موسوعة الرسول صلی الله علیه واله والعترة علیهم السلام

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الموسوی المحرقي البحراني، السید هاشم

عنوان المؤلف واسمه: موسوعة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) والعترة. كتاب يتكفّل - بجلساته المنبرية الحسينية بيان سيرة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) وأهل بيته(عليه السلام)/ تالیف السيّد عبدالله السيّد حسن السيد هاشم الموسوي المحرقي البحراني.

تفاصيل النشر: قم: مؤسّسة المعارف الاسلامية، 1423ق. = 1381.

مواصفات المظهر: ج 14

فروست : (مؤسّسة المعارف الاسلامية 132)

شابک : 964-7777-00-0(دوره) ؛ 964-7777-00-0(دوره) ؛ 964-7777-01-9(ج.1)

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : عنوان روی جلد: موسوعه الرسول و العتره علیهم السلام.

محتويات: ج. 1. حیاه النبی صلی الله و علیه و آله

العنوان على الغلاف: موسوعة الرسول والعترة علیهم السلام.

موضوع : چهارده معصوم -- السيرة الذاتية

معرف المضافة: مؤسّسة المعارف الاسلامية

تصنيف الكونجرس: BP36/م 85م 8

تصنيف ديوي: 297/95

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-2307

الجزء الأوّل

حياة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)

مؤسّسة المعارف الاسلامية

ص: 1

اشارة

موسوی، هاشم

موسوعة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)والعترة(عليهم السلام)كتاب يتكفّل - بجلساته المنبرية الحسينية - بيان سيرة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)وأهل بيته(عليهم السلام) قم : مؤسسة المعارف الاسلاميه ، 1423 ق . =1381 720ص

964 - 7777 - 01-9 (ج1) - ISBN (دوره): 0 - 00 - 7777 - 964

فهرستنویسی بر اساس اطلاعات فيبا .

مندرجات : ج. 1 . تاريخ حياة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من الولادة حتى الوفاة . .1 چهارده معصوم - - سرگذشتنامه. الف . بنیاد معارف اسلامی . ب . عنوان .

BP 36/م85م8 297/95

کتابخانه ملی ایران م81-2307

إسم الكتاب : ...موسوعة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)والعترة ج 1 .

تأليف :...السيد عبد الله السيد حسن السيد هاشم الموسوي البحراني .

نشر :...مؤسسة المعارف الإسلامية .

الطبعة : ... الأولى 1423ه- . ق .

المطبعة :...عترت .

العدد :...1000نسخه جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة

المؤسسة المعارف الإسلامية

ایران - قم المقدسة

ص . ب 37185/768 تلفون 7732009

E - mail : m_islamic@aYna.com

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

المقدمة

الحمد لله ذي الملك المتأبد بالخلود، والسلطان الممتنع بغير جنود، الذي عزّ سلطانه عزاً لاحدّ له بأولية ، ولا منتهى له بآخرية، حمداً يدلّنا به على معرفة الحقيقة المحمدية، ويهدينا بواسطته الى طرق الخير المرضية، حمداً لا منتهى لحدّه ، ولا حساب لعدده ولا مبلغ لغايته، ولا انقطاع لأمده، حمداً يكون وصلة إلى طاعته وعفوه وسبباً إلى رضوانه، وذريعة الى مغفرته ، وطريقاً إلى جنته، وخفيراً من نقمته ، وأمناً من غضبه، وظهيراً على طاعته، وحاجزاً عن معصيته ، وعوناً على تأدية حقه ووظائفه، حمداً نُسعد به فى السعداء من أوليائه، ونصير به في نظم الشهداء بسيوف أعدائه .

وأصلي وأسلم على رحمته الواسعة، ونعمته النافعة، وحجته الجامعة، الذي بعثه الله تعالى بالحق والهدى ليخرج به عباده من الظلمات إلى النور السيد الكريم والرسول العظيم محمد بن عبدالله ، وعلى أهل بيته الآيات الساطعة، والحجج الباهرة، دعائم الاسلام، وولائج الاعتصام ، الذين أرجعوا الحق إلى نصابه وأزاحوا الباطل عن مقامه ، فلك الله الجارية في لججه الغامرة ، لاسيما معدن العلوم النبوية والبقيّة الباقية من الصفوة المرضية والسلالة المحمدية والشجرة العلوية، حجّة الله على عباده ،ومناره في بلاده الذي انتهت إليه مواريث الأنبياء، ولديه موجود آثار الأصفياء، الخازن كل علم ، والفاتق كل رتق ، ومحق كل حق ، ومبطل كل باطل ، الامام الهادي والولي المرشد الذي بولايته تقبل الأعمال، وتزكى الأفعال، وتضاعف الحسنات، وتمحى السيئات وتفرج الكربات وتزول الهموم والبليات مولانا الاعظم صاحب العصر والزمان الحجة بن الحسن عجل الله تعالى

ص: 5

فرجه الشريف وروحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الشريف الفداء.

وبعد:

فقد التمس مني صديقنا العزيز جناب العالم الفاضل والخطيب الجليل خادم مذهب آل محمد عليهم الصلاة والسلام الحاج الملا عبدالحسين بن راشد العرادي قدس الله نفسه الزكية ، أن أصنف كتاباً جامعاً لما يحتاج إليه الخطيب بحيث يكون منهاجاً مرشداً كافياً مغنياً له عن مراجعة الكثير من المصادر التي يحتاج الخطباء إلى مراجعتها عادة في مثل شهري محرم وصفر ، ومثل أيام مواليد الأئمة(عليهم السلام) ووفياتهم والمناسبات الاسلامية الاخرى شريطة أن يكون الكتاب المطلوب مشتملاً أيضاً على بعض التوجيهات الارشادية والنصائح الأخلاقية لأبنائنا الشباب المسلم فأجبت ملتمسه شريطة المهلة حيث كنت في حينها مشتغلاً بتأليف كتابي (فضل العلم والعالم)بالاضافة إلى أعمالي الأخرى ، والكتاب المطلوب يحتاج إلى مقدار كبير من الوقت بحيث يسعني مراجعة تلك المصادر التي تتضمن الموضوعات المطلوبة في مثل تلك الأيام المذكورة، وعلى أي حال فإنّه في حينها لم يتسن لي إنجاز الكتاب المطلوب، ومضت مدة طويلة من الوقت التحق في خلالها صديقنا المذكور رضوان الله تعالى عليه بالرفيق الأعلى ولم يمكنني إنجاز ذلك ، ولكنّي وبما أنني قد أجبت ملتمسه بقيت أتحرى الوقت المناسب لإنجاز ذلك الطلب، خصوصاً وان تأليف مثل الكتاب المذكور المشتمل على فضائل الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)وأهل بيته الكرام عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام وبما يشتمل عليه أيضاً من تاريخ حياتهم وذكر ما جرى وحلّ بساحاتهم المباركة من الوقائع والحوادث المؤلمة التي تمزق القلوب وتفتت الأكباد هو الغاية المنشودة بالنسبة لي فلعلني أن أكون قد أديت بعض ما يجب عليّ من حقوقهم لكي أنال بذلك رضاهم الذي هو رضا الله تعالى، وأنّني وإن كنت قليل البضاعة إلا إنني واثق من أنهم(عليه السلام) لهم المقام المحمود عند الله تعالى الذي بواسطته لا يتركني من التسديد والتأييد .

ولهذا شمرت السواعد عندما حانت الفرصة المناسبة للاشتغال بالكتاب

ص: 6

المطلوب فشرعت في تأليفه مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه وطالباً منه العون والتوفيق والسداد انه ولي ذلك والقادر عليه ، وسمّيته «موسوعة الرسول وأهل بيته وجعلته في عدة أجزاء ليكون جامعاً ومستوعباً لحياة المعصومين الأربعة عشر بكاملها، بالاضافة إلى إدخال المصائب والفوادح الحسينية في جميع أجزائه، وبما أنه قدتم إنجاز وتهذيب الجزء الأول منه وذلك بعون الله تعالى وتسديده لي وكرامة منه تعالى شأنه لآل البيت النبوي الطاهر عليهم الصلاة والسلام حيث جاء التسديد منه تعالى بواسطة كرامتهم عليه ومقامهم المحمود عنده، فوفقني لذلك وقد سارعت بعد إنجازه في طبعه وتقديمه للأخوة الخطباء الأفاضل ، وهو كما يرونه كتاباً فريداً من نوعه في اسلوب الخطابة الحسينية، قد لخصته في أربعة أقسام كل قسم يشتمل على عدة جلسات تتعلق بجانب من جوانب حياة الرسول(عليه السلام)المباركة المشرقة بالأنوار المحمدية، والمكارم الهاشمية، ففي القسم الأول منه تحدثنا للاخوة الأفاضل والقراء الكرام من خلال ثلاث جلسات عن حدث ولادته المباركة وعطرناها مقدّماً ومؤخراً ببعض مدائحه وختمناها بمراثيه المؤلمة.

كما جعلنا فاتحة كلّاً من الجلسات المذكورة آية كريمة من آيات الذكر الحكيم وأشرنا إلى موجز من تفسيرها وأضفنا إليها بعض الأحاديث الشريفة المتضمنة للحوادث الواقعة والآيات والمعاجز الباهرة التي ظهرت يوم ولادته المباركة(صلی الله علیه وآله وسلم)، وختمنا الجلسات الثلاث بالتوجيه والارشاد والنصائح لأبناء الأمة الاسلامية.

وفي القسم الثاني من هذا الجزء المبارك تعرّضنا لذكر مبعثه الشريف وحصرناه أيضاً في ثلاث جلسات مفيدة جعلنا فاتحة كل جلسة منها آية كريمة أيضاً ، وأشرنا الى موجز من تفسيرها ، وأضفنا أيضاً إليها بعض الأحاديث الشريفة الواردة في ذكرى المبعث الشريف، وختمناها بالتوجيه والارشاد وذكر المصيبة . وتعرّضنا في القسم الثالث منه إلى ذكرى معراجه(صلی الله علیه وآله وسلم) المبارك وحصرنا القسم المذكور في ستة جلسات موسعات تحدّثنا من خلالها عن موضوع المعراج بصورة

ص: 7

تفصيلية وذلك من خلال عرض بعض الآيات الكريمة المتضمنة لحدث معراجه المبارك (صلی الله علیه وآله وسلم)، كما أزلنا بعض الاشكالات الوهمية الفاسدة الواردة من بعض جهلة الناس على مسألة المعراج، وعطّرنا الجلسات المذكورة بمقدمتها ومؤخرتها بمدح الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)، وختمناها بمصيبته المؤلمة .

أما القسم الرابع وهو الأخير من أقسام هذا الجزء فقد حاز على عدد اثني عشر جلسة تعرّضنا من خلالها إلى عدة مواضيع مهمة لها علاقة وثيقة بجوانب حياة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)من جهة كونها مفاهيم إسلامية تبيّن لنا وصف النبي وكيفية إرساله من الله تعالى .

ففي بعضها تعرضنا إلى النبوة العامة والخاصة، وكيفية الارسال والدليل عليه وكذلك بينا ما أظهره الله تعالى من المعاجز الباهرة على يد نبينا الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم)الدالة على انه نبي مرسل من الله تعالى لهداية البشر وختمناها بذكر مصيبته (صلی الله علیه وآله وسلم).

وتعرّضنا في بقية الجلسات الأخرى بصورة تفصيلية موسعة إلى المواضيع التالية :

أولاً : عصمة الرسل.

ثانياً : تنزيه الرسول الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم) .

ثالثاً : أخلاق الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) .

رابعاً : صفات الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم).

خامساً : نعوت الرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم).

سادساً : عدد زوجاته وأولاده (صلی الله علیه وآله وسلم) .

سابعاً : دعوة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) قريشاً إلى الاسلام.

ثامناً : غزواته المباركة .

تاسعاً : كيفية بيعة الأنصار للرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)ونصرته .

عاشراً : وفاة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) ووصيته .

هذه على الاجمال مواضيع الجزء الأول من الموسوعة ، ويظهر من التقسيم

ص: 8

المذكور لقارئنا الكريم أن أقسام هذا الجزء قد احتوت على أربعة وعشرين جلسة من خلالها عما أردنا بيانه من بعض جوانب حياة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) المباركة.

أما بالنسبة إلى عدد جلسات بقية أجزاء الموسوعة الأخرى فانها سوف تحدد بموجب التقسيم الذي نلخص به كل جزء من أجزائها وفقنا الله تعالى الى إتمامها وإخراجها إلى حيز الوجود كما وتجدر الاشارة إلى أنني قد توسعت في بعض مواضيع هذا الجزءبحيث خرجت عن جادة الاختصار المتعارف عليها عند المؤلفين من الخطباء في تأليف الكتب المعدة لخطابة المنبر الحسيني فانهم عادة يراعون جانب الاختصار في عرض الموضوع وذلك لكي يتسنى للمبتدين منهم حفظ الموضوع بسهولة ويسر ولكنني رأيت أنّ من الأحسن عرضها بصورة تفصيلية موسعة ليتبصرها ويتفهمها الشباب المسلم عند ما يقوم الخطباء بعرضها على المستمعين من خلال خطاباتهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تنبيه الخطباء وإيقاظهم بضرورة التوسع في مواضيع خطاباتهم خصوصاً في مثل المواضيع والمطالب العقائدية فانه ينبغي التوسع فيها وجعلها من أوليات المواضيع والمطالب التي يروم الخطيب التحدث عنها لمستمعيه وذلك لأهميتها فينبغي أن تكون موضع عناية الخطباء واهتمامهم، بل ومنهاج منابرهم وذلك ليتسنى لهم أن يرسخوا العقيدة الاسلامية في قلوب أبناء الأمة.

أمّا موضوع الاطالة والاختصار فيرجع الى الخطيب نفسه، فالخطيب القادر على التصرف في الموضوع يمكنه أن يتصرف فيه بحسب معرفته وقدرته على التصرف، وذلك بأن يختصر الموضوع ويجعله متناسباً ضيق الوقت وسعته ، وله أن يسلك أحد مسلكين : فإما أن يختار من الموضوع ما يجده مناسباً للمقام بحيث يستوعب حديثه وقتاً أكثر من الوقت المحدد للجلسة المطلوبة ويحذف الباقي الذي يستلزم منه ضيق الوقت، كما له أن يضيف شيئاً إذا كان يرى ان ذلك الشيء يستلزم الاضافة .

وإما أن يقوم بتلخيص الموضوع باسلوبه الخاص مع الاختصار هذا بالنسبة

ص: 9

للخطيب القادر على الحذف والاضافة، أما بالنسبة إلى الخطيب الذي لم يصل الى تلك الرتبة والقدرة على صياغة الموضوع بأسلوبه الخاص كما قلنا ، فإنه يمكن التحدث لمستمعيه بما أدرك فهمه من مواضيع هذا الكتاب مع مراعاة الاختصار ويختمها بالمدح أو المصيبة بحسب المقام .

و مجمل القول ان هذا الجزء من الموسوعة المذكورة يكون صالح بحسب أسلوبنا الخاص لأن يكون مورد تحدث الخطيب لمستمعيه في أربعة وعشرين جلسة خاصة بالرسول الأكرم محمد بن عبد الله (صلی الله علیه وآله وسلم) حيث تحدثنا حيث تحدثنا من خلالها للمستمعين عن سيرته المباركة، وعطّرناها بمدائحه، وختمناها بمراثيه ومراثي سبطه الشهيد أبي عبدالله الحسين بن علي عليهما أفضل الصلاة والسلام، وكذلك أشرنا في أكثرها إلى حوادث أيام عاشوراء وما قبله وما بعده لكي تكون صالحة أيضاً للخطيب بأن يجعلها منهاجاً له في سيرة عاشوراء الحزينة ، والله أسأل التوفيق لإنجاز بقية أجزاء الكتاب ، وأن ينور قلوبنا جميعاً وبالخصوص الخطباء العاملين المجاهدين أنصار سيد الشهداء عليه أفضل الصلاة والسلام بالعلم والمعرفة والورع والتقوى، ليؤدوا دورهم الرسالي على أحسن حال، وأن يجعلنا وإياهم ممن تناله شفاعة الرسول الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم)،يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

یا رسول الله یا محمد بن عبد الله إنا توجهنا واستشفعنا وتوسلنا بك إلى الله وقدمناك بين يدي حاجاتنا يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عند الله بحقك على الله ، يا أبا القاسم ، والسلام عليك والصلاة على روحك الطيبة وجسدك الطاهر ورحمة الله وتحياته وبركاته .

حرره الأقلّ الفاني السيد عبدالله السيد حسن السيد هاشم الموسوي البحراني 15 / محرم الحرام سنة 1422ه . ق

ص: 10

القسم الأول

اشارة

هذا هو القسم الأوّل من الجزء الأول من كتابنا «موسوعة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)وأهل بيته(عليه السلام) » ، وهو يشتمل على ثلاث جلسات مهمة تتعلّق بولادة الرسول الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم) ، وقد ختمنا الجلسات المذكورة بموجز يسير من مصيبته(صلی الله علیه وآله وسلم)، ومصيبة ابنته الصديقة فاطمة الزهراء

(عليها السلام)، ومصيبة سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام.

ص: 11

ص: 12

الجلسة الأولى : مولد النور

في ذكرى مولد الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم)

أرى الكون أضحى نوره يتوقد*** لأمر به نیران فارس تخمد

وإيوان كسرى انشقّ أعلاه مؤذناً*** بأن بناءَ الدين عاد يُشَيَّدُ

أرى أنَّ أمَّ الشرك أضحت عقيمة*** فهل حان من خير النبيين مولد

نعم كاد يستولي الضلال على الورى*** فأقبل يهدي العالمين محمد

***

نبيٌّ براه الله نوراً بعرشه*** وما كان شيء في الخليقة يوجد

وأودعه من بعد في صلب آدم*** ليسترشد الضُّلّالُ فيه ويهتدوا

ولو لم يكن في صُلب آدم مُودَعاً*** لما قال قدماً للملائكة اسجدوا

له الصدر بين الأنبياء وقبلهم*** على رأسه تاج النبوة يعقد

لئن سبقوه بالمجيء فإنّما*** أتوا ليبتوا أمره ويمهدوا

رسول له قد سخّر الكونَ ربُّه*** وأيّده فهو الرسول المؤيد

ووحده بالعزّ بين عباده*** ليجروا على منهاجه ويُوَحدوا

وقارن ما بين اسمه واسم أحمد*** فجاحده - لا شك - لله يجحد

ومن كان بالتوحيد الله شاهدا***ً فذاك لطه بالرسالة يشهد

ولولاه ما قلنا ولا قال قائل ***لمالك يوم يوم الدين إياك نعبدُ

ص: 13

ولا أصبحت أوثانهم وهي التي*** لها سجدوا تهوى خشوعا وتسجد

لآمنة البشرى مدى الدهر إذْ غدت*** وفي حجرها خير النبيين يولد

به بشَّرَ الإنجيل والصُّحْفُ قبلَهُ ***وإن حاول الإخفاء للحق ملحد

«بسينا» دعا موسی و و «ساعير» مبعث*** لعيسى ومن« فاران» جاء محمد

فسلْ سِفْرَ سعيا ما هتافهم الذي*** به أمروا أن يهتفوا ويمجدوا

ومن وعَدَ الرحمن موسى ببعثه*** وهيهات للرحمن يُخْلَفُ موعد

وسلّ من عنى عيسى المسيح بقوله*** سأنزله نحو الورى حين أصعد

لعمرك إنّ الحق أبيضُ ناصع*** ولكنّما حظِّ المعاند أسود

أيخلد نحو الأرض متبع الهوى*** وعما قليل في جهنّم يخلد

ولولا الهوى المغوي لما مال عاقل*** عن الحق يوماً كيف والعقل مرشد

ولا كان أصناف النصارى تنصروا*** حديثاً ولا كان اليهود تهوّدوا

أبا القاسم اصدع بالرسالة منذراً*** فسيفك عن هام العدى ليس يغمد

ولا تخش من كيد الأعادي وبأسهم*** فإن علياً بالحسام مقلد

وهل يختشي كيد المضلين من له*** أبو طالب حام وحيدر مسع

على يد الهادي يصول بها وكم*** لوالده الزاكي على أحمد يدُ

وهاجر أبا الزهراء عن أرض مكة*** وخل عليّاً في فراشك يرقد

عليك سلام الله يا خير مرسل*** إليه حديث العز والمجد يسند

حباك إله العرش منه بمعجز*** تسبيد الليالي وهو باقٍ مؤبد

دعوت قريشاً أن يجيئوا بمثله*** فما نطقوا والصمت بالعي يشهد

وكم قد وعاه منهم ذو بلاغة*** فأصبح مبهوتاً يقوم ويقعدُ

وجئت إلى أهل الحجي بشريعة*** صفا لهم من مائها العذب مورد

شريعة حق إن تقادم عهدها*** فمازال فينا حُسْنُها يتجدّد

عليك سلام الله ما قام عابد*** بجنح الدّجى يدعو وما دام معبد

ص: 14

عج على البطحاء إن جئت الحجازا ***وائت فيها من على العيوق جازا

أرح البدن وأنشده ارتجازاً*** سيد البطحاء سدت العربا

يا بن عبدالله في عليائها

قد كسى أم القرى ثوب البها*** وعلت فيه على هام السهى

وبه العالم طراً قد زها*** ومحيّاه أزال الغیهبا

عن سما الآفاق مع أرجائها

شرف الأكوان في ميلاده ***واهتدى الهادون في ارشاده

فکساها من سنا أبراده*** حللاً ترفل فيها حقبا

حلل العصمة من أسوائها

هو شمس والنبيون بدور*** وضياء البدر للشمس ظهور

فهو نور الله مبدا کل نور*** فتعالى شأنه أن ينسبا

هل تقاس الشمس مع أضوائها

صاغه الجبّار من ألطافه*** وکساه من سنا أوصافه

حلل الهيبة من اتحافه*** ولقد كان حبيباً مجتبى

قبل خلق الأرض مع جربائها

خير من في ساحة الكون قطن*** عجزت عن درك معناه الفطن

حيث كان الكنز في كنت بطن*** ولخلق الخلق كان السببا

وهو العلة في إبقائها

هو قلب الكون والخلق القوى*** بل هو الروح لما الكون حوى

ملك عدل على العرش استوى*** قادر في امره لن يغلبا

وله تلجأ في بأسائها

ملك بالفضل ساد العالما*** طوع يمناه المقادير وما

كان في الأرض وما فوق السما*** قطرة من أبحر لن تحسبا

من أياديه لدى إحصائها

ص: 15

وهو العالم بالأشياء عن*** علم كشف لا بأخبار وظن

كشف الأستار عنه ذو المنن ***فأراه ظاهراً ما حجبا

وتجلّى السر من أنبائها

بالعبودية لله ظهر*** وبكنه الفقر لله افتخر

فهو العبد الحقيقي وذر*** فاصطفاه وإليه قربا

وحباه الذات مع أسمائها

لم يشاركه بذات وصفه ***أحد إلا فتى ما عرفه

غیره والله من قد شرفه*** و حباه من لدنه رتبا

والبتول الطهر مع أبنائها

سادة أكرم من أن توصفا ***إذ تعالى فضلهم أن يعرفا

كنهه حتى على الرسل اختفى*** فاغتدى كلّ إليه مشربا

بوئها كالذات مع أفيائها

***

قال الله تعالى شأنه في كتابه المجيد : ﴿اللهُ نُورُ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كمشكوة فيها مِصْباحُ المِصْباحُ فِي زُجَاجَةُ الزُّجاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نار نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ويَضْرِبُ اللهُ الأَمثالَ لِلنَّاسِ وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(1).

