حياة أم المؤمنين خديجة عليها السلام

هوية الکتاب

محمود شلبي

حياة أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام

دارالجیل

بيروت - لبنان

ص: 1

اشاره

ص: 2

محمود شلبي

حَيَاةُ أمّ المؤمنين خديجة عليها السّلام

دارالجیل

بيروت

ص: 3

ص: 4

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحیم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ..

و الصلاة و السلام على خاتم النبيين ..

و بعد ..

هذه «حياة أم المؤمنين خديجة» ، رضي الله عنها و أرضاها ..

أوّل مَن آمَن على الاطلاق ..

و أفضل نساء النبي .. صلّى الله عليه و سلم.

و أم فاطمة الزهراء ، عليها السلام ..

و أمّ المؤمنين بعد ذلك !!

أنعم الله عليَّ بشرف الكتابة عنها ..

ص: 5

ص: 6

بعد أن كتبت «حياة مريم» .. و «حیاة فاطمة». و «حياة اسية» .. لتتم دائرة الكاملات. الوارد ذكرهنّ في قوله .. صلّى الله عليه و سلم:

«حسبك من نساء العالمين ..

«مريم ابنة عمران ..

«و خديجة بنت خويلد ..

«و فاطمة بنت محمد ..

«و اسية امرأة فرعون.»

و ها هي حياتها الشريفة .. تتلألأ أمام عينيك ..

اللهم .. صلِّ .. و سلِّم .. و بارك .. على محمَّد .. و على أزواجه الأطهار!!

1408 ھ

1988 م

محمود شلبي

ص: 7

ص: 8

هذه .. هي خديجة ؟!

ص: 9

ص: 10

حسبك من نساء العالمين ؟!

«عن أنس رضي الله عنه ..

«أن النبي .. صلّى الله عليه و سلم .. قال:

«حسبك من نساء العالمين ..

«مريم ابنة عمران ..

«و خديجة بنت خويلد ..

«و فاطمة بنت محمد ..

«و آسية امرأة فرعون.»

[ أخرجه الترمذي ]

ص: 11

خير نسائها ؟!

«عن عليّ ..

«سمعت رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. يقول:

«خير نسائها مريم بنت عمران ..

«و خير نسائها خديجة بنت خويلد.» ..

[ أخرجه مسلم ]

ص: 12

خيرُ نسائِها خديجةُ ؟!

«عن عليٍّ .. رضي الله عنه ...

«عن النبيِّ .. صلّی الله علیه و سلم .. قال:

«خيرُ نسائها مريمُ ..

«و خيرُ نسائها خديجَةُ.»

[ أخرجه البخاري ]

ص: 13

ما غِرْتُ على امرأةٍ .. ما غِرْتُ على خديجةَ ؟!

«عن عائشة .. رضي الله عنها .. قالت :

«ما غِرْتُ على امرأةٍ .. ما غِرْتُ على خديجةَ ..

«من كثرةِ ذكْر رسولِ الله .. صلّی الله علیه و سلم .. ایاها ..

«قالت : و تزوّجني بعدَها بثلاثِ سنينَ ..

«و أمَرهُ ربُّه عزّ وجلّ ..

«أو جبريلُ .. عليه السلامُ ..

«أن يُبَشّرَها ببيتٍ في الجنةِ من قصَبٍ.»

[ أخرجه البخاري ]

ص: 14

كأنهُ لم يكن في الدنيا .. امرأةٌ إلا خديجةُ ؟!

«عن عائشة رضي الله عنها .. قالت:

«ما غِرْتُ على أحَدٍ من نساءِ النبيّ .. صلّی الله علیه و سلم ..ما غِرْتُ على خديجةَ ..

«و ما رأيْتُها ..

«و لكنْ كان النبيُّ .. صلّی الله علیه و سلم .. يُكْثرُ ذِكرَها ..

«و رُبما ذبَحَ الشاةَ .. ثم يُقَطِّعُها أعضاءً ..

«ثمّ يبعَثُها في صدائِقِ خديجةَ ..

«فرُبما قلتُ له: كأنّهُ لم يكُن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة ..

فيقولُ: إنها كانتْ و كانتْ .. و كان لي منها وَلدٌ ..

[ الخرجه البخاري ]

ص: 15

هل بشَّر النبيُّ .. صلّی الله علیه و سلم .. خدیجة ؟!

«عن اسماعيلَ قالَ:

«قلتُ لعبدِ اللهِ بنِ أبي أوفى .. رضي الله عنهما: بشّرَ النبيُّ .. صلّی الله علیه و سلم .. خديجة ؟

«قالَ: نعم. ببيتٍ من قَصَبٍ(1) .. لا صَخَبَ فيه و لا نَصَبَ .»

[ اخرجه البخاري ]

ص: 16


1- قال جمهور العلماء: المراد به قصب اللؤلؤ الجوف كالقصر المنيف .. و قيل: قصب من ذهب منظوم بالجوهر. قال أهل اللغة: القصب من الجوهر ما استطال منه في تجويف .. و يقال لكل مجوف قصب .. و المراد بالبيت هنا القصر !

جبريل .. عليه السلام .. يقول :

فاقرأ عليها السلام .. من ربِّها .. و مني ؟

« عن أبي هريرة .. رضي الله عنه .. فال

«أتي جبريلُ .. النبيّ .. صلّی الله علیه و سلم .. فقال

«يا رسولَ اللهِ .. هذه خديجةُ .. قد أتَتْ معها إناءٌ فيه إدامٌ .. او طعامٌ .. او شرابٌ ..

«فاذا هي أتَتْكَ فاقرَأ عليها السلامَ ..

«من ربها ..

«و منّي ..

«و بَشِّرْها ببیتٍ في الجنّةِ .. من قَصَبٍ .. لا صَخَبَ فیه و لا نصَبَ .»

[ أخرجه البخاري ]

ص: 17

«قد أتتك» أي توجهت اليك ..

«فيه إدام أو طعام أو شراب»، شك من الراوي ..

«فاقرأ عليها السلام» أي سلِّم عليها من ربها و مني .. فإن قلت: كيف ردّت الجواب ؟

«قلت: بيّن ذلك الطبراني في روايته

«فقالت: هو السلام .. و منه السلام .. و على جبريل السلام» !!

قلت: و عليها السلام ؟

ص: 18

خديجة تقول:

و عليك يا رسول الله السلام ؟!

«و للنسائي - من رواية أنس - قال:

«قال جبريل للنبي .. صلّی الله علیه و سلم: إن الله يقرىء خديجة السلام ..

«يعني: فأخبرها ..

«فقالت: إن الله هو السلام ..

: و علي جبريل السلام ..

: و عليك يا رسول الله السلام .. و رحمة الله و بركاته ..

«و في رواية ابن السنى زيادة و هي قولها:

و على من سمع السلام .. إلا الشیطان ..

«فإن قلت: لمّا ردّت الجواب بما ذكرنا .. هل كان جبريل عليه السلام حاضراً ؟

ص: 19

«قلت: بلى .. كان حاضراً ..

«فردّت عليه .. و ردّت على النبي .. صلى الله تعالى عليه و سلم .. مرتين .. ثم أخرجت الشيطان ممن سمع لأنه لا يستحق الدعاء بذلك.»

[ شرح البخاري ]

علیها السلام !!

ص: 20

عائشة قالت عنها ؟

«عن عائشة قالت

«بشّرَ رسولُ اللهِ .. صلّی الله علیه و سلّم ..خديجةَ بنتَ خُوَيلد ..

«ببيْتٍ في الجنةِ .

[ أخرجه مسلم ]

أي : ببيت من قصب .. أي من اللؤلؤ المجوف .. أو قصب من ذهب منظوم بالجوهر !

ص: 21

إني قدْ رزقتُ حبَّها ؟!

«عن عائشةَ قالتْ: ما غِرْتُ على نساءِ النبيّ .. صلّی الله علیه و سلم .. إلا على خديجة ..

«و إني لمْ أُدركْها ..

«قالتْ: و كان رسولُ اللهِ .. صلّی الله علیه و سلم .. إذا ذَبَح الشاةَ فيقولُ: أرسِلوا بها إلى اصدقاءِ خديجةَ ..

«قالتْ: فأغضبتُهُ يوماً .. فقلتُ: خديجةَ ..

«فقال رسولُ اللهِ .. صلّی الله علیه و سلّم:

«إني قدْ رُزِقْتُ حبَّها.»

[ أخرجه مسلم ]

ص: 22

لم يتزَوَّج على خديجةَ حتى ماتتْ؟!

«عن عائشة قالتْ:

«لم يتزوَّجِ النبيُّ .. صلّی الله و سلم .. على خديجةَ .. حتى ماتتْ.»

[ أخرجه مسلم ]

ص: 23

عندما استأذنت اخت خديجة ..

على رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم ؟!

«عن عائشة قالت:

استأذَنَتْ هالةُ بنتُ خويْلدٍ .. أختُ خديجةَ .. علي رسولِ اللهِ .. صلّی الله علیه و سلم ..

«فعَرَفَ استئذان خديجةَ .. فارتاح لذلك ..

«فقالَ: اللهمّ هالةُ بنتُ خوَيْلدٍ

«فغِرْتُ .. فقلتُ: و ما تذْكرُ من عجوز من عجائز قريشٍ .. حمراءِ الشِّدْقَيْنِ .. هَلَكَتْ في الدهْرِ .. فأبدَلكَ اللهُ خيرا منها.»

[ أخرجه مسلم ]

«فارتاح لذلك» أي هش لمجيئها و سرَّ بها .. لتذكره بها خديجة و أيامها ..

ص: 24

«و في هذا کلّه دلیل لحسن العهد .. و حفظ الود .. و رعاية حرمة الصاحب و العشير في حياته و وفاته .. و اكرام أهل ذلك الصاحب ..

«حمراء الشدقين» معناه عجوز كبيرة جداً .. حتّي سقطت أسنانها من الكبر، و لم يبق لشدقها بياض شيء من الأسنان .. إنما بقي فيه حمرة لثاتها ..

«قال العلماء: الغيرة مسامح للنساء فيها .. لا عقوبة عليهن فيها .. لما جبلن عليه من ذلك .. و لهذا لم تزجر عائشة عنها ..

«قال القاضي: و عندي أن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها و أول شبيبتها ..»

ص: 25

بشَّرَها ؟!

«عن عائشةَ قالت:

«ما حَسَدْتُ أحداً .. ما حسدْتُ خديجةَ ..

«و ما تزوّجَني رسولُ اللهِ .. صلّی الله علیه و سلم .. إلا بعْدَ ما ماتتْ ..

«و ذلكَ أنّ رسولَ اللهِ .. صلّی الله علیه و سلم .. بشَّرَها ببيْتٍ في الجنّة .. من قصَبٍ .. لا صَخَبَ فيه و لا نصَبَ.»

[ أخرجه الترمذي ]

و «قال: هذا حديث حسَنٌ ..

«من قَصَبٍ .. قال: إنما يعني به قَصَبَ اللؤلو» ..

ص: 26

و قال ابن العربي:

«كان النبي عليه السلام .. قد انتفع بخديجة .. برأيها و مالها و نصرها .. فرعاها حية و ميتة .. و برَّها موجودة و معدومة .. و أتى بعد موتها ما كان يعلم أنه يسرها لو كان في حياتها ..

«و قد بشرها النبي عليه السلام ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه و لا نصب .. معناه عار عن الأذية .. و يريد به قصب اللؤلؤ .. مركباً عن الذهب و الفضة ..

«و هي أفضل نساء الأمة .. من غير خلاف ..» !!

ص: 27

خيرُ نسائها خديجةُ ؟!

«عن عبدِ اللهِ بن جعفر قال:

«سمعتُ عليّ بنَ ابي طالب يقولُ:

«سمعتُ رسولَ اللهِ .. صلّی الله علیه و سلم .. يقولُ:

«خَيرُ نسائها خديجةُ بنتُ خُوَيْلدٍ ..

«و خيرُ نسائها مريَمُ ابنَتُ عِمْرانَ.»

[ أخرجه الترمذي ]

و قال: «و هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ».

و قال ابن العربي:

«خير نساء قريش خديجة .. و بعدها فاطمة .. و عائشة» !!

ص: 28

آمنتْ بي اذ كفر الناس ؟!

«عن عائشة:

«كان رسول الله .. صلّی الله علیه و سلّم .. لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة .. فيحسن الثناء عليها ..

«فأدركتني الغيرة فقلت: و هل كانت إلا امرأة عجوزاً .. فقد أبدلك الله خيراً منها ؟.

«فغضب حتى اهتز مقدّم شعره من الغضب .. ثم قال:

« لا .. و الله ما ابدلني الله خيراً منها .. آمنَت بي إذ كفر الناس .. و صدقتني إذ كذبني الناس .. و واستنى في مالها إذ حرمني الناس .. و رزقني منها الولد إذ حرمني اولاد النساء ..

«فقالت عائشة: فقلت في نفسي: لا اذكرها بسيئة أبدا.»

[ ابن عبد البر: الاستيعاب: ترجمة خديجة .. و كذلك ابن حجر في الإصابة .. و السمط الثمين. ]

ص: 29

افضل نساء أهل الجنة ؟!

و أخرج أحمد .. و أبو حاتم .. رواية أبي هريرة ... عن رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. أنه قال:

«أفضل نساء أهل الجنة ..

«خديجة بنت خويلد ..

«و فاطمة بنت محمد ..

«و مريم ابنة عمران ..

«و آسية بنت مزاحم زوجة فرعون.»

[ الوفا بأحوال المصطفى ]

ص: 30

سيدة نساء العالمين؟

و روى ابن عباس ..

أن رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. قال:

«سيدة نساء العالمين ..

«مريم ..

«ثم فاطمة ..

«ثم خديجة ..

«ثم آسية ..»!!

[ محب الدين الطبري .. السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين. ]

و بعد .. كانت هذه بعض مناقب .. أم المؤمنين .. خديجة بنت خويلد .. عليها السلام !!

ص: 31

ص: 32

الخطوط العريضة .. من حياة أم المؤمنين .. 1- ماذا قبل البعثة؟!

ص: 33

ص: 34

متى ولد؟

يوم الاثنين .. من شهر ربيع الاول .. في الثاني عشر من ذلك الشهر.

وضعته أشرف عقيلة في قريش، آمنة بنت وهب.

وضعته یتیماً !

لقد توفي أبوه، عبدالله بن عبد المطلب، و هو جنين في بطن أمه !!

ذلك أن عبدالله خرج إلى الشام ، إلى غزة، في عير من عيران قريش، يحملونه تجارات، ففرغوا من تجاراتهم، ثم انصرفوا فمروا بالمدينة .. و عبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض. فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار. فأقام عندهم مريضاً شهراً.

ص: 35

و مضى أصحابه، فقدموا مكة، فسألهم عبد المطلب عن إبنه عبدالله، فقالوا: خلفناه عند أخواله بني النجار، و هو مريض.

فبعث اليه عبد المطلب أكبر ولده، الحارث، فوجده قد توفي و دفن في دار النابغة.

فرجع إلى أبيه فأخبره، فحزن عليه عبد المطلب و إخوته و أخواته حزناً شديداً، و رسول الله صلّی الله علیه و سلّم يومئذ جنين، و لعبد الله ابن عبد المطلب يوم توفي خمس و عشرون سنة.

لقد توفي أبوه و هو جنين في بطن أمه .. و هذا أبلغ اليتم و أعلى مراتبه.

و كان ذلك أول بلاء يواجه الطفل الوليد .. و إن كان لا يدري شيئاً عن تلك المعاني .. إلا أن المقادير كانت تدري، و كانت تؤهله لأمر عظيم !

و ألهمهم الله عز وجل أن سموه محمداً .. ليلتقي الاسم و الفعل، و يتطابق الاسم و المسمى، في الصورة و المعنى.

و شق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود و هذا محمد

ص: 36

من لليتيم ؟

عن حليمة بنت الحارث أنها قالت: قدمت مكة في نسوة من بني سعد نلتمس بها الرضعاء، في سنة شهباء، فقدمت على أتان لي قمراء كانت أذمّت(1) بالركب، و معي صبي لنا، و شارف لنا، و الله ما تبض بقطرة، و ما ننام ليلتنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، ما نجد في ثديي ما يغنيه، و لا في شارفنا ما يغذيه، و لكنا كنا نرجو الغيث و الفرج.

فخرجت على أتاني تلك، فلقد أذمّت بالركب حتى شق ذلك عليهم، ضعفاً و عجفاً، فقدمنا مكة، فوالله ما علمت منا امرأة إلا و قد عرض عليها رسول الله صلّى الله عليه و سلم فتاباه، إذا قيل إنه يتيم تركناه. قلنا ماذا عسى ان تصنع الينا أمه؟ إنما نرجو المعروف من أبي الولد، فأما أمه فماذا عسى ان تصنع إلینا؟

فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعاً غيري،

ص: 37


1- أي: جاءت بما تذمّ عليه.

فلما لم نجد غيره، و أجمعنا الانطلاق قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى، و الله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.

فقال: لا عليك أن تفعلي، فعسى أن يجعل الله لنا فيه خیراً.

فذهبت، فاخذته، فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره، فما هو إلا أن أخذته، فجئت به رَحْلي فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن! فشرب حتى روي، و شرب أخوه حتى روي!

و قام صاحبي إلى شارفنا تلك، فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب، و شربت حتى روينا، فبتنا بخير ليلة ..

فقال صاحبي حين أصبحنا: يا حليمة .. و الله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير و البركة حين أخذناه؟

فلم يزل الله عز وجل يزيدنا خيراً، ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا، فوالله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار، حتى أن صواحبي ليقلن: ويلك يا بنت أبي ذؤيب، هذه أتانك التي خرجت عليها معنا؟ فأقول: نعم، والله إنها لهي فقلن: والله إن لها لشأناً.

ص: 38

حتى قدمنا أرض بني سعد، و ما أعلم أرضاً من ارض الله أجدب منها، فإن كانت غنمي لتسرح، ثم تروح شباعاً لبناً، فتحلب ما شئنا، و ما حوالينا أو حولنا احد تبض له شاة بقطرة لبن؛ و إن اغنامهم لتروح جياعاً ..

حتى إنهم ليقولون لرعاتهم: ويحكم، أنظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب، فاسرحوا معهم.

فيسرحون مع غنمي حيث تسرح، فتروح أغنامهم جياعاً ما فيها قطرة لبن! و تروح أغنامي شباعاً لبنا، نجلب ما شئنا.

فلم يزل الله يرينا البركة يتعرفها حتى بلغ سنتين، فكان يشب شباباً لا تشبه الغلمان. فوالله ما بلغ السنتين حتى كان غلاما يقوى على الأكل.

فقدمنا به على أمه، و نحن أضن شيء به، مما رأينا فيه من البركة. فلما رأته أمه، قلت لها: دعينا نرجع بإبننا هذه السنة الأخرى، فإنا نخشى عليه وباء مكة. فوالله ما زلنا بها حتى قالت: نعم ..

ص: 39

عودة الطفل الى أمه

و عادت حليمة بالصبي حيث كانت تقيم .. ثم اعادته إلى أمه بعد شهرين أو ثلاثة ..

فكان رسول الله صلّی الله علیه و سلم مع أمه آمنة بنت وهب، و جدّه عبد المطلب في كلاءة الله و حفظه، ينبته الله نباتاً حسناً، لما یرید به من كرامته.

و لكن الأم تموت !

فلما بلغ ست سنين ..

ماذا حدث لليتيم الصغير؟

قدمت آمنة بنت وهب به على أخواله من بني النجار بالمدينة، تزيره إياهم ..

ثم ماذا؟

ص: 40

ثم ماتت أمه و هي راجعة به إلى مكة، ماتت بالأبواء.

و توفيت أمه آمنة بنت وهب، و هو ابن ست سنين!

و صار الصبي اليتيم لطيماً .. فاقداً لأبويه!

عبد المطلب يكفله

و كان رسول الله صلّی الله علیه و سلم مع جده عبد المطلب بن هاشم، بعد موت أمه آمنة بنت وهب.

فكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، و كان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج اليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالاً له.

فكان رسول الله صلّی الله علیه و سلم يأتي، و هو غلام قوي، حتى يجلس عليه.

فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب، إذا رأى ذلك منهم: دعوا إبني فوالله إن له لشأناً.

ثم يجلسه معه على فراشه، و يمسح ظهره بيده، و يسره ما يراه يصنع.

ص: 41

و رقّ عبد المطلب عليه رقّة لم يرقها على ولده!

و كان يقربه منه، و يدنيه، و يدخل عليه إذا خلا، و إذا نام.

فلما حضرت عبد المطلب الوفاة، أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و حياطته.

ثم مات عبد المطلب، و دفن بالحجون.

و كان صلّی الله علیه و سلم وقتئذ ابن ثمان سنين.

أبو طالب يكفله

فلما توفي عبد المطلب، قبض أبو طالب رسول الله صلّی الله علیه و سلم، فكان يكون معه.

و كان أبو طالب لا مال له، و كان يحبه حباً شديداً، لا يحبه ولده!

و كان لا ينام إلا إلى جنبه!

و يخرج فيخرج معه.

ص: 42

و كذلك جعل الله حب رسول الله صلّی الله علیه و سلم شيئاً في شغاف قلوبهم، و القى عليه محبة منه، فما رآه عبد المطلب إلا أحبه، و ما رآه أبو طالب من بعده إلا أحبه حباً شديداً.

بحيري الراهب

ثم إن أبا طالب خرج في رَكب تاجراً إلى الشام.

فلما تهيأ للرحيل، و أجمع المسير، صَبّ به(1) رسول الله صلّی الله علیه و سلم، فرقّ له، و قال أبو طالب: والله لأخرجن به معي، و لا يفارقني و لا أفارقه أبداً.

فخرج به معه، فلما نزل الركب بصْرَى من أرض الشام، و بها راهب يقال له بَحيري في صومعة له، و كان اليه علم أهل النصرانية، و لم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب اليه، يصیر علمهم عن كتاب فيها، يتوارثونه كابراً عن كابر.

فلما نزلوا ذلك العام ببحيري، و كانوا كثيراً ما يمرون به قبل

ص: 43


1- صب به: اشتد میله اليه، و رقّ قلبه له.

ذلك، فلا يكلمهم و لا يعرض لهم حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا به قريباً من صومعته صنع لهم طعاماً كثيراً، و ذلك -فيما يزعمون- عن شيء رآه و هو في صومعته: يزعمون أنه رأى رسول الله صلّی الله علیه و سلم و هو في صومعته في الركب، حين أقبلوا و غمامة تظله من بين القوم.

ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريباً منه، فنظر إلى الغمامة حین أظلت الشجرة، و تهصَّرَت(1) أغصان الشجرة على رسول صلّی الله علیه و سلم حتى استظل تحتها.

فلما رأى ذلك بَحيري نزل من صومعته، ثم أرسل اليهم، فقال: إني قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، فأنا احب أن تحضُروا كلكم، صغيركم و كبيركم، و عبدكم و حركم.

قال له رجل منهم: والله، يا بحيري، إن لك لشأناً اليوم، ما كنت تصنع هذا بنا، و قد كنا نمر بك كثيراً !! فما شأنك اليوم؟

قال له بَحيري: صدقت، قد كان ما تقول، و لكنكم ضَيْفٌ و قد أحببت ان اكرمكم و اصنع لكم طعاماً فتاكلون منه كلكم.

فاجتمعوا اليه، و تخلف رسول الله صلّی الله علیه و سلم من بين القوم،

ص: 44


1- تهصرت: مالت و تدلت.

لحداثة سنه، و قد كان لرسول الله صلّی الله علیه و سلم يومئذ من العمر اثنتا عشرة سنة، تخلَّف فى رحال القوم تحت الشجرة.

فلما نظر بَحيري في القوم و لم ير الصفة التي يعرف و يجد عنده قال: يا معشر قريش، لا يتخلّفنَّ احد منكم عن طعامي.

قالوا له: يا بحيري، ما تخلف عنك احدٌ ينبغي له ان يأتيك إلا غلاماً و هو أحدث القوم سنّاً، فتخلف في رحالهم.

فقال: لا تفعلوا، أدعوه فليحضر هذا الطعام معكم.

فقال رجل من قريش مع القوم: واللات و العُزَّى إن كان لَلُؤْمٌ بنا أن يتخلف ابن عبدالله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام اليه فاحتضنه و اجلسه مع القوم.

فلما رآه بَحيري جعل يلحظه لحظاً شديداً، و ينظر إلى اشياء من جسده، و قد كان يجدها عنده من صفته.

حتى إذا فرغ القوم من طعامهم و تفرقوا، قام اليه بَحيري فقال له: يا غلام، أسألك بحق اللات و العزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه؟

و إنما قال له بَحيري ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما.

فزعموا أن رسول الله صلّى الله عليه و سلم قال: «لا تسألني باللات و العزى شيئاً، فوالله ما أبغضتُ شيئاً قطُّ بُغْضَهُما».

ص: 45

فقال بحيري: فبالله إلا ما اخبرتني عما أسألك عنه؟

فقال له: «سلني عما بدا لك».

فجعل يسأله عن أشياء من حاله: من نومه، و هيئته، و أموره.

فجعل رسول الله صلّى الله عليه و سلم يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيري من صفته.

ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.

فلما فرغ اقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟

قال: إبني.

فقال له بَحيري: ما هو بإبنك، و ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً.

قال: فإنه ابن اخي.

قال: فما فعل أبوه؟

قال: مات و أُمه حُبْلى به.

قال: صدقت .. فارجع بابن أخيك إلى بلده، و احذر عليه یهود، فوالله لئن رَأَوْهُ و عرفوا ما عرفت لَیَبْغُنَّه شراً .. فإنه

ص: 46

كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فاسرع به إلى بلاده.

فخرج به عمه ابو طالب سريعاً، حتى اقدمه مكة، حين فرغ من تجارته بالشام.

الامين

و لقد شب رسول الله صلّی الله علیه و سلم يكلؤه و يحفظه و يحوطه من اقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته و رسالته، حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءةً، و أحسنهم خلقاً، و أكرمهم حسباً، و أحسنهم جواراً، و أعظمهم حلماً، و أصدقهم حديثاً، و أعظمهم أمانةً، و أبعدهم من الفحش و الأخلاق التي تدنس الرجال تنَزُّهاً و تكرُّماً، حتى ما اسمه في قومه إلا «الأمين»، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة.

يشهد حرب الفجار

فلما بلغ رسول الله صلّی الله علیه و سلم أربع عشرة سنة، هاجت حرب الفِجار

ص: 47

بين قريش و من معها من كنانة، و بين قَيْس عَيْلان.

و كان الذي هاجها أن عُروة أجار لطيمة(1) للنعمان بن المنذر.

فقال له البَرَّاض بن قَيس: أتجيرها على كنانة؟

قال: نعم .. و على الخلق كله.

فخرج فيها عروة، و خرج البراض يطلب غفلته، حتى إذا كان بالعالية غفل عروة، فوثب عليه البَرَّاض، فقتله في الشهر الحرام، فلذلك سمي الفِجار، لأنه كان قتالاً في الشهر الحرام، ففجروا فيه جميعاً.

فأتي آت قريشا فقال: إن البرَّاض قد قتل عُروة، و هم في الشهر الحرام بعكاظ.

فارتحلوا و هوازن لا تشعر بهم، ثم بلغهم الخبر، فأتبعوهم، فأدركوهم قبل ان يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، و دخلوا الحرم، فامسكت عنهم هوازن.

ثم التقوا بعد هذا اليوم اياماً، و القوم متساندون -أي ليس لهم أمبر واحد يجمعهم- على كل قبيل من قريش و كنانة رئيس

ص: 48


1- اللطيمة: الجمال التي تحمل المسك. و إجارتها: أن يكون لها جاراً فيمنع التعدي عليها.

منهم، و على كل قبيل من قيس رئيس منهم.

و شهد رسول الله صلّى الله عليه و سلم بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم.

و قال رسول الله صلّی الله علیه و سلم:

«كنت أنبل على أعمامي، ..

أي أرد عنهم نَبْل عدوهم إذا رموهم بها.

يتزوج

فلما بلغ رسول الله صلّی الله علیه و سلّم خمساً و عشرين سنة تزوج خديجة بنت خُوَيلد.

و كانت خديجة امرأة تأجرة، ذات شرف و مال، تستأجر الرجال في مالها، و تضاربهم إياه بشيء تجعله لهم.

و كان قريش قوماً تجاراً.

فلما بلغها عن رسول الله صلّی الله علیه و سلم ما بلغها، من صدق حديثه، و عظم أمانته، و كرم أخلاقه، بعثت اليه، فعرضت عليه أن

ص: 49

يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً، و تعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له مَیْسَرَةُ، فقبله رسول الله صلّی الله علیه و سلم منها، و خرج في مالها ذلك، و خرج معه غلامها مَیْسَرَة، حتى قدم الشام.

ثم باع رسول الله صلّی الله علیه و سلم سلعته التي خرج بها، و اشترى، ثم أقبل قافلاً إلى مكة و معه ميسرة.

و حدثها ميسرة عن شمائله و مكارمه.

و كانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة.

فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها به، بعثت إلى رسول الله صلّی الله علیه و سلم فقالت له: يا ابن عم، إني قد رغبتُ فيك، لقرابتك، و شرفك في قومك، و أمانتك، و حسن خلقك، و صدق حديثك.

ثم عرضت عليه نفسها.

و كانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسباً، و أعظمهن شرفاً، و أكثرهن مالاً.

كلُّ قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه.

فلما قالت ذلك لرسول الله صلّی الله علیه و سلم ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على خویلد بن اسد، فخطبها اليه، فتزوجها.

ص: 50

و أصدقها رسول الله صلّی الله علیه و سلم عشرين بكرة.

و كانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و لم يتزوج عليها غيرها، حتى ماتت رضي الله عنها.

فولدت لرسول الله صلّی الله علیه و سلم ولد، كلهم إلا إبراهيم.

ولدت له القاسم، و الطاهر، و الطيب، و زينب، و رقية، و أم كلثوم، و فاطمة.

و أكبر بنيه القاسم، ثم الطيب، ثم الطاهر. و أكبر بناته رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة.

فأما القاسم و الطيب و الطاهر فهلكوا في الجاهلية، و أما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن، و هاجرن معه صلّی الله علیه و سلم.

و أما إبراهيم فأمه مارية، ألتي أهداها إليه المقوقس صاحب إسكندرية.

و كان عمر خديجة حين تزوجها رسول الله صلّی الله علیه و سلم خمسة و ثلاثين سنة، و قيل خمساً و عشرين سنة.

ص: 51

يحتكمون اليه

فلما بلغ رسول الله صلّی الله علیه و سلم خمساً و ثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة.

فلما تم لهم هدمها، جمعت القبائل من قريش الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، فاختصموا فيه.

كل قبيلة تريد ان ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا و تحالفوا، و أعدوا القتال.

فمكثت قريش على ذلك أربع ليالٍ أو خمساً، ثم إنهم إجتمعوا في المسجد و تشاوروا، و تناصفوا.

فقال أبو أمية بن المغيرة، و كان عامئذ أسنَّ قريش كلها: يا معشر قريش اجعلوا بينكم، فيما تختلفون فيه، أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه .. ففعلوا.

فكان اول داخل رسول الله صلّی الله علیه و سلم.

فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد.

ص: 52

فلما انتهى اليه اخبروه الخبر.

فقال صلّی الله علیه و سلم: «هَلُمَّ إِلىَّ ثَوْباً، فأتى به، فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخُذْ كل قبيلةٍ بناحيةٍ من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بیده، ثم بنى عليه.

و كانت قريش تسمي رسول الله صلّی الله علیه و سلم قبل ان ينزل عليه الوحي «الأمين».

و هكذا كانت حياته صلّى الله عليه و سلم قبل أن يبعثه الله إلى الناس كافة.

حياة هادئة صافية.

فهو ابن الصحراء، نشأ فيها أصولاً و فروعاً.

و الصحراء تطبيع اهلها بالصفاء، و تغرس في أبنائها حب الحرية، و حب الشجاعة، و حب الكرم، و حب السخاء.

هذا من ناحية البيئة التي نشأ فيها.

أما عن السلالة فهو ابن خليل الله، ابن إسماعيل ذبيح الله،

ص: 53

ابن قريش سادة العرب، ابن بني هاشم سادة قريش.

و متى اجتمع للانسان كرم الأصول، و كرم المنبت، فهو الشجرة الطيبة في الأرض الطيبة.

و لقد كان رسول الله صلّی الله علیه و سلم قبل بعثته، يُصنع صناعة خاصة على عين ربه عز وجل.

فما من شيء يؤدي إلى جماله و كماله إلا أخذ به ربه اليه.

و ما من شيء يقربه من الإنسانية، و يباعده من الكبر و الجبروت إلا سلك الله به اليه سبيلاً.

هذا ابوه يموت و هو جنين في بطن امه.

ثم هذه أمه تموت و هو ابن ست سنين.

فيجتمع عليه من فقده و موتها يتمان أليمان.

و النفس إذ تحزن تفكر و يتعمق تفكيرها، فتهتدي من حزنها إلى حقائق كانت عنها لاهية.

ليس هذا وحده، و إنما هناك بعد ذلك موت جده عبد المطلب .. فما بلغ صلّی الله علیه و سلم ثماني سنين حتى ذهب عبد المطلب إلى ربه. ففقد محمد صلّی الله علیه و سلم بموته جداراً ضخماً كان يستند بظهره اليه.

و لم يقف البلاء برسول الله صلّی الله علیه و سلم عند ذلك، و إنما ساقه القدر إلى

ص: 54

كفالة عمه أبي طالب الرجل الفقير ذي العيال!

فتألم صلّی الله علیه و سلم، و تعلم، و لكنه لم يتكلم.

تعلم أن في الحياة آلاماً لا يحترق بنارها إلا من اصطلاها و عاناها.

و أن فيها ظروفا هي أشق على النفس من لقاء الموت.

و لقد كان لزاما، و حتما مقضيا، ان يمر محمد صلّی الله علیه و سلم بتلك التجارب.

و كان ذلك هو التمهيد لبناء إنسانيته الأولى قبل النبوة.

ص: 55

ص: 56

الخطوط العريضة .. من حياة أم المؤمنين .. 2- البعثة؟!

ص: 57

ص: 58

فلما بلغ محمد رسول الله صلّى الله عليه و سلم أربعين سنة، بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، و كافة للناس بشيراً.

و كان الله تبارك و تعالى قد أخذ الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به، و التصديق له، و النصر له على من خالفه.

و أخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم و صدقهم، فأدَّوْا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيه.

يقول الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه و على آله و سلم:

«و إذ أخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لما آتيتكم من كتابٍ و حكمةٍ، ثم جاءكُم رسولٌ مصدقٌ لِمَا معكُم لَتُؤْمِننَّ به وَ لَتَتْصُرُنّهُ, قال أَأَقْرَرْتُمْ و أَخَذْتُمْ على ذلكم إصري»

أي: ثقل ما حملتكم من عهدي ..

«و قالوا أقرَرْنا، قال فاشهدوا و أنا معكم من الشّاهدين».

(آل عمران: 81)

فأخذ الله ميثاق النبيين جميعاً بالتصديق له، و النصر له ممن

ص: 59

خالفه، و أدوا ذلك إلى من آمن بهم و صدقهم من أهل هذين الكتابين.

بدء الوحي

كان أول ما بدأ به رسول الله صلّی الله علیه و سلم من النبوة، الرؤيا الصادقة.

لا يري رسول الله صلّی الله علیه و سلم رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح.

و حبَّب الله تعالى اليه الخلوَة، فلم يكن شيء أحب اليه من أن يخلو وحده.

و كان إذا خرج لحاجتة أبعد حتى تبعد عنه البيوت، و يفضي إلى المواضع الخفية بين جبال مكة، و بطون أوديتها، فلا یمر رسول الله صلّی الله علیه و سلم بحجر و لا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.

فيلتفت رسول الله صلّی الله علیه و سلم حوله، و عن يمينه، و شماله، و خلفه، فلا يرى إلا الشجر و الحجارة.

ص: 60

فمكث رسول الله صلّی الله علیه و سلم كذلك يرى و يسمع، ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله، و هو بحراء في شهر رمضان.

و كان رسول الله صلّی الله علیه و سلم يعتكف في حراء من كل سنة شهراً.

و كان ذلك مما تتعبد به قريش في الجاهلية.

فكان رسول الله صلّی الله علیه و سلم يعتكف ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين.

فإذا قضى رسول الله صلّی الله علیه و سلم جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به -إذا ما انصرف من معتكفه- الكعبة، قبل أن يدخل بيته.

حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها، و ذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول الله صلّی الله علیه و سلم إلى حراء، كما كان يخرج لمعتكفه ..

حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، و رحم العباد بها، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى.

