اخبارات الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة

هوية الکتاب

العنوان: إخبارات الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة.

المؤلف: أ.د. عباس علي الفحام.

اشراف و مراجعة: مركز الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام للدراسات و البحوث التخصصية.

تخريج الايات و الاحاديث: م. هاشم محمد الباججي.

الناشر: مركز الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام للدراسات و البحوث التخصصية -

النجف الأشرف، 1443ه_ - 2022م.

المطبعة: مطبعة الثقلين -النجف الاشرف.

التنضيد الإلكتروني: محمدباقر رحيم الحسناوي.

التصميم و الإخراج الفني

أحمد مكي جعفر

an ❘ AGENCY

07826901443 | وكالة اي ام الإعلانية.

ص: 1

اشارة

ص: 2

إخبارات الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة

سلسلة محاضرات ألقاها في مركز أميرالمؤمنين علیه السلام للدراسات و البحوث التخصصية في النجف الأشرف

أ.د. عباس علي الفحام

ص: 3

مركز الهام أميرالمؤمنين علیه السلام الدراسة و البحوث التخصیصة

Imam Amir Al-Mu'mineen (peace be upon him) Center for Speciazlied Studies and Research

جميع حقوق الطبع و النشر محفوظة للمركز

العراق - النجف الأشرف

07721584777

هوية الكتاب

العنوان: إخبارات الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة.

المؤلف: أ.د. عباس علي الفحام.

اشراف و مراجعة: مركز الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام للدراسات و البحوث التخصصية.

تخريج الايات و الاحاديث: م. هاشم محمد الباججي.

الناشر: مركز الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام للدراسات و البحوث التخصصية -

النجف الأشرف، 1443ه_ - 2022م.

المطبعة: مطبعة الثقلين -النجف الاشرف.

التنضيد الإلكتروني: محمدباقر رحيم الحسناوي.

التصميم و الإخراج الفني

أحمد مكي جعفر

an ❘ AGENCY

07826901443 | وكالة اي ام الإعلانية.

ص: 4

بِسْمِ ٱللَّٰهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

In the Name of Allah, the Most Beneficent, the Most Merciful

ص: 5

ص: 6

المحتويات

مقدمة المرکز *** 9

المبحث الأول *** 11

الإبداع العلوي في نهج البلاغة *** 11

المبحث الثاني*** 27

تقسيم الإخبارات *** 27

ثورة الزنج *** 39

غرق البصرة *** 40

المصادر*** 43

ص: 7

ص: 8

مقدمة المرکز

مركز الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام للدراسات و البحوث التخصصية

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ وَ صَلَّى اَللَّهُ عَلَى المَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ أبي القاسِمِ مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ

و بعد

لقد كان الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام متصلاً بوحي السماء و مُطلعاً على مكنون العلم الإلهي بوساطة النبي صَلِّيَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم حتى سمّاه اللَّه سبحانه نفس رسوله في آية المباهلة في القرآن المجيد، فكان بحق باب مدينة العلم الرباني الذي أودعه رب العزة في صدر سيد المرسلين و اختص به حبيبه خاتم النبيين صَلِّيَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، فأصبح أميرالمؤمنين علیه السلام قطب الرحي ینحدر عنه السيل و لايرقى إليه الطير، و قد وصل به الأمر إلى أن قال: «إنّا لأمراء الكلام، و فينا تنشّبت عروقه، و علينا تهدّلت غصونه»، حيث إن كلامه علیه السلام كان بحق في قمة الفصاحة و ارتقى إلى ذروة البلاغة.

و قد عمل كثير من العلماء و المؤرخين في سالف العصور على جمع ما انتشر من كلام الإمام في بطون أمهات المصادر، و ترتيب ما تبعثر في الفصول و الأبواب، فكان من أجمل ما تدوَن من مختارات بديع كلام علي علیه السلام كتاب نهج البلاغة للسيد الشريف الرضي (رضوان اللَّه عليه) في العام 400 من الهجرة، فكان نهج

ص: 9

البلاغة طوال القرون مناراً يهتدي به العالَمون، و يستضيء بنوره العالِمون، و كان بحقٍ التالي بعد كتاب اللَّه سبحانه من حيث إعجاز الكلمة و نصاعة المحتوى و عظمة المعنى، و من هذا المحتوى الراقي أخرج الدكتور عباس الفحام بعض الإخبارات التي تنبأ بها الإمام للمستقبل، ففي يوم بهيج و ذكرى ولادة الإمام الحجة بن الحسن(عجل اللَّه تعالى فرجه الشريف)، أقام مركز الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام للدراسات و البحوث التخصصية ندوة فكرية ثقافية في سلسلة محاضرات لثلاثة أيام متتالية من 9- 11 شعبان 1443ه_ بعنوان (إخبارات الإمام علیه السلام في نهج البلاغة) ألقاها الأستاذ الدكتور عباس الفحام، فقد سلط الضوء على إخبارات الإمام المستقبلية بما يسمى اليوم بعلم الاستشراف المستقبلي، لإظهار المكنون من علوم محمد صَلِّيَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وآله (صلوات اللَّه عليهم اجمعين) لاسيما الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام و سيد الوصيين و وصي رسول صَلِّيَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم رب العالمين الإمام علي بن ابي طالب علیه السلام و قد عمل المركز على تحويل هذه المحاضرات إلى كراس ليكون منهلاً عذباً للقراء و الباحثين. واللَّه من وراء القصد.

النجف الأشرف رجب الاصب 1443 ه_

مركز الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام للدراسات و البحوث التخصصية

ص: 10

المبحث الأول

الإبداع العلوي في نهج البلاغة

ص: 11

ص: 12

السلام عليكم و رحمة اللَّه و بركاته

الحمد للَّه رب العالمين و الصلاة و السلام على النبي صَلِّيَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم الأمين و على آل بيته علیهم السلام الطاهرين و بعد:

فإنه ليسرني كثيرا أن أكون بينكم لنلقي بعض الضوء على هذا الأثر البالغ، أعني به نهج البلاغة و عرض إخبارات الإمام علیه السلام فيه.

فما هو نهج البلاغة؟

نهج البلاغة هو مجموعة مختارات، جمعها الشريف الرضي المتوفى ( 406 ه_) من بطون الكتب التي سبقته، و هو أعلن في مقدمته أنها اختيارات أخذها من خطب الإمام علیه السلام، و قد أحسن كثيراً في جمعها، فهي إذن ليست كل كلام الإمام أمير المؤمنين علیه السلام، بل اختيارات سمّاها محاسن الكلم، إذ وضع لنفسه أسساً صرح عنها في المقدمة و قال: (فأجمعت بتوفيق اللَّه جل جلاله على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحكم و الأدب)(1)، و يكرر كثيراً محاسن البلاغة و قد أجاد فعلاً، لأن نهج البلاغة يختلف كثيراً عن المستدركات على الشريف الرضي من جهة المبنى، و من جهة متانة الجملة و سبكها، و في مناقشتنا لطلبتنا نلحظ هذا الفرق الكبير بينها و بين كلام أميرالمؤمنين علیه السلام المجموع في نهج البلاغة.

