أدوار علم الکلام عند الإمامية

هوية الکتاب

الميلاني هاشم، مؤلف.

المدخل الى علم الكلام / هاشم الميلاني - الطبعة الأولى -

النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية 1440 ه- 2019.

192 صفحة : 21x14-سم - ( سلسلة دراسات كلامية : 16)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية : صفحة 182-192.

ردمك : 8-05-625-9922-978

.1 علم الكلام (الشيعة) أ. العنوان.

LCC:BP166 .M55 2019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

الميلاني هاشم، مؤلف.

المدخل الى علم الكلام / هاشم الميلاني - الطبعة الأولى - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية 1440 ه- 2019.

192 صفحة : 21x14-سم - ( سلسلة دراسات كلامية : 16)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية : صفحة 182-192.

ردمك : 8-05-625-9922-978

.1 علم الكلام (الشيعة) أ. العنوان.

LCC:BP166 .M55 2019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار

ص: 3

فهرس المحتويات

1 - تعريف علم الكلام ...12

2 - أسماء علم الكلام ...28

1 - علم الكلام:...28

2 - أصول الدين: ...33

3 - الفقه الأكبر: ...37

4 - التوحيد: ...38

5 - علم النظر والاستدلال:...38

6 - علم التوحيد والصفات:...38

7 - علم العقائد:...39

3 - سبب التسمية بعلم الكلام ...40

4 - ضرورة علم الكلام ...48

5 - الغاية من علم الكلام ...50

6 - فوائد علم الكلام ومنافعه ...53

7- شرف علم الكلام وفضله ...56

8 - موضوع علم الكلام ...59

9 - مسائل علم الكلام ...70

ص: 4

10 - مناهج علم الكلام ...73

11 - التقليد في أصول الدين ...110

12 - نشأة علم الكلام ...127

13- علم الكلام والعلوم الأخرى ...139

14 - ذم الكلام ...163

15 - النظر والاستدلال ...170

1 - التعريف ...170

2 - وجوب النظر وأنّه أول الواجبات ...173

3 - وجوب النظر عقلي أم سمعيٌّ ؟!...175

4 - النظر يفيد العلم ...176

5 - حكم ترك النظر ...179

فهرس المصادر ...182

ص: 5

ص: 6

المقدمة:

(1)

لم ينفكّ الإنسان منذ نشأته على هذه المعمورة من آراء ومبان فكريّةٍ يعتقدها ويتمسّك بها، وهذه الرؤى والأفكار هي التي تُكوّن منظومة الإنسان المعرفيّة، وهي بمثابة المحرك الوحيد لجميع فعاليات الإنسان وأنشطته الماديّة والمعنويّة، فتراه ينافح ويدافع عمّا التزم به واعتقده صحيحًا، أكانت أعمالاً وصناعاتٍ أو رؤّى ومعتقداتٍ.

(2)

تعدُّ المعارف الدينيّة الخاصّة بالمبدأ والمعاد من أهمّ معتقدات الإنسان؛ إذ بها النجاة والخلاص من الهلاك، وهذه المعارف في عملية صيرورتها وتكوّنها واجهت من جهةٍ خصومًا أشدّاء، ومن جهةٍ أخرى سوءَ فهم أو التباساً من قِبل الصفّ الداخلي، ممّا كان سببًا لقيام أرباب الدين بعملية الدفاع ورفع الستار بموازاة عملية التأصيل والتبيين والدعوة.

هذه العمليّة تسمّى في العالم الإسلامي بعلم الكلام المتكفّل بتبيين المعارف الدينيّة العقديّة والدفاع عنها، وهو وإن تأخّر في الظهور كمصطلحٍ لكنّه مورس منذ بزوغ الدعوة الإسلامية على نطاقٍ واسعٍ.

(3)

إنّ المصدر الأوّل لعلم الكلام الإسلامي هو القرآن الكريم، إذ تكفّل برسم المعالم العامّة للعقيدة الصحيحة التي يجب الالتزام بها لكل مسلمٍ.

المصدر الثاني هو الرسول الأمين حيث تعتبر سيرته القولية والفعلية العقدية شرحًا وتوضيحًا وبسطاً للمصدر الأول.

ص: 7

المصدر الثالث هو العترة الطاهرة ابتداءً من سيّدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام الذي انتهل من ذلك المنهل العذب، وارتوى منه إثر التزامه الدائم به منذ نعومة أظفاره وإلى وقت انتقال الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم الی الملا الأعلى.

كان علیه السلام يقول: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالقربة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليدٌ يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمُسّني جسدَه، ويُشمّني عرفَه، وكان يمضغ الشيء ثم يُلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قولٍ ولا خطلةً في فعلٍ...

ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كل يومٍ عَلَماً من أخلاقه، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنةٍ بحراءَ فأراه، ولا يراه غيري، ولم يجمع بيتٌ واحدٌ يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه السلام، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان، قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنّك لست بنبيٍّ، ولكنك وزيرٌ، وإنّك لَعَلى خيرٍ(1).

وممّا يؤيد مصدرية العترة الطاهرة للعقائد الإسلاميّة وعلم الكلام، حديث الثقلين المتواتر الدال بألفاظه المختلفة والمتقاربة على أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم قد خلّف في الأمة كتاب الله والعترة، وأنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وأنّ المتمسك بهما لن يضلّ أبدًا(2).

ص: 8


1- نهج البلاغة الخطبة: 192 القاصعة.
2- سيأتي في محلّه البحث عن سند الحديث

المصدر الرابع هو العقل القويم حيث إنّه حجة اللّه الباطنة، وكما أن الحجج الأولى الظاهرة يمكن أن تُغيَّب وتُقهر من قِبل المناوئين - كما يشهد بذلك التاريخ - فهذه الحجة الباطنة يمكن لها أن تُقهر وتُغيَّب أيضًا من قبل الأهواء والآمال فتتصدأ مرآتها ويخبو نورها، وهنا يأتي دور الحجة الظاهرة لترفع الستار وتنير المصباح.

وقد أشار أمير المؤمنين علی السلام إلى هذه الحالة فقال : ( .. فبعث فيهم رُسُلَه، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكِّروهم مَنْسِيَّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول)(1).

فالعقل عندما يستضيء بنور الإيمان، ويصدّق حجج الرحمن، يكشف الطريق الصحيح والسبيل القويم، إذ العقل ى - سواء النظري أو العملي - آلةٌ يعمل بحسب نوعية الوقود الذي يتقد به فالوقود النوراني ينتج استدلالاً عقليّاً صحيحًا، والوقود الظلماني لا ينتج إلّا المكر والشيطنة كما وصف أمير المؤمنين علیه السلام معاوية بذلك.

ويؤيد ذلك أيضًا ما ورد عنه علیه السلام حيث قال : (واعلم أنّ لكل عمل نباتًا وكلُّ نباتٍ لا غنى به عن الماء، والمياه مختلفةٌ، فما طاب سقيه طاب غرسه وحلت ثمرته، وما خبث سقيه خبث غرسه وأمرّت ثمرته)(2).

فالعقول التي تستقي من مياه العترة الطاهرة تجتني ثماراً عطرةً، والتي تستقي من مياهٍ آسنةٍ لا تنتج سوى الشبهات(3).

ص: 9


1- نهج البلاغة الخطبة الأولى.
2- نهج البلاغة الخطبة 154.
3- سيأتي مزيد من التوضيح عن الدليل العقلي في محلّه.

هذا في ما يخصّ النظريات، أمّا البديهيات العقلية فالكلّ يشترك فيها, وهي التي تدرك في البداية لزوم الخلق والنبي كي لا يلزم الدور.

(4)

نعتقد وبالاعتماد على ما مرّ أنّ علم الكلام الصحيح هو الذي يعتمد على هذه المصادر، وبما أنّ الشيعة الإمامية هي الفرقة الوحيدة التي تمسّكت بالقرآن والعترة الطاهرة (الأئمّة الاثني عشر)، نريد أن نستقرئ تاريخ علم الكلام الإسلامي طبقًا لرؤيتها في رحلةٍ بحثيةٍ طويلةٍ.

علمًا بأنّ هذه الرحلة البحثية لا يمكن إنجازها كجزيرةٍ مستقلّةٍ بمعزلٍ عن سائر المدارس والتيارات الكلامية، إذ على الرغم من استقلالية الكلام الشيعي عن سائر الفرق والمذاهب والمدارس الفكريّة الإسلاميّة وغير الإسلاميّة المتنوّعة، غير أنّه قد وُلد وترعرع في بيئةٍ مليئة بالآراء والمعتقدات المختلفة، وقضى شطراً من مسائله في الجدل مع تلك المعتقدات وقام بالتأسيس والرد والأخذ والاقتباس في عمليةٍ متكاملةٍ تنطلق من وتستفيد من الآخر سلباً وإيجاباً، إذ العلم ليس حركةً جامدةً،بل ينمو

ويستمر بالفعل والانفعال والتأثير والتأثر.

وعليه مسّت الحاجة إلى التعرّف على باقي الآراء المطروحة في الساحة العقدية، لاستجلاء حاقّ الكلام الشيعي وواقعه، والتعرّف على نقاط الاشتراك والاختلاف والتأسيس والاقتباس.

(5)

إنّ المتكلّمين في تدوين علم الكلام اتخذوا طرقاً مختلفةً، فمنهم من رتّب كتابه على مسائل الكلام أو أصول الدين، ومنهم من بدأ من الملل

ص: 10

والنحل والفرق وذكر معتقدات كل فرقةٍ وتطوّراتها ، ومنهم من كرّس جهده على مسألةٍ واحدة وتوسّع فيها ،وهكذا، ونحن هنا في بحثنا هذا سوف نتطرّق بإذن اللّه تعالى إلى أدوار علم الكلام بالاعتماد على العقل والنقل مع تقسيم كل دَوْرٍ إلى أهم المسائل الكلامية المطروحة فيه.

والأدوار التي رتّبناها في زمن الحضور تتعلّق بكلّ واحد من المعصومين حيث نبدأ بالرسول صلی الله علیه و آله و سلم وننتهي بالإمام المهدي علیه السلام، أمّا في زمن الغيبة الكبرى - بدايات القرن الرابع الهجري - فسيتمّ تقسيم الأدوار الأعلام وما أسّسوه من مدرسة كلامية مع تلامذتهم.

ولا بد قبل البدء بالأدوار من تقديم مباحثَ تتضمّن المبادئ التصوريّة والتصديقيّة لعلم الكلام والمباحث العامة المتعلقة به من: تعريفٍ وموضوعٍ وأهدافٍ ومناهجَ وغيرها من المباحث العامة لتكون مقدمةً تمهيديةً لأصل المشروع.

وهذا ما سنطرحه في هذا الكتاب الذي سميناه (المدخل إلى علم الكلام) عسى أن يوفقنا الباري لتكميله في أجزاء قادمة تسلّط الضوء على أدوار علم الكلام عند الإمامية.

وختامًا أقول: هذه بضاعة مُزجاة تحمّلت جمعها من مختلف الكتب والمصادر، وقمت بشرحها وتبويبها عسى أن تكون نافعة لإخواني المؤمنين ومنهلاً عذباً في هذا البحر المتلاطم بمختلف الافكار والآراء.

وقد تعمدت من الإكثار في النقل والإقتباس من المصادر الكلامية القديمة بدل التلخيص والتحليل كي يستفيد الباحث من نصوص التراث الكلامي ويمكنه الإحالة عليها في بحوثه ودراساته، إذ ربما لا تتوفر لديه معظم المصادر .

ص: 11

1 - تعريف علم الكلام:

الكلام: في أصل اللغة هو الأصوات المفيدة، وعند المتكلمين: المعنى القائم بالنفس الذي يُعبَّر عنه بألفاظٍ، وفي اصطلاح النحاة: الجملة المركبة المفيدة أو شبهها ممّا يكتفي بنفسه(1).

والكلام هو القَوْل وقيل : إنّ الكلام ما كان مكتفيًا بنفسه وهو الجملة، والقول ما لم يكن مكتفيًا بنفسه وهو الجزء من الجملة(2).

هذا هو المعنى اللغوي، وما يهمّنا هنا المعنى الاصطلاحي للكلام المستعمل كعلمٍ على حدّةٍ، يتطرّق إلى تأصيل العقائد الدينيّة والدفاع عنها .

ولا يخفى أننا لا نعلم بالضبط تاريخ نحت هذا المصطلح أي (علم الكلام)، فلم نعثر على تعريفٍ منسجمٍ له في القرن الأول والثاني الهجري، إذ إنّ المتكلمين آنذاك ما كان يهمّهم تقديم تعريفٍ منسجمٍ ومتكاملٍ عن عملهم، بقدر ما كانوا مهتمين بالمناقشات والمناظرات مع مختلف المذاهب والفرق وكذلك الأديان.

فعلم الكلام كان ممارساً منذ بداية الدعوة الإسلامية على يد رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم ومن ثَمّ أصحابه سواءً في زمنه أو بعد رحيله، فهذا البغدادي (ت 429ه-) يصف أمير المؤمنين علیه السلام بأنه أول متكلّمٍ فيقول: (أوّل متكلمي أهل السنة من الصحابة علي بن أبي طالب لمناظرته الخوارج في مسائل

ص: 12


1- المعجم الوسيط كلمة.
2- لسان العرب لابن منظور كلم.

الوعد والوعيد، ومناظراته القدريةَ في القدر والمشيئة والاستطاعة)(1).

ويشهد أيضًا لذلك ما ذكره التفتازاني (ت 793ه-) حيث قال: (ودخل علم علماء الصحابة بذلك [أي بالاعتقادات] فإنّه كلامٌ وإن لم يكن سمّي في

ذلك الزمان بهذا الاسم)(2).

وسيأتي مزيدُ توضيحٍ في مبحث نشأة علم الكلام الإسلامي عن هذا الأمر، أمّا هنا فسوف نتطرّق إلى تعريف علم الكلام بحسب التسلسل الزمني.

1- أقدم تعريفٍ ووصفٍ لعلم الكلام وصل إلينا هو ما ورد عن الجاحظ (ت 255ه-) حيث قال : (إنّ صناعة الكلام علقٌ نفيسٌ وجوهرٌ ثمينٌ .. وبهِ يُستدلّ على صرفٍ ما بين الشريّن من النقصان، وعلى فضل ما بين الخيرين من الرجحان، والذي يضع في العقول من العبارة وإعطاء الآلة مثل صنيع العقل في الروح ، ومثل صنيع الروح في البدن، وأيُّ شيءٍ أعظمُ من شيءٍ لولا مكانه لم يثبت للرب ربوبيةٌ، ولا للنبي حجةٌ، ولم يُفصل بين حجةٍ وشبهةٍ وبين الدليل وما يتخيل في صورة الدليل، وبهِ يعرف الجماعة من الفُرقة والسنة من البِدعة، والشذوذ من الاستفاضة... والمتكلّم اسم يشتمل على ما بين الأزرقي والغالي، وعلى ما دونهما من الخارجي والرافضي، بل على جميع الشيعة

ص: 13


1- أصول الدين للبغدادي: 307 ، المسألة العاشرة.
2- شرح المقاصد، للتفتازاني 1: 29

وأصناف المعتزلة، بل على جميع المرجئة وأهل المذاهب الشاذة)(1).

فإنه أشار في تعريفه إلى كون الكلام صناعةً أي علماً - كما يذكره الفارابي أيضًا - ويجعل مهمته إثبات الباري والنبوة وردّ الشبهات، أي يعطيه وظيفةً مزدوجةً : التأصيل، والدفاع، كما أنّه يُشرك جميع الجهود العقدية الإسلامية بالكلام ولم يُخصّصه بفرقةٍ خاصةٍ، كما صنع بعض المتكلمين.

2- ثم يتلوه ما ذكره أبو نصر الفارابي (ت 339ه-) حيث قال في كتابه إحصاء العلوم (وصناعة الكلام مَلكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرّح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل)(2).

نلاحظ أولاً أنّ الفارابي جعل الكلام صناعةً أي علمًا مستقلّاً يناظر سائر العلوم كالفقه وغيره، بخلاف من لم يجعله في عداد العلوم كالغزالي مثلاً في إحياء علوم الدين حيث يخرجه عن تصنيف العلوم.

والملاحظة الثانية هي أنّه جعل وظيفة علم الكلام 1 نصرة الآراء والأفعال أي التأصيل والتثبيت.2. تزييف الآراء المخالفة أي الرد والنقض

ص: 14


1- رسائل الجاحظ الكلامية: 53 - 58, علما بأن للجاحظ في رسائله الأدبية رسالةً حول «تفضيل النطق على الصمت يبين فيها فضل الكلام أي النطق والحديث على الصمت والسكوت ثم يختم الرسالة بعبارات توهم أنّها في علم الكلام حيث يقول : فصل منه فأيُّ شيءٍ أشهرُ منقبةً وأرفع درجةً من شيء لولا مكانه لم يثبت لله ربوبية ولا لنبي حجةٌ .. والكلام سبب لتعرّف حقائق الأديان, والقياس في تثبيت الربوبية وتصديق الرسالة, وأكبر الظن أنه يقصد النطق دون علم الكلام وأنّ هذا المقطع يُعدّ خلاصةً لما ذكره في فضل النطق ولا علاقة له بعلم الكلام كما بدأ المقطع بقوله: «فصل منه أي مما ذكره سابقاً وتأييداً له على خلاف ما توهمه محقق الرسائل حيث جعل عنوان المقطع علم الكلام, وكذلك على خلاف ما فهمه فان إس حيث زعم أنه تعريف لعلم الكلام من قبل الجاحظ .
2- إحصاء العلوم للفارابي: 41.

فَلِعِلم الكلام عند الفارابي وظيفةٌ مزدوجةٌ تدور بين الإيجاب والسلب.

- والملاحظة الثالثة هي أنّه خصص المصطلح بما صرّح به واضع الملّة أي بالدين الإسلامي، وكأنه أخرج ما يدور من مجادلاتٍ عقديةٍ عند أرباب سائر الأديان من أن يكون كلامًا، فلا يطلق عليها علم الكلام على حدّ تعبير الفارابي. وهذا يدلّ على أنّه علم اسلامي بحت نشأ في أحضان الأمة الإسلامية من دون تأثيرات خارجية، وسيأتي مزيد توضيح بهذا الخصوص.

3- التعريف الثالث ما ورد عند أبي حيان التوحيدي (ت 414ه-) حيث قال: (أمّا علم الكلام فانّه بابٌ من الاعتبار في أصول الدين يدور النظر فيه على محض العقل في التحسين والتقبيح، والإحالة والتصحيح، والإيجاب والتجويز والاقتدار والتعديل والتجوير، والتوحيد والتكفير، والاعتبار فيه ينقسم بين دقيقٍ ينفرد العقل به وبين جليلٍ يفزع إلى كتاب الله تعالى فيه، ثم التفاوت في ذلك بين المتحلّين به على مقاديرهم في البحث والتنفير والفكر والتحبير والجدل والمناظرة والبيان والمفاضلة، والظفر بينهم بالحق سجالٌ ، ولهم عليه مكرٌ ومجالٌ ، وبابه مجاورٌ لباب الفقه، والكلام فيها ،مشتركٌ، وإن كان بينهما انفصالٌ وتباينٌ فانّ الشركة بينهما واقعةُ والأدلّة فيها متضارعةٌ)(1).

يلاحظ في تعريفه أنّه أورد المنهج أيضًا في التعريف حيث جعله عقليّاً، فبعضه يستقلّ العقل به والبعض الآخر يستعين بالوحي، كما أنّه يجعل مهمته الإثبات والدفاع أيضاً.

ص: 15


1- ثمرات العلوم : 23.

4- قال البرذوي (ت 493ه-) : (وعلم الكلام الذي اختلفوا في تعلّمه وتعليمه والتصنيف فيه: هو بيان المسائل التي هي أصول الدين التي تعلُّمُها فرضُ عينٍ)(1). فقد اقتصر على مسألة التأصيل ولم يذكر الدفاع وردّ الشبهات، كما أنّه أشار إلى الخلاف القائم في حلّيّة الخوض في علم الكلام من عدمها، واتخذ موقف القول بالوجوب العيني.

5- قال الغزالي (ت 505ه-) : (المتكلّم هو الذي ينظر في أهم الأشياء وهو الموجود... ثمّ ينزل بالتدريج إلى التفصيل فيثبت به مبادئ سائر العلوم الدينية: من الكتاب والسنّة وصدق الرسول.. فإذّا الكلام هو المتكفّل بإثبات مبادئ العلوم الدينيّة كلّها، فهي جزئيةٌ بالإضافة إلى الكلام، فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة، إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات)(2).

فهو يدخل الموضوع ( = الموجود) في تعريف علم الكلام، كما يجعله مهيمناً على سائر العلوم الدينية والمتكفّل بإثبات المصادر الأولى للدين. وهذا التعريف لا يتنافى مع موقف الغزالي السلبي لعلم الكلام، إذ إنّ موقفه السلبي يعتمد على «الجام العوام عن علم الكلام» مع اعتراف بلزوم وجود علماء يدافعون عن الدين أمام الشبهات الواردة، مع اختلافه اختلافه أيضاً مع

سائر المتكلمين في الطريقة والمنهج - كما سيأتي في مبحث ذم الكلام.

6- ينقل الشهرستاني (ت 548ه-) عن بعض من سبقه من المتكلمين في تعريف علم الكلام قوله : (قال بعض المتكلمين: الأصول معرفة الباري

ص: 16


1- أصول الدين للبرذوي: 15
2- المستصفى من علم الأصول 1 13 - 14 .

تعالى بوحدانيته وصفاته، ومعرفة الرسل بآياتهم وبيناتهم) (1).

وهو وإن لم يحدّد الفترة الزمنيّة لهذا التعريف ومن القائل، غير أنّه يفيدنا في تبنيّه لهذا التعريف وحصر وظيفة الكلام بالتوحيد والنبوة، كما أنّه لم يتطرّق إلى مسألة الدفاع ويقتصر على الإثبات والتبيين.

7- وقال القاضي أشرف الدين البريدي الآبي (ق 7): (الكلام صناعةٌ علميّةٌ بها ينظر صاحبها تحقيق العلم بالصنع والصانع، وما يجوز عليهما وما لا يجوز) (2). وهو كما ترى تعريف عام وشامل، إذ العلم بالصانع من صميم وظائف علم الكلام، أما العلم بالصنع أو المصنوع وما يجوز عليه وما لا يجوز فربما يشترك مع غيره من العلوم أيضاً.

8- قال الفخر الرازي (ت 606ه-) : (أما علم الأصول فالمطلوب منه معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، ومعرفة أقسام المعلومات من المعدومات والموجودات)، ثم قال بعد أن ذكر آياتٍ تتعلق بالتوحيد والنبوة والرد على عبدة الأوثان وأصناف المشركين ، وبعد أن ذكر مجموعة آياتٍ تدلّ على الخالق تعالى وصفاته : (وأنت لو فتّشت علم الكلام لم تجد فيه إلا تقرير هذه الدلائل والذّبّ عنها ودفع المطاعن والشبهات القادحة فيها)، ثم نَقَل مناظرات الأنبياء عليهم السلام وقال بعدها: (وكل من سلمت فطرته علم أنّ علم الكلام ليس إلا تقرير هذه الدلائل، ودفع الأسئلة والمعارضات عنها)(3).

ص: 17


1- الملل والنحل للشهرستاني : 122
2- الحدود والحقائق رقم 115.
3- تفسير الرازي: 2 : 96 - 198 سورة البقرة آية 21

وقد ذكر في كتابه نهاية العقول بأنّ (الغرض الأهم والمطلوب الأعظم من علم الكلام معرفة ذات الله تعالى وصفاته وكيفية أفعاله)(1)، فهو هنا لم يكن بصدد تعريف علم الكلام، إنمّا أشار إلى الغرض الأهم منه في معرض الحديث عن شرف هذا العلم. ومهما يكن فإنّه توسّع في التعريف نوعًا ما، فأدخل فيه المباحث العامة المتعلّقة بالوجود والعدم، كما أنّه يؤكّد أيضًا على الوظيفة المزدوجة لعلم الكلام في الإثبات والرد.

9- قال السمرقندي (ت بعد 690ه-) : (انّه علمٌ يُبحثٌ فيه عن ذات الله تعالى وصفاته وأسمائه وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام)(2)، ويظهر انّه أوّل من أدخل قيد (على قانون الإسلام) في التعريف ليخرج الفلسفة.

10 - أما العلامة الحلي (ت 726ه-) فهو بعد أن يذكر العلوم وأنّ أشرفها ما يتطرق إلى معرفة الواجب تعالى، يقول:«والعلم المتكفّل به هو علم الكلام، الناظر في ذات الله تعالى وصفاته، والمعلوم فيه كيفية تأثيراته».(3)وقال أيضاً في مكان آخر بعد أن أشار إلى أن أهم المعارف ما يوجب النجاة، وأنّ أشرف الموجودات هو الله تعالى، فالعلم به أجل من كل علم وعليه فإنّ العلماء «أوجبوا على كل مكلّف بذل الوسع في تحصيل المعارف ليحصل الأمن من المخاوف وذلك إنّما

ص: 18


1- نهاية العقول، للرازي 1: 97
2- المعارف في شرح الصحائف 1: 352 .
3- مناهج اليقين 82 ، ونحوه كشف المراد 23 - 24

هو بعلم الكلام، فوجب معرفته على الخاص والعام»(1).

فالعلامة الحلي وإن لم يتطرّق إلى التعريف بشكل واضح ومنسجم غير أنّه أشار إليه من خلال الغاية التي توجب النجاة، وكذلك ذكر أبرز مسائله أي التعرف على ذات الله تعالى وصفاته، كما لم يغفل مسألة وجوبه على الجميع بالنظر دون التقليد.

11 - قال الجيطالي النفوسي (ق8): (أمّا الكلام فهو علم المتكلّمين الذين يتكلمون في تحرير الأدلة لإثبات التوحيد والصفات، وتفصيل السكون والحركات والجواهر والأعراض والحدوث والقدم وأشباه ذلك، ويضعون الأدلّة في الرد على أهل البدع ونقضها عليهم)(2).

12 - قال الإيجي (ت 756ه-) في المواقف: (والكلام علم يُقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه والمراد بالعقائد ما يُقصد به نفس الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، فإنّ الخصم وإن خطّأناه لا نخرجه من علماء الكلام)(3).

وقال الجرجاني (ت 816ه-) في شرحه له: وها هنا أبحاثٌ:

الأول: إنّه أراد بالعلم معناه الأعم أو التصديق مطلقا ليتناول إدراك المخطئ في العقائد.

ص: 19


1- نهاية المرام: 5.
2- قناطر الخيرات للنفوسي: 86 .
3- المواقف للايجي: 7.

الثاني: إنّه نبّه بصيغة الاقتدار على القدرة التامّة، وبإطلاق المعيّة على المصاحبة الدائمة، فينطبق التعريف على العلم بجميع العقائد مع ما يتوقّف عليه إثباتها من الأدلّة وردّ الشبه.

والثالث: إنّه اختار «يقتدر» على «يثبت» لأنّ الإثبات بالفعل غير لازمٍ، واختار «معه» على «به» مع شيوع استعماله تنبيهّا على انتفاء السببية الحقيقية المتبادرة من الباءها هنا واختار «إثبات العقائد» على تحصيلها إشعارًا بأنّ ثمرة الكلام إثباتها على الغير .. ولا يجوز حمل الإثبات ها هنا على التحصيل والاكتساب، إذ يلزم منه أن يكون العلم بالعقائد خارجًا عن علم الكلام ثمرة له ولا شكّ في بطلانهِ(1).

الرابع: إنّ المتبادر من الباء في قوله (بإيراد) هو الاستعانة دون السببية.. وليس المراد بالحجج والشّبَه ما كذلك في نفس الأمر، بل بحسب زعم من تصدّى للإثبات بناءً على قصد المخطئ، ولم يرد بالغير الذي يثبت عليه العقائد غيراً معينًا حتى يرد أنّها إذا ثبتت عليه مرةً لم يبق اقتدارٌ على إثباتها قطعًا فيخرج المحدود عن الحد.

الخامس: إنّ هذا التعريف إنمّا هو لعلم الكلام لا لمعلومهٍ وإن أمكن تطبيقه عليه بنوعٍ تكلّفٍ فيقال: علم أي معلومٍ يقتدر معه أي مع العلم... إلخ(2).

ص: 20


1- وهو هنا يرد على التفتازاني حيث حمل معنى الإثبات عند الايجي على التحصيل والاكتساب راجع شرح المقاصد للتفتازاني، 1: 29.
2- شرح المواقف للجرجاني، 1: 40 .

13 - قال التفتازاني (ت 793ه-) في شرح العقائد النسفية: (وسمّوا .. - معرفة العقائد عن أدلّتها بالكلام).

وقال في شرح المقاصد: الكلام هو العلم بالعقائد الدينيّة عن الأدلّة اليقينية(1).

وقال في شرح هذا التعريف بعد تقديم مقدمةٍ حول تصنيف العلم وأسباب تسمية علم الكلام بالكلام فظهر أنّه العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة من أدلّتها اليقينيّة. وهذا هو معنى العقائد الدينية أي المنسوبة إلى دین محمّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم و سواءً أتوقف على الشرع أم لا، وسواءً أكان من الدين في الواقع ككلام أهل الحق أم لا ككلام المخالفين، وصار قولنا: العلم بالعقائد الدينيّة عن عن الأدلّة اليقينيّة مناسبًا لقولهم في الفقه أنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية.. وخرج العلم بغير الشرعيات وبالشرعيات الفرعية وعلم الله تعالى و علم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالاعتقادات، وكذا اعتقاد المقلّد فيمن يسمّيه علما، ودخل علم علماء الصحابة بذلك، فانّه كلامٌ وإن لم يكن سُمِّي في ذلك الزمان بهذا الاسم، كما أنّ عملهم بالعمليات فقهٌ وإن لم يكن ثمة هذا التدوين والترتيب، وذلك إن كان متعلّقًا بجميع العقائد بقدر الطاقة البشريّة، مكتسَباً من النظر في الأدلّة اليقينيّة أو كان ملكةً يتعلّق بها بأن يكون عندهم من المآخذ والشرائط ما يكفيهم من استحضار العقائد على ماهو المراد بقولنا: (العلم بالعقائد عن الأدلّة)(2).

ص: 21


1- شرح العقائد النسفية للتفتازاني : 16.
2- شرح المقاصد للتفتازاني 1: 27، 79 .

14 - قال ابن خلدون (ت 808ه-) : (هو علمٌ يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنّة) (1).

والجديد في تعريفه أنّه يحصر علم الكلام بما توافق عليه السلف وأهل السنّة، فكأنَّه يُخرج عمل جميع من خالفه من المعتزلة والشيعة والخوارج من علم الكلام.

15 - قال الجرجاني (ت 816ه-) : ( علم الكلام علمٌ باحثٌ عن الأعراض الذاتية للموجود من حيث هو على قاعدة أهل الإسلام)(2).

وقال في مكانٍ آخر: (الكلام علم يُبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته، وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام، والقيد الأخير لإخراج العلم الإلهي للفلاسفة، الكلام علمٌ باحثٌ عن أمورٍ يُعلم منها المعاد وما يتعلّق به من الجنة والنار ، والصراط والميزان، والثواب والعقاب. وقيل: الكلام هو العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة عن الأدلّة)(3).

فالتعريف الأول هو تعريف بالموضوع - كما سيأتي - ، كما أنّ قيد (على قانون الإسلام) أو (على قاعدة أهل الإسلام) لم يخرج الفلاسفة فحسب كما صرّح به الجرجاني، بل يخرج العمل العقدي عند النصارى .

ص: 22


1- المقدمة لابن خلدون: 339
2- التعريفات للجرجاني: 131.
3- التعريفات للجرجاني: 155

16 - قال المقداد السيوري ( ت 826ه-): (وعلم الأصول هو ما يبحث فيه عن وحدانية الله تعالى وصفاته وعدله ، ونبوة الأنبياء والإقرار بما جاء به النبي صلی الله علیه و آله و سلم وإمامة الأئمة علیهم السلام، والمعاد)(1).

وصاغ التعريف في كتابٍ آخرَ بلغة أدبيّةٍ بليغةٍ حيث قال: (وعلم الكلام كاشفٌ أستار الجبروت، ومُطَّلع على مشاهدات الملك ومغيبات الملكوت، وفارقٌ بين أهل الهداية والضلالة، ومُطَّلعٌ على صفات المختارين للرسالة والإمامة، ومبيّنٌ أحوال السعداء والأشقياء يوم القيامة(2).

فهو قد جمع التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد في كلامه هذا.

17 - قال عبد الرزاق اللاهيجي (ت 1072ه-) بعد الإشارة إلى تعريف التفتازاني والجرجاني ونقل كلامهما: (الأولى أن يُقال: الكلام صناعةُ نظريّةٌ يُقتدر بها على إثبات العقائد الدينيّة)(3).

وقال في كتابه گوهر مراد ما تعريبه (والكلام عند القدماء صناعةٌ يقتدر بها على الحفاظ على أوضاع الشريعة بالدلائل المؤلفة من المسلّمة المشهورة عند أهل الشرايع سواءً أَنتهت إلى البديهيات أم لا، وهذه الصناعة لا تشارك الحكمة لا في الموضوع ولا في الدلائل ولا في الفائدة).

ص: 23


1- النافع يوم الحشر، للسيوري، 9، ونحوه بحذف المعاد في الاعتماد في شرح واجب الاعتقاد : .42
2- اللوامع الإلهية: 80.
3- شوارق الإلهام :1 .51

ثم قال:(وقال المتأخرون في تعريف الكلام: إنّه علمٌ بأحوال الموجودات على نهج قوانين الشرع ، وبهذا القيد احترزوا عن علم الحكمة، إذ لا يُعتبر في علم الحكمة موافقة قوانين الشرع بمعنى ابتناء الأدلّة على المقدمات المسلّمة أو المشهورة عند أهل الشرع، إذ المسلمات والمشهورات لا يلزم أن تكون يقينيّةً، فإذا كانت يقينيّةً بحسب الاتفاق استعملوها من هذه الحيثية، وإلّا فالظنيات لم تكن معتبرةً عندهم في المسائل العلميّة.. كما عُلم أنّ طريق تحصيل المعرفة بحيث لا تكون مشوبةً بالتقليد منحصرٌ في طريقة البرهان وابتناء الدلائل على المقدمات اليقينيّة سواءً سُمِّي حكمة أم كلاماً)(1).

18 - قال البياضي الحنفي (ت 1097ه-) في شرح الفقه الأكبر المنسوب إلى أبي حنيفة:(فهو معرفة النفس عن الأدلّة ما يصح لها وما يجب عليها من العقائد الدينية، والمتبادر منها المعتقدات المنسوبة إلى دين محمّد (عليه الصلاة والسلام) توقفت على شرعه أو لا، فخرج المعرفة بالمشروعات الفرعية وبغير الدينيات وخرج علم الله والرسول بالمعتقدات لعدم كونه عن الأدلّة، واعتقاد المقلّد لذلك، ودخل علم الصحابة بها وما يثبت بدلائل العقل الصريح كبعض مسائل التنزيه والتفاريع الخلافية)(2).

هذه مجموعةُ تعاريفَ عثرنا عليها في طيّات الكتب الكلامية المطبوعة، وأنت ترى أنّها تشترك في إعطاء صبغة التأصيل والدفاع لعلم الكلام، وعليه

ص: 24


1- كوهر مراد اللاهيجي: 43.
2- إشارات المرام 31

وجه لما زعمه عبد الرحمن بدوي من القول بالتفصيل في مهمة علم الكلام في القرون الأربعة الأولى وما بعدها، فالمرحلة الأولى امتازت بالتأصيل والدفاع، أمّا في المرحلة اللاحقة فقد اختصّ علم الكلام بالدفاع على ما زعمه، حيث قال: (ففي المرحلة الأولى غلب النظر إلى علم الكلام على أنّه تحصيليٌّ وليس مجردَ دفاعٍ.. في القرون الثاني والثالث والرابع فكان يغلب على علم الكلام البحث في فهم الإيمان، وإدراك مضمون

العقيدة، وتحديد المعاني الغامضة التي وردت في الكتاب والسنة)(1).

فهو وإن كان في مقام الرد على مزاعم المستشرق غاردي، من أنّ الكلام الإسلامي ليس له حظٌّ في التأصيل والتفهيم بل يقتصر على الدفاع، ولكن مع هذا فإنّ علم الكلام لم ينفكّ منذ نشأته الأولى وإلى يومنا الحاضر من التأصيل والدفاع سويةً ولا وجه للتفصيل في مراحله.

والتعريف المختار عندنا أنّ علم الكلام علم يتكفل إثبات العقائد الدينية والدفاع عنها ورد الشبهات المثارة، وأصول هذه العقائد هي إثبات الذات الإلهية وصفاتها من توحيد وعدل وقدرة وغيرها، والنبوة والإمامة والمعاد، وما يتفرّع من هذه الأصول بحسب مستجدات كل زمان ومكان ليدخل الكلام الجديد ومسائله الجديدة في هذا العلم أيضاً، إذ طالما تمسّ هذه المسائل الجديدة العقائد الدينية، فالخوض فيها كلام وإن استجدت المناهج والمسائل.

ص: 25


1- مذاهب الإسلاميين: 13 - 14

الكلام عند القدماء والمتأخرين:

وفي ختام هذا المبحث لا بد من الإشارة إلى إنّ بعض المتكلمين أو مؤرخي علم الكلام، قد فرّق بين كلام القدماء وكلام المتأخرين، فهذا التفتازاني (ت 793ه-) يقول في شرحه على العقائد النسفية بعدما يعرّف علم الكلام بأنّه معرفة العقائد عن أدلّتها، وبعدما يشرح سبب

تسمية علم الكلام بالكلام ، يقول : (وهذا هو كلام القدماء).

ثم يقول : (لما نُقلت الفلسفة إلى العربية وخاض فيها الإسلاميون، حاولوا الرد على الفلاسفة فيما خالفوا الشريعة فخالطوا بالكلام كثيرًا من الفلسفة ليتحققوا مقاصدها فيتمكنوا من إبطالها، وهلمّ جرًّا إلى أن أدرجوا فيه معظم الطبيعيات والإلهيّات وخاضوا في الرياضيات حتى كاد لا يتميّز عن الفلسفة لاشتماله على السمعيات، وهذا هو كلام المتأخرين)(1).

وقريبٌ منه ما ذكره عبد الرزاق اللاهيجي (ت 1072ه-) حيث قال في تعريف الكلام عند القدماء :(إنّه صناعةُ يُقتدر بها على الحفاظ على أوضاع الشريعة بالدلائل المؤلفة من المقدمات المسلّمة المشهورة عند أهل الشرايع سواءً أنتهت إلى البديهيّات أم لا، وهذه الصناعة لا تشارك الحكمة لا في الموضوع ولا في الدلائل ولا في الفائدة).

أما الكلام عند المتأخرين فهو : (العلم بأحوال الموجودات على نهج قوانين الشرع، وبهذا القيد احترزوا عن علم الحكمة، إذ لا يعتبر في

ص: 26


1- شرح العقائد النسفية للتفتازاني : 17 - 18 ، وقريب منه ما ذكره ابن خلدون في المقدمة: 345

علم الحكمة موافقة قوانين الشرع بمعنى ابتناء الأدلة على المقدمات المسلّمة أو المشهورة عند أهل الشرع ..) (1)

فهو يتحد مع التفتازاني في دخالة الفلسفة عند القدماء والمتأخرين كما انّ الشهرستاني (ت 548ه-) وإن لم يفصّل الفرق بين الكلامين، غير أنّه يشير إلى أخذ المعتزلة من الفلاسفة فيقول : (ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة، حين فسّرت في أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنّاً من فنون العلم وسمّتها باسم الكلام) (2).

وهذا الرأي يؤيد ما ذهبنا إليه من أنّ هذه العملية أي إثبات العقائد والدفاع عنها ورد الشبهات تسمى علم الكلام، وإن تطوّرت مناهجها ومسائلها عبر الزمن، فالكلام قبل ظهور الفلسفة كلام وبعد ظهورها وامتزاجها به كلام أيضاً، وفي ميتافيزيقا الحداثة في العقائد الدينية كلام أيضاً ، إذ الغاية والهدف واحد.

ص: 27


1- گوهر ،مراد اللاهيجي: 42 - 43.
2- الملل والنحل للشهرستاني

2 - أسماء علم الكلام:

اشارة

أطلقت أسماء عدّة على علم الكلام من قبل الفقهاء والمتكلّمين القدامى، ونشير في ما يأتي إلى أهمّها:

1- علم الكلام:

وهو أشهر الأسماء، وقد مرّ في تعريف علم الكلام أنّ أوّل من استخدمه بشكلٍ منتظمٍ هو الجاحظ (ت 255ه-) ثمّ الفارابي (ت 339ه-)، وإن كان الاصطلاح مستخدمًا قبل زمانهما، ويحدثنا الشهرستاني (ت 548ه-) بأنَّ المعتزلة بعدما خلطت مباحثها بالفلسفة سمّت ذلك كلامًا(1).

ولكن مع هذا يبقى التعرّف على بدايات نحت هذا المصطلح واستخدامه في لفافةٍ من الغموض، وقد ورد في بعض الروايات استخدام اصطلاح الكلام أو المتكلّم، فمثلاً عندما جاء ابن أبي العوجاء ليناظر الإمام الصادق علیه السلام اندهش ولم يتكلّم وقال: (إنّي شاهدت العلماء وناظرت المتكلّمين، فما تُداخلني هيبة قط مثلما تُداخلني من هيبتك)(2).

وفي نصٍّ آخرَ أمر الإمام الصادق علیه السلام يونس بن يعقوب وقال له: (أُخرجٍ إلى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فأدخله-)(3). وذلك لما جاء رجلٌ شاميٌّ ليناظر الإمام علیه السلام، وهذا يدل على شيوع المصطلح في بدايات القرن الثاني.