جاء في تفسير نور الثقلين(2) قال : حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلج قال : حدثنا الحسين بن أيوب، عن محمد بن غالب ، عن علي بن الحسين بن أيوب، عن الحسين بن سليمان، عن محمد بن مروان ،الذهلي عن الفضيل بن يسار قال : قلت

ص: 16


1- سورة النور : 35
2- 602/3

لأبي عبد الله(عليه السلام) : «الله نور السموات والأرض» قال : كذلك الله عزّ وجل.

قال : قلت :« مثل نوره ».

قال : محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) .

قلت: «كمشكوة».

قال : صدر محمد (صلی الله علیه وآله وسلم).

قلت : «فيها مصباح».

قال: فيه نور العلم يعنى النبوة .

قلت : «المصباح في زجاجة».

قال : علم رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)الى قلب علی(عليه السلام).

قلت:« كأنها كوكب دري» قال لأي شيء تقرأ كأنها ؟

قلت : فكيف جعلت فداك ؟

قال : «كأنه».

قلت : «توقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية».

قال : ذاك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) لايهودي ولا نصراني.

قلت:« يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار» .

قال : يكاد العلم يخرج من فم العالم من آل محمد من قبل أن ينطق به.

قلت : «نور علی نور».

قال الامام في أثر الامام.

ومن هنا نعلم أن نور محم (صلی الله علیه وآله وسلم)هو فرع نور الله المنور السماوات والأرض، وقد خلقه الله تعالى قبل خلقهما : إذ به أشرقت الأرض، وتزينت السماء. واخضرت الأرض في يوم مولده (صلی الله علیه وآله وسلم)و أخصبت الوديان وجرت الأنهار ماءً عذباً زلالاً.

نعم، أشرقت الأرض بنور ربها الذي تجلى بمولد نبيه الكريم منقذ البشرية،

ص: 17

ومحرر الانسانية من الذل والهوان ، ومن الكبت والحرمان، إلى عالم رحيب فسيح،

عالم العدالة والسلام حيث الحياة السعيدة والمجد الخالد.

جاء في الحديث عن صادق آل محمد، عن أبيه، عن جده، عن أبيه ،عن امام المتقين أمير المؤمنين عليه وعليهم أفضل التحية والصلاة والسلام أنّه قال: إنّ الله تبارك وتعالى خلق نور محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)قبل أن يخلق السموات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار، وقبل أن يخلق آدم ونوحاً وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى و عیسی و داود وسليمان عليهم السلام، وقبل كل من قال الله عزّ وجل في قوله :﴿ ووهبنا له اسحاق ويعقوب﴾ إلى قوله تعالى : ﴿وهديناهم الى صراط مستقيم﴾ ، وقبل أن يخلق الأنبياء كلهم بأربعمائة ألف سنة وأربع وعشرين ألف سنة، وخلق الله عزّ وجل معه اثني عشر حجاباً : حجاب القدرة ، وحجاب العظمة، وحجاب المنة، وحجاب الرحمة، وحجاب السعادة، وحجاب الكرامة ، وحجاب المنزلة، وحجاب الهداية، وحجاب النبوة ، وحجاب الرفعة، وحجاب الهيبة، وحجاب الشفاعة. ثم حبس نور محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) في حجاب القدرة اثني عشر ألف سنة وهو يقول: سبحان ربي الأعلى ، وفي حجاب العظمة إحدى عشر ألف سنة وهو يقول: سبحان عالم السر، وفي حجاب المنة عشرة آلاف سنة وهو يقول: سبحان من هو دائم لا يلهو، وفي حجاب الرحمة تسعة آلاف سنة وهو يقول: سبحان الرفيع الأعلى، وفي حجاب السعادة ثمانية آلاف وهو يقول: سبحان من هو دائم لايسهو وفي حجاب الكرامة سبعة آلاف سنة وهو يقول: سبحان من هو غني لا يفتقر ، وفي حجاب المنزلة سبعة آلاف سنة وهو يقول : سبحان العلي الكريم . (سبحان العليم الكريم)، وفي حجاب الهداية خمسة آلاف سنة، وهو يقول: سبحان ذي العرش العظيم. (سبحان ربّ العرش العظيم)، وفي حجاب النبوة أربعة آلاف سنة، وهو يقول: سبحان رب العزة عما يصفون، وفي حجاب الرفعة ثلاثة آلاف سنة وهو يقول سبحان ذي الملك والملكوت ، وفي

ص: 18

حجاب الهيبة ألفي سنة وهو يقول : سبحان الله وبحمده ، وفى حجاب الشفاعة ألف سنة ، وهو يقول : سبحان ربي العظيم وبحمده ، ثم أظهر اسمه على اللوح فكان على اللوح منوراً أربعة آلاف سنة، الى أن أظهره على العرش فكان على ساق العرش مثبتاً سبعة آلاف سنة، الى أن وضعه الله عزّ وجل في صلب آدم(عليه السلام) ثم نقله من صلب آدم(عليه السلام)إلى صلب نوح(عليه السلام)، ثم من صلب إلى صلب، (ثم جعل يخرجه من صلب الى صلب)حتى أخرجه الله عزّ وجل من صلب عبدالله بن عبدالمطلب ، فأكرمه بست كرامات ألبسه قميص الرضا، وردّاه برداء الهيبة، وتوجه بتاج الهداية ، وألبسه سراويل المعرفة، وجعل تكته تكة المحبة يشدّ بها سراويله، وجعل نعله نعل الخوف، وناوله عصا المنزلة، ثم قال : يا محمد اذهب الى الناس فقل لهم : قولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله . وكان أصل ذلك القميص من ستة أشياء : قامته من الياقوت، وكمّاه من اللؤلو ، ودخريصه من البلور الأصفر، وإبطاه من الزبرجد، وجريانه من المرجان الأحمر، وجيبه من نور الرب جل جلاله ، فقبل الله عزّ وجل توبة آدم(عليه السلام) بذلك القميص، وردّ خاتم سلیمان(عليه السلام) به ، ورد يوسف

(عليه السلام)الى يعقوب به ، ونجى يونس (عليه السلام)من بطن الحوت ،به، وكذلك سائر الأنبياء(عليهم السلام)أنجاهم من المحن به، ولم يكن ذلك القميص إلا قميص محمد (صلی الله علیه وآله وسلم).

قال الحكيم الفرطوسي رضوان الله تعالى عليه، وقدس الله نفسه الزكية، وطيب الله تربته الشريفة المرضية ، وحشره الله مع محمد وآله الأطهار : في بيان معنی هذا الحديث الشريف عن طريق الشعر ، قال ولنعم ما قال :

وتجلّى عن جابر خير نص*** قد رواه عن خاتم الأنبياء

قلت يوماً لأحمد أي شيء*** خلق الله ساعة الإبتداء

قال نوري ولم يكن قبل نوري*** أي خلقٍ من سائر الأشياء

خلق الله أجمع الخير فيه ***واصطفاه للخلق خير اصطفاء

فتبدى في المشرقين مضيئاً*** كسراج في الليلة الظلماء

ص: 19

وتلقاه آدم فتجلّى ***مشرقاً في جبينه الوضاء

وتزكى في خير صلب لشيث*** بانتقال لأكرم الأصفياء

وتبنّى أعف صلب وأزكى*** رحم أبي وأمي ضيائي

فتبلجت مشرقاً للبرايا*** في الحياة الدنيا بأسنى بهاء

وأنا المصطفى محمد والمبعوث*** منه وخاتم الأنبياء

وجاء في حديث :أنّه لما كان ليلة الجمعة عشية عرفة وكان عبدالله قد خرج هووأخوته وأبوه فبينما هم سائرون واذا بنهر عظيم فيه ماء زلال، ولم يكن قبل ذلك اليوم هناك ماء، فبقي عبد المطلب وأولاده متعجبين، فبينما عبدالله كذلك متعجباً متفكراً ولم يجد طريقاً وقد انقطع عليه الجادة ، إذ نودي :يا عبدالله اشرب من هذا النهرفشرب منه ، وإذا هو أبرد من الثلج وأحلى من العسل، وأزكى من المسك ، فنهض مسرعاً إلى منزله فرأته آمنة طائشاً ، فقالت : ما بك صرف الله عنك الطوارق ؟

فقال لها : قومي فتطهري وتطيبي وتعطري واغتسلي فعسى الله أن يستودعك هذا النور، فقامت وفعلت ما ،أمرها، ثم جاءت إليه فغشيها تلك الليلة المباركة، فحملت برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فانتقل النور من وجه عبد الله في ساعته الى آمنة بنت وهب، قالت آمنة(عليها السلام) : لما دنا مني ومسني أضاء منه نور ساطع وضياء لامع، فأنارت منه السماء والأرض، فأدهشني ما رأيت، وكانت آمنة(عليهاالسلام) بعد ذلك يرى النور في وجهها كأنه المرآة المضيئة.

وحديث ثالث : رواه صاحب البحار في بحاره(1)قال :لما ولد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)قال أبو طالب لفاطمة بنت اسد: أي شيء خبرتك به آمنة(عليها السلام) انها رأت حين ولدت هذا المولود ؟

قالت :خبرتني أنها لما ولدته خرج معتمداً على يده اليمنى رافعاً رأسه إلى

ص: 20


1- 297/15

السماء يصعد منه نور في الهواء حتى ملأ الافق ، فقال لها أبو طالب استري هذا ولا

تعلمي به أحداً ، أما إنك ستلدين مولوداً يكون وصيه.

وجاء في بعض الأحاديث : أنه لما ولد النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)نظرت أمه آمنة (عليها السلام) الى وجه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فإذا هو مكتحل العينين، منقط الجبين والذقن، وأشرق من وجنتی النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)نور ساطع في ظلمة الليل، ومرّ في سقف البيت وشق السقف، ورأت آمنة(عليه السلام) من نور وجهه كل منظر حسن وقصر بالحرم، وسقط في تلك الليلة أربعة عشرة شرفة من إيوان كسرى واخمدت في تلك الليلة نيران ،فارس وأبرق في تلك الليلة برق ساطع في كل بيت وغرفة في الدنيا ممن قد علم تعالى وسبق في علمه أنهم يؤمنون بالله ورسوله محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)في بقاع الكفر بأمر الله تعالى، وما بقي في مشارق الأرض ومغاربها صنم ولا وثن إلا وخرّت على وجوهها ساقطة على جباهها خاشعة ، وذلك كله إجلالاً للنبي (صلی الله علیه وآله وسلم).

قال الرواة : فعند ذلك أخذت الحوريات محمدا (صلی الله علیه وآله وسلم)، ولفنّه في منديل رومي ووضعنه بين يدي آمنة ورجعن إلى الجنة يبشرن الملائكة في السماوات بمولد النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ، ونزل جبرئيل وميكائيل(عليهم السلام) ، ودخلا البيت على صورة الآدميين وهما شابان، ومع جبرئيل طشت من ذهب ومع ميكائيل إبريق من عقيق أحمر ، فأخذ جبرئیل(عليه السلام) رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وغسله وميكائيل يصب عليه الماء فغسلاه، وآمنة في زاوية البيت قاعدة فزعة مبهوتة . فقال لها جبرئيل : يا آمنة لا نغسله من النجاسة فإنّه لم يكن نجساً ولكن نغسله من ظلمات بطنك، فلما فرغوا من غسله وكحلوا عينيه نقطوا جبينه بورقة كانت معهم من مسك وعنبر وكافور مسحوق بعضه ببعض فذروه فوق رأسه (صلی الله علیه وآله وسلم) قالت آمنة سلام الله عليها وسمعت جلبة وكلاماً على الباب ، فذهب جبرئيل إلى الباب فنظر ورجع إلى البيت وقال : ملائكة سبع سماوات يريدون السلام على النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)، فاتسع البيت ودخلوا عليه(صلی الله علیه وآله وسلم)موكب بعد موكب وسلموا عليه ، وقالوا : السلام عليك يا محمد السلام عليك يا محمود السلام عليك

ص: 21

يا أحمد ، السلام عليك يا حامد.

قالوا : فلما مضى ملائكة الله في السلام عليه(صلی الله علیه وآله وسلم)، وقف عبدالمطلب على باب بيت الله الحرام والنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)على ساعده وأنشأ يقول:

الحمد لله الذي أعطاني ***هذا الغلام طيب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان*** أعيذه بالبيت ذي الأركان

حتی أراه بالغ البنيان*** أعيذه من شر ذي سنان

فلمّا مضى من الليل ثلثه أمر الله تعالى جبرئيل أن يحمل من الجنة أربعة أعلام فحمل جبرئيل الأعلام ونزل الى الدنيا ، ونصب علماً أخضر على جبل قاف مكتوب عليه بالبياض سطران: لا إله إلا الله محمد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، ونصب علماً آخر على جبل أبي قبيس له ذؤابتان مكتوب على واحدة منهما : شهادة أن لا إله إلا الله ، وفي الثانية : لا دين إلا دين محمد بن عبد الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، ونصب علماً آخر على سطح بيت الله الحرام له ذؤابتان مكتوب على واحدة منهما : طوبى لمن آمن بالله على الأخرى : الويل لمن كفر به وردّ عليه حرفاً مما يأتي به من عند ربه، ونصب علماً آخر على سطح بيت المقدس وهو أبيض عليه خطان مكتوبان بالسواد. الأول : لا غالب إلا الله ، والثاني: النصر الله ولمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم).

وهذا الحديث الشريف في معاجز ولادة الرسول يعرفنا ما لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من العظمة والرفعة والمقام المحمود عند الله تعالى، وكذلك ما يحرزه دينه من النصر والغلبة على كافة الأديان : فمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم) نور، و دین محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)نور ليس بشرقي ولا غربي، قد أخرج الله به العرب من غياهب الجهل والضلالة إلى العلم والمعرفة والهداية من الشرك وعبادة الأوثان إلى عبادة الواحد الديان، من خمول الذكر وغموض الشأن إلى النباهة والرجوع إلى الضمير والوجدان.

يقول المستشرق الانكليزي توماس كارليل عن حال العرب قبل أن يشرق نور محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)على هذه الأرض : عاش العرب دهوراً خاملي الذكر غامضي الشأن

ص: 22

أناساً ذوي مناقب وصفات كبيرة ينتظرون - من حيث لا يشعرون - اليوم الذي يشاد فيه بذكرهم ويطير في الآفاق صيتهم ، ويرتفع الى عنان السماء صوتهم ؛ بين هولاء

، العرب ولد الرجل «محمد»(صلی الله علیه وآله وسلم)عام 570 من الميلاد، ولوحظ عليه منذ فتائه أنه كان شاباً مفكراً ، وقد سماه رفقاؤه الأمين - رجل الصدق والوفاء الصدوق في أفعاله وأقواله وأفكاره ، إلى أن قال : ولقد أخرج «الله» العرب بالاسلام من الظلمات إلى النور وأحيا به من العرب أمة هامدة وأرضاً هامدة، وهل كانت إلا فئة خاملة فقيرة تجوب الفلاة ، لا يسمع لها صوت ولا تمس منها حركة فأرسل الله لهم نبياً بكلمة من عنده ورسالة من قبله ؛ فإذا الغموض قد استحال شهرة ، والخمول نباهة، والضعة رفعة، والضعف قوة والشرارة حريقاً ؛ وسع نوره الأنحاء، وعمّ ضوؤه الأرجاء، وعقد شعاعه الشمال بالجنوب والمشرق بالمغرب ، وما هو إلّا قرن بعد هذا الحادث حتى أصبح لدولة العرب رجل في الهند ورجل في الأندلس واشرقت دولة الاسلام حقباً عدة ودهوراً ممتدة بنور الفضل والنبل والمروءة والنجدة ورونق الحق والهدى على نصف المعمورة، وكذلك الايمان العظيم وهو مبعث الحياة ومنبع القوة، وما يزال للأمة رقي في درجات الفضل وتعريج إلى ذرى المجد مادام مذهبها اليقين ومنهاجها الايمان.

إلى أن قال : ولطالما قلت إن الرجل العظيم كالشهاب من السماء وسائر الناس في انتظاره.

ويقول توستوي: لا ريب أن هذا النبي من كبار الرجال المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة صادقة جليلة ويكفيه فخراً أنّه هدى أمة برمتها إلى نور الحق .

نعم، هذا هو محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) الذي رفع شأن المسلمين بشريعته السمحاء وأخلاقه النبيلة وشاء الله تعالى لهذا الاسلام الحنيف التحليق على أجواء المعمورة والخلود. ولنعم ما قيل في ذلك :

ص: 23

حلق فأنت الكوكب السيار*** واسطع فهديك بالسنا موار

وابعث أريجك في الوجود فأنت في*** حقل السعادة روضة معطار

واخلد بأعماق الحياة فلن يرى*** لسواك من نظم الضلال قرار

واصمد أمام الحادثات فإنّها ***شبة أمام حقيقة تنهار

أفهل يعيش الليل في أفق به*** ينساب من زاهي هداك نهار

واصرخ فوعيك ثورة فكرية ***واقهر فصانع مجدك القهار

واحكم فنهجك عادل لا ينطوي ***في حكمه ضرر ولا إضرار

لا ترهبن قدراً فما هو نافذ*** (ما شئت لا ما شاءت الأقدار)

قد أبدعتك يد السماء وأين من*** صنع السماء ما يصنع الأشرار

موجت أبعاد الحياة فرق من ***إشراق مجدك سؤدد وفخار

وأنرت آفاق الوجود لتزدهي*** بسنا هداك وتشرق الأفكار

فصنعت تاريخاً وشدت حضارة ***تزهو بوعي نظامها الأعصار

ورفعت شأن المسلمين بشرعة*** سمحاء تدرك عندها الأوطار

نعموا بروعتها ونالوا مجدها ***وبظلها نحو التقدم ساروا

صقلت ضمائرهم فأشرق منهم ***وعي به دنيا الرشاد تنار

وجلت فوارقهم فرف عليهم*** علم التضامن وانطوى الاعسار

سيان في ظل الاخاء مهاجر*** فيما يبت السعد والأنصار

هم يؤثرون ولو تكون خصاصة*** فيهم فروح نظامهم إيثار

ويلازمون الصدق وهو فضيلة*** ويجانبون الكذب وهو شنار

ويحققون الوعد لا يزري بهم*** خلف إذا وعدوا ولا إنكار

ويوطدون العهد لا يسري له*** نكث وان عهدت به الكفار

ويؤاثرون السلم إن جنحوا له*** حذراً ولم تضرم لحرب نار

ويعززون العدل في دستوره*** ووعا وإن عزت به الأغيار

ص: 24

ويحالفون الحق لا يغريهم*** بسوى الهدى فلس ولا دينار

هي تلك أحكام الكتاب وهل ترى*** لسواه تعزى هذه الآثار

سطعت بدنيا المسلمين وشع من*** إشراقها لذوي العقول منار

في حين كان الدين محور سيرهم*** وعليه أرحية الأمور تدار

إن ينههم تركوا وإن يأمرهم*** فعلوا ولم يقسرهمُ إجبار

ألفوه سر صلاحهم فتقيّدوا ***بنظامه نظامه وهم بذا أحرار

واليوم تاهوا عن هداه يضلّهم*** جهل يبت ظلامة استعمار

وتنوعت سبل الضلال فنهج ذا ***يمنى الطريق ونهج ذاك يسار

زعموا التدين - وهو فجر تقدم - رجعيةً تشقى بها الأبرار

وهداه أفيون الشعوب يصدها ***عن ثورة تسمو بها الثوار

كنّها دعوى الجهول يردها***وعی لأسرار الهدى نوار

الدين قانون السعادة قد سرى***نحو التطور ركبه السيار

والدین نبراس العقول ينيرها ***بسنا الرشاد فتنجلي الأسرار

صنعته ألطاف السماء وأين من ***صنع الهدى ما يخبط الأغرار

فجدير بنا ونحن نرفل في حلل الهناء والسعادة والسرور والبهجة في ظلال هذه الذكرى - ذكرى ولادة الرسول العظيم (صلی الله علیه وآله وسلم) - أن نتمسك بقانون سعادتنا ونبراس عقولنا وصاقل ضمائرنا ومحور سيرنا، دين الله القويم وصراطه المستقيم الاسلام الخالد .

جدير بنا أن نعبد الله تعالى حق ،عبادته، وأن نكون ممتثلين لأوامره متبعين طاعة رسوله الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم)وأوليائه المنتجبين، نابذين وراء ظهورنا عبادة الطاغوت وعبادة الشهوات، وجدير بنا أن نكون متحابين في الله إخوة في دينه، نابذين وراء ضهورنا كل الأمور التي توسع رقعة الخلاف الشائن الذي يمزق صفوفنا ويهدم

مروءتنا ويبعثر أعمالنا ، ويجعلها غير خالصة لوجه الله الكريم تعالى شأنه .