ص: 61

قال رسول الله صلّی الله علیه و سلم:

فجاءني جبريل و أنا نائم بنَمَطٍ من ديباجٍ فيه كتابٌ؛ فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أقرأ، قال: فغَتَّني(1) به حتى ظننتُ أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال: قلت: ما اقرأ؟، قال فغتّني به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال: قلت: ماذا اقرأ؟ قال: فغَتَّني به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال: فقلت: ماذا اقرأ -ما أقول ذلك إلا افتداءً منه أن يعودَ لي بمثلِ ما صنع بي فقال:

«اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الانسان من عَلَقٍ * اقرأ و ربك الاكرمُ * الذي علَّم بالقلم * علَّمَ الانسانَ ما لم يعلمْ» (العلق: 1 - 5)

قال فقرأتها، ثم انتهي فانصرف عني ..

و هببت من نومي فكانما كتِبَتْ في قلبي كتاباً، قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسطٍ من الجبلِ سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمدُ، أنت رسولُ اللهِ، و انا جبريل، قال: فرفعتُ رأسي إلى السماءِ أنْظُرُ فإذا جبريلُ في صورةِ رجلٍ صافٍّ قدميهِ في

ص: 62


1- غتني: عصرني عصراً شديداً حتى وجدت منه المشقة، كما یجد من يغمس في الماء قهراً.

أفق السماء، و يقول: يا محمد، أنت رسول الله، و أنا جبريل، قال: فوقفتُ انظر اليه، فما اتقدَّمُ و ما أتأخّر، و جعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، قال: فلا أنظرُ في ناحيةٍ منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً ما أتقدمُ أمامي و ما أرجِعُ ورائي، حتى بَعَثَت خديجةُ رُسُلها في طلبي فبلغوا أعلى مكةَ و رجعوا اليها، و أنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني، و انصرفت راجعاً إلى اهلي؛ حتى أتيت خديجة؛ فجلست إلى فخذها مضيفاً(1) اليها؛ فقالت: يا ابا القاسمِ، اين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة و رجعوا لي!. ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عَم و اثبت، فوالذي نفس خديجة بِيَدِهِ إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة.

ثم قامت فجمعت عليها ثيابها؛ ثم انطلقت إلى ورقة بن نَوْفل بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي و هو ابن عمها؛ و كان ورقة قد تنصَّر؛ و قرأ الكتب و سمع من أهل التوراة و الإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلّی الله علیه و سلم انه رأى و سمع.

فقال ورقة بن نوفل: قُدوسٌ قدوس؛ و الذي نفس ورقة بيده

ص: 63


1- مضیقاً: ملتصقاً بها مائلاً إليها.

لئن كنتِ صدقتيني يا خديجة؛ لقد جاءه النّامُوس(1) الأكبر الذي كان يأتي موسى، و إنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبُت.

فرجعت خديجة إلى رسول الله صلّی الله علیه و سلم فأخبرته بقول ورقة ابن نوفل.

و في رواية البخاري:

.. فرجع بها(2) رسول الله صلّی الله علیه و سلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد. فقال: زمّلوني زمّلوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة، و اخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم، و تقري(3) الضيف، و تحمل(4) الكلّ، و تكسب(5) المعدوم، و تعين على نوائب الحق(6) .. فانطلقت به خديجة حتى أتت

ص: 64


1- الناموس: الملك الذي جاءه بالوحي.
2- فرجع بها: بالكلمات التي القاها اليه الملك.
3- تقري: تكرمه.
4- و تحمل: يعطي الفقير ما يريحه من ثقل تكاليف عياله.
5- و تكسب: تبادر إلى إعطاء الفقير.
6- إذا وقعت نائبة لأحد في خير أعنت فيها، و قمت مع صاحبها حتى يجد قواماً من عيش.

اوّل من آمن

فمضى رسول الله صلّی الله علیه و سلم على أمر الله، على ما يلقى من قومه من الخلاف و الأذى.

و آمنت به خديجة، و صدقت بما جاءه من الله، و وازرته على أمره.

و كانت اول من آمن بالله و برسوله و صدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه صلّی الله علیه و سلم.

لا يسمع شيئاً مما يكرهه، من رد عليه و تكذيب له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع اليها: تثبته و تخفف عليه، و تصدقه، و تهون عليه أمر الناس.

ص: 65

فتور الوحي

ثم فتر الوحي عن رسول الله صلّی الله علیه و سلم فترة من ذلك، حتى شق ذلك عليه فأحزنه.

فجاءه جبريل بسورة الضحى، يقسم له ربه -و هو الذي أكرمه بما اكرمه به- ما ودعه ربه و ماقلاه. فقال تعالى: «و الضحى. و الليل إذا سجى. ما ودعك ربك و ما قلى» يقول: ما صرمك فتركك و ما ابغضك منذ أحبك. «و للاخرةُ خيرٌ لك من الأولى» اي: لما عندي في مرجعك إلى خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا «و لسوْفَ يعطيك ربك فترضى» من الظهور و النصر في الدنيا، و الثواب في الآخرة «ألم يجدْكَ يتيماً فآوى. و وَجدَك ضالاً فهدى. و وجدك عائلاً فأغنى» يعرفه الله ما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره، و منه عليه في يتمه و فقره و ضلالته و استنقاذه من ذلك كله برحمته «فأما اليتيم فلا تقهرْ. و أما السائلَ فلا تنهرْ» أي: لا تكن جباراً، و لا متكبراً، و لا فحاشاً، فظّاً على الضعفاء من عباد الله. «و أما بنعمة ربك فحدِّثْ». أي: بما جاءك من الله من نعمته و كرامته من النبوة فحدث، أي: اذكرها و ادع اليها.

(الضحى: 1 - 11)

ص: 66

فجعل رسول الله صلّی الله علیه و سلم يذكر ما أنعم الله به عليه و على العباد من النبوة سراً، إلى من يطمئن اليه من أهله.

بداية فرض الصلاة

و افترضت عليه الصلاة، فصلى رسول الله صلّى الله عليه و سلم.

افترضت الصلاة على رسول الله صلّی الله علیه و سلم اول ما افترضت عليه ركعتين ركعتين كل صلاة.

فجاء رسول الله صلّی الله علیه و سلم خديجة فتوضا لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل؛ فتوضأت كما توضأ لها رسول الله عليه السلام، ثم صلى بها رسول الله عليه السلام كما صلى به جبريل، فصلت بصلاته.

اول من آمن من الصبيان؟

ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله صلّی الله علیه و سلم و صلى معه

ص: 67

و صدق بما جاءه من الله تعالى علي بن أبي طالب.

و هو ابن عشر سنين يومئذ، و كان مما أنعم الله على عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه كان في حِجْر رسول الله صلّی الله علیه و سلم قبل الإسلام.

أبو طالب يفاجئهما يصليان!

و يروى أن رسول الله صلّی الله علیه و سلم كان إذا حضرت الصلاة، خرج إلى شعاب مكة، و خرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من أبيه أبي طالب، و من جميع اعمامه و سائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا.

فمكثا كذلك ما شاء الله ان يمكثا.

ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوماً و هما يصليان فقال لرسول الله صلّی الله علیه و سلم: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي اراك تدين به؟ قال: «أي عم هذا دین الله، و دين ملائكته، و دين رسله، و دین ابینا إبراهيم».

فقال أبو طالب: أي ابن اخي، إني لا استطيع ان افارق دين

ص: 68

آبائي، و ما كانوا عليه، و لكن والله لا يخلص اليك بشيء تكرهه ما بقيت.

و قال ابو طالب لعلي: أي بني؛ ما هذا الدين الذي انت عليه؟

فقال: يا ابت آمنت بالله و برسول الله؛ و صدقت بما جاء به؛ و صليت معه لله، و اتبعته.

فقال له: اما إنه لم يدعك إلا إلى خير، فالزمه.

اسلام زيد بن حارثة

ثم اسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و كان أول ذكر أسلم و صلى بعد على بن أبي طالب.

اسلام ابي بكر

ثم اسلم أبو بكر بن أبي قحافة.

فلما أسلم أظهر إسلامه، و دعا إلى الله و إلى رسوله، و كان ابو

ص: 69

بكر رجلاً مؤلفاً لقومه، مُحَبّباً سهلاً و كان انسب قريش لقريش، و اعلم قريش بها و بما كان فيها من خير و شر.

و كان رجلاً تاجراً ذا خلق و معروف.

و كان رجالُ قومه يأتونه و یألفونه لغير واحد من الأمر؛ لعلمه، و تجارته و حسن مجالسته.

فجعل يدعو إلى الله و إلى الاسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه و يجلس اليه.

فاسلم بدعائه عثمان بن عفان، و الزبير بن العوام، و عبد الرحمن ابن عوف، و سعد بن أبي وقاص، و طلحة بن عبيد الله.

فجاء بهم إلى رسول الله صلّی الله علیه و سلم حين استجابوا له، فأسلموا و صلوا.

فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالاسلام.

فصلوا و صدقوا رسول الله صلّی الله علیه و سلم بما جاءه من الله.

ص: 70

السابقون الاولون

ثم اسلم ابو عبيدة بن الجرّاح، و أبو سَلمَة، و الأرقم بن أبي الارقم، و عثمان بن مَظعُون، و أخواه قدامةُ و عبدالله ابنا مظعون، و عبيدة بن الحرث، و سعيد بن زيد، و امرأته فاطمة بنت الخطاب اخت عمر بن الخطاب، و اسماء بنت ابي بكر، و عائشة بنت ابي بكر، و هي يومئذ صغيرة، و خَباب بن الأرَتّ.

و اسلم عُمير بن ابي وقاص، أخو سعد بن ابي وقاص، و عبدالله ابن مسعود، و مسعود بن القارِيّ.

و اسلم سَليط بن عَمرو، و اخوه حاطب بن عمرو .

و عياش بن أبي ربيعة، و امرأته اسماء بنت سلامة.

و خُنَيس بن حذافة، و عامر بن ربيعة.

و عبد الله بن جحش، و اخوه احمد بن جحش.

و جعفر بن ابي طالب، و امرأته اسماء بنت عُمَيْس.

و حاطبُ بن الحرث، و امرأته فاطمة بنت المجلّل، و اخوه حطّاب بن الحرث، و امرأته فُكيهة بنت يسار.

ص: 71

و معمر بن الحرث، و السائب بن عثمان، و المطلب بن ازهر، و امرأته رملة بنت أبي عوف.

و نعيم بن عبدالله، و عامر بن فُهيرة، مولى ابي بكر الصديق رضي الله عنه.

و خالد بن سعيد بن العاص، و امرأته أُمَيْنَةُ بنت خلف.

و حاطب بن عمرو، و ابو حذيفة بن عتبة، و واقد بن عبدالله.

و خالد و عامر و عاقل، بنو البُكير بن عبد ياليل.

و اسلم عمار بن ياسر، و صهيب بن سنان.

ثم دخل الناس في الاسلام ارسالاً(1)، من الرجال و النساء، حتى فشا ذكر الاسلام بمكة و تُحدِّث به.

الجهر بالدعوة

ثم إن الله عز وجل أمر رسوله الله صلّی الله علیه و سلم ان يصدع بما جاءه منه،

ص: 72


1- طائفة بعد طائفة.

و ان يبادي الناس بأمره، و ان يدعو اليه.

و كان بين ما اخفى رسول الله صلّی الله علیه و سلم امره و استتر به، إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه.

ثم قال الله تعالى له:

«فَاصْدَعْ(1) بما تُؤْمَرُ وَ أَعْرضْ عن المشركينَ».

و قال تعالى:

«و انذر عشيرتك الأقربين. و اخفض جناحك لِمن اتبعك من المؤمنين. فان عَصَوْك فقل اني بريء مِما تعملون».

(الشعراء: 214 - 216)

اول دم في الاسلام

و كان اصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، و استخفوا بصلاتهم من قومهم.

فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من اصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم

ص: 73


1- فأفرق بين الحق و الباطل.

في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين، و هم يصلون فناكروهم، و عابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم.

فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بعظمة بعير فشجه، فكان اول دم أُهريق في الاسلام.

بدء الصراع

فلما بادى رسول الله صلّی الله علیه و سلم قومه بالإسلام، و صدع به كما أمره الله، لم يبعد منه قومه، و لم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم و عابها.

فلما فعل ذلك أعظموه، و ناكروه، و اجمعوا خلافه و عداوته.

إلا من عصم الله تعالى منهم بالاسلام، و هم قليل مستخفون.

و عطف على رسول الله صلّی الله علیه و سلم عمه أبو طالب، و منعه، و قام دونه، و مضى رسول الله صلّی الله علیه و سلم على أمر الله مُظهراً لأمره لا يرده عنه شيء.

فلما رأت قريش أن رسول الله صلّی الله علیه و سلم لا يرضيهم من شيء انكروه عليه من فراقهم و عيب آلهتهم. و رأوا ان عمه ابا طالب قد عطف عليه، و قام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى

ص: 74

أبي طالب.

فقالوا: یا ابا طالب، إن إبن اخيك قد سب آلهتنا، و عاب ديننا، و سفه احلامنا، و ضلل آباءنا، فإما أن تكفَّه عنا، و إما أن تُخَلِّي بيننا و بينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه.

فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً، و ردهم رداً جميلاً، فانصرفوا عنه.

و مضى رسول الله صلّی الله علیه و سلم على ما هو عليه .. يظهر دين الله، و يدعو اليه، ثم زاد الأمر بينه و بينهم، حتى تباعد الرجال، و تضاغنوا ، و أكثرت قريش ذکر رسول الله صلّى الله عليه و سلم بينها.

و تذامروا فيه، و حض بعضهم بعضاً عليه.

ثم انهم مَشَوْا إلى ابي طالب مرة أخرى ..

فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سناً و شرفاً و منزلة فينا. و إنا قد أسْتَنْهَيناك من ابن اخيك فلم تنهّه عنا، و إنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، و تسفيه احلامنا، و عیب آلهتنا، حتی تکفه عنا او ننازله و إياك في ذلك، حتى يهلك احد الفريقين.

ثم انصرفوا عنه ..

فعظم على أبي طالب فراق قومه و عداوتهم، و لم يطب نفساً باسلام رسول الله صلّی الله علیه و سلم لهم، و لا خِذْلانه.

ص: 75

لو وضعوا الشمس في يميني؟

ثم إن قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلّی الله علیه و سلم فقال له: يا ابن اخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا و كذا، فأبق علىَّ و على نفسك، و لا تحمّلني من الأمر ما لا اطيق.

فظن رسول الله صلّی الله علیه و سلم أنه قد بدا لعمه فيه بَدَاء، و انه خاذله و مُسلمه، و أنه قد ضعف عن نصرته و القيام معه.

فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلم: «يا عمِّ والله، لو وضعوا الشمس في يميني، و القمر في يساري، على ان اترُك هذا الأمر حتى يظهرَهُ الله او اهلِك فيه ما تركتُه».

ثم استَعبر رسول الله صلّی الله علیه و سلم فبكى .. ثم قام ..

فلما وَلى .. ناداه أبو طالب فقال، اقْبِلْ يا ابن اخي، فقل ما أحببت فوالله لا اسلمك لشيء ابداً.

ص: 76

اسلم الينا ابن اخيك!

ثم إن قريشاً -حين عرفوا أن أبا طالب قد أبی خذلان رسول الله صلّی الله علیه و سلم و إسلامه، و إجماعه لفراقهم في ذلك و عداوتهم- مَشوْا بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا ابا طالب، هذا عمارة بن الوليد اقوى فتى في قريش و اجمله، فخذه فلك ديته إذا قتل و نصره، و اتخذه ولداً فهو لك، و اسلم الينا ابن اخيك، هذا الذي خالف دينك و دين آبائك، و فرق جماعة قومك، و سفه احلامهم فنقتله، فإنما هو رجل برجل.

قال: والله لبئس ما تسُومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، و أعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبداً.

فقال المُطْعم بن عَديّ: والله يا ابا طالب لقد انصفك قومك، و جهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد ان تقبل منهم شيئاً.

فقال ابو طالب للمُطعم: والله ما انصفوني، و لكنك قد أجمعت خذلاني و مُظاهرةَ القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك.

ص: 77

فاشتد الأمر، و حميت الحرب، و ترك القوم ما كان بينهم من عهد و بادى بعضهم بعضاً.

بدء التعذيب !!

ثم إن قريشاً تذامروا بينهم على مَن في القبائل منهم من اصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم الذين أسلموا معه.

فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين .. يعذبونهم، و يفتنونهم عن دينهم.

و منع الله رسوله صلّی الله علیه و سلم منهم بعمه ابي طالب.

و قد قام ابو طالب -حين رأى قريشاً يصنعون ما يصنعون- في بني هاشم و بني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلّی الله علیه و سلم و القيام دونه، فاجتمعوا اليه، و قاموا معه، و اجابوه إلى ما دعاهم اليه إلا ما كان من أبي لهب، عدُو الله الملعون.

ص: 78

ماذا نقول في محمد؟

ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع اليه نفر من قريش، و كان ذا سن فيهم و قد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشرَ قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، و إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه و قد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً و لا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، و يَرُدّ قولكم بعضه بعضاً.

قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل و أقِمْ لنا رأياً نقلْ به.

قال: بل انتم فقولوا اسمعْ.

قالوا: نقول: كاهن.

قال: لا والله، ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَةِ الكاهن و لا سَجْعه.

قالوا: فنقول: مجنون.

قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون و عرفناه، فما هو بِخَنقِهِ، و لا تَخالُجِهِ، و لا وسوسته.

ص: 79

قالوا: فنقول: شاعر.

قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَهُ وَ هزَجَه و قريضه و مقبوضه و مبسوطه، فما هو بالشعر.

قالوا: فنقول: ساحر.

قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار و سحرهم، فما هو بنَفْثهم و لا عَقْدهم.

قالوا: فما نقول یا ابا عبد شمس؟؟.

قال: والله إنّ لقوله لحلاوة، و إن اصله لَعَذِقٌ(1)، و إن فرْعه لجناة(2)، و ما انتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرف انه باطل. و إن اقرب القول فيه لأن تقولوا هو ساحر، جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء و أبيه، و بين المرء و أخيه، و بين المرء و زوجته، و بين المرء و عشيرته.

فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسُبُل الناس -حين قدموا الموسم- لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، و ذكروا لهم أمره.

فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة ..

ص: 80


1- العذق: الكثير الشعب و الأطراف.
2- لجناة: فيه تمر يجنی.

و في ذلك من قوله:

شهودا

«ذرني و من خلقتُ وحيداً . و جعلتُ له مالاً ممدوداً . و بنين شهوداً . و مهدت له تمهيداً . ثم يطمع ان ازيدَ . كلا إنه كان لاّياتنا عنيداً»

أي: خصيماً.

«سَأرِهِقُهُ صَعُوداً . إنه فكّرَ وَ قَدّرَ . فقُتِلَ كيف قَدّر . ثم قُتِلَ كيف قَدّرَ . ثم نَظَرَ . ثم عَبَسَ وَ بَسَرَ».

بسر: کره وجهه.

«ثم ادبَرَ و اسْتَكْبَر . فقال إن هذا إلا سِحْرٌ يُؤْثرُ . إنْ هذا إلا قول البَشَرِ».

و أنزل الله تعالى في رسوله صلّی الله علیه و سلم، و فيما جاء به من الله تعالى، و في النفر الذين كانوا معه، يصنفون القول في رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و فيما جاء به من الله تعالى:

«کما انزلنا على المُقْتَسِمِين . الذين جعلوا القرآن عِضِين».

ای: أصنافاً.

«فوربك لنَسألنهم اجمعين . عما كانوا يعملون».

ص: 81

فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول الله صلّی الله علیه و سلم، لمن لقوا من الناس، و صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلّی الله علیه و سلم فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.

فلما انتشر أمر رسول الله صلّی الله علیه و سلم في العرب و بلغ البلدان ذُكرَ بالمدينة.

و لم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلّی الله علیه و سلم، حين ذكر، و قبل ان يذكر، من هذا الحي من الأوس، و الخزرج، و ذلك لما كانوا يسمعون من أحْبار اليهود، و كانوا لهم حلفاء، و معهم في بلادهم.

ايذاء رسول الله

ثم إن قريشاً اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و من أسلم معه منهم، فأغْرَوْا برسول الله صلّی الله علیه و سلم سفهاءهم، فكذبوه، و آذوه، و رموه بالشعر، و السحر و الكهانة و الجنون.

و رسول الله صلّی الله علیه و سلم مظهرٌ لأمر الله، لا يستخفي به، مبادِ لهم

ص: 82

بما يكرهون: من عيب دينهم، و اعتزال أوثانهم، و فراقه إياهم على كفرهم.

و كان أشد ما لقي رسول الله صلّی الله علیه و سلم من قريش أنه خرج يوماً فلم يلقه أحد من الناس إلا كذبه و آذاه، لا حر و لا عبد.

فرجع رسول الله صلّی الله علیه و سلم إلى منزله فتدثَّر من شدة ما أصابه.

فأنزل الله تعالى عليه:

«يا أيها المدثِّرُ . قُمْ فأنذِرْ».

اسلام حمزة !

مر أبو جهل برسول الله صلّی الله علیه و سلم عند الصفا فآذاه و شتمه، و نال منه بعض ما يكره، من العيب لدينه، و التضعيف لأمره.

فلم يكلمه رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و جارية لعبد الله بنُ جدعان في مسكن لها تسمع ذلك.

ثم انصرف عنه، فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة، فجلس معهم.

ص: 83

فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشّحاً قوسه راجعاً من قنص له، و كان صاحب قنص يرميه و يخرج له. و كان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، و كان إذا فعل ذلك لم يمر من ناد من قريش إلا وقف و سلم و تحدث معهم.

و كان أعز فتى في قريش، و أشد شكيمة.

فلما مر بالجارية و قد رجع رسول الله صلّی الله علیه و سلم إلى بيته قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً من أبي الحكم بن هشام؟ وجده ههنا جالساً، فآذاه و سبه و بلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، و لم يكلمه محمد!

فاحتمل حمزة الغضب فخرج يسعى، و لم يقف على أحد، مُعِدّاً لأبي جهل، إذا لقيه، أن يوقع به.

فلما دخل المسجد نظر اليه جالساً في القوم فأقبل نحوه.

حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها، فشجّه شجّةً منكرة.

ثم قال: أتشتمه؟ فأنا على دينه، اقول ما يقول، فرُدّ ذلك عليّ إن استطعت.

فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل.

ص: 84

فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن اخيه سباً قبيحاً.

فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلّی الله علیه و سلم قد عَزّ و امتنع و ان حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.

عرض الدنيا على رسول الله

قال عتبة بن ربيعة يوماً، و كان سيداً، و هو جالس في نادي قريش، و رسول الله صلّی الله علیه و سلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فاكلمه و اعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء و يكف عنا؟

و ذلك حين أسلم حمزة، و رأوا اصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم يزيدون و يكثرون.

فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم اليه فكلمه.

فقام اليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه و سلم فقال: يا ابن اخي إنك منا حيثُ قد علمت، من المنزلة الرفيعة في العشيرة، و المكان في النسب، و إنك قد اتيت قومك بامر عظيم فَرّقت به

ص: 85

جماعتهم، و سفهت به أحلامهم، و عبت به آلهتهم و دينهم، و كفّرْت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني اعرض عليك اموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.

فقال له رسول الله صلّی الله علیه و سلم، «قل يا أبا الوليد اسْمَع».

قال: يا ابن اخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا، جمعنا لك من اموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، و إن كنت تريد به شرفا سَوّدْناك علينا حتى لا تَقطَعَ أمراً دونك. و إن كنت تريد به مُلْكاً مَلّكْناك علينا، و إن كان هذا الذي ياتيك رئيّاً تراه، لا تَسْتَطِيع رَدّه عن نفسك. طلبنا لك الطِّبّ، و بذلنا فيه اموالنا حتى نُبرِئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.

حتى إذا فرغ عتبة، و رسول الله صلّی الله علیه و سلم يسمع منه قال: «أ قَدْ فرغت يا أبا الوليد»؟

قال: نعم.

قال: «فاستمع مني».

قال: افعل.

ص: 86

فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيلٌ من الرحمن الرحيم . كتابٌ فصّلَتْ آياتُهُ قرآناً عربياً لقوم يعلمونَ . بشيراً و نذيراً فأعرضَ اكثرُهُمْ فهم لا يسمَعون . و قالوا قلوبُنا في اكِنّة ممّا تدعونا اليْهِ».

ثم مضى رسول الله صلّی الله علیه و سلم فيها يقرؤها عليه.

فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، و القى يديه خلف ظهره، معتمداً عليهما، يسمع منه.

ثم انتهى رسول الله صلّی الله علیه و سلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: «قد سمعتَ يا ابا الوليد ما سمعت، فأنت و ذاك».

فقام عتبة إلى اصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم ابو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!

فلما جلس اليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال: ورائي اني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، و لا بالسحر، و لا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني، و اجعلوها بي، و خلوا بين هذا الرجل و بين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونَنّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم: فان تُصِبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، و إن يَظْهَرْ على العرب فمُلكه ملككم، و عزه

ص: 87

عزكم، و كنتم أسعد الناس به.

قالوا: سَحَرَك والله يا أبا الوليد بلسانه!

قال: هذا رأیي، فاصنعوا ما بدا لكم.

يسألون عنه اليهود!

ثم إن قريشاً بعثت النضر بن الحرث، و عُقبةَ بن أبي مُعَيْط إلى علماء اليهود بالمدينة.

و قالوا لهما: سَلاهم عن محمد، و صِفا لهم صفته، و أخبراهم بقوله، فانهم اهل الكتاب الأول، و عندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء.

فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا احبار اليهود عن رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و وصفا لهم أمره، و اخبراهم ببعض قوله.

و قالا لهم: إنكم اهل التوراة، و قد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا.

فقالت لهما علماء اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن؛ فان

ص: 88

اخبركم بهن فهو نبي مرسل، و إن لم يفعل فالرجل مُتَقَوِّل فرَوْا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فانه قد كان لهم حديث عجب، و سلوه عن رجل طَوَّاف قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها، ما كان نبؤه؟ و سلوه عن الروح ما هي؟ فان اخبركم بذلك فاتبعوه فانه نبي، و إن لم يفعل فهو رجل مُتَقَوِّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

فأقبلا .. حتى قدما مكة على قريش، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم و بين محمد، قد اخبرنا علماء اليهود أن نسأله عن أشياء قد أمرُونا بها، فان اخبركم عنها فهو نبي، و إن لم يفعل فالرجل متقول فرَوْا فيه رأيكم.

فجاءوا رسول الله صلّی الله علیه و سلم، فقالوا: يا محمد اخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عَجَب، و عن رجل كان طوافاً قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها، و اخبرنا عن الروح ما هي؟

فقال لهم رسول الله صلّی الله علیه و سلم: أخبركم بما سألتم عنه غداً.

و لم يقل إن شاء الله ..

فانصرفوا عنه ..

فمكث رسول الله صلّی الله علیه و سلم خمسَ عشرَةَ ليلة لا يحدث الله اليه في ذلك وحيا، و لا يأتيه جبريل، حتى أرجَفَ أهل مكة.

ص: 89

و قالوا: وعدنا محمد غداً و اليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه.

و حتى أحزن رسول الله صلّی الله علیه و سلم مُكْثُ الوحي عنه، و شق عليه ما يتكلم به اهل مكة.

ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، و خبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، و الرجل الطواف، و الروح.

فلما جاءهم رسول الله صلّی الله علیه و سلم بما عرفوا من الحق، و عرفوا صدقه فيما حدّث، و موقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب، حين سألوه عما سألوا عنه، حال الحسد منهم له بينهم و بين اتباعه و تصديقه، فعتَوْا على الله، و تركوا أمره عياناً، و لجوا فيما هم عليه من الكفر.

فقال قائلهم:

«لا تَسْمَعُوا لهذا القرآن و الغَوْا فيه لعلكم تغلبون»

أي اجعلوه لغواً و باطلاً، و اتخذره هزواً لعلكم تغلبون بذلك، فإنكم إن ناظرتموه او خاصمتموه يوماً غلبكم.

ص: 90

اول من جهر بالقرآن

و كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلّی الله علیه و سلم بمكة عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه.

اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم، فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمَنْ رجلٌ يسمِعُهُمُوه؟

فقال عبدالله بن مسعود: أنا.

قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه.

قال: دعوني .. فان الله سيمنعني.

فغدا ابن مسعود، حتى أتى المقام في الضحى، و قريش في أنديتها، حتى قام عند المقام.

ثم قرأ

«بسم الله الرحمن الرحيم»

رافعاً بها صوته.

ص: 91

«الرحمن . علم القرآن» ..

ثم استقبلها يقرؤها.

و تأملوه: فجعلوا يقولون . ماذا قال ابن أم عبد؟

ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد.

فقاموا اليه، فجعلوا يضربون في وجهه، و جعل يقرأ، حتى بلغ منها ما شاء الله ان يبلغ.

ثم انصرف إلى اصحابه، و قد أثروا في وجهه.

فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك.

فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، و لئن شئتم لأغادَينّهُم بمثلها غداً.

قالوا: لا .. حسبَك .. قد اسمعتهم ما يكرهون.

التعذيب يشتد !

ثم إنهم عَدَوْا على من أسلم و اتبع رسول الله صلّی الله علیه و سلم من أصحابه.

ص: 92

فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين.

فجعلوا يحبسونهم، و يعذبونهم، بالضرب، و الجوع، و العطش، و برمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم؛ فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه، و منهم من يصلب لهم، و يعصمه الله منهم.

أَحَدٌ .. احَد !!

و كان بلالٌ صادق الإسلام، طاهر القلب، و كان أمية بن خَلَف يخرجه -إذا حميت الظهيرة- فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره.

ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمّد و تعبد اللَّاتَ و العُزّى.

فيقول و هو في ذلك البلاء: أحدٌ أحد !!

حتى مر به أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوماً و هم يصنعون ذلك به.

فقال لأمية بن خلف: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟

ص: 93

حتى متى؟

قال: انت الذي أفسَدْته، فانقِذْه مما ترى.

فقال أبو بكر: افعلُ، عندي غلام أسود أجلدُ منه، و أقوى على دينك، اعطيكه به.

قال: قد قبلت.

قال: هو لك.

فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك، و أخذه فأعتقه.

صبراً آل ياسر

و كانت بنو مخزوم يخرجون بعمّار بن ياسر و بأبيه و أمه -و كانوا أهل بيت إسلام- إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة.

فيمر بهم رسول الله صلّی الله علیه و سلم فيقول: «صبراً آل ياسر، موعِدُكم الجنّة».

فأما أمه فقتلوها، و هي تأبى إلا الإسلام.

ص: 94

أبو جهل يتولى الجريمة

و كان ابو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش.

إذا سمع بالرجل قد اسلم، له شرف و منعة، أَنّبه و خزّاه، و قال: تركت دين أبيك و هو خير منك؟! لنسفهن حلمك، و لنقیلن رأيك، و لنضَعَنّ شرفك.

و إن كان تاجراً قال: والله لنكسدن تجارتك، و لنُهْلكَنّ مالك.

و إن كان ضعيفاً ضربه و اغری به!

الهجرة الأولى الى الحبشة

فلما رأى رسول الله صلّی الله علیه و سلم ما يصيب أصحابه من البلاء، و ما هو فيه من العافية، لمكانه من الله، و من عمه أبي طالب، و أنه لا

يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها مَلِكا لا يُظلمُ عنده أحدٌ، و هي أرضُ

ص: 95

صدقٍ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما انتم فيه؟».

فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة: و فراراً إلى الله بدينهم.

فكانت اول هجرة كانت في الإسلام.

النجاشي يرفض تسليمهم !

1

عن أم سَلَمة -زوج النبي صلّی الله علیه و سلم- قالت: لما نزلنا ارض الحبشة، جاورنا بها خير جار، النجاشي، أمنّا على ديننا، و عبدنا الله تعالى لا نؤذى و لا نسمع شيئاً نكرهه.

فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم ان يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جليدين، و أن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة.

ثم بعثوا بذلك عبدالله بن ابي ربيعة و عمرو بن العاص، فأمروهما بأمرهم.

ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي، فقبلها منهما، ثم كلماه، فقالا له: ايها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء،

ص: 96

فارقوا دين قومهم و لم يدخلوا في دينك، و جاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن و لا انت، و قد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم و أعمامهم، و عشائرهم، لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عيناً، و اعلم بما عابوا عليهم و عاتبوهم فيه.

ثم ارسل النجاشي إلى اصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم فدعاهم.

فلما جاءوا .. و قد دعا النجاشي اساقفته فنشروا أناجيلهم حوله .. سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، و لم تدخلوا ديني و لا في دين أحد من هذه الملل؟!

فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك، كنا قوماً اهل جاهلية، نعبد الأصنام، و نأكل الميتة، و نأتي الفواحش، و نقطع الأرحام، و نسيء الجوار، و يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله الينا رسولاً منا، نعرف نسبه و صدقه و أمانته و عفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، و نعبده، و نخلع ما كنا نعبد نحن و آباؤنا من دونه من الحجارة و الأوثان، و أمرنا بصدق الحديث، و أداء الأمانة، و صلة الرحم، و حسن الجوار، و الكف عن المحارم و الدماء، و نهانا عن الفواحش، و قول الزور، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنة، و أمرنا ان نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، و أمرنا بالصلاة و الزكاة و الصيام.

ص: 97

-فعدد عليه أمور الإسلام-.

فصدقناه، و آمنا به و اتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، و حرمنا ما حرم علينا، و أحللنا ما حلل لنا، فغدا علينا قومنا فعذبونا و فتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، و ان نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا و ظلمونا و ضيقوا علينا و حالوا بيننا و بين ديننا، خرجنا إلى بلادك، و اخترناك على من سواك، و رغبنا في جوارك و رجونا ان لا نظلم عندك ايها الملك.

فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟

فقال له جعفر: نعم.

فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ.

فقرأ عليه صدراً من (كهيعص)، فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، و بكت أساقفته حتى أخْضلوا أناجيلهم حين سمعوا ما تلا عليهم.

ثم قال النجاشي: إن هذا و الذي جاء به عيسى ليخرُجُ من مشكاة واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم اليكما.

فخرجا من عنده مقبوحين، مردوداً عليهما ما جاءوا به، و أقمنا عنده بخير دار مع خير جار .. حتى قدمنا على رسول الله صلّی الله علیه و سلم

ص: 98

و هو بمكة.

إسلام عمر بن الخطاب

و لما قدم عمرو بن العاص، و عبد الله بن أبي ربيعة على قريش و لم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و ردهم النجاشي بما يكرهون، و أسلم عمر بن الخطاب، امتنع به أصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم و بحمزة.

و كان إسلام عمر ان اخته فاطمة بنت الخطاب -و كانت عند سعيد بن زَيد- و كانت قد أسلمت و اسلم بعلها سعيد بن زيد، و هما مستخفيان بإسلامهما من عمر، و كان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن.

فخرج عمر يوماً متوشحاً بسيفه، يريد رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و رهطاً من أصحابه، قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، و هم قريب من اربعين من بين رجال و نساء.

و مع رسول الله صلّی الله علیه و سلم عمه حمزة بن عبد المطلب، و أبو بكر، و عليّ، في رجال من المسلمين، ممن أقام مع رسول الله صلّی الله علیه و سلم بمكة

ص: 99

و لم يخرج فيمن خرج إلى ارض الحبشة.

فلقيه نُعيْم بن عبد الله -و كان أيضاً يستخفي بإسلامه- فقال له: أين تريد يا عمر؟

فقال: أريد محمداً .. هذا الصابیء، الذي فرق أمر قريش، و سفه أحلامها، و عاب دينها، و سب آلهتها، فأقتله.

فقال له نعيم: والله لقد غَرَّتك نفسك من نفسك يا عمر: أتری بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض و قد قتلت محمداً؟! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟!

قال: و اي أهل بيتي؟

قال: إبن عمك سعيد بن زيد، و اختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، و تابعا محمداً على دينه، فعليك بهما!

فرجع عمر عامداً إلى أخته و زوجها، و عندهما خبّاب معه صحيفة فيها (طه(1)) يقرئهما إياها، فلما سمعوا حَسّ عمر تغيب خبّاب في بعض البيت، و اخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها.

و قد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خبّاب عليهما، فلما دخل

ص: 100


1- سورة طه.

قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟!

قالا له: ما سمعت شيئاً.

قال: بلى والله لقد اخبرت أنّكما تابعتهما محمداً على دينه ..

و بطش بزوج أخته سعيد بن زيد، فقامت اليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفّه عن زوجها، فضربها فشجَّها.

