوين الشعوري فربطت وحدة الشعور بين التداعي والحضور والموقف من الواقع المعيش، فتأسسَ الفعل الإبداعي عند الإمام علي علیه السلام أنفرادات بلاغية قدّمتْ سياقات تعبيرية ومضامين فكرية وصوراً فنية، تشكلت عن طريق توليد الأفكار واستدعاء المعاني.

ثمَّ رصد البحثُ علاقة الإنفرادات البلاغية بتشكيل الصورة المبتكرة في كلام الإمام علي علیه السلام، فتوقف عند مهارة الفعل الإبداعي الذي وازن بين تشكيل الصورة وأغراض القول، وهنا بان التفرّد و وظهر الإبداع، فمن المعروف أن المنشىء البشري إذا ركّزَ على المضمون ضَعُف عنده الشكل أو تكوين الصورة، وكذلك العكس، لكننا وجدنا موازنة بين الشكل والمضمون في أقوال الإمام علي علیه السلام، وهذه الحال سمة في عموم الحديث الشريف، الأمر الذي جعل أساطين الكلام والباحثين يصفون كلامه علیه السلام بصفات الثناء والإكبار، فالتعبير في نهج البلاغة بمستوهيه التركيبي والتوليدي ينماز بالإبتكار والإبداع، ويؤدي وظائف مختلفة الإتجاهات بسبل فنيّةٍ عالية الدقة والبناء، إذ تُعد الفنية والإبتكار في نصوص نهج البلاغة من علامات الإنفرادت البلاغية في كلام الإمام علي علیه السلام، وقد تجلّت الوظائف التعليمية للإنسان بشتى ضروبها، لذلك حضر مفهوما الاستباق والاسترجاع في كلامه علیه السلام، لأنّ كلامه امتداد لمدرسة النبي الأكرم الحديثية، الأمر الذي ألفناه دوماً في حديث الرسول وأهل البيت( صلوات الله وسلامه عليهم)، فمدرستهم الحديثية واحدة تقدم الوظيفة النفعية للإنسان، وتُخبرهم بالأعمال التي

ص: 178

درّت بالنفع على الإنسان سابقا والتي لها نفع في مستقبل أيامه، فضلاً عن تميّز سياق كلامه التعبيري بسمات ابداعية حضرتْ في تراكيب اللغةِ وإنبثاقات العاطفة وفضاءات الخيال وروافد الفكر

فارتوت الصورة بهذه الجوانب، فسما تشكيلها في كلامه علیه السلام.

وقف البحث أيضاً عند الفعل الإبداعي وأثره في صيرورة التكثيف البلاغي حتّى ارتقاء الكلام إلى مستوى المثل، فتبيّنَ جليّاً توظيف الإمام علي علیه السلام طاقاته التعبيرية بأدائه الإبداعي الخاص، فحقق الفعل الإبداعي في كلامه أسلوباً تكوينياًّ قام على عناصر بنائية تكاثفت فيه العبارة، وتعاضد السياق، وتماسكت الوحدة الموضوعية، فتمَّ توظيفها في سياقات كلامه، لتشمل الموضوعات الأدبية والفنية والاجتماعية والعلمية والنفسية وغيرها، ومن ثمّ تمَّ اقناع المتلقي، فتجلّت القدرة البلاغية متربّعةً على قمة التعبير البشري بعد قول النبي الأكرم محمّد صلی الله علیه و آله وسلم، فبان التفوّقُ والرُقِيُّ المعرفي في كلامه، وصار كلام الإمام علي علیه السلام مثلا يحاور الوعي الجمعي لكل الإنسانية مرّ العصور واختلاف المكان. وهنا تميّزَ كلامه علیه السلام مِنْ سواه بفعل ابداعي نهض بناءه على إنفرادات بلاغية بأداء خاص، راعى الوظائف الانسانية بشتى فبخصيصة التفرّد

