التنمية العقلية في نهج البلاغة

هوية الکتاب

العنوان: التنمية العقلية في نهج البلاغة

المؤلف: السيد عبد المطلب الموسوي الجابري

مراجعة وتنقيح مركز الامام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية

الناشر : مركز الامام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية - النجف الاشرف

المطبعة دار أبو طالب - العتبة العلوية المقدسة 1443ه-2021م 2021م

التصميم والإخراج الفني احمد مكي جعفر

am AGENCY

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز

العراق - النجف الأشرف

ص:1

اشارة

ص:2

التنمية العقلية في نهج البلاغة

السيد عبد المطلب الموسوي الجابري

ص: 3

Imam Amir Al-Mu'mineen (peace be upon him) Center for Speciazlied Studies and Research

مطالعات وبنز بهشهاسی امام امیرالمؤمنين

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز

العراق - النجف الأشرف

07721584777

العنوان: التنمية العقلية في نهج البلاغة

المؤلف: السيد عبد المطلب الموسوي الجابري

مراجعة وتنقيح مركز الامام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية

الناشر : مركز الامام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية - النجف الاشرف

المطبعة دار أبو طالب - العتبة العلوية المقدسة 1443ه-2021م 2021م

التصميم والإخراج الفني احمد مكي جعفر

am AGENCY

07826901443 | وكالة اي ام الإعلانية

ص: 4

بِسْمِ ٱللَّٰهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

In the Name of Allah,

the Most Beneficent, the Most Merciful

ص: 5

ص:6

المتحویات

مقدمة مركز الامام أمير المؤمنين علیه السلام ...11

التنمية العقلية في نهج البلاغة - المقدمة ...13

مَنْ أنا؟ ... 13

من أين يأتي الفكر؟ ...13

لماذا نهج البلاغة ؟ ... 16

الباب الأوّل ... 19

موازين أُسس الفكر الديني ... 19

الفصل الأول ميزان معرفة الله ... 20

الأول: دليل السببية ... 20

الثاني : دَليل النَظْم والإتقان ... 21

الثالث الدليل الفلسفي ... 22

ميزان التوحيد الصحيح ... 26

كيف نتصور وجود الله مع كل شيء؟ ... 28

ما هو المقدار المطلوب من معرفة الله ؟ ... 32

المجال الأول : مجال فعل الله ... 33

المجال الثاني : الصفات السلبية ... 38

خلاصة ميزان المعرفة ... 39

دور معرفة الله في بناء المجتمع الصالح ... 40

الفصل الثاني ... 45

ميزان معرفة النفس ... 45

ما هي النفس الإنسانية الحقيقية؟ ... 51

ما هو القلب؟ ... 55

ما هو الإنسان؟ ... 59

كيف يتم صناعة الإنسان؟ ... 61

الإنسان بين النظامين الإلهي والمادي ... 64

الفصل الثالث ... 71

ميزان الحريّة ... 71

ما هي الحرية: ... 73

ص:7

الحريّة في النظام المادي تعدم نفسها:... 77

الفصل الرابع ... 83

ميزان السعادة ... 83

طريق السعادة ... 90

الآخرة تُصلح الدنيا ولا تلغيها:... 92

الفصل الخامس ... 97

ميزان فهم الدين:... 97

مراحل فهم الدين:... 101

الدلالة الإجمالية للقرآن ... 102

كيف نحصل على الدلالة القرآنية: ... 103

أهميّة الدلالة الاجمالية في معرفة الدين:... 106

الدلالة التفصيليّة على الإسلام:... 107

عدم الفهم مشكلة الأمّة:... 113

الباب الثاني موانع التفكير ... 119

الفصل الأول ... 119

موانع العقل النظري:... 120

الأول:غلبة الحس والخيال على العقل:...122

الثاني: التفكير الأفقي:... 131

الثالث: التفكير التخزيني التجزيئي لا الإنتاجي المنظومي:... 134

التفكير المنظومي الإنتاجي جامع مانع:... 136

الازدواجية في التفكير:... 138

الجهل وكارثة التحكيم:... 139

الرابع: التفكير غير المنطقي:... 140

الخامس : التفكير التعميمي:... 148

السادس : التفكير المتشابه:... 153

السابع: التفكير التشاؤمي:... 160

الثامن: التفكير الانهزامي:... 165

الفكر الاحباطي:... 171

التاسع : التفكير الأحادي النظر:... 172

العاشر : التفكير الانفعالي:... 175

ص:8

الحادي عشر: التفكير الّلا علمي:... 176

الثاني عشر: التفكير العاطفي:... 179

الثالث عشر: التفكير الاستبدادي:... 18

الثاني عشر: تفكير شخصنة الحق:...184

الثالث عشر: التفكير الفردي: ... 186

التفكير الاناني والانطوائي... 191

التشريعات الفردية ... 192

الفقه الفردي... 192

الفصل الثاني ... 195

موانع العقل العملي (الإرادة) ...195

ما هي الدنيا؟ ... 199

الدنيا المحمودة والدنيا المذمومة:...200

الفكر العلوي وصناعة اللذات العالية:... 206

الشعور العالي ميزان العلويّة: ... 208

الوقاية من العصبية:...214

الوقاية من لواقح الكِبْر:... 218

الكِبْر مصيدة ابليس العظمى:... 220

المانع الثالث: الطمع: ...221

علاج الطمع: ... 222

المانع الرابع: التسويف:...225

المانع الخامس: التردد والإحجام: ...227

المانع السادس: التسرّع والعجلة: ...229

الباب الثالث...235

طرق تقوية العزم والإرادة... 235

الأول: التفكّر: ...237

الثاني: المحاسبة:...242

الثالث: معاشرة الصالحين: ...243

مسك الختام:...244

عليٌّ مؤسس علم الاجتماع ... 250

ص:9

ص:10

مقدمة

مركز الامام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وعلى اله الغر الميامين

من الأمور الهامة والمؤثرة بل الأساسية في عملية التفكير البشري هي القدرة العقلية، التي لها تعاريف متعددة منها هي تلك المجموعة من الأساليب الخاصة بالأداء المعرفي، حيث أنها ترتبط ببعضها ارتباطاً قوياً ووثيقا بينما ترتبط بغيرها ارتباطاً هامشي أو هي تلك المجموعة من تلك الملكات الخاصة بالشخص والمنفصلة عن بعضها البعض، أو هي تلك القدرة العقلية الفكرية أو الشعورية أو الإرادية حيث أن كلها تعتمد على تفسير تلك المظاهر العقلية المختلفة والتي تعبر عن الأداء العقلي، وقد عرفها البعض من المتخصصين والعلماء على أنها هي جوانب النشاط العقلي كملكة التذكر وملكة الانتباه وملكة التخيل وملكة الابتكار، بينما رأى اخرون بأنها هي تلك القدرة العقلية على الفهم والقدرة على الطلاقة اللفظية ومن ثم القدرة على خروج الطلاقة التعبيرية أي القدرة على إخراجها في طاقة تعبيرية.

والسؤال المطروح هو هل بالإمكان العمل على تنمية ومضاعفة وتطوير القدرات العقلية الخاصة بالإنسان؟ حيث أن جميع الأبحاث والعلوم الحديثة قد أكدت على أن ذلك يكمن في التعليم، فالتعليم بمفهومه هو تلك العملية الخاصة باكتساب المهارات والمعارف والقيام ببناء وتطوير السلوك وذلك بعد اكتساب الخبرات والمهارات اللازمة للتطوير، ولا تتم هذه العملية إلا

ص: 11

عن طريق عامل التحفيز والإدراك، حيث يجب أن يأخذ الشكل التعليمي تنمية المهارات الثقافية والفكرية والدينية في المجتمع وفيها تقوم عملية تطوير الذات وتطوير القدرات العقلية حيث يعد ذلك من أفضل الطرق لتنمية القدرات العقلية.

وعمد مؤلف الكتاب السيد عبد المطلب الموسوي دام توفيقه على الاستفادة من كلام الامام أميرالمؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة حول العقل وتنميته، وتنمية الادراك والحس والشعور وجميع ما يرتبط به ارتباطا وثيقا من أجل استيعاب جميع الملكات التي هيأها الله تعالى وسبر غورها للوصول الى الكمال الروحي والنفسي بعد استحكام العقل على جميع أعضاء الجسم وملكاته، وتعتبر هذه الدراسة جديدة في موضوعها وطرحها ملائمة للتطبيق والواقع، لذا سعى مركز الامام أمير المؤمنين علیه السلام للدراسات والبحوث التخصصية الى مراجعة هذا الكتاب وتنقيحه واخراجه ونشره ليكون منهلا عذبا للظامئين... والله من وراء القصد

النجف الاشرف

1 ربيع الأول 1443

ص:12

التنمية العقلية في نهج البلاغة

المقدمة

مَنْ أنا؟

سؤال يجاب عليه بسؤال آخر ... ماذا تفكر؟

أنت ما تفكّر ... وسعة حقيقتك تقاس بمقدار فكرك.

فَمَن كانت دائرة فكره ضيقة، فهو إنسان ضيق و صغير، ومن كانت دائرة فكره واسعة فهو إنسان كبير و عظيم.

من أين يأتي الفكر؟

الفكر منتوج وثمرة أرض الإنسانية وهي العقل، هي قابلية الإدراك والفهم التي يجب أن تُزرع لتُنْبت الإنسان.

عندما يبدأ الإنسان حياته على الأرض كوليد رضيع فإنه يتحرك بوحي الغريزة والحاجات البدنية التي تجعله يصدر البكاء والإشارات التي تقرع الحنان والشفقة والأمومة والأبوة لدى الأبوين والأقرباء، وبعد تفعيل أدوات السمع والأبصار لديه تبدأ عملية نثر بذور التفكير في أرض عقله، يرى الأم واللبن، يرى الأب والأقرباء، يرى الماء والأشياء، يتعرف على الأشكال والألوان، وتتبلور هذه النظرات على شكل تصورات مبعثرة وغير مترابطة، وبعد أن يتم تفعيل القوة الحافظة للصور الملتقطة، وتتكرر الصور،تبدأ عملية الاستذكار التي تعد الطفل كي يبدأ بعملية الربط والتفكير التي تكون في أولها على شكل حمل للأشياء على نفسها،(الأم أم)،(الأب أب)،

ص: 13

(اللبن لبن)، وبعد أن تزداد الصور المحسوسة والمحفوظة، ويتكرر الإحساس والاستذكار ، يقوم بالربط بين الأشياء، هذا ماء يُشرب، وهذا خبز يُأكل، وهذا إنسان ينام على صدره ويرتضع اسمه (ماما)، وذاك إنسان يحتضنه ويشمه ويقبله اسمه (بابا)، ويرى حركة الناس المختلفة في تلبية حوائجهم عندها يبدأ الطفل حركته نحو تشخيص الأشياء، وتبدأ حياته الإنسانية، وهي حياة التفكير بالتعرف على الأشياء، فتبدأ المعلومات تنبت في أرض قلبه وعقله، وهنا لابد أن تبدأ عملية التعليم والتربية، وتوجيه العقل للقيام بعملية التفكير التي تُنتج المعلومات الصحيحة، فهنا تتكاثر الصور وتتشابه ويحصل الخطأ في التطبيق، فهو عندما يرى الماء الذي هو سائل أبيض وهو الذي رآه وأدرك من قبل إنه السائل الذي يروي العطش، ثم يرى سائلاً أبيضاً يشبه الماء وليس بماء، فيحكم عليه أنه ماء الشرب، فيخطأ ويشرب! فهنا لابد من التعليم تعليم الطفل القياسات الصحيحة كي لا يقع في الخطأ.

قياساته الآن بأن كل سائل أبيض هو ماء، وكل ماء يروي العطش، يجب أن يفهَّم أن هذين القياسين خاطئان، يجب أن يعلم أن السائل الأبيض مشترك بين الماء والنفط والخل و ... وإن الماء نفسه مشترك بين المعقم والملوث بين الحار ،والبارد، بين ماء الغسل والسقي وماء الشرب...

هنا يجب تنمية المعلومة عند المطفل ورفعها من الخيال والحافظة إلى العقل حتى يدرك معلومة جديدة ومهمة وهي ليس كل سائل أبيض ماءً، ومعلومة أخرى مهمّة وهي ليس كل ماءٍ صالحاً للشرب.

وهذا مثال يمكن أن تنطبق عليه جميع رغبات وحاجات الإنسان الفردية والاجتماعية، فعلية أن يتعلم ليشخّص كيف يسد حاجته على النحو الصحيح، ويكمل نقصه ويروي عطشه ويشبع رغبته بالإشباع الحقيقي، ولا يقع في الجهل والخطأ فيقوده نحو الإشباع الوهمي، أو الإضرار بنفسه.

ص: 14

هذا قسم من العقل، وهو الذي يسمى بالعقل النظري، والذي يشخص ماذا يوجد؟ أو ماذا أعلم؟

وهناك قسم آخر من العقل، وهو العقل العملي، وهو الذي يشخص ماذا يجب، أو ماذا أعمل، وهو الذي يرتبط بالإرادة، عندما أشخّص أن هذا ماء زلال، وذاك سراب أو ملح أجاج، فهنا لابد من تغذية عقل الإرادة والعمل كي يحركني نحو الإرواء الحقيقي، ويمنعني من الحركة نحو الإرواء الوهمي الذي لا يزيدني إلاّ ظماً ونصبا، كي لا أبتلى بالكسل والخمول والعجز والترهل وخواء الإرادة نحو الحركة إلى الماء المعقم الزلال، وكي لا أخدع بتزيين وتلبيس المخادعين والملابسين، الذين يدفعونني نحو الماء الأجاج، فلابد من تربية وتنمية عقل الإرادة لتكميل عقل التشخيص، فإذا اقترن عقل ماذا يوجد مع عقل ماذا يجب، وأصبح الإنسان يعلم حقا ويعمل بالحق فإنه سوف يسير في مسار الإنسانية الصحيح.

ولأجل تنمية هذا العقل بشقّيه جاء الأنبياء، فهم يقومون بدورين مهمين هما:

الأول : ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ...﴾والثاني:﴿...وَيُزَكِّيهِمْ﴾.

النبي معلِّم، يعلِّم الناس ماذا يوجد، ويربّي الناس ليتحركوا إلى ماذا يجب، النبي معلّم يحرك عقل العلم، وقدوة يربّي عقل العمل والإرادة، وبهاذين الدورين يزرعون أرض الإنسانية وهو العقل، ويسقوه كي يثيروا (دفائن العقول )(1)، ولتَنبت أشجار الإنسانية الطيبة التي ...(أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينِ بِإِذْنِ رَبِّهَا ...)(2)

ص:15


1- أنظر الخطبة الأولى من نهج البلاغة
2- إبراهيم: آية 25 .

لماذا نهج البلاغة؟

إنتاج وصناعة الإنسان يحتاج إلى أن تسقى أرض العقل بالفكر والإرادة لتنبت العلم والعمل، ومصدر هذا الغيث الذي يحيى الأرض بعد موتها هو الكمال المطلق الإلهي، وسحائبه التي تنزله إلى الأرض هي قلوب الرسل والأنبياء، فالتوحيد مصدر الغيث، والنبوة وسيلة إيصاله إلى الأرض، والإمامة والولاية التي تتحمل مهمة التطبيق وهندسة إثارة أرض العقول لإنبات العلم والعمل.

وقد تولّى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم مهمّة الإمامة والولاية، إلى جانب الرسالة في حياته المباركة، فكان المعلم للكتاب والحكمة وكان القائد المزكّى والقدوة والأسوة الحسنة في العمل ، وربّى علياً علیه السلام ليكون النموذج الكامل لبناء صرح العلم والعمل الذي تحفظ به الرسالة وتواصل مسارها بسلام، ولذلك كانت ولايته كمالاً للدين وتماماً للنعمة، وبها أصبح الإسلام مرضياً، ويُؤمَر الرسول بأن يعلن هذه الولاية، وإن لم يفعل فما بلّغ رسالته(1)، ويوصف على علیه السلام (بأنّه علي مع الحق والحق مع علي يدور حيث دار(2))، وإن علياً (ميزان الأعمال (3))، وإنه (قسيم الجنّة والنار(4)) .

ومؤدّى هذه العبائر كلها إنّ علياً هو معلم ومهندس ومربّي الفكر والإرادة التي تنتج العلم والعلم الذي يصنع الإنسان لكي يحيى حياة طيبة (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً(5)) ويموت ميتةً طيبة (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ)(6).

ص:16


1- معاني مقتبسة من الآيات 3 - 67 سورة المائدة.
2- التفسير الكبير الفخر الرازي ح 1 ص 168 .
3- مفاتيح الجنان - الشيخ عباس القمي زيارة الإمام علي المطلقة).
4- الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي ج 2 ص 369 .
5- النحل 97
6- النحل : 32.

ويدخل الجنّة ليَخلُدَ فيها طيباً (طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَلِدِينَ)(1).

وعليّ علیه السلام هو النموذج التطبيقي الأعلى للتوحيد والنبوة في الأرض، ونهج البلاغة هو التفسير العلمي والعملي للقرآن الكريم، فإذا أردنا أن نسير في مسار التوحيد والنبوة لنصنع الإنسان، فلندخل في الولاية العلوية، وليكن نهج بلاغته وسيرته منهج حياتنا الذي نأخذ منه مقاييس وموازين الحياة، لنكشف ونعرّض أرض أنفسنا وعقولنا للغيث العلوي النازل من سماء التوحيد والنبوة، والذي يثير دفائن وخزائن عقولنا فنعرف ماذا يوجد، ويشحن عقل إرادتنا فنتحرك لما يجب أن نعمل.

فتعالوا إلى نهج البلاغة لنتعلم ماذا نفكر ، وماذا نعلم، وكيف نرى الكون، وماهو مصدر الكون ومصيره؟ وكيف نرى أنفسنا ؟ ورؤية المصدر والنفس والمصير تحدد المسار، وتحدد ماذا يجب أن نفعل؟ وماذا يجب أن نترك؟ وكيف يجب أن نكون ونعيش ونتعامل؟ وماذا نحب ومَنْ؟ وماذا نكره، ومَنْ؟ وكيف نصنع أنفسنا ونبنيها؟ وكيف نبني المجتمع والحضارة الإنسانية والحياة الطيبة الخالدة؟ فلنتمسك بنهج البلاغة لندّبّر الحياة به ونقودها، بل لنصنع الحياة، ومصنع الحياة له أسس يبنى عليها، فلنتعرف على موازين بناء هذه الأسس ، تعالوا إلى ميزان الحق والأعمال ليعلمنا كيف نفكّر، ولنتعرّف منه على موازين أسس الحياة، ثم نتعرف منه على موانع التفكير والمعرفة، فتعالوا لنبني مصنع الحياة ونحافظ عليه.

ص: 17


1- الزمر: 73.

ص: 18

الباب الأوّل

موازين أسس الفكر الديني

الفصل الأول

میزان معرفة الله

ص: 19

الفصل الأول ميزان معرفة الله

كما فعل القرآن الكريم كذلك فعل نهج البلاغة، عندما دأب على تحريك العقل نحو معرفة الله، مؤكداً على أنها أساس الدين (أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ)، والدين الذي لا ينطلق من هذا الأساس فهو مجموعة قشور وأوهام، معلقة في الهواء كبيت العنكبوت لا يقاوم أضعف عواصف الامتحان والاختبار، ويتهاوى أمام رياح الترغيب وأمواج الترهيب، والتمويه والخداع، ويتحول هباءً منثورا، والمعرفة بالله تتحقق على ثلاث مراحل مترابطة وهي:

المرحلة الأولى:إثبات الخالقية، أي إثبات ضرورة وجود خالق لهذا الكون،و إثبات توحيده الخالقي.

المرحلة الثانية:إثبات الربوبية، أي أن الخالق وهو الله سبحانه وتعالى، هو رب ومدبّر لهذا الوجود، وإثبات التوحيد الربوبي.

المرحلة الثالثة : إثبات ضرورة العبودية للخالق _ الرب _ ، وإثبات التوحيد العبودي.

فالأولى تتعلق بمعرفة وجود الله سبحانه، وهي الأدلة على اثبات وجود إله وخالق لهذا الكون، وهي كلُّها أدلة عقليّة وفطريّة، وقد قسم علماء الفلسفة والكلام هذه الأدلّة إلى أقسام نذكر أهمّها:

الأول دليل السببية:

الذي يبتني على ضرورة انتهاء سلسلة المعلولات والعلل، إلى العلة الأولى التي هي المؤثّر الأول، والمصدر الأصلي للمخلوقات، وحول هذا الدلیل توجد الكثير من الخطب العلوية التي تدعو إلى التفكّر في الخلق، وإلى ضرورة وجود العلّة الأولى، وبطلان التسلسل، و إلاّ لما كان هناك تتحقق للوجود، كما

ص:20

في الخطبة (101):

(الحَمْدُ للهِ الأَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ أَوّل، وَالْآخِرِ بَعْدَ كُلِّ آخر، بِأَوْلِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا أَوَّلَ لَهُ.)

وفي الخطبة 91: (... الَّذِي ابْتَدَعَ الخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالِ امْتَثَلَهُ، وَلاَ مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ، مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ، وَعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثارُ حِكْمَتِهِ، وَاعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ، مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ ، وَأَعْلَامُ حِكْمَتِهِ، فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةٌ لَهُ وَدَلِيلاً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً ، فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى الُمبْدِعِ ِ قَائِمَةٌ...».

الثاني:دَليل النَظْم والإتقان:

الذي يدل على المنظم والمهندس لعظمة هذا الوجود المتقن، ونرى هنا أن الإمام يولي اهتماماً في بعض خطبة، لذكر آيات ودلائل العظمة الإلهية، كما في الخطبة 185 :

(... ألاَ تَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ اللهُ، كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ، وَأَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ، وَفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ ،وَسَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَالْبَشَرَ ...)، ثم يذكر النملة وما في خلقتها من عجائب، والتدبّر والإدارة المتقنة لحياتها، فكيف تنقل الحبّة إلى حجرها، وتعدها المستقرّها، تجمع في حرّها البردها، وفي وردها لصدرها، ثم يذكر المخلوقات المختلفة من السماء والهواء والرياح والماء والشمس والقمر والنبات والشجر ، واختلاف الليل والنهار ، واختلاف الألسن واللغات، ثم يقول ( فَالوَيْلُ لَنْ جَحَدَ المُقَدِّرَ ، وَأَنْكَرَ المُدَبِّرَ ! زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا هُمْ زَارِعُ، وَلاَ لاِخْتِلافِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ،وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى حُجَّةٍ فِيما ادَّعَوا، وَلَا تَحْقِيقٍ ٍ

ص:21

لِمَا أَوْعَوْا، وَهَلْ يَكُونُ بنَاءٌ مِنْ غَيْر بَانٍ، أَوْ جِنايَةٌ مِن غَيْرِ جَانٍ)!

وفي الخطبة 108 يقول علیه السلام:

(الحَمْدُ لله المُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ...) أي إن المخلوقات هي آيات ودلائل تجلّى الله تعالَى بها وظهر لخلقه، فيما يوجد من المخلوقات من دلائل العظمة والقدرة والعلم والرحمة هي علامات على أن الخالق هو مصدر هذه العظمة والقدرة وسائر صفات الكمال .

الثالث الدليل الفلسفي:

وهو دليل عقليّ محض، وهو أصعب الأدلّة، ولكنّه أفضلها (1)، لما يترتى من المعرفة التي تحصل منه فإن أدلّة السببيّة والنظم والغائيّة، تدل على ضرورة وجوب الخالق والمنظم لهذا الكون، فهي تدل على الخالقيّة والتوحيد الخالقي، ولكنها لا تدل بوضوح وقطعية على التوحيد الربوبي، الذي ينتج منه التوحيد العبودي الله ، كما يدل عليه الدليل الفلسفي الذي يدل على قيام كل موجود بما هو موجود مخلوق بوجود الله سبحانه، فعندما يقول علیه السلام في الخطبة(1): (وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ قَالَ: «فِيمَ» فَقَدْ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ قَالَ: «عَلَامَ؟» فَقَدْ أَخلَى مِنْهُ. كائِنْ ٌ لَا عَنْ حَدَثٍ، مَوْجُودٌ لَا عَنْ عَدَمٍ ، مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ، وَغَيْرُ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ)، فإن هذه الكلمات تحرك العقل الفلسفي لنعرف الله الذي لا يمكن أن يخلو منه شيء، فلا يصح أن يُسأل عن الله في أي شيء، أو على أي شيء، فهو موجود مع كل شيء دون أن يكون محدوداً في ذلك الشيء، وقوله علیه السلام في الخطبة 186 : (...وَكُلُّ قَائِمٍ فِ سِوَاهُ مَعْلُولٌ...) يوضح معنى وجود الله في كل شي.

ص: 22


1- للمزيد من التوضيح حول أفضلية هذا الدليل وأهميته، راجع تعليقة الشهيد مطهري علي ابن سينا في الإشارات ذكرها ضمن توضيحه للدليل الفلسفي في الدليل على وجود الله، وبيان أهمية هذا الدليل في معرفة الله وتوحيده وصفاته التي ذكرتها آيات القرآن الكريم في كتاب شرح أصول الفلسفة ج : 5 ، ص: 66 .

فالوجود عقلاً إما قائم بنفسه أو بغيره، والوجود القائم بغيره هو الذي يكون قائماً بالوجود القائم بذاته، وهو الله عزّوجل.

فكل الموجودات القائمة بالغير، وهي المخلوقات المحتاجة في وجودها والمفتقرة إلى الله القائم بذاته، فالله سبحانه له قيوميّة عليها في ذاتها، لأن وجودها قائم به سبحانه، وهذا تفسير لقوله تعالى:(سَنُرِيهِمْ ءَایَٰتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾(1)، ﴿أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ﴾(2). وهل يوجد في هذا الوجود شيء وإن كان جزءً من الذرة أو الإلكترون أو البروتون إلاّ ويصدق عليه أنه شيءٌ، والله سبحانه شهيد على ذلك الشيء ومحيط به، وهذه الشهادة والحضور والإحاطة، إحاطة قيّوميّة، وقيام للأشياء بالله سبحانه وحضوره فيها.

وهذا هو معنى قول أمير المؤمنين علیه السلام لرجل حلف بالله فقال: والذي احتجب بالسبع ، فقال له علیه السلام: أخطأت ثكلتك أمك ، فقال الرجل: فما كفارة ذلك ؟ قال علیه السلام: (أن تعلم أن الله معك حيث كنت إنّ الله عزّ وجل ليس بينه وبين خلقه حجاب، لأنّه معهم أينما كانوا) (3).

وهنا ترتسم لنا هيكلة المعرفة التي هي أساس الدين، وإنها ناتجة من حركة العقل بالنظر إلى المخلوقات والآيات والدلالات، ليُعرف أن الأسباب والآثار لابد لها من مؤثر، والمؤثر لابد أن ينتهي إلى العلّة الأولى، وإن النظم الموجود في العالم يدل على المنظم، والحركة تدل على المحرك، وهذا يثبت الخالق فقط.

ص: 23


1- فصلت 53 .
2- فصلت : 54 .
3- توحيد الصدوق: ص 184 ، الباب 28 ، الحديث 21 .

أمّا إثبات الربّ وتوحيد الخالق والربّ فيحتاج إلى البرهان الفلسفي، الذي يرقى فيه العقل ويتعمق في التفكير، ليقوم بتقسيم العالم إلى قسمين لا ثالث لها، فإمّا موجود مفتقر قائم بغيره، أو غنيّ موجود بذاته، والوجود القائم بذاته، والغني المطلق، لا يمكن إلا أن يكون واحداً أحداً وحاضراً وشاهداً وقاهراً لكل الأغيار والأعدام.

وهذا ما ركّز عليه الخطاب العلوي في تنمية العقل، لإنتاج العقيدة التوحيدية الصحيحة التي تنتج عقيدة الربوبية والعبودية الخالصة لله، والتي تمنح السالك في هذا المنهج عوينات علوية، يرى فيها الناظر ربّه في كل شيء،أنظر إلى هذه العبارات العلوية السامية وتعمق فيها، وأنظر كيف يتدفق من ينابيع معانيها التوحيد الربوبي الخالص : يقول علیه السلام في الخطبة الأولى:

(... أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَکَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلاصُ لَهُ ، وَكَمَالُ الْإِخْلاصِ لَهُ نَفْيُّ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّها غَيْرُ المَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ، وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ، وَ مَنْ ثَنَّاهُ فَقَد جَزَّأَهُ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ...)، وفي الخطبة (186) يقول علیه السلام:

(ما وحّدهُ مَن كيّفه، ولا حقيقته أصاب مَن مثّله، ولا إيّاه عنى مَن شبّهه،ولا صمده مَن أشار إليه وتوهمه...).

الإخلاص في التوحيد هو الاعتقاد بالإله الخالق الذي هو الكمال المطلق اللامتناهي، الذي لا فصل بين ذاته وصفاته، فهو ليس مثل المخلوقين، مثلاً زيد إنسان له ذات بلا علم ولا قدرة، ثم بعد ذلك يتصف بالعلم والقدرة الله سبحانه ليس كذلك، بل هو الذات المتصفة بالغنى المطلق في كل أنحاء الكمال في هذا الوجود، وهو كمال مطلق غني بذاته، وإذا كان هناك صفات

ص: 24

كمال تظهر على الموجودات، فما هي إلاّ فيض وعطاء من الغني المطلق الفيّاض بالكمال، وإنّ تفكيك الذات عن الصفات، يؤدي إلى الشرك والجهل بالإله الحقيقي.

ومَن يعتقد بإله تطرأ عليه الأعراض، ويتحول من حال إلى حال، فهو ليس موحّدا الله ، كذلك من أشار إليه وحدّده في اتجاه ومكان، أو من شبّهه بشيء أو مثّله بمثال، بل التوحيد الصحيح هو الاعتقاد بالإله الحاضر بكماله المطلق الذي لا يخلو من مكان ولا زمان ولا شيء في الأرض ولا في السماء، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو معكم أينما كنتم.

وترتفع درجة المعرفة والتوحيد في الخطاب العلوي الصانع للموحّد الحقيقي، عندما يقول في الخطبة الأولى: (مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة).

وفي الخطبة (186): (ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج).

وفي الخطبة (61): (وكل ظاهر غيره غير باطن، وكل باطن غيره غير ظاهر).

وفي الخطبة (188): (لا يجنّه البطون عن الظهور، ولا يقطعه الظهور عن البطون).

وهذه الكلمات العلوية تفسير للآيات، الأولى من سورة الحديد، كذلك سورة التوحيد، وآية النور «اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ(1)»، والآيات الأخيرة من سورة فصّلت ... «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(2)»، «... أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيط»(3)

ص: 25


1- النور : 35
2- فصلت : 53 .
3- فصلت : 54.

وهذه المعاني لا تثبت إلاّ بالبرهان الفلسفي الذي يحكم بتقسيم الوجود إلى فقير محدود، وغني مطلق، والمحدود يعني المحتاج، فالشيء الذي يكون في مكان ولا يكون في مكان آخر، فهو محدود في مكان معینّ، فهو محتاج إلى المكان، وغير المحتاج إلى المكان الذي تكون له جميع الأمكنة سواء فهو حاضر فيها، والمحدود زماناً هو الذي يحتاج إلى زمان، وغير المحدود هو الذي يحيط بالزمان، المحدود بالعلم هو الذي يعلم ببعض الأشياء ويجهل أخرى، كذلك المحدود بالقوة والمحدود بالملك، كذلك المعلول محدود لأنه يحتاج إلى العلّة، وغير المحدود هو الذي يكون علّة فقط ولا يكون معلولاً، فالمحدود هو المحتاج إلى ما ورائه والمعتمد على غيره، وغير المحدود هو القائم بذاته وغير المعتمد على غيره، فهل كل شيء في الوجود محتاج إلى غيره، ومتعلق بالآخر ومعتمد عليه ؟ إذا كان كذلك فهذا معناه عدم تحقق الموجودات، وحيث أن الموجودات متحققة، إذن فالغني المطلق الذي يهب الوجود للمحتاج وهو غني لابد أن يكون موجوداً بحكم العقل.

والغنى المطلق يعني غير المحتاج، وغير المحدود، والحاضر في كل شيء،والمحيط بكل شيء.

ميزان التوحيد الصحيح

وهذه المعاني العالية التي تتدفق من ينابيع الكلمات العلويّة، حكمة نظرية شريفة تترتب عليها حكمة عملية سامية، فالعقل عندما يحكم بضرورة وجود الغني المطلق القائم بذاته الذي به توجد سائر الموجودات القائمة بالغير والمحتاجة إلى الغني، فإن هذا الحكم العقلي يحكم بنفس الوقت بتوحيد هذا الوجود المطلق، وبعدم محدوديته، وحضوره وشهوده في كل شيء.

ص: 26

وحول هذا المعنى يقول الشيخ الجوادي الآملي(1): (إنّ أمتن البراهين على توحيد الله سبحانه هو أنه موجود مطلق غير مقيّد بشيء، ولا نهاية لوجوده، فحينئذ لا مجال لفرض إله آخر، لأنه فرضٌ محال، إذ إدراك الموجود المطلق الغير المتناهي قد ملأ الوجود كله، فأينما تولّوا وجوه عقولكم فثمّ وجه الواجب الواحد الغير المحدود، فأين المجال لفرض غيره؟ .لأنّه إذا كان محدوداً، فله حدٌ لا يتعداه، وليس واجداً لما وراءه، كذلك إذا كان محدودا فهذا يعني أنّه فقير محتاج ، وليس هو الغني المطلق الذي به يقوم ما سواه.

وبهذا المعنى يثبت أنّه لا يفقد شيئاً، ولا يمكن أن يكون محتاجاً إلى زمان ومكان وكيفيات وأعراض،أو صفات كمال خارجة عن ذاته، ومن اعتقد غير ذلك فقد جعل الله شريكا وخرج من التوحيد، لذلك فإنّ الألوهيّة بمعنى الغني المطلق القائم بذاته، تشهد بالوحدانية، وهذا هو معنى (شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو )(2)، أي إنّه بذاته شهد على توحيده ومَن اعتقد بإلهِ تُعرض عليه الكيفيات والصفات، وذاته غير صفاته، فهو خارج عن التوحيد، وهذا معنى (ما وحده مَنْ كيَّفه ، ولا حقيقته أصاب مَنْ مثَّله، ولا صمَّده من أشار إليه )(3)،(ومن أشار إليه فقد حدَّه ، ومَن حدَّه فقد عدَّه ... )(4).

وحول هذا المعنى يقول الشيخ الجوادي الآملي : (وأمّا الصفات الكمالية التي تكون هي عين الذات، فكمال التوحيد هو إثباتها لها، لأنّ الذات الفاقدة لها تكون محدودة، لخروجها عن تلك الذات، ولا شيء من المحدود بواجب ولا خالق، فمَن وصفه تعالى بصفه كمالية هي عين ذاته، فقد وحَّدَه، ومَن وحَّده فقد نزَّهَه عن العدد.

ص: 27


1- علي بن موسى الرضا والفلسفة الإلهية: ص 36 ، جوادي آملي.
2- آل عمران آية .18 .
3- نهج البلاغة الخطبة 186 .
4- نهج البلاغة الخطبة الأولى .(1)

وهناك رواية عن الإمام الرضا علیه السلام أنه علیه السلام قال: {(لم يزل الله تبارك وتعالى عليماً قادراً حيّا سميعاً بصيرا) قيل له يابن رسول الله : إن قوما يقولون أنه عز وجل لم يزل عالماً بعلم وقادراً بقدره، وحيّاً بحياة، وقدياً بقدم، وسميعاً بسمع، وبصيراً ببصر، فقال علیه السلام : (مَنْ قال ذلك، ودانَ به، فقد اتّخذ مع الله آلهة أخرى، وليس من ولايتنا على شيء)، ثم قال : (لم يزل الله عزّ وجلّ قادراً حيّا قديماً سميعاً بصيراً لذاته، تعالى الله عما يقول المشركون والمشبّهون علواً كبيراً)(1).

وهنا ينقدح لنا معنى عظيم يتبلور منه ميزان ومقياس مهم لولاية أهل البيت عليهم السلام ، وهو إنّ التوحيد بمعناه الكامل الصحيح المنزّه من الشرك والتشبيه،هو مقياس الولاية الحقيقية.

فإذا أردنا أن نصنع موالين لأهل البيت فعلينا أن نصنع موحدين ونبيّن التوحيد الصحيح، ولن يكون هناك توحيد صحيح إن لم يَعرف الإنسان الشرك بكل معالمه وعوامله ومصاديقه لينفيه ويزيله ويثبت محله الإيمان بالله الغني المطلق الواحد الأحد.

كيف نتصور وجود الله مع كل شيء؟

أرشدتنا الكلمات العلوية المذكورة- والتي فسّرت لنا الآيات القرآنية الكريمة - إلى حكم العقل بضرورة وجود الله الذي هو الغني المطلق، وحيث أنّ العدم والحاجة تستحيل على الغني المطلق، فهو إذا حاضر ومحيط وشهيد على كل شيء، وهذا يعني إن الله موجود مع كل شيء، وهذا ما صرّحت به الآيات القرآنية والكلمات العلويّة «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ»(2)(مع كل شيء لا

ص: 28


1- توحيد الصدوق ص 4 .
2- الحديد : آية 4 .

بمقارنة وغير كل شيء لا بمزايلة)(1).

فماذا يعني وجود الله مع كل شيء؟

جواب هذا السؤال يجرنا إلى البحث المعروف، وهو بحث حقيقة الوجود وهنا توجد ثلاث نظریات:

الأولى: ان الوجود كله وجود واحد والموجود أيضا واحد هو الله سبحانه، أي لا يوجد في هذا الكون سوى موجود واحد وهو الله، والمخلوقات عبارة عن ظلال و اعتباريات، وهي التي تنسب إلى مَنْ يسمَّونَ بالصوفية.

الثانية: كثرة الوجود وكثرة الموجود، وهي التي تنسب إلى أرسطو والمشائين.

الثالثة: وهي التي تؤمن بأن الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب متعددة، واختلاف الموجودات باختلاف درجتها الوجودية، وأعلى هذه الدرجات هي درجة الوجود الغني المطلق التي تحيط بجميع درجات الوجود الأخرى، وهذه نظرية صدر المتألهين الشيرازي ، ومَن يتبعه من الفلاسفة المعاصرين كالعلامة الطباطبائي.

وهذه النظرية هي التي يمكن أن توضح لنا الآيات المذكورة، وكذلك الكلمات العلوية، فعندما يقول علیه السلام: بأنّ الله مع كل شيء وغير كل شيء، ويقول: أنّه ليس داخل في الأشياء وليس بخارج عنها، فهذا كيف يمكن تصوره إلاّ بأن نقول : أن الدرجة العالية والمحيطة للغني المطلق حاضرة وشاهدة ومحيطة بذلك الشيء، لكن لا يعني ذلك أنّ الشيء هو الله ، بل بمعنى أن الله سبحانه حاضر ومحيط وشاهد على الشيء مثل زيد، وهو أقرب إلى زيد من نفسه وقلبه ، ولكن لا يعني ذلك أن زيد هو الله سبحانه .

ص: 29


1- نهج البلاغة الخطبة الأولى.

ولأجل المزيد من التوضيح لهذا المعنى الشريف جداً، نذكر هنا توضيح المفكر الشهيد مطهري قدّس سرّه (1)، مع تغيير بعض المصطلحات الفلسفية التي قد تكون غامضة على بعض القرّاء الأعزاء الذين لم يدرسوا الفلسفة.

يقول الشهيد مطهري قدّس سرّه: تارة نلحظ الشيء بما فيه من عناصر كمال، وتارة نلحظه بما هو محدود بنواقص وأعدام ، جعلته شيء محدداً ومعيناً ومتميزاً عن غيره من الموجودات.

مثلاً نلاحظ العدد (90) بلحاظ أنّه لا (89) ولا (91)، أي بلحاظ مصداقه ورقمه الخاص الذ يميزه عن غيره، وهو عدم غيره.

ومرة نلاحظ العدد (90) بما أنّهه عدد وبما أنّه وجود ودرجة من الكمال ضمن درجات الكمال اللامتناهية الموجودة في الكون، فهنا يكون العدد (100) موجود في (90) وكذلك (90) موجود في (100).

مثلاً إذا أردنا أن نلاحظ الحمار، تارة نلاحظه بما هو حيوان معين محدد ببعض الصفات الكمالية، مثلا فيه درجات من الجسمية والحياة والنمو والحركة والإدراك والصوت المشخص ، فهنا مجموع هذه الدرجات الوجودية التي هي أضعف من غيرها كالإنسان والحصان، هذا المجموع اسمه حمار، ولا يمكن أن نقول أنّ الإنسان حمار، ولا حتى حصان، لكن لو أردنا أن نلاحظ الحمار ؛ لا بما أنّه حمار ذو درجات وجودية ضعيفة ومحدودة، وإنّما بلحاظ درجات الوجود كالجسمية النامية، والحركة والحياة والإدراك، فهنا يمكن أن يقال أنّ الإنسان حمار بمعنى اشتراك الإنسان في كمالات الحمار، أو أنّ الإنسان موجود في الحمار، أي أنّ الكمالات الجسمية والنمو والحركة بالإرادة والحياة الموجودة في الإنسان موجودة في الحمار أيضاً.

ص: 30


1- مجموعة آثار الشهيد مطهري : ج 1 : ص 276 .

وللمزيد من التوضيح نقول: إن هذا الكتاب صار كتاباً بوجوده، وعُرف كتاباً بحدوده، فالأشياء لها وجود هو المقوّم لحقيقتها، ولها حدود هي التي تميزها عن غيرها، فحقيقة هذا الكتاب بوجوده ويُعرف كتاباً بحدوده، وحقيقة الكتاب يشترك بها مع سائر الموجودات التي هي بدورها تملك درجات مختلفة من هذه الحقيقة، وأعلى درجات هذه الحقيقة هي الواجب المطلق الله سبحانه المحيط بكل درجات الوجود، بل أن كل درجات الوجود الموجودة قائمة به، فالله سبحانه وتعالى موجود في كل الموجودات بحقائقها، وهي غيره بما لديها من حدود ونواقص وأعدام، الله سبحانه وتعالى أقرب إلى الكتاب من نفس الكتاب، لأن الله سبحانه أقرب إلى وجود الكتاب التي هي حقيقته، وهو غير نفس الكتاب التي هي حدوده ونواقصه وأعدامه المختلطة بوجوده، وهو أقرب إلى الإنسان من نفسه في هذا المعنى، وهو غير الانسان، وتنطبق هذه الأقربية والغيريّة على كل الأشياء.

فذات الغني المطلق المتصف بالكمال اللامتناهي، لديه جميع كالات الموجودات، فهو موجودٌ فيها جميعاً، وحاضر فيها، وهو الذي أفاض عليها هذه الكمالات، بل هي قائمة به.

فهي من هذا الجانب مع الله والله سبحانه معها، لكن بما هي درجات ضعيفة من الوجود والكمال فالله سبحانه غيرها، ويختلف عنها، فهو معها لا بمقارنة، أي إنّ الله مع الإنسان والحيوان والشجر...، ولكن هذه المعيّة معيّة إحاطة و إشراف وشهود وإعطاء ،وجود ، وليست معيّة اقتران كما يقترن زید مع عمر، إذا جلسا سوية، أو مثل اقتران الأوكسجين مع الهيدروجين لتشكيل جزيئة الماء، كما أنّ الله سبحانه غير الإنسان والحيوان والشمس، ولكن لا بمزايلة، أي هذه الغيرية ليست مثل اختلاف زيد عن عمر، حيث كل منهما له مكانه وزمانه وحدوده الخاصة به، وإنّما هي غيرية درجة الكمال

ص: 31

الوجودي، التي هي مطلقة لا متناهية عند الله ومحدودة عند سائر المخلوقات.

ما هو المقدار المطلوب من معرفة الله ؟

إذا كان الله سبحانه هو الوجود اللامتناهي فكيف يمكن للإنسان المحدود أن يعرف الله ؟

الجواب هو: إن المعرفة الله تنقسم إلى قسمين:

الأول : معرفة حقيقة الذات الإلهية، وقد عرفنا بحكم العقل القطعي الذي تحرك بإرشاد الآيات القرآنية والكلمات العلوية، أنّ الذات وصفاتها الكمالية مطلقة ولا متناهية، ويستحيل على المحدود والمتناهي أن يدرك المطلق

اللامتناهي ويحيط به، فهذه المعرفة غير مطلوبة بل هي مستحيلة.

الثاني: المعرفة الممكنة وهي المعرفة الواجبة واللازمة والتي يترتب عليها دين الإنسان ومنهج حياته، وإليها يشير أمير المؤمنين علیه السلام في قوله في الخطبة 49 : (لَم يُطْلِعِ العُقولَ عَلى تَحديدِ صِفَتِهِ ، و لَم يَحجُبْها عَن واجِبِ مَعرِفتِهِ ...)، فما هي هذه المعرفة الواجبة والتي يمكن للعقول أن تصل إليها، بل يجب أن تصل إليها، لأنّه إذا لم تصل إليها لم تتحقق معرفة الله ، وإذا لم تكن معرفة الله فلا يمكن أن يكون للإنسان دين، لأنه ( أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ ...).

وهذه المسألة (التوحيد) هامة جداً ومصيريّة في حياة الأمّة، وقد أدّى فهمها المغلوط إلى نشوء المِلل والنِحل والمذاهب، ونشوب الفتن والميزان الصحيح فيها هو الذي يؤسس للدين الصحيح، ولذلك نرى تأكيداً عليها في الخطابات العلوية، وما ورد في نهج البلاغة من خطابات توحيدية هي التي توصل العقل إلى المعرفة الممكنة لله والتي يجب على كل مؤمن أن يصل إليها بالتفكّر ويعتقد بها، ويرتب منهج حياته طبقاً لها، ويمكن أن نحدد هذه المعرفة في مجالين:

ص: 32

المجال الأول: مجال فعل الله:

وهو ما يسمى بصفات الفعل، وهي التي تشتق وتنتزع من الفعل الإلهي كالخلق والرزق والنصر والشفاء والإحياء والإماتة، فنحن نرى المخلوقات ويحكم عقلنا بأنّ لها مصدرا أوجدها ، ونصفه بالخالق، وأمّا كيفيّة حصول هذا الخلق، فهنا يقول أمير المؤمنين علیه السلام في الخطبة الأولى:

(أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ ابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَ لَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا وَ لَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَ لَا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا أَحَالَ الْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ [لَاءَمَ] لَأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ انْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا).

في الخطبة (91) يقول علیه السلام: (... الَّذِي ابْتَدَعَ الخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ، وَلاَ مِقْدَارِ احْتَذَى عَلَيْهِ ... ) .

وفي الخطبة 186 يقول علیه السلام : ( يَقُولُ مَا أَرَادَ كَوْنَهُ: (كُنْ فَيَكُونُ)،لَا بِصَوْت يَقْرَعُ، وَلاَ بِنِدَاءِ يُسْمَعُ، وَإِنَّمَا كَلامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَاهُ وَمَثْلَهُ، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْل ذلِكَ كَائِناً، وَلَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلهاً ثَانِياً...)، والذي ينتجه التدبّر في هذه المقاطع التوحيدية التي تتحدث عن الخلق، وبإضافتها إلى الآيات الكريمة لا سيما في قوله تعالى:

(إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَیًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ(1))، وقوله تعالى :(قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بمِثْلِهِ مَدَدًا)(2).

إنّ عملية الخلق أوجدها الله سبحانه لا من شيء خارج وجوده سبحانه،

ص: 33


1- يس : 82
2- الكهف : 109 .

لأنه هنا يلزم الشريك الله، ومحدودية الله سبحانه، وكذلك لم يخلقها من لا شيء بمعنى العدم المطلق،لأنّ العدم المطلق لا يتحول إلى شيء.

فما هو الشيء الذي قال له الله كن فكان؟ هل يوجد هنا مخاطِب هو الله، ومخاطَب هو الشيء؟ وقال له الله كن، فإذا كان الشيء موجوداً من قبل الخطاب، فإيجاده أو طلب إيجاد تحصيل حاصل، أو طلب لتحصيل الحاصل، وهو لغو ومحال ، والجواب هنا إنّ كلمة كن هي إيجاد الشيء، كما فسّرها الأميرعلیه السلام عندما قال:

(كلامه سبحانه فعل منه إنشاءه، ومثله لا بصوت ولا نداء ولا روية ولا همامة نفس، أي إنّ عملية الخلق ليست مثل ما يفعله الإنسان عندما يريد أن يصنع شيئاً فيفكّر ويصوّر الشيء، ويتحرك ويتكلم ويستفيد أحياناً من تجارب وأمثلة الآخرين، وقوله علیه السلام:

(أحال الأشياء لأوقاتها ولاءم بين مختلفاتها، عالماً بها قبل ابتدائها، محيطاً بحدودها وانتهائها، عارفاً بقرائتها وأحنائها...).

نحن ندرك الظهور لا الصدور

إذا جمعنا مع هذه الكلمات العلوية، الآية الكريمة في قوله تعالى:(وَ إِنْ مِنْ شَیْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(1)، وقوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَهُ بِقَدَرٍ ٍ)(2)، و (وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار ٍ)(3)، وقال تعالى:(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )(4) ، فهناك عالمان عالم الأمر وهو العالم العلوي الذي فيه صدر الأمر أو عالم الصدور، وعالم نازل ؛ وهو عالم الخلق،وهو عالم ظهور

ص: 34


1- الحجر: 21 .
2- القمر : 49 .
3- الرعد: 8
4- الأعراف: 54 .

الأشياء وهو العالم الذي ندركه.

يمكن أن نقول إنّ عملية الخلق هي ظهور الأشياء بالنسبة إلى عالم الخلق الذي هو بالنسبة إلينا عالم الدنيا، أو ما يسمى بعالم المُلك أيضاً، وأمّا هو بالنسبة إلى الله فهو عالم الأمر، وعالم الخزائن، وهو فيض الله الصادر من الله ، دون أن يكون زمان ومكان وقدر وحدود، وهو مرتبة الصدور، لكن عندما تنزل مراتب الوجود إلى أن نصل إلى مرتبة المادة وهي مرتبتنا التي نعيش فيها وندركها، فإنّ هذه المرتبة من مميزاتها الزمان والمكان والحدود والتقديرات وهي مرتبة الظهور، فالمخلوقات التي نراها ونحسّ بها، هي ظهورات عالم الأمر الذي ينزل من الخزائن إلى عالم المادة، على نحو مخلوقات محددة، وبقدر وبمقدار معين، فالمخلوقات المادية كلّها في عالم الخزائن، ليس فيها حدود زمانية ومكانيّة، وهي موجودات ثابتة في عالم الثوابت أو الخزائن في مرتبة الصدور ، ولكن عندما تريد أن تظهر وتتجلّى في مراتبها النازلة، تظهر لنا بهذه الحدود، زيد مثلاً في عالم الخزائن والثوابت موجود، لكن عندما يريد أن يظهر في عالم المادة، يظهر في قطعة زمنية ومكانية ومن أب وأم معينين، وتقديرات أخرى محددة، ولأجل المزيد من التوضيح نضرب مثالاً بالظل الموجود في هذه الغرفة، الذي هو درجة نازلة من ضوء الشمس، فهذا الظل في أعلى درجات ضوء الشمس ليس فيه حدود مثل هذه الحدود التي للظل هنا، لكن عندما يصل إلى الأرض، وتنزل مرتبة الضوء إلى أقل درجاتها، ثم تكون هناك موانع وجدران، يحصل الظل الذي مساحته هنا 3 في 4 م ، ويبقى لمدة 12 ساعة مثلاً، وكما أنّ هذا الظل هو معلول للشمس وفيضها النوري وقائم بها، وينعدم وجوده بدونها، كذلك المخلوقات كلها بما فيها المادية هي معلولات للدرجة الأعلى من الوجود القائمة بذاتها، وهي مرتبة الله سبحانه، و وجودها بكامله مرتبط بوجود الواجب الغني المطلق القائم بذاته.

ص: 35

المخلوقات مظاهر فعل الله تعالى:

اتضح لنا إنّ المجال الأول للمعرفة هو معرفة الله بصفات فعله، فنعرفه أنّه الخالق، وأوضحنا معنى الخلق كي لا يتوهم البعض أن الله يخلق الأشياء مثل ما يصنع الإنسان الأشياء بنحو زماني ومكاني وتنفصل عنه بعد أن يصنعها، فالله سبحانه ليس كذلك، وإنّما الفيض الإلهي يظهر بمراتبه النازلة لنا على شكل هذه المخلوقات.

دلالة الفعل الإلهي على توحيده:

في الخطبة (186) التي قال عنها السيد الشريف الرضي، أنّها خطبة في التوحيد، وتجمع من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة، جاء قوله علیه السلام: ( بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ )، أي إنّه جعل الأشياء تشعر وتحس بأن جعل لها أجهزة وأعضاء حسيّة، وجعلها تنفعل بغيرها، فتكتشف غيرها وترتبط به، وهذا الانفعال الذي هو مقدمة التفاعل والترابط بين الأشياء أساس لوجود نظام المخلوقات وبقائه، وهو كذلك يدل على أنّ الذي صاغ هذا النظام، إله واحد وعليم وقادر وعظيم، وإنّه خلق الأشياء منفعلة ومتفاعلة فيما بينها، وهو مصدر هذا الجعل، فهو لا يقع عليه الانفعال، إذ لا يمكن أن يقع عليه الانفعال، ويعرض عليه الإحساس كمخلوقاته، لأنّ الانفعال يحتاج إلى فاعل.

وقال علیه السلام :( وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ ).

التضاد بين الأشياء والاختلاف وعروض حالات ومواصفات مختلفة على محل واحد أساس للحياة، ولحركة الإنسان وسائر المخلوقات نحو الكمال، فلو لم يوجد في حياتنا إلا ليل فقط، أو نهار فقط أو لون واحد فقط، أو فصل واحد وحالة جوية واحدة، أو طعم واحد أو رائحة واحدة، لما أمكن

ص: 36

للحياة أن تكون على الأرض، فهذا التضاد والاختلاف في أفلاك هذا الكون ومخلوقاته وأعراضها الذي ينتج الليل والنهار، والفصول والحالات المختلفة التي يجعل الإنسان والمخلوقات تتحرك وتطلب حالة بعد حالة، وتصل إلى كمالها المطلوب، تدلّ على وحدة هذا الخالق وعليه وعظمته ورحمته (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

ويدل هذا التضاد بين الأشياء أنّ الذي جعل الأشياء متضادة هو الذي خلق هذا النظام ولا يمكن أن يكون له ضد فهو الغني المطلق الذي لا يتحول ولا يتغير ولا يحتاج لأنّ هذه صفات المحتاج الفقير.

ثم يقول علیه السلام: (وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ)، القرن والجمع بين الأشياء كالجمع بين الذرات المختلفة لتكوين المركبات والأشياء المختلفة، كالقرن بين الأوكسجين والهيدروجين لتكوين الماء، والقرن بين الذكر والأنثى لأجل استمرار الحياة، والقرن بين الروح والجسد، والقرن بين الكواكب والنجوم لأجل تحقيق التوازن في الكون، كل ذلك دليل على وحدة وعظمة خالق هذا الكون.

ثم يذكر الإمام علیه السلام أمثلة على التضاد والتقارن، فيقول (ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَ الْحَرُورَ بِالصَّرَدِ ،مُؤَلِّفُ بَيْنَ متضاداتها ، مُقَارِنُ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا ، مُقَرِّبُ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا ، مُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا...)، وهذه العبارة الأخيرة إذا فكرنا فيها نجد أن أعظم و أوضح مصداق لها هو الذرة حيث إنّ الله سبحانه فرق بين النواة والمدارات التي حول النواة التي تدور فيها الإلكترونات ذات الشحنة السالبة على النواة ذات الشحنة الموجبة، وكيف أنّ عالم المادة قائم على هذا التفريق بين النواة والإلكترونات، ولو اختل هذا التباعد، ولو في جزء قليل جداً من المعادن، لتحولت النواة إلى طاقة نووية تحرق الأرض ومَن۟ عليها،

ص: 37

فسبحان الله العظيم الذي خلق كل شيء فقدّره تقديرا، والذي جعل كبرياءه وعظمته موضعاً لرحمته وجوده وكرمه.

المجال الثاني:الصفات السلبية:

إننا لا نستطيع أن نعرف الله سبحانه بصفاته الثبوتيّة للذات المقدّسة، لأنّها فوق قدرة إدراكنا، وهي ليست مطلوبة منّا، بل المطلوب هو عدم الخوض فيها، لكننا يمكن أن ندرك الصفات السلبية، ولهذه المعرفة دور أساسي في تحقق التوحيد ونفي الشرك، ولذلك نرى في الخطب العلوية اهتماماً بالغاً في التعريف بهذه الصفات السلبية، ونرى أنّ الإمام يُرشد ويُنبّه إلى بعض التصورات والاعتقادات التي عند البعض، والتي يلزم منها القول بالشريك أو الحدوث أو الجسمية أو المحدودية أو التغيير والانفعال أو النقص.

وقد احتوت الكثير من خطبه علیه السلام التعريف بالله سبحانه وبصفاته السلبية كما في الخطبة الأولى، حيث قال علیه السلام : بأنّ كمال توحيد الله بنفي الصفات عنه، أي نفي صفات المخلوقين، أو الصفات المنفصلة عن الذات، وأنها الدليل على توحيده وقهره ونفيه لجميع الأغيار، كذلك فصّل الإمام علیه السلام في ذكر الصفات السلبية في الخطبة (186) ، التي قال عنها السيد الرضي أنها في التوحيد، وتجمع من وصول العلم ما لا تجمعه خطبة، ويقول في بدايتها : ( مَا وَحَّدَهُ مَنْ كيفيه ،وَ لَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ )، وبعد أن يذكر صفات الأفعال التي ذكرنا منها في المجال الأول، يذكر الصفات السلبية، ويقول في الخطبة علیه السلام(186): (لاَ يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ وَالحَرَكَةُ، وَكَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ، وَيَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ، وَيَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَةُ ! إِذا لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ، وَلَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ، وَلاَمْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ، وَلَكَانَ لَهُ وَرَاء إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ، وَلاَلْتَمَسَ السَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ. وَإِذا لَقَامَتْ آيَةُ المُصْنُوع فِيهِ، وَلَتَحَوَّلَ دَلِيلاً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولاً عَلَيْهِ، وَخَرَجَ بِسُلْطَانِ الْإِمْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُوَثْرَ فِيهِ مَا يُوثُرُ فِي

ص: 38

غَيْرِهِ الَّذِي لا يحولُ وَلاَ يَزُولُ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأُفُولُ. لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً، وَلَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً، جَلَّ عَن الْخَاذِ الْأَبْنَاءِ، وَطَهُرَ عَنْ مُلامَسَةِ النِّسَاءِ. لا تَنَالُهُ الْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ، وَلا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ، وَلاَ تُدْرِكُهُ الحَوَاسُ فَتُحِسَّهُ، وَلا تَلْمِسُهُ الْأَيْدِي فَتَمَسَّهُ. وَلَا يَتَغَيَّرُ بحَالٍ، وَلاَ يَتَبَدَّلُ فِي الْأَحْوَالِ، وَلاَ تُبْلِيهِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، وَلا يُغَيِّرُهُ الضّياءُ وَالظَّلامُ ، وَلا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَلَا بالجوارح وَالْأَعْضَاءِ، وَلاً بعرض مِنَ الْأَعْرَاضِ، وَلاَ بِالْغَيْرِيَّةِ والأَبْعَاضِ. وَلاَ يُقَالُ: لَهُ حَلٌّ وَلا نِهَايَةٌ، وَلا انْقِطَاعٌ وَلا غَايَةٌ، وَلَا أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتْقِلَّهُ أَوْ تُهوِيَهُ، أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ، فَيُمِيلَهُ أَوْ يُعَدِّلَهُ. لَيْسَ فِي الْأَشْيَاءِ بِوَالِجِ، وَلَا عَنْهَا بِخَارِجٍ ٍ).

ومن الملفت للمتابع للخطاب العلوي، الذي هو خطاب قائد وحاكم للدولة العالمية في وقته والحضور في هذه الخطابات عادة ما يكون عامة الناس، ولكن نرى التأكيد على المسائل التوحيدية، ذات المعاني العميقة، التي تحتاج في فهمها إلى عقل فلسفي متدبّر، كما اتضح ذلك من توضيح بعض الكلمات المذكورة سابقاً.

خلاصة ميزان المعرفة:

والذي يخرج به المتدبّر للكلام العلوي المقدس في مجال معرفة الله وتوحيده،هو ثلاث نتائج هي:

1- التأكيد على ضرورة المعرفة وإنّها أساس الدين، ولذلك قلّما تجد خطبة من خطبه، حتى العامة لجميع الناس، خالية من هذا التأكيد على المعرفة، وإنّه يرفع عنوان المعرفة أحياناً إلى درجة الرؤية فيقول لذعلب اليماني في الخطبة 179 وقد سأله : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال علیه السلام : أفأعبُد ما لا أرى؟ فقال: وكيف تراه؟

ص: 39

فقال علیه السلام: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان.