ص: 25

جدير بنا أن نعتصم بحبل الله تعالى فنجعل بدل الخلاف الوئام والألفة ، وبدل البغضاء والشنئان المحبة والصفاء، ناظرين بعين الاعتبار إلى ذلك النور الذي جاء به محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)ذلك النور الهادي وتلك النعمة المتمثلة في قول الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾

ولا شك أن النعمة في الآية المباركة هي نعمة الاسلام الذي أوجب علينا أن نكون ملتزمين بأوامره التي من جملتها الأمر بالمحبة والألفة ونبذ التفرقة.

فتراه يأمر المسلمين صارخاً فيهم أن يتحدوا، ويتكاتفوا صفاً واحداً كأنهم بنیان مرصوص يشد بعضه بعضاً .

هذه اخوة المؤمنين في الدنيا . وهناك اخوة أبدية بعد الموت في عالم الخلود(أي في الآخرة)﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾. فمن لم يدخل في هذه الاخوة ، أخوة الدين والاسلام، فليس من الايمان في شيء، وان الايمان لم يتغلغل في أحشائه ؛ فعن أبي عبد الله(عليه السلام) أنه قال : المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إن اشتكى شيئاً وجد ألم ذلك في سائر جسده، في سائر جسده، وأرواحهم واحدة، وان روح المؤمن لأشدّ اتصالاً بالله من اتصال شعاع الشمس بها ؛ ومعنى ذلك أنّ المؤمنين يتألمون لبعضهم ويعملون ساهرين لدفع مكروه أخيهم وإسعافه وإزاحة الكربة عنه .

وجاء في حديث آخر عن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال :المؤمن أخو المؤمن ،عينه ودليله ،لايخونه ولا يظلمه ولا يغشّه ولا يعده عدة فيخلفه .

ان للإيمان حيوية تربط نفوس المؤمنين بعضها ببعض وتجعلهم كنفس واحدة ، وان هذه الرابطة هي الرابطة الأخوية الاسلامية التي لا يضاهيها أي رابطة أخرى ، هي رابطة معنوية رفيعة أودعها الله العلماء من خلقه .

ص: 26

نسأل الله عزّ وجل أن يجعلنا جميعاً متآخين في سبيله ومرضاته لنصرة دينه وإحياء سنته ، وإصلاح ما فسد من ديننا ودنيانا، ويعجل لنا بنصره حيث قال عز من قائل : ﴿كان حقاً علينا نصر المؤمنين﴾ .

اللهمّ اجعلنا من جندك فإن جندك الغالبون، ومن حزبك فإن حزبك هم المفلحون، ومن أوليائك فإن أولياءك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ونسال الله تعالى بحق الحبيب محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)و بحق الصلاة عليه أن يجعلنا ممن يهتدي بهديه ويستنير بنور طلعته الغراء المباركة، وأن يجعلنا ممن يرجو شفاعته لكُل ما ينزل بنا من الأهوال.

قال شرف الدين أبو عبدالله محمد البوصيري في مدح الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) ولنعم ما قال :

مُحمدٌ سَيِّدُ الكَوْنِينِ والثَّقَلَينِ*** والفريقين مِنْ عُربِ ومن عَجَمِ

نَبيّنا الآمِرُ النّاهِي فلا أحَدٌ ***أبَرٌ في قَوْلِ لَا مِنْهُ وَلَا نَعمِ

هُوَ الْحبيبُ الَّذِي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ ***لِكُلّ هَوْلٍ مِنْ الْأَهوَالِ مُقْتَحَمِ

دعا إلى اللهِ فَالمُسَتَمْسِكُونَ به ***مُسْتَمْسِكُونَ بَحبْلِ غير منفصم

فَاقَ النَّبِيِّينَ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ ***ولم يُدَانُوهُ في عِلْمٍ وَلا كَرمِ

وَكُلُهُمْ مِنْ رَسولِ الله مُلتمس*** غرفاً مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفاً مِنَ الدِيم

وَواقِفُونَ لَدَيْهِ عندَ حَدّهم ***مِنْ نُقطة العِلْمِ أو من شكلةِ الحِكمِ

ادع ما ادّعَتْهُ النصارى في نبيهم*** واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتِكم

وانسُبْ إلى ذاتِهِ مَا شئتَ من شَرفٍ*** وانْسُبْ الى قدرهِ ما شئتَ من عِظَمِ

فَإِنَّ فضلَ رسُولِ اللهِ لَيْسَ له ***حَدُّ فيعُربَ عَنْهُ نَاطِقٌ بفَمِ

لَوْ ناسَبَتْ قَدْرَهُ آيَاتُهُ عِظماً ***أحْيَا اسْمُهُ حِينَ يُدْعَى دَارِسَ الرّممَ

لَمْ يمْتحَنَّا بما تعيّا العُقُولُ به ***حِرْصاً علَيْنا فَلَمْ نرتب ولم نهم

أعيَا الوَرَى فَهُمُ مَعَناهُ فليْسَ يُرَى ***للقُربِ والبُعدِ غيرُ مُنْفَحِم

ص: 27

كَالشَّمسِ تظهرُ للعَيْنَينِ مِنْ بُعد*** صَغَيرةً وتكلُّ الطرْفَ مِنْ أمَمِ

وكَيْفَ يُدرِكُ في الدُّنيا حقيقتَهُ ***قَوْمٌ نَيام تسلّوا عَنْهُ بالحُلُم

فَمبَلغُ الْعِلم فيه أَنَّهُ بشرٌ ***وأنّهُ خيرُ خَلقِ الله كُلّهم

وَكُلُّ اي أتَى الرُّسُلُ الكِرَامُ بِهَا*** فَإِنَّمَا اتّصلَتْ مِن نُورِهِ بِهِم

فَإِنّهُ شَمْسُ فَضْلِ هُمْ كواكبها ***يُظهرنَ أنوارَهَا لِلنَّاسِ في الظُّلَمِ

أكرم بخَلْق نبي زَانَهُ خُلُقٌ*** بالحُسْنِ مُشَتَمَل بالبشر مُتَّسِم

كَالزَّهرِ في ترفِ والبَدرِ في شَرَفٍ*** والبَحْرِ في كرَمِ والدِّهْرِ في هَمَمِ

كَأنّهُ وَهُوَ فردُ مِن جَلَالَتِهِ*** في عَسْكَرِ حِينَ تَلْقاهُ وفِي حَشَمِ

كَأنّما اللُّؤْلُو الْمَكنُونُ في صَدَفٍ ***من معدني منْطِقٍ مِنْهُ ومبتسم

لأطيبَ يَعْدِلُ تُرْباً ضمَّ أَعْظُمَهُ*** طُوبَى لمنتشقٍ مِنْهُ ومُلْتيم

ويذكرني يا شيعة آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) هذا البيت الأخير من هذه القصيدة بالأبيات المنسوبة الى الصديقة فاطمة الزهراء وذلك عندما وقفت على قبر أبيها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وأخذت قبضة من تراب قبره (صلی الله علیه وآله وسلم) وشمتها وقبلتها وأجهشت بالبكاء والعويل وأنشأت تقول

: ماذا على من شمَّ تربة أحمد*** أن لا يشم مدى الزمان غواليا

قل للمغيب تحت أطباق الثرى*** إن كنت تسمع صرختي وندائيا

صُبَّت عليَّ مصائب لو أنّها ***صُبَّت على الأيام صرن لياليا

قد كنت ذات حمى بظل محمد*** لا أخش من ضيم وكان حمىً ليا

واليوم أخضع للذليل وأتقي*** ضيمي وأدفع ظالمي بردائيا

فإذا بكت قمرية في ليلها*** شجناً على غصن بكيت صباحيا

فلأجعلن الحزن بعدك مؤنسي*** ولأجعلن الدمع فيك وشاحيا

ومن هنا نعلم أن الصديقة سلام الله عليها ما فرحت يوماً بعد وفاة أبيها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فهي المحزونة في شهر ربيع ، ولهذا ينبغي لشيعتها ومحبيها ملازمة

ص: 28

الحزن على رسول الله اقتداءً بها(عليهم السلام).

إذ بكت شجواً أباها*** ببكا أشجي عداها

لم تفتر عن بكاها ***في ضحاها ودجاها

فاجعل الحزن شعارا ***وابك ليلاً ونهارا

من جوى أوقد ناراً*** واترك الدمع بحارا

دمعي كمثل الغيث جار والقلب نار ***والبال مني مندهش واضرب الأفكار

ابحال الموالي ما برح بالحزن ذايب*** والعمر كله ينقضي كله مصائب

أحزان منها أيعود رأسى الطفل شايب ***يا ناس مدري ها لفرح من يا سبب صار لكن تماني والتماني كيفه اتفيد*** اللي انجرح قلبه وجرحه ما ابرح ایزید

ولا الذي عنده جنازه يفرح ابعيد ***المحزون حتى لو ضحك قلبه كما النار

ون بالربيع الناس تفرح دون لشهور***ما فرح وعندي الشهر چنه شهرعاشور

سيد العالم جثته انطمت بلقبور*** ورحنا يتاما عقب موته وظلمت الدار

الميت أهله ينصبوا لجله المآتم ***ایام کلمن ينتحب والدمع ساجم

افرح وبجنازة أبوها اتنوح فاطم ***من غير والي والدمع يجري كلمطار

وين الموالي بالربيع ايشوف زينه ***وينسى البتوله اللي ضلعها كاسرينه

وجنينها اللى في حشاها امسقطينه*** والسبب عصرتها البتوله بين لجدار

والله فلا أهني ابزاد واتزفر وعدد ***وتعيّد العالم فلا والله اعيد

وبها الشهر بنت النبي ملطومة الخد*** مدفون أبوها وبيتها محروق بالنار

ون كان قلبي ينشرح والله عجايب*** وانسى ابحبل تكتيف فلال الكتائب

وعلى البتول بلا إذن طبوا الأجانب*** من بعد أبوها وحاسره الزهرا بلا اخمار

أم الحسن هيهات تفرح في شهرها ***تنعى أبوها في العزى وتبكي عصرها

تفرح ومهتوك من الأعدا خدرها ***ملطوم خدها وفي صدرها ارتكز مسمار ويذكرني حزن الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام)على أبيها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)

ص: 29

بحزن آخر وهو حزن ابنتها الصديقة الصغرى(عليها السلام)على أخيها سيد الشهداء أبي عبدالله الحسين(عليه السلام)، فإنها سلام الله عليها ما برحت بعد قتل الحسين (عليه السلام)في عزاء الله مستمر ،ويحق لها ذلك، كيف لا وقد نظرت(عليهم السلام) إلى جسده الشريف وأجساد من كان معه من إخوته وبني عمومته مجزين على بوغاء كربلاء.

قال صاحب المناقب ومحمّد بن أبي طالب : لما قتل الحسين عليه الصلاة والسلام أقبل فرسه وقد عدا من بين أيديهم أن يؤخذ، فوضع ناصيته في دم الحسين عليه الصلاة والسلام ثم أقبل يركض نحو خيمة النساء وهو يصهل ويضرب برأسه الأرض عند الخيمة حتى مات فلما نظرت أخوات الحسين عليه الصلاة والسلام وبناته وأهله إلى الفرس ليس عليه أحد رفعن أصواتهن بالبكاء والعويل . ووضعت أم كلثوم يدها على رأسها ونادت وا محمداه، واجدده، وانبياه ، وا أبا القاسماه، واعلياه وا جعفراه، واحمزتاه وا حسناه، هذا حسين بالعراء صريع بكربلاء، مجزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والردا ، ثم غشي عليها.

وفي« رواية»: انّ السيدة زينب سلام الله عليها لما نظرت إلى الجسد الطاهر جعلت تندب الحسين عليه الصلاة والسلام وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب: يا محمداه، صلّى عليك مليك السما، هذا حسينك مرمل بالدما، مقطع الاعضاء وبناتك سبايا ؛الى الله المشتكى، والى محمّد المصطفى، والى علي المرتضى، والى فاطمة الزهراء ، والى حمزة سيدالشهداء ، يا محمداه ، هذا حسين بالعرى تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا . واحزناه واكرباه عليك يا أبا عبدالله : اليوم مات جدي رسول الله . يا أصحاب محمّد هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا.

وجاء في بعض الروايات: وا محمداه، بناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفى عليهم ريح

الصبا، وهذا حسين محزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والرداء، بأبي من أضحى عسكره يوم الاثنين نهباً ، بأبي من فسطاطه مقطع العرى، بأبي من لا غائب فيرتجى، ولا جريح فيداوى، بأبي من نفسي له الفدا، بأبي المهموم حتى

ص: 30

قضى ، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدما، بأبي من جده رسول إله السما، بأبي من هو سبط نبي الهدى بأبي ابن محمد المصطفى وابن خديجةالكبرى وابن علي المرتضى وابن فاطمة الزهراء بأبي ابن من ردّت إليه الشمس حتى صلى.

قال : فأبكت والله كل عدو وصديق. ثم إنّ السيدة الجليلة سكينة بنت الحسين عليه الصلاة والسلام اعتنقت جسد أبيها فاجتمع عدة من الأعراب حتى جروها عنه .وتركت تلك الجثث الطواهر ومن بينها جسد الامام الحسين(عليه السلام)وهو يسطع نوراً على رمضاء كربلاء بلا ،دفن حتى رحل ابن سعد لعنه الله عن كربلاء، خرج قوم من بني أسد كانوا نزولاً بالغاضرية إلى ذلك الجسد الطاهر وأجساد الشهداء فصلوا على تلك الجئت الطواهر ودفنوها.

قال المحدّث المازندراني قدس الله نفسه الزكية نقلاً عن المحدث الفقيه السيد نعمة الله الجزائري رضوان الله تعالى عليه عن عبدالله الأسدي ، أنه قال : لما قتل الحسين بن علي الله وكافة من معه من ولده وإخوته وبني عمومته عليه وعليهم السلام أجمعين، وأراد ابن سعد لعنه الله التوجه بالسبايا والرؤوس إلى الكوفة أنفذ في ذلك إليه ابن زياد لعنه الله أن وارِ أجساد أصحابك ودع جسد الحسين وأصحابه . فأنفذ إليه لعنه الله أنّه لا يسعني دفن جميع قتلانا لأنّ عدة المقتولين مائة وخمسون ألفاً ، فأنفذ إليه أن وار الرؤساء والأعيان واترك السواد منهم . قال : فوارى ابن سعد لعنه الله من أراد مواراته وارتحل بالسبايا والحريم إلى الكوفة، وخلف تلك الجثث الزكية تصهرها الشموس وتسترها أذيال الرياح ثلاثة أيام، وكان إلى جنب العلقمي حي من بني أسد فتمشت نساء ذلك الحي إلى المعركة فرأت جثث أولاد الرسول ، وأفلاذ حشاشة الزهراء البتول وأولاد علي فحل الفحول ، وجثث أنصارهم في تلك الأصحار وهاتيك القفار تشخب الدماء من جراحاتهم كأنهم قتلوا في تلک الساعة، فتداخل النساء من ذلك تمام العجب فابتدرن إلى حيّهن وقلن

ص: 31

لأزواجهن ما شاهدن ثم قلن لهم : بماذا تعتذرون من رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء عليهم الصلاة والسلام إذا وردتم عليهم حيث إنكم لم تنصروا أولاده

ولا دافعتم عنهم بضربة سيف ولا بطعنة رمح ولا بحذفة سهم ؟ !

فقالوا لهن: إنا نخاف من بني أمية لعنهم الله ، وقد لحقت القوم الذلة وشملتهم الندامة

من حيث لا تنفعهم، وبقيت النسوة يجلن حولهم ويقلن لهم : إن فاتتكم نصرة تلك العصابة النبوية ، والذب عن هاتيك الشنشنة العلوية ، فقوموا الآن إلى أجسادهم الزكية فواروها، فإن اللعين ابن اللعين ابن سعد لعنه الله قد وارى أجساد من أراد مواراته من قومه فبادروا الى مواراة أجساد آل الله وادفعوا عنكم العار، فماذا تقولون إذ قالت لكم العربُ : إنكم لم تنصروا ابن بنت نبيكم مع قربه منكم وحلوله بناديكم ؟! فقوموا واغسلوا بعض الدرن منكم.

قالوا: نفعل ذلك . فأتوا إلى المعركة وصارت همتهم أولاً أن يواروا جسد الحسين عليه الصلاة والسلام من بين تلك الأجساد الطواهر ، ولكنهم ما كانوا يعرفونه لأنها بلا رؤوس وقد غيرتها الشموس ؟ فبينما هم كذلك وإذا بفارس مقبل إليهم ، حتى إذا قاربهم قال : ما بالكم ؟ قالوا : اعلم أنا أتينا لنواري جسد الحسين عليه الصلاة والسلام وجثث ولده وأنصاره ولم نعرف جسد الحسين عليه الصلاة والسلام ، فلما سمع ذلك حنّ وأنّ وجعل ينادي وا أباه وا أبا عبدالله ، ليتك حاضراً وتراني أسيراً ذليلاً ثم قال لهم : أنا أرشدكم إليه فنزل عن جواده وجعل يتخطى القتلى، فوقع نظره على جسد الحسين عليه الصلاة والسلام فاحتضنه وهو يبكي ويقول : وا أبتاه بقتلك قرت عيون الشامتين يا أبتاه، بقتلك فرحت بنو أمية لعنهم الله يا أبتاه، بعدك طال حزننا يا أبتاه، بعدك طال كربنا . ثم إنه مشى قريباً من محل الجسد الطاهر فأهال يسيراً من التراب ، فبان قبر محفور والحد مشقوق، فنزل الجسد الطاهر الشريف ووارها في ذلك المرقد الشريف كما هو الآن.

قال : ثم إنه جعل يقول : هذا فلان وهذا فلان والأسديون يوارونهم، فلما

ص: 32

فرغوا منهم مشى إلى جسد العباس بن علي(عليه السلام)فانحنى عليه وجعل ينتحب ويقول : يا عماه ، ليتك تنظر حال الحرم والبنات وهنّ ينادين واعطشاه واغربتاه. أمر بحفر لحده و واراه هنا ، ثم عطف على جثث الأنصار سلام الله عليهم وحفر حفيرة واحدة وواراهم فيها إلا حبيب بن مظاهر أتى بعض بني عمه ودفنه ناحية عن الشهداء. فلما فرغ الأسديون من مواراتهم قال لهم : هلموا لنواري جثة الحرّ الرياحي(عليه السلام).

قال : فمشى وهم خلفه حتى وقف عليه وقال : أما انت فلقد قبل الله توبتك وزاد في سعادتك ببذلك نفسك أمام ابن رسول الله .

قال : وأراد الأسديون حمله إلى محلّ الشهداء ، فقال(عليه السلام): لا ، بل في مكانه

واروه . فلما فرغوا من مواراة الحر(عليه السلام)، ركب ذلك الفارس جواده فتعلّق الأسديون وقالوا له : بحق من واريتهم بيدك من أنت ؟

فقال عليه الصلاة والسلام: أنا حجة الله عليكم أنا علي بن الحسين، جئت لأواري جسد أبي ومن معه من اخواني وأعمامي وأولاد عمومتي وأنصارهم الذين بذلوا مهجهم ،دونه والآن أنا راجع إلى سجن ابن زياد لعنه الله .