في الإسلوب البلاغي، والبناء السياقي الفنّي حضر التكثيف الدلالي فارتقى السياق إلى مستوى المثل، ومن ثم تحققت وظائف المعنى للكلام وايحاءاته دلالياًّ، وتمَّتْ مراعاة الوظيفة النفعية للمتلقي وتعليمه، فجاء استعماله لعلوم البلاغة كلها بأعلى مراتب التعبير الفني ورُقِيِّهِ، وأجزل الخطاب البلاغيٌ وسمّوه،ِ فمن أولى الإنفرادات التي يؤشرها الباحث المتخصص اجتماع أقسام البلاغة في كلامه علیه السلام في العبارة الواحدة ليرتقي الكلام إلى مستوى المثل دلالياً وفنياً، ومن ثمَّ تتشكل الصورة المبتكرة، فتماسكتْ ووحدات الفعل الإبداعي في أقوال الإمام علي علیه السلام لتأخذ بالعبارات إلى العدول المبتكر

ص: 179

والغريب، والتكثيف الدلالي الموحي والعجيب، فجاء الإنزياح بأقصى طاقاته، ليتصف تعبيره بالفرادة، وتتسم لغته بالغرابة، فتجلت الفنية والإبتكار والأداء الإبداعي الخاص في نصوصه علیه السلام، إِذْ تَماسك السياقُ اللغوي بتعشق الأبعاد الثلاثة (الدلالي و التعبيري، و التأثري)، فكانت العبارات تحمل وظيفة اقناعية للمتلقي، وفي الوقت نفسه أومأت إلى قضايا علمية قال بها العلم الحديث، فبانت أنفراداته البلاغية وعلاقاتها بالعلوم المختلفة، وظهر المستوى التركيبي المتحقق بإنفرادات بلاغية ظهر أثرها في البناءات الفنية المرسومة بقيم الإبداع العليا، وليس على المتلقي إلا إعمال الفكر -كما ذكرنا سابقاً- وصولاً نحو القصدية الهادفة إلى تعليم السامع، لأن فهم النص يرتبط بالتأمل الفكري لاستخراج قصدية ،الكلام والاقتناع بوظيفة المثل الافهامية. وأخيراً توقّف البحث عند إنفرادات الإمام علي علیه السلام البلاغية وعلاقاتها بالعلوم الأخرى، فبهذه الأمور التي ذكرناها آنفاً حقق الفعل الإبداعي قوّته التأثيرية في المتلقي، وهو يسمع كلام الإمام علي علیه السلام ويتأمل الإنفرادات البلاغية التي تماسكتْ في التعبير، فأومأت إلى العلوم الأخرى التي تكلّم الإمام علي علیه السلام عنها، فباتت العلاقة واضحة بين اختياره لعلوم البلاغة أو اجتماعها ومعرفة العلوم الأخرى. فرأيتُ اجتماع علوم البلاغة اجتماعاً متوازناً وأنصهارها معاً لتقديم المعنى الذي أراده الإمام علیه السلام من دون خلل أو نقص في الدلالة، إذ تعشّقَت علوم البلاغة جميعها لتشكيل معنى خاص للنص، أدّى وظائف مختلفة، فأظهرت إنفراداته البلاغية علاقة كلامه بالعلوم الأخرى، مؤكدةً الوظائفَ التعليمية بشتى ضروبها للمتلقي، نصحاً وارشاداً وتربويّاً، تعليماً وتثقيفاً ،وعلميّاًّ، تعبيراً ولغةً وفنّيّاً، وغير ذلك من الوظائف الإنسانية، فضلاً عن ذلك فقد تناول كلامُه جوانب الحياة المتشعبة،

ص: 180

فتفاعلت النصوص مع الواقع بحسب امتلاك الإمام لخزينه المعرفي المعتمد على العلم اللدنّي الذي يمتلكه من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، فالإمام علي علیه السلام باب علم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