2-التأكيد على عظمة فعل الله وحكمته وعجائب خلقه، وإنّه تجلّى بها لخلقه

3-التأكيد والتحذير من التصورات التي تؤدي إلى الشرك، أو النقص أو الجسمية والمحدودية، أو إمكان الرؤية الحسيّة.

دور معرفة الله في بناء المجتمع الصالح:

وهذا يدل على أن أمير المؤمنين علیه السلام يرى أن المجتمع الصالح لحكومة العدل الإلهي لابد أن يتأسّس على عقيدة التوحيد الخالص، والتوحيد الخالص لا يكفي فيه المواعظ والنصائح ، ولا النهي عن عوامل الشرك العملي، بل لابد من تطهير عقائد الناس من الشرك النظري أيضاً، وتحريك عقولهم للوصول إلى البراهين والأدلة التي تجعلهم يعتقدون بإله هو مصدر الكمال المطلق في هذا الكون، ولا مصدر سواه، ولا مؤثر في هذا العالم غيره، كما أنه لا يعتريه النقص والفناء والانفعال والتغير، ولا كل ما يوصف به المخلوقات من أوصاف، وأن تترسخ هذه المعرفة حتى تصل إلى درجة الرؤية القلبية، والقلب هو مركز تفاعل الإنسان، ومحبته وشوقه، وهذا الحب والتفاعل القلبي المعبَّر عنه بالرؤية ، هو فرع الفهم الراسخ اليقيني الذي يحصل في العقل، نتيجة التفكر والتدبّر المنتج للبراهين القطعية اليقينية.

ولذلك نرى أنّ أحد أصحابه كما ذكر في الخطبة (91) يأتي ويسأل الإمام ويقول: يا أمير المؤمنين صف لنا ربّك مثلما نراه عياناً، لنزداد له حباً وبه معرفةً.

ص: 40

فغضب ونادى الصلاة جامعة، فاجتمع الناس حتى غصّ المسجد بأهله، فصعد المنبر وهو مغضب متغيّر اللون، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي، ثم أخذ يتكلم في وصف الله تعالى في خطبة طويلة جداً، أكّد فيها على عظمة الله وعلى تنزيهه.

هذه المقدمة نقلها السيد الشريف الرضي من رواية مسعدة بن صدقة عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام، وقال بأنها تُعرف بخطبة الأشباح، وهي من جلائل خطبه علیه السلام، وهنا نحتاج إلى التأمل في أمور:

1 - إنّ الإمام ألقى هذه الخطبة في زمن ،خلافته، وعلى منبر الكوفة، وكلنا نعلم أنّ الظروف التي كان يعيشها الإمام هي ظروف حروب وفتن، إضافة إلى انشغال الإمام في القضاء، وحل مشاكل أهل الكوفة، ومتابعة أمور الولاة المنتشرين في أرجاء واسعة من العالم ، تشمل آسيا وأفريقيا وقسم من أوربا، ومع ذلك يولي الإمام في هذه الخطبة الأهمية البالغة لمسألة المعارف التوحيدية، ويلقي هذا الخطاب الطويل الذي يراد منه ترسيخ معاني التحميد والتنزيه والمعرفة الإلهية الصحيحة.

2 - إنّ السائل يأتي إلى الإمام ويسأله أن يصف له ربه ليراه عياناً وليزداد حباً ومعرفة، ولولا وجود ارتكاز عند الناس بأنّ أمير المؤمنين علیه السلام يهتم بهذا الأمر، ورواج ثقافة معرفة الله بواسطة الإمام علي سلام الله عليه، لم يجرأ هذا السائل على توجيه هذا الطلب من الخليفة والحاكم والقائد الأعظم للأمة.

3 -إنّ أمير المؤمنين علیه السلام نادى بالصلاة جامعة، وهذا دليل على أهمية هذا الأمر،

ولأجل أن يحضر أكبر عدد من الناس.

4 -إنّ أمير المؤمنين علیه السلام، صعد وهو مغضِب متغيّر اللون، وسبب الغضب أمّا لأنّ الأمير علیه السلام فهم من سؤال السائل أنه يريد الرؤية الجسمانية، وهذا

ص: 41

مؤشر على أن ثقافة الناس التوحيدية ومعرفتهم بالله ناقصة، وهذا أمر خطير اكتشفه أمير المؤمنين وغضب وتغير لونه ونادى الناس لأمر هام، كأنَّ هناك عدو الدودا يداهم الكوفة ويريد غزوها .

أو أنّ سؤال السائل يريد به الرؤية الصحيحة وهي الرؤية القلبية، وإنّ الناس متعطشة إلى المعارف التوحيدية فخشي أنّ يكون هناك تقصير في ترويج المعارف التوحيدية، فغضب وتغير لونه من باب الخشية أن يكون هناك تفريط في ترويج هذه المعارف الهامة.

ومهما كانت أسباب الغضب فإنّ القدر المتيقن من هذا الموقف، هو أن أمير المؤمنين الذي جاء للخلافة ليؤسس دولة العدل الإلهي، وتحمّلَ من أجل ذلك الفتن والحروب التي أدت إلى شهادته علیه السلام، يرى أنّ العدل لايُبنى إلا على أرضيّة التوحيد الخالص، وكما عليه أن يقف بوجه الناكثين والقاسطين والمارقين، بسبب شركهم العملي بتمردهم على ولاية إمام التوحيد الحق كذلك عليه أن يقف أمام شبهات التجسيم والشرك النظري، وكما أنه يغضب ويتألّم للأكباد الغرثى والبطون الحرّى التي تحن إلى القدِّ، ويتأوّه على فقير اليمامة والحجاز الذي لا عهد له بالرغيف، كذلك يغضب للمعطّش غذاء التوحيد الخالص، وأتباع عليّ والموالون الحقيقيون متعطشون نحو معين معارفه التوحيدية العذبة الرويّة، كي يغرس في قلوبهم أشجار التوحيد الطيبة، ويحميهم من آفات الشرك والصنميّة الخفية، حيث يقول علیه السلام:

(... فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ، وَتَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِ مُ ، المُحْتَجِبَةِ ، لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ ، لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ، وَلَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لا نِدَّ لَكَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّوَ التَّابِعِينَ مِنَ المَتبُوعِينَ إِذْ يَقُولُونَ: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ إذ تسويكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(1)، كَذَبَ

ص: 42


1- لشعراء: 97 - 98 .

الْعَادِلُونَ بِكَ ، إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ وَنَحَلُوكَ حِلْيَةَ المُخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهمْ، وَجَزَّأَوكَ تَجَزَنَةَ المَجَسَّماتِ بِخَوَاطِرِهِمْ، وَقَدَّرُوكَ ، عَلى الخِلقَةِ المُختلِفَةِ القُوَى، بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِكِ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ، وَالْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ، وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَج بَيِّنَاتِكَ، وَإِنَّكَ أَنْتَ اللهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ، فَتَكُونَ فِي مَهَبٌ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً ، وَلاَ فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً ...).

إنّ عليّا علیه السلام لا يغضب إلاّ للحق، ولم يغضب إلاّ للخوف على الأمّة التي تشبّه الخالق بالمخلوق، أن تجعل الخالق مفهوماً مبهماً معلقاً في السماء، وأن لا ترتبط به إلا بالرموز والقشور والخرافات، وتأخذ منهج حياتها من الأصنام البشرية والحجرية، ويخشى عليّ علیه السلام من الأمّة التي فقدت إثارة وتنمية عقولها لتصل إلى معرفة الإله الحقيقي الغني المطلق، أن تتصور الإله مجسماً محسوساً، فتترك إله موسى وتذهب إلى عجل السامري، وللأسف فقد وقعت الأمة فيما كان يخشاه علي علیه السلام ،رغم سعيه الحثيث، وبذله أقصى الجهود لإنقاذها، والسبب ما الليالي أفصح به لكميل عندما قال : (إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً(1))، أي لو وجدت جامعات وحوزات علمية تبحث عن المعرفة التوحيدية العلوية،ولم يجد عليّاً ما يبحث عنه من علاء مثل كميل وذعلب وهذا السائل، بل وجد مع الأسف علاء وخطباء وصفهم بأنّم ( لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ مُسْتَعْمِلًا آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا )، أي لا هم له إلا تجميع النصوص وتكويم المفاهيم، ثم نثرها على الناس مقابل الدراهم والدنانير .

وإذا كانت حواضرنا ومنتدياتنا العلمية اليوم تخلو من ذعلب اليماني وكميل ونوف البكالي وميثم ورشيد، وتهمل نهج البلاغة وخطاباته التوحيدية التي تزرع الثقافة التوحيدية الخالصة، وتستأصل جذور الشرك والجاهليّة من

ص: 43


1- نهج البلاغة، قصار الحكم، الحكمة 137

قلوب الأمّة، فليس عجيباً أن نرى أمّة لم يبق فيها من الإسلام إلاّ اسمه، ومن القرآن إلاّ رسمه، أمّة تكتفي من دينها بلقلقات لسان وحركات جوفاء،تسبح وتحمد إله السماء بلسانها، وتسبح وتحمد آلهة الأرض بجوارحها.

فهي في المسجد والمحراب تعبد الله بلسانها، وفي خارج المسجد والحرم تعبد أعداء الله بجوارحها و سیاستها واقتصادها وكل مالديها! فهل في مثل هؤلاء موحّد الله؟ وهل فيهم موال لولي الله ؟!

ص: 44

الفصل الثاني

ميزان معرفة النفس

ص: 45

ص: 46

ميزان معرفة النفس

عندما تفكّر ثم تصمّم أن تكتب فكرتك، وتريد من يدك أن تكتب تنفذ اليد إرادتك، وعندما ترغب أن تنظر إلى شيء، تنفذ العين رغبتك في المشاهدة، وكذلك الإذن عندما ترغب في سماع شيء، وعندما تشتهي طعاماً تنفّذ اليد والفم والأسنان إرادتك، وعندما تغضب وتريد أن تنطق بكلمة أو تفعل فعلاً ما يأمر به غضبك، فاللسان والأعضاء تنفذ لك ما تريد، وعندما تحب أو تبغض أو تهرب من خطر، وتريد أن تترجم هذا الحب والبغض والخوف، تنفذ لك الأعضاء وتطيعك.

في كل هذه الأمور، لدينا آمر و مأمور، قائد و منفّذ، لدينا حاكم وسلطان، يفكّر ، يرغب، يحب، يبغض، يشتهي، يكره، ولدينا جنود وهم الأعضاء التي نفذت هذه الإرادات والأوامر والنواهي.

فمن هو هذا الملك والسلطان الحاكم في مملكة البدن؟

إنّه هو الذي يسمّى بنفس الإنسان، وهو حقيقة الإنسان، وأعضاء البدن هم جنودها الذين تُحقق ما تريد.

وهذه النفس ليست ماديّة، وليست جزءً من البدن، بدليل أنه لو كانت ماديّة، لتغيّرت بتغيّر المادة، فالعلم يقول إنّ خلايا الجسم في تجدّد وتغيّر مستمر، حتى خلايا المخ ولو كانت النفس ماديّة بدنية، لتغيّرت أفكارنا ومعلوماتنا وحبّنا وبغضنا وتقييماتنا وإرادتنا دائماً، مع تغيّر خلايا أعضاءنا البدنية، ولكننا نرى إنّ بعض ما يتعلق بالنفس كالمعلومات والأفكار والتعلقات، تبقى معنا ثابتة، مع أنّ بدننا قد تغیّر بنحو كامل ولعدة مرات.

وهناك اصطلاحات مختلفة ينبغي توضيحها وهي تمثل جوانب أو مظاهر أو

ص: 47

درجات النفس، وهي:

1 - العقل وهو القوة المدركة، وآلة التفكر، التي تنتج العلم .

2 - القلب : وهو مقام من مقامات النفس، ويطلقه القرآن الكريم على مواضيع مختلفة(1)، وهو درجة أعلى من العقل، وهو محل الحب والبغض حب و الإرادة، والمعلومات إذا ترسخت في العقل ونزلت إلى القلب فستنتج أو بغضاً وإرادة وعزماً ولذة وألماً، وهناك معلومات تأتي إلى القلب عن طريق العقل أو الذهن، وهناك معلومات تأتي مباشرة إلى القلب، والأولى تسمّى المعلومات الكسبية، والثانية هي المعلومات الوهبية، التي يحصل عليها الإنسان بواسطة التقوى وتزكية النفس(... وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(2)، ويمكن القول أن العلم المؤثر، هو ما نزل في،والقلب هو مركز قيادة الإنسان.

3-الفؤاد هو مصطلح يمكن أن يكون مرادفاً للعقل، أو مرادفاً للقلب أو هو جامع بينهما، وهو الذي يتم فيه تفيد أي تنضيج المحسوسات التي تأتي من أعضاء الحس كالسمع والأبصار ، من أجل تحويلها إلى علم وشعور وإرادة ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَرَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(3).

4 -الروح:وهي الحقيقة الأصلية للإنسان، وتستعمل أحياناً مرادفة للنفس، وهي عامل الحياة بكل درجاتها، وأدناها الحياة النباتية، وأعلاها الحياة الإنسانية القدسيّة، التي تمتاز بأعلى درجات الفكر والشعور والإرادة. والنفس هي روح تعلقت بجسم معين، أما مادي، كما في حياتنا العادية في

ص: 48


1- أنظر إلى كتاب (أربعين حديث للإمام الخميني (قدس) ، الحديث الثاني عشر ص218 .
2- البقرة: 282
3- النحل : 87 .

الدنيا، أو مثالي، كما في حالة المنامات والأحلام التي نراها في النوم، أو حالة الإنسان بعد الموت.

والإنسان في بداية نشوئه من الحَيْمن والبويضة، يتكون من نطفة ثم يتطور إلى المضغة والعظام واللحم ويصير جسما، فتتعلق به الروح فيكون نفساً، ثم يكتمل حتى يصير إنساناً، ومع نزول الروح إلى البدن أو تعلقها به أو تدبيرها له ، ينزل العقل أيضاً إلى النفس، أو يتجلّى أو يظهر فيها، وهو في بدايته قابلية للتعقل والإدراك، يتم تفعيلها بعد الولادة بواسطة الحواس وبشكل تدريجي.

5- الفطرة: وهي النزعة إلى الله خالق الكون ومصدر الكمال المطلق المودعة في نفس الإنسان، وعلامتها صفة حب الخير والصدق والرحمة المخبأة في جهاز النفس الإنسانية مهما كان اتجاهها الفكري والديني والسياسي فلو جئت بإنسان ملحد لا يؤمن بالله، وسألته هل إنّ الظلم أفضل أم العدل، وهل الرحمة بالناس أفضل أم القسوة عليهم ، وهل الصدق أفضل أم الكذب وهل أنّ الكسب للمال عن طريق العمل الصحيح أفضل أم السرقة والنهب والسلب وإيذاء الآخرين؟

فلا شكّ أنّه سوف يقول لك أنّ العدل والرحمة والصدق والعمل الصحيح هو الأفضل، وهذا دليل النزعة الإلهية الموجودة في نفس الإنسان، والتي تسمى بالفطرة (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا...(1))، وكأنّ الله شق العدم وأخرج منه إنساناً متجها نحو الله وصفاته الكماليّة.

ولو بقيت هذه الفطرة على سلامتها، وتم تفعيلها وتغذيتها بالغذاء السليم، وحمايتها من الانحراف والتلبيس والتغطية والتدسية (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّنَهَا(2)

ص: 49


1- الروم: 30
2- الشمس: 10 .

لسار الإنسان في طريق التوحيد الذي هو طريق الكمال الحقيق (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(1) )

1 - الفجور : وهي قابلية للانحراف عن الطريق الإنساني الصحيح، أُودع في النفس أيضاً كما قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّلَهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَلَهَا)(2)، والسبب في ذلك أنّ كمال الإنسان بالاختيار ومواجهة عوامل الانحراف والانصياع لأوامر العقل، من أجل حماية الفطرة التوحيدية، وحيث أنّ الكمال الإنساني بمصارعة الانحراف، فلابد أن يكون هناك قابلية جذب نحو الانحراف، وإلا لما كان خلق الإنسان سوياً ومتزناً، ولذلك قال تعالى (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّلَهَا)(3)، أي جعلها سوية ومستوية ومتزنة، كيف؟ قال (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَلَهَا)(4)، ففي مقابل التقوى والفطرة التوحيدية، يوجد جانب الفجور وقابلية الانحراف .

2- النفس الأمّارة: وهي درجة النفس إذا سيطرت صفة الفجور على التقوى، ودُسّيت ودفنت الفطرة، أو سيطر الجانب الحيواني والنهم والتوحش والهلع والحرص والرذائل، على جانب الفضائل الإنسانية، وجاء ذكرها في سورة يوسف الآية (وَمَا أُبَرِئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحم رَبِّ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ...)(5).

3- النفس اللّوامة : وهي درجة النفس التي تحصل من سيطرة جانب التقوى والفطرة، على جانب الفجور والحيوانية، وهي مصدر الأخلاق والفضائل الإنسانية، وهي مركز السيطرة على الغرائز والعواطف والرغبات

ص: 50


1- الشمس : 9
2- الشمس : 7 - 8
3- الشمس : 7
4- الشمس : 8
5- يوسف 53.

والنزعات، وتنظيمها بهداية العقل، وقد شرفها الله سبحانه، بأن أقسم بها في سورة القيامة الآية (2).

4 - النفس المطمئنّة : وهي درجة النفس العالية، التي يحصل عليها عندما تنتصر بشكل كامل على النفس الأمّارة ، ويحرّر منطقة الغرائز، ويجعلها مطيعة بنحوٍ ٍ تام لعقله وفطرته، ويقضي على جميع احتمالات الفجور والانحراف، وتنقلب لديه مقاييس اللذة والسعادة، من التلّذذ بإشباع غرائز الجسم، وجمع المال والجاه والسيطرة، إلى التلذذ بالعطاء والخدمة والتضحية، والشعور بالسعادة بنيل الفضائل الإنسانية.

ما هي النفس الإنسانية الحقيقية؟

بعد توضیح درجات النفس وجوانبها المختلفة، ينقدح لدينا سؤال مهم هو إنّ النفس الإنسانية التي تمثل شخصيّة كل إنسان، والتي يتم توفيها عند الموت والتي تتلذذ وتسعد بالثواب وتتألم بالعقاب، ما هي؟

والذي يستفاد من الآيات القرآنيّة وكذلك من الكلمات العلويّة أنّ هناك نفسَي۟ن لدى الإنسان أحداهما مذمومة والأخرى ممدوحة، فالنفس الأمارة والمسوّلة والموسوسة والمطوّعة، والنفوس التي يؤمر أهل العذاب بإخراجها (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ...)(1)، والأنفس التي أهمت الكافرين في قوله تعالى : (...قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ...)(2)كل هذه النفوس مذمومة، وعلى الإنسان أن يتخلّص من تبعاتها.

وكذلك في كلمات أمير المؤمنين نجد قوله علیه السلام في الخطبة :87(عِبَادَ الله، إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ، وَتَجَلْبَبَ الخَوْفَ ، فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الهُدَى فِي قَلْبِهِ ، وَأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ، فَقَرَّبَ

ص: 51


1- الأنعام: 93
2- آل عمران: 154

عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ، وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ).

وقوله في الخطبة (220) في وصف السالك الطريق إلى الله سبحانه: (قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ ، وَأَمَاتَ نَفْسَهُ ، حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ ، وَلَطُفَ غَلِيظٌه ...).

وفي المقابل نرى القرآن الكريم يصف النفس بأنّها ميزان النجاة والفوز، ويقول : ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)، ويقول في آيات عديدة بأن أهل العذاب قد خسروا أنفسهم :(فَأَعْبُدُواْ مَا شِثْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الخَسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الخَسْرَانُ الْمُبِينُ)(1)،(وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَبِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِنَايَتِنَا يَظْلِمُونَ(2))، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةً...)(3)،(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ...(4)).

وفي نهج البلاغة الخطبة 183: (وَخُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسَكُمْ ۖ)(5)، الخطبة 90 : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا)، خطبة :222 (حاسب نفسك بنفسِك)، وفي الخطبة 133 : (الدُّنيا دارُ مَمَرٍّ لا دارُ مَقَرٍّ ، وَالنّاسُ فيها رَجُلانِ : رَجُلٌ باعَ فيها نَفسَهُ فَأَوبَقَها،ورَجُلٌ اِبتاعَ نَفسَهُ فَأَعتَقَها).

فأي نفس هذه التي يجب أن يقهرها الإنسان ،ويميتها، ويستعين بالله عليها، ويستعيذ بالله من شرها، حتى يصل إلى الفلاح، وأيّ نفسٍ ٍ هي التي على الإنسان أن لا يخسرها، وأن يمسك بها، وعلى الإنسان أن يأخذ من جسمه ويجود عليها، وعليه أن يشتريها ليعتقها ويحررها، أين الإنسان من هاتين النفسين؟

ص: 52


1- الزمر : 15
2- الأعراف: 9
3- التوبة : 111
4- البقرة : 207 .
5- المائدة: 105 .

ثم مَنْ هو الذي تأمره النفس الأمارة، وتسوّل له النفس المسوّلة، وتطوّع له النفس المطوعة، وتوسوس له النفس الموسوسة؟

ومَنْ هو قابيل الذي طوعت له نفسه قتل هابيل أخيه؟ هل هو شخص آخر؟ ونفس أخرى؟ غير النفس المطوّعة؟

وعندما يقول أمير المؤمنين علیه السلام في الخطبة 90 : (زِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا ، وحاسبو أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا ،و مَنْ هُوَ المحاسب ؟

وعندما يقول في الخطبة 222 : (حاسب نفسك بنفسك)، فمن هو

المحاسب؟ وَ مَنْ هو المحاسِب؟

ومن أجل الوصول إلى تشخيص النفس الإنسانية التي تمثل الأنا، والتي يقع عليها العذاب والثواب، لابد من القيام بعملية جمع بين الآيات والكلمات النبويّة والعلويّة، وارجاع المتشابه إلى المحكم والمجمل إلى المبين، فنقول:

إنّ القرآن الكريم أكّد أن شخصية الإنسان تبدأ بنفخ الروح، وفي خلق آدم تمّ نفخ الروح في جسده الطيني، وقال للملائكة:(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَكَةِ إِنِّي خَلِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَجِدِينَ)(1).

وفي ذرية آدم قال أنه بعد 120 يوما من انعقاد النطفة سوف يتم نفخ الروح(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّلَهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَرَ وَالْأَفْئِدَةً قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ)(2)، وبعد أن يكسوا العظام لحماً، سوف يتم نفخ الروح(ثُمَّ أَنشَأْنَهُ خَلْقًا ءَاخَرَّ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ

ص: 53


1- الحجر: 28 - 29 .
2- السجدة: 8-9 .

الْخَلِقِينَ(1)).

فالروح هي المشخّص لإنسانية الإنسان، التي استحقّت سجود الملائكة له، وتعظيم شأنه، ولم يأتِ ذم للروح في القرآن الكريم كما جاء الذم للنفس وللإنسان أيضاً، ولكن لم يعبّر عن الإنسان بأنّه روح، على الرغم من أنّ حقيقته هي الروح، وإنّما عبّر عنه بأنه النفس، ولذلك فإنّ كل الآيات التي ذكرت التوفي، قالت إن الموت هو توفي النفس لا توفّي الروح:(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ(2))،(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)(3) ،(أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ) (4).

والنفس كما مضى توضيحها، هي روح متعلقة بجسد ما، وما يتم توفّيه هي الروح المتعلقة بالجسد المثالي، بعد أن تترك الجسم المادي.

والنفخة الروحية الإلهية، وإن كانت هي حقيقة الإنسان، لكن شخص الإنسان، أو نفس الإنسان، هو الجسد الذي تُنفخ فيه هذه الروح ( ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةِ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَلَهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَرَ وَالْأَفْئِدَةً. (5))

فالنفس جسد تحلّ فيه أو تدبّره الروح، ولا تحصل النفس على الشعور،

وتحس باللذة والألم، إلا بوجود أعضاء وجسد وأدوات إدراكّية.

ويظهر أن النفس عندما تتشكل بتعلق الروح بالجسد، يعبأ فيها جانب الفجور والحيوانية، ليقابل جانب التقوى والفطرة التوحيدية الموجودة في الروح، ولذلك قال تعالى: ﴿ وَنَفْسِ ِ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَيهَا(الشمس : 7 - 8. )

ص: 54


1- المؤمنون: 14 .
2- الزمر: 42 .
3- الأنبیاء : 35
4- - الأنعام: 93
5- السجدة: 8 - 9 .

وبعد هذه المرحلة وبلوغ الإنسان مرحلة تفعيل الإدراك، من أجل القيام بعمليّة الشكر( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَرَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(1)، هنا سوف يكون الإنسان في ميدان الاختبار ومفترق الطرق، مثلاً إذا دار الأمر بين الظلم والعدل، فالعقل يشخص له الطريق الصحيح ، وروحه وفطرته كذلك يقولان له بحسن العدل، وقبح الظلم، وفي المقابل هناك قطب آخر في نفسه يجذبه نحو الظلم من أجل السيطرة والاستحواذ والتكاثر، فماذا يحصل هنا؟

ما هو القلب؟

إذا اختار نداء العقل واستجاب لطلب الفطرة ، فسوف تصبح لديه نفس تسير في الطريق الإنساني الصحيح، وهنا يمكن أن نقول إنّ هذا الإنسان أصبح لديه درجة عالية من النفس أو الروح اسمها القلب، هو الذي يفكِّر ويشعر ويريد ويحب ويبغض ويتلذذ ويتألم، ومن يصل إلى درجة القلب فهو الذي ربح نفسه، وأصبح لديه نفس إنسانيّة، وهذا المعنى يمكن أن نكتشفه أو على الأقل نستأنس إليه من الآيات والأحاديث التالية:

قوله تعالى في سورة ق:( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد(2)، فإن الذي يحصل له التذكّر بسماع الآيات الإلهّية، ويرقى بقراءتها هو من أحسن الاختيار، وأصبح له قلب واعٍ.

وفي بيان النتيجة الأخيرة للإنسان في يوم القيامة، قال تعالى: ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(3).

ص:55


1- لنحل : 78 .
2- ق 37
3- الشعراء: 88 - 89

وقوله تعالى(... فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكرِ اللَّهِ...ۚ)(1)،والقاسية قلوبهم هم الذين انحرفت منظومة فكرهم وشعورهم وإرادتهم وحبهم وبغضهم من الرحمة والفضائل إلى الظلم والرذائل، فصاروا يتنفرون من ذكر الله، فقلوبهم قاسية ميتة لا تتفاعل مع ذكر الله الذي هو مصدر الحياة الحقيقية، فهم في الحقيقية كمن لا قلب له، وقوله تعالى (... أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )(2).

وقول أمير المؤمنين علیه السلام لكميل في الحكمة 147: (يَا كُمَيْل بن زِيَادٍ، إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ .... )

وقوله علیه السلام في الخطبة 222 : (... إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الذِّكْرَ جلاءَ لِلْقُلُوبِ، تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ، وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ، وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ المُعَانَدَةِ،...)

وقال علیه السلام في الخطبة 220 بعد وصف السالك إلى الله بأنّه (قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ، وَأَمَاتَ نَفْسَهُ، حَتَّى دَقَ جَلِيلُهُ، وَلَطُفَ غَلِيظُهُ).

ثم قال: (... وَثَبَتَتْ رِجْلَاهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ، بِمَا

اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ، وَأَرْضَى رَبَّهُ).

وقوله علیه السلام في الحكمة 193 : (إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَإِقْبَالاً وَإِدْبَاراً، فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَإِقْبَالِها، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أُكْرِهَ عَمِيَ ) .

وقوله علیه السلام في آخر خطبة القاصعة 192 ، في وصف أتباعه المخلصين: (... وَإِنِّي لَمَنْ قَوْمٍ لاَ تَأخُذُهُمْ فِي الله لَوْمَةُ لأَئِم، سِيَماهُمْ سِیمَاالصِّدِّيقِينَ، وَكَلامُهُمْ كَلامُ الْأَبْرَارِ، عُمارُ، اللَّيْل ِ، وَمَنَارُ النَّهَارِ مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ، يُحْيُونَ سُنَنَ الله،وسُنَنَ رَسُولِهِ، لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَلا يَعْلُونَ، وَلا يَغُلُّونَ، وَلا يُفْسِدُونَ، قُلُوبُهُمْ في الْحِنَانِ، وَأَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ ! )

ص: 56


1- الزمر : 22
2- الرعد: 28

ويقول علیه السلام في المناجاة الشعبانية: ( إِلَهِي هَبْ لِي قَلْبا يُدْنِيهِ مِنْكَ شَوْقُهُ...)(1)ويقول علیه السلام أيضاً فيها: ( إِلهي هَب لي کمالَ الإِنقِطاعِ إِليک وأَنِر أَبصارَ قلوبِنا بِضياءِ نَظرِها إِليک، حتّى تَخرِقَ أَبصارَ القُلوبِ حُجبَ النُّور فتَصلَ إِلى مَعدنِ العَظمه، ...)(2).

ويقول الحَديثِ القُدسِيِّ يَقولُ اللّهُ عز و جل :(ما وسَعُني أرضي ولا سَمائي ولكِن وسَعُني قَلبُ عَبدِيَ المُؤمِنِ)(3).وفي حديث شريف عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم:(قَلْبَ اَلْمُؤْمِنِ عَرْشُ اَلله.)(4)وفي دعاء الإمام السجاد علیه السلام في شهر شعبان:(اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ وَ اعْمُرْ قَلْبِی بِطَاعَتِک).(5)

ومن مجموع هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، يمكن أن نستنتج أنّ شخصية الإنسان بما يتكون لديه من قلب، وأنّ الشعور والإرادة والحب والكراهية ينطلق من القلب، والقلب في بدايته أيضاً أرض خالية وقابلية محضة، وهي الأنا التي هي محور الإنسان، وهي روح و فطرة الإنسان التي في مقابلها قابلية الفجور المودعة أيضاً في نفس الإنسان، وهناك كلام للإمام علیه السلام لولده الحسن علیه السلام في الكتاب (31)، يوضح ذلك حيث يقول علیه السلام له : (... وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالْأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أَلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ. فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُو قَلْبُكَ، وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ ...)

فعندنا روح وعندنا بدن يتكون منهما نفس الإنسان، هذه النفس في جانبها فطرة توحيدية، وعقل هداية، وفي جانبها الآخر أيضاً هوى ووساوس وفجور، والنفس في وسط هذا الاستقطاب، وعندما تبدأ فيها الميول والانجذاب، هنا

ص: 57


1- مفاتيح الجنان الشيخ عباس القمي: أعمال شهر شعبان.
2- مفاتيح الجنان ،الشيخ عباس القمي: أعمال شهر شعبان.
3- المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني : ج 5 ص 26 .
4- بحار الأنوار: ج 55 ص 49.
5- مفاتيح الجنان الشيخ عباس القمي، أعمال شهر شعبان

يكون شخص الإنسان قد بدأ بالتكوّن أي الدرجة الأعلى من النفس بدأت تتبلور، وهذه الدرجة هي قلب الإنسان، وهذا القلب يتقلب عادة بين القطبين، وينعم بالثبات والراحة والطمأنينة إذا ثبت على تغليب جانب العقل والفطرة على جانب الفجور والحيوانية، وإذا حصل العكس ابتلي الإنسان بقساوة القلب، وقد يتحول إلى ما هو أسوأ من الأنعام والوحوش(... إِن هُم إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا.)(1)

فالأول هو ذاك القلب الذي ربح نفسه عندما جعل الروح تتكامل باستخدام البدن بما ينطبق مع الفطرة ،والعقل، وهذا هو القلب الإنساني، وهو قلبٌ ربحَ نفسه.

والقلب الثاني خسر نفسه، لأنّه كان لديه القابلية والقدرة لاختيار تكميل الروح بالاستفادة من البدن بما يطابق الفطرة والعقل، لكنّه اختار ما يطابق الهوى ووساوس الشيطان، فخسر نفسه الإنسانيّة.

ويمكن أن نوضح أمثلة وجدانية تقرّب لنا هذا المعنى مثلاً عندما نريد أن نستيقظ لصلاة الليل قبل الفجر، ويدق جرس المنبه ، فنحن هنا نرى أنفسنا بوضوح أمام قطبين، الأول يقول لنا أن القيام هو الأفضل وفيه خير الدنيا والآخرة، والقطب الآخر يزيّن لنا النوم وتأجيل الصلاة وتسويفها، ونحن وجداناً نشعر أننا في الوسط، والذي في الوسط هو الأنا، وهو شخصنا، والذي يحسم هذا النزاع في الأخير هو الشعور والإرادة، فإذا تغلب الشعور بلذة المناجاة والحضور أمام ربنا وخالقنا تبارك وتعالى، والتلذذ بالنعم المعنوية والمواهب الروحّية، فسوف نقوم للصلاة ويذهب الكسل والنعاس، وإذا تغلب الشعور بالرغبة للنوم والراحة الجسديّة، فسوف لن نقوم ونعود إلى النوم، والذي حسم الأمر هو مركز الشعور والرغبة واللذة وهو القلب.

ص: 58


1- الفرقان: 44 .

أو إذا ما واجهت اختباراً أخلاقياً، فرأيت فقيراً محتاجاً إلى المال، فإنك تجد أن هناك قطباً في داخلك يدعوك للإمساك بالمال، ويخوفك من الانفاق، وإنّه سوف يسبب لك الفقر والأذى وفقدان الاحترام لدى الناس، وهناك قطب آخر يجذبك نحو الانفاق، وإنّه سوف يجلب لك البركة والرحمة والأمن الاجتماعي، وإن هذا المال لن يضيع وسوف يتحول إلى باقيات صالحات، وخير وسعادة أخروية.

وبين هذين القطبين تجد نفسك أنت في الوسط، فإذا تغلب الأول شعر قلبك بلذة الجمع والحرص والخوف من الفقر، وتغلب على لذة الإيثار والتضحية والعطاء، وإذا تغلب القطب الثاني، شعر قلبك بالرحمة ولذة وسعادة العطاء، واللذات الإنسانية، وعندها سوف تتحرك نحو الإنفاق، وهنا نرى أن القلب الذي حصل فيه الشعور باللذة والرحمة هو الذي حسم الأمر

وبهذا يمكن أن نقول أنّ القلب هو المشخّص النهائي أو الدالّة النهائية لشخصيّة الإنسان، لأنّه مركز الشعور والإرادة والرغبة واللذّة والحزن والألم، ولا يمكن أن يكون للإنسان أكثر من قلب(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ ِّمن قّلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ... )(1)

لكن يمكن أن يكون للإنسان نفسان في وقت واحد، أحدهما أمارة بالسوء والأخرى لوّامة، ويحصل الصراع بينهما والفائز هو الذي يحدد بوصلة القلب، وتحديد بوصلة القلب هو الذي يحدد اتجاه الإنسان في الحياة.

ما هو الإنسان؟

من مجموع هذه التصنيفات التي ذكرت اعتماداً على التأمل في الآيات

والروايات، يمكن أن نخرج بما يلي:

1 - اصطلاح النفس بالمعنى الأعم يطلق على: الروح + الجسد + العقل+

ص: 59


1- الأحزاب: 4

الفطرة + القلب، وقد يطلق أحياناً على كل واحدة منها.

2- النفس بالمعنى الأخص:الروح + جسد مادي أو مثالي، وهي قابلية واستعداد ثم تتحول بعد ذلك إلى أمّارة أو لوّامة أو مطمئنة أو قدسّية، وهي نفس الأنبياء والأولياء.

-3 القلب: مجموع قابليات واستعدادات العقل + الفطرة + الروح + الجسد، وهو مركز الإنسان الذي يُدرك ويشعر ويريد ويحب ويكره ويتلذذ ويتألم

بها.

4 - القلب عند التفعيل بالنحو الصحيح : عقل + فطرة متكاملة + روح + جسد مادي أو مثالي + نفس لوّامة أو مطمئنة أو قدسيّة.

ه - القلب عند التفعيل غير الصحيح: عقل معطّل + فطرة محجوبة + روح مغطاة + جسد مادي أو مثالي.

والإنسان الحقيقي الذي عرف نفسه وربحها هو القسم الرابع، وهو الذي يتكون لديه إدراك للحقائق، وشعور باللذات الإنسانية العالية، كما يكون له إرادة وعزم نحو الاتصاف بصفات الكمال المطلق الإلهي.

وفي المقابل أصحاب الصنف الخامس هم الذين عطلوا العقل وغطّوا

الفطرة فقدوا النفس الإنسانية الحقيقية، وسيطرت عليهم النفس الأّمّارة ففقدوا الإدراك والشعور بالحقائق واللذات الإنسانية، وعندما عطّلوا جهاز النفس الذي يجعل القلب يتلذذ باللذات العالية، فقد خسروا أنفسهم الحقيقية، وتحوّلوا فقط إلى نفس تتلّذذ باللذات الحيوانية والرذائل، فصاروا (... إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (1)

ص: 60


1- الفرقان: 44 .

فهذه النفس التي فقدت الشعور والإرادة المطابقة للفطرة والروح والنفحة الإلهية ليست نفسا حقيقية وإنما هي نفس مجازية، وهذه النفس المجازية هي عدو الإنسان وعليه أن يجاهدها ويسيطر عليها، ويستخدمها لنفسه الحقيقية (1).

فالإنسان قلب يحيط به قطبان، وعليه أن يفعّل الفكر والشعور والإرادة، نحو القطب الذي يفعّل الفضائل الإنسانية، ويتغلب على القطب الذي يجذبه للرذائل، بل عليه أن يستخدم قطب الغرائز لخدمة قطب الإنسانية.

كيف يتم صناعة الإنسان؟

بعد أن عرفنا النفس الإنسانية التي إذا ربحناها سوف يكون لدينا قلب يشعر باللذات الإنسانية العالية، وإذا خسرناها، خسرنا القلب الحقيقي الذي يجعلنا مظهراً للصفات الإلهيّة.

يتضح لنا الطريق نحو بناء الإنسان إنّه طريق بناء وصناعة بإعمار القلوب، وهنا نرى كلام أمير المؤمنين علیه السلام الذي يرسم لنا خارطة الطريق نحو بناء الإنسان، فيقول في الخطبة 183 :

(... فَالله اللهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ وَأَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ، وَفِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضّيقِ فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَاِبِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِتُهَا، أَسْهَرُوا عُيُونَكُمْ، وَأَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ، وَاسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ، وَأَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ، وَخُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسَكُمْ، وَلاَ تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا، ...)(2).

وبعد أن يذكر علیه السلام أن الله تعالى طلب منّا أن نقرضه، وله جند السماوات والأرض، وطلب منّا أن نقرضه وله ملك السماوات والأرض، فهو غني عنّا، ولكنّه سبحانه أراد أن يبلونا لكي نختار العمل الأحسن: (وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ

ص: 61


1- أنظر كتباب (تعليم و تربيت در اسلام) للشهيد مطهري ص 168 . -2- نهج البلاغة خطبة 183 . 2
2- نهج البلاغة خطبة 183.

يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)كما قال علیه السلام: (فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللهِ فِي دَارِهِ، رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَهُ، وَأَزَارَهُمْ مَلائِكَتَهُ، وَأَكْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ نَارٍ أَبداً، وَصَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً وَنَصَباً: (ذلِكَ فُضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيم).

هذه الكلمات العلويّة خارطة للإنسان نحو التحرر والتحليق في سماء الإنسانيّة، وفضاء الكمال المطلق والحياة الأبديّة، ومخالفة هذا النهج تُوقِع الإنسان في القيود والأغلال وظلمات الضنك والضيق والأنفاق المظلمة.

وطريق الحرية والعروج والتسامي هو أن تأخذ من عيونك وأعضائك التي تحب النوم والراحة والكسل وتعطي لروحك غذاءً ووقوداً على شكل عبادة أو جهاد أو خدمة لخلق الله، يتطلب منك العمل والتعب والسهر والصبر والمثابرة، وأن تأخذ من أموالك التي تحب نفسك الأمّارة أن تزيد في جمعها وادخارها، وتزيّن لك لذّة تكاثرها والتفاخر بها، فتعطي هذه الأموال لنفسك اللوّامة والمطمئنّة والمقدّسة الإلهيّة، وتجود بها عليها على شكل إنفاق على الفقراء والمساكين، وتكافل وتراحم وخيرات وباقيات صالحات.

عندما تنصر الله بقوّتك البدنيّة، وتستعمل أعضاءك في سبيل الله، وعندما تنفق أموالك في سبيل الله وتقرض الله قرضاً حسناً، فإنّك تجود على نفسك وتكرمها، وتحيي نفسك الحقيقية، وعندما تستجيب لدعوات الكسل والعجز والجهل والتخنث والطمع والهلع والتكاثر، فإنّك تفقد نفسك الحقيقية التي بها تكون إنسانا، وتحيي نفسك الكاذبة التي سوف تكتشف زيفها وتتركها في الطريق، فتندم حيث لا ينفع الندم، وهناك سوف يبدو لك أنّك خسرت نفسك وحياتك الحقيقية، وتقول عندها يَقُولُ يَلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (1)، وفي الخطبة 220 في وصف السالك إلى الله يقول :

ص: 62


1- الفجر : 24 .

(قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ ، وَأَمَاتَ نَفْسَهُ ، حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ ، وَلَطُفَ غَلِيظُهُ ، وَبَرَقَ لَهُ لاَمِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ، فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ، وَسَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ، وَتَدَافَعَتْهُ الْأَبْوَابُ إِلَى بَابِ السَّلامَةِ، وَدَارِ الْإِقَامَةِ، وَثَبَتَتْ رِجْلَاهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأَمْنِِ وَالرَّاحَةِ، بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ، وَأَرْضَى رَبَّهُ).

هنا يعبّر عن الطريق إلى الوصول إلى باب السلامة ودار الإقامة، هو إحياء العقل وإماتة النفس، ولا شك إنّ النفس المقصودة هنا، هي النفس الأمّارة والمسوّلة والموسوسة، وإماتتها يعني كبح جماحها، والسيطرة عليها بواسطة العقل والفطرة والروح الإلهيّة التي بها تصير النفس لوّامة مطمئنّة، ثم يقول : إنّ الوصول إلى مقام الطمأنينة والسلامة والأمن والراحة يتم باستعمال

القلب.

يقول المفّكر الشهيد مطهري حول هذه الكلمات العلّوية: إزالة غلظة الجسمانيات والترف وأوساخ الكسل والخمول والنهم والشهوانيّة، فإذا دق جليله ولطف غليظه، برق له لامع كثير البرق، وأضاءت له مصابيح النور من داخله وفتحت له الأبواب بابا بعد ،باب، حتى يصل إلى باب السلامة ودار الإقامة، ثم يقول رحمه الله : صدقوا أن هذه العبارة لم يستطع أن يأتي بمثلها أحد من كبار العرفاء في خلال ثلاثة عشر قرناً من مسيرة العرفان). (1)

وقال علیه السلام في الخطبة 83: (عِبَادَ الله ، إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَاسْتَشْعَرَ الحُزْنَ ، وَتَجَلْبَبَ الخَوْفَ ، فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الهُدَى فِي قَلْبِهِ، وَأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ، وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ).

هذه الأنوار العلوية تكشف لنا أن الإنسان في بداية أمره خليط وأمشاج الاستعدادات العالية تحيط بها شوائب وحجب وموانع وعقبات، وعلى الإنسان أن يزيلها بالتفكر ومجاهدة الهوى( أحيا عقله وأمات نفسه)، فإذا

ص: 63


1- عن كتاب المعرفة (شناخت)، مجموعة آثار الشيخ مطهري: ج 13 ص 381.

فعل ذلك تفعلت تلك الاستعدادات وزالت تلك الحجب والموانع وأشرقت الأضواء في نفسه الإلهية، فيرى الطريق واضحاً إلى دار السلام والحياة الحقيقية، ويرقى إلى أعلى مقام في سلم الإنسانية بحيث يشرف على الوجود ويرى الأشياء على حقيقتها، فيضع كل شيء بمقداره المناسب في محله المناسب، ولذلك قال: (فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْل ضَوْءِ الشَّمْسِ، قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لله - سُبْحَانَهُ - فِي أَرْفَعَ الْأُمُورِ، مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدِ عَلَيْهِ، وَتَصْیِيِرِ كُلِّ فَرْعَ إِلَى أَصْلِهِ).

الإنسان بين النظامين الإلهي والمادي :

بعد استعراض هذه المجموعة من الكلمات العلوية والجمع فيما بينها، وكذلك بينها وبين الآيات الكريمة والتأمّل فيها، اتضح لدينا أنّ بناء الإنسان يتم عبر بناء النفس الذي يعتمد على تشغيل العقل واستخدام أعضاء الجسم، لتغذية الروح بما كشفه العقل، وجذبت نحوه الفطرة، فالعقل يكشف والروح تأمر والفطرة تشجّع والأعضاء تنفذ ومركز القيادة الذي يحصل فيه الإدراك والشعور والإرادة هو القلب .

والنظام الإلهي المعرفي، يصنع الإنسان بصناعة القلب الذي تتجه بوصلته الادراكية والشعورية نحو مصدر صفات الكمال المطلق الذي هو مصدر الوجود، وهو الله سبحانه، فيجعله خليفة الله في الأرض، ويكون قلبه عرشاً لله ، أي أنه يهب للإنسان مقام العرش الذي هو مقام تدبير الكون، وبهذا المقام يكون خليفة الله في الأرض.

والطريق إلى ذلك كما اتضح هو سيطرة الروح والنفس الإلهية على النفس الماديّة والغرائزيّة، لا بمعنى إلغائها بل بمعنى السيطرة عليها واستخدامها لتغذية النفس الإنسانية (وَخُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ...).

ص: 64

وهنا يظهر الفرق الأساسي بين المدرسة الإلهيّة والمدرسة المادية، حيث إنّ المحور في حركة الإنسان والمجتمع في النظرية الإلهيّة النبويّة العلويّة، هو النفس والروح الإلهيّة، ولكن المحور في النظرية المادية لفهم وإدارة الحياة هو الجسم والغرائز الماديّة.

ويلعب العقل والمعرفة هنا دوراً هاماً وأساسيّاً في بلورة الرؤية الكونيّة،

والفهم الذي تؤسس عليه الإيديولوجية والمنهج.

فالنظام المعرفي الإلهي الذي يدير العقل ويثيره ويقوم بتنميته بالشكل الصحيح، كما رأينا في الفصل الأول والثاني من هذه الرسالة، يجعل الإنسان يكشف خالق الكون، وأنّه الكمال المطلق ومصدر مظاهر العظمة والقدرة والعلم والرحمة، ويكشف النفس الإنسانيّة الحقيقية بأنّها هي التي تبحث عن إدراك اللذات العالية، وتستخدم الغرائز والبدن المادي لأجل الوصول إلى شعور وإرادة عالية، وحياة أبدية سامية.

لكن النظام المعرفي المادي المنغلق على المادة والتجربة، والذي لا يرفع رأسه نحو السماء في تحريك العقل واستثماره على النحو الصحيح، ينتج معرفة غائمة وضبابيّة عن الوجود، وهي لا تتجاوز المعرفة الحسيّة الضيّقة، وبالنتيجة فإنّها لا تصنع إلا إرادة للتمتع باللذات المادية والحسية، ولذلك فإنّ موازين ومقاييس الحياة في النظام المادي :هي: أصالة الغريزة، أصالة المنفعة أصالة الاقتصاد، أصالة القوة والسيطرة.

وهذه نشأت من الفلسفات والرؤى الكونية الناتجة من حركة العقل بعيداً عن ارشاد الوحي، فكانت نظرية المعرفة النقدية ل(ايمانوئيل كانت)، التي تقول بعدم وجود حقائق موضوعيّة، بل وكذلك الفلسفة الوضعيّة ل(أوكست كونت)، التي تقول بعدم وجود شيء خارج الحس والتجربة

ص: 65

المادّية، وما نتج عن ذلك من نظريات نسبيّة الحق، وعدم وجود حق ثابت والمذهب الوجودي الذي يقول للإنسان بأنّك جسم وشهوات لا غير، وأنت حٌّرا في أن تحقق ما تريد، وقيمة الإنسان في حريّته المطلقة، والمقصود بحريّته المطلقة، حريّة ما يشعر به من إيحاء حواسه الماديّة وغرائزه، وأنتجت هذه الفلسفة نظرية أصالة الإنسان المتفوق للفيلسوف الملحد الوجودي الألماني المعروف (فردريك نيتشه)، الذي يدعو إلى سحق كل الأخلاق الدينيّة، ويقول: (إنّ الغيبيات والأخلاق القديمة وقبل كل شيء الإيمان بالآخرة يجب أن تشيّع إلى القبر، وأن تضاف إلى الإنسان الحر الطبيعي حقوقه مرة أخرى)(1)في صحبة الفلاسفة. روبرت تسيمر : ج 1 ص188 ، ترجمة عبد الله محمد أبو هشه، دار الحكمة لندن (2).

ويقول فردريك نيتشه أيضا:( فالذي كان قبل ذلك شراً ملعوناً وهو الجسد والشهوة والغرائز، تحول إلى قيمة إيجابية، والذي كان قبل ذلك خيراً، وهو القناعة الزهد وحب الخير، تحول إلى معالم إنحطاط).(3)

وقد كان لهذه الفلسفات المادية دور كبير في تأسيس نظام مادي قائم على السيطرة والنهب والسلب واستضعاف الشعوب واستحمارها، بعد وضع الخطط لإبقاء قابلية الاستضعاف والاستحمار فيها.

ولأجل التعرف على هذا الأمر نقرأ هذه المقالة(4)، (عندما سُئل (ستيفن برکر) وهو أستاذ علم النفس الأبرز في جامعة هارفرد،في إحدى المقابلات مؤخراً عن الفيلسوف الذي لاقى تقديراً وقبولاً أكثر من غيره، أجاب إنّه(فيردريك نيتشه)،وبرر ذلك بالقول من السهل أن نلحظ أفكاره الاجتماعية، قد ألهمت الكثير من الحركات العنصرية حول العالم في القرنين

ص: 66


1-
2- .
3- نفس المصدر: ص 198 .
4- موقع (New Statesman) هوكو دوتسون، ترجمة ياسر منهل 2018/8/29 .

العشرين والواحد والعشرين، بما في ذلك الحركات النازية والفاشية والبلشفية واليمين الأمريكي والحركات النازية الجديدة في يومنا هذا. إنّ (راسل) فهم (نيتشه) جيداً في كتابه عن الفلسفة الغربية، وإنّ سبب صعود هتلر هو نيتشه، والحرب العالمية الثانية هي حرب نيتشه، ويبقى ترامب في البيت الأبيض واليمين المتطرف في الشوارع إذا ما نجحت الفاشية في الوصول إلى أمريكا، الآن الأوضاع في أمريكا تشبه حقبة الثلاثينيات، عندما أعلن (موسوليني) بأنّه قد تأّثّر بطروحات (نيتشه)، وقدم هتلر نفسه باعتباره (الإنسان المتفوق) وفق الرؤية (النيتشويّة) وإنّه الذي يقود عرقه الآري المتفوق نحو النصر. ولم يعد لدينا منظومة أخلاقية مشتركة تنظم حياتنا عليها، وعوضاً عن ذلك أصبحنا نحتكم للنسبيّة الأخلاقية أو العدميّة التي تعتقد بعدم وجود قيمة للحياة، وبعدم وجود عامل أخلاقي، هذه العدمية والنسبية جعلت العالم يشعر بالضياع، وأدت إلى أحداث منها انتخاب ترامب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، وظهور النزاعات القومية وكراهة الأجانب، التي تتصف بها حركات اليمين المتطرف في الوقت الراهن).

إنّ ما نشهده اليوم من هيمنة النظام الغربي الأمريكي الأوربي، على ثروات العالم، وانقسام العالم إلى مجموعة متفوقة منفردة بالمال والقرار، وأخرى محكومة مستعبدة منهوبة ،وممزقة وما شهدناه من استعمار واحتلال وحروب عالمية وما آل إليه العالم من حالة عدم الاستقرار بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وتصدي أمريكا للعولمة، حيث شهدنا وضعاً مضطرباً في العالم، وحروباً داخلية مستمرة في مناطق الثروات، لاسيما في الشرق الأوسط، وأصبح النظام الغربي الأمريكي الأوربي يركّز على صناعة الأسلحة وإنشاء الاستخبارات، وشركات الإعلام والتواصل، فالإعلام يضلّل ويخدع، والاستخبارات تزرع الفتن وتربي العملاء، وتثير الحروب الداخلية، والحكومات الغربية تأخذ ثروات شعوبنا، وتصدر لها في مقابلها السلاح لتتحارب فيما بينها .

ص: 67

هذا النظام العالمي القائم على حفظ مصالح وهيمنة مجموعة معينة على حساب شعوب العالم، وليد مدارس فلسفية أنتجت هذه الإيديولوجيات، فنظرية الإنسان المتفوق، أو السوبرمان ل ( نيتشه)، ونظرية البقاء للأقوى لدارون، والفلسفة الوجودية لسارتر وهايدكر، التي تؤكد بأنّ كمال الإنسان بإطلاق العنان لرغباته وغرائزه، ونظرية هيجل في تطور الروح المطلق التي تنتج الدولة، وإنّ هذا يقتضي وجود فروق بين القوميات والأعراق، ونظريات راسل وجون ستوارث مل في الحريّة الشخصيّة، ونظرية ميكافيلي في أنّ الغاية تبرر الوسيلة، والنظرية البراغماتية لجون ديوي التي هي الأساس للحكومات الأمريكية، كل هذه أنتجت لنا هذا النظام العالمي الجديد الذي هو نظام مصالح وهيمنة لمجموعة تملك التكنلوجيا والسلاح والإعلام على غيرها.

وإذا كانت هذه المجموعة المتسلطة على العالم تحافظ على قدر من النظام المدني والأمن الغذائي والصحي والاجتماعي لشعوبها في داخل دولها، وعلى حساب مئات الشعوب والدول الأخرى، فإنّ ما حصل أخيراً في حادثة وباء كورونا فضح رؤوس النظام المخادع، وكشف حقيقتهم حتى لشعوبهم أيضاً عندما ألغوا النظام الصحي والوقائي، والذي كان يمكن أن يقي الملايين من شعوبهم، ويحميهم من الإصابة بهذا الفيروس المهلك، لكنهم سمحوا لقتل الملايين من الشعوب كي لا تتأثر الأموال والجيوب.

وأصبح العالم اليوم على حافة الانهيار إذا لم تنقذ البشرية نفسها بالاتجاه نحو البديل الصالح، ولا بديل سوى الفكر الصالح الذي يصنع الإنسان الحقيقي.

مشكلة الفكر المادي هي فصل الوجود عن مصدره، وحجب العقل من اكتشاف هذا المصدر، وعندما لا يكتشف الإنسان المصدر، فسوف يضيّع نفسه وهدفه، وعندما يضيّع الإنسان مصدره وهدفه ونفسه الحقيقية، سوف

ص: 68

يشعر أُنّه قد أُلقى به عشوائياً في فضاء الوجود، بلا مبدأ ولا منتهى، فما عليه إلاّ أن يتعامل بما لديه من شعور بمعزل عن المصدر والهدف ولا شعور لمثل هذا الإنسان إلاّ ما تصنعه إيحاءات الغرائز والخيال والأوهام، ومثل هذه الرؤية الكونية لا تنتج فكراً أفضل من الوجودية الإباحية والعنصرية والسيطرة والاستحواذ.

والحل هو الرجوع إلى البديل عن أصالة المادة والمتعة والغريزة والسيطرة إلى اصالة الله والمنهج الذي يرى الله ظاهراً في مخلوقاته، وإنها آيات ودلالات عليه، أصالة النفس الإنسانيّة التي تتكامل في صيرورتها مظهراً لله، بأن تستخدم كل ما في الوجود بما في ذلك غرائزها ومصالحها وأموالها من أجل إظهار رحمة الله وعدله في الأرض.

والبديل هو النظام الإلهي العلوي، الذي يقول قد أفلح مَن تزكّى، وقد أفلح مَن أعطى واتقى، في مقابل النظام المادي الذي يقول قد أفلح من استعلى واستغنى البديل هو الذي يرى حريّة الإنسان في كبح جماح الشهوات والغرائز، وتحطيم أغلال الطمع والجشع والاستحواذ والاستئثار، وبناء الإنسان الذي يتلذذ بالعطاء والتضحية والإيثار، فالإنسان يجود على نفسه إذا أعطى من جسمه وشهواته ورغباته، وإذا أضمر بطنه وأسهر عينه وأنفق ماله واستعمل أقدامه وأعضاءه في خدمة الآخرين، هذا هو نظام علي بن أبي طالب علیه السلام، الذي عندما أصبح حاكماً للعالم راح يعطي قوته وعشاء عائلته جميعاً للفقير واليتيم والأسير، ويبقى طاوياً جائعاً لوجه الله لا يريد من أحد جزاءً ولا شكورا.

وفي المقابل نظام نيتشه وسارتر وهايدكر ،خرج لنا حاكماً ك-(هتلر وستالين وموسوليني وترامب)،الذين يتلذذون ويرقصون على أنغام سفك الدماء ونهب وسلب الشعوب، علينا أن نرجع إلى القرآن و نهج البلاغة، لا للتلاوة

ص: 69

والقراءة، وإنّما لاستخراج النظام البديل، وإنقاذ العالم الذي يكاد أن يغرق في بحر الماديّة المظلم، ولا سفينة نجاة غير سفينة عليّ ومنهجه، فلنركب فيها وننادي البشرية وندعوهم بفكرنا وسلوكنا، ونقول من تخلّف عنها غرق ومَن ركبها نجا و (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِم (1).

ص: 70


1- هود آية 43

الفصل الثالث

ميزان الحرية

ص: 71

ص: 72

ميزان الحريّة :

وهو بحث يترتب على البحثين السابقين أي معرفة الله سبحانه ومعرفة النفس .

كثيرون في هذا العالم ممّن يدعون أنّهم أحرار، ولكنّهم مكبّلون في القيود،ويسعون إلى الأغلال والسلاسل بأقدامهم، ويربقون أنفسهم بأيديهم.

والكثير من شعوب العالم خُدع بشعار الحريّة، الذي رفعه أرباب الهيمنة والاستحواذ والسلب والنهب، الحاكمون على هذا العالم، وفي الحقيقة هو فخّ وشباك لصيد الشعوب وتسخيرها، لأهداف ومآرب الصيادين.

وقد وقعت أمتنا في هذا الفخ منذ قرون بسبب الجهل والتجهيل والخداع، وفقدت حريتها الحقيقّية، وفقدت وضيّعت نفسها وهويّتها، وأصبحت مستعبدة خاضعة، والمصيبة العظمى أن تألف الأمة جدران الأقفاص والسجون، كبعض الطيور المؤهلة، تخاف أن تطير وتحلَّق في الفضاء الواسع المفتوح، وإذا فتحت لها باب القفص أدارت وجهها واستوحشت من الشمس والنور والهواء الطلق والحدائق والبساتين، إنّها تظن أن السجن والخضوع والتبعية قضاؤها وقدرها، وتخاف من المجهول أشد من خوفها من الموت والقتل، هكذا يفعل الجهل.

ما هي الحرية:

هل الحربّة هي مطلق رفع القيود، أم أنّها رفع القيود عن حقيقة الإنسان؟

لا شك أنّ الحريّة المطلوبة هي حريّةالإنسان، والإنسان مجموعة من القوى والنزعات، وبعضها خادم وبعضها مخدوم ، فإذا رفعنا القيود عن الجميع فقد يستولي الخادم على المخدوم وهو الإنسان، فيكون هو الضحيّة، كالنخلة التي

ص: 73

وجد فيها السعف والجريد ليخدم أعذاق التمر، ثم يجب أن يزول بعد أن أدّى دوره وأصبح زائداً، فإذا أهمل البستاني نخلته وأطلق العنان لجميع ما فيها من سعف وجريد فإنّ الطلع والأعذاق والتمر هو الضحيّة.

الإنسان كالشجرة فيها أوراق وثمر، والأوراق وسيلة لحصول الثمر، والبستاني الماهر هو الذي يرعى أوراق الأشجار كي تنتج أفضل الثمار، وأحياناً يهذّب الأشجار، ويقطع الكثير من الأغصان والأوراق طمعاً في تحقيق أفضل الثمار.