ص: 28


1- م. ن: 109.
2- الكافي للكليني، 1: 59 - 60
3- م. ن 1: 171

وقد اهتم بعض المستشرقين بالبحث والتنقيب عن هذا الأمر، يقول ولفسون: (ولا يوجد - في ما أعلم - ما يجعلنا نعرف على وجه الدقة متى أصبح لفظ الكلام يُستخدم بهذا المعنى الاصطلاحي)(1)، ثم يشرح كيفية إطلاق الكلام على المعتزلة، ويستشهد بفقرات من ابن سعد وابن قتيبة ليدلّل على استخدام اصطلاح (متکلّمین) و (يتكلّم) قبل ظهور المعتزلة (2).

أما المستشرق فان إس فانّه يقرّب الفكرة من جهةٍ ويبعدها من جهةٍ أخرى على نهج المستشرقين حيث يدع القارئ في حيرةٍ، فانّه في البداية يعزو نشأة علم الكلام إلى المناظرات الأولى التي حدثت في المناخ الإيماني والإثبات العقدي ويقول: (كانت المناظرات هي الوسيلة الحاسمة في نشر وتكريس وجهات النظر الدينية من هنا تطوّر فقهٌ إسلاميٌّ بالمعنى الصحيح علم الكلام)(3)، ولم يحدّد فترة ظهور هذه المناظرات ثم يستقرب ظهورها بشكل هادفٍ ومنتظمٍ قبل سقوط الأمويين، ثم يتساءل ويقول: (ولكن كيف نشأت تسمية المتكلّمين وما المقصود بها بالضبط؟) ويستشهد بورود كلمة (متكلمين أو كلام أو يتكلم) في بعض المصادر القديمة أمثال «رسالةٌ في الصحابة» لابن المقفّع، لكنه يستقرب أنّها جاءت بمعناها اللغوي أي التحدّث والنطق دون الاصطلاحي (4).

ثمّ يحاول أن يعرّج على مؤثراتٍ غير إسلاميةٍ ليناظر بين مصطلح علم الكلام ومصطلحاتٍ يونانيةٍ وتأثيراتٍ مسيحيّةٍ ويقول: (في ظل المسيحيّة كان ثمة

ص: 29


1- فلسفة المتكلمين، ولفسون 1 34
2- م. ن 1: 44
3- علم الكلام والمجتمع، فان إس 1 79.
4- م . ن 1 : 80 - 83 .

علماء دين كتبوا بالعربية في وقت مبكّرٍ، ولكنهم تكلّموا أيضًا السورية بالتأكيد وشاركوا في لعبة الكلام)، ليشكك وينفي بعد أسطرٍ عدّةٍ هذا التأثير ويقول: (ولكن على المرء أن يعي في مثل هذه الفرضية ان نقل المصطلح لا يمكن إثباته بصورةٍ قاطعةٍ في الوقت الحاضر، وربما لن يمكن إثباته أبدًا)(1).

أما أسلوب الكلام وطريقته التي هي المحاججة، فيرجعها فان إس في البداية إلى القرآن ثم تضعيفاً لهذا الرأي يشير إلى وجود محاججاتٍ ومناظراتٍ مسيحيّةٍ في سوريا: (حيث وفّرت المناخ للخلاف على المسيحية وبنيتها الديالكتيكية، وحيث بدأ من هناك التأثير على الإسلام) ثم يستشهد بعمل تيودور بار كوني الذي عاش في بدايات العصر العباسي في العراق، وما كتبه دفاعًا عن المسيحية ضد الإسلام، ثم ينفي فان إس ما ادّعاه ليقول: (لم يكن هذا أسلوبَ كلامٍ بالضبط وإنّما حواراً تعليميّاً، ولكن مستعملاً بما يكفي ليجيز التفكير في تبادل الصيغ)، لينتهي في آخر المطاف قائلا : (وهكذا لا يبقى لنا الآن سوى أن نشير إلى أنّ أسلوب الكلام يعلن عن نفسه في القرآن) (2).

وأنت ترى هذه المنهجيّة الملتوية واللف والدوران والتشويش على القارئ لينتهي إلى استقلالية الكلام الإسلامي عن أيِّ تأثيراتٍ خارجيةٍ. فهو عند نفسه ومن وجهة نظرٍ أكاديميّةٍ حافظ على الموضوعيّة العلميّة، لكنه ألقى أطنانًا من التشكيكات وتشويه الأمر في البين ليربك القارئ ويبعدهُ عن أصل المطلب.

ص: 30


1- م.ن.1: 87- 88
2- م.ن.1: 89- 90

وسبب هذا كله عند فان إس وغيره من المستشرقين، أتباع منهجيّة (الخيال الواسع) التي صرّح باستخدامها فان آس، هو ما يصرّح به بعدما يشرح الخلافات السياسية بعد رحلة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى الملأ الأعلى وشحّة المصادر للتعرف على الأسس والمباني: (فلم تبق لنا في مجال النظريّات السياسيّة التي دار النقاش حولها بين المتكلمين إلّا تلك المؤلفات المذهبية الخالصة، التي لا نستطيع أن نجد فيها إلّا خلاصاتٍ شحيحةً وغيرَ كافيةٍ، حيث نكون مضطرين لنتزوّد بخيالٍ واسعٍ حتى نمثّل طبيعة النشأة الأولى لتلك النظريات، ولهذا السبب ليس بمقدوري أن أقدّم هنا غيرَ شبكةٍ مليئةٍ بالثغرات والنقائص) (1).

وإلى نفس هذه المدرسة والمنهج ينتمي المستشرق ألكسندر تريجر، فانّه بادئ ذي بدءٍ يُرجع الأسلوب الكلامي إلى الجدل والمناظرة، وانّ هذا الجدل والمناظرة في المناخ الديني كان موجودًا عند المسيحيين قبل الفتوحات، ثم ينقل ألكسندر عن كوك أنّ المسلمين اعتمدوا هذا النمط بعد أن تعلّموا من النصارى في جدالهم معهم، أو بأثرٍ من اعتناق بعض النصارى - الذين مهروا في هذه التقنية الجدلية - الإسلام.

هذا الأمر يقوّي عند المؤلف نظريّة (الفرضيّة المسيحيّة العربيّة) لعلم الكلام الإسلامي التي طرحها المستشرق تنوس حيث ذهب إلى انّ البيئة المسيحية العربية في سورية والعراق كانت أنسبٍ قناة تنتقل من خلالها تقنية الأسلوب الكلامي في الحجاج إلى المجتمع المسلم، ليعلو لاحقًا نجم هذا الأسلوب بنشأة علم الكلام.

ص: 31


1- بدايات الفكر الإسلامي فان آس: 101

ثمّ بعد هذا العرض يحاول ألكسندر أن يجد مقارباتٍ لمصطلح علم الكلام وما يشابهه في السريانية واليونانية ليقول : (ويوافق مصطح كلام - في الأصل - مصطلح (mamlla) السرياني، ويعني الخطاب والمحادثة أو المناظرات، كما يوافق أيضًا المصطلحات اليونانيّة (dialexis وdialektos أو dialektike) وهي جميعًا بمعنى المجادلة)؛ ولكن بعد هذا العرض المؤيد النظرية تنوس يقوم بالتشكيك فيها.ويقول:«وعلى الرغم من القيمة التفسيرية للفرضية المسيحية العربية لتنوس وانّ لها وجهاً آمن الاحتمال معتبراً، فانّها لم تزل بحاجة إلى التمحيص والتوثيق، لأنّ الأدلّة المسوقة لدعمها غير مباشر، وهي مستلّة من مصادر متأخّرة وعلى الرغم من انّ للاعتبارات الفِقْلُغَويّة التي فصلناها آنفاً وجاهة لا تنكر، فانّها لا تحسم الأمر حسماً نهائياً... ولذلك لا يمكن لهذا المبحث أن ينتهي إلى قول فصل»(1).

ومن الطريف ما ذهب إليه ماكدونلد (ت 1943م) ، فانّه بعدما لم يجد في التراث الإسلامي العقدي ما يدلّل على تأثير المسيحية في علم الكلام، يصرّح بتأثير المسيحية على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في مجال الزهد والتقشّف عن طريق النسّاك والمتعبدين في الصحراء، ثم يقول: (ولكن لم يتوقف تأثير المسيحية عند هذا الحد... انّه من المحال ألاّ نلحظ تأثير الأعمال

الجدلية للاهوت البيزنطي الذي تطوّر في المدارس الشامية والبيزنطية في نشأة المرجئة والقدرية)(2).

هذه هي الموضوعية العلمية عند هؤلاء المستشرقين، وهذه هي

ص: 32


1- أصول الكلام ألكسندر تريجر (ضمن كتاب المرجع في علم الكلام) 1 : 91 - 98 .
2- تطوّر الدولة والفقه والكلام في الإسلام، ماكدونلد : 136.

منهجيتهم الملتوية في معالجة التاريخ الإسلامي وعلومه، وهذا هو الخيال الواسع الذي يفسّرون من خلاله تاريخنا الاسلامي، وليس العجب منهم لما يحملونه من بعدٍ إيديولوجيٍّ في خلفياتهم الفكرية والمعرفية تجاه الإسلام، ولكن العجب كل العجب ممّن يقتفي أثرهم من المسلمين والعرب، ويتلقّى آراءهم بالقبول ويعتمد عليها في البحث والتدريس.

وسيأتي مزيد توضيحٍ في سبب تسمية هذا العلم بعلم الكلام.

2- أصول الدين:

وهو أشهر الأسماء بعد علم الكلام، وقد أرجع أمير معزي استخدام هذا المصطلح إلى القرن الثالث، حيث نسب مقالةً عنوانها (أصول الدين) إلى الإمام الرضا علیه السلام نقلاً عن الكنتوري في كتابه كشف الحجب(1).

وهذه الرسالة لم تُسمَّ بهذا الاسم حينذاك بل أُطلِق عليها الاسم لاحقًا، إذ ما ورد في عيون أخبار الرضا علیه السلام للشيخ الصدوق رحمه اللّه أنّ هو المأمون طلب من الإمام الرضا علیه السلام أن يكتب له محض الإسلام على الإيجاز والاختصار ، فكتب له علیه السلام تلك الرسالة.

ولكن مع قطع النظر عن هذا عندما نراجع المعاجم الكلامية نرى مجموعةَ كتبٍ أُلِّفت بهذا الاسم في فتراتٍ مختلفةٍ، من قبيل: الأصول ليحيى بن الحسين الهادي الزيدي (ت 298ه-)، والأصول للمرتضى محمد بن يحيى الهاشمي اليمني (ت 310ه-)، والإبانة عن أصول الديانة

ص: 33


1- بوادر الكلام الشيعي، معزي (ضمن كتاب المرجع في تاريخ علم الكلام) 1: 174

للأشعري (ت 324ه أو 330ه-) وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (ت 415ه-) ، وأصول الدين لعبد القاهر الجرجاني (ت 429ه-)، والشامل في أصول الدين للجويني (ت 478ه-) وغيرها كثيرٌ.

وقد حصل خلافٌ كبيرٌ بين المتكلمين في تعداد هذه الأصول بين اثنين إلى ثلاثةٍ إلى أربعةٍ وإلى خمسةٍ مع الاختلاف أيضًا في أسماء الأصول.

فالقاضي عبد الجبار (ت 415ه-) جعلها خمسةً وألّف كتاب شرح الأصول الخمسة في ذلك التوحيد العدل الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أمّا الغزالي (ت 505ه-) فعدّها ثلاثةً وقال: (وأصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله وبرسوله، وباليوم الآخر، وما عداه فروعٌ)(1).

وقد فصّل الشريف المرتضى (ت 436ه-) الأمر وقال جواباً عن سؤالٍ ورده عن عدد أصول الدين: (إنّ الذي سطّره المتكلّمون في عدد أصول الدين أنّها خمسة ،التوحيد والعدل والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يذكروا النبوة ، فإذا قيل : كيف أخللتم بها؟ قالوا: هي داخلةٌ في أبواب العدل، من حيث كانت لطفاً كدخول الألطاف والأعراض وما يجري مجرى ذلك.

فقيل لهم : فالوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضًا من باب الألطاف، ويدخل في باب العدل كدخول النبوة، ثمّ ذكرتم هذه الأصول مفصّلةً ولم تكتفوا بدخولها في جملة أبواب

ص: 34


1- فيصل التفرقة للغزالي : 79.

العدل مجملةً، وحيث فصّلتم المجمل ولم تكتفوا بالإجمال أفلا فعلتم ذلك بالنبوّة؟

وهذا سؤالٌ رابعٌ، وبها اقتصر بعض المتأخرين على أنّ أصول الدين اثنان التوحيد والعدل، وجعل باقي الأصول المذكورة داخلاً في أبواب العدل، فمن أراد الإجمال اقتصر على أصلين التوحيد والعدل، فالنبوة والإمامة، التي هي واجبةٌ عندنا ومن كبار الأصول، هما داخلتان في أبواب العدل. ومن أراد التفصيل والشرح وجب أن يضيف إلى ما ذكروه من الأصول الخمسة أصلين النبوة ،والإمامة وإلا كان مُخلاًّ ببعض الأصول، وهذا بيّن لمن تأمّله) (1).(1)

ومع قطع النظر عن عدد الأصول سعةً وضيقاً، فقد قام بعض المتكلمين بتعريف أصول الدين، فأبو إسحاق الصفّار البخاري (ت 534ه-) بعدما يشير إلى أنّ أبا حنيفة سمّى علم الكلام بالفقه الأكبر يقول: (فإن شئت سمّيته الفقه الأكبر، وإن شئت سمّيته أصول الدين، وإن شئت علم الكلام. فإن سمّيته أصول الدين احتجت إلى معرفة الأصل والفرع، فنقول: (إنّ الأصل مأخوذٌ من قوله تعالى: (أصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)(2)، فأصل الشجرة يوصل إلى الأغصان ،والثمرة، ولقد قيل في ذم أقوام ليس لهم أصلٌ ولا فضلٌ، أرادوا بالأصل الحسب، فكنّوا عنه بالأصل لأنّ الحسب يوصل المرء إلى المآثر وأرادوا بالفضل اللسان.

أمّا الفرع فانّه ما ينشأ من الأصل من قوله: (وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) فأصل

ص: 35


1- الرسائل للسيد المرتضى 1 165 - 166
2- إبراهيم: 24.

الشجرة يوصل إلى الفرع، والفرع ينشأ من الأصل، فعلم أصول الدين يوصل إلى تحقيق العلم بالله، وأما سواه من [العلوم الدينيّة ففرحٌ له لأنّه لا قوام لما سواه من العلوم الدينية إلّا بهذا العلم. وقيل: إن الفرع ما يبني على غيره والأصل ما يُبنى عليه غيره)(1).

ثم يأتي من بعده الشهرستاني (ت 548ه-) حيث ينسب إلى بعض المتكلمين عدد الأصول وتعريفها بقوله: (قال بعض المتكلمين: الأصول: معرفة الباري تعالى بوحدانيّته وصفاته، ومعرفة الرسل بآياتهم وبيّناتهم، وبالجملة كلّ مسألةٍ يتعيّن الحق فيها بين المتخاصمين فهي الأصول)(2)، فهو يجعل مِلاك الأصل والمرجع في تعيينه وفصله عن الفرع ما يعتمد عليه لفك النزاع بين المتخاصمين.

ثمّ انّ ابن ميثم البحراني (ت 699ه-) يشير إلى المعلومة نفسها التي ذكرها الشهرستاني نقلاً عن المتكلمين ، ويضيف أنّ إطلاق هذا الاسم على علم الكلام هو عرف المتكلمين(3).

وممّن أعطى تعريفًا منتظماً لأصول الدين قطب الدين الشيرازي (ت 710ه-) حيث قال ما ترجمته : وكل ما أمكن إثباته بالدليل العقلي سواءً أمكن إثباته بالنقل أم لا - يقال له علم أصول الدين، وكلّ ما لا يمكن إثباته إلّا بدليل السمع فهو علم فروع الدين)(4)، ثم يجعل الأصول

ص: 36


1- تلخيص الأدلة للصفار : 148
2- الملل والنحل للشهرستاني : 122
3- قواعد المرام لابن ميثم: 20. وإذا كان المتكفّل ببيانها هو العلم المسمى في عرف المتكلمين بأصول الدين...).
4- درة التاج للشيرازي: 165.

أربعةً معرفة الباري معرفة صفاته، معرفة أفعاله، ومعرفة النبوّة.

ونرى عند المقداد السيوري (ت 826ه-) تفصيلاً أكثرَ بشأن التعريف إذ يقول: (والأصول جمع الأصل، وهو ما يبتنى عليه غيره، والدين لغة الجزاء.. واصطلاحاً هو الطريقة والشريعة وهو المراد هنا، وسمّي هذا الفن أصول الدين لأنّ سائر العلوم الدينية من الحديث والفقه والتفسير مبتنية عليه، فإنّها متوقفةٌ على صدق الرسول، وصدق الرسول متوقفٌ على ثبوت المرسِلِ وصفاته وعدله وامتناع القبيح عنه. وعلم الأصول هو ما يبحث فيه عن وحدانية الله تعالى وصفاته وعدله ونبوة الأنبياء، والاقرار بما جاء به النبيّصلی الله علیه و آله و سلم وإمامة الأئمة علیسهم السلام والمعاد)(1).

3- الفقه الأكبر:

وقد نُسب إلى ابي حنيفة (ت 150ه-) إطلاق هذا الاسم على علم الكلام حيث قال: والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها، وما يتعلّق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر) (2).

وقد تمسّك أبو إسحاق الصفار في وجه تسمية الكلام بالفقه بالمعنى اللغوي حيث جعله من تفقّى الشيء وتفقّى الجرح إذا انفتح رأسه، وتفقّأت الأكمام وتفقّهت إذا انفتح ما فيها، فيكون الفقه بمعنى انكشاف الغطاء

ص: 37


1- النافع يوم الحشر للسيوري 9 ونحوه إرشاد الطالبين له أيضًا ، 14 ، وكذلك الاعتماد : 42 - 43 وذكر قريب منه ابن أبي جمهور الإحسائي (ق10) في كتابيه : شرح على الباب الحادي عشر 1: 112، ومجلي مرآة المنجي 1: 256.
2- راجع إشارات المرام للبياضي : 30 - 31، تلخيص الأدلّة للصفار البخاري: 148، 151، كشاف الاصطلاحات للتهانوي 1: 29

عن مكنون الأشياء، فإذا انكشف الغطاء عن مكنون اللفظ حصل فهم المعنى، فانتظم اسم الفقه على علم التوحيد لأنّه الأصل في الكشوف)(1).

4- التوحيد:

وهو أيضًا من الأسماء الشائعة لعلم الكلام ، حتى سُميت المعتزلة بأهل العدل والتوحيد وقد قال الغزالي (ت 505ه-) : (اللفظ الثالث التوحيد وقد جُعل الآن عبارةً عن صناعة الكلام، ومعرفة طرق المجادلة، والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدّق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات، حتى لقّب طوائفُ منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، وسمّي المتكلّمون العلماء بالتوحيد)(2).

5- علم النظر والاستدلال:

نسبه التهانوي (ق 12 إلى كتاب مجمع السلوك في التصوف للشيخ سعد الدين الخير آبادي (ت 882ه-) حيث قال: (وفي مجمع السلوك : يسمّى بعلم النظر والاستدلال أيضًا) (3) (3).

6- علم التوحيد والصفات:

أطلقه على علم الكلام التفتازاني (ت 793ه-) في شرح العقائد

ص: 38


1- تلخيص الأدلة : 150.
2- إحياء العلوم للغزالي 1: 40 ونحوه أيضًا في معاني التوحيد ودور المتكلمين في الدفاع عن عقيدة العوام في كتاب التوحيد والتوكل 4 179
3- كشاف الاصطلاحات 1 29

النسفية حيث قال: (إنّ مبنى علم الشرائع والأحكام وأساس قواعد عقائد الإسلام هو علم التوحيد والصفات الموسوم بالكلام)(1).

7 - علم العقائد:

وهو أيضًا مستعملٌ بكثرةٍ لما يشتمل عليه علم الكلام من تبيين العقائد والدفاع عنها، وقد تركت لنا كتب المعاجم أسماء كتبٍ كثيرةٍ تحمل اسم العقيدة أو العقائد من قبيل : العقيدة الطحاوية للطحاوي (ت 331ه-) قواعد العقائد للغزالي (ت 505ه-) وكذلك تجريد الاعتقاد للمحقق الطوسي (ت 671ه-) وكذلك العقائد النسفية للنسفي (ت 357ه-) وغيرها

الكثير.

هذه مجموعة من أسماء اُطلقت على هذا العلم، والأسم الأول أي علم الكلام هو الأولى من غيرها، إذ أنه اسم عام وشامل يغطي جميع الأخرى، فهو كلام في أصول الدين، والتوحيد والعقائد والنظر والاستدلال، كما أنّه قد ورد بهذا الاسم واستعمل في كلام الأئمة الأطهار عليهم السلام ممّا يعطي تأييدًا ضمنيّاً لهذا الاسم،كما انّ للشهرة أيضاً قسط من الثمن.

ص: 39


1- شرح العقائد النسفية : 13

3 - سبب التسمية بعلم الكلام

كثر الكلام في وجه تسمية هذا العلم بعلم الكلام، وكل الأقوال المطروحة هنا استحساناتٌ وأوجهٌ تقريبيةٌ لم يقم عليها دليلٌ قطعيٌّ، وأقدم من رأيته تعرض لذلك أبو إسحاق الصفّار البخاري (ت 534ه-) في كتابه «تلخيص الأدلّة»، وبعده الشهرستاني (548ه-) في «الملل والنحل»، ثم تطرّق بعدهما بعض علماء الكلام ،لذلك، وقد أسهب فيه التفتازاني (793ه-)، وفي ما يأتي نورد ما ذكره العلماء في وجه تسمية هذا العلم بعلم الكلام:

1- ذهب كثير من المتكلمين إلى انّ أهم مسألةٍ تكلّم فيها العلماء، هی مسألة الكلام الإلهي حيث كثر فيها الكلام، واختلفت الأقوال، وأُريقت الدماء لأجلها، فلذلك سمّي هذا العلم بها، قال الشهرستاني (ت 548ه-) : (إمّا لأنَّ أظهر مسألةٍ تكلّموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسالة، الكلام فسمّي النوع باسمها)(1).

ويوردُ عليه أولاً أنّ باقي الصفات الإلهية كالقدرة والإرادة كثر الكلام فيها أيضًا، بل سبقت مباحثها مباحث الكلام، وثانياً أنّ إطلاق المتكلّم على علماء الكلام سبق زمن ظهور الخلاف في مسألة الكلام الإلهي، وقد رأينا انّ الإمام الصادق علیه السلام أطلق ذلك

ص: 40


1- الملل والنحل للشهرستاني: 109 ، ونحوه الإيجي (ت 756ه-) في المواقف: 9، والتفتازاني (ت 793ه-) في شرح المقاصد 1: 28، وشرح العقائد النسفية: 16، وابن خلدون (ت 808ه-) في 344 غير أنه جعله الكلام النفسي، والجرجاني (ت 816ه-) في شرح المواقف :1: 66، والمقداد السيوري (ت 826ه-) في إرشاد الطالبين 15 وابن أبي جمهور الإحسائي (ق10) في المجلي 1 256 وشرح الباب الحادي عشر 1: 112، وقد استقرب البدوي (ت 2002م هذا الوجه في مذاهب الإسلاميين: 32.

على بعض أصحابه قبل زمن المأمون بكثير.

2- السبب الآخر الذي أشار إليه أكثر المتكلّمين أيضًا هو انّه يورث القدرة على الكلام ، إذ إنّ المتكلّم يخوض في المناظرات والجدل وإقامة الحجج وتبيين البراهين، فيصبح الكلام والنطق عنده ملكة)(1).

ويُورَد عليه أنّ غيره من العلوم يورث القدرة على الكلام أيضًا، بل ربّما تكون أولى منه بهذه التسمية، وذلك كالخطابة إلقاء القصائد والشعر فی المحافل والمجالس وكذلك التحديث والافتاء والتدريس. بل ربما كان الفقه والفقهاء أكثر انشغالاً بالنطق والتحديث من غيرهم لابتلائهم بالإفتاء وحلّ مشاكل الناس الفقهيّة في الصغيرة والكبيرة.

ولذا صاغ العلامة الحلي (ت 726ه-) الدليل بوجهٍ آخرَ فقال: (هذا العلم أدقُّ من غيره من العلوم والقوة المميزة للإنسان وهي النطق إنّما تظهر بالوقوف على أسرار هذا العلم، فكان المتكلّم فيه أكمل الأشخاص البشرية، فسمّي هذا بالكلام لظهور قوّة التعقل فيه)(2).

ويمكن لأصحاب الفلسفة أن يعترضوا على هذا الوجه، إذ ظهور قوّة التعقّل فيها أكثرُ وأشدُّ.

ص: 41


1- أشار إلى هذا الوجه كل من الإيجي ( ت 756ه-) في المواقف : 9 والتفتازاني (ت 793ه-) في شرح المقاصد ،28:1 ، وشرح العقائد النسفية 16 ، والجرجاني (ت 816ه-) في شرح المواقف 1: 67، والمقداد السيوري (ت 826ه-) في إرشاد الطالبين 15 ، وابن أبي جمهور الإحسائي (ق10) في المجلي :1 255 ، وشرح الباب الحادي عشر 1: 113
2- نهاية المرام للحلي 1: 9.

3- قيل أنّ السبب هو شروع مسائله في الكلام في كذا .. الكلام في كذا .. لذا سمّي بعلم الكلام لذلك(1).

4- وقيل لأنه أكثر العلوم خلافًا ونزاعًا فيشتدِ افتقاره إلى الكلام مع المخالفين والرد عليهم (2).

وذكر العلامة الحلي (ت 726ه-) رأياً قريباً منه حيث قال: (إنّ العارفين بالله تعالى يتميّزون عن غيرهم من بني نوعهم لما شاهدوه من ملكوت الله تعالى، وأحاطوا بما عرفوه من صفاته، فطالت ألسنتهم على غيرهم فكان عملهم أولى باسم الكلام)(3).

5- ومن الأوجه المذكورة أيضًا مقابلة الفلاسفة حيث كان لهم علم المنطق، قال الشهرستاني (ت548ه-) : (وإمّا لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنّا من فنون علمهم بالمنطق والمنطق والكلام مترادفان)(4).

وقال الجرجاني (ت 816ه-) في شرح هذا الوجه: (يعني أن لهم علمًا نافعًا في علومهم سمّوه بالمنطق، ولنا أيضًا علمٌ نافعٌ في علومنا سميناه في مقابلته بالكلام، إلّا أنَّ نفع المنطق في علومهم بطريق الآلية والخدمة، ومن ثمّة يسمّى خادم العلوم والتها، وربّما يسمّى رئيسها

ص: 42


1- ذكر هذا الوجه كل من : الإيجي (756ه-) في المواقف : 8 - 9 ، والتفتازاني (ت 793ه-) ، في شرح المقاصد 1 28 ، وشرح العقائد النسفية 16 والجرجاني (ت 816ه-) في شرح المواقف 1: ،66، والمقداد السيوري (ت 826ه-) في إرشاد الطالبيين ،14، وابن أبي جمهور الإحسائي (ق 10) في المجلي :1 256 وشرح الباب الحادي عشر 1: 112.
2- ذكره التفتازاني (ت793ه-) في شرح العقائد النسفية : 17 ، وشرح المقاصد 1 28 - 29 ، وابن خلدون (ت 808ه-) في المقدمة: 344 ، ونحوه ابن أبي جمهور الإحسائي (ق (10) في المجلي 1: 256
3- نهاية المرام :91
4- الملل والنحل للشهرستاني: 109، وتبعه الإيجي (ت 756ه-) في المواقف: 8.

نظرًا إلى نفاذ حكمه فيها، ونفع الكلام في علومنا بطريق الإحسان والمرحمة فلا يسمّى الّا رئيساً لها) (1).

وفيه أنّ التعرّف على المنطق والفلسفة كان متأخرّا على ظهور الاسم واستخدامه.

6- ذكر التفتازاني وجهًا آخر حيث قال: (ولأنّه أوّل ما يجب من العلوم التي إنّما تُعلَّم وتُتعلَّم بالكلام، فأطلق عليه هذا الاسم لذلك ثمّ خصّ به، ولم يطلق على غيره تمييزاً) (2).

7- قال العلامة الحلي (726ه-) : (هذا العلم يُوقَف منه على مبادئ سائر العلوم، فالباحث عنه كالمتكلّم في غيره، فكان اسمه بعلم الكلام أولى)(3).

8- وقال العلامة الحلي أيضًا: (العادة قاضيةٌ بتسمية البحث في دلائل وجود الصانع تعالى وصفاته وأفعاله الكلام في الله تعالى وصفاته، فسمّي هذا العلم بذلك، ولا استبعاد في تخصيص بعض الأسماء ببعض المسمّيات دون (بعض)(4).

9- وأضاف الحلي أيضًا: (أنكر جماعةٌ البحث في العلوم العقلية والبراهين القطعية، فإذا سُئِلوا عن مسألة تتعلّق بالله وصفاته وأفعاله

ص: 43


1- شرح المواقف 1 66.
2- شرح العقائد النسفية : 16
3- نهاية المرام 1 9 ونحوه باختصار ابن أبي جمهور الإحسائي (ق (10) في المجلي 1 256
4- نهاية المرام 1: 8، ونحوه المجلي 1: 255.

والنبوة والمعاد قالوا: نُهينا عن الكلام في هذا العلم، فاشتهر هذا العلم بهذا الاسم)(1).

10- وقال رحمه الله أيضًا : (هذا العلم أسبقُ من غيره في المرتبة، فالكلام فيه أسبق من الكلام في غيره، فكان أحق بهذا الاسم)(2).

11- أضاف التفتازاني (ت 793ه-) أيضًا : (ولأنّه إنّما يتحقّق بالتكلّم بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين، وغيره قد يتحقّق بالتأمل ومطالعة الكتب)(3).

12- وله أيضًا : (ولأنّه لقوّة أدلّته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه من العلوم، كما يقال للأقوى من الكلامين هذا هو الكلام(4).

13- رأيٌ آخرُ: إنّ أصل الكلام مأخوذ من الكَلم وهو الجَرْح، وقيل في وجه الشبه والتسمية: (لأن للكلام من التأثير في إظهار الخفي والفصل بين الحق والباطل والحسن والقبيح ما للجرح في قطع الجلد والفصل بين جزءٍ وجزءٍ، وإظهار ما خفي في الجلد من الدم واللحم والعظم)(5)، وذهب التفتازاني (ت 793ه-) إلى هذا الوجه أيضًا وقال في سبب التشبيه: (ولأنه لابتنائه على الأدلّة القطعية المؤيد أكثرها بالأدلّة

ص: 44


1- نهاية المرام 1 8 ونحوه ابن أبي جمهور في المجلي :1 256
2- نهاية المرام للحلي 91.
3- شرح العقائد النسفية : 17
4- شرح العقائد النسفية : 17 ، ونحوه شرح المقاصد 1: 29.
5- تلخيص الأدلّة للصفار البخاري: 145

السمعية، أشد العلوم تأثيراً في القلب وتغلغلاً فيه، فسمي بالكلام المشتق من الكَلم وهو الجَرْح)(1).

14- أمّا الشيخ السبحاني فقد ذهب إلى وجه جديدٍ آخرَ، ونسب ذلك إلى خُطب وكلام أمير المؤمنين علیه السلام وقال: (والَظاهر أنّ خطب الإمام وكلماته كانت هي الأساس في التسمية وتدوين علم الكلام،

فالمتكلّمون كانوا يستدلّون بكلام عليٍّ علیه السلام في

كذا وكذا حتى سمّي مجموع المسائل بعلم الكلام)(2).

هذه أهم الوجوه التي أوردها المتكلّمون في وجه تسمية هذا العلم بالكلام، وهي كما ترى لا تستند إلى دليلٍ قطعيٍّ، بل هي وجوهٌ تقريبيّةٌ يمكن دمج بعضها مع بعضٍ، ويمكن التوسّع فيها وذكر أوجهٍ أُخرى.

وقد اعتمد المتأخرون على هذه الأوجه، ونقلوها كما هي مع بعض التعاليق أو تقريب وجه على آخرَ، وعلى سبيل المثال ما ذهب إليه مصطفى عبد الرازق (ت 1947ه-) حيث استقرب وجهين في سبب التسمية، الوجه ل ما اعتمده على مقولة مالكٍ في وصفه لأهل البدع، وأنّهم يتكلمون في ما سكت عنه الصحابة: (فالكلام ضد السكوت، والمتكلّمون كانوا يقولون حيث ينبغي الصمت اقتداءً بالصحابة والتابعين الذين سكتوا عن المسائل الاعتقادية لا يخوضون فيها). وهذا قريبٌ ممّا ذكره العلامة الحلي وأوردناه في الفقرة رقم (9).

ص: 45


1- شرح العقائد النسفية : 17
2- معجم طبقات المتكلمين 1: 11.

والوجه الثاني ما أخذه عن مالكٍ أيضًا من قوله : لا أحب الكلام إلّا فيما تحته عملٌ (فالمتكلّمون قومٌ يقولون في أمورٍ ليس تحتها عملٌ، فكلامهم نظريٌّ لا يتعلّق به فعل، بخلاف الفقهاء الباحثين في الأحكام الشرعيّة العمليّة).(1)

وقد استقرب عبد الرحمن بدوي (ت2002م) الوجه الأول وقال: (ولا بدّ أنّ مسألة خلق القرآن وموقف المعتزلة منها ، ومعاضدة المأمون ثم المعتصم والواثق لهم في ذلك الموقف ضد موقف ابن حنبل، وما أدّى إليه ذلك من اضطهادٍ وتعذيبٍ وتنكيلٍ بمن لا يقول بأنّ القرآن مخلوقٌ، هو الذي جعل من الضروري إيجاد تسميةٍ لهذا اللون من البحث ولمن يخوضون فيه)(2)

والحق انّه لا يمكن حسم الموقف بهذا الخصوص، وانّ المصطلح (= علم الكلام) ولد جرّاء عدّة عوامل تعاضدت لنحته وتداوله وبمرور الزمن أصبح عَلَماً لهذا العلم. وإذا أردنا أن نستغرب الأوجه، فربما يكون ما ذهب إليه العلامة الحلي رحمه الله في الفقرة 8 و 9 اولى من غيره، حيث انّه شاع بين الناس والنخب انّ فلان يتكلّم في اللّه أو في صفاته وأفعاله، أو تكلّم في كذا وكذا من المسائلا لعقدية التي سكت عنها السلف، مضافاً إلى ورود روايات – سواء كانت صحيحة أو ضعيفة – في النهي عن الخوض في المسائل العقدية تداولها الناس فيما بينهم، أو ما ورد من النهي عن الجدل والمراء في الدين والجدل هو كلام ونطق، فهذه الامور وغيرها

ص: 46


1- تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية : 386 - 390 .
2- مذاهب الإسلاميين: 32

التي دارت في ضمير المجتمع الاسلامي آنذاك بلورت شيئاً فشيئاً هذا المصطلح وأصبح يقال لمن تكلّم في المسائل العقدية متكلّماً وبمرور الزمن تم نحت مصطلح علم الكلام لمجموعة علوم وأدلة يستعان بها لإثبات العقائد الدينية المتعلقة بالمبدأ أو المعاد.

ومعنى هذا انّ اطلاق لفظ المتكلّم على من يخوض في مسائل العقيدة سبق نحت مصطلح علم الكلام لهذا العلم، وقد ذكر الشهرستاني انّ المعتزلة هی التي نحتت هذا المصطلح بعد ما اطلعت على كتب الفلاسفة، فتأمل.

ص: 47

4 - ضرورة علم الكلام

اختلفت الآراء في الجدوى من علم الكلام، وهل توجد مندوحةٌ للخوض فيه، وهل له شرفٌ وفضلٌ وفائدةٌ، ناهيك عن الجدل بين المتكلمين وأهل الحديث

في حِلِيَّة ولزوم علم الكلام أو حرمته وكراهته، كما سيوافيك بيانه مفصَّلاً.

وقد أطبقت آراء علماء الكلام على لزوم الاهتمام به، بل صرّحوا بوجوبه وضرورته، حيث إنّ الكثير منهم ابتدأ كتابه بلزوم النظر والمعرفة، وهل إنّ ذلك يُدرك بالعقل أم النقل، وسيأتيك بيانه لاحقاً أيضًا.

والذين ذهبوا إلى وجوب علم الكلام وضرورته، استدلّوا على ذلك بدليل العقل والنقل، أمّا الدليل العقلي فقد صاغوه بعباراتٍ عدّةٍ:

1- لا خلاف بين العقلاء بأن العلم صفةٌ مدحٍ، وأنّ الجهل صفةُ ذمٍّ، وما من عاقلٍ في السماء والأرض إلّا وهو يرغب اجتناء صفة العلم واتّقاء صفة الجهل، وأولى العلوم العلم بالله (عز وجل) بالدليل المؤدي إلى اليقين، فعلم أصول الدين المؤدي إلى اليقين هو كنز العلوم ومعدنها، ومثمر كل فائدةٍ في الدين والدنيا والآخرة، ومن حُرِمَ هذا العلم كان مقصّرًا في تحقيق معاني سائر العلوم في الفروع، إذ علم الفروع لا يتم إلّا بعد علم الأصول(1).

2- إن معرفة اللّه تعالى ،واجبةٌ وكذا معرفة صفاته وما يجب له ويستحيل عليه، ولا تتم هذه المعرفة إلّا بهذا العلم لأنّه المتكفّل بذلك، وما لا يتم الواجب المطلق إلّا به فهو واجبٌ(2).

ص: 48


1- تلخيص الأدلة لأبي إسحاق الصفار (ت 534ه-): 107.
2- نهاية المرام للعلامة الحلي (ت 726ه-) 1 : 13 - 14.

3- إنَّ ما يخرج الإنسان من صفة الحيوانية هو التحلّي بالعلوم الحقيقية والأعمال المرضية، وإلّا لكان الإنسان كسائر الحيوانات، وبما أنّ العناية الإلهيّة تقتضي تخليص الإنسان من هذه المعايب أيّده بالنفس الناطقة المدركة للمعقولات، فما يوجب الخلاص هو التحلّي بهاتين الصفتين فاحتاج كلُّ عقل إلى ذلك غاية الحاجة، ووجب بطريق العقل وأيّده النقل الشريف(1).

أمّا النقل فقد استشهد العلامة الحلي (رحمه الله) بالآيات الدالة على النهي عن التقليد وذَمّه، وكذلك الآيات الدالة على التفكّر والتعقّل، كقوله تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أو قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) وغيرها من الآيات(2).

ثم انّ العلامة الحلي (رحمه الله) يرى أن الوجوب على قسمين: الوجوب العيني والوجوب الكفائي، ويذهب إلى أنّ وجوب علم الكلام وجوبٌ عينيٌّ بدليل النهي عن التقليد في العقائد.

ثمّ يحدّد مقدار العينيِّ من علم الكلام ويقول: (واعلم أنّ القدر الواجب على الأعيان من هذا العلم هو معرفة الله تعالى بالدليل، ومعرفة ما يجب معرفته من صفاته الثبوتيّة والسلبية، ومعرفة آثاره التي تتوقّف عليها بعثة الرسل، ومعرفة الرسل وصدق الأنبياء، ومعرفة المعاد والإمام. ولا يجب تتبّع الجواب على الشبهات ومقاومة الخصوم على الأعيان، بل ذلك واجبٌ على الكفاية)(3).

ص: 49


1- المجلي لابن ابي جمهور (ق (110 255، بتصرف.
2- نهاية المرام 1: 14
3- نهاية المرام 1 14

5 - الغاية من علم الكلام

لا بدّ قبل الخوض في أيِّ عملٍ وجهدٍ فكريٍّ أو غيرِ فكريٍّ، من التعرف على غاية ذلك العمل أو العلم والوقوف على فوائده، وإلّا أصبح العمل عبثًا، مضافًا إلى أنّ الغاية في كلِّ علمٍ هي التي تحدّد موضوع العلم وتعريفه(1).

من هذا المنطلق رسم علماء الكلام مجموعة أهدافٍ وغاياتٍ لعلم الكلام نوجزها ضمن النقاط الآتية:

1- الوصول إلى السعادة الأخروية(2)، إذ إنّ النجاة يوم القيامة منوطٌ بالإيمان والاعتقاد بالله وما جاء به على ألسنة أنبيائه، وذلك ممّا يتوصّل إليه بعلم الكلام.

وقد بسط العلامة الحلّي القول في ذلك، واستعان بما أورده الفلاسفة من كون الإنسان مدنيّاً بالطبع، يفتقر في معاشه إلى اجتماع مجموعةِ أمورٍ لا تتحقّق إلّا ضمن المجتمع، ولا بدّ لهذا المجتمع من قانونٍ حَذَرًا من الهرج والمرج، وهذا القانون لو وضعه الناس لحصل الاختلاف، لذا تمّ إرسال الرسل بشرائعَ تقتضي نظام الوجود ومجازاة المتمثل لها بالإحسان ومقابلة المخالف بالعذاب الأخروي، وعليه فعلم الكلام: (هو المتكفل بمعرفة المجازىَ وكيفيّة آثاره وأفعاله وتكاليفه على الإجمال، وذلك هو سبب السعادة الأبدية والخلاص عن الشقاء الأبدي ولا غاية أهمّ من هذه الغاية)(3).