لذلك حققت الإنفرادات التعبيرية في كلام الإمام علي علیه السلام وظائف تعليمية متعددة ببناءات بلاغية عليا في أثناء عملية التعبير، فحصل التلازم بين الفعل الإبداعي بالإنفرادات البلاغية وبين القضايا العلمية في أحاديثه علیه السلام.فضلا عن الجوانب النفسية والأخلاقية وأنفرادات الإتجاه البلاغي والعلوم النقدية الحديثة، وتجلّتْ أيضا إنفرادات الإتجاه البلاغي وعلاقته بالتأمل الفكري وأنواع الدلالة وفنية القول، فقدّم التعبير الغاية المركزة للنص الأدبي والتي أسهمت في حل اشكالات المجتمع واشكالات الأنسان، فجاءت الدلالات بأنوعها، للمشاركة في عملية تثوير الفكر والوصول إلى قصدية المتكلم، بفنيةٍ عاليةٍ، فوقف البحث عند بعض من أنواع الدلالات التي عملت مُوَاءَمة بين المكونات الفكرية و الأسلوبية والتواصلية للنص، وأثر تلك المواءمة الخاص في الحس و الوجدان، فتجلّت على وفق ذلك إنفرادات الإتجاه البلاغي وتوضحت علاقته بالتأمل الفكري و أنواع تلك الدلالات مثل: الدلالة الصوتية والإيقاع والدلالة الاجتماعية والدلالة الهامشية، إذ اجتمعت هذه الدلالات لتؤكد ما جاء في كلام الإمام علي علیه السلام من علوم مختلفة، وقد تناوله البحث هذا علما أن هناك أمورا أخرى سيقف عندها الباحثون بحسب المعرفة العمودية التي يمتلكونها، ومن ثم تابع البحث أثر تلك الأنفرادات البلاغية في ايضاح المعاني وأنعكاسها على فنية القول في كلامه علیه السلام .

لهذا أدّت أنفراداتُه البلاغية رؤيته علیه السلام في العلوم الأخرى محققةً

ص: 181

وظائف الكلام، بعد أن تآزرت أنفراداته البلاغية، لتقوم بتشكيل الصور المبتكرة، وتولّد التكثيف البلاغي حتّى ارتقى الكلام إلى مستوى المثل، فحققَّ الفعل الإبداعي في كلامه مواءمة بين التعبير والمعارف المختلفة، فدلّى على تلك العلوم وأصَّل، وأوم-اً إلى مضامينها فأقنعَ ، ولاسيما القضايا العلمية بأنواعها، وحرص البحث على أن يكون اثبات ذلك بالتطبيق الاجرائي على نصوص كلامه علیه السلام، فوجدنا كلامه جامعاً الأنفرادات البلاغية إلى الرؤى العلمية، بإسلوب ابداعي زاوج فيه يبين الفنية الأدبية العالية والمعرفة الموسوعية الفائقة.

وختاما لقد تأسس الفعل الإبداعي في كلام الإمام علي علیه السلام قدرة ابداعية تميّز بها تعبيُره من سواه، فتجلّى ذلك الفعل الإبداعي سامياً راقياً، إذْ أثمر فرادةً في اللغة، وابتكاراً في الدلالة، ودهشةً في الفنيّة تجديداً في بناء الصورة، وارشاداً بمضمون الفكرة، واقناعاً بفحوى

الوظيفةِ، وتأصيلاً لمصطلحات علوم المعرفةِ.

والحمد لله رب العامين.

ص: 182

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم

- الأداء البلاغي في الحديث الشريف: أ.د صباح عباس عنوز مطبعة شركة المارد ، النجف الأشرف، 2018م.

- الأداء البياني في شعر الشيخ علي الشرقي، د. صباح عباس عنوز، دار الضياء للطباعة والنشر، النجف الأشرف، 1998م. - - الإبداع العام والخاص، الاسكندر روشكا، ترجمة د. غسان عبد الحي عبد أبو الفخر، سلسلة عالم المعرفة، (144)، الكويت، 1989م.

- الإبداع الفني، سالم محمّد عزيز، مؤسسة الجامعة للطباعة والتوزيع، الإسكندرية، 1985م.

- الإبداع النفسي في الشعر العربي وإبداعه، ثائر حسن جاسم، سلسلة الموسوعة الصغيرة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1979م.

- الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، د. عبد القادر القط ، دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع مكتبة الشباب، القاهرة.