الإنسان متكون من روح ونفس إنسانية، ومن جسد ونفس حيوانية غرائزية، وحقيقة الإنسان في إنسانيته، والحرية هي رفع القيود عن هذه النفس، كي تنمو وتعلو وتسمو ، فهي ثمرة خلق الإنسان، والجسم والغرائز أوراقها وأغصانها، وليس من حريّة الشجرة أن تطلق العنان لأوراقها وأغصانها المتسلقة وأليافها وأشواكها على حساب ثمارها ونتاجها.

كذلك ليس من حرية الإنسان بشيء أن يطلق العنان لغرائزه ورغباته المادية والبدنية، لتعمل ما تشاء على حساب نفسه الإنسانية العالية.

لكن النظام المادي الذي وقف نظامه المعرفي على الحس والتجربة، لم يعرف سوى الأوراق والألياف، ولم يطلع على فاكهة الإنسان الطيبة، وهي النفس الإنسانية ،الإلهيّة، فعرف الشجرة وضيّع الثمرة.

في حين أنّ النظام المعرفي الإلهي يضع منهجاً للتنمية والإثارة والتفعيل للعقول كي تكشف الثمرة الإنسانية ومصدرها وهدفها، وتربط الإنسان بالبستاني العارف الصادق الأمين، الذي يرعى هذه الشجرة ويوفر لها الحريَّة والفضاء السالم، كي ترتبط بجذورها، بالأصل الثابت وتتفرع أغصانها في السماء، وتؤتي أكلها الطيب كل حين بإذن ربها.

ص: 74

حريّة الإنسان الحقيقية أن يرتبط بمصدر إنتاج ثمرة الإنسانية، وهو مصدر الكمال المطلق في الوجود، وهو الله ، وهذا الارتباط هو العبودية، وفي ظل هذه العبودية تتحقق الحريّة الحقيقية، والنبي والإمام كالفلّاح الذي يرعى الشجرة كي تبقى مرتبطة بجذورها ويسقيها ويغذيها لتثبت، ويهدي غصونها وأوراقها لكي لا تنحرف، ولتنمو وتتحرك وتفتح الأزهار، وتنضج الثمار، فالأنبياء والأئمة والقادة الإلهيّون، هم صانعوا الحريّة الحقيقية، وهم قادة الأحرار ولولا هم ،لكانت الأرض غابة متوحشة.

إنّ ما يعبّر عنه في القرآن و نهج البلاغة، بمصطلح(الدنيا)، هو عبارة عن تغليب رغبات ونزعات النفس المادية والغرائزية على النفس الإلهية ورغبات الروح الإنسانية، وتسمى دنيا لأنّها تسافُل وهبوط من الدرجة العالية إلى الدرجة الدانية، ومَن تبع الدنيا وجعلها ميزان حياته فقد آثرها على الله تعالى، فانقطع إليها، وصار عبداً لها، ويقول علیه السلام في الخطبة 163 في وصف المتقين:(عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذِّبُونَ قُلُوبُهُمْ مَحزُونَةٌ وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا هُمْ

رَبُّهُمْ أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا ...)

وفي الخطبة (109) وبعد أن يصف الدنيا علیه السلام بأنّها جيفة، ولكن المحبّين للدنيا قد عميت أبصارهم بهذا العشق الواهم ، فلم يعرفوا حقيقتها، وَخُدِعوا بظاهرها الجذاب فتعلقوا بها، فيقول:(وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنِ غَيْرِ صَحِيحَةٍ وَيَسْمَعُ بِأُذُنِ غَيْرِ سَمِيعَةٍ قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ وَ أَمَانَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ وَوَلِهِتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ فَهُوَ عَبْدٌ هَا وَ لِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا وَ حَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا ) .

ص: 75

ومن هذا الكلام العلوي نفهم أنّ الحريّة تنطلق من داخل الإنسان، وكذلك الرقّ والاستعباد، فالأنسان يصنع حريته بنفسه، وكذلك يصنع الأغلال والقيود ويستعبد نفسه، والمفتاح لكلا هذين البابين هو المعرفة والإدراك والشعور ، فالذي لا يعرف سوى المادة والغرائز وجمع المال والسيطرة والاستحواذ، فهو سوف يصرف جميع همه و همته وسعيه نحوها، أو نحو مَنْ بيده شيء منها، فيكون عبداً لغرائزه أو لمن بأيديهم إشباع غرائزه ورغباته، ومثل هذا الإنسان لن يكون حرا أبداً، لا في أعماله ولا في أخلاقه ولا في مواقفه، بل حتى إذا أراد أن ينتج علماً أو تقنية، فإنّ هذا العلم والتقنية سوف يكون في خدمة الشهوات والمنافع الماديّة والسيطرة.

لكن مَن تقوده المعرفة إلى معرفة خالق هذا الكون، وأنّ لهذا الكون هدفاً عالياً وسامياً وأبدياً، ويعرف نفسه الإلهية، ويلتفت إلى رغباتها العالية والأبديّة فهذه المعرفة سوف تجعله يرتبط بالكمال المطلق الذي تتوق إليه نفسه الحقيقيّة وعندما يذهب لمعرفة منهج الارتباط بعد التعرّف على الرسول والنبي والقائد الإلهي، سوف يفهم أنّ المنهج هو استثمار البدن والغرائز وكل ما في الكون من نعم، من أجل عبوديّة الله ونيل رضاه، وعبوديّة الله هي تطبيق أوامره وإظهار أخلاقه وصفاته في الأرض، وعلى رأس هذه الصفات الرحمة والعدل، وكلما ترك الإنسان التعلقات (الدنيا) التي تمنع الرحمة والعدل، وكلما واجه أسباب منع تحقق الرحمة والعدل في الأرض، وهم الطغاة والظالمون والمفسدون، كلما كان أقرب إلى الله ونيل كماله ورضاه وحياته الأبديّة السعيدة.

فالعبوديّة لله هي التخلص من عبوديّة الأهواء والأعداء، وهي الحريّة الحقيقية التي تصنع الإنسان الحقيقي، وتكوِّن مجتمع العدل والقسط الإلهي، وهذا ما صنعه وأراد صناعته النظام النبوي والعلوي، وهو نظام يتلذذ القائمون عليه بالتضحية بكل ما لديهم من أجل نشر الرحمة والعدل لجميع

ص: 76

العالم، وإظهار الرأفة لجميع المخلوقات.

يقول علیه السلام في الخطبة (224): (وَالله لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلاَلِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِمِاً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا).

وفي جواب مَنْ قدم له قطعة من الحلوى بما يشبه الرشوة والتزلّف بعنوان الهديّة، زجره الإمام بشدة وقال هَبِلَتْكَ الهَبُولُ (أي ثكلتك الأم التي لا يعيش

لها ولد):

(... هَبِلَتْكَ الْبُولُ أَ عَنْ دِينِ اللَّهُ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي أَمُخْتَبِطُ أَنْتَ أَمْ ذُو جِنَّةِ أَمْ تَهْجُرُ وَالله لو أعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْمصِيَ اللهَ في

نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلبَ شَعِيرَةِ مَا فَعَلْتُهُ وَ إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِّ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيُّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لَا تَبْقَى نَعُوذُ بِالله مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَ قُبْحِ الزَّلَلِ وَ بِهِ نَسْتَعِينُ ...).

الحريّة في النظام المادي تعدم نفسها:

لقد أخطأ فلاسفة النظام المادي في تحقيق الحريّة الحقيقية للمجتمع البشري لأنهم ضيّعوا النفس الإنسانية التي يجب أن تتحرر، وضيّعوا مصدر الحرية وهدفها أيضاً، فهم وتبعا لنظامهم المعرفي ، لم يكشفوا سوى إنسان لا يتعدى عن مجموعة مشاعر ورغبات حسيّة، تنتهي بانتهاء مدة الحياة وتوقف البدن عن الحركة، وطالبوا بالحرية لهذا الإنسان، ورأوا أن كماله بحريّة رغباته ومشاعره الحسيّة، ولا يحدّها شيء سوى رغبات الآخرين، وقد تلقّى المجتمع البشري هذه الأفكار بالترحيب والإعجاب، لأنها جاءت كردة فعل على الكنيسة التي كانت تدعو إلى الكبت والاستبداد والتخلف، كما وإنّ المجتمع

ص: 77

البشري رأى فيها أنها المنقذ لواقعه المتخلف الذي جلبته له الحكومات المتعاقبة عليه، والخطاب الديني المحرّف والبعيد عن الحياة الكريمة، ولكن سرعان ما اكتشفت البشرية أنّ هذه الحرية لم تحقق لها إنسانيتها التي كانت تصبوا إليها ، فلم يستطع طير الإنسانية أن يحلّق في سماء الحرية الموعودة، بل كانت الحرية المادية كالفايروس الذي نخرها من الداخل وجعلها تشعر بالخواء والتفاهة، وسلط عليها من خارجها الوحوش والكواسر.

حول هذه الحرية المزعومة يقول المفكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر رحمه الله علیه:

وقد سكرت الإنسانية على أنغام هذه الحرية وأغفت في ظلالها برهة من الزمن، وهي تشعر لأول مرّة أنها حطمت كل القيود، وإن هذا العملاق المكبوت في أعماقها آلاف السنين قد انطلق لأول مرة، وأتيح له أن يعمل كما يشاء في النور دون خوف أو قلق.

ولكن لم يدُم هذا الحلم اللذيذ طويلا، فقد بدأت الإنسانية تستيقظ ببطءوتدرك بصورة تدريجيّة ولكنها مرعبة، إنّ هذه الحرية ربطتها بقيود هائلة وقضت على آمالها في الانطلاق الإنساني الحر.

وحول السبب في ذلك يقول السيد الشهيد رحمه الله علیه: (إنّ الإنسان زوّد بالقدرة التي تمكنه من السيطرة على شهواته وتحكيم منطقه العقلي فيها، فسرّ حريته بوصفه إنساناً إذن، يكمن في هذه القدرة، فإذا جمّدنا هذه القدرة، وفتحنا له حرية شهواته الحيوانية، ووفرنا له مغريات الاستجابة لها، كما تفعل الحضارات الغربية الحديثة، وجعلنا الإنسان أداة لتنفيذ تلك الشهوات، حتى إذا التفت إلى نفسه أثناء الطريق وجد نفسه محكوماً لا حاكماً، ومغلوباً على أمره وإرادته (1).

ص: 78


1- المدرسة الإسلامية ، السيد الشهيد محمد باقر الصدر: ص 95 97 .

وحول هذا الخطأ الذي وقعت فيه الفلسفة المادية في نظرها إلى الحرية يقول المفكر الشهيد مرتضى مطهري رحمه الله علیه: نحن نحترم الحرية بما أنها ضرورة لحياة الإنسان، والإنسان محترم لأجل أن يصل إلى الكمال اللائق به، والحيثية التي يجب أن يحترم لأجلها الإنسان هي حيثية كونه روح إلهية وإرادة إلهية، وحرية إرادة الإنسان محترمة بشرط كونها في اتجاه كمال الإنسان.

وكما أن إرادة الإنسان تُلغى إذا خالفت حفظ الطبيعة التكوينية للإنسان كما إذا تعارضت إرادته وميوله ورغباته للطعام مع صحته وسلامته البدنية، ويجبر على التضحية بالإرادة، بتناول الدواء واللقاح والخضوع للعمليات الجراحية، بل إنّ عدم إجباره على العلاج أو التلقيح أو الحمية، يعتبر مخالفاً لحقوقه وحريته الإنسانية،

كذلك فإنّ رغبات الإنسان في مجال المصالح العالية الفردية والاجتماعية، تجري عليها نفس القاعدة، وكما أنّ تشخيص سلامة البدن بيد الطبيب لا بيد المريض، كذلك تشخيص المصالح الاجتماعية ليس بيد الفرد بل بيد القانون الذي أما أن يكون بشرياً أو إلهيّا، ونحن نعتقد أنّ البشر لا يستطيع أن يصنع نظاماً صالحاً، فيتعين المصدر الإلهي، وعليه فالإرادة يجب أن تكون في اتجاه حفظ الطبيعية الإنسانية، لا أن يضحى بالإنسانية لأجل إرادة الأفراد.

فنحن لا نريد أن تُكبت ميول الإنسان ورغباته، ولكن لا نريد أن يضحي الإنسان بعقله وروحه ومصالحه الاجتماعية وحياته الأبديّة من أجل تلبية حاجات موقتة ومحدودة.

وإذا كانت مخالفة الميول والرغبات لأجل حفظ مصلحة بدن الإنسان التي يشخّصها الطبيب ليست مخالفة للحرية، فكيف تكون مخالفة الميول والرغبات لأجل مصلحة الإنسان التي يشخصها خالقه وربّه العالم به، تكون مخالفة للحرية وحقوق الإنسان!

ص: 79

وما يقوله أصحاب الفلسفة الوجودية مثل هايدكر وسارتر من أنّ الدين يمسخ حقيقة الإنسان لأنّه ينفي حريّة الإنسان، فهنا يقول المفكر الشهيد مطهري:

الحق إنّ (سارتر) لم يعرف الله، ولم يعرف معنى العبودية الله، ولم يفهم منها سوى معناها الخاطئ الذي أخذه من الدين المحرّف.

الله سبحانه هو الغاية القصوى لكمال الإنسان، والتعلق بغاية الكمال ليس مسخاً لحقيقة الإنسان، بل هو تأكيد لها، وتعميق لنفس الإنسان، بل إنّ انسلاخ الإنسان عن غاية كماله ومصدر وجوده هو الإلغاء لنفسه وحقيقته لا الارتباط بها، ارتباط الإنسان بالله ليس ارتباطاً للنفس بغيرها، بل هو ارتباط لنفس الإنسان بدرجاتها الأكمل والأعلى(1).

نعم فالنظام الإلهي عندما يقول بالحرية للإنسان كما يوصي الإمام أميرالمؤمنين ولده الحسن فيقول:

( وَ لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَ قَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً)(2)، فإن هذه الحرية تعني الحرية في الأفق المفتوح المطلق، حيث ثمرتها هو أن الإنسان يصبح مظهراً لصفات الله سبحانه، وهذه حرية حقيقية لا تؤدي إلى التقاطعات والنزاعات، وتحقق الكمال الفردي والاجتماعي للإنسان، لكن الحرية في المنظار الغربي المادي تؤدي لا محالة إلى التقاطع والصراع على تحقيق الرغبات، لأنها حرية في أفق مغلق ومحدود. ومن العجيب أن المفكّر والمشرّع الغربي قد غفل عن هذا الأمر البديهي.

يقول الفيلسوف البريطاني جون ستوارت مل: لا يجوز إجبار الفرد على أداء عمل أو الامتناع عن عمل بدعوى أن هذا الأداء أو الامتناع أحفظ

ص: 80


1- الحريّة (آزادي) للشهيد مطهري : ص 120 .
2- نهج البلاغة الكتاب 31.

لمصلحته وأجلب لمنفعته وأعوَد عليه بالخير والسعادة، ولأنّه في نظر الناس هو عين الصواب، بل هو صميم الحق، فالإنسان غير مسؤول أمام المجتمع من شيء من تصرفاته إلاّ ما كان منها ذا مساس بالغير، أمّا التصرفات التي لا تخص غير نفسه ولا تتعلق بغير شخصه فله فيها كامل الحريّة ومطلق الإرادة، ذلك لأنّ الإنسان سلطان في دائرة نفسه، وأمير حر التصرف في

جسمه وعقله (1).

ومن الحق أنّ نسأل (ستوارت مل) الذي يعد من أكبر المنظرين للفكر الغربي الحديث، هل نسي أم تناسى أنه قبل أن يقول للغربي إنك حر في كل ماترید، قد قال له وربّاه على أن لا يفكر ولا يشعر إلاّ بالمادة والملك والمتعة والشهوات المحدودة والمؤقتة والمحصورة في إطار هذا العمر القصير، وهل يعقل لمفكر مثل (ستوارت مل) أن لا يعلم أن النزوات والرغبات المادية إذا أصبحت هدفاً نهائياً للإنسان، فإنّ الإنسان لا يشبع منها، ولا يقتنع إلاّ بالإكثار منها، وعندها كيف ستكون نتيجة هذه الحريّة؟ أليست هي الصراع والتكالب على الرغبات؟!

وهل خفيت عليه الحقيقة التي يوضحها أميرالمؤمنين علیه السلام لمعاوية في الكتاب(49)فيقول علیه السلام:

(أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا وَلَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً إِلَّا فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا وَ هَجاً بِهَا وَ لَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا وَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ وَنَقْضُ مَا أَبْرَمَ).

وهل أنّ قانون منع المساس بحرية الغير في تحقيق ما يرغب ويريد، يحل المشكلة ؟ أم أنّ هذا القانون في الحقيقة يكون بمثابة الأقفاص الحديدية التي تُحجز فيها الحيوانات المختلفة في حديقة الحيوانات كي لا يأكل بعضها بعضاً؟!

ص: 81


1- الحرية جون ستوات مل: ص33، ترجمة طه السباعي.

نعم قد انتبه المشرِّع والحاكم الغربي إلى هذا المحذور، فوجد له حلاً ينسجم مع فكره المادي بأن يحل مشكلة الصراع على المنافع والرغبات في المجتمع الغربي عن طريق هدم الإنسانية من أساسها، وبإحراق الأرض بنار الحروب والفتن والنزاعات، والحل هو أن فتح للغربيين بابا لإشباع نهمهم في المال والسلطة والاستحواذ عن طريق الاستيلاء على ثروات الشعوب والأمم الأخرى، وهكذا راحوا يغزون بلدان العالم، ويقتلون أهلها كما تقتل الحشرات ،والديدان تارة باسم الاستعمار وأخرى باسم التطور، وأحياناً باسم الحريّة والديمقراطية، وأخيراً باسم العولمة وباسم مكافحة الإرهاب والقضاء على أسلحة الدمار.

والعجيب أنّ (ستوارت مل) في تنظيره عن الحريّة الفردية يقول أنّ الإنسان أمير وسلطان في دائرة نفسه في التصرف بجسمه وعقله، وسؤالنا هو: كيف يمكن للإنسان الذي علمته الفلسفة الماديّة أن لا وجود إلاّ للمادة والشهوات والدنيا، أن يكون سلطاناً وأميراً في دائرة محدودة وضيقة يتنازع فيها مليارات الناس؟

فكيف يتحرك ليحقق إمارته وسلطانه دون أن يصطدم بالآخرين، فأما أن يُمنع من ذلك فيكون عبداً محروماً مظلوماً لا أميراً ولا سلطاناً، أو لا يُمنع فيكون غاصباً ظالماً وإلاّ فكيف يكون أميراً وسلطاناً في الربح والقوة والمتعة غير المحدودة والآخرون كلهم أيضاً يريدون أن يكونوا أمراء وسلاطين؟!

ص: 82

الفصل الرابع

ميزان السعادة

ص: 83

ص: 84

ميزان السعادة:

ما هى السعادة؟ هل هي اللذة؟أم هي ترك اللذة؟

وإذا كانت هي اللذة فهل هي اللذة، فهل هي اللذات الحسيّة البدنية، أم اللذات العقلية؟أم هي اللذات الفطرية والمعنوية والروحية؟

اختلف المفكرون والفلاسفة في الجواب على هذا السؤال تبعاً لاختلاف نظرياتهم في المعرفة ورؤيتهم الكونية.

والذي يهمنا هنا هو أن نتأمل في أنفسنا بالتدبر والتنمية العقلية لكلمات ميزان الحق والحقيقة؛عليّ علیه السلام،كي يدلّنا على حقيقة السعادة ومنهج الوصول إليها ونيلها، ونحن عندما نتأمل أنفسنا نجد أننا نشعر بالسعادة إذا حققنا شيئاً يلائم شعورنا، فنحن عندما نشعر بالجوع والرغبة بتناول الطعام وتكون لنا قدرة على الحصول عليه، نكون سعداء بالحصول على الطعام والتلذذ بتناوله، وكذلك في سائر اللذات الأخرى التي نشعر بالحاجة إليها ولدينا القدرة على بلوغها.

ولكن هذه السعادة المعتمدة على الشعور والقدرة مهددة بالزوال بفقدان منشأها، فالإنسان بعد دقائق من الطعام يفقد الشعور بالرغبة إلى مواصلة الأكل بسبب الشبع، وعليه أن ينتظر إلى عدة ساعات كي يتجدد لديه الشعور بالرغبة بالطعام، وحينها قد لا توجد قدرة على الحصول على الطعام بسب حصول موانع خارجية كالحوادث والأعداء وعدم توفر الوسائل... الخ.

كما إنّ هناك هاجساً حقيقياً يعكّر صفو هذه اللذات، حتى ولو توفرت كل عوامل تحققها، وهو هاجس الموت الذي يهدم هذه اللذات من أساسها، ويتوقعه الإنسان في كل لحظة.

ص: 85

إذاً هناك عوامل داخلية نفسية وخارجية تمنع ثبات وبقاء الشعور باللذة والقدرة على نيلها، بل تمنع حصولها، وبالتالي فإن الإنسان إذا أراد أن يحقق السعادة الدائمة، فعليه أن يبحث عن سعادة ذات عوامل وأسباب ثابتة وباقية، وأن يجد حلاً واقعياً لمشكلة زوال،السعادة، وهذا الحل لا يتوفر إلاّ في ظل النظام الإلهي النبوي العلوي، وما يصنعه من فكر وشعور ينتج سعادة

حقيقية.

حيث وفّر النظام المعرفي الإلهي طريقاً إلى تحقق الحياة السعيدة التي سماّها (الحياة الطيبة).

قال تعالى:(مَنْ عَمِلَ صَلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حيرة طيبة وَلَتَجْرِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَن مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (1)).

وعندما سئل أمير المؤمنين عن معناها ، قال علیه السلام:(الحياة الطيبة هي القناعة)(الحكمة : 229).

وقبل أن يفسر الآية قال: (كَفَى بِالْقَنَاعَةِ مُلْكاً،وَبِحُسْنِ الخُلُقِ نَعِيماً)(الحكمة: 229)

فهنا يدلّنا أمير المؤمنين علیه السلام أن محور الحياة السعيدة هو القناعة، وليس القناعة بمعنى الاكتفاء بالقليل من النعم المادية، كما يتبادر عند البعض، بل إنّ القناعة هي تغيير لمفهومي الملك ،والنعيم، وهنا يكمن الحل الجذري لمشكلة السعادة الحقيقية.

فإذا كان أكثر الناس يرون الملك والنعيم منحصراً بالمال واللذات المادية، فإنّ الميزان العلوي يقول بأنّ الملك الحقيقي والكنز الذي لا يفنى ولا يبيد هو القناعة، كما أنّ النعيم الحقيقي الذي يُصلح الفرد والمجتمع هو حسن الخُلق،

ص: 86


1- النحل : 97 .

وهذا التغيير المفهومي والفكري، يجعل الجهاز الشعوري للإنسان يتحول من جعل الشعور منحصراً بالماديات والغرائزيات والقدرة على نيلها، إلى تشغيل الدرجات العالية من الشعور، وهي درجات الشعور الفطري والإنساني والتعلق بالحياة الأبدية والارتباط بالمطلق، وهنا سوف يكون الشعور باللذة ليس متوقفاً على توفر اللذة المادية، بل يشتغل حتى في حالة عدم توفرها، فهنا يوجد مفتاحان لتشغيل الشعور بالسعادة عند الإنسان المؤمن، هما مفتاحا الشكر والصبر، فإذا توفرت النعم الماديّة يُشغّل مفتاح الشكر، وإذا لم تتوفر يشغّل مفتاح الصبر، فالمهم عند المؤمن الصالح وبعد أن انفتحت أمامه آفاق الحياة وخرج من جدران المادة، وسجن المعيشة الضنكة الضيقة، هو أن يتلذذ باللذات الإنسانية، فإذا توفرت لديه اللذات المادية، جعل منها وسيلة وسلّماً للصعود إلى اللذات العالية، بواسطة الشكر واستثمار النعم في سبيل الله والحياة الباقية، وإذا ابتلى بالفقدان ونقص من الأموال والأنفس والثمرات صبر، وحول هذا الفقدان بواسطة الصبر إلى وجدان درجات عالية من الإنسانية والأخلاق العالية، وهذه هي الحياة الطيبة، وتصلح الدنيا والآخرة بالسير طبقاً لخارطة الطريق هذه التي رسمها عليّ علیه السلام للبشرية.

وقد عبّر أمير المؤمنين عن هذا المنهج في كثير من كلماته في نهج البلاغة بأنّه منهج جعل الدنيا وسيلة للآخرة، وإنّ الدنيا تصلح وتصبح بيد الإنسان إذا صارت طريقاً للآخرة ، وإنّ الإنسان يخسر الدنيا ويفسدها، ويفسد آخرته أيضاً إذا جعل الدنيا هدفاً، يقول علیه السلام في الخطبة (82):

(مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّهَا عَنَاءٌ وَ آخِرُهَا فَنَاءٌ فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ وَفِي حَرَامِهَا عِقَابٌ مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ وَ مَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ وَ مَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ وَ مَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ وَ مَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ وَ مَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ).

ويقول علیه السلام أيضاً في الخطبة (133): (وَإِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ

ص: 87

مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً وَ الْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ وَيَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ وَالْأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ وَالْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدُ وَ الْأَعْمَى هَا مُتَزَوِّدُ).

وفي كتاب (49) الذي يخاطب علیه السلام فيه معاوية ويقول له: (أَمَّا بَعْدُ فَإنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا وَ لَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً إِلَّا فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا وَ هجاً بِهَا وَ لَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغَهُ مِنْهَا وَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ وَنَقْضُ مَا أَبْرَمَ ...).

وفي الحكمة (371) يقول علیه السلام: (وَ الرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ وَ مَطِيَّةُ التَّعَبِ...).

ومن هذه الكلمات العلوية يمكن أن نستنتج معادلة مهمة هي أنّ مَنْ أراد الدنيا، بمعنى جعل الرغبات المادية هدفاً فإنّه سوف يخسر الدنيا، وكذلك الآخرة ،ومَنْ جعل الآخرة (وهي الرغبات الإنسانية العالية واستعمل رغبات الدنيا لأجل الوصول للرغبات الأخروية العليا فإنه سوف يربحها جميعاً.

إرادة الدنيا = فقدان الدنيا والآخرة

إرادة الآخرة=تحصيل الدنيا والآخرة.

وهذه المعادلة تنتج لنا شعورا وقدرة أوسع وأدوم من الشعور المتعلق باللذات المادية إذا كانت هدفاً لا يرى الإنسان غيره.

هنا سوف تكون اللذات المادية من الطعام أو الزواج أو المال أو الجاه وسيلة للحياة الأبدية الأخروية، فلن تكون هذه اللذات محلا للحرص والجشع والهلع والطمع، لأن هذه الصفات تخالف كونها وسيلة للآخرة، بل تكون جميع اللذات محلاً للقناعة والشكر والصبر، فإذا كانت قليلة، كان قانعاً ولم يطمع، وإذا كانت كثيرة، كان شاكراً ولم يمنع ، وإذا لم يحصل على شيء منها،

ص: 88

كان صابراً ولم يجزع، وفي كل الأحوال سوف يشعر بأنّ هناك شيئاً يحققه وهو رضا الله والدار الآخرة واللذات الفطرية والمعنوية، فيكون سعيدا وكريماً وعزيزاً في جميع الأحوال.

بل إنّ لذة وسعادة الإنسان الإلهي أسعد وأسمى إذا صبرَ وتحمّل المصاعب، وواجه الموانع والعقبات في سبيل الأهداف الإلهية العالية، فالمؤمن لديه وله ولذّة لا توصف بالجهاد والعبادات والأعمال القربيّة التي تتطلب البذل والتعب والنصب ومخالفة الهوى.

أنظر أمير المؤمنين علیه السلام كيف يصف أحبابه وشيعته الصادقين فيقول:(... أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَبِلُوهُ وَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ وَ هِيجُوا إِلَى الْجِهَادِ فَوَهُوا وَلَهَ اللّقَاحَ إِلَى أَوْلَادِهَا وَ سَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا وَأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً وَ صَفًّا صَفّاً...)، وأيّ سعادة وأيّ شعور بالنشوة واللذة أعظم من الوله، وهو شدة الحب وقد وصف به أمير المؤمنين علیه السلام مَن۟ سمّاهم في آخر هذه الخطبة بأنّهم إخوانه، وقال: (.. أُولَئِكَ إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ وَنَعَضَ الْأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ...)، وفي وصف المتقين في الخطبة (193) يقول علیه السلام: ( قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَ زَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى...).

ووصف أصحاب العلم الحقيقي، وهم من تكشّفت لهم حقائق الوجود، وذلك في كلامه لكميل بن زياد في الحكمة (137) فقال علیه السلام: (...هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ وَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ وَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بالمحل الْأَعْلَى أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهُ فِي أَرْضِهِ وَ الدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ آءِ آهِ شَوْقاً إِلَى

رُؤْيَتِهِمْ ...).

ص: 89

طريق السعادة:

من مجموع هذه الأنوار العلوية نكشف طريق السعادة التي هي الشعور الثابت والمستمر باللذات السامية التي تلائم روح الإنسان وفطرته، وهو الفكر الذي يكشف اللذات غير الفانية، ويجعل القلب يتعلق بها، فإذا تعلق بها، جعل كل شيء طريقاً نحو نيلها، فإن حصل الإنسان على النعم واللذات الماديّة، جعلها طريقاً إلى اللذات الأبدية، بواسطة الشكر، وإذا لم يحصل عليها أو فقدها، جعل الصبر طريقاً إلى لذاته، ولم يتأثّر شعوره بالسعادة، فهو في حال سرور وملك ونعيم دائم، هو الشكر والصبر والقناعة وحُسن الخُلق والقلب السليم، فلا يخاف من احتمال فقد الموجود، ولا يحزن على المفقود (ألَآ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (1)).

عندما تشعر أنك لن تفقد شيئاً في المستقبل فهنا يزول الخوف والقلق، وعندما تشعر إذا فقدت شيئاً من أمورك البدنية والمادية، إنّك حصلت على بديل أفضل، فلن تشعر بالحزن وعندما تشعر أنك دائماً في إنجازات دائميّه، تسير على منحن مستمر في الارتفاع حتى تصل إلى أفق مفتوح من الحياة الأبديّة الخالصة، فإنك عندها سوف تكون في سرور دائم.

والأساس الذي ينطلق منه الشعور بالإنجازات الدائميّة والفوز المستمر هو الفكر والتدبر الصحيح الذي يكشف للإنسان حقائق الكون والنفس، والذي عبّر عنه علیه السلام:(هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ)، وعبّر عنه في وصف أولياء الله في الحكمة (432 ) : (إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهَ هُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى بَاطِنِ الدُّنْيَا إِذَا نَظَرَ النَّاسُ إِلَى ظَاهِرِهَا وَاشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا إذَا اشْتَغَلَ النَّاسُ عَاجِلِهَا ...).

فإذا وصل الإنسان إلى حقيقة البصيرة، ونظر إلى باطن الدنيا، فسوف

ص: 90


1- يونس : 62 .

يشتغل جهازه للأهداف العالية، فهناك أهداف عالية، وهناك أهداف دانية الأولى هي الآخرة، والثانية هي التي تسمّى الدنيا، إذا كان الفكر ماديّاً حسيّاً فقط، فلا يكتشف إلاّ الأهداف الدانية الحسيّة المحدودة، فإذا تحرك نحوها فلا محالة أن يرتطم بجدرانها، لأنّها محدودة فيتوقف الشعور بالسعادة، لكن الفكر الناتج من حركة العقل وفق المنهج الإلهي والعلوي للمعرفة، یکشف الأهداف العالية، ويتحرك نحوها ويتعلق بها، وهي ذات آفاق مفتوحة ومتعالية، فلا تتوقف سعادة الإنسان السائر إلى نحو المثل الأعلى الإلهي والحياة الباقية، بل إنّ الجدران التي ارتطم بها الإنسان المادي الذي لا يعرف غير المادة، سوف تتحول عند الإنسان الإلهي إلى قواعد للانطلاق نحو الأعلى، والحصول على إنجازات ومكاسب أعلى، فالمصائب والابتلاءات

يحوّلها المؤمن إلى هدى ورحمة والموت عند المؤمن يتحول إلى بوابة نحو الحياة الكاملة الخالصة الخالدة.

ومن قول امير المؤمنين علیه السلام في الخطبة (220) الذي ذكرناه في معرفة النفس نكتشف معنى في غاية الشرف والسمو يوضح لنا بان السعادة تنطلق من نفس الانسان الحقيقية اذا تغلبت على النفس الوهمية التي هي حجاب يمنع النفس عن رؤية الطريق للاتصال بمعين الكمال المطلق الذي تحصل به النفس الإنسانية على شعور بالفوز المستمر وأن هناك شيئا تراه وتشعر به وتريده ويتحقق لها لهم ما يشاؤون فيها ) ، ( لا يبغون عنها حولا) وهذان الوصفان هما ركنا السعادة وبهما وصف الله أهل الجنّة:

الأول : ان يتحقق كل ما تريد.

الثاني: ان يكون هناك تجدد واستمرار بلا كلل ولا ملل، والوصول إلى هذا المقام يتحقق بإحياء العقل، (قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ، وَأَمَاتَ نَفْسَهُ، حَتَّى دَقَ جَلِيلُهُ، وَلَطُفَ غَلِيظُهُ، وَبَرَقَ لَهُ لاَمِعُ كَثِيرُ الْبَرْقِ، فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ، وَسَلَكَ

ص: 91

بهِ السَّبِيلَ، وَتَدَافَعَتْهُ الْأَبْوَابُ إِلَى بَاب السَّلاَمَةِ، وَدَارِ الْإِقَامَةِ، وَثَبَتَتْ رِجْلَاهُ همَانِينَةِ بَدَنِهِ في قَرَارِ الأمن والرَّاحَةِ، بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ، وَأَرْضَى رَبَّهُ.).

فهناك عقل يجب أن يحيى، وهناك نفس يجب ان تموت، وهناك جليل يجب ان يدق، وهناك غليظ يجب ان يلطف فيسلك الانسان السبيل نحو السعادة، وهي باب السلامة ودار الإقامة وثبات الإقدام بطمأنينة النفس في قرار الامن والراحة.

فالأمن يعني عدم الخوف والراحة تعني عدم النقص، فهذا الاشباع الدائمي الآمن هو السعادة، ويحصل للإنسان بما استعمل قلبه وارضی ربه، فالخطوة الأولى والأساسية لهذه السعادة هي احياء العقل واماتة النفس والهوى المانع عن رؤية وإدراك الكمال المطلق.

الآخرة تُصلح الدنيا ولا تلغيها:

النظام المعرفي الإلهي العلوي الذي ينتج فكراً وشعوراً يجعل اللذات العالية والأبدية هدفاً لا يلغي اللذات المادية والدنيوية، وإنما يصلحها، ويجعل الإنسان يختار أفضلها، فالدنيا بما أنها دار لامتحان الإنسان، وكمال الإنسان فيها منوط بانتخابه أحسن الخيارات ( الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا (1)) .

ففي الدنيا حق وباطل، وفيها حلال وحرام وفيها طاهر ونجس، فإذا كان غير المؤمن لا يعرف إلاّ اللذات المادية وهي هدفه ومثله الأعلى، فإنّ ما يهمّه أن يحصل على اللذات المادية، ولا يهمّه من أي طريق حصلت، حقاً كان أم باطلا، عدلاً كان أم ظلما، وكذلك همّه أن يشعر باللذة في الطعام أو الغرائز الأخرى، ولا يهمه حلالاً كانت أم حراما، طاهرة كانت أم نجسة وقذرة.

ص:92


1- الملك: 2 .

لكن الإنسان المؤمن لا يختار الدنيا ولذاتها المادية البدنية وحياته الاجتماعية إلا باتباع الحق في القول والعمل، ولا يأكل ولا يشرب ولا يتزوج ولا يسكن ولا يلبس إلاّ الحلال الطيب الطاهر، فأي حياة دنيوية أفضل، هل المؤمن بالآخرة أم حياة الكافر بها؟

وحول هذا المعنى يقول أمير المؤمنين علیه السلام في الكتاب (27) وفيه يخاطب واليه على مصر (محمد بن أبي بكر):

(... أَنَّ المُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ، فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ ، وَلَمْ يُشَارِكُوا أَهْلُ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ، سَكَنُوا الدُّنْيَا بَأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ، وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ، فَحَضُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ، وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ المُتَكَبِّرُونَ، ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّعِ، وَالمُتَجَرِ الرَّابِحِ، أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ الله غَداً فِي آخِرَتِهِمْ، لَا تُرَدُّهُمْ دَعْوَةٌ، وَلاَ يَنْقُصُ هُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّة...)

ولو أمعنّا الفكر في العبارة العلوية الأخيرة، لأنتجت لنا معادلة مهمة جداً، وهي أن المؤمن والمتدين الملتزم لا تقل سعادته الدنيويّة عن غير المتدين، وهذا خلاف ما هو معروف ومرتكز في أذهان الكثير، إن لم يكن الأكثر من المتدينين، بأن مَنْ يريد أن يكون ملتزماً فعليه أن يحرم نفسه من اللذات، وهنا يصحح لنا ميزان الحق الإلهي على لسان عليّ الحق سلام الله عليه هذا الخطأ الثقافي الفكري، ويقول أن المتقين لا ينقص لهم نصيب من لذّة، نعم قد يملك الكافر والفاسق مظاهر وزخارف دنيوية كثيرة، ويملك المليارات ويعيش في القصور ، ولكن هل أنه يتلذذ بالدنيا أكثر من ذلك الإنسان المؤمن الذي يعيش في الكوخ أو البيت المتواضع ولا يملك إلاّ قوت يومه؟ يقول القرآن الكريم الذي لا أصدق منه قولاً ﴿وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوَلَدُهُمْ ۚ

ص: 93

إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَفُرُونَ (1)) .

ويقول القرآن الناطق المتحرك على علیه السلام الأرض وهو عليّ إن لذات المؤمن المتقي بالحلال ،القليل أفضل من لذات ،غيره، وإن كان من الملوك وأبناء الملوك.

ولو غصنا في بحر الفطنة والحكمة العلوية وحلّقنا في سماء الهمّة لاصطدنا لآلئ من البحر العلوي ولطرنا بها في أعالي قمم الإنسانية، ولعرفنا أنّ لذات المتقين أفضل وأعظم بكثير من عبيد الشهوات والدنيا .

عندما يصف عليّ أتباعه وحوارييه وأحبابه الذين هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، فيقول أنّهم استلانوا ما استوعره المترفون وآنسوا بما استوحش منه الجاهلون.

فالحياة عند عبيد المادة ما هي إلاّ لحظات قضم لقمة، ونزوة شهوة وسورة غضب ونشوة تسلط، فإذا فقدها أو خاف أن يفقدها، هبت رياح الحزن والخوف على حديقة حياته، فتحولت إلى هشيم وحطام، وأصبحت وعرة موحشة، وصار كالبندول يتأرجح بين القلق والكآبة والخوف والحزن، ولكن أتباع المنهج العلويّ، إذا ما أصحرت وأوعرت حياتهم، كشفوا بمحراث بصيرتهم باطنها، فإذا بها ليّنة سهلة جميلة ، فنشروا فيها بذور الصبر، وسقوه بغيث الدموع وحرارة الإخلاص والخشوع، فإذا بصحرائها أصبحت واحات أشجار طيبة وحدائق بهجة وسرور، ووحشتها وظلامها يتحول إلى أُنس ونور.

هذه هي ولاية عليّ وأبنائه، التي يدلّنا عليها في نهج بلاغته، فهي ولاية المحبين الوالهين التي أوضح معالمها في مناجاته الشعبانية عندما قال:(إلهي أقمني في أهل ولايتك مقام مَنْ رجى الزيادة من محبتك وألهمني ولهاً بذكرك

ص: 94


1- التوبة: 85

إلى ذكرك ) (1).

فإذا كانت البشريّة اليوم تئنّ ألماً وسغباً من مجانين السلطة والمال والشهوات المتسلطين على رقابها، فلا منقذ لها سوى ولاية عليّ ومنهجه.

لقد تركت البشرية ولاية علي ودخلت في ولاية غيره، ترکت مَن يرى الله في كل شيء، ودخلت في ولاية من يرى (الأنا) والسلطة والتكاثر والتفاخر في كل شيء، وعندما يتولى مثل هذا الولي فإنّه يبيع خلق الله جميعاً، ويجعل عباد الله خولا، وأمواله دولا، ويهلك الحرث والنسل لأجل نزوة شهوة، أو نشوة سلطان أو غلبة أو سورة غضب أو عصبية أو هيجان حرص أو طمع.

وإذا كانت البشرية قد خُدعت بقول من يعجبك قوله في الحياة الدنيا وهو ألد الخصام ، فكانت وقودا للحرب والفتن والأهواء، وركب الطغاة ظهرها، وحلبوا ضرعها في طول هذه القرون المتمادية، فإنّ جرائم هؤلاء الجبابرة الأخيرة بحق البشرية لاسيما في طريقة تعاملهم مع وباء كورونا ومع المختلفين معهم في اللون والعنصر واللغة، قد عرّت حقيقتهم، وكشفت استهانتهم بأرواح الملايين ، حتى من شعوبهم، وقد أضاء الصبح لذي عينين، ما أحوج البشرية إلى معرفة عليّ ومنهجه كي تعود إلى عليّ وتدخل في ولايته، تعود إلى علي كي يرى الله فيها ولا يرى نفسه، تعود البشرية إلى عليّ الذي يجمع عشاء أطفاله ليقدمه ليتيمها وفقيرها وأسيرها، تعود إلى عليّ كي يكون لها أسوة في جشوبة العيش ويشاركها في مكاره الدهر تعود إلى عليّ الذي يرى قيمة خلافته أقل من النعل البالي إلا أن يقيم حقا ويبطل باطلاً، تعود إلى عليّ الذي لا يريد أن يقيم نصراً على الجور وتوزيع المناصب والمكاسب، تعود إلى عليّ الذي لا يريد تأليف حكومة ومجلس وزراء من العروش والكروش، تعود إلى عليّ الذي لا يحب المدح والإطراء، تعود إلى عليّ الذي لا يطمع في سلطانه القوي والحليف والقريب، ويلجأ إلى عدله الضعيف والغريب...

ص: 95


1- مفاتيح الجنان الشيخ عباس القمي: المناجاة الشعبانية.

ص: 96

الفصل الخامس

میزان فهم الدين

ص: 97

ص: 98

ميزان فهم الدين:

ليس هناك شيء في التاريخ أكثر انتشاراً وتأثيراً ولصوقاً بالجنس البشري كالعامل الديني، والمقصود بالدين هو الارتباط بقوة مطلقة تستطيع أن تدفع عن الإنسان الشرور، وتجلب له الخير والبركات والحياة في الدنيا وما بعد الموت، وليس هناك من عامل محرك نحو العمل والعطاء والتضحية كالدين إذا تم استثماره في هذا الاتجاه، وليس مثل الدين من كابح للرذائل وصمام أمان للمجتمع يحفظه من الظلم والفساد، وفي المقابل أيضاً ليس كالدين شيء يمكن استغلاله وخداع الناس به ليكونوا مطايا ووسائل لدنيا ورغبات ومآرب الآخرين.

ومن هنا تبرز الأهمية القصوى لفهم الدين الصحيح وتشخيص الدين الحقيقي من الدين المزيّف، والنبي من المتنبي، والإمام والعالم من المدّعي للإمامة والمقام العلمي.

ولم يهمل القرآن الكريم هذه المسألة المصيرية، ولم يغلق باب الوحي القرآني إلاّ من بعد أن أنزل الله على رسوله أن يبيّن للأمة هندسة الصراط المستقيم،والمهندس الذي يهدي نحو خارطة طريق الإسلام الأصيل، ويوزع مصابيح الكشف وأجهزة التشخيص ومفاتيح الوعي والبصيرة.

والهندسة هي الولاية العلوية، ومهندسها وقائدها ومعلمها هو عليّ وأبناؤه الطاهرون، ولم يعلن الوحي إكمال الدين وإتمام النعمة إلاّ بعد إعلان هذا الأمر الهام المصيري (الْيَوْمَ يَبِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَأَخْشَوْنَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَمَ دِينًا ۚ)(1)، وتم تحذير الرسول والأمة بأنّ الإسلام كرسالة إلهيّة إلى الأرض يتوقف ابلاغها

ص: 99


1- المائدة آية 67 .

على إنفاذ هذا الأمر( يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَغَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ...)(1).

فالإسلام مجموعة من المفاهيم والعقائد والقوانين والأحكام، وهي كالمادة الخام التي تحتاج إلى التشخيص والتمييز والتنظيم، وبوصلة تعيّن الاتجاه ومصابيح تضيء الطريق، ومفاتيح لأقفال وموانع الطريق، وهذه مهمّة ولاية الإمام والقائد الصالح، ولا رسالة دون هذه الولاية.

وعندما ابتعدت الأمة عن مهندس الولاية، وعطّلت مصنع إنتاج الإنسان الحقيقي، بقي الإسلام مادة هلامية من مفاهيم وطقوس عجنتها وخبزتها كل فئة لما يطابق أهواءها ومصالحها.

لذلك لم يستطع القرآن أن ينتج أمّة( وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ (2))و (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ(3) )و(خَيْرَ أُمَّةٍ (4))، بل إنّ واقعنا يشهد على العكس من ذلك إلاّ من رحم ربّك، ولا نبالغ إذا قلنا بأنّ علينا اليوم أن نعود إلى الإسلام لأنّه ليس لدينا إسلام، عندما فصلنا إسلامنا عن ولايته وقيادته وإمامته الحقيقية التي قال الله لرسوله إنك إن لم تبلغها للأمة ( فما بلغت رسالته).

والأساس المهم في تحقق هذه العودة هو الفكر الذي نستقيه بأوعية عقولنا وقلوبنا من ينابيع العلم العلوي، والذي به نشخّص الإسلام الحقيقي ونميّزه

عن سواه.

ص: 100


1- المائدة: آية 3.
2- آل عمران: 139
3- البقرة: آية 143 .
4- آل عمران آية 110 .

مراحل فهم الدين

قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ تَفَكَّرُونَ ) (1)، هذه الآية تبيّن المصدر الأصلي للإسلام وهو القرآن الكريم، لكن القرآن يحتاج إلى أمرين آخرين، أحدهما بيان الرسول والآخر هو التفكر وعمل

العقل، فهنا ثلاث مراحل في فهم الدين، وقد بيّن لنا أمير المؤمنين آليّة تفعيل هذه المراحل الثلاث للوصول إلى فهم الدين، فهو يؤكد على كون القرآن هو المصدر الأساسي، ويقول في الخطبة علیه السلام(176) :(وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُ، وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ، وَالمُحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكْذِبُ. وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ: زِيَادَةٍ فِي هُدى، أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمَى وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنٙىٙ: فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأَوَائِكُمْ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنّفَاقُ، وَالْغَيُّ وَالضَّلاَلُ ...) إلى أن يقول: (وَاسْتَدِلُّوهُ عَلى رَبِّكُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ، وَاسْتَغِشُوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ)، وفي الخطبة (158) يقول علیه السلام: ( ذلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي، وَالْحَدِيثَ عَنِ المَاضِي ، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ، وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ)، وفي الخطبة (133) يقول علیه السلام: ( ... كِتَابُ الله تُبْصِرُونَ بِهِ ، وَتَنْطِقُونَ بِهِ، وَتَسْمَعُونَ بِهِ، وَيَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَيَشْهَدُ بَعْضُةَ عَلى بَعْضٍ ٍ، وَلاَ يَخْتَلِفُ فِي اللهِ، وَلَا يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ الله)، وفي الخطبة (91) يقول علیه السلام: (فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ : فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَالْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِيءٌ بِنُورِ هِدَايَتِهِ...)

والذي يظهر من هذه الكلمات وكذلك الأحاديث الأخرى والآيات القرآنية الكريمة التي وصفت بعضها القرآن الكريم بأنه مصدر الهدى

ص: 101


1- النحل : آية 44

والشفاء والنور، والآيات التي ربطت تبيينه وتوضيحه بالرسول الأكرم صلَ الله عَلیه و آله وسلم،إنّ هناك دلالتين للقرآن الكريم، أحدهما إجمالية كلية ، وهي دلالة القرآن على القرآن، والثانية تفصيلية وهي دلالة القرآن على الإسلام.

الدلالة الإجمالية للقرآن:

وهي دلالة مهمّة واساسية توضح الأهداف العالية للقرآن وترسم معالم الأمة والحضارة التي يريد الإسلام بناءها، فخلافة الله في الأرض بمعنى إظهار صفات الله في الأرض، وإقامة العدل والقسط والإيمان بالله وتوحيده عن طريق العقل والتفكّر، وأن الله سبحانه الشهيد على كل شيء والحاضر الحي القيوم المنزّه عن الجسمية والمحدوديّة والإدراك بالأبصار، وإن الأمة يجب أن تكون قوية وعزيزة ولا تركن للظالمين، ولا توالي الكفار، وأن تتوحّد وتعتصم بحبل الله المتمثل بالرسول والولّي الصالح، الذي يملك أعلى درجات العلم والعدل، والذي يقوم بتعليم الأمة وتزكيتها وقيادة صراعها في الجهادين الأكبر والأصغر في مقابل أعدائها، ويدعو الأمة إلى العلم والعمل والإنتاج الأوفر والاستهلاك الأمثل وإقامة القسط والعدل، والتكافل الاجتماعي وإزالة الفقر والمسكنة من المجتمع، ويزرع الأخلاق الإنسانية العالية ونبذ الرذائل والعنصرية والتعصب والتمييز والطبقيّة.

وهذه الدلالة القرآنية التي تبين الأهداف العالية للقرآن هي التي جعلها النبي وأهل البيت عليهم السلام ميزاناً لتشخيص صحة الروايات، عندما أمروا بنبذ وطرح كل ما خالف القرآن، والأخذ بما وافق القرآن، فهذه الدلالة لا تتوقف على الرجوع إلى الروايات كي تتم، وإلّا لزم الدور، وهو توقف الشيء على نفسه لأنه إذا قلنا أنّ دلالة جميع آيات القرآن متوقفة على توضيح الروايات لها كما يقول بعض الإخباريين، ومن جهة نقول بأّنّ صحة الروايات متوقف على عدم مخالفة القرآن، فهذا هو الدور المستحيل منطقياً.

ص: 102

وحول هذا المعنى يقول صاحب تفسير (تسنيم) الجوادي الطبري الآملي إن مقتضى قول القرآن هو أنه لا يحتاج إلى الغير، لا في كونه نيرا بنفسه ولا في إنارته لغيره، لأنه لو كان محتاجاً لمبيّن آخر فإن ذلك المبيّن سيكون هو الأصل، وسيكون القرآن فرعاً وتابعا له، وكون القرآن فرعا لا يتلائم مع كونه نورا... وكونه تبيانا لكل شيء لا يحتاج إلى الغير في تبيين نفسه((1)).

وهذه الدلالة التي بها يتم تقييم النصوص، وكذلك يقيّم بها الإنسان نفسه ومجتمعه، ولعلها هي المقصودة من قوله علیه السلام : (... كِتَابُ اللهِ تُبْصِرُونَ بِهِ، وَتَنْطِقُونَ بِهِ، وَتَسْمَعُونَ بِهِ...)، فالقرآن هو المصباح الذي نكشف ونحس به الأشياء.

كيف نحصل على الدلالة القرآنية:

وهذه الدلالة تحصل باتباع المراحل التالية:

1- معرفة معنى كلمات الآية التي يراد التعرف على دلالتها.

2- ربط الآية بسياق الآيات التي معها.

3-ربط الآية بسياق الآيات القرآنية المرتبطة بها في الموضوع.

4 -ربطها بالأحكام العقلية القطعية.

مثلاً آية الولاية: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾(2)،فهذه الآية لا يمكن أن تتم دلالته بالاقتصار على معاني كلماتها فقط، وإنما علينا أن نربطها بالآيات التي قبلها، والتي نهت عن ولاية الكفار وقالت فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰٓ

ص: 103


1- تفسیر تسنیم ، ج 1 ص 97 - 98 ، عبدالله جوادي آملي.
2- المائدة:55

أَن تُصِيبَنَا دَابِرَةُۚ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرِ ِ مِّنْ عِندِهِ، فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِم نَدِمِينَ﴾(1)، وكذلك الآية التي بعدها التي تقول: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَلِبُونَ﴾(2)، من الواضح أنّ دلالة هذه الآيات على أن الولاية المقصودة، هي ولاية الحكومة لا المحبّة، وكذلك علينا أن نربطها بالسياق القرآني العام، حيث الآيات التي أوضحت أنّ الله أرسل الأنبياء وأنزل الكتاب لأجل إقامة القسط والعدل وتطبيق أحكام الله ، وأنّ الله لا يظلم مثقال ذرة، إضافة إلى حكم العقل بأنّ الله سبحانه لا ينقض غرضه، لأنّه يستحيل على الحكيم أن يناقض نفسه، بأن يريد شيئاً ثم يأمر بخلافة، أو يسمح بسبب أو وسيلة تؤدي إلى نقض الغرض، فيستحيل أن يسمح بولاية غير الإمام العالم بحكم الله، والذي بولايته وطاعته لا يتحقق العدل والقسط في الأرض، ولا يزول الظلم والجور، ونضيف هذا كله إلى شأن النزول لهذه الآية، فيصبح لدينا دون شك أنّ المقصود بالولاية هو ولاية الإمام المعصوم، العالم العادل، ومصداقها الأكبر والأول هو علي بن أبي طالب أمير المؤمنين علیه السلام.

وكذلك في الآيات التي يبدو من ظاهرها أنّها تدل على الجسميّة والمحدودية، مثل قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ (3) أو ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ... (4) أو (... يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ...)،(5) فهذه يجب أن ترتبط بالآيات الأخرى التي تبين أن الله حاضر ٌوشهيد ومحيط بكل شيء (على كل شيء شهيد) ( بكل شيء محيط) (معكم أينما كنتم) (هو الأول والآخر والظاهر والباطن)، وهذه تنفي المحدودية، كذلك ينبغي أن تُربط

ص: 104


1- المائدة: 52 .
2- المائدة: 56
3- طه : 5
4- :البقرة 255
5- الفتح : 10

هذه الآيات مع الدليل العقلي القطعي، الذي ينفي الجسمية والمحدودية عن الله جل وعلا، لأنها تعني الحاجة إلى الغير، والمحتاج إلى الغير لا يكون إلهاً.

والمثال الآخر؛ الآيات التي يظهر منها أن كل ما يحدث في الوجود فهو مرتبط بالله، على نحو الحصر، ولا دور للإنسان في حصول أي شيء، فهذه الآيات يجب أن تُربط بآيات أمر الإنسان بالعمل وإعداد القوة والجهاد والصبر وتغيير الأنفس، كذلك آيات الثواب والعقاب، وآيات الامتحان والبلاء واختيار الأحسن، التي تدل على أنّ الأمور قد ربطها الله سبحانه باختيار الإنسان، وإنّ التغيير والنصر والبركات المادية في الدنيا، وكذلك الثواب والعقاب في الآخرة ، معتمد على نوع اختيار الإنسان وعمله، إضافة إلى الدليل العقلي بقبح معاقبة الإنسان على شيء لم يفعله بل فعله غيره.

وهذه الطريقة في معرفة الدلالة القرآنية هي المقصودة من قوله في الخطبة (110): (وَتَعَلَّمُوا الْقرْآن فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الحَدِيثِ، وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ ، وَأَحْسِنُوا تِلاوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ ...).

فهنا أمر بالتعلم والتفقه وإحسان التلاوة، فالتعلم والتفقه يعني الربط بين المعلومات للوصول إلى معلومة جديدة، وإحسان التلاوة ليس المقصود منها القراءة للآيات ومراعاة أحكام التجويد، بل هي حق التلاوة الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:(الَّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُوْلَئكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئكَ هُمُ الْخَسِرُونَ)(1).

صدق التلاوة وأحسن التلاوة هو جعل الآيات مترابطة يتلو بعضها بعضاً، كي تنتج الإيمان، وتنتج القرآن الذي هو ربيع القلوب، وشفاء الصدور، وفي كلمات الخطبة (133) قال علیه السلام:( ... كِتَابُ الله تُبْصِرُونَ بِهِ، وَتَنْطِقُونَ بِهِ، وَتَسْمَعُونَ بِهِ...) ثم قال علیه السلام: ... وَيَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى

ص: 105


1- البقرة: 121 .

بَعْضٍ ٍ، وَلاَ يَخْتَلِفُ فِي الله، وَلاَ يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ الله ...).

فإذا لم يحصل هذا الترابط والتواصل بين الآية القرآنية وبين خيوط النسيج القرآني، فإنّ القرآن الذي هو ربيع القلوب وشفاء الصدور والمصباح الذي نبصر به ... لن يتحقق، بل يحصل العكس من ذلك، فالتمسك بالمتشابهات وقطع الآيات عن سياقاتها القرآنية والتاريخية، وفصلها عن العقل القطعي والتعامل الانتقائي، والإيمان ببعض والكفر بالآخر، حوَّل القرآن الكريم من هدى ونور وشفاء، إلى ضلال وأمراض وعمى، ولم يزد الأمة إلاّ خسارا.

أهميّة الدلالة الاجمالية في معرفة الدين :

الدلالة الإجمالية المذكورة هي التي ترسم الهيكل العام للإسلام ومعالمه الرئيسية، وهي دلالة أساسية ومصيرية، وتعطي للإنسان فهماً وبصيرة، تشخّص له محددات البناء وخارطته التي يجب عليه أن يبني نفسه ومجتمعه وفقاً لها، لذلك فإنّ كل ما يمكن أن نراه من نصوص مخالفة لهذه الدلالة القرآنية، فهي مخالفة للبناء القرآني، ولا يمكن أن يصدر من النبي وأهل البيت ما يخالف البناء الإلهي ويهدمه.

وحول هذا المعنى يقول السيد السيستاني حفظه الله : إن الاعتبار السندي على المختار لا يكفي في حجية الخبر،بل لابد من مقايسة الخبر بشواهد الكتاب والسنة من جهتين :

الأولى: أن لا يكون مضمون الخبر مخالفاً للمعارف المسلمة في الإسلام مماورد في الكتاب والسنة، كأن يكون هادما لما بناه الإسلام ، أو بانياً لما هدم .

الثانية: أن يكون مضمونه موافقاً مع الكتاب والسنة توافقاً روحياً،بمعنى أن يتسانخ مع المبادئ الثابتة من الشريعة من خلال نصوصها القطعية(1).

ص: 106


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار، السيد السيستاني : التنبيه الثاني ص 201

ولذلك فإنّ ما يروى أو ينقل لنا من مفاهيم خلاف المعرفة التوحيدية الصحيحة والعقائد السليمة، أو خلاف السعي لإقامة القسط والعدل ومواجهة الظلم والفساد والطاغوت، أو يفهم منها عدم الحاجة إلى العلم والعمل وولاية الولي الصالح ، ووحدة الأمة وقوتها في مقابل الأعداء، فكل ذلك يرمى نحو الجدار، لأنّ النبي وأهل البيت علیهم السلام لم يقولوه، ولكن هذه الدلالة على الرغم من أهميتها القصوى فهي غير كافية في معرفة الإسلام، وتحتاج إلى الدلالة التفصيلية القرآنية لأجل معرفة الإسلام لا القرآن.

الدلالة التفصيلية على الإسلام :

وهي دلالة القرآن على تفاصيل الشريعة وجزئيات الإسلام، وهنا يأتي دور النص النبوي وأحاديث أهل البيت علیهم السلام التي هي طريق إلى النص النبوي صلی الله علیه و آله وسلم، والقرآن الكريم يرجعنا في هذه الدلالة، إلى بيان النبي صلی الله علیه و آله وسلم وسيرته، فيقول (القرآن الكريم): (... وَمَا ئَتَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَكُم عَنْهُ فَانتَهُوا... )(1) . ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (2)، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ

وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما(3)) و ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرُ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلَمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ

مِنْهُم ... (4).

ص: 107


1- الحشر : 7
2- النحل : 44
3- النساء : 65
4- النساء : 83

وهنا نرجع إلى الكلمات العلوية التي تُرشدنا إلى كيفية بناء الشخصية الإسلامية والمجتمع الذي يحكم الإسلام كنظام كامل يقود الحياة، ويحقق الأهداف العالية التي أوضحها القرآن الكريم في دلالته الكلية الإجمالية.

وفي هذا الصدد فقد وردت في نهج البلاغة تعليمات هامة جداً وحسّاسة في منهج بناء الشخصية العلوية والمجتمع الولائي.