ص: 50


1- معجم طبقات المتكلمين للسبحاني 1 17.
2- المسالك في أصول الدين للمحقق الحلى :34 .
3- نهاية المرام للعلامة الحلي 1 12 - 13

2- الفوز بالسعادات الدينية والدنيوية، وهذا ما ذهب إليه التفتازاني في إحدى أقواله(1)، والمراد من السعادة الدينيّة واضحٌ حيث إنّ علم الكلام بعدما ينير الطريق الصحيح للإنسان في ما يخصّ المعتقدات الدينيّة، يصل الإنسان إلى السعادة الدينية بعد الالتزام بها، وأمّا السعادة الدنيوية فهي الإحساس بالأمن والهداية والاطمئنان الداخلي من جهةٍ، وتنظيم الحياة الدنيوية وفقًا للنظرة الكونية الدينيّة، إذ بهما تحصل السعادة الدنيويّة.

3- ردّ شبهات ،الخصوم، وقد ذهب إليه الشعراني (ت 973ه-) حيث قال : (اعلم رحمك الله أنّ علماء الإسلام ما صنّفوا كتب العقائد ليثبتوا في أنفسهم العلم بالله تعالى، وانمّا وضعوا ذلك ردعاً للخصوم الذين جحدوا الإله أو الصفات أو الرسالة أو رسالة امام محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بالخصوص، أو الإعادة في هذه الأجسام بعد الموت ونحو ذلك ممّا لا يصدر إلّا من كافرٍ، فطلب علماء الإسلام إقامة الأدلّة على هؤلاء ليرجعوا إلى اعتقاد وجوب الإيمان بذلك لا غير ..)(2).

4- تكميل النفس بالمعارف الحقة، وذلك(لتصل بها إلى كمالها الممكن لها، لتُشابِه الأنوار المجرّدة وتتصل بالعالم المقدّس، وتتّصف بالقرب إلى الحضرة الربوبية، فتنال السعادة الأبدية والبهجة السرمدية (3).

5- تحلية الإيمان بالإيقان، بمعنى (أن يصير الإيمان والتصديق

ص: 51


1- شرح العقائد النسفية : 19.
2- اليواقيت للشعراني : 28 .
3- المجلي لأبن ابي جمهور 1: 254.

بالأحكام الشرعية متيقَّنّا محكَمًا لا تزلزله شبه المبطلين)(1).

6- حفظ العقيدة من البدع والشبهات وقد ذكر هذا القول الغزالي ت (505ه-) وخصّصه بعقيدة أهل السنّة حيث قال: (ومقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة، فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدةً هي الحق على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار، ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورًا مخالفة للسنة، فلهجوا بها وكادوا يشوّشون عقيدة الحق على أهلها، فأنشأ الله تعالى طائفة المتكلّمين، وحرّك دواعيهم لنصرة السنة بكلامٍ مرتّبٍ يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة)(2).

ص: 52


1- شرح المقاصد للتفتازاني 1 : 37
2- المنقذ من الضلال : 61 - 62، وباختصار في إحياء العلوم 1: 40، 97

6- فوائد علم الكلام ومنافعه

على الرغم من أنّ الفوائد والمنافع ربما تتحد مع الغايات، غير أنّنا أفردنا لها عنوانًا مستقلاً تبعًا لبعض المتكلّمين، إذ أنّهم اهتموا بذكر الفائدة دفعاً للعبث وزيادةً في الرغبة إليه(1)، أما الفوائد والمنافع التي رسمها المتكلمون فهي:

1- تكامل النفس الإنسانيّة، حيث (لما كان هذا العلم أشرف العلوم، وكان الغرض الأقصى من العلم هو تكميل النفس الإنسانية لتحصل لها السعادة الأخروية، كان هذا من أعظم منافع هذا العلم)(2).

2- الترقّي من حضيض التقليد إلى ذروة الايقان، وهذا ما ذهب إليه الايجي (ت 756ه-)(3)، ثم استشهد بقوله تعالى: (يَ رْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)(4)، وعلّق الجرجاني (ت 816ه-) على الآية الكريمة رغم دخول العلماء في ضمن أصحاب الإيمان بقوله (خصّ العلماء الموقنين بالذكر مع اندراجهم في المؤمنين رفعًا لمنزلتهم، كأنه قال : وخصوصًا هؤلاء الأعلام منكم)(5).

3- الفوز بنظام المعاش ونجاة المعاد، وقد ذهب إليه التفتازاني (ت 793ه-) حيث قال: (ومنفعته في الدنيا انتظام أمر المعاش بالمحافظة على

ص: 53


1- المواقف للإيجي: 8.
2- الأسرار الخفية للعلامة الحلي: 412
3- المواقف : 8
4- المجادلة: 11
5- شرح المواقف :1 57 عن اللاهيجي في شوارق الإلهام 711

العدل، والمعاملة التي يحتاج إليها في بقاء النوع على وجهٍ لا يؤدّي إلى الفساد، وفي الآخرة النجاة من العذاب المرتب على الكفر وسوء الاعتقاد(1).

4- تأصيل العقائد وردّ الشبهات وقد أشار إليهما الإيجي (ت 756ه-) حيث قال في ضمن عدّه لفوائد علم الكلام: (الثاني: إرشاد المسترشدين بإيضاح الحجة، وإلزام المعاندين بإقامة الحجة. الثالث: حفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبه المبطلين)(2).

أمّا الغزالي (ت 505ه-) فانّه اقتصر على الوجه الثاني، أي ردّ الشبهات وحراسة العقيدة من إشكالات المبتدعة وهذه هي المنفعة الوحيدة التي يتصوّرها الغزالي لعلم الكلام، أمّا مسألة التأصيل وكشف الحقائق فينفيها، ويزعم أنّ التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف ويقول بعد :هذا (بل منفعته شيءٌ واحدٌ وهو حراسة العقيدة - التي ترجمناها على العوام - وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل)(3).

أمّا ابن خلدون (ت 808ه-) فانّه يتمسّك بالشق الأول أي العلم بالحجج والتعرّف عليها، لأنّه يرى أانّ الشق الثاني - أي ردّ الشبهات - أصبح غيرَ ضروريٍّ في عهده آنذاك، لأنّ الملاحدة والمبتدعة قد انقرضوا، لذا يقول:

(فائدته في آحاد الناس وطلبة العلم معتبرةٌ، إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها)(4).

ص: 54


1- شرح المقاصد 1 : 37 . 1:
2- المواقف : 8 ، عن شرح المواقف للجرجاني 1 57 شوارق الإلهام للاهيجي 1: 71.
3- إحياء العلوم 1: 97.
4- المقدمة : 346

5- انبناء العلوم الشرعية عليه، فإنّه أساسها وإليه يؤول أخذها واقتباسها، فقد ذكر هذا الوجه الإيجي (ت 576ه-)(1)، وشرحه الجرجاني (ت 816ه-) بقوله: (فإنّه ما لم يثبت وجود صانعٍ عالمٍ قادرٍ مكلّفٍ مرسلٍ للرسل مُنزّل للكتب، لم يُتصوَّر علمُ تفسيرٍ وحديثٍ ولا علمُ فقهٍ وأصوله، فكلها متوقفةٌ على علم الكلام مقتبسةٌ منه، فالآخذ فيها بدونه كبانٍ على غير أساس)(2).

6- صحة النيّة والاعتقاد، إذ بها يرجى قبول العمل(3).

ص: 55


1- المواقف : 8 .
2- شرح المواقف 1: 57 . -
3- المواقف: 8.

7- شرف علم الكلام وفضله

اتّفق المتكلمون على أنّ علم الكلام أشرف العلوم وأفضلها على الإطلاق، وذكروا لذلك مجموعة أدلّةٍ نوجزها في ما يأتي:

1- ذهب أغلب المتكلمين إلى أنّ سبب شرف هذا العلم كون معلومه أشرف المطالب والأمور، قال العلامة الحلي (ت 726ه-): (لا شكّ في أنّ شرف العلم تابع لشرف المعلوم، ولما كان الغرض الأقصى من هذا الفن معرفة الله تعالى وصفاته وكيفية أفعاله وتأثيراته عن رسله وأوصيائهم وأحوال النفس والمعاد وهذه أشرف المطالب، خصوصًا أو واجب الوجود تعالى أشرف الموجودات، فالعلم به أشرف العلوم)(1).

2- وثاقة البرهان، وهو السبب الثاني في أشرفية علم الكلام، حيث : (إنّ مقدمات العلوم قد تكون قطعيّةً وقد تكون ظنيّةً، ويحصل بالأول اليقين وبالثاني الظنّ، والأول أشرف، ومقدمات هذا الفن قطعيّةٌ يقينيّةٌ، إمّا بديهيّةٌ أو كسبيّةٌ راجعةٌ إليها، فتكون براهينه أوثقَ من غيره فيكون أشرفَ)(2).

3- شدّة الحاجة إليه لنيل السعادتين، وذلك (أنّ الإنسان خلق لا كغيره من الحيوانات بل جُعل محلًّا لخطاب الله تعالى وتكليفه لينال السعادة الأخروية، وهي أجلّ المطالب وأتمّ المقاصد، ولا شكّ في أنّ نيل هذه السعادة إنّما يحصل بالإيمان بالله تعالى ورسله واليوم الآخر، وذلك كلّه

ص: 56


1- نهاية المرام 1 6 ونحوه الفخر الرازي (ت 606ه-) في نهاية العقول :1: 97، والتفسير 2: 59، وكذلك الإشارة: 53 ، كما ذكره الآمدي (ت 631ه-) في غاية المرام ،4 ، والمقداد السيوري (ت 826ه-) في إرشاد الطالبين 15 والقطب الشيرازي (ت 710ه-) في درة التاح: 178.
2- نهاية المرام للعلامة الحلي 1 7 ونحوه الرازي (ت 606ه-) في نهاية العقول 1: 97، المقداد السيوري (826ه-) في إرشاد الطالبين 15 وابن أبي جمهور الإحسائي (ق10) في المجلي 1: 258 والقطب الشيرازي (ت 710ه-) في درة التاج: 180

إنّما يحصل بمعرفة هذا الفن فيكون أشرف السعادة الدنيويّة لا يمكن تحصيلها إلّا بالحكمة العملية المعلوم فيها معرفة أحوال نظام العالم، والعلوم السياسيّة والمدنيّة والأخلاق المحمودة والمذمومة، لتكمل النفس باستعمال تلك والتنزّه عن هذه، وذلك إنّما يحصل بالرغبة في الثواب والرهبة من العقاب، وإنّما يستفادان من هذا العلم)(1).

4- توقُّف سائر العلوم الدينيّة عليه، وذلك أنّ: (العلوم الدينيّة كلّها متوقفةٌ على صحة هذا العلم، لأنّه المتكفّل لإثبات الصانع تعالى، وإثبات قدرته وعلمه ليصحّ تكليفه، ويتيسّر للفقيه والمحدّث والمفسّر للكتاب العزيز وغيرهم من العلماء الخوض في علومهم وإذا ثبت استغناؤه عن غيره واحتياج غيره إليه كان أشرفَ)(2).

5- خساسة ضدّه، حيث (أنَّ للضد مدخلاً في حسن الضد الآخر وقُبحه، فإذا كان الخطأ في هذا العلم كفراً وبدعةً، وهما من أقبح الأشياء وأخسّها، وجب أن يكون هذا العلم الذي يحصل به إصابة الحق من أشرف الأشياء وأحسنها)(3).

6- موضوعه أعمّ المواضيع ، وذلك انّ (موضوعات سائر العلوم راجعة إلى هذا العلم، وموضوعه بديهيّ الثبوت، فجميع العلوم

ص: 57


1- نهاية المرام العلامة الحلي 1 7 ، ونحوه الفخر الرازي (ت 606ه-) في نهاية العقول 1: 98 والتفسير ،2 ،96، والقطب الشيرازي (ت 710ه-) في درة التاج : 179.
2- نهاية المرام 1 ،7 ونحوه الفخر الرازي (ت 606ه-) في نهاية العقول :1 98، وتفسيره 2: 95 والإشارة : 54 والتفتازاني (ت 793ه-) في شرح العقائد النسفية : 19 ، والمقداد السيوري (ت 826ه-) في إرشاد الطالبين ،15، والقطب الشيرازي (ت 710ه-) في درة التاج: 178.
3- نهاية المرام 1 8 و نحوه الفخر الرازي (ت 606ه-) في نهاية العقول :1: 96، وتفسيره 2: 96، والإشارة: 54 ، وكذلك القطب الشيرازي (ت 710ه-) في درة التاج : 179.

محتاجة إليه ومبادئها مستندة إليه، فيكون أشرف)(1).

7-(إنّ هذا العلم لا يتطرّق إليه النسخ والتغيير، ولا يختلف باختلاف الأمم والنواحي بخلاف سائر العلوم، فوجب أن يكون أشرف العلوم)(2).

8- انّه عادة الأنبياء عليهم السلام فيكون أشرف وأفضل، ذكر هذا الوجه قطب الدين الشيرازي (ت 710ه-) ثم ذكر بعد ذلك مجموعة مناظرات في أصول الدين للأنبياء عليهم السلام ابتداءً من نوح علیه السلام وانتهاءً بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم(3).

9- الاستشهاد بالقرآن على أشرفية علم الكلام، قال الفخر الرازي (ت 606ه-): (إنّ الآيات الواردة في الأحكام الشرعية أقلّ من ستمائة آيةٍ، وأما البواقي ففي بيان التوحيد والنبوة والرد على عَبَدة الأوثان وأصناف المشركين، وأما الآيات الواردة في القصص فالمقصود منها معرفة حكمة لله تعالى وقدرته على ما قال: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولي الأَلْبَابِ) فدلّ ذلك على أنّ هذا العلمَ أفضلُ)(4).

وقد ذكر القطب الشيرازي (ت 710ه-) وجهًا استحسانيّاً آخرَ، حيث ذهب إلى أنّ الناس يقرأون في الدعوات والتضرّع إلى الله تعالى آيات الكرسي و(شهد الله) و (آمن الرسول) ولم يقرأوا آيات البيع والشراء والتجارة وما شاكل، وهذا دليل على أنّ آيات علم الأصول أفضل من آيات علم الفروع، فعلم الأصول أفضلُ)(5).

ص: 58


1- نهاية المرام 1: 8، والمجلي لأبن أبي جمهور (ق 10) 1: 257.
2- الفخر الرازي (ت 606ه-) في التفسير 2 96 ، والمقداد السيوري (ت 826ه-) في إرشاد الطالبين 15 وابن أبي جمهور (ق10) في المجلي :1 258 والقطب الشيرازي (ت 710ه-) في درة التاج : 179.
3- درة التاج: 183 - 212
4- تفسير الفخر الرازي1:96
5- درة التاج : 179.

8- موضوع علم الكلام

هناك جدلٌ واسعٌ بين علماء الكلام وعلماء الأصول والفلاسفة والمناطقة حول موضوع العلوم، فبينما الأكثرية منهم يرون لزوم وجود موضوعٍ للعلم يُبحث فيه عن عوارض ذلك العلم الذاتية وأنَّ به تتمايز العلوم، يرى بعضهم عدم ضرورة وجود موضوع للعلم.

وبهذا الخصوص فقد ذهب السيد الخميني (قدس الله روحه) إلى عدم وجود ضرورة للموضوع، حيث يرى أنّ العلوم سواءً أكانت علميّةً أم حقيقيّةً أم اعتباريّةً قد تكاملت بمرور الزمان وتحوّلت من النقص إلى الكمال، فإنّها كانت في أول يومها الذي دُوّنت وانتشرت مسائلَ عدّةً متشتتةً، ثم جاء الخلف بعد السلف في القرون الغابرة، وقد أضافوا إليها ما تمكنوا حتى بلغ ما بلغ فالعلوم إذاً لم تكن إلا قضايا قليلةً قد تكاملت بمرور الزمان، فلم يكن الموضوع عند المؤسس المدوّن مشخَّصاً حتی يجعل البحث عن أحواله.

ثم يستنتج بعد هذا العرض ويقول: (فتلخص أن الالتزام بأنه لا بد لكل علمٍ من موضوعٍ جامعٍ بين موضوعات المسائل، ثم الالتزام بأنه لا بد من البحث عن عوارضه الذاتية، ثم ارتكاب تكلفاتٍ غيرِ تامّةٍ لتصحيحه والذهاب إلى استطراد كثيرٍ من المباحث المهمة التي تقضي الضرورة بكونها من العلم، مما لا أرى وجهًا صحيحًا له ولا قام به برهانٌ، بل البرهان على خلافه)(1).

ومن المتكلمين المعاصرين ذهب الشيخ خسروپناه أيضًا إلى أنّ علم

ص: 59


1- تهذيب الأصول 1 ،16 ، ونحوه أيضا مناهج الأصول 1: 40.

الكلام لا موضوع له(1)، كما أنّ الشيخ المطهري (رحمه الله) يميل إلى هذا الرأي أيضًا، ويعلّله بأنّ لزوم وجود الموضوع والحكم بتمايز العلوم بحسب الموضوع، إنّما يتحقق في العلوم التي تكون بين مسائلها وحدةٌ حقيقيّةٌ، أمّا العلوم التي تكون وحدةٌ مسائلها اعتباريّةً كعلم الكلام، فلا حاجة للبحث عن موضوعٍ واحدٍ له، فلذا نرى تداخل مسائل الكلام مع الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع (2).

إذا عرفت هذا فقد حدّد العلامة الحلّي (ت 726ه-) أربعَ وظائفَ لموضوع العلم :

1- البحث عن العوارض الذاتية التي تلحق العلم.

2- التمايز بين العلوم حذرًا من الامتزاج والخلط بين علمين أو أكثر.

3- لا يُشترط أن يكون الموضوع واحدًا بل قد يكون متكثراً، لكن بشرط تناسب تلك الأشياء المتكثّرة، إمّا بأن تتشارك في ذاتيٍّ كالخط والسطح والجسم إذا جعلت موضوعات الهندسة، فانّها تشترك في الكم المتصل القار الذات وهو جنس لها، أو في عَرَضيٍّ كبدن الإنسان وأجزائه وأحواله والأدوية والأغذية وما شاكلها، إذا جُعلت جميعًا موضوعات علم الطب، فانّها تتشارك في كونها منسوبةً إلى الصحة التي هي الغاية في ذلك العلم.

4- رجوع موضوعات المسائل إليه حيث يكون جامعًا لها(3).

ص: 60


1- الكلام الإسلامي المعاصر 1 19.
2- مجموعة مؤلفات الشيخ المطهري 3 : 62 - 63 علم الكلام
3- نهاية المرام 1 9 - 10 ، وأنظر أيضا شرح المقاصد للتفتازاني 1 31، شوارق الإلهام للأهيجي .52:1

وعلى الرغم من اتّفاق أكثر علماء الكلام على ضرورة وجود موضوعٍ له، اختلفوا في تحديد الموضوع إلى أقوالٍ عدّةٍ:

ألف: أصول الدين:

ذهب إليه الشهرستاني (ت 548ه-) حيث إنّه بعدما عرّف أصول الدين - نقلاً عن بعض المتكلمين - بأنّه معرفة الباري تعالى بوحدانيته وصفاته، ومعرفة الرسل بآياتهم وبيناتهم قال : ( والأصول هو موضوع علم الكلام(1).

ب: العقائد الإيمانية:

وهذا قريبٌ من الأول، وقد ذهب إليه ابن خلدون (ت 808ه-) حيث قال: (فموضوع علم الكلام عند أهله انّما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحةً من الشرع من حيث يمكن أن يستدلّ عليها بالأدلّة العقلية، فترفع البدع وتزول الشكوك والشّبهَ عن تلك العقائد، وإذا تأملت حال الفن في حدوثه، وكيف تدرّج كلام الناس فيه صدرًا بعد صدرٍ، وكلّهم يفرض العقائد صحيحةً ويستنهض الحجج والأدلّة، علمت حينئذٍ ما قرّرناه لك في موضوع الفن، وأنّه لا يعدوه)(2).

ج ذات الواجب تعالى وصفاته :

ذهب إليه سيف الدين الآمدي (ت 631ه-) حيث قال: (وأشرف العلوم إنما هو العلم الملقّب بعلم الكلام الباحث عن ذات واجب الوجود وصفاته وأفعاله ومتعلقّاته، إذ شرف كل علم إنّما هو تابعٌ لشرف موضوعه

ص: 61


1- الملل والنحل: 122
2- المقدمة لابن خلدون: 345

الباحث عن أحواله العارضة لذاته، ولا محالة أنَّ شرف موضوع هذا العلم يزيد على شرف كل موضوعٍ، ويتقاصر عن حلول ذراه كل موجودٍ مصنوعٍ، إذ هو مبدأ الكائنات ومنشأ الحادثات، وهو بذاته مستغنٍ عن الحقائق والذوات..)(1)، ونسب التفتازاني (ت 793ه-) هذا القول إلى القاضي الأرموي (ت 656ه-) أيضًا(2).

كما أن السمرقندي (ت بعد 690ه-) له الرأي نفسه مع بعض الاختلاف، حيث قال: (إذا عُلم أن بحثنا في علم الكلام عن أوصافٍ ذاتيةٍ لذات الله تعالى من حيث هي، وعن أوصافٍ ذاتيةٍ لذات الممكنات من حيث إنّها محتاجةٌ إلى ذات الله تعالى عُلم أنّ موضوع علم الكلام ذات الله تعالى من حيث هي، وذات الممكنات من حيث إنّها محتاجةٌ إلى اللّه تعالى لما علم فيما مضى أنّ موضوع كلِّ علمٍ ما يُبحث فيه عن أوصافه الذاتية)(3).

وقد استشكل الإيجي (ت 756ه-) على هذا الوجه و أورد عليه إشكالين:

1- أنّه قد يبحث فيه عن غير ذات الله وصفاته وأفعاله كالجواهر والأعراض لا من حيث هي مستندٌ إليه تعالى، ثم قال: لا يقال ذلك على سبيل المبدئية، لأنّا نقول : ليس ذلك من الأمور البينّة بذاتها فلا بد من بيانه في علمٍ، فإن بُيّن في هذا العلم فهو من مسائله، فوجب أن يكون راجعًا إلى أحوال موضوعه وليس كذلك، أو في علمٍ آخرَ كان ثمة علمٌ أعلى منه شرعيٌّ تبيّن فيه مبادئه، إذ لا يجوز أن تبيّن المبادئ في علمٍ أعلى غيرِ

ص: 62


1- غاية المرام ،4 ، ونحوه باختصار في أبكار الأفكار 1: 68 .
2- شرح المقاصد 1: 42.
3- المعارف في شرح الصحائف 1: 355.

شرعيٍّ، وإن ثبوت علمٍ شرعيٍّ أعلى من علم الكلام باطلٌ اتفاقًا.

2 - إنّ موضوع العلم لا يبيّن فيه وجوده، وذلك لأن المطلوب المبين في العلم إثبات الأعراض الذاتية لموضوعه، ولا شكّ أنّه متوقفٌ على وجوده، فلا يكون وجوده عرضًا ذاتيّاً مبيّنًا فيه وإلّا لزم توقُّفه على نفسه، فيلزم إذا كان موضوع الكلام ذاته إما كون إثبات الصانع بيّنًا بذاته فلا يحتاج إلى بيانٍ أصلاً ، أو كونه مبيَّنًا في علمٍ أعلى، والقسمان باطلان(1).

وبهذا استشكل العلامة الحلّي (ت 726ه-) أيضًا قائلاً: (ولا يجوز أن يكون هو ذات الله تعالى لأن في هذا العلم يُستدلّ على وجوده، لأنّ إثباته ليس بمستغنٍ عن البيان، ولا يبيّن في علمٍ آخر، ولأنّ هذا العلم يبحث عن المفارقات للمادة، وقد لاح في الطبيعيات كون البارئ تعالى مجرّدًا عن المادة وكل جهةٍ، فلهذا العلم بحث عنه، ونحن قد منعنا أن نثبت موضوع العلم فيه) (2).

وقد ردّ التفتازاني (793ه-) على الإشكال الأول بأنّ ذلك قد يكون على سبيل الاستطراد قصدًا إلى تكميل الصناعة، بأن يُذكر مع المطلوب ما له نوع تعلّقٍ من اللواحق والفروع والمقابلات وما أشبه ذلك، كمباحث المعدوم والحال وأقسام الماهية والحركات والأجسام، أو على سبيل الحكاية لكلام المخالف قصدًا إلى تزييفه كبحث علّة اليقين والآثار العلوية والجواهر المجردة، أو على سبيل المبدئية بأن يتوقف عليه بعض

المسائل فيذكر لتحقيق المقصود، أما ما سوى ذلك فيرى التفتازاني أنّه

ص: 63


1- المواقف للإيجي : 7 مع شرح الجرجاني 1 50 - 52 .
2- الاسرار الخفية: 410 .

من باب فضول الكلام يقصد به تكثير المباحث.

أمّا الإشكال الثاني فيرد عليه بأنّ ما يبيّن فيه مبادئ العلم الشرعي لا يجب أن يكون علمًا أعلى، ولا أن يكون علمًا ،شرعيّاً، للإطباق على أنّ علم الأصول يستمدّ من العربية ويبيّنُ فيها بعض مبادئه ، إذ تقرّر أنّ مبادئ العلم قد تكون بينةً بنفسها فلا تبيّن في علم أصلاً، وقد تكون غيرَ بيِنةٍ فتبيّن في علمٍ أعلى بجلالة محله عن أن يبيّن في ذلك العلم، أو في علمٍ أدنى لدنوّ شأنه عن أن يبيّن في ذلك العلم)(1).

د: المعلوم:

ذهب إلى هذا الرأي كل من الإيجي (ت 756ه-) والتفتازاني (ت 793ه-) والجرجاني (ت 816ه-).

قال الإيجي: (موضوعه هو المعلوم من حيث يتعلّق به إثبات العقائد الدينية تعلّقا قريبًا أو بعيدًا)(2).وقال الجرجاني: (وذلك لأنّ مسائل هذا العلم إمّا عقائدُ دينيّةٌ كإثبات القِدَم والوحدة للصانع، وإثبات الحدوث وصحة الإعادة للأجسام، وإمّا قضايا تتوقّف عليها تلك العقائد كتركيب الأجسام من الجواهر الفردة، وجواز الخلاء... والشامل لموضوعات هذه المسائل هو المعلوم المتناول للموجود والمعدوم والحال، فان حكم على المعلوم بما هو العقائد الدينية تعلّق به إثباتها تعلّقًا قريبًا، وإن حكم عليه بما هو وسيلةٌ إليها تعلّق به إثباتها تعلّقًا بعيدًا)(3).

ص: 64


1- شرح المقاصد 1 43 - 44.
2- المواقف 7 ، ونحوه شرح المقاصد للتفتازاني 1: 35.
3- شرح المواقف 1: 45 - 46.

ه- : الموجود:

ذكر هذا الوجه الغزالي (ت 505ه-) حيث قال: (المتكلّم هو الذي ينظر فی أعم الأشياء وهو الموجود، فيقسّم الموجود أولاً إلى قديمٍ وحادثٍ، ثم يقسّم المُحدث إلى جوهرٍ ،وعرضٍ ثم يقسّم العرض إلى ما تشترط فيه الحياة من العلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر، وإلى ما يستغني عنها كاللون والريح والطعم، ويقسّم الجوهر إلى الحيوان والنبات والجماد، ويبيّن انّ اختلافها بالأنواع أو الأعراض، ثم ينظر في القديم فيبيّن انّه لا يتكثّر ولا ينقسم انقسام الحوادث، بل لا بدّ من أن يكون واحدًا وأن يكون متميّزاً عن الحوادث بأوصافٍ تجب له، وبأمورٍ تستحيل عليه، وأحكامٍ تجوز في حقه ولا تجب ولا تستحيل، ويفرّق بين الجائز والواجب والمحال في حقّه، ثمّ يبيّن أنّ أصل الفعل جائز عليه، وأنّ العالم فعله الجائز، وأنّه لجوازه افتقر إلى محدِثٍ، وأنّ بعثة الرسل من أفعاله الجائزة، وأنّه قادرٌ عليه، وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات وأنّ هذا الجائز واقعٌ.

عند هذا ينقطع كلام المتكلّم وينتهي تصرّف العقل، بل العقل يدلّ على صدق النبي، ثم يعزل نفسه ويعترف بأنّه يتلقّى من النبي بالقبول ما يقوله في اللّه واليوم الآخر ، مما لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي أيضًا باستحالته.. فهذا ما يحويه علم الكلام، فقد عرفت من هذا أنّه يبتدئ نظره في أهمّ الأشياء وهو الموجود، ثم ينزل بالتدريج إلى التفصيل الذي ذكرناه فيثبت فيه مبادئ سائر العلوم الدينية من الكتاب والسنّة وصدق الرسول ... فإذًا الكلام هو المتكفّل بإثبات مبادئ العلوم الدينية كلّها، فهي جزئيّةٌ بالإضافة إلى الكلام،

ص: 65

فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات)(1).

وقد ذكر هذا الوجه أيضًا العلامة الحلي (ت 726ه-) بأدنى اختلافٍ مع حذف الزوائد، غير أنّه جعل الموضوع الوجود المطلق بدل الموجود(2)، وأشار إليه التفتازاني (ت 793ه-) أيضًا(3).

ثمّ إنّه لما كان هذا الموضوع أي : (الموجود بما هو موجودٌ) مشتركًا مع الفلسفة، ذكر المتكلّمون قيدًا ليتمايز ،العِلمان، وهو أن يكون البحث فيه على قانون الإسلام، إذ الفلسفة تبحث عن الأمور بشكلٍ مطلقٍ من دون لحاظ أيِّ قانونٍ مسبَقٍ.

قال اللاهيجي (ت 1072ه-) : (ثم لما كان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، قيّدوا الموجودها هنا بحيثيّة كونه متعلّقًا للمباحث الجارية على قانون الإسلام، أي الطريقة المعهودة المسمّاة بالدين والملّة والقواعد المعلومة قطعًا من الكتاب والسنة.. التي يقطع بها الإسلام دون الفلسفة، فيتميّز الكلام عن الإلهي بهذا الاعتبار)(4).

وقد اعترض الإيجي (ت 756ه-) على جعل الموجود موضوعاً لعلم الكلام، وقدّم عليه إشكالين :

1- إنّ علم الكلام قد يبحث عن المعدوم والحال، وعن أمورٍ لا

ص: 66


1- المستصفى من علم الأصول للغزالي :1 13 - 14
2- نهاية المرام 1: 11
3- شرح المقاصد 1: 38
4- شوارق الإلهام :1 58، وقد أشار إلى قيد (قانون الإسلام الإيجي (ت 756ه-) في المواقف: 8، والتفتازاني (ت 793ه-) في شرح المقاصد 1 38، والجرجاني (ت 816ه-) في شرح المواقف 1: 53.

باعتبار أنّها موجودةٌ في الخارج كالنظر والدليل، أمّا الوجود في الذهن فهم لا يقولون به.

2- إنّ قانون الإسلام ما هو الحق من هذه المسائل بمعنى أنّ المسائل الباطلة خارجةٌ عن قانون الإسلام قطعًا، فإن زعم هذا القائل أنّ الكلام هو هذه المسائل الحقّة فقد يرد عليه بأنّها حينئذٍ لا تسبب تمايز علم الكلام عن غيره والحال أنّ أصحاب المسائل الحقة والمبطلة كلٌّ يدّعي بأنّ مسائله على قانون الإسلام مع أنّه باطلٌ قطعًا لأنّ المخطئ من أرباب الكلام أيضًا مسائله من مسائل الكلام وإن كُفّر أو بُدّعَ(1).

وقد اعترض التفتازاني (ت 793ه-) على الوجه الأول بأنّ المراد من موافقة قانون الإسلام هو المحافظة في جميع المباحث على القواعد الشرعية، من دون مخالفة القطعيات كما يحصل عند أرباب العقول القاصرةٍ - على ما هو قانون الفلسفة - وليس المراد أن تكون جميع المباحثُ حقّةً في نفس الأمر منتسبةً إلى الإسلام بالتحقيق والّا لما صدق التعريف على المجسمة والمعتزلة والخوارج وغيرهم.

أمّا الإشكال الثاني بخصوص الوجود الذهني فيرى التفتازاني أولّا بأنّا لا نسلّم بأنّ هذه المباحث من مسائل الكلام بل مباحث النظر والدليل مثلاً من مبادئه، وبحث المعدوم والحال من لواحق مسألة الوجود توضيحًا للمقصود وثانيًا لا يراد من الموجود من حيث هو - عند القائلين به - الموجود في الخارج بشرط اعتبار وجوده، بل الموجود على الإطلاق؛ ذهنيًا كان أو خارجيًا واجبًا أو ممكنًا جوهرًا أو عرضًا أو

ص: 67


1- المواقف 7 - 8 ، مع شرح الجرجاني في شرح المواقف 1 53 - 54 بتلخيص

غير ذلك. وثالثًا إنّ كثيراً من المتكلّمين يقولون بالوجود الذهني(1).

هذه الأوجه المختلفة هي غايةُ ما قيل في موضوع علم الكلام، ويرى الشيخ السبحاني أنّ سبب هذا الخلاف يرجع إلى كيفية تعريف علم الكلام ووظائفه، وكذلك غايته والمهام التي ترسمُ له، فبتغيير التعريف والغاية يتغيّر الموضوع، فلو قلنا مثلاً أنّ علم الكلام هو المتضمّن للاحتجاج على العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقلية والرد على المبتدعة، كان موضوع علم الكلام هو العقائد الإيمانيّة بعد فرضها صحيحةً من الشرع، وكذلك لو جعلنا غاية علم الكلام معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله بما فيه معرفة المعاد والرسالة ،والإمامة، فلا معنى حينئذٍ لاتخاذ الموجود بما هو موجود موضوعًا لعلم الكلام.

والسبب في ذلك أنّ هو وظائف علم الكلام قد تغيّرت عبر الزمان:(ففي القرون الأولى كان الهدف هو الدفاع عن العقائد الإيمانية فقط، ولم یکن هناك أي غرضٍ سوى ذلك، ولكن بمرور الزمن واحتكاك الثقافات وازدهار الفلسفة لم يجد المتكلّمون بداً من التوسع في المعارف الكونية من الطبيعيات والفلكيات والبحث عن القواعد العامة في الأمور الهامة وغير ذلك، وبذلك اختلفت كلمتهم في بيان موضوع العلم(2).

وما نستقر به هو لزوم وجود موضوع للعلوم كي تتمايز فيما بينها، وموضوع علم الكلام سابقاً ولاحقاً هو العقائد الدينية المتحدثة الله عن تعالى وصفاته وأفعاله وعن النبوة والإمامة إذ هما السبب المتصل بين

ص: 68


1- شرح المقاصد :1: 39 - 41 بتصرف، وعنه اللاهيجي في شوارق الإلهام 1 61 - 62
2- معجم طبقات المتكلمين :1 13 - 17 المقدمة بقلم الشيخ السبحاني

الأرض والسماء، وعن أصل المعاد وضرورته وما يتعلّق به. وما ذهب إليه الشيخ السبحاني وجه وجيه غير انّ التوسّع في وظائف علم الكلام بسبب ظهور مسائل جديدة ومستحدثات عقدية أو شبهات جديدة لم تطرح سابقاً، كل هذا لا يغيّر في موضوع علم الكلام بل ربما تتغيّر المناهج وتتوسع المسائل، أما الموضوع فيبقى ثابتاً، إذ المتكلّم حتى لو توسّع في الطبيعيات والفلكيات - كما ذكر الشيخ السبحاني – غير انّه يبحث عن هذه الأمور من منطلق ديني ليزن نسبتها مع العقائد الدينية، ومدى تأثيرها عليها سلباً أو إيجاباً والمتكلّم ربما يبحث عن مباحث كثيرة لا علاقة لها مباشرة بمسألة العقائد وإثبات الباري وباقي مسائل أصول الدين، كباحث الوجود والعدم والعلم والمعرفة والجواهر والأعراض، فليست هذه المباحث هي التي تحدّد الموضوع، إذ إنّ المتكلّم يتطرق إليها من باب المقدمة وكتمهيد ضروري قبل الولوج في أصل العلم.

ص: 69

9 - مسائل علم الكلام

إنّ الهدف من ذكر المسائل هو تنبيه الطالب أو القارئ إلى ما يتوجّه إليه من المطالب تنبّهًا موجبًا لمزيد استبصاره في طلبها(1).

ثمّ إنّ نوعيّة التعريف، وكذلك نطاق الموضوع، ورسم الأهداف والغايات، كلها تؤثر في مسائل علم الكلام سعةً وضيقًا، وهذا هو السبب في اختلاف المتكلّمين حول المسائل.

وعلى سبيل المثال فإنّ ابن خلدون (ت 808ه-) يرى أنّ :(مسائل علم الكلام إنما هي عقائدُ متلقاةٌ من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوعٍ فيها إلى العقل ولا تعويلٍ عليه، بمعنى أنّه لا تثبت إلّا به فإنّ العقل معزولٌ

عن الشرع وأنظاره، وما تحدّث فيه المتكلّمون من إقامة الحجج فليس بحثًا عن الحق فيها، فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلومًا هو شأن الفلسفة، بل إنّما هو التماس حجّةٍ عقليّةٍ تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف فيها، وتدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أنّ مداركهم فيها عقليّةٌ، وذلك بعد أن تُفرض صحيحةً بالأدلّة النقلية كما تلقاها السلف واعتقدوها، وكثيرٌ ما بين المقامين)(2).

فعلى هذا المبنى تخرج كثيرٌ من المسائل عن نطاق علم الكلام، وسببه ما ذهب إليه ابن خلدون من تعريفه لعلم الكلام وتحديد نطاقه ومهامه كما مرّ - .

ص: 70


1- شرح المواقف للجرجاني 1: 60
2- المقدمة : 382

ثمّ إن المتكلمين اختلفوا في تحديد وتعريف المسائل، هل هي الأحكام أو القضايا النظرية أم تشمل البديهيات أيضًا، ذهب الإيجي (ت 756ه-) والتفتازاني (ت 793ه-) إلى الأول حيث قال الايجي في تعريف المسائل: (وهي كلُّ حكمٍ نظريٍّ لمعلومٍ هو من العقائد الدينيّة أو يتوقف عليه إثبات شيء منها)(1). وقال التفتازاني: (مسائله القضايا النظرية الشرعية الاعتقادية)(2).

أمّا الجرجاني (ت 816ه-) فإنّه يميل إلى الرأي الثاني أيضًا، فجعل التقييد بالنظري هو الغالب، وقال :( ووصف الحكم بكونه نظريّاً بناءً على الغالب، إما لاحتياجها إلى تنبيه يزيل عنها خفاءها أو لبيان لميّتها)(3).

ولكن يرى التفتازاني أن ورود البديهيات في مسائل الكلام لبيان اللميّة، يجعلها كسبيةً لا بديهيةً(4)، ويستشهد بنصير الدين الطوسي (ت 672ه-) القائل بأنّ المسائل: (هي ما يطلب البرهان عليها فيه إن لم تكن بيّنةً)(5).

وعلى هذا المبنى تدخل أحوال المعدوم والحال، ومباحث النظر والدليل في ضمن مسائل الكلام، وربما يكون هذا هو الفرق بين كلام المتقدّمين والمتأخرين كما مرّ بيانه.

ولا يخفى انّ أصول مسائل علم الكلام عند الإمامية خمسة لا تتعدّاها،

ص: 71


1- المواقف : 8 .
2- شرح المقاصد 1 : 36.
3- شرح المواقف 1 62 .
4- شرح المقاصد 1: 37.
5- تجريد المنطق: 55

وهي: التوحيد، العدل النبوة، الإمامة والمعاد. أما ما يتفرّع منها من مسائل فرعية فهي غير محدّدة، بل ربما تزيد بتطور العلوم وورود وورود أسئلة أو شبهات جديدة لم تكن مطروحة من ذي قبل، فتتوسع المسائل بتطور الزمان وتقدّم العلوم وظهور نظريات جديدة.

ومن هذا ظهر مصطلح «علم الكلام الجديد» إذ يتطرّق إلى مسائل جديدة لم تبحث من ذي قبل، أثارها تقدّم العلوم وتطوّرها، وتغيير نظرة الانسان من السماء إلى الأرض جرّاء معطيات الحداثة.

ص: 72

10 - مناهج علم الكلام

النهج لغةً هو الطريق، والمنهج والمنهاج هو الطريق الواضح(1)، قال تعالى: (لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)(2).

أما اصطلاحًا فهو مجموع القواعد العامة التي تحكم عمليات العقل خلال البحث والنظر في مجال معيَّنٍ، ويمكن للإنسان أن يستخدم منهجًا واحدًا في بحثه أو عدّة مناهجَ لتوصله إلى مبتغاه.

ثمّ إنّ الحاجة إلى المنهج تبرز بشكلٍ أكثر عند تطوّر العلم وتشكُّله، كما أنّ مناهج العلم غالبًا ما تُدرس في علمٍ آخرَ، فالمباني المنهجية للفقه تُدرس في الأصول، والمباني المنهجية للفلسفة تُدرس في المنطق وهكذا، أما بخصوص علم الكلام فلم يدوّن علمٌ خاصٌّ ليبحث فيه في مناهجه، نعم قد تمّ الحديث عن بعضها في المنطق والأصول، ولكن من دون نظرةٍ شموليةٍ لجميع مباحث الكلام، ونظرًا لأهمية المنهج في الوصول إلى المبتغى سيما في علم الكلام الذي تُعدّ مسائله سببًا للنجاة أو الهلاك، نحن بحاجةٍ إلى مزيد اهتمامٍ بمسألة المنهج لنطمئنّ لصحة المعتقد.