نعم، رجع عزيز الحسين سجاد آل محمد عليهم الصلاة والسلام ، ولقد كانت الحوراء زينب في انتظار عودته، وما أن لاح ذلك النور إليها أقبلت إليه تصعد أنفاسها وهي تقول : أين كنت يا عزيزي ونور عيني وثمرة فؤادي ؟

فقال السجاد(عليه السلام) : الآن فرغت من دفن جسد أبي الحسين عليه الصلاة والسلام ودفن من معه من إخواني وأعمامي وأولاد عمومتي وأنصارهم وإذا بها تنادي واحسيناه واعزيزاه. ثم أخذت تمسح الغبار عن وجهه المبارك وهي تبكي، وكأني بها تقول :

گلبی شعبته ابغيبتك يخليفة لحسين ***واظلم نهاري او مرمرت حالي النساوين غيبتك يا ابني هيجت حزني عليه*** ابها المرض جاي امنين يا باقي البقيه

ص: 33

گلها يا عمّة جيتي امن الغاضريه*** واریت اخوتي ودفنت عباس وحسين

واريت أبويه وجيت بالحسره ولهموم*** والله يا عمه امن العوادي الجسد محطوم والجفن سافي الترب وامغسل بلدموم*** ذاك العزيز اندفن جسمه بغیر تجفين

گالت دفنت اهلك يبعد أهلي يسجاد*** روس او جثث واريتهم لو بس لاجساد

گلها يعمة الروس طرشها ابن زیاد*** ليزيد واحنا من بعدهم غصب ماشين

ماحد تدنى امن الخلگ شگ الهم آرموس*** غيّر محاسنهم يعمه حر لشموس

وادفنتهم كلهم يمحزونة بلا روس*** واما البطل عباس لا راس ولا ايدين

او ليلا تنادي ذاب گلبي يا ابن المجاد*** بالله دخبر عن عضيدك شيح لولاد

ذاك الجمال اشحل عليه من حر لوهاد*** گلها يليلا عن عزيزك لا تسئلين

لا تسئليني عن علي حاله شعبني***بس عاينت حالة عضيدي انهدم ركني

سجيت جثته ابحفرته وازداد حزني ***او كلما شفت طوله ابقبره هملت العين

او كل أم ولد فرت تسائل عن ابنها*** او رملة تهل الدمع واتصيح ابغبنها

العریس گلی اجنازته یا هو دفنها*** الله يكلبي اشتحتمل من فجعة البين

گلها انكسرتى والكسر ربج يجبره*** العريس بيدي نزلت جثته ابگبره

وياه اخوته الموسدین ابفرد حفره*** او گلبي انصدع من شوفته امخضب الجفين اوجته الرباب اتصیح گلبي امن الوجد ذاب**با الله ارد انشدك يا الذي واريت لحباب عن نور عيني احسین قبل اتهيل التراب ***شلت النبل عنه او نزلت الجسد زين

ابيا حال شفت اجسادهم يا نور عيني ***گلها ابعری گالت انشدك عن جنيني

شفته ابعينك گال بس لا تشعييني*** واریت عبد الله الرضيع ابحفرة احسين

صاحت يبو امحمد ترى حجيك شعبني*** ابصدر الشهيد احسين كيف اموسد ابنی يا ليت ذاك الكبر وياهم يضمني*** وشلي ابحياتي نقصوا عيشي هلثمنين

ص: 34

الجلسة الثانية : مولد الهدى

اشارة

وُلِدَ الهدَى فَالكائنات ضياءُ*** وَفَمُ الزمان تبسم وسَناءُ

الروحُ والملأ الملائك حَوْلَه*** للدين والدنيا به بشراءُ

وَالعَرشُ يَزْهُو والحظيرة تزدهي*** والمنتهى والسدرة العضماء

وَحَدِيقَةُ الفَرْقَانِ ضَاحِكَةُ الرَّبَى ***بالترجمانِ شذِيَّةٌ غناءُ

والوحيُ يَقْطرُ سَلسَلاً مِنْ سَلسَلٍ ***وَاللوْحُ والقَلمُ البَديعُ رُوَاءُ

يا خيرَ من جَاءَ الوجود تحية*** مِنْ مُرسَلينَ إلى الهدَى بك جاؤوا

بكَ بَشَّر الله السَّماءَ فزينّت*** وتضوّعَتْ مِسْكاً بِكَ الغبرَاءُ

وَبَدا محُيَّاكَ الَّذي قسماتُهُ*** حَقٌّ وغُرَتهُ هُدى وَحَياءُ

* **

قال الامام العارف نابغة الدهر وفيلسوف الزمن المولى الحاج محمد حسين الأصفهاني (قدس سره)في مولد صاحب الرسالة الكبرى وخاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (صلی الله علیه وآله وسلم)

أشرق كالشمس بغير حاجب*** من مشرق الوجوب نور الواجب

أو من سماء عالم الاسماء*** نور المحمدية البيضاء

لقد تجلّى مبدئ المبادي*** من مصدر الوجود والايجاد

من أمره الماضي على الاشياء ***أو علمه الفعلي والقضائي

رقيقة المشيئة الفعلية ***أو الحقيقة المحمدية

أو نفس نفس النفس الرحماني*** بصورة بديعة المعاني

ص: 35

أو فيضه المقدس الاطلاقي*** فاض على الأنفس والآفاق

او انه حقيقة المثاني ***وعند أهل الحق حق ثاني

لابل هو الحق فمن رآه ***فقد رأى الحق فما أجلاه

إذ مقتضى الفناء في الشهود*** عينية الشاهد والمشهود

هو التجلي التام والمجلى الأتم*** ومالك الحدوث سلطان القدم

أبو العقول والنفوس والبشر*** وقوة القوى وصورة الصور

ولوح لواح مجامع الحكم*** أو قلم الأقلام أو على القلم

أصل الأصول فهو علّة العلل ***عقل العقول فهو أول الأول

حقيقة الحقائق الكلية ***وجوهر الجواهر العلوية

وجوده جمع جوامع الكلم ***والجوهر الفرد الذي لا ينقسم

هو العزيز والشديد في القوى ***والملك الذي على العرش استوى

عرش الهوية المحمدية*** مقامه المحمود بالختمية

هو المدار في المحيط الأعظم***به انتظام عقده المنظم

بل هو في دائرة الدوائر*** مديرها عند أولي البصائر

والملأ الأعلى حريم بابه***والعرش مرقاة إلى جنابه

فاتحة الوجود خاتم الرسل*** جلّ عن الثناء ما شئت فقل

غيب الغيوب سر سر ذاته ***وعالم الأسماء من صفاته

ونسخة اللاهوت نقش جبهته *** بل هي ذات بهجة ببهجته

طلعته الغراء في الظهور*** صرف الظهور فهو صرف النور

ظهوره ظهور ناموس الأزل ***فلا يزال ظاهراً ولم يزل

نوره المحيط بالأنوار*** يحل أن يدرك بالأبصار

كل وجو هو من وجوده ***فكل موجود رهین جوده

وعالم الابداع من ظهوره ***ونشأة التكوين ظلّ نوره

ص: 36

بل هو روح عالم الأرواح ***وجاعل الأرواح في الأشباح

هو حياة عالم الامكان*** محدد الزمان والمكان

وأين منه عاليات الأحرف ***إن هي إلّا نقطة في المصحف

من منسيات فضله المبين ***صحيفة الابداع والتكوين

لوح الوجود کله نقش یده ***وكلّه مداده من مدده

لا بدع من تلك اليد الفياضة*** انّ يد الله ید الافاضة (1)

مولد النور

قال الله تعالى في كتابه المجيد :﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ*«يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾(2)

جاء في تفسير الميزان : أن الله تعالى له نور عام تستنير به السماوات والأرض فتظهر به في الوجود بعد ما لم تكن ظاهرة فيه، ونور خاص يستنير به المؤمنون ويهتدون إليه بأعمالهم الصالحة ، وهو نور المعرفة الذي ستستنير به قلوبهم وأبصارهم يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، فيهتدون به إلى سعادتهم الخالدة، فيشاهدون فيه شهود عيان ما كان في غيب عنهم في الدنيا .

وفي الحديث : ان المؤمن يتقلب في خمسة من النور: مدخله نور ، ومخرجه نور، وعلمه نور ،وكلامه نور، ومصيره يوم القيامة إلى الجنة نور، ويمكن لنا تفسير قوله تعالى :﴿ قد جاءكم من الله نور ﴾بأن المراد به هو نور رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، بل لايبعد أنّه من أفضل المصاديق التي تنطبق عليها الآية .

ص: 37


1- الأنوار القدسية : 15 - 16 .
2- سورة المائدة : 15 ، 16 .

ولقد سطع النور المذكور في الآية يوم الجمعة عند طلوع شمس السابع عشر من شهر ربيع الأول عام الفيل .

وقالت العامّة : أنّه سطع نور محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)على العوالم يوم الاثنين الثاني عشر من الشهر المذكور عام الفيل، ثم اختلفوا ؛ فمن قائل يقول : لليلتين من ربيع الأول، ومن قائل يقول : لعشر ليال خلون منه وذلك لأربع وثلاثين سنة وثمانية أشهر مضت من ملك كسرى أنو شيروان بن قباد، وهو قاتل مزدك والزنادقةومبيرهم،

وهو الذي عنى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)على ما قيل عنه (صلی الله علیه وآله وسلم)انه قال : ولدت في زمان الملك العادل الصالح كسرى ، ولثماني سنين وثمانية أشهر من ملك عمر بن هند ملك العرب.

النسب الشريف

هو محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) بن عبدالله بن شيبة الحمد (عبد المطلب) بن عمرو (هاشم) بن المغيرة (عبد مناف) بن زيد (قصي) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر (وهو قريش) بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن محمد بن عدنان .

وجاء عنه (صلی الله علیه وآله وسلم)أنه قال : إذا بلغ نسبي عدنان فامسكوا.

وجاء عن أم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)قالت : سمعت النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)يقول : معد بن عدنان بن ادد بن زید بن ثرا بن أعراق الثرى. قالت أم سلمة : زيد (هميسع) وثرا (نبت) وأعراق الثرى (إسماعيل بن إبراهيم )قالت ثم قرأ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) : ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ﴾ (1)لا يعلمهم إلا الله تعالى .

وجاء عن شيخنا أبي جعفر بن بابويه عطّر الله رمسه وقدّس الله نفسه أنّه

ص: 38


1- سورة الفرقان : 38 .

قال : عدنان بن أد بن ادد بن يامين بن يسجب بن منحر بن صابوغ بن هميسع.

وفي رواية أخرى : عدنان بن أدد بن اليسع بن زيد بن يقدد بن يقدم الهميسع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام). وقيل : الأصح الذي اعتمده أكثر النسّاب وأصحاب التواريخ في النسب الشريف له(صلی الله علیه وآله وسلم) هو ان عدنان الذي أمر(صلی الله علیه وآله وسلم) بقوله : إذا بلغ نسبي عدنان فامسكوا ، انّ عدنان نفسه هو اد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن إبرهيم(عليه السلام) بن تاريح بن تاخور بن ساروخ بن ارعواء بن فالغ بن عابر (وهو هود(عليه السلام)) بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح(عليه السلام) بن لمك متوشلخ ابن أخنوخ (ويقال :أخنوخ وهو إدريس(عليه السلام)) بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم(عليه السلام) . وأما أمه : فهي آمنة

بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب.

كنيته الشريفة:

أبو القاسم ، وأبو إبراهيم، فإنّه قد جاء عن أنس بن مالك أنّه قال : لما ولد ابراهيم ابن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) من مارية أتاه جبرئيل(عليه السلام) فقال له : السلام عليك يا أبا إبراهيم .

أيام المهد والطفولة

نلخصها في خمسة موارد:

1 - رضاعه : كان الأسياد والأشراف في مكة قد اعتادوا إرسال أبنائهم إلى البادية للرضاع، يبغون من ذلك فصاحة اللسان، وقوة الجنان، وصحة الأبدان.

وفي الأيام الأولى لولادة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) قدم بعض النساء من البادية يطلبن أطفال مكة للرضاع. وكان من جملة النساء القادمات امرأة من قبيلة بني سعد تدعى - حليمة - وكانت قد أرضعت الحمزة بن عبدالمطلب قبل النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ، وقد روي تردّد

ص: 39

من حليمة قبل موافقتها على أخذ ،محمد، ثم حملته معها إلى بيتها في بني سعد. وخلال السنتين الأوليين وجدت حليمة في بيتها من الخيرات والبركات ما كان موضع الاهتمام والانتباه وبعد الفطام قدمت حليمة بمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم) إلى أمه زائرة، وأخبرتها بما كان لوجوده عندها من الأثر والخير والبركة وبقي النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)عند حليمة حتى أتم خمس سنين من عمره، ثم أُعيد إلى أمه .

ويقال :إن ثويبة مولاة أبي لهب بن عبدالمطلب قد أرضعته(صلی الله علیه وآله وسلم) بلبن ابنها مسروح ، وذلك قبل قدوم حليمة بنت عبد الله بن الحارث بن شجنة السعدية من بني سعد بن هوازن المشار إليها فيما تقدّم.

2 - يتمه : كان عبدالله بن عبد المطلب والد النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) قد توفي خلال رحلة تجارية إلى الشام قبل ميلاد النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ببضعة أشهر ، فولد محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)يتيماً . ولما بلغ السادسة من عمره حملته أمه في زيارة الى يثرب (المدينة المنوّرة )حيث كان أخواله من بني النجار ، وفي طريق العودة إلى مكة بعد شهر من الزيارة توفيت آمنة في مكان مكان يسمى الأبواء، تاركة بعدها محمداً(صلی الله علیه وآله وسلم)يعاني آلام اليتم الكامل. وكان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) بعد ذلك يقول : استأذنت ربي في زيارة أمي فأذن لي ؛ فزوروا القبورتذكركم الموت.

ولقد أصبح بعد ذلك - (أي)بعد رحيل عبد الله وآمنة رضوان الله تعالى عليهما - أصبح اليتيم رسول السماء . قال الأديب الفرطوسي(قدس سره)ولنعم ما قال :

بورکت مكة وبورك يمناً*** كل مبني من بيتها وفناء

بوليد مبارك قد كساها ***أرجاً من شمائل الأمناء

ويتيم تكرّم اليتم فيه*** وتعالى لقمّة الارتقاء

هو أصل لكل فرعٍ زكي*** وهو فرع لدوحة الأزكياء

وصفي مكارم الخلق فيه*** نبعة من أكارم الأصفياء

ومنار للرشد حين تجلّى ***غمر الكون بالهدى والسناء

ص: 40

وربيع للعلم أخصب منه ***كل جدب من أنفس الجهلاء

وجناح من التواضع أهوت*** لعلاه قوادم الكبرياء

وبناء للعدل منه تداعى***كلّ صرح للظلم والاعتداء

و نظام من الشريعة أودى ***بتقاليد أمّة عمياء

وحياة من الحضارة أودت*** بعهود الغابات بعد ازدراء

مبدأ غير الطبائع عمّا*** هي كانت عليه في الابتداء

فعراها تحوّل وانقلاب***مصلح من مشرع معطاء

وبمجرى التاريخ شيد سدّاً*** محكماً من مشيّد بناء

أيّ مجد هذا اليتيم تعالى*** شامخاً في مصاعد الاعتلاء

فتهاوت له العروش انقضاضاً*** من سماء الغرور والخيلاء

وهو طفل في المهد من دون أمّ***وأب مودع بضل الخفاء

إنّه المرتضى لربّ البرايا***أحمد المصطفى رسول السماء(1)

وقال حاكياً ما جاء من العذاب على الشياطين وما ظهر له من الكرامات الجليلة في

يوم مولده المبارك :

خمدت نار فارس بعد ألف***وهي موقودة بلا إطفاء

غاض ماء البحيرة الجمّ لمّا ***فاض وادي سماوةٍ بالماء

و تداعى أيوان كسرى فأهوت***شرفات الايوان فوق البناء

وأهابت بالموبذان لرؤيا***قد رآها طلائع الاستياء

وتنبأ شق وأفضى سطيح***بالخبايا وعاد للإغماء

واستفز الرعب الشياطين طراً***لانقضاض النجوم في الأجواء

حين صدوا بشهبها عن عروج***واستراق للسمع بالإصغاء

وتجلّى جبريل والملأ الأعلى***غريق في لجة من بهاء

ص: 41


1- ملحمة أهل البيت ع السلام : ج137/1.

وهو في حلّة البشائر يكسى*** في نزول من السما وارتقاء

حينما فتحت وكانت رتاجاً*** قبل هذا أبواب كل سماء

أي شيء في العالمين جديد ***حلّ بين الغبراء والخضراء

وُلد الحق في ربيع توارى*** فيه جدب الضلال والخيلاء

وُلد العدل عند نشر لواء ***لفٌ فيه للظلم كلّ لواء

ولد الحق والفضيلة أضحت*** تتحدّى رذائل الفحشاء

ولد الدين والجهاد فأودى*** بعروش الإلحاد والكبرياء

ولد المصطفى محمّد يمناً*** ألف أهلاً بخاتم الأصفياء

وتجلّى والنور يشرق منه ***بجبين كالكوكب الوضاء

بین كتفيه للنبوّة ختم ***وظهور للشامة السوداء

قد رآه حبر اليهود فأفضى*** لقريش بأعظم الأنباء

وبحيرا في الدير بشر فيه*** حين وافاه سيّد البطحاء(1)

3 -طفولته : لم يعرف عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)في طفولته أنه كان يجاري الأولاد في كلّ تصرفاتهم ولهوهم ، ولكنه كان يغلب عليه الحياء وميله الى الاتزان والروية ولطافة اللسان ؛ فلم يعد محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)إذا كان للخلق النبيل مصدر أن يكون هو ذلك المصدر ، حتى أحبه القريب والبعيد، وبدأ الناس ينظرون إليه بعين الاحترام والترقب لما يؤول إليه هذا اليتيم إذا بلغ مبلغ الرجال، ولقد صدقت قريش يوم الدعوة العامة عندما طلب (صلی الله علیه وآله وسلم) منهم شهادة في حقه على صدقه فأجابوا : ما جربنا عليك كذباً قط .وذلك ما لا يتيسر لكلّ طفل أن لا ينطق بكذب قط في جدّ أو هزل.

4 - عبد المطلب و نبوّة محمد (صلی الله علیه وآله وسلم): كان عبدالمطلب جد النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) شديد الرعاية فائق العناية بمحمد (صلی الله علیه وآله وسلم)، وهو أول من تنبه إلى ذلك النور العظيم نور النبوة

ص: 42


1- ملحمة أهل البيت(عليه السلام): ج 1 / 135 .

في وجه محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) ، وتوجه إلى الله تعالى بالدعاء والشكر على هذه المنة، حتى ارتكز في ذهنه أن محمداً(صلی الله علیه وآله وسلم)سيكون له شأن بين الأنبياء، فكانت رعايته إلى النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)تفوق الوصف من الجدّ العطوف قال المحدّثون : ومن الشواهد الدالة على معرفة عبد المطلب الى سر نبوة محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)إكرام المك سيف بن ذي يزن الى عبدالمطلب إكراماً شديداً ، انّه اختلى به وبشّره بنبوّة محمد ونصحه بالاهتمام في رعايته وحمايته من الأعداء. ولدى عودة الوفد إلى مكة كان الحسد قد أكل قلوب بعض من كان معهم ، فأبدوا لعبد المطلب دهشتهم من إكرام الملك له، واختصاصه إياه بأضعاف الهدايا التي منحت لهم فكان يقول : يا معشر قريش، لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك وإن كان كثيراً فإنّه إلى نفاد ، ولكن ليغبطني بما يبقى لي ولعقبي ذكره وفخره وشرفه. فإذا قيل له وما ذاك ؟ قال : ستعلمن نبأه بعد حين.

5 - أبو طالب ومحمد(صلی الله علیه وآله وسلم): بقي محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)في كنف جده عبدالمطلب حتى بلغ الثامنة من عمره ، فلما حضرت جدّه الوفاة أوصى به الى عمه أبي طالب، وصار الكفيل الثاني يحنو عليه ويشمله بألطافه وعنايته ووجد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)في بيت عمه ابي طالب الملاذ الذي يحميه من عوادي الدهر، والحنو الذي يعوضه حرمان الأب والأم ؛ فقد كانت فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب تغمر محمدا(صلی الله علیه وآله وسلم) بالعاطفة والمعاملة الكريمة، وكان النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)يدعوها أمي . أما أبو طالب والجهاد الذي قام به في سبيل الحفاظ على محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)وتربيته ثم الدفاع عنه وحمايته من ذوبان قريش وأجلاف العرب، فذاك أوضح من نور الشمس.

هذه هي الوديعة كنز*** وهو أغلى ودائع الأمناء

وأبو طالب كفيل أمين ***شیخ عدنان سيد البطحاء

قد تلقى وصيّة وصيّة من أبيه*** ذات شأن فأنجزت بوفاء

وحقوقاً تدعو إلى حفظ طه*** كان فيها من أكرم الأوفياء

ص: 43

حين أضحى أباً وفاطم أمست***خير أم لخاتم الأنبياء

قد رعاه حتى غدا القلب منه*** خير مهدِ والجفن خير غطاء

واصطفاه حتى ترعرع غصناً*** بين أحضانه سريع السماء

ولقد كان لا يطيق فراقاً*** لابنه ساعة بدون لقاء

دارءاً عنه كل سوء وكيد ***واقياً شخصه بخير وقاء

فادياً نفسه لأكرم نفس*** قد رآها أهلاً لكل فداء

ورأى دمع عينه وهو ينوي*** سفراً جارياً لفرط البكاء

قال ماذا فقال تمضي وأبقى*** أنا من دون كافل من ورائي

قال فارحل فإن روحك روحي*** في رحيلي معي وعند بقائي

ورأى ما رآه من معجزات ***منه عند المقيل والإسراء

من ظهور القليب حين سقاه*** وهو يشكو الظمأ بأعذب ماء

ورأى فوقه الغمامة تسري*** حيث يسري تظله عن ذكاء

وأتته بفضله بركات*** لم يجدها في بيعه والشراء

وهو قد كان مكثراً في عيال*** ومقلاً في المال جمّ السخاء

فاستفاضت على محياه نعمى*** من أيادي محمد بالهناء

ولقد كان حين يحضر زاداً*** بادئاً فيه عند وقت الغذاء

فإذا ذاقه تغذوا جميعاً ***واكتفوا بالقليل خير اكتفاء

هكذا لم يزل حفيظاً عليه*** وأميناً من أصدق الأمناء

وكفيلاً من بعد خير كفيل*** كعطاء في البر بعد عطاء

وهي كانت إرثاً له من أبيه***شيبة الحمد بعد يوم الفناء

وقد اجتمع في نفس أبي طالب دافعان لحماية النبي (صلی الله علیه وآله وسلم):

أولهما: الوصية المؤكدة التي تلقاها من أبيه، رغم أنه لم يكن أغنى إخوته ولا أكبرهم سناً ، ولكنها النظرات الثاقبة التي تتوسم الخير في أهله.

ص: 44

وثانيهما : حب لمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم)قذفه الله تعالى في قلبه، حيث كان يفضله على أولاده ويخصه بالطعام. وقد نما هذا الحب في قلب أبي طالب مع نمو ابن أخيه محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)حتى أدرك الإسلام.

ولما أصبح عمر النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)اثنتي عشرة سنة صحبه عمه أبوطالب معه إلى الشام في رحلة تجارية واللقاء الذي تم بين أبي طالب ومحمد من جهة، وبين بحيرا الراهب من جهة ثانية، في أرض بصرى من بلاد الشام أشهر من نار على علم، فقد أنباً بحيرا أبا طالب بأنّ محمداً نبي، بعد أن تعرف إلى كل علامات النبوة الموجودة فيه، والتي كان بحيرا يعلمها من مواريث الأنبياء السابقين.

نعم، لقد لاح البحيرا الراهب نور النبوة في وجه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فأخبر بذلك زعيم البيت الهاشمي حتى كأنه يتلو عليه قوله تعالى : ﴿لقد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ﴾؛ كأنه يقول لأبي طالب : يا أبا طالب ، لقد جاءكم الهدى، لقد جاءتكم الخيرات والبركات فعليكم أن تهيئوا نفوسكم لقبولها ، وعليكم الرضا والتسليم لهذا النبي العظيم الذي يملأ نوره المشرقين ويهتدى به كما يهتدى في الظلمات بالنيرين كأنه يقول : كنتم فيما سبق غارقين في الجهل وعبادة الأوثان، وعن قريب ببركة هذا الصبي سوف يتضح لكم نور الحق وتتجلى لكم معرفة الربّ تعالى شأنه، كأنه يقول : سوف يأتيكم هذا الصبي في المستقبل القريب بقانون إلهي ينظم حياتكم ويوحد صفوفكم ويلمّ شعثكم ويعلي كلمتكم وتصبحون ببركته زعماء الدنيا.