و أقول إن الكلام المجموع في نهج البلاغة ليس فيه هنة واحدة، و هذه من عجائب هذا الكتاب ما فيه و لاخطأ في بناء الجملة،

ص: 13


1- نهج البلاغة، الشريف المرتضى، خطب الإمام علي علیه السلام، ج1، ص12.

و لا في التركيب البياني، و الذين رموا الكتاب بالوضع من كبار نقاد مصر في الخمسينات و الستينات جانبوا الصواب و الحقيقة، لأن حججهم واهية، و قد ردها کتاب آخرون كالسيد عبدالزهرة الحسيني في مصادر نهج البلاغة و أسانيده، و السيد الجلالي في (توضيح نهج البلاغة)، لذا أصبح الحديث عن صحة نسبة ما في الكتاب إلى أميرالمؤمنين علیه السلام مضيعة للوقت لأنه كتب فيه كثيراً لتفنيد الادعاءات كما تقدم.

و من هذه الإشكالات أن هذا الأسلوب المنطقي الوارد في الكتاب ما كان موجوداً في عصر الإمام من قبيل قوله: (بني الإسلام على أربع)(1) أو (بني الكفر على أربع)(2)، و كأن من ذنب الإمام إذا كان قد سبق عصره، بينما الحديث النبوي صَلِّيَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فيه هذه التقسيمات و القرآن الكريم فيه تقسيمات منطقية، فلذلك الأولى أن نعرض عن هذه التقولات غير المبنية على أسس علمية، فهي مجرد إعادة لما قاله ابن خلكان مبنية على نوع من التطرف الفكري في الحقيقة.

ولكن دعنا ننظر إلى عظمة هذا الكلام من جهة تأثره بالقرآن الكريم، فهو من البلاغة العالية التي يفتخر بها اللسان العربي، بأن يكون بهذا المستوى المبكر للأثر القرآني في الكلام العربي، لأن الكلام العربي في عصر فصاحته الحقيقية في عصر النبوة و ما تلاه لم يتأثر بالأدب القرآني كما ينبغي له التأثر، حيث لم يفسد اللسان بالاختلاط بعد حتى ندعي فساد اللغة في هذا العصر من زمن

ص: 14


1- حلية الأولياء، الاصفهاني، رقم الحديث 225.
2- ميزان الحكمة، الريشهري/ ج3، ص2711.

نزول القرآن إلى سنة 40 ه_، بينما التأثير الحقيقي لانلمسه إلا في لسان الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام، و نحن دائماً نستثني رسولنا الأعظم صَلِّيَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم هذا الكلام فهو نبينا، و الإمام نفسه يفتخر أنه ربيبه و تلميذه.

و التأثر الحقيقي بالقرآن لأنه السر في تميز نهج البلاغة، و تميز كلام الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام من غيره، و هذا مدعاة سؤال أكبر هو أنه إذا كان العصر عصر النبوة صَلِّيَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و ما تلاه هو عصر الفصاحة و الشعر العربي، فأين الشعراء الجاهليون الذين تحداهم القرآن؟ أين الخطباء الكبار؟ لماذا انكفأوا، و لم يعد لهم تميز في الكلام؟

و أحسب أن السبب قلة التأثر بالأدب القرآني، كيف؟ لأن القرآن جاء بفكر جديد، الفكر الجديد يحتاج إلى وعاء لغوي جديد، يتناسب و الفكر القرآني كعمق بناء الإنسان، و كمال التشريع و مواكبة الحياة إلى يوم يبعثون، هذا ليس له نظير في العقلية العربية قبل نزول القرآن، فمعاني التوحيد التي جاء بها القرآن الكريم على سبيل المثال ليست موجودة في الفكر العربي بهذا العمق و السعة، و إنما كانت مجرد إشارات في التوحيد و خطرات بلغة هذا الخطيب أو ذاك، ليست بمستوى ما قدمه القرآن، و أصله أميرالمؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة، فقد كان أكثر كلامه علیه السلام فيه يتعلق بالتوحيد، لأن أغلب كلامه يجلبه إلى حظيرة إثبات الوحدانية، و هكذا هي خطبه في خلق الحيوان، كالجراد و الطاووس و الخفاش و النملة.

ستجد الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام يفاجئك بأن من وراء الغرض قضية التوحيد، كقوله في آخر كلامه في خلق النملة: (فاطر النملة هو

ص: 15

فاطر النخلة)(1)، كأنما صفة وحدة الوجود حاضرة في لسانه.

هذا العمق في الكلام غير موجود في الكلام العربي، لاقبل القرآن و لابعده، و أمامنا كتاب (جمهرة خطب العرب) و يستطيع الفرد جمعها و مقارنتها بكلام الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام، و سيجد الفرق.

ولكن لماذا لم يستطع خطباء العرب و شعراؤهم أن يكونوا بمستوى التأثير القرآني؟ الإجابة: لأنهم قاصرون في فهم بناء الجملة القرآنية، و قاصرون عن أداء معانيه، لأن معانيه جديدة و لايقدر المثقف و هو الشاعر و الناثر أن يستوعبها في مدة قصيرة من الزمن لأنه ليس معتاداً عليها، فالشاعر مثلاً لم يعتد على مدح نبي صَلِّيَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، و لايعرف حق معرفته، فلغة شعره تستقي من طريقة مدح وجهاء القوم، و من هنا لما انبرى شعراء قريش لهجاء الرسول صَلِّيَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم استدعى النبي صَلِّيَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بعد المشورة حسان بن ثابت و كان أول إشكاله عليه أن كيف سترد عليهم و أنا منهم؟

و ذلك لأنه يعلم علیه السلام طبيعة الخطاب عند الشعراء في التهاجي إنه أميل إلى السباب و الشتائم، و يمكن مراجعة كتاب (النقائض) لجرير و الفرزدق فيدرك ما نقصد، و شعر الهجاء في اللغة القديمة يميل إلى اللغة الصريحة، غير مراعية للحياء، و الرسول صَلِّيَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بحكم ثقافته و معرفته ببيئته الأدبية، يعرف كيف يفكر الشعراء، فأجابه حسان بقوله: سأسلك من بينهم كما تسل الشعرة من العجين(2)، و حسان قد أجاد في بعض ردوده و أخفق في أخرى.

ص: 16


1- نهج البلاغة، الشريف الرضي، خطبة 185.
2- فتح الباري، ابن حجر، ج6 ، ص629.

والأصمعي قال: (شعر حسان في الجاهلية من أجود الشعر، فقطع متنه في الإسلام)(1) يعني كقيمة فنية أفضل منه بكثير، نحو قصيدته في مدح الغساسنة:

بيض الوجوه كريمة أحسابهم *** شم الأنوف من الطراز الأول

و المقارنة بين قصائده في الإسلام مع نظيراتها في الجاهلية تكشف وجه الصحة، و الأصمعي أدرك ذلك فقال معللاً: (الشعر نكد بابه الشر، إذا دخل فيه الخير لان)(2)، و من هنا تبدو فرضية توهين الإسلام للشعر غير واقعية، وإنما الإسلام أراد من الشعر و الشاعر الالتزام و التهذيب، و لم يحارب الفن بما هو فن، إنه حارب الابتذال فيه، كما في بعض قصائد امرئ القيس الخالية من الحياء، نعم أراد أن يكون الشاعر بمرتبة عالية من الإنسانية، و أن يكون بمستوى عال من التهذيب.