والمتكلمون القدامى وإن سلكوا مناهجَ متعدّدةً لاستنباط العقائد، لكنهم لم يعتنوا بفرز هذه المناهج والبحث عنها بشكلٍ مستقلٍّ، فمن يعكف على النص ولا يتعدّاه إنما يتبع المنهج النقلي، وكذلك من يقوم بتأويل النصوص أو ترك العمل بمضمونها أو ترك الخبر الواحد إنّما يتبع

ص: 73


1- لسان العرب لابن منظور / نهج.
2- سورة المائدة : 48

المنهج العقلي في الاستنباط، ولكن لا هؤلاء ولا أولئك بيّنوا بالتفصيل سبب اتخاذ هذا المنهج دون ذاك، وكذلك لم يشيروا إلى المباني الفكرية والمعرفية الداعية إلى اتخاذه، كما تركوا سائر الجزئيات المناهجية التي لها دخلٌ تامٌّ في عملية استنباط العقائد.

ونحن هنا نحاول أن نشير بشكلٍ موجزٍ إلى المناهج المعتمدة لاستنباط العقائد، إذ للتفصيل مجالٌ آخرُ.

عندما نراجع الكتب الكلامية المتأخرة نراها تشير إلى مناهجَ عدّةٍ، منها: المنهج العقلي، المنهج النقلي، المنهج الجدلي، المنهج الفلسفي، المنهج التأويلي، المنهج التاريخي، المنهج التجريبي الإسلامي، منهج القياس الفقهي، ولكن إذا أردنا أن نجعل جامعًا لهذه المناهج يمكننا الاكتفاء بالمنهج العقلي والمنهج النقلي، أما سائر المناهج المذكورة فتدخل نوعًا ما ضمن هذين المنهجين، وسنتكلم هنا عن هذين المنهجين بنوعٍ من التفصيل، ونتطرّق إلى باقي المناهج بشكل موجز.

1 - المنهج العقلي:

العقل في اللغة مأخوذٌ من عقلتُ البعير إذا جمعتَ قوائمه... وكذلك أعتُقِل لسانُه إذا حبس عن الكلامَ، وسمّي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك أي يحبسه(1).

أما اصطلاحًا فقد اختلفت الأقوال في تفسير العقل بحسب المباني الفكرية والمعرفية التي يحملها كلُّ تيارٍ في المشهد الثقافي الإسلامي.

ص: 74


1- لسان العرب لابن منظور العقل.

فترى المحدّث والأصولي والمتكلم والفيلسوف، كلّ واحدٍ منهم يستشهد بالعقل ويرسم له نطاقًا وحدودًا تختلف سعةً وضيقًا من تيارٍ إلى آخرَ، بيد أنّ الخوض في جميع هذه التيارات والمدارس الفكريّة خارجٌ عن مهمة هذا البحث، ونحاول أن نقتصر على ما ينفع في التعرّف على المنهج العقلي لاستنباط العقائد.

وسيتم الحديث في ضمن محاورَ عدّةٍ:

المحور الأول: تعريف العقل اصطلاحًا.

المحور الثاني: حجيّة الدليل العقلي.

المحور الثالث: نطاق العقل .

المحور الرابع: تعارض العقل والنقل.

المحور الأول: تعريف العقل اصطلاحًا.

ورد استخدام العقل وما يرادفه من مصطلحاتٍ - من قبيل اللبّ القلب العلم - كثيراً في القرآن، ويجمعها العلامة الطباطبائي تحت معنى الإدراك والفهم بشكلٍ عامٍّ، إذ يقول بعد ذكر الآيات المترادفات: (فقد تبين من جميع ما ذكرنا أنّ المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الإدراك الذي يتم للإنسان مع سلامة فطرته، وبه يظهر معنى قوله سبحانه: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(1)، فبالبيان يتم العلم والعلم مقدمة للعقل ووسيلة إليه كما قال

ص: 75


1- البقرة : 242

تعالى: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)(1).

ثمّ عندما نُعرّج على الروايات الشريفة، نراها تستعمل العقل بما يقابل الشهوات والأهواء والآمال، وحديث جنود العقل والجهل خيرُ شاهدٍ على ذلك، فالعقل في الاستعمال الروائي عامٌّ وشاملٌ، ويكون بمثابة النور الذي يدرك حقائق الأشياء إما مباشرةً أو بمعونة سائر الحواسّ والقوى، وهذا العقل هو الحجة الباطنة الذي يناظر النبوة في الحجية والعصمة.

أما المتكلمون العدلية فقد عرّفوا العقل بمجموعة علومٍ كليةٍ ضروريةٍ وبديهيّةٍ تصوغ العقل عند اجتماعها، قال السيد المرتضى (ت 436ه-) : (العقل علومٌ ضروريةٌ من فعله تعالى)(2)، وذهب نصير الدين الطوسي (ت 672ه-) إلى انّه : ( عبارةٌ عن علومٍ كليةٍ بديهيّةٍ)(3).

وهناك من فصّل في نوعية هذه العلوم، وذكر بعض المصاديق من قبيل: العلم بالحسن والقبح والتفريق بينهما، وكذلك الاستدلال بالشاهد على الغائب وغيرها من البديهيات الفطرية، قال الشيخ الطوسي (ت 460ه-) :(العقل مجموعةُ علومٍ ضروريةٍ يمُيَّز بها بين القبيح والحسن، ويمكن معها الاستدلال بالشاهد على الغائب)(4).

ثمّ إنّ الشيخ الطوسي رحمه الله يقسّم العلوم التي تسمّى عقلاً إلى ثلاثة أقسام:

ص: 76


1- الميزان للطباطبائي 1: 247 - 250
2- الحدود والحقائق للمرتضى : 740 رقم 103.
3- نقد المحصل للطوسي: 163.
4- تفسير التبيان للطوسي .281:2

1- العلم بأصول الأدلة.

-2 ما لا يتمّ العلم بهذه الأصول إلا معه.

-3 ما لا يتمّ الغرض المطلوب إلا معه.

ثمّ يذكر مصاديقَ لكل علمٍ ويقول : (والذي يدلّ على انّ ذلك العقل لا غير، أنّه متى تكاملت هذه العلوم كان عاقلاً ولا يكون عاقلاً إلّا وهذه العلوم حاصلةٍ)(1).

وعندما نعرّج على الغزالي الصوفي الأشعري نراه يعتقد بشرف العقل، وأنّ شرفه يُدرك بالضرورة ولا يحتاج إلى تكلّف في إظهاره، كيف وقد ظهر شرف العلم من قبل العقل والعقل منبع العلم ومطلعه وأساسه، والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة، فكيف لا يشرّف ما هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة؟(2).

والغزالي يرى أيضًا انّ العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معانٍ فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حدٍّ واحدٍ، بل يُفرد كل قسمٍ بالكشف عنه:

1- الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعدّ به القبول العلوم النظريّة، وتدبير الصناعات الخفية الفكريّة.

2- العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميّز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، كالعلم بأنّ الاثنين أكثر من الواحد

ص: 77


1- الاقتصاد: 117
2- إحياء علوم الدين للغزالي 1: 83 الباب السابع.

وأنّ الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقتٍ واحدٍ.

3- علومٌ تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال، فانّ من حنّكته التجارب وهذّبته المذاهب يقال أنّه عاقلٌ في العادة.

4- أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور، ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذّة العاجلة ويقهرها فإذا حصلت هذه القوّة سمّي صاحبها عاقلاً، من حيث انّ إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة(1).

ثمّ إنّ العلامة الطباطبائي يلخّص آراء الفلاسفة في العقل، فيقسّم أنواع التعقّل في كتاب بداية الحكمة إلى ثلاثةٍ:

1- أن يكون عقلاً بالقوّة، أي لا يكون شيئًا من المعقولات بالفعل، ولا له شيءٌ من المعقولات بالفعل لخلوّه عن عامة المعقولات.

2- أن يعقل معقولاً واحدًا أو معقولاتٍ كثيرةً بالفعل مميّزاً بعضها من بعض مرتباً لها، وهو العقل التفصيلي.

3- أن يعقل معقولاتٍ كثيرةً عقلاً بالفعل من غير أن يميّز بعضها من بعض، وإنّما هو عقل بسيط إجمالي فيه كل التفاصيل، ويسمّى عقلاً إجماليّاً(2).

ثمّ يذكر بعد هذا مراتب العقل، فيقسّمها إلى:

ص: 78


1- م ن 1 85-86 .
2- نهاية الحكمة للطباطبائي 2: 171

1- العقل الهيولاني، وهي مرتبة كون النفس خاليةً من جميع المعقولات، وتسمّى العقل الهيولاني لشباهتها الهيولى الأولى في خلوّها من جميع الفعليات.

2- العقل بالملكة، وهي مرتبة تعقّلها للبديهيات من تصوُّرٍ وتصديقٍ، فانّ العلوم البديهيّة أقدم العلوم لتوقّف العلوم النظرية عليها.

3- العقل بالفعل، وهي مرتبة تعقّلها للنظريّات باستنتاجها من البديهيّات.

4- تعقّلها لجميع ما حصّلته من المعقولات البديهيّة أو النظرية المطابقة الحقايق العالم العلوي والسفلي باستحضارها الجميع وتوجّهها إليها من غير شاغلٍ ،مادِّيٍّ، فتكون عالَماً علميّاً مضاهِيًا للعالم العيني، وتسمى العقل المستفاد.

ثمّ إنّ مفيض الصور العقلية الكلّية إنّما هو جوهرٌ عقليٌّ مفارق للمادة، عنده جميع الصور العقلية الكلية، وهو العقل الفعال (1).

هذه جولةٌ مختصرةٌ في مختلف الأقوال بمختلف الاتجاهات الفكرية، وباقي الأقوال لا تخرج عنها إلا في جزئيات لا تمسّ الجوهر، وما نرجّحه هو العقل بالمعنى الذي ورد في القرآن الكريم والروايات الشريفة بوصفه نوراً عامّاً وشاملاً ينطلق من الفطرة السليمة ويدرك الكليات والبديهيّات أو الأمور الراجعة إلى البديهيّات، وهو المعيار والحجّة.

ص: 79


1- م ن 2: 173 - 175

المحور الثاني: حجية العقل.

لا يوجد خلافٌ عند المتكلمين في حجية العقل لاستنباط العقائد إلّا من انتمى إلى الحشوية التي لا تقيم للعقل وزنًا، إنّما الخلاف بين المتكلّمين في نطاق العقل سعةً وضيقًا فهناك من ضيّق دائرة حجيته، كالأشاعرة، وهناك من توسّع فيها كالمعتزلة، وهذا ما سنبحثه في المحور الثالث.

المحور الثالث : نطاق حجية العقل.

يمكن تصنيف موقف علماء الإسلام تجاه المنهج العقلي في استنباط العقائد، ضمن ثلاثِ طوائفَ كبرى

الطائفة الأولى: الإنكار .

هذه الطائفة تنفي دور العقل والمنهج العقلي في استنباط العقائد بتاتًا، وتكتفي بالمنهج النقلي ولا تتعدّاه، وهم الحشوية وأصحاب الحديث المنضوون تحت عنوان السلفية العام.

الطائفة الثانية: القبول المشروط.

هذه الطائفة تقبل بالمنهج العقلي، ولكن في ضمن حدود وضوابطَ محدّدةٍ بحيث تقيّده بالسمع، وترفع عنه الاستقلالية والانفراد في الوصول إلى العقائد إلّا في ما لا بد منه كي لا يلزم الدور مثل إثبات الواجب تعالى وأصل الرسالة.

يمثّل هذه الطائفة جميع الأشاعرة وبعض الشيعة، وما يميّزهم عن

ص: 80

الطائفة الأولى هو الفسح في المجال للعقل، ومحاولة المزاوجة بينه وبين السمع مع تقديم السمع عليه، وفي ما يأتي نشير إلى بعض كلماتهم:

قال الشيخ المفيد رحمه الله (ت 413ه-): (واتفقت الإمامية على أن العقل محتاجٌ في علمه ونتائجه إلى السمع، وأنّه غيرُ منفكِّ عن سمعٍ ينبّه العاقل على كيفية الاستدلال، وأنّه لابد في أول التكليف وابتدائه في العالم من رسولٍ، ووافقهم في ذلك أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيدية على خلاف ذلك، وزعموا أنّ العقول تعمل بمجردها من السمع والتوقيف، إلا أنّ البغداديين من المعتزلة خاصة يوجبون الرسالة في أول التكليف ويخالفون الإمامية في علّتهم لذلك، ويثبتون عللاً يصححها الإمامية ويضيفونها إلى علتهم فيما وصفناه(1).

فالشيخ المفيد رحمه الله لا ينفي المنهج العقلي العقدي بل يقيّده بالسمع ويفسح له مجال الاستنباط في هذه الدائرة.

وعندما نصل إلى الغزالي (ت 505ه-) نراه يعطي فسحةً صغيرةً للعقل كي يثبت للإنسان الرسالة، ثمّ ينحيه من دائرة الاستدلال ويبعده، لأنّ طريق الآخرة، وفهم دقائق سنن الشرع وآدابه وعقائده، ليس في سعة العقل وقوّته، و (كما أنّ العقول تقصر عن إدراك منافع الأدوية مع أنّ التجربة سبيلٌ إليها، فالعقول تقصر عن إدراك ما ينفع في الحياة الآخرة مع أنّ التجربة غير متطرّقة إليها .. فيكفيك من منفعة العقل أن يهديك

ص: 81


1- أوائل المقالات للمفيد : 44.

إلى صدق النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ويفهمك و موارد إشاراته، فاعزل العقل بعد ذلك عن التصرّف ولازم الاتباع فلا تسلم إلّا به)(1).

فالغزالي إذاً يفسح المجال للمنهج العقلي لإثبات الإلوهية والرسالة، ثمّ يربطه بالسمع ويلزمه أن يدور مداره.

ثمّ إن أبا إسحاق الصفّار (ت 534ه-) الماتريدي، يرى

أنّ الدليل المؤدي إلى اليقين إمّا عقليٌّ وإما سمعيٌّ، ويقدّم العقل في أمور مثل إثبات الواجب تعالى كما يرى أنّ العقل في بعض العلوم متبوعٌ والسمع تابعٌ له، كما أنّ السمع في بعضها الآخر متبوعٌ والعقل تابعٌ له، مع اعترافه بأنّ السمع لا يستغني عن العقل، لأنّه لا يُعرف السمع الصحيح إلّا بالعقل(2)..

ثمّ إنّ موقف ابن خلدون (ت 808ه-) وإن يشبه الطائفة الأولى، غير أنّنا نورده هنا لأنّه يعترف بالعقل ومداركه، وأنّه ميزانٌ صحيحٌ وأحكامه يقينيّةٌ لا كذب فيها، لكنّه مع هذا يعزله عن ساحة التوحيد وأمور الآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهيّة(3).

وذلك أنّه يرى أنّ : مسائل الكلام إنّما هي عقائدُ متلقَّاةٌ من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوعٍ فيها إلى العقل ولا تعويلٍ عليه،

ص: 82


1- إحياء علوم الدين للغزالي 1: 31 .
2- تلخيص الأدلّة: 115
3- المقدمة لابن خلدون: 341

بمعنى أنّها لا تثبت إلّا به، فانّ العقل معزولٌ عن الشرع وأنظاره) (1)

وسبب عدم اعترافه بالعقل في مسائل الكلام يعود أولاً إلى أنّها خارج نطاق إدراك العقل، فدخوله فيها يسبّب الضلال والدخول في الأوهام،(2) وثانيًا أنّ مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقهاعن مدارك الأنظار العقليّة، فهي فوقها ومحيطةٌ بها، لاستمدادها من الأنوار الإلهيّة(3).

ومع هذا فابن خلدون يعترف بالمنهج العقلي كمنهجٍ آليّ للرد على الخصوم فقط من دون أن يكون له استقلالية بالأمر (4)

وعندما نعرّج على الشعراني (ت 973ه-) نراه يعترف بالدليل العقلي ويصنّفه ضمن القطع ، ويقول : (فلا يصح أن يكون في العقائد إلّا ما صح من طريق القطع، إمّا بالتواتر وإمّا بالدليل العقلي) (5).

وأخيرًا الفيض الكاشاني (ت 1097ه-) الذي ينقل عن بعض الفضلاء رأياً ويرتضيه بأنّ العقل لا يهتدي إلا بالشرع، والشرع لا يتبين إلا بالعقل، والعقل كالأسّ والشرع كالبناء ولن يثبت بناء ما لم يكن إس .. وأيضًا فالشرع عقلٌ من خارج، والعقل شرعٌ من داخلٍ ،وهما يتعاضدان بل يتحدان ... واعلم انّ العقل بنفسه قليل

ص: 83


1- - م ن: 382
2- - م ن: 341
3- - م ن: 382 .
4- - من: 382 .
5- - اليواقيت للشعراني: 37

الغَنَاء، لا يكاد يتوصّل إلّا إلى معرفة كليات الشيء دون جزئياته،.. والشرع يعرف كليات الشيء وجزئياته،ويتبيّن ما الذي يجب أن يعتقد في شيء شيء .. فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة، والدال على مصالح الدنيا والآخرة، من عَدَل عنه فَقَدْ ظلَ سواء السبيل (1).

الطائفة الثالثة: القبول المطلق.

هذه الطائفة ترى استقلالية العقل في استنباط العقائد، بل تقدّمه على الدليل النقلي عند التعارض، فإما أن تردّ الدليل النقلي أو تؤوله بما يتناسب مع الدليل العقلي.

وقد أشار الشيخ المفيد (رحمه الله) إلى هذا الرأي ونسبه إلى المعتزلة والخوارج والزيدية، حيث إنّهم (زعموا انّ العقول تعمل بمجردها من السمع والتوقيف) (2)

كما أنّ الفلاسفة عندما يبحثون في الإلهيّات يُصنَّفون ضمن هذه الطائفة، حيث إنّهم يبحثون عن الدليل البرهاني القطعي المنبني على المقدمات البرهانية القطعية العقليّة وإن خالف ظواهر النصوص

المبحث الرابع: تعارض العقل والنقل.

يرتبط هذا المبحث بالمبحث الذي قبله، إذ لو حدّدنا نطاق حجية الدليل العقلي ودوره ومدى صلاحيته، أمكننا تحديد الموقف هنا أيضًا.

ص: 84


1- علم اليقين للفيض الكاشاني 2: 916 ، ومثله في المحجة البيضاء :1 .187
2- - أوائل المقالات: 44.

فالطائفة الأولى المنكرة للمنهج العقلي في العقائد، تقدّم الدليل النقلي دائماً ولا تعتقد بأي تعارض في البين.

أمّا الطائفة الثالثة فهي تقدّم العقل دائماً، وتؤوّل النصوص على وفقه فينحلّ التعارض عندها يرى الفياض اللاهيجي (ت 1072ه-) أنّ: (الواجب أن يُصار إلى مقتضى العقول الصريحة والآراء الصحيحة، ويُرجع إلى قوانين النظر والاستدلال البرهاني الموجب لليقين المبتني على المقدمات البرهانية القطعية العقلية الصرفة، لمن أراد الترقّي عن حضيض التقليد إلى ذروةالتحصيل، وإن أدّى إلى ترك الظواهر ورفض المتبادر ، لاستقلال العقل في أحوال المبدأ وسائر العقليات، بخلاف ما يتعلّق بالعمليات والأمور التي لا يستقل مجرد العقل فيها)(1).

أما الطائفة الثانية التي تمثل شريحةً كبيرةً من المتكلمين فلم تتفق على رأي واحد فمنهم من يقدّم النقل دائمًا كالطائفة الأولى، يقول ابن خلدون (ت 808ه-): (فإذا هدانا الشارع إلى مَدْرِك فينبغي أن نقدّمه على مداركنا ونثق به دونها، ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه. بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادًا وعلما ونسكت عما لم نفهم من ذلك ونفوّضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه) (2).

وكذلك الشعراني (ت 973ه-) يرى لزوم الجمع بين العقل والنقل عند التعارض، وإلا يلزم الاعتقاد بدليل النص وترك دليل العقل (3)

ص: 85


1- - شوارق الإلهام 1:60
2- - مقدمة ابن خلدون 382
3- - اليواقيت 37 .

ومنهم من يفصّل بين ما يستقل العقل بإدراكه وبين غيره، فإذا استقلّ العقل بشيءٍ كان التقدّم له عند التعارض، يقول الفخر الرازي (ت 606ه-) : (فكلّ ما يتوقف العلم بصدق الرسول على العلم به لا يمكن إثباته بالنقل وإلا لزم الدور (1)).

ولكن الخلاف يأتي في ما يمكن إثباته من خلال العقل والنقل معا كمسائل المعاد والإمامة وغيرهما، فلا بد هنا من إعمال النظر لحلّ التعارض، وعند التحقيق تنحل كثيرٌ من التعارضات وإن بدت في الوهلة الأولى متعارضةً، إذ التعارض يقع بين الدليل العقلي القطعي وبين الدليل النقلي القطعي، وهذا ما لا يتحقق عادةً لوجود قانون الملازمة : (كلُّ ما حكم به الشرع حكم به العقل وكلُّ ما حكم به العقل حكم به الشرع)،فالتعارض البدوي ينحل بعد إمعان النظر.

ولكن لو فرضنا مع هذا حصول تعارض بين الدليل العقلي القطعي والدليل النقلي القطعي، فهنا لا بد من تقديم الدليل العقلي، لأنّ إثبات أصل النقل - أي ضرورة الرسالة - كان بالعقل، فلو قدّم شخصٌ النقل هنا، لنقض الأساس وأدى ذلك إلى نقض النقل أيضًا وهذا خُلْفٌ.

هذه اهم المحاور النظرية التي تطرح في المنهج العقلي، اما كيفية الاستدلال العقلي والمعتبر منه وغير المعتبر وطريقة تكوّن الاستدلال البديهيات والنظريات وكذلك طرق اثبات المحمول للموضوع

ص: 86


1- - المحصل : 143 ، وانظر تلخيص المحصل للمحقق الطوسي. 68:

في المنهج العقلي، فهي جميعاً مباحث منطقية لابد وأن تبحث في علم المنطق، كما أن تفاصيل المنهج النقلي يبحث في علمي الرجال والدراية ولا صلة له بعلم الكلام.

2 - المنهج النقلي:

أمّا المنهج النقلي فهو الذي يعتمد على النقل في استنباط العقائد، إما أن يلغي العقل نهائيّاً، وإما أن يعتمد عليه جزئياً، وخير من شرح المنهج النقلي الفارابي (ت 339ه-) حيث قال :

(وأما الوجوه والآراء التي ينبغي أن تنصر بها الملل، فإن قوما من المتكلمين يرون أن ينصروا الملل بأن يقولوا أن آراء الملل وكل ما فيها من الأوضاع ليس سبيلها أن تمتحن بالآراء والروية والعقول الإنسية، لأنها أرفع رتبةً منها؛ إذ كانت مأخوذةً عن وحي إلهي، لأن فيها أسراراً إلهيّةً تضعف عن إدراكها العقول الإنسية ولا تبلغها.

وأيضًا فإن الإنسان إنما سبيله أن تفيده الملل بالوحي ما شأنه أن لا يدركه بعقله وما يخور عقله عنه، وإلا فلا معنى للوحي ولا فائدة إذا كان إنما يفيد الإنسان ما كان يعلمه وما يمكن إذا تأمله أن يدركه بعقله. ولو كان كذلك لوكل الناس إلى عقولهم، ولما كانت بهم حاجة إلى نبوة ولا إلى وحي. لكن لم يفعل بهم لكن لم يفعل بهم ذلك، فلذلك ينبغي أن يكون ما تفيده الملل من العلوم ما ليس في طاقة عقولنا إدراكه، ثم ليس هذا فقط بل وما تستنكره عقولنا أيضًا، فإنه ليس كل ما كان أشد استنكارًا

ص: 87

عندنا كان أبلغ في أن يكون أكثر فوائد، وذلك أن التي تأتي بها الملل مما تستنكره العقول وتستبشعه الأوهام ليست هي بالحقيقة منكرةً ولا محالة، بل هي صحيحةٌ في العقول الإلهيّة.

فإن الإنسان وإن بلغ نهاية الكمال في الإنسانية، فإن منزلته عند ذوي العقول الإلهية منزلة الصبي والحَدَث والغِمر عند الإنسان الكامل. وكما أن كثيراً من الصبيان والأغمار يستنكرون بعقولهم أشياءَ كثيرةً مما ليست الحقيقة منكرةً ولا غير ممكنةٍ، ويقع لهؤلاء أنها غيرُ ممكنةٍ، فكذلك منزلة من هو في نهاية كمال العقل الإنسي عند العقول الإلهية.

وكما أن الإنسان من قَبل أن يتأدب ويتحنك يستنكر أشياءَ كثيرةً ويستبشعها ويُخيَّل إليه فيها أنها محالةٌ، فإذا تأدب بالعلوم واحتنك بالتجارب زالت عنه تلك الظنون فيها، وانقلبت الأشياء التي كانت عنده محالة، فصارت هي الواجبة وصار عنده ما كان يتعجب منه قديماً في حد ما يتعجب من ضده، كذلك الإنسان الكامل الإنسانيّة لا يمتنع من أن يكون يستنكر أشياء ويخيل إليه أنها غيرُ ممكنةٍ من غیر أن تكون في الحقيقة كذلك.

فلهذه الأشياء رأى هؤلاء أن يجعل تصحيح الملل: فإن الذي أتانا بالوحي من عند الله جل ذكره صادقٌ ولا يجوز أن يكون قد كذب. ويصح أنه كذلك من أحد وجهين: إما بالمعجزات التي يفعلها أو تظهر على يده؛ وإما بشهادات من تقدم قبله من الصادقين المقبولي الأقاويل على صدق هذا، ومكانه من ،الله جل وعز، أو بهما جميعًا.

ص: 88

فإذا صححنا صدقه بهذه الوجوه، وأنه لا يجوز أن يكون قد كذب فليس ينبغي أن يبقى بعد ذلك في الأشياء التي يقولها مجال العقول، ولا تأمّلٌ، ولا رؤيةٌ، ولا نظرٌ.

فبهذه وما أشبهها رأى هؤلاء أن ينصروا الملل.

وقومٌ منهم آخرون يرون أن ينصروا أولاً ما جميع صرح به

واضع الملة بالألفاظ التي بها عبر عنها ، ثم يتتبعون المحسوسات والمشهورات والمعقولات فما وجدوا منها أو من اللوازم عنها وإن بعد شاهدًا لشيءٍ مما في الملة نصروا به ذلك الشيءٍ، وما وجدوا منها مناقضاً لشيء مما في الملة وأمكنهم أن يتأوّلوا اللفظ الذي به عبّر عنه واضع الملة على وجهٍ موافقٍ لذلك المناقض - ولو تأويلاً بعيدًا - تأولوه عليه. وإن لم يمكنهم ذلك، وأمكن أن يزيف ذلك المناقض وأن يحملوه على وجه يوافق ما في الملة فعلوه؛ فإن يضادّ المشهورات والمحسوسات في الشهادة مثل أن تكون المحسوسات أو اللوازم عنها توجب شيئًا، والمشهورات واللوازم عنها توجب ضد ذلك، نظروا إلى أقواهما شهادةً لما في الملة فأخذوه واطرحوا الآخر وزيفوه.

فإن لم يمكن أن تحمل لفظة الملة على ما يوافق أحد هذه، ولا أن يحمل شيءٌ من هذه على ما يوافق الملة، ولم يمكن أن يطرح ولا أن يزيف شيءٌ من المحسوسات ولا من المشهورات ولا من المعقولات التي تضادّ شيئًا منها ، رأوا حينئذ أن ينصروا ذلك الشيء بأن يقال أنه حقٌّ لأنه أخبر به من لا يجوز أن يكون قد كذب ولا غلط. ويقول

ص: 89

هؤلاء في هذا الجزء من الملة ما قاله أولئك الأولون في جميعها.

فبهذا الوجه رأى هؤلاء أن ينصروا الملل.

وقومٌ من هؤلاء رأوا أن ينصروا أمثال هذه الأشياء، يعني التي يخيل فيها أنها شنعة، بأن يتتبعوا سائر الملل فيلتقطوا الأشياء الشنعة التي فيها. فإذا أراد الواحد من أهل تلك الملل تقبيح شيء مما في ملة هؤلاء، تلقاه هؤلاء بما فى ملة أولئك من الأشياء الشنعة فدفعوه بذلك عن ملتهم.

وآخرون منهم لما رأوا أن الأقاويل التي يأتون بها في نصرة أمثال هذه الأشياء ليست فيها كفايةٌ في أن تصح بها تلك الأشياء صحةً تامةً حتى يكون سكوت خصمهم لصحتها عندهم لا لعجزه عن مقاومتهم فيها بالقول، اضطروا عند ذلك إلى أن يستعملوا معه الأشياء التي تلجئه إلى أن يسكت عن مقولتهم إما خجلاً وحصرًا أو خوفًا من مكروهٍ يناله.

وآخرون لما كانت ملتهم عند أنفسهم صحيحةً لا يشكون في صحتها، رأوا أن ينصروها عند غيرهم ويحسنوها ويزيلوا الشبهة منها، بأن يدفعوا خصومهم عنها بأيِّ شيءٍ اتفق. ولم يبالوا بأن يستعملوا الكذب والمغالطة والبهت والمكابرة، لأنهم رأوا أن من يخالف ملتهم أحد رجلين : إما عدوٌّ - والكذب والمغالطة جائز أن يستعملا في دفعه وفي غلبته، كما يكون ذلك في الجهاد والحرب وإما ليس بعدوٍّ، ولكن جهل حظ نفسه من هذه الملة لضعف

ص: 90

عقله وتمييزه. وجائز أن يحمل الإنسان على حظ نفسه بالكذب والمغالطة، كما يفعل ذلك بالنساء والصبيان)(1).

وما ذكره الفارابي هو التلخيص الصحيح لأهم التيارات الموجودة في المنهج النقلي في وقته وبعده، غير أنّ الذي يهمنا هنا في المنهج النقلي أمران: الأول ما يتعلّق بالسند، والثاني ما يتعلّق بالدلالة.

1- المباحث السندية:

أما بخصوص السند فلا خلاف في القرآن، وإنّما الخلاف يقع فی الروايات، حيث انّ الخبر المتواتر مقبولٌ عند جميع المتكلّمين ويبقى الخلاف في الخبر الواحد هل هو حجةٌ في استنباط العقائد أم لا؟!

فأهل الحديث والإخباريون على حجيته واختلف الباقون بين قائلٍ بحجيته وبين رافضٍ لها باعتبار لزوم العلم واليقين في العقائد والخبر الواحد لا يوجب علمًا ولا عملاً.

قال الشيخ المفيد (ت 413ه-) : (إنّه لا يجب العلم ولا العمل بشيءٍ من أخبار الآحاد ، ولا يجوز أن يقطع بخبر الواحد في الدين إلّا أن يقترن به ما دلّ على صدق راويه على البيان. وهذا مذهب جمهور الشيعة وكثيرٍ من المعتزلة والمحكمة وطائفة من المرجئة، وهو خلافٌ لما عليه متفقهة العامة وأصحاب الرأي)(2).

ص: 91


1- إحصاء العلوم للفارابي : 41 - 43 .
2- أوائل المقالات: 130 .

وقال السيد المرتضى (ت 436ه-) : (قد علمنا أنّ كلَّ من صنّف من علماء هذه الطائفة كتاباً ودوّن علمًا ، فمذهبه الذي لا يختلّ ولا يشتبه ولا يلتبس أنّ أخبار الآحاد ليست بحجةٍ في الشريعة)(1).

ويصرّح في مكانٍ آخر بأنّ إثبات القرآن والنبوة لا يجوز من خلال الخبر الواحد(2).

أمّا الشيخ الطوسي (460ه-) فيختلف عنهما، ويجوّز العمل بالخبر الواحد الإمامي ويقول :(إن الخبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك مرويّاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن أحد الأئمة عليهم السلام، وكان ممن لا يُطعن في روايته، ويكون سديداً في نقله، ولم يكن هناك قرينةٌ تدل على صحة ما تضمّنه الخبر، لأنه إذا كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك كان الاعتبار بالقرينة، وكان ذلك موجباً للعلم كما تقدمت القرائن، جاز العمل به، والّذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة) (3).

ثمّ إنّ الشيخ الطوسي (رحمه الله) في مقام الجمع بين رأيه ورأي أستاذيه المفيد والمرتضى، يجيب عن سؤال من يستشكل عليه من أنّ المعلوم من حال الطائفة أنّها لا ترى العمل بخبر الواحد فكيف يدّعي الإجماع، فيجيب بقوله: (المعلوم من حالها الذي لا يُنكر ولا يُدفع، أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد

ص: 92


1- رسائل السيد المرتضى 1 /25/ التبيانات
2- الذريعة: 370
3- العدّة: 204

ويختصّون بطريقه ، فأمّا ما يكون راويه منهم وطريقة أصحابهم،فقد بيّنا أنّ المعلوم خلاف ذلك) (1).

ويؤكد هذا بعد صفحةٍ ويقول : (من أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد، إنّما كلّموا من خالفهم في الاعتقاد، ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمّنة للأحكام التي يروون هم خلافها، وذلك صحيحٌ على ما قدّمنا، ولم نجدهم اختلفوا فيما بينهم)(2).

وقريبٌ منه ما ذهب إليه الميرزا القمي (ت 1231ه-) من أنّ سبب القول بعدم حجية الخبر الواحد كان لأجل إفحام الخصوم وإسكاتهم في ما يستدلّون به علينا حيث قال: (يمكن دفع الاستبعاد بأن الإمامية لما كانوا مخالطين مع المخالفين وكان المخالفون من مذهبهم وضع الأحاديث كما لا يخفى... وما كانوا متمكنين عن التصريح بتكذيبهم ومنع قبول أخبارهم من حيث إنّها أخبارهم، فاحتالوا فيه مناصًا واعتمدوا في احتجاجاتهم على أن خبر الواحد لا يفيد العلم فلا يثبت به شيءٌ، وتخلصوا بذلك عن تهمتهم، فاشتهر بينهم هذا المطلب بهذا الاشتهار حتى ظنّ السيد ونظراؤه أنّ ذلك كان مذهبًا لهم في خبر الواحد، وإن كان من طرق الأصحاب في فروع المسائل. الحق أنّ الغفلة إنما وقع من السيد في التعميم...)(3).

وربمّا يؤيد ما ذهب إليه الشيخ الطوسي (رحمه اللّه ما ورد في كلام

ص: 93


1- - م ن : 205.
2- م ن : 206 .
3- قوانين الأصول 1 455 .

الشيخ المفيد حول خبر الواحد المقبول، حيث قال رحمه الله: (فأما الخبر الواحد القاطع للعذر، فهو الذي يقترن إليه دليلٌ يفضي بالناظر فيه إلى العلم بصحة مخبره، وربما كان الدليل حجةً من عقلٍ، وربما كان شاهدًا من عرفٍ وربما كان إجماعًا بغير خلفٍ، فمتى خلا خبر الواحد من دلالةٍ يُقطع بها على صحّة مخبره، فإنّه كما قدّمناه ليس بحجةٍ ولا موجبٍ علمًا ولا عملاً(1).

فكلامه حول لزوم وجود قرينة تفضي إلى العلم للقبول بخبر الواحد، يؤيد ما ذهب إليه الشيخ الطوسي، حيث أنّ رواية الإمامي العدل من أفضل القرائن الدالة على صحة الخبر.

2- المباحث الدلالية:

إنّ دلالة الخبر إذا كانت قطعيةً فلا إشكال في الأخذ بها والاعتماد عليها، لأنّها إما أنّ تكون من الأمور التي يستقلّ النقل بالإخبار عنها، وإما إرشادية إلى حكم العقل، ففي كلا الحالتين يعمل بها، والدلالة لقطعية إما أن تكون آيةً محكمةً أو حديثاً متواتِراً أو ما بحكمه.

إنّما الكلام يقع في الدلالة الظنيّة وأنّها هل يصحّ أن تعتمد في استنباط العقائد أم لا ؟ وقد اختلف العلماء هنا على قولين، قولٌ يقول بالجواز، وآخر ينفي ذلك.

ألف: عدم جواز العمل بالظن:

ص: 94


1- أوائل المقالات: 44.

كل من ذهب من العلماء إلى حجية خبر الواحد في الشرعيات والفروع العملية، فهو بطريق أولى ينفي ذلك في الاعتقادات، وقد رأينا تصريح السيد المرتضى رحمه الله في ذلك، وأنّ خبر الواحد لا يفيد في إثبات القرآن والنبوّة.

وقد ذكر الفخر الرازي (ت606ه-) وجوهاً عدّةً في عدم جواز التمسك بالخبر الواحد في معرفة الله تعالى، وأقام على ذلك أدلة عدّة :

1. إنّ أخبار الآحاد مظنونة.

2. إنّ أجلّ الرواة هم الصحابة وقد طعن بعضهم في بعض فالطاعن إن صدق توجّه الطعن إلى المطعون، وإن كذب توجه إلى الطاعن.

3. إنّ المحدثين تمسكوا ببعض الموضوعات التي أدخلها الملاحدة، فكيف يوصف الله تعالى بما يقدح في الإلهية؟.

4. إنّ الرواة ما كتبوا المحتوى مباشرةً، بل كانوا ينقلون عن الحفظ بعد عشرين سنة أو أكثر، فنقطع بأنّ بعض الألفاظ لم تكن من رسول اللهصلی الله علیه و آله و سلم بل ربما دخله التشويش، فلا يعتمد عليه في الاعتقادات.

ثمّ بعد هذا السرد يقول الفخر الرازي: (انّه لا يجوز التمسك فی أصول الدين بأخبار الآحاد)(1).

ص: 95


1- أساس التقديس : 305 - 313

وقال نصير الدين الطوسي (ت 672ه-) : (الظن ممكن الزوال، وفي زواله خطرٌ عظيمٌ، وقد ورد النص الصريح بالأمر بالاحتراز عن الخطر، فتعيّن الأمر بتحصيل اليقين قطعًا)(1)

وكذلك الفيض الكاشاني (ت 1091ه-) قال: (أنّه لا يجوز التعويل على الظن في الاعتقادات، ولا الإفتاء عليه في العمليات، سواءً حصل ذلك الظن بمجرّد اتباع الهوى واستحسان العقل والقياس الفقهي أو اجتهاد الرأي أو الشهرة، أو اتفاق الجماعة، أو البراءة الأصلية، أو

استصحاب الحال، أو غير ذلك من وجوه الاستنباطات)(2).

ومنهم أيضًا الآخوند الخراساني (ت 1329ه-) حيث يقول: (هل الظن كما يتبع عند الانسداد عقلاً في الفروع العملية المطلوبة فيها أولاً العمل بالجوارح، يتبع في الأصول الاعتقادية المطلوب فيها عمل الجوانح من الاعتقاد به وعقد القلب عليه، وتحمّله والانقياد له، أو لا؟ الظاهر لا، فإنَّ الأمر الاعتقادي وإن انسدّ باب القطع به، إلّا أنّ باب الاعتقاد إجمالاً بما هو واقعه والانقياد له وتحمله غير منسدّ...)(3).

كما أنّ العلامة الطباطبائي (ت 1402ه- ) ينفي الأخذ بالخبر الواحد في العقائد دون الفروع، ويستدلّ على ذلك بقوله: (أنّ الحجية

ص: 96


1- تلخيص المحصل : 56
2- الأصول الأصيلة: 149/ الأصل الثامن
3- كفاية الأصول: 331

الشرعية من الاعتبارات العقلّائية، فتتبع وجود أثرٍ شرعيٍّ في المورد يقبل الجعل والاعتبار الشرعى والقضايا التاريخية والأمور الاعتقادية لا معنى لجعل الحجية فيها لعدم أثرٍ شرعيٍّ، ولا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علمًا وتعبيد الناس بذلك)(1).

ب جواز العمل بالظن:

يذهب إلى هذا الرأي جميع أصحابُ الحديث والإخباريون وبعضُ الأصوليين والمتكلّمين، وقد أشار الشيخ الأنصاري (ت1281ه-) إلى مسألة اعتبار الظن في أصول الدين، وقسّم القائلين باعتباره إلى أقسامٍ

عدّةٍ:

1- كفاية الظن مطلقًا، وهو المحكيُّ عن جماعةٍ، منهم المحقق الطوسي في بعض الرسائل المنسوبة إليه، وحكى نسبته إليه في فصوله، وعن المحقق الأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك، وظاهر شيخنا البهائي والعلامة المجلسي والمحدّث الكاشاني وغيرهم قدس الله أسرارهم.

2- كفاية الظن المستفاد من النظر والاستدلال دون التقليد، حُكِي عن شيخنا البهائي رحمه الله في بعض تعليقاته على شرح المختصر أنّه نسبه إلى بعضٍ.

3- كفاية الظن المستفاد من أخبار الآحاد وهو الظاهر ممّا حكاه العلامة قدس سره في النهاية عن الإخباريين من أنّهم لم يعوّلوا في

ص: 97


1- الميزان 10: 351

أصول الدين وفروعه إلّا على أخبار الآحاد، وحكاه الشيخ في عدّته في مسألة حجية أخبار الآحاد عن بعض غفلة أصحاب الحديث.

4- كفاية الجزم بل الظن من التقليد مع كون النظر واجبًا مستقلاً لكن معفوّاً عنه، كما يظهر من عدّة الشيخ قدس سره(1).

هذه مجموعة الأقوال التي ذكرها الشيخ الأنصاري قدس سره، أما هو فيذهب إلى التفصيل حيث يقسّم مسائل أصول الدين إلى قسمين:

1- ما يجب على المكلف الاعتقاد والتدين به غیر مشروطٌ بحصول العلم، كالمعارف، فيكون تحصيل العلم من مقدمات الواجب المطلق فيجب.

2- ما يجب الاعتقاد والتديّن به إذا اتفق حصول العلم به كبعض تفاصيل المعارف.

أما القسم الأول فيقع الكلام فيه تارةً بالنسبة إلى :

ألف: القادر على تحصيل العلم.

ب: العاجز عن تحصيل العلم.