وفعلاً لقد صدق تنبؤ هذا الراهب ، فلقد جاء محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)مرسلاً من عند الله لإنقاذ هؤلاء البشر، ومدعماً بالقرآن الكريم القانون السماوي العادل الصحيح الذي لامرية في أنّ أوامره تصلح لكل عصر ومصر، ونظامه نظام بشري عادل ولم ينزل لمجرد العقيدة، أو لمجرد تهذيب الروح وتربية الأخلاق والفضائل، بل هو إلى جانب ذلك كله أنزل بنظام عادل، واجتماعي متوازن ومدني صحيح، وجنائي

ص: 45

عام، ودولي معقول ، وتوجيه فكري وتربية بدنية وكل ذلك على أساس من العقيدة ، وفي مزاج من التوجيه الخلقي ، والتهذيب الروحي. ونظام القرآن الكريم ليس شيئاً من تراث الماضي السحيق، فيوضع اليوم في متحف الأفكار والنظم والعقائد البائدة، بل هو كائن حتى في هذا اليوم وهذه اللحظة، ويملك من مقومات الحياة في المستقبل ما لا يملكه أي نظام آخر عرفته البشرية حتى اليوم، ولقد أدرك المسلمون هذه الحقيقة

التي تجلّت لهم ولغيرهم من معاندي الاسلام ومبغضيه ،وهم المستعمرون وخدامهم المخلصون وعبيدهم المطيعون، الذين كانوا وما زالوا يلقون على أذهان السدّج والبسطاء أن نظام القرآن والاسلام كان من حقائق الحياة في الماضي، واليوم قد غيّر العلم وجه الحياة، ولم يعد في الأرض مكان لغير العلم، والحقائق العلمية .

أقول : أدرك هؤلاء الحاقدون الخداعون اليوم عظمة الاسلام والقرآن رغم أنّهم كانوا فيما سبق وما زالوا يلقون على أذهان البسطاء أن نظام القرآن لكونه نظاماً يبيح الرق والاقطاع والرأسمالية، ويجعل المرأة نصف الرجل ويحبسها في دارها، ويجعل عقوباته الجلد والرجم والقطع ، وأمثالها ، فلا يمكن أن يعيش اليوم ولا يستطيع هو في هذا الصراع الجبار - الذي يقوم اليوم بين النظم الاجتماعية والاقتصادية القائمة على أسس علمية - أن يقف على رجليه فضلاً على المصارعة والكفاح.

نعم، لقد أدرك المستعمرون اليوم عظمة الاسلام، وذهب كل ما لديهم من دعاوى فاسدة ضده أدراج الرياح، خصوصاً بعد نجاح الثورة الاسلامية المباركة فی ايران الاسلام بقيادة مولانا الأعظم الامام الخميني ان الاهلي .

كما وأدرك المسلمون في نفس الوقت عظمتهم باتباعهم لقوانين الاسلام الخالد والقرآن العظيم ذلك الكتاب المسطور ، والنُّور الساطع، والضياء اللامع الذي أزاح عنهم الشبهات قرآن محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)، ونور محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)، وهدى محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) ، وهدى محمد له ؛ فعليهم

ص: 46

بعد أن أدركوا سرّ عظمتهم ومجدهم الخالد ببركة اتباعهم للاسلام، وأن يجدّدوا

ولاءهم له في كل لحظة يعيشونها من حياتهم لكي يكونوا سعداء.

كما وعليهم أن يفهموا أنّ مغزى هذا الاجتماع وتجديد هذه الذكرى المباركة - ذكرى ولادة هذا النور -ليس معناه أن يجتمعوا فقط من أجل أن يذكروا الحبيب محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)ببعض المدائح ويعطروا الأفواه بذكره وبذكر الصلاة عليه الله ، وإن كان ذلك من الأمور الواجبة والمهمة عندنا خصوصاً الصلاة عليه ، فإنه قد جاء عنه الله أنه قال : من صلى عليَّ مرة صليت عليه عشراً، وهكذا الى أن تبلغ الصلاة عليه المئات والآلاف ولكن الأمر المهم مع الصلاة عليه والذي من أجله نجدد هذه الذكرى في كل سنة، هو لفت النظر من أجل الاستمرار والملازمة على اتباع هذا النور والاقتداء به والسير على منهاجه واتباع ما جاء به من تعاليم إسلامية نورانية عالية نافعة، ونظام إسلامي رفيع لا يمت إلى الشرق ولا إلى الغرب بصلة .

فعلينا جميعاً أن نعاهد الله تعالى بأن نسير على هدى هذا النور المحمدي الرباني متجنّبين الانخراط في مسلك الشرق والغرب، فإن الله تعالى يقول: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ ، فاللازم عليكم أن تتبعوه وتعملوا بقرآنه الذي فيه الأوامر الإلهية الواجبة عليكم ، والتي بواسطة العمل بها تكونون مهديين قد خرجتم بها من ظلمات الجهل إلى نور الايمان بالله والأيمان بنبيه الكريم والإيمان بأهل البيت النبوي الطاهر الشريف . ومن هنا نعلم معنى قوله تعالى : ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾: أي انّ الله تعالى : يهدي عباده الذين اتبعوا رضوانه بالقرآن المبين ويخرجهم به من ظلمات الجهل إلى نور الايمان بالله ونور محمد(صلی الله علیه وآله وسلم).

أشرق نور الله في العالم ***بمولد الطهر أبي القاسم

قد اجتنت كف الهدى في ربيع*** روض الأماني لا رياض الربيع

فیه بدا نور النبي الشفيع*** يشفع للجاني وللأثم

ص: 47

كم ظهرت للمصطفى معجزات*** آثارها بين الورى باقيات

فاقت نجوم الأفق الزهرات*** فلم تجد من جاحد كاتم

قد أخمدت للشرك نيرانه*** صرح كسرى انشق إيوانه

وهد من أعلاه بنيانه*** من بعد ما استعصى على الهادم

اليوم قد لاحت شموس السعود*** فابتهج الكون بها والوجود

بطاهر المحتد زاكي الجدود*** خير الورى فخر بني آدم

قم فأدر كأس الهنا والصفا ***ولا تطع من لام أو عنّفا

فقد أزالت طلعة المصطفى*** ليل الظلال الحالك القاتم

نالت به مكة أقصى المرام*** وابتهج البيت به والمقام

وجاءت الأملاك تهدي السلام*** له بثغر ضاحك باسم

اليوم نور المصطفى قد أضاء*** فشعت الأرض به والسماء

قد ختم الله به الأنبياء*** صلى عليه الله من خاتم

نعم ، لقد أفاض الله تعالى على العالم هذا النور المحمدي في دنيا الوجود بعنايته الربانية لعباده، ولكن ما أن قبضه الله إليه حتى اسودت الدنيا في وجه الصديقة فاطمة الزهراء سلام الله عليها واعتدى القوم على كرامتها .

من نور طه المصطفى وسط الكبر غاب ***ذلوا العدى فاطم ومنها انهتك لحجاب الأول أمر بالنار والثاني ضرمها*** ولا عرف لوصية الهادي ولا حشمها

وتدري ابعصرها سيّل المسمار دمها*** مدري البطل لي وين عنها داحي الباب

علي عن الاسلام کم شده دفعها*** والدين راياته عكَب ذلها رفعها

حاضر وبنت المصطفى تكسروا ضلعها*** الله يصبره ايشيب من مفرق الشاب

والله عجایب ما جرت أول ولا تال ***بيها انكسف بدر الشريعة والهدى زال

وأمست حديث ايسير بالنسوه ولرجال*** انهتكت الزهرا وحتفوا اللي گاد لذياب دخلوا عليها ابغير اذنها داخل الدار*** بضعة رسول الله وهي حسرى بلا اخمار

ص: 48

نادت ابحاميها ونهض حيدر الكرار*** اينادي وگلبه من عظيم افعالهم ذاب

يرجاس لولا اللي قضى ربي ورسوله ***ما نصب عيني ينكسر ضلع البتوله

ويصعب عليكم منزل الزهرا ادخوله*** و محسن سگط يعفر ابدمه فوگ لتراب ويسأل سليم الخبر من سلمان عنها*** يسلمان هجموا اعلى البتوله ابغير إذنها

گله نعم والضرب أثر في متنها*** والرجس ضاربها ومن الكرار ما هاب

***

قال سلیم: قلت یا سلمان*** هل دخلوا ولم يك استئذان

فقال : إي وعزّة الجبار*** ليس على الزهراء من خمار

لکنّها لاذت وراء الباب*** رعايةً للستر والحجاب

فمذ رأوها عَصَروها عصره*** کادت- بروحي - أن تموت حسره

تصيح: يا فضة أسنديني*** فقد قد وربي قتلوا قتلوا جنيني

فأسقطت بنت الهدى وا حزنا*** جنينها ذاك المسمَّى مُحسنا

نعم ،لقد أسقطت بنت الهدى سلام الله عليها جنينها المحسن وتحملت تلك المصائب والبلايا التي يعجز القلم عن وصفها وبيانها ، وكلما جرى عليها من تلك المصائب قد جرى على ابنتها الصديقة الصغرى زينب الكبرى سلام الله عليها ، إلا أنّها قد زادت الصديقة الصغرى على الصديقة الكبرى فيما جرى عليها من تلكالمصائب العظام، حيث أنّها أخذت أسيرة مسلوبة الى الشام وبصحبتها ابن أخيها الامام علي بن الحسين(عليه السلام) وبنات الرسالة عليهن أفضل الصلاة والسلام. يقول السيد حيدر وهو يصف بنات الزهراء (عليها السلام)في تلك الحالة المشجية :

ومن مبلغ الزهراء ان بناتها*** عليها الرزايا والمصائب عكف

تطوف بها الأعداء في كل بلدة*** فمن بلد أضحت لآخر تقذف

وقال آخر :

ورحن في الأسر بنات الهدى*** تطوى الفيافي موطناً موطنا

ص: 49

يدعين والعيس تجد السرّى*** يا حادي العيس ألا ارفق بنا

يا حادي العيس أتدري بنا*** ربّات خدر لا نطيق العنا

ماذا عليكم لو مررتم على*** سادات فهر قبل أن نظعنا

وقال آخر :

لمن ظعون بأرض الطّف سائرة*** تنحو الشآم فليت الركب لا سارا

وممّن النسوة اللاتي يسار بها*** تخالهن على الأقتاب أقمارا

على هزال المطايا لا رحال لها*** تشكو أذى السير اخفاء وإجهارا

حواسراً سلب الأعدا براقعها*** وابتزها القوم أقراطاً وأطمارا

لهفي لزينب إذ قالت مودعة*** والحزن باد ودمع العين قد فارا

هلا تمرون بالقتلى نودعهم*** ونقض من ترب الخدين أوطارا

وقال السيد أيضاً :

وسبية باتت بأفعى*** الهم مهجتها لسيعه

سُلبت وما سُلبت محا*** مدعزّها الغرّ البديعه

فتلغد أخبية الخدور*** تطيح أعمدها الرفيعه

ولتبد حاسرةً عن الوجه*** الشريفة كالوضيعه

فأرى كريمة من يواري*** الخدرآمنةً منيعه

وكرائم التنزيل بين*** أمية برزت مروعه

تدعو ومن تدعو وتلك*** كُفاءً دعوتها صريعه

واهاً عرانينَ العُلى*** عادت أنوفكم جديعه

ما هزّ أضلعكم حداءُ*** القوم بالعيس الضليعه

حملت ودائعكم إلى*** من ليسَ يعرفُ ما الوديعه

قال المحدّث المازندراني(قدس سره): نقلاً عن كتاب العقد الفريد في كيفية حمل بنات رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)الى الشام ما لفظه وحمل أهل الشام بنات رسول (صلی الله علیه وآله وسلم)سبايا

ص: 50

على أقتاب الإبل، فلما ادخلن على يزيد قالت ابنة الحسين(عليه السلام) : يا يزيد، أبنات رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) سبايا ؟! قال : بل حرائر كرام ادخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلت قالت فاطمة : فدخلت فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتدمة تبكى .

أقول : إن صاحب العقد الفريد هو على شاكلة یزید لعنه الله ، فانه فإنه يريد أن يقول : إن يزيد ليس بقاتل للحسين(عليه السلام) ، والدليل على ذلك أنّه أكرم بنات الرسول بقوله لهن : بل حرائر كرام ولكنا نقول له : إنّ تظاهر يزيد لعنه الله تعالى باكرام بنات رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)إن صح ذلك بعد قتله الحسين(عليه السلام) إنما فعله خوفاً على نفسه من انقلاب الرأي العام عليه . وعلى هذا لا يصح لمسلم أن يدعي ليزيد الاسلام، أو يشك في كفره وإذا على سيل المحال وجد من يدعي ذلك فهو على شاكلة يزيد أي أنه ليس بمسلم.

وقال شيخنا المفيد في الارشاد : دفع ابن زياد لعنه الله تعالى رأس الحسين(عليه السلام) مع رؤوس أصحابه سلام الله عليهم إلى زجر بن قيس لعنه الله ، وسرحه إلى الطاغي الباغي يزيد بن معاوية لعنه الله تعالى والملائكة والناس أجمعين في جماعة من أهل الكوفة .

وقال السيد محسن الأمين الحسيني العاملي(قدس سره)في المجالس السنية ما لفظه : كان ابن زياد لعنه الله كتب إلى يزيد لعنه الله كتاباً يخبره فيه بقتل الحسين عليه الصلاة والسلام فلما وصل إليه الكتاب أجابه يأمره بحمل رأس الحسين عليه الصلاة والسلام ورؤوس من قتل معه وحمل أثقاله ونسائه وعياله إلى الشام (فأرسل) ابن زياد لعنه الله تعالى الرؤوس مع زجر بن قيس لعنه الله تعالى، ثم أمر بنساء الحسين عليه الصلاة والسلام و صبيانه(عليه السلام)فجهزوا، وأمر بعلي بن الحسين(عليه السلام) فغل بغل إلى عنقه . - (وفي رواية) في يديه ورقبته - ثم سرح بهم في أثر الرؤوس مع محفر بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن لعنهم الله تعالى وحملهم على الأقتاب، وساروا بهم كما يسار بسبايا الكفّار، فانطلقوا بهم حتی

ص: 51

لحقوا بالقوم الذين معهم الرؤوس، فلم يكلم علي بن الحسين(عليه السلام)أحدا منهم في الطريق بكلمة حتى بلغوا الشام، فلما انتهوا إلى باب يزيد لعنه الله تعالى رفع محفر صوته فقال : هذا محفر بن ثعلبة (أتى حمار الفاسدين لعنه الله تعالى بالبررةالكرام(عليه السلام) هذا قولي لأنّ ما قاله محفر لعنه الله تعالى: هذا محفر بن ثعلبة أتى أميرالمؤمنين باللئام الفجرة ! فأجابه مولانا علي بن الحسين : ما ولدت أم محفر أشر وألأم.

ولما جاءت الرؤوس كان يزيد لعنه الله تعالى في منظرة له على جيرون! فأنشد لنفسه وقد سمع غراباً ينعب :

لما بدت تلك الحمول وأشرقت*** تلك الشموس على ربي جيرون

نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح*** فلقد قضيت من النبي ديوني

ولما قربوا من دمشق دنت أم كلثوم من شمر لعنه الله فقالت له : لى إليك حاجة . فقال : ما حاجتك ؟ قالت : إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة ، وتقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنها فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال. فأمر لعنه الله تعالى في جواب سؤالها أن تجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً ، وسلك بهم بين النظّارة على تلك الصفة حتى أتى بهم باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي. وجاء شيخ فدنا من نساء الحسين(عليه السلام) وعياله وقال : الحمد لله الذي أهلككم وقتلكم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم.

فقال له علي بن الحسين(عليه السلام) : یا شیخ هل قرأت القرآن ؟

قال : نعم .

قال : فهل قرأت هذه الآية :﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾؟

ص: 52

قال : قد قرأت ذلك.

فقال له علي : فنحن القربي ، يا شيخ.

فهل قرأت في سورة بني إسرائيل: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾؟

فقال : قد قرأت ذلك .

فقال علي(عليه السلام) : فنحن القربى يا شيخ.

فهل قرأت هذه الآية :﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾.

قال : نعم .

فقال علي(عليه السلام): فنحن القربى يا شيخ.

ولكن هل قرأت قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾؟.

قال : قد قرأت ذلك

فقال علي(عليه السلام) : فنحن أهل البيت الذين اختصنا الله بآية التطهير يا شيخ.

قال : فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلم به وقال : بالله انكم هم ؟!

فقال علي(عليه السلام) : تالله إنا لنحن هم من غير شك ، وحق جدنا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)إنا لنحن هم فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثم رفع رأسه الى السماء وقال : اللهم اني أبرأ اليك من عدو آل محمّد من جن وإنس. ثم قال: هل لي من توبة ؟

فقال له : نعم، إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا.

فقال : اني تائب.

فبلغ يزيد بن معاوية لعنه الله تعالى حديث الشيخ فأمر به فقتل رضوان الله تعالى عليه.

وأجلُّ يوم بعد يومك حل في***الاسلام منه يشيبُ كلُّ جنين

يوم سرت أسرى كما شاء العدى*** فيه الفواطم من بني ياسين

ص: 53

أبرزن من حرم النبي وإنّه*** حرم الإله بواضح التبيين

كلّ محصنة هناك برغمها*** أضحت بلا خدرٍ ولا تحصين

سُلبت وقد حجب النواظر نورُها*** عن حُرّ وجه بالعفاف مصون

قذفت بهنَّ الخطوبِ بقفرة*** هيماء صالية الهجير شطون

فَعْدت بهاجرة الظهيرة بعدما*** كانت بفيّاح الظلال حصين

حرى متى التهبت حشاشتها ظما ***طفقت تُروّح قلبها بأنين

وحدت بها الأعداء فوق مصاعب*** تري السهول من الفلا بحزون

وقال الجمري وهو يصف حال بنات الرسالة وهن على تلك الأقتاب :

زینب اتعاين وليها ولغلال ابرقبته***فوق ناقه امهز له امقيد او تجري دمعته

ينظر اليها او يجر ونه او هي تنظره او تنتحب***والحرم تخفي البكا والنوح خوف امن الضرب

نادته يا نور عيني ذوّبت مني القلب*** هلت ادموعه وخذ يبدي الشكاية العمته

عمه يا زينب سفرنا فوق هالهزل طويل**وانا من كثرة اجروحي هذا دم ساقي يسيل

نحل اعظامي اركوبي اعلى الجمل وانا عليل**او هالرجس كلساع يضربني او يزجر ناقته

صاحت او طلت يويلي فوق ناقتها انجود***يا زجر بالله دخفف عن علي من هلقيود

آه يفرسان نسوني آه يعز ما يعود*** منطرفنا ما تخاف الله او ترحم حالته

ص: 54

ردعليه ابن الخنا ومن شاف حاله الغيظ زاد**صاح كتر اللي يوجعك وين يا زين العباد

قال حدر الجامعه او موضع اغلالي ولقياد**شال سوطه او غابت امن الضرب ويلي ارويحته

نعم ، هكذا كانت حالة النساء والأطفال فوق النياق حتى وردوا الشام، وكانت المصيبة عليهم أعظم وأشد .

يقول سهل بن سعيد الساعدي : خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطت الشام ، فاذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار ، وقد علقوا الستور والحجب والديباج وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي : ترى لأهل الشام عيد لا نعرفه نحن ؟! فرأيت قوماً يتحدثون فقلت: يا قوم، لكم بالشام عيد لا نعرفه نحن ؟ قالوا : يا شيخ، نراك غريباً ؟ فقلت : أنا سهل بن سعيد الساعدي قد رأيت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، قالوا : يا سهل، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تنخسف بأهلها ؟ قلت : ولم ذاك ؟ قالوا: هذا رأس الحسين عترة محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)يهدى من أرض العراق . فقلت : واعجباً يهدى رأس الحسين(عليه السلام)والناس يفرحون ؟! ثم قلت من أي باب يدخل ؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب الساعات، فبينما أنا كذلك حتى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً ، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان عليه رأس من أشبه الناس وجها برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، فإذا من ورائه نسوة على جمال بغير ،وطاء ، فدنوت من اولاهن فقلت: يا جارية من انت ؟ فقالت : انا سكينة بنت الحسين(عليه السلام).

فقلت لها : ألك حاجة إلي ، فأنا سهل بن سعيد الساعدي ممن رأى جدك وسمعت حدیثه ؟ قالت یا سهل قل لصاحب هذا الرأس أن يقدم الرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى حرم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).

قال سهل: فدنوت من صاحب الرأس فقلت له : هل لك أن تقضي حاجتي

ص: 55

وتأخذ مني أربعمائة دينار ؟ قال : ما هي ؟ قلت : تقدم الرأس امام الحرم، ففعل ذلك

و دفعت إليه ما وعدته.