فلما فعل ذلك قالت له اخته و زوجها: نعم لقد أسلمنا، و آمنا بالله و رسوله، فاصنع ما بدا لك.

فلما رأى عمر ما بأخْتِهِ من الدم ندم على ما صنع، فارعوى، و قال لأخته: اعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفاً، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. و كان عمر كاتباً.

فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها.

قال: لا تخافي، و حلف لها بآلهته ليَرُدَّنها إذا قرأها اليها.

فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نَجَسٌ على شركك، و إنه لا يمسها إلا الطاهر.

فقام عمر فاغتسل ..

فأعطته الصحيفة و فيها (طه) قرأها.

فلما قرأ منها صدراً قال: ما احسن هذا الكلام و أكرمه !!

ص: 101

فلما سمع ذلك خبّاب خرج اليه، فقال له: يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس و هو يقول: اللهم أيِّدِ الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر.

فقال له عند ذلك عمر: فدُلني يا خبّاب على محمد حتى آتيه فأسلم.

فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه.

فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله صلّی الله علیه و سلم و أصحابه فضرب عليهم الباب.

فلما سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم، فنظر من خَلَلِ الباب، فرآه متوشحاً السيف، فرجع إلى رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و هو فزعٌ، فقال يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحاً السيف.

فقال حمزة بن عبد المطلب: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، و إن كان يريد شراً قتلْناه بسيفه.

فقال رسول الله صلّی الله علیه و سلم «أئْذَنْ لَهُ»، فأذن له الرجل.

و نهض اليه رسول الله صلّی الله علیه و سلم حتى لقيه بالحجرة، فأخذ بِحُجْزَتِه

ص: 102

أو بمجمع ردائه، ثم جبذه جبذة شديدة و قال: « ما جاء بك يا ابنَ الخطابِ، فوالله ما أرى أن تَنتَهي حتى ينزل الله بك قارعة؟».

فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله و برسوله، و بما جاء من عند الله.

فكبر رسول الله صلّی الله علیه و سلم تكبيرة عرف اهل البيت من أصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم أن عمر قد أسلم!

فتفرق أصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم من مكانهم و قد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة.

و عرفوا انهما سيمنعان رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و ينتصفون بهما من عدوهم.

قال عمر. لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أي اهل مكة أشد لرسول الله صلّی الله علیه و سلم عداوة، حتى آتيه فاخبره أني قد اسلمت، قلت أبو جهل، فاقبلت حين اصبحت حتى ضربت عليه بابه، فخرج إلىَّ أبو جهل، فقال: مرحباً، و اهلاً يا ابن اختي، ما جاء بك؟ قلت: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله و برسوله محمد، و صدقت بما جاء به، فضرب الباب في وجهي، و قال: قبحك الله، و قبح ما جئت به.

ص: 103

مقاطعة بني هاشم و بني المطلب

فلما رأت قريش أن اصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم قد نزلوا بلداً أصابوا منه أمناً و قراراً، و ان النجاشي قد منع من لجأ اليه منهم، و ان عمر قد أسلم، فكان هو و حمزة مع رسول الله صلّی الله علیه و سلم و أصحابه، و جعل الإسلام يفشو في القبائل، اجتمعوا و ائتمروا أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم، و بني المطلب: على أن لا ينكحوا اليهم، و لا ينكحوهم، و لا يبيعوهم شيئاً، و لا يبتاعوا منهم.

فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة، ثم تعاهدوا و تواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم.

فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم، و بنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب، فدخلوا معه في شِعْبه، فاجتمعوا اليه.

و خرج من بني هاشم أبو لهب عبد العُزّى إلى قريش، فظاهرهم أي أعانهم.

فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً، حتى جهدوا، لا يصل اليهم

ص: 104

شيء إلا سرّاً مستخفياً به من أراد صلتهم من قريش!

و رسول الله صلّی الله علیه و سلم على ذلك يدعو قومه ليلاً و نهاراً، و سرّاً و جهاراً، مبادياً بأمر الله، لا يتقي فيه أحداً من الناس.

فجعلت قريش، يهمزونه و يستهزئون به، و يخاصمونه، و جعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم، فمنهم من سُمّي لنا، و منهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار.

عودة المهاجرين

و بلغ أصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم، الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دَنوْا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل أحد إلا بجوارٍ أو مستخفياً.

ص: 105

نقض الصحيفة

مشى هشام بن عَمْرو إلى زُهَيْر بن أبي أمية فقال: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام و تلبس الثياب، و تنكِح النساء، و أخوالك حيث قد علمت، لا يباعون، و لا يبتاع منهم، و لا ينكحون، و لا ينْكح اليهم؟! أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال ابي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك اليه منهم ما أجابك اليه ابداً.

قال: ويحك يا هشام!! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله أن لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى انقضها.

قال: قد وجدت رجلاً.

قال: من هو؟

قال: أنا.

قال له زهير: ابغنا رجلاً ثالثاً.

فلما تكامل الموافقون على نقض الصحيفة خمساً، ذهبوا إلى البيت

ص: 106

و اعلنوا نقصها.

فقال أبو جهل: هذا أمر قُضِيَ بِلَيْلٍ تُشُووِرَ فيه بغير هذا المكان

الاسراء و المعراج

ثم اسرى برسول الله صلّی الله علیه و سلم من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى، و هو بيت المقدس، و قد فشا الإسلام بمكة في قريش، و في القبائل كلها.

و كان في مسراه، و ما ذكر منه بلاءٌ و تمحيص، و أمر من أمر الله في قدرته و سلطانه، فيه عبرة لأولي الألباب، و هدى و رحمة و ثبات لمن آمن بالله و صدق، و كان من أمر الله على يقين.

فأسری به كيف شاء، و كما شاء، لِيُريَهُ من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره و سلطانه العظيم، و قدرته التي يصنع بها ما یرید.

أتى رسول الله صلّی الله علیه و سلم بالبُرَاق -و هي دابة تضع حافرها في منتهى طرْفها- فحمل عليها ..

ص: 107

فمضى رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و مضى جبريل عليه السلام معه، حتى انتهى به إلى بيت المقدس ..

و لما فرغ من أمر بيت المقدس، صعد إلى السماء.

و لم يكن الصعود على البراق كما قد يتوهمه بعض الناس، بل كان البراق مربوطاً على باب مسجد بيت المقدس، ليرجع عليه إلى مكة.

فصعد من سماء إلى سماء حتى جاوز السابعة.

و كلما جاء سماء تلقته منها مقربوها، و من فيها من أكابر الملائكة و الأنبياء.

و ذكروا أعيان من رآه من المرسلين، كآدم في سماء الدنيا، و يحيى و عيسى في الثانية، و يوسف في الثالثة، و إدريس في الرابعة، و هارون في الخامسة، و موسى في السادسة، و إبراهيم في السابعة.

ثم جاوز مراتبهم كلهم حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام.

و رفعت لرسول الله صلّى الله عليه و سلم سدرة المنتهى، فإذا ورقها كآذان الفیلة .. و غشيها عند ذلك امور عظيمة، الوان متعددة باهرة، و غشيها من نور الرب جل جلاله.

ص: 108

و رأى هناك جبريل له ستمائة جناح ما بين كل جناحين کما بين السماء و الأرض.

و هو الذي يقول الله تعالى:

«و لقد رآه نزلة أخرى * عندَ سدْرَةِ المنتهي * عندها جنةُ المأوى * إذْ يغشَى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر و ما طغى»

أي ما زاغ يميناً و لا شمالاً، و لا ارتفع عن المكان الذي حد له النظر اليه، و هذا هو الثبات العظيم، و الأدب الكريم، و هذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها.

و فرض الله سبحانه و تعالى على عبده محمد صلّی الله علیه و سلم، و على أمته الصلوات ليلتئذ، خمسين صلاة في كل يوم و ليلة، ثم لم يزل يختلف بين موسى و بين ربه عز وجل، حتى وضعها الرب جل جلاله إلى خمس، و قال هي خمس و هي خمسون، الحسنة بعشر أمثالها، فحصل له التكليم من الرب عز وجل ليلتئذ.

ثم هبط رسول الله صلّی الله علیه و سلم إلى بيت المقدس، و الظاهر أن الأنبياء هبطوا معه تكريما له و تعظيماً عند رجوعه من الحضرة الإلهية

العظيمة.

ص: 109

فلما حانت الصلاة أمَّ صلّى الله عليه و سلم الأنبياء، فتقدمهم إماماً عن أمر جبريل.

ثم خرج منه فركب البراق، و عاد إلى مكة!!

فأصبح بها و هو في غاية الثبات و السكينة و الوقار، و قد عاين في تلك الليلة من الآيات و الأمور التي لو رآها -أو بعضها- غيره لأصبح مندهشاً، أو طائش العقل.

و لكنه صلّى الله عليه و سلم أصبح واجماً -أي ساكناً- يخشي إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه.

فتلطف باخبارهم أولاً بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة.

و ذلك أن أبا جهل لعنه الله -رأى رسول الله صلّی الله علیه و سلم في المسجد الحرام، و هو حالس واجم.

فقال له: هل من خبر؟!

فقال: نعم.

فقال: و ما هو؟!

فقال: إني أسرى بي الليلة إلى بيت المقدس.

قال: إلى بيت المقدس؟!!

قال: نعم.

ص: 110

قال: أرأيت إن دعوت قومك لك لتخبرهم أتخبرهم بما اخبرتني به؟!

قال: نعم.

فأراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك، و أراد رسول الله صلّی الله علیه و سلم جمعهم ليخبرهم ذلك و يبلغهم.

فقال أبو جهل: هيا معشر قريش .. و قد اجتمعوا من أنديتهم.

فقال: أخبر قومك بما أخبرتني به.

فقص عليهم رسول الله صلّی الله علیه و سلم خبر ما رأى، و أنه جاء بيت المقدس هذه الليلة و صلى فيه!.

فمن بين مصفق، و بين مصفر، تكذيباً له، و استبعاداً لخبر!!

الصدِّيق

و طار الخبر بمكة، و جاء الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه. فأخبروه أن محمداً يقول كذا و كذا.

ص: 111

فقال: إنكم تكذبون عليه.

فقالوا: والله إنه ليقوله.

فقال: إن كان قاله فلقد صدق.

ثم جاء إلى رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و حوله مشركي قريش، فسأله عن ذلك فأخبره، فاستعلمه عن صفات بيت المقدس ليسمع المشركون و يعلموا صدقه فيما اخبرهم به.

و كان مما قال أبو بكر، و قد اقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلّی الله علیه و سلم: يا نبي الله احدثت هؤلاء القوم انك أتيت بيت المقدس هذه الليلة؟

قال: نعم.

قال: يا نبي الله، فصفه لي فإني قد جئته.

فجعل رسول الله صلّی الله علیه و سلم يصفه لأبي بكر، و يقول ابو بكر صَدَقْت، اشهد انك رسول الله، كلما وصف له منه شيئاً قال: صدقت، اشهد أنك رسول الله، حتى انتهى.

فقال رسول الله صلّی الله علیه و سلم لأبي بكر «انت يا أبا بكر الصِّدِّيق».

فيومئذ سماه الصدِّيق.

ص: 112

تطور الصلاة

و لما أصبح رسول الله صلّی الله علیه و سلم من صبيحة ليلة الإسراء، جاءه جبرائيل عند الزوال، فبين له كيفية الصلاة و اوقاتها.

و أمر رسول الله صلّی الله علیه و سلم اصحابه، فاجتمعوا و صلى به جبرائيل في ذلك اليوم إلى الغد، و المسلمون ياتمون بالنبي صلّى الله عليه و سلم، و هو يقتدي بجبرائيل.

و روى أن الصلاة كانت قبل الإسراء تكون ركعتين، ثم لما فرضت الخمس، فرضت حضراً على ما هي عليه، و رخص في السفر أن يصلى ركعتين كما كان الأمر عليه قديماً.

وفاة خديجة و أبي طالب!!

ثم إن خديجة و أبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلّی الله علیه و سلم المصائب بموت خديجة، وكانت له وزير صِدْقٍ على

ص: 113

الاسلام يشكو اليها.

و بموت عمه أبي طالب، و كان له عضُداً و منعة و ناصراً على قومه، و ذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين!!

أقول .. هذه هي الخطوط العريضة من .. حياة أم المؤمنين خديجة .. عليها السلام ..

و الآن ندخل إلى تفصيل حياتها الطاهرة!!

ص: 114

نَبيان عظيمان .. في زواجهما .. بتشابهان ..؟!

ص: 115

ص: 116

سوف

تعجب عَجَباً كبيراً .. حين تقرأ هذا الفصل من هذا الكتاب!!

إنه فتْح جديد .. و نهج فريد ..

إنه مِنَّة مَنَّ الله بها .. فلله الحمد حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فیه!!

ماذا أريد أن أقول؟!

لاحظت فجأة .. أنّ هناك تشابهاً .. بل تطابقاً عجيباً بين قصتين ..

قصة زواج نبيّ الله .. موسی .. علیه السلام ..

و قصة زواج نبيّنا .. محمّد .. صلّی الله علیه و سلم ..

و لننظر الآن .. كيف كان ذلك؟!

ص: 117

اوّلا قصة زواج موسى .. علیه السلام

1- شاب يفرّ إلى أرض مدين .. حيث تطارده أجهزة فرعون لتقبض عليه .. و تقدمه للإعدام ..

2- عند وصوله إلى ماء مَدْيَن .. وجد امرأتين لا تستطيعان سقي غنمهما حتى ينصرف الرعاة من أشداء الرجال ..

3- يسقي موسى لهما .. ثم ينصرف إلى الظلّ .. و قد بلغ به الإعياء و الجوع منتهاه ..

4- ينادي ربه:

«ربِّ .. إني لما انزلتَ إليَّ من خير فقيرٌ.»

5- «فجاءَتهُ إحداهما تمشي على استحياء .. قالتْ: إنَّ أبي يدعوك .. ليجزيَكَ اجْرَ ما سقَيْتَ لنا ..»!!

6- يطلب اليها موسى ان يتقدمها في المسير .. فيسير أمامها و هي من ورائه!!

7- تأمل هنا التدبير الإلهي .. لتمكين الفتاة الطاهرة من رؤية

ص: 118

موسي .. الشاب الطاهر ..

8- الفتاة تعلن إلى أبيها من قبل:

«يا ابَتِ استَاجرْهُ .. إنَّ خيرَ من استأجَرتَ القويُّ الأمينُ .»!!

9- الشيخ الكبير يخطب موسى .. الشاب الفقير .. القويُّ الأمين .. إلى إحدى ابنتيه .. و يعلن ذلك إلى موسى:

«إني أريد أن أنكِحَكَ احدَى ابنَتيْ هاتَينِ..»!!

فهو حريص على ان يظفر به لاحداهما!!

10- بل و يُحدد أبوهما المهر بنفسه

«على ان تأجُرَني ثمانيَ حِجَج .. فان اتممتَ عَشْراً فمن عندِكَ ..»!!

11- موسی يلتقط العرض .. و يوافق .. و يختار إحدى الفتاتين ..

12- موسى يدخل بعروسه .. و يمكث عشر سنين في حياة زوجية مباركة هادئة ..

13- «فلما قضى موسى الأجَلَ .. و سارَ بأهلهِ (إلى مصر) ءَانسَ مِن جانب الطُّور ناراً ..» !!

ص: 119

14- و من هنا بدَأت مرحلة النبوة!!

ثانياً: قصة زواج .. النبيّ .. صلّی اللع علیه و سلم ..

1- كانت خديجة .. امرأة تاجرة ذات شرف و مال .. تستأجر الرجال في مالها .. بشيء تجعله لهم .. و كانت قريش قوماً تجاراً .. فلما بلغها عن رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. ما بلغها .. من صدق حديثه .. و عِظم أمانته .. و كرَم اخلاقه .. بعثت اليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً .. و تعطيه أفضل ما كانت تُعطي غيره من التجار .. مع غلام لها يقال له مَيْسرة ..

2- فقبله رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. منها .. و خرج في مالها ذلك، و خرج معه غلامُها مَيسرة .. حتى قدمِ الشام ..

3- ثم باع رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. سلعته التي خرج بها .. و اشترى ما أراد ان يشتري .. ثم اقبل قافلاً إلى مكة و معه ميسرة ..

4- فلما قَدِم على خديجة بمالها .. باعتْ ما جاء به .. فأضعف او قريباً ..

ص: 120

5- و كانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة .. مع ما أراد الله بها من كرامته ..

6- بعثت إلى رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. فقالت له - فيما يزعمون:

يا بن عمّ .. اني قد رغبتُ فيك .. لقرابتك .. و سِطتِكَ (شرفك) في قومك .. و امانتك .. و حُسْن خُلقك .. و صدق حديثك ..

7- ثم عرضت عليه الزواج ..

8- و كانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريشٍ نسباً .. و أعظمهنّ شرفاً .. و أكثرهنّ مالاً .. كلّ قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدرُ عليه ..

9- فلما قالت ذلك لرسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. ذكرَ ذلك لأعمامه .. فخرج معه عمُّه حمزة بن عبد المطلب .. رحمه الله .. حتى دخل على عمّها .. فخطبها اليه ..

10- فتزوجها ..

11- و أصدَقها رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. عشرين بَكرَةً ..

12- قضى .. صلّی الله علیه و سلم .. خمسة عشر عاماً في حياة زوجية مباركة طيبة .. حتى أوحي اليه في الأربعين !!

ص: 121

ثالثاً: اوجه التشابه ..

1- في موسى عليه السلام .. شاب فقير «إني لما أنزلتَ إلىَّ من خيرٍ فقيرٌ» .. و في النبيّ صلّی الله علیه و سلم .. شاب فقير قليل المال «و وجدَكَ عائلاً فاغنَى»!!

2- في موسى عليه السلام .. شاب قويٌّ أمينٌ «إنَّ خيرَ مَن استأجرتَ القويُّ الأمينُ» هذه شهادة إحدى ابنتي الشيخ الكبير .. و في النبيّ (ص) .. شاب قويٌّ أمينٌ .. شهدت بذلك خديجة و أعلنته اليه (ص) (إني قد رغبتُ فيكَ .. لقرابتك .. و سِطَتِك في قومك .. و أمانتك) .. هذا عن الأمانة .. و قد شهدت مكة بذلك كلها .. و أجمعت على تسميته بالأمين .. و أما القوة فشيء طبيعي في صفاته (ص)!!

3- في موسى عليه السلام .. عرض عليه أبوهما الزواج من إحدى ابنتيه «إني أُريدُ أنْ أنكحَكَ إحدى ابنتيَّ هاتينِ» فكانت مفاجأة تامة لموسى .. فهو لم يكن يخطر بباله أن يتزوج إحدى هاتين!! و في النبيّ (ص) .. عرضت خديجة نفسها على

ص: 122

النبي (ص) ليتزوجها .. فكانت مفاجأة تامة للنبي (ص) ... لم يخطر بباله ذلك من قبل ..

قالت: نفيسة بنت مُنْيَة:

«أرسلتني خديجة دسيساً إلى «محمد» بعد أن رجع من الشام .. فقلت: يا محمد .. ما يمنعك من أن تتزوج؟. قال: ما بيدي مال أتزوج به .. قلت: فإن كفيت ذلك .. و دعيت إلى الجمال و المال و الشرف و الكفاءة .. ألا تجيب؟. قال: فمن ؟. قلت: خديجة .. قال: و كيف لي بذلك؟. قلت: عليّ .. و أنا أفعل.»!!

و تأمل هنا المفاجاة فهي واضحة جداً!!

و أجمل العطاء أن يفجأك الله بالعطاء من حيث لا تحتسب!!

4- في موسى عليه السلام .. رغم أنه كان في تلك اللحظة لا يملك مالاً .. دفع المهر إلى عروسه .. عشر سنين من العمل .. و في النبي (ص) .. دفع المهر إلى خديجة عليها السلام «عشرين بَكرَة»!!

5- في موسى عليه السلام .. دخل بيت أبيها و كلهم يرحبون بمقدمه .. و في النبي (ص) ... دخل بيت خديجة عليها السلام .. و كل أهل البيت يرحبون بمقدمه الشريف ..

6- في موسى عليه السلام .. قضى عشر سنين في بيت طيب طاهر .. ثم فجأه الوحي .. و في النبيّ (ص) ... قضى خمسة عشر

ص: 123

عاماً في بيت الزوجية الطاهر .. ثم فجأه الوحي في غار حراء!!

7- في موسى عليه السلام .. كانت المكرُمة التي بدرت منه .. حين سقى لهما ثم تولّى إلى الظل .. سبباً في اكتشاف فتوته و أمانته و قوته .. «يا أبتِ استأجرْهُ إنَّ خيرَ من استأجَرْتَ القوىُّ الأمين» ..

و في النبيّ (ص) .. كانت مكارم أخلاقه و أمانته في رحلته إلى الشام في تجارة خديجة .. سبباً في اكتشاف قوته و أمانته و تأكد ذلك عند خديجة عليها السلام ..

8- في موسى عليه السلام .. قام البرهان للشيخ الكبير و ابنتيه على قوة موسى و أمانته .. فألقى الشيخ اليه بمقاليد أموره كلها .. و في النبي (ص) .. قام البرهان عند خديجة على قوته و أمانته .. فالقت اليه بأمورها كلها ... و مالها كله يتصرف كيف يشاء!! فتفرغت هي للبيت و الزوجية .. و تركت له (ص) يتجر في مالها كيف يشاء!!

هذه بعض اوجه التشابه العجيب .. بل التطابق الغريب .. بين القصتين الشريفتين .. قصة زواج الكليم عليه السلام .. و قصة زواج الحبيب (ص)!!

فماذا في هذا؟!!

هل هو محض صدفة؟!!

ص: 124

كلا ثم كلا .. إنما هو التدبير الإلهي .. و الصُنع الحكيم المُحكم ..

ما كان موسى عليه السلام .. حين تزوج ابنة الشيخ الكبير .. يعلم أنه سوف يكون نبيّاً .. و من أولي العزم من الرُسل!!

و ما كان محمد (ص) .. حين تزوج خديجة .. يعلم أنه سوف يكون خاتم النبيين .. و سيد المرسلين .. و رسول الله إلى الخَلق كافة إلى يوم الدين!!

و لكنَّ الله يعلم .. و مقتضى علمه سبحانه .. أن يصنعهما على عينه «و لِتُصنَعَ على عيْني» .. «فانَّكَ بأعيُنِنا» ..

مقتضى علمه سبحانه .. أن يُعدَّهما .. و يصنعهما كيف يشاء ..

إنهما لا يعلمان بعد .. ماذا يراد بهما ..

و لكنَّ الله عز وجل يعلم

«اللهُ اعلمُ حيثُ يجعَلُ رسالتَه»!!

فالتشابه .. أو التطابق .. في قصة زواجهما .. صلّی الله علیه و سلم .. لیس صدفة .. و إنما تدبير ليس كمثله تدبير

«يُدَبرُ الأمْرَ .. يُفَصّلُ الآياتِ ..»!!

و هذا التشابه إشارة عظيمة .. تؤكد لنا نحن البشر .. أنَّ موسى حقٌّ .. و أنَّ محمداً حقٌّ!!

ص: 125

و أنَّ سنَّةَ الله في الكليم .. هي سُنَّة الله في الحبيب ..

هذا سوف يكون نبيّاً عظيماً ..

و ذاك سوف يكون سيد الأنبياء ..

فإن تشابهاً في زواجهما .. فليست هي الصدفة .. و إنما هو التدبير من الله للنبيّين الكريمَين .. ليحملا من بُعد ما سوف يحملان!!

و كما اكتشفت الفتاة جوهر موسى فهتفت بأبيها «يا أبَتِ استأجرْهُ إِنَّ خيرَ مَن استأجَرْتَ القويُّ الأمينُ.»!!

كذلك اكتشفت خديجة عليها السلام .. جوهر النبيّ صلّی الله علیه و سلم فقالت له على استحياء:

«يا بن عمّ .. إني قد رغبتُ فيك ..

«لقرابتك ..

«و سِطَتِكَ (شرفك) في قومك ..

«و امانتك ..

«و حُسن خلقك ..

«و صدق حديثك ..»!!

فدَلَّت بذلك .. على عبقرية مكنونة في جوهرها ..

لقد اكتشفت أعلى .. و أغلى .. و أرقى .. و أكمل صفات البشر ..

ص: 126

و هذا من أقوى دلائل عبقرية خديجة!!

طُوبي لها .. حين اختارت ..

ثم طوبى لها .. حين رضي .. صلّی الله علیه و سلم .. زواجها ..

هنالك شَرُفَت شَرَفاً لم تبلغه سيدة قطّ ..

لقد صارت زوجاً .. لأشرف الخَلْق .. صلّى الله عليه و سلم!!

فصارت أُمّاً للمسلمين و المسلمات .. الى يوم القيامة!!

127

ص: 127

ص: 128

كيف تمَّ .. الزواج .. المبارك ..؟!

ص: 129

ص: 130

لا أحب الخوض في التفاصيل .. و لا اطلاق الخيال في وصف حفل الزفاف ..

كما صنع بعض مَن كتبوا في هذا الأمر الجليل ..

ذلك أنَّ أيّ شأن من شئون النبيّ .. صلّی الله علیه و سلم .. یجب مساسه بالتوقير .. الذي فرضه الله علينا .. إذا تحدثنا عن شئون رسوله .. صلّی الله علیه و سلم ..

امتثالاً لقوله تعالى:

«ما كانَ محمّدٌ ابا احَدٍ مِن رجالِكم ..

«و لكِن رسولَ اللهِ ..

«و خاتمَ النبيّينَ ..

«و كانَ اللهُ بكلّ شيءٍ عليماً.»

رسولَ الله .. و خاتمَ النبيين؟!

ص: 131

وَ من كان هذا مقامه .. وجب أن نغضَّ أصواتنا عنده .. و أن نتكلم بحذَر!!

و لا أدري من أين لهؤلاء الذي ذهبوا يتخيلون وصفاً لحفل زفاف خديجة .. عليها السلام ... فقالوا بدَقِّ الطبول و ما أشبه ذلك!!

كلا ثم كلا .. بل الله اعلم بما كان .. و ما ينبغي للخيال أن يكون له مكان!!

من أجل ذلك سوف نقف عند الوارد في هذا الشأن .. فنقول:

قال ابن هشام:

حديث تزويج رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم ..

خديجة .. رضي الله عنها

«فلما بلغ رسول الله ..صلّی الله علیه و سلم ..خمساً و عشرين سنة ..

«تزوّج خديجة .. بنتَ خوَيلد .. بن أسَد .. بن عبد العُزّى .. بن قُصَيّ .. بن كِلاب .. بن مرّة .. بن كعب .. بن لُؤَيّ .. بن غالب ..

ص: 132

قال ابن إسحاق:

«و كانت خديجة بنتُ خوَيلد .. امرأة تاجرة ذاتَ شرف و مال ..

«تستأجر الرجال في مالها ..

«و تضاربهم(1) إياه .. بشيء تجعله لهم ..

«و كانت قريش قوماً تجاراً ..

«فلما بلغها عن رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم.. ما بلغها .. من صدق حدیثه .. و عِظم امانته .. و كرم اخلاقه .. بعثت اليه فعرَضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً ..

«و تعطيه افضلَ ما كانت تُعطي غيره من التجار ..

«مع غلام لها يقال له مَيسرة ..

«فقَبله رسولُ الله .. صلّی الله علیه و سلم .. منها .. و خرج في مالها ذلك .. و خرج معه غلامها مَيسرَة حتى قدِم الشام ..

«فنزل رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. في ظلّ شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان

«فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال له: من هذا الرجل الذي

ص: 133


1- تضاربهم .. اي تجعل لهم نصيباً في الربح.

نزل تحت هذه الشجرة؟.

«قال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرَم ..

«فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطُّ إلا نبي ..

رغبة خديجة في الزواج منه

«ثم باع رسول الله صلّی الله علیه و سلم .. سلعته التي خرج بها .. و اشترى ما أراد أن يشتري ..

«ثم أقبل قافلاً إلى مكة و معه ميسرة ..

«فكان ميسرةُ -فيما يزعمون- إذا كانت الهاجرةُ و اشتد الحرّ .. یرى مَلَكين يُظلّانه من الشمس .. وهو يسير على بعيره ..

«فلما قدِم مكة على خديجة بمالها .. باعتْ ما جاء به .. فأضعف أو قريباً ..

«و حدثها ميسرة عن قول الراهب ..

«و عما كان يرى من إظلال المَلَكين إياه ..

«و كانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة.

ص: 134

«مع ما أراد الله بها من كرامته ..

«فلما اخبرها ميسرة بما أخبرها به ..

«بعثت إلى رسول الله ..صلّی الله علیه و سلم.. فقالت له -فيما يزعمون-

«یابن عمّ .. إني قد رغبتُ فيك ..

«لقرابتك ..

«و سِطَتِك(1) في قومك ..

«و أمانتك ..

«و حُسنُ خلقك ..

«و صدق حديثك ..

«ثم عرضت عليه نفسها ..

«و كانت خديجة يومئذ اوسطَ نساء قريش نسباً ..

«و أعظمهنّ شرفاً ..

«و اكثرهنّ مالاً ..

«كلّ قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه ..

ص: 135


1- و شرفك.

زواجه .. صلّی الله علیه و سلم من خديجة

«فلما قالت ذلك لرسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. ذكر ذلك لأعمامه ..

«فخرج معه عمُّه حمزة بنُ عبد المطلب ..

«حتى دخل على خُويلد بن أسد .. فخطبها اليه ..

«فتزوجها ..

«و أصدَقها رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. عشرين بكرةً ..

«وكانت أوّل امرأة تزوجها رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم ..

«ولم يتزوّج عليها غيرها ..

«حتى ماتت .. رضي الله عنها ..»

ص: 136

اضافات تزيد الصورة وضوحاً

«و يقال ان الذي نهض معه .. صلّی الله علیه و سلم هو أبو طالب .. و هو الذي خطب خطبة النكاح ..

«و قيل: لعلهما خرجا معه جميعاً .. و خطب أبو طالب الخطبة، لأنه كان أسنَّ من حمزة ..

«و ذكر غير ابن إسحاق أن خويلداً كان إذ ذاك قد هلك .. و أن الذي أنكح خديجة رضي الله عنها هو عمها عمرو بن أسد ..»

السفارة التي مهدت للزواج

قالت: «نفيسة بنت مُنْية»:

«ارسلتني (خديجة) دسيساً إلى (محمد) بعد أن رجع من الشام ..

«فقلت: (يا محمد) ما يمنعك من أن تتزوج؟.

ص: 137

«قال: ما بيدي مال أتزوج به ..

«قلت: فإن كفيت ذلك .. و دعيت إلى الجمال و المال و الشرف و الكفاءة ألا تجيب؟.

«قال: فمن؟.

«قلت: (خديجة) ..

«قال: و كيف لي بذلك؟.

«قلت: عليّ .. و أنا أفعل.»

عقد الزواج؟

«و جاء اليوم الموعود ..

«و ذهب (محمد) لعقد الزواج ..

«و ذهبت معه بنو هاشم .. و على رأسهم عمه (أبو طالب) و عمه (الحمزة) ..

«كما حضر معه رؤساء مصر.

«و حضر الحفل آل (خديجة) من بني أسد ..

ص: 138

«و على رأسهم (عمرو بن اسد) ..

«و نهض (أبو طالب) فخطب خطبة الزواج .. و كان مما قال:

«الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم .. و زرع إسماعيل ..

«و ضئضئي (أصل) معدّ ..

«و عنصر مضر ..

«و جعلنا حضنة بيته .. و سواس حرمه ..

«و جعل لنا بيتاً محجوجاً .. و حرما آمناً .

«و جعلنا الحكام على الناس ..

«ثم قال: إن ابن أخي هذا (محمد بن عبدالله) لا يوزن به رجل إلا رجح به ..

«فإن كان في المال قل (قليل المال).

«فان المال ظل زائل .. و أمر حائل (يتغير) ..

«و محمد من عرفتم قرابته ..

«و قد خطب (خديجة بنت خويلد) ..

«و بذل لها من الصداق ما آجله و عاجله من مالي ..

«و هو بعد هذا والله نبأ عظيم .. و خطر جليل ..

ص: 139

«و كان مهر (خديجة) عشرين بَكرة ..

«و نهض (عمرو بن أسد) عم خديجة .. و زعيم قومه .. فردّ على (أبي طالب) .. و اثنى على (محمد بن عبد الله).

«و أعلن تزويجه من ابنة أخيه (خديجة) ..

«و بذلك تمت مراسم عقد الزواج بين أشرف زوجين ..

«و قد كان زواجهما بعد مجيء (محمد بن عبد الله) من الشام بشهرين و خمسة عشر يوماً ...

«و كان عمره آنذاك خمسة و عشرين عاماً.

«و كانت -كما روى ابن أخيها- (حكيم بن حزام بن خويلد) قد بلغت الأربعين عاماً ..»!!

رواية ابن الاثير

و لا تختلف رواية ابن الأثير عما ذكره غيره .. و مما قال:

«فلمّا ارسلت إلى النبيّ .. صلّی الله علیه و سلم .. قال لأعمامه ..

«و خرج و معه حمزة بن عبد المطّلب .. و أبو طالب و غيرهما

ص: 140

من عمومته ..

«حتى دخل على خُوَيلد بن أسد فخطبها اليه ..

«فتزوّجها ..

«فولدت له اولاده كلهم ..

«إلّا إبراهيم ..

«و قيل: إنّ الذي زوّجها عمها عمرو بن أسد .. و إنّ أباها مات قبل الفِجار ..

«و كان الرسول بين خديجة و بين النبيّ ..صلّی الله علیه و سلم .. نفيسة بنت مُنْيَة .. و أسلمت يوم الفتح .. فبرّها رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. و أكرمها.»

ماذا قال الامام العيني ؟!

«(بابُ(1) ترويج النبيّ .. صلّی الله علیه و سلم .. خديجةَ .. و فضلها رضي الله عنها.)

ص: 141


1- من صحيح البخاري

«اي هذا باب في بيان تزويج النبي .. صلّى الله تعالى عليه و سلم .. خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ ..

«تجتمع مع رسول الله .. صلّى الله تعالى عليه و آله و سلم .. في قصيّ ..

«و هي من أقرب نسائه اليه في النَسب ..

«كانت خديجة تدعى في الجاهلية الطاهرة ..

«تزوجها رسول الله .. صلّى الله تعالى عليه و سلم .. في سنة خمس و عشرين من مولده -في قول الجمهور-

«و قال ابو عمر: كانت إذ تزوجها رسول الله .. صلّى الله تعالى عليه و سلم .. بنت اربعين سنة ..

«و أقامت معه أربعاً و عشرين سنة ..

«و توفيت و هي بنت أربع و ستين سنة و ستة اشهر ..

«و توفيت قبل الهجرة .. بثلاث سنين ..

«يقال أنها توفيت بعد موت ابي طالب بثلاثة ايام ..

«توفيت في شهر رمضان ..

«و دفنت في الحَجون.»!!

ص: 142

أقول: هذا ما تيسر لنا جمعه في هذا الباب: كيف تمَّ الزواج المبارك؟!.

أمّا ما وراء ذلك .. من ضرب الدفوف .. و ذبح الذبائح .. فهو لا يقدَّم و لا يؤخَّر .. و لا يغني في الموضوع شيئاً ..

إنما الأمر الذي يعني البشرية إلى أن تقوم الساعة ..

أنّ محمداً .. صلّی الله علیه و سلم .. تزوج خديجة بنت خُوَيلد ..

أما المشاعر .. أما الأحاسيس .. التي كانت بينهما ..

فانها حَرَم اقدس .. يتحتم على الجميع .. أن يُمسكوا عن مجرد التفكير فيها.

ذلك شيء يسير .. عن اشرف زواج .. كان أو يكون!!

ص: 143

ص: 144

خمس عشرة سنة .. في ظلال حياة .. زوجية سعيدة؟!

ص: 145

ص: 146

من المشهور .. أنّ رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. تزوج خديجة .. عليها السلام .. و هو ابن خمس و عشرين.

و أنه .. صلّی الله علیه و سلم .. بُعِث و هو في الأربعين ..

فهناك من بدء الزواج .. إلى بدء الوحي .. خمس عشرة سنة ..

فكيف كانت حياته .. صلّی الله علیه و سلم خلال تلك الفترة؟!

و ماذا كان فيها من أحداث؟!

اولاده .. صلّی الله علیه و سلم .. من خديجة .. عليها السلام؟!

جاء في (أسد الغابة):

«قال قتادة: ولدت له خديجة غلامين .. و أربع بنات ..

ص: 147

«القاسم .. و به كان يكنى .. و عاش حتى مشى ..

«و عبدالله .. مات صغيراً.»

«و قال الزبير: ولدت لرسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. القاسم و هو اكبر ولده ..

«ثم زينب ..