أما القادر على تحصيل العلم فحكمه التكليفي عدم جواز الاقتصار على الظن فمن ظنّ بنبوة محمد صلى الله عليه وآله أو بإمامة أحدٍ من الأئمّة عليهم السلام فلا يجوز له الاقتصار والدليل على ذلك جميع الآيات والروايات الدالة على وجوب الإيمان والتفقه والعلم والمعرفة

ص: 98


1- فرائد الأصول :1 331 - 332 دليل الانسداد.

والتصديق، وعدم الرخصة في الجهل والشك ومتابعة اليقين. فهذا حكمه التكليفي، وأما حكمه الوضعي فالأقوى فيه بل المتعين الحكم بعدم الإيمان للأخبار المفسّرة للإيمان بالإقرار والشهادة والتدين والمعرفة وغيرها من العبائر الظاهرة في العلم .

أما العاجز فيقع الكلام فيه تارةً في تحقّق موضوعه في الخارج، وأخرى في أنّه يجب عليه مع اليأس من العلم تحصيل الظن أم لا، وثالثه في حكمه الوضعي قبل الظن وبعده.

أمّا الأول فقد يقال بعدم وجود العاجز، وأنّ من تراه عاجزًا عن العلم قد تمكّن من تحصيل العلم بالحق ولو في زمانٍ ما، ولكن الإنصاف شهادة الوجدان بقصور بعض المكلفين، فيكون معذورًا غيرَ آثمٍ. أما الثاني فالظاهر فيه عدم وجوب تحصيل الظن عليه لأنّه عاجزٌ، نعم لو رجع الجاهل بحكم هذه المسألة إلى العالم ورأى العالم منه التمكّن من تحصيل الظن بالحق، ولم يُخَف عليه إفضاء نظره الظني إلى الباطل، فلا يبعد وجوب إلزامه بالتحصيل ، لأنّ انكشاف الحق ولو ظنّاً أولى من البقاء على الشك فيه.

أمّا الثالث فان لم يقرّ في الظاهر بما هو مناط الإسلام فالظاهر كفره أمّا المُقُرُّ ظاهراً، الشاكُّ باطنًا غير المظهر لشكّه فهو غير كافر .

أمّا القسم الثاني الذي يجب الاعتقاد به إذا حصل العلم به، فحيث كان المفروض عدم وجوب تحصيل المعرفة العلمية، كان الأقوى القول بعدم وجوب العمل فيه بالظن لو فرض حصوله ووجوب التوقف فيه،

ص: 99

للأخبار الكثيرة الناهية عن القول بغير علم والآمرة بالتوقّف، ولا فرق بين أن تكون الأمارة الواردة في تلك المسألّة خبراً صحيحًا أو غيره(1).

فأنت ترى أنّ الشيخ الأنصاري قدس سره يضيّق دائرة جواز العمل بالظن في العقيدة، ويوافق على الجاهل العاجز من تحصيل العلم فيمكنه الاعتماد على الظن لأنّه أفضلُ من الشك.

ومن القائلين بالتفصيل أيضًا من المتأخرين السيد الخوئي قدس سره حيث يرى عدم جواز الاكتفاء بالظن في ما يجب معرفته عقلاً كمعرفة الباري، أو شرعًا كمعرفة المعاد الجسماني، فلا بد من تحصيل العلم والمعرفة مع الإمكان ومع العجز عنه لا إشكال في أنّه غيرُ مكلّفٍ بتحصيله، إذ العقل مستقلٌّ بتقبيح التكليف بغير المقدور، كما أنّه لا إشكال في كونه غيرَ معذورٍ ومستحقّاً للعقاب في ما إذا كان عجزه عن تقصيرٍ منه وهو المعبّر عنه بالجاهل المقصّر.

وأمّا إن كان الظن متعلّقًا بما يجب التباني وعقد القلب عليه والتسليم والانقياد له كتفاصيل البرزخ وتفاصيل المعاد ووقائع يوم القيامة وتفاصيل الصراط والميزان ونحو ذلك ممّا لا يجب معرفته، وإنّما الواجب عقد القلب عليه والانقياد له على تقدير إخبار النبي صلى الله عليه وآله ،به، فإن كان الظن المتعلّق بهذه الأمور من الظنون الخاصة الثابتة حجيتها بغير دليل الانسداد فهو حجةٌ، بمعنى أنّه لا مانع من الالتزام بمتعلّقه وعقد القلب عليه لأنّه ثابت بالتعبد الشرعي.

ص: 100


1- م ن 1: 332 - 347 .

وإن كان الظن من الظنون المطلقة الثابتة حجيتها بدليل الانسداد، فلا يكون حجةً، بمعنى عدم جواز الالتزام وعقد القلب بمتعلّقه لعدم تمامية مقدّمات الانسداد(1).

3- منهج القياس الفقهي:

هذا المنهج لم يكن بمعزلٍ عن المنهجين السابقين العقلي والنقلي إذ هو يستلهم منهما، وإنّما أفرده المتأخرون وبعض المستشرقين بالبحث ،والمراجعة وهذا المنهج هو الاستدلال بالشاهد على الغائب، أو ردّ الفرع إلى الأصل المستعمل، وهو القياس المستخدم في الفقه السني.

يرى هاري ولفسون أنّ المتكلّمين الأوائل استعاروا من القياس، ويسميه المماثلة، الذي كان مستخدمًا في مسائل الأحكام والمعاملات الشرعية، ثمّ طبّق بعد ذلك على مسائل الاعتقاد(2). كما يعتقد أنّ منهج المماثلة كان سابقًا على ظهور الاعتزال(3).

علماً بأن المنهج القياسي غير معتبر فقهياً عند الشيعة الإمامية، إذ الشرع تابع للنص او ما يقوم مقامه من الأدلة الاستنباطية المعتبرة ولا يخضع للرأي.

أما استخدامه في مجال علم الكلام فإنه إما ان يعود الى المنهج النقلي وإما الى المنهج العقلي ، وقد مر الكلام فيهما بالتفصيل.

ص: 101


1- مصباح الأصول 2: 266 - 269
2- فلسفة المتكلمين 1: 49
3- م ن 1: 60-65

4- المنهج الجدلي:

يرى العلامة الحلي (ت 726ه-) أنّ القياسات الجدلية ليس الغرض منها الحق والباطل، بل هو طلب ما يفحم به الخصم في المناظرة والمجادلة ويقطعه عن الاحتجاج، ويظهر به على خصمه عند السامعين سواءً كان حقاً أو غيره، ثم يعرّف الجدل بقوله: (فحدّ القياس الجدلي أنّه صناعةٌ علميّةٌ يقتدر معها على إقامة الحجة من المقدّمات المسلّمة على أيّ مطلوب أُريد، وعلى محافظة أيِّ وضعٍ يتفق على وجهٍ لا يتوجّه المناقضة على محافظة وضعه بحسب الإمكان).

ثمّ يشرح ذلك قائلاً : فقولنا: (علميةٌ يُقتدر معها) يخرج عنها الآخر، وقولنا: (على محافظة أي وضعٍ يتفق) عنى بالوضع الرأي المعتقد أو الملتزم كالمذهب والملل، وقولنا: (بحسب الإمكان) إشارةٌ على أنّ عجز المجادل عن تحصيل بعض المطالب المتعدّرة لا يقدح في صناعة الجدل كعجز الطبيب عن إزالة بعض الأمراض(1).

فالجدل نقيض البرهان، إذ البرهان يعتمد على اليقينيات للوصول إلى الحق كما هو، بينما الجدل يعتمد على المسلمات والمشهورات، إذ هدفه تبكيت الخصم والغلبة عليه، وهذا الأمر من أهم الأسباب في الطعن على

علم الكلام سواءً من قبل الفلاسفة أو المتصوفة أو أهل الحديث.

فهذا عبد الرزاق اللاهيجي (ت 1072ه-) عندما يذكر تعريف علم الكلام ويذكر إلزام المتكلّمين أنفسهم بالسير على قانون الإسلام في

ص: 102


1- الجواهر النضيد 350 - 351

مسائل علم الكلام، ويقول: (وهذا الاعتبار هو الذي أخرج الأدلّة الكلامية من البرهان إلى الجدل... فالواجب أن يصار إلى مقتضى العقول الصريحة والآراء الصحيحة، ويرجع إلى قوانين النظر والاستدلال البرهاني الموجب لليقين المبتني على المقدمات البرهانية القطعية العقلية الصرفة، لمن أراد الترقي عن حضيض التقليد إلى ذروة التحصيل، وإن أدّى إلى ترك الظواهر ورفض المتبادر ... (1).

وسبق أن ذكرنا مقولة الفارابي (ت 339ه-) حيث ذكر قومًا من المتكلّمين حاولوا نصرة مذهبهم كيفما اتفق ، فلم يتحرّجوا من استخدام الكذب والمغالطة والبهت والمكابرة(2) .

وأكثر من هذا يرى ابن خلدون ت (808ه-) أنّ المتكلّمين إنّما احتاجوا إلى الأدلّة العقلية في مقام الدفاع، بمعنى أنّ حاجتهم إليها آليةٌ ولیست استقلاليةٌ تنبع من أهميّة الأدلّة العقليّة، يقول: (والأدلّة العقليّة إنّما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا)(3).

ويؤيده المستشرق الألماني فان إس حيث يذهب إلى قريبٍ منه ويقول : (لقد كان اعتقاد المتكلمين في قدرة العقل كبيرًا ، لكونهم لم يستطيعوا ممارسة الجدال مع الكفار بالاقتصار على القرآن أو السنة)(4).

ثمّ إن الغزالي (ت 505ه-) يرى أنّ المتكلمين: (كان أكثر خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم، ومؤاخذاتهم بلوازم مسلماتهم)(5).

ص: 103


1- شوارق الإلهام 1 59 - 60 .
2- إحصاء العلوم: 43.
3- المقدمة : 346 .
4- بدايات الفكر الإسلامي: 25
5- المنقذ من الضلال: 63.

كما يذهب إلى أنّ صنعة الكلام هي المجادلة والمناظرة بالمناقضات والإلزامات(1).

يعترض ابن ميمون (ت 600ه-) على المتكلّمين ويصف أدلتهم بالخيال، وذلك عندما يذكر مقولة (تامسطيوس) من أنّ الوجود ليس تابعاً للآراء بل الآراء تابعةٌ للوجود، ثمّ يعترض على المتكلّمين الذين يخالفون هذه القاعدة ويقول بأنّ قاعدتهم أن لا اعتبار بما عليه الوجود لأنّها عادةٌ يجوز في العقل خلافها، ثمّ يقول: (وهم أيضًا في مواضعَ كثيرةٍ يتبعون الخيال ويسمّونه عقلاً)(2) .

ولم يقتصر قرف الكلام بالجدل على القدماء فحسب، بل تطرّق إليه المعاصرون أيضًا، فهذا حسن حنفي يذهب إلى أنّ علماء الكلام استطاعوا تأسيس منطقٍ جدليٍّ للدفاع عن النفس، وتفنيد حجج الخصوم حتى أصبح علم الكلام كله علمًا للجدل(3).

والجدل لا يكون منهجًا لعلم يقينيٍّ، بل لعلم ظنّيٍّ محضٍ، لأنّه لا يوصل إلاّ للظن، فالجدل طريقٌ ظِنٌّي لا يوصل إلى اليقين، ولم يستطع علم الكلام أن يكون علمًا، بل كان كل ما انتهى إليه من قبيل الظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا، والعلم لا يكون علمًا إلّا إذا كان علمًا يقينيّاً موصلاً إلى اليقين (4) .

ص: 104


1- إحياء علوم الدين 1: 89/ بيان تفاوت النفوس في العقل.
2- دلالة الحائرين: 188.
3- من العقيدة إلى الثورة 1 103
4- م ن 1: 105

5- المنهج التجريبي الإسلامي:

ذهب إلى هذا المنهج وأسّس له الدكتور علي سامي النشار (ت1980م)، وهو في تأسيسه المنهجي هذا، لم يقتصر على علم الكلام فقط، بل يرى أنّه منهج الحضارة الإسلامية.

يعترض النشار على مؤرخي المنطق وعلماء المناهج، إنكارهم لأن يكون للمسلمين منهجٌ بحثيٌّ مستقلٌّ، بل يرون أنّ المسلمين اتخذوا المنطق الأرسطي منهجًا لأبحاثهم، وأنّهم خضعوا لسيطرة الفكر اليوناني، وأنّهم عاشوا مبهورين في ضوء هذا الفكر، كما يعترض على الدكتور إبراهيم بيومي مدكور الذي أيّد هذه الفكرة، وذهب إلى أنّ منطق أرسطو سيطر على جميع دوائر الفكر الإسلامي : فلاسفة وعلماء وفقهاء ومتكلّمين.

وهذا المنهج هو المنطق الاستقرائي أو المنهج التجريبي الإسلامي، وذلك أنّ المسلمين أدركوا لزوم وضع منهج في البحث يخالف المنهج اليوناني، وهذا المنهج - على حدّ تعبير النشّار - اطلع عليه روجر بيكون وأخذ به أيضًا جون ستيوارت ،مل فالمسلمون كانوا اسميين

حسيين تجريبيين قبل مل وغيره.

ثمّ إن النشار يعقد مقارنة بين بعض القضايا في منهجه المقترح وما ورد في المنطق الأرسطي، ليبيّن أوّلا اختلاف المنهجين، وثانيًا أفضليّة المنهج الذي أسّسه هو، فتطرّق إلى مسألة الحدّ أو التعريف، والقضايا، ومباحث الاستدلال، والعليّة، ثم يقول بعد هذا: (هذه هي بعض أسس

ص: 105

المنهج الإسلامي التجريبي، أقامه المسلمون منهجًا كاملاً، وقد نشأ وتطوّر نشأةً إسلاميّةً ، يدعو إليه القرآن والسنة...)(1).

6- المنهج الحداثوي:

لم يكن هذا المنهج منهجًا مستقلاً، بل هو خليطٌ من مناهجَ غربيةٍ كثيرةٍ استخدمها الحداثيون في المناخ الإسلامي العربي، وطبقوها على العلوم الإسلاميّة توفيقاً للدين مع العصر الحديث، ومن رحم هذه المناهج ولدت مباحث فلسفة الدين والكلام الجديد.

فقد استخدم هؤلاء الحداثيون المنهج الهرمنيوطيقي، والتاريخاني، وغيرهما من المناهج اللغويّة والنفسيبة والفلسفيّة، وأخضعوا النصوص الدينيّة بما فيها من أصول وفروع لهذه المناهج.

وقد بلغ الشطط بأحدهم حتى ذهب إلى القول بأنّ تأسيس علم الإنسان أولى وأهم من تأسيس علم الكلام، لأنّ الكلام ورد في القرآن ثلاث مرات، أما الإنسان ذكر خمسًا وستين مرة (2)حتى أنّه أراد أن يسمّي كتابه (علم الإنسان) لكنه عدل إلى عنوان (من العقيدة إلى الثورة) لما في الأول من إيحاءات غربية(3)، لكنه على الرغم من تغيير العنوان فالكتاب مليءٌ بالنزعة الإنسانية وإيحاءاتٍ غربيةٍ في الأسس والمباني، وتدوير الدفة من الله إلى الإنسان.

ص: 106


1- نشأة الفكر الفلسفي 1: 28 - 34 .
2- من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي :1 54/الهامش.
3- م ن 1: 38 الهامش 44

إنّ حنفي يستشكل على مقدمات كتب الكلام حيث يبدأ المؤلف بالثناء على الله تعالى، ثمّ يعرّج بعد أسطر إلى الثناء على السلطان، ويعلّق على هذا الثناء الذي هو ثناء على السلطة الدينيّة والسلطة السياسيّة بأنّ: (كلاهما قضاء على الذاتية ذاتية الأفراد وذاتية الشعوب)(1)، ثم يقول بكل وقاحةٍ بعد صفحاتٍ عدّةٍ: (فإذا كان هذا المحتوى الرئيسي للمقدمات الإيمانية التقليدية التي تدعو إلى الله وإلى السلطان معًا وتسبّح بحمدهما معًا... فإنّ عصرنا الحالي عصر إصلاحٍ ونهضةٍ وجيلنا الحالي جيلُ تغييرٍ وثورةٍ، وكتّابه لا يتملّقون السلطان الإلهي أو السلطان السياسي، بل يدافعون عن مصالح الشعوب ضد جميع السلاطين. هذه هي المسؤولية (من العقيدة إلى الثورة) ومقدمته الأولى) (2)، كبرت كلمة تخرج من أفواههم.

ومن المعالم الأخرى لعلم الإنسان عند حنفي هو(التأصيل الواقعي)، والتأصيل الواقعي يعني عنده أن: (يرتبط التوحيد من جديدٍ بالعمل والله بالأرض، والذات الإلهية بالذاتية الإنسانية، والصفات الإلهية بالقيم الإنسانية والإرادة الإلهية بالحرية الإنسانية، والمشيئة الإلهية بحركة التاريخ يهدف التأصيل الواقعي إذاً إلى إعادة بناء علم أصول الدين بحيث تتحوّل العقيدة إلى ثورة للدفاع عن البلاد)(3).

والمَعْلَم الثالث عند حنفي هو تطبيق العقل المصلحي في العقائد،

ص: 107


1- م ن 1: .21
2- .30-29:1
3- م ن 31:1 - 32

فالعقائد الإصلاحية هي الوحيدة التي ترتكز على دور العقائد في تغيير حياة الناس، وتصوراتهم وأساليب حياتهم من أجل تغيير الأنظمة الاجتماعية والسياسية وإعادة التوحيد) (1).

إنّ هدف كتاب (علم الإنسان) أو (من العقيدة إلى الثورة) هو محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين القديم (2)فيصبح شرف العلم لا في الموضوع كما قاله القدماء، بل من الأثر والقدرة على تحريك الناس وتجنيد الجماهير، والدخول في حركة التاريخ(3). والنتيجة التي نصل إليها من خلال هذا النهج المعكوس التفوّه والتأييد الضمني بأنَّ: (التفكير في الله كموضوع خاصٍّ في المجتمعات النامية اغترابٌ بمعنى انّ الموقف الطبيعي للإنسان هو التفكير في المجتمع وفي العالم، وكل حديث آخر في موضوع يتجاوز المجتمع والعالم، يكون تعميةً تدلّ على نقصٍ في الوعي بالواقع ... إذا كان من الناس، وتسترّ على الواقع إذا كان من السلطة السياسيّة... الدين هنا يستعمل أفيونًا للشعب من السلطة الحاكمة، وإن لم يُستعمل بعدُ صرخةً للمضطهدين في تراث المعارضة)(4).

ومن النتائج والمساوئ الأخرى التي يتوصّل إليها هذا المنهج المعكوس، الزعم بأنّ علم الكلام القديم يضع ذات رسول الله صلى الله عليه وآله مع ذات الله كلاهما موضوعان شريفان ، والحال أنّ هذا

ص: 108


1- م ن: 1: 34 - 35.
2- م ن 1: 46 .
3- م ن 1: 37 .
4- م ن 1: 84 .

من نسيج خياله، ولم يضع أحدٌ الذات النبوية رديفًا للذات الربوبيّة، ولا تساويهما في الشرف والرتبة، لكن حنفي غيورٌ على الله تعالى فيعترض على هذه التسوية الخياليّة، ويزعم أنها نقصٌ في تنزيه الذات الإلهيّة. ثم يعترض أيضًا لينفي أي شرف للذات النبوية فيقول: (إنّ الذوات الإنسانيّة لا تتفاضل أيضًا فيما بينها، فلا توجد ذاتٌ إنسانيّةٌ أشرفُ من ذاتٍ إنسانيّةٌ أخرى حتى ولو كانت ذات النبي، الكل بشرٌ... وليس للنبي وظيفةٌ زائدةٌ على وظائف سائر البشر إلّا التبليغ الذي يمكن أن يقوم به أيّ إنسانٍ...)(1).

هذا غيضٌ من فيضٍ من ترهات هذا الرجل، ولو أردنا نقل جميع كلامه في مجلدات كتابه الخمسة لطال بنا المقام، وبه كفاية عن التعرّض لغيره إذ النتيجة والمؤدى واحدٌ، وإن اختلفت العبائر والألفاظ.

والحق أن جميع جميع المناهج - عدا المنهج الحداثوي التشكيكي يحتاجها المتكلّم في مقام التأصيل والدفاع، إذ استخدام المنهج يتبع نوعية المسألة، فهناك مسائل لا ينفع فيها إلّا المنهج العقلي واستخدام المنهج النقلي يؤدي بنا إلى الدور كإثبات أصل الخالقية والنبوة، وهناك مسائل لا ينفع فيها انّ المنهج النقلي كتفاصيل مسائل المعاد، وكإثبات ختم النبوة، وهناك مسائل يشترك فيها العقل والنقل كإثبات الإمامة وبعض تفاصيلها، كما انّ المنهج الجدلي ينفع في مقام المناظرة وإفحام الخصوم فمسألة المنهج تضيق وتتسع بحسب المسألة ونوعية حاجة المتكلّم.

ص: 109


1- م ن 1: 108

11 - التقليد في أصول الدين

وقد أثار هذا البحث جدلاً واسعًا بين الإخباريين والأصوليين والمتكلّمين، وهو يتأثر بشكلٍ كبيرٍ بالبحث الذي مضى حول حجية الظن في الاعتقاد أم عدم حجيته، وقد اختلفت أقوال القوم، ويمكن تصنيفها ضمن ثلاثة أقسامٍ:

1- الإنكار.

2- التأييد.

3- القول بالتفصيل.

4- الإنكار:

لقد أنكر متكلّمو الشيعة والأشاعرة والماتريدية والمعتزلة التقليد في أصول الدين، وأوجبوا لزوم النظر والاستدلال.

فمن الشيعة قال السيد المرتضى (ت436ه-) : (اعلم أن معتقد الحق على سبيل التقليد غيرُ عارفٍ بالله تعالى ولا بما أوجب عليه من المعرفة به. فهو كافرٌ لإضاعته المعرفة الواجبة) (1).

وقال الشيخ الطوسي (ت 460ه-) : ( التقليد إن أريد به قبول قول الغير من غير حجةٍ وهو حقيقة التقليد، فذلك قبيحٌ في العقول)(2).

وقال في العدّة: (إنّ على بطلان التقليد في الأصول أدّلةً عقليّةً وشرعيةً

ص: 110


1- رسائل الشريف المرتضى 2: 316
2- الاقتصاد : 26

من كتابٍ وسنةٍ وغير ذلك ، وذلك كافٍ فى النكير [هذا] إذا كان للمكلف طريقٌ إلى العلم إما جملةً أو تفصيلاً، ومن ليس له القدرة على ذلك أصلا فليس بمكلّفٍ وهو بمنزلة البهائم التي ليست مكلفةً بحال)(1).

وقال الحمصي الرازي :(ق7) : (فإن قيل : لم لا يجوز أن يُعرف تعالى بالتقليد على ما ذهب إليه طائفة من الحشوية وأهل الحيرة؟ قلنا: التقليد ليس طريقًا إلى تحصيل المعرفة)(2).

وقال العلامة الحلي (ت 726ه-) : (طلب الله تعالى من المكلّف اعتقادًا جازمًا يقينيًّا مأخوذاً من الحجج والأدلّة، وذلك في المسائل الأصولية).(3).

وقال المقداد السيوري (ت 826ه-) : (ولا يجوز معرفة الله تعالى بالتقليد)(4).

أمّا الأشاعرة فجميعهم أوجب النظر والاستدلال، غير أنّهم جعلوا وجوبه الشرع دون العقل خلافًا للمعتزلة.وقال الفخر الرازي (ت606ه-) بعد سرد آياتٍ ورواياتٍ في لزوم النظر والاستدلال: (كل ذلك يدلّ على وجوب النظر والاستدلال والتفكير وذم التقليد، فمن دعا إلى النظر والاستدلال كان على وفق القرآن ودين الأنبياء، ومن دعا

ص: 111


1- العدة: 746 ، 748 / الباب الحادي عشر.
2- المنقذ من التقليد 1 263
3- الرسالة السعدية 9 حرمة التقليد.
4- النافع يوم الحشر : 13.

إلى التقليد كان على خلاف القرآن وعلى وفاق دين الكفار)(1).

وقال التفتازاني (ت793ه-) بعد إثبات لزوم النظر: (والحق أنّ المعرفة بدليل إجماليٍّ به يرفع الناظر عن حضيض التقليد، فرضُ عينٍ لا مخرج عنه لأحدٍ من المكلفين)(2).

أمّا الماتريدية فقد قال أبو المعين النسفي (ت508ه-): (التقليد ليس ممّا يعرف به صحة الأديان)(3)، كما ذهب إلى أنّ المقلّد مؤمنٌ وإن كان عاصيّا بترك النظر والاستدلال، وحكمه حكم غيره من فسّاق أهل الملّة من جواز مغفرته أو تعذيبه بقدر ذنبه وعاقبة أمره الجنة لا محالة(4).

وقال أبو إسحاق الصفار (ت534ه-) : (وقع التكليف على الدليل المؤدّي إلى اليقين، وكذلك لا يجوز أن يقع التكليف على التقليد في الأصل... فلا يظهر الحق بالتقليد بل بالوجه الذي بيّنّا من الدليل المؤدي إلى الحق..)(5).

أمّا المعتزلة فقد ذهب جميعهم إلى لزوم النظر وترك التقليد في أصول الدين، قال القاضي عبد الجبار (ت 415ه-) : (إنّ التقليد هو قبول قول الغير من غير أن يطالبه بحجةٍ وبيّنةٍ حتى يجعله كالقلادة في عنقه، وما

ص: 112


1- تفسير الرازي 2: 99 - 100
2- شرح المقاصد 1: 117.
3- تبصرة الأدلة 1: 152 .
4- م ن :1 157 158
5- تلخيص الأدلة: 115 - 116 .

هذا حاله لا يجوز أن يكون طريقًا للعلم) (1)وقال في بيان فساد التقليد: (اعلم أنّ القول به يؤدي إلى جحد الضرورة)(2)

وقد استدلّ أصحاب هذا القول لإثبات مدّعاهم بالعقل والنقل والإجماع.

الدليل العقلي:

1- أدلة التقليد متكافئةٌ:

إنّ الأقوال المختلفة عند المقلّد متكافئةٌ متساويةٌ، فليس الاعتقاد بالصانع أولى من نفيه، كما أنّ عابد الوثن وكذلك أصحاب الديانات الأخرى يدعي تقليد أسلافه، فإمّا أن يعتقد الجميع وهو محالٌ، أو يتوقّف عن الكل للتساوي وهو محالٌ أيضًا، كما لا يمكن حينئذٍ ترجيح الكثرة أو بإظهار الصلاح والعبادة، لأنّ ذلك قد يتفق بالحق والباطل، وليس بأمارةٍ على أحدهما، فليس تقليد جهةٍ بأولى من الأخرى(3).

2- لزوم الترجيح بلا مرجِّحٍ:

إذا تساوى الناس في العلم واختلفوا في المعتقدات، فإمّا أن يقلّد المكلّف جميع ما يعتقدونه فيلزم اجتماع المتنافيات، أو البعض دون بعض، فإمّا أن يكون لمرجِّحٍ أو لا، فإن كان الأول فالمرجّح هو

ص: 113


1- شرح الأصول الخمسة: 31
2- المغني 12: 122
3- الذخيرة للسيد المرتضى: 164 تلخيص الأدلة لأبي إسحاق الصفار : 116، ونحوه الاقتصاد للشيخ الطوسي : 27 ، تفسير الفخر الرازي2: 99 .

الدليل، وإن كان الثاني فيلزم الترجيح بلا مرجِّحٍ وهو محالٌ(1).

3- لزوم التناقض:

لو كان التقليد جائزاً لزم أن يكون الحق في شيءٍ ونقيضه، فيكون عابد الوثن يقلّد أسلافه، وكذلك اليهودي والمسيحي يقلّد أسلافه، وكل فريقٍ يعتقد أنّ الآخر على خطأٍ وضلالٍ وهذا باطلٌ بلا خلافٍ (2).

4- لزوم التسلسل :

إنّ المقلّد لا يخلو من أن يكون عالماً بأنّ المقلّد محقٌّ أو لا يعلم ذلك، فإن كان لا يعلم جوّز كونه مخطئًا وقبح تقليده، لأنّه لا يأمن الجهل والخطأ، وإن كان عالماً بأنّ من قلّده محقٌّ، لم يخل من أن يعلم ذلك ضرورة أو بدليلٍ، وعلم الضرورة معلومٌ ارتفاعه، وإن علمه بدليل لا يخلو من أن يكون ذلك الدليل غير التقليد وهو القسم الصحيح، أو يكون بالتقليد وهذا يوجب أنّ المقلّد أيضًا ما علم صحة ما ذهب إليه إلّا بالتقليد، ويؤدي إلى إثبات المقلّدين لا نهاية لهم(3).

5- لزوم التبخيت:

يكفي لفساد التقليد أنّه يجري مجرى التبخيت الذي لا يؤمن معه الإصابة والخطأ معا، فكما يقبح بلا خلافٍ التبخيت - لتساوي الحق والباطل فيه - فكذلك التقليد(4).

ص: 114


1- النافع يوم الحشر للسيوري : 13
2- التبيان للشيخ الطوسي 9 192، ونحوه تبصرة الأدلة للنسفي : 152.
3- المغني للقاضي عبد الجبار 12 ،123 الذخيرة للسيد المرتضى: 165، تبصرة الأدلة للنسفي: 152 المنقذ من التقليد للحمصي الرازي 1 263 1:
4- المغني للقاضي عبد الجبار 12: 124، الذخيرة للسيد المرتضى: 165.

6- لزوم عبثية المعجزة:

إنّ الله تعالى لم يبعث رسولاً إلّا بمعجزة، فلو كان التقليد حقًا لكان أولى من يحسن تقليده الرسل عليهم السلام، وفي بطلان ذلك دلالةٌ على أنّ العمل على النظر، ولولا صحة النظر ، وأنّ العمل في تعرّف الحق عليه لم يكن بين المعجز الواقع من الأنبياء عليهم السلام وبين أكلهم وشربهم وتصرّفهم فصلٌ في أنّ الكلَّ سواءٌ في أنّه لا يؤدّي إلى معرفة نبوتهم، فتكون إظهار المعجزة حينئذ عبثًا)(1).

7- لزوم أن يكون الجميع مصيبًا:

إنّا لو علمنا زيدًا معتقدًا لمذهبٍ من غير جهته لجوّزناه مخطئًا، فإذا ادّعى كونه محقًا لم يتغيّر ما جوّزناه، لأنّه قد يدّعي ما يعلم وما لا يعلم، ولو كان دعواه حقًا لكان اعتقاده كمثل، ولو كان اعتقاده حقًا لكانت أفعاله كمثل، وذلك يوجب القطع على أنّ كل واحد مصيبٌ فيما يظهر منه من الأفعال قولاً واعتقادًا أو تصرفًا، وذلك ظاهر الفساد(2).

8- تقليد المبطل للتقليد:

وهو أشبه بالأجوبة النقضية حيث يقال للمقلّد : لماذا لم تقل ببطلان التقليد؛ تقليدًا لمن أبطله ؟ فبأيّ شيء أجاب بطل التقليد(3).

ص: 115


1- المغني للقاضي عبد الجبار 12: 124، ونحوه باختصار الذخيرة للسيد المرتضى: 165
2- المغني للقاضي عبد الجبار 12: 124
3- تبصرة الأدلّة للنفسي : 152 بتصرف.

9- لزوم الجزم بالخلاص:

إنّ أكثر المسلمين لما ذهبوا إلى أنّ الله تعالى هو المتصرّف المالك لخلقه، يعدّب من يشاء ويرحم من يشاء، وأنّ الطاعة والمعصية لا أثر لهما في استحقاق الثواب والعقاب امتنع منهم الجزم بالخلاص، ومن قلّد من لا يجزم خلاص نفسه كيف يحصل له الجزم بسلامته ؟ وهل يقبل الله تعالى عذر المكلّف غدًا لو اعتذر وقال : إنّي قلّدت فلانًا من غير أن أعلم صدقه ولا يعلم فلان صدق نفسه أيضًا؟(1).

الدليل النقلي:

1- يدلّ على عدم صحة التقليد في أصول الدين الآيات الواردة في الأمر بالنظر والتفكّر من قبيل قوله تعالى في سورة يونس: 101 (قل انظروا) وفي سورة الأعراف : (184) (أولم يتفكروا)(2)

2- الآيات الناهية عن اتّباع الظن كقوله تعالى في سورة الأنعام: 116 (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) وفي سورة النجم: 28 (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي منَ الْحَقِّ شَيْئًا)(3).

3- قال تعالى في سورة الزخرف : 22 (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) وفي آية أخرى: (مُقْتَدُونَ) فذمّ تعالى التقليد(4)، وكذلك قوله في سورة البقرة: 170) أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ

ص: 116


1- الرسالة السعدية للعلامة الحلي: 13.
2- الرسالة السعدية للحلي 10 تفسير الرازي 2 99 تلخيص الأدلّة للصفار البخاري: 118. -
3- من: 10
4- التبصير في الدين للاسفرايني: 155، تفسير الرازي 2: 100 .

يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) فلو جاز التقليد لم يتوجه إليهم التوبيخ(1).

4- قال تعالى في سورة البقرة 111: (هاتوا برهانكم) أي حجتكم، وفي الآية دلالةٌ على فساد التقليد، لأنّه لو جاز التقليد لما ألزم القوم أن يأتوا فيما قالوه بالبرهان(2).

5- قال تعالى في سورة البقرة: 258( ألمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ في رَبِّهِ أَنْ أَتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيٌّ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتي بالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) وفيها دلالة على فساد التقليد وحسن المحاجة والجدل(3).

6- قال تعالى في سورة الأنعام 150:( قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) وفيها دلالةٌ على فساد التقليد، لأنّه لو كان التقليد جائزاً لما طالب الله الكفار بالحجة على صحة مذهبهم، ولما كان عجزهم عن الإتيان بها دلالةٌ على بطلان ما ذهبوا إليه (4).

7 - قال تعالى في سورة البقرة: 78 (وَمِنْهُمْ أُمَّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِي وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) وفيها دلالةٌ على انّ التقليد في معاني

ص: 117


1- التبيان للطوسي 2 : 78
2- التبيان للطوسي 1 470 ، مجمع البيان للطبرسي
3- التبيان للطوسي 2: 318
4- التبيان للطوسي ،4 ،313 مجمع البيان للطبرسي 189:4

الكتاب، وفيما طريقه العلم غيرُ جائزٍ، وأنّ الاقتصار على الظنّ في أبواب الديانات لا يجوز، وأنّ الحجة بالكتاب قائمةٌ على جميع وإن لم يكونوا عالِمِين إذا تمكّنوا من العلم به، وأنّ الواجب أن يكون التعويل على معرفة معاني الكتاب لا على مجرّد تلاوته(1).

8 -قال تعالى في سورة النساء : 82 (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كثيرًا) تضمّنت الآية الدلالة على بطلان التقليد، وصحة الاستدلال في أصول الدين، لأنّه دعا إلى التفكير والتدبّر وحثّ على ذلك (2).

9- الآيات الدالة على الأمر بالمجادلة كقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبَّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ولا شكّ في أن المراد بقوله (بالحكمة) أي بالبرهان والحجة، فكانت الدعوة بالحجة والبرهان إلى الله تعالى مأمورًاً بها، وقوله : (جادلهم بالتي هي أحسن) ليس المراد منه المجادلة في فروع الشرع، لأنّ من أنكر النبوة فلا فائدة في الخوض معه في تفاريع الشرع، ومن أثبت نبوّته فإنّه لا يخالفه، فعلمنا أنّ هذا الجدال كان في التوحيد والنبوة (3).

وكذلك قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ذَمَّ من يجادل في الله بغيرِ علمٍ، وذلك يقتضي أن المجادل بالعلم لا يكون مذموماً بل يكون ممدوحًا، وأيضًا حكى الله تعالى ذلك عن قوم نوح

ص: 118


1- مجمع البيان للطبرسي
2- مجمع البيان للطبرسي . 142:3
3- تفسير الرازي 2: 99

في قوله : ( يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا)(1).

10- الآيات الدالة على وجود منافقين كقوله تعالى في سورة محمد: 30 (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرفَنَّهُمْ في لَحْن الْقَوْل) وكقوله في صورة التوبة : 58 (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ في الصَّدَقَاتِ) وغيرها من الآيات الكثيرة.

ويدعمها روايات الحوض : أي القول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بألفاظٍ و مختلفةٍ : (أنا) فَرَطكُم على الحوض... ولَيرَدَنَّ عَلَيَّ الحوضَ أقوامٌ أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول إنهم من أمتي، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا ،بعدك، فأقول : سحقا سحقا لمن بدل بعدي.

فكيف يجوز التقليدُ، والنفاقُ ما ارتفع ولن يرتفع، وإذا كان هذا حال الصحابة مع أنهم الصدر الأول في الإسلام، فكيف حال غيرهم ؟(2).

2 - التأييد :

لقد أيّد التقليد في الاعتقاد وأفتى بجوازه جميع أهل الحديث والإخباريين وبعض المتصوفة، حتى أنّ بعض أهل الحديث حرّم النظر والاستدلال، واكتفى بظاهر النصوص كأحمد بن حنبل.

وقد ذهب الغزالي (ت 505ه-) إلى أنّ الله تعالى قد منَّ على الإنسان حيث شرح صدره في أول نشوئه للإيمان من غير حاجةٍ إلى برهانٍ وحجة،فأصبحت جميع مبادئ العوام على التلقين والتقليد المحض، ثمّ إنّ

ص: 119


1- م ن 2: 99
2- الرسالة السعدية للحلي: 15 - 16.

الاعتقاد الحاصل من التقليد لا يخلو من ضعفٍ فلا بد من تقويته في نفس العامِّيِّ أو الصبيِّ حتى يترسخ ولا يتزلزل، وليس طريق تقويته تعلّم صنعة الجدل والكلام، بل بتلاوة القرآن وتفسيره وقراءة الحديث ومعانيه والاشتغال بالعبادات

كما يرى الغزالي أنّه ينبغي للإنسان أن يحرس سمعه من الجدل والكلام غاية الحراسة، فإنّ ما يشوّشه الجدل أكثر ممّا يمهدّه، وما يفسده أكثر مما يصلحه، وإثباتًا لهذا يعقد الغزالي مقارنةً بين عقيدة عوام الناس وبين عقيدة المتكلّمين ، ليستخلص أنّ عقيدة العوام كالطود الشامخ في الثبات لا تحركه الدواهي ،والصواعق، أما عقيدة المتكلّم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل کخيطٍ مرسَلٍ في الهواء تحركه الرياح مرّةً هكذا ومرّةً هكذا.

ودليل الغزالي على ما مدّعاه أنّ الشرع لم يكلّف أجلاف العرب أكثر من التصديق الجازم بظاهر هذه العقائد، أمّا البحث والتفتيش وتكلّف نظم الأدلّة فلم يكلّفوه أصلاً(1).

وإلى نحوه ذهب ابن عربي (ت638ه-) في الفتوحات - نقلاً عن اليواقيت للشعراني - بأنّ عقائد العوام بإجماع كلِّ متشرِّعٍ صحيحةٌ سليمةٌ من الشُّبَه التي تطرق المتكلّمين، وهم على قواعد الإسلام وإن لم يطالعوا كتب الكلام لأنّ الله سبحانه أبقاهم على صحة العقيدة بالفطرة الإسلامية التي فطر الله الموحدين عليها، إمّا بتلقين الوالد المتشرع وإمّا بالإلهام الصحيح

ص: 120


1- إحياء علوم الدين :1 94 قواعد العقائد الفصل الثاني.

وقال أيضًا بأنّ مدار صحة العقائد على حصول الجزم بها، حتى انّ من أخذ إيمانه تقليدًا جازمًا للشارع كان أعصمَ وأوثقَ ممّن يأخذ إيمانه عن الأدلّة، وتأمّل كلام العقلاء تجدهم إذا نظروا واستوفوا في نظرهم

الاستقلال، وعثروا على أوجه الدليل، أعطاهم ذلك الأمر العلم بالمدلول ثمّ تراهم في زمنٍ آخرَ يقوم لهم خصمٌ من طائفةٍ كمعتزليٍّ أو أشعريٍّ بأمرٍ آخرَ يناقض دليلهم الذي كانوا يقطعون به ويقدح فيه، فيرون أنّ ذلك الأول كان خطأً، وأنّهم ما استوفوا أركان دليلهم، وأنّهم أخلّوا بالميزان في ذلك، وأين هذا ممّن هو في علمه على بصيرةٍ بتقليده الجازم للشارع، فإنّه كضروريات العقول لا تَرَدُّد فيه (1)

وقد ذهب الفيض الكاشاني (ت1091ه-) إلى أنّ العاميَّ لا بد أن يقلّد المجتهد، ويأخذ دينه عنه، ويتبع قوله في الأصول والفروع، فيكفي للعامِّيّ أن يُحصّل العقائد الحقّة إجمالاً ولو بتقليدِ عالم متديّنٍ يحسن اعتقاده فيه، ولا يجب عليه معرفة التفاصيل ولا النظر فيها من جهة البرهان والدليل زيادةً على ما ورد في الشرع سواءٌ في ذلك الفروع والأصول. وما اشتهر بين متأخّري أصحابنا ممّا يخالف ذلك فلم يثبت، إذ لا دليل عليه يُعتدُّ به، كيف وأنّي للعقول العامية والآراء الضعيفة النظر والاستدلال في المعارف، نعم النظر الواجب على العامي أن ينظر في من يقلّده ويعتمد عليه في دينه، هل له أهلية ذلك بإتصافه بالعلم والورع أم لا؟ فيصير قوله دليلاً في حقه وفتواه برهانًا عنده(2).

ص: 121


1- م ن 36 .
2- علم اليقين 2 : 905 - 906

ثمّ إنّ القاضي عبد الجبار المعتزلي (ت 415ه-) قد أورد أدلّةً عقليةً ونقليةً ممّن طعن في صحة النظر وأجاب عليها، ونحن نذكر بعض تلك الأدلّة ومن أراد التفصيل فعليه بكتاب المغني(1).