وروي أنّ بعض فضلاء التابعين وهو خالد بن معدان لما شاهد رأس الامام الحسين

(عليه السلام)بالشام أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه، فلما وجدوه بعد إذ فقدوه سألوه عن سبب ذلك فقال : ألا ترون ما نزل بنا ؟ ثم أنشأ يقول :

جاؤوا برأسك يا بن بنت محمّد*** مترملاً بدمائه ترميلا

وكأنما بك يا بن بنت محمّد*** قتلوا جهاراً عامدين رسولا

قتلوك عطشاناً ولما يرقبوا*** في قتلك التأويل والتنزيلا

ويكبرون بأن قتلت وإنما ***قتلوا بك التك- سبير والتهليلا

***

بدروازة الشام اوقفت ذيج الخواتين*** والشام مرتجه واهاليها معيدين

وكل الخلاق لا بسين اجديد الثياب*** ولا بگی من اهل البلد شيخ ولا شاب

وآل الرسول منكسين الروس بالباب*** وزين العباد يصيح وين الهاشميين

بالأمس حولي من بني هاشم صناديد*** فرسان كلهم والحرايب عندهم عيد

واليوم اعالج فوق ناقه بجامعه وقيد*** القيد حز ساقي وغلهم حز اليدين

واقبل سهل والناس تتراكض بالدروب*** يقولون راس الخارجي في وين منصوب وشاف الاسواق معطلة والكون مقلوب*** والكل ينادي جو سبايا الخارجيين

وعاين يتاما فوگ هزّل في بكا ونوح*** ومن الضرب والسير ما ضلت لهم روح اوحده تنادي عقب عزي وين انا روح*** بيني وبين حجاب صوني فرق البين

سلم عليها وقال يا لي على المطيه*** والله حسنينك زيد احزاني عليه

يخسون أهل هالبلد منتي خارجية*** كنك يا مسبية من أشيوخ المسلمين

قالت انا جدي النبي صفوة الجبار*** وابوي حيدر قاسم الجنة مع النار

ومكسورة الاضلاع شمامة المختار*** امي وانا زينب واخوتي الحسن والحسين

قلها الحسب والنسب هالي تذكرينه*** معروف وان صح الخبر جدك نبينا

ص: 56

لكن يزينب وين خدر اليوصفونه***تركبين حسرا فوق ناقه واخوتك وين

گالت لا تسئلنى وعاين روس الارماح*** ذاك الخدر يا سهل عني قوّض اوراح وعمود خيمتنا احسين تزلزل او طاح*** بديار غربة يا سهل ضيعني حسين

وانكان عندك يا سهل شي من المال*** هالرجس خله يميل عنا ابروس الرجال گله يصد ابروس اهلنا عن ها لعيال*** والله اختزينا او ذابت قلوب النساوين

للرجس راح يناشده بالله ورسوله*** والمال سلم له وعبراته هموله

تمرد الطاغي ورد نصب روس الحموله*** بين المحامل والخلق عكفت الصوبين

ما بين ما هي فوگ ناقة تصعد انفاس*** لن الرجس جاها وكل جانب نصب راس واگبالها راس الحسين وراس عباس*** صاحت يخويهها لمصائب جتني امنين

***

ايا بن النبي المصطفى خير من رقى*** على ذروة العليا فجلّت مناقبه

وقرة عين المرتضى صنو أحمد*** ومن هو في كل المواطن صاحبه

***

أرأسك فوق الرمح يشرق مزهراً*** وجسمك فوق الترب رضت ترائبه

وتبقى ثلاثاً بالعراء مرمّلاً*** ولا غسل إلا فايض الدمّ ساكبه

***

وتسبي نساك الطاهرات حواسراً*** يجاذبها حادي السرى وتجاذبه

ومن بينها السجاد بالقيد موثق*** يجاوبها طوراً وطوراً تجاوبه

***

يعزّ على المختار أحمد أن يرى***جسم الحسين على الرغام معفّرا

والرأس منه على السنان مشهرا*** ويرى النساء الطاهرات الحشرا

يندبنه بمدامع تروي الثرى*** أنعم جواباً يا حسين اما ترى

شمر الخنا بالسوط كسّر أضلعي

* * *

ص: 57

حفرات الرسول في الأسر تجلى*** ارملات في السبي جاوبن ثكلى

من لها والحماة بالطف قتلى*** نترفّق بها فما هي إلا

ناظر دامع وقلب مروع

يا محثّ المطا بهمة قفر*** طاوياً نشر كلّ سهل ووعر

أنّ فوق المطا عقايل فهر ***لا تسمّها جذب البرى او تدرى

ربّة الخدر ما البرى والنسوع

فادح شبّ في الحشى بأوار*** ومصاب قد حطّ كلّ منار

يوم نادى العلا والدمع جار*** قوضي يا خيام عليا نزار

فلقد قوّض العماد الرّفيع

واندبي أن ندبتِ بالحزن قوما*** سامها الدهر بالمصائب سوما

لا تنامي للحشر هاشم يوما*** واملئي العين يا اميّة نوما

فحسين على الصعيد صريع

وارفلي في السرور انساً عدي ***وبأنف لكِ اشمخي يا أُمّي

واغمدي البيض في الطلا يا قصيُّ*** ودعی صيّة الجباه لؤي

ليس يجديك صكها والدموع

ص: 58

الجلسة الثالثة : مولد الرحمة

وافي بنعت صفاته القرآن*** أنى يحيط بها فم ولسان

نطقت به التوراة قبل وبشر*** الإنجيل فيه وصدق الفرقان

سطعت بغرة آدم أنواره*** فسما له بين الملائك شان

ولو أن نوحاً لم يكن متوسلاً*** فيه لأغرق فلكه الطوفان

وبه الكليم دعا ولولا سرّه*** ما انساب من تلك العصا ثعبان

صدعت به الرسل الكرام ودينه*** جاءت مبشرة به الأديان

زینت بمولده البسيطة بعدما*** قد كان عرش الله فيه يزان

في ليلة ملأ الزمان صباحها*** بسنا فتىً فخرت به الأزمان

طاشت بها أحلام قيصر خيفة*** وارتاع من دهش انوشروان

وتيقنوا أن ليس يبقى بعدها*** ملك لهم في الأرض أو سلطان

ولقد تحقق عن محمد عندهم*** ما قاله الكهان والرهبان

ما كاد يشرق في الجزيرة نوره*** حتى خمدن بفارس النيران

وتساقطت شرفات صرح مليكها ***وانشق مرتجاً به الأيوان

ما ان هوى عند الولادة ساجداً*** حتى هوت لوجوهها الأوثان

هو رحمة للعالمين وحبه*** في الحشر من هول المعاد أمان

ان تكتس الأكوان حلّة زهوها*** فيه فقد خلقت له الأكوان

ما مر ذكر للتبيين الأولى ***إلا وذكر المصطفى عنوان

ما معجزاتهم التي سلفت سوى*** خبر ومعجزة العظيم عيان

ص: 59

هذا الكتاب فهل أتت في آية*** من مثله إنس الورى والجان

بالسيف أرسله لير شد أمة*** لم تهدها الآيات والبرهان

وجد الأنام على الضلالة عكفا*** وكرامة التوحيد ليس تصان

ورأى الورى في حيرة فبدا به*** نور الحقيقة فاهتدى الحيران

نشر التضامن بينها في دعوة*** طويت بها الأحقاد والأضغان

مارفٌ للتوحيد لولا شرعه*** علم ولا للعدل شيد كيان

ومكارم الأخلاق كانت تشتكي*** نقصاً فتم بأحمد النقصان

من ذا يحيط بكنهه من بعد ما*** أثنى عليه بوحيه الرحمن

بأبي خلائفه التي في وصفها*** قد حارت الأوهام والأذهان

جازى إساءة قومه بتكر*** منه جميل الصفح والاحسان

وأغرّ توجه الجليل بعزه*** فعنت لعز جلاله التيجان

لولا معاجزه وسيف وصيه*** ما دانت الأبطال والأقران

كان المعين له بكل كريهة*** نکصت بها الأنصار والأعوان

صلّى الإله عليهما ما أشرقت*** شمس ولاح بأفقه كيوان

***

بمُحمدٍ خطرُ الْمَحَامِدِ يَعِظُمُ*** وَعُقُودُ تيجان القَبُولِ تُنظَّمُ

ولَهُ الشّفاعَةُ والمَقَامُ الأَعظَمُ*** يَومَ القُلُوبُ لَدَى الحَناجر كُظَمُ

صلوا عليه وآله وسلّموا

قَمَرُ تَفَرَّدَ بالكَمَال كَماله*** وحَوَى المَحَاسِنَ حُسنُهُ وَجَمَالُه

وتَنَاوَل الكَرَمَ العَرِيض نوَالُهُ*** وَحوَى المَفاخر فخرُهُ المُتَقَدَّمُ

صلوا عليه وآله وسلموا

والله ماذراً الإله ولابرا*** بشراً ولا مَلَكاً كَأحَمُد في الورى

فعَلَيْهِ صَلى الله مَا قَلَمُ جَرَى*** وَجَلاً الدياجي نُورُهُ المُتَبسم

صلوا عليه وآله وسلموا

ص: 60

طَلَعَتْ عَلَى الآفاقِ شَمسُ وُجودِهِ*** بالخَيْرِ في أَعْوَاءِ وَنُجُودِه

فَالخَلْقُ تَرْعَى رِيفَ رَأفة جُودِهِ***كَرَماً وَجَارُ جَنَابِهِ لَا يُهضَمُ

صلّوا عليه وآله وسلّموا

سَبَقَتْ نُبُوَّتُهُ وآدم طينةٌ***بِوجُودِ سِرٌ وَجوُدِهِ معجونة

فيهَا المَنَاصِبُ وَالأُصُولُ مَصُونَةٌ*** وَقُرَيْتُ أَرْحَامُ لدَيْهِ ومَحَرمُ

صلوا عليه وآله وسلّموا

طُوبَى لِعَبْدِ زَارَ مَشْهَدَ طَيبةٍ*** وَجَلَا بِنُورِ القَلْبِ ظُلمَةَ غيبةٍ

يَدْنُو وَيَبْتَدِئُ السَّلَامَ بِهَيْبَةٍ*** وَيَمُسُّ قبر محمدٍ أو يَلتُمُ

صلوا عليه وآله وسلّموا

قبْرٌ يَحُطّ الوِزرَ مَسْحُ تُرَابِهِ*** وَيَنَالُ زَائِرهُ عَظيمَ ثوابِهِ

لِمَ لا وَسِرُّ المُرْسلين ثوى بِهِ*** قَمَرُ المَحَامِدِ والرؤوفُ الأَرحَمُ

صلّوا عليه وآله وسلّموا

محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)نور

قال الله تعالى في كتابه المجيد :﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾(1)

جاء في تفسير نور الثقلين(2) نقلاً عن أصول الكافي : عن مولانا أبي عبدالله الصادق (عليه السلام)أنه قال : حديث طويل في طينة المؤمن والكافر ، وفيه: «أو من كان ميتاً

ص: 61


1- سورة البقرة : 257 .
2- 2 / 265

فأحييناه» فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر، وكان حياته حين فرق الله بينهما بكلمته ، كذلك يخرج الله عزّ وجل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور ، ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى النور .

وقال العالم الرباني والحجة المفسّر مولانا الحاج محمد حسين فضل الله دامت بركاته في تفسيره الجليل (من وحي القرآن)(1)ما لفظه : إنّ الله تعالى يفتح للمؤمن آفاق النور من خلال هدايته فيما يوحي خلال هدايته فيما يوحي إليه من آياته وفيما يشرّع له من شرائعه ، وفيما يقوده اليه النور المتدفق من كلّ جانب من جوانب الحياة،وأخلدوا إلى الأرض، وعاشوا للحظة الحاضرة ، وغرقوا في ظلام الشك .

ويمكن أن يقال في معنى﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ يراد به إخراجهم من ظلمات الجهل مطلقاً الى نور المعرفة والايمان بالله والايمان بمحمد وآله الذين هم نفس النور.

ويدلّ عليه ما جاء في الحديث عن مسعدة بن صدقة قال: قص أبو عبدالله(عليه السلام) قصة الفريقين جميعاً في الميثاق حتى بلغ الاستثناءمن الله في الفريقين فقال : إن الخير والشر خلقان من خلق الله ، له فيهما المشية في تحويل ما شاء الله فيما قدر فيها حال عن حال ، والمشيّة فيما خلق لها من خلقه في منتهى ما قسم لهم من الخير والشر، وذلك ان الله تعالى قال في كتابه : ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ الآية إلى أن قال: فالنور آل محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) والظلمات عدوّهم .

حديث ولادة النور

ومما يدلّ على أن محمداً(صلی الله علیه وآله وسلم)هو النور ما جاء في حديث أبان بن عثمان

ص: 62


1- ج 4 / 32.

رفعه بإسناده ،الى أن قال : قالت آمنة(عليه السلام) : لما قربت ولادة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)رأيت جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي فذهب عني الرعب، وأتيت بشربة بيضاء وكنت عطشى فشربتها فأصابني نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل طوالاً تحدثني، وسمعت كلاماً لا يشبه كلام الآدميين، حتى رأيت كالديباج الأبيض قد ملأ بين السماء والأرض وقائل يقول : خذوه من أعز الناس، ورأيت رجالاً وقوفاً في الهواء بأيديهم أباريق، ورأيت مشارق الأرض ومغاربها ، ورأيت علماً من سندس على قضيب من ياقوتة قد ضرب بين السماء والأرض في ظهر الكعبة فخرج رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)رافعاً إصبعه إلى السماء ، ورأيت سحابة بيضاء تنزل من غشيته(صلی الله علیه وآله وسلم)، فسمعت نداء : طوفوا بمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم)شرق الأرض وغربها والبحار لتعرفوه باسمه ونعته وصورته . ثم انجلت عنه الغمامة، فإذا أنا به في ثوب أبيض من اللبن وتحته حريرة خضراء، وقد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب، وقائل يقول : قبض محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) على مفاتيح النصرة والريح والنبوة ، ثم أقبلت سحابة أخرى فغيّبته عن وجهي أطول من المرة الأولى ، وسمعت نداءً يقول : طوفوا بمحمد الشرق والغرب واعرضوه على روحاني الجن والإنس والطير والسباع وأعطوه صفاء آدم، ورقة ،نوح، وخلّة ،إبراهيم ولسان إسماعيل، وكمال يوسف، وبشرى يعقوب، وصوت ،داود، وزهد يحيى ، وكرم عيسى (عليه السلام). ثم انكشف عنه ، انكشف عنه، فإذا آنا به وبيده حريرة بيضاء قد طويت طيّاً شديداً وقد قبض عليها ، وقائل يقول: قد قبض محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) على الدنيا كلها فلم يبق شيء إلا دخل في قبضته. ثم إن ثلاثة نفر كأن الشمس تطلع من وجوههم، في يد أحدهم إبريق فضة ونافحة مسك ، وفي يد الثاني طشت من زمردة خضراء لها أربع جوانب من كل جانب لؤلؤة بيضاء، وقائل يقول: هذه الدنيا فاقبض عليها يا حبيب الله ، فقبض على وسطها ، وقائل يقول : اقبض الكعبة وفي يد الثالث حريرة بيضاء مطوية فنشرها ، فأخرج منها خاتماً تحار أبصار الناظرين فيه، فغسل بذلك الماء من الابريق سبع مرات مرات ثم ضرب الخاتم على

ص: 63

كتفيه وتفل في فيه فاستنطقه فنطق، فلم أفهم ما قال، إلا أنّه قال : في أمان الله وحفظه وكلأته، قد حشوت قلبك إيماناً وعلماً ويقيناً وعقلاً وشجاعة. أنت خير البشر ، طوبى لمن اتبعك وويل لمن تخلف عنك ، ثم ادخل بين أجنحتهم ساعة وكان الفاعل به هذا ،رضوان، ثم انصرف وجعل يلتفت اليه ويقول : ابشر يا عزّ بعز الدنيا والآخرة. ورأيت نوراً يسطع من رأسه حتى بلغ السماء، ورأيت قصور الشامات كأنه شعلة نار نوراً ، ورأيت حولي من القطا أمراً عظيماً قد نشرت أجنحتها.

وجاء في حديث ثانٍ رواه ثقة الاسلام وشيخ الطائفة بأسانيد معتبرة عن الباقر والصادق (عليهم السلام)قال : لما ولد النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)جاء رجل من أهل الكتاب الى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة والعاص بن هشام وأبو وجزة بن أبي عمرو بن أمية وعتبة بن ربيعة فقال : أولد فيكم مولود الليلة ؟ فقالوا : لا . قال : إذن فولد بفلسطين غلام اسمه أحمد به شامة كلون الخز الأدكن، ويكون هلاك أهل الكتاب واليهود على يديه. قد أخطأ كم والله يا معشر قريش فتفرقوا وسألوا، فأخبروا انه قد ولد لعبد الله بن عبدالمطلب ،غلام، فطلبوا الرجل فلقوه، فقالوا : لقد ولد فينا والله غلام . قال : قبل أن أقول لكم، أو بعد ما قلت لكم ؟ قالوا : قبل أن تقول لنا.

قال : فانطلقوا بنا إليه حتى ننظر إليه ، فجاؤوا إلى أمه فقالت : إن ابني والله لقد سقط وما سقط كما يسقط الصبيان، لقد اتقى الأرض بيديه ورفع رأسه إلى السماء فنظر إليها ثم خرج منه نور حتى نظرت إلى قصور بصرى، وسمعت هاتفاً في الجو يقول : لقد ولدته سيّد الأمة ، فاذا وضعته قولي:

أعيذه بالواحد*** من شر كل حاسد

وسميه محمد(صلی الله علیه وآله وسلم). قال الرجل : فأخرجته فنظر إليه، ثم قلبه ونظر الى الشامة بين كتفيه فخر مغشياً عليه ، فأخذوا الغلام فأدخلوه إلى امه وقالوا : بارك من مصير ، وفيما يثيره في أفكاره من مفاهيم مضيئة...

ص: 64

وبذلك لا يمكن أن يعيش المؤمن معاني القلق والضياع والحيرة، ولا يشعر بالجو الضبابي يغلّف رؤيته للأشياء التي حوله، ولا يتخبط في ظلمات الريب والشك والشبهة. ولا يتعقد أمام الأزمات التي تختنق في داخله لتخنق له حياته، لأنه يعرف من خلال إيمانه كيف يخطط لطريقه الذي لا التواء فيه ولا انحراف ويشعر بالنور يقتحم عليه وعيه للأشياء من من حوله، ويزيل عنه كلّ ريب وشبهة .. ويشعر في الوقت نفسه ان الكون يتحرك بالقوة الحكيمة الرحيمة القادرة التي تسيطر على كل شيء وتضع كل شيء بحساب وتقضى كل شيء بحساب، وبذلك لن تكون الحياة خشبة في مجرى التيارات، بل هي سفينة تسير بقيادة مدير حكيم.

حتى الموت- في وعي المؤمن - ليس ظلاماً وليس نهاية كل معاني الحياة، بل هو انفتاح على الله في حياة جديدة يواجه فيها الانسان نتائج مسؤوليته ، كما كان يواجه في الدنيا حركة المسؤولية ...فهو يعيش في وضوح الرؤية في الدنيا، وينطلق مع وضوح الرؤية في الآخرة ... وفي ضوء ذلك نفهم كيف يخرج الله الذين آمنوا من الظلمات إلى النور.

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾.

وقال أعلى الله كلمته وأمد الله تعالى في ظله الشريف ومتع الله المسلمين بطول بقائه: أما الذين كفروا بالله تعالى فهم الذين أغلقوا عيونهم عن الله لك فيه ، فلما خرجوا أفاق ، فقالوا له : مالك ويلك ؟ قال : ذهبت نبوة بني اسرائيل الى يوم القيامة، هذا والله من يبيرهم . ففرحت قريش بذلك، فلما رآهم قد فرحوا قال : ،فرحتم ، أما والله ليسطون بكم سطوة يتحدث بها أهل المشرق والمغرب.

من خلال سرد هذين الحديثين نعلم عظمة محمد وآله (صلی الله علیه وآله وسلم) وكيف انهم نور، وكيف ان الله تعالى يخرج بهم الذين آمنوا من الظلمات الى النور، وإن كان الحديث الأول والثاني مخصوصين بجدهم محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) وأنهما قد بينا لنا الفضائل والمعاجز التي قد ظهرت عند ولادته (صلی الله علیه وآله وسلم)، كما اتضح أيضاً من خلال ذلك ان عصر الجهل

ص: 65

والظلمات وعبادة الأوثان قد ولى بقدوم محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)إلى دنيا الوجود وتشريفها بطلعته .

قال مولانا الصادق الا في معاجز يوم ولادة جده محمد محمد (صلی الله علیه وآله وسلم): أصبحت الأصنام على وجوهها ، وارتج ايوان كسرى وسقط منه أربع عشرة شرفة ، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ولم يبق سرير لملك إلّا أصبح منكوساً والملك مخرساً لا يتكلم يومه ذلك، وانتزع علم الكهنة، وبطل سحر السحرة، ولم تبق كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها.

نعم، إن ولادته قد قصمت ظهور الجبابرة والأكاسرة والقياصرة. وجاءت بالهدى ودين الحق ، فكانت رحمة للعالم الكوني قد محقت الشرك والضلال وقصمت القيود والأغلال من أعناق المحرومين والمظلومين، وحررت البشرية من العبودية الزائفة، ودعتها الى العدل والمساواة، فوحدت بين أفراد البشر أبيضهم وأسودهم، عربهم وعجمهم ، شرقيهم وغربيهم، غنيهم وفقيرهم، رئيسهم ومرؤوسهم.... فكلهم في نظر الاسلام الذي شع نوره ببركة محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)بنو أب واحد حيث إنهم مخلوقين من طينة واحدة ولهم إله واحد ،ومرجعهم الى واحد ،ومعاشهم ومعادهم، دنياهم وآخرتهم، حشرهم ونشرهم ، كل ذلك تسود عليه الوحدة الشاملة، من حيث إن الدين والاسلام دين الوحدة الكبرى في هذا العالم الفسيح .

نعم، إنه نور سطع من أم القرى أشرف البلاد وأفضلها على الله سبحانه وتعالى، بلدة فيها الخيرات والبركات، وقد زادت خيراتها وبركاتها وموارد فضائلها فأصبحت نامية طامية ببركة ولادته وبزوغ نوره فيها . بلدة دعائم بيتها بالأمن والطمأنينة مأهولة ، وأدعية العاكف والباد بكعبتها مستجابة ، وقد أجاد في وصفها الخوري يوسف اسطبان حيث قال :

وأم القرى بين الأعارب مكة*** لها الشرف العالي القديم الممجد

أقام بها التوحيد ديناً مشرفاً*** وأثبت مجد العرب فيها محمد

ص: 66

بلدة من أهم أسباب نموها حاجة الحجيج، إذ كانوا يطلبون المأوى والملجأ فلا يجدون سواها، وهي النقطة الواصلة بين الهند والشام ومصر وغيرها.