على أي حال كان للشعراء لغتهم التي اعتادوها، فلايستطيع الشاعر أن يكون بمستوى هذا الفكر القرآني، فليس ثمة شاعر أو ناثر من ذلك العصر كتب في التوحيد أو الموت كما كتب الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام، فخطبه وحدها في التوحيد، و استعير كلمة الشهيد مطهري في نهج البلاغة: (و لعلنا نستطيع أن نعد البحوث التوحيدية في نهج البلاغة من أعجب بحوث هذا الكتاب، فإنها بدون مبالغة، و مع الالتفات إلى الشرائط الزمانية و المكانية للصدور، تقرب من حدود الإعجاز)، و لذلك كان ينبغي الافتخار بهذا الكلام و ليس التشكيك فيه.

ص: 17


1- الأصمعي، حجة الادب و لسان العرب تركي بن الحسن الدهماني، 2013، ص177.
2- الشعر و الشعراء الدينوري، ج1، 296.

إن أرقى الشعراء كأبي تمام و المتنبي، و أفضل الكتاب لو قورن ما كتبوا بلغة نهج البلاغة سيبدو الفرق واضحاً في استعمال اللغة و اختيار المفردة، بل أقول: إذا قارنت الديوان المنسوب للإمام بما جمع في نهج البلاغة ستجد أن الإمام شاعر في نهج البلاغة و أن الشاعرية فيه وحده من دون حاجة إلى نظم.

قال الدكتور علي جواد الطاهر: سألت أستاذي البصير هل كان الإمام علي علیه السلام شاعراً، فأجاب: نعم كان شاعراً، ولكن في خطبه و رسائله، باعتبار أن الشاعرية أكبر من أن تحد بقوالب من الشعر(1).

اختار الشريف الرضي تسمية موحية جداً للكلام الذي اختاره و جمعه ممن سبقه، و لم يسبقه فيه بهذه التسمية أحد، حين سماه (نهج البلاغة)، و هو من أحفاد الإمام الكاظم علیه السلام، فهو و أخوه الشريف المرتضى معجزة العصر، و قد توفي في ربيع شبابه، ولعفة نفسه لم يقبل صلة من أحد حتى من أبيه نقيب الطالبيين، و كان لشرف نفسه يخاطب المقتدر بقوله:

مهلاً أميرالمؤمنين فإننا *** في دوحة العلياء لانتفرق

إلا الخلافة ميزتك فإنني *** أنا عاطل منها و أنت مطوق

و نقرأ للرضي مراسلات أدبية و هو في عمر الفتوة السابعة عشر ربيعاً مع صديقه و أستاذه أبي إسحاق الصابي الذي بلغ السبعين عاماً، و ما هي إلا صحبة الإبداع و الأدب البارع، فالصابي صديق

ص: 18


1- الإمام علي علیه السلام الا ليس شاعراً ، ا.م.د. حسن عبدالمجيد الشاعر، مقالة نشرت في موقع كلية الأداب 2018/3/13.

والد السيد الرضي، ولكن لإعجابه بهذا الفتى حتى جرت بينهما رسائل أدبية.

فكيف يأتي أحد بعد ذلك و بهذه الاعتباطية و يتهم الشريف الرضى بالوضع و التدليس.

أما السؤال على أي أسس جمع الرضي كلام الإمام؟ فنقول:

إن ظاهر الاختيارات عامة كانت سمة العصر العباسي آنذاك، كاختيارات المفضل الضبي(1) و اختيارات ابن الشجري(2)، بل و كتب الحماسة من الاختيارات أيضاً.

و هكذا جرى الرضي في منوال عصره، فوضع تأليفه على ذلك النحو فتفسيره للقرآن الكريم واسمه (تلخيص البيان) على شكل اختيارات، و كتاب المجازات النبوية أيضاً اختيارات، و كذلك نهج البلاغة من كتب الاختيارات.

ويبدو أن كتابه (نهج البلاغة) كان في المرحلة الأخيرة من عمره،

ص: 19


1- المفضّل بن محمّد بن يَعلى بن عامر، ينتهي نسبه إلى ضبّة بن أدّ، ويكنى بأبي العّباس و أبي عبد الرحمن (98-171 ه_)، أحد الرواة الثقات لأشعار العرب و أخبارها و أيامها، و أحد قرّاء القرآن الكريم؛ و يُعدّ من علماء الكوفة، وُلد و نشأ فيها، و من تلاميذه المشهورين أيضاً الفرّاء و الكسائي، و المدائني، و أبوعمرو الشيباني، و عُمر بن شبة. وللمفضل من الكتب غير المفضليات «كتاب في العروض»، «كتاب معاني الشعر»، «كتاب الألفاظ»، «كتاب أمثال العرب»، و قد وصل إلينا منها «المفضليات» و «أمثال العرب». للمزيد راجع: المفضل الضبي، أمثال العرب، دار و مكتبة الهلال، بيروت 2003.
2- «بن شجري، أبو السّعادات هبة اللَّه بن عليّ العلوي الحسنيّ (450ه_ - 542 ه_)، نحويّ و لغويّ و أديب و شاعر شيعي. سمّي بالحسني نسبة إلى نسبه الذي يصل إلى الإمام الحسن المجتبى علیه السلام. ترك آثارا عدة منها كتاب الأمالي، الحماسة، مختارات شعراء العرب، منظومة ابن الشجري (سير اعلام النبلاء، الذهبي، ج20، ص196).

و ليت شعري ماذا سير فد المكتبة من درر لو مد اللَّه بعمره قبل أن يرحل في عمر الربيع.

فنهج البلاغة كان قبل كتاب المجازات النبوية، لأن في المجازات يشير إلى نهج البلاغة، و من بين مزايا كلام أميرالمؤمنين علیه السلام التردد في نسبته بينه و بين الرسول صَلَي اللَّه عَلَیهِ وَ آلَه و سَلَم، فالرضي و قد كتب في الحديث النبوي صَلَي اللَّه عَلَیهِ وَ آلَه و سَلَم أشار إلى ذلك، و هي فريدة لكلام الإمام لايدعيها أحد بعده على الإطلاق.

ومنه ما ذكر الشريف الرضي في قوله: (الحجر الغصيب رهن على أهلها بالخراب)(1)، فيقول: إنه يروى هذا الكلام عن النبي صَلَي اللَّه عَلَیهِ وَ آلَه و سَلَم و لاعجب أن يتشابه الكلامان لأن مستقاهما من قليب ومفرغهما من ذنوب.

وثمة أكثر من موضع فيه نهج البلاغة فيه مثل هذا التردد بالنسبة بين الرسول الأكرم صَلَي اللَّه عَلَیهِ وَ آلَه و سَلَم وأميرالمؤمنين (صلوات اللَّه عليهم).

و لم يحدثنا أحد بإنكار هذا الترديد على الإمام، و لايجرؤ أحد أن يقول مثل ذلك لأنه ليس بغريب عليه، فقد تربى في حجر النبوة صَلَي اللَّه عَلَیهِ وَ آلَه و سَلَم، و هذه واحدة من أسرار عظمة أميرالمؤمنين علیه السلام، فهي تثبت أين تربى و من أين أخذ لغته و ثقافته.