1- إنّ الشبهة تقتضي انتفاء العلم(2).

2- لو ولّد النظر العلم لم يختلف حكم العقلاء في ذلك، وقد وجدنا المتقدّم في علم الكلام يخالف المبتدئ بالنظر فيه، والذكي يخالف البليد، والسريع يخالف البطيء، وجليلُ الكلام يخالف حكمُه دقيقَه(3).

3- لو سلّمنا صحة النظر لم تجب الثقة به، لأنّه يجب أن يجوز أن لا يتمكّن منه على الوجه الصحيح لأمرٍ يرجع إلينا، كما لا إلينا، كما لا يصح نظمالشعر من كل من يعرف اللغة (4).

4- إذا ثبت أنّ النقص إذا لحق الآلة منع من أن يفعل بها ما هي آلة فيه، أو من أن يقع بها الفعل على وجه يصح، وكان العقل آلة في فعل النظر فيجب أن يكون نقصانه يؤثر في صحته، ولا يمكنكم دفع ما يلحق العقل

من النقص في أكثر العقلاء، فيجب أن لا يثق أحد منّا بصحة النظر(5).

5- قد يجد العاقل شدّة حرصه على أن يعلم بالنظر الأمور، ومع وفور دواعيه وشدّة تمسّكه بالنظر قد لا يصل إلى العلم، وإن كان غير

ص: 122


1- المغني 12 125، 175 ذكر شبه من نفى صحة النظر .
2- م ن 12 126.
3- م ن : 134:12
4- من: 12: 143.
5- م ن : 146:12

مخلّ بالنظر، ولا وجه لذلك إلا كون النظر غيرَ صحيحٍ)(1).

6- قال تعالى في سورة المائدة: 3 (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فيجب أن لا يحتاج إلى النظر في أصول الدين ولا في فروعه(2).

7- قال تعالى في سورة النمل: 89 (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لكُلِّ شَيْءٍ) فيجب بطلان النظر والرجوع إلى الكتاب(3).

8- الرجوع إلى النظر يقتضي التقدّم بين يدي الرسول، وقد منع الله من التقدّم بين يديه تعالى وبين يدي رسوله(4).

9- قال تعالى في سورة المائدة: 101) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) والقول بصحة النظر يقتضي السؤال عنه وعن أحواله فيجب بطلانه، ومتى حرّم تعالى السؤال وجب أن يحرم النظر لمساواتهما في التوصّل بهما إلى بيّن الأمور(5).

10- قال تعالى في سورة الأنبياء: 27 (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) فيجب أن نقول في الأمور على قوله دون النظر والاستدلال(6).

ثمّ قال القاضي عبد الجبار بعد سرد هذه الأدلّة: (واعلم أنّ ذكر الآي والأخبار في هذا الباب لا يفيد، لأنّا قدّ بيّنا أنّه لولا صحة النظر

ص: 123


1- م ن :148:12.
2- م ن :12: 159
3- م ن 12 160
4- م ن 12 161 .
5- م ن 16212 .
6- م ن 12 164 .

لم يفد الكتاب ولا السنة ولما صحّ أن نعرف صحتها فضلاً عن أن نتعلّق بهما في هذا الباب، ولأنّ المتعلّق بهما قد نظر واستدلّ وتوصّل بذلك إلى إبطال النظر بزعمه، لأنّه لا يمكنه أن يبطل النظر بذلك إلّا بأن يستدلّ به، فلو صحّ به، فلو صح الاستدلال مع ما فيه من الاشتباه، فما الذي يمنع من صحة سائر ضروب النظر والقياس؟ وكيف يصحّ التعلّق بالشيء في إفساد النظر ومعلومٌ من حاله أنّه لولا صحة النظر لما صحّ ذلك الشيء؟ وقد عُلم أنّ كل اعتراضٍ لا يصحّ إلّا بعد صحة ما يعترض به، فيجب فساده لأنّ صحته تقتضي صحة ما يعترض به عليه، وفي صحة ذلك فسادٌ للاعتراض(1).

3- القول بالتفصيل:

ربما يصحّ أن نقول بالتفصيل في الأمر، ونسلك مسلكّا وسطّا يختلف الحكم فيه باختلاف المسائل والأشخاص وهو الرأي المختار.

فهناك من المسائل الكلامية ما لا يمكن تحصيلها بالتقليد، بل بحاجةٍ إلى إثباتها عقلاً وبالنظر والتأمل ولو إجمالاً، كإثبات الله تعالى ولزوم النبوة، وإلا لزم الدور أو التسلسل.

أما باقي المعارف والجزئيات والتفاصيل التي لا تثبت إلّا بالسمع أو بالعقل والسمع، فيمكن التقليد فيها بالاعتماد على قول الرسول صلى الله عليه وآله والإمام المعصوم علیهم السلام، أو علماء الأمة الأبرار.

ولذا لم يَعُدَّ المتكلّمون متابعة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام

ص: 124


1- م ن 12: 169.

تقليدًا، قال الحسن الديلمي (ق8): (فإن قال: كيف يكون التقليد قبيحًا من العقلاء المميزين، وقد قلّد الناس رسول الله صلى الله عليه وآله في ما أخبر به عن رب العالمين، ورضي بذلك عنهم ولم يكلّفهم ما تدّعون؟

فقل: : معاذ الله أن نقول ذلك أو نذهب إليه، ورسول الله صلى الله عليه وآله لم يرضَ من الناس التقليد دون الاعتبار، وما دعاهم إلّا إلى الله بالاستدلال، ونبّههم عليه بآيات القرآن... فلو كان إنّما دعا الناس إلى التقليد ولم يردَّ الاستدلال، لم يكن معنّى لنزول هذه الآيات، ولو كان أراد أن يصدّقوه ويقبلوا قوله تقليدًا بغير تأمّلٍ واعتبار ، لم يحتج إلى أن يكون على يده ما ظهر من الآيات والمعجزات فأمّا قبول قوله صلى الله عليه وآله بعد قيام الدلالة على صدقه فهو تسليمٌ وليس بتقليدٍ، وكذلك قبولنا لما أتت به أئمتنا عليهم السلام ورجوعنا إلى فتاواهم في الإسلام.

فإن قال: فَأَبِن لنا ما التقليد في الحقيقة وما التسليم ليقع الفرق ؟ فقل : التقليد قبول من لم يثبت صدقه ومأخوذٌ من القلادة، والتسليم هو قبول من ثبت صدقه، وهذا لا يكون إلّا ببينةٍ وحجةٍ)(1).

وكذلك الأمر عند القاضي عبد الجبار (ت415ه-) حيث قال: (فإن قيل: ألستم جوّزتم تقليد الرسول فقد دخلتم في ما عبتم علينا، قلنا: معاذ الله أن يكون ذلك تقليدًا، لأنّ التقليد هو قبول قول الغير من غير أن يطالبه بحجةٍ وبينةٍ، ونحن إنّما قبلنا قوله لظهور العلم المعجز عليه)(2).

ص: 125


1- اعلام الدين للديلمي : 38 - 39
2- شرح الأصول الخمسة: 34

هذا كله بخصوص المسائل، أمّا بخصوص الأشخاص، فالحكم فيه يختلف في مقام الثبوت والاثبات فيلزم النظر للجميع في ما يتوقف ثبوت الشرع عليه في مقام الثبوت ونفس الأمر، أمّا في مقام الإثبات وفي الواقع العملي فيختلف الأمر باختلاف الأشخاص، إذ أكثر الناس لا قدرة لهم على النظر والاستدلال، وإنّما يأخذون عقائدهم تقليدًا من الآباء والأمهات، فمن وُلد في بيئةٍ شيعيةٍ أصبح شيعيًّا، ومن ولد في بيئةٍ سنيةٍ أصبح سنيًّا، وهكذا في سائر المذاهب والأديان.

وهؤلاء وإن كان المطلوب منهم النظر والاستدلال في مقام الثبوت، غير أنّ هذا مقبولٌ منهم بحسب طاقتهم واستطاعتهم ولزوم المعذّرية لهم، ولكن هذا لا يعني ترك البحث والنظر إذا سنحت لهم الفرصة، أو إذا هيّاً الله تعالى لهم طريق الصواب. فحينئذٍ يلزم البحث والاستدلال للوصول إلى الحق واليقين.

انّ الله تعالى الى على نفسه أن يقيم الحجة لخلقه ولا يتركهم على الضلالة، وهذه الحجة إما الرسول أو الإمام المعصوم، أو الفطر، والوجدان، أو أن يهيئ مناخاً يتمكن منه الإنسان التعرّف على الحق، لئلا تكون لهم الحجة على الله تعالى يوم القيامة، فمن لم تقم له تلك الأدلة فهو معذور أمام الله في تقليده. وسيأتي مزيد توضيح في مبحث النظر والاستدلال.

ص: 126

12 - نشأة علم الكلام

سبق أن أشرنا إلى أنّ علم الكلام - بمعنى التأصيل والدفاع العقدي - ظهر مع ظهور الإسلام والدعوة النبوية من خلال الآيات القرآنية، والسلوك النبوي صلى الله عليه وآله في الدعوة إلى الدين وتبيين أسسه، والإجابة عن الأسئلة الدينية والعقدية، وردّ الشبهات المثارة، واستمر بعده وتوسّع بسبب مختلف الظروف.

غير أنّ بداية تدوين هذا العلم وأسباب نشوئه كمنظومة مفاهيمَ متتاليةٍ ومسائلَ منتظمةٍ، وكذلك بداية نحت هذا المصطلح لهذا العلم، تبقى في حالة الغموض، وقد اجتهد العلماء - كل بحسبه - لوضع فرضيات في

ذلك، نوجزها في ما يأتي:

1- دور الخلفاء:

يرى الغزالي (ت 505ه-) أنّ الخلفاء الأوائل كانوا فقهاء، ولم تكن لهم حاجةٌ إلى وجود فقهاء يعينونهم، ولكن بعدما انتقلت الخلافة إلى أقوامٍ تولوها بغير استحقاق ولا علمٍ بالفتاوى والأحكام، احتاجوا إلى الفقهاء وإلى استصحابهم، فشرع الناس آنذاك في طلب علم الفقه لنيل الحظوة عند الخلفاء.

ثمّ ظهر بعدهم من الخلفاء من يسمع مقالات الناس في قواعد العقائد ويخوض في المناظرات والجدل، فأكبّ الناس على علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف، وزعموا أنّ غرضهم الذبّ عن الدين وقمع المبتدعين(1).

ص: 127


1- إحياء علوم الدين :1 41 - 42 ، الباب الرابع.

وأنت ترى أنّ هذا السبب ربما يكون من أسباب انتشار علم الكلام، لكنه لم يذكر بداية نشأته، بل يدلّ على انتشار مسائل الكلام قبل هذه الفترة، ثمّ مالت قلوب بعض الخلفاء إليها فانتشر الاهتمام بالكلام.

2- ظهور البدع:

أشار بعض المتكلّمين إلى أنّ ظهور البدع والفتن في الإسلام أدّى إلى نشوء علم الكلام للإجابة على الشهبات المثارة(1)، وهؤلاء لم يذكروا ما هي تلك البدعة، بل أطلقوا القول هكذا، ويمكن الوقوف عليها من خلال سائر النقاط.

3- ظهور المعتزلة:

يشير الشهرستاني (ت548ه-) إلى مجموعةِ خلافاتٍ سياسيةٍ عقديةٍ ظهرت في صدر الإسلام، (ثم يقول بعدها : (ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين فسّرت في أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنّاً من فنون العلم وسمّتها باسم الكلام)(2). وتبعه ابن ميمون (ت600ه-) وقال بأنّ المعتزلة هم أوّل فرقةٍ من الإسلام ابتدأت بهذه الطريقة(3). كما يشير التفتازاني (ت793ه-) إلى أنّ المعتزلة أوّل فرقة أسّست قواعد الخلاف(4).

ص: 128


1- راجع : المنقذ من الضلال للغزالي الضلال للغزالي: 62، شرح العقائد للتفتازاني: 15 وشرح المقاصد له أيضًا :1 25 :
2- الملل والنحل: 109
3- دلالة الحائرين 186.
4- شرح العقيدة النسفية : 17

وأنت ترى أنّ نص الشهرستاني يشير إلى وجود مناهجَ كلاميةٍ قبل المعتزلة، غير أنّ المعتزلة أسّست منهجًا جديدًا، فهو يدل على مراحلً متأخرةٍ، كما أنّ نص التفتازاني غيرُ دقيقٍ إذ لا يذكر ما هي هذه القواعد التي أسستها المعتزلة، وفي أيّ فترةٍ زمنيةٍ كانت وكذلك مدعى ابن ميمون.

ولكن على الرغم من هذا يحدّد طاش كبرى زادة (ت968ه-) ظهور علم الكلام على أيدي المعتزلة والقدرية في حدود المائة من الهجرة(1).

4- مسألة خلق القرآن:

أشار إلى هذا السبب الجرجاني (ت816ه-) في معرض كلامه عن أسباب تسمية علم الكلام بالكلام فقال: (أو لأنّ مسألة الكلام يعني قدم القرآن وحدوثه أشهر أجزائه وسبب أيضًا لتدوينه)(2). وهو أيضًا يشير إلى التدوين دون النشأة.

5- الآيات المتشابهة في القرآن:

ذهب إلى هذا الرأي ابن خلدون (ت808ه-) حيث يرى بأنّ الشارع كلّفنا الإيمان بالله تعالى وتنزيهه ،وتوحيده وكذلك الإيمان بالنبوة والمعاد، وبينّ هذه الأمور كلّها في القرآن، وكذلك وردت في السنة، وأخذ العلماء أدلّتهم منهما، غير أنّه عرض بعد ذلك خلافُ في تفاصيل هذه العقائد بسبب وجود الآيات المتشابهة، فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر

ص: 129


1- مفتاح السعادة 2: 148.
2- شرح المواقف 1: 66 .

والاستدلال بالعقل زيادة إلى النقل: (فحدث بذلك علم الكلام)(1).

6- ترجمة كتب اليونان:

لا شكّ في أنّ ترجمة الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية، كان لها الدور الكبير في تطوّر علم الكلام، حتى أنّ بعضهم قسّم الكلام إلى مرحلتين : مرحلة ما قبل الترجمة ومرحلة ما بعدها، فسمّى الأولى بالكلام عند المتقدمين، والثانية بالكلام عند المتأخرين(2). ومضى كلام الشهرستاني فی أنّ المعتزلة خلطوا مناهج الفلسفة بمناهج الكلام، وسيأتي البحث عن التأثيرات الخارجية على علم الكلام، ونتطرّق إلى هذه المسألة لاحقا.

غير أنّ ابن ميمون اليهودي (ت600ه-) انفرد برأي خاصٍّ، وأرجع جميع ذلك إلى اليونانيين والسريانيين، ورأى أنّ علم الكلام كله مأخوذٌ من هناك، فقال: ((واعلم أنّ كل ما قالته [فرق] الإسلام في تلك المعاني، المعتزلة منهم والأشعرية، هي كلها آراء مبنيةٌ على مقدماتٍ، تلك المقدمات مأخوذةٌ من كتب اليونانيين والسريانيين الذين راموا مخالفة آراء الفلاسفة ودحض أقاويلهم، وكان سبب ذلك أنّه لما عمّت الملّة النصرانية لتلك الملل... وكانت آراء الفلاسفة شائعةً في تلك الملل، ومنهم نشأت الفلسفة ونشأ ملوك يحمون الدين رأوا علماء تلك الأمصار من اليونان والسريان، أنّ هذه دعاوى تناقضها الآراء الفلسفية مناقضةً عظيمةً بيّنةً، فنشأ فيهم هذا علم الكلام وابتدأوا ليثبتوا مقدماتٍ نافعةٍ لهم في اعتقادهم، ويردّوا على تلك الآراء التي تهدّ قواعد شريعتهم، فلما جاءت ملّة الإسلام ونقلت

ص: 130


1- المقدمة : 343.
2- شرح العقائد النسفية للتفتازاني: 17 - 18

إليهم كتب الفلاسفة، نقلت إليهم أيضًا تلك الردود التي ألفت على كتب الفلاسفة.. فتمسّكوا به وظفروا بمطلبٍ عظيمٍ بحسب رأيهم، واختاروا أيضا من آراء الفلاسفة المتقدمين كل ما رآه المختار أنّه نافعٌ)(1).

وأنت ترى ما في هذا الكلام من دعاوَى دون إثباتها خرط القتاد، إذ الكتب المترجمة آنذاك مذكورةٌ ومدوَّنةٌ ولم يرد فيها أسماء كتب النصارى العقدية المترجمة، علمًا بأنّ المسلمين آنذاك كان لهم نظامٌ عَقديٌّ منسجمٌ، وإن لم يتبلور بشكلٍ منتظمٍ، يغنيهم عن الأخذ من النصارى ثمّ إنّ موقف المتكلمين كان سلبيّاً تجاه النصارى، وقد خصّصوا فصولاً من كتبهم للرد عليهم، فكيف يعقل اعتمادهم عليهم وتكوين علم الكلام بالاقتباس منهم ؟!

7- التأثير المسيحي:

ذكرنا عن ابن ميمون أنّ مقدمات الكلام أخذها المسلمون من النصارى عندما ردّوا على الفلاسفة دفاعًا عن العقيدة فانتقلت هذه الكتب بعد عصر الترجمة وأخذها المسلمون ودوّنوا علم الكلام.

وقد وسّع المستشرقون هذه الفرية فهذا المستشرق غولدتسهير يذكر التأثيرات المسيحية على علم الكلام(2)، كما ينقل لنا الكسندر تريجر مجموعة أقوالٍ من المستشرقين أمثال كوك وتنوس تؤيد هذا المُدَّعى(3).

ص: 131


1- دلالة الحائرين : 186 .
2- العقيدة والشريعة 129.
3- المرجع في تاريخ علم الكلام، مبحث أصول الكلام 1 92 فما بعد.

وسيأتي مزيد بيانٌ في المبحث الآتي حول علم الكلام والعلوم الأخرى.

8- المناظرات:

ذهب إلى هذا الرأي المستشرق الألماني المعاصر فان آس، حيث يرى أنّ الأشخاص الذين كانوا يحملون تعليمًا دينيًّا كانوا يُسمَّوْن في القرن الأول القراء، ثم بعد ذلك بدأ التمايز وتشعّبوا إلى فقهاء ومفسرين ومتكلّمين، وكانت العلوم آنذاك تُتناقل شفهيًّا ومن خلال المحاضرة أو الدرس أو الخطبة والمناظرة : (كانت المناظرات هي الوسيلة الحاسمة في نشر وتكريس وجهات النظر الدينية من هنا تطوّر فقهٌ إسلاميٌّ بالمعنى الصحيح، علم الكلام)(1).

ولا شكّ انّ للمناظرات والجدل ديني مدخلية في نشأة علم الكلام، غير أنّها لم تكن السبب الوحيد، مضافاً إلى أنّه لم يحدّد الفترة الزمنية، مع انّ كثيراً من المسائل الكلامية طرحت زمن النبي (ص) وأمير المؤمنين كقواعد تأصيلية لا علاقة لها بالمناظرات والجدل الديني.

9- الانقلاب الأموي:

ذهب إلى هذا الرأي المستشرق اليهودي غولد تسهير (ت1921م) حيث يقول: (كان الانقلاب الأموي أولى الفرص التي سنحت في الإسلام لإثارة مسائلَ كلاميةٍ إلى جانب الحالة السياسية والدستورية الجديدة، للحكم على الأنظمة الجديدة، مع رعاية وجهة نظر المطالب الدينية)(2).

ص: 132


1- علم الكلام والمجتمع 1: 77 - 79 .
2- العقيدة والشريعة: 111 .

ويشرح مدّعاه بأنّ بني أمية لم يكونوا متدينين ولا متظاهرين بالتقوى، وكانت حياتهم لا تحقق ما كان ينتظره الأتقياء من رؤساء الدولة الإسلامية طبقا لما روي من خصالٍ للوالي في الحديث، ومع ذلك كان هؤلاء الحكام يرون أنفسهم على رأس الحكومة الدينية ومن البديهي: (إنّ هناك فرقًا كبيرًا بين الطريقة التي كانوا يفهمونها عن حكومة الأمة الإسلامية وما كان ينتظره منهم الزهاد).

ثمّ إنّ الأمويين كانوا يتعاملون مع من خرج عليهم معاملة الثائر على الإسلام، لذا (كان الأمويون إذا ما حاربوا العصاة المتمردين والثائرين الذين كانوا يثورون لأسبابٍ دينيةٍ في رأيهم، كانوا يعتقدون يقينًا بأنّهم من أعداء الإسلام، وأنّه من الواجب أو من صالح عظمة الإسلام وبقائه أن يؤدبوهم بالسيف).

ثمّ إنّه (كان من واجب الحزب الديني المتمسك برأيه أن يحارب إلى النهاية أمثال هؤلاء الناس، أو على الأقل أن يتخذ بإزائهم موقفًا سلبيًّا).ومن هنا ظهرت إشكاليةٌ جديدةٌ في أنّ مخالفي الشريعة هل هم كفارٌ أو مؤمنون على الرغم من معصيتهم فقد ظهرت فرقة المرجئة جرّاء هذا الجدل(1). فهكذا ظهر علم الكلام الإسلامي عند غولد تسهير.

وفيه انّ كثيرًا من المسائل الكلامية كالقضاء والقدر، أما ما يتعلق بالتوحيد قد وردت في المصادر لما قبل هذه الفترة، وكتاب نهج البلاغة مشحون بمسائل عقدية ذكرها أمير المؤمنين علیه السلام.

ص: 133


1- م ن : 112 - 118.

10- العامل السياسي:

أشار غيرُ واحدٍ من الباحثين إلى أنّ العامل السياسي كان له دورٌ بارزٌ في نشأة علم الكلام، وأنّ الكلام السياسي وُلد قبل الكلام العقدي أو الإيماني.

فقد مضى ما قاله غولد تسهير من أنّ الانقلاب الأموي، وما دار حوله من معنى الإيمان، وهل المذنب مؤمنٌ أم لا، كان سبب ظهور علم الكلام وهو أمرٌ سياسيٌّ بامتيازٍ، إذ الحاكم إذا كان كافرًا بارتكاب المعاصي فلا يستحق الخلافة ولا بد من عزله.

كما أنّ ماجد فخري يرى أنّ الصلة الوثيقة بين السياسة والدين في الإسلام، ولّدت منذ البداية مناظراتٍ دينيةً سياسيةً معقّدةً مهّدت لها النزاعات السياسية الأولى(1)وإن أشار لاحقًا إلى عواملَ أخرى في نشوء علم الكلام.

كما أشار الجابري إلى سبق العامل السياسي والكلام السياسي على علم الكلام العقدي أو الإيماني، لكن اختلف موقفه في تحديد هذا العامل، فتارة جعله قضية التحكيم حيث قال: (بعد حادثة التحكيم التي أنهت الحرب بين علي ومعاوية، بدأ الكلام في السياسة بتوسط الدين، لقد كانت المواقف السياسية -وهي جزئيةً بطبيعتها - يُبحث لها عن سندٍ عامٍّ من الدين، وكان ذلك أولى الخطوات التنظيرية التي أسّست ما سيطلق عليه فيما بعد اسم علم الكلام، وإذًا فعلم الكلام في حقيقته التاريخية لم يكن

ص: 134


1- تاريخ الفلسفة الإسلامية: 81

مجرد كلامٍ في العقيدة، بل كان ممارسةً للسياسة في الدين)(1).

لكنه في مكانٍ آخرَ يستلهم من الشهرستاني ليجعل أول ممارسة الكلام هو ظهور الخلاف زمن النبي صلی الله علیه و آله و سلم والخلفاء الأوائل، ليجعل أول خلافٍ بعد زمن أمير المؤمنين هو الخلاف السياسي أولاً في الإمامة وثانيًا مسائل القدر(2).

11- مجموعةُ عواملَ مختلفةٌ:

ذهب لفيفٌ من الباحثين إلى أنّ ظهور علم الكلام ونشأته، كان خليطاً من عواملَ وأسبابٍ مختلفةٍ، تتفاعل هذه العوامل بين داخل البيئة الإسلامية - أي عواملٌ داخليةٌ - وخارج الإسلام - أي عواملُ خارجيةٌ..

يرى الدكتور علي سامي النشار (ت1980م) أنّ ميتافيزيقيا القرآن هي الفلسفة الإسلامية الحقيقية، وهي تبعًا للقرآن كانت فلسفةً عمليةً ترى السيطرة على الحياة وتملّكها، ومنها تكوّن المذهب التجريبي الإسلامي، وهذه الفلسفة كانت نقيض الفلسفة اليونانية التي احتقرت التجربة والتجريب، فالمسلمون من اليوم الأول أدركوا انّ مسائل الجوهر والماهية والكنه لم تكن مورد اهتمامهم بل اهتموا فقط بالخواصّ.

كما انّهم رأوا أنّ طبيعة عملهم الذي رسمه القرآن لهم هو تحقيق الأفعال الإنسانية، وتجنّب المسائل الاعتقادية الجدليّة، هذه هي الفلسفية الإسلامية الحقّة - أو قل علم الكلام - حتّى تطورت بعد ذلك،

ص: 135


1- تكوين العقل العربي: 347.
2- مقدمة الكشف عن مناهج الأدلّة لابن رشد، بقلم الجابري: 13.

ولكن تطوّرها كان أولاً في نطاق العمل فقط(1)، فالإسلام عند النشار لم يَدْعُ إلى قيام تفسيرٍ لميتافيزيقياه، ولكن حدثت مجموعةُ عواملَ خارجيةٌ وداخليةٌ لقيام هكذا تفسيرٍ بالاستناد إلى القرآن الكريم(2).

أما العوامل الخارجية فقد عدّها النشار كما يأتي:

1- اليهودية وما أحدثت من مناقشاتٍ عقليةٍ عنيفةٍ داخل المناخ الإسلامي.

2- المسيحية وما نجم من صراعٍ فكريٍّ خلافِيٍّ في بداية الدعوة، وبعد وصول الإسلام إلى الشام والعراق ومصر ، حيث بدأ التفكير الفلسفي الحقيقي في الإسلام آنذاك.

3- الفلسفة اليونانية وما أحدثت من مسائلَ كان للإسلام أن يبيّن موقفه منها.

4- المذاهب الغنوصية الشرقية، وكانت من أخطر المذاهب.

فالمسلمون اتصلوا بكل هذه الثقافات، وبدأت بينهم وبينها مناقشاتٌ عدّةٌ، وخلال هذه المناقشات تكوّنت العقائد الإسلامية الفلسفية أو علم الكلام.

أما العوامل الداخلية فهي:

ص: 136


1- نشأة الفكر الفلسفي 1: 53.
2- م ن 1 55.

1- العوامل السياسية إذ بدأت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله.

2- العوامل اللغوية سيما حول المفاهيم القرآنية.

3- العوامل الاقتصادية من قبيل الاختلاف حول الكنوز ،وأنّ المال هل هو مال الله أو مال المسلمين وما استتبعه من ظهور فكرتيَ الجبر والاختيار(1).

أقول: هذه مجموعةُ أقوالٍ ذُكرت في نشأة علم الكلام، وهي كما ترى لم تحدّد بالضبط تاريخ النشأة، وسببها، والحق كما ذهبنا إليه هو أنّ علم الكلام نشأ وُولد بميلاد الإسلام وبجهود رسول الله صلى الله عليه وآله في تأصيل الدين الجديد والإجابة على الأسئلة المثارة وردّ الشبهات، أما مسألة تدوين الكتب فهو يرجع إلى مرحلةٍ متأخرةٍ بأسبابٍ مختلفةٍ، وحيثما يكون الحديث ممنوعًا من التدوين - وهو بمكانٍ من الأهمية - فناهيك بغيره من العلوم ، وهذا لا يعني عدم التداول الشفهي البعض مسائل علم الكلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله فما تبنّاه أمير المؤمنين علیه السلام في خطبه وكلماته الغرّاء من تبيين الموقف العقدي بحسب حاجة المجتمع الإسلامي، خيرُ دليلٍ على تداول مسائل الكلام بين المسلمين آنذاك.

انّ ظهور المصطلح (= علم الكلام) للإشارة إلى منظومة فكرية

ص: 137


1- م ن 1: 56 - 57 ، وللمزيد راجع معجم طبقات المتكلمين تقديم الشيخ السبحاني 1: 72 المداخل إلى دراسات علم الكلام للدكتور حسن الشافعي 47 المرجع في علم الكلام، تحرير زابينه اشمیتكه 1 49 فما بعد.

منسجمة لتأصيل القضايا العقدية والدفاع عنها وردّ الشبهات، كان متأخراً وربما حدث في نهاية القرن الأول وبدايات القرن الثاني.

وكما سبق فقد أشرنا إلى انّ وجود كلمات من قبيل (متكلم)، (يتكلّم) (تكلّم) وما يرادفها في مصادر قديمة لا يعني ظهور مصطلح (علم الكلام) كعلم منسجم، بل ربما هذه الكلمات ظهرت وتم تداولها قبل ظهور المصطلح، وانّها كانت سبباً لنحته لاحقاً واطلاقه على منظومة علمية متكاملة.

ص: 138

13 - علم الكلام والعلوم الأخرى

سبق أن ذكرنا أنّ المناطقة ذهبوا إلى أنّ تمايز العلوم إنّما يكون بالموضوع، ما يعني وجود نقاطٍ مشترّكةٍ في الغاية والأهداف مثلاً أو غيرها بين علمٍ وآخرَ، ولكن ما يميّز هذه العلوم هو الموضوع.

وعلم الكلام أيضًا كذلك حيث يشترك مع بعض العلوم بالغاية أو المسائل أو المنهج أو غيرها، وسنحاول هنا الإشارة الموجزة إلى علاقة علم الكلام بالعلوم المشابهة الأخرى ، ومدى التأثير والتأثّر الحاصل بينهما.

1- علم الكلام والفقه :

كان الفقه عنوانًا عامًّا يشمل كثيراً من العلوم بما فيها علم الكلام حتى أنّ أبا حنيفة سمّى كتابه الكلامي المنسوب إليه بالفقه الأكبر. ولكن بعدما تمايزت العلوم وبدأ التدوين انفصل الكلام عن وأصبح كلُّ واحدٍ منهما علمًا مستقلاً.

2- علم الكلام وأصول الفقه:

لا يوجد ترابطٌ كبيرٌ بين هذين العلمين، إلّا في بعض المسائل المرتبطة باستنباط العقائد من قبيل هل يمكن الاعتماد على خبر الواحد في العقائد، أو هل الدليل الظنّي معتَبَرٌ وحجةٌ في مسائل العقيدة، وكذلك مسألة استصحاب المسائل العقدية، وهو أمرٌ ربمّا يتعلّق بمسألة المنهج كما ذكرناه سابقا، ولم يحظ بعنايةٍ تامةٍ لحد الآن.

ص: 139

3- علم الكلام والفلسفة:

أثار دخول الفلسفة في العالم الإسلامي جدلاً كبيراً بين مختلف التيارات الفكرية الإسلامية، حيث انقسموا إلى مؤيدٍ ورافضٍ وقائلٍ بالتوفيق بينها وبين الدين وكلٌّ منهم يستند إلى أدلةٍ لتبرير موقفه، ولم ينتهِ هذا الجدل إلى يومنا الحاضر على الرغم من تطوّر العلوم وتغيير المناهج وتنوّعها.

علمّا بأنّ دخول الفلسفة إلى العالم الإسلامي كان منعطفا تاريخيًّا لعلم الكلام، بحيث تم تقسيمه إلى كلام المتقدّمين لما قبل الاختلاط بالفلسفة وكلام المتأخرين لما بعد الاختلاط(1).

ونقطة الخلاف ربما تكمن في مسألةٍ جوهريةٍ، وهي هل الفلسفة تخالف الدين أو تتوافق معه؟!

لقد ذهب بعضهم إلى انّ الفلسفة استمدّت معالمها من مشكاة النبوة، فهذا الشهرستاني (ت548ه-) يرى أنّ الفلاسفة أخذوا من نبي الله شيث (غاذيمون) القول بالمبادئ الخمسة: أي الباري تعالى العقل النفس المكان والخلاء، وبعدها وجود المركَّبات (2). كما أنّه بعدما يقسّم الفلسفة أو الحكمة إلى عمليةٍ وعلميةٍ، يذهب إلى أنّ الأنبياء عليهم السلام أُيّدوا بأمدادٍ روحانيّة لتقرير القسم العملي وبعض القسم العلمي، فكل ما ورد به أصحاب الشرائع والملل مقدَّرٌ عند الفلاسفة، إلّا من أخذ علمه أخذ علمه من مشكاة النبوة، فانّه ربما بلغ إلى حدّ التعظيم لهم وحسن الاعتقاد في في كمال درجتهم)(3).

ص: 140


1- شرح العقائد النسفية للتفتازاني : 17 - 18 ، المقدمة لابن خلدون 345، گوهر مراد للاهيجي: 42.
2- الملل والنحل : 409
3- م ن : 424 .

ثمّ إنّه يذكر بعضَ الفلاسفة الذين أخذوا من الأنبياء، فَأنباذقلس أخذ من داوود ولقمان عليهما السلام(1) وفيثاغورس أخذ من سليمان(2)، كما أنّ سولون الشاعر عدّه الفلاسفة من الأنبياء العظام (3)

وإلى هذا الرأي يذهب الفيض الكاشاني (ت1091ه-) ويرى أنّ أكثر علم الفلسفة مأخوذٌ من الوحي النازل على الأنبياء عليهم السلام، إلّا أنّ الفلاسفة لم يبلغوا في شيءٍ من علومهم مبلغ الأنبياء، ولكن على الرغم من هذا يرى الفيض أنّ ما هو موجودٌ منها عند الناس اليوم ليس بعينه ما كان بین القدماء، بل اختلّ بعضها وتطرّق إليه التحريفات من قِبل المتأخرين بسبب سوء الفهم والإخلال بشرائط التحصيل، وعليه ينصح بالإعراض عنها وعدم الخوض فيها إلا لمن أحكم العلوم الدينية، وذلك لأنّ طريقة الفلاسفة كثيرة الخطر والمهالك، وهذا هو سبب مدح الفلسفة أو ذمها عن البعض(4)

ويذهب معاصره عبد الرزاق اللاهيجي (ت 1072ه-) إلى قريبٍ منه، ويقول : (وأكثر الأصول الثابتة عند الإمامية عن أئمتهم المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، مطابقٌ لما هو الثابت من أساطين الفلاسفة ومتقدّميهم، ومبنيٌّ على قواعد الفلسفة الحقّة كما لا يخفى على المحققين (5).

وقد اعترض -في من اعترض - على هذا التصور، الدكتور علي سامي

ص: 141


1- م ن : 435
2- م ن : 477 .
3- م ن : 477 .
4- المحجة البيضاء 1: 71 - 72 .
5- شوارق الإلهام 1 49 - 50.

النشار (ت1980ه-)، حيث قال:(انتشرت قصصٌ ورواياتُ كتبها مؤلفون يهودٌ تقول: إنّ هناك علائقَ بين أنبياء بني إسرائيل وبين فلاسفة اليونان، وإنّ هؤلاء الأخيرين أخذوا من معدن النبوة، كما سيعبر عن هذا بعضُ مؤرخي الفلسفة اليونانية من الإسلاميين متأثرين بإسرائيلياتٍ)(1) كما يرى أنّ مؤرخي الفلسفة وضعوا أقوالاً على لسان هرمس أو إدريس(2)علیه السلام. وقد ذكر مصطفى عبد الرازق (ت1947م) بعض الأقوال للمؤيدين والنافين(3).

ومهما كان الأمر فإنّ ما يهمّنا هو أنّ الترجمة قد حصلت، وأنّ الكلام اختلط بالفلسفة، وربما أدّى ذلك في بعض الأحيان إلى عدم إمكان التمييز بينهما: (فصارت كأنّها فنٌ واحد)(4).

عملية الترجمة:

يدّعي الدكتور علي النشار أنّ الفلسفة أوّل ما دخلت إلى العالم العربي كان في الفترة الجاهلية بشكلٍ ضعيفٍ وعلى يد النظر بن الحارث ابن عمة النبي صلى الله عليه وآله وغيره، ويضيف أنّها لم تترك أثرًا في تفكير العرب

الجاهلي(5).

أمّا في الزمن الإسلامي فتتفق المصادر على أنّ خالد بن يزيد بن معاوية (ت90ه-) أوّل من بدأ بترجمة بعض كتب الكيمياء والطب إلى اللغة

ص: 142


1- نشأة الفكر الفلسفي 1: 72.
2- م ن 1: 115.
3- تمهيد لتاريخ الفلسفة: 122.
4- المقدمة لابن خلدون: 381
5- نشأة الفكر الفلسفي 1: 104

العربية(1) (وهو الأمير الأموي الذي تحوّل إلى درس الكيمياء ليسلو عن ضياع حقه في الخلافة)(2).

وهكذا استمرت بعده عملية الترجمة للتراث اليوناني والفارسي والهندي بحسب الحاجة وظروف كل مرحلة وبالشدّة والضعف، وفي عهد المأمون العباسي (ت 218ه-) أخذت طابعًا منسجمًا مع بذل أموالٍ طائلةٍ، وتكليف مترجمين، وإنشاء معاهدَ خاصةٍ لذلك.

من هنا جاء اختلاط الكلام ،بالفلسفة قال ابن خلدون (ت808ه-):(واختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يميّز أحد الفنين من الآخر)(3).

نحن لا نعلم بالضبط الغاية النهائية للمتكلمين من هذا المزج، ولكن ربما يكون بدوافعَ دينيةٍ، قال الغزالي (ت 505ه-): (لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت المدّة تشوّق المتكلّمون إلى محاولة الذبّ عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها، لكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى، فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق)(4).

والتفتازاني (ت793ه-) أيضًا يشير إلى الدواعي الدينية فيقول: (ثمّ لما

ص: 143


1- راجع الفهرست لابن النديم 1: 242
2- تاريخ الفلسفة الإسلامية، ماجد فخري 34
3- المقدمة لابن خلدون: 345 - 346 ، 381.
4- المنفذ من الضلال: 63 .

نُقلت الفلسفة إلى العربية وخاض فيها الإسلاميون، حاولوا الردّ على الفلاسفة فيما خالفوا فيه الشريعة فخلطوا بالكلام كثيراً من الفلسفة، ليتحققوا مقاصدها فيتمكّنوا من إبطالها، وهلمّ جرًّا إلى أن أدرجوا فيه معظم الطبيعيات والإلهيات وخاضوا في الرياضيات حتى كاد لا يتميّز عن الفلسفة لولا اشتماله على السمعيات وهذا هو كلام المتأخرين)(1)، ويقول ابن خلدون (808ه-) : (والمتكلّمون إنمّا دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية، فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضاتهم واستدعى ذلك الحجج النظرية ومحاذاة العقائد السلفية بها)(2).

كما أنّ النشار (ت1980م) يجعل أهم الأسباب لهذا الاختلاط هو محاولة الرد على النصارى(3).

وعلى الرغم من هذا الاختلاف بقيت هناك فوارقٌ بين العلمين سيما في المنهج وطريقة معالجة المسائل فالمتكلّم ينطلق من المنطلق الديني لمعالجة الأمور بخلاف الفيلسوف، وقد أشار غيرُ واحدٍ من المتكلمين إلى هذا الأمر، قال التفتازاني (ت793ه-) : (إنّ نظر العقل يتبع في الملّة هداه وفي الفلسفة هواه)(4). وأيضًا: (فتميّز الكلام عن الإلهي بأنّ البحث فيه إنّما يكون على قانون الإسلام، أي الطريقة المعهودة المسمّاة بالدين والملّة والقواعد المعلومة قطعًا من الكتاب والسنة والجماعة... وأن

ص: 144


1- شرح العقائد النسفية . 18
2- المقدمة : 382 .
3- نشأة الفكر الفلسفي 1: 46.
4- شرح المقاصد 1: 23

يحافظ في جميع المباحث على القواعد الشرعية لا يخالف القطعيات منها جريًا على مقتضى نظر العقول القاصرة على ما هو قانون الفلسفة)(1).

وقال اللاهيجي (ت 1072ه-): (إنّ مبادئ الأدلة الكلامية في الكلام يجب يكون على قانونٍ يطابق ما ثبت من ظواهر الشريعة بخلاف مبادئ العلم الإلهي، فإنّها لا يعتبر فيها مطابقة ظواهر الشرع، بل المعتبر فيها مطابقة القوانين العقلية الصِّرْفة، سواءً طابقت الظواهر أم لا، فإنْ طابقت فذاك، وإلا فيؤوّلون الظواهر إلى ما يطابق قوانين المعقول، فهذا هو الفرق بين الكلام والإلهي(2).

ومن الفوارق أيضًا ما يشير إليها ابن خلدون (ت808ه-) من أنّ المتكلمين كانوا يستدلّون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود الباري وصفاته، وكذلك كان المتكلّم يتكلّم عن الجسم الطبيعي من حيث يدلّ على الفاعل، أما الفيلسوف ينظر فيه من حيث إنّه يتحرّك ويسكن، وكذلك إنّ نظر الفيلسوف في الإلهيات إنّما هو نظرٌ في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، أما نظر المتكلّم في الوجود من حيث إنّه يدلّ على الموجد(3)

كما إنّ مسائل علم الكلام عنده متلقاةٌ من الشرع من غير رجوعٍ فيها إلى العقل ولا تعويلٍ عليه، فإنّ العقل معزولٌ عن الشرع، وما تحدّث فيه المتكلّمون من إقامة الحجج ليس من باب الاعتداد بالدليل، بل هو للرد على الملحدين والتماسًا لحجةٍ عقليةٍ تعضد عقائد الإيمان

ص: 145


1- م ن 1 39، وأشار إليه باختصار الجرجاني في شرح المواقف :1 53
2- شوارق الإلهام 1 70.
3- المقدمة: 345.