«ثم عبد الله .. و كان يقال له الطيب .. و يقال له الطاهر ..

«ثم مات القاسم بمكة .. و هو أوّل ميت مات من ولده ..

«ثم عبدالله مات أيضاً بمكة.»

«و قال الكلبي: ولد عبدالله في الإسلام .. و كل ولده منها ولد قبل الإسلام.»

«و قال الزبير: ان خديجة بنت خويلد .. ولدت لرسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. القاسم .. و الطاهر .. و الطيب .. و عبدالله .. و زينب .. و رُقَيَّة .. و أم كلثوم .. و فاطمة.»

اقول: الراجح أن الطاهر و الطيب كانا يطلقان على «عبدالله» باعتبار أنه ولد في الاسلام -على قول-

ص: 148

و قال ابن هشام:

«فولدت لرسول الله .. صلّی الله علیه و سلم وَلَدَه كلهم .. إلا إبراهيم.

«القاسم .. و به كان يُكنى .. صلّی الله علیه و سلم .. و الطاهر .. و الطيب(1) .. و زينب .. و رُقيّة .. و ام كُلثوم .. و فاطمة .. عليهم السلام ..

قال ابن هشام:

«اكبر بنيه القاسم .. ثم الطيب .. ثم الطاهر .. و اكبر بناته رُقية .. ثم زينب .. ثم أمّ كلثوم .. ثم فاطمة.»

اقول: الراجح من أقوال اخرى ان اكبر بناته زينب .. ثم رقية .. ثم أم كلثوم .. ثم فاطمة.

ترتيب المواليد؟!

القاسم .. و كان صلّی الله علیه و سلم في نحو الثامنة و العشرين ..

زینب .. و كان صلّی الله علیه و سلم في نحو الثلاثين من عمره ..

ص: 149


1- المعروف أنهما لقبان لعبد الله.

رُقيّة .. و كان صلّی الله علیه و سلم في نحو الثالثة و الثلاثين ..

أم كُلثوم .. و كان صلّی الله علیه و سلم في نحو الرابعة و الثلاثين ..

فاطمة .. و كان صلّی الله علیه و سلم في نحو الخامسة و الثلاثين ..

بعد عشر سنوات من الزواج ..

عبدالله .. (و هو الطيب و الطاهر) .. و كان صلّی الله علیه و سلم قد قارب الحادية و الأربعين ..

و كانت خديجة قد قاربت السادسة و الخمسين من عمرها ..

و قيل: (ولد عبدالله في الإسلام .. و كل ولده منها ولد قبل الإسلام.)

توفي قبل أن يتم مدة الرضاع .. و فرح المشركون بموته و قال سفیههم:

«دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له .. لو هلك انقطع ذكره .. و استرحْتم منه»!!

اقول: يمكن بالتأمل في مختلف الروايات أن ترتيب الذرية المباركة هکذا ..

القاسم .. ثم زينب .. ثم رقيّة .. ثم أم كلثوم .. ثم فاطمة .. ثم عبدالله ..

ص: 150

فإذا اخذنا برواية إبن إسحاق ..

(فولدت لرسول الله .. صلّى الله عليه و سلم . وَلَدَه كلهم قبل أن ينزل عليه الوحي).

كان معنى هذا أن هؤلاء الستة وُلِدوا خلال الخمس عشرة سنة .. من بدء الزواج إلى بدء الوحي .. هذا من ناحية الميلاد ..

و يذهب ابن اسحاق أن الذكور هلكوا قبل الاسلام ..

(و أما بناته فأدركن الاسلام .. فهاجرن معه و اتبعنه و آمنّ به).

و الراجح أن القاسم مات قبل الاسلام .. و أن عبدالله (الطيب و الطاهر) مات في الاسلام صغيراً ..

هذا ما أمكن لنا استخلاصه من الأقوال الواردة في هذا السبيل .. و الله أعلم!!

و لكن ماذا عن الأحداث العامة التي شارك فيها .. صلّی الله علیه و سلم .. خلال هذه السنين؟!

لعل أهم هذه الأحداث كان .. هو هدم قريش الكعبة و بناءها ..

ص: 151

و قد مرّ في فصل سابق .. كيف احتكمت قريش إلى أوّل داخل المسجد .. فكان رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. هو اول داخل ..

و كيف قالوا: هذا الأمين .. رضينا .. هذا محمد .. الخ ..

و كان ذلك سنة خمس و ثلاثين من مولده .. صلّی الله علیه و سلم ..

أي بعد مرور عشر سنوات من الزواج الكريم ..

أما كيف كانت حياة الزوجين الشريفين .. و كيف كانت العلاقة بينهما؟!

فإنّ خير ما يُقال في هذا الأمر أن نقول ..

ما ظنك بزوجٍ .. هو أشرف .. و أرقى .. و أعظم .. خَلْق الله؟!

و ما ظنك بزوجة .. هي التي وقع اختيار الله تعالى عليها .. لتكون زوجة لرسوله .. صلّی الله علیه و سلم؟!

ما ظنك بزوجين ليس كمثلهما زوجان على الاطلاق؟!

كانت حياتهما الزوجية .. أرقى حياة ..

الحبّ المتبادل ..

الاخلاص المتبادل ..

ص: 152

التعاطف المتبادل ..

التراحم المتبادل ..

بل الأمر أعلى من ذلك ..

إنّه رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم ..

و إنها أم المؤمنين .. خديجة .. عليها السلام ..

كل ما يُقال في وصف حياتهما الزوجية .. من ثناءٍ .. هو دون الحقيقة ..

فاللهم .. صلّ .. و سلِّم .. على خير البريّة ..

و سلام على زوجه .. الطاهرة الزكيّة!!

ص: 153

ص: 154

خديجة .. عليها السلام .. في أعظم .. لحظة فى حياتها؟!

ص: 155

ص: 156

ما هي

أعظم لحظة .. في حياة أم المؤمنين .. خديجة بنت خويلد؟!

في رأیي .. هي اللحظة التي دخل فيها .. رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. على خديجة، يرجف فؤاده .. فقال زمِّلوني .. زملوني ..

فقالت خديجة: كلا .. واللهِ ما يُخزيك اللهُ أبَداً!!

نعم .. هذه هي اللحظة الكبرى، العظمى، من حياتها .. جاءها يرجف فؤاده ..

فاعظمته .. و وقّرته .. و ثبّتته .. و آنسته .. و لاطفته .. و أقسمت: واللهِ .. ما يُخزيك الله أبداً!!

و ها هنا سر الاختيار!!

لماذا اختارها الله هي بالذات ... زوجاً له .. من دون النساء؟!

من أجل هذه اللحظة الفاصلة .. في حياة البشر إلى أن تقوم الساعة!!

ص: 157

المراد سيدة عظيمة، تقف إلى جوار النبيّ العظيم، تشدّ من أزره، في أخطر لحظة ..

لحظة بدء الوحي ..

شيء جديد .. في حياته ..

فمن يفهمه، و مَن يُصدّقه، و مَن يُعينه؟!

إنها خديجة .. التي وقع عليها الاختيار الإلهي لأداء ذلك الدور الفذ .. الذى لا مِثل له!!

فكيف كان ذلك؟!

بدء الوحي

عن عائشة أمّ المؤمنينَ .. أنها قالتْ:

«أوّلُ ما بُدِىء به رسولُ الله .. صلّی الله علیه و سلم .. مِنَ الوحي .. الرؤيا الصالحةُ في النومِ ..

«فكان لا يَرى رُؤيا إلا جاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ

ثم حُبِّب اليهِ الخلاءُ ..

ص: 158

«و كان يخلو بغارِ حِراءٍ ..

«فيتحنَّثُ فيه -و هوَ التعبُّدُ- اللياليَ ذواتِ العَدَدِ .. قبل ان ينزعَ إلى أهلهِ .. و يتزوَّدُ لذلكَ ..

«ثم يرجعُ إلى خديجةَ، فيتزوَّدُ لمثلِها ..

«حتى جاءَهُ الحقُّ، و هو في غار حراءٍ ..

«فجاءَهُ المَلَكُ، فقال . اقْرأْ ..

«قالَ: ما أنا بقارىءٍ ..

«قال: فأخذني فغطَّني .. حتى بَلَغَ مني الجهْدَ .. ثم أرسلني ..

«فقال: أقرَأْ ..

«قلتُ: ما أنا بقارىءٍ ..

«فأخذني .. فغطني الثانيةَ .. حتى بَلَغَ مني الجهْدَ .. ثم أرسلني ..

«فقال: اقرَأ ..

«فقلتُ: ما أنا بقارىءٍ ..

«فأخذني .. فغطني الثالثةَ .. ثم أرسلني ..

ص: 159

«فقال: «اقرَأْ باسمِ ربِّكَ الذي خَلَقَ . خَلَقَ الانسانَ مِنْ عَلَقٍ . اقرَأْ و ربُّكَ الاكرَمُ ..»

«فرَجَعَ بها رسول اللهِ ..صلّی الله علیه و سلم .. يَرْجفُ فؤادُهُ ..

«فدَخلَ على خديجةَ بنتِ خُوَيْلد -رضيَ الله عنها-

«فقالَ: زمِّلوني، زملوني ..

«فزمَّلوه .. حتى ذَهَبَ عنه الرَّوْعُ ..

«فقال لخديجةَ، و أخبرَها الخبرَ:

«لقدْ خشيتُ على نفسي ..

فقالتْ خديجةُ: كلّا .. والله ما يُخزيكَ الله أبَداً .. إنك لَتَصِلُ الرَّحمَ .. و تحمِلُ الكلَّ .. و تكسِبُ المعدومَ .. و تَقْري الضيفَ .. و تُعينُ على نوائبِ الحقِّ ..

«فانطلقَتْ به خديجةُ، حتى أتتْ بِهِ وَرَقَةَ بنَ نَوْفل ابنَ أسَدِ بنَ عبدِ العُزَّى .. ابنَ عمِّ خديجةَ ..

«و كان أمراً تنصَّرَ في الجاهليةِ ..

«و كان يكتُبُ الكتابَ العبرانيَّ .. فيكتُبُ من الانجيل بالعبرانيةِ ما شاءَ اللهُ ان يكتبَ ..

«و كانَ شيخاً كبيراً قد عَميَ ..

ص: 160

فقالتْ له خديجةُ: يا ابنَ عَمّ .. اسمعْ من ابنِ اخيكَ ..

«فقال لهُ ورَقةُ: يا ابنَ أخي .. ماذا ترى؟

«فاخبرَهُ رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. خَبرَ ما رأى ..

«فقال له وَرَقَةُ: هذا الناموسُ الذي نَزّلَ اللهُ على موسى ..

«يا ليتني فيها جَذَعاً ..

«ليتني أكونُ حيّاً .. إذْ يُخرُجكَ قومُكَ ..

«فقال رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم: أوَ مُخرجيّ هُم؟

«قالَ: نعمْ .. لم يَأتِ رجلٌ قطُّ بمثل ما جنتَ بهِ إلا عودِيَ .. وَ إن يُدْركني يومُكَ انصُرْكَ نصراً مؤزّراً ..

«ثم لم يَنشبْ ورقةُ أن تُوُفيَ ..

«و فَترَ الوحيُ ..

«قال ابن شهابٍ: و اخبرني ابو سَلمةَ ابنُ عبدِ الرحمن .. أنّ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ الأنصاريّ قال و هو يُحدّثُ عن فترَةِ الوحي، فقال في حديثه:

«بَيْنا أنا أمشى .. إذْ سمعتُ صوتاً من السماءِ، فرفعت بصري، فإذا المَلَك الذي جاءني بحراءٍ .. جالسٌ على كرْسيٍّ بين

ص: 161

السماءِ و الأرض، فرعبْتُ منهُ ... فرجعتُ فقلتُ: زمِّلوني .. فانزلَ اللهُ تعالى .. «يا أيها المُدَّثّرُ قُمْ فأنذِرْ ..» إلى قوله: «و الرّجزَ فاهجُرْ ..»

«فحميَ الوحيُ و تتابَعَ ..»

[صحيح البخاري]

«يتزود» اتخاذ الزاد، و هو الطعام الذي يستصحبه المسافر ..

«فغطني»، ضغطني و عصرني، و الغط في الحديث: الخنق ..

«الجهد» الغاية و المشقة ..

«عَلَق» هو الدم الغليظ ..

«يرجف فؤاده» يخفق و يضطرب، و الفؤاد هو عين القلب ..

«الرّوْع»، هو الفزع ..

«ما يُخزيك الله» من الخزي و هو الفضيجة و الهوان ..

«لتصل الرحم» تحسن إلى قراباتك ..

«و تحمل الكلِّ» تنفق على الضعيف و اليتيم .. لأن الكلِّ من لا يستقل بأمره ..

ص: 162

«و تكسب المعدوم»، تكسب غيرك المال المعدوم، اي تعطيه له تبرعاً ..

«و تَقري الضيف»، تكرم الضيف ..

«قد تَنصّر» صار نصرانياً و ترك عبادة الأوثان ..

«و كان يكتب الكتاب العبرانيّ، كان يكتب من الانجيل بالعبرانية إن شاء، و بالعربية إن شاء ..

«هذا الناموس»، و هو صاحب السر، و هو هنا جبريل عليه السلام، و أهل الكتاب يسمون جبريل عليه السلام .. الناموس الأكبر

«جَذَعاً» شاباً قوياً حتى ابالغ في نصرتك ..

«مؤزراً» قوياً بليغاً ..

«لم يَنشب» لم يلبث ..

«و فتر الوحي: احتبس ..

«ما انا بقارىء»، ما أحسن القراءة .. او لست بقارىء البتة ..

«فرجع بها» اي بالآيات و هي قوله «اقرأ باسم ربك» ..

«يا ليتني فيها»، أي في أيام النبوة ..

ص: 163

«اقرأ» أمر بإيجاد القراءة مطلقاً .. لا تختص بمقروء دون مقروء ..

«باسم ربك»، أي أقرأ مفتتحاً «باسم ربك» اي قل بسم الله الرحمن الرحيم .. ثم اقرأ ..

««اقرأ باسم ربك الذي» إلى قوله «ما لم يعلم» هذا صدر ما أنزل على رسول الله .. صلّی اللّه علیه و سلم .. يوم حراء .. ثم أنزل آخرها بعد ذلك و ما شاء الله ..

«خلق الانسان»، إيذان بأن الانسان أشرف المخلوقات، ثم الامتنان عليه بقوله «علم الانسان»، يدل على ان العلم اجلّ النعم ..

«علم بالقلم»، إشارة إلى العلم التعليمي ..

«علم الانسان ما لم يعلم» إشارة إلى العلم اللدني ..

«لقد خشيت على نفسي»، فأجابت خديجة بكلام فيه قسم و تأكيد .. و ذلك إزالة لحيرته و دهشته ..

«أو مخرجي هم؟!» و العادة إن كل ما أتى للنفوس بغير ما تحب و تألف .. و إن كان ممن يحب و يعتقد .. یعافه و يطرده ..

ص: 164

الاسئلة و الاجوبة

-لِمَ ابتدىء عليه الصلاة و السلام بالرؤيا اولاً؟.

-و أجيب بأنه ابتدىء بها لئلا يفجأه الملك، و يأتيه بصريح النبوة و لا تحتملها القوى البشرية .. فبدىء بأوائل خصال النبوة، و تباشير الكرامة، من صدق الرؤيا، مع سماع الصوت، و سلام الحجر و الشجر عليه بالنبوة، و رؤية الضوء .. ثم اكمل الله له النبوة بإرسال الملك في اليقظة، و كشف له عن الحقيقة كرامة له.

-لِمَ حبب اليه الخلوة؟

-أجيب بأن معها فراغ القلب ..

و هي معينة على التفكر، و البشر لا ينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة، فحبب اليه الخلوة لينقطع عن مخالطة البشر، فينسى المألوفات من عادته، فيجد الوحي منه مراداً سهلاً .. و يقال كان ذلك اعتباراً و فكرة كاعتبار ابراهيم، عليه السلام، لمناجاة ربه و الضراعة اليه ليريه السبيل إلى عبادته ..

ص: 165

متى كان نزول المَلَك عليه؟

-رُوي ان نزول المَلَك عليه بحراء، يوم الاثنين، لسبع عشرة خلت من رمضان .. و رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. يومئذ ابن أربعين سنة ..

-ما الحكمة في غطّه ثلاث مرات؟

-ليظهر في ذلك الشدة و الاجتهاد في الأمور، و أن يأخذ الكتاب بقوة، و بترك الأناة، فإنه أمر ليس بالهوينا، و كرره ثلاثا مبالغة في التثبت ..

-ما الخشية التي خشيها رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. حيث قال: لقد خشيت على نفسي؟

-قيل: خاف من الموت من شدة الرعب، أو خاف ان لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، و لا يطيق حمل أعباء الوحي، أو العجز عن النظر إلى المَلك و خاف ان تزهق نفسه و ينخلع قلبه لشدة ما لقيه عند لقائه .. او خاف من قومه أن يقتلوه .. او خاف مفارقة الوطن بسبب ذلك، أو اخبار عن الخشية التي حصلت له على غير مواطئة .. بغتة .. كما يحصل للبشر إذا دهمه أمر لا يعهده ..

-مِن أين علم رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. أن الجائي اليه،

ص: 166

جبريل عليه السلام لا الشيطان، و بم عرف انه حق لا باطل؟

-أجيب بانه كما نصب الله لنا الدليل على ان الرسول عليه السلام صادق لا كاذب، و هو المعجزة، كذلك نصب للنبي .. صلّی الله علیه و سلم .. دليلاً على أن الجائي اليه مَلَك لا شيطان، و أنه من عند الله لا من غيره ..

-ما الحكمة في فتور الوحي مدة؟

-أجيب بأنه إنما كان كذلك ليذهب ما كان عليه الصلاة و السلام وجده من الروع .. و ليحصل له التشوق إلى العود ..

-ما كان مدة الفترة؟

-أجيب بأنه وقع في تاريخ أحمد بن حنبل .. أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين ..

-ما الحكمة في تخصيصه عليه الصلاة و السلام التعبد بحراء من بين سائر الجبال؟.

-لأنه يرى بيت ربه منه و هو عبادة ..

ص: 167

استنباط الاحكام

-فيه دليل للجمهور أن سورة «اقرأ باسم ربك» أول ما نزل ..

-فيه أن مكارم الأخلاق .. و خصال الخير سبب للسلامة من مصارع الشر و المكاره .. فمن كثر خيره حسنت عاقبته، و رجی له سلامة الدين و الدنيا ..

-فيه أنه ينبغي تأنيس من حصلت له مخافة، و تبشيره، و ذكر أسباب السلامة له ..

-فيه ابلغ دليل .. على كمال خديجة .. رضي الله تعالى عنها .. و جزالة رأيها .. و قوة نفسها .. و عظم فقهها .. و قد جمعت جميع أنواع اصول المكارم و أمهاتها فيه عليه السلام .. لأن الاحسان إما إلى الاقارب، و ما الى الاجانب .. و إما بالبدن و اما بالمال .. و إما على من يستقل بأمره و إما على غيره !!!

ص: 168

فوائد؟!

-خديجة بنت خويلد .. أم المؤمنين .. تزوجها رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. و هو ابن خمس و عشرين سنة .. و هي أم أولاده كلهم،

خلا إبراهيم فمن مارية .. و لم يتزوج غيرها قبلها .. و لا عليها .. حتی ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين -على الأصح- فأقامت معه أربعاً و عشرين سنة و ستة أشهر، ثم توفيت .. و كانت وفاتها بعد وفاة أبي طالب بثلاثة ايام ..

و هي أول مَن آمن من النساء .. باتفاق .. بل اول مَن آمن مطلقاً!!!

اقول: هذا حديث الامام البخاري في صحيحه عن بدء الوحي ..

و كانت تلك مقتطفات من شرح الإمام العيني .. على ذلك الحديث الفذّ العظيم ..

ص: 169

لقد كانت تلك هي أعظم لحظة في حياة خديجة .. علیها السلام ..

اللحظة التي جاءها فيها، رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. يخبرها بما رأی ..

فقالت: كلا .. و اللهِ .. ما يُخزيك اللهُ ابداً!!

كانت و هي تنطق بهذا القول الخالد، تنطق حقّاً و صدْقاً ..

فارتفعت بذلك فوق نساء العالمين جميعاً.

«خير نسائها خديجة بنت خويلد ..»!!!

كانت في تلك اللحظة .. أوّل مَن آمن على الإطلاق !!

وَجدَ فيها .. رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. صوتاً يؤمن به .. أنه رسول الله حقاً و صدقاً ..

فحازت .. عليها السلام .. في تلك اللحظة .. درجة أسبق السابقين إلى الاسلام ..

شرف؟!!. ما أعظمه من شرف؟!!

و لحظة ما أعظمها من لحظة؟!!

لحظة: «كلّا .. واللهِ؟. ما يُخزيك اللهُ أبدً»!!!

ص: 170

ثورة ..قريش .. المضادة؟!

ص: 171

ص: 172

الانبياء

كل الأنبياء .. بلا استثناء .. أشد الناس بلاء!!

لماذا؟!

لأنهم أعلى الناس مقاماً ..

و اكبر الناس عقولاً ..

و ازكى الناس نفوساً ..

فتحتم أن تكون الضريبة المفروضة عليهم .. صلوات الله عليهم .. اعظم الضرائب على الاطلاق ..

ذلك أن كل عطاء يقابله بلاء ..

فمن حيث أن عطاءهم أعظم العطاء .. استوجب أن يكون بلاء هم أعظم البلاء ..

حتى لا يكون للناس حجة عند الله ..

فيأتي صعلوك و يقول: لماذا أعطيتهم؟!

ص: 173

الجواب: القينا عليهم من البلاء ما يوازي ما أعطيناهم من العطاء!!

هنالك يخنس الصعاليك .. و يطأطئون خزايا!!

فكيف و رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. سيد الأنبياء ..

كيف يكون مقدار ما حَملَ من البلاء؟!

قال تعالى:

«و كانَ فَضْلُ اللهِ عليكَ عظيماً»..

إذن .. حتماً أن يكون البلاء كذلك عظيماً!!

كيف كان ذلك؟!

كان محمد .. عندهم .. قبل أن يُبعث .. الأمين ..

فلما بعثه الله اليهم .. ثارت ثائرتهم .. و أجمعوا أمرهم في النهاية أن يقتلوه!!

و ارتفعت أصواتهم القبيحة .. كأنهم الحمير المذعورة .. تتنادى بضرورة اسكات صوت محمد!!

فما استطاعوا أن يسكتوه .. و ما استطاعوا له تحويلاً!!

لقد أعلن النبيّ .. صلّی الله علیه و سلم .. ثورة الحقّ ..

فأعلنوا عليه الثورة المضادة!!

ص: 174

أعلنوها في عنف و كبرياء .. و صلف و غباء!!

أعلن النبيّ الأعظم اليهم ... أعلى ثورة في التوحيد ..

ثورة .. لا إله إلا الله!!

فواجهوها بثورة مضادة:

«أ جعَلَ الآلهةَ إلهاً واحداً .. إنّ هذا لشيءٌ عُجابٌ»!!

هكذا بلغوا من الغباء!!

و أعلن النبيّ الأكرم اليهم .. أرقى ثورة في المساواة ..

ثورة ..

«إنّ أكْرَمَكُم عندَ اللهِ أتقاكم»

فواجهوها .. بثورة مضادة .. أنهم هم السادةَ .. و على العبيد ألا يرفعوا رأساً!!

و هكذا .. نُكِسوا على رءوسهم .. فلا يفقهون قولاً!!

لماذا وقفت قريش تضاد الدعوة .. و كان الظنّ أن تكون أوّل مَن يناصرها؟!

لأن الاسلام جاء يُسقط ما هم عليه من اوهام مقدسة .. و ضلالات متعفنة ..

ص: 175

و الانسان لا يتحول عن سلوكه إلا في صعوبة بالغة ..

فلما عجزت قريش و أعيتها الحيل .. تنادَوْا بتعذيب من تابع محمداً من المستضعفين ..

و لجأوا في ذلك إلى أخس الأساليب .. و أدنأ المؤامرات ..

و كان من تلك المؤامرات .. أن الحت أمّ جميل .. زوجة أبي لهب .. على ولدَيها .. عُتبة و عُتَيْبة .. ان يطلقا ابنتي رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. رُقَيَّة .. و أم كلثوم ..

فطلّقاهما .. و عادا إلى بيت أبيهما .. بيت خديجة .. علیها السلام،.

لجأت أمّ جميل إلى ذلك .. كيداً و إغاظة و انتقاماً!!

يظنون ذلك .. والله يريد أمرا .. غير ذلك ..

يريد ان يطهرهما .. من معاشرة أعداء الله!!!

ص: 176

عندما قالت خديجة .. لرسول اللّه صلّی الله علیه و سلم .. اني لأرجو أن تكون .. نبيّ هذه الأمة؟!

ص: 177

ص: 178

قال

ابن هشام:

مبعث النبي صلّی الله علیه و سلم و على آله و سلم تسليماً

قال ابن إسحاق:

فلما بلغ محمدٌ رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. اربعين سنة، بعثه الله تعالى رحمةً للعالمين، و كافّةً للناس بشيراً، و كان الله تبارك و تعالى قد اخذ الميثاق على كلّ نبيّ بعثه قبلَه بالإيمان به، و التصديق له، و النصر له على من خالفه، و اخذ عليهم أن يؤدّوا ذلك إلى كلِّ مَنْ آمن بهم و صدّقهم، فأدّوا من ذلك ما كان عليهم من الحقّ فيه.

ص: 179

يقول الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه و سلم:

«و إذ أخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيّينَ لما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكمَةٍ، ثُمَّ جاءكمْ رسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ، لتُؤمِننَّ بهِ و لتَنْصُرُنَّهُ، قال: أقرَرْتمْ و أخَذْتمْ على ذلِكمْ إصْري» ..

أي ثِقل ما حمَّلتكم من عَهْدِي.

«قالُوا أقرَرْنا».

«قالَ فاشهَدُوا و أنا مَعَكمْ مِنَ الشَّاهدينَ».

فأخذ الله ميثاق النَّبيِّين جميعاً بالتصديق له، و النصر له ممن خالفه، و ادّوْا ذلك إلى مَنْ آمن بهم و صدّقهم من اهل هذين الكتابين.

اول ما بدى به الرسول صلّى الله عليه و سلم

الرؤيا الصادقة

قال ابن إسحاق:

ص: 180

فذكر الزُّهريّ عن عرْوة بن الزُّبير، عن عائشة رضي الله عنها أنها حدَّثته:

أنّ اوّل ما بُدىء به رسولُ الله صلّى الله عليه و سلم من النُّبوّة، حين أراد الله كرامته و رحمة العباد به، الرُّؤيا الصادقة، لا یری رسولُ الله صلّى الله عليه و سلم رؤيا في نومه إلا جاءت كفَلَق الصبح. قالت: و حَبّب الله تعالى اليه الخَلوة، فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يخلوَ وحده.

تسليم الحجارة و الشجر عليه صلّى الله عليه و سلم

قال إبن إسحاق:

و حدثني عبد الملك بن عُبَيد الله بن أبي سُفْيان بن العلاء ابن جارية الثّقفي، و كان واعيةً(1)، عن أهل العلم:

أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و سلم حين اراده الله بكرامته، و ابتدأه بالنبوّة،

ص: 181


1- واعية: حافظاً، و التاء فيه للمبالغة.

كان إذا خرج لحاجته أبعَدَ حتّى تحسَّر(1) عنه البيوتُ و يُفضي إلى شعاب(2) مكة و بُطون أوْديتها، فلا یَمرّ رسول الله صلّى الله عليه و سلم بحجَر و لا شَجَر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. قال: فیلتفت رسول الله صلّى الله عليه و سلم، حوله و عن يمينه و شماله و خلفه، فلا يرى إلا الشَجر و الحجارة. فمكث رسول الله صلّى الله عليه و سلم كذلك يرى و یسمع، ما شاء اللهُ أن يمكث، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاءه من كرامة الله، و هو بحراء في شهر رمضان.

ابتداء نزول جبريل عليه السلام

قال ابن إسحاق:

و حدّثني وَهب بنُ كيْسان، مولى آل الزبير، قال:

سمعتُ عبد الله بن الزُّبير و هو يقول لعُبَيد بن عُمير بن قَتادة الليثيّ: حدّثنا يا عُبيد، كيف كان بدء ما ابتُدىء به،

ص: 182


1- تحسر عنه البيوت: تبعد عنه و يتخلى عنها.
2- الشعاب: المواضع الخفية بين الجبال.

رسول الله صلّى الله عليه و سلم من النبوّة، حين جاءه جبريلُ عليه السلام؟ قال: فقال: عبيدٌ -و أنا حاضرٌ يُحدّث عبدَالله بن الزبير و مَنْ عنده من الناس-: كان رسول الله صلّى الله عليه و سلم، يُجاور(1) في حِراء من كل سنة شهراً، و كان ذلك مما تحنّث به قريشٌ في الجاهلية، و التحنث التبرُّر.

قال إبن إسحاق:

و حدثني وهب بنُ كيسان قال:

قال عُبيد: فكان رسول الله صلّى الله عليه و سلم، يُجاور ذلك الشَّهرَ من كل سنةٍ، يُطعم مَنْ جاءه من المساكين، فإذا قضى رسولُ الله صلّى الله عليه و سلم جواره من شهره ذلك، كان أوّلُ ما يبدأ به، إذا انصرف من جواره، الكعبةَ، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبْعاً أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهرُ الذي أراد اللهُ تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه اللهُ تعالى فيها؛ و ذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول الله صلّى الله عليه و سلم إلی حِراء، كما كان يخرج لجواره و معه أهله، حتى إذا كانت الليلةُ التي أكرمه اللهُ فيها برسالته، و رَحِم العبادَ بها،

ص: 183


1- يجاور: يعتكف.

جاءه جبريلُ عليه السلام بأمر الله تعالى.

قال رسول الله صلّی الله علیه و سلم:

فجاءني جبريلُ، و أنا نائم، بنَمَط(1) من ديباج فيه كتابٌ، فقال اقرأ، قال: قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتّني(2) به حتى ظننت أنه الموت. ثم ارسلني فقال: اقرأ؛ قال: قلت: ما أقرأ؟

قال: فغتّني به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني، فقال: اقرأ؛ قال، قلت: ماذا أقرأ؟

قال: فغتني به حتى ظننتُ أنه الموت، ثم أرسلني، فقال: اقرأ؛ قال: فقلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه ان يعود لي بمثل ما صنع بي ..

فقال:

«اقْرأ باسم رَبّكَ الذي خَلَقَ . خَلَقَ الانسانَ مِنْ عَلَقٍ . إقْرأ و رَبُّكَ الاكرَمُ الذي عَلّم بالقَلَمِ . عَلَّمَ الانْسان ما لمْ يَعْلمْ» ..

ص: 184


1- النمط: وعاء كالسفط.
2- الغت: حبس النفس.

قال: فقرأتها. ثم انتهى فانصرف عني و هببتُ من(1) نومي، فكأنما كتبتُ في قلبي كتاباً.

قال: فخرجتُ حتى إذا كنتُ في وَسط من الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله و انا جبريل؛ قال: فرفعت رأسي إلى السماء أنظرُ، فإذا جبريلُ في صورة رجل صافّ قَدَمَيْهِ في افق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله و انا جبريل. قال: فوقفت انظر اليه فما أتقدّم و ما أتأخر، و جعلت اصرف وجهي عنه في آفاق السماء، قال: فلا انظر في ناحية منها إلا رأيتُه كذلك.

فما زلتُ واقفا ما اتقدم أمامي و ما ارجع ورائي ..

حتى بَعثتْ خديجةُ رُسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة و رجعوا اليها و انا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني.

ص: 185


1- في حديث عروة ما يدل ظاهره على أن نزول جبريل حين نزل بسورة «اقرأ» كان في اليقظه.

رسول الله صلّى الله عليه و سلم يقص على خديجة ما كان من أمر جبريل معه!

و انصرفتُ راجعاً إلى أهلي حتى أتيتُ خديجةَ فجلستُ إلى فخذها مُضيفاً(1) اليها. فقالت: يا أبا القاسم، اينَ كنتَ؟ فوالله لقد بعثت رُسلي في طلبك حتى بلغوا مكة و رجعوا لي، ثم حدثتها بالذي رأيتُ: فقالت: أبشر يا بنَ عمّ و اثبُتْ، فوالذي نفس خديجةَ بيَدِهِ إني لارجو أن تكون نبيّ هذه الامّة.

ص: 186


1- ملتصقاً

خديجة بين يدي ورقة تحدثه حديث رسول الله صلّى الله عليه و سلم

ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى وَرَقَة بن نوفل ابن أسَد بن عبد العزّى بن قُصَي، و هو ابن عمها، و كان ورقة قد تنصر و قرأ الكتبَ، و سَمع من اهل التوراة و الانجيل.

فأخبرته بما اخبرها به رسول الله صلّى الله عليه و سلم، انه رأى و سمع.

فقال ورقةُ بن نوفل: قُدُّوس قُدُّوس(1)، و الذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدَقتيني يا خديجةُ لقد جاءه الناموس(2) الأكبر الذي كان ياتي موسى، و إنه لنبيُّ هذه الأمة، فقولي له: فلیثبتْ.

ص: 187


1- قدوس قدوس: أي طاهر طاهر، و اصله من التقديس، و هو التطهير.
2- الناموس (في الأصل): صاحب سر الرجل في خيره و شره، فعبر عن الملك الذي جاء بالوحي به .

فرجعت خديجة إلى رسول الله صلّى الله عليه و سلم، فاخبرته بقول ورقة ابن نوفل.

فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه و سلم جواره و انصرف، صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة، فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل، و هو يطوف بالكعبة، فقال: يا بن أخي اخبرني بما رأيت و سمعت.

فأخبره رسول الله صلّى الله عليه و سلم ..

فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، و لقد جاءك الناموس الأكبرُ الذي جاء موسى: وَ لتُكَذّبَنَّه و لتُؤذَيَنَّه و لتُخْرَجَنَّه و لتقاتلنه(1) و لئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرنّ الله نصراً يعلمه.

ثم أدنى رأسه منه، فقبل يافوخه(2)، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه و سلم إلى منزله.

ص: 188


1- الهاء في هذه الأفعال للسكت
2- اليافوخ: وسط الرأس.

امتحان خديجة برهان الوحي

قال ابن إسحاق:

و حدثني إسماعيل بن ابي حَكيم مولى آل الزبير:

أنهُ حدّث عن خديجة رضي الله عنها انها قالت لرسول الله صلّی الله علیه و سلم: اي ابنَ عمّ، أتستطيع أن تُخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فاخبرني به.

فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يصنع.

فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلم لخديجة: يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني. قالت: قم يا بن عم فاجلس على فخذي اليسرى. قال: فقام رسول الله صلّى الله عليه و سلم فجلس عليها. قالت: هل تراه؟ قال: نعم. قالت: فتحوَّل فاجلس على فخذي اليمنى. قالت: فتحول رسول الله صلّى الله عليه و سلم فجلس على فخذها اليمنى. فقالت: هل تراه! قال: نعم. قالت: فتحوَّل فاجلس في حجري. قالت: فتحوَّل رسول الله صلّى الله عليه و سلم فجلس في حجرها. قالت: هل تراه؟ قال: نعم.

ص: 189

قال: فتحسرت و القت خمارها و رسول الله صلّى الله عليه و سلم جالس في حجرها. ثم قالت له: هل تراه؟ قال: لا. قالت يا بن عمّ، اثبت و ابشر، فوالله إنه لمَلَك و ما هذا بشيطان.

قال ابن إسحاق:

و قد حدثت عبدالله بن حسن هذا الحديث، فقال:

قد سمعتُ أمي فاطمة بنتُ حسين تحدّث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: أدخلتْ رسول الله صلّى الله عليه و سلم بينها و بين درْعها، فذهب عند ذلك جبريل. فقالت لرسول الله صلّى الله عليه و سلم إن هذا لَمَلَكٌ و ما هو بشيطان.

ابتداء تنزيل القرآن!

قال ابن إسحاق:

فابتدیء رسول الله صلّى الله عليه و سلم بالتنزيل في شهر رمضان.

يقول الله عزّ وجل:

«شَهرُ رَمَضانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى للنّاس وَ بَيِّناتٍ مِنَ الهُدَى و الفُرْقانِ».

ص: 190

و قال الله تعالى:

«إنا أنزَلْناهُ في ليلةِ القَدْرِ . و ما أدْراكَ ما لَيْلةُ القَدْرِ . ليْلةُ القَدرِ خَيرٌ مِنْ الفِ شهْرٍ . تنزًّلُ الملائكَةُ و الرُّوحُ فيها باذنِ رَبّهمْ مِنْ كُلِّ أمْرٍ . سَلامٌ هِيَ حتى مَطلعِ الفَجْر».