فالآن نحن عرفنا سر التميز في نهج البلاغة، و هو القرآن الكريم، و قد وضعت في ذلك كتابا أسميته (الأثر القرآني في نهج

ص: 20


1- شرح حكم نهج البلاغة، الشيخ عباس القمي، ص93.

البلاغة) و قد طبع أكثر من مرة فشكراً للعتبة العلوية المقدسة، لاسيما الأستاذ الراحل أبوأسماء الأزير جاوي (رحمه اللَّه تعالى)، و الأخ هاشم الباججي، لمساهمتهما بطبع الكتاب و نشره، و قد أثبت فيه أن سر الفرادة هو القرآن الكريم، و الموضوع ليس سهلاً، أن يتأثر الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام بالقرآن الكريم و لايتأثر به غيره، و أنا أقصد التأثر العميق، و ليس استعارة مفردة أو عبارة، فالمسألة تتعلق بكيفية تغلغل الفكر العميق الجديد في نفوس الأدباء المؤمنين ثم يعيد صياغته كما فعل أميرالمؤمنين علیه السلام، و لهذا فلاغرابة أن يتحدث الإمام علیه السلام عن الإخبارات.

و الإخبارات تندرج بهذا الإطار ضمن هذه العظمة، عظمة الذوبان بالقرآن و نبوة الرسول صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و عظمة الإمامة، فنحن نأخذها بالأسباب الطبيعية بالإضافة إلى القدسية، فالإخبارات استشراف المستقبل و هو ليس حديث الغيب، فالغيب من علم اللَّه وحده، قد يعلم اللَّه به أولياءه، غير أن من الغيوب ما اختص اللَّه به وحده كعلم الساعة.

واستشراف المستقبل من علوم العصر اليوم، يقيمون لديه الدراسات الإحصائية، لاستباق خطره، كالتنبؤ بنهاية العالم، و ظاهرة المناخ، فهذه كلها تعتمد على استشراف المستقبل و الاحتباس الحراري حيث يعتمد العلماء على بيانات و معطيات و كذلك نقص الماء و الجفاف، غير أن استشراف الإمام أمر آخر، فهو حديث بتعليم من الرسول صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، لايستطيع تفسيره العقل، فالعقل لايفسر

ص: 21

كل شيء، فالقرآن إعجاز، و الإعجاز كما تعلمون خرق للعادة و خرق لقانون العلية الذي بنى اللَّه فيه نظام مملکته.

الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام يندرج ضمن هذا الإطار، فهو يحدّث الناس عن المستقبل، و هم بين منافق و مؤمن و مصدّق و شاك، الشاك، قال له رجل و كان كلبياً: (لقد أعطيت يا أميرالمؤمنين علیه السلام علم الغيب، فضحك الإمام علیه السلام و قال: يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب و إنما هو تعلم من ذي علم، و إنما علم الغيب علم الساعة، و ما عدد اللَّه سبحانه بقوله: ( إن اللَّه عنده علم الساعة) الآية، فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، و قبيح أو جميل، و سخي أو بخيل، و شقي أو سعيد، و من يكون في النار حطبا، أو في الجنان للنبيين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لايعلمه أحد إلا اللَّه، و ما سوى ذلك فعلم علمه اللَّه نبيه فعلمنيه، و دعا لي بأن يعيه صدري، و تضطم عليه جوانحي)(1)، و هو يعني تعليم الرسول صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، و الإمام علیه السلام كان يقول: (واللَّه ما أسمعكم شيئا إلا وسمعته من رسول اللَّه صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم).

فهذا كله من رسول اللَّه صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، و يقول: (بل اندمجت على علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة)(2).

و الإمام يشرح لهذا الشخص أنه تعلم من ذي علم، في إشارة إلى قربه الروحي و المعنوي من الرسول صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم باعتباره أنه الوصي من بعده.

ص: 22


1- نهج البلاغة، الخطبة 128.
2- نهج البلاغة/ الرضي خطب الإمام علیه السلام، ج1، ص41.

فهو يشير الى قضية مهمة بالعلم و هي أن رواته كثير و وعاته قليل، و في ثنائه على أهل البيت علیهم السلام، دائماً ما يشير إلى أن العلم ليس للحفظ و إنما للفهم. فهذا هو علم الغيب فهناك مختصات بالعلم، خاصة باللَّه عزّوجل لم يطلع عليها أي أحد من خلقه كيوم القيامة، فلانبي و لاوصي يعرف متى الميعاد، لأنه ليس من مصلحة العباد معرفة هذا الأمر، و ماهية الروح كذلك، لاأحد يعلم سرها، فهو من مختصات اللَّه، وعدا ذلك علم يتعلمه.

مواهب الإمام علیه السلام

و قد كانت للإمام علیه السلام فرائد تميز بها عن غيره في الفصاحة و في الكلام و تفوق على أصحاب النبي صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم من الصفوة في الكلام، لأن بعضهم ألهاهم الصفق في الأسواق عن إدراك الغامض من تفسير مفردات الكتاب العزيز كتفسير قوله تعالى ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)(1) ففسرها الإمام علیه السلام انطلاقاً من سياقها القرآني من جهة و من مفهومها اللغوي من جهة أخرى بالكلأ و المرعى و قال: (إن قوله و فاكهة و أبا) اعتداد من اللَّه بإنعامه على خلقه فيما غذاهم به، و خلقه لهم و لأنعامهم، مما تحييا به أنفسهم و تقوم به أجسادهم)(2) فقد كانوا لايعرفون ما معنى (الأب) فدلهم على معناها من سياق ما بعدها.

و الجاحظ يقول: إن رسول اللَّه صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ابتدع أوضاعاً تركيبية في الكلام لم يألفها العرب، و الرسول صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، و قال:

ص: 23


1- (عبس): 31-32.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص58.

(أنا أفصح من نطق بالضاد)(1).

وقال: من أراد البقاء و لابقاء فليخفف الرداء... فقيل له يا رسول اللَّه صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم: ما معنى تخفيف الرداء؟ فقال صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم: قلة الدين(2).

فليس هناك أحد تربى في حضن هذه المدرسة كالإمام علي علیه السلام، فما هي الغرابة في أن يأتي بالحكمة و قد أذهلت السامعين، و كان علیه السلام يقول: (و لقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه و لايراه غيري، و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول اللَّه صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و خديجة علیها السلام و أنا ثالثهما، أرى نور الوحي و الرسالة، و أشم ريح النبوة صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم)(3).

و فصاحة علي علیه السلام يقر بها حتى عدوه، فقد قيل إن رجلا دخل على معاوية، و حين سأله من أين جئت؟ قال: جئتك من أعيا الناس، فقال معاوية: ويحك، و هل سن الفصاحة لقريش غير علي بن أبي طالب علیه السلام(4).