وتدفع شُبَه أهل البدع الذين زعموا أنّ مَداركهم عقليةٌ(1).

ثمّ إنّ الفوارق ربما تتعدّى نطاق المنهج لتسري حتى في المسألة الواحدة، كما يشير المستشرق فان إس إلى مسألة المذهب الذّرّيّ، فهو يرى أنّه يونانيُّ الأصل وقائمٌ على مفهوم الصدفة التي وحدها تتحكم في انبثاق الأجسام المنسجمة والمتآلفة، لكن المعتزلة أخذوا هذا المذهب: (ولم يقبلوا الاقتباس منه إلّا لأجل إعادة صياغته داخل نسقٍ جديدٍ... إنّ القصدية الكامنة وراء المذهب المعتزلي الذري، إنّما هي البرهنة على شمول القدرة الإلهية ودوام ارتباط العالم المخلوق بتلك القدرة وكذا حدوثه)(2).

المعتزلة والفلسفة:

تذكر المصادر أنّ المعتزلة كانت أوّل فرقةٍ من فرق الإسلام استخدمت الفلسفة في أعمالها الحجاجية، يشير إلى هذا الشهرستاني (ت548ه-) بتفصيلٍ، حيث يقول : (ثم) طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين فُسّرتْ في أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنّاً من فنون العلم وسمتها الكلام)(3).

وممّن يذكرهم الشهرستاني من المعتزلة وتأثّرهم بالفلسفة: أبو الهذيل العلّاف حيث وافق الفلاسفة في أنّ الباري تعالى عالمٌ بعلمٍ وعلُمه من ذاته، وإبراهيم النّظّام حيث غلا في تقرير مذاهب الفلاسفة،

ص: 146


1- من: 382 .
2- بدايات الفكر الإسلامي : 145 - 146
3- الملل والنحل : 109

وبشر بن المعتمر وقد مال إلى الطبيعيين من الفلاسفة(1).

ويذكر تأثّر الواصلية أصحاب واصل بن عطاء بالفلاسفة(2)وكذلك أبو هذيل العلاف.(3) . وكذلك معمّر بن عباد وميله إلى الفلاسفة (4). والجاحظ حيث طالع كثيراً من كتب الفلاسفة، وخلط وروّج كثيراً من مقالاتهم، ومذهبه بعينه مذهب الفلاسفة، إلّا أنّ الميل منه ومن أصحابه إلى الطبيعيين منهم أكثر منه إلى الإلهيين(5).

كما أنّه لا ينسى من اتخاذ الموقف السلبي تجاه هذا العمل فيقول: (إنّهم سمعوا كلامًا من الفلاسفة وقرؤوا شيئًا من كتبهم، وقبل الوصول إلى كنه حقیقته مزجوه بعلم الكلام غير نضيجٍ)(6).

ويرى ابن ميمون اليهودي (ت600ه-) أنّ كلَّ ما قالته المعتزلة آراء مبنيةٌ على مقدماتٍ مأخوذةٍ من كتب اليونانيين والسريانيين الذين ردّوا على الفلاسفة(7).

ويشير ولفسون إلى اثنين من المستشرقين، يعدّهما من أكثر الدارسين تميّزاً في إظهار التأثير الفلسفي على علم الكلام، وهما: هوروفتس وهورتن(8).

ص: 147


1- م ن : 109 - 110
2- م ن : 127.
3- م ن: 130
4- من: 146.
5- م ن : 152 - 153
6- نهاية الاقدام: 159.
7- دلالة الحائرين: 186
8- فلسفة المتكلمين 1: 125

الأشاعرة والفلسفة:

إنّ الأشعرية وإن وُلدت كردة فعلٍ على المعتزلة وخروجٍ عليها ونقدٍ لها، غير أنّها لم تنفكَّ من التأثر بالفلسفة، وقد قرفها ابن ميمون اليهودي (ت 600ه-) بأنّها كنظيرتها - أي المعتزلة - قد استقت من كتب اليونانيين وردود السريانيين(1).

كما انّ ابن خلدون يشير إلى أنّ المتأخرين منهم اقتبسوا كثيراً من البراهين من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات، كما أنّهم ردّوا على الفلاسفة فيما خالفوا العقائد الإيمانية، ويذكر أنّ أول من صنع هذا الغزالي وتبعه الفخر الرازي(2).

وفي زمن الفخر الرازي تم تغيير ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهيات، حيث تمّ مزجها فصارت فنًّا واحدًا، وجعل الرازي الشروع بالأمور العامة ثم الجسمانيات وتوابعها ثم الروحانيات وتوابعها إلى آخر

العلم(3).

ويذكر التفتازاني أنّ الإسلاميين - ويقصد بهم الأشاعرة - بعدما تُرجمت الفلسفة، خلطوا بالكلام كثيراً من الفلسفة ليحققوا مقاصدها فيتمكنوا من إبطالها، إلى أن أدرجوا فيها معظم الطبيعيات والإلهيات، وخاضوا في

الرياضيات(4).

ص: 148


1- دلالة الحائرين : 186
2- المقدمة : 345
3- م ن : 381
4- شرح العقائد النسفية ،18 ، وأشار إليه اللاهيجي في شوارق الإلهام 1: 48 - 49.

الشيعة والفلسفة:

أخذت المدرسة الشيعية منذ البداية منحًى آخرَ يختلف تمامًا عن سائر المدارس العقدية، إذ باتت تنمو وتتنفّس تحت المظلّة التي رسمها أهل البيت عليهم السلام، فلم يُصبها ما أصاب سائر المدارس من التشرذم والفوضى الفكرية وكما سيجيء لاحقًا، فانّ الأئمة عليهم السلام رسموا خارطةً عقديةً مستحكمةً منذ البداية، وطلبوا من شيعتهم السير عليها وعدم تخطّيها.

غير أنّ هذا لا يعني عدم اطلاع أتباعهم وتلامذتهم على الآراء الفلسفية، كيف والبناء والتأصيل لا يمكنه أن يتم بمعزلٍ عن الشبهات والآراء الأخرى المثارة آنذاك، فهذا هشام بن الحكم (المتوفى أواخر القرن الثاني ما بين 179 - 199ه-) له كتابٌ في الرد على أصحاب الطبائع، وكتابٌ على أرسطاليس في التوحيد(1)وللفضل بن شاذان (ت260ه-) كتاب في الرد على الفلاسفة أيضًا(2).

وقد تبلور الأمر بشكل أوضحَ وأوسع في مزج الفلسفة والكلام على يد بني نوبخت أيام الغيبة الصغرى، فهذا الحسن بن موسى النوبختي (المتوفى أواخر القرن الثالث) يذكر ابن النديم (ت حوالي380ه-) بأنه متكلِّمٌ فيلسوفٌ، كان يجتمع إليه جماعةٌ من النَّقَلَةَ لكتب الفلسفة مثل أبي عثمان الدمشقي، وإسحاق وثابت ،وغيرهم وله مصنفاتٌ في الكلام والفلسفة، وذكر له من الكتب : كتاب اختصار الكون والفساد لأرسطاليس(3).

ص: 149


1- الفهرست لابن النديم 1: 176
2- رجال النجاشي: 306 .
3- الفهرست :177.1

وهكذا بدأت المدرسة الكلامية الشيعية في بغداد تتعرّض لمسائلَ فلسفيةٍ في أعمالها الكلامية، فنرى مباحث الجوهر والعرض وبعض الطبيعيات وردت في تراث الشيخ المفيد (ت413ه-) والسيد المرتضى (ت436ه-)، إلى أن امتزجت الفلسفة بالكلام نهائيًّا على يد نصير الدين الطوسي (ت672ه-) واستمر الأمر على يد تلامذته.

4- علم الكلام والمنطق :

شهدت علاقة علم الكلام بالمنطق جزراً ومدًّا، ودارت بين الإنكار والقبول بل التبنّي التام، كما اختلفت الآراء في تحديد قيمته العلمية، هل هو آلةٌ للاستدلال ومنهجٌ، أو إنّه فنٌّ وعلمٌ مستقلٌّ.

وبطبيعة الحال فإنّ المعتزلة الأوائل كانوا مطلعين على كتب المنطق، ولكن هل تأثروا بالمنطق تأثرهم بالفلسفة أم لا؟ يبقى السؤال بحاجةٍ إلى بحثِ واستقصاءِ المصادر، وربّما نعثر من خلال كلام الشهرستاني (ت548ه-) على ما يفيد تأثّر المعتزلة بعلم المنطق حيث يقول: (وأخذوا من أصحاب المنطق والإلهيين كلامهم في تحقيق الأجناس والأنواع ...)(1).

وربّما هذا الكلام لا يُعبأ به كثيراً لعداء الشهرستاني مع المعتزلة أولا، وعدم تحديد الفترة الزمنية، إذ كلامنا إنّما هو بخصوص المعتزلة الأوائل إبّان ترجمة الكتب، وللشهرستاني إشارةٌ أخرى مجملةٌ لا يُفهم منها موقف المعتزلة من المنطق بالضبط، غير أنّه يدعي أنّ المعتزلة أسّسوا علم الكلام بعدما خلطوا مناهجهم بمناهج الفلسفة، وسمّوا علم الكلام كلامًا :

ص: 150


1- نهاية الاقدام : 159.

لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنًّا من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان)(1).

أما بخصوص الأشاعرة فيرى ابن خلدون (ت 808ه-) أنّ المنطق ما كان منتشرًا بشكلٍ جيّدٍ أيام الأشعري وتلميذه الباقلاني :(فلم يأخذ به المتكلّمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة، فكانت مهجورةً عندهم لذلك)(2).

ولكن لم يدم هذا النكير طويلاً إذ ينتشر استخدام المنطق زمن إمام الحرمين الجويني الأشعري (ت478ه-)، ويأخذ منحًى آخرَ عند الغزالي والفخر الرازي(3).

ولكن ما هو سبب هذا الانقلاب بين الرفض والقبول ثمّ التبنّي التام؟ نستشف من ابن خلدون سببين لهذا الأمر:

1- وجودُ معاييرَ ومنهجيةٍ خاصةٍ كانت تغنيهم عن المنطق، وهو قياس الشاهد على الغائب أو سائر الأدلّة المستوحاة من العقل والنقل، يذكر ابن خلدون أنّ الباقلاني (ت 402ه-) طوّر هذه الأدلّة ووضع لها المقدّمات العقلية التي تتوقّف عليها الأدلّة والأنظار، ولكن على الرغم من هذا يرى ابن خلدون أنّ تلك الأدلّة كانت ضعيفةً وعلى الوجه الصناعي، لأنّ المنطق أولاً كان غير معروف تمامًا آنذاك عند

ص: 151


1- الملل والنحل: 109.
2- المقدمة : 345 .
3- م ن : 345

الأشاعرة، وثانيًا لأنّهم كانوا يرونه مخالفًا للعقائد فأنكروه(1).

فلذا بعدما لَمْ تُلَبِّ تلك المناهج والأدلّة حاجة المتكلّم في التأصيل والدفاع، جاء إمام الحرمين الجويني (ت 478ه-) ووسّع بالأمر، وبدأ علم المنطق بالانتشار وتم فصله عن الفلسفة، وأصبح مقبولاً كقانونٍ ومعيارٍ يُسبر به غور الأدلّة فقط. فهذا هو أحد أسباب الإنكار والقبول.

2- أما السبب الثاني فهو قاعدةٌ وضعها الأشاعرة تنصّ على أنّ: (بطلان الدليل يدلّ على بطلان المدلول). قال ابن خلدون:(ثم ذهب الشيخ أبو الحسن، والقاضي أبو بكر والأستاذ أبو أسحاق إلى أنّ أدلّة العقائد منعكسةٌ، بمعنى أنّها إذا بطلت بطل مدلولها، ولهذا رأى القاضي أبو بكر أنّها بمثابة العقائد، والقدح فيها قدحٌ في العقائد لابتنائها عليها)(2).

ثم يذكر ابن خلدون أنّ قواعد المنطق آنذاك كانت تخالف الأدلّة التي وضعها أوائل الأشاعرة، وتهدم أركان المنطق جملةً وتفصيلاً : (وإنْ أثبتنا هذه كما في علم المنطق أبطلنا كثيراً من مقدمات المتكلّمين، فيؤدي إلى إبطال أدلّتهم على العقائد، فلهذا بالغ المتقدمون في النكير على انتحال المنطق وعدّوه بدعةً وكفراً)(3).

لكن لما جاء إمام الحرمين الجويني وبعده الغزالي أنكرا قانون انعكاس الأدلّة، ولم يلزم عندهما من بطلان الدليل بطلان المدلول، لذا قَضَيَا بأنّ المنطق غيرُ منافٍ للعقائد الإيمانية، ودخل المنطق في الكلام الأشعري على مصراعيه.

ص: 152


1- من: 345.
2- م ن : 379
3- م ن : 379

فبينما كان يراه الغزالي (ت 505ه-) معيارا وآلةً للاستدلال: (بل هو النظر في طرق الأدلّة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها، وشروط الحدّ الصحيح وكيفية ترتيبه)(1)، جعله الفخر الرازي (ت606ه-) ومن جاء بعده فنًّا بعده فنَّا برأسه لا من حيث إنّه آلةٌ للعلوم(2). بل جعله بعض العلماء من فروض العين، لكونه موقوفًا عليه معرفة الواجب تعالى، وهي واجبةٌ فكذا ما يتوقف عليه الواجب(3).

5- علم الكلام والعرفان:

يتم تقسيم العرفان إلى عمليٍّ ونظريٍّ، والنظري هو التأصيل العقلي للمواجيد والكشوفات والإلهامات والعرفان النظري وإن اشترك مع علم الكلام في المحتوى أي البحث عن الله تعالى وصفاته وأفعاله والنبوات والولاية والمعاد، غير أنّه يختلف عن الكلام في المنهج وطريقة استنباط العقائد، فالكلام يعتمد على العقل والنقل، بينما العرفان يعتمد على الكشف والشهود.

لذا نرى اختلاف المدرستين في بدايتها، فلم نر متكلّمًا عارفًا، كما لم نر عارفًا متكلّمًا ، وربما كان بينهما تنافرٌ وتباعدٌ نوعاً ما، ويُنسب إلى الحارث المحاسبي (ت243ه-) أنّه رفض أن يرث أباه لأنّه كان يقول بالقدر(4).

ولكن زال هذا الأمر شيئًا فشيئًا، وبدأ العرفان يقترب من علم الكلام

ص: 153


1- المنقذ من الضلال: 71
2- المقدمة لابن خلدون : 378
3- مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده 1: 265/ الدوحة الثانية.
4- موسوعة الصوفية : 79

والفلسفة، وقد تَعَقْلَنَ على يد ابن عربي (ت 638ه-)، ومن بعده حدثت محاولات لدمج الثلاثة بعضها مع بعض.

يشير ابن خلدون (ت808ه-) إلى هذا الدمج ويقول: (وكذا جاء المتأخّرون من غلاة المتصوّفة المتكلّمين بالمواجد أيضًا، فخلطوا مسائل الفنّين [أي الكلام والفلسفة] بفنّهم، وجعلوا الكلام واحدًا فيها كلها، مثل کلامهم في النبوءات والاتحاد والحلول والوحدة وغير ذلك، والمدارك في هذه الفنون الثلاثة متغايرةٌ مختلفةٌ)(1).

وممّن اشتهر بهذا الأمر عند الشيعة السيد حيدر الآملي (ق8) حيث يشير في مقدمة كتابه «جامع «الأسرار» بأنّه منذ عنفوان شبابه كان مُجِدًّا في التوفيق بين عقائد أجداده بحسب الظاهر - على ما هي عليه الشريعة عند الشيعة وبحسب الباطن - على ماهي عليه

المتصوفة(2).

وكذلك ابن أبي جمهور الإحسائي (ق10) حيث ألّف كتابه المجلي مشحونًا بالكلام والعرفان، كما يشير إليه في المقدمة.

أما عند أهل السنة فيمكن الإشارة إلى ابن عربي حيث يقول في الفتوحات (مِن شأن أهل الله تعالى أنّهم لا يجرحون عقائد أحدٍ من المسلمين، وإنّما شأنهم البحث عن مَنَازع الاعتقادات ليعرفوا من أين انتحلها أهلها وما الذي تجلّى لها حتى اعتقدت ما اعتقدت، وهل يؤثّر

ص: 154


1- المقدمة : 382
2- جامع الأسرار 110: 111

ذلك في سعادتها أم لا ، هذا حظّهم من البحث في علم الكلام(1).

ولم يبق الأمر بهذا المستوى بل جاء بعده تلامذته وطوّروا الأمر أكثر حتى أنّ الشعراني ألّف كتاب «اليواقيت والجواهر» لهذا الغرض، فقال في المقدّمة: (حاولت فيه المطابقة بين عقائد أهل الكشف وعقائد أهل الفكر)(2)، وعندما لا يتمكّن من التوفيق فإما أن يتوقف أو يرجّح كفّة علماء الكلام.

6- علم الكلام واللاهوت المسيحي:

باتت مسألة التأثير والتأثّر بين علم الكلام الإسلامي واللاهوت المسيحي مثار جدلٍ واسعٍ بين المستشرقين، وبالمراجعة إلى ما كتب فی هذا الموضوع، وبحسب الكتب المتوفرة لدينا ، يمكن تقسيم الأقوال

المطروحة بهذا الخصوص في ثلاثة :

ألف: القول بالتأثير الشامل والكلّي.

ب: القول بالتأثير في بعض المسائل.

ج- التردّد وعدم اتخاذ الموقف، وإيكال الأمر إلى لزوم مزيدٍ من البحث.

ألف التأثير الشامل:

لعلّ أقدم من تعرّض لهذا - في ما عثرت عليه - ابن ميمون اليهودي

ص: 155


1- راجع اليواقيت للشعراني : 30 ، نقلاً عن الفتوحات في الباب الثلاثين.
2- من: 3.

(ت600ه-) حيث يقول: (واعلم أنّ كل ما قالته [فرق] الإسلام في تلك المعاني، المعتزلة منهم والأشعرية هي كلّها آراء مبنيّةٌ على مقدماتٍ. تلك المقدمات مأخوذةٌ من كتب اليونانيين، والسريانيين الذين راموا مخالفة آراء الفلاسفة ودحض أقاويلهم، وكان سبب ذلك أنّه لمّا عمّت الملّة النصرانية لتلك الملل ودعوى النصارى ما قد علم، وكانت آراء الفلاسفة شائعةً في تلك الملل، ومنهم نشأت الفلسفة، ونشأ ملوك يحمون الدين، رأوا علماء تلك الأمصار من اليونان ،والسريان أنّ هذه دعاوى تناقضها الآراء الفلسفية مناقضةً عظيمةً بيّنةً، فنشأ هذا

فيهم علم الكلام ، وابتدأوا ليثبتوا مقدماتٍ نافعةً لهم في اعتقادهم، ويردّون على تلك الآراء التي تهدّ قواعد شريعتهم، فلما جاءت ملّة الإسلام ونُقلت إليهم كتب الفلاسفة، نُقلت إليهم أيضًا تلك الردود التي أُلفت على كتب الفلاسفة، فتمسكوا وظفروا بمطلب عظيم بحسب رأيهم...)(1).

ويُلاحظ على ما ذكره ابن ميمون أولاً أنّه لم يسند مُدّعاه إلى شواهدَ بل اكتفى بمجرّد الادعاء، وثانيًا أنّ نشأة علم الكلام سبقت هذه الفترة التي يتحدّث عنها ابن الميمون، سيما على ما نذهب إليه من أنّها بدأت مع فجر الدعوة المحمدية صلى الله عليه وآله، وثالثًا أنّ منهج المتكلّمين بمختلف توجهاتهم هو الرجوع إلى الأدلّة القطعية سواءً كانت عقليةً أو نقليّةً ،ثابتةً، سواءً أكان ذلك في تأصيل وتأسيس المسائل أم في الرد على الخصوم، ولم تكن لهم حاجةٌ للاستفادة من غير تراثهم، نعم بما أنّ المجتمع الإسلامي كان منفتحًا آنذاك وسببت الفتوحات اختلاط الثقافات

ص: 156


1- دلالة الحائرين : 186

والديانات، فبطبيعة الحال كان المتكلّم يتناول أمورًا من باقي الأديان بغرض الرد عليها بالاعتماد على دينه ولا يقال لهذا أنّه اقتباسٌ وتأثّرٌ ورابعًا لا ننكر أنّ هناك أشخاصًا ضِعافاً تأثّروا ببعض الآراء والديانات ولكن هؤلاء لا يشكّلون الأغلبية، بل كانوا شُذَّاذًا يطردهم المجتمع، وربما تصدّى لهم الحكّام إذا تجاوز غيّهم حدّه، وهؤلاء لا يُحسبون على جمهور المتكلّمين والعلماء. وخامسًا لو سلمنا بصحة المُدَّعى ، فتأثرُ واحدٍ أو اثنينٍ لا يعني تأثر المنظومة الكلامية بذلك.

ثمّ انّ المستشرق ولفسون ينقل لنا اعتراض شمولدرز في كتابٍ نشره عام 1842م على ابن ميمون ويزيّف دعواه، ويرى بأنّ المرء عندما يفحص أعمال المتكلّمين ، يرى أنّه لا توجد صلةٌ بينهم وبين من كانوا مدافعين عن المسيحية.

كما يُنقل عن مابيو أنّ كلام ابن ميمون غريبٌ، ولا يعبُرُ عن جوهر الحقيقة، بل هو تعبيرٌ عن مجرّدِ تشابُهٍ، ثم يستقرب أن يكون علم الكلام استعاروا من المسيحيين بعض الحجج في مناهضة الفلسفة فقط(1).

حتى أنّ ولفسون نفسه على الرغم من كونه من المدافعين عن نظرية التأثير المسيحي، غير أنّه لم يرتضِ مقولة ابن ميمون، ويرى أنّ التأثير كان من منحًى آخرَ(2).

وممّن يؤيد التأثير الشامل المستشرق دي بور (ت1942م) حيث يقول: (ولا شكّ في أنّ مذاهب المتكلّمين الاعتقادية تأثّرت بعواملَ نصرانيةٍ أبلغَ

ص: 157


1- فلسفة المتكلّمين 1: 115
2- م ن 1: 116

التأثّرِ، فتأثّرت العقائد الإسلامية في تكوّنها بمذاهب الملكانية واليعاقبة في دمشق، كما تأثّرت في البصرة وبغداد بالمذاهب النسطورية والغنوسطية(1)ثم يستشهد بمسألة الاختيار، ويزعم أنّ المسلمين أخذوها من النصارى الشرقيين.

وهو كما ترى يدّعي مدعى الشمولية، ويستشهد بموردٍ واحدٍ لإثبات ذلك، ولو افترضنا صحّة ما يقول، فهو لا يدلّ على التأثير الشامل، وسيأتي مزيدُ بيانٍ لذلك.

ب: التأثير الجزئي:

ذهب إلى هذا الرأي ربما أكثر المستشرقين، ويؤيده ما ذكره ولفسون من أنّ (كل المؤرخين المحدَثين الآخرين للفلسفة العربية وللإسلام عمومًا، يوافقون على أنّه قد وُجد تأثيرٌ مسيحيٌّ على علم الكلام... التأثير الذي يظهر بالأحرى في صياغة بعض العقائد الإسلامية التي أصبحت بالتالي مسائلَ خلافيةً بين لمتكلّمين)(2).

لقد أشار المستشرقون إلى مسائلَ عدّةٍ في هذه النقطة أي التأثير الجزئي، وهي:

1- مسألة الاختيار والقدر:

لعلّ أقدم من تطرّق إلى هذا الأمر من المستشرقين فون كريمر (ت 1889م) حيث يشير إلى يوحنّا الدمشقي، وأنّه عقد مناظرةً بين مسلمٍ ومسيحيٍّ حول

ص: 158


1- تاريخ الفلسفة في الإسلام: 75
2- فلسفة المتكلمين 1: 116

هذه المسألة في كتابه: (مناظرةٌ بين مسيحيٍّ ومسلمٍ) وفيها يدافع المسيحي عن الاختيار، ويتمسّك المسلم بالجبر(1).

ولكن يعترض على هذا الرأي فان إس ويقول: (إنّه من غير المعقول أن نرجع الأفكار القدرية إلى تأثير يهوديٍّ أو مسيحيٍّ)(2)، كما أنّ ألكسندر تريجر ينفي هذا الزعم ويرى أنّ المشاكلة بين المسيحية والقدرية في القول بحرية الإرادة الإنسانية لا تقوم دليلاً على أنّ الأخيرة متأثرةٌ بالأولى مضافًا إلى تشكيكه في صحة نسبة المناظرة المدّعاة إلى يوحنا الدمشقي، بل يرى أنّ الأرجح كونها متأخّرةٌ ونسبها إلى أبي قرة (ق3) المشهور بنقده لمذهب الجبر في الإسلام، ثم يقول : (إنّ موضوع حرية الإرادة كان قليل الورود نسبيًّا في المجادلات المسيحية الإسلامية، وكذلك في الأطروحات الجدلية - السريانية والعربية - التي وجّهت ضد الإسلام، والخلاصة أنّ القول بتأثير الأفكار المسيحية في القدرية لم يزل ممكنًا ... غير انّه لا دليل في الوقت الحالي يؤكده)(3)، ويضيف بعد صفحاتٍ: (إنّ القول بوجود أثرٍ مباشِرٍ للجدل المسيحي المناوئ للإسلام في خلاف في مسألة القدر- مثلما رأى بعض المتقدمين - بَدَا واهِيَ الأساس) (4).

2- مسألة الصفات:

ينقل ولفسون أيضًا في هذه النقطة أقوال المستشرقين الذين يرون أنّ

ص: 159


1- [الحضارة الإسلامية كريمر: 70، ونقله ولفسون في فلسفة المتكلمين :1: 117 عن كريمر وعن مجموعة مستشرقين آخرين.
2- علم الكلام والمجتمع 1: 183
3- المرجع في تاريخ الكلام 1: 101 مبحث أصول الكلام.
4- م ن 1: 104

لإنكار المعتزلة للصفات أصلاً مسيحيًّا. ثم لا يفوته أن يذكر رأيًا معارضًا نسبه إلى سويتمان حيث أنّه جمع عام 1945م كل ما قد قيل عن موضوع الصفات خارج دائرة الإسلام، وذلك ليبينّ أنّه لا المسيحي ولا المسلم احتكر الأفكار في الموضوع على أيِّ نحوٍ، وسواءً في الديانة المسيحية أو الديانة الإسلامية، فانّه توجد مدارسُ مختلفةٌ من التفكير(1).

3- مشكلة القرآن:

وبهذا الخصوص ينقل لنا ولفسون آراء المستشرقين الذين يعتقدون بأنّ الاعتقاد بقِدم القرآن نشأ بتأثير اللوغوس المسيحي، كما ينسب ذلك إلى يوحنا الدمشقي في تلك المناظرة التي ذكرناها سابقا. ثمّ ينقل ولفسون رأي جيّوم عام 1924م حيث ينكر حدوث نظرية القرآن بسبب يوحنا الدمشقي، بل إنّها كانت قبل تلك الفترة. كما ينقل عن فنسنك بانّ رأي المعتزلة في القرآن ناشيٌ من اعتقادهم بأنّ الله وحده هو القديم(2).

ج- :التردّد وعدم اتخاذ الموقف:

إنّ المستشرق ألكسندر تريجر، يتطرّق في بحثه أصول الكلام إلى مسألة التأثير والتأثّر بين المسيحية والإسلام ويبحث ذلك من ناحيتين: 1. ناحية الأسلوب. 2. ناحية المحتوى.

ففي ناحية الأسلوب والطريقة ينقل عن ميشيل كوك بأنّ سِمات الحجاج الكلامي الإسلامي كانت موجودةً في الجدل السرياني، فهو كان يبدأ

ص: 160


1- فلسفة المتكلّمين 1: 118.
2- م ن 1: 120.

بسؤال تخييريٍّ هكذا: أتعتقدون في س نعم أم لا؟ أو تعتقدون في س أم ع؟) ثم يأتي الجواب: (فإن قالوا: س، سألناهم .. وإن قالوا: ع، سألناهم...) وهذا نفسه استخدم في الجدل الإسلامي (فإن قال كذا قيل له كذا) ثمّ يرى كوك بأنّ المسلمين اعتمدوا هذا النمط بعد أن تعلّموه من النصارى في جدالهم معهم، أو بأثر من اعتناق بعض النصارى الإسلام.

ثم ينقل عن جاك تنوس تأييده لفرضية كوك، ويذكر أنّه تبنّى (الفرضية المسيحية العربية) الدالّة على أنّ البيئة المسيحية في سوريا والعراق كانت أنسب قناةٍ لنقل الأسلوب الكلامي إلى العالم الإسلامي(1).

لكن تريجر لم يقتنع بهذا، ويعتقد بأنّ فرضية تنوس لم تزل بحاجةٍ إلى التمحيص والتوثيق، لأنّ الأدلّةَ المَسُوقةَ لدعمها غيرُ مباشرةٍ، وهي مستلةٌ من مصادرَ متأخّرةٍ، كما أنّ الاعتبارات اللغوية الفيلولوجية لم تتمكّن من

الأمر نهائيًّا، ولهذا لا يمكن لهذا البحث أن ينتهي إلى قولٍ فصلٍ وأنّ هذه المسألة بحاجة إلى (درسٍ وئيدٍ)(2).

فانظر إلى تعصّبه وكيف أنّ نفسه لم تطب بإعطاء استقلالية للفكر الإسلامي، بل لا بد من أن يكون تبعًا دائمًا في المنظومة الاستشراقية، فهو على الرغم من اعترافه بأنّ الأدلّة غيرُ كافيةٍ لا يصرّح بعدم التأثير المسيحي بل يؤجّل الأمر عسى أن يكتشف لاحقًا هو أو غيره ما يؤيد نظرية التأثير.

مع العلم أنّ هذه النظرية - أي التأثير الأسلوبي - هي بمرتبةٍ من السذاجة

ص: 161


1- المرجع في تاريخ علم الكلام 1 92 - 94 / بحث : أصول الكلام
2- م ن 1: 97 - 98

بحيث دعت إلى رفضها من قبل فان إس المختص بالكلام الإسلامي أيضًا. فإنّه بعدما يذكر مجموعةَ أدلّةٍ على أنّ المناظرات الأولى بين المسلمين حول تفسير القرآن كانت هي الوسيلة الحاسمة في نشر وتكريس وجهات النظر الدينية، ومن هنا نشأ علم الكلام الإسلامي(1)، يستنتج فان إس بعد هذا العرض المطوّل بأنّ (أسلوب الكلام يعلن عن نفسه في القرآن كما في سيرة ابن إسحاق)(2).

وعلاوةً على هذا يشير فان إس إلى مجموعة آراء تحاول البحث عن مصطلح (كلام، تكلّم متكلّمون) في اليونان وتربط بينهما لتثبيت التأثير وعدم الاستقلالية، غير أنّه يتخذ موقفاً صارمًا أمام هذه المحاولات ويقول: (على المرء أن يعي في مثل هذه الفرضية أنّ نقل المصطلح لا يمكن إثباته بصورةٍ قاطعةٍ في الوقت الحاضر ، وربما لن يمكن إثباته أبدًا)(3).

هذا كلّه بخصوص الأسلوب، أما من ناحية المحتوى، فينقل تريجر ما ذكرناه سابقًا من التأثير الجزئي في مجموعةِ مسائلَ كلاميةٍ، ويشكّك في صحتها ويقول: (إنّ القول بتأثير الأفكار المسيحية في القدرية لم يزل ممكنًا .. غير أنّه لا دليل في الوقت الحالي يؤكده)(4). فهو يبقى متردداً بين هذا وذاك، ولا يسمح له تعصبه وموضوعيته العلمية بحسم الموقف، بل يرجئ الأمر إلى المستقبل عسى أن يجد من يأتي بعده من المستشرقين الموضوعيين، ويجد شاهد من هنا أو هناك لدعم نظرية التأثير والتأثّر.

ص: 162


1- علم الكلام والمجتمع 1: 79
2- م ن 1: 90.
3- م ن 1: 87 - 88 .
4- المرجع في تاريخ علم الكلام :1 101 / بحث أصول الكلام.

14 - ذم الكلام

قد بات الجدل كبيراً بين المتكلّمين وغيرهم من الفقهاء والإخباريين بل وحتی الفلاسفة والمتصوّفة، في شرعية علم الكلام أو ذمّه وحرمته، وکلُّ واحدٍ يستند على أدلّةٍ لدعم مدّعاه، وقد تطوّر البحث من التشاجر اللفظي إلى التأليف وتدوين الكتب وإلى الحكم بالتضليل والتكفير، فكَتَب الأشعري (ت330ه-) «استحسان الخوض في علم الكلام»، وكَتَب عبد الله الأنصاري الهروي (ت481ه-) «ذم الكلام»، وكتب الغزالي (ت505ه-) «إلجام العوامّ عن علم الكلام»، وكتب السيوطي (ت911ه-) «صون المنطق والكلام عن فن المنطق و الكلام»، وهكذا تستمر القائمة قرنًا بعد قرنٍ وجيلاً بعد جيلٍ.

وبهذا الصدد يقول الغزالي (ت 505ه-) : (اعلم أنّ للناس في هذا غلوًّا وإسرافًا في أطراف، فمِن قائلٍ أنّه بدعةٌ وحرامٌ وأنّ العبد إن لقى الله عز وجل بكلِّ ذنبٍ سوى الشرك خيرٌ له من أن يلقاه بالكلام، ومن قائلٍ أنّه واجبٌ وفرضُ، إمّا على الكفاية أو على الأعيان، وأنّه أفضل الأعمال وأعلى القربات، فإنّه تحقيقٌ لعلم التوحيد، ونضالٌ عن دين الله (تعالى)(1).

كل هذا الجدل يكشف عن عمق الخلاف بين التيارين: التيار المؤيّد والتيار الناقد، وإن كان عمل التيار الناقد ونوعيّة استدلالاته هو صنعةٌ كلاميةٌ بحدّ ذاتها أيضًا. ونحاول هنا تلخيص ما دار حول هذه المسألة، والاقتصار على أهم أدلّة النفاة مع الإشارة إلى بعض الملاحظات الجزئية على كلامهم.

ص: 163


1- إحياء علوم الدين :1 95

استند الذامون لعلم الكلام بأدلّةٍ عدّةٍ:

1- الآيات القرآنية:

وذلك كقوله تعالى:(مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً)(1) وكذلك قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)(2) وغيرها من الآيات.

يلاحظ عليه: أنّ الجدل على ضربين: جدل بالحق وجدل بالباطل، أمّا الأوّل فهو مأمورٌ به ومحبَّدٌ، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بذلك في قوله: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(3) وأمر الله تعالى جميع المسلمين بذلك أيضاً: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتاب إلا بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(4).

أما الجدل الباطل فهو الجدال في آيات الله لدفعها وإيقاع الشبهة فيها، كقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيات الله أَن يُصْرَفُونَ)(5).

أما الآية الثانية، فالمراد بالخوض فيها هو اللجاج والعناد وعدم الانصياع إلى الحق، وليس المراد منها النظر والاستدلال الصحيح(6)، مضافًا إلى أنّ القرآن مليءٌ بمناظرات ومحاججاتِ الأنبياء مع خصومهم(7).

ص: 164


1- الزخرف 58 .
2- الانعام 68
3- النحل 125.
4- العنكبوت .46
5- غافر 69 ، تصحيح الاعتقادات للمفيد 68.
6- تفسير الرازي 2 105
7- راجع کتاب درة التاج للقطب الشيرازي: 184، فقد ذكر مناظرات الأنبياء ومناظرات نبينا صلى الله عليه وآله.

2- الروايات:

تمسّك نفاة علم الكلام بمجموعةِ رواياتٍ زعموا أنّها تدلّ على ذم علم الكلام والنهي عنه، وقد صنّفها الهروي (ت481ه-) ضمن مجموعاتٍ، منها رواياتٌ تدلّ على أنّ الأمم السابقة لما خاصموا ضلّوا وهلكوا، ورواياتُ كراهية تشقيق الكلام، وروايات ذم الجدل والمراء، ورواياتُ ذم الرأي، وغيرها من الروايات الكثيرة(1).

يلاحَظ عليه أنّ بليّة منع تدوين الحديث من قِبل جهاز الخلافة في صدر الإسلام، أدّى إلى فوضًى عارمةٍ عند أهل السنّة، إذ بعدما تمّ السماح بالتدوين امتزج كثيرٌ من المدخول بالصحيح، سيّما وأنّ أيام التدوين كانت محتدمةً بالصراعات السياسية والدينية، وكان كلُّ تيارٍ يستشهد لنصرة مذهبه بالقرآن والسنة، مضافًا إلى كثرة المتزلّفين لهذا أو ذاك، ما هيّأ مناحًا خصبًا لوضع الحديث لصالح هذا أو ذم ذاك، مضافًا إلى عروض النسيان للرواة والحفظة، ما أفقد النص قرائنه الحالية أو المقاليّة، وكان سببًا في التقديم والتأخير أو النقل بالمعنى.

فهذا زيد بن أرقم قد جاءه يزيد بن حيان وحُصين بن سبرة وعمر بن مسلم له وقالوا له بعدما مدحوه:(حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله قال : يا ابن أخي والله لقد كَبِرَت سنّي، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وآله-)(2).

ص: 165


1- راجع ذم الكلام للأنصاري الهروي : 35 ، 3، 4، 55 ، 82 وباقي الأبواب أيضًا.
2- صحيح مسلم 8 : 232 ح 36 / كتاب فضائل الصحابة.

فهذه الروايات الذامة لعلم الكلام أو لفئةٍ دون أخرى أو لتيارٍ خاصٍّ، التي دُوّنت بعد فترةٍ طويلةٍ، لا يمكن الاعتماد التام عليها، إلّا بعد الفحص والتدقيق، حتى أنّ مثل الغزالي (ت505ه-) يقول في الروايات المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله في الصفات وما يلوح منها من تجسيمٍ وتشبيهٍ أو غيرهما، يقول: (وإنّما كثرت الروايات الشاذة الضعيفة التي لا يجوز التعويل عليها، ثمّ ما تواتر منها إن صحّ نقلها عن العدول فهي آحاد كلمات وما ذكر صلى الله عليه وآله كلمة منها إلّا مع قرائنَ وإشاراتٍ يزول معها إيهام التشبيه، وقد أدركها الحاضرون المشاهدون، فإذا نقل الألفاظ مجرّدةً عن تلك القرائن ظهر الإيهام...)(1).

ثمّ إنّ كثيراً من هذه الروايات غيرُ ناظرةٍ إلى علم الكلام، بل تخصّ الجدل والمراء مثلا، وهما مذمومان سواءً عند المتكلّم أو الفقيه أو المفسّر، أو أنّ بعضها يمكن تفسيره وتأويله بغير ما فهمه نفاة علم الكلام.

وعلى سبيل المثال يذكر الفخر الرازي (ت 606ه-) ما تمسّكوا به من قول رسول الله صلى الله عليه وآله : (عليكم بدين العجائز) ويرى أنّ معناه تفويض الأمور كلّها إلى الله تعالى والاعتماد في كل الأمور على الله(2).

أما ما ورد عندنا فقد ذكر الشيخ الصدوق (ت381ه-) في كتابه الاعتقادات روایاتٌ تدلّ على النهي - الجدل في الدين وقد ردّ عليه الشيخ المفيد (ت413ه-) وذكر رواياتٍ تدلّ على أمر الأئمة عليهم السلام بالمحاججة ومناظرة المخالفين، من قبيل قول الإمام الكاظم علیه السلام لمحمد بن حكيم: (كلِّمِ الناس

ص: 166


1- إلجام العوام عن علم الكلام: 50
2- تفسير الرازي 2 105.

وبَيِّن لهم الحق الذي أنت عليه، وبيّن لهم الضلالة التي هم عليها(1).

3- أنّ النبي صلى الله عليه وآله والصحابة لم يناظروا:

يرى الغزالي (ت 505ه-) أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله والصحابة بأجمعهم ما سلكوا في المحاجّة مسلك المتكلمين في تقسيماتهم وتدقيقاتهم (2). كما نُقل عن أهل الحديث قولهم: بأنّ الصحابة مع أنّهم أعرفُ بالحقائق وأفصحُ بترتيب الألفاظ، ما سكتوا عن علم الكلام إلّا لعلمهم بما يتولّد منه من الشر، وأنّ ذلك لو كان من الدين لكان أهمَّ ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله ويعلّم طرقه ويُثني عليه وعلى أربابه، كما أنّ مصطلحات الكلام أمثال الجوهر والعرض وغيرهما ما كانت معهودةً آنذاك(3).

ويلاحظ عليه أنّ القرآن مليءٌ بمحاججات الرسول صلى الله عليه وآله مع مختلف الأديان والفرق والتيارات الفكرية السائدة آنذاك في الجزيرة العربية، وهذا المقدار يكفي لإثبات جواز المحاججة في الدين.

مضافًا إلى أنّ عدم استخدام بعض الأدلّة أو بعض المصطلحات في الصدر الأوّل لا يدلّ على الحرمة إذ إنّ الشبهات تطوّرت شيئًا فشيئًا، وكلّما اختلط المسلمون بأناسٍ مختلفين حصل بينهما تأثيرٌ وتأثُّرٌ متبادَلٌ، فالحاجة هي التي كانت تملي استخدام أدواتٍ ومناهج جديدةً.

ص: 167


1- تصحيح الاعتقادات : 71
2- إلجام العوام: 35 - 36 .
3- إحياء العلوم :1 95 وأنظر أيضا الخطط المقريزية 4: 188.