يقول علیه السلام في وصف أهل البيت علیهم السلام في الخطبة (239) : (... فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ وَ مَوْتُ الجهل هُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ وَ صَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهم وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ لَا يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ وَ صَامِتٌ نَاطِقُ ...) و (... لَا يُخَالِفُونَ الحَقَّ َ وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَهُمْ دَعَائِمُ الْإِسْلَامِ وَ وَلَائِجُ الاِعْتِصَامِ بهِمْ عَادَ الحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ وَ انْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ ...)، إلى أن يقول علیه السلام: (... عَقَلُوا الدِّينَ عَقْلَ وِعَايَةٍ وَرِعَايَةٍ لَا عَقْلَ سَماعِ وَرِوَايَةٍ فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْم كَثِيرٌ وَ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ).

وفي الحكمة (98) قَالَ علیه السلام: (اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لَا عَقْلَ رِوَايَةٍ فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ وَ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ).

وفي الخطبة (182) يتأوّه شوقاً إلى إخوانه ويبكي عليهم ثُمَّ قَالَ علیه السلام: (أَوَّهِ عَلَى إِخْوَانِيَ الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ وَ تَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَ أَمَاتُوا الْبَدْعَةَ دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا وَوَثقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ).

وفي الخطبة (121) يفتقدعلیه السلام هؤلاء الإخوان الأعزاء ويبحث عنهم ويقول : (... أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْإِسْلَام فَقَبِلُوهُ وَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ وَ هِيجُوا إِلَى الْجِهَادِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اللقاحِ ِ إلَى أَوْلَادِهَا ...).

وفي الخطبة (173) يقول علیه السلام في وصف مَن يحمل راية الإسلام الصحيح فيقول: (... وَ لَا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ وَالصَّيْرِ ِ وَ الْعِلْمِ بِمَوَاضِع الحقِّ ِ...).

ص: 108

ومن هذه المجموعة من المصابيح العلوية، يمكن أن نصنع جهازا للتنمية العقلية نكشف به الإسلام الحقيقي، ونفهمه ونميزه عن الإسلام الخاوي المزيف، ويمكن ترتيب وتأليف هذا الجهاز الكاشف عن فهم الإسلام وفقاً للمراحل التالية:

1- تلاوة وتدبّر النص القرآني : وهذا ما كنا نحتاجه في معرفة دلالة القرآن على القرآن، ونحتاجه هنا بنفس الدرجة بل أكثر، لأننا هنا نحتاج إلى نصوص من النبي صلی الله علیه و آله وسلم والعترة علیهم السلام لبيان الآيات والتلاوة هي إيجاد عملية ربط بين الآيات وإدخال جميع السياقات الداخلية والخارجية في معرفة المقصود، والتدبّر هو عدم الاكتفاء بالمعاني المباشرة الظاهرة من الآيات، والانتقال إلى دبر الآية، أي المعنى المقصود من وراء هذه الآية بعد ادخال جميع القرائن والسياقات بما في ذلك سياق الأهداف القرآنية العليا، وكذلك الأدلة العقلية القطعية.

2- البحث عن النصوص الروائية التي تفسیر وتبّين الآيات القرآنية، وكذلك التي تبيّن مفردات الإسلام بنحو مباشر، وهذه النصوص يجب أن تكون معتبرة من الناحية السنديّة، أي أن نطمئن إلى صحة ارتباطها بمصدر الشرعية وهم النبي وأهل البيت صلوات الله عليهم.

3- عقلنة النص : وهذا هو الأمر الجوهري في جهاز فهم الإسلام، حيث يقول علیه السلام: اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل وعاية وعاية لا عقل سماع ورواية وليس المقصود من العقلنة هو أن العقل ينتج حكماً شرعياً بنحو مستقل عن الشرع كلا؛ بل إن العقل يقوم بعملية الكشف عن الحكم الشرعي.

أو إنّه يقوم برعاية النص وإخضاعه للكواشف الدلالية، حتى يستخرج منه الحكم المقصود الذي يشكّل مفردة في منظومة الإسلام، ولبنة في بناء النظام

ص: 109

الإسلامي، وأول عمل ينبغي تنفيذه في عملية العقلنة، هو عدم تعارض النص مع الدلالات القرآنية الإجمالية المذكورة، وهي الأهداف العالية للقرآن.

وبعد أن يتم التأكد من عدم المخالفة، يتم البحث عن المُعارض له من النصوص، فإذا وُجدت أخبار معارضة، فأما أن يكون التعارض تباينياً، أي أن أحدها يقول إفعل والآخر يقول لا تفعل، فهنا إما أن يتساقط الخبران، أو يتم الجمع بينهما.

وإذا كان التعارض على نحو غير تبايني فهنا يتم الجمع بحمل العام على الخاص، والمطلق على المقيّد، والمجمل على المبيّن، وهنا أصبح لدينا نص اجتاز مرحلتين من الغربلة الأولى عدم مخالفة القرآن، والثانية عدم التعارض وهناك مرحلة أخرى وهي كونه قد صدر لأجل حكم شرعي عام، لا لأجل قضية شخصية في مورد معين ومحدود ، ولا لأجل مراعاة ظروف أمنية اقتضت صدور هذا الحكم.

وبعد تجاوز هذه المرحلة من الرعاية للحديث، تأتي مرحلة عقلنة مهمة للنصوص، وهي وضع النصوص في موضعها المناسب بالنسبة إلى كل الشريعة وأهدافها، وهذا هو روح العقلنة والرعاية والوعاية والدراية، التي أمر به

امير والأئمة عليهم السلام في التعامل مع الحديث.

وهو عليه السلام عندما يصف العاقل يقول في الحكمة( 235): (... هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ مَوَاضِعَهُ...)، فقيل له صف لنا الجاهل، فقال عليه السلام .. قد فعلت..

ولا شك أن النص الذي يقصد به بيان حكم إسلامي هو من أهم الأشياء، ويجب أن يوضع في موضعه المناسب، وموضعه المناسب هو أن يرتبط مع سائر أجزاء الشريعة، حتى تكون الشريعة منظومة متكاملة مترابطة، تحقق الأهداف التي أرادها الله سبحانه منها،

ص: 110

وإذا أردنا أن نشبّه المعقول بالمحسوس، فإن مثلَ النص والرواية، مثل قطعة الغيار التي تشكل جزء من جهاز أو ماكنة معينة، فعندما أريد أن استخدمها الاستخدام الصحيح، فعليّ أولا أن أتأكد من سلامتها وصلاحها، وإنها متناسبة مع الماكنة، ثم بعد ذلك أضعها في المكان المناسب لها، حتى ترتبط بسائر أجزاء الماكنة، ويتحقق بها عمل الماكنة وهدفها.

فلو قرأت خبراً أو رواية أو سمعتها، تأمرني بعمل معيّن كصلاة مستحبة أو دعاء أو زيارة أو سلوك معين، فهنا عليّ أن أعقل هذا الخبر وأضعه في موضعه المناسب إلى كل الدين، وبدون هذه العقلنة فإن المقصود من الحديث لن يقع، وقد يحصل العكس أحياناً.

فلو أردتُ أن أؤدي روايات النوافل والأدعية والأذكار فهنا لابد أن أفهم أن المقصود من هذه الأعمال المستحبة هو صناعة الإنسان الكامل المتقرب إلى الله كي يظهر صفات الله وأولها الرحمة والرأفة والعدل وإعمار الأرض وتحقيق عزة وكرامة المجتمع.

فالشعائر والعبادات يجب أن تكون وحدات بناء لمجتمع العدالة والرحمة والعزّة والدولة الكريمة، التي هي الأهداف العالية للشريعة التي أكد عليها القرآن الكريم، أمّا إذا لم توضع هذه الأحاديث في موضعها المناسب المرتبط بالشريعة وأهدافها، فسوف تکون هي بنفسها مقصودة بمعزل عن أهداف الشريعة، وفي هذه الحالة لربما تؤدي مثل هذه المناسك والشعائر إلى تربية أناس منعزلين عن الحياة، وعالة على المجتمع، وعقبة في طريق التطور والعلم والعمل والإعمار، ولربما يقومون بأداء هذه الشعائر على حساب مصالح الناس ونظمهم وراحتهم وقيمهم ، وبالنتيجة لم يحصل المقصود من أمر الشارع بهذه العبادات، والسبب هو التعامل مع النصوص تعامل سماع ورواية لا تعامل وعاية ورعاية.

ص: 111

ومن هنا يتضح أنه لابد من ربط مضامين النصوص بالأهداف العليا للشريعة، على مستوى استنباط الأحكام وعلى مستوى ثقافة الناس، وعلى مستوى الأداء والتطبيق، وبذلك نتخلص من ظاهرة التجزئة والانتقائية واللاهدفية التي تؤدي إلى تسطيح الدين وتفريغه من محتواه.

4- عصرنة النص : بعض النصوص ناظرة إلى التطبيقات التي تحقق الهدف فی عصر النص، والآن وبعد أن أصبحت تلك المصاديق لا تحقق الهدف، فهنا لابد أن نحتفظ بالمفهوم ونغيّر المصداق إلى ما يتحقق به الهدف.

مثاله: قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ )(1)، فهل نستطيع اليوم أن نرهب أعداء الله وأعداءنا بالخيل؟ أم إننا يجب أن نعدّ جميع ما أمكننا من الأسلحة المتطورة، كالطائرات والصواريخ ووسائل الدفاع الإلكترونية الذكيّة وأمثال ذلك ...

ومثاله الآخر ما قاله أمير المؤمنين علیه السلام في الحكمة (117) عندما سئل عن قول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم غير الشيب ولا تتشبّهوا باليهود فقال علیه السلام:(إنما قال صلی الله علیه و آله وسلم ذلك والدين قُلّ، فأمّا الآن وقد اتسع نطاقه، وضرب بجرانه فامرؤ وما أختار، وهذه الرواية تدل على فائدتين :

الأولى: إن الأمر بالشيء يبقى واجباً أو فعالاً مادام ملاكه القطعي موجوداً، فإذا زال الملاك بتغير الزمان يزول وجوب الأمر، ويصير مباحاً، والملاك الذي استدعى الأمر بتغيير الشيب هو قلة المسلمين، فكان المطلوب أن لا يظهروا في سن الشيخوخة، ويستضعفهم العدو، وعليهم أن يظهروا بمظهر الشباب والكهولة كي يهابهم العدو.

ص: 112


1- الأنفال:60

الثانية: إنّ إظهار الأمة الإسلامية في موضع القوة والهيبة، أمر يستحق أن يحكم الولي ،والحاكم بتغيير المباح وجعله واجباً، فلو كان الرسول حياً اليوم وهو يرى أمته ضعيفة متفرقة، قد مزقت نفسَها بنفسِها، وفقدت هيبتها وأضاعت عزّتها ووحدتها بيدها، فماذا سيوجب عليها لإعادة هويتها

الضائعة ؟!

عدم الفهم مشكلة الأمة:

وبعد أن تعرفنا على النهج العلوي لفهم الدين، أتضح لنا أّنّ مشكلة الأمة مع الدين والدين مع الأمة، هي أنّ الأمة تؤمن بدين وتعمل به ولكنه إيمان وعمل بلا فهم.

أو إنّها تعمل بدين لا تفهمه ، ولذلك فإنها في كثير من الأحيان تبتعد عن الدين باسم الدين، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علیه السلام عندما قال علیه السلام في الخطبة (154): (... وَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ، يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ: أَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ عِنْدَهُ. فَإِنَّ الْعَامِلَ بَغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقِ ِ، فَلا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِح إِلاّ بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ، وَالْعَامِلُ بالعِلْم كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِح، فَلْيَنْظُرْ نَاظِرُ : أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ !...)

أنظروا إلى الولي الحق وإمام الولاية الإلهيّة، يدعونا إلى أن تكون الخطوة الأولى في حياتنا هي العلم والمعرفة، وفهم طريق الدين الصحيح، وإلا فسوف نبتعد عن أهداف الدين التي هي في الحقيقة أهدافنا .

وقد تنبه إلى هذه الحقيقة العالية المفكّر الشهيد محمد باقر الصدر في ستينات القرن الماضي وكتب قائلاً: إن شروط التغيير والنهضة ثلاثة هي:

وجود مبدأ -فهم المبدأ -عمل بالمبدأ، وإنّ الأمة لديها إيمان بالمبدأ وتعمل

ص: 113

به، ولكنها لا تفهم المبدأ، ولذلك ابتليت بالتخلف والتمزق، وابتعدت عن الأهداف ((1))

إنّ أمير المؤمنين يبحث عن أتباع وشيعة يتمسكون بدين يحقق أهدافه، والمسلم والمؤمن والشيعي هو الذي يحقق أهداف الإسلام بعمله الديني.

لا يريد علي سلام الله عليه أمة كثيرة الصلاة والصيام والحج والزكاة والشعائر وتلاوة القرآن والمساجد والجماعة والجمعات، ولكنها لا تحقق أهداف القرآن في إقامة القسط والعدل، وإظهار أخلاق الله سبحانه وصفاته، وإعمار الأرض بالرحمة والعلم والعمل الصالح، وتطهير الأرض من الطاغوت والطغاة والظلم والفساد.

وقد حذر أمير المؤمنين علیه السلام من هذه الأمّة التي يصحّ أن نعبّر عنها أنّها أمّة الإسلام المقلوب، بعد أن انقلبت على أهدافه، وبلغ بها الأمر أن راحت تحرك مركبة الإسلام لتحقيق أهداف أعداء الإسلام، وضاعت لديها المقاييس والموازين ، أنظر إلى الاستشراف العلوي لهذه الأمة، حتى كأنّه ينظر إليها بعينه الإلهيّة، ويصفها لنا، ويقول في الخطبة (147): (وَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الحَقِّ، وَلا أَظْهَرَ مِنَ البَاطِل، ولا أكثر أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى الله وَرَسُولِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ِ ذلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةُ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاوَتِهِ، وَلا أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَا فِي الْبِلادِ شَيْءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ ، وَلا أَعْرَفَ مِنَ الْمُنكَرِ !فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتْهُ، وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ: فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ، وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ ٍ وَاحِدٍ لاَ يُؤْوِيِهِمَا مُؤْوِ ٍ: فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُمْ ! لِأَنَّ الضَّلالَةَ لاَ تُوَافِقُ الْهُدَى، وَإِنِ اجْتَمَعَا فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ، وَافْتَرَقُوا عَن الجماعَةِ، كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ،

ص: 114


1- الاسلام يقود الحياة رسالتنا ص 10.

فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلا اسْمُهُ، وَلا يَعْرِفُونَ الأخَطَّهُ وَزَبْرَهُ...)

وهل بقي من هذه المواصفات شيء لم ينطبق على هذه الأمّة؟ أليست هي أمّة قد غرقت إلى أم رأسها في التناقض والازدواجيّة وانقسام الشخصيّة في علاقتها بدينها؟

ألسنا نصلي جماعات وجمعات في المساجدوالمحاريب؟ ونملأ الفضاء بالتهليل والتحميد؟ ثم نخرج من المساجد فلا نترك إلهاً غير الله إلّا ونعبده،ولا طاغوت إلّا ونتبعه ونسبح بحمده.

ألسنا نجتمع للمسابقات على قراءة القرآن وتجويده، ثم نخرج لنتسابق على خيانة القرآن وتمزيق أهدافه وقتل أمّته، أُنظر وتأمل في سر هذا الانقلاب على الدين والبعد عن أهدافه، وهو أنهم لا يريدون قرآناً يُتلى حقّ تلاوته، ويريدون إسلاماً يحرّف عن مواضعه، أي أنهم يريدون قرآناً مقطع الأوصال، وإسلاماً لا يوضع في مواضعه التي تحقق الأهداف.

الفهم؛ طريق لإحياء الدين وإقامته:

وعلى العكس من تلك الأمّة، هناك الأمة التي يبحث عنها علي علیه السلام ميزان الحق الإلهي ، ويسمّيهم إخوانه ، وهم الشيعة الحقيقيون، ويقول علیه السلام في الخطبة (182):( ... أَوِّ ِهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ ، أَحْيَوُا السُّنَةَ، وَأمَاتُوا الْبِدْعَةَ، دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوا... )

ويقول علیه السلام في الخطبة (121): (... أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَبِلُوهُ؟ وَقَرَأُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ؟ وَهِيجُوا إِلَى الْجِهَادِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اللِّقَاحِ ِ إِلَى أَوْلادِهَا، وَسَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا، وَأَخَذُوا بِأِطْرَافِ الْأَرْضِ ِ زَحْفَا وَصَفًّا صَفًّا؟! بَعْضُ هَلَكَ، وَبَعْضُ نَجَا. لا يُبَشِّرُونَ بِالْأَحْيَاءِ، وَلاَ يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَى ، مُرْهُ الْعُيُونِ

ص: 115

مِنَ الْبُكَاءِ مُخصُ الْبُطُونِ مِنَ الصَّيَامِ، ذُبُلُ الشَّفَاءِ مِنَ الدُّعَاءِ، صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ، عَلَى وَجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الخَاشِعِينَ، أُولئِكَ إِخْوَانِ الذَّاهِبُونَ، فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَاً إِلَيْهِمْ وَنَعَضَّ الْأَيْدِيَ عَلَى فِرَاقِهِمْ !...)

في هذه الكلمات العلويّة التي تصف المجتمع العلوي الولائي الذي يشتاق إليه أمير المؤمنين علیه السلام، ويظمأ إليه، ويعضّ الأيدي على فراق أعضاء هذا المجتمع وهم إخوان عليّ ويتأوّه عليهم، نرى ثلاث مواصفات أساسية، اثنتان منهما يقومان مقام السبب والأصل ، واثنان أخريان بمنزلة النتيجة والثمرة.

الأولى :إحكام القرآن، أي أنهم عندما تلو القرآن جاءوا ليقرأوا كتاباً أنزل لأجل أهداف وأغراض يحققها، وإنّ القرآن جاء بمشروع وهو خارطة طريق، (كاتولوج) لتنفيذ هذا المشروع الإلهي، فقرءوه بالكامل وأحكموا الربط والتنسيق بين جميع حلقاته، ولم يبعّضوا فيما بينها، ولم يجعلوا القرآن عضين، ولم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض ، ولم يتبعوا المتشابه ويتركوا المحكم لتحقيق أغراضهم ومآربهم ومصالحهم، بل إنهم أحكموا كل القرآن ليحقق أغراض وأهداف القرآن.

الثانية: تدبُّر الفرض وإقامته : التدبر هو معرفة ما في دبر الشيء وما وراءه، وإخوان عليّ وشيعته لا يأتون إلى العبادات ليؤدوا حركات رمزية، وتمتمات السانية، وأعمالا استعراضية، وعادات اجتماعية، وإنما كانوا ينظرون إلى ما وراء هذه العبادات من أهداف، فالصلاة معاهدة يومية متجددة بين الإنسان ومصدر الخير والكمال والفضيلة في هذا الكون لأجل ترسيخ عقيدة الارتباط بهذا المصدر، والاستعانة به لأجل ملأ الأرض بالمعروف والفضائل الإنسانية، وتطهيرها من الفحشاء والمنكر والظلم والرذائل، والصيام دورة رياضية من العيار الثقيل، لتدريب الإنسان على السيطرة على الشهوات والغرائز، وتفعيل

ص: 116

الشعور الإنساني، وفتح منافذ النفس الإنسانية لتتجلّى فيها الصفات الإلهيّة، والحج برنامج عالمي سنوي لجمع الناس حول مركز التوحيد كي يكونوا جميعاً يداً واحدة تحطم أصنام القوة والمال التي تسلب الربوبية من الله وتنسبُها لغيره، وترويض النفس على الابتعاد عن مظاهر الترف والبهرجة وتنبيه الأمّة إلى أساليب الخداع والتمويه، التي يقوم بها شياطين الأرض لتفريق هذه الأمة، وإضعافها وتجريدها من عوامل وحدتها وقوتها وعزّتها.

والزكاة ليس عملاً لتهدئة الضمير، ونشوة الوجدان الإنساني بتوزيع علب الطعام على الفقراء، وإنما هي نظام تكافل اجتماعي، يجتث الفقر والمسكنة ويكرم الإنسان الذي لا يستطيع لأسباب ما أن يحصل على حياة كريمة بنفسه، فهي مشروع إكرام للفقراء والمحتاجين، وليست إطعاماً فحسب.

وفي المجتمع العلوي تؤدى هذه العبادات والفرائض لأجل ما وراءها من الأهداف،الصلاة لا تؤدّى لأجل الصلاة،والصيام لا لأجل الصيام، والحج لا لأجل مناسكه وحركاته ، والزكاة كذلك، وإنما يتم إقامة هذه الفرائض، أي جعلها قائمة وواقفة ومرفوعة الرأس لأجل أن تحقق أغراضها، فهناك فروض وعبادات نائمة وهياكل هامدة لا تحرك ساكناً ولا تترك أثراً، لا على الفرد ولا على المجتمع، وهناك فروض وعبادات قائمة حيّة متحركة تحقق أهدافها التي من أجلها فرضها الله علينا،ومجتمع ولاية عليّ علیه السلام هو مجتمع الفرائض القائمة لا النائمة.

الثالثة: الوله إلى الجهاد:ومن أحكم تلاوة القرآن، ونظر إلى آياته نظرة من الله سبحانه متجليّاً ظاهراً فيها، وتدبّر فرائض الشريعة، فرآها كؤوساً وأكواباً وقوارير ينهل بها الإنسان من زلال النعيم الأبدي.

ومن نال هذه الدرجة من الرؤية والمعرفة، فإن درجات شعوره ورغباته

ص: 117

سوف تعلو وتسمو، فيبحث عن ذرى الحياة، وهي الجهاد والصبر والمقاومة فيكون لها وله وهياجه ، وفيها أنسه ولذته ونشوته، ويتنفّر من وديان الدعة والراحة والخمول، ويراها حرماناً وخيبة.

الرابعة : الثقة بالقائد وأتباعه : مَن أحكمَ القرآن وتدبّر الفرض، فقد عرف المصدر وشخّص الهدف وأبصر الطريق نحو تحقيق الهدف، وهنا سوف يتبيّن له القائد المرتبط بالمصدر ، كي يوصل الأمّة نحو الهدف، القائد الذي يعرف المصدر وهو الله سبحانه، ويُظهر أخلاقه وصفاته في سيرته وسلوكه، ويتفاعل مع الهدف، وتذوب جميع معالم شخصيّته و همومه و همّته ومقاييسه وموازينه، وحبه وبغضه في إيصال الأمّة إلى الهدف، حتى يصب القائد بنفسه طريقاً، ويتحد السّالك مع المسلك، فهنا فإن إخوان عليّ علیه السلام يضعون أيديهم بأيدي هذا القائد، ويثقون به ويتبعونه اتباع الطاعة والتسليم الكامل، ولكنها ليست طاعة عمياء، وإنما هي طاعة وعي وبصيرة ومعرفة، وَثَقوا بالقائد فاتبعوه ، ووَثَقوا أنّه من الله وإلى الله ، ذاب هو في طريق الله، فلا رأي ولا هوى ولا شرط ولا غاية له سوى الله فاتبعوه وأطاعوه، وألغوا جميع الآراء والأهواء والشروط والغايات سوى هدى الله وهدفه وغايته، والقائد عندها يكون هو الطريق إلى الله سبحانه، فهم معه في الحرب وهم معه في السلم، وهم معه في النصر والغنائم وهم معه في الانكسار والهزائم، حيث إن مفهوم النصر لديهم هو نيل رضا الله بطاعة القائد الإلهي.

ص:118

الباب الثاني موانع التفكير

الفصل الأول

ص: 119

موانع العقل النظري :

التفكير حياة العقل، والعقل متى ما كان حيّاً منتجاً للعلم الصحيح، فإنّه سوف يؤسس للحياة الصحيحة، لأن الحياة شعور وإرادة، والشعور ينتجه العلم،والعلم ينتجه الفكر، وقد عرفنا في الفصول السابقة كيف أن تنمية العقل تؤدي إلى تشخيص الميزان الصحيح لمعرفة مصدر الوجود وهو الله، ومعرفة النفس وهدفها وهو بلوغ السعادة الحقيقية، ثم تشخيص الطريق نحو بلوغ النفس هدفها ، وهو معرفة الدين الصحيح، الذي بتحقق بالارتباط بمصدر الكمال المطلق، الذي بسلوكه يصنع الإنسان نفسه ومجتمعه الإنساني الولائي الإلهي.

وقد رأينا أن مفاتيح المعرفة والتشخيص كلها بيد العقل، وعملية تشغيل مصنع المفاتيح هي عملية التفكير، وعرفنا أن تجميد وتحريف عملية التفكير والعقلنة أدّت إلى ضياع هويّة الأمة، ضيّعنا معرفة الله وضيّعنا أنفسنا وهدفنا، وضيّعنا ديننا الذي هو سبيل نجاتنا، وما عسى أن يوصف إنسان لا مصدره ولا نفسه ولا هدفه ولا طريقه؟

لا أعتقد أنّ هناك وصفاً أدق من توصيف أمير المعرفة، وباب مدينة العلم والحكمة، عليّ علیه السلام

عندما قال لكميل في الحكمة (147): (... النَّاسُ ثَلَاثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَ مُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَ هَمَجٌ رَعَاعٌ أَتَبَاعُ كُلِّ ِ نَاعِقِ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحَ لَمْ يَسْتَضِينُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَ لَمْ يَلْجَنُوا إِلَى رُكْنِ ٍ وَثِيقٍ ٍ...)

هذا هو حال الأمة التي لا تتحرك على سبيل نجاة، أمّة همج رعاع، تصفق لنداء الشرق يوماً، وترقص لنداء الغرب في يوم آخر، وكل مَن أتقن فن الخداع والتمويه والوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فإنه يركب ظهرها

ص: 120

ويحلب ضرعها ويمسك بزمامها، ويجعلها تعادي أوليائها وتوالي أعدائها، وتحطم أسرتها ومجتمعها وعوامل عزتها وقوتها، والسبب في ذلك أنهم لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق.

الأمّة الفاقدة للفكر والعلم والمعرفة، أمة بلا هدف، وإذا كانت بلا هدف كانت بلا طريق،بل يرسم طريقها كل مَن يخدعها، ويخدعها ويقودها من لوّحَ لها بلقمة اليوم حتى وإن كان ذابحاً لها غداً، وقد وصفها أمير المؤمنين بدقّة بالغة في الخطبة (175) عندما قال علیه السلام: (أَيُّهَا النَّاسُ غَيْرُ المَغْفُولِ عَنْهُمْ وَ التَّارِكُونَ المأخوذُ مِنْهُمْ مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ الله ذَاهِبِينَ وَ إِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ كَأَنَّكُمْ نَعَمُ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَى مَرْعَى وَبِيٍّ وَ مَشْرَبٍ دَوِيٌّ وَإِنَّمَا هِيَ كَالمُعْلُوفَةِ لِلْمُدَى لَا تَعْرِفُ مَاذَا يُرَادُ بِهَا إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهَا تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا وَ شِبَعَهَا أَمْرَهَا ...).

نعم هكذا تكون الأمة، إذا انعدم الفكر بموت العقل، فينعدم الشعور، ولا يبقى لديها إلا شعور الساعة واللحظة، شعور تصنعه الأكلة والنزوة والخدعة، ويتحدد بحدودها، ويتحرك في مسارها .

وكم هو توصيف أنيق وعميق لحال هذه الأمة، عندما يقول إنهم تاركون خيرهم وعزتهم وكرامتهم ليأخذها منهم غيرهم، عن الله ذاهبون إلى أعدائهم راغبون كالغنم أو الإبل التي تساق نحو الذبح عندما يخدعها ذابحها بالعلف، فتَعْدوا إليه مسرعة غافلة عما يراد بها، وقد تحدثنا في الفصول السابقة عن إثارة العقل وتنميته ليصنع البصيرة والوعي ويشخص المبدأ والهدف والطريق والقائد، وبقي علينا أن نبيّن موانع وعقبات عملية التفكير،لأن العقل لا يتحرك إلاّ من بعد أن يتحرر، ولا ينمو إلاّ من بعد أن يكون سالماً من الأمراض والآفات، وهذا موضوع مهم وحساس ومصيري لإنقاذ فكرنا وثقافتنا الإسلامية، ولا سيما شعوبنا العربية خاصة، فنتوكل على الله الرحيم الكريم ونقول: إن أهم موانع التفكير هي:

ص: 121

الأول: غلبة الحس والخيال على العقل :

وهذه مشكلة كبيرة في التفكير، ترتبط بنظرية المعرفة وكيفية التعرف على الأشياء، ومن أجل التعرف على هذه المشكلة نحتاج إلى مقدمة مختصرة حول

نظرية المعرفة.

أ:النظرية الماديّة في المعرفة

إنّ مصدر معرفة الأشياء هو الحس، وما ينتج عن الحس من تصورات

في الخيال، وأما العقل فلا يقوم إلاّ بالتركيب والتجريد لهذه الصور الحسيّة،وإنتاج معقولات من الصور الحسيّة المنطبعة في العقل، فلا يوجد تصورات غير ما ينتج من الحس، كذلك لا يوجد تصديقات غير ما نراه بالحواس، فما نراه من مجيء بعض الأشياء بعد الأخرى ما هو إلاّ ترتيب بين الأشياء، وليس هناك علاقة واقعية بين الأشياء، أسمها العليّة والسببيّة، هذا ما قاله أصحاب نظرية الحس والتجربة، وعلى رأسهم (جون لوك) و (دافيد هيوم).

ومن الواضح أن مثل هذه النظرية لا يمكن أن تنتج علماً ومعرفة، لأن المعرفة إذا اقتصرت على الصور الحسيّة، والعقل إذا لم يكن إلا محلاً لانطباع الصور المحسوسة، فهذه الصور مبعثرة ومفككة ولا يمكن أن تنتج لنا علماً واسعاً وثابتاً.

ولذلك انتبه (إيمانوئيل كانت) إلى أن هذه النظرية تقضي على العلم، لذلك قال بأنّ العقل ينظم الأحاسيس المبعثرة ، وينتج منها علماً، فالمحسوسات في حالة من الفوضى والكثرة والازدحام، وإنّ العقل مثل الرافعة التي ترفع المعرفة الإدراكيّة للأشياء إلى معرفة فكريّة ذات علاقات وسياق وقوانين،وسمى هذه الرافعات بالمقولات التي هي أدوات العقل التي تحول التجربة إلى علم، فالعلم هو المعرفة المنظمة التي تتبلور في قوالب المقولات، فالمقولات

ص: 122

هي أداة الفكر وهي التي تنظم العالم، أنظر قصة الفلسفة(1).

وما قام به (کانت) هو أنه رفع العقل من مجرد قطعة جامدة تشكلها التجربة الحسيّة، إلى عقل ينتج العلم بنفسه، من تنظيم المحسوسات في قوالبه وتحويلها إلى علم، ويقول كانت بأنّ المحسوسات بدون المقولات عمياء، والمقولات بدون المحسوسات قوالب فارغة، وإنّ تعاونهما معاً هو الذي يبني عالم معرفتنا، وهذه المعرفة خاصة بالظواهر التي تدخل القوالب وتتحول إلى علم ، أما الجواهر والحقائق وما وراء الظواهر، فلا طريق لنا إلى معرفتها، فالمعرفة تتبع الذات وهي نسبيه غير مطلقة، فلا توجد حقيقة مطلقة، والذي يتجاوز عالم الظواهر فلن يتوصل إلى نتائج يقينيّة (2).

هذه أهم النظريات المادية في المعرفة، وهي أما أن تحصر المعرفة بالمحسوسات والتجريبيات التي تبقى مفككة غير مترابطة، فلا تنتج علماً ومعرفة، أو هي ذاتية لا تكشف لنا الحقائق الخارجية، إلاّ في حدود المحسوسات وبنحو تابع لذات العالِم لا لواقع المعلومات.

ب:النظرية الإلهية في المعرفة:

أما الفلسفة الإلهية التي تنظر إلى العقل بأنّه وجود مجرد أعلى من المادة،فترى أن الصور التي تنعكس عبر الحس إلى الخيال، تذهب إلى العقل بنحو أوسع، فالأشياء نفسها الموجودة في عالم الخارج يراها العقل بنفسها بنحو أوسع دون إضافة شيء إليها، فالمعقول الأول الذي يدركه الإنسان من الاتصال المباشر بالأشياء، يتحول في الذهن إلى معقول ثانوي ،والمعقولات الثانوية أوسع من المعقولات الأولية، وهي كاشفة عن الخارج وهي أساس

ص: 123


1- قصة الفلسفة ويل دورانت ص 341
2- أنظر كتاب في صحبة الفلاسفة ، روبرت تسيمر ، ترجمة - د. عبد الله أبو دهشة - دار الحكمة /لندن: ص 134 .

العلم والمعرفة.

وحول هذا المعنى يقول المفكر الشهيد مطهري:

(والأمر المهم والأساس الذي جعل المعقولات الثانية أدوات لمعرفة الخارج هو : أن المعقولات الثانية هي حالات وصفات نفس المعقولات الأولية،وليست أموراً مستقلة عنها ، فالمعقولات الأولية عندما تأتي إلى الذهن لا تتبدل ولا تتغير،بل وجودها يتسع ويترقى،مثلاً هذا الإنسان الخارجي له وجود مادي، ماهية هذا الوجود المادي نفسها تأتي إلى الذهن بوجود حسّي، أي بوجود أوسع، وبعد ذلك نفس هذه الماهية تأتي إلى الخيال بنحو أوسع، ثم تذهب إلى العقل بسعة أكبر، وهذه الماهيّة الموجودة بوجود أوسع، نطلق عليها الكلي، وكليّتها بسعة وجودها، فهذه الكليّة في الحقيقة إنما وسّعت دائرة نظرنا للإنسان نفسه، ولم تأت بعنصر آخر مستقل غير الإنسان الخارجي، فعندما نقول : كلّي الإنسان في العقل، هذا الكلّي ليس أمراً آخر غير الإنسان الخارج، ويختلط مع الإنسان الخارجي أو الحسي وينتج معرفة مختلطة مكونة من عنصرين خارجي وذهني ، كما يقول (كانت)، إنما الكلي هو نفس الوجود الخارجي يحصل في الذهن بوجود أوسع وبدرجة أرقى، إذ إن مقام النفس ومقام الروح أعلى من مقام المادة، فما نراه في مقام العقل ليس شيئين إنما هو شيء واحد، وهو الخارج بزاوية نظر أوسع (1).

ويقول المفكر الشهيد محمد باقر الصدر في جواب(كانت):

وحسب نظرية كانت فالعليّة هي مجرد رابط وقالب ينظم المعلومات الحسية ويربطها في الذهن، وليست العلية كاشف عن الارتباط الواقعي لما وراء الذهن، بل هي إطار ذهني لتنظيم الأشياء.

ص: 124


1- مجموعة آثار للشهيد مطهري: ج 10 : ص 273.

ويترتب على نظرية ( كانت ) أن المعارف والحقائق في العلوم الطبيعية نسبية دائماً، لأنها تابعة للروابط الذاتية التي تصورها طبقاً لإطاراتها، فيختلف الشيء في ذاته عن الشيء في ذاتنا.

أما الفلسفة الإسلامية فتقول عن مبدأ العليّة أنه ضرورة عقلية تكشف عن روابط واقعية في الخارج وما وراء الذهن، أي أنّ العلية ليست روابط ذهنية فقط، بل هي كاشفة عن علاقة واقعية بين العلة والمعلول، وإنّ كل معلول يحتاج إلى علة، ولذلك فإنّ مبدأ العليّة سوف يدلّنا على وجود العلّة الأولى وهو الله سبحانه وتعالى (1).

مشكلة فصل الفكر الديني عن نظرية المعرفة:

وبعد هذه المقدمة عن نظرية المعرفة، نعود إلى بحثنا لنقول بأنّ تفكيرنا مبتلى بتجميد العقل، أو قولبته بغلبة الحس أو الذاتية، صحيح إننا نؤدي العبادات والشعائر ، ونقرأ القرآن والسنّة وأحاديث أهل البيت عليهم السلام، ولكننا في التفكير تابعون ل(جون لوك) و (دافيد هيوم) أو (ايمانوئيل كانت).

تفكيرنا أما أن يكون ظاهرياً يجمد على الظواهر، ولا يربط بينها ليصل إلى ما وراءها، ويكشف نتائجها وأهدافها، أو هو تفكير انتقائي ذاتي، يحدد المعلومات التي يقرأها في مصادر الشريعة بقوالب العادات والتقاليد والآراء المألوفة، أو المصالح الفئوية أو الفردية.

الظاهرية والاخبارية نموذجاً:

وأصحاب الفقه الظاهري، وكذلك المذهب الإخباري مثال على هذا النحو من التفكّر، وحول هذا المعنى يقول المفكر الشهيد مرتضى مطهري:

ص: 125


1- أنظر فلسفتنا للمفكر الشهيد محمد باقر الصدر، ص 150 - 153 .

لقد ظهر الفكر الإخباري تقريباً مع ظهور الفلسفة الحسية في أوربا، وإنهم أنكروا العقل في العلوم المادية، ولكن الأمين الاستر آبادي (مؤسس المذهب الإخباري) أنكر العقل في معرفة الدين، وليس واضحاً من أين جاء هذا الرجل بهذا الفكر ! هل كان ابداعاً من نفسه ؟ أم اقتبسه من شخص آخر ؟

وإني أتذكر في صيف عام 1942م، ذهبت إلى مدينة بروجرد، حيث كان المرجع آية الله البروجردي هناك، ولم يأت بعد إلى قم، وهناك جرى ذكر الإخباريين، فانتقد هذا الفكر وقال بأن ظهور هذا الفكر بين الإخباريين قد كان بتأثير موجة الفلسفة الحسيّة التي ظهرت في أوربا (1).

وهذا النحو من التفكير في معرفة الدين والشريعة ينتج لنا ديناً مفككاً ومبعثرا وبلا أهداف، أو دين تابع للآراء والأهواء والمصالح، وآلةً وفخّاً لصيد الأهداف الدنيوية وشرعنة الأحزاب والطوائف والحكومات، وهذا النحو من التفكر هو الذي فرّق الأمة وحولها أيدي سبا.

وقد شكا أمير المؤمنين علیه السلام من هؤلاء الذين لا ينظرون إلى الدين نظرة منهج متكامل مترابط، ولا يعقلونه عقل رعاية و وعاية ، ولا ينظرون إلى ما وراءه من مقاصد و أهداف، ولا يتلون الكتاب حق تلاوته ويرجعون بعضه إلى بعض، حتى يصلوا إلى أهدافه العالية، ويَضعوا كل شيء في موضعه، فقال علیه السلام في الخطبة (17):

(... إِلَى اللَّهُ أَشْكُو مِنْ مَعْشَر ٍ يَعِيشُونَ جُهَّالًا وَيَمُوتُونَ ضُلَّالًا لَيْسَ فِيهِمْ سلْعَةُ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقٌّ تِلَاوَتِهِ وَلَا سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَ لَا أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ لَا عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ المَعْرُوفِ وَ لَا أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْكَرِ).

ص: 126


1- مرجعیت وروحانیت ص89.

وقال في ذم الاختلاف في الفتيا في الخطبة (18):

تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ فِي حُكْم مِنَ الْأَحْكَام فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْقُضَاةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الإِمَامِ الَّذِي اسْتَقْضَاهُمْ فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً وَإِلَهُمْ وَاحِدٌ وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ وَكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ).

إنها المعادلة العلوية الخطيرة، من يعيش جاهلاً يموت ضالاً، لماذا؟ لأنّه لا يتلو الكتاب حق تلاوته ويحرّفه عن مواضعه وكيف يحصل هذا؟ عندما يكتفي ببعض الآيات ولا يربطها بغيرها، وعندما يقطعها عن سياقها القرآني الكلي، وسياقها الأهدافي، وعندما لا يعقل الروايات برعاية ووعي ودراية، ويتعامل مع الروايات كما يقول أمير المؤمنين في نفس هذه الخطبة (17)(... جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهلات ، عَاشٍ ٍ رَكَّابُ عَشَوَاتٍ،لَمْ يَعَضُّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِع . يُذْرِو الرِّوَايَاتِ ذَرْوَ الرِّيح الهَشِيمَ لاَ مَلِيُّ - وَالله - بِإِصْدَارِ ِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، وَلاَ أَهْلٌ لَمِا قُرْظَ بِهِ ....).

تلاوة الكتاب هي أن تربط بين آياته و تتدبّرها لتصل بك إلى الهدف المطلوب، ولا تقطع القرآن عضين (أي قطع متناثرة)، والروايات يجب أن تعقل، ويتم رعايتها حتى تصل إلى فهم الإسلام الحقيقي، لا أن نذروها كما تذرو الريح النبات اليابس، وهذا الدور الكبير والمصيري، يقوم به العقل إذا تخلص من غلبة الحس والخيال والذاتية، وارتفع إلى المرتبة العالية من العقل مرتبة ادراك الأشياء بوجودها الواسع الأعلى، الذي يكشفها مرتبطة بغيرها، ويكشف أهدافها العالية، وهذا هو عقل المعقولات الثانية، وهو العقل في مقامه المجرد العالي الذي يعقل الأشياء بوجودها الواسع الكلي المترابط، لكن عندما نبقى في حدود الحس والخيال والماهيات المحدودة، فإنّ العقل سوف يكون كقطعة شمع تتشكل عليها المعلومات، وهذا ينتج الجمود

ص: 127

والتحجّر ، وإذا أسقطنا قناعاتنا على النصوص وأدخلناها في قوالب ذاتنا، فالنتيجة هي أنّ الكتاب لا يُتلى حق تلاوته، وسيحرّف عن مواضعه، ولا يتم رعاية الروايات حتى تصل إلى مقصودها، وهذا هو الجهل الذي يشكو منه أمير المؤمنين علیه السلام إلى الله، لأنه يصنع أمة ضالّة، والضلال هو التيه والضياع.

لقد ضيعت الأمة معالم دينها، بل ضيعت حتى صلاح دنياها.

أنظر إلى الأمة بعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة من قراءة القرآن والروايات، ماذا تفهم عن معرفة الله وصفاته وأسمائه وكلماته؟ وماذا تعرف عن الخلافة الإلهيّة والعبادة، ماذا تفهم عن قوله تعالى في الآيات (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّهِرُ وَالْبَاطِنَّ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (1)) (...اللهُ الصَّمَدُ لَم يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (2))(سَنُرِيهِمْ ءَايَتِنَا فِي الْآفَاقِ ِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (3)) (... وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (4)) (اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ...(5))(... وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ...(6))،(وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ...(7)).

ماذا تفهم وهي تقرأ هذه الأدعية العظيمة منذ مئات السنين:

( يا مَن دلّ على ذاته بذاته ) (بك عرفتك وأنت دللتني عليك) (وإنّ الراحل إليك قريب المسافة، وإنّك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك) (ليس في الأشياء بوالج ولا منها بخارج) (مع كل شيء لا بمقارنة وغير كل شيء لا بمزايلة) (مَن عرف نفسه فقد عرف ربه)، هذه النصوص

ص: 128


1- الحديد 3 الاخلاص: 2-3
2- الاخلاص:2-3.
3- فصلت : 53 .
4- الذاريات: 16 .
5- النور: 35
6- البقرة: 255
7- الأعراف: 172

العظيمة وأمثالها، عندما تعطى إلى عقل محكوم بأصالة الحس والخيال، أو الذاتية المتمثلة بالقناعات المألوفة التقليدية والعقل الجمعي، فإنّه يحملها على معاني مجازية هابطة لا تقدم ولا تؤخّر، لكن عندما نتعامل معها بالتدبّر والعقلنة الواعية العالية، فإنّها تنتج معرفة الله سبحانه التي تنتج الإنسان الذي يرى الله في كل شيء، ويتعامل مع كل شيء لأجل الله ،فتتحقق الخلافة الإلهية وهدف الله في الأرض، وتصبح الأرض عامرة بصفات الله بواسطة عبادة الله التي يقوم بها عبد الله الإنسان العارف بالله.

والطريق إلى تحقيق هذا الهدف هو العقل، ولهذا السبب نرى تأكيد القرآن الكريم على الآيات الكونية والتعقل والتفكر والتدبر بها، والتأكيد من العترة الطاهرة على التعقل والدراية، لأنهما الطريق إلى الهدفية في الكون والحياة.

ثقافة اللّا هدفيّة:

ولقد ضيّعنا العقل فضيّعنا الهدفية!يصلّي مَن يصلي من أجل الصلاة! ويصوم مَن يصوم من أجل الصيام!ونقرأ القرآن والدعاء والزيارات من

أجل القراءة !وندرس في الجامعات والحوزات من أجل الدراسة!

کم هم نسبة المتدينين الذين يبحثون في تدينهم وعبادتهم عن تحقيق هدف الله في الأرض؟ بل حتى الذين يدرسون الدين كم منهم الذين يريدون أن يصلوا إلى معرفة الله ويصبحوا خلفاء الله ، ومظهراً لصفاته ثم يعلّمونها لغيرهم؟

إنّ اللاهدفية لم تقتصر على عدم معرفة ديننا والتمسك به، بل سرت حتى إلى أمور دنيانا ، إنّ المجتمع الغربي المادي وإن كان يعيش اللاهدفية والتفاهة بالنسبة إلى الأهداف العليا للإنسان والحياة، ولكنه يعيش الهدفية في مجال حياته الدنيوية والمادية فهو يمتلك فكرا للإنتاج والتوزيع والتعليم المبرمج،لتخريج الإنسان المنتج الذي يخدم الأغراض الاقتصادية والاجتماعية

ص: 129

والسياسية لشعوبهم ودولهم.

ولكننا في بلداننا العربية، يدخل التلميذ في المدرسة ويدرس مدة اثنتي عشرة سنة،وهو لا يعلم لماذا يدرس ؟ وما هو الهدف من دراسة كل هذه الدروس والاختصاصات المتباينة المتخالفة، ولذلك لا يفكر الطالب عندنا كيف يفهم، وإنّما يفكر أن يمتحن وينجح !!

وإذا أنهى الامتحانات، قال لدروسه : هذا فراق بيني وبينك، ويتمنى أن لا يراها ولا تراه...

ولأجل الخروج من هذا الواقع المزري في الفهم والتعلم لديننا و لحياتنا، علينا أن نعود إلى العقل ونفهم العقل، ونعود إلى التفكير ونصلح التفكير،كي نفهم الأشياء كما هي على حقيقتها، وتكون ذاتنا مطابقة لحقائق الأشياء، حتى نضع كل شيء في محله وموضعه، وهذا هو الشكر، والشكر هو العبادة الحقيقية.

والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَرَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (1)) .

(... يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَكُمْ وَأَشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (2)) .

ص: 130


1- النحل : 78 .
2- البقرة: 172 .

الثاني: التفكير الأفقى:

حيث إن حصر العلم بالصور الحسيّة والخياليّة وعدم رفعه إلى مرتبة العقل الذي ينتج الكليات والمعادلات العالية، يجعل التفكير منحصراً بمعرفة العلاقات الأفقية للأشياء، وهذا ما ابتلى به التفكر المادي والرؤية الكونية العلمية المادية، ولكنه وللأسف هو الحاكم على مناهجنا الدراسيّة أيضاً، وحتى على دراستنا للدين، بل وحتى في مؤسساتنا الدينية وحوزاتنا العلمية، نحن ندرّس في مدارسنا وجامعاتنا المعادلات الكيميائية والظواهر الفيزيائية والبيولوجية في الكون،وسير الحياة والحركة والنمو والتكاثر، وكيفية عمل الأجهزة المختلفة في النبات والحيوان والإنسان،ولكن كل دراستنا تنحصر بالعلاقات الأفقية بين هذه الظواهر، ويبقى سؤال مهم نحتاجه بشدة وهو مَن الذي قام بهذا؟ وما هو الهدف من كل هذا؟ هذا السؤال المهم والأساسي والمصيري مفقود في تفكيرنا العلمي، فلو نظرنا إلى المنهج التفكيري الذي يتبعه القرآن وأهل البيت لرأيناه يركز على التفكير العمودي إلى جانب التفكير الأفقي، فيأمر بالنظر إلى الآيات ويصف لك علاقاتها الأفقية، كالارتباط بين الريح والسحاب والمطر والأرض وإعمار الأرض وإنبات النبات، ثم يربطها بالمصدر والهدف، أو قبل أن يذكر العلاقات الأفقية، يذكر المصدر وهو الله .

وفي القرآن مئات الآيات التي تدعو إلى التعقل والتفكّر والتدبّر، وتربط النظر إلى آيات الله وما فيها من علاقات أفقية منظمة ودقيقة وعميقة،بعلاقاتها العمودية بالله سبحانه وبالتوحيد والمعاد، كالآية (164) من سورة البقرة: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ِ وَاخْتِلَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ِ وَالْفُلْكِ ٱلَّتِی تَجْرِى فِی الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيِحِ ِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَیۡنَ السَّمَاءِ

ص: 131

وَالْأَرْضِ لَآيَتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ، والآية (190) من سورة آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَتِ لِأُولِي الْأَلْبَبِ ﴾ ، والآيات 3-5 من سورة الرعد ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَى وَأَنْهَراً ۖ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ِاثْنَيْنِ ِ ۖ يُغْشِي اليَلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعُ مُتَجَورَتٌ وَجَنَّتُ مِنْ أَعْنَبِ وَزَرْعُ وَنَخَيلُ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانِ يُسْقَى بِمَاءِ وَاحِدٍ وَنُفَضِلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلَّ ۚ إِنَّ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ في ذَلِكَ لايت وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَعِذَا كُنَّا تُرَابًا أَعِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٌ ۗ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأَوْلَبِكَ الْأَغْلَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ۖ وَأَوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ ِۖ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ﴾.

وفي نهج البلاغة يتحدث أمير المؤمنين علیه السلام فيذكر عجائب الخلقة، فيقول علیه السلام في الخطبة (185):

(وَلَوْ فَكَّروا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَجَسيم النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ، وَخَافُوا عَذَابَ الحَريق، وَلكِنَّ الْقُلُوبَ عَلِيلَةٌ، وَالْأَبْصَارَ مَدْخُولَةٌ الاَ تَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ اللهُ ، كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ، وَأَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ، وَفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَسَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَالْبَشَرَ! انْظُرُوا إِلَى الَّنمْلَةِ...).

ويصف خلق السماء والكون وما فيها من آيات العظمة، ثم يقول: (... فَالوَيْلُ لَنْ جَحَدَ المُقَدِّرَ ، وَأَنْكَرَ المُدَبِّرَ!زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا هُمْ زَارِعُ،وَلاَ لاِخْتِلافِ صُوَرِهِمْ صَانِعُ، وَلَمْ يَلْجَرُّوا إِلَى حُجَّةٍ فِيما ادَّعَوا، وَلَا تَحْقِيقِ ٍ لَا أَوْعَوْا، وَهَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانِ،أَوْ جِنَايَةٌ مِن غَيْرِ جَانٍ!).

وليس غريباً أن نرى في مدارسنا الأكاديمية التابعة للنموذج المادي الغربي في التعليم ، أن يكون تعليمهم أفقياً، وإن كان يؤسفنا جداً أن نرى ذلك في بلادنا الإسلامية، ولكن الغريب أن نرى في مدارسنا الدينية هذا المنهج بعينه، فنرى طلاب الدين يتعلمون فقهاً وسيرة وتاريخاً ومفاهيم دينية مختلفة، لكنها

ص: 132

فاقدة للعمق المعرفي،الذي يجعل المتعلم في الحوزة العلمية يعتقد بأنّ المنظومة العلمية الدينية صادرة من الله، وهو الكمال المطلق، من أجل بناء الإنسان الكامل خليفة الله في الأرض.

فلا يكفي أن يتعلم طالب العلوم الدينية معرفة أحكام الصلاة، أو كيفية استنباطها من مصادرها، بل عليه وفقا للمنهج العلوي في التفكير والعمل، أن يعقل المصادر ويتدبّر بوعي ودراسة ورعاية، وأن يتدبر الغرض ويفهمه(تَلَوُ القرآن فأحكموه، وتدبّروا الفرض وأقاموه).

المطلوب هو تدبّر العبادات والفروض ، ومعرفة ماذا وراءها من أهداف من أجل إقامتها، لا تعلّم أحكام وهياكل العبادات وحركاتها وألفاظها وتعليمها للآخرين، والفرائض والعبادات والشعائر التي نتعلمها بالتفكير العمودي إلى جانب الأفقي هي العبادات التي تعرج بصاحبها إلى الله وتحقق القرب والأنس وتُطهِّر المجتمع من الفحشاء والمنكر، وتعالج الهلع والجزع والرذائل الإنسانية.

وليس غريباً أن ينتج لنا التفكير الأفقي المنفصل عن التفكير العمودي، قرّاءً قد حفظوا حروف القرآن وضيعوا حدوده، ويتلون القرآن،والقرآن يلعنهم، ونرى خطباء ومنشدين يجعلون الناس يبكون وينوحون ويندبون على الحسين، ولكن لا نرى شيئاً في سلوكهم وسيرتهم ومواقفهم من الأهداف التي أرادها الله وأرادها الإمام الحسين في ثورته وتضحيته العظمى.

ص: 133

الثالث: التفكير التخزيني التجزيئي لا الإنتاجي المنظومي:

لم يُوهَب العقل لنا لنصنع منه مخزناً للمحسوسات والمعلومات ونجعله ارشيفاً للصور الخيالية فحسب، بل علينا أن نجعل العقل معملاً لإنتاج المعلومات، ومن مشاكل عقل الأمم المتخلفة أنها لا تأخذ المعلومات إلى عقولها لتنتج بها علماً تُدبّر وتطور به حياتها، وتكشف به مجهولاتها ، والسبب في بقاء أمتنا مقلِّدة وتابعة لغيرها، هو أنها لا تشغّل عقولها لإنتاج العلم وغاية ما تقوم به جامعاتنا في الأعم الأغلب، هو أن تنقل المعلومات من الغرب والشرق وتترجمها وتلقّنها لطلابنا.

وهذا النحو من التعامل مع النصوص والمعلومات، إذا حصل مع النصوص الدينيّة فنتيجته أسوأ بكثير من نتائجه في العلوم الأخرى، لأن معرفة الدين إذا اقتصرت على النصوص الجاهزة، وأصبح فهم الدين عبارة عن طبع واستنساخ الآيات والروايات على الأذهان، فهذا يؤدي إلى ظهور نتائج خطيرة على معرفة الدين الحقيقي، وتظهر لنا المئات من الملل والنحل والتيارات والمذاهب، كل تحسب نفسها أنها هي التي تمثل دين الله، ويكفّر ويفسق بعضها بعضاً، والسبب هو أن كلا منها تتمسك بظاهر آية أو رواية، وتصنع منها مذهباً تعتبره هو الدين، فإذا راجعت جميع هذه المذاهب والمشارب المختلفة، والأفهام المختلفة للدين تجد أن كل واحد منها يجيبُك بظاهر آية أو رواية قد تمسك بها، فتضيع أهداف الدين وحدوده، ولا يُعرف قائده وإمامه الحقيقي، ولا يُعرف مَن ترك الدين؟ ومَن تمسك به؟

وهذا ينشأ من الناحية النظرية من عدم التعامل المنظومي الإنتاجي مع النصوص، وهذا هو الذي دعا إليه القرآن عندما أراد أن يتم التدبر بالآيات،مع بيان الرسول إلى جانب التفكر والتعقل.

ص: 134

﴿...وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (1).

﴿وكتَب أَنزَلْتَهُ إِلَيْكَ مُبَرَكَ لِيَدَّبَّرُوا ابْنتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَب ﴾ (2).

﴿واللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَرَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(3).

وأمر الإمام عليّ وأهل البيت بأنّ نعقل الروايات بوعاية ودراية بعد أن نتدبر القرآن، ونرجع بعضه إلى بعض ونغوص في أعماقه، لأنه فيه تبيان لكل شيء ويصدق بعضه بعضا، وظاهره أنيق وباطنه عميق، ولا تكشف الظلمات إلاّ به.

فالمعلومات يجب أن يتعامل معها كمنظومة ومركب يرسل إلى العقل أو الفؤاد ليتم تفئيدها أي طبخها وصناعتها، لتنتج الدين الصحيح، وتشخيص معالم الدين وحدوده وأهدافه وقيادته الحقيقية، وهنا يحصل الشكر(لعلكم تشكرون) والشكر وضع النعم في مواضعها، وبدونه سوف يضيع الدين وينبذ الكتاب ويحرف عن مواضعه، وقد حذر أمير المؤمنين علیه السلام من نبذ الكتاب من قبل حملته وتناسيه من قبل حفظته، ومثاله خوارج الأمس ودواعش اليوم،والكثير من المتحجرين أو الذين يأخذون من الدين ما يعجبهم، أو يطابق دنياهم وترفهم ومصالحهم، ويترك الدين باسم الدين، أي تترك الأهداف والحدود، وتقام المظاهر والحروف، بسبب التمسك بالحروف والتفكير التخزيني التجزيئي.

ص: 135


1- النحل : 44 .
2- ص 29
3- النحل : 78.

وقد أمرنا الإمام علي علیه السلام في الخطبة (147): فقال :

(... وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ، وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمَيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ، وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَه...).

وقد أوضح الإمام الباقر علیه السلام هذا النبذ للكتاب عندما قال : (وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية، وكان من نبذهم للكتاب أن ولوه الذين لا يعلمون فأوردوهم الهوى، واصدر وهم إلى الردى، وغيروا عرى الدين ثم ورثوه في السفه والصبا، فالأمة يصدرون عن أمر الناس بعد أمر الله تعالى، وعليه يردون، فبئس للظالمين بدلا)(1).

ولذلك حذر الإمام في الخطبة 17 من المدّعين للعلم ومعرفة الدين الذين هم جُهّال خبّاط للجهالات، يذرون الروايات ذروا الريح الهشيم، وليسوا أهلاً لإصدار ما ورد عليهم ، فالعالم الحقيقي هو العالم المنظومي الإنتاجی التي يعرف كيف ينضج المعلومات، ويصدرها إلى الأمّة كدين حقيقي الإنسان الكامل وأمّة الأعلون الشاهدة على الناس.

التفكير المنظومي الإنتاجي جامع مانع:

يؤكد إمام البصيرة والحكمة في قوله (...لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ، وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمَيْثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ، وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذي نَبَذَهُ...)،على حقيقة حسّاسة جداً في معرفة الدين، وأتباعه وقادته الحقيقيين، وهي جانب المانعيّة من الصفات السلبية للدين، وبدونها لا يكون الإنسان متديناً، ناهيك من أنه لن يصلح أن يكون

ص: 136


1- الكافي : ج 8 ص 53 الحديث 16 .

قائداً، فنرى الإمام علیه السلام يؤكد على الرشد وميثاق الكتاب، والتمسك بالكتاب، ويقول بأنّ معرفتها لا تتم إلاّ بمعرفة مَن تركها، ومصطلحات الرشد والميثاق والتمسك بالكتاب تدلّ على حقيقة الدين ومصداقيته الكاملة، وهذه لا تحصل إلاّ من بعد أن نشخّص مَن تركها ونتبرأ منه ولا نُخدع به، فالدين عبارة عن منظومة أفكار وعقائد وفضائل وأعمال عبادية وشعائرية وأحكام ومعاملات، وهي تتحقق بفعلها والتلبس بها أمام الناس، وهناك الجوانب السلبية وهي المعاصي والرذائل، وتحصل بالترك والتبرّي منها ومواجهة أصحابها، وهم الطاغوت والظلم والفساد والرذائل، وهذه غير ظاهرة، وقد يتم التغطية عليها بالمظاهر الإيجابية، فالكثير من الناس لا سيما الملوك والحكام والمتاجرين بالدين،يخدعون الناس ببعض المناسك وبعض التبرعات والأعمال الخيرية،وكم اختفى الظّلمة والطغاة خلف جدران هذه المظاهر، وخدعوا الناس بهذه المسوح الكاذبة، وحرّفوا الدين وفرّغوه من محتواه وأهدافه، وحاربوا قادة وعلماء الدين الحقيقيين الذين يدعون إلى معرفة الدين الذي يجعل الناس تقوم وترفع رأسها بالقسط والعدل، والدين الذي يسعى لتأسيس دولة كريمة يُعزّ بها الإسلام وأهله، ويُذل بها الكفر والنفاق وأهله، وينعم أهلها بكرامة الدنيا والآخرة.