و قال الله تعالى:

« حم وَ الكِتاب المُبينِ . إنا انزَلناهُ في ليْلةٍ مُباركةٍ إنا كُنّا مُنذِرينَ . فيها يُفرَقُ كلُّ أمْرٍ حَكيمٍ . امْراً مِنْ عِندِنا إنا كُنّا مُرْسِلِينَ»

و قال تعالى:

«إنْ كُنْتُمْ ءَأمَنْتمْ باللهِ و ما أنزَلنا على عَبدِنا يَوْمَ الفُرقَانِ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ . ».

و ذلك مُلتقى رسول الله صلّى الله عليه و سلم و المُشركين ببدر.

قال ابن إسحاق:

و حدثني أبو جعفر محمد بن عليّ بن حسين: أن رسول الله صلّی الله علیه و سلم التقى هو و المُشركون ببدْر يوم الجمعة، صبيحة سَبع عشرة

ص: 191

من رمضان.

قال ابن إسحاق:

ثم تتامّ الوحيُ إلى رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و هو مؤمنٌ بالله مصدق بما جاءه منه، قد قبله بقبوله، و تحمل منه ما حمله على رضا العباد و سخطهم، و النبوّةُ اثقال و مُؤْنة، لا يحملها و لا يستطيع بها إلا اهل القوة و العزم من الرسل بعون الله تعالى و توفيقه، لما يلقوْن من الناس، و ما يُرَد عليهم مما جاءوا به عن الله سبحانه و تعالى.

قال: فمضى رسول الله صلّی الله علیه و سلم على امرِ الله، على ما يَلْقى من قومه من الخلاف و الاذى.

اسلام خديجة بنت خويلد!

و آمنت به خديجةُ بنتُ خُوَيلد، و صدقت بما جاءه من الله، و وازرته على أمره، و كانت أوّل من آمن بالله و برسوله، و صدّق بما جاء منه. فخفف الله بذلك عن نبيه صلّی الله علیه و سلم، لا يسمع شيئاً مما يكرُهه من رد عليه و تكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرّج الله

ص: 192

عنه بها إذا رَجع اليها، تثبِّته وتخفّف عليه، و تصدّقه و تهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى.

تبشير الرسول لخديجة ببيت من قصب!

قال ابن إسحاق:

و حدثني هشام بن عُروة، عن أبيه عُروة بن الزبير، عن عبدالله بن جعفر بن ابي طالب رضي الله عنه، قال:

قال رسول الله صلّی الله علیه و سلم:

«أُمِرتُ أن أُبشِّر خَديجَة ببيتٍ من قَصَبٍ، لا صَخَبَ فيهِ و لا نَصَب.

قال ابن هشام: القصب (ههنا) اللؤلؤ المجوّف.

ص: 193

جبريل يقرىء خديجة السلام!

قال ابن هشام:

و حدثني مَنْ اثق به، ان جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلّی الله علیه و سلم، فقال: أقرىءْ خديجةَ السلامَ من ربها. فقال رسول الله صلّی الله علیه و سلم: يا خديجة، هذا جبريلُ يُقرئك السلام من ربك، فقالت خديجة: اللهُ السلامُ، و منه السلام، و على جبريل السلام.

فترة الوحي و نزول سورة الضحى!

قال ابن إسحاق:

ثم فَتر الوحي عن رسول الله صلّی الله علیه و سلم فترة من ذلك، حتى شقّ ذلك عليه فأحزنه، فجاءه جبریل بسورة الضحى، يُقسم له

ص: 194

ربه، و هو الذي اكرمه بما اكرمه به، ما ودّعه و ما قلاه.

فقال تعالى:

«و الضُّحَى و اللَّيلِ إذا سَجَی . ما ودَّعَكَ رَبُّكَ و مَا قَلی».

يقول: ما صَرَمك فتركك، و ما أبغضك منذ أحبّك.

«و للآخرَةُ خَيرٌ لكَ مِنَ الأُولى».

اي لما عندي من مَرْجعك إليَّ، خيرٌ لك مما عجَّلت لك من الكرامة في الدنيا.

«وَ لسَوفَ يُعطِيكَ ربك فترْضى».

من النُصر في الدنيا و الثواب في الآخرة.

«أ لمْ يجِدكَ يَتِيما فآوى . وَ وَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى . وَ وَجَدَكَ عائِلاً فأغْنى».

يعرفه الله ما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره، و منِّه عليه في يُتمه و عَيلته و ضلالته، و استنقاذه من ذلك كله

برحمته.

ص: 195

أقول: هذه دلائل عبقرية خديجة بنت خويلد ..

-يا أبا القاسم .. أين كُنت؟ فواللهِ لقد بعثت رُسلي في طلبك .. حتى بلغوا مكة، و رجعوا لي!!

انظر إلى جمال الحوار، ورقة السؤال!!

ثم يحدثها رسول الله صلّی الله علیه و سلم، بالذي رأى ..

فتقول: أبشر يا بنَ عمّ ..

: و اثبت ..

: فوالذي نفسُ خديجةَ بيده ..

. إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة!!

اقول: هذا المشهد الخالد .. مشهد تنفرد به خديجة، عليها السلام، من دون نساء العالم إلى يوم القيامة!!

مشهد: أوّل مَن آمَنَ على الإطلاق!!

مشهد: «أبشر يا بن عمّ و اثبُت»!!

إنها، تقف من ورائه، كالطود الشامخ ..

تُظلّه بثباتها .. و حنانها .. و إيمانها اللانهائي ..

كانت في تلك اللحظة .. أعظم نساء العالمين ..

ص: 196

تقف من وراء أعظم رسول إلى العالمين ..

هنالك و هي تقول و تُقسم ..

فوالذي نفس خديجة بيده .. إني لارجو ان تكون نبيّ هذه الأمّة ..

هنالك تلألأت عبقرية خديجة .. عليها السلام ..

و ثبت للناس جميعاً، لماذا اختارها الله تعالى .. زوجاً لنبيِّه .. صلّى الله عليه و سلم .. في تلك المرحلة العظمى من مراحل الدعوة العُظمى؟!

ص: 197

ص: 198

خديجة .. أوّل من توضأ .. و أوّل من صلى؟!

ص: 199

ص: 200

فضيلة

أخرى من فضائل أم المؤمنين .. خديجة .. عليها السلام ..

أنها أوَّل مَن صلى .. و أوَّل مَن توضأ .. من النساء على الاطلاق!!

قال ابن هشام:

عن عائشة -رضي الله عنها- قالت:

«افتُرضت الصلاة على رسول الله صلّی الله علیه و سلم .. أول ما افترضت عليه ركعتين .. كل صلاة، ثم إن الله تعالى اتمها في الحضر اربعاً .. و أقرّها في السفر على فرضها الأول .. ركعتين ..»

ص: 201

تعليم جبريل .. الرسول .. صلّی الله علیه و سلم

الوضوء و الصلاة

و حدثني بعض أهل العلم:

«أن الصلاة حين افترضت على رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. أتاه جبريل و هو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي .. فانفجرت منه عين ..

«فتوضأ جبريل عليه السلام .. و رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. ينظر الیه ..

«ليريه كيف الطَّهور للصلاة؟

«ثم توضأ رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. كما رأى جبريل توَضاً ..

«ثم قام به جبریل .. فصلی به ..

«و صلى رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. بصلاته ..

«ثم انصرف جبريل عليه السلام.»

ص: 202

تعليم الرسول .. صلّی الله علیه و سلم ..

خديجة .. الوضوء و الصلاة

«فجاء رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. خديجة ..

«فتوضأ لها ..

«ليريها كيف الطهور للصلاة، كما أراه جبريل.

«فتوضأت ..

«كما توضأ لها رسول الله .. عليه الصلاة و السلام.

«ثم صلى بها رسول الله .. عليه الصلاة و السلام ..

«كما صلى به جبريلُ ..

«و فصلَّت بصلاته.»

ص: 203

تعيين جبريل .. اوقات الصلاة .. للرسول .. صلّی الله علیه و سلم ..

عن ابن عباس قال:

«لما افترضت الصلاة على رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. أتاه جبريل عليه السلام ..

«فصلى به الظهر حين مالت الشمس .. ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله .. ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس .. ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق .. ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر ..

«ثم جاءه ..

«فصلى به الظهر من غد حين كان ظله مثله.

«ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه ..

«ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس ..

«ثم صلى به العشاءَ الآخرة حين ذهب ثلثُ الليل الأول ..

ص: 204

«ثم صلى به الصبحَ مُسْفِراً غيرُ مشرق ..

«ثم قال: يا محمد، الصلاة فيما بين صلاتك اليوم و صلاتك بالأمس.»

أقول، ها هنا فضيلتان للطاهرة، عليها السلام ..

الأولى .. أنها أوّل مَن توضأ على الإطلاق!!

الثانية .. أنها اوّل مَن صلى على الاطلاق!!

فهي تسبق جميع الرجال، و جميع النساء، في هاتين الفضيلتين، إلى يوم القيامة!!

فان قيل: مَن أوّلُ مَن توضأ من هذه الامة؟!

قيل: خديجة .. عليها السلام!!

و إن قيل: مَن أوّلُ مَن صلى في الاسلام؟!

قيل خديجة .. عليها السلام!!!

ص: 205

ص: 206

اهل البيت الكريم .. يؤمنون تباعاً .. بعد خديجة .. عليها السلام ..؟!

ص: 207

ص: 208

أکرم الله تعالى، نبیّه، صلّی الله علیه و سلم، بإیمان زوجه، خديجة .. عليها السلام ..

فكانت له نعم الصاحبة، و نعم المعين ..

و كانت أوّل من توضأ، و أوّل مَن صلى، من ورائه ..

ثم تتابع الخير، في بيت النبوة، الذي هو بيت خديجة!!

علي .. أوَّل مَن آمن؟!

«ثم كان أوّلَ ذَكَرٍ من الناس، آمن برسول الله صلّی الله علیه و سلم ..

«و صلى معه ..

«و صدق بما جاءه من الله تعالى ..

ص: 209

«عليُّ بن أبي طالب .. بن عبد المطلب .. بن هاشم .. رضوان الله و سلامه عليه ..

«و هو يومئذٍ ابنُ عَشر سنينَ ..

«و كان مما أنعم اللهُ به على عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه كان في حِجْر رسول الله صلّی الله علیه و سلم، قبل الاسلام ..»

نشأته في حجر الرسول .. صلّی الله علیه و سلم .. و سبب ذلك؟!

قال ابن إسحاق:

كان من نعمة الله على عليّ بن أبي طالب، و مما صنع الله له، و اراده به من الخَير، أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، و كان أبو طالب ذا عيال كثير. فقال رسول الله صلّی الله علیه و سلم للعباس عمه، و كان من أيسر بني هاشم، يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، و قد اصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا اليه، فلنخفف عنه من عياله، آخذُ من بَنيه رجلاً، و تأخذ أنت رجلاً،

ص: 210

فنَكِلُهُما عنه. فقال العباس: نعم.

فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه؛ فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً فأصنعا ما شئتما.

فأخذ رسول الله صلّی الله علیه و سلم عليّاً، فضمه اليه، و اخذ العباس جعفراً فضمه اليه، فلم يزل عليّ مع رسول الله صلّی الله علیه و سلم حتى بعثه الله تبارك و تعالى نبيّاً، فأتبعه عليّ رضي الله عنه، و آمن به و صدقه، و لم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم و استغنى عنه.

خروج عليّ مع رسول الله صلّی الله علیه و سلم الى شعاب مكة يصليان و وقوف ابي طالب على امرهما!

قال إبن إسحاق:

و ذكر بعضُ أهل العلم أن رسول الله صلّی الله علیه و سلم، كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، و خرج معه عليّ بن أبي طالب مستخفياً من أبيه أبي طالب، و منْ جميع أعمامه و سائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا. فمكثا كذلك ما شاء

ص: 211

الله أن يمكثا.

ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوماً و هما يصليان، فقال لرسول الله صلّى الله عليه و سلم: يا بن أخي! ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟

قال: أي عم، هذا دین الله و دين ملائكته، و دین رُسُله، و دين أبينا إبراهيم -أو كما قال صلّی الله علیه و سلم-

بعثني الله به رسولاً إلى العباد، و أنت اي عم، أحقُّ مَنْ بذلت له النصيحةَ، و دعوته إلى الهُدى، و أحقُّ مَنْ أجابني اليه و أعانني عليه، او كما قال.

فقال أبو طالب: اي ابنَ اخي، إني لا استطيع ان افارق دين آبائي و ما كانوا عليه، و لكن واللهِ لا يُخلّص اليك بشيء تكرهه ما بقيتُ.

و ذكروا أنه قال لعليّ: أي بُنيّ، ما هذا الدين الذي انت عليه؟ فقال: يا أبتِ، آمنتُ بالله و برسول الله، و صدقته بما

جاء به، و صلّيت معه لله و أتبعته.

فزعموا انه قال له: اما إنه لم يَدْعُك إلا إلى خير فالزمه.

ص: 212

اسلام زيد بن حارثة ثانياً

قال ابن إسحاق:

ثم اسلم زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبد العزى ابن امرىء القيس الكلبي، مولى رسول الله صلّی الله علیه و سلم، و كان أوّل ذكر أسلم، و صلّى بعد عليّ بن أبي طالب.

نسبه و سبب تبني رسول الله صلّی الله علیه و سلم له

قال ابن هشام.

زید بن حارثة بن شراحبيل بن كعب بن عبد بن عبد العُزَّى بن امرىء القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عَبد ودّ بن عَوْف ابن كنانة بن بكر بن عوْف بن عذرة بن زيد اللات بن رفیدة ابن ثور بن كلب بن وبرة.

ص: 213

و كان حكيم بن حزام بن خُويلد قدم من الشام برقيق، فيهم زيد بن حارثة و صيف فدخلت عليه عمته خديجة بنت خويلد، و هي يومئذ عند رسول الله صلّی الله علیه و سلم، فقال لها: اختاري يا عمة اي هؤلاء الغلمان شئت فهو لك.

فاختارت زيداً فأخذته، فرآه رسول الله صلّی الله علیه و سلم عندها، فاستوهبه منها، فوهبته له، فأعتقه رسول الله صلّی الله علیه و سلم و تبناه، و ذلك قبل ان يوحى اليه.

ثم قدم أبوه عليه و هو عند رسول الله صلّی الله علیه و سلم، فقال له رسول الله صلّی الله علیه و سلم: إن شئت فأقم عندي، و إن شئت فانطلق مع أبيك، فقال: بل اقيم عندك.

فلم يزل عند رسول الله صلّی الله علیه و سلم حتى بعثه الله فصدّقه و أسلم، و صلى معه، فلما انزل الله عز وجل: «أدعُوهم لآبائهمْ»

قال: انا زيد بن حارثة.

ص: 214

أقول .. افتتحت خديجة .. عليها السلام .. قائمة الايمان برسول الله صلّی الله علیه و سلم .. في بيتها الشريف .. بيت رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم ..

ثم تتابع أعضاء البيت المبارك .. فآمن عليٌّ، عليه السلام .. أول صبي يدخل الاسلام ..

ثم آمن زيد .. فكان أول من آمَن، بعد عليّ .. من أعضاء البيت الشريف ..

إلا أنّ خديجة .. عليها السلام، قد سبقت الجميع إلى الایمان ..

و ذلك فضل الله، يُؤتيه مَن يشاء!!

ص: 215

ص: 216

امّ المؤمنين .. خديجة عليها السلام .. في قلب الأحداث؟!

ص: 217

ص: 218

عظمة

خديجة، عليها السلام .. تتلألأ أكثر فأكثر ..

كلما اشتد الأذى، و نالت قريش من رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. ما نالت ..

و عَذَّبت أتباعه ما عَذَّبت ..

و هي، عليها السلام ... تعيش تلك الأحداث الجسام، لحظة لحظة، و حادثاً حادثاً، لا تتزحزح و لا تلين، و لكن تزداد شموخاً و تصلباً في دين الله ..

و الجوهر الثمين، يظهر في الشدائد و المحن ..

و من هنا تتفوق خديجة، على سائر نساء النبي، صلى الله عليه و سلم ..

لأنها كانت معه، في أشد فترات الدعوة عُنفاً و تعذيباً و اضطهاداً ..

ص: 219

جاءه الموحي، فكانت أوّل من آمن به و صدّقه ..

و بعد ثلاث سنين من الدعوة إلى الله سِرّاً، أمره الله أن يدعو الناس علانية ..

و هنا بدأت المعركة بين الحقّ و الباطل ..

و خديجة تشهد هذا كله، و تقف إلى جوار زوجها العظيم، في ثبات عظيم ..

كيف كان شعورها حين سمعت قول زوجها العظيم .. صلّى الله عليه و سلم.

«يا عمّ .. والله لو وضعوا الشمس في يميني .. و القمرَ في یساري .. على أن أترك هذا الأمر .. حتى يُظهره الله ..

أو اهلك فيه ما تركتُه.»!!

لقد ازدادت شعوراً، أن محمّداً .. صلّی الله علیه و سلم .. ذو عزيمة ليس كمثلها عزيمة ..

و أنّ اعظم الشرف لها، أن تكون زوجة، لمن ليس كمثله أحد، كان أو يكون!!

أم كيف كان شعورها، حين علمت أن قريشاً تذامروا بينهم على مَن في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلّی الله علیه و سلم .. الذين

ص: 220

أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على مَن فيهم من المسلمين يعذّبونهم، و يفتنونهم عن دينهم؟!!

ها هي تشعر بما يحمل زوجها العظيم، صلّی الله علیه و سلم .. من آلام، و هو یری أصحابه يُعذّبون و هو لا يملك أن يمنعهم!!

لماذا تصنع قريش هذا، و ما هي الجريمة التي ارتكبها هؤلاء؟!

أم كيف كان شعورها، حين أغرت قريش، برسول الله، صلّی الله علیه و سلم .. سفهاءها، فكذّبوه، و آذَوْه، و رموه بالشِّعر و السِّحر و الكهانة، و الجنون .. و رسول الله، صلّی الله علیه و سلم، مُظهرٌ لأمر الله لا يستخفي به، مهادٍ لهم بما يكرهون من عَيْب دينهم، و اعتزال أوثانهم، و فراقه إياهم على كفرهم؟!

و فكرت خديجة: أيمكن أن يتحمل أحدٌ كلّ هذا و لا يلين؟!

و لكنَّ محمداً، العظيم، لا يزداد إلا ثباتاً، و إلا تبليغاً!!

فتزداد خديجة عزيمة من عزمه، صلّی الله علیه و سلم، و نوراً من نوره، صلّی الله علیه و سلم ..

و ما ظنك بامرأة تتشرف بمعاشرة رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم، ليلاً و نهاراً، كيف يكون نورها، و هُداها؟!

أم كيف كان شعورها، عليها السلام، حين سمعت أن أشراف

ص: 221

قريش، وثبوا إلى رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. وثبة رجل واحد، و أحاطوا به، يقولون: أنت الذى تقول كذا و کذا؟! -لِما کان يقول من عَيْب آلهتهم و دينهم- فيقول رسول الله، صلّی الله علیه و سلم، نعم .. أنا الذي اقول ذلك ..

فقام رجل منهم فأخذ بمجمع ردائه، فقام أبو بكر، رضي الله عنه، دونه، و هو يبكي و يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟! ثم انصرفوا عنه؟!

إنها تعيش الأحدات لحظة لحظة، و تنفعل بها لحظة بلحظة ..

لأنّ قطب الأحداث، الذي عليه تدور، هو زوجها، صلّی الله علیه و سلم، الذي تحبه اكثر من نفسها و ولدها و الناس اجمعين!!

ام كيف كان شعورها، عليها السلام .. حين علمت بأشد ما لقي رسول الله صلّی الله علیه و سلم، من قريش، أنه خرج يوماً فلم يَلقه أحدٌ من الناس إلا كذبه و آذاه، لا حرّ و لا عَبْد، فرجع رسول الله، صلّی الله علیه و سلم، إلى منزله، فتدثر من شدّة ما أصابه .. فأنزل الله تعالى عليه:

«يا ايُّها المُدّثّرُ . قُمْ فأنذِرْ»!!

كانت هي .. عليها السلام، التي تُدَثره، و تهوِّن عليه!!

كم تساوي هذه اللحظة، و هي معه، صلّی الله علیه و سلم تشعر بشعوره؟!

ص: 222

إنها عاشت معه، و ذاقت اشعاعات النبوة، أعلى نبوة، تتشعشع من فؤاده، أعلى فؤاد !!

ماذا أريد أن أقول ؟!!

أريد أن أقول قولاً عظيماً ..

أنَّ النبوة أعلى .. و أكمل .. و أشرف .. مستوى .. يحمله بشر على الاطلاق!!

و هي لذلك اثقل حملاً من الجبال ..

يحملها صلوات الله و سلامه عليهم، باذن الله، و عونه ..

و لولا ذلك ما أطاقوا حملها ..

فكيف بأعظم الرسل، و خاتم النبيين؟!

إنّ ما يحمل من اعباء النبوة، شيء لا تدركه العقول!!

فكيف بزوجه التي تقف إلى جواره، ليلاً و نهاراً، في تلك اللحظات الشاقة من مطلع النبوة؟!

كيف كان تركيبها الإيماني، ام كيف كان مستوى النور الذي يسري في فؤادها؟!

من الحتم ان يكن على أعلى مستوى .. من السمو .. و الحكمة .. و الصبر .. و الحنان ..

ص: 223

تجد الاشارة إلى ذلك مكنونة في قوله تعالى:

«و يا نِسَاء النّبيِّ ..

«لَسْتُنَّ

«كأحَدٍ مِنَ النِّساء ..»!!

فكيف كانت .. عليها السلام .. و هي افضل نسائه .. عليه السلام؟!!

ص: 224

خديجة عليها السلام .. تشهد هجرة رُقَية .. مع زوجها عثمان .. إلى الحبشة؟!

ص: 225

ص: 226

قال ابن هشام:

«فلما رأى رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. ما يصيب أصحابه من البلاء، و ما هو فيه من العافية، بمكانه من الله، و من عمه أبي طالب ..

«و أنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء ..

«قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها مَلِكاً لا يُظلم عنده أحد .. و هي أرض صدْق .. حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه ..

«فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. إلى أرض الحبشة .. مخافة الفتنة .. و فراراً إلى الله بدينهم ..

«فكانت أول هجرة كانت في الاسلام ..»

ص: 227

هجرة عثمان بن عفّان .. و معه امرأته رُقية .. بنت رسول الله!

«و كان أوّل من خرج من المسلمين .. من بني أمية .. عثمان ابن عفّان ..

«معه امرأته .. رُقَيّة .. بنت رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم ..

«فكان جميع من لحق بأرض الحبشة .. و هاجر اليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغاراً و ولدوا بها .. ثلاثة و ثمانين رجلاً ..»

كيف تزوج عثمان .. رُقية؟!

تقدّم عبد العُزَّى (أبو لهب) يخطب رُقيّة .. و أم كلثوم ..

ص: 228

ابنتي رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. لولديه عُتبة و عتيبة ..

و انتقلت رقية .. و أم كلثوم .. إلى بيت الزوجية ..

و ما كاد رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. يتلقى رسالة ربه، و يدعو إلى الدين الجديد ..

حتى أخرجت ... رقية و أم كلثوم .. من بيت أبي لهب .. و رُدّتا إلى بيت أبيهما .. طالقين ..

تقدم عثمان إلى رسول الله صلّی الله علیه و سلم .. يسأله شرف المصاهرة، فزوجه صلّی الله علیه و سلم .. ابنته رقية ..

و كان عثمان بن عفّان .. اول من هاجر إلى الحبشة .. و هاجرت معه زوجته (رُفية) .. على قرب عهدهما بالزواج ..

عودة رُقية .. مع العائدين؟!

شاع عند المهاجرين إلى الحبشة .. أن قريشاً كفّت عن إيذاء المسلمين ..

فسار نفر منهم و قد بلغ عددهم ثلاثة و ثلاثين رجلاً، يتقدمهم

ص: 229

(عثمان بن عفان) .. و زوجه السيدة رقية ..

حتى إذا عبروا البحر، ساعين إلى مكة فوجئوا أنّ ما سمعوه كان خيالاً .. و أن التعذيب على أشده .. فدخلوا في جوار مَن أجارهم ..

و آبت رقية إلى بيت أبيها .. صلّی الله علیه و سلم ..

هجرة رُقية الى المدينة؟!

ثم كانت الهجرة إلى المدينة ..

و هاجرت رقية في صحبة زوجها .. عثمان بن عفان ..

ثم كانت غزوة بدر .. و أقام عثمان إلى جانبها يمرضها .. رغم حرصه على شهود المعركة ..

و ماتت رقية ..

و شيعت (يثرب) بنت الرسول .. ذات الهجرتين ..

ص: 230

أقول .. هكذا شهدت خديجة .. عليها السلام .. هجرة ابنتها رقيّة .. مع زوجها عثمان .. إلى الحبشة ..

إلا أنها لم تشهد هجرتهما الثانية إلى المدينة ..

حيث كانت خديجة .. عليها السلام .. قد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين!!

ص: 231

ص: 232

خديجة .. عليها السلام .. صامدة في المقاطعة و الحصار .. بجوار زوجها العظيم صلّی الله علیه و سلم؟!

ص: 233

ص: 234

المجرمون

فيهم عباقرة ..

و المؤمنون فيهم عباقرة ..

و فرق ما بين عبقرية المجرمين، و عبقرية المؤمنين ..

أنّ المجرم العبقريّ .. إذا فكر في فكرة جهنمية .. اندفع إلى تنفيذها .. لأنه لا يخاف حساباً و لا يؤمن بهذه الخرافات (كما يعتقد) التي تقيد المؤمنين!!

لكنّ المؤمن العبقريّ .. إذا اهتدى إلى فكرة فيها إيقاع أو إيذاء للغير .. تراجع لأنه يخاف الله!!

و لقد كان زبانية قريش أئمة في الإجرام .. و عباقرة في الصدّ عن دين الله .. و إيذاء المؤمنين ..

و انتهت بهم عبقريتهم .. عبقرية الإجرام .. إلى فكرة جهنمية .. أن يقاطعوا بني هاشم مقاطعة تامة .. فلا يكلموهم ..

ص: 235

و لا يبيعوهم و لا يشترون منهم .. و لا يُزوِّجوهم و لا يتزوجون منهم!!

و تعاهد العباقرة .. عباقرة الإجرام على ذلك ..

فكيف كانت القصة؟!

و كيف كانت خديجة .. عليها السلام .. اثناء مدة المقاطعة و الحصار؟!

و ما هي مدة هذا الحصار .. و كيف تم رفعه؟!

اعجبني في تصوير هذا المشهد الخالد .. ما جاء فى كتاب «خديجة أم المؤمنين» ..

و انقل اليك بعضاً منه ..

المقاطعة و الحصار!

طالما دبر شياطين قريش، و طالما مكر زعماؤها للقضاء على «محمد»، و كانوا يبوءون بالفشل في إثر الفشل، و لكنهم لم ييأسوا و ظلوا يحيكون مكرهم آملين أن يضعوا حداً لانتشار هذا الدين الجديد، و ان يمنعوا إقبال الناس على الدخول فيه، حتى أصبح التفكير

ص: 236

في ذلك شغلهم الشاغل.

و طال بينهم الجدل و الأخذ و الرد حتى كان آخر العام السادس لنزول الوحي، و هو آخر العام الثالث للجهر بالدعوة، فقادهم شيطان تفكيرهم إلى أمر لم يعهده العرب من قبل، و اثفقوا على مؤامرة لا ترعى حرمة الجوار، و لا حق ذوي القربى، و لا ما تعوده العرب جميعاً من الإبقاء على صلة الرحم و العصبية للأهل و الأقارب، و احترام حرمة النسب و المصاهرة.

فقد قرر أساطين الارستقراطية القرشية في مستهل السنة السابعة من مبعث رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. و هم رؤساء و قادة الأغلبية الساحقة من بطون قريش، قرروا مقاطعة الأقلية الضئيلة ممثلة في بني هاشم و بني المطلب مقاطعة اجتماعية و اقتصادية كاملة لا هوادة فيها، و إجبار كل من في مكة ممن يهابون قريشاً و يخشون بأسها على المشاركة في هذه المقاطعة، و لذلك اتفقوا و تعاهدوا فيما بينهم على أن لا يكلموهم، و لا يتعاملوا معهم في بيع أو شراء، و لا يخالطوهم، و لا يتزوجوا منهم و لا يزوجوهم.

و كان مشركو قريش و زعماؤها يطمعون في أن تخيف هذه المقاطعة الصارمة بني هاشم و بني المطلب، فيسلموا اليهم «محمداً»، ليقتلوه و يتخلصوا منه و من دعوته، فإن لم يصلوا إلى هذه النتيجة التي كانوا يطمعون في الوصول اليها، فإنهم كانوا يأملون أن يفرقوا

ص: 237

بين بني هاشم و بني المطلب، فينحاز بنو المطلب إلى بطون قريش الأخرى، و يتركوا بني هاشم وحدهم.

و كانوا يطمعون، اكثر من ذلك، في أن تؤدي قسوة المقاطعة إلى أن ينفض عن «محمد» بعض افراد بني هاشم الذين لم يكونوا قد دخلوا بعد في دينه، فيصبح القضاء عليه و على من بقي معه امرأ ميسوراً.

و اراد زعماء الوثنية القرشية ان يدعموا هذا الاتفاق، و ان يجعلوا له حرمة و قداسة بحيث لا تجرؤ بطن من بطون قريش على نقضه، فقرروا أن يثبتوا هذا التآمر و يدونوه في صحيفة، ثم علقوا هذه الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على انفسهم، و بذلك اصبح لها مهابتها و احترامها بين جميع المشركين من بطون قريش، و من القبائل العربية المشركة الأخرى.

و ظل النبي .. صلّى الله عليه و سلم .. رابط الجاش، ثابت العقيدة، مسلماً أمره إلى الله، راضياً بقضائه و قدره، لا يخشى تهديدهم و وعيدهم، مؤمناً بقوله سبحانه:

«و أصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الامور» ..

و كان يؤمن ان الله الذي ارسله بالحق أن يخلف وعده و سوف ينصر عباده و أنّ:

ص: 238

«لله العزة و لرسوله و للمؤمنين» ..

و ظلت «ام المومنين خديجة» صامدة بجوار رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. و تشد من ازره، و تهون عليه كل ما يدبره له قادة الأرستقراطية القرشية من عبدة الأوثان، و تخفف عنه، ما استطاعت، وقع هذه المحنة المفاجئة، واضعة نصب عينيها، قوله تعالى مخاطباً نبيه صلّى الله عليه و سلم:

«و اتبع ما يوحى اليك و اصبر حتى يحكم الله و هو خير الحاکمین.»

و فوجىء جميع مشركي قريش في بداية هذه المقاطعة الظالمة بانهيار املهم في الافساد بين بني هاشم و بني المطلب، فقد وقف هؤلاء وقفة رجل واحد و ازداد تعاونهم في الذود عن «محمد»، و قرروا ان يضحوا في سبيل ذلك بكل مرتخص و غال، و استهانوا براحتهم، و عرضوا أنفسهم لقسوة الحياة في سبيل هذا الغرض السامي، لا فرق في ذلك بين من آمن منهم بالله و اليوم الآخر و من لم يكن قد آمن بعد.

أما المؤمنون منهم فقد كانوا يرون في ذلك دفاعاً عن دينهم، و عن حريتهم في اختيار العقيدة التي يرتضونها، و ذوداً عن المبادىء الإنسانية السامية التي تدعو اليها هذه العقيدة.

ص: 239

و أما الذين كانوا ما يزالون على جاهليتهم و لم يؤمنوا بعد بالوحدانية، فقد رأوا في المحافظة على «محمد» و مناصرته، محافظة على شرف عشيرتهم و كرامتها، و نجدة لذوي قرابتهم و رحمهم، و قضاء على كبرياء و طغيان العشائر القرشية الأخرى، و على ما كانت تقترفه من ظلم، و على ما استباحته من حرمات.

و لم يشذ عن هولاء أحد إلا «أبو لهب»، فإنه جبن عن مناصرة أهله و عشيرته، و قاده كرهه «لمحمد»، و رسالته إلى الانحياز إلى البطون القرشية الأخرى، و إلى ان يعينهم على ظلم أهله و ذوي قرابته.

و في سبيل هذه المبادىء السامية، ترك بنو هاشم و بنو المطلب بيوتهم و ما فيها من الأثاث و وسائل الترف الأخرى التي كانت متاحة لهم في تلك الحقبة من الزمان، و خرجوا، في مطلع المحرم من العام السابع لنزول الوحي، و هو أول العام الرابع للجهر بالدعوة الاسلامية، إلى شعب أبي طالب شرقي مكة، ليعيشوا بين شعاب الجبال و رمال الصحراء، حيث لا زرع و لا ماء، و حيث يقاسون من قسوة الطبيعة و طقسها المتغير في تلك البيئة الجبلية الصحراوية، ذات الحر اللافح في الصيف، و البرد القارس في الشتاء.

و لم يتخلف عن الخروج لحماية محمد أغنياء بني هاشم و بني المطلب الذين كانوا يتمتعون بالثراء، و ما كان يجلبه لهم من الرفاهية، و بالجاه

ص: 240

الذي توارثوه عن آبائهم مثل «العباس بن عبد المطلب» الذي كان يملك الأموال الطائلة، و يتجر في العطور التي كان يجلبها من اليمن و من الشام، فإنه لم يتقاعس عن أداء هذا الواجب على الرغم من أنه لم يكن قد دخل في الاسلام حتى ذلك الحين؛ و لكنه هرع مع قومه إلى الشعب ليحيط ابن أخيه «محمداً» برعايته و حمايته، و يكون مع أخيه الأكبر «أبي طالب» و مع عشيرته الأقربين یداً واحدة على من ظلمهم.

فقد كان «أبو طالب»، و هو سيد قريش و زعيم بني هاشم و بني المطلب، على رأس الداخلين إلى الشعب برغم شيخوخته التي كانت قد جاوزت الثمانين من عمره، و برغم ضعف جسمه و حاجته إلى الراحة و العيشة المسترخية الهادئة بعيداً عن كل مشقة، و عن قسوة العيش في تلك البيئة.

و لكن الشيخ استجمع كل شجاعته، و جمع حوله رجال بني هاشم و بني المطلب و فتيانهم، و حمل معهم نساءهم و أطفالهم و دخل بهم إلى الشعب بين الجبال الوعرة و الصحراء المقفرة، حتى يستطيعوا أن يحموا «محمداً»، و يذودوا عن شرف عشيرتهم، و محافظة على المكانة السامية و الاحترام الذي كانوا يتمتعون به بين العرب كافة.

و كم كان وفاء جميلاً ان تخرج معهم السيدة خديجة، و تترك بيتها حيث عاشت طوال حياتها عيشة رغدة بفضل ثروتها الطائلة

ص: 241

التي وفرت لها كل وسائل الترف و مكنتها من الاستمتاع بكل ما كان يمكن للمال ان يحصل عليه من الطيبات التي كانت تجلبها تجارتها الواسعة من إنتاج العراق و فارس و الهند عن طريق رحلة الشتاء إلى اليمن، و رحلة الصيف إلى الشام.

خرجت معهم في بداية شيخوختها بعد أن أشرفت على الحادية و الستين من عمرها لتعيش بعيدة عن كل وسائل الراحة التي كانت تتمتع بها في بيتها، و قد استعذبت ذلك دفاعاً عن دينها، و حتى لا تتخلى عن زوجها و حبيبها الذي نعمت بجواره أسعد ايام حياتها، و لم تعبأ بما قد تتعرض له من مشقة، و ما قد يجهد جسمها الضعيف من المتاعب، و ما يقابلها من مرارة الحرمان و قسوة الطبيعة، حباً في الاسهام في نشر دين الوحدانية، و رغبة منها في الوقوف بجوار نبيها و زوجها تحيطه بعطفها، و تظله بحبها و حنانها، و تقاسمه الضراء كما قاسمته من قبل سعادة العيش.

و خرجت مع «خديجة» إلى الشعب ابنتها «أم كلثوم»، و كانت ما تزال في مطلع شبابها زهرة يانعة أوشكت على الثالثة عشرة من عمرها، و كانت معها أختها «فاطمة الزهراء»، التي ما تزال تسبح في سعادة الطفولة البريئة التي تؤهلها لها سنها التي لم تجاوز الحادية عشرة، و كانتا تعيشان من قبل في بحبوحة من العيش المترف، حيث كانتا تنعمان بحياة سعيدة مستقرة، وجدتا فيها كل ما كانت تتيحه لهما في ذلك العصر ثروة والديهما، و لكن شاء القدر أن تنتقلا فجاة

ص: 242

إلى حياة خشنة لا راحة فيها وسط الجبال و الوديان و بين رمال الصحراء القاحلة(1).