ثمّ إنّ حال الكلام حال سائر العلوم الإسلامية التي نشأت وتطوّرت تدريجيًّا وبمرور الزمن، ولحقها مصطلحاتٌ وأدلةٌ لم تكن في الصدر الأول، كعلم الفقه والأصول وعلوم القرآن وما شاكل.

4- نهى الفقهاء الأربعة عن علم الكلام:

ينقل طاش کبری زاده آراء أئمة المذاهب الأربعة في نقد علم الكلام، فينقل عن أبي حنيفة أنّه نهى ابنه عن علم الكلام، وكذلك يذكر تراجعه عن علم الكلام بعدما كان مولعًا به، أما مالك فكان لا يجيز شهادة أهل البدع والأهواء أي أهل الكلام، وكان يرى الشافعي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد ويُطاف بهم في العشائر والقبائل. أما أحمد فقد كان یری أنّ صاحب الكلام لا يفلح، وأنّ المتكلّم في قلبه مرضٌ(1).

أقول: إنّ الإنسان إما أن يأخذ بكلام هؤلاء عن نظرٍ واستدلالٍ أو عن تقليدٍ، فإن كان الأول فهو المطلوب فقد ثبت صحة الخوض والاستدلال، وإن كان الثاني فليس تقليد هؤلاء بأولى من تقليد غيرهم ممّن يجيز الخوض في علم الكلام بل يوجبه هذا أولاً.

وثانيًا : إنّ نهي هؤلاء السلف محمولٌ على أهل البدعة (2)، أو المتعصب في الدين، القاصر عن تحصيل اليقين، والقاصد إفساد عقائد المسلمين (3)أو إنّ المذموم عند الأئمة إما الفلسفة التي اشتبهت بالكلام ، أو كلام أهل

ص: 168


1- مفتاح السعادة :1: 135 - 138.
2- تفسير الرازي 2 105 .
3- شرح العقائد النسفية للتفتازاني ،19، شرح المقاصد 1: 38

الاعتزال، أو كلامٌ يدخل صاحبه العجب والهوى(1).

هذه أربع طوائف من الأدلّة ذكرها خصوم الكلام في طيات كتبهم، وأنت ترى أنّها لا تنهض لذم علم الكلام الداعي إلى تأصيل العقائد والدفاع عنها فضلاً عن الدلالة على تحريمه. وقد سبق لنا أن ذكرنا في مبحث التقليد في أصول الدين ما يتعاضد مع هذا المحور، حيث انّ نفاة علم الكلام يدعون إلى التقليد، وذكرنا في مبحث ضرورة علم الكلام أدلّة القائلين بوجوبه أو ضرورته، فراجع.

ص: 169


1- مفتاح السعادة طاش کبری زاده 2: 139، 143

15 - النظر والاستدلال

اشارة

إن مباحث النظر والاستدلال تُعدُّ من أهم المباحث التي تطرّق إليها أكثر المتكلمين، كما أنّها تعدُّ من المباحث التمهيدية التي تُبحث في مقدمات العلم وأهم المحاور التي يُبحث عنها في هذا المورد هي:

1- التعریف.

2- وجوب النظر وأنّه أول الواجبات.

3- وجوب النظر عقليُّ أو سمعيُّ.

4- إنّ النظر يولّد العلم.

5- حكم ترك النظر.

1- التعريف:

اعلم أنّ النظر لفظٌ مشتركٌ بين معانٍ مختلفةٍ: فقد يُذكر ويُراد منه النظر بالعين، كقولك: نظرت إلى الهلال فلم أره. وقد يُذكر ويراد منه الانتظار، كقوله تعالى:(فنَظِرة إلى ميسَرَة) أي انتظار. وقد يُذكر ويراد منه العطف والرحمة، قال تعالى: (ولا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة) أي لا يرحمهم. وقد يذكر ويراد به المقابلة تقول العرب: داري تنظر إلى دار فلان أي تقابلها وقد يذكر ويراد به التفكير بالقلب، قال الله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) أي أفلا يتفكرون في خلقها(1).

ص: 170


1- راجع شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : 19، باختصار.

ثمّ إنّ المائز بين هذه المعاني هو القرائن والشواهد الحافّة بالكلام، ولكن المراد من النظر عند المتكلمين هو الموصل إلى العلم والمعرفة وهذا ما اختلفت عبائر القوم في تعريفه.

قال الشيخ المفيد (ت413ه-) : (هو استعمال العقل في الوصول إلى الغائب باعتبار دلالة الحاضر)(1).

وقال السيد المرتضى (ت 436ه-):(النظر وإن كان لفظه مشتركًا بين أمورٍ مختلفةٍ، والذي نريده من هذا الموضع هو الفكر، وأحدنا يجد نفسه مفكرًا بقلبه في أمور الدنيا والآخرة، والذي يبيّن ما ذكرناه أنّ كل مفكرٍ يُسمّى ناظراً بقلبه، والناظر بقلبه لا يكون إلّا مفكرًا، فعُلم بذلك أنّ النظر في هذا الموضع الفكر، والفكر هو التأمّل للشيء المفكَّر فيه بينه وبين غيره، وهذه الحال متميّزةٌ من سائر أحوال الحس، لكونه معتقدًا ومريدًا)(2).

وقال نصير الدين الطوسي (ت 672ه-) : (النظر هو

الانتقال من أمورٍ حاصلةٍ في الذهن إلى أمور مستحصلةٍ هی المقاصد، والفكر بحسب الاصطلاح كالمرادف للنظر)(3).

قال ابن ميثم البحراني (ت 699ه-) : (والحقّ أنّ النظر عبارةٌ عن انتقال الذهن من المطلوب إلى مبادئه التي يحصل منها طالبًا لها، ثمّ منها إلى المطلوب. وتحقيقه في المثال المذكور:(انّ من كان مطلوبه العلم

ص: 171


1- النكت: 21
2- الذخيرة:158 ، ونحوه الشيخ الطوسي في الاقتصاد: 158.
3- نقد المحصل : 49.

بأنّ العلم ممكنٌ، فنظره لتحصيله هو انتقال ذهنه منه إلى مقدمات دليله المذكور بأجزائها وترتيبها المستلزم لانتقال ذهنه إلى النتيجة التي نسمّيها قبل النظر مطلوبًا، فمجموع تلك الانتقالات هو المسمّى فكرًا ونظرًا، وحينئذٍ يتبيّن أنّ الترتيب المذكور من لوازم النظر لا حقيقته)(1).

وقال العلامة الحلي (ت 726ه-) :(هو ترتيبُ أمورٍ ذهنيةٍ يتوصّل منها إلى آخر)(2).

هذه بعض الأقوال المذكورة في تعريف النظر وما تركناه أكثر، وقد زعم عميد الدين العبيدلي (ت754ه-) أنّ تعريف العلامة الحِلِّيّ أشمل التعريفات حيث قال: (وهذا التعريف منقولٌ عن الأوائل وهو شاملٌ للنظر في التصوّرات والتصديقات بأسرها، وشاملٌ للصحيح والفاسد، ومشتمل على العلل الأربع للنظر التي لا يخلو مركّبٌ ما منها، أعنى المادية والصورية والغائية.

أما المادية فهي الأمور الذهنية التي تتألّف منها الحدود والرسوم المفيدة للتصوّر، والبراهين المفيدة للتصديق، وأما الصورية فهي الهيئة الحاصلة بالترتيب، وأشار إليها بذكر الترتيب، فإنّ كلَّ ترتيبٍ بل كلَّ تأليفٍ فهو مستلزم لحصول هيئةٍ، وأما الفاعلية فالترتيب أيضًا يدلّ عليه لامتناع حصوله من غير مرتبٍ. وأما الغائية فهي التأدي إلى أمر آخر الذي هو المطلوب)(3).

ص: 172


1- قواعد المرام: 24 ، ونحوه المقداد السيوري في اللوامع الإلهية: 81
2- مناهج اليقين: 186
3- إشراق اللاهوت: 7

2- وجوب النظر وأنّه أول الواجبات

اتفق المتكلّمون على وجوب النظر، واختلفوا في كونه هل هو أوّل الواجبات أم لا ؟ ! أما كون النظر واجبًا فلأنّ المعرفة متوقفةٌ عليه، بيان ذلك : إنّ الطرق إلى المعرفة أربعةٌ لا خامسَ لها :

1- أن يُعلم الشيء ضرورةً لكونه مركوزاً في العقول، كالعلم بأنّ الاثنين أكثر من الواحد.

2- أن يُعلم من جهة الإدراك والمشاهدة والحس.

3- أن يُعلم بالخبر.

4- أن يُعلم بالنظر والاستدلال.

5- فالمعرفة بالله تعالى وصفاته لا يحصل من الطريق الأول، لأنّ الضروري لا يختلف العقلاء فيه، وفي العلم بالله تعالى خلافٌ بين العقلاء، وليس الإدراك والمشاهدة أيضًا لأنّه تعالى فوق ذلك ولا يُحسّ، والخبر أيضًا لا يكون طريقًا، لأنّ الخبر الموجب للعلم ما كان مستندًا إلى مشاهدة وهذا أبطلناه والخبر الذي لا يستند إلى إدراكٍ لا يوجب العلم، فإذا بطلت هذه الوجوه ثبت أنّ طريق المعرفة هو النظر والاستدلال(1).

أما بخصوص كونه من الواجبات فقد اختلفت الأقوال:

ذهب البصريون من المعتزلة إلى أنّ أول الواجبات هو النظر، وتبعهم

ص: 173


1- الاقتصاد للطوسي 25 ، المنقذ من التقليد للحمصي 1: 260 - 261.

أبو إسحاق الاسفرايني الأشعري، وذهب سائر المعتزلة إلى أنّه القصد إلى النظر، واختاره إمام الحرمين الجويني الأشعري، ونقل عن أبي الحسن الأشعري أنّ أول الواجبات هو معرفة الله تعالى، وإليه ذهب الشيخ المفيد أيضًا(1)، كما أنّه مذهب البغداديين من المعتزلة، وذهب أبو هاشم إلى أنّ أول الواجبات هو الشكّ(2).

ثمّ إنّ الحمصي الرازي (ق7) بعد أن يجعل النظر أول الواجبات، يدلل عليه بأنّ الواجبات منقسمةٌ إلى عقليةٍ وسمعيةٍ، والسمعيات متأخرة عن العقليات من حيث إنّه لا يمكننا العلم بصحة الشرع إلّا بعد العلم بالله تعالى وتوحيده وعدله، والعقليات تنقسم إلى أفعالٍ وتروكٍ، فالتروك نحو الامتناع من الظلم والكذب والعبث والمفسدة لا تردّ على المدعى لأنّها ليست أفعالاً، وكلامنا في أوّل فعلٍ يجب على المكلّف، والأفعال نحو ردّ الوديعة وقضاء الدين عليه، وشكر المنعم، وقد يخلو كثيرٌ من المكلّفين من وجوب ردّ الوديعة وقضاء الدين أما شكر المنعم, فإذا كان الله تعالى فهو متأخرٌ عن معرفة الله تعالى، وإن كان لغيره فهو سمعيٌّ، وهو متأخرٌ

عن وجوب النظر، فثبت أنّ النظر هو أولُ فعلٍ واجبٍ على المكلف(3).

أما الفخر الرازي (ت 606ه-) فقد جعل الخلاف لفظيًّا حيث قال: (وهو خلافٌ لفظيٌّ ، لأنّه إن كان المراد أوّل الواجبات المقصودة بالقصد الأول، فلا شكّ أنّه هو المعرفة عند من يجعلها مقدورةً، والنظر عند من لا يجعل

ص: 174


1- النكت في مقدمات الأصول: 20.
2- راجع أنوار الملكوت للعلامة الحلي: 17.
3- راجع المنقذ من التقليد :1: 268 باختصار.

العلم ،مقدوراً، وإن كان المراد أول الواجبات كيف كانت فلا شكّ أنّه القصد)(1).

3- وجوب النظر عقليٌّ أم سمعيٌّ؟!

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ وجوب النظر سمعيٌّ، أما العدلية: المعتزلة والشيعة، فيرون أنّه عقليٌّ، وقد نقل المحقق الطوسي (ت672ه-) عن القفّال الشاشي من أصحاب الشافعي وكذلك بعض الفقهاء الحنفية

بالوجوب العقلي(2).

أما الشيعة فإنّها وإن قالت بالوجوب العقلي، غير أنّها لا تنفي دلالة السمع على ذلك أيضًا، فهذا الشيخ الطوسي (ت460ه-) يستشهد ببعض الآيات القرآنية ويقول بأنّها تدل على وجوب النظر، كقوله تعالى: (إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَات وَالْأَرْضِ وَاخْتلاف اللَّيْل وَالنَّهَارِ لآيات لأُولى الأَلْبَاب)(3). وكذلك قوله تعالى:(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ، وَلَوْ كَانَ من عند غَيّر الله لَوَجَدُوا فِیهِ اختلَافًا كثيرًا)(4)، وكذلك قوله تعالى (فاعلم أنّه لا إله إلا الله) والأمر للوجوب(5).

أما دليلنا على الوجوب العقلى فهو أنّ معرفة الله تعالى واجبةٌ بدليلين: الف دفع الضرر المحتمل . ب شكر المنعم.

ص: 175


1- المحصل : 136، وتبعه على ذلك المحقق الطوسي في نقد المحصل : 59 ، والعلامة الحلي في أنوار الملكوت: 17، والمقداد السيوري في إرشاد الطالبين: 113.
2- نقد المحصل : 58.
3- تفسير التبيان 3: 76 .
4- م ن 3: 270.
5- النافع يوم الحشر للسيوري: 11.

أما دفع الخوف والضرر المحتمل ، فهو أنّ المكلّف يرى اختلاف العقلاء في إثبات الصانع ونفيه، وأحوال المعاد والقيامة وغيرها من فهنا يحصل له الخوف واحتمال الضرر في اعتقاده لأيِّ واحدٍ من الأقوال، ولا طريق إلى التخلّص من ذلك إلّا النظر .

أما شكر المنعم فالإنسان يرى كثرة النعم التي أعطاها الله تعالى إياه، وشكر المنعم واجبٌ بالفطرة والضرورة، والشكر لا يتحصّل من دون ،معرفةٍ والمعرفة متوقفةٌ على النظر.

4- النظر يفيد العلم

من المسائل الهامة التي دار الحديث حولها في كتب الكلام، أنّ النظر الصحيح هل يفيد العلم أم لا ؟ ذهب المتكلّمون إلى الأول، وذهبت السمنية والمهندسون - فيما يخص الإلهيات - إلى الثاني.

ثمّ إنّ إفائدة العلم للنظر هل هي على سبيل التوليد أو العادة؟ ذهبت العدلية: الشيعة والمعتزلة إلى الأول، والأشاعرة إلى الثاني.

توضيح ذلك :

إنّ النظر الصحيح لا بد أن يفيد العلم ولا يجوز أن يفيد الشكّ والجهل ولا الظن ، لأنّه لو أفاد ذلك لكان قبيحًا والمؤدّي إلى القبيح قبيحٌ، فلم يبق إلّا أن نلتزم بالأوّل.

أما السُمنية - وهم قوم من حكماء الهند البوذيين- فقد ذهبوا إلى أنّ النظر لا يفيد العلم أصلاً، وأنّ الذي يفيد العلم هو الحسّ حصرًا.

ص: 176

وكذلك ذهب قوم من المهندسين إلى أنّ النظر غيرُ مفيدٍ في الإلهيات، وقصروا إفادة العلم في الرياضيات كالحساب والهندسة لا غير.

احتجّت السمنية لدعم مدعاها بأدلّةٍ عدّةٍ:

ألف لو كان النظر مفيدًا للعلم لكان العلم بكونه مفيدًا للعلم إما أن يكون مستفادًا من الضرورة أو النظر، والتالي بقسميه باطلٌ فالمقدَّم مثله، أما أنّه غيرٌ ضروريٍّ فلأنّ العقلاء اختلفوا في هذه المسألة ولو كان ضروريّاً لما حصل الاختلاف، أما أنّه لا يستفاد من النظر لأنّه يلزم إثبات الشيء بنفسه ويلزم التسلسل أيضًا، وهما محالان.

الجواب: هذا معارَضٌ بمثله، فإنّ العلم بعدم إفادة النظر العلمَ إما أن يكون مستفاداً من الضرورة أو النظر، والتالي بقسميه باطلٌ فالمقدَّم مثله، أمّا أنّه غيرُ ضروريٍّ فلأنّ المتكلّمين وهم عقلاء باعتراف الجميع خالفوا في ذلك وادّعَوا إفادة النظر، أما بطلان الثاني فلأنّه يستلزم إبطال الشيء بنفسه ومناقضة الدعوى، لأنّه حينئذٍ أفادنا النظر علمًا أي بكونه غير مفيدٍ للعلم. وهذا جوابٌ نَقْضِيٌّ.

وهناك جواب آخرُ حَلي ، وهو أنّه يجوز أن يكون العلم بإفادة النظر للعلم ضرورةً، ولا نسلم لزوم اشتراك جميع العلماء فيه، لجواز خفاء الشيء من تصوّرات هذه القضية لأنّ الضروريات قد تخفى لخفاء تصوّراتها، كما أنّ مخالفة السمنية غير قادحة، لأنهم مكابرون.

ولو سلمنا مدعاهم فإنّه يمكن أن يكون إفادة العلم نظريًّا ولا يلزم التسلسل، وذلك أنّه حاصل من مقدّمتين : إحداهما أنّ النظر يلتجئ

ص: 177

إليه العقلاء في الوصول إلى مقاصدهم المجهولة دائمًا أو في الأكثر، والثانية أنّ ما يلتجئ إليه العقلاء في مقاصدهم هو مفيدٌ للعلم، ينتج عن ذلك أنّ النظر يفيد العلم، والعلم بإفادة هذا النظر للعلم ضروريٌّ يحصل من نفس تصوّره فينقطع التسلسل.

ب: ومن شُبَههم أيضًا أنّ النظر لو أفاد العلم لكان مفيدًا لهم في التعرّف على أقرب الأشياء إليهم وهي النفس، وقد وقع الاختلاف فيها وتعدّدت الأقوال.

الجواب: إنّ الاختلاف لا يدلّ على عدم إفادة النظر للعلم بشكلٍ مطلقٍ، بل ربّما يدلّ على أنّ بعض المسائل المختلَف فيها لا توصل إلى العلم، بسبب الاعتماد على شرائط فاسدةٍ أو باطلةٍ ومقدماتٍ غيرِ يقينيةٍ، أما النظر الجامع للشرائط المعتبرة فيفيد العلم لا محالة.

ج: شبهةٌ أخرى لهم قالوا: النظر محالٌ لأنّ المطلوب إن كان معلومًا لَزِمَ تحصيلُ الحاصل، وإن كان مجهولا استحال توجّه النفس إليه، ولو فرض حصوله فكيف تعرف النفس أنّ الحاصل هو المطلوب؟

الجواب: يمكن افتراض قسمٍ آخرَ وهو أن يكون معلومًا من وجهٍ ومجهولاً من وجهٍ آخرَ، فباعتبار الوجه المعلوم تكون النفس شاعرةً به ويصحّ طلبها له وتعرف عند حصوله أنّه المطلوب، وباعتبار المجهول لا يكون تحصيل الحاصل(1).

بعدما سلّمنا أنّ النظر يفيد العلم فهل إفادته من باب العادة كما عند

ص: 178


1- راجع إشراق اللاهوت للعبيدلي : 16 - 21 بتصرف واختصار

الأشاعرة، أو التوليد كما عند العدلية، أو الطبع كما عند الجاحظ؟

مستند الأشاعرة على دعواهم أنّهم أسسوا قاعدةً تقول: (لا مؤثر في الوجود إلا الله) والعلم الحاصل بعد النظر حادثٌ وبحاجةٍ إلى مؤثّرٍ، فإذًا طبقًا للقاعدة لا بد أن يكون المؤثر فيه هو الله تعالى ويكون من فعله، ولكن بما أنّه لا يجب شيءٌ على الله تعالى فحصول العلم غيرُ واجبٍ بل أكثريٌّ وعاديٌّ كطلوع الشمس كلَّ يومٍ، وذلك أنّ أفعال الله المتكررة يقال فيها أنّه فعلها بإجراء العادة وكل ما لا يتكرّر أو يتكرّر قليلاً فهو خارق للعادة أو نادرٌ، فهذا دليلهم.

أما العدلية فهم على خلاف ذلك ويقولون بأنّ العلم الحاصل من النظر يكون على سبيل التوليد، وهو واجبٌ حصوله بعد النظر كحصول المعلول بعد العلّة التامة(1)، كما أنّ العلم يقلّ بقلّته ويكثر بكثرته، فلولا أنّه متولّدٌ عنه لما وجبت هذه القضية فيه، وبمثل هذه الطريقة علمنا أنّ الإصابة متولّدةٌ من الرمي، والألم متولّدٌ عن الضرب(2).

5- حكم ترك النظر

إنّ المتكلّمين بعدما أوجبوا النظر وأبطلوا التقليد في الوصول إلى العقيدة الصحيحة، شدّدوا على من ترك النظر، ووصفوه بأشدّ التعابير .

فالسيد المرتضى (ت436ه-) حكم بكفر تارك النظر والمكتفي بالتقليد، حيث يقول : (اعلم أنّ معتقد الحق على سبيل التقليد غيرُ

ص: 179


1- نقد المحصل لنصير الدين الطوسى 60 بتصرف.
2- المنقذ من التقليد للحمصي الرازي 1: 274

عارفٍ بالله تعالى، ولا بما أوجب عليه من المعرفة به، فهو كافرٌ لإضاعته المعرفة الواجبة، ولا فرق في إضاعته الواجب عليه من المعرفة بين أن يكون جاهلاً معتقدَ الحق، وبين أن يكون شاكًّا غير معتقدٍ لشيءٍ، أو بین أن يكون مقلّدًا، لأنّ خروجه من المعرفة على الوجوهرهِ كلِّها حاصلٌ في إطاعته لها ثابتة، وهو كافرٌ لأنّ الإخلال بمعرفة الله ومعرفة من يجب العلم به لا يكون إلّا كفرًا)(1).

هذا الحكم الشديد قد تمّ تعديله نوعًا ما على يد المحقق الحلي (ت 676ه-) حيث جعل المُخِلَّ بالنظر ،عاصيًا، وإذا قدح الشكّ في عقيدته وأزالها فهو كافر، كما انّه اكتفى من المعرفة بأوائل الأدلّة وقدر يناله كل مبتلى بالتكليف في الزمان اليسير بحيث لا يسبّب في تعطيل المصالح الدنيوية (2).

وعندما نعرّج على الكراجكي (ت449ه-) نرى أنّ الصورةَ عنده أقلُّ شدّةً، حيث إنّه يحكم باستحقاق العقاب لمن ترك النظر واقتصر على التقليد، ولكن مع هذا فإنّه إن كان مقلِّدًا للمحق نرجو له العفو، ولا نرجوه لمن قلّد المبطل، كما أنّ الكراجكي يحكم على المقصر الضعيف الذي ليس له استنباطٌ صحيحٌ، بكفاية تمسّكه بالجملة بظاهر ما عليه المسلمون(3).

والحق لزوم الفصل بين العلماء وعامّة الناس، حيث إنّ الله تعالى يكتفي من العامة وضَعَفَة الناس بما لا يكتفي به من الخاصة، كما نعتقد بأنّ الله

ص: 180


1- رسائل المرتضى 2 316.
2- الرسائل التسع: 292.
3- كنز الفوائد :1: 218 وتبعه الديلمي في إعلام الدين: 38

تعالى جعل للحقّ عنوانًا وأنّه تعالى يكشف ذلك لكل أحدٍ كي لا يكون له حجةٌ أمام الله تعالى، فمن رأى الحق وأنكره معاندة واكتفى بالتقليد أو استمر على ضلاله، فهو غيرُ معفوٍّ عنه.

كما يجب الفصل بحسب الزمن أيضًا، فالزمن الذي تكثر فيه الشبهات ويستخدم الخصوم شتّى أنواع وسائل التضليل وتمويه الحق وتشويه الصورة، يختلف حكمه عن الزمن الذي لا تكون فيه هذه الشبهات أو لم تكثر ، ونحن نرى في زماننا اليوم على الرغم من تنوّع أدوات التواصل الاجتماعي جرّاء الثورة المعلوماتية، وإمكان الوصول إلى أيّ معلومة من خلال النت، غير أنّنا نواجه بالوقت نفسه عولمة الشبهات وتمويه الحق من قبل رؤوس الأموال وأروقة الاستخبارات العالمية بما تمُلي عليهم مصالحهم الخاصة، فلا يمكن تعميم الفتاوى القاسية والحكم بالتكفير والخلود في النار للمخالف عقديَّا، إلا إذا وصله الحق وكابر وعاند، وهذا لا يعني القول بالتعددية الدينية وأنّ الجميع على الحق كما لا يخفى، بل هو التوقّف عن التسرّع في الحكم وإرجاء الأمر إلى الله تعالى.

ص: 181

فهرس المصادر:

1- نهج البلاغة جمع الشريف الرضي (ت406ه-)، تحقيق السيد هاشم الميلاني نشر العتبة العلوية المقدسة، 2013م.

2- إحصاء العلوم، أبو نصر محمد بن محمد الفارابي (ت 339ه-) مركز الإنماء القومي 1991م.

3- قناطر الخيرات، إسماعيل بن موسى الجيطالي النفوسي (ق8)، دار الكتب العلمية 2001م، تحقیق سید كسروي وخلاق السميع .

4-الملل والنحل محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت548ه-)، منشورات الجمل 2013م تحقيق سعيد الغانمي.

5- نهاية المرام في علم الكلام الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي (726ه-) مؤسسة الإمام الصادق 1430 علیه السلام ه، تحقيق: فاضل العرفان.

6-شرح المقاصد مسعود بن عمر التفتازاني (ت793ه-)، دار الكتب العلمية 2011م تحقيق إبراهيم شمس الدين.

7- شرح العقائد النسفية، مسعود بن عمر التفتازاني (ت793ه-)، المكتبة الأزهرية مصر 2012م.

8- شرح المواقف علي بن محمد الجرجاني (ت816) ، دار الكتب العلمية 1998م تحقيق محمود عمر الدمياطي.

9- المقدمة عبد الرحمن بن خلدون (ت808ه-)، دار صادر ط2، 2009.

10- المواقف في علم الكلام عضد الدين الإيجي (ت 756ه-)، عالم الكتب بيروت.

ص: 182

11- النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر المقداد بن عبد الله السيوري ت 826ه-) ، مؤسسة المعارف الإسلامية.

12- الاعتماد في شرح واجب الاعتقاد المقداد بن عبد الله السيوري (ت826ه-)، مجمع البحوث الإسلامية، 1412ه، تحقيق صفاء الدين البصري.

13- گوهر ، مراد عبد الرزاق اللاهيجي (ت 1072ه-)، مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) 1388 ش.

14- شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام عبد الرزاق اللاهيجي (ت1072ه-)، مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) 1433ه تحقيق أكبر اسد علي زاده.

15- التعريفات علي بن محمد الجرجاني (ت 816ه-)، دار الفضيلة، تحقيق محمد صديق المنشاوي.

16- مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، فخر الدين الرازي ( ت 606ه-)، دار الفكر، ط1، 1401ه.

17- المنقذ من الضلال، أبو حامد الغزالي (ت 505ه-)، دار الجيل ط1، 2003م.

18- المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وآخرون، دار الدعوة.

19- لسان العرب، ابن منظور (ت711ه-)، دار إحياء التراث العربي ، 2010م .

20- أصول الدين عبد القاهر البغدادي (429ه-)، دار صادر 1928م.

21- مذاهب الإسلاميين عبد الرحمن بدوي (ت 2002م) ، دار العلم للملايين 1996م.

22- نهاية العقول في دراية الأصول، فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت606ه-)، دار الذخائر، 2015م.

ص: 183

23- قواعد المرام في علم الكلام ميثم بن علي بن ميثم البحراني (ت 699ه-)، مكتبة السيد المرعشي تحقيق السيد أحمد الأشكوري.

24- اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية مقداد بن عبد الله السيوري (ت826ه-) بوستان كتاب 1429ه.

25- ثمرات العلوم، علي بن محمد المعروف بأبي حيان التوحيدي (ت414ه-)، دار نينوى 2009م تحقيق أنور زناتي.

26- أصول الدين أبو اليسر محمد البرذوي (ت493ه-)، المكتبة الأزهرية 2003م تحقيق د. هانز بيتر لنس.

27- إشارات المرام من عبارات الإمام كمال الدين أحمد البياضي الحنفي (ت1097ه-)، المكتبة الأزهرية 2019م تحقيق يوسف عبد الرازق.

28- فلسفة المتكلمين هاري .أ. ولفسون المركز القومي للترجمة 2009م ط2 ترجمة مصطفى لبيب عبد الغني.

29 - علم الكلام والمجتمع ، جوزيف فان آس منشورات الجمل 2008م ترجمة سالمة صالح.

30- بدايات الفكر الإسلامي الأنساق والأبعاد، جوزيف فان آس، منشورات الفنك 2000م ترجمة عبد المجيد الصغير

31- رسائل الجاحظ، عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255ه-) ، دار ومكتبة الهلال تحقيق د. علي بو ملحم.

32- المرجع في علم الكلام مجموعة مؤلفين تحرير زابينه شميتكه، ترجمة أسامة شفيع ،السيد مركز نماء 2018م.

ص: 184

33- تطوّر الدولة والفقه والكلام في الإسلام دانكن بلاك ماكدونالد (ت 1943م) مركز نماء ،2018 ترجمة محمد سعد كامل.

34- فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، أبو حامد الغزالي (ت 505ه-)، دار كيرانيس 2014م

تحقيق اسعد جمعة.

35- تلخيص الأدلّة لقواعد التوحيد، أبو إسحاق الصفّار البخاري (ت 534ه-)، المكتبة الأزهرية 2012م تحقيق د. عبد الله محمد عبد الله إسماعيل.

36- دُرة التاج قطب الدين الشيرازي (ت710ه-) منشورات حكمت 1427ه تحقیق سید محمد مشكوة.

37- إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين المقداد السيوري (ت 826ه-)، مكتبة المرعشي 1433ه، تحقيق السيد مهدي الرجائي.

38- مجلي مرآة المنجي، محمد بن علي بن أبي جمهور الإحسائي (ق10)، جمعية ابن أبي جمهور الإحسائي 1434ه، تحقیق رضا یحیی بور فارمد

39- شرح الباب الحادي عشر ، محمد بن علي بن أبي جمهور الإحسائي (ق10)، جمعية ابن أبي جمهور الإحسائي 1435ه، تحقیق رضا یحیی بور فارمد

40- رسائل السيد المرتضى علم الهدى علي بن الحسين (ت436ه-)، دار القرآن الكريم، تحقيق السيد أحمد الحسيني والسيد مهدي الرجائي.

41- کشاف اصطلاحات الفنون والعلوم محمد علي التهانوي (ق12)، مكتبة لبنان ناشرون 1996م، تحقيق علي دحروج.

42- إحياء علوم الدين أبو حامد الغزالي (ت 505ه-)، دار المعرفة بيروت.

ص: 185

43- أصول الكافي، محمد بن يعقوب الكليني (ت 328ه-)، نسخة مكتبة أهل البيت الالكترونية.

44- تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مصطفى عبد الرازق (ت1947م)، المكتبة الإسكندرية 2011 تحقيق محمد حلمي عبد الوهاب.

45- معجم طبقات المتكلمين إعداد اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق (عليه

السلام، تقديم وإشراف الشيخ جعفر السبحاني، 1424ه.

46- اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، عبد الوهاب الشعراني (ت973ه-) دار الكتب

العلمية 2012 ، تحقيق الشيخ عبد الوارث محمد علي.

47- الأسرار الخفية في العلوم العقلية، العلامة الحلي الحسن بن يوسف (ت726ه-) بوستان كتاب 1430ه.

48- غاية المرام في علم الكلام سيف الدين الآمدي (ت631ه-) وزارة الأوقاف مصر 2012م تحقيق حسن الشافعي.

49- الإشارة في أصول الكلام فخر الدين الرازي (ت 606ه-) مركز نور العلوم، 2007م تحقيق محمد العايدي و ربيع العايدي.

50- تهذيب الأصول، روح الله الخميني (ت 1989م)، مطبعة مؤسسة العروج ط1، 1423ه، تقرير الشيح جعفر سبحاني.

51 - مناهج الأصول إلى علم الأصول، روح الله الخميني (ت 1989م)، مطبعة العروج، 1415ه .

-52- الكلام الإسلامي المعاصر، عبد الحسين خسروپناه ، ط1 1438ه، المركز الإسلامي

للدراسات الاستراتيجية.

ص: 186

53- أبكار الأفكار في أصول الدين سيف الدين الآمدي (ت 631ه-)، دار الكتب والوثائق القومية مصر 2012 تحقيق د. أحمد محمد المهدي.

54- المعارف في شرح الصحائف محمد بن أشرف السمرقندي (ت بعد 690ه-)، المكتبة الأزهرية، تحقيق عبد الله اسماعيل.

55- المستصفى من علم الأصول، أبو حامد الغزالي (ت 505ه-) تحقيق د. ناجي السويد.

56- مجموعة آثار استاد شهيد مطهري، نشر صدرا 1434ه.

57- تجريد المنطق، نصير الدين الطوسي (ت 672ه-)، ط1 1408ه، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

58- الحدود والحقائق في شرح ألفاظ المصطلحة بين المتكلمين الإمامية، القاضي أشرف الدين صاعد البريدي الآبي (ق6) ، مطبوعات مكتبة ديوان آل الخالصي، تحقيق حسين علي محفوظ.

59- الحدود والحقائق علي بن الحسين المرتضى (ت436ه-) تحقيق محمد تقي دانش بزوه، مطبوع مع أربعة كتب كلامية في ذكرى ألفية الشيخ الطوسي.

60- التبيان في تفسير القرآن، محمد بن الحسن الطوسي (ت 460ه-)، نسخة مكتبة أهل البيت (عليه السلام) الإلكترونية.

61- الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد محمد بن الحسن الطوسي (ت460ه-)، دار الأضواء ..1406

62 - نهاية الحكمة ، محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة النشر الإسلامي 1434ه، تحقيق الشيخ عباس الزارعي السبزواري.

ص: 187

63 - أوائل المقالات محمد بن محمد بن النعمان المفيد (ت413ه-) ، 1431ه منشورات الهدى.

64- علم اليقين في أصول الدين محمد بن المرتضى المعروف بالفيض الكاشاني (ت 1091ه-) انتشارات بیدار 1426ه محسن بیدار فر.

65- المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، محمد بن المرتضى الفيض الكاشاني (ت 1091ه-) دفتر نشر إسلامي، تحقيق علي أكبر الغفاري.

66- محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والمتكلمين محمد بن عمر الفخر الرازي (ت 606ه-) ، المكتبة الأزهرية 1411ه، تحقيق د. حسين أتاي.

67- تلخيص المحصل، نصير الدين الطوسي (672ه-) دار الأضواء، 1405ه.

68- الذريعة إلى أصول الشريعة علي بن الحسين المرتضى (ت 436ه-)، دار التوحيد، تحقيق السيد عبد الكريم الموسوي وآخرون.

69 - العدّة في أصول الفقه، محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه-)، 1432 بوستان کتاب، تحقیق محمد رضا الأنصاري القمي.

70- قوانين الأصول، أبو القاسم بن محمد حسن القمي (ت1231ه-) المكتبة الإسلامية .1378.

71- أساس التقديس، محمد بن عمر الفخر الرازي (ت 606ه-) المكتبة الأزهرية 2011م تحقيق عبد الله محمد عبد الله.

72 - الأصول الأصيلة، محمد حسن الفيض الكاشاني (ت1091ه-) نشر المؤتمر العالمي للفيض الكاشاني، تحقيق السيد أبو القاسم النقيبي.

73- كفاية الأصول، محمد كاظم الخراساني (ت 1329ه-).

ص: 188

74- الميزان في تفسير القرآن محمد حسين الطباطبائي (ت 1402ه-)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

75- الجوهر النضيد شرح منطق التجريد، الحسن بن يوسف المطهر الحلي (ت726ه-) منشورات بیدار 1431ه

76- من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي المركز الثقافي العربي 1988م.

77- دلالة الحائرین موسی بن میمون (ت600ه-) منشورات الجمل 2011م حسين اتای.

78- نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، علي سامي النشار (ت 1980م)، دار السلام 2013م.

79- فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري (ت 1281ه-) مطبعة إسماعيليان 1383ش.

80- مصباح الأصول، السيد أبو القاسم الخوئي، تقرير السيد محمد البهسوي، 1422ه مؤسسة نشر الفقاهة.

81 - المنقذ من التقليد سديد الدين محمود الحمصي الرازي (ق7) منشورات جماعة المدرسين 1414ه.

82- الرسالة السعدية، الحسن بن يوسف المطهر الحلي (ت 726ه-) مكتبة السيد المرعشي 1410ه تحقيق عبد الحسين البقال.

83 - التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين أبو المظفر الاسفرايني (ت 471ه-)، المكتبة الأزهرية 2017م ، تحقيق محمد زاهد الكوثري.

84 - المغني في أبواب التوحيد والعدل، القاضي عبد الجبار المعتزلي (ت415ه-) دار الكتب العلمية 2012م تحقيق خضر محمد نبها .

ص: 189

85- شرح الأصول الخمسة القاضي عبد الجبار المعتزلي (ت415ه-) دار إحياء التراث العربي، 2012م.

86- تبصرة الأدلّة في أصول الدين ميمون النسفي (508ه-) المكتبة الأزهرية، 2011، تحقيق محمد الأنور حامد عيسى.

87- مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي (ق6) نسخة مكتبة أهل البيت (علیهم السلام) الإلكترونية.

88- أعلام الدين في صفات المؤمنين الحسن الديلمي (ق8) نسخة مكتبة أهل البيت (عليهم السلام)

الإلكترونية.

89- مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم طاش کبری زاده (ت968ه-) دار الكتب العلمية 2002م.

90 - العقيدة والشريعة في الإسلام، غولد تسهير (ت 1921م) منشورات الجمل 2009م ترجمة محمد يوسف موسى.

91 - تاريخ الفلسفة الإسلامية، ماجد ،فخري، دار المشرق 2000م.

92 - الكشف عن مناهج الأدلّة في عقائد الملة، ابن رشد تقديم وتعليق محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية 2007م.

93- تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري مركز دراسات الوحدة العربية، 2011م.

94- المدخل إلى دراسة علم الكلام، حسن الشافعي، مكتبة وهبة 2013م.

95- الفهرست، ابن النديم محمد بن إسحاق (380ه-) الهيأة المصرية العامة 2011م، تحقيق محمد عوني إيمان السعيد.

ص: 190

96- رجال النجاشي، أحمد بن علي النجاشي، مؤسسة النشر الإسلامي، 1365ش.

97 - نهاية الإقدام في علم الكلام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت548ه-) مكتبة ،زهران تحقيق الفرد جيوم.

98- موسوعة الصوفية، الحسيني معدي كنوز للنشر والتوزيع، 2013م.

99- جامع الأسرار ومنبع الأنوار، السيد حيدر الآملي (ق8)، دار المحجة البيضاء، 2007م.

100- تاريخ الفلسفة في الإسلام دي بور (ت 1942م) ترجمة محمد ابو ريده، الهيأة المصرية 2010م.

101 - الحضارة الإسلامية ومدى تأثرها بالمؤثرات الأجنبية، فون كريمر (1889م) دار الفكر العربي، تعريب مصطفى طه بدر.

102- ذم الكلام عبد الله الأنصاري الهروي (ت481ه-)، دار الفكر اللبناني 1994.

103- صحیح مسلم مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (261ه-) تحقيق محمد سالم ،هاشم، دار الكتب العلمية.

104- إلجام العوام عن علم الكلام أبو حامد الغزالي (ت 505ه-) المكتبة الأزهرية 1418ه.

105- صحيح اعتقادات الإمامية، محمد بن محمد بن النعمان المفيد (ت413ه-) منشورات الهدى.

ص: 191

106 - الخطط المقريزية، أحمد بن علي المقريزي (845ه-) دار الكتب العلمية 1418ه، تحقيق خليل المنصور.

107- النكت في مقدمات الأصول، محمد مقدمات الأصول، محمد بن محمد بن النعمان المفيد (ت 413ه-) منشورات الهدى.

108- مناهج اليقين في أصول الدين الحسن بن يوسف المطهر الحلي (ت 726ه-) بوستان کتاب 1432.

109- إشراق اللاهوت في نقد شرح الياقوت، عميد الدين عبد المطلب العبيدلي - (ت754ه-) مرکز نشر میراث مکتوب 1381ش، علي أكبر ضيائي.

110- أنوار الملكوت في شرح الياقوت الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي (726ه-)، دار المحجة البيضاء، 2011م.

111- الرسائل التسع، المحقق الحلي.

112- كنز الفوائد الكراجكي.

ص: 192

هذا الكتاب

تعدُّ المعارف الدينيّة الخاصّة بالمبدأ والمعاد من أهمّ

معتقدات الإنسان؛ إذ بها النجاة والخلاص من الهلاك،

وهذه المعارف في عملية صيرورتها وتكوّنها واجهت من

جهةٍ خصومًا أشداء، ومن جهةٍ أخرى سوء فهمٍ أو التباساً من قِبل الصفّ الداخلي، ممّا كان سببّا لقيام أرباب الدين بعملية الدفاع ورفع الستار بموازاة عملية التأصيل والتبيين والدعوة.

هذه العمليّة تسمّى في العالم الإسلامي بعلم الكلام

المتكفّل بتبيين المعارف الدينيّة العقدية والدفاع عنها، وهو وإن تأخّر في الظهور كمصطلحٍ لكنّه مورس منذ بزوغ الدعوة الإسلامية على نطاقٍ واسعٍ.

المركز الهلال للدراسات الاشتر التحية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 193

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.