- الإتقان في علوم القرآن ، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت: 911ه-)، 1988م.

- أخلاق الإمام علي علیه السلام، تأليف محمّد صادق السيّد محمّد رضا الخرسان: دار الكوكب للتصميم والطباعة والنشر، ط8 1436ه-، 2015م ، النجف الأشرف.

- أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية، ا.د. صباح عباس

ص: 183

عنوز - دار الضياء للطباعة والتصميم النجف الأشرف 2007م. - استقبال النص عند العرب، محمّد المبارك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2017م.

- الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي د. عبد القادر فيدوح

منشورات إتحاد الكتاب العرب، 1992م.

- الأدب والغرابة، دراسات بنيوية في الأدب العربي، عبد الفتاح کيليطو دار الطبيعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1997م،

7.

- الأسس النفسية للإبداع الفني (في الشعر خاصة)، مصطفى سويف (الدكتور)، دار المعارف، مصر، ط3 ، 1969م.

- الإسلام وعلم النفس، د. محمود البستاني، الناشر مجمع البحوث الإسلامية، مشهد، ایران ط1، طبع مؤسسة الاستانة الرضوية المقدسة، 1409ه-.

- الإسلوب والإسلوبية، كراهام هاف، ترجمة كاظم سعد الدین دار آفاق عربية للصحافة والنشر، بغداد، 1985م. الإسلوبية والإسلوب، نحو بديل ألسني في نقد الأدب، عبد

السلام المسّدي، الدار العربية للكتاب، تونس، 1977م،

- الأصول دراسة إبستيمولوجية للفكر اللغوي عند العرب تمام حسان (الدكتور ) دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1988م: - أصول علم النفس، أحمد عزت راجح دار الكاتب العربي ط 7 ، 1968م.

- الاعجاز القرآني رسالة الحقيقة لكل زمان و مکان ا.د. صباح عباس عنوز دار الصادقين / النجف الأشرف/ 2021م.

- إعجازية التكوين الإسلوبي في النص القرآني : ومهمتا البيان

ص: 184

التفسيرية والتأويلية، . د صباح عباس عنوز المركز الإسلامي الثقافي لبنان مجمع الإمامين الحسنين علیهم السلام، بيروت، ط1، 1438 ه- 2017 م. -

- الأغاني، أبو الفرج الاصفهاني، تحقيق محمد السقا، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1381 ه- 1961م.

- الإمام علي علیه السلام في الدراسات الأستشراقية، ا.د. حسن عيسى الحكيم، مركز الإمام علي للدراسات التخصصية ، النجف الأشرف 2022م.

- أنوار الربيع في أنواع البديع، ابن معصوم المدني، تحقيق شاکر هادي شكر النجف 1380 ه- 1960م.

- الإيضاح في علوم البلاغة الخطيب القزويني،( ت739ه-) مكتبة ومطبعة محمّد علي صبيح وأولاده، القاهرة، 1402ه- 1982م، وظ طبعة باشراف محمّد محيي الدين عبد الحميد)،

القاهرة.

- بحار الأنوار، محمّد باقر محمّد تقي المجلسي (1111ه-)، المطبعة الإسلامية، طهر أن، 1388ه-.

- البلاغة عرض وتوجيه وتفسير، د. أحمد بركات أبو علي،

دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان ، ط 1 ، 1403ه-، 1983م.

- البلاغة والتطبيق، د. أحمد مطلوب و د. كامل حسن البصير، ط 2 ، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، 1410ه-

-1990م.

- البيان والتبيين الجاحظ، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان 1968.

- تاريخ الأدب العربي، حنا فاخوري، المطبعة البولسية،

بيروت، ط3، 1960

ص: 185

- تاريخ الفسوي (مخطوط) يعقوب بن شعبان الفسوي استانبول مكتبة روان كوشك رقم (1554).

- تداعي الوعي في الشعر الجاهلي ناصر اسطنبول، جامعة وهران، الجزائر، 1986م.

- التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره إلى القرن

السادس، د. حمادي صمود ، منشورات الجامعة العربية التونسية

1981م.