و شعر أساطين الأرستقراطية المشركة بالنصر لأول مرة منذ بدأ الصراع بينهم و بين رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. بعد الجهر بالدعوة، فقد عمتهم السعادة التي لم يذوقوا لها طعماً طوال السنوات الثلاث الماضية، و أصبحوا عندما خلت مكة من بني هاشم و بني المطلب يشعرون بأنهم لم يتخلصوا من «محمد» وحده، و لكنهم انتصروا على هذين الرهطين اللذين كانا يتنافسان مع باقي عشائر قريش، و كانا يتغلبان عليهم بكرمهم و وداعتهم و حسن اخلاقهم مما حبب فيهم العرب قاطبة.

و ظنوا، و بعض الظن إثم، أن هذين الرهطين لن يلبثا طويلاً حتى يذعنا و يستسلما صاغرين اليهم يفعلون بهما و «بمحمد» ما يشاءون فيتخلصون منه، و يئدون دعوته و يقتلونها قتلاً لا قيامة لها بعده و هي في العام الرابع من الجهر بالدعوة.

و بدأت المعيشة في الشعب وسط الجبال تحت قبة السماء بعيدة

ص: 243


1- كانت زينب في كنف زوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان يحبها و يحميها، و كانت رقية لا تزال مع زوجها عثمان بن عفان في هجرتهما بالحبشة.

عن البيوت التي بناها و عاش فيها آباؤهم من قبل.

و كان أبو طالب يخشى أن تتسلل في الليل شياطين قريش لاغتيال ابن أخيه، فقرر اتخاذ الحيطة، و تشديد الحراسة عليه طوال الليل، و كان طوال مدة إقامتهم في الشعب

«يأمر رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم فياتي فراشه كل ليلة، حتى یراه من أراد به شرأ او غائلة، فاذا نام الناس أمر أحد بنيه او إخوته او بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. و أمر رسول الله أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها».

و استمرت المعيشة في الشعب أكثر مما كان يتوقع لها الهاشميون و المطلبيون، و نفد ما كانوا قد حملوه معهم من زاد، و لما أرادوا أن يعوضوا ما فقدوه بشراء غيره، وجدوا أن أسواق مكة كانت مغلقة أمامهم، و أن أحداً من تجارها كان لا يجرؤ أن يبيعهم شيئاً.

و لما حانت إحدى المواسم التي كانت تعج بها مكة، خرجوا ليشتروا من القوافل الوافدة إلى البيت الحرام من أرجاء الجزيرة العربية ..

و لكن شياطين مشركي قريش كانوا أسبق منهم إلى شراء كل ما كانت تحمله معها تلك القوافل من طعام أو إدام، و إلى التنبيه

ص: 244

على رجال القوافل بعدم التعامل مع المحاصرين بيعاً أو شراء، و بذلك قطعوا عنهم الأسواق، و لم يستطيعوا أن يشتروا ما يقوتون به أنفسهم و عيالهم.

و كان «أبو لهب» من أنشط الداعين إلى مقاطعتهم، فقد كان يقصد الوافدين على مكة من القبائل العربية، و يغريهم بالوعود البراقة و الربح الوفير حيناً، أو يخوفهم بالوعيد حيناً آخر، و كان يضمن لهم أن لا تبور تجارتهم، و يعدهم أن يشتري منهم كل ما يتبقى عندهم من متاع أو بضاعة بأوفر الأثمان.

و هكذا شح الزاد في الشعب، و جاع الأطفال، و كان أهلهم يطبخون لهم أوراق الشجر، و بعض النباتات البرية التي تنبت في الصحراء، أو على سفوح الجبال، و كانوا يأكلونها كارهين لأنهم لا يجدون غيرها ليقتاتوا به.

و مر عام طويل على هذا الحصار، و ساءت حال بني هاشم و بني عبد المطلب، و سعد بذلك شياطين قريش و سفهاؤهم، و ظنوا أن كبرياء المحاصرين سوف تنهار عن قريب، و أنهم و لا شك سوف يذعنون و يسلمون اليهم «محمداً»، يفعلون به ما يرون.

و لكن نفراً من حكماء قريش، و ذوي المروءة و المكانة فيها ساءهم كل ذلك، و أشفقوا أن تهلك أطفال المحاصرين جوعاً، و أن يذل بطنان من أعز بطون قريش ظلماً، فراحوا يرسلون لهم الطعام سراً،

ص: 245

فثارت ثائرة سفهاء قريش، و أحكموا الحصار و بثوا العيون و الأرصاد حوله.

و تأكد لهم أن «هشام بن عمرو العامري»، يصل من في الشعب فيرسل لهم الطعام بين الحين و الحين.

و «عمرو» هذا هو أخو «نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه»، و كان من ذوي الفضل و المروءة، محباً للهاشميين، و واصلاً لهم.

و تربص شياطين قريش، فعثروا على جمال ثلاثة أرسلها «عمرو» إلى الشعب في جنح الليل محملة بالطعام، فلما أصبح الصباح ذهبوا اليه و لاموه على ذلك، فوعدهم أن يوقف إرسال معونته إلى الشعب.

و لكنه سرعان ما ندم على هذا الوعد، و عز عليه أن لا يصل أهله إبان محنتهم، و ان يتركهم يتضورون جوعاً، فأرسل إلى الشعب جملين آخرين يحملان الزاد.

و قامت قيامة سفهاء قريش، و اشتد غضبهم، و راحوا يؤنبونه لخروجه على إجماعهم، و أغلظوا له في القول، ثم هددوه بالقتل إن هو عاد إلى مثل ذلك.

و كان «أبو سفيان بن حرب»، زعيم بني أمية و سيدها، حاضراً؛ فاستفزه تأنيبهم «لهشام العامري»، و أغضبه تهديدهم له، و غلبت عليه شهامته، فوجه اليهم أشد الملامة، و قال إن «هشام»، لم

ص: 246

يرتكب إثماً، و إنما دفعته الشهامة و المروءة إلى أن يصل أهله، و أن يعين ذوي قرابته عند الشدة، و كان الأجدر بقريش أن تفعل مثل ما فعل.

و ذعر سفهاء قريش المناصرة «أبي سفيان»، لأحد الخارجين عما جاء في صحيفة المقاطعة؛ و لكنهم خشوا أن يجادلوه، فقد يدفعه ذلك إلى الانضمام هو و قومه إلى «هشام» و أمثاله ممن يعينون المحاصرين، فكظموا غيظهم و لم يجرؤ أحدهم على مخاصمة «أبي سفيان».

و داوم «هشام العامري» على كرمه و مروءته، فكان يقود الناقة بنفسه في جوف الليل البهيم محملة بالطعام و ياتي بها إلى مدخل من مداخل الشعب، ثم يوجهها ناحية المحاصرين، و يضربها على جنبيها فتسرع داخلة إلى الشعب، حيث يتلقفها المحاصرون.

و مر عام آخر طويل على هذا الحصار الذي لم تسمع العرب بمثله من قبل، و كان الطعام الذي يصلهم خفية مما يرسله ذوو المروءة و الفضل لا يكفي لسد حاجة المحاصرين، و هزل الكبار و الصغار؛ و لكنهم جميعاً صبروا صبر الكرام على شدة البلاء، و هول جوع الأطفال الذين طالما باتوا طوال ليلهم يبكون و يتألمون و هم يتضورون جوعاً،

بكاء كان يسمع من خارج الشعب.

و كان أهل بيت النبي جميعاً يتحملون مرارة الجوع و آلامه، كما كان يتحملها أهلهم المحاصرين.

ص: 247

و لكن «خديجة»، لم تقف مكتوفة اليدين أمام هذه النكبة المفاجئة بل كانت تبذل كل ما تستطيع من جهد و مال لتنقذهم من الهلاك، فكانت ترسل إلى اهلها يشترون لها الطعام و يرسلونه سراً إلى الشعب، و كان اهلها و عشيرتها نبلاء و اوفياء لها، فلطالما كانت قبل هذه المحنة كريمة معهم، تصلهم ببرها، و تمد كل محتاج منهم بمعونتها، فبادلوها عند شدتها وفاء بوفاء، و حباً بحب، و لا يعلم إلا الله وحده كم أنفقت من مالها في سبيل تزويد المحاصرين بكل ما استطاعت أن تجلبه لهم، فكانت لهم نعمة و عوناً قيضها الله سبحانه لإغاثتهم.

و كان ابن أخيها «حكيم بن حزام بن خويلد»، يقود بنفسه الجمال محملة بالطعام إلى الشعب.

و لقيه ذات مرة «ابو جهل»، و معه غلام يحمل قمحاً لعمته خدجة بنت خُويلد، فأمسك بتلابيبه، و اقسم ان لا يبرح مكانه حتى يفضحه في مكة ..

فقد كان في نظره يرتكب جريمة شنعاء، هي الخروج على ما تعاقدت عليه قريش، و على ما كتبوه في الصحيفة المعلقة في جوف الكعبة.

و جاء «ابو البختري بن هاشم بن أسد»، فنهر «ابا جهل» و قال له: طعام كان لعمته عنده بعثت اليه فيه، أفتمنعه ان يأتيها بطعامها؟ خل عن الرجل.

ص: 248

و أبى «ابو جهل»، فتماسك الرجلان بالأيدي، و تعاركا عراكاً طويلاً، فضرب أبو البختري ابا جهل على رأسه فشجه، ثم القاء على الارض و جعل يركله بقدميه ..

و لكنها شعرا أن «حمزة بن عبد المطلب»، جاء و وقف بالقرب منهما يرى و يسمع عراكهما.

و كانت قريش تكره ان تصل اخبار مثل هذا العراك و الشجار إلى رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. و اصحابه، فيشمتوا فيهم، و لذلك كفوا عن هذا الصراع، و دخل القمح إلى الشعب.

و سارت الأيام بطيئة ثقيلة، و مرت الليالي على المحاصرين طويلة و مضنية، حتى أوشك العام الثالث على الحصار ان ينتهي، و كان كل ما يصل اليهم من الطعام خفية لا يغني و لا يسمن من جوع، حتى هزل الصغار، و ضعف الكبار.

و لكنهم كانوا كراماً على أنفسهم، محافظين على عزتهم، يفضلون هذا الموت البطيء على أن يهنوا أو يذلوا أمام جبابرة قومهم.

و أسرف سفهاء قريش في بغيهم، و استمروا في طغيانهم، و بذلوا الجهود في محاولة إحكام الحصار على الشعب، و كانت محنة أشفق منها كرام قريش و عقلاؤها.

فقد أدركوا أن عناد هؤلاء السفهاء و طغيانهم سوف يؤدي إلى

ص: 249

حرب تجويع بطىء حتى الموت لفريق من أكرم قريش حسباً، و أعزهم نسباً، و أحسنهم خلقاً، و ان فناء هذا الفريق سوف يكون على مدى الدهر عاراً و سبة في تاريخ قريش.

أدرك ذلك فريق من كرام قريش، و خطر على بال كل واحد منهم ذلك إذا خلا إلى نفسه، فجعل يلومها و يأسف على ما حل بالمحاصرين.

و كان أسبق من حملتهم المروءة على هذا التفكير المتزن «هشام بن عمرو العامري»، و كان كما رأينا يصل المحاصرين ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، و قد دفعته شجاعته و مروءته إلى أن يسعى حتى جمع حوله أربعة آخرين اختارهم من ذوي العقل و المكانة بين عشائر قريش، و ممن تربطهم بالمحاصرين صلة القرابة و الرحم، فتشاوروا و اتفقوا فيما بينهم على أن يمزقوا الصحيفة المعلقة في جوف الكعبة.

و من الخير أن نذكر، بشيء من التفصيل، بعض ما ورد الينا من خبر هذا السعي النبيل مما كان أحد الأسباب التي أدت إلى فض الحصار:

بدأ «هشام العامري»، بالذهاب إلى «زهير بن أبي أمية المخزومي»، و هو ابن «عاتكة»، عمة رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. و أخذ يعيّره لأنه أسلم أخواله «لأبي جهل»، و عصبته و تركهم يتضورون جوعاً، بينما هو يستمتع بأطيب الطعام، و يلبس أحسن الثباب.

ص: 250

و عيره كذلك أنه خضع في ذلك «لأبي جهل»، و اطاع أمره، و ان «أبا جهل»، لم يكن ليرضى لأخواله مثل هذا المصير لو أنه دعي إلى مثل ذلك.

و يجدر بنا أن نثبت بعض هذا الحوار كما ورد الينا ..

قال هشام: يا زهير أقد رضيت ان تأكل الطعام، و تلبس الثياب، و أخوالك حيث قد علمت، لا يباعون و لا يبتاع منهم؟. أما إني احلف لو كانوا اخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك اليه ما أجابك اليه ابداً.

قال زهير: ويحك يا هشام! فماذا اصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها.

هشام: قد وجدت رجلاً.

زهير: فمن هو؟

هشام: أنا.

زهير: ابغنا رجلاً ثالثاً.

فذهب هشام إلى «المطعم بن عدي بن عبد مناف» فقال له: يا مطعم أقد رضيت ان يهلك بطنان من بني عبد مناف و انت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه! اما والله لئن مكنتموهم من هذه لتجدنهم

ص: 251

اليها منكم سراعاً!

قال المطعم: فماذا اصنع؟ إنما أنا رجل واحد.

هشام: قد وجدت ثانياً.

المطعم: من هو؟

هشام: أنا.

المطعم: ابغنا ثالثاً.

هشام: قد فعلت.

المطعم: من هو؟

هشام: زهير بن أبي امية.

المطعم: أبغنا رابعاً.

فذهب هشام إلى البختري بن هشام، فقال له نحواً مما قال لمطعم ابن عدي.

فقال البختري: و هل من احد يعين على هذا؟

قال هشام: نعم .. زهير بن أبي أمية، و المطعم بن عدي، و انا معك.

فقال المطعم: ابغنا خامساً.

ص: 252

و ذهب هشام إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه و ذكر له قرابتهم و حقهم.

فقال له: و هل على هذا الأمر الذي تدعوني اليه من أحد؟

فقال: نعم.

ثم سمى له القوم.

اتفق الخمسة على ان يتقابلوا في مكان بأعلى مكة يقال له خطم الحجون، و هناك اجمعوا امرهم، و تعاقدوا على القيام في امر الصحيفة حتى ينقضوها، و ان يبدأ زهير الكلام، و يندس الآخرون وسط زعماء قريش في نواديهم المنتشرة حول الكعبة، ثم يؤيدوه من مختلف النواحي.

و كان النبيّ .. صلّى الله عليه و سلم . طوال هذه السنوات الثلاث المضنية، راضياً بقضاء الله و قدره، صابراً على هذه المحنة القاسية، يجوع كما يجوع أهله و اقرباؤه، و يقتات مثلهم على أوراق الشجر و جذور النباتات البرية، لا يخشى إلا الله، و لا يخاف إلا من غضبه، دائباً على دعوة قومه ليلاً و نهاراً، سراً و جهاراً، صابراً على أذاهم و تكذيبهم إياه و استهزئهم به ..

و كان الوحي متتابعاً في نزوله بالآيات الكريمة التي تذكر

ص: 253

أوامر الله و نواهيه، و وعده و وعيده، و تحض على مكارم الأخلاق.

و كما كان - صلّی الله علیه و سلم - دائم التضرع إلى الله سبحانه أن يجعل للمحاصرين مما هم فيه مخرجاً، و أن يهبهم بعد العسر يسراً.

و استجاب الله سبحانه لدعائه، فأطلعه أنه سلط حشرة الأرضة على الصحيفة الظالمة، فلحست كل ما كان مكتوباً فيها من جور و ظلم، و لم يبق عليها إلا ما كان مكتوباً في صدرها و هو:

«باسمك اللهم» ..

و بادر النبي - صلّی الله علیه و سلم - فذكر ذلك لعمه «أبي طالب»، فدهش و قال أحق ما تخبرني يا ابن أخي؟

قال: نعم والله ..

فجمع «أبو طالب»، على الفور إخوته و ذكر لهم ذلك.

فقالوا له: ما ظنك به؟

فقال: والله ما كذبني قط ..

قالوا: فما ترى؟

قال: أرى أن تلبسوا أحسن ما تجدون من الثياب، ثم تخرجون

ص: 254

إلى قريش، فنذكر ذلك لهم قبل أن يبلغهم الخبر.

و خرج «ابو طالب» و إخوته إلى المسجد الحرام و قد استولى عليهم الخوف، و جلسوا تحت الحجر الأسود، و كان لا يجلس تحته إلا زعماء قريش و اهل الرأي و المكانة فيها.

و دهش كل من كان في مجالس قريش و نواديها، و ظن اكثرهم ان الجوع و متاعب العيش داخل الشعب قد أنهكتهم، و قضت على كبريائهم، و اعتقدوا أنهم سوف يعلنون استسلامهم، و أنهم سوف يسلمون لقريش

«محمداً» دون قيد أو شرط ، فعمهم البشر.

و تكلم أبو طالب فقال: قد جرت أمور بيننا و بينكم لم نذكرها لكم، فائتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم، فلعله أن يكون بيننا و بينكم صلح ..

و إنما قال لهم «أبو طالب»، ذلك خشية ان ينظروا في الصحيفة قبل ان ياتوا بها.

فلما أتوا بها و وضعوها بينهم قالوا لأبي طالب: قد آن لكم أن ترجعوا عما اخذتم علينا و على انفسكم.

فقال ابو طالب: إنما اتيتكم في أمر هو نصف بيننا و بينكم، إن ابن أخي اخبرني، و لم يكذبني، أن هذه الصحيفة التي بين ايديكم قد بعث الله عليها دابة، فلم تدع فيها إسماً هو لله إلا أثبتته فيها، و نفت منه

ص: 255

الظلم و القطيعة و البهتان، فإن كان الحديث كما يقول فأفيقوا فلا والله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، و إن كان الذي يقول باطلاً دفعنا اليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم.

و بدا الارتياح و الرضا على وجوه المشركين، و ظنوا ان «ابا طالب» إنما يعرض عليهم ذلك ليجد وسيلة يحفظ بها على بني هاشم و بني المطلب ماء وجوههم ..

فالوثيقة التي بين أيديهم كانت سليمة و مطوية، و مختوماً عليها بالخواتيم الثلاثة التي ختمت بها عند تعليقها في جوف الكعبة، و لذلك رأوا ان يجاملوه حتى يتم لهم النصر و يسلم لهم «محمداً».

فأظهروا الرضا قائلين: لقد انصفتنا و رضينا بما تقول.

و تعاقدوا معه على ذلك و هم جلوس تحت الحجر الأسود.

و فضوا الأختام، و فتحوا الصحيفة ثم نظروا فيها، فإذا هي كما ذكر النبيّ الصادق الأمين خالية من كل ما سطر فيها من بغي و مقاطعة و قطيعة رحم، و ليس فيها إلا: باسمك اللهم.

فبهتوا جميعاً و وقفوا حيارى، لا يدرون ما يصنعون، و نكسوا على رؤوسهم.

و لكن سرعان ما عادت شياطينهم إلى إظهار السخط و الندم على تعاقدهم معه، و عادوا بقيادة «أبي جهل»، إلى غطرستهم و بغيهم

ص: 256

و قالوا: هذا سحر ابن اخيك!

فقال أبو طالب: علام نحبس و نحصر و قد بان الأمر؟

ثم دخل هو و أصحابه بين استار الكعبة و قال بصوته الجهوري:

اللهم انصرنا ممن ظلمنا، و قطع ارحامنا، و استحل ما يحرم عليه منا.

ثم انصرفوا عائدين إلى الشعب.

و استجاب الله سبحانه و تعالى لدعاء شيخ بني هاشم.

إذ رأى الخمسة الذين تعاهدوا على نقض الصحيفة، غدر سفهاء قريش لعهدهم، و نكثهم لتعاقدهم مع «أبي طالب».

فوقف «زهير بن أمية»، تحت الحجر الأسود و قال: يا اهل مكة، أ نأكل الطعام، و نلبس الثياب، و بنو هاشم هلكی، لا يباع و لا يبتاع منهم، والله لا اقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

و ثار ابو جهل و انتفض قائلاً: كذبت والله لا تشق.

و تصدى له «زمعة بن الأسود»، و كان في ناحية أخرى من المسجد، فصاح في «أبي جهل» قائلاً: انت والله اكذب، ما رضينا كتابتها حيث كتبت.

و صاح البختري، و كان في ناحية ثانية من المسجد، و قال بأعلى

ص: 257

صوته: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها و لا نُقرّ به.

و تقدم المطعم بن عدي من الناحية الثالثة من المسجد، و صاح في أبي جهل، و قال مخاطباً زملاءه: صدقتما و كذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، و مما كتب فيها.

وهب هشام بن عمرو واقفاً و صاح غاضباً و هو يخاطب زملاءه بقوله: صدقتم و كذب من قال غير ذلك، والله لا نرضى بهذه الصحيفة الظالمة، لقد كانت شؤماً منذ ساعة كتابتها، و شلت يد كاتبها، و والله لن نرضى حتى نشقها و يعود اهلنا من بني هاشم و بني المطلب إلى بيوتهم.

و اسقط في يد أبي جهل، و تملكته الحيرة، فلم يعد يملك زمام نفسه، و اعتقد ان أكثر من بطن من بطون قريش قد اتفقوا على نقض الصحيفة، و انه هو و قومه لا قبل لهم بهم، و لن يستطيعوا الوقوف في سبيلهم.

فقال، و قد استولت عليه حسرة اليأس، و ذل الهزيمة: هذا أمر قضي بليل، تُشوور فيه بغير هذا المكان.

و تقدم المطعم بن عدي بخطى ثابتة، فمزق الصحيفة شر ممزق، و ذهب الخمسة الذين تعاونوا على نقض الصحيفة و تمزيقها في نفر من اهلهم و اعوانهم لابسين السلاح إلى شعب «ابي طالب»، ثم عادوا

ص: 258

مع بني هاشم و بني المطلب إلى مكة.

و دخل الذين كانوا بالأمس مبعدين و محصورين في الشعب إلى بيوتهم رافعي رؤوسهم.

لم يهنوا و لم يذلوا و لكنهم صبروا و صابروا طوال اعوام ثلاثة، حتى جعل الله لهم من أمرهم يسراً، و مما كانوا فيه من الضيق و الحبس فرجاً و مخرجاً.

و كان رجوعهم في مستهل العام العاشر لمبعث رسول الله -صلّی الله علیه و سلم-.

و علم «ابو جهل»، و أضرابه من سفهاء قريش أن بني هاشم و بني المطلب اصبحوا في منعة، يعتزون بأعوان اشداء لن يسلموهم لأعدائهم، فأسقط في أيدي المشركين بعد ان تجرعوا مرارة الخزي و الفشل ..»

ص: 259

أقول .. بطولة أخرى من بطولات خديجة .. عليها السلام ..

سيدة أشرفت على الحادية و الستين من عمرها .. تتحمل كل ذلك العذاب في سبيل الله .. و تشارك بأموالها في تخفيف وطأة الحصار على مَن بالشِّعْب ..

إنها سيّدة عظيمة .. جليلة .. جديرة بالتوقير و التعظيم!!

اليك بعضاً مما قالوا في تصوير ما كان يَلقى اهل الشعب من الجوع:

«يحكى أن المؤمنين جهدوا من ضيق الحصار، حتى إنهم كانوا ياكلون الخبط، و ورق السمر، حتى إن أحدهم ليضع كما تضع الشاة ..

«و كان فيهم سعد بن أبي وقاص، روى أنه قال: لقد جعت حتى إني وطئت ذات ليلة على شيء رطب، فوضعته في فمي و بلعته، و ما أدري ما هو إلى الآن.

«و كانوا إذا قدمت العير مكة، و أتى أحدهم السوق ليشتري شيئاً من الطعام لعياله، يقوم أبو لهب، عدو الله فيقول: يا معشر التجار، غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً، فقد علمتم مالي و وفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم.

«فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً، حتى يرجع إلى

ص: 260

أطفاله، و هم يتضاغون من الجوع، و ليس في يديه شيء يطعمهم به، و يغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام و اللباس، حتى جهد المسلمون، و من معهم جوعاً و عرياً».

هذا قليل من كثير .. عاناه المحاصرون في الشعب ..

على امتداد ثلاث سنين ..

و كانت خديجة .. في قلب المعركة .. معركة التجويع .. و الإماتة ..

و زادها شرفاً .. أنها كانت قد تجاوزت الستين!!

ص: 261

ص: 262

هل شهدت .. خديجة عليها السلام .. معجزة الاسراء و المعراج؟!

ص: 263

ص: 264

قال سبحانه:

«سُبْحانَ الذي أسْرَى بعبدِهِ ليلا مِّنَ المسْجِدِ الحرامِ إلى المسجِدِ الأقصَى الذي بارَكْنا حوْلهُ لِنرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنَّهُ هوَ السَميعُ البصيرُ.»

[الإسراء : 1]

هذا عن الاسراء .. فماذا عن المعراج؟!

قال سبحانه:

«ما زاغَ البَصَرُ و ما طَغَی ..

«لقَدْ رأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكَبرَىٰ»

[النجم 17 و 18]

ص: 265

و السؤال الذي نطرحه هنا:

هل شهدت السيدة خديجة .. عليها السلام .. حادث .. أو معجزة الإسراء و المعراج؟

قال الامام النووي .. شرحاً على حديث الإسراء .. في صحيح مسلم:

«إن الإسراء اقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه صلّی الله علیه و سلم بخمسة عشر شهراً ..

و قال الحربي:

«كان ليلة سبع و عشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة ..

و قال الزهري:

«كان ذلك يعد مبعثه صلّى الله عليه و سلم بخمس سنين ..

و قال ابن إسحاق:

«أسرى به صلّی الله علیه و سلم و قد فشا الاسلام بمكة و القبائل ..

«و اشبه هذه الاقوال .. قول الزهري .. و إبن إسحاق ..

ص: 266

«إذ لم يختلفوا أن خديجة .. رضي الله عنها .. صلّت معه .. صلّی الله علیه و سلم .. بعد فرض الصلاة عليه ..

«و لا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة بمدة .. قيل بثلاث سنين .. و قيل بخمس ..

«و منها أن العلماء مجمعون على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء ..»

أقول .. إذا أخذنا بالرأي القائل بأن الإسراء كان في السنة الخامسة .. أو بعد أن فشا الإسلام بمكة و القبائل ..

انتهينا إلى رأي يقول: بأن خديجة .. عليها السلام .. كانت حاضرة .. و على قيد الحياة .. عند وقوع معجزة الاسراء

و المعراج ..

و أنها شهدت الأيام التي كانت فيها المعجزة ..

و أنها صلَّت مع رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. بعد فرض الصلاة عليه .. في ليلة المعراج!!

فكيف كان الاسراء .. و كيف كان المعراج .. و ماذا جرى فيهما؟!!

ص: 267

ذكر الاسراء و المعراج

قال ابن هشام:

ثم أسرى برسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى .. و هو بيت المقدس من إيلياء (مدينة بيت المقدس) .. و قد فشا الاسلام بمكة في قريش .. و في القبائل كلها ..

رواية عبد الله بن مسعود عن مسراه صلّی الله علیه و سلم

فكان عبدُ الله بن مسعود -فيما بلغني عنه- يقول:

أتي رسولُ الله صلّی الله علیه و سلم بالبُراق -و هي الدّابةُ التی کانت تُحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرَها في منتهى طرفها - فحُمل عليها، ثم خرج به صاحبُه، يرى الآيات فيما بين السماء و الارض،

ص: 268

حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيمَ الخليلَ و موسى و عیسی

في نَفَر من الأنبياء قد جُمعوا له، فصلَّى بهم.

ثم أُتِي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن، و إناء فيه خمر، و إناء فيه ماء.

فقال رسول الله صلّی الله علیه و سلم: فسمعتُ قائلاً يقول حينُ عرضت علىّ: إنْ أخذ الماء غرق و غَرِقتْ أمَّته، و إن أخذ الخَمرَ غَوى و غَوتْ أمّته، و إن أخذ اللبن هُدى و هديت أُمّته.

قال: فأخذت إناءَ اللبن، فشربت منه، فقال لي جبريلُ عليه السلام: هُدِيت و هُدِيَت أمتك يا محمد.

حديث الحسن عن مسراه صلّی الله علیه و سلم

قال ابن إسحاق:

و حُدثت عن الحسن أنه قال:

قال رسول الله صلّى الله عليه و سلم: بينا أنا نائم في الحِجْر، إذ جاءني جبريلُ، فهَمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئاً، فعدت إلى مَضْجعي.

ص: 269

فجاءني الثانيةَ فهمزني بقدمه، فجلستُ فلم أرَ شيئاً، فعدت إلى مَضْجعي.

فجاءني الثالثةَ فهمزني بقدمه، فجلستُ، فأخذ بعَضدي، فقمت معه، فخرج (بي) إلى بابِ المسجد، فإذا دابَّة أبيض، بين البغل و الحمار، في فَخذيه جَناحان يحْفِز(1) بهما رجْليه، يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه، ثم خرج معي لا يفوتني و لا افوته.

حديث قتادة عن مسراه صلّی الله علیه و سلم

قال ابن إسحاق:

و حُدّثت عن قَتادة أنه قال:

حُدثت أن رسولَ الله صلّی الله علیه و سلم قال: لما دنوتُ منه لأركبه

ص: 270


1- يحفز: يدفع.

شَمس(1)، فوضع جبريلُ يدَهُ على مَعرفته(2)، ثم قال: ألا تَسْتحي یا براق مما تَصْنع، فوالله ما ركبك عبدٌ لله قبلَ محمد أكرمُ عليه منه. قال: فاستحيا حتى ارفضَّ عرقاً، ثم قَرّ حتى ركبته.

عود الى حديث الحسن، عن مسراه صلّى الله عليه و سلم و سبب تسمية ابي بكر: الصديق

قال الحسنُ في حديثه:

فمضى رسول الله صلّى الله عليه و سلم، و مضى جبريلُ عليه السلام معه، حتى انتهی به إلی بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيمَ و مُوسى و عيسى في نفَر من الأنبياء، فأمَّهم رسولُ الله صلّى الله عليه و سلم فصلى بهم، ثم أُتِيَ بإناءين، في أحدهما خمر، و في الآخر لَبن.

ص: 271


1- يقال: شمس الفرس: إذا لم يمكن أحداً من ظهره و لا من الأسراج و الالجام، و لا يكاد يستقر.
2- المعرفة: اللحم الذي ينبت عليه شعر العرف.

قال: فأخذ رسولُ الله صلّى الله عليه و سلم إناء اللبن، فشَرب منه، ورترك إناء الخمر.

قال: فقال له جبريل: هُديت للفِطرة، و هُدِيتْ أمتك يا محمد، و حُرّمت عليكم الخمر.

ثم انصرف رسولُ الله صلّى الله عليه و سلم إلى مكة، فلما أصبح غَدا على قريش فأخبرهم الخبرَ.

فقال أكثر الناس: هذا والله الإمْر(1) البَيِّن، والله إن العِير لتُطرد، شهراً من مكة إلى الشام مُدبرة، و شهراً مقبلة، أفيذهب ذلك محمدٌ في ليلة واحدة، و يَرجع إلى مكة!

قال: فارتدّ كثيرٌ ممن كان أسلم، و ذهب الناس إلى أبي بَكر، فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيتَ المقدس و صلّى فيه و رجع إلى مكة.

قال: فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه، فقالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدّث به الناس.

فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صَدق، فما يُعجبكم من ذلك! فوالله إنه ليُخبرني أنّ الخبر ليأتيه (من الله) من السماء إلى

ص: 272


1- الإمر: العجيب المنكر.

الأرض في ساعةٍ من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعدُ مما تعجبون منه.

ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه و سلم، فقال: يا نبيّ الله، أحدّثتَ هؤلاء القومَ أنك جئتَ بيت المَقْدس هذه الليلة؟

قال: نعم؛ قال: یا نبيّ الله، فصفْه لي، فإني قد جئته.

قال الحسن:

فقال رسولُ الله صلّى الله عليه و سلم: فرُفع لي حتى نظرتُ اليه -فجعل رسولُ الله صلّى الله عليه و سلم يَصفه لأبي بكر. و يقول أبو بكر: صدقتَ، أشهد أنك رسولُ الله، كلما وصف له منه شيئاً، قال: صدقتَ، أشهد أنك رسولُ الله، حتى (إذا) انتهى، قال رسول الله صلّى الله عليه و سلم لأبي بكر: و أنت يا أبا بكر الصدِّيق.

فيومئذ سمّاه الصّدّيق.

قال الحسن:

و أنزل اللهُ تعالى فيمن ارتد عن اسلامه لذلك:

«و ما جَعَلنا الرؤيا التي أرَيْناكَ إلا فِتنَةَ للناسِ، و الشّجَرَة المَلْعُونةَ في القُرآنِ، و نُخَوّفُهُم، فمَا يَزيدُهُم إلّا طغْياناً كَبِيراً».

ص: 273

فهذا حديث الحسن عن مَسْرى رسولِ الله صلّى الله عليه و سلم، و ما دخل فيه من حَديث قتادة.

حديث أم هانیء، عن مسراه

قال محمد بن إسحاق:

و كان فيما بلغني عن أمّ هانیء بنت أبي طالب رضي الله عنها، و اسمها هند، في مسرى رسول الله صلّى الله عليه و سلم، أنها كانت تقول:

ما أسرى برسول الله صلّى الله عليه و سلم إلا و هو في بيتي، نام عندي تلك الليلة في بيتي، فصلّى العشاء الآخرة، ثم نام و نِمْنا، فلما كان قُبيل الفجر أهَبَّنا رسولُ الله صلّى الله عليه و سلم، فلما صلى الصبح و صلينا معه، قال: يا أم هانىء، لقد صليتُ معكم العشاء الآخرة كما رأيتِ بهذا الوادي، ثم جئتُ بيتَ المقدس فصليت فيه، ثم قد صليت صلاة الغَداة معكم الآن كما ترين.

ثم قام ليخرج، فأخذْتُ بطَرف ردائه، فتكشَّف عن بَطنه

ص: 274

كأنه قُبْطيَّة(1) مَطوية، فقلت له: يا نبيّ الله، لا تحدّث بهذا الناس فيكذّبوك و يُؤذوك.

قال: والله لأحدثهموه. قالت: فقلت لجارية لي حَبشيَّة: ويحك اتبعي رسولَ الله صلّى الله عليه و سلم حتى تَسْمعي ما يقولُ للناس، و ما يقولون له.

فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه و سلم إلى الناس اخبرهم، فعَجبوا و قالوا: ما آية ذلك يا محمد؟ فإنا لم نسمع بمثل هذا قطُّ.

قال: آية ذلك أني مَرَرْت بعِير بَني فلان بوادي كذا و كذا، فأنفرَهم حِسُّ الدابة، فَنَدَّ لَهُمْ بَعِيرٌ، فَدَلتُهم عليه، و انا موجَّه إلى الشام. ثم اقبلتُ حتى إذا كنتُ بضَجَنان(2) مررتُ بعير بني فلان، فوجدتُ القوم نياماً، و لهم إناء فيه ماء قد غطّوا عليه بشيء، فكشفتُ غطاءه و شربتُ ما فيه، ثم غطيتُ عليه كما كان؛

ص: 275


1- القبطية (بالضم و تكسر): ثياب من كنان تنسج بمصر منسوبة إلى القبط على غير قياس.
2- ضجنان (بالتحريك): جبل بناحية تهامة.

و آية ذلك أن عِيرَهم الآن يَصوب(1) من البيضاء(2)، ثَنيَة التنعيم(3)، يقدمُها جمل أوْرق(4)، عليه غرارتان، إحداهما سوداء، و الأخرى بَرْقاء(5).

قالت: فابتدر القومُ الثنيَّة فلم يَلْقهم أولُ مِنَ(6) الجمل كما وصف لهم، و سألوهم عن الإناء، فأخبروهم أنهم وضَعوه مملوءاً ماء ثم غطوه، و انهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوه، و لم يجدوا فيه ماءً.

و سألوا الآخرين و هم بمكة، فقالوا: صدق والله، لقد أُنفرنا في الوادي الذي ذَكر، و ندّ لنا بعيرٌ، فسَمعنا صوتَ رجل يدعونا الیه، حتى أخذناه.

ص: 276


1- يصوب: ينزل من عل.
2- البيضاء: عقبة قرب مكة تهبطك إلى فخ، و أنت مقبل من المدينة تريد مكة، أسفل مكة من قبل ذى طوي.
3- التنعيم: موضع بمكة في الجبل.
4- الأورق: الذي لونه بين الغبرة و السواد.
5- البرقاء: التي فيها الوان مختلفة.
6- یريد أن الجمل كان أول ما لقيهم.