و لم تكن قريش معروفة بالفصاحة، لأن المشهورين بالفصاحة أهل البادية و الشعراء و الخطباء منهم كأصحاب المعلقات، فكلهم من البدو، و ليس فيهم من الحواضر كمكة، لأن العرب لاتقر بالجودة في الكلام لأهل المدن، فلايأخذون منها اللغة لان فيها فساداً بالألسن، و عندما جمع العرب اللغة ذهبوا الى البوادي.

و في طبقات ابن سلام في فحول الشعراء أسند طبقة خاصة أسماها

ص: 24


1- اعيان الشيعة، محسن الامين، ج1، ص542.
2- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج3، ص280.
3- بحارالأنوار، المجلسي، ج14، ص476.
4- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج6 ، ص279.

شعراء المدن، كأنه يميزهم عن غيرهم من الطبقات المجيدة، واللغة بعد أصلها الصحراء و مادتها اللغوية منها، فالشعر مصطلحاته كلها من الصحراء.

و قريش لم تكن معروفة بعلم الكلام و لاخطب التوحيد، و ربما سمع من بعض الخطباء إشارات في التوحيد، لأنهم قوم وثنيون، و لاريب في أن فرادة أميرالمؤمنين علیه السلام من مدرسة محمد صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، و مدرسة القرآن و هما اللتان بموهبة أميرالمؤمنين علیه السلام أنتج هذا الكتاب، إذ ليس له نظير، و لولا أن السياسة الفاسدة أفسدت علينا أعظم كلام قاله الإنسان، و هو الكلام النبوي لكان بين أيدينا ألف نهج نبوي صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، سوى النهج العلوي علیه السلام، ولكنها السياسة التي منعت جمع الحديث النبوي صَّلي اللَّه علیهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، و بدلاً منه عمدوا إلى وضع الأحاديث المزورة التي لاتتناسب و بلاغة النبوة، فابن عاشور(1) هذا المفسر الكبير يأخذ بحديث الثريد: (فضل السيدة عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام)(2)، فهذا شيء عجيب على شخص مفسر للقرآن.

و كان لابد من هذه المقدمة عن الإخبارات، لأنها تفتح الطريق المعرفتها، لأنها تتطلب فهماً من المتلقي حتى لايقع السامع في وهم معرفة الغيب على نحو الاستقلال، فهناك خطب تحدث بها الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام أخبر عن أفراد، و أخبر عن وقائع و أحداث عظيمة ستحصل، و أخبر عن ملاحم الإمام المهدي (عجل اللَّه تعالى فرجه الشریف)، سنتحدث عنها لاحقاً.

ص: 25


1- تفسير العدل و الاعتدال محمد عاشور، ص218.
2- فتح الباري، ابن الحجر، ح9، ص362.

ص: 26

المبحث الثانى

تقسیم الإخبارات

ص: 27

ص: 28

تقسیم الإخبارات عن الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام إلى ثلاثة أقسام هي:

القسم الأول: عن الأفراد.

القسم الثاني: الإخبار عن الظهور الموعود، و هي لاشك نفيسة للغاية و تحتاج إلى تدبّر و إحاطة.

القسم الثالث: الإخبار عن الملاحم و الحوادث.

أما التي عيّن فيها الأفراد فهي لاتحتاج إلى كثير من الجهد لمعرفتها لأن دلالتها واضحة، فمثلاً أخبر الإمام علیه السلام عن نفسه، و أخبر عن الحجاج و عن مصير معاوية، و عن مروان بن الحكم و أولاده.

وثمة أمر لافت هو أن أغلب إخبارات الإمام لاتأتي على شكل قصص، و إنما يربطها بواقع الناس، لأن الغرض الأساس من إيرادها في الغالب أخذ العظة و الاعتبار.

قال أمير المؤمنين علیه السلام، و هو يخاطب الناس لأجل وعظهم: (فاعتبروا بحال ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل عليهم السلام، فما أشد اعتدال الأحوال، و أقرب اشتباه الأمثال، تأملوا أمرهم في حال تشتتهم و تفرقهم ليالي كانت الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم يحتازونهم عن ريف الآفاق، و بحر العراق و خضرة الدنيا إلى منابت الشيح، و مها في الريح، و نكد المعاش)(1).

ص: 29


1- نهج البلاغة، خطب الإمام علي علیه السلام، ج22 ص153.

و نبات الشيح نبات صحراوي معروف في أرض الجزيرة، و يريد أن العرب أبعدوا عن الشام و العراق بغضاً لهم، إلى الصحراء، و لم يأتوا إلى العراق و الشام إلا مع جيوش الفتح، و ما قاله الإمام من الملاحم الغائبة عن التاريخ، لأن ولد إسماعيل من العرب عانوا الأمرين من مشقة الحياة بسبب تفرقهم وتشتت كلمتهم، بينما أبناء إسحاق عاشوا ملوكاً مرفهين.

ولنبدأ بنفس الإمام علیه السلام فقد كان يخبر عن نفسه كثيراً، و منها قوله يخطب على منبر الكوفة وهو يأخذ بلحيته (متى ينبعث أشقاها فيخضب هذه من هذه)(1).

و كان ممن أخبر عنه مروان بن الحكم، ففي نهج البلاغة ذكر أنه أخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل فاستشفع الحسن والحسين علیهما السلام إلى أميرالمؤمنين علیه السلام فكلماه فيه فخلى سبيله، فقالا له: يبايعك يا أميرالمؤمنين علیه السلام، فقال علیه السلام: أو لم يبايعني بعد قتل عثمان، لاحاجة لي في بيعته، إنها كف يهودية، لو بايعني بكفه لغدر بسبته، أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه، و هو أبوالأكبش الأربعة، و ستلقى الأمة منه و من ولده يوما أحمر(2).

ويعني بولده الوليد و سليمان و يزيد وهشام و لقيت الأمة منهم أياماً سود من البلايا.

و ممن حذرّ الأمة منه الحجاج بن يوسف الثقفي، نحو قوله:

ص: 30


1- اسد الغابة في تعيين الصحابة - ابن الأثير، ج4، ص117.
2- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد، ج6، ص146.

(أما واللَّه ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيال الميال يأكل خضرتكم و يذيب شحمتكم إيه أبا و ذحة)(1)، و هذا الكلام من الأعاجيب، و كان الحجاج معروفا بتكبره في مشيته، و كان المظلومون في حبسه يناشدونه الرحمة بعدما تولى الكوفة فيقول لهم: (اخسئوا فيها و لاتكلمون)(2) مستعيراً خطاب اللَّه لأهل النار، كأنه ينزل نفس منزلة اللَّه جل عن ذلك اللَّه، و رأى منه أهل السواد يوماً أحمر.

و الوذحة دويبة مثل الخنفساء ابتلاه اللَّه في خراج في دبره، فكان لا یهدأ إلا إذا جيء بهذه الحشرة في هذا المكان.

و لهذا الناس في عجب في شأن أميرالمؤمنين علیه السلام لأن أعداءه على كثرتهم وسطوتهم لم يقدروا على التعمية على حقيقة أميرالمؤمنين علیه السلام، و بالمناسبة إن أغلب الإخباريات التي جاء به أميرالمؤمنين علیه السلام في كلامه يأتي بها بصيغة (كأني، أو لكأني) بحيث ينزل المشهد الذي يريد أن يحكي عنه منزلة المشاهدة بسبب علمه الراسخ الذي تعلمه من رسول اللَّه صَّلَي اللَّهُ علیهِ و آلِهِ وَ سَلَم فقد خاطب الكوفة بقوله: (كأني بك تمدين مد الأديم العكاظي)(3).