ص: 137

الازدواجية في التفكير:

من نتائج الذاتية وغلبة الخيال على العقل، أنّ البعض يفكر أفقياً في مواضيع هو محتاج فيها إلى التفكير العمودي، ويفكر عمودياً في مواضيع أخرى هو أحوج فيها إلى التفكير الأفقي العلمي، فالكثير من الناس مثلاً عندما ينظرون إلى الأشجار والنباتات ونموها وأزهارها وثمارها، لا يفكرون بغير ما جرى عليها من معادلات أفقية أوصلتها إلى مرحلة الثمر والحصاد، ولا يفكر إلا القليل بالعلل الفاعلية والعلل الغائية،مَن الذي أشرف على كل هذه العمليات؟ وما هو الهدف القريب والبعيد من كل هذه الآيات الإلهية؟

لكن هذا الإنسان الأفقي التفكير نفسه ينقلب إلى عمودي التفكير عندما يُرمى باب بيته بحجر، أو يسمع صوتاً معيناً من حوالي داره، هنا لا يدرس العلاقات والعلل الأفقية، ويبحث بشكل علمي عن الحجر أو الصوت ليكشف علته الفاعلية بنحو علمي، بل هو هنا لا يسمح للعقل بأن يرتفع ليبحث عن العليّة بشكل صحيح، لأنّ الخيال الذي صنعه العرف والمجتمع في ذهنه سيطر على عقله، ورسمَ في مخيّلته صورة العار والعيب والثأر التي تطالبه بكشف الفاعل بأسرع وقت، ليحكم عليه ولو ظنّاً، ويرتب الآثار السيئة في أغلب الأحيان على هذا الحكم المخالف للعقل السليم.

وهذا ما حذر منه أمير المؤمنين علیه السلام في قوله في وصف الحق والباطل،ووصف العاقل عندما قال أنّ الحق أن تقول رأيت والباطل أن تقول سمعت، وأن العاقل هو الذي يضع الأمور في مواضعها.

ص: 138

الجهل وكارثة التحكيم :

في معركة صفين كاد السيف العلوي المحمول بيد البصر والصبر المتمثل بعليّ وأصحابه المخلصين والواعيّن كمالك الأشتر ، أن يحسم الموقف لصالح حكومة العدل العلوية، على حكومة الجور الأمويّة.

لكن عمر بن العاص وبعد أن داهمه الخطر، وأحسّ بالهزيمة، إنقدح ذهنه المكّار بحيلة رفع المصاحف المعروفة، وقد نجح في خداع أكثرية جيش العراق، وأُجبر الإمام علي علیه السلام أن يوقف الحرب، وينسحب مالك وهو في لحظات حسم المعركة قرب فسطاط معاوية، والسبب هو أن أكثرية الجيش أخذوا يضغطون على الإمام، إما أن ينسحب مالك أو نقتلك!! واضطر الإمام للاستجابة لهم على مضض ومرارة، وهذا كله نتيجة الجهل وعدم معرفة الإسلام والقرآن، فعمر بن العاص استغل جهل هؤلاء ومرّر حيلته السوداء، فهؤلاء لم يفهموا من القرآن إلاّ كونه كتاب من جلد وأوراق ومداد، يقرأه القارئ ويدخل الجنّة، هذا هو كل معرفتهم بالقرآن، وبالطبع إن مثل هذا المصحف، إذا رفع فلا يمكن أن يُحارَب من يرفعه، حتى وإن كان معاوية، وهذا هو غاية الجهل وفقدان الرُشد، إنهم لو كانوا يعرفون أن القرآن كتاب لأجل إقامة القسط والعدل وإزالة الظلم والطاغوت والفساد لعلموا أن هذه المصاحف التي رفعت، إنما كانت دروعاً لمعاوية، حتى يحفظ بها حكومته الطاغية الفاسدة، وإنّ القرآن الحقيقي هو الإمام عليّ، لأنه هو الذي يعلم ماذا يريد القرآن ويحقق أهداف القرآن، ويترجمه على الأرض، فلو كان تفكيرهم عقلياً منظوميا انتاجياً، لعرّفهم حقيقة القرآن، ولعرفوا أنّه لا قرآن بلا عليّ، لأنّ القرآن أهداف لا أوراق، وإنقاذ معاوية من الهزيمة، وتمكينه من رقاب المسلمين، يعني تمزيق القرآن، وإلغائه من الحياة، فهم بقبولهم إيقاف الحرب والتحكيم قد أهانوا القرآن، ووقعوا فيما فروا منه بسبب جهلهم،

ص: 139

وهكذا يفعل الجهل، ويبعد الإسلام الحقيقي وقادته الحقيقيين عن حياة المسلمين اليوم بجهل المسلمين وتفكيرهم التجزيئي الذي يجعلهم يتمسكون بأجزاء من الدين ويتركون كل المنظومة الدينية وأهدافها، فلا يبقى من الدين إلا اسمه ومن القرآن إلاّ رسمه.

الرابع: التفكير غير المنطقي :

عملية التفكير هي عملية جمع بين معلومات حاضرة للوصول إلى معلومات جديدة، وهو ما يسمى في علم المنطق الذي هو العلم الذي يعني بتعليم طرق التفكير الصحيح بالبرهان الذي يتم فيه ترتيب مقدمات للوصول إلى النتيجة، فإذا كانت المقدمات أو بعضها خطأ، كانت النتيجة خاطئة.

ونحن في إيماننا بالله سبحانه عندما سلكنا برهان السببية، فقلنا : كل أثر له مؤثر وسبب، وهذا العالم والكون آثار وأسباب، فهذا الكون له مسبب وعله أولى. أو عندما قلنا أن النظم له منظّم، وهذا الكون منم، إذا لهذا الكون منظِّم.

لكن هذه البراهين لا تستطيع أن تثبت لنا أن العلة الأولى أو المنظِّم لا يمكن أن يكون محسوساً أو محدوداً، إلا إذا ضممنا إليها البراهين العقلية الفلسفيّة العالية، كبراهين ابن سينا وصدر المتألهين، والتي تثبت أن الله سبحانه لا يمكن أن يكون محدوداً، لأنه إذا كان محدوداً كان محتاجاً وكان قائماً بغيره، فلم يكن إلهاً،، وحيث إننا لا ندرك بالحواس إلاّ المحدود، لذلك فإننا لا يمكن أن نرى أو ندرك الله سبحانه بحواسنا المحدودة، فلا ندركه إلاّ بعقولنا وقلوبنا، فهو المؤثر والمنظِّم والعلة الأولى، وهو القائم بذاته، لا يمكن أن نراه بعيوننا الماديّة المختصّة برؤية المحدود المحسوس، وإنما نراه بعيون عقولنا.

فإذا غلب الحس على العقل، فإن التفكير المنطقي سوف يفقد مقدماته

ص: 140

الصحيحة للوصول إلى النتيجة، وهذا ما استفاد منه أعداء الأنبياء في إضلال الناس، فالأنبياء دعوا الناس إلى الله عن طريق دعوتهم إلى النظر في آيات الله وعلامات عظمته، بل وأظهروا للناس معجزات وبينات تثبت بنحو قطعي قوة الله وعظمته، كما في قصة موسى وشق البحر لهم وجعله طريقاً يبسا، وعبور قوم موسى وانقاذهم من فرعون وجيشه، فمن الواضح أن هناك قدرة إعجازية فائقة، قامت بهذا الفعل وهو ربُّ موسى، لكن مع هذا الدليل الساطع، فإن السامري جاء إلى بني إسرائيل المبتلين بأصالة المادة وغلبة الحس على العقل، واستغل عقولهم الضعيفة التي لا تؤمن إلاّ بإله محسوس يرونه بأعينهم، فهذه مقدمة خاطئة حاكمة على أذهانهم، وهي كل شيء يجب أن يكون محسوساً، وإنّ الإله يجب أن يكون محسوساً، وعن طريق هذا الضعف العقلي، والتفكير غير المنطقي،استطاع أن يجعلهم يؤمنون بأنّ العجل الذي صنعه من الذهب، وجعل له صوتاً وخواراً هو إله موسى، فصدّقوا ذلك، وتركوا وصيّ موسى وخليفته هارون، وفقدوا دينهم الحقيقي وابتلوا بالتيه والضياع.

إن المعرفة العلوية ترشد إلى رؤية العقل ورؤية القلب، وهذه الرؤية هي الأساس في حياة الإنسان، لأن معرفة الله سبحانه، بما أنه المصدر لكل خير وكمال،لا يتم إلا بهذه الرؤية، فالإيمان بالله ليس إيماناً مفهومياً ذهنياً فحسب، وإنما هو إيمان بدرجة الرؤية، وهو الذي يظهر من جواب الإمام سلام الله عليه لذعلب اليماني عندما سأله : هل رأيت ربّك؟ فقال علیه السلام لذعلب وكأنه يستنكر أو يستغرب هذا السؤال ! أفأعبد ما لا أرى؟

فقال له :ذعلب وكيف تراه فقال : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان،ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان. فالإمام يرى أن الإيمان بالله لا بد فيه من الرؤية القلبية.

ص: 141

وفي الخطبة (103) يقول علیه السلام: رحم الله امرأ تفكّر فاعتبر، واعتبر فأبصر، فهذا البصر يأتي من التفكر الذي يجعل العقل يبصر الشيء الذي توصل إليه ويراه.

ولكن غلبة الحس والخيال تجعل الإنسان يقع في جهل مركب، فلا يدرك أنّ هناك رؤية غير الحسّية والخيالية، وهنا تحكم في ذهنه هذه المقدمة الخاطئة والمدمرة للدين، وهي أن الإله لابد أن يكون محسوساً مرئياً، ويستغل أعداء الأنبياء هذه الخاصرة الرخوة في تفكير الناس، فيصنعون لهم الأصنام والآلهة المزيفة ويخدعونهم ببعض الخوارق ويسحرون أعينهم ببعض الصور والحركات، فيتركون الإله الحقيقي الذي ينبغي أن يروه بعقولهم ويذهبون نحو الآلهة المزيّفة.

الخطأ في المقدمات:

وسببه عدم اتباع المصدر الصحيح للقيم والموازين، نحن عندما نريد أن نتكلم أو نأكل ونشرب، أو نتعامل فيما بيننا بمختلف المعاملات الاقتصادية والاجتماعية، فهل نتبع في ذلك إيحاء غرائزنا وشهوتنا وغضبنا، أو يحدده العرف والعقل الجمعي، أو ما يزيّنه الإعلام ووسائل الاتصال في عيوننا وأسماعنا ؟! أم هناك ميزانٌ آخر للتشخيص، وبعبارة أخرى إننا يجب أن نشخص معيار الخير والصلاح، ومعيار الشر والفساد، حتى نفعل الأول ونتجنب الثاني.

فهل إن الغريزة وما يثيرها هو الميزان في الحكم إنّ هذا الشيء عامل خير وسعادة، وأنّ ما لا يثير الغريزة ولا يسحر العيون، فهل هو عامل شقاء وتعاسة؟ وهل أنّ ما يعرضه الإعلام والأجهزة الدعائية من صور جميلة يضفيها على الأشياء كافية في الحكم على أنها عوامل سعادة، وما يعرضه من

ص: 142

صور قبيحة على أشياء أخرى يكفي في أن نكرهها ونتنفّر منها ؟!

هذا طعام أو شراب جذاب، وأنا اشتهيه، وهذه امرأة جميلة متزيّنة، وهذه معاملة تدر عليّ أموالاً كثيرة، فهل هذا يكفي في أن استجيب وآكل وأشبع غريزتي وأتعامل ؟ أم أن هناك قائداً محركاً آخر يجب أن أرجع إليه، هنا مصرع أكثر أفراد البشرية، عندما يكتفون بالغريزة والحس والخيال، ولا يرجعون إلى العقل الذي هو المعيار الحقيقي في تمييز ما ينفع الإنسان مما يضره، والعقل يقول للإنسان أنك مخلوق تختلف عن الحيوان بما لديك من عقل، وإنّك مسؤول عن بدنك وعقلك وروحك، وإنّك مخلوق اجتماعي، فأنت مسؤول عن المجتمع الذي تعيش فيه من أسرتك القريبة إلى أسرتك البعيدة، وهم الأرحام والعشيرة إلى أبناء المحلة والمدينة، وإلى أقصى إنسان يعيش معك على هذا الكوكب، كما إنّ لك حياة أخرى، هي حياتك الأبدية بعد أن تُكمل شوطك القصير في هذه الحياة.

ولا سعادة لك إلاّ بالإشباع الذي لا يضر بدنك، ولا روحك ولا عقلك ولا أسرتك ومجتمعك والبشر جمعاء وحياتك الأبدية الخالدة، فإذا زيّنت لك العيون ووسائل الإعلام والخداع شهوة ولذة لدقائق، وميدان قصير وضيق، فعليك أن تلتفت إلى نفسك وتعلم أنك لست ابن اللحظة والساعة والأنا الضيقة، وإنما أنت إنسان الميادين الواسعة التي هي أطول من الزمان وأوسع من الأرض بما رحبت، والذي يشخص لك الصالح من الطالح والخير من الشر، والسعادة من الشقاء، هو خالقُك وخالق الأشياء التي تريد أن تتعامل معها.

ولأنك أوسع من الزمان والمكان، وإنّك تريد حياة دائمة، وكمالاً أبدياً، فلابد لك أن ترجع إلى خالق الكمال والحياة، ليشخّص لك الطريق إلى ذلك، فعندما تقول:هذه لذة وسعادة، هذه حياة،هذا رزق هذا عزّ وكرامة هذا

ص:143

علم نافع هذا حق و عدل، كل هذه المقدمات للحصول على النتيجة التي على ضوئها نتحرك ونعمل.

الخالق هو العالم:

هذه المقدمات يجب أن يشخّصها الخالق الذي هو العالم الحقيقي بالأشياء فالقيم والموازين أو المعلومات الضرورية لتشغيل وإصلاح أي جهاز يجب أن تؤخذ من صانع الجهاز أو العالم بكيفية صنعه وعمله وإصلاح عيوبه، والله سبحانه هو صانع جهاز الإنسان، والعارف بما يصلحه ويفسده، فإذا أخذناها من الأهواء والآراء التابعة للمخلوقين، كانت نتيجتها الفتن والنزاعات والضياع، وقد قال أمير المؤمنين علیه السلام في الخطبة (5): (إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوع الْفِتَنِ أَهْوَاءُ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامُ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتابُ الله وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً، عَلَى غَيْرِ دِينِ الله ...).

ووصف أمير المؤمنين في الخطبة (88) هذا المجتمع الذي لا يرجع إلى حكم الله بالرجوع وفق المقدمات الصحيحة إلى ما يقوله الله : (... يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ المَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا، وَالمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أنكَرُوا، مَفْزَعُهُمْ فِي المُعْضِلاَتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَعْوِيلُهُمْ فِي المُهمَّاتِ عَلَى آرائهم، كَأَنَّ كُلَّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بَعُرِى ثِقَاتٍ، وَأَسْبَابٍ مُحكَمَاتٍ).

وأما التابع للموازين الصحيحة في التقييم، فهو تابع لمصدر العلم الحقيقي الذي يصفه أمير المؤمنين في الخطبة (87) أنه: (... عِبَادَ الله ، إِنَّ مِنْ أَحَبٌ عِبَادِ اللهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ، وَتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ ، فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الهُدَى فِي قَلْبِهِ، وَأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ، وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ ، نَظَرَ فَأَبْصَرَ ، وَذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ، وَارْتَوَى مِنْ عَذَبٍ

ص: 144

فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ، فَشَرِبَ نَهَلاً، وَسَلَكَ سَبِيلاً جَدَداً قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ، وَتَخَلَّی مِنَ الهُمُومِ اِلَّأَهَماًّ ً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى، وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى، وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحَ أَبْوَابِ الْهُدَى، وَمَغَالِيقِ ِ أَبْوَابِ الرَّدَى . قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، وَعَرَفَ مَنَارَهُ، وَقَطَعَ غِمَارَهُ، وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا، وَمِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا، فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ، قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لله - سُبْحَانَهُ - فِي أَرْفَعِ الْأُمُورِ، مِنْ إِصْدَارِ كُلَّ وَارِدٍ عَلَيْهِ، وَتَصْیِيرِ كُلِّ فَرْعٍ ٍ إلى أَصْلِهِ. مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ، كَشَّافُ عَشَوَاتٍ (7) ، مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ، دَفَّاعُ مُعْضِلاَتٍ، دَلِيلُ فَلَوَاتٍ ...).

فالعالم الحقيقي هو الذي يرجع المعلومات التي تأتيه إلى قواعدها الصحيحة، حتى يصدر منها النتائج الصحيحة، وهذا يتم بنصب الإنسان نفسه لله في أرفع الأمور، من إصدار كل وارد عليه، أي أنّ الله سبحانه هو المقياس والميزان الأعلى في تشخيص الحق من الباطل، والصحيح من السقيم.

وعندما يسم الإنسان زمام أموره إلى الله خالقه والعالم بكل أسراره وخفاياه، والأكرم والأرحم به من كل رحيم وكريم سواه، فإن النتيجة هي : (... لا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلا أَمَّهَا، وَلاَ مَظنَّةً إِلا قَصَدَهَا...)، فهذه هي نتيجة التبعية الكاملة لكتاب الله وقرآنه الكريم (... قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ، فَهُوَ قَائِدُهُ وَإِمَامُهُ، يَجُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ، وَيَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنزِلُهُ).

(وفي المقابل يصف أمير المؤمنين أدعياء العلم، والسالكين طريق التفكير الذي تتحكم به الأهواء والمقاييس الخاطئة، فيقول : (...وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَلَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَالٍ وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلالٍ، وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حبالِ غُرُورٍ ، وَقَوْلِ زُورٍ ، قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ، وَعَطَفَ الحَقِّ عَلى أَهْوَانِهِ، يُؤْمِنُ مِنَ الْعَظَائِم، وَيُهوِّنُ كَبِيرَ الجرائم، يَقُولُ: أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ، وَفِيهَا وَقَعَ، وَيَقُولُ : أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ، وَبَيْنَهَا اضْطَجَعَ ،

ص: 145

فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانِ وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانِ لا يَعْرِفُ بَابَ اهْدَى فَيَتَّبِعَهُ، وَلاَ بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ، وَذلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءَ !...).

ويحذِّر أمير المؤمنين علیه السلام بشدّة بالغة من التفكير الذي تحكمه العصبية والقبلية في تشخيص الموازين العرفية، للعزة والكرامة والاحترام المنافية للموازين والقيم الإلهيّة، وذلك عندما تكون كثرة الأموال والأولاد شرفاً وحظاً عظيماً ومقاماً، ويكون الإسراف والتبذير جوداً وكرماً، ويكون الثأر والتعصّب الأعمى أصالة وشجاعة، وبالنتيّجة يكون ترك هذه الموبقات المهلكات المدمّرات عاراً وعيباً، فهنا ينكفئ وينقلِب وعاء الإسلام على وجهه ، ويفرغ من محتواه ولبه ، ولا يبقى من الإسلام إلّا إسمه ومن القرآن إلّا رسمه، أنظر ماذا يقول معمار الأمّة الإلهيّة ومهندس الموازين الإنسانية : (... وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الهِجْرَةِ أَعْرَاباً، وَبَعْدَ المُوَالاَةِ أَحْزَاباً، مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلامِ إِلّا بِاسْمِهِ، وَلاَ تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ اِلّأَ رَسْمَهُ، تَقُولُونَ النَّارَ وَلاَ الْعَارَ ! كَأَنَّكُمْ تُرِ ِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلامَ عَلَى وَجْهِهِ، انْتِهَاكاً لحَرِ ِيمِهِ، وَنَقْضَاً

لمِيثَاقِهِ ... ) .

وقد حذر أمير المؤمنين علیه السلام من التقييم التابع للفكر الفرعوني القاروني، الذي يرى امتلاك زخارف الدنيا كرامة وعدمها إهانة، في الخطبة (160) وبعد أن يذّكر بسيرة بعض الأنبياء، وعدم تعلّقهم بالرفاه المادي، وعدم سعيهم نحو الحياة المترفة، يذكّر بالرسول الأعظم ويدعوا إلى التأسّي به ويقول : (... عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَرَ شَيْئًا فَحَقَّرَهُ، وَصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللهُ وَرَسُولُهُ، لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لله ، وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ الله ...)

وبعد أن يذكر علیه السلام بعض المشاهد من سيرة النبي الأكرم، الدالة على

ص: 146

أخلاقه السامية وتواضعه وزهده وتنفّره من مظاهر التسلّط والترف والزينة والزخارف المادية، فيقول علیه السلام: (...فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ: أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّداً بِذلِكَ أَمْ أَهَانَهُ فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ، فَقَدْ كَذَبَ - وَالله العظيم - بِالْإِفْكِ الْعَظِيمَ وَإِنْ قَالَ: أَكْرَمَهُ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ، وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ ِ مِنْهُ...).

فهذه دعوة من أمير الدين والإيمان والولاية، للتفّكر والنظر بعقولنا إلى ما يفعل الله سبحانه بأحبِّ الخلق إليه، وأكرمهم عليه ، كي نخرج بمفردة ثقافية مجتمعية مهمة في تشخيص الكرامة والإهانة ...

وهي إنّ كرامة الإنسان ليست بامتلاك المظاهر الدنيوية، كما إنّ إهانته ليس بحرمانه منها، وهذه هي ثقافة المجتمع المحمدي العلوي، وأما احترام الزخارف ومظاهر الترف والزينة والاستهلاك ومتابعة الموضات وامتلاك الدور الفخمة والقصور والحراسات المشددة وإكرام أصحابها، فهذه ثقافة إذا سادت في المجتمع وحكمت على الأذهان، تسلط عليه فرعون وقارون وأمثالهم من الطغاة.

وقد أوضح القرآن الكريم ذلك في سورة الزخرف والقصص : (... وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ یَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَرُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبينُ فَلَوْلۤا أُ ُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلإكَةُ مُقْتَرِ ِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ ۥ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَسِقِينَ ( (1)) .

هكذا وبهذه الطريقة استخف فرعون بعقول قومه فأطاعوه، لأنه استطاع أن يجعل الموازين التي تحكم على عقولهم هي موازين المظاهر المادية، وإنّها المقياس للشرف والعزّة والكرامة.

ص: 147


1- الزخرف : 51 - 54

وكذلك في سورة القصص :( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۦ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآُٱوتِيَ قٰرُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ )(1)، حيث نرى أن أصحاب الموازين المادية قد تأثروا بهذا الاستعراض الذي قام به قارون وانبهروا بمظاهر الزينة وبهارج الذهب والفضة، ولكن في المقابل فإنّ أصحاب الموازين الحقيقية والذين سمّاهم القرآن بأنهم الذين أوتوا العلم لم ينخدعوا بقارون وزينته وكنوزه وقالوا:( ... وَقَالَ الَذِّينَ اُوتُواُ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيرٌ لِمَن۪ آمَنَ وَعَمِلَ صَلِحَا ۚوَلا يُلَقَّهَا إِلَّا الصَّبِرُونَ )(2)، وفي النتيجة النهائية كانت العاقبة لأصحاب العلم والمعرفة الحقيقية، وأمّا أصحاب الموازين الوهمية فقد كان عاقبتهم الخسف والهلاك والندم: (فَخَسَفْنَا بِهِ ۧ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوا مَكَانَهُ بِالْأمسِ ِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِ ِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه ِۦ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَ اللَّهُ عَلَيْنَالَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكَفِرُونَ)(3).

الخامس التفكير التعميمي:

وهو نحوٍ ٍ من التفكير الخاطئ الذي يؤدي إلى نتائج كارثية على المجتمع، حيث يظلم الكثير من الناس، ويحرم الناس من الكثير من الطاقات والكفاءات، بسبب الأحكام الجائرة التي تصدر عليهم نتيجة التفكير التعميمي الخاطئ، ناهيك عن العقائد الخاطئة التي ينتجها هذا النحو من التفكير...

والتعميم هو الحكم على الكل بصفة جزء من أجزائه، أو إعطاء حكم الخاص للعام، وفيه أقسام كثيرة منها :

ص: 148


1- القصص: 79
2- القصص: 80
3- القصص : 82،81

1- التعميم على النفس: بأن يحكم الإنسان على نفسه بأنّه إنسان فاشل لا يستطيع أن يعمل شيئاً، أو أنه غبي لا يستطيع أن يفهم، ولن يستطيع أن يتغلب على المشاكل بسبب فشله في حادثة أو حالة أو مسألة علمية لم ينجح فيها، فيصاب بالإحباط واليأس الذي يؤدي إلى الانطواء والقلق والكآبة التي تؤدي إلى الأمراض النفسية والعقلية والجنون والانتحار... وفي المقابل ايضاً قد يقوم الإنسان بتعميم حالة نجاح، أو عمل قام به على سائر أعماله وصفاته، ويرى نفسه كاملاً، ويصاب بالعجب والتكبر والأنانية، التي تجعله ينظر إلى الآخرين بعين الاستعلاء والاستعباد، وهذا أيضاً تعميم يؤدي إلى تدمير الشخص أو جعله عنصراً مدمِّراً للمجتمع ، ومصدراً للكراهية والبغضاءوالعداوة.

2 - التعميم على الآخرين، بأن تحكم على شخص آخر بعمل خاطيء صدر منه، أنّه إنسان سيّء، وتقطع علاقتك معه، وقد تكون سبباً في قطع علاقات معه أيضاً، أو ترى منه عملاً يعجبُك وتحكم عليه أنّه إنسان مقدّس، وتعتمد عليه في أمور تحتاج للتثبّت والاطمئنان إلى الكفاءة فيها، وهذا التعميم يؤدي إلى حرمان المجتمع من الكثير من الطاقات والكفاءات التي كان ينبغي اعطاؤها الفرصة لتفعيل قابلياتها، وتحويل الفشل والخطأ إلى نجاح وتفوّق، وكذلك يجعل الأشخاص غير المناسبين في مقامات لا تناسبهم.

3- التعميم على الجماعات :كالحكم على أهل قرية أو قبيلة أو مدينة أو محلة أو

بلد أو قومية، بصفات أو أعمال شخص أو مجموعة أو أشخاص تابعين لهم وهذه من التعميمات الشائعة جداً في مجتمعنا اليوم، وقد أدّت إلى تفكك أواصر المجتمع، ونشوء حالة التعصب المناطقي والقومي والقبلي والحزبي، ومن أمثلة هذا النوع من التعميم، الحكم على كل رجال الدين بحكم سلبي أو إيجابي، أو الحكم على كل أصحاب بعض المهن كالأطباء أو سواق السيارات

ص: 149

أو شيوخ العشائر أو المسؤولين والمتصدّين، بأحكام سلبية أو إيجابية، وبالنتيجة يحرم المجتمع من البحث عن أصحاب الكفاءات الواقعية، ويجعل مقياس حكمه على الأشخاص حسب انتمائهم الجغرافي والإداري والفئوي أو المهني، كما يحرم المجتمع من الكثير من علمائه وعقلائه وأخياره و...، بسبب إساءة بعض من تلّبس بلباسهم وادعى الانتساب إليهم.

4 - التعميم التاريخي: وهو أن نحكم على الأجيال اللاحقة من الأمم بذنب آبائها وأجدادها ، فإذا كان أهل الكوفة قد شاركوا في قتل الإمام الحسين علیه السلام، فهل هذا يعني أنّ أهل الكوفة المعاصرين يتحمّلون ذنب آبائهم؟ نعم إذا كانوا راضين بفعل ،آبائهم، فهم مشتركون معهم في الجريمة طبقاً لقانون (مَن رضى بعمل قوم أشرك في عملهم) ، ولكن ليس كل أهل الكوفة كانوا راضين بقتل الإمام الحسين سلام الله عليه ، لا في زمن الجريمة ولا بعده ، وإذا كان هناك كلام ينتقد أهل الكوفة من قبل الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة، أو من قبل الإمام السجاد علیه السلام ، أو السيدة زينب سلام الله عليها، فهذا ينحصر في المتقاعسين عن نصرة الإمام علي علیه السلام ، والمشاركين في واقعة الطف مع يزيد وابن زياد، وكذلك الراضين والمتعاونين معهم، ولا يصح التعميم لغيرهم، وأوضح دليل على عدم جواز التعميم هو أنّ أنصار الإمام الحسين علیه السلام أكثر هم من أهل الكوفة والعراق، وكذلك الأنصار الذين قاموا بالثورات والانتفاضات بعد واقعة كربلاء، كان أكثر هم من أهل الكوفة والعراق.

ه - تعميم درجة الحكم بالعداء: وهو تعميم خطر على الثقافة المجتمعية، وينبغي الاهتمام به وتثقيف الأمة على تشخيص درجة الحكم على الآخرين، وإنّها تختلف من شخص إلى آخر اختلاف السماء عن الأرض، والخطأ في هذا التشخيص أدّى إلى تمزيق الأمّة، وإلى تقاتلها فيما بينها أحياناً، وإلى ضعفها الذي مكّن الأعداء منها، ولأجل توضيح هذه المسألة الهامّة نقول:

ص: 150

إنّ الناس الذين ترتبط بهم ينقسمون إلى أقسام:

1 - الإنسان الذي يشترك معك في العقيدة والفكر، وكذلك في العمل وكذلك في النتيجة، أي إنّه عمل من أجل الهدف وتحقق الهدف أو بعض درجاته على يديه .

2-الإنسان الذي يشترك معك في العقيدة والفكر والعمل، وقام بما يجب عليه وسعى نحو النتيجة، ولكن لم تتحقق النتائج على يديه، رغم أنّ عمله كان صحيحا، ودعا الناس إلى الأفكار والوسائل الصحيحة، وأكثر الأنبياء أو کلهم من هذا القسم.

3-الإنسان الذي يشترك معك في العقيدة، ولكنه أخطأ في العمل والخطوات اللازمة للوصول إلى النتيجة.

4 - إنسان لا يشترك معك في كل العقائد والأفكار، ولكنه يشترك معك في العقائد الأساسية، ويمكن أن يقف معك في مواجهة عدو العقائد والأهداف المشتركة.

5 - إنسان مخالف ولا يشترك معك في العقيدة، ولكنه لا يريد القضاء عليك، ويحترمك كإنسان في مقابل إنسان.

6- إنسان يشترك معك ويعمل لأهدافك أو لبعض أهدافك، ولكنه مخالف لشخصك ويرى أنك غير صالح لعملك.

7- إنسان لا يشترك معك في شيء، ولا يحترمك ويريد القضاء عليك وعلى عقيدتك وأهدافك.

والعدو الذي نحكم عليه بوجوب المواجهة، بعد إعداد القوة اللازمة والشروط المطلوبة هو القسم السابع فقط. وأما بقيّة الأقسام فأمّا أخ لنا في

ص: 151

الدين أو نظير لنا في الخلق والإنسانية، ومَنْ يشترك معنا في العقيدة ولكنه مخطئ في العمل، فعلينا أن نصحح خطأه بأحسن الأساليب، وكذلك مَنْ يشترك معنا في بعض العقائد الأساسيّة ويكون لنا عوناً وحليفاً في مواجهة أعداء أساسيّات الدين والأخلاق والثوابت الإنسانية والوطنية، وأمّا إذا أردنا أن نحاسب الناس على نتائج أعمالهم، ونحمّلهم عدم تحقق النتيجة كما يفعل البعض، فإنّ على هؤلاء أن يحاسبوا جميع الأنبياء ويعتبروهم (العياذ بالله) خاطئين.

ولكن مع الأسف فإننا نجد في ثقافتنا المجتمعية ممَن يعمّم درجة الحكم الخاصة بالقسم السابع، على سائر الأقسام أو أكثرها، ويعتبرهم مقصّرين أو خارجين من الدين ويتخذ منهم موقفاً عدائيّا.

والصحيح هو أن نترك هذا التعميم الظالم، ونشارك جميع الأقسام في تشكيل جبهة مشتركة، في مواجهة القسم السابع، وهو العدو اللدود الذي يريد القضاء على الجميع، وهكذا كانت سيرة أمير المؤمنين علیه السلام مع مخالفيه، وكذلك سائر الأئمّة الطاهرين عليهم السلام، وسيرة أمير المؤمنين علیه السلام مع الخلفاء تشهد على هذا المنهج في التعامل ، ويوضح ذلك ويقول في الخطبة (74):

(لَقَدْ عَلِمْتُمْ اَنِّیْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي، وَوَالله لَأَسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ المُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيها جَوْرٌ إِلا عَلَيَّ خَاصَّةً، التماساً لِأَجْرِ ذلِكَ وَفَضْلِهِ، وَزُهْداً فِيمَا تَنافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ).

ص: 152

السادس: التفكير المتشابه:

وهو التفكير الذي يصنع الشبهة واللبس ، ويؤدي إلى انحراف الناس عن الحق والطريق الصحيح، وافتتانهم بالباطل واتباعهم له، لتلبّسه بلباس الحق أو رفعه شعاره و مظاهره، ويمكن أن نسمّي هذا النوع من التفكير بفن صناعة الشبهة عند عوام الناس، أو تفكير الفتنة أو تفكير التلبيس والخلط بين الحق والباطل.

وقد أوضحه امير المؤمنين علیه السلام في قوله في الخطبة (38): (وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةٌ لِأنَّهَا تُشْبِهُ الحَقِ َ ، فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ الله فضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ، وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ

الهُدَى، وَأَمَّا أَعْدَاءُ اللهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا الضَّلَالُ، وَدَلِيلُهُمُ الْعَمَى ...).

وفي الخطبة (50) أوضح طريقة صناعة الشبهة التي تؤدي إلى الفتن والنزاعات، فقال علیه السلام: (إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ ِ الْفِتَنِ أَهْوَاءُ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامُ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتابُ اللَّهِ، وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً، عَلَى غَيْرِ دِينِ ِ اللِّهِ ، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنَ مِزَاجِ ِ الحَقِّ ِ ّ لَمْ يَخفَ عَلَى المُرْتَادِينَ (1)، وَلَوْ أَنَّ الحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ ِ الْبَاطِلِ ِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ المُعَانِدِينَ: وَلكِن يُؤْخَذُ مِنْ هذَا ضِعْثٌ (2) ، وَمِنْ هذَا ضِعْتُ، فَيُمْزَ جَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو ( الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ الله الحُسْنَى).

فالمصدر لترويج مثل هذا التفكير وإلقائه على العوام، هم أصحاب الأهواء والبدع والمراكز الثقافية والمؤسسات الإعلامية ووسائل التواصل المضلِّلة التي تهدف إلى حرف الناس عن الدين الصحيح ومصدره وقيادته الحقيقية فيمزجون الحق بالباطل، والناس غالبا ما يُخدعون بكلمة وشعار الحق ويمرّرون الباطل ويتبعونه، وينصرونه ملفوفاً ومتلبساً بشعار وشعائر الحق. وهناك أقسام عديدة لهذا التفكير منها :

ص: 153

1- استنتاج الباطل من شعار الحق:

كما في الشعار الذي رفعه الخوارج في مقابل أمير المؤمنين علیه السلام، والذي أوضحه في الخطبة (40) بقوله: (كَلِمَةُ حَقٌّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ نَعَمْ إِنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا لله وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَا إِمْرَةَ إِلَّا لِله...)

صانعوا هذه الشبهة هدفهم هو إبعاد أمير المؤمنين علیه السلام عن إمرة المؤمنين علیه السلام، وشعارهم هو ( لا حكم إلا لله)، وهذا الشعار في ذاته صحيح، لكن تم توظيفه خلافاً لما أريد منه، فشعار (لا حكم إلا الله ) بنفسه يثبت الولاية لعلي علیه السلام ، لأنّ حكم الله يحتاج إلى العالم به ،والمطبّق له على الأرض بكل قوة وشجاعة، وأعلم الناس بحكم الله، وأقواهم على تنفيذه هو علي أمير المؤمنين علیه السلام، ولكن عندما يكون العقل ضعيفاً متجمداً، والجهل حاكماً، فإنّ الشعار الجميل يمر دون أن يتم التفكير به وبلوازمه ونتائجه، وينفِّذ صانعوا الشبهة والفتنة مراحل مؤامرتهم الأخرى دون أن يشعر أو يلتفت المخدوعون، وبالنتيجة يُقتل أعلم الناس بحكم الله واتقى وأزهد وأعدل وأشجع الناس في الله باسم حكم الله .

وفي زمننا هذا فإنّ البعض يطرحون على الناس شعار التبعيّة لأهل البيت وعدم الحاجة إلى المراجع والفقهاء، والهدف هو ضياع الأمّة وتيهها وركوبها الأهواء والآراء في معرفة الأحكام الإلهيّة، وحتى لا يكون للأمّة مرجع وقائد يشخِّص لها ما يريد القرآن وأهل البيت عليهم السلام، ويوحِّدها في مقابل أعدائها، وحيث أنّ الناس يعجبها شعار أهل البيت والاتصال المباشر بهم دون واسطة، كما يطرح أصحاب هذه الشبهة، لذلك فإنّ الناس أصحاب العقول الضعيفة وغير المفكرة يُخدَعون بهذا الشعار، ويمرر عليهم الباطل متلِّبساً بلباس ،الحق، ومَن يفكر في معرفة الدين، يعلم أن تبعيّة أهل البيت تتحقق بالتبعيّة للعالم والخبير الذي يشخّص أحاديثهم ودلالاتها ومقاصدها، ويميّز ما هو صحيح النسبة إلى أهل البيت من المكذوب عليهم، مما وضعه

ص: 154

الكذابون والطغاة والظالمون، فالتبعية الحقيقية لأهل البيت لا تحصل إلا بالتبعية للمراجع والفقهاء والعلماء المجتهدين العارفين، ولهؤلاء المراجع إضافة إلى تعليمنا الدين الصحيح، الدور الكبير في توحيد كلمة الأمّة وحفظها من الاختلاف والتمزق، وبيان موقفنا تجاه الأعداء، الذين يهاجمون الإسلام وأهله وثقافته وفكره بين الحين والآخر، فمن كان صادقاً في التبعية لأهل البيت، لابد أن يبحث عن العالم والمرجع والفقيه الخبير العادل، الذي يكون طريقاً صحيحاً للارتباط بهم والتبعية لهم.

2- التفكير الانتقائي:

من طرق صناعة الشبهة، أن يتم التركيز من قبل البعض على واجب معين أو مستحب أو حتى غير مستحب، ولكنه عمل للتعبير عن الحب والولاء، أو مظهر شعائري وعبادي ، كمظاهر الفرح والزينة في مولد النبي، أو مظاهر الحزن في ذكريات شهادة الأئمة عليهم السلام والشبهة في هذا الأمر في أن نملأ أذهان العوام بفكرة مفادها أنّ الدين كله يُختزل في هذا العمل وهذا الشعار أو المظهر !!

فيكون المتّدين والملتزم والموالي لأهل البيت والمحترم في المجتمع، هو مَن يقوم بهذه المفردة ويهتم بها، وربما أضاف لها زخارف وزوائد، وبالتدريج تصير الزوائد والزخارف مقدّسة، وعندما تصبح مقدّسة فإنّ كل الطرق والوسائل التي تستخدم لأجلها، تكون مشروعة بل ومقدّسة أيضاً، وبهذا التفكير يتم نسيان الواجبات الأخرى، أو تصبح غير ذات أهمية، كذلك ترتكب المحرمات من أجل هذه المفردة المقدّسة، لأنّ المحرمات عند أصحاب هذا التفكير لا تبقى محرمات، إذا كانت طريقاً نحو ما يرونه مقدساً!

ومن أمثلة هذا النوع من التفكير الفكر الوهابي الذي يرى كل مَن يخالفه

ص: 155

في آرائه مشركاً ويستحق القتل، وكذلك من أمثلته ما يقوم به البعض من أعمال باسم الشعائر الحسينية، ويسبب الأذى للإسلام وأهله، والبعض الذي يكتفي في التزامه الديني بصيام شهر رمضان، أو الاشتغال بالشعائر الحسينية خلال شهري محرم وصفر، أو الذهاب إلى صلاة الجمعة والسفر إلى الحج والعمرة، ويترك سائر واجبات الدين، ويرتكب محرماته ويخالف أحكامه وأخلاقه وآدابه.

3- التفكير السطحي:

وهو التفكير الذي يكتفي بظاهر الكلمات التي تحتاج معرفة المقصود منه إلى الرجوع إلى غيرها من الآيات والروايات والأدلّة العقلية، لكن أصحاب هذا النوع من التفكير يدغدغون أذهان الناس بظواهر بعض النصوص، وحيث أن الناس لا يمتلكون العقل المنظومي الإنتاجي، الذي تحدثنا عنه سابقاً، والذي هو وظيفة العلماء الصادقين المخلصين، لذلك يُخدع الناس ويفهمون الدين طبقاً لظاهر هذا النص أو الحديث الذي ألقي عليهم، فعامة الناس لا يعرفون ان هناك مشابها ومحكما وعاما وخاصا ومطلقا ومقيدا ومجملا ومبينا و ناسخا ومنسوخا، وعام وخاص ، ومطلق ومقيّد، ومجمل ومبيّن، وناسخ و منسوخ، وأن هناك قضية حقيقية وقضية خارجية، وأن هناك جهة صدور وفضاء صدور، وأّنّ هناك سياقات وقوانين وقواعد للكلام يجب مراعاتها، وأنّ كل هذه الأمور يجب أن تدخل في عملية فهم النص حتى يتم الاستدلال على المقصود، هذه الأمور يعرفها العالم والفقيه، وكذلك ينبغي أن يعرفها الخطيب الذي يلقي على الناس الآيات والروايات، مثل روايات ثواب النوافل والزيارات والبكاء وأمثالها ...،وعليه أن لا يجعل الناس يفهمون منها معانيها السطحية المبتورة عن أسسها وشروطها وأهدافها، ويكون إيمانهم بلا أساس عقائدي صحيح، وعملهم العبادي بلا أهداف، فالدمعة على مصاب

ص: 156

سيد الشهداء الحسين علیه السلام، توجب الجنة ونفس المهموم المصاب أهل البيت عبادة، والخطوة في طريق زيارة الحسين علیه السلام تعدل ثواب العمرة.

هذا بنفسه وارد في الروايات، ولكن هل أنّ المقصود هو الدمعة والحزن والزيارة بلا معرفة وأساس عقائدي، وبلا تفكير في الأهداف من هذه الشعائر ؟!

هنا يجب على الخطيب الذي يريد أن يحيي أمر أهل البيت علیهم السلام أن يربط هذه الروايات بسائر المنظومة الإسلامية الكاملة للقرآن والعترة، ويجعل الأمة تتمسك بهما كي لا تضل، وأن تبكي وتحزن وتزور على الحسين سيد الشهداءعلیه السلام عارفة بحقه عليها، وواعية ماذا تفعل، وأنّ هذه المعرفة وهذا الوعي هو أنّ الإمام الحسين علیه السلام قد ثار وضحّى بكل ما لديه من أجل رفض الطاغوت الأموي الذي أراد تحريف الدين، وتفريغه من محتواه وطمس معالمه وسحق أهدافه، وإنه خرج من أجل إصلاح الأمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمّا أن نلقي على الناس معاني سطحية وقشرية للإسلام، والناس يكتفون بها وتصبح هي الميزان للقدسية والاحترام، ويصبح شعور الناس منحصراً بالمسؤولية تجاه هذه القشور ، ويفقدون الشعور بمسؤوليتهم تجاه لباب الإسلام وحقائقه وأهدافه التي استشهد لأجلها الإمام الحسين وأهل البيت، وعلى رأسها إقامة العدل ومواجهة الظلم والفساد، فهذا هو التسطيح للإسلام الذي قام به بنوا أمية، ونهض الإمام الحسين علیه السلام وضحى بكل ما العالم

لديه من أجل مواجهته ، وإعادة بناء الإسلام من جديد بإعادة لبه وحقيقته ومصالحه وأهدافه.

4- التفكير النتائجي:

وهو التفكير الذي يجعل النتائج والثمار مقياساً على صحّة الأعمال

ص: 157

والمشاريع والقائمين عليها، وهذا النوع من التفكير يسبب أيضاً ضياع الكثير من الجهود والأعمال القيّمة، وفقدان الكثير من أصحاب الكفاءات والطاقات وظلمهم، حيث يحكم أصحاب هذا التفكير على أي عمل لم يحقق النتيجة أنّه عمل غير صحيح بالمرّة، وأن صاحبه فاشل وأحياناً يحكم عليه بالفساد أو الظلم، وهذا تفكير مخادع وغير صحيح، ، لأنّ النتيجة ليست تابعة في جميع أسبابها ومقدماتها وأجزاء علتها إلى العامل، وما يرتبط به من عمل، بل إنّ هناك ظروفاً وشروطاً موضوعية ترتبط بغيره، فإذا لم تتوفر فالعمل قد لا يحقق نتائجه على الأرض، نعم على ربِّ العمل وصاحب المشروع أن يقدر هذه الظروف قبل الإقدام على العمل، لكن هذا التقدير حتى وإن كان صائباً في بداية المشروع، فليس بالضرورة أن يستمر على نفس الدرجة من الصواب، وقد يتغير الناس ولا يفوا بوعودهم لصاحب المشروع، أو قد يحصل تغيير مفاجئ في الظروف البيئية والاجتماعية والجويّة لم تكن بالحسبان، فتؤثر سلباً على تحقق النتائج، فهنا لم يكن صاحب المشروع مقصِّراً بشيء، لا في تخطيطه ولا في عمله ولا في المقاييس العقلائية لتقدير الظروف المحيطة بالعمل والتغيير الذي أدّى إلى الإخفاق لم يكن بسبب ربِّ العمل ولا عمله.

وأكثر الأنبياء لم يحققوا النتائج المطلوبة على الأرض، وانتهى الأمر بعصيان أقوامهم وتمرده ونزول العذاب عليهم، فهل يصح أن نحكم على الأنبياء بأنهم كانوا فاشلين ! أو أن عملهم كان خاطئاً؟ أم أن السبب يرجع إلى قومهم وعصيانهم، على الرغم من أن أنبياءهم استعملوا معهم أفضل وسائل الدعوة والهداية والإرشاد.

والخوارج في زمن أمير المؤمنين علیه السلام كانوا يحملون هذا النوع من التفكير، ولذلك حمّلوا أمير المؤمنين السلاممسؤولية هزيمة صفين ونتيجة التحكيم لصالح معاوية، وبدلاً من التفكير في الأسباب الحقيقية لهذه الهزيمة، وهي غباؤهم

ص: 158

وجهلهم وانخداعهم برفع المصاحف، وتمرّدهم على إمامهم وقائدهم الحق، نرى أنهم في نهاية الأمر يفكرون تفكيراً نتائجياً، ويعتبرون عليّاً سلام الله عليه هو المسؤول عن ذلك، لأنّه هو القائد والخليفة، وبالتالي تنتهي الأمور إلى أن يُقتل خير أهل الأرض بعد رسول الله صل الله عليه وآله بسبب هذا التفكير المدمّر والمغالطة الظالمة، وقد بيّن هذه الحقيقة المؤلمة في كلامه معهم، وتحذيره لهم في الخطبة (35) وفي الخطبة (36) في قوله: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ المُجَرِّبِ تُورِثُ الحَسْرَةَ وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ الْحَكُومَةِ أَمْرِي وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَحْزُونَ رَأْيِي لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرُ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ وَ الْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ وَضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ فَكُنْتُ أَنَا وَ إِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ :

أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَج اللّوَى *** فَلَمْ تَسْتَبِيئُوا النُّصْحَ إِلَّا ضُحَى الْغَدِ...)

وفي أيامنا نجد الكثير ممن يقوم بتسقيط الكثير من الرموز والقيادات العلمائية والسياسية والاجتماعية، ويقوم بشحن أذهان المجتمع ضدهم بأفكار مخادعة، ويستخدم التفكير النتائجي لتحقيق هدفه، وذلك بأن يوحي إلى الناس أن سبب جهل وضلال الناس هو عدم قيام المرجع أو العالم الفلاني بدوره، أو الحوزة العلمية بواجبها، وسبب المشاكل والأزمات الاقتصادية أو الأمنية، هو المسؤول الفلاني، أو الحزب الفلاني، أو الطائفة أو القومية المعينة.

ولا أريد هنا أن أدافع عن الرموز القيادية، لا الدينية ولا السياسية ولا الاجتماعية، ولكن هذا التفكير الذي يحمّل النتائج السلبية دائماً على المتصدي والمسؤول والقائد، تفكير باطل وظالم ! فقد يكون المسؤول قد أدّى دوره بنحو صحيح وسعى سعيه نحو تحقيق النتائج بالنحو المطلوب، لكن هناك من انبرى لمنع وعرقلة تحقق النتائج، لتسقيط هذا الرمز والحلول محله، أو تحقيق أغراض أخرى تم دفعه إليها من قبل الأعداء ! واستخدم وسائل إعلامه

ص: 159

المضللة لترويج هذا النوع من التفكير، ونجح في تضليل وخداع الناس بما فيهم المتدينين، فصاروا أدواتا وجنوداله في تحقيق غرضه الخبيث، وكان المطلوب من المخلصين للدين والأمة والوطن أن يشخّصوا بدقة وموضوعية الإخفاق، فإذا كان السبب هو غير المتصدي، فعلى الجميع أن يقوي

ویسند المتصدي كي يستطيع تحقيق الأهداف ويتغلب على الموانع والعقبات لا أن يشاركوا في ظلم هذا المتصدي والبريء وربما المخلص، ويكونوا سبباً في استبداله بمسؤولٍ آخر سيءٍ أو أسوأ منه.

السابع: التفكير التشاؤمي :

وهو الفكر الذي يركز على الجوانب السلبية للأشياء، ولا يحاول فهمها

ليكتشف حقائقها الجميلة ويظهرها للناس بصورتها الحقيقية الجذابة النافعة ولا يعرضها إلا بصورة منفّرة وقبيحة. فالبعض مثلا ينظر الى جانب العنف والانتقام في احكام الحدود والقصاص والجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يرى جانب ضرورتها لإصلاح المجتمع، ودورها الأساسي لإقامة العدل والقسط وتحقيق الامن الاجتماعي ولمنع الفساد والجريمة.

وحتى العبادات كالصلاة والصيام والزكاة والحج لا يراها البعض الا اعمالا شاقة ومضنية ناهيك عن المحرمات التي يراها قيودا واقفالا واغلالا وعوامل منع وحرمان من اللذة والسعادة والتحرر! ولربما ذهب أصحاب هذا النحو من التفكير الى ان الإسلام لا يطبق الا بالقوة والسيف وان الدين عندهم في احسن صوره عبارة عن ترك الحياة والسعادة الدنيوية من اجل نيل سعادة أخرى بعد الموت.

وهذا النحو من التفكير يبعد الناس ولاسيما الشباب عن الدين ويجعلهم

يعتقدون انه نظام يلغي الحياة ويحرم الانسان من السعادة.

ص: 160

وهذا النحو من الفكر ناشئ عن فهم قاصر للدين وقد واجه

القران الكريم ونهج البلاغة هذا التفكير التشاؤمي السلبي والتقبيحي فالقران عبر عن الأوامر والنواهي الإلهية انها مصدر الحياة الحقيقية (يَاَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِما يُحييكمۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِۧ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )(1)

وربط القران الكريم بين الالتزام الكامل بالدين وبين نزول البركات والخيرات والامن والرزق وحل جميع مشاكل البشرية، قال تعالى

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )(2)

وقال تعالى ﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَلِغْ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ ((3)

وقال تعالى ﴿وَأَلَّوِ ِ اسْتَقَمُوا عَلَى الطَّرِ ِيقَةِ لَأَسْقَيْنَهُم مَّآ ًٴغَدَقَا (4)أي نعمة كثيرة

وخلافا لما يتصور البعض في القصاص انه عامل موت وهلاك فقد وصفه القرآن انه عامل حياة للمجتمع

قال تعالى ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ ِ حَيَوةٌ يَااُولِي الْأَلْبَبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )((5)) وان إقامة الحدود هدفها رفع الظلم عن المجتمع

ص: 161


1- الانفال 24
2- الأعراف 96
3- الطلاق 3
4- الجن 16
5- البقرة 179

قال تعالى ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ((1)) ومن يسبر غور آيات القران وكلمات نهج البلاغة فانه سيكتشف ان الإسلام دين الحياة الطيبة والدولة الكريمة ودين المحبة والامن والسلام وتحطيم الاغلال والجدران والانطلاق في الافاق المفتوحة.

وقد عالج نهج البلاغة هذا التفكير التشاؤمي ككل، وأوضح لنا حقيقة الإسلام أنه دين الحياة والمحبة والتحرر وتحطيم الأغلال والانطلاق في الآفاق المفتوحة نحو اللذات العالية الحياة الأبدية، وليس دين القيود والأثقال والعنف، نعم هو دين الشعور بالمسؤولية تجاه العباد والبلاد والبقاع والبهائم، وإنّ الإنسان إذا قام بهذه المسؤولية وحقق درجة الفكر والشعور والإرادة الإنسانية التي يسميها القرآن الكريم بالتقوى، فإنّ السعادة الإنسانية على مستوى الفرد والمجتمع سوف تتحقق، قال عليه السلام في الخطبة (168) في أول خلافته : (إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ كِتَاباً هَادِياً بَيَّنَ فِيهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَ فَخُذُوا نَهْجَ الخَيْرِ تَهْتَدُوا وَاصْدِفُوا عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ تَقْصِدُوا الْفَرَائِضَ الْفَرَائِضَ أَدُّوهَا إِلَى اللهَ تُؤَدِّكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِنَّ اللهَ حَرَّمَ حَرَاماً غَيْرَ مَجْهُولٍ وَ أَحَلَّ حَلَالًا غَيْرَ مَدْخُولٍ وَفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحُرَمِ كُلِّهَا وَ شَدَّ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ حُقُوقَ المُسْلِمِينَ فِي مَعَاقِدِهَا فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَ يَدِهِ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَحِلُّ أَذَى المُسْلِمِ إِلَّا بِمَا يَجِبُ بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ وَخَاصَّةَ أَحَدِكُمْ وَهُوَ المُوْتُ فَإِنَّ النَّاسَ أَمَامَكُمْ وَإِنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ اتَّقُوا اللهَ فِي عِبَادِهِ وَ بِلَادِهِ فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عن البقاع وَالْبَهَائِم أَطِيعُوا اللَّهَ وَلَا تَعْصُوهُ وَإِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ).

وهذه الآثار العظيمة للتقوى تعتمد على تحقيق التقوى بمعناها الشامل الذي أساسه معرفة الله والنفس والكون، والشعور بالمسؤولية تجاه العباد والبلاد والبقاع والبهائم أي البيئة والحيوان النبات والبر والبحر والفضاء، وهذه المسؤولية لا تتحقق إلا بالبحث والتحقيق والتطوير والاستثمار والإنتاج بأعلى وأكمل وأتقن الدرجات، والاستهلاك الأمثل والتوزيع الأعدل عندها تظهر آثار الإيمان والتقوى على الفرد والمجتمع وتتحقق السعادة بمعناها الواسع الشامل الكامل الذي يلغي كل عوالم الخوف والحزن والشقاء ويحول الموت والفناء الى خلود وبقاء.

وحول تأثير التقوى على الفرد والمجتمع، فإنّ نهج البلاغة لم يؤكد على

ص: 162


1- البقرة 229

مسألة بعد التوحيد ومعرفة الله كما أكّد على التقوى وضرورتها وآثارها، ولعل أكثرها تفصيلاً خطبة المتقين (193) على المستوى الفردي، والخطبة (198) على المستوى الاجتماعي، وفيها يقول علیه السلام: (... فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهَ دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُمْ وَبَصَرُ عَمَى أَفْئِدَتِكُمْ وَشِفَاءُ مَرَضِ ٍ أَجْسَادِكُمْ وَصَلَاحُ فَسَادِ صُدُورِكُمْ وَ طُهُورُ دَنَسٍ أَنْفُسِكُمْ وَجِلَاءُ عَشَا أَبْصَارِ ِكُمْ وَأَمْنُ فَزَعِ جَأْشِكُمْ وَ ضِيَاءُ سَوَادِ ظُلْمَتِكُمْ فَاجْعَلُوا طَاعَةَ اللَّهَ شِعَاراً دُونَ دِثَارِكُمْ وَ دَخِيلًا دُونَ شِعَارِكُمْ وَ لَطيفاً بَيْنَ أَضْلاعِكُمْ وَ أَمِيراً فَوقَ أُمُورِكُمْ وَ مَنْهَلًا لحِينِ ِ وُرُودِكُمْ وَ شَفِيعاً لِدَرَكِ طَلِبَتِكُمْ وَ جُنَّةٌ لِيَوْمٍ فَزَعِكُمْ وَ مَصَابِيحَ لِبُطُونِ قُبُورِ ِكُمْ وَ سَكَناً لِطُولِ وَحْشَتِكُمْ وَنَفَساً لِكَرْبِ مَوَاطِنِكُمْ فَإِنَّ طَاعَةَ اللهِ حِرْزَ ٌ مِنْ مَتَالِفَ مُكْتَنِفَةٍ وَ مُخَاوِ ِفَ مُتَوَقَّعَةٍ وَ أَوَارِ ِنِيرَانِ مُوقَدَةٍ فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا وَ احْلَوْلَتْ لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا وَ انْفَرَجَتْ عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا وَ أَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا وَ هَطَلَتْ عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا. وَتَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا وَتَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا وَ وَبَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي نَفَعَكُمْ بِمَوْعِظَتِهِ وَوَعَظَكُمْ بِرِسَالَتِهِ وَ امْتَنَّ عَلَيْكُمْ بِنِعْمَتِهِ فَعَبِّدُوا أَنْفُسَكُمْ لِعِبَادَتِهِ وَ اخْرُجُوا إِلَيْهِ مِنْ حَقِّ ِ طَاعَتِهِ).

وهذه الآثار العظيمة للتقوى تعتمد عى تحقيق التقوى بمعناها الشاملالذي أساسه معرفة الله والنفس والكون، والشعور بالمسؤولية تجاه العبادوالباد والبقاع والبهائم، أي البيئة والحيوان النبات والر والبحر والفضاء،وهذه المسؤولية لا تتحقق إلاّ بالبحث والتحقيق والتطوير والاستثمار والإنتاج

بأعى وأكمل وأتقن الدرجات، والاستهلاك الأمثل والتوزيع الأعدل، عندها تظهر آثار الإيان والتقوى عى الفرد والمجتمع وتتحقق السعادة بمعناها الواسع الشامل الكامل الذي يلغي كل عوالم الخوف والحزن والشقاء ويحول

الموت والفناء الى خلود وبقاء.

ص: 163

وعندما تظهر آثار الإيمان والتقوى على المجتمع تتحول الدنيا إلى دار جميلة، ويراها الإنسان بوابة للحياة الحقيقية الأبدية، ولذلك لم يقبل أمير المؤمنين الذم المطلق للدنيا، واستنكر هذا الذم وذكر صفاتها الحسنة في الحكمة (131): (وَقَالَ وَ قَدْ سَمِعَ رَجُلًا يَذُمُّ الدُّنْيَا: أَيُّهَا الذَّمُّ الدُّنْيَا الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِ ِهَا المَخْدُوعُ بِأَبَاطِيلِهَا أَتَعْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا أَنْتَ المُتَجَرِّ ِمُ عَلَيْهَا أَمْ هِيَ المُتَجَرِ ِّمَةُ عَلَيْكَ مَتَى اسْتَهْوَتْكَ أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ أَ بِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفِّيكَ وَكَمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ تَبْتَغِي لَهُمُ الشَّفَاءَ وَتَسْتَوْصِفُ لَهُمُ الْأَطِّباءَ غَدَاةَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ وَلَا يُجدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ وَ لَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطَلِبَتِكَ وَ لَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ وَ قَدْ مَثَلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ وَ بِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَ دَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَ دَارُ غِنِّى لَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَ دَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللهِ وَ مُصَلَّى مَلَائِكَةِ اللهَ وَ مَهْبِطُ وَحْي الله وَ مَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللهَ اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ فَمَنْ ذَا يَذْمُّهَا وَ قَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا وَنَادَتْ بِفِرَاقِهَا وَ نَعَتْ نَفْسَهَا وَ أَهْلَهَا فَمَثَلَتْ لَهُمْ بِبَلَائِهَا الْبَلَاءَ وَشَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ وَ ابْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ تَرْغِيباً وَ تَرْهِيباً وَ تَخْوِيفاً وَ تَخذِيراً فَذَمَّهَا رِ ِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ وَحَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَكَرَتْهُمُ الدُّنْيَا فَتَذَكَّرُوا وَحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا وَوَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا.

ص: 164

الثامن: التفكير الانهزامي :

وهو التفكير الذي يزرع بالنفس الشعور بالدونية والضعف والحقارة والإحباط وعدم القدرة على التغيير.

والسبب في هذا التفكير هو جهل وغفلة الانسان عن مسؤوليته عن التغيير و امتلاكه القدرة على ذلك، فهو عندما يرى هيمنة أصحاب القوة والمال يحسبهم انهم الرب الواحد القهار وعندما يرى سيطرة الظلم والفساد على مفاصل الحياة ينظر اليها كالقدر الحتمي الذي لا يمكن ان يتغير وكانه الجبال الرواسي التي لا تهتز واحيانا ينظر الى مهنة أو حرفة ورثها من ابيه واجداده وكأنها قد ولدت معه تكوينيا من نطفة أبيه.