قصة المعراج

حديث الخدري عن المعراج

قال ابن إسحاق:

و حدثني من لا أتهم عن أبي سَعيد الخُدريّ رضي الله عنه أنه قال:

سمعت رسولَ الله صلّی الله علیه و سلم يقول: لما فرغتُ مما كان في بيت المَقْدس، أتي بالمعراج، و لم أر شيئاً قطُّ أحسنَ منه، و هو الذي يَمُدّ اليه ميتُكم عَيْنيه إذا حُضر، فأصعدني صاحبي فيه، حتى انتهى بي إلى بابٍ من أبواب السماء، يقال له: باب الحَفَظة، عليه مَلَك من الملائكة، يقال له إسماعيل، تحت يديه اثنا عَشرَ الفَ مَلكٍ،

تحت بدي كل مَلك منهم اثنا عشر الفَ مَلك.

ص: 277

قال: يقول رسول الله صلّی الله علیه و سلم حين حدّث بهذا الحديث: و ما يعلم جنود ربك إلا هو - فلما دُخل بی، قال: مَنْ هذا يا جبريل؟ قال: (هذا) محمد. قال: أو قد بُعث؟ قال: نعم. قال: فدعا لي بخير: و قاله.

عدم ضحك خازن النار للرسول صلّی الله علیه و سلم

قال ابن إسحاق:

و حدثني بعضُ أهل العلمِ عمن حدثه عن رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. أنه قال:

تلقَّتني الملائكةُ حين دخلتُ السماء الدنيا، فلم يلقني مَلك إلا ضاحكاً مستبشراً، يقول خيراً و يدعو به، حتى لَقيني مَلَكٌ من الملائكة، فقال مثلَ ما قالوا ، و دعا بمثل ما دَعَوْا به، إلا أنه لم يضحك، و لم أرَ منه من البشْر مثل ما رأيت من غيره.

فقلت لجبريل: يا جبريل من هذا الملك الذي قال لي كما قالت الملائكةُ و لم يضحك (إليّ)، و لم أرَ منه من البشر مثل الذي رأيتُ منهم؟

ص: 278

قال: فقال لي جبريلُ: أما إنه لو ضَحك إلى أحدٍ كان قبلك، أو كان ضاحكاً إلى أحد بعدك، لَضَحِك اليك، و لكنه لا يضحك هذا مالكٌ خازن النار.

فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله: فقلت لجبريل، و هو من الله تعالى بالمكان الذي وصف لكم «مُطاعٍ ثمَّ أمِين»: ألا تأمره ان يُريني النار؟ فقال: بلى، يا مالك، أر محمداً النَّار.

قال: فكشف عنها غِطاءَها، ففارت و ارتفعت، حتى ظننت لتأخذنَّ ما أرى.

قال: فقلت لجبريل: يا جبريل، مُرْه فَلْيردّها إلى مكانها.

قال: فأمره. فقال لها أخِبي، فرجعتْ إلى مكانها الذي خَرجت منه. فمَا شبَّهتُ رُجوعها إلا وقوع الظلّ. حتى إذا دخلت من حيثُ خَرجت ردّ عليها غطاءها.

عود الى حديث الخدري عن المعراج

قال أبو سعيد الخدري في حديثه:

إن رسول الله صلّى الله عليه و سلم قال: لما دخلتُ السماء الدنيا، رأيت بها

ص: 279

رجلاً جالساً تُعرض عليه أرواح بَني آدم، فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيراً و يُسرّ به، و يقول: روح طيِّبة خَرجت من جسد طيب؛ و يقول لبعضها إذا عُرضت عليه: أفّ. و يَعْبس بوجهه و يقول: روح خَبيثة خرجت من جَسد خبيث.

قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم، تُعرَض عليه ارواح ذرّيته، فإذا مرّت به روح المُؤْمن مِنهم سُرّ بها و قال: روح طيبة خرجت من جَسد طيب. و إذا مرّت به روح الکافر منهم أفّف منها و كرهها، و ساءه ذلك و قال: روحٌ خبيثةٌ خرجت من جَسد خبيث.

صفة اكلة اموال اليتامى

قال: ثم رأيت رجالاً لهم مشَافر كمشافر الإبل، في ايديهم قطع من نار كالأفهار(1)، يقذفونها في افواههم، فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة اموال

ص: 280


1- الافهار: جمع فهر، و هو حجر على مقدار ملء الكف.

اليتامى ظُلماً.

صفة اكلة الربا

قال: ثم رأيت رجالاً لهم بُطون لم ارَ مثلها قطُّ بسبيل آل فرعون(1)، يمرّون عليهم كالإبل المَهْيومة(2) حين يُعرضون على النار، يطئونهم لا يقدرون على ان يتحوّلوا من مكانهم ذلك.

قال: قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اكلة الربا.

صفة الزناة

قال: ثم رأيتُ رجالاً بين أيديهم لحم ثَمين طيّب، إلى جنبه لحم غثّ منتن، ياكلون من الغث المنتن، و يتركون السمين الطيب.

ص: 281


1- خص آل فرعون، لأنهم أشد الناس عذاباً يوم القيامة.
2- المهيومة: العطاش

قال: قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هولاء الذين يتركون ما احلّ الله لهم من النساء، و يذهبون إلى ما حرّم الله

عليهم منهن.

صفة النساء اللاتي يدخلن على الازواج ما ليس منهم

قال: ثم رأيت نساء معلقات بثديِّهن. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي ادخلن على الرجال من ليس من أولادهم.

قال ابن إسحاق:

و حدثني جعفر بن عَمْرو، عن القاسم بن محمد أن رسول الله صلّی الله علیه و سلم قال:

اشتدّ غضب الله على امرأة أدخلت على قوم مَنْ ليس منهم،

ص: 282

فأكل حَرائبهم(1)، و أطلع على عوراتهم.

عود الى حديث الخدري عن المعراج

ثم رجع إلى حديث أبي سعيد الخدري، قال:

ثم اصعدني إلى السماء الثانية، فإذا فيها ابنا الخالة: عيسى بن مَرْيم، و يحيى بن زكريا. قال: ثم اصعدني إلى السماء الثالثة، فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البَدْر.

قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك يوسف بن يعقوب.

قال: ثم اصعدني إلى السماء الرابعة، فإذا فيها رجل فسألته: من هو؟ قال: هذا إدريس.

قال: يقولُ رسول الله صلّی الله علیه و سلم: و رفعناه مكاناً عليّاً.

قال: ثم أصعدني إلى السماء الخامسة فاذا فيها كهل أبيضُ الرأس

ص: 283


1- الحرائب: جمع حربية و المال.

و اللحية، عظيم العَثْنون(1)، لم أرَ كَهْلاً أجملَ منه.

قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا المُحبب في قومه هارون بن عمران.

قال: ثم اصعدني إلى السماء السادسة، فإذا فيها رجل آدم(2) طويلٌ اقنى(3)، كأنه من رجال شنوءة.

فقلت له: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك موسى ابن عِمران.

ثم أصعدني إلى السماء السابعة، فاذا فيها كَهْل جالس على كرْسي إلى باب البيت المَعمور، يدخله كل يوم سَبعون الف ملك، لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة. لم أرَ رجلاً أشبهَ بصاحبكم، و لا صاحبكم أشبه به منه.

قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم.

ص: 284


1- العثنون: اللحیة.
2- الآدم: الأسود.
3- الأقنى: ما ارتفع أعلى أنفه و احدودب وسطه و سبغ طرفه.

قال: ثم دخل بي الجنة، فرأيتُ فيها جارية لعساء(1)، فسألتها: لمن أنت؟ و قد أعجبتني حين رأيتها. فقالت: لزيد

أبن حارثة.

فبشر بها رسول الله صلّی الله علیه و سلم زيد بن حارثة.

قال ابن إسحاق:

و من حديث (عبدالله) بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلّی الله علیه و سلم فيما بلغني:

أن جبريل لم يصعد به إلى سماء من السموات إلا قالوا له حين يستأذن في دخولها: من هذا يا جبريل؟ فيقول: محمد؛ فيقولون: أو قد بُعث(2)؟ فيقول: نعم، فيقولون: حيَّاه الله من أخ و صاحب! حتى انتهى به إلى السماء السابعة، ثم انتهى به إلى ربه، ففرض عليه خمسين صلاة في كلّ يوم.

ص: 285


1- اللعس في الشفاه: حمرة تضرب إلى السواد.
2- و في سائر الأصول: «أو قد بعث اليه ... الخ».

مشورة موسى على الرسول عليهما السلام في شأن تخفيف الصلاة

(قال): قال رسول الله صلّى الله عليه و سلم:

فأقبلت راجعاً، فلما مررت بموسى (بن) عِمران، و نِعْم الصاحب كان لكم، سألني كم فُرض عليك من الصلاة؟ فقلت: خمسين صلاة كلّ يوم؛ فقال: إن الصلاة ثقيلة، و إن أمتك ضعيفة، فارجع إلى ربك، فاسأله أن يخفف عنك و عن أمتك.

فرجعتُ فسألت ربي أن يخفف عني و عن أمتي، فوضع عني عشراً ..

ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثلَ ذلك.

فرجعت فسألت ربي، فوضع عني عشراً.

ثم انصرفت فمررت على موسى، فقال لي مثلَ ذلك.

فرجعت فسألته فوضع عني عشراً، ثم لم يزل يقول لي مثلَ ذلك، كلما رجعت اليه.

ص: 286

قال: فارجع فاسأل، حتى انتهيتُ إلى أن وضع ذلك عني، إلا خمس صلوات في كلّ يوم و ليلة.

ثم رجعت إلى موسى، فقال لي مثلَ ذلك، فقلت: قد راجعت ربي و سألته، حتى استحييتُ منه، فما أنا بفاعل.

فمن أدَّهن منكم إيماناً بهنّ، و احتساباً لهنّ، كان له أجرُ خمسين صلاة ..

(مكتوبة).

رواية البخاري في صحيحه

قال النبي صلّى الله عليه و سلم:

«بينا أنا عند البيت بين النائم و اليقظان.

«و ذكر يعني رجلاً بين الرجلين.

ص: 287

«فأتيتُ بطست من ذهب مُلىءَ حكمة و إيماناً.

«فشق من النحر إلى مراق البطن.

«ثم غسل البطن بماء زمزم.

«ثم مُليء حكمة و إيماناً.

«و أُتبت بدابة أبيض دون البغل و فوق الحمار البراق.

«فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا.

«قيل: مَن هذا؟

«قال: جبريل.

«قيل: و من معك؟

«قيل: محمدٌ.

«قيل: و قد أُرسل اليه؟

«قال: نعم.

«قيل: مرحباً به و لنعم المجيء جاء.

«فأتيت على آدم فسلمت عليه.

«فقال: مرحباً بك من ابن و نبي.

«فأتينا السماء الثانية

ص: 288

«قيل: من هذا؟

«قال: جبريل.

«قيل: من معك؟

«قال: محمد صلّی الله علیه و سلم.

«قيل: أُرسل اليه؟

«قال: نعم.

«قيل: مرحباً به و لنعم المجيء جاء.

«فأتيت على عيسى و يحيى.

«فقالا: مرحباً بك من اخ و نبي.

«فأتينا السماء الثالثة.

«قيل: من هذا؟

«قيل: جبريل.

«قيل: من معك؟

«قال: محمدٌ.

«و قيل: و قد أُرسل اليه؟

«قال: نعم.

ص: 289

«قيل: مرحباً به و لنعم المجيء جاء.

«فاتيت يوسف فسلمت عليه.

«قال: مرحباً بك من أخ و نبي.

«فأتينا السماء الرابعة.

«قيل: من هذا؟

«قيل: جبريل.

«قيل: من معك؟

«قيل: محمد صلّی الله علیه و سلم.

«قيل: و قد أُرسل اليه؟

«قال: نعم.

«قيل: مرحباً به و لنعم المجيء جاء.

«فأتينا على ادريس فسلمت عليه.

«فقال: مرحباً بك من أخ و نبي.

«فأتينا السماء الخامسة.

«قيل: من هذا؟

«قيل: جبريل.

ص: 290

«قيل: و من معك؟

«قيل: محمد صلّی الله علیه و سلم.

«قيل: و قد أُرسل اليه.

«قال: نعم.

«قيل: مرحباً به و لنعم المجيء جاء.

«فأتينا على هارون فسلمت عليه.

«فقال: مرحباً بك من أخ و نبي.

«فأتينا على السماء السادسة.

«قيل: من هذا؟

«قيل: جبريل.

«قيل: من معك؟

«قيل: محمد صلّى الله عليه و سلم.

«قيل: و قد أُرسل اليه؟

«مرحباً به و لنعم المجيء جاء.

«فأتيت على موسى فسلمت عليه.

«فقال: مرحباً بك من أخ و نبي.

ص: 291

«فلما جاوزت بكى.

«فقيل: ما أبكاك؟.

«قال: يا رب هذا الغلام الذي بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أفضل مما يدخل من أمتي؟!

«فأتينا السماء السابعة.

«قيل: من هذا؟

«قال: جبريل.

«قيل: من معك؟

«قيل: محمدٌ.

«قيل: و قد أُرسل اليه؟

«مرحباً به و نعم المجيء جاء.

«فأتيت على ابراهيم فسلمت عليه:

«فقال: مرحباً بك من إبن و نبي.

«فرُفعَ لي البيت المعمور.

«فسألت جبريل.

«فقال: هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف مَلك

ص: 292

إذا خرجوا لم يعودوا اليه آخِرَ ما عليهم.

«و رُفعت لي سدرة المنتهى فاذا نبتها كأنه قلال هجر و ورقها كانه آذان الفُيول في اصلها أربعة أنهار نهران باطنان و نهران ظاهران.

«فقال: أما الباطنان ففي الجنة.

«و أما الظاهران النيل و الفرات.

«ثم فرضت عليّ خمسون صلاة.

«فأقبلت حتى جئت موسى.

«فقال: ما صنعت؟

«قلت: فرضت عليّ خمسون صلاة.

«قال: أنا أعلم بالناس منك، عالجت بني اسرائيل أشد المعالجة، و إن امتك لا تطيق، فارجع إلى ربك فسله.

«فرجعت، فسألته.

«فجعلها أربعين.

«ثم مثله.

«ثم ثلاثين.

«ثم مثله.

ص: 293

«فجعل عشرين.

«ثم مثله.

فجعل عشراً.

«فأتیت موسی.

«فقال مثله.

«فجعل خمساً.

«فأتيت موسی.

«فقال: ما صنعت؟

«قلت: جعلها خمساً.

«فقال: مثله.

«قلت: سلمت بخير.

«فنوديّ: إني قد أمضيت فريضتي و خففت عن عبادي و أجزي الحسنة عشراً».

قالوا:

«الصحيح انه أُسري بالجسد و الروح في القصة كلها .. و عليه يدل قوله تعالى «سبحانه الذي أسرى بعبده» إذ لو كان مناماً لقال

ص: 294

بروح عبده و لم يقل بعبده و لا يعدل عن الظاهر و الحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة ..

«ما ذُكر من شق الصدر .. و استخراج القلب .. و ما يجري مجراه فان السبيل في ذلك التسليم .. دون التعرض بصرفه إلى وجه يتقوله متكلف .. إدعاء للتوفيق بين المنقول و المعقول ..

«البراق، اسم للدابة التي ركبها صلّی الله علیه و سلم تلك الليلة .. و قالوا اشتقاقه من البَرق .. لسرعته .. و قيل سمي به لشدة صفائه و تلألؤ لونه .. و قالوا البُراق دابة أبيض و في فخذيه جناحان يحفز بها رجليه .. يضع حافره في منتهى طرفه ..

«ذكر أهل السير و المفسرون انه لما ركب البراق أتى إلى بيت المقدس و معه جبريل عليه الصلاة و السلام .. و لما فرغ أمره فيه .. نُصب له المعراج و هو السلم .. و صعد فيه إلى السماء .. و لم يكن الصعود على البراق كما يتوهمه بعض الناس .. بل كان البراق مربوطاً على باب مسجد بيت المقدس حتى يرجع عليه إلى مكة ..

«(و قد أرسل اليه؟) أي أُطلِب و أُرسِلَ اليه .. و في رواية أخرى .. و قد بُعث اليه للإسراء و صعود السماوات .. و قيل كان سؤالهم للاستعجاب بما أنعم الله عليه .. أو للاستبشار بعروجه ..

ص: 295

إذ كان من البين عندهم ان احداً من البشر لا يترقى إلى أسباب السماوات من غير أن يأذن الله له .. و يأمر ملائكته باصعاده .. و إن جبريل عليه الصلاة و السلام لا يصعد بمن لم يرسل اليه .. و لا يفتح له أبواب السماء ..

«(مرحباً به) أي بمحمد .. و معناه لقي رحباً و سعة .. و قيل معناه .. رحب الله به مرحباً .. فجعل مرحباً موضع

الترحيب ..

«(و لنعم المجيء جاء) اي جاء فلنعم المجيء مجيئه ..

«(فأتيت على آدم فسلَّمت عليه) .. و أمر بالتسليم عليهم .. أي على الأنبياء الذين لقيهم في السماوات .. و على خزان السماوات و حراسها لأنه كان عابراً عليهم ..

«(فلما جاوزتُ بكى) قالوا، كان بكاؤه صلّى الله عليه و سلم .. لأجل الرقة لقومه .. و الشفقة عليهم .. حيث لم ينتفعوا بمتابعته انتفاع هذه الأمة بمتابعة نبيهم .. و لم يبلغ سوادهم مبلغ سوادهم ..

«(يا رب هذا الغلام) لم يرد موسى عليه السلام بذلك استقصار شأنه .. فان الغلام قد يُطلق و يُراد به القويّ الطريّ الشاب ... و المراد منه استقصار مدته .. مع استكثار فضائله .. و أمته

ص: 296

اتم سواد من امته ..

«و قال الخطابي: قوله (الغلام) ليس على معنى الازراء و الاستصغار لشأنه ... إنما هو على تعظيم مِنَّة الله عليه .. مما أناله النعمة .. و أتحفه من الكرائم .. من غير طول عمر أفناه مجتهداً في طاعته ..

«(فرُفِع لي البيت المعمور) اي كُشِف لي .. و قُرِّب مني .. كأنه أراد أن البيت المعمور ظهر له كل الظهور .. و كذلك

سدرة المنتهى .. استبينت له كل الاستبانة .. حتى اطلع عليها كل الاطلاع ..

«(آخر ما عليهم) ذلك آخر ما عليهم من دخوله ..

«(و رُفعت لي سدرة المنتهى) سميت بها .. لأن علم الملائكة ینتهي اليها .. و لم يجاوزها احد .. إلا رسول الله .. صلى الله عليه و سلم ..

«(نهران باطنان) قيل: هما السلسبيل و الكوثر ..

«(نهران ظاهران) النيل و الفرات .. قيل: يخرجان من أصلها .. ثم يسيران حيث اراد الله تعالى .. ثم يخرجان من الأرض و يجريان فيها ..

«(عالجتُ بني اسرائيل) أي مارستهم .. و لقيت منهم الشدة ..

ص: 297

فيما اردت منهم من الطاعة ..

«(فارجع إلى ربك) أي إلى الموضع الذي ناجيت ربك فیه ..

«(فرجعتُ) أي إلى موضع مناجاتي ..

«(فسألته) أي فسألت الله التخفيف.

«(فجعلها) اي فجعل الفريضة التي قدرها اربعين صلاة ..

«(ثم مِثله) أي ثم قال موسى علیه السّلام .. مثله ..

«(ثم ثلاثين) أي ثم جعلها ثلاثين صلاة ..

«(ثم مِثله) أي ثم قال موسى علیه السّلام مثله ..

«(فجعل عشرين) أي عشرين صلاة ..

«(ثم مِثله) أي ثم قال موسى علیه السّلام مثله ..

«(فجعل عشراً) أي عشر صلوات ..

«(فأتيتُ موسى) أي في الموضع الذي لقيته فيه .. فقال موسى ايضاً مثله ..

«(فجعله خمساً) أي خمس صلوات ..

«(فقال: ما صنعتَ؟) اي فقال موسى علیه السّلام: ماذا صنعت فيما رجعت؟. و هذه هي المراجعة الأخيرة ..

ص: 298

«(قلتُ: جعلها خمساً) اي خمس صلوات.

«(فقال: سلامت بخير) اي فقال النبيّ صلّی الله علیه و سلم .. لموسى علیه السّلام .. سلَّمتُ .. سَلَّمتُ له .. ما جعله من خمس صلوات .. فلم يبق لي مراجعة .. لأني استحييت من ربي .. كما مضى في حديث أبي ذر في اول كتاب الصلاة .. من قوله (ارجع إلى ربك، قلتُ: استحييت من ربي) .. يعني من تعدد المراجعة ..

«(فَنُودِيَ) اي فجاء النداء من قبل الله تعالى .. إني قد امضيت فريضتي .. أي انفذت فريضتي .. بخمس صلوات .. و خففتُ عن عبادي .. من خمسين إلى خمس .. و أجزي الحسنة عشراً .. فيحصل ثواب خمسين صلاة .. لكل صلاة ثواب عشر صلوات ..

«فان قلت: كيف جازت هذه المراجعة في باب الصلاة .. من رسولنا محمد .. و موسى .. عليهما الصلاة و السلام؟

«قلتُ: لأنهما عرفا ان الأمر الأول غير واجب قطعاً .. و لو كان واجباً قطعاً .. لا يقبل التخفيف»!!

ص: 299

اقول . و شهدت خديجة .. عليها السلام .. ايام ذلك الحادث الفَذّ ..

شهدت أيام تلك المعجزة الكبرى .. معجزة الإسراء و المعراج ..

كانت هناك .. في مكة .. تسمع ... و ترى ..

بل كانت أقرب الناس اليه .. صلّی الله علیه و سلم .. في تلک اللحظات المقدسة .. حين عاد من الرحلة ..

كيف كانت مشاعرها .. حين عاد صلّی الله علیه و سلم .. اليها و قد عُرِجَ به .. إلى ما وراء السماوات .. بل إلى ما وراء الإدراك؟!!

أم كيف كان شعورها .. و هي تصلي معه الصلاة المفروضة .. بعد أن افترض الله عليه في تلك الليلة .. خمس صلوات؟!!

لقد ازدادت له تصديقاً .. و إيماناً ..

إنّ أوَّل رجل آمن (و هو أبو بكر) .. قال حين وصف له رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. بيت المقدس: صدقْتَ .. أشهد أنك رسول الله!!

و إن لسان حال خديجة .. عليها السلام .. يقول في نفس المشهد: صدقْتَ .. أشهد أنك رسول الله!!

ص: 300

لماذا؟!!

لأن أبابكر .. كان أوّل مَن آمنَ من الرجال ..

و لأنَّ خديجة .. كانت أوّل من آمنَ مِن النساء ..

فتحتَّم أن تستقبل خديجة معجزة الإسراء و المعراج .. بمثل ما استقبل أبو بكر الاسراء و المعراج!!

ص: 301

ص: 302

وفاة .. ابي طالب؟!

ص: 303

ص: 304

قال ابن الاثير:

«توفي أبو طالب .. و خديجة .. قبل الهجرة بثلاث سنين .. و بعد خروجهم من الشّعب ..

«فتوفّي أبو طالب في شوّال .. أو في ذي القعدة ..

«و عمره بضع و ثمانون سنة ..

«فعظمت المصيبة على رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. بهلاکهما ..

«فقال رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم: ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب ..

«و ذلك أنّ قريشاً وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب .. إلى ما لم يكونوا يصلون اليه في حياته .. حتى ينثر بعضهم التراب على رأسه!!

«و حتّى إنّ بعضهم يطرح عليه رحم الشاة و هو يصلي!!

ص: 305

و كان رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. يُخرج ذلك على العود .. و يقول: أيّ جوار هذا يا بني عبد مناف!.

«ثم يلقيه بالطريق.»

و قال إبن هشام

وفاة ابي طالب و خديجة ..

صبر الرسول على ايذاء المشركين

«و كان النَّفَر الذين يُؤذون رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. في بيته أبا لَهَب، و الحَكَمَ بن العاص بن أميَّة، و عُقْبة بن أبي مُعَيط، و عديّ بن حَمراء الثّقفيّ، و ابنَ الأصْداء الهُذليّ؛ و كانوا جيرانه لم يُسلم منهم أحد إلا الحَكم بن أبي العاص، فكان أحدهم -فيما ذكر لي- يطرح عليه .. صلّى الله عليه و سلم .. رَحم الشاة

ص: 306

و هو يُصَلي، و كان احدهم يطرحها في بُرْمته(1) إذا نُصبت له، حتی اتخذ رسولُ الله .. صلّى الله عليه و سلم حجْراً(2) يستتر به منهم إذا صلى، فكان رسول الله صلّی الله علیه و سلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى، كما حدثني عمرُ بن عبد الله بن عُروة بن الزبير، عن عُروة ابن الزبير، يخرج به رسولُ الله صلّی الله علیه و سلم على العود، فيقف به

على بابه.

ثم يقول. يا بَني عبد مناف، أيّ جوارٍ هذا!

ثم يُلقيه في الطريق.

طمع المشركين في الرسول

بعد وفاة ابي طالب و خديجة!

قال إبن إسحاق

ثم أن خديجة بنت خويلد و أبا طالب هَلَكا في عام واحد،

ص: 307


1- البرمة: القدر من الحجر.
2- الحجر: كل ما حجرته من حائط.

فتتابعت على رسول الله صلّى الله عليه و سلم المصائبُ بهُلْك خَديجة.

و كانت له وَزيرَ صِدْق على الاسلام، يشكو اليها.

و بهُلك عمه أبي طالب، و كان له عضداً و حِرْزاً في أمره، و مَنعَة و ناصراً على قومه، و ذلك قبل مُهاجره إلى المدينة بثلاث سنين.

فلما هلك أبو طالب، نالت قريشٌ من رسول الله صلّی الله علیه و سلم من الأذى ما لم تكن تَطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سَفيهٌ من سفهاء قريش، فنثر على رأسه تراباً.

قال إبن إسحاق

فحدثني هشام بن عُروة، عن أبيه عروة بن الزبير، قال:

لما نثر ذلك السفيهُ على رأس رسول الله صلّی الله علیه و سلم ذلك الترابَ، دخل رسول الله صلّی الله علیه و سلم بيته و الترابُ على رأسه، فقامت اليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه الترابَ و هي تبكي، و رسول الله صلّی الله علیه و سلم يقول لها: لا تبكي يا بُنية، فإن الله مانعٌ أباك.

قال: و يقول بين ذلك. ما نالت مني قريش شيئاً اكرهه، حتى مات ابو طالب.

ص: 308

المشركون عند ابي طالب لما ثقل به المرض ..

يطلبون عهدأ بينهم و بين الرسول ..

قال ابن إسحاق:

و لما اشتكى أبو طالب، و بلغ قريشاً ثِقله، قالت قريش بعضها البعض: إن حَمزة و عُمر قد أسلما، و قد فشا أمرُ محمد في قبائل قُريش كلها، فانطلقوا بنا إلى ابي طالب، فليأخذ لنا على ابن اخيه، و ليُعطهِ منا، والله ما نأمن ان يَبْتزُّونا(1) أمرنا.

قال إبن إسحاق:

فحدثني العباس بن عبدالله بن مَعبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس، قال:

مَشوْا إلى أبي طالب فكلموه، و هم اشراف قومه. عتبة

ص: 309


1- ابتزه أمره: سليه إياه و غلبه عليه.

ابن ربيعة، و شَيبة بن ربيعة، و أبو جهل بن هشام، و أمية بن خلف، و ابو سفيان بن حَرْب، في رجال من اشرافهم.

فقالوا: يا ابا طالب، إنك منا حيث قد علمتَ، و قد حَضرَك ما ترى، و تخوّفنا عليك، و قد علمتَ الذي بيننا و بين ابن اخيك، فادعُه، فخذ له منا، و خُذْ لنا منه، ليكفّ عنا، و نكفّ عنه، و ليدعنا و ديننا، و ندعه و دينه.

فبعث اليه أبو طالب، فجاءه، فقال: يابن أخي ، هؤلاء أشرافُ قومك، قد اجتمعوا لك، ليُعطوك، و ليأخذوا منك.

قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلم: نعم، كلمة واحدة تُعطونيها تملكون بها العرب، و تَدين لكم بها العجم. قال: فقال أبو جهل: نعم و أبيك، و عشر كلمات. قال: تقولون لا إله إلا الله، و تَخلعون ما تعبدون من دونه.

قال: فصفّقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً، إنّ أمرك لعَجب!

ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلقوا و امضُوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم و بينه.

ص: 310

قال : ثم تفرّقوا.

طمع الرسول في اسلام ابي طالب .. و حديث ذلك!؟

فقال ابو طالب لرسول الله صلّى الله عليه و سلم: والله يا بن اخي، ما رأيتك سألتَهم شَططا.

قال: فلما قالها أبو طالب طَمع رسول الله صلّى الله عليه و سلم في إسلامه، فجعل يقول له. أي عمّ، فأنتَ فقُلها استحلّ لك بها الشفاعة یوم القيامة.

قال: فلما رأى حرصَ رسول الله صلّى الله عليه و سلم، قال: يابن أخي، والله لولا مخافة السُّبّة عليك و على بني أبيك من بعدي، و أن تظن قريش إني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرّك بها.

قال: فلما تقارب من أبي طالب الموتُ، قال: نظر العباس اليه يحرّك شفتيه، قال. فأصغى اليه بأذنه.

قال: فقال يابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرتَه

ص: 311

أن يقولها.

قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلم: لم أسمع.

ما نزل فيمن طلبوا العهد على الرسول عند ابي طالب!

قال: و أنزل الله تعالى في الرّهط الذين كانوا اجتمعوا اليه، و قال لهم ما قال، و ردّوا عليه ما ردّوا

«ص و القُرآن ذي الذکْر، بَل الذينَ كَفَرُوا في عِزّةٍ و شِقاقٍ»..

إلى قوله تعالى:

«أجعَلَ الآلهَةَ إلهاً واحِداً، إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ . وَ انْطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أن امْشُوا و اصْبرُوا على آلهَتِكُم، إِنَّ هَذَا لشَيءٌ يُرَادُ . ما سَمعْنا بهَذَا في المِلة الآخِرَة».

ص: 312

يعنون النصارى .. لقولهم.

«إنّ الله ثالثُ ثلاثَةٍ»

«إنْ هذا إلّا اخْتلاق.»

أقول .. و مات الرجل النبيل الجليل .. أبو طالب بن عبدالمطلب ..

مات في النصف من شهر شعبان .. في السنة العاشرة .. من مبعث رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم.

جاء عن ذلك .. في كتاب «خديجة أم المؤمنين»

«كان موت أبي طالب صدمة عنيفة أصابت النبي الوفي لأهله و لكل من قدم اليه معروفاً.

فقد كان اكثر الناس حفاوة به و اكراماً له منذ طفولته عندما وصاه به جده عبد المطلب، إذ بادر بضم ابن اخيه إلى اولاده يقاسمهم السراء و الضراء، و كان يحبه حباً شديداً، فكان لا ينام إلا

ص: 313

إلى جنبه، و يخرج خارج البيت فيخرج معه.

و ما زال كذلك حتى كبر و بلغ اثنتي عشرة سنة، ألف أثناءها صحبته.

فلما أراد ابو طالب المسيرة إلى الشام للتجارة مع القافلة القرشية، قال له ابن أخيه: «أي عم، إلى من تخلفني ههنا، فمالي أم تكفلني، و لا أحد يؤويني؟»

فرق له ثم اردفه خلفه، و رحلا معاً في القافلة حتى نزلت بجوار صومعة يتعبد فيها راهب يدعى «بحيرا»، فما إن رأى هذا الغلام مع عمه حتى جعل يتفرس فيه و يلحظه لحظاً شديداً، و ينظر إلى علامات في جسمه كان يعلم عنها من القراءة في كتبه المقدسة.

فلما كشف على ظهره، رأى خاتم النبوة بين كتفيه فقبله، و أخذ یوصي عمه به، و يحذره من غدر اليهود، فإن الله قد اختاره ليكون نبي هذه الأمة.

و أراد الله ان يكون هذا النبي من العرب، و اليهود يريدون أن تكون النبوة مقصورة على بني إسرائيل، و لذلك فسوف يحسدونه، و لن يتورعوا عن القضاء عليه إذا سنحت لهم الفرصة و وجدوا إلى قتله سبيلاً.

ثم شب إبن أخيه في كنفه، فكان احب الناس اليه، يفضله

ص: 314

و يقدمه على أولاده، و يحوطه بعطفه و رعايته، و يعنى بتنشئته حتى كبر و أصبح رجلاً

«افضل قومه مروءة، و أحسنهم خلقاً، و أكرمهم مخالطة، و أحسنهم جواراً، و أعظمهم حلماً و أمانة، و أصدقهم حديثاً، و أبعدهم من الفحش و الأذى».

و تحققت نبوءة الراهب «بحيرا»، و نزل جبريل على رسول الله عندما بلغ الأربعين، فأخبره أن الله اصطفاه و ارسله نبياً شاهداً، و مبشراً و نذيراً إلى قومه و إلى الناس كافة، يدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، و إلى الأخلاق الفاضلة، و ينهاهم عن كل فاحشة.

فأبى زعماء الأرستقراطية الوثنية أن يصدقوه، و رفضوا أن یتركوا الشرك بالله، فجعلوا الأوثان له انداداً و شركاء، و حاربوه حرباً عنيفة شرسة.

و لكن أبا طالب وقف في وجه شياطينهم يذود عنه، و نشر عليه مظلة من حمايته، فلم يستطيعوا أن يحولوا بينه و بين رسالته برغم ما قاسى هو و الذين آمنوا معه من عناء و تعذيب، إلى أن كانت المقاطعة الظالمة و الحصار اللعين، فدخل معه أبو طالب ثلاثة أعوام في الشعب، قاسى فيها شظف العيش، حتى أذن الله لنبيه بالنصر، فخرج ابو طالب و ابن أخيه و انصارهما موفوري الكرامة، و اصبحت لهم بين القبائل الكفة الراجحة، و أصاب

ص: 315

المشركين الخزي و الهزيمة.

فلما مات ابو طالب تنفس المشركون الصعداء، لأن هذا الشيخ كان وحده القادر على ان يجمع حوله بني هاشم و بني المطلب الذين كانوا يأتمرون بأمره و يتبعونه دون جدال او مناقشة.

كما كان متصلاً بالنسب مع عشائر قريش الأخرى و بخاصة مع باقي بطون عبد مناف.

فكانت قريش كلها تحترمه و تهابه، و لذلك نجح في تكوين جبهة صلبة وقفت بجواره تذود معه عن ابن اخيه، و افلح في تعضيده و نصرته حتى النصر في معركة المقاطعة على شدتها، و ذاقوا امام صبره و كفاحه الهزيمة الشنيعة.

و لكن موته المفاجيء، بعد هذا النصر، قلب الموقف رأساً على عقب، فتغير ميزان القوى بين الفريقين، و رجحت كفة المشركين، و شعروا بالقوة و غلبة الكثرة بعد الضعف، و استرجعوا كبرياءهم.

و تطلع شياطينهم مرة أخرى إلى القضاء على «محمد» رغبة منهم في اجتثاث دعوته من جذورها حتى ينصروا اوثانهم و يسترجعوا ما فقدوه من كرامتهم، و اخذوا يتحينون لذلك الفرصة المواتية للانقضاض عليه.

ص: 316

و لما توفي أبو طالب ذهب عليّ، كرّم الله وجهه، إلى رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. فأبلغه الخبر .. فحزن الرسول الوفي حزناً شديداً ..

و قال لعليّ:

«اذهب و غسله و داره غفر الله له و رحمه» ..

و غلب عليه الحزن .. فقال إنه سوف يستغفر له ربه ما لم ينهه الله عن ذلك ..

«و اعتكف في منزله يستغفر الله له و يبكيه ..»

ثم ماذا؟!

ثم مصيبة اخرى .. قد تكون اشد من موت أبي طالب!!

ص: 317

ص: 318

وفاة .. ام المؤمنين خديجة .. عليها السلام؟!

ص: 319

ص: 320

اما

ابن الأثير فيقول:

«توفّي ابو طالب .. و خديجة .. قبل الهجرة بثلاث سنين .. و بعد خروجهم من الشّعب ..

«فتوفّي أبو طالب في شوّال .. او في ذي القعدة .. و عمره بضع و ثمانون سنة.

«و كانت خديجة ماتت قبله بخمسة و ثلاثين يوماً .. و قيل . كان بينهما خمسة و خمسون يوماً .. و قيل . ثلاثة ايام ..

«فعظمت المصيبة على رسول الله ... صلى الله عليه و سلم .. بھلا کهما ..»

اقول .. عند ابن الأثير .. انّ خديجة .. ماتت قبل أبي طالب ..

ص: 321

و أما في «أسد الغابة» فيقول:

عن إبن إسحاق قال:

«ثم إن خديجة توفيت بعد ابي طالب .. و كانا ماتا في عام واحد .. فتتابعت على رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. المصائب بهلاك خديجة و ابي طالب .. و كانت خديجة وزيرة صِدْق على الاسلام .. كان يسكن اليها ..