وكان حكّامها في ذلك الوقت من قريش وأما سائر الأمة العربية فكانوا متفرقين قبائل في أنحاء الصحراء، يفصل بعضها عن بعض البيد والقفار وعلى كل قبيلة أمير وأمراء. وأما الحرب بين القبائل فقل أن تخمد جذوتها، ولم يكن يؤلف قلوبهم أي حلف علني سوى تلاقيهم عند الكعبة حيث كانت مجتمعة على اختلاف وثنيتهم . وقد ظل العرب على هذه الطريقة من النزاع والتخاصم أحقاباً طوالاً، في قتال مستمر ونزال ،متحكم وسلب ونهب وتحاسد وتباغض وتقاتل وتناحر لا تخبو نارها ولا يهدأ سعيرها، تلتهم الرجال ، وترمل النساء وتيتم حروبهم الأطفال، وخطباؤهم وشعراؤهم أسوء حالاً منهم يستحثون العزائم، ويستفزون العواطف، ويشجعون الجبان، ويحضون على الطعن والنزال .

يقول جون لابوم وهو يصف العالم قبل الاسلام: «كان جو الأرض متلبداً ، بسبب الاضطرابات الوحشية في كل جهة، وكان اعتماد الناس على وسائل الشر أكثر من اعتمادهم على وسائل الخير، وكان أجمع الرؤساء للثقة والطاعة ، أشدهم صيحة في ميدان الحروب والمعارك . والعمل الغالب لهم سلب الأمم والشعوب».

نعم، من وسط هؤلاء بزغ النور الإلهي كاشفاً عن الظلمة مبدداً السواد الحالك في قبة السماء، نور من صفوة سلالة قريش ونخبة بني هاشم، وأصلها أشرف العرب بدواًوحضراً وأفضلهم بيتاً وأعزهم نفراً ، لم يزل ينتقل من خير الآباء إلى خير الأبناء حتى انتهى إلى كبير مكة عبد المطلب بن هاشم ثم إلى أبيه عبدالله والد المصطفى ، أشرف الناس نسباً عجماً وعرباً ، فهو ذو نسب زكي ؛ إبراهيم خليل الله دعامه وإسماعيل شامه وكنانة ذمامه وقريش نظامه وهاشم تمامه اختاره الله تعالى من أرفع البيوت والمنازل، وإلى ذلك يشير بقوله (صلی الله علیه وآله وسلم): إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشا،

ص: 67

واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ؛ فأنا خيار من خيار من خيار. وما أحسن ما قاله عمه أبو طالب(عليه السلام) :

إذا اجتمعت يوماً قريش لمعشر*** فعبد مناف سرها وصميمها

وإن حصلت أنساب عبد منافها*** ففي هاشم اشرافها وقديمها

وإن فخرت يوماً فان محمداً*** هو المصطفى من سرها وكريمها

ولقد أشرنا إلى أسماء تلك الصفوة من سلالته في الجلسة المتقدّمة.

قال مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام)وهو يصف رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) : «مستقره خير مستقر، ومنبته أشرف منبت في معادن الكرامة ومماهد السلامة، قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار وثنيت إليه أزمة الأبصار ، دفن الضغائن وأطفأبه الثوائر، ألف به اخواناً ، وفرق به أقراناً ، أعزّ به الذلة، وأذلّ به العزة ، كلامه بيان ، وصمته لسان».

هو محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)، وهذا نور محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)الذي حول نظام العالم من الجهل إلى العلم ومن الوثنية إلى عبادة الخالق عز اسمه ومن العبودية إلى التحرر .

أحدث نوره حدثاً في العالم لانظير له في التاريخ العالمي، إذ ليس هناك مصلح واحد أحدث مثل هذا التغيير الشامل في حياة بأكملها تقطن بلاداً بهذه السعة ، وما من منقذ وجد قومه يخرون للأذقان غرقاً في الخسة والدناءة مثلما وجد النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)العرب.

قال «السير ولم سوير» في كتابه سيرة محمد(صلی الله علیه وآله وسلم): «امتاز محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)بوضوح كلامه وبرؤيته وانه أتم من الأعمال ما أدهش الألباب. لم يشهد الدهر مصلحاً أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق الحسنة ورفع شأن الفضيلة».

وليس ثمة أحد يستطع أن يسمو بقومه مادياً وعقلياً وروحياً إلى الآفاق العليا كما سما النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) آخذاً بید قومه إلى رحابها مع ان وثنيتهم وجاهليتهم كانت على حال من التأمل والاستقرار في نفوسهم ومعتقداتهم وعاداتهم كانت على نحو متين من الأحكام والتفلفل فضلاً عن ذلك بأنّ سلطان التسلط الذي كان في زمنهم

ص: 68

من الروم والفرس والدعاية المسيحية واليهودية. وكل منها مستندة إلى قوى دولها المادية، ومع ذلك لم تستطع أن تحدث أقل تغيير في حالتهم وهذه المحاولات الاصلاحية ، قد خلفت أمة العرب على أسوء حال من المبادىء الدينية والأخلاقية. وتلك التي رشحوا في أغلالها أحقاباً من الدهر.

وعلى كل حال قام بالمهمة حاملاً أثقالها متقلداً زمام الأمر ، ناشراً دعوته سراً وعلناً ، إلى أن بذل الجهد خلال ثلاث وعشرين سنة فبدلهم تبديلاً شاملاً.

فأضحت عبادة الأوثان شيئاً تافهاً . وانمحت معالم الوثنية في بلاد العرب قاطبة.وتيقظ في كلّ الأمة الشعور بكرامة الانسان الحقة، واستيقنت حماقة السجود للأشياء التي خلقت ليهيمن عليها الانسان ويسخرها ويتسلّط عليها ويقهرها .

ولم يتخلص العربي من الرذيلة والفجور العلني فحسب.... بل اندفع في قوة وحماس جامح وطموح نحو الاتيان بالفضائل النبيلة في سبيل ما هو اسمى من كل شيء في سبيل الفضيلة الحقة ومثالي الانسانية الصحيحة.

ولفظت العادات الجائرة والقوانين المزيفة أنفاسها وولت بدون رجعة . وكأنّما قد مرت بها عصاً سحرية فمحتها عن عالم الوجود كأن لم تكن وأبدلت بالتي هي أحسن قوانين عادلة وأنظمة موافقة لقانون البشر في جميع الأزمنة ، وأما الخمر فقدراختفت رسومه اختفاء عظيماً وأصبح في خبر كان...فدالت دولة الظلم والجور منسحبة بانتظام. أو بقهقرة وانهيار لا تلوى على شيء. مخلية الطريق للعفة في أعلى مراتبها .

سبحانك ... اللهم ربنا مقلب القلوب والأبصار ومغير الأحوال بعد ما كان العربي يعد الجهل والظلم والاستبداد مفخرة وكرامة وشجاعة. استحال إلى كلف بالمعرفة يغترف العلم من كل معين ويرتشفه من كل إناء حيثما وجد إليه سبيلاً .

والذي يحير الفكر ويدهش العقل ويجلب المحبة من قوة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وجاذبيته

ص: 69

واقتداره على أن يخلق من ذاك المجتمع المتفكك قوة عظيمة وصفاً واحداً .انقلاب سريع وتحول مباهت في حياة الفرد وأحوال الاسرة وظروف المجتمع وملابسات الامة ومطالب البلاد.

حياة جديدة بكل معانيها ، ونشاط فكري بكل نواحيه وارتقاء روحي لأعلى مراتب الكمال.

هاهي الساعة الأخيرة الخطر والفيصل النهائي أعلنت بانقلاب اهتز له العالم ، انتصر القائد الملهم ، وفشل العدو ورجع القهقرى لا تقوم له قائمة ولا ترفع له راية ، رفعت راية الحق ، نودي بها من السماء....

﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾.

جاء الحق الذي يهدي به الله المؤمنين ويخرجهم من الظلمات إلى النور ببركة محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)النبي العظيم والرسول الكريم والمصطفى المؤيد من رب السماء.

لهذا - ولا شك - فإن النفوس في يوم مثل هذا اليوم المبارك بمناسة ذكرى ولادته (صلی الله علیه وآله وسلم)ولا بد وأن تكون مبتهجة والقلوب مسرورة مستبشرة بقدوم محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)إلى دنيا الوجود بنوره المشرق الذي هو أصل كل نور في الكون.

كل نور في ساحة الكون بادي*** فهو من فضل نور خير العباد

أحمد المصطفى من الله قدماً*** قبل خلق الآزال والآباد

ملأ الكون وهو في حجب الغيب***سناه بنوره الوقاد

قم نهني من في الوجود جميعاً*** بسنا نور ليلة الميلاد

يا لها ليلة بصبح هداها*** قد تولت غياهب الالحاد

واهتدى كل مهتد بهداه*** حيث لولاه لم يكن من هاد

أول المرسلين والقطب فيهم ***وعليه يدور هدي العباد

بتعليمه النبيون جاؤوا ***فاستنارت بذاك طرق الرشاد

كم له آية بها اخرس العقل*** حديثاً ومنه نطق الجماد

ص: 70

لو أشارت لجامح الدهر يمناه*** لعاد الزمان سلس القياد

فهو الغوث إن ألمّ ملم ***وهو الغيث إذ تضن الفوادي

نافذ الأمر لو يشا قال سيري*** وقفي للأفلاك والاطواد

واجابته طيعاً بل وما اختل*** نظام ولم يكن من فساد

كم له في عروجه معجزات*** وشؤون وكم له من ايادي

وطأ العرش بالنعال فنال***العرش فخراً على جميع الشداد

این طه من الكليم المنادي*** ب- (اخلع) النعل حيث جئت الوادي

ويظن الجهول ان فخر طه*** بارتقاه للعرش دون العباد

ولعمري لقد تشرف فيه*** كيف لا وهو علة الايجاد

دع حديث المكان واذكر حد*** يث القرب من ربه بذاك النادي

كان من ربه تعالى عن القرب*** المكاني فی مقام الوداد

ثم قف ان ما وراه مقام*** لم يحم حوله سليم فؤاد

وكفى سيد النبيين فخراً***بعلي وآله الأمجاد

معشر تدعي الألوهة فيهم***وهم يفخرون بالانقياد

لا تلم مدعي الألوهة فيهم*** بعد دعوى التثليث والالحاد

هل رأوا من يسوع ما قد رأوه*** منهم في اقتدارهم والأيادي

ليس تحصى مناقب الآل إلا*** حيث تحصى مراتب الأعداد

صاح شنّف بذكر بعض المزايا*** مسمع الدهر تحي قلب الجماد

لا تقل أنه جماد واني*** لجماد قلب يعي انشادي

فلعمري في حبهم كلّ شيء***ذاق لطفاً حلاوة الايجاد

علماء قد أودع الله فیهم***كل علم وما له من نفاد

حجج الله في العوالم طراً ***وألیهم إيابهم في المعاد

***

ص: 71

ولائي لآل المصطفى ونبيهمُ*** وعترتهم أزكى الورى وذويهم

بهم سمة من جدهم وأبيهم***هم القوم أنوار النبوة فيهم

تلوح وآثار الإمامة تلمعُ

نجوم سماء المجد أقمارُ تمّه ***معالم دین الله أطوادُ حلمه

منازل ذكر الله حكّام حکمه*** مهابط وحى الله خزّان علمه

وعندهم سرُّ المهيمن مودع

مديحهمُ في محكم الذكر محكمُ*** وعندهم ما قد تلقاه آدمُ

فدَع حكم باقي الناس فهو تحكّمُ*** إذا جلسوا للحكم فالكلُّ أبكم

وإن نطقوا فالدهر إذن ومسمع

بحبّهم طاعاتنا تتقبلُ ***وفي فضلهم جاء الكتاب المنزل

يعمُّ شذاهم كلَّ أرض ويشمل ***وإن ذكروا فالكون نَدو مندل

لهم أرجٌ من طيبهم يتضوَّعُ

دعا بهم موسى ففرج كربه ***وكلّمه من جانب الطور ربه

إذا حاولوا أمراً تسهَّل صعبه*** وإن برزوا فالدهر يخفق قلبه

لسطوتهم والأشد في الغاب تفزع

فلولاهُم ماسار فلك ولا جرى ***ولا ذرأ الله الأنام ولا برى

كرام متى ما زرتهم عجّلوا القرى*** وإن ذكر المعروف والجود في الورى

فبحر نداهم زاخر يتدفّعُ

أبوهم أخو المختار طه ونفسه*** وهم فرع دوح في الجلالة غرسه

وأُمّهم الزهراء فاطم عرسه ***أبوهم سماء المجد والأمّ شمسه

نجوم لها برج الجلالة مطلع

لهم نسب أضحى بأحمد مُعرقا*** رقا منه للعلياء أبعد مرتقى

وزادهم من رونق القدس رونقا*** فيا نسباً كالشمس أبيض مشرقا

ص: 72

و يا شرفاً من هامة النجم أرفع

کرام نماهم طاهر متطهر*** وبُثَّ بهم من أحمد أحمد الطُّهر عنصر

وأُمُّهم الزهراء والأب حيدر ***فمن مثلهم في الناس إن عُدّ مفخرُ

أعد نظراً يا صاح إن كنت تسمعُ

علي أمير المؤمنين أميرهم*** وشبّرهم أصل التقى وشبيرهم

بهاليل صوّامون فاح عبيرهم ***ميامين قوامون عزّ نظيرهم

هداةٌ ولاةٌ للرسالة منبع

مناجيب ظلُّ الله في الأرض ظلّهم*** وهم معدن للعلم والفضل كلّهم

وفضلهم أحيا البرايا وبذلهم*** فلا فضل إلا حين يُذكر فضلهم

ولا علم إلا علمهم حين يرفعُ

إليهم يفرُ الخاطئون بذنبهم ***وهم شفعاء المذنبين لربهم

فلا طاعةٌ تُرضى لغير محبّهم*** ولا عمل ينجي غداً غير حبهم

إذا قام يوم البعث للخلق مجمعُ

حلفت بمن قد أمّ مكة وافدا*** لقد خاب من قد كان للآل جاحدا

ولو أنّه قد قطّع العمر ساجدا*** ولو أن عبداً جاء الله عابدا

بغير ولا أهل العبا ليس ينفعُ

بني أحمد ما لي سواكم أرى غدا*** إذا جئتُ في قيد الذنوب مقيّدا

اُناديكم يا خير من سمع الندا***أيا عترة المختار يا راية الهدى

إليكم غداً في موقفي أتطلع

فوالله لا أخشى من النار فى غدٍ*** وأنتم ولاة الأمر يا آل أحمد

وها أنا قد أدعوكم رافعاً يدي*** خذوا بيدي يا آل بيت محمد

فمن غيركم يوم القيامة يشفع

إن ولاء آل بيت الرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فرض واجب على كل مسلم ومسلمة بنص

ص: 73

القرآن الكريم :﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، ولكن لم يرع أعداء الاسلام حرمتهم لاسيما حرمة الصديقة فاطمة الزهراء عزيزة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)وحبيبته فإنها قد أوذيت ، ولسان حالها يقول :

حق الرسالة يا محمد ما تأده ***منهم ولا شفنا كرامة او لا موده

جاني الظالم واتبعه غيره ابعده*** او رایات معقودات داروها على الباب

ولا كفاهم غصب ميراثي أو منعني*** حتى اعصروني وكسروا بالباب ضلعي

أو بس ما سمعنى يا الأبو ابكي أو انعي*** قالوا اضربوها لا نصب الدمع سكاب

والله يبوبراهيم ما بطل حنيني*** ما دام يطرق مسمعي واتشوف عيني

جماعة اللي اسقطوا بعدك جنيني*** او قادوا وصيك واعصروني ابصائر الباب

قلها يا بنت المصطفى خفي شكاياك*** يوم القيامة تجتمع بالحشر وياك

وابدي الشكاية او ناخذ بحقكمن اعداک*** لابدّ ما ياتون كلمن حامل اکتاب

يأتوا بيوم ما يسعهم فيه انكار*** وابدي الشكاية أو يأخذ ابحقك الجبار

وانا خصيم اللي لفى بالحطب والنار*** والكل يذكر ما صنع في يوم الحساب

نعم يأتون في يوم الحشر والحساب ويسألون عما أوصاهم به رسول الله في حق بضعته الزهراء من مراعاتها وحفظها ، ويسألون أيضاً عن مخالفتهم لتلك الوصية :

ما وصى ابكتاب طه في حياته وعترته*** سيما الكرار حيدر والبتولة بضعته

ما درينا اشها الوصية اللي وصى بيها الرسول*أمر فاظم يحفظوها لو وصى بعصرالبتول

ما وصى ابطاعة وصيه المرتضى فحل الفحول*لووصى تنحرق داره وينسحب بعمامته

ص: 74

ما وصى وحى من الله ليش حبتر غيّره ***قبل ما يندفن جسمه صعد حبتر منبره

هتك حيدر حرق داره ضلع ناظم کسره*** من ضربها اجنينها اللي في بطنها ذبته

ليت يم الباب تصرخ شاف للزهرا الأمين*تنتخي به انكسر ضلعي وسقطو مني الجنين

إلى متى هالصبر دنهض يا أمير المؤمنين***قام ليث الله لجلها او شهر سیفه ابراحته

آه يا لولا الوصية ما اكفاية اتقربوه*** ذكر طه وحل عزمه وبالحمائل لببوه

وفرت الزهرا مروعه يوم قاموا يسحبوه ***ورم الفاجر متنها وادمي خدها ابلطمته

ويذكرني يا شيعة فرار الصديقة (عليه السلام)خلف ابن عمها وكفيلها عندما نظرت إليه والقوم يسحبونه بفرار بنات الرسالة وهن مروعات من المخيم إلى كفيلها الحسين وهن حافيات باكيات يمشين في أسر الذلة.

وفي بعض المقاتل :ان زينب الكبرى أقبلت على زين العابدين وقالت: يا بقية الماضين وثمال الباقين، قد أضرموا النار في مضاربنا فما رأيك فينا ؟ فقال(عليه السلام) : عليكن بالفرار، ففررن بنات رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)صائحات باكيات نادبات :

وتواكل في النوح تسعد مثلها*** أرأيت ذا تكل يكون سعيدا

حنت فلم تر مثلهن نوائحاً*** إذ ليس مثل فقيدهن فقيدا

لا العيس تحكيها إذا حنت ولا*** الورقاء تحسن عندها التغريدا

ان تنع أعطت كل قلب حسرة*** او تدع صدعت الجبال الميدا

عبراتها تحيي الثرى لو لم تكن*** زفراتها تدع الرياض همودا

ص: 75

وغدت أسيرة خدرها ابنة فاطم*** لم تلف غير أسيرها مصفودا

تدعو بلهفة ثاكل لعب الأسى*** بفؤاده حتى انطوى مفؤودا

تخفي الشجا جلداً فإن غلب الأسى*** ضعفت فأبدت شجوها المكمودا

نادت فقطعت القلوب بشجوها*** لكنما انتظ انتظم البيان فريدا

إنسان عيني يا حسين أخي يا ***ملي وعقد حمائي المنضودا

مالي دعوتك لا تجيب ولم تكن ***عودتني من قبل ذاك صدودا

المحنة شغلتك عني أم قلى*** حاشاك انك ما برحت ودودا

وقال السيد الجليل السيد حيدر الحلي رضوان الله تعالى عليه :

فإن التي لم تبرح الخدر أبرزت*** عشية لا كهف فتاوى الى كهف

لقد رفعت عنها يد القوم سجفها*** وكان صفيح الهند حاشية السجف

وقد كان من فرط الخفارة صوتها*** بغض ففض اليوم من شدة الضعف

وهاتفة ناحت على فقد ألفها*** كما هتفت في الدوح فاقدة الألف

لقد فزعت من هجمة الخيل ولها*** إلى ابن أبيها وهو فوق الثرى مغف

فنادت عليه حين الفته عارياً*** على جسمه تسفي صبا الريح ما تسفي

حملت الرزايا قبل يومك كلها*** فما انتقضت ظهري ولا أوهنت كتفي

وأعظم مصيبة على تلك النساء الهاشميات عندما مروا على القتلى، وذلك عند ما عزموا على الرحيل، إذ طلبت السيدة زينب سلام الله عليها من الحادي آن يمر بهم على كفيلهنّ للوداع :

ريض يحادي الظعن خلنا انودع احسين***ما هي امروه ايظل عاري بغير تكفين

ما هي امروه انشيل عنه او ما نواريه*** جسمه امرضض والترائب سافيه اعليه نمشي بلا والي او والينا نخليه*** بالظعن بالله خبروني القصد لاوين

بالله دخبروني قصدكم وين بينا*** مترد جوابي يا الذي اتسوق الظعينة

رايح الكوفه لوتودونا المدينة*** بالله درحموا هالعليل او هالنساوين

ص: 76

ثم جعلت تودع الحسين عليه الصلاة والسلام وتقول:

ودعتك الله يا جسد حامي الظعينة ***ساقوا مطايانا العدى او قوه مشينا

ودعتك الله يا ذبيح محتظى ابماي*** عنك ينور العين سافرت ابيتاماي

يمقطع الأوصال لو يحصل على اهواي*** ما فارقت جسمك يسلطان المدينه ودعتك الله سفرتي صعبه او طويله*** يحجاب صوني ناقتي عجفا او هزيله

محد بقى منكم يعقلي نلتجي له*** بس العليل او فوق ناقه امقيدينه

ودعتك الله يا طريح ظل عریان*** يا ليت خلّولك يخويه ثيابك اكفان

شال الظعن عنكم او والي الحرم وجعان*** كلما سمع طفله تون ايدير عينه

اوداعة الله يا عرايا ابحر الشموس*** صرعی او علیکم يخوتي خيل العدى ادوس اقعد اوياكم لو اقوض واتبع الروس*** بيتامكم شمر الخنا قوض اظعوته

اوداعة الله الروس شالت و یا لیتام*** ما ظنتي ابها الحال لقشر نوصل الشام حافظكم الله يا علي لكبر او جسام*** او ياللي على المسناة متقوم انولينه

ودعتك الله يا قمر هاشم یسردال*** نايم ابجنب المشرعة او ظعن الحرم شال

من يعدل الهودج يخويه لو صفى او مال** قطع الفيافي ابلا ولي ويني اوينه

يا خوي دورات الدهر كلها عجايب*** بالأمس حولي اشبال من فرسان غالب

واليوم راسي امن الهضم والضيم شايب*** نمشي حواسر والولي يبقى رهينه

ص: 77

ص: 78

القسم الثاني

اشارة

هذا هو القسم الثاني من الجزء الأول من كتابنا (موسوعة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)والعترة) وهو يشتمل على ثلاث جلسات مفيدة تتعلّق بذكرى مبعث الرسول الكريم محمد بن عبد الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، وقد ختمنا الجلسات المذكورة بموجز يسير من مصيبته ومصيبة ابنته الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليه وعليها أفضل الصلاة والسلام...