وقد اسهم هذا التفكير الكارثي في سيطرة فرد او مجموعات قليلة ودول صغيرة على شعوب وامم كبيرة واستعبادها واذلالها والتحكم بمصائرها، وقد شخص امير المؤمنين علیه السلام علة هذا الروح الانهزامية والشعور بالدونية والضعف في خطابه لأهل الكوفة في الخطبة 27 حين قال علیه السلام (فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الغَارَاتُ وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأُوْطَانُ).

كما في الخطبة 66 أَيُّهَا النَّاسُ، لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ ِ ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ، لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ، وَلَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ)،

وفي الخطبة 29 (لاَ يَمْنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ !وَلا يُدْرَكُ الحَقّ ُ إلَّاَ بِاِلجدِّ)!

وفي الخطبة 34 غُلِبَ وَالله المتَخَاذِلُونَ)!

ص: 165

هذه الانوار العلوية تكشف لنا ان أسباب هزيمة المجتمعات والامم هي:

1- عدم الشعور بالمسؤولية الذي عبر عنه بالتواكل، أي ان كل فرد لا يرى نفسه مسؤولا عن تغيير الوضع الفاسد ومواجهته ويرى ذلك انه وظيفة وتكليف على الآخرين. وهذه الروح الاتكالية لا تجلب الهزائم السياسية والعسكرية وتسلط الأعداء والطغاة فحسب، بل هي تجعل المجتمع متخلفا حتى في مجال الاقتصاد والصحة ونظافة البيئة أيضا، فترى البعض يرى الاوساخ في الشارع وامام بيته ولا يساهم او تجميعها في المكان المحدد لها ويقول انها تكليف الحكومة او البلدية او الاخرين.

وقد عالج امير المؤمنين هذا المرض الاجتماعي الفتاك في اول خطب له في خلافته عندما قال في الخطبة 167 (اتَّقُوا اللهَ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، فَإِنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ،)

2- التخاذل وهو شعور الفرد بالعجز وعدم القدرة على التغيير والمواجهة ونقل هذا الشعور المثِّبط؛ الى الاخرين فهو يرفع شعار ( لا استطيع) او ( لا نستطيع) او (لا) يمكن) او (يستحيل).

ففي مواجهة الطغاة والمفسدين والمحتلين يقول البعض: لا نستطيع ان نفعل شيئا وعلينا ان نكون تابعين اذا اردنا ان نعيش وفي مجال الاقتصاد يقول لا نستطيع ان نصنع وننتج والغرب يجب ان يصنع وينتج ونحن مَن نستهلك، والغرب يجب ان يكتشف ويخترع ونحن نستورد والغرب يجب ان يفكر وينتج العلم بدلا عنا ونحن يجب ان نكون غلمانا لبنات أفكارهم ويتفضل علينا الغربي ان سمح لنا ان نتعلم نظرياته و ندرسها كالببغاوات و ربما درسناها بعد ان درست و بلت وثبت فشلها وبهذا الفكر الدوني التحقيري التثبيطي الذي ساد على اذهاننا وامات عقولنا استطاعت جزيرة صغيرة في أوربا اسمها

ص: 166

(بريطانيا) ان تحكمنا قرونا من الزمن وأصبح مثلنا الأعلى وقدوتنا ورمز سعادتنا هو (لندن)، وتقر اعيننا وتطمئن قلوبنا اذا راينا على الأشياء عبارة(Made in England).

ولم نكتف بالتبعية لهم في السياسة والاقتصاد بل صرنا نقلدهم ونفتخر بتقمص اشكال ثيابهم وفساتين نسائهم وبناطيلهم واحذيتهم وتسريحات وقصات شعورهم واغانيهم ورقصاتهم وصرنا نستبق ونتفاخر باقتناء مصنوعاتهم والتشبه بهم في كل شيء حتى هيمنوا علينا وتحكموا بمصيرنا وسلبونا كل شيء.

وهل هيمنوا علينا واستعمرونا في عقر دارنا لانهم يملكون العلم والصناعة والسلاح ونحن لا نملك؟

كلا فليس هذا هو السبب الأساسي انما هو سبب فاعليتهم والفاعلية وحدها لا تكفي لاستعمارنا اذا لم تنضم اليها قابليتنا للاستعمار والاستعباد، هذه القابلية التي نشأت من شعورنا اننا لا نستطيع ان نفكر ولا نستطيع ان نكتشف ونخترع ونصنع ونزرع ولا نستطيع ان ندافع بل لسنا مسؤولين عن ذلك !

وقد تنبه المفكر الجزائري (مالك بن نبي )الى هذا المعنى الهام وقال في كتابه (شروط النهضة) : ( وليس ينجو شعب من الاستعمار الا اذا نجت نفسه من ان تخنع لذل مستعمر وتخلصت من تلك الروح التي تؤهله للاستعمار .

ولا يذهب كابوس الاستعمار عن الشعب بكلمات أدبية أو خطابية، وانما بتحول نفسي يصبح معه الفرد شيئا فشيئا قادرا على القيام بوظيفته الاجتماعية جديرا بان تحترم كرامته وحينئذ ارتفع عن قابليته للاستعمار وبالتالي لن يقبل حكومة استعمارية تنهب ماله وتمتص دمه ).

ص: 167

وقال في موضع اخر من الكتاب ان القضية عندنا منوطة أولا بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في انفسنا من استعداد لخدمته من حيث نشعر او لا نشعر، وما دام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا وتفتيتها وتبديدها وتشتيتها على أيدينا فلا رجاء في استقلال ولا امل في حرية مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال احد المصلحين: اخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم)(1).

ومن المؤسف جدا ان يكون الخطاب الديني الفارغ من الروح الإلهية المحمدية العلوية هو الذي اسهم بدرجة كبيرة بتأسيس هذا الثقافة التخاذلية الانهزامية وهو خطاب اغفل تربية المسلم على تفعيل عوامل قوته وعزته وكرامته هو الخطاب الذي اهمل ( وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ) و (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) و ( لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)، (لاَ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ) ، (هيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون) وهو خطاب لم يوجه نفوسنا نحو استقذار واستقباح الفرار والانهزام امام الأعداء واستهجان الذل والهوان الحاصل من الخنوع الى الأعداء والنظر اليه بانه عار في الدنيا وعذاب في الاخرة وهو خطاب امير المؤمنين الذي يقول: فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم الا ذلوا وهو القائل في الخطبة 124 . ان الفرار امام الأعداء هو (إِنَّ فِي الْفِرَارِ مَوْجِدَةَ الله، وَالذُّلَّ اللازِمَ، وَالْعَارَ الْبَاقِيَ)، ولا يختص هذا الذل والعار في الهزيمة العسكرية لان الغزو والاذلال والاستعباد لا ينحصر في غزو الأرض انما يشمل الاقتصاد والثقافة وشؤون الحياة الأخرى وهذا ما اكد عليه امير المؤمنين في قوله لاحد أصحابه وهو عامر الشعبي : امنن على من شئت تكن اميره واحتج الى من شئت تكن اسيره واستغن عمن شئت تكن نظيره ((2)) فاذا كنا محتاجين الى الاخرين في

ص: 168


1- شروط النهضة مالك بن نبي ص 30-31 و ص 154-155
2- بحار الانوارج 71 صفحة 411

اقتصادنا وصناعتنا وعلمنا وفي نظامنا الاداري والسياسي فنحن في المنطق العلوي اسراء وعبيد بأيدي اعداءنا يتحكمون بنا كيف ما يشاؤون.

وبدلا من الثقافة المحمدية العلوية الحسينية التي تصنع الامة العزيزة العالية والدولة الكريمة التي يعز بها الإسلام وأهله ويذل بها النفاق وأهله وتهب للامة كرامة الدنيا والاخرة فان اغلب مراكز صياغة الخطاب الديني في الامة وجهت بوصلتها نحو الثقافة الأموية والعباسية في فهم الإسلام وخرجت علماء وخطباء مترفين عديمي الإحساس والشعور ربوا الناس على دين التمائم والتعاويذ والبركة و (المراد) والجنة التي توهب وتعطى بسخاء في مقابل الترانيم والتراتيل واللقلقات والطنطنات حتى بتنا لا نعي من الإسلام الا اسمه ومن الكتاب الا رسمه وصرنا نصلي صلاة نكذب بها على الله ونخدع بها انفسنا عندما نقف امام الله ونقول له (الحمد لله رب العالمين واياك نعبد واياك نستعين )ولسان حالنا وعملنا وحركة اعضائنا وسياستنا واقتصادنا وثقافتنا تسبح بحمد أعداء الله وتسجد وتركع لهم ولا تعبد سواهم ولا تستعين الا بهم ليت شعري ماذا ابقينا الله من نعمة نحمده عليها ؟ وماذا ابقينا له من ربوبية وتدبیر ندیر به حياتنا؟ وكل حياتنا مرتبطة بغيره بل خاضعة لأعدائه فاين هي العبودية الله؟ وأين هي الاستعانة بالله؟ الحق اننا اذا اردنا ان نتوب الى الله فعلينا ان نستغفر الله من صلاتنا هذه التي نصليها له ونكذب بها عليه وهكذا تربت لدينا امة تجهل مصادر وعوامل

قوتها ولا تشعر بالعزة والكرامة ولا تخجل من التبعية والحاجة الى الاخرين ولا تستقبحها ومن الطبيعي ان تكون هذه الامة منهزمة بسبب تخاذلها وشعورها

بالدونية والحقارة.

3-الكسل وضعف الهمة وحب الراحة وانتظار حصول النتائج دون الصبر على مقدماتها وشروطها وقد اعطانا باب العلم والحكمة علیه السلام معادلة هامة في

ص: 169

طريق تحقيق الأهداف في قوله في الخطبة 29 (وَلا يُدْرَكُ الحَقُّ إلا بِالجدِّ!) وقوله في 440 ( ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْم) وقوله في الحكمة 22 (لَنَا حَقٌّ، فَإِنْ أعْطِينَاهُ، وَالأَرَكِبْنَا أَعْجَاز الإِبِلِ ِ، وَإِنْ طَالَ السُّرَى) وقوله علیه السلام لولده الحسن علیه السلام: 31 (خض الغمرات للحق).

فالنصر والعز والغنى والكرامة لا تعطى للنائمين المتكاسلين وانما هي موهبة الله لمن ،وفر،مقدماتها، فهي لمن اعد القوة بكل ما استطاع وهي لمن نصر الله وصبر في ميدان المواجهة وهي لمن مشى في مناكب الأرض وهي لمن جد واجتهد وخاض الغمرات وركب الاهوال لأجل الحق واعتلى ظهور الدبابات وحلق بالطائرات والمركبات الفضائية وسهر الليالي وتحمل الجوع والغربة عن الأوطان ورابط وقاوم وصمد وان طال السرى وبعدت الشقة.

وهكذا يتضح لنا ان المجتمع الذي تربيه الولاية العلوية هو المجتمع الذي ينمو عقله لينتج فكرا عاليا ساميا يجعل افراده يشعرون بالمسؤولية في مقابل أي نقص او ظلم او فساد ويستقبحون التواكل والتنصل عن الواجب ويرونه عارا وشنارا ويشعرون بان العزة والكرامة والسيادة على النفوس الأرض والثروات هي روح الحياة وشرفها وانهم قادرون على تحقيقها ان سلكوا المنهج الصحيح ووفروا المقدمات الموضوعية والشروط اللازمة وعلى راسها اطاعة القيادة الإلهية والتحلي بالوعي والمعرفة والبصيرة اللازمة والصبر والمصابرة والمرابطة.

وعليه فان المجتمع العلوي هو مجتمع الشعور بالمسؤولية والمرابطة والمصابرة والمناصرة والهم والهمة والاقدام لا مجتمع التواكل والتخاذل والتكاسل.

الفكر الاحباطي:

وأما الفكر الإحباطي الذي يبثّه البعض بين الناس ويثبط به عزيمة

ص: 170

المبلغين والمرشدين والقائمين على توعية الامة، بحجة أنّ الفساد قد عمّ الأرض ولا فائدة بعملكم والناس لن يسمعوا كلامكم، فهذا الفكر مخالف لعمل جميع الأنبياء والأوصياء والأولياء الذين أرسلهم الله سبحانه ليتمّوا الحجة على الناس، وتكليف كل إنسان مبلِّغ هو إيصال رسالة الله لمن لم تصل إليه، ونجاح الإنسان وفلاحه في سعيه لأداء تكليفه وبذله أقصى الجهد لأداء التكليف، وهو مقياس الفوز والكمال في المنظار العلوي، ولذلك يقول لولده الإمام الحسن عليهما السلام في الكتاب (31) : (... وَ أَمُرْ بِالمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ وَ أَنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ وَبَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ وَ جَاهِدْ فِي اللَّهَ حَقَّ جِهَادِهِ وَ لَا تَأْخُذْكَ فِي اللَّهَ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَ خُضِ الْغَمَرَاتِ لِلْحَقِّ ِ حَيْثُ كَانَ وَتَفَقَّهُ في الدِّينِ وَ عَوِّدْ نَفْسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى المَكْرُوه...).

فوجود المنكر وكثرته في المجتمع وكذلك قلة المعروف والطاعات، لن يكونا مبرراً للتقاعس والكسل والانسحاب من ساحة الصراع، بل إن العكس هو الصحيح، حيث يتأكد النزول إلى الميدان والقيام بعملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد بأقصى قوة ممكنة، وخوض الغمرات للحق، وبقاء المنكر في المجتمع لا يعني فشل العاملين والدعاة والمجاهدين، ولكي تكون من أهل المعروف فعليك أن تأمر بالمعروف، ولكي لا تكون من أهل المنكر فعليك أن تنهى عن المنكر، ولكي تكون من أهل الحق عليك أن تخوض الغمرات للحق، أي أن أهل الحق هم الذين يغامرون لأجل الحق، ولا يعيرون سمعاً للوم اللائمين وتخدير المخدّرين، وتثبيط المتشائمين المحبطين، ومن المؤسف أنّ هذا التفكير الإحباطي التثبيطي قد أثر على الكثير من الناس الذين كان بالإمكان أن يكونوا عاملين مؤثرين ومغيرين بالساحة، في مقابل أهل الباطل والظلم والفساد، لكنهم انسحبوا من الميدان بسبب اليأس والإحباط والتأثّر السلبي بالعقل الجمعي الحاكم، وغلبة المنكر في المجتمع، وخوفاً من لوم اللائمين وعتب العاتبين، واكتفى البعض بالحياد وراح يبحث عن تل أبي

ص: 171

هريرة والمحلات الآمنة، التي يجد فيها الدعة والعافية والسلامة من النقد والاعتراض، واكتفى بخطابات وأفكار لا تنصر الحق ولا تخذل الباطل، وبالنتيجة فإنّ الميدان خلا لأهل الباطل فسيطروا على شؤون حياة الأمة وجميع ما تملك.

وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علیه السلام في بيانه لأسباب الهزيمة في الخطبة (66) حيث قال:(أَيُّهَا النَّاسُ لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ ِ الْحَقِّ ِ وَ لَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ ِالْبَاطِلِ ِلَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ وَ لَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ...).

وفي الخطبة (27) يقول علیه السلام: (أَلَا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا وَ نَهَاراً وَ سِراً وَ إعلَاناً وَ قُلْتُ لَكُمُ اغْرُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْرُوكُمْ فَوَالله مَا غُريَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ...).

وما نعيشه اليوم هو نتائج التفكير التخاذلي التشاؤمي الاحباطي الذي يريد أن ينتصر الحق وينهزم الباطل؛ وبعد ذلك ينزل إلى الميدان لينصر الحق ويخذل الباطل!

التاسع: التفكير الأحادي النظر

وهو نوع من التفكير شائع في مجتمعاتنا، وهذا التفكير يجعل مشاريعنا عقيمة ومقترنة بالسلبيات الكثيرة، وحلولنا للمشاكل غير ناجعة.

فالسبب هو أننا ننظر فقط إلى العمل الذي نريد إنجازه، أو الغرض الذي نريد تحقيقه، أو المشكلة التي نريد حلّها ولا ندرس الجوانب الأخرى المحيطة بها ولوازمها وما يرتبط بها، وما يمكن أن تتركه من نتائج وآثار جانبية، وأمير المؤمنين علیه السلام في تعريفه للعاقل قال : هو الذي يضع الأمور في مواضعها، وخلافه الأحمق.

ص: 172

ووض۟عِ ِالأمور في مواضعها الذي به يتحقق العقل، يحتاج إلى دراسة عميقة وشاملة لكل عمل يراد تنفيذه، ولذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام في شروط تحقيق العدل في الحكمة (31): (... وَالْعَدْلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى غَائِصِ الْفَهْمِ وَغَوْرِ ِالْعِلْمِ وَزُهْرَةِ الحُكْمِ ورَسَاخَةِ ِالْحِلْمِ فَمَنْ فَهمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْم ومَنَّ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحُكْمِ وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطُ فِي أَمْرِهِ وَعَاشَ في النَّاسِ حَميداً...).

أي أنّ الفهم والتعمق يجعل الانسان يستقي الماء الزلال من شريعته الصافية، حتى يسقي الناس الحكم والعلم الصحيح، وهذا يحتاج إلى الحلم والصبر وإجالة الفكر حتى يخرج العمل صحيحاً ليس فيه تفريط وإهمال، وأمّا مشروع العمل الذي نحلّ به مشكلة للناس، بتسبيب مشاكل أخرى هم، فلا يسمى حلاًّ، بل الأولى أن نسميه مشروع فوضى وصناعة مشكلة جديدة.

فإذا توفرت هذه الأركان، كان هذا الإنسان عادلاً في حكمه ومواقفه ومشاريعه وعاش في الناس حميداً، أي كانت لمشاريعه آثار حسنة يحمده الناس عليها .

فالدوائر القانونية يجب أن تدرس جميع جوانب الموضوع والقضية التي تريد أن تسن لها قانوناً، وتنظر إلى ارتباطها الكامل بالمواضيع الأخرى، فالقوانين المرتبطة بالصناعة والزراعة والتجارة وبناء المدن، يجب أن تراعي الصحة والبيئة والتطرق والمواصلات، وقوانين توزيع الثروات والعمل ومناهج التعليم يجب أن تراعي الأجيال القادمة، وقوانين حريّة الإعلام والتواصل،يجب أن تراعي حفظ الأسرة والأمومة والأبوّة والعلاقات الاجتماعية السليمة.

ومن المؤسف أنّ التفكير الأحادي هو الحاكم على مؤسساتنا ودوائرنا

ص: 173

التشريعية والتنفيذية، فعلى مستوى الدوائر التنفيذية إذا أرادت مؤسسة ما مثلاً تبليط الشوارع، لم تفكر إلا بعملها ولم تنسق مع المؤسسات والدوائر الأخرى كالكهرباء والماء والمجاري والاتصالات وغيرها.

فتعبّد الطريق وبعد مدة قليلة نرى أن دائرة أخرى كالمجاري تأتي وتخرب وتحفر الطريق لأداء عملها وهكذا.

وعندما تريد دوائرنا الأمنية أن تفرض الأمن وتمنع الخروقات، فلا حلّ لها سوى قطع الطرق ومنع حركة الناس.

وعندما يريدون وقاية الناس من الفايروس فلا حلّ لديهم سوى حبس الناس في البيوت وتعطيل الحياة بكاملها، والتخويف والتهويل، ولا ندري هل أنّ من يفرض هذه الأحكام هل درس بعمق ودقة وأجال فكره في كل اللوازم والآثار الجانبية للمسألة؟ وتأكد أنّ آثار الحبس النفسية والاجتماعية وأخطار التهويل والرعب لا تسبب خسائر أكبر من الخسائر المحتملة للفايروس نفسه لو ألغي الحجر العام واستبدل بنظام وقائي آخر؟ والحل الصحيح هو الذي ينتج من اجالة الفكر والنظر الى جميع جوانب المشكلة والاخذ بنظر الاعتبار الاثار السلبية النفسية و الاجتماعية و الاقتصادية التي يتركها الحجر ومنع الناس من أعمالهم وحبسهم في بيوتهم والاهم من ذلك ان التهويل و التخويف و الرعب قد يؤدي الى ضعف المناعة مما يؤدي الى تفعيل استعداد الانسان للإصابة بالفايروس او بغيره، او التسبيب في هيجان الامراض الأخرى و مضاعفة خطرها المبتلى بها الانسان المصاب او المحتمل الإصابة ومضاعفة خطرها عليه فالخوف و الرعب سوف يكون سببا للفتك بالإنسان اكثر من فتك الفايروس نفسه!بل ان الرعب والتخويف والتهويل والحجر والحبس قد يؤدي الى مرض الاصحاء أيضا؟!

ص: 174

وعلى كل حال فإنّ المنهج العلوي لإقامة العدل يفرض على المنتمين إليه أن يدرسوا مشاريعهم وأعمالهم ومشاكلهم دراسة متعددة الجوانب، وشاملة تعالج جميع الاحتمالات وتمنع التأثيرات الجانبية، وعندها يكون الإنسان عادلاً في القول والعمل والموقف والحكم، ولا يصلح شيئاً بفساد أشياء،أو يخرّب أكثر مما يصلح.

العاشر التفكير الانفعالى

وهو الفكر الذي تتحكم به ردود الأفعال والحوادث التي تفرض نفسها على الإنسان، فالكثير منّا لا يخطط ولا يفكر بتنمية وتطوير ما لديه من قابليات وقدرات وثروات، أو كيفية مواجهة حوادث متوقفة، وإنما يكتفي بما هو موجود على حاله، فلا يطور ولا يستشرف والتفكير الصحيح هو التفكير التنموي التطويري والاستشرافي، ومن طبيعة التفكير الانفعالي أن يكون متسرعاً ارتجالياً وأحادي الأبعاد، وغير ناضج ولا يستطيع التغلب على المشكلة والتناغم مع الواقع الجديد المفروض عليه. يقول أمير المؤمنين علیه السلام لولده الحسن عليهما السلام في الخطبة (11): (ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى الْقَوْمِ ...)، وبقوله في الخطبة (6) : (وَ اللَّهَ لَا أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا وَ تَختِلَهَا رَاصِدُهَا وَلَكِنِّي أضْرِبُ بِالمُقْبِل إِلَى الحَقِّ المدير عَنْهُ وَ بِالسَّامِع المُدْبِرَ المطيع الْعَاصِي المُرِيبَ...).

وهو القائل لقومه في الخطبة (27) : (... وَ قُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَالله مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُفَرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا ...).

وكلمات أمير المؤمنين علیه السلام في الحث على التعقل والتفكر وعدم العمل بغير علم كلها تدل على ضرورة التخطيط والبرمجة لكل عمل يريد الإنسان أن يعمله، وأن يفكر قبل كل شيء كي يبصر ويكتشف الطريق الصحيح، ثم

ص: 175

يتكلم أو يعمل أو يتخذ موقفاً أو حكماً على القضايا والأشخاص، يقول علیه السلام في الحكمة (208) : (مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ وَمَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ وَمَنْ خَافَ أَمِنَ وَمَنِ اعْتَبَرَ أَبْصَرَ وَمَنْ أَبْصَرَ فَهِمَ وَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ ) .

الحادي عشر: التفكير الّلا علمي

وهو التفكير القائم على غير العلم، من الروايات الموضوعة والأحلام والخرافات، أو الاشاعات والمبالغات الشعرية، أو ما يسمّيه الخطباء (لسان الحال)، الذي يتحول بالتدريج إلى رواية وحديث في فهم الناس، وقد ساهم هذا النوع من التفكير في إبعاد الناس عن موازين دينهم الحقيقية وجعلهم يتمسكون بالقشور أو الأهداف الوهمية، ومن أهداف هذا التفكير حرف الناس عن مسؤولياتهم الدينية الأصلية، وجعلهم يكتفون بالمظاهر والشعائر وبذل المال فيها على أن هذا العمل كفيل بإدخالهم الجنّة، وحفظهم من العذاب وجلب البركات المادية، ودفع البلاء والأمراض، وقد أنتج هذا التفكير في مجتمعنا فهماً مقلوباً للهوية الولائية والحسينية، حتى أصبح تقييم الانسان الولائي والشيعي والحسيني بما يقوم به من المظاهر الصاخبة، وبما لديه من مجالس ومواكب ووسائل قادرة على جذب عدد أكبر من الناس إليها مهما كانت وسائل الجذب، فالمهم عنده الذي يجلب لشخصه الشهرة والاحترام، أمّا موازين الالتزام الكامل بالدين ومواجهة المنكر والفساد والظلم ومقاومة طغاة العصر ومستكبريه والسعي لإقامة العدل والاهتمام بالفقراء والضعفاء، ونشر الوعي والبصيرة ومحاربة الجهل والجهالة والضلالة التي هي الأهداف الحقيقية لأهل البيت وثورة الإمام الحسين علیه السلام،فلا تكاد أن تجدها في هذه الأوساط إلا قليلاً ممن وفى لرعاية الحق.

وقد نهى أمير المؤمنين علیه السلام بشدة بالغة عن هذا النوع من التفكير القائم على عدم العلم، فقال في وصيته لولده الحسن عليهما السلام في الكتاب

ص: 176

(131): (... وَلَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ وَ إِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ...)، ومع الأسف فإنّ الكثير ممن يرتقي منابر سيد شهداء الإصلاح في هذه الأمة وسفينة نجاتها (الإمام الحسين ) علیه السلام، ولقلة معلوماتهم يلقون على الناس الأحلام والأخبار التي لا أساس لها والسماعيات التي لا مصدر علميا لها، ووصل الأمر بهم أن يقولوا (جاء على ألسن الخطباء كذا)، وبهذا التعبير أدخلوا مصدراً جديداً للشريعة هو ألسن الخطباء، وصار بعضهم لبعض أئمة.

وقد ذمّ أمير المؤمنين علیه السلام من سلك هذا الطريق غير العلمي الموثق في تقسيمه الناس لكميل بن زياد في الحكمة (147) عندما أخذ بيد كميل وأخرجه إلى الصحراء، فلما أصحر تنفس الصعداء وكأنه كان مغموماً ومهمومًا من واقع الجهل وفقدان البصيرة الذي كان يعيشه الناس في ذلك الزمن الكنود، ثم قال علیه السلام: (يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ : إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةً فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ النَّاسُ ثَلَاثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِي وَمُتَعَلِّمْ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةِ وَ هَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقِ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِ ِيحٍ ٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ ِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَلْجَنُوا إِلَى رُكْنٍ ٍوثيقٍ ٍ...).

فالإمام يبيّن أن سبيل النجاة هو الاستضاءة بنور العلم والاعتماد على الركن الوثيق في معرفة الدين الذي هو طريق الإنسان إلى كماله وسعادته في الدنيا والآخرة، فإذا فقد العلم والركن الوثيق المعتبر، أصبح الإنسان في عدّاد الهمج الرعاع الذين يتحركون بالطبول والدمّامات والصياح والنعيق والصور والألوان، لا بالمعاني والأهداف والقيم والموازين، وبعد ذلك يُفصح أمامنا عن مظلوميته وغربته المؤلمة جداً لصاحبه كميل، الذي أخرجه إلى الصحراء ليخلو به ويكشف له أسراره، فيقول:علیه السلام (...إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمْاً (وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةٌ بَلَى أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ مُسْتَعْمِلًا آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا وَ مُسْتَظْهِراً بِنِعَم الله عَلَى عِبَادِهِ وَ بِحُجَجِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ أَوْ مُنْقَاداً

ص: 177

لِحَمَلَةِ الحَقِّ ِ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ يَنْقَدِحُ الشَّکَّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضِ ٍ مِنْ شُبْهَةٍ ...).

أي أنّ من وجدته أما أن يكون قد جعل من الدين دكاناً ومتجراً لكسب الدنيا، أو أن له شعوراً دينياً لكنه يفتقد البصيرة والتشخيص للموازين، فينقدح الشك في قلبه اذا تعرض لأي كلام فيه شبهة وتشكيك،( ألا لا ذا ولا ذاك)، أي إنّ هذين الصنفين لا يتقبلان العلم والمعرفة العلوية، وهناك صنفان آخران أيضاً وهما (أما منهوماً باللذة سلس القيادة لشهوة، أو مغرماً بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين في شيء، أقرب شبهاً بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه، ثم يصف الإمام علیه السلام لكميل حملة العلم الحقيقيين ويقول علیه السلام: (... اللَّهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِم للهِ بِحُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَ إِمَّا خَائِفاً مَعْمُوراً لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهَ وَبَيِّنَانَهُ وَكَمْ ذَا وَ أَيْنَ أُولَئِكَ، أُولَئِكَ وَ اللهَ الْأَقَلُّونَ عَدَداً وَ الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللهَ قَدْراً يَحْفَظُ اللهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ وَ اسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتَرَفُونَ وَ أَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ وَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةُ بِالمَحلِ ِ الأَعْلَی أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهُ فِي أَرْضِهِ وَ الدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ آہِ آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ انْصَرِفْ يَا كُمَيْلُ إِذَا شِئْتَ).

هؤلاء هم أتباع علي الحقيقيون، وهم الدعاة إلى الدين الذين يربّون أحباب علي وشيعته حملة الدين الحقيقي، وهم الذين هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، هؤلاء إذا تصدوا لقيادة وهداية المجتمع ، وصارت المواكب والمنابر ووسائل الإعلام والتواصل بأيديهم، فسوف يربّون مجتمعاً يخرج من دائرة الهمج الرعاع ويدخل في سبيل علم النجاة.

وتبعاً لتعليمات أمير المؤمنين علیه السلام والأئمة الأطهار عليهم السلام على التأكيد

ص: 178

179

على العلم والمصادر الموثوقة في تبليغ الدين إلى الناس، فقد أكد علماؤنا الواعون المخلصون على هذا الأمر، وقد أصدر الإمام السيستاني دام ظله توجيهات قيمة إلى الخطباء والمنشدين (الرواديد) ، يدعوهم فيها إلى تجنب الاعتماد على الأحلام والأخبار الضعيفة والمعاني الهزيلة في خطاباتهم وقصائدهم.

الثاني عشر : التفكير العاطفي:

وهو تفكير قائم على التلاعب بعواطف الناس و دغدعتها، حيث يتم إشغال عقول الناس بأمور عاطفية لا قيمة لها، ولكن لها ارتباط بنحو ما بالدين، ويجري تضخيمها واضفاء قدسية عليها، بحيث ينسى الناس الموازين الحقيقية للتقييم والتبعية، وقد حصل صناعة هذا النوع من التفكير والعقل الجمعي في قضية السقيفة، عندما تم التركيز على الصحابة وكبر ،السن، وتم تضخيم هذا الأمر إلى حد إلغاء كل الموازين الحقيقية للخلافة كالعلم والشجاعة والزهد والعبادة والقرابة والصحابة نفسها، لكن بفارق عمري أقل من الصحابة الآخرين ، فانظر إلى التلاعب بالعواطف كيف ركّز على مسألة صحبة النبي، بحيث أصبحت درجة الصحبة لمن عمره أكبر، تكون أعلى من الصحابي الآخر الذي عمره أقل، وإن كان هذا الأقل عمراً أفضل بكثير من الصحابة الآخرين في كل ملاكات ومقاييس الخلافة والقيادة والأمرة، بما في ذلك قرابته من الرسول صل الله عليه وآله، وكذلك يتعجب أمير المؤمنين علیه السلام في الحكمة (190) ويقول علیه السلام: (وَاعَجَبَاهُ أَتَكُونُ الْخِلَافَةُ بِالصَّحَابَةِ وَلا تَكُونُ بِالصَّحَابَةِ وَالْقَرَابَةِ).

وكذلك تم التلاعب بالعواطف بصرف الناس عن الخليفة الشرعي، وتعبئه الناس لحرب أمير المؤمنين علیه السلام في واقعة الجمل، بالتركيز على زوج رسول الله عائشة، حيث تم تقديس لقب أم المؤمنين واعطائه أكثر من حجمه بكثير، بحيث أصبح بعض أهل البصرة في وقتها مستعدين للتضحية لا من أجل

ص: 179

عائشة فقط؛ بل من أجل جملها !! يقول أمير المؤمنين علیه السلام في الخطبة (13) و (14) في ذم أصحاب الجمل: كُنتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ وَأَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ رَغَا فَأَجَبْتُمْ وَ عُقِرَ فَهَرَبْتُمْ... ) (13)، (خَفَّتْ عُقُولُكُمْ وَ سَفِهَتْ حُلُومُكُمْ فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلِ ٍ وَأَكْلَةٌ لِآكِلِ ٍ وَ فَرِ ِيسَةٌ لِصَائِلٍ ٍ (14).

هذا هو حال المجتمع الذي يهبط مستواه العقلي، ويبتلى بضحالة التفكير والتحجّر، حيث يستطيع الاعلام وجهاز الدعايات والاشاعات أن يوجهه بالاتجاه الذي يريد، فيحوله إلى أكلة أو فريسة ويحقق به أغراضه، ومن أخطر وأسوأ هذا الاستخدام أن يعبّأ المجتمع بالإعلام المضلل، وبشبهة عاطفية دنيئة لبُغض وحرب أفضل وأعظم إمام وقائد إلهي وأكمل قدوة ونموذج للإنسانية، وهو علي أمير المؤمنين علیه السلام .

ومن أمثلة التفكير العاطفي الذي يخدع به عوام الناس، وينحرفوا عن دورهم الأساسي، ويتحركوا بعيداً عن أهداف دينهم وصلاح دنياهم، هو اقتطاع صور مفجعة وحزينة ومؤلمة من حياة الأئمة الطاهرين علیهم السلام والتركيز عليها وإثارة العواطف تجاهها، ومن ثم الهيمنة على العقل المحب لأهل البيت لیختزل تفكيره في هذا الجانب العاطفي، ولا يعرف عن أئمته وقادته سوى المرض والجرح والمظلومية والحزن الذي يوجب على المحب والموالي أن يبكي أو يضرب رأسه، أو يصنع طعاماً لإمامه بحجة أنّه لم يجد في وقت مظلوميته وقتله أو مرضه أو جرحه مَن يبكي عليه أو يصنع له الطعام غافلاً عن حقيقة أنّ هذه المظلوميّة قد تحملها الإمام علیه السلام لأنّه لم يستسلم للظلم والطغيان والفساد، وأصرّ على مواجهة مَن يمنع تحقيق العدل والقسط والقيم الإلهية الإنسانية، وإنه من المصيبة العظمى أن نجد أكثر محبي أهل البيت سلام الله عليهم، لا يعرفون عن أئمتهم أكثر من هذه الصور العاطفية، ولا يرون لأئمتهم سلام الله عليهم حقّا عليهم سوى القيام بهذه المظاهر، وبهذا الخطاب الذي يصنع هذا التفكير

ص: 180

المتحجر الذي يفرّغ سيرة أهل البيت سلام الله عليهم من محتواها ولبها، ويقطعها عن أسسها وأهدافها، فتتحول العاطفة التي أريد لها أن تكون وسيلة للارتباط بالإمام كمبادئ وسيرة وسلوك وأهداف إلى عاطفة بحتة يكون التعبير عنها بكل الوسائل والأساليب الصحيحة وغير الصحيحة، فتكون هي المبادئ وهي الأهداف وهي كل شيء، ولا يحتاج المحب والموالي حتى إلى الأخلاق والآداب ومراعاة ومداراة الناس.

الثالث عشر التفكير الاستبدادي:

وهو مرض عضال في التفكير العربي، حيث أن نرجسية الرأي الشخصي والأنساب والعائلة أو القبيلة أو الحزب، تهيمن على البحث والتحقيق والتفكر وتقوده لصالحها، فنحن إذا جلسنا للتشاور في مسألة معينة، لا نجلس لأجل أن ننتج فكرة متكاملة من جمع وتركيب وتلاقح أفكار يطرحها المشاركون في الاجتماع، وإنما نجلس في الاجتماع وكل واحد منّا قد حسم أمره من قبل وجاء بحكم مسبق، وحضر إلى الجلسة يبحث عن آراء مؤيدة لحكمه، أو يفرض رأيه على الجالسين ليسلِّموا الأمر له أو تنتهى الجلسة دون اتفاق، ويؤول الأمر،أمَّا إلى الرأي الاستبدادي غير السديد أو إلى الاختلاف والتمزق.

وهذا خلاف ما يدعوا إليه المنهج العلوي في التفكير، حيث قال سلام الله عليه في الحكمة (161): (مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا).

ويقول سلام الله عليه في الحكمة (54): (لَا غِنَى كَالْعَقْلِ وَلَا فَقْرَ كَالْجَهْلِ وَلَا مِيرَاثَ كَالْأَدَب وَلَا ظَهير كَالمُشَاوَرَةِ).

ويقول في وصيته لولده الحسن سلام الله عليه في الكتاب (31): (...وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ وَآفَةُ الْأَلْبَابِ...)

ص: 181

ومن هذه الكلمات النوريّة نفهم أن العقول قد خُلقت ليُضم بعضها إلى بعض لأجل الوصول إلى الحقيقة، وإذا ترك الإنسان التشاور الحقيقي وأعجب بما يصدر من نفسه واستبدّ برأيه، فإن ذلك يؤدي إلى عدم الوصول إلى الحقيقة وهو الهلاك، لأنّك إذا لم تصل إلى الحقيقة لم تصل إلى الطريق الصحيح لتحقيق الكمال في الحياة، ونتيجته هي الحرمان والخيبة والهلاك، أو كل واحد يتخذ طريقاً لنفسه وهذا يفضي إلى الاختلاف والنزاع والهلاك.

ومن وصاياه علیه السلام لمالك الأشتر في عهده المعروف، وهو الكتاب (53)، حيث يأمره باتخاذ المشاورين من غير الأئمة علیهم السلام والظلمة والمتملقين والمدّاحين، ويقول علیه السلام:( ... فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلَاتِكَ ثُمَّ ليَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِ ٍ الحَقِّ ٍ لَكَ وَأقِّلَهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ وَ الْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ ِ ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى اَلَّا يُطْرُوكَ وَلَا يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ ٍ لَمْ تَفْعَلْهُ فَإِنّْ كَثْرَةَ الْإطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ ...).

ويؤكد ذلك مرة أخرى في نفس العهد ويقول علیه السلام: (... وَإِيَّاكَ وَالْإِعْجَابَ بنَفْسِكَ وَالثَّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَحُبَّ الْإطْرَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ المُحْسِنِينَ ...)

ومن أهم عوامل التفكير الصحيح وترك التعنت والاستبداد هو تقبل النقد، وعرض الإنسان آرائه على الآخرين لكي يعينوه على كشف ما خفي عليه من مواطن ضعف وأخطاء، وهنا نرى أمير الحق والحقيقة ينهى بشدة عن هذه الصفة السيئة ويُحذّر منها ويقول في الخطبة (113): (... وَإِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللهَ مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلَّا خُبْتُ السَّرَائِرِ وَسُوءُ الضَّمَائِرِ فَلَا تَوَازَرُونَ وَلَا تَنَاصَحُونَ وَلَا تَبَاذَلُونَ وَلَا تَوَادُّونَ مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسير مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ وَلَا يَحْزُنُكُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الْآخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ وَيُقْلِقُكُمُ الْيَسِيرُ

ص: 182

مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ وَقِلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ مِنْهَا عَنْكُمْ كَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ وَكَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَيْكُمْ وَمَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بمَا تَخَافُ مِنْ عَيْهِ إِلَّا تَحَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ قَدْ تَصَافَيْتُمْ عَلَى رَفْض الْآجِل وَحُبِّ الْعَاجِل وَصَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً عَلَى لِسَانِهِ...).

ومن أروع ما ورد عنه في تعامله مع أصحابه وكل ما ورد منه رائع)، هو أنه بعد ما تكلم عن حق الوالي على الرعية وحقهم عليه، قام رجل فأثنى عليه كثيراً وأظهر له سمعه وطاعته، فقال : (... إِنَّ مِنْ حَقٌّ مَنْ عَظُمَ جَلَالُ اللهَ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ وَجَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَم ذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ مَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَلَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ الله عَلَى أَحَدٍ إِلَّا ازْدَادَ حَقُّ اللَّهُ عَلَيْهِ عِظَا وَإِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالَاتِ الْوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ وَيُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ وَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الْإِطْرَاءَ وَاسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ وَلَسْتُ بِحَمْدِ اللَّهَ كَذَلِكَ وَلَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطا للهَ سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَرُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلَاءِ فَلَا تُتْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَإِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقِ لَمْ أَفَرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَفَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنَ إِمْضَائِهَا فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ وَلَا تَتَحَفَظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ وَلَا تُخَالِطُونِي بِالمُصَانَعَةِ وَلَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٌّ قِيلَ لِي وَلَا الْتِمَاسَ إِعْظَامِ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَنْقَلَ الحَقِّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يَعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَنْقَلَ عَلَيْهِ فَلَا تَكُفُوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقِّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِيَ وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِى مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي فَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ تَمَمْلُوكُونَ لِرَبِّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى.

ص: 183

الثاني عشر: تفكير شخصنة الحق:

وهو من التفكير الخطير الذي حذر منه أمير المؤمنين علیه السلام، حيث أن البعض ينظر إلى مظاهر مقدسة عند بعض الناس، فينخدع بهم ويتصور أنهم يمثلون،الحق، ويتطور هذا التصور إلى اعتقاد بأن الحق يتجسد فيهم، حتى إذا ما تمرد الأشخاص أصحاب المظاهر على الموازين اليقينية للحق والإمام الحق المنصّب للإمامة طبقاً للموازين العقلية والشرعية الحقّة، يتركوا الموازين اليقينية للحق والإمام الحق ويتمسكوا بالأشخاص، فقد جاء في الحكمة (262) أن شخصاً اسمه الحارث بن حوط جاء إلى الإمام علیه السلام في معركة الجمل فقاله له : أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلاله؟

فقال علیه السلام يا حارث إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت، إنك لم تعرف الحق فتعرف مَن أتاه،ولم تعرف الباطل فتعرف مَن أتاه فقال الحارث: فإني أعتزل مع سعيد بن مالك وعبد الله بن عمر.

فقال علیه السلام: إن سعيدا وعبد الله بن عمر لم ينصرا الحق؛ ولم يخذلا الباطل !

أي أنّ المقياس النهائي في تقييم الأشخاص هو الحق اليقين، الذي قام عليه الدليلان العقلي والنقلي القطعيان، فمن التزم بالحق ونصره وترك الباطل وخذله، فهو المؤمن الحقيقي، أمَا من خالف الحق اليقين فهو تارك للإيمان وضال مهما كانت مظاهره و مناسکه و سوابقه،فشروط الإيمان الحقيقي هو نصرة الحق وخذلان الباطل، فلا يكفي أن تنصر الحق ولا تخذل الباطل، فالمؤمن الحقيقي هو الذي يخذل الباطل ويقف في وجهه إضافة إلى نصرة الحق، فمن نصر الحق ولم يخذل الباطل فهو في المقياس العلوي لم يحقق شروط الهداية، ولا يستحق أن يكون مثالاً يهتدى به.

وعلى الإنسان الذي يريد أن يشخص الصراط المستقيم في تقييم الأشخاص،

ص: 184

أن يخطو ثلاث خطوات:

*الأولى: أن ينظر إلى الأعلى، أي يعرف الموازين العليا للحق اليقيني، الذي يؤيده العقل اليقيني والنقل القطعي الموافق لأهداف القرآن، فإذا كان الشخص معها فهو مع الحق نظرياً.

*الثانية: أن ينصر الحق الذي تم تشخيصه ويكون تابعاً لإمام الحق.

*الثالثة: أن يخذل الباطل المخالف للحق المذكور، ويواجه أئمة هذا الباطل الذين يمنعون تطبيق الحق ويعادون أئمّته وقادته.

أما أن ننظر إلى أشخاص يقومون ببعض المظاهر والشعائر، أو كانت لهم في السابق مواقف لنصرة الحق، ونعتبرهم ميزاناً للحق، دون النظر إلى أفكارهم ومواقفهم الحاضرة، فهذه شخصنة تؤدي إلى طمس الدين، وظلم رجاله وقادته الحقيقيين، وغلبة الباطل وأهله.

ص: 185

الثالث عشر: التفكير الفردي:

وهو التفكير الذي يتمحور حول الفرد وينسى المجتمع، وهذا التفكير يسلب من الإسلام روحه وحقيقته، لأن روح الإسلام قائمة على تحقيق التقوى الاجتماعية:﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُواْ وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(1)﴾.

الفلاح والنجاح يحصل بعد تحقيق الصبر والمصابرة والمرابطة، والتقوى التي هي تقوى الصبر الفردي والصبر الاجتماعي وهو المصابرة، ثم المرابطة وهي أن يأخذ الانسان موضعه المناسب في مواجهة الأعداء في الداخل والخارج، أي في الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، والجهاد الأصغر وهو جهاد العدو الخارجي، ومن الواضح أن هذه المرابطة لا تتحقق إذا لم يقف الانسان في ميدان الأخلاق والعلاقات الاجتماعية متسلحاً بسلاح التقوى الاجتماعية، وكذلك في ميدان الاقتصاد والسياسة والإدارة والعلم .

وسورة العصر تؤكد هذا المعنى بوضوح عندما يقسم الله سبحانه بعظمته بأنّ الانسان لا يخرج من الخسارة إلا إذا سلك منهج الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(2)﴾.

وكان مقتضى الآية الأولي المناسب للقَسَم﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾(3)، أن يقول ﴿إِلَّا الَّذِي آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ﴾، لكنه انتقل إلى الجمع وذكر الإيمان والعمل الصالح بصيغة الجمع ، لأنّه هو المطلوب للخروج من الخسارة، وكذلك الشرطان المهمان الآخران للخروج من الخسارة وهما التواصي بالحق والتواصي بالصبر، لايتحققان بدون التقوى الاجتماعية، والتقوى الاجتماعية لا

ص: 186


1- آل عمران: 200 .
2- العصر : 3 .
3- العصر : 1-2 .

تتحقق بدون التفكير الاجتماعي، وهذا ما أكد عليه أميرالمؤمنين علیه السلام في خطاباته، وربّى أحبابه وأتباعه الصادقين على روح المسؤولية، والشعور الاجتماعي بأعلى درجاته، أنظر ماذا يقول لولده الحسن علیه السلام في الكتاب (31): ﴿...يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزاناً فيما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ ، فَأَحْبَبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهُ لَهُ مَا تَكْرَهُ هَا، وَلا تَظْلَمُ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَ اسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ ، وَلا تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإنْ قَلَّ ما تعلَمُ، وَلا تَقُل ما لا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ ...﴾

وفي الخطبة (167) يقول علیه السلام: (... اتَّقُوا اللهَ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، فَإِنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِم،أَطِيعُوا اللَّهَ وَلاَ تَعْصُوهُ...)، وقال فيها أيضاً:(...الْفَرَائِضَ الْفَرائِضَ ! أَدُّوهَا إِلَى الله تُؤَدِّكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ . إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ حَرَامَا غَيْرَ مجهولٍ، وَأَحَلَّ حَلاَلاً غَيْرَ مَدْخُولِ، وَفَضَّلَ حُرْمَةَ المُسْلِمِ عَلَى الحُرَم كُلِّهَا، وَشَدَّ بِالْإِخْلاَصِ وَالتَّوحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاقِدِهَا، فَالمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا يَحِلُّ أَذَى المُسْلِمِ إِلا بَمَا يَجِبُ...).

هذه الخطبة ألقاها أمير المؤمنين علیه السلام في أول خلافته، وفيها وضع أساس المجتمع الذي يريد بناءه، وهو المجتمع الولائي القائم على التقوى الاجتماعية، فيقول: إنّ الفرائض والواجبات التي تؤدي بصاحبها إلى الجنّة هي في روحها الشعور بحقوق الإنسان الآخر، والإخلاص والتوحيد يشدّ ويربط حقوق المسلمين في معاقدها، أي مواضعها من الذمم، وهو شعور كل مسلم أنّ ذمته مشتغلة بحفظ حقوق أخيه المسلم الآخر، وإنّ التقوى التي يريدها الله سبحانه من عبده هي تقوى الله، لا في الأمور والعبادات الفردية والشعور الفردي، بل هي تقوى الله في عباده وفي بلاده، ثم يوضح بنحو أجلى ويقول إنّ هذه التقوى هي المسؤولية لا عن العباد فحسب، وإنّما هي

ص: 187

مسؤولية عن البقاع والبهائم أيضاً.

و في آخر لحظات حياته وقبل أن يودع الأمة يؤكد في وصيته، والوصية عادة تكون معبرة عن الأهداف المهمّة التي يريد الموصي تحقيقها بعد حياته فيقول علیه السلام:(أُوصِيكُمَا، وَجَميعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلَاح ذَاتِ بَيْنِكُمْ،... وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطِعَ ...)، وكل فقرات هذه الوصية الخالدة تدعو إلى التقوى الاجتماعية، ( وَالله اللهَ فِي الصَّلاَةِ،فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ)، أي إنها مصدر الطاقة الروحية التي تجعل دين الانسان لا يسقط في صراعات الحياة،الله الله في الجيران كذلك في الأيتام، كذلك في العمل بالقرآن - لا بقراءته وتجويده فقط - الله الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الله الله في الجهاد بكل أنواعه، هذا هو علي وهو القرآن الناطق المتحرك على الأرض في وصيته لولده والإمام من بعده، وفي خطابه لأمته وفي تعليماته في آخر لحظات حياته لمن يريد أن يتبع نهجه، فهو يضع منهجاً تعليمياً وتربوياً يصنع فيه إنساناً يفكّر بالآخرين ويشعر بهم، ومن هذا الفكر والشعور ينطلق ليؤدي فرائضه التي بها يدخل الجنّة، وليست الفرائض مشهدا مسرحياً مركباً من كلمات وحركات وأفعال يحب الله أن يتمتع بمشاهدتها، ثم يكافئ صاحبها بإدخاله الجنّة بعد الموت،وإنما محطات تفعيل وتشغيل لقوى الإنسان الروحية والعقلية والفطرية، كي يشعر بالآخرين ويؤدي إليهم حقوقهم، ويطيع الله عن هذا الطريق، فالوسيلة إلى الجنّة هي عبادة الله وتقوى الله في عباده وبلاده، وبالشعور بالمسؤولية تجاه البيئة والأرض والسماء والفضاء والحيوان والنبات.

عبادة الله والتبعيّة لأمير المؤمنين تصنع الشعور الذي يجعل الإنسان يحب للآخرين ما يحب لنفسه ويكره أن يصدر منه للآخرين ما يكره أن يصدر منهم له، وألا يقول للآخرين ما لا يحب أن يقال له.

ص: 188

هذا هو منهج أمير المؤمنين المترجم لمنهج القرآن الذي تكاد أن تكون كل أوامره وخطاباته جماعية، فهو منهج قائم على التفكير الاجتماعي الذي ينتج الشعور الاجتماعي، ومنه تنتج التقوى الاجتماعية وتتمحور الأمّة جميعا على حبل الله﴿ وَأَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواۚ...﴾(1).

الاعتصام جميعاً بحبل الله وعدم التفرق عنه، والدخول جميعا في حصن ولاية وليّ الله لتشكيل حزب الله﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَلِبُونَ (2)﴾، هذا هو منهج القرآن وعليّ، ولكن إذا جئنا إلى ثقافتنا الدينية نجد أن الفردية حاكمة على الأذهان، وبسبب هذه الرؤية الفردية للعبادات وفقدان التفكير الاجتماعي فقدت عباداتنا أهدافها، ولربما تجاوزت ذلك وتحولت العبادات إلى معاصي وخطايا، مثال ذلك ما يقوم به البعض عندما يؤدي الصلاة والتلاوة ومراسم الدعاء والشعائر والمسيرات، بنحو يعتدي به على حريم الآخرين وأملاكهم وعملهم وصحتهم وراحتهم، وهو يعتقد أنه يؤدي العبادة المطلوبة منه، وما على الآخرين إلاّ احترامه والرضا بكل ما يفعل.

وإذا صام البعض فإنّ على أهلهم وزملائهم أن يعلنوا حالة الإنذار والطوارئ، ويتجنّبوا إثارته بأي شيء، والبعض يسمح لنفسه في طواف البيت أو رمي الجمرات أو سائر المناسك، وكذلك في زيارة مراقد الأئمة الأطهار أن يدفع الناس ويؤذيهم من أجل أن يصل إلى الحجر (الأسود) أو يطوف أو يقبّل الضريح.

وبسبب التفكير الفردي فقدنا نظمنا وأخلاقنا الاجتماعية، وصار البعض منّا يتصرف وكأنّه يعيش وحده في هذا العالم، فتراه يضرب الطابور ونظم

ص: 189


1- آل عمران 103.
2- المائدة: 56 .

المراجعين ويريد من المسؤول أن يستثنيه ويقدمه على الآخرين، ويخالف قوانين السير وإشارات المرور ويمر بالحدائق العامة فيقطع الأزهار، ويشرب العصائر ويأكل الفاكهة ويرمي بالعلب الفارغة والقشور والنفايات في الشارع، وهو في كل ذلك يعتقد أنّ مخالفة شخص واحد لا قيمة لها ولا تضر، فهو يفعل ذلك وهو يفكر أنّه الوحيد في هذه الدنيا الذي يفعل ذلك، ولا يفكر أنّ الآلاف يمكن أن يفعلوا مثل ما فعل، وأنّ الآلاف الذين هم مثله لو قاموا بنفس فعله لحلّت الفوضى في شوارع البلد وأصحرت وأقفرت حدائقه، وامتلأت الأرض بالنفايات والفضاء بالروائح الكريهة، نعم هو قد يفكر بذلك ويكره للآخرين أن يفعلوا ذلك، ولكنه يسمح لنفسه به ولا يسمح للآخرين، وهذا نتائج التفكير الفردي الذي عالجه أمير المؤمنين علیه السلام عندما قال بأنّ الإنسان يجب أن يجعل نفسه ميزاناً بينه وبين غيره، فما تحب أن تحققه لنفسك فأحبّه لغيرك، وما تكره أن يصدر من غيرك فاكرهه لنفسك ولا تسمح لها أن تعمله، ولو كان يفكر كما أمر أمير المؤمنين بتقوى الله في العباد والبلاد، وأنّه مسؤول عن البقاع والبهائم، أي عن سلامة البيئة ونظافتها والمحافظة على الأرض والهواء والأحياء من التلوث، لو كان يشعر بأنّ هذه مسؤولية دينية بها نحقق التقوى، وبدونها نفقد(التقوى) ولا يكون للدين تأثيره المطلوب على الفرد والمجتمع.

فهذا التفكير والشعور الاجتماعي هو الذي يصنع التقوى الاجتماعية والمجتمع الولائي المنظم المرابط، الذي يأخذ كل فرد فيه موضعه ليلتزم بالحق والعدل ويحقق الحكمة والسعادة والكمال له ولغيره.

ص: 190

التفكير الاناني والانطوائي

ومن اسوء أنواع التفكير الفردي هو التفكير الذي يجعل الفرد ينطوي على نفسه ولا يفكر الا بالرأي الذي يناسب ذوقه ومنفعته ومصلحته، فهذا الشخص المبتلى بهذا التفكير لا يمتلك غير العوينات الفردية، وهذا يختلف عن الفكر الاستبدادي الذي يرفض الرأي الآخر، ولا يتقبل النقد والنصيحة، فهنا المحور هو الأنانية والانطواء على المصلحة الفردية، فيمكن أن يتقبل الآخرين ويقدسهم ما داموا مطابقين لمصلحته، فهو ينظر الى العالم وما فيه بعين لا ترى سوى مصلحته و ميوله فاذا كان هناك قانون او قائد او مسؤول او حتى مرجع او عالم ديني او صاحب مقام اجتماعي فانه يقيس كل هؤلاء بما يحققونه له من مصالح و منافع فاذا كان القائد او المتصدي او المرجع يحقق مصلحة المجتمع و الامة و الدين و المذهب أو لكنه يتقاطع مع بعض مصالح هذا الفرد واراءه وأفكاره الشخصية فانه يخالف هذا القائد والمرجع ويبحث عن زلاته ان وجدت وينشرها بين الناس أو اذا لم توجد يتمسك بما يقوله أعداء هذا القائد او المرجع ويقوم بتسقيطه بها فالميزان عنده هو نفسه ومارات وما اشتهت.

وقد وصف امير المؤمنين علیه السلام هذا و امثاله في الخطبة 88 واعتبرهم تمزيق هذه الامة فقال: (فَيَا عَجَباً!وَمَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَا هَذِهِ الْفِرَقِ ِ عَلَى اختِلافِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا ! لا يَقْتَضُونَ أَثَرَ نَبِيِّ، وَلَا يَقْتَدُونَ بَعَمَلِ وَصِيٍّ، وَلا يُؤْمِنُونَ بَغَيْبٍ، وَلا يَعِفُونَ عَنْ عَيْبٍ، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ، المعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا، وَالْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا، مَفْزَعُهُمْ فِي المُعْضِلاَتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَعْوِيلُهُمْ فِي المُهِيَّاتِ عَلَى آرَائِهِمْ، كَأَنَّ كُلَّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ ،قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بَعُريَ ثِقَاتٍ، وَأَسْبَابٍ مُحْكَمَاتٍ.)

ص: 191

التشريعات الفردية

ومن اثار التفكير الفردي المدمرة الاحكام والقوانين التي تصدرها بعض الجهات والمحاكم المدنية المستندة الى ما يسمى بالحرية الشخصية او حقوق الانسان مثل احكام الطلاق وحل الاختلافات المالية والمعاملات التي لا ينظر فيها الى مصالح الاسرة والمجتمع وينظر الى مصلحة الفرد فقط و رغبته ومنها القوانين المدنية التي تعطي الحق للشاب والشابة ان يفعلوا ما يشاؤون بأنفسهم ويظهروا بما يحبون من المظاهر وقد غفل او تغافل ونسی او تناسی هؤلاء المتحمسون لمثل هذه القوانين ان هذه الحرية التي يدعون اليها لا تعود على الاسرة والمجتمع ومستقبل هؤلاء الشباب انفسهم الا بالهلاك والويل.

ان السماح للشباب من الاناث والذكور بالظهور بين الناس بمظاهر اثارة الغريزة باسم الحرية الفردية خدعة مررتها علينا الثقافة الغربية، وهي ناتجة عن اهمال النظر الى الاسرة والمجتمع وتماسكه، وتحطيم أسس العلاقات الاجتماعية الصحيحة القائمة على أساس الزواج المقدس الذي تحكمه الأهداف واللذات العالية والاشباع النقي الطاهر لا فوضى الاثارة الخادعة والنزوات العابرة.

الفقه الفردي

ومن نتائج التفكير الفردي هو عدم التفكير بالمجتمع عند صياغة الخطاب الديني وكذلك عند استنباط بعض الاحكام فيتم التركيز فيها على الفرد دون النظر الى المجتمع الذي يؤدي فيه الفرد عمله الديني مثل بعض الحيل الشرعية التي يوجه اليها البعض لحل مشكلة بعض الاحكام كمسائل الربا مثلاً او المصالحات التي تلغي الديات وتظلم حقوق القاصرين والضعفاء

ص: 192

ويمكن ان نضيف مسالة هامة أخرى في هذا المجال و هي تشخيص درجة العدالة المطلوبة لعلماء الشريعة وحملة الرسالة والخطاب الديني والقائمين بالعمل الثقافي بشكل عام فهل العدالة المطلوبة لهؤلاء هي بنفس درجة عدالة الناس الآخرين التي تتحقق بترك المحرمات و فعل الواجبات؟ اذا ما نظرنا الى هؤلاء كأفراد عاديين فلا فرق بينهم وبين غيرهم في ذلك لكن اذا نظرنا اليهم بما انهم يواجهون جميع افراد المجتمع لأجل هدايتهم و إيصال رسالات الله اليهم و تحقيق اهداف الله في الأرض وعلى راسها إقامة القسط والعدل وإظهار الرحمة الالهية في الأرض أفهنا لا يمكن ان تنجح هذه المهمة و الناس ترى القائد الديني و المبلغ و الخطيب يتمتع بالحياة المترفة المنعمة ويسكن القصور ويملك الضياع و أولاده يتمرغون في النعيم، وأن عدم الاهتمام بهذا الامر يؤدي الى فشل مهمة القيادة الدينية المؤثرة والتبليغ الناجح أو أنه قديحقق نتائج عكسية فهنا لابد ان نشترط على أصحاب هذه المسؤوليات الحساسة ان تكون لهم درجات عالية من العدالة تختلف عن عامة الناس وكما يشترط على العالم و امام الجماعة ان يحافظ على المروءة أوهو ان لا يأكل ماشيا و ان لا تصدر منه حركات غير عرفية و غير لائقة بالفضلاء والعقلاء والاخياراً كذلك ينبغي ان نشترط عليه أن لا يخالف مواساة الناس الفقراء و الضعفاء في مستواهم المعيشي اليس هذا اهم من الأول؟

ولست ادري هل ان الاكل ماشيا او ممارسة الرياضة مع الشباب تعد مخالفة للمروءة وتسبب عدم احترام الناس لعالم الدين،ولكن ظهور رجل الدين ومبلغ الشريعة بمظاهر الترف والبذخ في الاكل والنقل والسكن والتشريفات المكتبية لا يخالف المروءة ولا يؤثر على نظرة الناس اليه وقبولها له؟!(مالكم كيف تحكمون).