و قال أبو عبيدة معمر بن المثنى:

«توفيت خديجة قبل الهجرة بخمس سنين ..

«و قيل . باربع سنين» ..

و قال عروة و قتادة:

«توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين ..

«و هذا هو الصواب ..

و قالت عائشة:

«توفيت خديجة قبل أن تُفرض الصلاة ..

«قيل: إن وفاة خديجة كانت بعد ابي طالب بثلاثة

ص: 322

ايام ..

«و كان موتها في رمضان ..

«و دفنت بالحَجون ..

«قيل: كان عمرها خمساً و ستين سنة.»

اما الامام العيني في شرحه على البخاري فيقول:

«كانت إذ تزوجها رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. بنت اربعين سنة ..

«و اقامت معه أربعاً و عشرين سنة ..

«و توفيت و هي بنت أربع و ستين سنة .. و ستة اشهر ..

«و توفيت قبل الهجرة بخمس سنين .. و قيل باربع ..

و قال قتادة:

«قبل الهجرة بثلاث سنين ..

قال أبو عمر:

«قول قتادة عندنا أصح ..

و قال أبو عمر:

ص: 323

«يقال إنها توفيت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام ..

«توفيت في شهر رمضان ..

«و دفنت في الحَجون ..

و أما في كتاب (خديجة ام المؤمنين) فيقول:

«و انتقلت إلى جوار الواحد الأحد ..

«في اليوم العاشر .. من شهر رمضان ..

في العام العاشر .. من بداية إشراق فجر الاسلام ..

«بعد موت ابي طالب بشهر و خمسة أيام ..»

ماذا نستخلص من هذه الروايات؟!

أنَّ خديجة .. عليها السلام .. ماتت بعد وفاة أبي طالب، بأيام معدودات ..

و أنها توفيت .. قبل الهجرة بثلاث سنين .. و هذا هو الأصح ..

و أنَّ عُمرها عند الوفاة كان خمساً و ستين سنة .. و قيل: و هي بنت أربع و ستين سنة و ستة أشهر .. أي و هي تقطع العام الخامس و الستين ..

و أنّ وفاتها كانت في اليوم العاشر من شهر رمضان .. في العام

ص: 324

العاشر من البعثة.

و أنها دُفنت في الحَجون .. بمكة المكرمة.

هذا ما تيسَّر لنا استخلاصه .. في شأن وفاة أم المؤمنين .. خديجة .. عليها السلام ..

أما تصوير مشهد الوفاة .. كما ذهب إلى ذلك .. بعض مَن كتبوا في الموضوع ..

فإني لا أفعل كما فعلوا ..

لكن أقول: ينبغي تنزيه المقام .. عن لغو الكلام!!

ص: 325

ص: 326

شخصية خديجة .. عليها السلام؟!

ص: 327

ص: 328

لماذا

اختارها الله .. من دون نساء العالمين .. لتكون زوجاً له .. صلّی الله علیه و سلم .. قبل النبوة .. و في بداية النبوة؟!

لماذا كانت ذات مال؟!

لماذا كانت هي أوَّل مَن آمن على الاطلاق .. لم يسبقها رجل و لا امرأة إلى الاسلام؟!

لماذا ..و لماذا .. و لن تجد جواباً على هذا .. حتى تفرغ من قراءة هذا الفصل كاملاً!!

ص: 329

أوَّل خَلق الله اسلم ..

باجماع المسلمين؟!

هذا مقام عظيم .. تنفرد به أم المؤمنين خديجة .. علیها السلام ..

قالوا:

«خديجة بنتُ خُوَيلد ..

«أم المؤمنين ..

«زوج النبي .. صلّى الله عليه و سلم ..

«اول امراة تزوّجها ..

«و اول خلق الله اسْلَم ..

«باجماع المسلمين ..

«لم يتقدمها رجل و لا امرأة.»!!

ما معنى هذا؟!

ص: 330

معناه أنها تنفرد بمقام .. لا يشاركها فيه أحد .. رجُلاً كان أو امرأة ..

معناه أنَّ على كلِّ رجل .. و على كلّ امرأة .. في هذه الأُمة، إلى أن تقوم الساعة، أن يُوقرها، و يعرف لها فضلها و سَبقها ..

إنّ فَرْقَ ما بين إيمان خديجة .. و إيمان فردٍ منا، كفرْق ما بين السماء و الأرض ..

جاءها .. يقُصّ عليها، ما كان مِن بدء الوحي اليه .. صلّى الله عليه و سلم ..

فكانت له .. قُرَّة عين .. و مودَّة .. و إيماناً فوق ذلك!!

إن مصيبتنا و بليَّتنا، نحن أبناء الاسلام اليوم .. أننا أخذنا الإسلام ميراثاً عن الآباء .. سهلاً ليِّناً سائغاً للشاربين ..

صلوات نؤديها، و تسبيحات نهتزُّ بها .. ثم نتمطى إلى فرُشنا، كسالى .. لا نفقه من هذا الاسلام شيئاً .. إلا أن نتعبد لندخل الجنة!!

لكن هؤلاء .. لم يكونوا كذلك ..

كانوا شيئاً آخر .. كانوا زلزلة تزلزل الأرض .. فتستجيب لهم السماء ..

ص: 331

اشتركوا في بناء بنيان الاسلام، لبنة لبنة ..

و تعبوا و ضَحُّوا بالأنفس و الأموال و الأوطان و الأولاد و الآباء، ليرتفع البناء.

ثم جئنا من بعدهم بغبائنا، وَرثنا هذا الاسلام، فأثقلناه بجهلنا و وهننا و ضعفنا ..

و بلغ من هوانٍ .. أن جمَّدْنا الاسلام الذي هو أوسع من السماوات و الأرض .. جمدناه في صلوات و تراتيل!!

لكن اصحابه كانوا شيئاً آخر .. غير هذا الغثاء!!

فإذا قيل .. خديجة أول خَلْق الله أسلَم .. باجماع المسلمين .. لم يتقدمها رجل و لا امرأة، تحتم على عقولنا أن تتفكّر ..

كيف كانت عزيمة امرأة، تواجه حَدَثاً جديداً كهذا لأوَّل مرة في حياتها، و حياة العالم أجمع؟!

ألم تُفكر تلك المرأة العظمى .. ما معنى أن زوجها قد صار نبیّاً .. و ما يستتبع ذلك من متاعب تعجز عن حملها

الجبال؟!

ها هو وَرَقَة ابن عمها .. يؤكد لزوجها .. أنَّ قومه سوف يؤذونه، و يخرجونه ..

ص: 332

فماذا هي صانعة آنذاك .. حين يفعلون أفاعيلهم بزوجها و بها؟!

إنما مَثَلُ خديجة .. لحظة إيمانها برسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. كمثل مَن فاجأته ريح عاصف قاصف، و هو في وسَط البحر، فإن لم يستجمع قواه كلها .. ابتلعه البحر و اغرقه ..

كذلكم كانت .. و هي تستمع اليه .. صلّی الله علیه و سلم

كانت قوّة قاهرة .. قهرت ظلمات الكفر و الشرك و الضلال ..

و خرجت من تلك الظلمات كلها، إلى النور ..

فآمنت به، و بما رأى.

و هتفت، من أعماق فؤادها:

«كلّا .. والله .. ما يُخزيكَ الله ابداً»!!

فأين إيمان امرأة آمنت اليوم ..

من إيمان امرأة، استقبلت الموجة الأولى و خدها ..

لم يكن فوق الأرض .. مؤمناً .. و لا مؤمنة .. إلّا إياها!!

ص: 333

عليها السلام!!

الطاهرة؟!

«كانت تدعى في الجاهلية: الطاهرة» ..

اشتهرت خديجة قبل الاسلام بالطاهرة ..

فما معنى هذا؟

معناه أن هناك اجماعاً من قومها على فضائلها و حسن أخلاقها!!

كانت تاجرة؟!

«كانت خديجة امرأة تاجرة .. ذات شرَف و مال ..»

أقول .. أصلحُ الناس للسياسة .. الذين يعملون في التجارة، لأن التاجر يباشر الحياة يومياً .. و يلتقي مع نوعيات من البشر ..

ص: 334

فيكسبه ذلك معرفة بحقائق الحياة .. و واقع الناس ..

ومن هنا .. أدركت خديجة في سرعة .. عظمة معدن رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. و أنه معدن آخر .. غير معادن الرجال ..

«و عرضت عليه ان يخرج في مالها إلى الشام تاجرا .. و تعطیه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار ..»!!

حازمة .. لبيبة .. شريفة؟!

«و كانت خديجة امرأة حازمة لبيبة شريفة ..»

هذه عناصر مكونات شخصيتها ..

حازمة؟! تدير الأمور في حزم و عزم .. لا تسيُّب و لا إهمال ..

لبيبة .. سريعة الفَهْم .. سريعة الادراك .. تمتاز بذكاء خارق ..

شريفة .. فهي من أعلى نساء قريش نسباً .. و هي شريفة الخصال .. تنأى عن سفاسف الأمور .. و تسعى إلى أعاليها ..

ص: 335

و هذه كلها صفات لازمة .. و مطلوب توافرها في المرأة التي سوف ترشحها الأقدار لتكون زوجة للنبيّ القادم!!

أعظم نساء قريش شرفاً؟!

كانّ المطلوب هو البحث عن امرأة .. على أن تكون خير امرأة في قريش .. لتصبح زوجاً .. لخير رجل في قريش ..

فكانت خديجة .. خير امرأة في قريش ..

هي التي تصلح زوجة .. لخير رجل في قريش .. محمد .. الأمین ..

و سارت الأمور .. لتحقيق ذلك الهدف

«إنّا كلّ شيْءٍ خَلقْناه بقَدَرٍ.» ..

نعم .. إنه التدبير الإلهي .. المُحكم!!

«فلما أخبرها ميسرة .. بعثت إلى رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. فقالت له:

ص: 336

«إني قد رَغبتُ فيك .. لقرابتك مني .. و شرفك في قومك .. و أمانتك عندهم .. و حسن خُلْقِك .. و صدق حديثك» ..

إنها تبحث عن اعظم رجل في قريش .. تبحث عن الرجل الذي يوازيها في المحاسن .. ليكون ندّاً لها .. أهلاً لزواجها ..

فوجدته .. بل وجدت أعظم مما كانت تتصور ..

فهو أشرف قومه نَسَباً ..

و أعظمهم أمانة .. (الأمين) ..

و أحسنهم خُلُقاً ..

و أصدقهم حديثاً ..

«ثم عرضت عليه نفسها ..

«و كانت أوسط نساء قريش نسباً ..

«و أعظمهم شرفاً ..

«و أكثرهم مالاً ..»!!

فالتقت في زواجهما .. المحاسن بالمحاسن ..

كل أولئك كان عند ربِّك مقدوراً!!

ص: 337

فولدت .. أولاده كلهم .. الا ابراهيم؟!

«ولدت له خديجة غلامين .. و أربع بنات ..»

فما الاشارة من هذا؟.

الاشارة أنها سيدة وَدُودٌ وَلودٌ .. و هاتان الصفتان هما خير صفات الزوجة الصالحة ..

و كانت من صفات خديجة ..

فقد ثبت أنها ولدت لمن تزوجاها قبل رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم ..

«و كانت خديجة .. قبل رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. تحت ابي هاله بن زُرارة ..

«ثم خلف عليها .. بعد أبي هالة .. عتيقُ بن عابد ..

«فولدت له (هند بنت عتيق) .. »

ص: 338

و قد ورد كذلك أنها ولدت لأبي هالة ..

«هند بنت أبي هالة .. و هالة بن أبي هالة» ..

«فهند بنت عتيق ..

«و هند .. و هالة .. إبنا أبي هالة .. كلهم إخوة اولادِ رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. من خدیجة.»

ثم ماذا ؟!

ثم كانت الذرية الطاهرة فيما بعد .. من نسل خديجة!!

اعظم لحظة في حياتها؟!

تقدم أن اعظم لحظة في حياتها .. كانت حين استقبلت مفاجاة الوحي .. و قالت:

« کلا .. واللهِ .. لا يُخزيك الله أبداً» ..

و لكن الجديد هنا هو: ما هي شخصية خديجة .. في ضوء هذا المشهد؟!

ص: 339

يدلّ هذا المشهد على أنها شخصية قوية غاية القوة ..

«فرجع بها رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. يرجُفُ فؤاده .. فدخل على خديجة .. فقال زَمِّلوني .. فزمِّلوه حتى ذهب عنه الروع .. و قال لخديجة و أخبرها الخبر: لقد خَشيتُ على نفسي ..

«فالت خديجة: «كلا والله لا يخزيك الله أبداً .. إنك لتصلُ الرحمَ ..»

الخ ..

ها هنا قوة الشخصية .. لم تتزلزل .. لم ترتجف .. لم تتوهم أوهاماً كما هي عادة النساء ..

و إنما ثبات و تثبيت .. و تأكيد و تبشير لرسول الله .. صلّى الله عليه و سلم ..

ثم أتبعت ذلك كله بما يدلّ على رجاحة عقلها .. و أنها حقاً امرأة لبيبة ..

«و انطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل ..

«يا ابن عمّ .. اسمع من ابن أخيك» ..

ص: 340

هكذا تصرفت سريعاً!!

عقل راجح .. و حزم في الامور!!

قوّة عقلية خارقة؟!

عن خديجة أنها قالت لرسول الله .. صلّی الله علیه و سلم:

«يا ابن عم .. هل تستطيع أن تُخبرني بصاحبك الذي يأتيك إذا جاءك؟

«قال: نعم ..

«فبينا رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. عندها .. إذ جاءَه جبريل ..

«فقال رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم: هذا جبريل قد جاءني ..

«فقالت: أتراه الآن؟

«قال: نعم.

«قالت: اجلس على شِقّي الأيسر ..

«فجلس ..

ص: 341

«فقالت: هل تراه الآن؟.

«قال: نعم ..

«قالت: فاجلس على شقي الأيمن ..

«فجلس ..

«فقالت: هل تراه الآن؟

«قال: نعم ..

«قالت: فتحوَّل فاجلس في حجري ..

«فتحول رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. فجلس ..

«فقالت: هل تراه؟

«قال: نعم ..

«قال: فتحسَّرت (قعدت حاسرة مكشوفة الرأس) و القت خمارها ..

«فقالت: هل تراه؟

«قال: لا ..

«قالت: ما هذا شيطان .. إن هذا لَمَلَك يا ابن عَمّ .. أثبت و أبشر ..

ص: 342

«ثم آمنت به ..

«و شهدت ان الذي جاء به الحق.»!!

أقول .. هذه قصة خطيرة جداً .. في فَهْم شخصية خديجة ..

إنها قامت باختبار معملي -بلغة اليوم- لتتأكد بنفسها هل الجائي مَلَك أم شيطان ..

ثلاث مرات .. تطلب من رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم. أن يجلس ..

«اجلس على شِقّي الأيسر ..

«فأجلس على شِقّي الايمن ..

«فتحوّل .. فأجلس في حجري ..»

و في كل مرة تسأله: هل تراه الآن؟

و رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. يجيب في كل مرّة: نعم!!

ثم القت خمارها .. و قعدت مكشوفة الرأس ..

ص: 343

فقالت: هل تراه؟

قال: لا ..

فاستدلت بعبقريتها .. و بالتجربة العملية التي لا تكذب .. على ان الذي يأتي إلى رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. مّلّك و ليس بشيطان!!

«ما هذا شيطان .. إن هذا لَمَلَك يا ابن عمّ .. اثبت و أبشر ..»

و تأكد لخديجة أنه مَلَك .. و ما هو بشيطان .. حين اختفى من المجلس عندما جلست مكشوفة الرأس .. لأن الملائكة لا تطلع على العورات!

أختبارات معملية .. و نتائج عملية .. و استنتاجات منطقية .. اليس هذا دليل العبقرية؟!

اثبت .. و ابشر؟!

أن تتأكد خديجة أنُّ الذي يأتي مَلَك و ليس بشيطان .. قد

ص: 344

يكون هذا شيئاً ممكناً من امرأة ممتازة عقلاً و تفكيراً ..

و لكن الذي يثير الدهشة حقاً .. أن تبادر لفورها إلى الايمان، برسول الله .. صلّی الله علیه و سلم ..

«ما هذا شيطان ..

«إن هذا لَمَلَك يا ابن عمّ ..

«أثبُت!!

«و ابشر!!

«ثم آمنت به!!

«و شهدت أن الذي جاء به الحق»!!

و لا تحسبنَّ أن هذه المواقف ممكنة لأي بَشر ... كلّا .. فإنها تؤمن بشيء لم يسبقها اليه أحَد .. و هذا يحتاج إلى قوة خارقة .. توازي القُوى المضادة للايمان .. توازي قوة الناس جميعاً آنذاك .. حيث لم يكن مؤمناً على وجه الأرض إلا خديجة!!

و أُعجب و أُعجب ..

ان تثبِّت رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. و ان تبشره ..

«اثبت .. و ابْشِر»!!

فهل في النساء مِثل خديجة؟!

ص: 345

فَرَّج الله عنه بها؟!

«و كانت خديجة أوّل مَن آمن بالله و رسوله ..

«و صدّق بما جاءَ به ..

«فخفَّف الله بذلك عن رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم ..

«لا يسمع شيئاً يكرهه من رَدٍّ عليه .. وتكذيب له .. فيحزنه ..

«إلا فَرَّج الله عنه بها ..

«إذا رجع اليها تُثَبِّته .. و تخفِّف عنه .. و تصدِّقه ..

«و تهون عليه أمر الناس .. رضي الله عنها.»

اقول .. هذا أخطر دور لخديجة في حياة رسول الله ..

ص: 346

صلّی الله علیه و سلم ..

فردٌ .. واحدٌ .. لا ثاني له ..

حمَّله الله .. أثقل تكليف يُلقى على بَشر ..

لا أحدَ من حوله .. يؤمن به .. أو يُصدِّقه ..

فتتقدّم تلك المرأة اليه .. و هو وحدَه ..

وحيداً؟! لا يجد من يُصَدِّقه من الناس ..

فتاتي سيدة الاسلام الأولى .. فتؤمن به .. و تصدِّق بما جاء به.

و يشعر .. صلّی الله علیه و سلم .. لأوَّل مرّة .. أنّ هناك بَشَراً يُصَدِّقه!!

عليكِ سلام الله .. يا أُمَّاه .. يا أم المؤمنينَ ..

حين آنسْتِ رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم ..

و حين خفّقتِ عنه ..

و حين صَدَّقتِ بما جاءَ به!!

ص: 347

لماذا بيتها في الجنَّةِ .. لا صَخَب فيه و لا نصب؟!

كما جعلت بيتها في الدنيا .. جنّة .. لا صَخَب فيها و لا نصَب ..

فإن الجزاء من جنس العمل .. جعل الله بيتها في الجنة .. لا صخب فيه و لا نصب!!

و هذا دور آخر خطير .. قامت به خديجة .. في حياة رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم ..

خمساً و عشرين سنة، جعلت فيها بيتها جنة وارفة الظلال، فلا ضجيج و لا صخب .. و لا نَصب -أي تعب- یصیب

رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. في بيتها .. و إنما هي تحمل عنه متاعب الحياة الزوجية و همومها ..

ما أعظم الدور الذي قامت به خديجة .. في حياة رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم ..

ص: 348

فهي تعمل دائماً ليكون أسعد زوج ..

و هو حريص أن يجعلها أسعد زوجة ..

فلما أكرمه الله بالنبوة .. كانت أشد حرصاً عن ذي قبل .. على تحقيق الجو الملائم لتلك المرحلة لخطيرة ..

فزادت من حفاوتها .. برسول الله .. صلّی الله علیه و سلم ..

و زادت من السكينة اللازمة لتنزُّل الوحي .. و لقاء الملائكة ..

فأعطاها الله. بدلاً من بيتها في الدنيا .. الذي هو بیت رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم ..

بيتاً في الجنة من قَصب .. لا صَخب فيه و لا نَصب!!

و هل جزاء الإحسان، إلا الإحسان؟!

إشارة جميلة جداً؟!

خديجة جعلت بيتها مدة خمس و عشرين سنة .. جنة لا تسمع فيها صخباً، و لا تحس فيها بنَصَب ..

و كل ذلك كان منها عن حُبٍّ و تضحية و إخلاص ..

و كان لذلك أكبر الأثر في حياة زوجها .. صلّی الله علیه و سلم .. و أداء الرسالة التي أمره الله بابلاغها.

فأثابها بدلاً من الخمس و عشرين سنة .. نعيماً أبدياً ..

ص: 349

و بدلاً من بيتها من الطين و الحجارة .. بيتاً من قَصب، من لؤلؤ مجوف ..

و بدلاً من السكون و السكينة، في بيتها الدنيوي .. بيتاً لا صخب فيه و لا نصب!!

احدى الكاملات الاربع؟

عن ابن عباس قال:

«خطّ رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. في الأرض أربع خطوط ..

«قال: أتدرون ما هذا؟

«قالوا: الله و رسوله أعلم ..

«فقال رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم:

«أفضل نساء اهل الجنة خديجة بنت خويلد ..

«و فاطمة بنت محمد ..

«و مريم بنت عمران ..

«و آسية بنت مُزاحم امرأة فرعون.»

[مسند الإمام أحمد]

ص: 350

أمّا خديجة .. فهي ما علمتَ و قرأتَ ..

عبقرية في اختيار محمد .. صلّی الله علیه و سلم .. زوجاً لها ..

القت بأشراف قريش بعيداً .. و عرضت نفسها عليه ..

فأثبتت بذلك عبقريتها في اختيار الرجال!

و عبقرية في التمييز بين الحقّ و الباطل ..

القت بمعتقدات قومها كلها .. و آمنت بالله و رسوله .. قبل أن يؤمن بذلك أحد على ظهر الأرض!!

و عبقرية في تحويل بيتها إلى معبد يموج بأمواج الايمان ..

فبدأت بنفسها فآمنت ..

ثم دفعت بناتها الأربع فآمنَّ ..

و آمن عليّ بن أبي طالب ..

و آمن زيد بن حارثة ..

فتحول البيت إلى معبد .. على رأسه رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم ..

هي و بناتها الأربع مؤمنات ..

و عليّ بن أبي طالب .. أوّل صبيّ آمن ..

و زيد بن حارثة .. أول من آمن بعد عليٍّ في البيت

ص: 351

الکریم ..

فتحول البيت النبوي إلى معبد .. يموج بالايمان موجاً ..

كما تتلألأ عبقريتها في تثبيتها لرسول اللهِ .. صلّى الله عليه و سلم:

«اثبت و أبشر» ..

اني رُزقت حُبها؟!

ها هنا مفتاح خطير .. من مفاتيح الشخصية ..

أنَّ رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم .. كان يُحبُّها ..

و نص الحديث:

عن عائشة قالت:

«ما غِرْتُ على نساء النبيّ .. صلّی الله علیه و سلم.

«إلّا على خديجةَ .. و إني لم أُدركها ..

«قالت: و كان رسولُ الله .. صلّی الله علیه و سلم .. إذا ذَبَح الشاةَ فيقولُ:

ص: 352

أرسِلوا بها إلى أصدقاء خديجةَ ..

«قالتْ: فأغضبْتُهُ يوماً .. فقُلتُ: خديجةَ ..

«فقال رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم: إني قَدْ رُزقت حبَّها.»

[أخرجه مسلم]

و من حيث أن النبيّ .. صلّى الله عليه و سلم .. لم يتزوّج على خديجة حتى ماتت.

فمعنى هذا ان خديجة .. منفردة .. ظفرت بحُبِّ النبيِّ .. صلّى الله عليه و سلم .. لها .. مدة خمس و عشرين سنة ..

و من حيث أن النبيّ .. صلّى الله عليه و سلم .. كان يذكرها كثيراً بعد مماتها.

فمعنى هذا أن خديجة .. كانت أحبّ نسائه اليه .. حيَّة .. و مَيْتة ..

أمّا في حياتها .. فقد انفردت بحبِّه .. لم يشركها في حبّه احد من النساء، حيث لم يتزوج عليها حتى ماتت ..

و أما في مماتها .. فكانت أحبّ اليه، و كان حُبُّه إياها .. يثير غيرة عائشة ..

ص: 353

عن عائشة قالت:

«ما غِرْتُ على امرأةٍ .. ما غِرْتُ على خديجةَ ..

«و لقد هَلكتْ قبل ان يتزَّوجني بثلاثِ سنينَ.

«لِما كنتُ أسمعُهُ يَذكرُها ..

«و لقدْ أمَرَهُ ربُّهُ عزَّ وجلَّ أن يُبشّرَها ببيْتٍ مِن قصبٍ في الجنّةِ ..

«و إن كانَ ليذبَحُ الشاةَ ثم يُهدِیَها إلى خلائِلِها.»

[أخرجه مسلم]

و في هذا الحديث دلائل حُبِّه .. صلّى الله عليه و سلم .. لخديجة .. بعد موتها ..

فإن علامة الحبّ .. كثرة ذكر المحبوب ..

و كانت عائشة تغار من خديجة .. بعد موتها .. و رغم أنها لم تُدركها ..

لأنها تشعر ان النبي .. صلّى الله عليه و سلم .. ما زال على حُبّها .. رغم أنها قد ماتت!!

و هذا هو أعلى الحبّ ..

ص: 354

الحبُّ الذي يستمر بعد وفاة المحبوب، بل يزيد!!

لماذا احَبها اكثر؟!

إذا قال .. صلّى الله عليه و سلم:

إني رُزقْتُ حُبَّها ..

تحتم أن نسأل: لماذا أحَبها، و ظلّ يذكرها و يثني عليها بعد مماتها؟!

الجواب مكنون في الحديث الآتي:

عن عائشة قالت:

«كان رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خدیجة

«فيحسن الثناءَ عليها ..

«فذكرها يوماً من الأيام، فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً .. فقد أبدلك الله خيراً منها؟!

«فغضب حتى اهتز مُقدّم شعره من الغضب ..

ص: 355

ثم قال:

«لا .. والله ما أبدلني الله خيراً منها ..

«آمنَتْ إذ كفر الناس ..

«و صدّقتني و كذّبني الناس ..

«و واستني في مالها إذ حرمني الناس ..

«و رزقني الله منها اولاداً إذ حرمني اولاد النساء ..

«قالت عائشة: فقلتُ في نفسي: لا أذكرها بسيئة أبداً.»!!

اقول .. يُستنبط من قوله:

(والله ما ابدلني الله خيراً منها) ..

ان خديجة أفضل نساء النبي .. صلّى الله عليه و سلم .. على الاطلاق .. حيث ان النبيّ صلّى الله عليه و سلم .. يُقْسِم ما أبدله الله خيراً منها .. إذن هي خير نسائه، حيث لا احد منهنّ خيراً منها!!

و يستنبط من قوله:

(آمنتْ إذ كفرَ الناس) ..

ص: 356

أنها أوَّل من آمنَ على الاطلاق .. لم يسبقها رجل و لا أمرأة، و أنّ سبقها هذا إلى الايمان به صلّى الله عليه و سلم .. زاده حُبّاً لها، فإن الشدائد تكشف حقيقة المعادن .. و ها هي خديجة تسارع الى تصديقه .. و تسبق الناس جميعاً إلى ذلك ..

لم تتلعثم .. لم تتريث .. لم تتفكر .. و لكن فوراً، و في قوّة و ثبات و استعداد للتضحية بكل ما تملك في سبيل الله، و في تأييد رسول الله .. زوجها الذي تحبه من قبل ان يُبعث، و ازدادت له حبّا بعد أن بُعِثَ!!

لقد كانت خديجة عظيمة الحبِّ لمحمد، قبل أن يُبعث ..

تحبه من كل قلبها، و يملك عليها فؤادها ..

فلما أنباها أنّ الله قد بعثه رسولاً ... آمنت به من فورها، لإنها تُحبُّه حُبّاً شديداً .. و تعلم بالتجربة طيلة خمس عشرة سنة، أنه صادق، أمين .. لم يكذبها قطّ، و أنه على خُلُق عظيم، لم تسمع و لم تشهد خُلُقاً مثل خُلُقِه ..

و من لم يكذب على الناس .. مستحيل أن يكذب على الله ..

و مَن كان هذا خُلُقُه مستحيل أن يفتري على الله كذباً ..

فآمنت به لفورها يدفعها إلى الايمان سببان ..

الأول .. أنها تُحبُّه أكثر من حُبّها لنفسها ..

ص: 357

الثاني .. أنها تعلمه علم اليقين .. انها تعلمُ: مَن محمد؟! ما جرّبَت عليه كذباً قط، و لا رأت منه عَيْباً قطّ .. فمن يكون النبيّ إن لم يكن محمد؟!

و لذلك صدّقَتْه فوراً، و سجّل لها ذلك النبيّ .. صلّى الله عليه و سلم:

(و صدّقتني و كذّبني الناس) ..

و يُستنبط من ذلك أن موقفها حين صدّقته أوّل الناس حيث كذّبه الناس .. زاده صلّى الله عليه و سلم .. حُباً لها على حبٍّ!!

و هكذا تزوجته .. صلّى الله عليه و سلم .. عن حُبٍّ.

و دليل ذلك قولها له:

«إني قد رَغبتُ فيكَ» ..

و تزوجها رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. و عاشرها خمساً و عشرين سنة، و هو يحبها:

«إني قد رُزقتُ حُبّها» ..

زوجان متحابان ..

ص: 358

فلما بعثه الله رسولاً، ازدادت له حُبّاً .

فلما اندفعت إلى الايمان به .. ازداد لها حُبّاً ..

و هكذا مع الأيام و الليالي، تبارك ذلك الحب القائم بينهما .. و أثمر و أينع ..

حتى إذا ماتت خديجة، بقي حبُّها حيّاً يتجدد مع الأيام ..

«كان رسول الله .. صلّى الله عليه و سلم .. لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة .. فيحسن الثناء عليها ..»!!

خيرُ نسائها خديجة؟!

عن عليٍّ .. رضي الله عنه ..

«عن النبيّ .. صلّى الله عليه و سلم .. قال:

«خيرُ نسائِها مرْيَمُ ..

«و خيرُ نسائِها خديجةُ.»

[أخرجه البخاري]

ص: 359

قالوا: الضمير (الأول) في «نسائها»، يرجع إلى الأمة التي كانت فيها مريم عليها الصلاة و السلام ..

و (الثاني) إلى هذه الأمة .. و لهذا كرر الكلام تنبيهاً على أن حُكم كل واحدة منهما غير حكم الأخرى ..

و قيل: المراد نساء الدنيا .. و ان الضميرين يرجعان إلى الدنيا .. أي: خير نساء الدنيا ..

أقول .. على القول الأول .. خديجة خير نساء الامة ..

و على القول الثاني .. خديجة خير نساء الدنيا ..

و سواء هذا أو ذاك .. فإنها ارتفعت إلى هذا المقام .. بأنها أول حلق الله أسلم .. لم يسبقها رجل و لا إمرأة إلى الاسلام!!

يا رسول الله .. اين أُمي .. خديجة؟!

عن عائشة .. رضي الله عنها .. قالت:

«ما غِرْتُ على امرأةٍ للنبيّ .. صلّى الله عليه و سلم .. ما غِرْتُ على خديجةَ ..

«هَلكت قبلَ أن يتزوّجني ..

ص: 360

«لما كنتُ اسمعُهُ يذكرُها ..

«و أمرَه اللهُ أن يُبشرَها ببيتٍ من قَصبٍ ..

«و إن كانَ ليذبَحُ الشاةَ فيُهدي في خلائلها منها ما يسعُهُنّ.»

[أخرجه البخاري]

«ببيتٍ من قَصب»، يقال: القصب هنا اللؤلؤ المجوف الواسع كالقصر المنيف ..

«و قد جاء في رواية عبد الله بن وهب: قال أبو هريرة: قلت: يا رسول الله و ما بيت من قَصب؟ قال: بيت من لؤلؤة مجوفة ..»

و روى أبو القاسم بن مطير -باسناده- عن فاطمة .. رضي الله تعالى عنها، سيدة نساء العالمين، انها قالت:

«يا رسول الله .. أين أمي خديجة؟

«قال: في بيت من قصب، لا لغو فيه و لا نصب، بين مريم و آسية امرأة فرعون ..

«قالت: يا رسول الله، أمن هذا القصب؟

«قال: لا .. من القصب المنظوم بالدر و اللؤلؤ و الياقوت»!!

و قالوا: كيف بشرها ببيت و أدنى اهل الجنة منزلة من يعطى مسيرة

ص: 361

الف عام في الجنة، كما في حديث ابن عمر عند الترمذي؟!

قيل: ببيت زائد على ما أعده الله لها من ثواب اعمالها ..

و قيل: إنه من باب المشاكلة، لأنها كانت ربة بيت في الاسلام، و لم يكن على وجه الأرض بيت إسلام إلا بيتها حين آمنت، و جزاء الفعل يذكر بلفظ الفعل و إن كان أشرف منه .. كما قيل

«من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة» ..

لم يرد مثله في كونه مسجداً و لا في صنعته، و لكنه قابل البنيان بالبنيان ..

«کما بنی .. بنی له.»!!

ان الله هو السلام .. و على جبريل السلام .. و عليك يا رسول الله السلام .. و رحمة الله و بركاته؟!

عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:

«أتى جبريلُ .. النبي .. صلّی الله علیه و سلم .. فقال:

ص: 362

«يا رسولَ الله .. هذه خديجةُ قدْ أتَتْ معها إناءٌ فيهِ إدامٌ -أوْ طعامٌ أو شرابٌ-

« فاذا هي اتَتكَ فاقرَأ عليها السلام ..

«مِن ربّها ..

«و مني.

«و بَشّرْها ببيتٍ في الجنةِ من قَصبٍ لا صَخبَ فيه و لا نصبَ.

[أخرجه البخاري]

قالوا: و للنسائي -من رواية أنس-

«قال: قال جبريل للنبي .. صلّی الله علیه و سلم:

«إن الله يقرىء خديجة السلام ..

«يعني: فأخبرها ..

«فقالت: إن الله هو السلام ..

«و على جبريل السلام ..

«و عليك يا رسول الله السلام .. و رحمة الله و بركاته.»!!

ص: 363

السلامُ عليكِ .. يا أمّ المؤمنين ..

السلامُ عليكِ .. يا من سَلم عليكِ .. ربُّ العالمين ..

السلامُ عليكِ .. يا مَن سَلم عليكِ .. جبريلُ الامين ..

السلامُ عليكِ .. و رحمة الله و بركاته!!

- تم -

ص: 364

فهرس

مقدمة...5

هذه .. هي خديجة؟!...9

الخطوط العريضة .. من حياة أم المؤمنين .. 1- ماذا قبل البعثة؟...33

الخطوط العريضة .. من حياة ام المؤمنين .. 2- البعثة؟...57

نبيان عظيمان .. في زواجهما .. يتشابهان؟!...115

كيف تَمَّ .. الزواج .. المبارك؟!...129

خمس عشرة سنة .. في ظلال حياة .. زوجية سعيدة؟!...145

خديجة عليها السلام .. في أعظم .. لحظة في حياتها؟!...155

ثورة .. قريش .. المضادة؟!...171

عندما قالت خديجة .. لرسول الله .. صلّی الله علیه و سلم:

ص: 365

إني لأرجو أن تكون .. نبيّ هذه الأمة؟!...177

خديجة .. أول مَن توضأ .. و أوّل مَن صَلى؟!...199

صفحة

أهل البيت الكريم .. يؤمنون تباعا .. بعد خديجة .. عليها السلام!...207

أمّ المؤمنين .. خديجة .. عليها السلام .. في قلب الاحداث!...217

خديجة عليها السلام .. تشهد هجرة رُقيّة، مع زوجها عثمان .. إلى الحبشة!...225

خديجة عليها السلام .. صامدة في المقاطعة و الحصار.. بجوار زوجها العظيم .. صلّی الله علیه و سلم!!...233

هل شهدت .. خديجة عليها السلام، معجزة الاسراء و المعراج!... 263

وفاة .. ابي طالب!!...303

وفاة .. أم المؤمنين خديجة .. عليها السلام!....319

شخصية .. خديجة .. عليها السلام؟...327

فهرس...365

ص: 366

ماذا في هذا الكتاب؟!

فيه حياة أوّل مَن آمنَ على الاطلاق!

فيه حياة مَن قال عنها رسول الله .. صلّی الله علیه و سلم: «واللهِ .. ما ابدلني الله خيراً منها .. آمنت بِي إذ كفر الناس، و صدقتني إذ كذبني الناس، و واستني في مالها إذ حرمني الناس، و رزقني منها الولد إذ حرمني اولاد النساء»!

و قال: «.. خيرُ نسائها خديجةُ

فيه «حياة أم المؤمنين خديجة»

عليها السلام!!

ص: 367

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.