والكلام كناية عن شدة المآسي التي تحصل بعد أميرالمؤمنين علیه السلام على أهل الكوفة، بعضه يصعب تحديده في أي زمن، و لهذا هو يربط حدث اليوم الذي هو فيه بالمستقبل، لأن مقدماته في كلامه تقول ذلك، فهو علیه السلام يستشعر ضعف المجتمع و فكاكه و تشتت وحدته، محذرا من أن يسلط عليه الذيال الميال في كل عهد.

ص: 31


1- نهج البلاغة، خطب الإمام علیه السلام، ج1، ص220.
2- معالم الفتن، سعید ایوب، ج2، ص335.
3- نهج البلاغة، خطب الإمام علیه السلام، ج1، ص97.

ومن عجيب ما قرأت: دخل غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال المجاشعي على الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام أيام خلافته، و غالب شيخ كبير، و معه ابنه همام الفرزدق، و هو غلام يومئذ، فقال له أميرالمؤمنين علیه السلام: من الشيخ؟ قال: أنا غالب بن صعصعة، قال: ذوالإبل الكثيرة؟ قال: نعم، قال: ما فعلت إبلك؟ قال: ذعذعتها الحقوق، و أذهبتها الحملات و النوائب، قال: ذاك أحمد سبلها، من هذا الغلام معك؟ قال: هذا ابني، قال: ما اسمه؟ قال: همام، و قد رويته الشعر يا أميرالمؤمنين علیه السلام و كلام العرب، و يوشك أن يكون شاعراً مجيداً، فقال: لو أقرأته القرآن فهو خير له، فكان الفرزدق بعد يروي هذا الحديث، و يقول: ما زالت كلمته في نفسي حتى قيد نفسه بقيد وآلى ألا يفكه حتى يحفظ القرآن، فما فكه حتى حفظه.

فكأن أميرالمؤمنين علیه السلام تفرس في وجهه، و قال علمه القرآن هو خير له، لأنه استشرف مستقبله، فقد كان الفرزدق من بعد يجامل الأمويين، فعندما يرى الإمام زين العابدين علیه السلام يمدحه حقيقة وعندما سأله الإمام الحسين علیه السلام يقول له: قلوبهم معك و سيوفهم عليك، وقد أضاع على نفسه فرصة الانضمام بالركب الحسيني.

أما القسم الثاني من إخباراته علیه السلام فهو ما تحدث به عن الإمام الموعود الحجة القائم (عج اللَّه تعالی و فرجه الشریف)، و إخباراته متناسقة مع الحدث الذي فيه يورد لهم العظة ثم يأتي بالمصداق من أحاديث المستقبل، فمن خطبة طويلة بعد تحميد اللَّه، و التحميد - إذا استطردت قليلا - علم شحن فيه علماً في دلائل الوحدانية، و عرض فيها أصول التوحيد

ص: 32

كلها، و منها: أيها الناس لايجر منكم شقاقي، و لايستهوينكم عصياني، و لاتتراموا بالأبصار عندما تسمعونه مني، فوالذي فلق الحبة و برأ النسمة إن الذي أنبئكم به عن النبي الأمي صَّلَي اللَّهُ علیهِ و آلِهِ وَ سَلَم، ما كذب المبلغ و لاجهل السامع، ولكأني أنظر إلى ضليل قد نعق بالشام، و فحص براياته في ضواحي كوفان، فإذا فغرت فاغرته، و اشتدت شكيمته، و ثقلت في الأرض وطأته عضت الفتنة أبناءها بأنيابها، و ماجت الحرب بأمواجها، و بدا من الأيام كلوحها، و من الليالي كدوحها، فإذا أينع زرعه وقام على ينعه، و هدرت شقاشقه، و برقت بوارقه، عقدت رايات الفتن المعضلة، و أقبلن كالليل المظلم، و البحر الملتطم، هذا و كم يخرق الكوفة من قاصف، و يمر عليها من عاصف، و عن قليل تلتف القرون بالقرون، و يحصد القائم و يحطم المحصود)(1).

و قوله: (و لاتتراموا بالأبصار)، لأن أحدهم يغمز و يلمز للآخر عندما يسمعون أحاديث المستقبل، و لفظ المبلغ عنى به الرسول صَّلَي اللَّهُ علیهِ و آلِهِ وَ سَلَم و لفظ السامع عنى به نفسه و التشبيه في قوله (لكأني) دال على شدة رسوخ ما تعلمه الإمام علیه السلام ما تعلمه من النبي صَّلَي اللَّهُ علیهِ و آلِهِ وَ سَلَم، و لفظ الظليل مبالغة بالظلالة، و ربما أريد السفياني، أو الدجال، و النعيق صوت الراعي بغنمه يعيني بهذا الكلام ظهور الدجال من هناك، و فحص براياته بضواحي الكوفان يعني به البصرة و الكوفة، أي: جعل مقراته قريبة من الكوفة و البصرة.

ومعنى فغر الفاغرة و هو إذا فتح فمه من شيء يتعجب منه،

ص: 33


1- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد، ج7، ص100.

ومعنى الكنايات: واشتدت شكيمته، و ثقلت في الأرض و طأته، و عضت الفتنة أبناءها بأنيابها و ماجت الحرب بأمواجها و بدامن الأيام كلوحها، كلها كنايت عن الشدائد، و يراد بقوله: یحصد القائم: أي: القائم على الزرع النابت.

فالإمام يتكلم عن الفتن التي تحيط بالعراق و العراقيين من شيعة أهل البيت (صلوات اللَّه عليهم)، و الشريف الرضي لم يأت بالخطبة كاملة، لأن غرضه ليس ذلك، فقد تتناثر أجزاء الخطبة في الكتاب و هو ما أشار إليه الرضي نفسه في تعليقاته.

و على الرغم من العرض الموضوعي في الحقائق التي عرضها الإمام في خطبه الملحمية إلا أنها جاءت بمعالجات أدبية في غاية الفن الذي عرفت به لغة الإمام و سحره البياني، و هذا من أصعب ما يكون على غير الإمام علیه السلام، فالأدباء يبتعدون عن لغة الحقائق.

و في موضع آخر قال أميرالمؤمنين علیه السلام عن المهدي (عج اللَّه تعالي فرجه الشریف): (يعطف الهوى على الهدى، إذا عطفوا الهدى على الهوى، و يعطف الرأي على القرآن، إذا عطفوا القرآن على الرأي)(1).

و منها: (حتى تقوم الحرب بكم على ساق باديا نواجذها، مملوءة أخلافها، حلوا رضاعها، علقما عاقبتها، ألا و في غد -و سيأتي غد بما لاتعرفون- يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوي أعمالها و تخرج له الأرض أفاليذ كبدها، و تلقي إليه سلماً مقاليدها، فيريكم كيف عدل السيرة، و يحيي ميت الكتاب و السنة).

ص: 34


1- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد، ج9، ص40.