ثم ان الارتكاز العقلائي الذي هو اهم الأدلة في وجوب رجوع عوام

ص: 193

الناس الى الخبير بأحكام الدين، وهو الحق لا ريب فيه، لكن اليس هذا الارتكاز أيضا يكون دليلا على ضرورة ان يكون الخبير بالدين متصفا بالعدالة المناسبة لمهمته الكبيرة؟وهي ان يكون قدوة واسوة للناس في عدم التعلق في مظاهر الترف والبذخ،والبعد عن ثقافة الاستهلاك والموضات، وان يكون كما قال امير المؤمنين علیه السلام في الخطبة 209: (إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ، كَيْلاً يَتَبَيَّعَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ!)

ص: 194

الفصل الثاني

موانع العقل العملي (الإرادة)

ص: 195

ص: 196

موانع العقل العملي (الإرادة) :

بعد أن تحدثنا عن موانع التفكير التي تؤدي إلى إنتاج المعلومة غير الصحيحة، أما على مستوى الخواص أو على مستوى العوام، وهناك كان البحث عن العقل النظري أو الحكمة النظرية وما ينبغي أن يعلم.

والآن سوف نتحدث عن العقل العملي وما ينبغي أن يعمل، وهو حديث تنفيذ وتطبيق العلم الصحيح، فالإنسان تارة لا يسلك المقدمات الصحيحة للوصول إلى الحق فهو مقصر ومحاسب على ذلك، لأنه لم يستثمر نعمة العقل للوصول إلى العلم الصحيح النافع، ولم يشخص الحق فصار من الضالين التائهين، وتارة يشخص الحق والباطل، ولكنه لا يملك الإرادة للالتزام بالحق ونصرته، أو ترك وخذلان الباطل ومواجهته من هنا احتاج الإنسان إلى البرهان والدليل والحكمة لأجل تقوية عقله النظري، وإلى ارشاده إلى المقدمات الصحيحة، التي توصله إلى تشخيص الحق والباطل، وتحذيره من موانع التفكير الصحيح، كي لا يقع فيها فتمنعه عن بلوغ الوعي والفهم والبصيرة والفكر الصحيح ، والبصيرة والوعي من شأنه أن يصنع الإرادة لو ترسّخ وتم تقويته وتحول من العقل المفهومي البحت إلى الادراك واليقين القلبي، لكن هناك موانع وعقبات تمنع حصول اليقين القلبي الفعّال، والإرادة الجديّة التي تُحرّك الإنسان نحو العمل، فلابد من أن يلتفت الإنسان إلى هذه الموانع كي يزيلها، وهذا هو دور الموعظة والنصائح الأخلاقية، وتعليم برامج التزكية والتربية والخطوات العملية، لتقوية الإرادة والتأسّي بالقدوة والأسوة الحسنة.

ويمكن أن نقول أنّ نهج البلاغة قسمان:

أحدهما:للعقل النظري والإرشاد إلى صناعة التفكير المتبع للعلم الصحيح،وبيان موانع التفكير والوعي والبصيرة.

ص: 197

والآخر:لتعليم منهج تقوية الإرادة والعقل العملي، وبيان الموانع والعقبات التي تحول بين الإنسان وإرادته.

فالقسم الأول:حكمة وبراهين وحقائق تقوّي العقل النظري وتعالج موانعه.

والقسم الثاني: مواعظ حسنة وأوامر وارشادات وبيان حقائق تقوي العقل العملي والإرادة، وتبين موانع الإرادة وتعالجها .

وهنا نبيّن ما توصل إليه فهمنا القاصر من موانع الإرادة التي ذكرها أمير الحق وبطل الإرادة الحقة فنقول :

المانع الأول: حب الدنيا واتباع الهوى:

وهذا ما أكد عليه وحذر منه بنحو واسع جداً في الكثير من خطبه وحكمه وكتبه إلى ولاته، فقد أشار علیه السلام بنحوٍ واضح إلى أن مشكلة السقيفة - لدى الرؤوس الكبيرة طبعاً - مشكلة نزوة عملية،وليست شبهة نظرية، وأنهم عارفون بالحق لكن منعهم من الالتزام بالحق وتسليمه لأهله أنهم لا يملكون الإرادة التي تجعلهم يتنازلون عن الدنيا لأجل الحق والآخرة، يقول علیه السلام في الخطبة (3) المعروفة بالشقشقية:

(أَمَا والله لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا حَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْخَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ولَا يَرْقَى إِلَى الطَّيرُ ...).

ويقول بعد بیان مظلوميته من خلال تصدي مَنْ قبله وصبره على هذه المظلومية، ثم تصديه إلى الخلافة بعد اجتماع الناس عليه(...فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَتَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوا فِي الْأَرْضِ وَلَا

ص: 198

فَسَادًا ۚوَالْعَقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(1) بَلَى وَاللَّهُ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِ جُهَا...).

وفي الخطبة (42) يقول علیه السلام: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ اتِّبَاعُ الهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ فَأَمَّا اتَّبَاعُ الهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الحَقِّ وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ ...).

وفي الخطبة (109) يقول علیه السلام: (سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَمَعْبُوداً بِحُسْنِ بَلَائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً وَجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً مَشْرَباً وَمَطْعَا وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً وَقُصُوراً وَأَنهَاراً وَزُرُوعاً وَثِماراً ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِباً يَدْعُو إِلَيْهَا فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا وَلَا فِيمَا رَغَبْتَ رَغِبُوا وَلَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا...).

إلى أن يقول علیه السلام: (...أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا وَاصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا وَمَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنِ ٍغَيْرِ صَحِيحَةٍ وَيَسْمَعُ بِأُذُنِ غَيْرِ سَمِيعَةٍ قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ وَأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ ...).(وَوَلِهِتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ فَهُوَ عَبْدُهَا وَمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا وَحَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا لَا يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهَ بِزَاجِرٍ وَلَا يَتَّعِظُ

مِنْهُ بِوَاعِظ ...).

ما هي الدنيا؟

هذه الأنوار العلوية تكشف لنا المقصود من الدنيا التي تمنع الإنسان من الحركة نحو الحق وتشل إرادته وعزمه، فهي التعلقات التي ينشدّ إليها الإنسان، فإذا ما ابتلي يوما بتقاطعها مع الحق لم يستطع أن يتركها لصالح الحق، بل يترك الحق لصالحها، فكل المتعلقات التي يترك الحق والدين لصالحها فهي الدنيا، وليس المقصود من الدنيا هو حب المخلوقات الإلهية،

ص: 199


1- القصص: 83

ولا التعلق بالأهل والمال والولد والعلم والعمل، وحتى الشهادة العلمية والمقام الاجتماعي، فهذه كلها إذا كانت في طريق الحق وهو ما يرضي الله سبحانه ويحقق التكامل المادي والمعنوي للفرد والمجتمع، فهي حق بل هي الدين بعينه، بل لا يقوم الدين بغير ذلك، ولكن المشكلة إذا أصبحت هذه المتعلقات هدفاً أصلياً وأساسياً، فتعلق الإنسان بها كهدف، وتحرك الإنسان لتحقيقها وبلوغها بكل الوسائل،فهنا تكون دنيا مذمومة وتصد الإنسان عن الحق وأهله.

الدنيا المحمودة والدنيا المذمومة:

ميّز أمير المؤمنين علیه السلام بين قسمين من الدنيا، أحدهما محمود والآخر مذموم،وهذا معنى شريف جداً ينبغي الالتفات إليه، ولكنه مفقود عند أكثر الناس،حيث أنّ الأكثرية يفهمون من ذم الدنيا والدعوة إلى تركها وهو معنى متكرر في نهج البلاغة، أنّ المقصود منه ترك السعادة واللذة والحياة، وهذا خطأ شائع في ثقافتنا، والحق أنّ ما يدعوا القرآن والعترة ونهج البلاغة إلى تركه من الدنيا هو الدنيا المذمومة، وهو ما يعني الذي ذكرناه من جعل مفردات الدنيا هدفاً والتعلق بها ونسيان الهدف الحقيقي للإنسان في هذه الحياة، أمّا إذا جعلنا مفردات الدنيا وسائل لبلوغ هدف الإنسان الحقيقي، وهو صيرورته خليفة الله ومظهر لصفات الكمال الإلهي فهنا ستكون دنيا محمودة، وسوف يحصل على لذاتها الطيبة وسعادتها النظيفة الطاهرة النقيّة، فالدين اذن ليس ترك الدنيا مطلقاً، وإنما ترك الدنيا المذمومة، والأخذ بالدنيا المحمودة، فإذا أخذ بالدنيا المحمودة حصل عليها وعلى الآخرة أيضاً، وإذا أصرّ على الدنيا المذمومة فسوف يخسر الدنيا المحمودة والحياة الطيبة الشريفة العزيزة الكريمة،مع خسران الحياة الآخرة وهي الحياة الطيبة السعيدة الأبدية، أنظر إلى هذا المعنى كيف رسمته الكلمات العلوية بأجمل وأبدع بيان في الحكمة (131):

ص: 200

(... إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَدَارُ عَافِيَةٍ لَمِنْ فَهِمَ عَنْهَا وَدَارُ غِنِّى لَمِنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لَمِنِ اتَّعَظَ بِهَا مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّهَ وَمُصَلَّى مَلَائِكَةِ الله وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللهِ وَمَتَجَرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهَ اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ ...).

ويقول علیه السلام في كتابه لمحمد بن أبي بكر وهو الكتاب 27 :( ... وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللهَ أَنَّ المُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَلَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ المُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ المُبَلّغ وَ المَتِّجَرِ الرَّابِحِ ِأَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ تَيَقَنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ الله غداً فِي آخِرَتِهِمْ لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَ لَا يَنْقُصُ هُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ ...).

وهذا الكلام يكشف لنا أن المؤمن عندما يلتزم بمنهج الايمان، ويؤدي أوامر الله، ويترك معاصيه لا يفقد الدنيا، بل إنّه يكسب الدنيا بأحسن مواصفاتها إضافة إلى الآخرة.

وما يقوم به ضعفاء الايمان من ترك الطاعة، أو ارتكاب المعاصي خوفا على دنياهم، فهو ناتج عن جهل بحقيقة المعاصي والمحرمات، وتوهم أن الدنيا ستذهب من أيديهم، ويحرمون منها إذا التزموا الطاعات، أو إذا لم يرتكبوا المعاصي، ولو فكروا بعقل سليم وغذوا عقولهم بالنصائح والمواعظ العلوية، لعرفوا أنّ المؤمن وصاحب التقوى يشارك أهل الدنيا بأحسن ما فيها من طعام ولباس وطيبات، إضافة إلى الآخرة التي ستكون له سعادة ولغير المؤمن حساب وعقاب، وللمؤمن المتقي في الدنيا لذات أخرى إضافة إلى لذة الطيبات المادية وهي لذة الزهد (أصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ)، وهي لذة التحرر وعدم التعلق بالماديات والوقوع في أسرها وأغلالها، واليقين بأنه سوف ينتقل غداً إلى جوار الله، أي إلى الكمال المطلق الأبدي، حيث يصل

ص: 201

إلى مقام له فيه ما يشاء ويريد من اللذات الكاملة والسعادة المطلقة.

المعادلة العلوية في نيل الدنيا :

يرى أمير المؤمنين علیه السلام (وهو لا يرى إلاّ الحق والحقيقة بعينها) أن الدنيا يحصل عليها الإنسان إذا جعلها وسيلة للآخرة فيربحها مع الآخرة، وأما إذا جعلها هدفاً فسيخسرها مع الآخرة.

يقول علیه السلام في الخطبة (82): (مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُها فَنَاءُ! وَآخِرُهَا فَنَاءُ! فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ، وَفِي حَرَامِهَا عِقَابٌ . مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ، وَمَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ، وَمَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ، وَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ، وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ).

أنظر إلى الصورة الرائعة التي ترسمها هذه الكلمات العلوية التي هي حكمة وموعظة في نفس الوقت، فهي تحرك العقل لفهم ما يوجد، وتشحن الفؤاد ليشتاق لما ينبغي أن يعمل، إنّه يقول إنّ من يهرول خلف الدنيا فلن يبلغها ، ومَن يجعلها مرآة وعوينة ينظر بها إلى الآخرة، وإلى أهداف الإنسانية العالية فسوف يرى الوجود بآفاقه المفتوحة المطلقة، ومن يبصر إليها ولا يعرف غيرها فسوف يحبس نفسه في دائرة ضيقة ومعيشة ضنكة، وسوف يكون أعمى عن رؤية الوجود الواسع المطلق والآفاق المفتوحة، ولذلك فإنّ صلاح الدنيا بأن تكون وسيلة للآخرة، وخرابها بنسيان الآخرة، ويقول علیه السلام حول هذا المعنى في الخطبة (223) في وصف الدنيا : ( ... وَلَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بهَا دَاراً وَمَحل مَنْ لَمْ يُوَطَّنْهَا تَحَلَّا وَإِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْحَارِبُونَ مِنْهَاالْيَوْمَ ...).

في الخطبة (133) يقول علیه السلام: (وَإِنَّمَا الدُّنْيَا مَنْتَهَى بَصَر الْأَعْمَى، لاَ يُبْصِرُ : مِمَّا وَرَاءَهَا شَيئاً، وَالْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا، فَالبَصِيرُ

ص: 202

مِنْهَا شَاخِصٌ ، وَالْأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ ، وَالْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوَّدٌ، وَالْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدُ).

فعندما لا يرى الإنسان غير المال والشهوات والمقام شيئاً، فهذه هي الدنيا وهذا الإنسان أعمى عن هدفه الحقيقي، ومنشغل عنه بهدف وهمي زائل لا قيمة له، كمن دعي إلى ضيافة كريمة طويلة الأمد فيها أعلى درجات السعادة والكرامة، وقيل له هذا الباب فافتحه وادخل، ولكنه رأى في الباب بعض اللهو واللعب فانشغل به، وبقي متعلقاً بالباب حتى انتهى وقته المحدود له للدخول إلى الضيافة الكريمة، فهذا الباب قد أعماه وأنساه ما وراء الباب وهي كرامته وحياته الحقيقية التي جاء من أجلها.

وأعتقد أنّ هذه الكلمات تحمل أعظم المعاني التي تفّعل وتنمي العقل العملي وتشحن العزم، وتشحذ الهمم وتصنع الإرادة، فهي تقول للإنسان الذي لا يرى سوى الدنيا، ويترك الطاعة ويفعل المعصية لأجل أن لا تفوته الدنيا، افتح عينيك فانظر الحقيقة ولا تظلم نفسك أيها المسكين، إنك تريد أن تربح القليل الخبيث الفاني الزائل ببيع الكثير الطيب الباقي، لكنك تقدم على هذه المعاملة الخاسرة لأنك لا ترى الطيب الدائم الباقي، فأنت أعمى ولا ترى غير القليل الفاني، فافتح عينيك وأمط اللثام عن بصرك، لترى أنك إذا تركت الحق وإمام الحق لأجل الدنيا، فإنّك تخسر الحياة الطيبة واللذات العالية والشرف السامي والعزّة الباقية والدولة الكريمة والسعادة الأبدية في مقابل لحظات نزوة قذرة فانية، وسورة غضب وعصبية خاسرة وخيال غَلَبَة وتسلط ،تافه و سراب تكاثر وتفاخر و غرور بائر وهالك، فانظر ماذا تفعل بنفسك ؟ ولو أراد أن يخدعك أعدى أعدائك فهل يستطيع أن يفعل بك أسوأ مما فعلت بنفسك ؟! وهل هناك تجارة أشدّ وأعظم خسارة من تجارتك ؟!

ص: 203

وأما الرابح الحقيقي فهو الذي يتأوّه أمير المؤمنين علیه السلام ويبكي شوقاً إلى رؤيته، وحزناً على فراقه أمثال عمار وذي الشهادتين وابن التيهان، وهم من الذين قال علیه السلام فيهم :(... وَبَاعُوا قَلِيلاً مِنَ الدُّنْيَا لاَ يَبْقَى بِكَثِيرِ مِنَ الْآخِرَةِ ليَفْنَى...)(1)،

( وهم الذين عاشوا أعزّاء كرماء مرفوعي الرؤوس والقامات، يحلقون فوق الذرى والقمم، ورحلوا شهداء (... قد- وَالله -لَقُوا اللهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ، وَأَحَلَّهُمْ دَارَ الْأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهِمْ...)، وهم الذين وصفهم لصاحبه همام فلم يتحمل حتى خرجت نفسه من بدنه ليلتحق بهم، وهم المتقون الذين وصفهم إمامهم في الخطبة (193) فقال : (... صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةٌ، تِجَارَةٌ مَرْبِحَةٌ، يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُم أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا ، وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا...) ، ( قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لاَ يَزُولُ، وَزَهَادَتُهُ فِيما لاَ يَبْقَى، يَمْرُجُ الحِلْمَ بِالْعِلْمَ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ. تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَللَّهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً أَكْلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِيزاً دِينُهُ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَکْظُوماً غُيْظُهُ. الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ. يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ. بَعِيداً ،فُحشُهُ، لَيِناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْكَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَيْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ ...)

أمّا ما هي قيمة الدنيا الحقيقية، وهل تساوي شيئاً يستحق أن يفقد الإنسان التقوى من أجله؟ ويترك الطاعة ويرتكب المعصية كي يحصل عليه ؟

يعلّمنا ميزان الحق والحقيقة علي سلام الله عليه ويقول في الخطبة (224): (... وَالله لوَاُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَشَلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ، وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَم جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلي وَلِنَعِيمِ يَفْنَى ، وَلَذَّةٍ لا تَبْقَى نَعُوذُ بِالله مِنْ

ص: 204


1- في الخطبة 182

سُبَاتِ الْعَقْلِ ِ، وَقُبحِ ِ الزَّلَلِ ِ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ).

هذا تقييم أعظم عارف وخبير بقيمة الأشياء، هذا تقييم العالم بحقائق الأشياء وبواطنها وجواهرها، يقول لو طلب مني أن أعصي الله في معصية ومخالفة صغيرة تافهة لا قيمة لها، ولا تعدّ معصية لا شرعاً ولا عرفاً، بل هي مجرد ظلم يسير لنملة بمقدار سلب قشر حبة شعير منها، وفي مقابل هذه المخالفة اليسيرة التي لا تذكر، قالوالي نعطيك لا الآلاف ولا الملايين ولا المليارات ولا آلاف المليارات، بل نعطيك السموات السبع والأرضين السبع بما فيها لم أقبل بتلك المعاملة، لأنها معاملة خاسرة في نظر عليّ، وهي لو حصلت فهي معاملة من أُصيب بسُبات ونوم وتحجّر العقل وقبح الزلل.

هذه الكلمات العلوية تدلّ على أن الدنيا مهما عظمت و عظمت حتى صارت تساوي الكون كله لا تستحق أن يشتريها الإنسان بارتكاب معصية، ولو صغرت وصغرت وكانت بمقدار سلب حشرة قشرة حبة شعير، ومن يفعل ذلك فلا عقل له، ومن يفعل ذلك فقد فعل زلّة قبيحة.

ولو تأمل المرء بعمق في هذه المعادلات العلوية، لاتضحت له حقيقتها، فهي قائمة على إبصار حقائق هذا الوجود، وكشف القيم الواقعية للأشياء، ومَن بلغ هذا المقام المعرفي فإنه سوف يدرك أن الآخرة والحق شيء باق، وإنّ الدنيا والباطل شيء فان، ولا يمكن لعاقل أن يستبدل شيئاً باقياً دائماً مهما صغر بشيء فان زائل مهما كبر ،وعظم، فلا أحد يستبدل ديناراً صحيحاً بألف دينار مزور ومزيف. فما رأيك بمن يستبدل مليارات ال دنانير الصحيحة بدينار مزيف ومزور و ممزق؟ انه الذي يبيع آخرته بدنياه!

ص: 205

الفكر العلوي وصناعة اللذات العالية

كما إن معادلات الفكر العلوي تصنع الشعور بلذات عالية سامية هي لذات الفضائل الإنسانية والباقيات الصالحات، فتصنع إرادة حديدية تجعل الإنسان يرتفع إلى درجة لا يكتفي فيها بأن يترك لذات دنيا المعاصي والباطل لأجل لذات الآخرة والحق، بل يتحمل آلام الدنيا وأتعابها من أجل التمسك بالحق والعدل ونيل تلك اللذات، أنظر ماذا يقول في بداية هذه الخطبة (وَالله لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهْداً، أَوْ أَجَرَّ فِي الأَغْلالِ مُصَفّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْخَطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُها، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُها ؟! ...).

ثم يبيّن لنا تجسيد وتطبيق هذا الاعتقاد والتفاني من أجل العدل والقيم الإنسانية العالية واللذات الباقية، ومع مَنْ؟ مع أقرب الناس إليه وهو أخوه عقيل !! وقد لجأ إليه وهو يشتكي من الفقر الشديد، وماذا أراد من عليّ؟ هل أراد ذهبا ؟ هل أراد أن يبني له قصراً؟ هل أراد منه آلافاً وملايين ؟ هل طلب منه القناطير المقنطرة والمقاطعات والضِّياع والعرصات؟

كلا إنما أراد منه صاعاً من الحنطة (3كغم)، وليس له بل لأطفاله الصغار الذين دكنت واسودت وجوههم، وغُبّرت الوانهم من آثار الفقر والجوع، ولكن عليّاً أبى أن يعطيه ويستجيب له بالطريقة التي تخالف العدل، وتجعله متميزاً على سائر الناس، وعندما يصرّ عقيل على أخيه أميرالمؤمنين علیه السلام ويكرر القول والطلب عليه، يرى علي أن لا يكتفي بجواب الرفض القاطع، بل يجيبه جواباً تأديبياً شديدا وملفتاً للغاية، ليكون درساً له ولجميع الأجيال، لا سيما للحاكمين والمتصدين لإدارة شؤون الناس ، ومَن تصل يده إلى مال

ص:206

الأمّة، أنظر ماذا يقول بطل العدالة الإنسانية في حكاية هذا الدرس الخالد: (... وَالله لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَا حَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَةَ شُعْتَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الْأَلْوَانِ، مِنْ فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِم، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً، وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمَعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمَهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثّوَاكِلُ، يَا عَقِيلُ ! أَتَئِنُ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ! أَتَئَنُّ مِنَ الْأَذَى وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظَىً ...).

وبعد قصة عقيل، يعلّمنا (الإمام علي علیه السلام ) درساً آخر عن شخص متزلّف، ظن أنه يستطيع أن يستميل عليّاً بالهدايا والرشا، فجاءه بوعاء حلوى معجونة وملفوفة بعنوان هدية، فلننظر هنا كيف يتعامل عليّ مع هدايا المتزلفين المتملقين، ورشاوى المرتشين، وكيف يراها بعين بصيرته !

نرى عليّا هنا يزمجر في وجه هذا المخادع، ويزأر كالأسد الهائج، وكما فعل في بدر وخيبر والأحزاب في وجه الوليد وعتبة ومرحب وابن عبد ود، كذلك فعل هنا فالمعركة هي المعركة، بل لعلها هنا أعظم، لأن معلّمه رسول الله صلى الله عليه وآله علّمه أنّ هنا الجهاد الأكبر، وهناك الجهاد الأصغر، فيصرخ بوجهه قائلاً: (... هَبِلَتْكَ الهَبُولُ ! أَعَنْ دِينِ الله أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي؟...)، أي جئتني لتخدعني وتخرجني عن دين الله بهذه الرشوة (أَمُخْتَبِطٌ أَنْتَ أَمْ ذُوجِنَّة، أَمْ تَهْجُرُ ) ، أي إن مَن يفعل ذلك أمّا مختل في عقله ونظامه الادراكي، أو أصابه مس من الجن والشيطان، أو إنّه مريض يهذي بما لا معنى له، هذا هو تقييم إمام الحق والحقيقة لمن يضحّي بقيمة العدل من أجل نزوات مادية تافهة زائلة.

ص: 207

و في الكتاب (45) نرى معلم الإنسانية الخالد يوبّخ ممثله ووكيله وعامله على البصرة، لأنه استجاب إلى وليمة لم يدعَ إليها إلَّا َالأغنياء، وما ينبغي لمن يمثل عليّاً أن يخدش شعور الفقراء والضعفاء، ويتناغم مع الحفلات والولائم الاجتماعية التي تكرّس الطبقية وتخالف الموازين الإلهية في الاكرام والاحترام، فيقول علیه السلام لعثمان بن حنيف الأنصاري : (أَمَّا بَعْدُ، يَا بْنَ حُنَيْف، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلى مَأْدُبَة، فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُحِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنيِّهُمْ مَدْعُوٌ. فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هذَ المُقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنَتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ...)، فإذا كان المشتبه علمه يجب أن يُلفظ ويُرمى من الفم، فكيف بمعلوم الحرمة؟ وكيف يلفظ الإنسان طعاماً إذا لم يشعر بقبحه وقذارته.

الشعور العالي ميزان العلوية :

ما هو الميزان في الانتساب إلى علي ؟ وما الطريق إلى أن أكون علويّاً؟ إنّ ما نفهم من تعاليم ووصايا علي لأصحابه وأتباعه ومحبيه، أنّ التشيّع والولاء والمحبة هو تفاعل ومشاركة في الفكر والشعور والإرادة، هو ليس عملية ربط میكانيكي ظاهري، لأجل تحقيق أغراض مستقبلية قريبة أو بعيدة، كما يرتبط الجندي بالضابط والمحكوم بالحاكم إذا أردت أن تكون علوياً فلابد أن تكون عالياً في شعورك، فحقيقة المنهج العلوي ليس أوامر ونواهي تنفذ طمعاً بوعد أو خوفاً من وعيد، وإنما هو لذات وآلام نقدية حاضرة، ناتجة عن كشف وبصيرة وشعور، والدين إذا لم يصل إلى هذا المستوى من المعرفة والادراك ، فسيبقى ضعيفاً مهزوزاً ومتزلزلاً وتابعاً لظروف وحسابات الربح والخسارة.

ولذلك يقول عليّ علیه السلام لابن حنيف: (... ألاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً، يَقْتَدِي

ص: 208

بِهِ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ. أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طَعْمِهِ بِقَرْصَيْهِ. أَلَا وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أعِينُونِي بِوَرَع وَاجْتِهَادٍ، وَعِفْةٍ وَ سَدَادٍ...).

أي أنّ ميزان التبعية لعلي علیه السلام هو الاقتداء والاستضاءة بنور العلم، وأقل ما في نور علم الإمام هو أنّه يكشف جمال الطاعات ولذّتها العالية، وقبح المعاصي ودناءتها وقذارتها، وأقل آثار هذا العلم على مَن يستضيء بنوره هو أنّه يظهر على صاحبه على شكل ورع واجتهاد وعفّة وسداد، ومَن حقّق في نفسه هذه الصفات الأربع، فقد أصبح عونا وناصراً ومواليً لإمامه، والصفات الأربع لا تتحقق دون الاستضاءة بنور علم الإمام الذي يجعل الإنسان الموالي والتابع يشارك الإمام في لذاته وآلامه، وإذا كان الإمام يقول علیه السلام: (...وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائج هذا الْقَزِّ ِ، وَلكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِی جَشَعِي إِلَى خَيرِ الْأَطْعِمَةِ - وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشَّبَعِ ِ - أَوْ أَبِيِتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى ، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ ببطْنَة *** وَحَوْلَكَ أَكْبَادُ تَحِنُّ إِلَى الْقَدْ

فهو يقول بأنّي قادر على أن أختار لنفسي حياة المترفين الغارقين في النعم الماديّة، ولكن هذا الترف المادي على حساب البطون الطاوية والأكباد الساخنة والأجساد الخاوية في الشعور العلوي من أشدّ الآلام وأسوأ الأدواء.

وعندما يخيّر عليّ بين مواساة الفقراء والجياع بجشوبة العيش وتحمّل مكاره الدهر، وبين ترف المنعمين الشابعين الغافلين يقول: إنّ لذة المواساة ليس كمثلها لذة، وداء الترف على حساب الفقراء ليس كمثله داء، وإنّ ترك المواساة نزول من قمة الإنسانية إلى مستنقع البهيمية (... فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي

ص: 209

أكّْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمُرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ المُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا،...).

أَتَتَليءُ السَّائِمَةُ مِنْ رِعْيِهَا فَتَبْرُكَ؟ وَتَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ؟ وَيَأْكُلُ عَل مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَعَ؟ فَرَّتْ إِذَا عَيْنُهُ إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ المتطاوِلةِ بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ، وَالسَّائِمَةِ المُرْعِيَّةِ !

فالهوية العلوية تقوم على أساس التنمية العقلية،والادراك الذي يجعل الإنسان الموالي والمحب، يقدم على الطاعة والتضحية والعطاء والمواساة والإيثار، ويترك المعاصي والجشع والحرص والرذائل والترف والبذخ، لا يفعل ذلك بعنوان دَين يهبه الله كي يستوفيه بعد الموت، وإنّما يفعل ذلك وهو يشعر بالسّمو والعلو والعزّة والشرف والعنفوان والَلذات العالية، ويحلّق في فضاء الكمال المطلق الأبدي، ويرى أنّ خلاف ذلك تسافل نحو حضيض البهيمية والحياة الضنكة القذرة ومستنقع الرذيلة والنصب والحرمان.

وهل هناك أحد بعد هذه المعرفة وهذا الادراك والشعور، يترك الحق ويقدم على الباطل؟!

المانع الثاني: التعصّب والتكبّر

في الكثير من الأحيان يتبين الحق للإنسان ويعرفه ولكنه لا يتحرك نحو العمل به،بسبب التعصب لرأيه السابق، أو لأنّ الحق خلاف ما يريده لنفسه أو عُصبته أو قبيلته أو حزبه، وهذا التفكير يختلف عن التفكير الفردي الأناني الانطوائي الذي ذكرناه في أن ذاك التفكير يجعل صاحبه لا يرى الحق والقانون الصحيح والقائد الكفوء إلاّ ما حقق مصلحته وطابق رأيه، لكن هنا يُعرف أنه حق ولكن لا يملك الإرادة للعمل وفقاً للحق، ومنشأ هذه العصبية أمراض التكبّر والغرور والإعجاب بالنفس، وقد حذر أميرالمؤمنين علیه السلام من

التنمية العقلية في نهج البلاغة

ص: 210

العصبية ومناشئها، والخطبة (192) المسماة بخطبة القاصعة مخصّصة لعلاج هذا المرض العضال، الذي دمّر الأمم وأهلك الأجيال المتعاقبة، وحقاً إن هذه الخطبة وصفة علاج كاملة، لو تمّت دراستها بعمق وتحليل وجعلناها منهجاً تعليمياً وتربوياً لمدارسنا وجامعاتنا و محافلنا الثقافية، ويمكن ترتيب مراحل تنمية العقل لعلاج العصبية اقتباساً من هذه الخطبة كما يلي:

أولاً : إنّ كمال الإنسان بالتبعية للحق والحق هو الأمر والنهي والحكم والموقف والرؤية المطابقة لواقع الكون والإنسان، ولا يشخّص هذا الحق إلاّ خالق الكون والإنسان، الذي هو خالق ومدبّر ورب ومدير في نفس الوقت،كما أنّ خلقه وربوبيته قائمة على أساس رحمته، فهو ( الله رب العالمين الرحمن الرحيم) خلق الخلق ويدبّره ويهديه لأجل أن يرحمه، وكل ما في الوجود من تكوين فهي مظاهر للرحمة، وكل ما يصل إلى الخلق من تشريع فهو مناهج للرحمة، وكل مَن ترك أحكام الله وتمرّد على أوامره ونواهيه، فقد نازع الله صفة الربوبيّة وتدبير الخلق لأجل رحمته، ومن فعل ذلك فقد نازع الله سبحانه وأراد أن يسلب منه لباس العزّ والكبرياء، ولا نتيجة لمثل هذا العمل إلا الخروج من منهج الرحمة، ومواجهة عقوبة الطرد واللعنة،يقول علیه السلام:(الْحَمْدُلَّلِهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَالْكِبْرِيَاءَ، وَاخْتَارَهُمَا لنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمَا حِميً وَحَرَمَاً عَلَى غَيْرِهِ، وَاصْطَفَاهُمَا لِجَلالِهِ، وَجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ،).

ثانياً: من أجل تربية الإنسان على ترك التكبّر في مقابل مصدر كماله وخيره وهو الله سبحانه، فقد جعل الله له سنّة الاختبار،لأجل ترويضه وتربيته على التواضع لأوامر الله بأن يؤمر بشيء يصطدم مع نزعة التكبر والغرور والخيلاء، وعندما يُحكّم الإنسان عقله على خياله ووهمه ويمتثل أوامر الله، بنجح في عملية الامتحان والاختبار، ويقتلع جذور الكبر والعصبية من نفسه.

يقول علیه السلام:(... ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذلِكَ مَلائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ، لِيَمِيزَ المُتَوَاضِعينَ مِنْهُمْ

ص: 211

مِنَ المُسْتَكْبِرِينَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ القُلُوبِ، وَمَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ :﴿وَإِنِّي خَلِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَبِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ ...﴾(1) اعْتَرَضَتْهُ الحَمِيَّةُ، فَافْتَخَرَ ... ﴾ (1) عَلَى آدَمَ بَخَلْقِهِ، وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ...).

ثالثاً: إنّ ابليس هو قائد وإمام المستكبرين، وهم جنوده وذريّته(...فَعَدُوُّ الله إمَامُ المتعصِّبينَ، وَسَلَفُ المُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ، وَنَازَعَ اللهَ رِدَاءَ الْجُبْرِيَّةِ، وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ...).

رابعاً:تدبّر عاقبة التكبّر والعصبية:عندما يتكبر بعضنا على بعض،فما هي النتيجة ؟ أنا أتكبر وأتعصب لرأيي ولا آخذ كلمة الحق منك،وأنت في المقابل تتعامل بنفس الطريقة،

*أول نتائج هذا العمل هو أنني حرمت من كلمة الحق وأنت أيضاً إذا قابلتني بالتعامل نفسه سوف تحرم من كلمة الحق.

*وثانياً سوف نفقد المحبة فيما بيننا.

*وثالثاً سوف تدب الكراهية ويسود البغضاء.

*ورابعاً سوف تشب نار الاختلاف وبعدها النزاع، هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى الاجتماعي فإذا تعصبت أنا لقبيلتي وعشيرتي وحزبي بالباطل، وأنت أيضاً تعصبت لفئتك وجماعتك بالباطل، وتركنا الحق ولم نتوحد ونجتمع حوله،فقد فقدنا الحق والاجتماع والوحدة والقوة،وسوف يحل محلها الكراهية والبغضاء والشحناء، ومن ثم يحصل النزاع والحروب والقتل، هذه نتائج التكبر،وهذا هو مشروع ابليس وجنده وأعوانه، وقد حذرنا منها أمير المؤمنين علیه السلام بقوله:

ص: 212


1- ص: 71 - 74 .

(... فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ، وَأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ،وإِنَّمَا تِلْكَ الحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي المُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَواتِهِ، وَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ. وَاعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّل عَلَى رُؤُوسِكُمْ، وَالْقَاءَ التَّعَرُّزِ تَحَتْ أَقْدَامِكُمْ، وَخَلَعَ التَّكَثِرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ.وَاتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ،...).

ثم يقول علیه السلام في وصف الكبر، بأنّه نار حمّية الجاهلية، وريح شيطانية فيقول:(...وَلا تَكُونُوا كالمُتكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلِ جَعَلَهُ اللهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ، وَقَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ، وَنَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ ريح الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ، وَأَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).

فالنزعة نحو التعصب الأعمى على حساب الحق هي من أعراض داء العظمة، الذي لا يجلب للإنسان والمجتمع سوى الحرمان والكراهية والدمار فهو نار الحمية التي يضرمها عدو الإنسان ابليس لعنه الله في نفس الإنسان،ثم ينفخ عليها بريح الكبر،لتشتعل وتضطرم وتزداد أواراً لتنتهي بصاحبها إلى الندم حيث لا ينفع الندم، بعد أن مزّق نفسه ومجتمعه وتحمّل مسؤولية آثام وآثار الكبر والحميّة والعصبيّة.

ص: 213

الوقاية من العصبية:

يحذر الأمير على الأرواح والقلوب، والطبيب الشفيق عليها من أخطر الأمراض على النفس والمجتمع ، وهو مرض الكبر والعصبية العمياء، ويبيِّن أعراضه وهي الشعور بالعظمة، وهو شعور فارغ ناتج من نفخ الشيطان ريح الكبر والحمية الجاهلية (... فاللهَ اللهَ في كِبْرِ الحَمِيَّةِ، وَفَخْرِ ِ الْجَاهِلِيَّةِ ! فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ الشَّنَآنِ، وَمَنَافِعُ الشَّيْطانِ،...).

فالشيطان قال كيف أخضع لآدم وهو من طين وأنا من نار! (أنا خير منه فانتفخ واستكبر، وأصيب بداء العظمة المهلك، وأحبط عمله الطويل (فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ ِ اللهِ بِإِبْلِيسَ ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ، وَجَهْدَهُ الجهيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ، لاَ يُدْرَى أَمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ ِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ...).

وحيث أن هذا الكبر يلقح في النفس كراهية الناس (ملاقح الشنآن) فهو بعد أن ابتلى بهذا المرض المدمّر ، أخذ يكره الإنسان ويحاول أن ينقل العدوى إليه، وهنا على الإنسان أن يحذر هذه العدوى، ويقي نفسه منها

(فَاحْذَرُوا عَدُوَّ اللهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ، وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ ، وَأَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ ...)

في هذا التحذير العلوي إشارة إلى ثلاثة جيوش شيطانية نتعرض لها، وعلينا أن نعد أنفسنا لمواجهتها ، وكمالنا وفوزنا في الانتصار بهذه المواجهة، فهنا جيش بايولوجي فايروسي (بدائه)، وهناك جيش إعلامي (بندائه)، وهناك جيش عسكري (بخَيله ورجله).

ويمكن أن نقي أنفسنا من هذه الجيوش عندما نغلق جميع المنافذ بوجهها بواسطة تحصيل التقوى الفردية والاجتماعية، ويتم ذلك بالالتزام بطرق الوقاية من الكبر، وقد أوضح لنا إمامنا وطبيبنا في هذه الخطبة سبيل الوقاية

ص: 214

من الكبر بقوله علیه السلام: (... فَاعْتَبِرُوا بَمَا أَصَابَ الْأُمَمَ المُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْس الله وَصَوْلاتِهِ، وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاتِهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ، وَمَصَارِ ِعِ ِ جُنُوبِهِمْ، وَاسْتَعِيدُوا بِاللهِ مِنْ لَوَاقِحِ ِ الْكَبْرِ ِ، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ ِ الدَّهْرِ ِ ، ... )الطريق هو التفكر بعد النظر إلى الأمم الماضية، وماذا حلّ بها بسبب الكبر ،والعصبية، وما الذي جنَوه من حميّة الجاهلية، وأن يؤدي بنا هذا التفكّر إلى البصر واليقظة (رَحِمَ اللهُ امْرَأَ تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ، وَاعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ)، فإذا أبصرنا فعلينا أن نقي أنفسنا من لواقح الكبر، ونستعيذ بالله منها، كما نستعيذ من طوارق الدهر، فالنفس فيها أرضيّة وقابلية واستعداد لإنتاج شجرة الكبر الخبيثة، وتوليد فراخ الشيطان، وقد أشار إلى هذا المعنى في الخطبة (7) بقوله في وصف هؤلاء: (اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلاكاً، وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً، فَبَاضَ وَفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَنَطَقَ بِأَلسِنَتِهِمْ،...).

فعلينا أن نغلق المنافذ ونسد ثقوب نفوسنا وصدورنا كي لا يخترقها ويضع بيوضه أو ينشر لقاحه عليها.

وعلينا أن نهتم بعملية الوقاية من لواقح الكبر ، كما نهتم بوقاية أبداننا من الأمراض والأوبئة والفايروسات، وكما نبني البيوت ذات الأساس المحكم والجدران الرصينة، حذرا من الزلازل والعواصف والآفات والأعداء، كذلك يجب أن نتوقى من (لواقح الكبر)، ولواقع الكبر هي أفكار ومشاعر تراود الإنسان، ولا يهتم بها ولا يلتفت إلى خطرها، ويتركها تنمو ويغذّيها أحياناً ببعض الأفعال والتصرفات التي تؤدي إلى ترسيخها في النفس وتتحول بالتدريج إلى طغيان وتسلط وظلم للآخرين، لاسيما إذا امتلك الإنسان الوسيلة والأدوات لإظهارها من المال والسلطة، ويمكن أن نذكر هنا عددا من هذه الأفكار والمفردات السلوكية التي تؤدي دور لواقح الكبر والعصبيّة :

ص: 215

1- أن يشعر الإنسان أنّه أفضل من الآخرين، وأنّ الآخرين يجب أن يحترموه ويبتدئوه بالسلام.

2- أن يشعر الإنسان أن عائلته أو عشيرته أو مدينته أو قوميّته أو بلده أفضل من الآخرين.

3- أن يشعر بأنّه يجب أن يتكلم، وأن له الحق أن يقطع كلام الآخرين، وهنا كلام لأمير المؤمنين يصف فيه أخاً له في الله ويقول علیه السلام: (كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي الله، وَكَانَ يُعْظِمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، وَكَانَ خَارجاً مِنْ سُلْطَانٍ بَطْنِهِ فَلاَ يَشْتَهِي مَا لاَ يَجِدُ وَلاَ يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ، وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ، وَكَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً! فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَابِ ٍ وَصِلُّ وَادٍ لا يُدْلِيِ بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً، وَكَانَ لاَ يَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِدَارَهُ، وَكَانَ لاَ يَشْكُو وَجَعَا إِلاّ عِنْدَ بُرْئِهِ، وَكَانَ يَقُولُ مَا يَفْعَلُ وَلاَ يَقُولُ مَا لاَ يَفْعَلُ، وَكَانَ إِذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلَام لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ، وَكَانَ عَلَى مَا يَسْمَعُ أحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ ...)

4- أن يشعر إذا دخل إلى مجلس يجب أن يجلس في وسط المجلس أو المقدمة، لا في طرفه أو الصفوف المتأخرة ويرى ذلك معيباً .

5- أن يشعر إذا دخل إلى مجلس فعلى الجالسين أن يقوموا له.

6 - أن يشعر أنّه لا ينبغي لمثله أن يسأل عن أمر يجهله من الأحكام الشرعية والمسائل العلمية والعملية المختلفة، لأن سؤاله يعني أنه جاهل أو أنّه اعتراف بأنّ المسؤول أفضل منه، ولا يريد أن يصدر منه هكذا تواضع، ويعتبره نحواً من الذلة والإهانة.

7- أن يشعر أن يجاوب كل سؤال يطرح عليه، حتى وإن كان الجواب خطاً

ص: 216

ولا يصح أن يقول للسائل - لا أدري-، لأنّ لا أدري تعني أنه جاهل ولا يفهم ، وهنا حكمة مهمة لأمير المؤمنين علیه السلام هي الحكمة (79) يقول فيها: أُوصِيكُمْ بِخَمْسٍ لَوْ ضَرَبْتُمْ إِلَيْهَا آبَاطَ الْإِبِلِ لَكَانَتْ لِذلِكَ أَهْلاً: لا يَرْجُونَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلا رَبَّهُ، وَلا تَخَافَنَّ إلا ذَنْبَهُ، وَلا يَسْتَحْيِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ : لا أَعْلَمُ ، وَلاَ يَسْتَحْيِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعلَم ِلشَّيْءَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ. وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ ِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الْإِيمَانِ كَالرَّأْسِ ِ مِنَ الْجَسَدِ...)

8- أن يشعر أنّ عبادته مقبولة، وأنّه يستحق الجنّة والثواب وأنّه أزكى وأطهر وأقرب إلى الله من كثير من الناس، وإذا جاء ولم يجد مكاناً في الصف الأول من الصلاة يتأذى ويرى أنّ الصفوف المتأخرة غير مناسبةله.

9-أن يدخل إلى مسجد أو محل عبادة فيتصدى للأذان أو قراءة الدعاء دون الاستئذان والتنسيق مع المتولين والمسؤولين عن هذه النشاطات لاعتقاده أنّه الأفضل والأكفاً، وأنّه لا يحتاج إلى اذن.

10- أن يقطع المحاضرة أو الدرس بالأسئلة لا لأجل التعلم وإنّما لأجل أن يفهم الحاضرون أنّه عالم وجريء.

11 - إذا طلب من الآخرين شيئاً أظهر الطلب بصيغة الأمر وبلحن يفهم منه أنّه أعلى وأفضل من المأمور.

12 - الألفاظ واللحن ومستوى الصوت ونبرته التي يستخدمها عند الكلام مع الفقراء والضعفاء تختلف عنده إذا ما تكلم مع الأغنياء والأقوياء.

13- أنّ طريقة مشيه تدل على الاختيال والفخر .

ص: 217

14-أنّه يحب المدح والاطراء ويرتاح للمدّاحين ويتأذى من النقد والنصيحة، وهذا ما حذّر الإمام منه كثيراً في وصيته لولاته: ( ... وَإِيَّاكَ وَالْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ وَالثَّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَحُبَّ الْإِطْرَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ ِ فُرَصِ ِ الشَّيْطَانِ في نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ المُحْسِنِينَ...).

15- إذا دخل في نقاش أو مباحثة علمية أو جدال حول مسألة معينة، وتبيّن أن الحق مع ما يقوله الخصم، فهنا يواصل المراء والدفاع عن رأيه في اللف والدوران ،والمغالطات، ولا يسلّم للحقيقة، لأنّ يرى الاستسلام ضعفاً وذُلاً ومهانة، مع أن الاستسلام للحقيقة هو عين الكمال ودليل على الروح العلمية الطاهرة الباحثة عن الحق والحقيقة.

الوقاية من لواقح الكبر :

وهي أن نمنع هذه الخواطر أن تترسّخ في نفوسنا بأن نرسخ في مقابلها إحضار عظمة الله وأنّ كل الخير والرزق والعزة والكمال والموت والحياة بیده سبحانه، والصلاة التي هي عمود الدين برنامج فكري وعلمي وعملي للوقاية من الكبر، يقول أمير المؤمنين علیه السلام في الحكمة (252): (فَرَضَ اللهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاَةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ،...)، فلو أدرك المصلّي معاني أقوالها وأفعالها وتفاعل معها وخشع فيها لصنعت منه موحداً حامداً عابداً راكعاً ساجداً الله وحده، ولجعلت منه مصدر سلام ورحمة وبركات لعباد الله الصالحين ولخَلق الله جميعاً، لأن الخلْق عيال الله، وأقربهم وأعبدهم إلى الله أفضلهم لعياله.

وإذا ما ترسخت مشاعر الكبر وبذوره الخبيثة في النفس، فالعلاج لها هو أن يقوم الإنسان باقتلاعها بأن يعمل خلافها، وعليه أن يستعين بالله ويطلب منه

ص: 218

الشفاء من هذا المرض المهلك، وأن يستخدم الدواء والعلاج له وهو التواضع للناس بالسلام عليهم وخدمتهم وإظهار التقصير والاعتذار لهم والجلوس في آخر المجلس، والبعد عن المدح والاطراء، وتقبّل النقد والنصيحة، والحضور في مجالس الفقراء ودعوتهم وخدمتهم، مع استعمال أفضل أساليب الإكرام والاحترام لهم، وهذا ما فعله الأنبياء والأولياء مع أنهم أعلم الناس وأفضلهم وأقربهم إلى الله ، فكيف بنا نحن المذنبين القاصرين المقصرين، يقول أمير المؤمنين : ... وَاسْتَعِيدُوا بِالله مِنْ لَوَاقِحَ الْكَبْرِ، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ ، فَلَوْ رَخَّصَ اللهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَد مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنبِيَائِهِ وَأَولِيائِهِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ، وَرَضِيَ هُمُ التَّوَاضُعَ ، فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ ، وَعَفَرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ. وَخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤمِنِينَ، وَكَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ، قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمُخْمَصَةِ، وَابْتَلَاهُمْ بِالمُجْهَدَةِ، وَامْتَحَنَهُمْ بِالمُخَاوِفِ، وَتَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ.....).

ثم بيّن لنا الإمام في هذه الخطبة أنّ منهج الأنبياء في الحياة هو البعد عن مظاهر العلو والاستكبار، والزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخارفها وزبارجها، ولا يؤمن بهم إيمانا صادقاً ويتبعهم بإخلاص إلا من جاء يبحث عن الحقيقة فوجدها عندهم.

ولذلك تربّى سلمان و ابوذر والمقداد وياسر وسمية وعمار وأمثالهم، ثابتين مخلصين متفانين في إيمانهم وتضحياتهم وأخلاقهم وزهدهم إلى آخر المطاف بينما تجد آخرین آمنوا رغبة أو رهبة، لا حبّاً بالحق والحقيقة، فتراهم مذبذبين يتربصون الدوائر وينتظرون الفرصة لينقلبوا على أعقابهم ويعودوا إلى أصلهم.

ويفصل لنا الإمام في برنامج الحج وجعل الكعبة في أوعر بقاع الأرض وأصعبها مناخاً، وأمر الناس بأن يحجوا إلى هذا المكان من مهاوي فجاج عميقة وجزائر بحار منقطعة، ويأمرهم بمجموعة أعمال ومناسك جميعها

ص: 219

مخالفة لما يقتضيه الجمال الظاهري والزينة والتفاخر والكبر والاختيال، ويجعل هذا العمل فرضاً عليهم : (... وامتحاناً شَدِيداً، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً، وَتَمحِيصاً بليغاً، جَعَلَهُ اللهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ، وَوُصْلَةٌ إِلَى جَنَّتِهِ...)، ثم بين الهدف من هذا الفرض وأمثاله من سائر العبادات التي تحتاج المجاهدة وتحمل الشدائد فيقول: (...وَلَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ، بَيْنَ جَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ، وَسَهْلِ وَقَرَارٍ، جَمَّ الْأَشْجَارِ، دَانِيَ الشمارِ، مُلْتَفَّ الْبُنَى، مُتَّصِلَ الْقُرَى، بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ، وَرَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَأَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ، وَعِرَاصِ مُغْدِقَةٍ، وَرَيَاضِ نَاضِرَةٍ، وَطُرُقِ عَامِرَةٍ ...)، فيجعل الحج في أجمل منتجعات سويسرا وجزر اسبانيا ويفرض فيه سباقاً بالمظاهر الجميلة والأزياء البديعة والأطعمة الفاخرة، فلو كان الحج هكذا ! فماذا سوف ينتج ؟؟ ( ... وَلَكِنَّ اللهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَلْوَانِ الْمُجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ المُكَارِهِ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَثْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَانَا لِلتَذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلِيَجْعَلْ ذَلِكَ أَبْوَابَا فَتْحاً إِلَى فَضْلِهِ، وَأَسْبَابَاً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ).

الكبر مصيدة ابليس العظمى:

ثم يعود ويحذر من سوء عاقبة الكبر، ويصفها بأنها(...وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ، فَإِنَّهَا مَصْيَدَهُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى، وَمَكِيدَتهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، فَمَا تُكْدِي أَبَداً، وَلا تُشْوِي أَحَداً، لا عَالِماً لِعِلْمِهِ، وَلاَ مُقِلاً في طِمْرِه ...)، أي أن هذا الفخ الذي نصبه ابليس لا يخطيء أحداً إلا من تحذر منه واتقاه، ولا يأمن منه لا العالم الذي يقول أنا عارف بالدين ولا يخدعني ابليس ولا الفقير، فإن العالم بالدين يمكن أن يتكبر بعلمه الديني على الآخرين، كما إن الفقير يمكن أن يخدع بأمور تافهة، ويكون صيدا للشيطان، ثم يعود علیه السلام لذكر الصيام والصلاة والزكاة ودورها في علاج النفوس من العصبية العمياء، وإخراج الكبر من القلوب فيقول:

ص: 220

(... وَعَنْ ذلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ المَفْرُوضَاتِ، تسكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ، وَتَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ، وَتَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ، وَتَخْفِيضَاً لِقُلُوبِهِمْ ، وَإِذْهَابَا لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ، لَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بالتُّرَابِ تَوَاضُعاً، وَالْتِصَاقِ كَرَائِم الجوَارِحَ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً، وَلُحُوقِ ِ الْبُطُونِ بِالمتونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً، مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ لأَرْض وَغَيْرِ ذَلِكَ إلى أهل المُسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ).

المانع الثالث: الطمع

وهو من شعب حب الدنيا، ولكنه يختلف عن حب الدنيا الذي تحدثنا عنه، في أنّه لذة وهمية لا تعود على بدن الإنسان وغرائزه التكوينية بشيء من اللذة، وكما أنّ العصبية والكبر لذة وهمية، وهي تخيّل الغلبة والتسلط والامتياز على الآخرين، كذلك الطمع لذة وهمية، هي تخيّل المُلك والتكاثر، وإذا ابتلي الإنسان بهذا المرض فإنّه سيفقد إرادته باتباع الحق، لأن الطمع ويلازمه البخل والحرص رذائل تسيطر على نفس الانسان وتسلبه إرادته، بل ويمكن أن تسلبه فکره ووعيه، فینسی نفسه وحاجاته و لذاته البدنية، ومسؤولية أهله وعياله والمجتمع بأسره، فكم رأينا من هؤلاء الذين تحول الطمع والبخل والحرص فيهم إلى ملكة ثابتة راسخة، لا يأتون إلى بيوتهم ولا يرون أزواجهم وأولادهم، ولا يهنؤون بطعام ولباس، ولا ينعمون بالراحة التي اعتاد عليها الناس ، فالطماع يقضي نهاره في صراع مستمر مع الجميع، لأجل زيادة الثروة وتنمية المكاسب والأرباح، ويقضي ليله يفكر كيف يرفع أرقام حساباته المالية المصرفية، ونشوته ولذته في الحياة هي أن يرى الألف قد أصبح عشرة آلاف والعشرة صارت مائة ألف والمائة ألف صارت مليون... وهكذا، فهدفه في الحياة هو زيادة الأصفار، إلى أن يهلك ويتحول إلى صفر، ويذهب من الدنيا

صفر اليدين من الأعمال الصالحة والآثار الطيبة، وقد حذر أمير المؤمنين علیه السلام

ص: 221

من هذا المرض المهلك بقوله لولده الحسن علیه السلام في الكتاب (31): (... وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ ، فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الهَلَكَةِ ...).

ويقول علیه السلام في الحكمة (126): (عَجِبْتُ لِلْبَخِيل يَسْتَعْجِلُ الْفَقْرَ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَيَفُوتُهُ الْغِنَى الَّذِى إيَّاهُ طَلَبَ، فَيَعِيشُ في الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَيُحَاسَبُ فِي الْآخِرَةِ حِسَابَ الْأَغْنِيَاءِ...).

علاج الطمع:

هو تقوية العقل بالتدبر بعاقبة هذه الرذيلة، وإنها تجلب للإنسان النصب والحرمان والعذاب في الحياة الدنيا، والندم والحسرة في الموت والحساب والعقاب في الآخرة، أما في الحياة الدنيا فإنّ الإنسان الذي يهيمن على فكره الطمع والبخل والحرص ويفقد القناعة، فإنه سوف يفقد حياته ولذاته الطيبة الفردية والاجتماعية، بل ويفقد الإنسان عزته وكرامته أيضاً، يقول أمير المؤمنين علیه السلام في الحكمة (2):(أَزْرَى بِنَفْسِهِ مَنِ اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ ...)، وفي الحكمة(3):الْبُخْلُ عَار ...)، وفي الحكمة (226):(الطَّامِعُ فِي وِثَاقِ الذُّلّ)، والسبب و أنّ الطمع خيال ووهم يجعل الإنسان يشعر بأنّه بحاجة إلى إكثار المال، وكلما حصل على المال ازداد عطشه وشعوره بالفقر إلى الأكثر، وبالنتيجة فهو يعيش شعور الفقر والنقص والحاجة ويسلك كل السبُل المشروعة وغير المشروعة من أجل تكثير المال، وربما دخل في نزاعات حتى مع أقرب الناس إليه لأجل الحصول على الفلس والدينار،فيكون ذليلا فقيرا مكروهاً، على الرغم من امتلاكه الثروة التي لو استثمرها بعقله لكان أكثر الناس راحة وكرامة وعزّة، والسبب في ذلك الهلاك هو هلاك العقل وسيطرة الوهم والخيال بسبب الطمع ، وكما قال أمير المؤمنين علیه السلام في الحكمة (219) : (أَكْثَرُ مَصَارِع الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ المَطَامِع).

ص: 222

الطمع هو خيال الملك والثروة والفقر إلى المال الذي يصرع العقل ويميته، وهذا يؤكد ضرورة التنمية العقلية وإحياء العقل وحفظه من الموت في ظل تربية أنوار القرآن والعترة الطاهرة علیهم السلام، وكلمات نهج البلاغة التي تجعل الإنسان يدرك أنّ الغنى هو القناعة وهي الحياة الطيبة، وما أعمق كلمة أمير المؤمنين علیه السلام في الحكمة (57 ) عندما يقول: (الْقَنَاعَةُ مَالُ لاَ يَنْفَدُ)، وفي الحكمة (180) (الطَّمَعُ رِقٌ مُؤَيَّدٌ).

إنها معادلة علوية هامة تبيّن أن الغنى والفقر لا يأتيان من خارج نفس الإنسان، وإنما ينطلقان من داخل نفسه تبعاً لفكره وعقله وشعوره، فقد يكون الإنسان مالكاً للمليارات ولكن طمعه بالأكثر يجعله يشعر أنه فقير ومحتاج لأن طمعه قد صرع عقله، فلا تفكير صحيح لديه يقوده إلى أن قيمة المال في استخدامه بتحقيق الاشباع والانتفاع به بما أمكن، وبما يحقق الاستقرار والاطمئنان النفسي- وهو الغنى، لكن الطمع عندما يصرع العقل فإن الخيال والوهم يكون سيد الميدان، وإذا ساد الخيال جاءت صور الفقر والحاجة وقلة الثروة، رغم كثرتها الواقعية، وتسلّطت على النفس، فإذا به يصيح و افقراه واويلاه اسقوني إني عطشان؟ وهكذا يوقع نفسه في الفقر رغم غناه بسبب فقدانه للعقل الذي ينتج الشعور بالقناعة، فالمال الحقيقي في المعادلة العلوية هو القناعة، وهو مال لا ينفد لأنّه فائدة المال في الانتفاع به، والقناعة تجعل الإنسان يتحرك بهدوء واستقرار نفسي للانتفاع بالمال بالصورة الممكنة وإن كان قليلاً، لكن الطمع يجعل الإنسان يشعر بحالة النقص والفقر وإن كان يملك المليارات، فالعقل يجعل الفقير غنياً بالقناعة، وعدم العقل يجعل الغني الثري فقيراً بالطمع والبخل، فما أعظمها من معادلة لإنتاج الحياة الطيبة والراحة والاستقرار القناعة مال لا ينفد والطمع رقُّ ُ مؤبّد وفقر لا ينتهي.

ص: 223

وصدق أمير المؤمنين علیه السلام حيث يقول في تأكيد هذا المعنى في الحكمة (371): )(... وَلاَ كَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقَنَاعَةِ، وَلاَ مَالَ أَذْهَبُ لِلْفَاقَةِ مَنَ الرِّضَى بِالْقُوتِ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ فَقَدِ انْتَظَم الرَّاحَةَ وَتَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ. وَالرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ، وَمَطيَّةُ التَّعَب...).

وصدق علیه السلام عندما سئل عن قوله تعالى: ((فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةٌ)، فَقَالَ: هِيَ الْقَنَاعَةُ).

وقال علیه السلام : كَفَى بِالْقَنَاعَةِ مُلْكاً، وَبِحُسْنِ الْخُلُقِ نَعِيماً ) .