- التفكير السديد جوزيف جاسترو، ترجمة نظمي لوقا، مطبعة

السعادة، مصر، ط 1، 1957م.

- تقييد العلم، الخطيب البغدادي ( 463 ه-)، تحقيق يوسف العش،

دار احياء السنة واعادته 1949م ، طبع دمشق، ط 2، 1974م.

- تمهيد في النقد الأدبي، روز غريب، دار المكشوف، بيروت،

1971 .

- جدلية الخفاء والتجلي، كمال أبو دیب، دار الملايين، ط، بيروت، 1984م.

- جرس الألفاظ ودلالتها في البحث الدلالي عند العرب، د. ماهر مهدي هلال دار الحرية للطباعة - دار الرشيد للنشر، بغداد 1980م: وظ: جمهرة اللغة 254/1.

- خزانة الأدب وغاية الأرب، إبن حجة الحموي، القاهرة،

1403ه- .

- خمسة مداخل إلى النقد الأدبي الحديث، ويلبريس سكوت وآخرون، ترجمة وتقديم وتعليق د. عدنان غزوان إسماعيل وجعفر صادق الخليلي، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1981م.

- دراسات في الحديث والمحدثين، هاشم معروف الحسني: دار التعارف للمطبوعات، بيروت ط 2 ، 1987م.

ص: 186

- دلائل الاعجاز، عبد القاهر الجرجاني: تحقيق محمّد الداية وفائز الداية مكتبة سعد الدين، مصر 1971م.

- الزاهر في معاني كلمات الناس.

- سنن ابن داود محيي الدين المكتبة العصرية، بيروت.

- سنن الترمذي، محمّد بن عيسى الترمذي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت

1403ه- .

- السيميائية وفلسفة اللغة، امبرتو إيكو، ترجمة د. أحمد الصمعي ، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان 1984م.

- شرح ديوان الحماسة المرزوقي، نشره أحمد أمين بالاشتراك مع مطبعة لجنة التأليف، القاهرة، ط 1 1952.

- الشعر الجاهلي (منهج في دراسته وتقويمه)، محمّد النويهي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، (د.ت).

- الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية عز الدين إسماعيل.

- الشعر والشعراء، ابن قتيبة تحقيق أحمد محمّد شاكر القاهرة، دار المعارف، ط 2 ، 1971م.

- الشعرية، د. أحمد مطلوب، مجلة المجمع العلمي العراقي بغداد، 1410ه-، 1989م، المجلد الاربعون الجزء الثالث

والرابع.

- الصورة الشعرية عند خليل حاوي، هدية جمعة البيطار نشر هيئة ( أبو ظبي ) للثقافة والتراث، 2010م.

- الصورة الفنية في المثل القرآني، د. محمّد حسين علي الصغير دار الهادي، بيروت، ط 1، 1412ه-، 1992م.

ص: 187

- صحيح البخاري، أبو محمّد عبد الله بن اسماعيل بن ابراهيم البخاري، دار القلم، بيروت، ط 1 ، 1407 ه- - 1987م.

- ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيوية تكوينية، محمّد بنيس الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، دار التنوير، بيروت ط 2 ، 1985م.

- العلم ومأزقة منطق الصدام ولغة التداول، مكتبة شغف، المركز الثقافي العربي، لبنان، علي حرب، وظ، طبعة الدار البيضاء، المركز الثقافي، 2002.

- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ،ونقده، ابن رشيق القيرواني حققه وفصله وعلق حواشيه محمّد محي الدين عبد الحميد الناشر: دار الجيل للنشر والتوزيع والطباعة، بيروت، طه، 1401 ه-، 1981م. وظ : طبعة القاهرة، ط 3 ، 1383 ه- - 1963م. وظ طبعة دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر، بيروت، 2002م.

- عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص، عبد الحق بلعابد، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2008م.

- عضوية الموسيقى في النص الشعري، عبد الفتاح صالح نافع مكتبة المنار، الأردن، ط 2 ، 1985م.

- علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، د. صلاح فضل الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ط 2 ، 1985م.

- علم الإشارة، بيير جيرو، ترجمة منذر عياشي دار طلاس

.1992

علم اللغة العام فردیناند دي سوسير ترجمة يوئيل يوسف عزيز، مراجعة مالك يوسف المطلبي، بيت الموصل، 1988م.

- علم النفس التحليلي، يونج، ترجمة نهاد خياط، دار الحوار

ط1 .

ص: 188

- علم النفس الفني، جميل صلبيا، دار الكتب المصرية القاهرة، ط3، 1972م.

- علم النفس الفني، أبو طالب محمّد سعيد، مطبعة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة، 1410ه-، 1990م.

- الغرابة وشعرية المعنى المبتكر في النقد العربي القديم د. نسيبة العوفي مجلة اللغة العربية، العدد/ 43 ، المجلد 21،

السنة الأولى، 2019م.

- غرر الحكم و درر الكلم المفهرس من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام تأليف القاضي ناصح الدين ابن الفتح عبد الواحد محمّد التميمي، نشر وتدقيق عبد الحسن ، دار الهادي، بيروت، لبنان 1992م : 5444

- الفتنة الكبرى، د. طه حسين دار ،الجمال بيروت.

- الفكر العربي ومركزه في التاريخ، أوليري دي لاسي، ترجمة إسماعيل البيطار، دار الكتاب اللبناني، بيروت.

- فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة، محمّد علي أبو ريان، دار المعرفة الجامعية (د.ط) 1991م،

- فنون بلاغية، د. أحمد مطلوب، بيروت، 1393ه- -

1973م.

- في الشعر الأوربي المعاصر المعاصر، عبد الرحمن بدوي مكتبة الإنجلو المصرية، القاهرة.

- القاموس الفيروز آبادي ، المطبعة الحسينية، القاهرة،

1330ه-

- قضايا في النقد الأدبي ، ك . ك روثفن، ترجمة د. عبد الجبا

ص: 189

المطلبي مراجعة د. محسن جاسم الموسوي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1 ، 1989م.

- الكتابة من موقع العدم، مساءلات حول نظرية الكتابة، عبد المالك مرتاض، مؤسسة اليمامة، الصحيفة 1999م، الأصل من جامعة مشيغان من كتاب الرياض، طبع 2008م،

- كتاب الصناعتين أبو هلال العسكري، تحقيق محمّد البجاوي

ومحمّد أبو الفضل إبراهيم، ط 2 ، القاهرة 1971م.

- كنز العمال في سنن الاقوال والأفعال للهندي علي بن المتقي بن حسام الدین (975) طبعة صفوة السقا، طه، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405ه- 1985م.

- لسان العرب، ابن منظور (ت: 711ه-).

- لغة الشعر : قراءة في الشعر العربي الحديث، رجاء عيد، منشأة المعارف، 1985م.

- لغة الشعر العربي الحديث، د. السعيد بيومي الورقي دار المعارف، 2016م.

- اللغة العربية معناها ومبناها، د. تمام حسان عالم الكتب ط 1427 ه- - 2006م، وظ: عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع 2001م.

- مبادئ علم النفس العام، د. يوسف مراد، دار المعرف مصر ط 5، 1966م.

- المحجة البيضاء في تهذيب الاحياء محسن الفيض الكاشاني، تحقيق الشيخ علي أكبر الغفاري، قم، مؤسسة المحبين، ط1، 1426ه- .

المجازات النبوية، تحقيق وشرح طه محمّد الزيني (الاستاذ في

الأزهر)، منشورات مكتبة بصيرين، قم (د.ت).

ص: 190

- محمّد رسولا نبيا، عبد الرزاق نوفل، مطبعة العالم العربي القاهرة، 1961م.

- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ضياء الدي-

بن الأثير، تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، 1358ه- - 1939م.

- مدرسة الإمام الصادق ودورها الإنساني، محمّد صادق السيد محمّد رضا الخرسان طبع الكلمة الطيبة النجف الأشرف، العراق، نشر دار البذرة، 1434 ه- - 2013م،

63.