و معنى (يعطف الهوى على الهدى)، أي إن حال الناس في ذلك الوقت مثل الناس في هذا الوقت يجعلون القرآن في خدمة أهوائهم. فيثنون الدين على خدمة أمزجة الوالي، و العطف الإثناء، و قيام الحرب على ساق،كناية عن شدتها، و معنى (باديا نواجذها)، كناية عن افتراسها للناس، و قوله: (مملؤة أخلافها) بمعنى احتفاؤها بما يخفى على الناس.

و معنى (تخرج له الأرض من أفاليذ كبدها) أي تخرج له كنوزها المخبوءة، و قوله: (يريكم كيف عدل السيرة)، أي حسن تطبيق الإمام المهدي عج اللَّه تعالي فرجه الشریف لشريعة جده بحيث ينطبق قوله على عمله فلاظلم و لافساد و لااستئثار و لاأنانية، مما يحقق العدل الاجتماعي الذي حلمت به فلسفات الأرض كلها من مثالية أفلاطون الرومان، إلى كوش الفارسي، و عقد حمورابي، إلى العصر الحديث و ظهور نظريات الشيوعية و الرأسمالية و الاشتراكية و القومية و النظريات الإسلامية الحديثة التي فشلت كلها في تحقيق ما تصبو إليه الإنسانية، فيبعث اللَّه بمظهر عدله إلى أهل الأرض فيقيم فيها العدل بعد أن ملئت ظلماً و جوراً.

و قال الإمام علیه السلام: (كأني بك يا كوفة تمدين مد الأديم العكاظي، تعركين بالنوازل و تركين بالزلازل، و إني لأعلم أنه ما أراد بك جبار سوءاً إلا ابتلاه اللَّه بشاغل و رماه بقاتل).

و الأديم العكاظي معروف حيث كان الجلد المدبوغ يأتي من عکاظ، و النوازل المصائب الشديدة، و الإمام يشير بكلامه إلى زياد

ص: 35

بن أبيه فقد رام أن يجتث أهل الكوفة، و عمل على تهجير أهلها، ذكر التاريخ أن مئة ألف من الأشاعرة هجرهم زياد إلى بلاد فارس، و هي عملية تغيير ديمغرافي في الكوفة، فهذه الهجرة القسرية التي تتكرر عبر الأزمان مع الطغاة يقصد بها استهداف أتباع أهل البيت علیهم السلام في كل زمان و حتى وقت قريب.

أما القسم الثالث فيتعلق بالإخبار عن الملاحم و الحوادث

في الواقع ذكرت في جملة من إخبارات الإمام صلوات اللَّه عليه تتعلق بمصير الأفراد و تتعلق بتفاصيل الظهور المهدوي، و وصلنا الآن إلى القسم الثالث و هو ما يتعلق بتسجيل الحوادث و الوقائع المفصلية من ملاحم كما ذكرها و علق عليها الشريف الرضي، فأقول:

و هنا ثمة مزيتان في قضية الأحاديث المستقبلية، أولاهما: إنها ليست بوارد قصص يحكيها الإمام علیه السلام، و إنما مرتبطة بطبيعة الموقف الذي هو فيه، و هذا من ميزاته علیه السلام في القدرة على ربط حاضره بمستقبله، و لذا إخباراته ستندرج في المواعظ، و هي في الحقيقة لاتندرج ضمن الإخبارات الصرفة، بل في الحالة التي يعظ و يوجه و يرشد فيها مجتمعه، فيحدث نوعاً من الربط بين حدثه الذي ه-و فيه وحدث مستقبلي مرتقب و جعل الحدث المجتمعي مقدمة لما يحذر منه.

ص: 36

و المزية الأخرى أن هذا الحدث المستقبلي الذي اسمه اخبار أو استشراف لرسوخ علمه في ذهن أميرالمؤمنين علیه السلام لكونه علماً تعلمه من ابن عمه المعلم العظيم، كأنه يراه، فلذلك يعبر عنه بصيغة التشبيه، فأغلب الإخبارات في نهج البلاغة يبدؤها: بكأني، و كأني، كما تقدم، فيجعل نفسه كأنه يشاهدها و يخبر بها الناس، ففي البصرة بعد يوم الجمل و المجتمع البصري كان منقسماً بين عثماني و علوي، و ذلك بسبب أثر تبعية جيش الفتح، فحين اختار أصحاب الجمل البصرة منطلقاً للخروج عن بيعة الإمام علیه السلام، كان هذا الاتكاء على ميول بعض قبائل البصرة إلى الزبيريين، و مثله تأثر أهل الشام بالأمويين، و هذه من المفارقات التي ينبغي الوقوف عليها، لأنها جيوش تابعة لقادتها لالدولة الإسلام، و لهذا كثرة مما يسمى بالفتوحات يناقض الفكر الإسلامي، بينما المدن التي قادها أميرالمؤمنين علیه السلام بقيت على استقامتها كاليمن، و كذا مكوثه في الكوفة بل و أثره بعد ذلك في البصرة و إقامة مراكز العلم و القضاء فيها، و انتشار مدارس العلم من الحاضرتين الكوفة و البصرة حيث مدارس التفسير و النحو و علوم العربية.

و من هنا يُعلم السبب في اقتراح اليمن على الإمام الحسين علیه السلام مهجراً له، بدلاً من العراق، و هكذا حين اختيرت البصرة للاحتراب الداخلي (الحرب الأهلية) ضد إصلاحات أميرالمؤمنين علیه السلام حررها بوقت قياسي جداً و اجهض مؤامرة قلب الحكم عليه، فهناك نوع من التآمر مع الشام على تفتيت الدولة الفتية للإسلام، و من هنا اضطر الإمام إلى الذهاب الى الكوفة، و التاريخ يتعامى عن حقيقة

ص: 37

أن تحرير البصرة تم بأهل الكوفة و قد امتدحهم الإمام لذلك، و قد وبخ الإمام بعض الخائنين من قبائل البصرة و المترددين، لأن هذا العمل الإرهابي لم تفعله قبلهم أمة، فالعصر ليس بعيداً من عصر التوحيد، لأنهم حين أخذوا المدينة عمدوا إلى أقلية من الزنج و نكّلوا بهم، و قتلوهم صبراً و مثلوا بأجسادهم، و يذكر أن هؤلاء الزنوج كانوا من محبي الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام و كانوا ضخاماً جساماً، استغلوا طاقتهم لحماية مراكز الدولة في البصرة مثل مراكز الشرطة و بيت المال، و قد كان عددهم سبعين نفراً، و في الحقيقة أن موالاة الأقليات الداخلة في الإسلام في تلك المدة المبكرة من عمر دولة التوحيد محل توقف فأكثر هم من أتباع الإمام كالفرس، لأنهم وجدوا فيه الأبوة و الحنو لا الحاكم المتسلط، فأخطاء قيادة الدولة في ذلك الوقت قبل تسلم الإمام قيادة الأمة صنعت طبقيات غير منصفة بين المسلمين تفاقمت يوماً بعد يوم، بسبب كثرة الاجتهادات مقابل النص، و منها تفاوت العطاءات بسبب الاختلاف في المسميات فالقرشي ليس كالموالي و الحر ليس كالعبد، و مع تضخم موارد الدولة بسبب الفتوحات أصبح هؤلاء ذوي تأثير في عمق قرار السلطة، و لاريب في أن هذه الطبقيات سببت مشكلة في بنية الدولة إلى هذا اليوم فالنظرة الى الفرس ما تزال على أساس التعنصر الطبقي القوم الذي حاربه الفكر القرآني، بقوله تعالى: (إن أكرمكم أتقاكم)(1).