هذا ما يجلبه الطمع للإنسان في حياته حيث يجعله محروماً من الحياة الطيبة، والغنى الحقيقي ويجعله ذليلاً فقيرا مكروها في نفسه وفي ذويه، وأما في وقت الموت فإنّ أمير المؤمنين علیه السلام يصف لنا حال هذا المسكين بصورة مفجعة كفى بها موعظة لمن اتّعظ وزاجرا لمن ،ازدجر، وحقاً إنّ التدبّر فيها والتفاعل معها يغسل النفوس من جميع أدران الطمع وأوساخ الغفلة وأقذار الحرص والبخل والجشع، يقول علیه السلام في الخطبة (109) : (... كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وَقَدِمُوا مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ. فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ : اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ المَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ ، وَتَغَيَّرَتْ هَا أَلْوَانُهُمْ ثُمَّ ازْدَادَ المُوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَبَيْنَ مَنْطِقِهِ، وَإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَى صِحَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ، وَبَقَاءِ مِنْ لُبِّهِ، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ !وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالاَ جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّ حَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وَأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، وَيَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ المُهْنَأ ُ لِغَيْرِهِ، وَالْعِبءُ عَلَى ظَهْرِهِ. وَالمَرْهُ قَدْ عَلِقَتْ رُهُونُهُ بهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ المَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ، وَيَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ

ص: 224

يَغْبِطُهُ بِهَا وَيَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ فَلَمْ يَزَلِ المَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ: يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ في وجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلامِهِمْ ثُمَّ ازْدَادَ المَوْتُ الْتِیَاطاً بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ ، قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُربِهِ لا يُسْعِدُ بَاكِياً، وَلا يُجيبُ دَاعِياً. ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخطُّ ٍ فِي الْأَرْضِ ِ، فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ، وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ).

المانع الرابع: التسويف:

المبتلى بهذا المرض يؤجل تنفيذ اعماله الصالحة ومشاريعه الخيرية من اليوم الى الغد، ومن موعدها المقرر الى اشعار اخر حتى تفوته فرصة التنفيذ او يفقد القدرة عليها والظروف المناسبة لها.

وقد حذر امير المؤمنين علیه السلام كثيرا من هذا الداء المهلك، بالتأكيد المتكرر على الاستعداد والجهوزية للانتقال من هذه الدنيا بالمبادرة الى الاعمال الصالحة وعدم تأجيلها. يقول علیه السلام في الخطبة 204 تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللهُ! فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ، وَأَقِلُوا الْعُرْجَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَانْقَلِبُوا بِصَالِحَ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ،)وفي الخطبة 64 يقول علیه السلام: (فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ الله، وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ، وَتَرَحَلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ، وَاسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ وَكُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا ، وَعَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا).

ويقرع امام الحق جرس الحقيقة في اذهاننا وعقولنا وهو ان ما يفصل بيننا وبين حياتنا الحقيقية والأبدية ما هو الا عدد سويعات ومجموعة لحظات سرعان ما تزول وتتصرم فيقول علیه السلام : ( وَمَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ

ص: 225

إلَّا َالْموتُ أنْ يَنْزِلَ بِهِ. وَإِنَّ غَايَةٌ تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ، وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ، لَجَدِيرَةٌ بقِصَرِ المُدَّةِ، وَإِنَّ غَائِباً يَحدُوهُ الجَدِيدَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، لَحَرِ ِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ، وَإِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ بالفَوْزِ ِ اَو الشَّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لِأفْضَلِ ِ الْعُدَّةِ، فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا، مِنَ الدُّنْيَا، مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً . )

في الخطبة 188 يقول علیه السلام: (فَسَابِقُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى مَنَازِلِكُمْ الَّتِي أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا ، وَالَّتِي رُغْبْتُمْ فِيهَا ، وَدُعِيتُمْ إِلَيْهَا. وَاسْتَتِمُوا نِعَمَ اللهُ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ ِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَالْمُجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ . مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ، وَأَسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ، وَأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ، وَأَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ!).

ويحذرنا ليرسخ في عقولنا حقيقة اننا لا نملك حياتنا ولا صحتنا وقوتنا البدنية، كما ان ظروف أداء العمل وشروطه وعوامل نجاحه ليست بأيدينا، فكيف نسمح لأنفسنا بالتسويف وطول الامل والكسل والتقاعس ؟!

يقول علیه السلام في الخطبة 196 (عِبَادَ الله، الْآنَ فَاعملوا، والأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ، والْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ، َوالْأَعْضَاهُ لَدْنَةٌ، وَالمُنقَلَبُ فَسيحٌ، وَالْمَجَالُ عَرِيضٌ قَبْلَ إِرْهَاقِ ٍ الْفَوْتِ، وَحُلُولِ المَوْتِ، فَحَقِّقُوا عَلَيْكُمْ نُزُولَهُ، وَلَا تَنْتَظِرُوا قُدُومَهُ)

وهناك معنى هام ينبغي ان يلتفت اليه الانسان نبهنا عليه كشاف الحقائق والاسرار وقسيم الجنة والنار، وهو انك اذا كنت اليوم قادرا على فعل الطاعات وتجنب المعاصي فلا يدرى بعد التسويف وتمديد الامل وارتكاب المعاصي هل تستطيع ان تتدارك نفسك وتعيدها الى الطريق الصحيح ؟ ام ان نفسك الامارة التي سولت وزينت لك المماطلة والتسويف قد أصبحت تمسك بزمام قلبك بالكامل وافقدتك الفكر والشعور والإرادة للتوبة والعودة والإصلاح. يقول علیه السلام في الخطبة 16( أَلاَ وَإِنَّ الخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا

ص: 226

اَهْلُها، وَخُلِعَتْ لُجُمُهَا، فَتَقَحّمَتْ بهم في النّار.)

أي ان من ركب ظهر المعاصي فانه سوف يفقد لجام نفسه و اختياره وارادته، ويصبح زمام نفسه بيد النفس الأمارة والشيطان !وكيف من يستطيع من امسك الشيطان بلجامه وسيطر على فكره وشعوره و ارادته ان يتخلص من قيادة الشيطان ويعود الى طريق الله؟!

ولذلك يأمرنا في الخطبة 230 ان دائما في حالة التأهب والإنذار الكامل (فَعَلَيْكُمْ بِالجِدِّ وَالْإِجْتِهَادِ، وَالتَّأَهبِ وَالْإِسْتِعْدَادِ، وَالتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ، وَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الدُّنْيَا كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ المَاضِيَةِ، وَالْقُرُونِ الخَالِيَةِ،)

هذه هي صفات شيعة علي واتباع ولايته فلننظر الى انفسنا هل نحن منهم ؟

المانع الخامس: التردد والإحجام:

وهو من امراض العقل العملي المدمرة للإرادة والتي كم أدت الى فشل حياة الكثير وحولت حياتهم الى تيه دائم وماراثون دائري، وهذا المرض ناشئ من فقدان قوة الاقتحام وعدم الجرأة على القيام بالأعمال والتردد والتخوف من تنفيذها على الرغم من وضوح صوابها وصلاحها من الناحية النظرية.

فالإنسان عندما يريد ان يخطو نحو أي عمل فعليه ان يدرس الامر من جميع جوانبه ويستشير به اهل العقل والخبرة، وبعد ان تتأكد لديه مصلحة فعله او ترجح على مفسدة تركه فعليه ان يتوكل على الله وان يقدم على العمل

ولا يتردد.

ولكن البعض ورغم اتمامه الجميع مراحل تنضيج القرار عندما يصل لمرحلة التنفيذ يتردد ويحجم فيقدم خطوة ويؤخر أخرى الى ان تفوت الفرصة ويخسر المشروع ولربما خسر عمره کله بسبب هذا الشك والارتياب المدمر والسبب

ص: 227

في ذلك هو ان هذا الانسان يسمح للخيال والوهم والخوف غير المبرر ان یهجم عليه ويبعد العقل والحكمة عن قيادة نفسه وتنفيذ قراراته او مواقفه الصائبة.

فهو بعد ان يدرس الموضوع ويقطع بعدم او ضعف احتمالات الفشل والخسارة ويرجح عليها احتمالات الفوز والنجاح يأتي الى مرحلة التنفيذ فيسمح لنفسه بعودة احتمالات الفشل والخيبة فيقع في الشك والارتياب الذي قد خرج منه ويعود اليه دون مبرر وسبب عقلائي سوى الخوف وضعف الإرادة وغياب صفة الحسم والقاطعية الضرورية لتنفيذ كل عمل.

وقد عالج امير المؤمنين علیه السلام لهذه الحالة المرضية بقوله علیه السلام في الحكمة 274 (لاَ تَجْعَلُوا عِلْمَكُمْ جَهْلاً ، وَيَقِينَكُمْ شَكّاً ، إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا، وَإِذَا تَيَقَّنْتُمْ فَأَقْدِمُوا .)

أي ان على الانسان ان يسعى لتحصيل العلم واليقين قبل العمل، ولكن عليه ان يحذر من التسويف والمماطلة وتفويت الفرصة بان يقدم على العمل بعد حصول العلم واكمال الشروط اللازمة ولا يدع الوهم يهجم عليه ويحول يقينه الى شك وعلمه الى جهل.

وفي الحكمة 363 يقول علیه السلام(مِنَ الْخُرْقِ ِ المُعَاجَلَةُ قَبْلَ الْإِمْكَانِ، وَالْإِناةُ بَعْدَ الْفُرْصَةِ)

أي ان من الحماقة ان يقدم الانسان على عمل قبل اكمال مقدماته ونضوج فكرته، ولكن اذا ما قد تمت المقدمات اللازمة فمن الحمق والجهالة ان يتأخر الانسان في التنفيذ ويسوف ويماطل حتى تفوت عليه الفرصة ولا يحصد سوى الندم والخسران.

وفي الحكمة 175 يقول علیه السلام إذَا هِبْتَ أمْراً فَقَعْ فِيهِ، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَفِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ)

ص: 228

وهذه الحكمة العظيمة تعلمنا معادلة مهمة جدا في العقل العملي اذا ما طبقناها فإنها سوف تعالج مرض الشك والخوف والإحجام غير المبرر الذي يؤدي الى شلل الفرد والمجتمع ومنع تنميته وتقدمه.

هذه المعادلة تقول علیه السلام : بان خسائر الحذر والاحتراز والتردد عن القيام بالأمر اكبر من خسائر المخاوف المتوقعة عند تنفيذ الامر.

ويمكن ان نعكس التعبير عن هذا المعادلة الهامة بان نقول: ان مصالح الإقدام اعظم من خسائر الإحجام

أي ان فاتورة ثمن الإقدام اقل دائما من فاتورة ثمن التخوف والإحجام

فما أحوجنا الى هذه المعادلات العلوية التي تنمي عقل الانسان بجانبيه

النظري والعملي وتنتج انسانا عالما حكيما وشجاعا مقداما .

هذا هو المجتمع الذي أراد علي علیه السلام بناءه وهو المجتمع الولائي العلوي.

مجتمع ولاية العقل والحكمة والعلم والعمل والإقدام مجتمع لا محل فيه للجهل والجهالة

والافراط والتفريط والحماقة

المانع السادس :التسرّع والعجلة :

وهو مرض ناشئ من ضعف الإرادة الذي يجعل الانسان يتفاعل بسرعة مع المسموعات والمرئيات والمواقف والمقترحات ويستجيب لها ويرتب عليها الاثار العملية التي لا يصح ان تترتب الا على العلم واليقين وهو على ثلاثة

اقسام :

1- التصديق بالأخبار ونشرها. وهو امر هام جدا بما للأخبار من تأثير كبير على امن المجتمع وتماسكه، لذلك اولاه القران الكريم أهمية خاصة حيث لم

ص: 229

يسمح بنشر الاخبار المتعلقة بالأمن السياسي والاجتماعي الا من بعد ان تمر بمرشحات ولي امر الامة وتتم تصفيتها وفلترتها والاذن بنشر وإذاعة ما يصح منها .

قال تعالى ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرُ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَنَ إِلَّا قَلِيلًا (1) وفي سورة النور هاجم القران الكريم العصابة التي تناقلت الاخبار في قصة الافك المعروفة واعتبرهم من الكاذبين والذين ارتكبوا اخطر الاعمال بشاعة وخطر على تماسك المجتمع وامنه قال تعالى ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ ۧ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَنَكَ هَذَا بُهْتَنَّ عَظِيمٌ يَعِظُكُمْ اللهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ((2)).

وحول هذا الامر الحساس يقول امير المؤمنين علیه السلام لصاحبه حارث الهمداني في الكتاب 69: (ولا تحدث بكل ما سمعت به وكفى بذلك كذبا )

ويقول علیه السلام في الحكمة 382) (لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ، بَلْ لاَ تَقُلْ كُلَّ مَا تَعْلَمُ ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَى جَوَارِحِكَ كُلِّهَا فَرَائِضَ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .)

وفي هذا الحديث الهام يرفع الامام علیه السلام المسؤولية تجاه الاخبار والكلام الذي نسمعه من وسائل الاعلام المختلفة درجة اعلى من درجة النهي عن الاخبار بكل ما نسمع أو نرى الى درجة ان الخبر الذي نسمعه لا يحق لنا نشره واذاعته على الرغم من تأكدنا انه حق وانتقاله من درجة الشك والظن الى العلم، فلا يحق لنا ان ننشره في المجتمع الا اذا تأكدنا من صلاحيته للنشر وعدم تسببه في إيقاع الفتن والاختلاف والمساس بوحدة المجتمع وقدسية رموزه وعليه فان

ص: 230


1- النساء : 83
2- النور: 15، 16، 17

طريقة التعامل مع وسائل الاعلام والتواصل التي يأمر امير المؤمنين علیه السلام اتباعه هي التوقف مقابل كل ما يعرض في وسائل الاعلام وعدم نشره الا بعد ان يمر بمرحلتين الأولى تحول الخبر والصورة الى معلومة مؤكدة. الثانية التأكد من صلاح هذه المعلومة للنشر والإذاعة وعدم تأثيرها السلبي على المجتمع.

هاتان المرحلتان بحاجة الى مركز فلترة وتصفية عبّر عنها القرآن الكريم في سورة النساء الآية 83 ب (الاستنباط) وانها من مهام ولي الامر العالم الكفوء الشجاع العارف بزمانه ومجتمعه ومصالحه والمشخص للأعداء واساليبهم.

والله العالم كم أدى غياب هذه القيادة والإدارة عن المجتمع وفقدان هذا النظام الإعلامي الإذاعي وشيوع الفوضى في المجتمع في استقبال الاخبار و اذاعتها الى وقوع مجتمعنا في كوارث على كافة الصعود، فكم من دماء سفكت، وكم من اعراض هتكت وكم من طاهرات بريئات قتلت، وكم من أموال ،نهبت، وكم من قادة علماء اكفاء اتقياء ظلموا !!

وما حدث أخيرا في بلدنا العزيز شاهد حي على نتائج هذا الحدث الكارثي ولم يكن امر عجيبا فهو التاريخ يعيد نفسه والقوم أبناء القوم العجيب هو اننا في كل مرة يهلكنا هذا المرض ولا نفكر بعلاج ولا نراجع الطبيب، ولربما قتلنا الطبيب! لأننا فكم من مرة نستمع لأهوائنا واعداءنا ونترك طبيبنا ولا نصدق ان سبب مرضنا هو عدم اتباع الطبيب ونصدق اعداءنا قولتهم ان سبب مرضنا هو الطبيب!!.

2- التسرع في الحكم على الأشخاص.

شخصية الانسان خط احمر في النظام القيمي الإسلامي، فلا يجوز المساس بها الا اذا تحول الى عدو لدود يريد القضاء على الإسلام وأهله. وما يحصل اليوم في اوساطنا - وللأسف -هو اننا ندمر بناء الاخوة والمحبة والوثاقة والبيت الايماني بأتفه الظنون والاحتمالات.

ص: 231

وهذا ما نهى عنه القران بشدة عندما حرم الظن السيء والتجسس - أي البحث عن الزلات - وحرم التسقيط والاستهزاء قال تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا يَسْخَرٍ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِرُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَب بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَنْ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٓئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِ ِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚوَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (1)

وحذر امير المؤمنين علیه السلام أصحابه من ان يفقدوا اخُوتهم بالسماح لمعاول وفؤوس الاخبار والاشاعات والاراجيف والنائم لهدمها وقال علیه السلام في الخطبة 141 : (أَيُّهَا النَّاسُ ، مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينِ ٍ وَسَدَادَ طَرِيقٍ ٍ ، فَلاَ يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي، وَتُخْطِيءُ السِّهَامُ، وَيَحِيكُ الْكَلاَمُ، وَبَاطِلُ ذلِكَ يَبُورُ ، وَاللهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ. أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ. فسئل علیه السلام عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثمّ قال: الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ، وَالحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ!).

واذا ما سمعت من اخيك كلمة تحتمل معاني كثيرة فاحملها على معناها الحسن وان غلبت احتمالات معانيها السيئة وكثرت قال علیه السلام في الحكمة 360 ( لا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سوءاً، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلاً.) وفي الحكمة 220 : (لَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ الْقَضَاءُ عَلَى الثَّقَةِ بِالظَّنِّ.)

3- الاستعجال في تنفيذ المقترحات والمشاريع. قد تعرض عليك مشاريع جميلة وجذابة فلا تردها واقبلها ولكن لا تعطي وعدا لنفسك ولا لغيرك بتنفيذها قبل التنضيج والدراسة الكاملة.

ص: 232


1- الحجرات: 11، 12

قال علیه السلام في الحكمة 363 ( وقال علیه السلام : مِنَ الخُرْقِ الْمُعَاجَلَةُ قَبْلَ الْإِمْكَانِ، أَي ان تنفيذ المشاريع قبل التأكد من القدرة على اكمالها وتوفر الظروف لبلوغها النتائج المطلوبة هو نحو من الحماقة لان المشروع على الورق يختلف عن المشروع على الأرض.

ويقول علیه السلام في الخطبة 5 : (وَمُجتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارع بِغَيْرِ أَرْضِهِ.) ففي هذا النور العلوي نكتشف أهمية التأني في تنفيذ مشاريع التغيير والإصلاح الى حين تكميل جميع مقدماتها وشروطها اللازمة وان الاستعجال في التنفيذ قبل اكمال الشروط والتمهيد الكامل قد يؤدي الى ان تكون ثمار المشروع لغير القائمين به ولربما كانت للأعداء العالم.

ومن الاستعجال المهلك التفاعل السريع مع المقابل بإظهار الجواب الارتجالي او التعليق او النقد غير المدروس، وكم سبب هذا الضعف في الإرادة والعقل العملي وعدم السيطرة على اللسان من نزاعات و اختلافات ممزقة للحمة المجتمع ونسيج الاخوة والمحبة وادى الى خسائر لا يمكن ان تجبر وقد حذر امير المؤمنين من هذا المرض واكد على السيطرة على اللسان وعدم التسرع في الكلام وقال علیه السلام في الحكمة 381 (الكَلامُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخْرُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْرُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ فَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةٌ وَجَلَبَتْ نِقْمَةٌ ). فالكلمة قبل ان تخرج هي تحت سيطرة الانسان ان شاء اطلقها وان شاء خزنها الى ان يحين اوقتها المناسب لها لكنها اذا خرجت دون ان يحكم ظرفها او كيفيتها ويدرس اثارها فانه سوف يكون اسيرا للنتائج السيئة التي تترتب على كلمته لان الانسان مسؤول عن كلامه.

وينبهنا امامنا في وصيته لولده الحسن الى هذا الامر في معادلة هامة وهي ان جبران خسارة الصمت اسهل بكثير من جبران خسارة الكلام حيث يقول علیه السلام ( وَتَلاَفِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ،

ص: 233

وَحِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدَّ الْوِكَاءِ فاذا كانت الكلمة مفيدة ولم ينطق بها الانسان فانه يستطيع ان يتلافى ذلك بان ينطق بها ولكن اذا كانت الكلمة ذات اثار سيئة ومثيرة للفتن والعداوة والاختلاف فكيف يستطيع ان يتلافى ذلك وقد خرجت عن سيطرة المتكلم وراحت تفعل فعلتها وتؤثر اثرها!.

ص: 234

الباب الثالث

طرق تقوية العزم والإرادة

ص: 235

ص: 236

الأول: التفكر

كما أن التفكر مصدر للعلم وإنتاج العقل النظري وتشخيص حقائق الوجود، كذلك هو مصدر لإنتاج الشعور والإرادة، فهو من هذه الناحية ينتج العقل العملي أيضاً، وعليه فإنّ تقوية التفكر تؤدي إلى تقوية الإرادة، وقوة الجزم تنتج شدّة العزم.

ولذلك نرى تأكيد القرآن الكريم في المئات من الآيات الكريمة على النظر في الآيات والتفكّر، ويعدّ التفكر من أعظم العبادات، حيث ورد في الأحاديث الكثيرة أن تفكّر ساعة خير من عبادة سنة ) وفي بعضا ستين سنة وفي بعضا سبعين سنة)(1)، وقول الإمام علي علیه السلام (من أكثر الفكر فيما تعلم، أتقن علمه، وفهم ما لم يكن يفهمه)(2)، وقوله علیه السلام في الحكمة (113): (لا علم كالتفكّر) وقال علیه السلام في الكتاب (31) لولده الحسن: (من تفكر أبصر).

وموارد التفكر هي:

1 - التفكر في عظمة الخلق ليستدل به على عظمة الخالق وعظمة الهدف ((3)). وقد ذكرنا عبارات من نهج البلاغة يحث بها على هذا النحو من التفكر في حديثنا عن دليل السببية ودليل النظم والاتقان في الباب الأول في الفصل الأول في ميزان معرفة الله).

2 - تفكر الإنسان في نفسه وما أودع الله سبحانه فيه من أجهزة وأعضاء واستعدادات وقابليات عظيمة لأجل أداء مسؤولية وأمانة كبيرة كقوله علیه السلام في الحكمة (8) : (أعجب لهذا الإنسان ينظر بشحم ويتكلم بلحم ويسمع بعظم

ص: 237


1- كتاب أسرار الشريعة، ص 207.
2- كتاب غرر الحكم، ص 6564
3- أنظر كتاب (أربعين حديث للإمام الخميني، الحديث الثاني عشر ص 225 . 238

يضربها الهواء فتقرع عصب الصماخ فيتكون السماع، ويتنفس من خرم .

ومن جهة أخرى يفكر في فقره وضعفه وحاجته إلى الله في الحاضر والمستقبل، وأن غناه وقوته وعلمه وحياته لن يأتيه إلَّا من مصدره وهو الله خالق الوجود ومن بدائع مواعظ نهج البلاغة قوله علیه السلام: (... وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ هَذَا الجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ وَالْعَثرَةِ تُدْمِيهِ وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ ٍ ضَجِيعَ حَجَرٍ وَقَرِينَ شَيْطَانٍ أَ عَلِمْتُمْ اَنَّ مَالِكَا إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ ِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ أَيُّهَا الْيَفَنُ الْكَبِيرُ الَّذِي قَدْ لَهَزَهُ الْقَتِيرُ كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ ِ بِعِظَامِ الْأَعْنَاقِ ِ وَ نَشِبَتِ الْجَوَامِعُ حَتَّى أَكَلَتْ لحومَ السَّوَاعِدِ فَاللهَ اللهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ وَأَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ وَفِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضّيقِ فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ ِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِتُهَا...)

3- تفكر الإنسان في الأمم السابقة وما حلّ بها بسبب انحراف عن طريق الله سبحانه كقوله عليه السلام في الخطبة (182): (... وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةٌ! أينَ الْعَالِقَةُ وَأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِن الرَّسُ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ، وَأَطْفَأُوا سُنَنَ المُرْسَلِينَ، وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ! أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالجيوش، وَهَزَمُوا بالأُ ُلُوفِ، وَعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ، وَمَدَّنُوا المدَائِنَ !...) ، وقوله عليه السلام في خطبة القاصعة: (... فَاعْتَبِرُوا بَمَا أَصَابَ الْأُمَمَ المُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ الله وَصَوْلاتِهِ، وَوَقَائِعِهِ وَمَثلاتِهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِ ِي خُدُودِهِمْ، وَمَصارع جُنُوبِهِمْ، وَاسْتَعِيذُوا بِالله مِنْ لَوَاقِح الكبْرِ ِ، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ ِ الدَّهرِ ِ،...)، وقوله عليه السلام : (... واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ المُثلاَتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ، وَذَمِيمِ الْأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الخَيْرِ وَالشَّرَّ أَحْوَالَهُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ، فَالْزَمُوا

ص: 238

كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ حَالَهُمْ، وَزَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ، وَمُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ ، وَوَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ لاجْتِنَاب لِلْفُرْقَةِ، وَاللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ، وَالتَّحَاضِّ ِ عَلَيْهَا، وَالتَّوَاصِي بِهَا. واجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ، وَأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاعُنِ الْقُلُوبِ، وَتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وتَدَابُرِ النُّفُوسِ ِ، وَتَخَاذُلِ الْأَ َيْدِي. وَتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ...)

4 - التفكر في عواقب ونتائج المعاصي وآثار الأعمال السيئة، والثمار والنتائج الجميلة والطيبة للطاعات والأخلاق الحسنة، قال أمير في الحكمة (118): (شَانَ مَا بَيْنَ عَمَلَيْنِ : عَمَلٍ تَذْهَبُ لَذَّتُهُ وَتَبْقَى تَبِعَتُهُ، وَعَمَلٍ تَذْهَبُ مَؤُونَتُهُ وَيَبْقَى أَجْرُهُ).

وفي الحكمة (430) قال علیه السلام: اذكروا انقطاع اللذات وبقاء التبعات)، أي أنّ لذّات المعاصي وتعب الطاعات ينتهي، وتبقى الآثار والنتائج الدائمية في نفس الانسان وفي المجتمع، فأما كمال ونور وانشراح وفرح دائم، أو ندمٌ وغمٌ وحزن وعذابٌ دائم، فيفكر الانسان ويقول لنفسه؛ ألا يستحق الكمال والسرور الدائم أن يبذل لأجلها تعباً مؤقتاً؟ وهل تستحق اللذة المؤقتة الزائلة أن يلقى لأجلها الغم والحزن والعذاب الدائم؟ وحول تأثير المعاصي في زوال النعم يقول عليه السلام في الخطبة (178): (... وَايْمُ الله ، مَا كَانَ قَوْمٌ قَطُّ ُ فِي غَضِ ِ نِعْمَةِ مِنْ عَيْشِ فَزَالَ عَنْهُمْ إِلَّاَ بِذُنُوبِ اجْتَرَحُوهَا، لِأَنَّ (اللهَ لَيْسَ بِظَلامِ لِلْعَبِيدِ) وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ النَّقَمُ ، وَتَزُولُ عَنْهُمُ النّعَمُ، فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِصِدْقٍ مِنْ نِيَّاتِهِمْ، وَوَلَهٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ ، لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِدٍ، وَأَصْلَحَ هُمْ كُلَّ فَاسِدٍ، ...).

وكلام أمير المؤمنين عليه السلام هذا يوضح لنا المعادلات والسنن التاريخية التي تحكم المجتمع ، ويعالج خطاً ثقافياً فكرياً كبيرا يحكم على الأذهان عند كثير من

ص: 239

الناس الذين يلقون باللائمة على غيرهم في تشخيص الآثار السيئة والحوادث المؤلمة التي يواجهها المجتمع ، وتحكم الظالمين والمفسدين والطغاة بمصائرهم، وكأنّ الأقدار أحجار ترمى عشوائياً على الناس فتصيب قوماً و تخطأ آخرين وأنّ على الإنسان أن يفكّر فيما يلاقيه من وقائع الزمان ويذهب إلى اكتشاف أسبابها التي يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الكلمات النيرة أنها تعود إلى الإنسان والمجتمع نفسه، فلا يلقي باللائمة على الأعداء والأنواء والزمان والحظ والقسمة وما شابه ذلك، بل عليه أن يذهب إلى نفسه ويكتشف دوره في تسليط هؤلاء الظالمين والطغاة أو غضب الطبيعة والأنواء عليه، وهناك ثلاثة أنواع من الآثار السيئة التي تترتب على الذنوب والتقصير في أداء الواجب الإلهي :

1 - الآثار التكوينية الفردية كقساوة القلب وفقدان حب الطاعة والعبادة والحرمان من اللذات المعنوية إضافة إلى التأثيرات الصحية البدنية والنفسية، إضافة إلى الآثار على الذرية والأسرة والمحارم، وحول هذا المعنى يقول أمير المؤمنين عليه السلام في الحكمة (302): (مَا زَنَى غَيُورٌ قَطُّ).

2- الآثار الاجتماعية للذنوب، كانعدام الأمن الاجتماعي والصحة والعلاقات الأسرية والمجتمعية الطيبة والمحبة والألفة والتعاون ، وسوء المناخ وحبس البركات والقحط والغلاء.

3- الإثم والعقوبة الأخروية.

وفي مقابل هذه الآثار السيئة المدمرة للذنوب والمعاصي، أنظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو يتحدث عن آثار التقوى ونتائجها في بناء المجتمع الصالح ،السعيد، وقد ذكر هذا المعنى في خطب كثيرة، ويمكن أن تكون الخطبة (198 ) أكثرها تفصيلا حيث قال عليه السلام: ... فَإِنَّ تَقْوَى اللَّه دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُمْ، وَبَصَرُ عَمَى أَفْئِدَتِكُمْ، وَشِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِكُمْ، وَصَلاَحَ فَسَادِ صُدُورِكُمْ،

ص: 240

وَطُهُورُ دَنَس أَنفُسِكُمْ، وَجِلاَهُ عَشَا أَبْصَارِكُمْ، وَأَمْنُ فَزَع جَأْشِكُمْ، وَضِيَاهُ سَوَادِ ظُلْمَتِكُمْ. فَاجْعَلُوا طَاعَةَ اللهِ شِعَاراً دُونَ دِثَارِكُمْ، وَدَخِيلاً دُونَ شِعَارِكُمْ، ولطيفاً بَيْنَ أَضْلاعِكُمْ، وَأَمِيراً فَوقَ أُمُورِكُمْ، وَمَنْهَلاً لَحِينِ وُرُودِكُم، وَشَفيعاً لِدَرَكِ طَلِبَتِكُمْ، وَجُنَّةٌ لِيَوْمٍ فَزَعِكُمْ، وَمَصَابِيحَ لِبُطُونِ قُبوركُمْ، وَسَكَناً لِطُولِ وَحْشَتِكُمْ، وَنَفَساً لِكَرْبِ مَوَاطِنِكُمْ، فَإِنَّ طَاعَةَ اللهِ حِرْزٌ مِنْ مَتَالِفَ مُكْتَنَفَةٍ، وَ مُخَاوِ ِفَ َ مُتَوَقَّعَةٍ، وَأُوَارِ ِ نِيرَانِ مُوقَدَةٍ. فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوّهَا ، وَاحْلَوْلَتْ لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا، وَانْفَرَجَتْ عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا ، وَأَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا، وَهَطَلَتْ عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا، وَتَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورهَا، وَتَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا، وَوَبَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْدَاذِهَا. فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي نَفَعَكُمْ بَمَوْعِظَتِهِ، وَوَعَظَكُمْ بِرِسَالَتِهِ، وَامْتَنَّ عَلَيْكُمْ بِنِعْمَتِهِ ، فَعَبّْدُوا أَنْفُسَكُمْ لِعِبَادَتِهِ، وَاخْرُجُوا إِلَيْهِ مِنْ حَقٌّ طَاعَتِهِ).

4 - التفكر في تفاهة الدنيا وزوالها، وقد أولى أمير المؤمنين علیه السلام هذا الجانب الأهمية القصوى، ولا أعتقد أن أحداً من الواعظين يجاري ويباري عليا في هذا المضمار، وقد جمعت مواعظه فصاحة اللفظ وبلاغة التعبير وعمق المعنى وقوة التأثير، حيث تجد أن كلماته تناغم القلوب وتهز الأرواح، كقوله علیه السلام في الخطبة (113) : (وَأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ، وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ، قَدْ تَزَيَّنَتْ بَغُرُورِهَا، وَغَرَّتْ بِزِينَتِهَا، دَارُهَا هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا، فَخَلَطَ حَلالَهَا بِحَرَامِهَا، وَخَيْرَهَا بِشَرّْ ِهَا، وَحَيَاتِهَا بِمَوتِهَا، وَحُلُوهَا بِمُرّْهَا لَمْ يُصْفِهَا اللهُ تَعَالَى لِأَوْلِيَائِهِ، وَلَمْ يَضِنَّ بِهَا عَلَى أَعْدَائِهِ...)، فكم هي الدنيا تافهة بحيث أن الله أعطاها لأعدائه ولم يجعلها صافية لأوليائه، مع أنه يحبهم وهو أكرم الأكرمين وأقدر القادرين، ولو كان للدنيا قيمة حقيقة لكان أحباء الله أولى بها من غيرهم، وأتفه ما في الدنيا توقع زوالها في كل لحظة، هذا المعنى الذي أوضحه أمير المؤمنين علیه السلام في الخطبة (64) حين قال: (فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَبَادِرُوا أَجَالَكُمْ

ص: 241

بِأَعْمَالِكُمْ، وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ، وَتَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ، وَاسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ، وَكُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا، وَعَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارِ فَاسْتَبْدَلُوا: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقُكُمْ عَبَثَاً، وَلَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدى، وَمَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ أَوِ ِالنَّارِ ِ إلَّاَ المَوتُ أَنْ يَنْزلَ بهِ ِ. وَإِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ، وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ ، لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ ِالمُدَّةِ، وَإِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الجَدِيدَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، لَحَرِ ِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ، وَإِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ بِالفَوْزِ ِ أو الشِّق۠وَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لِأفْضَلِ ِ الْعُدَّةِ، فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بهِ أَنفُسَكُمْ...).

الثاني: المحاسبة:

وهي عملية متابعة الانسان لسيرته وسلوكه لكي يكتشف أخطاءه فيقوم بإصلاحها، وينتبه إلى آثارها السيئة فيزيلها. قال أمير المؤمنين علیه السلام : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنواها قبل أن توزنوا )(خطبة)(89)

وعن الإمام الكاظم علیه السلام: ( ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم)((1))

ولأجل تأثير المحاسبة لصناعة العزم والإرادة وبناء الملكات الفاضلة على الانسان أن يتبع المراحل التالية:

1 - أن يفكر في أعمالها الماضية والحاضرةوالمستقبلية التي ينوي فعلها، وتشخيص ما فيها من صحيح فيصمم على الاستمرار والتطوير ويشخص الأخطاء والآثار السيئة المحتملة ويصمم على اجتنابها.

2- المشارطة : وهو أن يعاهد ربه ونفسه عهد الرجال الأحرار أن يطبق ما

ص: 242


1- الكافي: ج 2 ص 453

صمم عليه ، كأن يكون طعامه بهذا النحو والمقدار ونومه بهذا المقدار وكلامه بهذا النحو وأن يقسم وقته بهذا النحو والمقدار ويكتبها على ورقة ويشرط على نفسه أنه إن لم يطبق فعليه أن يقوم بمعاقبة نفسه.

3- المراقبة : أن يراقب نفسه هل أنه أخذ يطبق المعاهدة والمشارطة أم لا؟!

4 - المعاتبة والمعاقبة وهنا تبدأ عملية المحاسبة بأن يرى هل أنه تخلف عن بعض بنود المعاهدة فيبدأ بمعاتبة نفسه ،ولومها، وإذا كانت المخالفات كبيرة فيبدأ بمعاقبة نفسه بالصيام مثلاً أو ببذل المال ودفع الصدقات أو القيام ببعض الأعمال الصعبة.

الثالث:معاشرة الصالحين :

لا شك أن مرافقة أهل الخير والصلاح تؤثر كثيراً في بناء وصناعة إرادة الانسان نحو العمل الصالح، لأن الانسان كما يتأثر بالبيئة والعقل الجمعي كذلك يتأثر بالرفيق والقرين، وفي الحديث النبوي صلی الله علیه و آله وسلم(المرء على دين خليله)((1)) والقدوة الصالحة لها تأثير أساسي على هداية الانسان وشحذ همته وعزمه على الأعمال الصالحة، وعلى العكس تماماً فإن معاشرة الأشرار تؤدي إلى التفاعل التدريجي معهم ، وفقدان الانسان لا لإرادة الخير والصلاح فحسب بل يفقد حتى إيمانه، وقد حذر أمير المؤمنين علیه السلام في الخطبة (85) بقوله علیه السلام: (مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان)، وفي وصيته لابنه الحسن عليهما السلام: (قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم ) أي أن مخالطة أهل الخير تجعل الانسان مثلهم ومخالطة أهل الهوى واللهو الفجور تؤدي إلى التأثر بهم وتقمّص سيرتهم وسلوكهم، مما يؤدي إلى نسيان الإيمان.

مسك الختام :

الهويّة العلويّة

ص: 243


1- الكافي: ج 2 ص 375

الهويّة العلويّة

سرعان ما تمضي هذه الحياة المتحركة الزائلة لنعبر منها نحو حياتنا الثابتة الأبدية، وما تلك الحياة إلا ظهور أنفسنا التي يتم توفيها ونقلها كاملةًّ نحو دار الحق، والحياة هناك تابعة لهوية النفس التي صُنعت في هذه الحياة، فتلك الحياة الثابتة تابعة لهذه الحياة المتحركة.

وحيث أن قوام الحركة هو المتحرك والطريق والهدف، ومن يجعلك تسير في الطريق لتبلغ الهدف هو الإمام والقائد، ولذلك كانت الهوية الحقيقية متشخصة بالإمام (يوم ندعو كل أناس بإمامهم).

مشخصات النفس ترسمها حركات الإنسان في هذه الدنيا في جميع مفردات ميادين الحياة، فالنفس كتاب نؤلفه اليوم بحركات ألسنتنا وجوارحنا وجوانحنا ومواقفنا وعقائدنا وأخلاقنا، وكل ذلك يحدده الإمام.

فالنفس تُحشر بهوية علوية، إذا كان أمير المؤمنين علي علیه السلام إمامها بأن يقود فكرها ويصنع شعورها ويحرك جوانحها وجوارحها وحبها وبغضها ويحدد موازينها وقيمها .

الهوية العلوية لا تحصل عليها النفس بتقبيل أضرحة والقباب وترانيم الحزن وتراتيل المدائح وأهازيج الولاء، هذه لا تصنع هوية، نعم هي إذا كانت صادقة فهي تحرك الإنسان نحو صناعة الهوية، وإلّا فهذه المظاهر يمكن أن يقوم بها محبّ غال أو جاهل متنسك، وقد أخبر أمير المؤمنين علیه السلام أن الأول هلك فيه، والثاني قصم ظهره

علي علیه السلام الذي يصنع هويتنا ليس هو الذي نكتفي بزيارة مرقده الطاهر

ص: 244

في النجف الأشرف، ولا الذي نبكي لمصابه ونحتفل لمولده، وإنما هو عليٌ الإمام علیه السلام، ومعنى الإمام الذي يسير أمامنا ونسير خلفه ليقود حياتنا، وإذا كان عليّ علیه السلام شخصه قد مضى ولا نراه أمامنا، فإن عليّاً علیه السلام بشخصيته وحقيقته الصانعة للهوية العلوية موجود بكامله في القرآن و نهج البلاغة ومعالم سيرته الواضحة.

وهو الذي يقول لولده الحسن علیه السلام : أي بني إني وإن لم أكن عمّرت عمر مَن كان من قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم حتى عدت كأحدهم)، ويقول له أيضاً : استدل على ما لم يكن بما قد كان، فإن الأمور أشباه).

قبل ابن خلدون بأكثر من ستة قرون يؤكد علي علیه السلام إن المجتمع والحياة تقودها معادلات وسنن لا تختلف ولا تتخلف، وكما رجع إمامنا إلى من سبقه حتى صار كأحدهم، فنحن أيضاً يمكن أن نرجع اليوم إلى زمن المعاصرين لعليّ علیه السلام فنكون منهم ، ونكتشف هويتنا الحقيقية الفردية والاجتماعية ونكتشف مستقبلنا، لأن ما سوف يكون شبيها بما كان، ونستطيع أن نكتشف هويتنا هل هي تلك الهوية التي منحت لسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وابن التيهان والأشتر ونظرائهم؟ أم هي الهوية التي صنعها طلحة والزبير وابن العاص والأشعري ومعاوية لأنفسهم.

فهل نحن من أولئك الذين وصفهم عليّ علیه السلام بأنهم إخوانه؟ واشتاق لهم وبكى عليهم ، وقال : أوه على عليّ علیه السلام إخواني الذين تلو القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه، ووثقوا بالقائد فاتبعوه، وقال أيضاً: أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق}، ووصفهم أيضاً بقوله: {باعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى، وقال عنهم أيضاً: (هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا ما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان؛ أرواحها معلقة بالملأ الأعلى، آهٍ...آهٍ شوقاً إلى رؤيتهم).

ص: 245

إلى رؤيتهم).

أم نحن ممن بايع عليا وقال له بخ بخ أصبحت مولاي، أو صافح اليد الطاهرة لعلي وعقد له حبل الطاعة ثم راح ينكث ويغدر ويمرق فكم هم الذين بايعوا عليّا وقبّلوايده وعاهدوه بألسنتهم وأهازيجهم، ولكنهم خرجوا من الدنيا بهويةٍ أعداء عليّ والمحاربين له.

لنرجع إلى الماضي ونجعل أنفسنا محلّ طلحة والزبير والأشعري وأمثالهم، ثم لنسحب الماضي إلى الحاضر ونرى أنفسنا وسط المليارات والامتيازات والمقامات التي جلبها لنا المال الحرام، والمحابات العثمانية والمقاييس الأموية والموازين القبلية والمحسوبيات الفئوية، ونهبت من بيت المال وسهم الإمام علیه السلام ويتامى آل محمدصلی الله علیه و آله وسلم، ثم يأتينا علي الموجود بكامل وجوده الحقيقي في موازينه وقيمه التي أوضحها في نهج بلاغته وسيرته فيقول علیه السلام في الخطبة (15): {والله لو وجدته تُزُوج به النساء ومُلكَ به الإماء لرددته، فإن في العدل سعة فمن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق. فما نحن فاعلون؟!

هل يستطيع حب عليّ علیه السلام أن يتغلب على بريق الأموال ونشوة الملك التسلط ونزوات الترف؟

وهل تستطيع قوة الولاء العلوي أن تقطع علائقنا بدنيا الشهوات والمال ،والجاه، وتنتشلنا من عاقبة الناكثين والقاسطين والمارقين؟!

نعم إذا كنّا قد عرفنا عليّا بأنه الطريق والدليل إلى الله، وواليناه وأحببناه كي يوصلنا إلى الله فإن هذا الولاء سوف يصنع منّا سلمان وعمار والمرقال وسوف يصنع فينا أمة ولائية يرد الله بها كل شارد، ويصلح فيها كل فاسد

ص: 246

بولايتكم علمنا الله معالم ديننا وأصلح ما فسد من دنيانا ) . (1)

الازدواجية في التبعية والولاء:

وإذا كنا لا نريد عليا علیه السلام كإماما يصنع حبه هويتنا العلوية التوحيدية الإلهية؟ بل نريد عليّاًعلیه السلام يحقق لنا حبه هوى أنفسنا، فهذه هي المصيبة الكبرى التي واجهها أمير المؤمنين علیه السلام، وهي مقتل الأمة وقد أشار الإمام علیه السلام لذلك في الخطبة (136 ) قائلا لهم: الَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً. إِنِّي أُرِيدُكُمْ الله وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لأَنفُسِكُمْ).

وقال علیه السلام في الخطبة (69): {وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم، ولكني لا أرى

إصلاحكم بإفساد نفسي.

إن هذه الكلمات العلوية السامية في بلاغتها، والعميقة في معانيها تحمل مؤشرات خطيرة، وتكشف مرضاً خطيراً في ثقافة التبيعة والولاء، وهو الازدواجية والانقسام والانتقاء.

لقد اجتمع الآلاف حول أمير المؤمنين علیه السلام لأجل بيعته كما وصف ذلك في الخطبة (3): {افما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون عليَّ من كل جانب، حتى لقد وطيء والحسنان وشُقّ عطفاي، مجتمعين حول ي كربيضة الغنم، فقبل البيعة ولم يكن راغباً فيها، وقام بالأمر بما أنه ولّي الله، ولأجل أن يصنع منهم المجتمع الولائي المتحزب على محور ولاية الله ورسوله، لكن المبايعين المتزاحمين على تقبيل الأيدي بالأمس، سرعان ما انقبلوا إلى ناكثين وقاسطين ومارقين، وملأوا قلب ولي الله ووصي رسول الله قيحا، وجرعوه نغب التهمام أنفاسا والسبب يوضحه في هذه الكلمات : {إنهم لم يبايعوه ليوصلهم إلى الله، وفي الحقيقة لم يكونوا بايعوا عليّا الحقيقي الذي يريد أن يوصل الناس

ص: 247


1- الزيارة الجامعة الكبيرة

المبايعين له إلى الله، ولو وفواله بالبيعة لأركبهم سفينة النجاة وسار بهم سيراً سجحا، لا يُكلم خشاشه ويتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلاً صافيا تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم). (1)

في الحقيقة أنهم بايعوا عليّا آخر صنعوه بأوهامهم وأهوائهم، وهو علي الذي يحقق لهم دنياهم ويحافظ على مغانمهم وامتيازاتهم.

نعم أحبوا عليّا علیه السلام لقرابته، وأحبوا صلاته وعبادته، ويريدون أن يصلوا خلفه ويكسبوا منه البركة والتوسل للحاجات المادية ،وكفى ، ولكن ليس هذا هو عليّ علیه السلام الحقيقي، حقيقة عليّ علیه السلام الذي نطق القرآن بولايته ونصبّه الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم في يوم الغدير تتجلّى في إخلاص توحيده وشدة عدله وتنمره في ذات الله وولايته هي ولاية من يلي أمور رعيته ليرفعهم إلى الله، وينتشلهم من أوساخ وأدران تعظيم الموازين المادية والدنيوية والقبلية وترجيحها وتغليبها على الموازين الإلهية والنبوية، فهو القائل في وصف رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في الخطبة (160): {عرضت عليه الدنيا فأبا أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقّر شيئاً فحقّره، وصغّر شيئاً فصغّره، ولو لم يكن فيها إلا حُبنا ما أبغض الله ورسوله ، وتعظيمنا ما صغّر الله ورسوله، لكفى به شقاقاً لله ومحادة عن أمر الله .

وهو القائل في نفس الخطبة في بيان ميزان الإكرام الحقيقي : { وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ الله ( صلى الله عليه وآله ) مَا يَدُلُّكُ عَلَى مَسَاوِي الدُّنْيَا وَ عُيُوبِهَا إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ وَ زُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمٍ زُلْفَتِهِ فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بعَقْلِهِ أَكْرَمَ

اللهُ مُحَمَّداً بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ فَإِنْ قَالَ أَهَانَهُ فَقَدْ كَذَبَ وَ اللَّهَ الْعَظِيمِ بِالْإِفْكِ الْعَظِيمِ وَ إِنْ قَالَ أَكْرَمَهُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ وَ

ص: 248


1- كلمات مقتبسة من خطبة السيدة فاطمة الزهراء في نساء المهاجرين والأنصار.

زَوَاهَا عَنْ أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْهُ).

فهذا عليّ أمير المؤمنين علیه السلام الحقيقي، يرى أن من يرى ميزان الكرامة والعزّة والغنى بالملايين والقصور والقناطير القارونية ،المقنطرة، ومظاهر الهيبة الفرعونية المصطنعة، فهو محادد ومشاقق الله، أي أنه يقف في الساتر المواجه لساتر أولياء الله .

ومن بايع عليّاعلیه السلام أو زاره أو أعلن حبه له بلسانه وشعائره ومظاهره، ولكنه يريد منه أن يحقق له دنيا معاوية وطلحة والزبير، فهو لم يرد عليّ بن ابي طالب علیه السلام الولّي الحقيقي، إنما أرد وليّا وعليّا يُفسد نفسه ويترك عبادة ربه ليحقق رغبات عبيد الدنيا، وهذا عليّ علیه السلام وهمي صنعناه بأوهامنا كما صنع الكثير أيضاً إلها وربّا ونبيا غير الإله والنبي الحقيقيين.

أرادوا علياّ علیه السلام ووليا براغماتياً وميكافيلياً يقول لأتباعه ومبايعيه ومنتخبيه أعطوني سلطة أعطكم دنيا وامتيازات مادّية، ولكن هذه المعادلة ليست معادلة عليٌ علیه السلام الحقيقي، إنما معادلة معاوية وأمثاله معادلة عليّ بن أبي طالب علیه السلام الحقيقي هي انتخبوني وليّا أعطكم حقا وعدلا وأهب لكم حياة طيبة وأوصلكم إلى الله.

ولو سحبنا ذلك الزمان إلى عصرنا لوجدنا اليوم أيضا مَن قد صنعوا عليّا علیه السلام بأوهامهم غير ذلك الولي الوصي الذي بولايته اكتمل الدين وتمت النعمة وأصبح الإسلام مرضيا، وقوم اليوم أبناء قوم الأمس، أولئك بايعوه ثم نكثوا البيعة وحاربوه، وهؤلاء يزورونه ويشهدون له بالولاية بالحرم والمحراب، ويخالفون مبادئ وموازين ولايته في الباب والأعتاب .

ص: 249

عليّ مؤسس علم الاجتماع :

ماذكره ابن خلدون من أن المجتمعات والأمم تنشأ بالعصبية، وتبقى ما دامت عصبيتها ،قائمة فإذا اتجهت نحو الترف والنعيم، انحدرت نحو الانقراض وزوال الملك ((1)) ، فإن عليّا علیه السلام قد شخصه قبل ابن خلدون بأكثر من ستة قرون بمعادلة أجلى وأعمق، مفادها أن الأمم والملك والحضارة لا تقوم على العصبية المطلقة، وإنما تقوم على التعصب للإمام الحقعلیه السلام والطاعة والتبعية الواعية له با أنه إمام حقّ علیه السلام.

فالهوية العلوية في شقّيها الفردي والاجتماعي تقوم على التبعية لإمامة علي علیه السلام بما أنه إما الحق ولأجل الحق لا أن نبايع عليّاعلیه السلام أو نواليه أو نظهر المحبة له لأجل أنفسنا، أو نريد علياعلیه السلام لإصلاح حالنا وبالنا وتحقيق رغباتنا، وأن يصنع هويتنا كما نريد لا كما هو يريد، فهنا يبدأ الافتراق والانزلاق، فهنا المفترق الرئيسي في مصنع الحياة، حيث يقف عليّ يدعو أتباعه إلى التوحيد الخالص وإقامة العدل والتعلق بمحبة الله والتلذذ بالتضحية والعطاء والعروج في فضاء الصفات والأخلاق الإلهية، وفي المقابل تقف علائق التكاثر والتفاخر والترف وحُب التسلط والتمييز الطبقي والاستحواذ والاستئثار تتجاذب الانسان نحو الاتجاه المعاكس، فمن استطاع أن يقهر علائق الأنا والهوى ويتمسك بحبل التوحيد والعدل العلوي ويطيع عليّا لله (مَن أراد الله بدأ بكم، ومَن وحّدهُ قبل عنكم)(الزيارة الجامعة الكبيرة. )، فقد وضع نفسه في خط الإنتاج الذي يصنع النفوس العلوية الصادقة الطيبة التي تفوز بالهوية العلوية، وأما مَن غلب عليه الأنا وتسلطت عليه علائق ،الهوى فسوف يسقط من خط الإنتاج العلوي ويسير في خط الإنتاج الذي لا يحصل منه إلّا على هوية معاوية والزبير وطلحة وشبث بن

ص: 250


1- مقدمة ابن خلدون، الفصل 18 ص 113

ربعي وعمر بن سعد وأمثالهم.

هكذا يجب أن نفهم الانتماء العلوي، هو انتماء صياغة وجود وبناء هوية، حُب عليّ يعني الذوبان في الحقيقة العلوية والخروج من مراجل صهرها علوي الفكري والإرادة والسيرة والأهداف، حُب علي هو أن نحبه كما يريد هو أن نحبه لا كما نريد نحن أن نحبه، أو نحبه عندما نحتاج إلى حبه في دنيانا ومصالحنا، فإذا عارض حُبه مصالحنا وآراءنا تركناه وذهبنا إلى غيره، وربما ذهبنا إلى عدوه لنعينه عليه .

وحيث أن الحق كما قال أمير المؤمنين علیه السلام في الخطبة (216): ( أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ وَأَضْيَقُهَا فِي التَّناصُفِ...).فهو ليس تابعاً لوصف الواصفين وتحليل المحللين، وإنما يجب أن يأخذ ممّن يهدي إلى الحق، لا ممن يهدي إلا أن يُهدى.

وهنا ندرك عمق الولاية العلوية التي بها اكتمل الدين وعظمت النعمة وائتلفت الفرقة وندرك قول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم:(علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث دار)(1).

فولاية عليّ هي منبع الحق الذي ينبغي أن ينتهل منه مَن أراد أن يصنع هويته العلوية الإنسانية الإلهية، التي تظهر في يوم الحق، ويفوز بها في يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُناس بإمَامِهِمْ،{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف: 8]،وهنا نفهم معنى كون ( عليّ ميزان الأعمال (2))و (عليّ قسيم الجنة والنار)(3).

ص: 251


1- الإمامة والسياسة ابن قتيبة ، ج 1 ص 98.
2- مستدرك الوسائل الميرزا حسين النوري، ج 10 ص 222 ، في زيارة أمير المؤمنين عن الإمامين الباقر والسجاد عليهما السلام
3- البداية والنهاية ، ابن كثير ج 7 ص 355 .

فلا يمكن لأحدنا مهما كانت مظاهر حبه أن يحصل على هوية سلمان وأبي ذر وعمار والأشتر وميثم التمار، إنما حصل هؤلاء على هوية إخوان عليّ لأنهم عرفوا عليّا إنّه محور الحق فاتبعوه للحق(تلو القرآن فأحكموه، وتدبّروا الفرض فأقاموه، ووثقوا بالقائد فاتبعوه)،فهذا أبو ذر يقول له أمير المؤمنين يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق ولا يوحشنّك إلا الباطل)، فيقضي - أبو ذر - حياته متمسكاً بكلمة الحق ، مستوحشاً من السكوت على الباطل، حتى رحل منفياً غريباً وحيداً لا أنيس له إلا الحق، وهذا عمار في صفين يقول (لو هزمونا وبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا إنّا على الحق)، وهذا الأشتر يترك حلاوة أعظم نصر عسكري على معاوية الطغيان والمكر والغدر ويستبدله بالهزيمة الظاهرية امتثالاً لأمر الحق هذا على المستوى الفردي.

أما على مستوى الأمة والمجتمع، فإن الأمة التي تبايع الإمام الحق لأجل دنیاها و موافقة موازينها الطبقية والقبلية وتريده أن يصلحها بفساد نفسه وترك مبادئه وثوابته، فهذه الأمة سوف يكون مصيرها التيه والضلال، ووقوعها صيداً سهلاً للأعداء وقصعة تتداعى عليها الأمم، قال علیه السلام في الخطبة (166):(لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ، لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ، وَلَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ، لَكِنَّكُمْ تِهْتُمْ مَتَاهَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَعَمْرِي ، لَيُضَعَّفَنَّ لَكُمُ التِّيهُ مِنْ بَعْدِي أَضْعَافاً، بِمَا خَلَّفْتُمُ الحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ، وَقَطَعْتُمُ الْأَدْنى، وَوَصَلْتُمُ الْأَبْعَدَا).

الإنسان والمجتمع العلوي الذي يستحق حكومة عليّ هم الهواة الحقيقيون لعليّ الحق من أجل الحق، وهكذا يُصنع الإنسان العلوي والمجتمع الولائي، ولأجل صناعة هذا الانتماء كان كتاب نهج البلاغة، إنه كتاب صناعة الفكر والإرادة لبناء إنسان لا يفكر إلا بالحق ولا يريد إلا الحق، فيتبع عليّا إماماً يبتغي منه صلاحه لا مصالحه، ولذلك فإنه لا يتعامل بالتجزئة والانتقاء والمعايير

ص: 252

المزدوجة، وإنما يتخذ عليا إماما يسير خلفه في كل شيء، وولياً یلي كل أموره ويحيط بكل أجزاء حياته، وهذا ما صرح به أمير المؤمنين علیه السلام لكميل بن زياد بقوله:{يا كميل لا تأخذ إلاّ عنا تكن منّا، يا كميل ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة)(1).

هذا هو الطريق إلى صناعة الهوية العلوية، وبناء المجتمع الولائي الذي به تجتمع النعمة وتأتلف الفرقة، وهذه هي شجرة الولاية الشجرة العلوية وهذه هي ثمارها، وكل زارع يقطف ثمار زرعه ، فإذا لم نقطف سوى الفتن والتخلف والتمزق وتسلط الأشرار على الأخيار ، فلنعلم أننا لم نزرع شجرة الولاية العلوية!وهذا هو قدرنا!!

وإذا كان قدرنا هو الانتقال من طاغية مستبد إلى محتل مستعبد إلى ظالم مفسد، فلنعلم أننا قد صنعنا قدرنا بأيدينا، فإن الله سبحانه لا يغيرنا حتى نغير أنفسنا.

ألم يكفي ما جرى علينا أن يكون عبرة لنا؟! كم أدبتنا نتائج أعمالنا فلم نرعوي؟ وكم ضربتنا وأوجعتنا فلم نلتفت ولم نعي؟! ألم يقل لنا أميرنا وإمامنا في وصيته لابنه الحسن عليهما السلام : {استدل على ما لم يكن بما قد كان، فإن الأمور أشباه ، ولا تكونن ممن لا تنفعه العِظة إلا إذا بالغث في إيلامه، فإن العاقل يتعظ بالآداب والجاهل لا يتعظ إلا بالضرب، والعقل يحفظ التجارب، وبادر الفرصة قبل أن تكون غصّة)، وها هو قد رسم لنا سنن التاريخ ومعادلات التغيير واضحة عندما قال في الخطبة (25): {أَنّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقْكُمْ وَبِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي الحَقِّ وَطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي الْبَاطِلِ).

ص: 253


1- بحار الأنوار ج 74 ص 412 .

وقال لنا في الخطبة (27) أن سبب تسلط الأعداء علينا هو أنكم :{ فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ ...}، {وَ الله يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقَّكُمْ فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلَا تُغِيرُونَ وَ تُغْزَوْنَ وَلَا تَغْرُونَ وَيُعْصَى اللهُ وَ تَرْضَوْنَ)، وأخبرنا بأن التيه سوف يضاعف علينا أضعافا بما خلفنا الحق وراء ظهورنا، وقطعنا الأدنى ووصلنا الأبعد.

آن الأوان أن نعود لندخل في حصن الولاية العلوية ونزور عليّا ونعلن حبنا له ونشهد له بالإمرة والولاية، ونبايعه بصدق أبي ذر وبصيرة عمار وإخلاص سلمان وشجاعة مالك ومعرفة كميل وصبر ميثم بيعة نصافح فيها يد عليٍّ أو نقبل ضريحه الطاهر ، ونعلن له الولاء المطلق، ونعاهده لنكون حملة لسرّه وجنوداً لعدله وأنصارا لحكمه وأولياء لمن والاه وأعداء لمن عاداه.

بيعة تتوق فيها أنفسنا أن تمسك بيد عليٍّ لا لنحفظ بها دنيانا بل ليمسك بنا ويرفعنا إلى قمته التي لا يرقى إليها الطير وينحدر عنها السيل، وليجلسنا على منابر من نور مبيضة وجوهنا حوله في الجنة، فنكون من جيرانه ومن شيعته الفائزين،هؤلاء الشيعة هم الذين ينتظرهم الإمام الحجة علیه السلام كي يظهر بهم ويملأ الأرض قسطاً وعدلا، ويؤسس دولة الصالحين. اللهم هب لنا رأفته ودعاءه واجعلنا من المنتظرين المخلصين الواعين الذين يعجلون ولا يؤخرون ظهوره.

{اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَنتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلَىَّ بِالمَغْفِرَةِ اللَّهُم اغْفِرْ لِي مَا وَأَيْتَ مِنْ نَفْسِي وَ لَمْ تَجِدْ لَهُ وَفَاءً عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا تَقَرَّبْتُ بِهِ إِلَيْكَ بِلِسَانِي ثُمَّ خَالَفَهُ قَلْبِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي رَمَزَاتِ الْأَلْحَاظِ وَ سَقَطَاتِ

ص: 254

الْأَلْفَاظِ وَ شَهَوَاتِ الْجَنَانِ وَ هَفَوَاتِ اللَّسَانِ)(1).

اللهم صلّ على محمد وعلي وأبنائهما الطاهرين ومكّنهم من عقولنا وقلوبنا وجوارحنا واجعلنا أتباعاً صادقين لهم في السرّ والعلن.

ص: 255


1- نهج البلاغة ،خطب الإمام علي علیه السلام، ج 1، ص 127

am AGENCY

07826901443 | وكالة اي ام الإعلانية

ص: 256

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.