- مذهب التحليل النفسي والفرويدية الجديدة، فاليري ليبين دار الفارابي، ط 1 ، 1981م.

- مسألة اللاوعي في الصورة الشعرية، د. صبحي البستاني

مجلة الفكر العربي المعاصر، ع، 23 ، 1982-1903.

- مشكلة الفن زکریا ،ابراهیم، 194 ، دار الطباعة الحديث، مصر، الفجالة (د.ت).

- المصباح في علم المعاني والبيان والبديع، بدر الدين بن مالك، القاهرة 1341 .

- مصطلحات بلاغية، د. أحمد مطلوب، بغداد، 1392ه-

- 1972م.

- المعجم الأدبي، الدكتور جبور، عبد النور، دار العلم للملايين، ط2، 1984م.

- معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي.

- معجم مصطلحات التحليل النفسي، جان لا بلاش، وب بونتاليس، ترجمة محمّد الولي ومحمد العمري المغرب دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1986م.

ص: 191

- معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي (ت: 395ه-) تحقيق عبد السلام محمّد هارون دار الفکر، 1399 ه- - 1979م.

- مفتاح العلوم السكاكي، القاهرة، 1956 ه- – 1937م.

- مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، أمين الخولي، دار المعرفة مصر، ط 1، 1961م.

- منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، تحقيق وتقديم محمّد الحبيب ابن الخوجة، الناشر دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط3، 1986م. وظ: تحقيق محمّد الحبيب ابن الخوجة تونس، ط 1، 1966م.

- منع تدوين الحديث علي الشهرستاني دار الغدير، قم،

2005م.

- النظريات البلاغية عند العرب، عبد القادر المهيري، كلية الآداب، تونس، السلسة الجامعية، 1972 - 1973م.

- نسيج النص بحث في ما يكون به الملفوظ نصا، د. الأزهر الزناد، المركز الثقافي العربي، ط 1، 1993 .

- نظرية الأدب، أوستن وارين ورينيه ويليك، ترجمة محي الدين صبحي

مراجعة حسام الخطيب، مطبعة الطرابيشي، 1392ه-

1972م.

- نظرية البنائية في النقد الأدبي، صلاح فضل دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1987م.

- نظرية تراسل الحواس (الأصول - الأنماط - الإجراء) د. أمجد حميد عبد الله المركز العلمي العراقي، بغداد، 2010م، 199.

- النظرية النقدية عند العرب حتى نهاية القرن الرابع الهجري د. هند حسين الدار الوطنية للتوزيع والاعلام بغداد، 1981م.

ص: 192

- النقد الأدبي اصوله ومناهجه، سيّد قطب، دار الشروق، القاهرة، 1424ه-، 2003م

- النهاية في غريب الحديث والأثر ابن الأثير تحقيق طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمّد الطناحي، المكتبة العلمية بیروت، 1391ه-، وطبعات أخرى.

- نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام ، شرح ابن أبي الحديد، دار الكتاب العربي، بغداد، 1430 ه- - 2009م.

- نهج البلاغة الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام ، شرح محمّد عبده،

مكتبة النهضة، بغداد

- نهج البلاغة صوت الحقيقة، دراسة اثباته في ضوء النقلي وماهية المنجز الفني، أ.د. صباح عباس عنوز ، مؤسسة نهج البلاغة، العتبة الحسينية المقدسة، دار الكفيل سلسلة الكتب العلمية (1) ، دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع 1436ه- - 2015م.

- النقد الأدبي الحديث، د. محمّد غنيمي هلال، منشورات دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1988م.

- نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز ، فخر الدين الرازي، القاهرة

1317ه-

- النهاية في غريب الحديث والأثر ابن الأثير ( 606 ه-)، تحقيق طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمّد الطناحي المكتبة العلمية، بيروت، 1319 ه-، وظ طبعات أخرى.

- وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة الحر العاملي، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت علیهم السلام، قم، ط 2، 1414ه-.

ص: 193

ص: 194

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.