ص: 38


1- الحجرات،13.

ثورة الزنج

و سبب ذكري لهذا الأمر أعني قتل الزنوج في الجمل قول أميرالمؤمنين علیه السلام فيما حذر منه أهل البصرة، فمن كلام له فيما يخبر به من الملاحم بالبصرة: (يا أحنف كأني به و قد سار بالجيش الذي لايكون له غبار و لالجب، و لاقعقعة لجم، و لاحمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام)(1).

و في موضع آخ: (ويل لسكككم العامرة، و الدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور، و خراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لايندب قتلهم، و لايفتقد غائبهم).

فالإمام يومئ بذلك إلى صاحب الزنج، و هي ثورة دموية أزعم أن لها جذوراً من تهميشهم و معاملتهم بدونية و قتل أجدادهم في لبصرة، فقد أسكنوهم في منطقة السباخ في البصرة منطقة حارة و ذات ملوحة، و عاملوهم كعنصر أدنى و بنوع من التعالي، و لهذا صاحب الزنج ادعى ما يسد به نقصه فزعم أنه من ذرية الإمام علي علیه السلام و استقطب الزنوج إلى ثورته لتلك الأسباب، و قد أهل العراق منهم الويل و الثبور ، و استمرت ثورته عشرات السنين، قتل فيها آلاف الناس في تلك المدة، و لم يقدر أحد على القضاء عليهم سوى في زمن المتوكل.

ص: 39


1- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد، ج8، ص125.

غرق البصرة

و مما قال أميرالمؤمنين علیه السلام لأهل البصرة في ذلك الموقف بعد حادثة الجمل: (كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث اللَّه عليها العذاب من فوقها و من تحتها و غرق من في ضمنها).

(وفي رواية): (وأيم اللَّه لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة، أو نعامة جاثمة، (و في رواية أخرى): كأني أنظر إلى قريتكم هذه قد طبقها الماء حتى ما يرى منها إلاشرف المسجد كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر)(1).

و البصرة كما هو معروف غرقت أكثر من مرة عبر تاريخها، قال ابن أبي الحديد شارح النهج: (و الصحيح أن المخبر به قد وقع، فإن البصرة غرقت مرتين، مرة في أيام القادر، باللَّه و مرة في أيام القائم بأمر اللَّه، غرقت بأجمعها و لم يبق منها إلامسجدها الجامع بارزاً بعضه كجؤجؤ الطائر، حسب ما أخبر به أميرالمؤمنين علیه السلام، جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس، و من جهة الجبل المعروف بجبل السنام، و خربت دورها، و غرق كل ما في ضمنها، و هلك كثير من أهلها، و أخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة، يتناقلها خلفهم عن سلفهم)(2).

ص: 40


1- نهج البلاغة، خطب الإمام علیه السلام، ج1، ص45.
2- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد، ج1، ص253.

غزو المغول

وحدّث الإمام علیه السلام عما سيحل بأهل العراق فأشار إلى غزو المغول و سقوط بغداد سنة 606 للهجرة، و يسميهم الترك، فقال: (كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون السرق و الديباج و يعتقبون الخيل العتاق، و يكون هناك استحرار قتل حتى يمشي المجروح على المقتول، و يكون المفلت أقل من المأسور)(1).

و الترك ليس هؤلاء الترك، إنما المراد بهم المغول، فقد كانوا يسمون بذلك، و هم أهل خشونة و جفاء و بداوة.

و شبه وجوههم بالمجان المطرقة، أي التروس التي تطرق بالجلد و العصب فتتصل طبقاته و ينضم بعضه إلى بعض، و هذا الوصف ينطبق تماماً على أشكال المغول، و منه صفة جنكيز خان و التتر معه، قال ابن أبي الحديد(2): و اعلم أن هذا الغيب الذي أخبر عنه قد رأيناه نحن عياناً، و وقع في زماننا، و كان الناس ينتظرونه من أول الإسلام، حتى ساقه القضاء و القدر إلى عصرنا، و هم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق و الشام و فعلوا بملوك الخطا و قفجاق، و ببلاد ما وراء النهر، و بخراسان و ما والاها من بلاد العجم، ما لم تحتو التواريخ منذ خلق اللَّه تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله، فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته و أن طالت مدته نحو عشرين سنة إلا في إقليم واحد و هو أذربيجان، و هؤلاء

ص: 41


1- نهج البلاغة، خطب الإمام علي علیه السلام، ج2، ص10.
2- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد، ج8، ص218.

دوخوا المشرق كله، و تعدت نكايتهم إلى بلاد إرمينية و إلى الشام، و وردت خيلهم إلى العراق، و بخت نصر الذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس، و قتل من كان بالشام من بني إسرائيل، و أي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من بني إسرائيل إلى البلاد و الأمصار التي أخر بها هؤلاء و إلى الناس الذين قتلوهم من المسلمين و غيرهم).

و في خلاصة الأمر، إن كلام الإمام علیه السلام في أحداث المستقبل جزء مما تعلمه من النبي صَّلَي اللَّهُ علیهِ و آلِهِ وَ سَلَم فهو وصيه وعيبة علمه و مستودع أسراره.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين

ص: 42

المصادر

1- القرآن الكريم.

2- نهج البلاغة، الشريف الرضي، تحقيق فارس الحسون، مركز الابحاث العقائدية.

3- حلية الأولياء و طبقات الاصفياء، ابونعيم الاصفهاني، مكتبة الخانجي القاهرة -دار الفكر بيروت- 1996.

4- ميزان الحكمة، محمد الريشهري، تحقيق و نشر: دارالحديث 1416ه_.

5- الاصمعي حجة الادب و لسان العرب، الدهماني، أمواج للنشر -الاردن 2013.

6- فتح الباري بشرح صحيح الامام البخاري، ابن حجر العسقلاني، دارالكتب السلفية -2010.

7- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، تحقيق موسوعة ال البيت لاحياء التراث، 2014.

8- أعيان الشيعة، محسن الامين، تحقيق: حسن الامین، دارالتعارف -بيروت.

9- بحارالأنوار، العلامة المجلسي وزارة الارشاد الاسلامي -ايران 1365.

10- الشعر و الشعراء ابن قتيبة الدينوري، دارالحديث القاهرة -1423.

11- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد، مكتبة المرعشي النجفي، رقم 1406.

12- تفسير العدل الاعتدال، محمد بن عاشور الكلمة نغم، مصر1415.

13- اسد الغابة ابن الاثير، تحقيق علي محمد عوض، دارالكتب العلمية 1415.

14- معالم الفتن، سعيد ایوب، مركز الابحاث العقائدية، 1414ه_.

15- مسند الإمام علي علیه السلام، حسن القبانجي، تحقيق طاهر السلامي، الاعلمي -بیروت 2000ه_.

ص: 43

ص: 44

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.