كما لا يخفى على القارىء الكريم أن الجلسات المذكورة بموجب تقسيم الكتاب إلى الأقسام الأربعة المشار إليها في المقدّمة فإنّ هذا القسم بحسب تنظيم الكتاب وترقيمه يكون مشتمل على الجلسة الرابعة والخامسة والسادسة .

ص: 79

ص: 80

الجلسة الرابعة : في ذكرى مبعث الهدى

اشارة

رجب الشريف المشتهر*** فيه لقد زال الكدر

شهر به بعث الرسول*** المصطفى خير البشر

للخلق بالهدى المنور*** للبصائر والفكر

أوحى الجليل إليه انذر*** للعشيرة والأسر

إن المطيع اليك ناج*** والمعاند في سقر

الساعة اقتربت به*** له قد انشق القمر

يا من عليه تنزّلت*** بالوحي آيات السور

ما تنطقن عن الهوى*** بل وحي رب قد قدر

ناديت في الملأ القرشي*** ملأ صوت قد جهر

ادعوكم أن تعبدوا*** الله الذي خلق البشر

وبأنني لرسوله*** ودعوا العبادة للحجر

هذا كتاب الله***معجزه إلی ومفتخر

فأتو بعشر مثله***سورا کهاتیک السور

عجزوا وکان جوابهم***حربا یشب بها الشعر

کم حاولوا أطفاء نور***الله فی شتی الصور

لکن أراد الله أن***یعلو الهدی ولک الظفر

فلترفوا الصوات***بالصلوات یا من قد حضر

***

ص: 81

أَعلمتَ مَنْ رَکب البُراق عنیما***وتلاهُ جبریلُ الأمین ندیما

حتّی سما فَوْقَ السّماء قدوما***وَدَنا وَکَلّم رَبُهُ تکلیما

«صَلُّوا عليه وسلموا تسليما»

وَمن المُخصَّصُ بالنُّبوه أوّلا***وأبُوهُ آدم طینه لم یکمَلَا

و من الذي نالَ العُلا حتى علا*** شرفاً وحَازَ الفخر والتفخيما

«صَلُّوا عليه وسلموا تسليما»

ذاك ابنُ آمِنة البشير المنذِرُ*** الصادق المُزمل المدثر

السابق المتقدّمُ المتأخرُ*** حاوي المفاخر آخراً وقديما

«صَلّوا عليه وسلموا تسليما »

اختارَهُ رَبُّ السمواتِ العُلا*** واختصه بالمكرمات وفضلا

وهداه بالوحي الشريف مُفضلاً**** سُؤلاً وذكراً من لديه حكيما

«صَلّوا عليه وسلموا تسليما»

هُوَ صَفْوَةُ الباري وخاتُم رُسِلهِ*** وأمينُهُ المخصوصُ مِنه بفضله

لادَر دُرّ الشعر إن لم أمله*** في مدح أحمدَ لُؤلؤاً منظوما

«صلوا عليه وسلموا تسليما»

یا من برام الله نُوراً للورى*** فأقام فيهم منذراً ومبشراً

ها غزسُ جُودِك في العراء وفي

الثرى وغداً سيجمعنا المعاد عموما

«صَلّوا عليه وسلّموا تسليما»

مني السّلامُ عليكَ ما هبَّ الصبا*** وتعانقت عذباتُ بانات الرُبا

و تناوحت ورق الحمائم في ربا*** وأضاءَ نُورك في السماء نجوما

«صَلّوا عليه وسَلَّموا تسليما»

وعليك صَلّى الله غالب أمره*** تعداد موجود الوُجود بأسره

ص: 82

باللهِ يا مُتلذذين بذكرِهِ*** مَنْ كان منكم ظاعنا ومقيما

«صَلّوا عليه وسَلّموا تسليما »

قال الله تعالى في كتابه المجيد :﴿ اقرأ باسم ربِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسانَ من عَلَقٍ * اقرأ ورَبُّكَ الأكرم * الذِي عَلَّمَ بالقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسان مَا لَم يعلم ﴾سورة العلق. قبل الشروع في بيان معنى الآية المباركة نشير الى بعض الأوضاع الفاسدة التي سبقت البعثة الشريفة أو رافقتها . وقد أنهاها بعض المحدثين بما يلي:

أ- الوضع الديني عند العرب : المعروف أن الوثنية بشكل عام كانت ديانة العرب، ومكة والكعبة بالذات كانت منطلق تلك الديانة، ففي الكعبة الشريفة ثلاثمائة وستون وثناً تشكل مصدر الحكم الإلهي في نظرهم، والسذج منهم يرونها آلهة فعلاً تضرُ وتنفع ، وأما الواعون فيرون أنها ليست آلهة بمعنى أنها تميت وتحيي، وإنما حلت فيها روح الإله فهم يعبدونها لتشفع لهم، وتقربهم إلى زلفى. بينما يرى فيها أصحاب النفوذ مصدراً من مصادر سلطانهم وثروتهم، فهي برأس مال التجارة أشبه منها بآلهة تعبد.

وقد كانت هي العرف القائم -أي عبادة الأوثان -ولم يعثر في الوثنيين على من يعترف بيوم الحساب، أو البعث حتى على طريقتهم وشرائهم. وقد صرح بعض زعماء الوثنية أيام النزاع بينهم وبين النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)، بأنهم غير مستعدين لترك أصنامهم إذ هي مصدر أمنهم والخيرات التي تدرّ عليهم. ثم هي التي تهبهم حياتهم الدنيا ، كما أن بركتها تمنحهم النصرة في الحروب. قال شاعرهم مستنكراً فكرة يوم البعث والحساب والجزء والحياة بعد الموت : قال

ذرينا نصطبح يا أم عمرو*** فإن الموت نقب عن هشام

ونقب عن أبيك أبي سعيد*** أخي الفتيان والشرب الكرام

يخبرنا ابن كبشة أن سنحيا*** وكيف حياة أصداء وهام؟

أتقتلني إذا ما كنت حياً*** وتحيني إذا بليت عظامي ؟

ص: 83

وأما الديانات السماوية مثل المسيحية واليهودية، فهي وإن كان لها وجود في الجزيرة العربية ، إلا أنه وجود يطفي عليه الوجود الوثني، فاليهود كان لهم وجود في يثرب و خيبر ، بينما خلت منهم مكة المكرمة على الإطلاق. وعلى الرغم من وجودهم المزاحم على السلطة للعرب الوثنيين «الأوس والخزرج»، إلا أنهم ظلوا مستقلين في عاداتهم وطقوسهم وسلوكهم وأعمالهم اليومية، كعادتهم أينما وجدوا في بلاد العالم قديماً وحديثاً حيث عرف ذلك عنهم على مدار التاريخ، وأنهم شعب يؤثر الإنغلاق على نفسه ويحبّ الإنزواء. ولعلّ مردّ ذلك ما قاسوه من التشريد بسبب الاضطهاد عندما حاولوا الفساد في الشعوب التي عاشوا بينها ، ثم الى النزعة العرقية الخبيثة التي صوّرت لهم أنهم أفضل شعوب الأرض، فهم أرقى رتبة وأنقى دماً . ودفعهم على هذا التصور الخبيث الى احتقار سائر أجناس البشر، مما حدا ببعض الجبابرة إلى الانتقام منهم وتفريقهم أيدي سبأ.

أما المسيحية فقد انحسرت إلى أقصى الجنوب في اليمن، وأقصى الشمال في بلاد الشام. ويقال إن مكة لم يكن فيها غير أربعة يعتنقون الدين المسيحي.

ب - الوضع الاجتماعي : تبرز الناحية الاجتماعية في أبهى صورها عند الانسان العربي ، إذ تذكرنا نخوته واهتزازه للكرم والضيافة، وهذا أمر تغنى به العرب في أشعارهم وسارت بها الركبان.

وكان مجرد وصف العربي بالكرم كفيلاً بأن تسخو نفسه بما تنتظر منه وما لا تنتظر، ولقد عدوا ذلك لدى تمدحهم في رأس قائمة الفضائل، وقصة الأعشى والمحلق مشهورة، حيث كان المحلق فقير الحال مع أخوات له ثلاث بعد أن أتلف أبوهم ماله . ومرّ الأعشى بديارهم، وهو المعروف عنه أنه ما هجا قوماً قط إلا وضعهم ولا مدح قوماً إلا رفعهم فنصحت المحلق عمته أن يكرم الأعشى حتى ينال مديحه، فأرسل المحلق للأعشى جزوراً وخمراً وبردين، فلما شبع الأعشى ونالت

ص: 84

منه الخمر لبس البردين ثم نظر إلى عطفيه وأنشأ يقول :

أرقت وما هذا السهاد المؤرق*** وما بي من سقم وما بي معشق

نفى الذم عن آل المحلق جفنة*** كجابية الشيخ العراقي تفهق

ترى القوم فيها شارعين وبينهم*** مع القوم ولدان من النسل دردق

العمري لقد لاحت عيون كثيرة*** إلى ضوء نار باليفاع تحرق

تشب لمقرورين يصطليانها*** وبات على النار الندى والمحلق

رضيعي لبان ثدي ام تقاسما*** بأسحم داج عوض لانتفرق

ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه*** كما زان وجه الهندواني رونق

یداه يدا صدق فكيف مبيدة*** وكيف إذا ما ضن بالمال تنفق

فسار الشعر هذا في العرب، وقبل مرور عام زوج المحلق أخواته الثلاث وأصبح ذا يسار.

ثم إنهم كانوا ذوي نجدة وبأس لا يتلكأون إذا استغيثوا ، وربما كان مآل ذلك إلى فطرتهم التي بنيت على الفروسية والشجاعة، ونشأتهم على إراقة الدماء وقصصهم في هذا الباب لا يأتي عليها حصر ولا حساب.

وقد لوث هذه الصفات سيل من العادات والخلائق الجاهلية، لا يحسد شعب على الاتصاف بها ، لما لها من أثر سيء في ضعة الإنسان العربي وهدم كرامته وهذه نماذج منها :

1 شاع بينهم الغزو للسلب والنهب شيوعاً بات عندهم كالدم الذي يجري في عروقهم. وما كانوا ليميزوا في سلبهم بين الأنعام والأموال والذراري والنساء إذ كانت كلها في ميزان واحد لديهم . وربما طلبت جماعة غزو قبيلة فوجدوها قد رحلت، وحتى لايعودوا بخفي حنين يغيرون على جيرانهم ولا يحفظون فيهم عهداً ولاذمة . بل ربما أغاروا على أهلهم وذويهم ، كل ذلك لأجل الإغارة . قال شاعرهم:

وكن إذا أغرن على قبيل*** واعوزهن نهب حيث حيث كانا

ص: 85

اغرن من الضباب على حلال*** وضبة إنه من حان حانا

وأحياناً على بكر أخينا*** إذا ما لم نجد إلا أخانا

2 -شبت نيران الحروب بينهم بفظاعة وقسوة وكانت الحروب تحصدهم وهم سادرون في غيهم وعنادهم، وقد تدوم الحرب عشرات السنين ولأتفه الأسباب، ولا تجد فيهم أحياناً من يجند نفسه لوقف نزف الدماء والمحافظة على حياتهم.

وحرب البسوس وداحس والغبراء وغيرها كثير شواهد على ما رسخ فيهم من حبهم للحرب وفنائهم تحت ظلال السيوف.

3 - دفنهم لأبنائهم وهم ،رضع، فبعضهم من كان يدفن الذكور والإناث مخافة الفقر ، وقد نهاهم القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى :﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ من إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾ ، وفي نص آخر:﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾ وبعضهم كان يئد البنت خاصة بزعم أنهم يخشون عليها من العار والفضيحة إذا كبرت ، إذا ربما وقعت في أسر الغزاة قال تعالى: ﴿ وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت﴾ .

4-لم تحظ المرأة عند العرب الجاهلين بحد أدنى من الرعاية والاحترام، بل كانت في نظرهم كأي شيء من ضرورات حياتهم، وأما أن يكون لها كيان مستقل محترم فذاك أمر قد غاب عن أذهانهم، ومن تقاليدهم أن المرأة تورث ضمن بقية الأملاك ، ويرث الابن زوجات أبيه ،حتى منع منه الاسلام والقرآن الكريم صور من نظرتهم للمرأة تبرز بوضوح مدى قبح تلك النظرة، حيث كانوا يفتخرون بالذكور، بينما يعيبون ربهم بأن عنده ملائكة وهن إناث، حتى لو أن أحدهم بشر بميلاد أنثى كان ذلك يوم عزائه.

قال الله تعالى :﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ

ص: 86

أيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

5 - النظام الطبقي البغيض الذي لا يسمح برفعة الإنسان استناداً إلى عمله مهما كان عمله عظيماً ، بسبب الانتساب إلى طبقة معينة من الناس، بل لايسمح بالمساواة بينه وبين طبقة النبلاء من الأسياد والأشراف، وقد ظهر هذا النظام في مكة بالذات، التي توزعت بين اثني عشر بطناً من قريش، ومجموعة من الموالي والحلفاء ثم طبقة العبيد. وبالرغم من من أن جميع البطون شبه عشيرة واحدة إلا أنها كانت تتنافس فيما بينها على الزعامة والوجاهة وإذا حزبهم أمر لجأوا إلى التفاخر بالأحساب والأنساب، جرياً على عادة سائر القبائل العربية. ولا ننسى توتر الجو الذي كاد يلهب مكة يوم بنى الحجر الأسود والمتتبع لقصصهم وحوادثهم يجد الكثير من المواقف التي يعلن فيها كل بطن فخره على الباقين. وأما الطبقات الدنيا في نظرهم من الموالي والعبيد فقد كانت ترزح تحت نير من الأعراف الجائرة، والتي أدت إلى تحمل هذه الطبقة أصنافاً من المهانة والازدراء حتى باتوا وكأنهم قد سلخت منهم صفة الإنسانية، وكأنهم لم يخلقوا إلا ليكونوا أشبه بالحيوان يؤدون مصالح أسيادهم دون أن يأملوا بشفقة أو رحمة.

ولعلّ هذا الوضع الموغل في العسف والظلم ، هو السبب البارز في سرعه اعتناق تلك الطبقة المهيضة الجناح الإسلام، حيث وجدوا فيه متنفساً من آلامهم وبؤسهم، والمنفذ الوحيد للخلاص من أوضاعهم التعيسة، وباباً من أبواب الفرج يشمون منه ريح الحرية والكرامة .

وبعد ارتفاع راية الاسلام كان لابد من تحطيم هذه الأفكار الجاهلية تشريعاً وتنفيذاً ، لذلك فقد عمل على المساواة بين المسلمين عامة. قال مولانا السيد الأمين قدس الله نفسه عن هذه المساواة ولنعم ما قال: «آخى الإسلام بين عموم أهله قريبهم وبعيدهم، عربيهم وعجميهم، وعجميهم ، شريفهم ووضيعهم، ملوكهم وسوقتهم، رجالهم ونسائهم من وجد منهم ومن سيوجد إلى

ص: 87

یوم القيامة . اعلن الله تعالى ذلك في كتابه العزيز على لسان النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)وقد تلاه النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)جهاراً على المسلمين، فسمعوه وقرأوه وحفظوه، وكرروا تلاوته مجتمعين ومنفردين فقال تعالى : إنّما المؤمنون إخوة ، بلفظ إنما المفيد للحصر فأصبح بمقتضى ذلك المسلم الذي في أقصى المغرب أخاً للمسلم الذي في أقصى المشرق، وبهذه الأخوة على أساسها المتين والمحافظة عليها قام الإسلام وظهر وانتشر ، وبالتهاون بها ضعف وتقهقر . ثم جعل لهذه الأخوة حقوقاً وحدوداً ولوازم، فأمر بالإصلاح بين المتخاصمين منهم، وأردف قوله هذا بقوله: فأصلحوا بين أخويكم وفرعه عليه ، منبهاً على أن الإصلاح هو من مقتضى تلك الأخوة وموجبها. وبالنصرة فقال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم): «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، ظالماً بردعه عن الظلم، ومظلوماً بدفع الظلم عنه . وهذه هي الأخوة الصحيحة الشريفة ، لا انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، ظالماً على ظلمه ومظلوماً على من ظلمه . وقال (صلی الله علیه وآله وسلم):«المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولايثلمه» وحرم عليه عرضه وماله ودمه، ونهى عن أن يهجر أخاه فوق ثلاث. وهذا يسير من كثير من لوازم الأخوة في الاسلام، فانظر بعين عقلك ، كم في هذه الأخوة من فوائد ومنافع، ومصالح عامة سياسية واجتماعية وأخلاقية ؟ وكم في هذه الأخوة من فوائد ومنافع، ومصالح تثمر تأليف القلوب وحفظ النظام الاجتماعي وحرص على هناء العيش وسعادة البشر ؟

ج - الوضع السياسي : قوتان عظيمتان كانتا تتقاسمان العالم في ذلك الزمان، هما دولتا الفرس والرومان.

وفي البلاد العربية بسط الفرس سلطانهم على منطقة العراق وبعض مناطق الخليج الفارسي، وولوا ملوكاً عرباً من قبلهم يحكمون بأسمهم ويمنحونهم الولاء. ومن أشهر العائلات العربية المالكة ملوك المناذرة الذين كان عرشهم في الحيرة قريباً من عرش كسرى في المدائن . كما بسط الرومان نفوذهم في بلاد الشام، ومن شهر حكامها العرب الدائرين في الفلك الرومي ملوك الغساسنة ذوو المجد في آخر

ص: 88

العهد الجاهلي. كان مقرهم في بادية الشام، وآخر ملوكهم جبلة بن الأيهم ذو النسب العريق في الملك. وكان من المخضرمين الذين عاشوا فترة في الجاهلية ثم في الاسلام. أسلم في عهد عمر بن الخطاب وقدم المدينة ثم ذهب الى الحج في وفد كبير. وفي أثناء الطواف وطأ أطراف ثيابه رجل من بني فزارة فحل إزاره، فغضب جبلة ولطمه على خده فاشتكى الرجل جبلة الى عمر بن الخطاب، وحكم عمر بأن يسترضي جبلة الرجل أو يقيده من نفسه. ولما اعترض جبلة على هذا الحكم بقوله : كيف أقيده من نفسي وأنا ملك وهو سوقه ؟ فقال عمر : قد ساوی بينكما الاسلام فاستمهل جبلة عمر الى الغد.

وفي الليل فرّ جبلة مع أصحابه إلى هرقل الروم وعاد الى النصرانية. ثم ندم وأنشأ يقول :

تنصرت الأشراف من عار لطمة*** وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني منها لجاج ونخوة*** وبعت لها العين الصحيحة بالعور

فياليت أمي لم تلدني وليتني*** رجعت الى القول الذي قال لي عمر

وياليتني أرعى المخاض بقفزة ***وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر

وياليت لي بالشام أدنى معيشة*** أجالس قومي ذاهب السمع والبصر

وأما داخل الجزيرة العربية فقد عاش العرب منتهى التحرر من ربقة السلطة والحكم، حيث لم تكن لهم دولة ذات سيادة وقانون لا بالمعنى المعروف اليوم ولا بالشكل الذي عهد في بلاد العراق والشام آنذاك، فكانت كل قبيلة منهم تخضع لسلطان زعميها الذي يرث الزعامة عن آبائه، لذلك فقد كانت أرضاً خصبة لنمو العقلية العشائرية، التي يعتبر الاعتداد بالنفس والفخر أهم أركانها ، وقد قلّ الحضر في الجزيرة العربية وكانت كبرى المدائن العربية مكة والطائف ويثرب .

وأما القبائل فهي في بيوت الشعر والوبر ينقلونها معهم حيث ارتحلوا طلباً للماء والكلاً.

ص: 89

ولطالما كانت الواحات سبباً للفتنة والحروب، تماماً كحالات الثأر التي لم يعالجها نظام ولا هذيتها تربية وباستثناء العادات والأعرف التي تبانى عليها عرب الجاهلية، فقد حرموا مما يسمى بالقانون الذي يحافظ على أمنهم وسلامتهم في أموالهم ودمائهم وأعراضهم . وقد مرّ بنا أن العرف الذي سادهم هو بث الرعب فيما بينهم من جراء الغارات والغزوات.

كذلك لم تقم فيهم محكمة تفصل في خصوماتهم، أو تحافظ على حتى المظلوم والضعيف.

د- الوضع الاقتصادي : تتمتع جزيرة العرب بكنز من الخيرات إلا أن هذا الكنز كان بحاجة الى من يستخرجه، ولما لم تتهيأ وسائل العلم في تلك الأزمنة فقد بقى الكنز تحت رمال الصحراء حتى عصرنا هذا. فاقتصرت معيشة العرب على ما تنبته الواحات المتناثرة، والمواشي التي كانت عمدة طعامهم ووسيلة تنقلهم في طول الصحراء وعرضها .وأهل البداوة منهم لم يعرفوا سبيلاً للثراء غير الأنعام ، وأما أهل الحضر مثل الطائف والمدينة فقد تهيأت لها الظروف المؤاتية لبث المزارع والبساتين في أرجائها، وكانت الطائف ولا تزال منتجعاً ذا أهمية كبرى، لما تتمتع به من الخيرات ووفرة المياه واعتدال المناخ الطبيعي. وأما مكة فقد حرمت من كل ذلك إذ هي عبارة عن شعاب من الصخور لا تنفجر فيها مياه ولا تنبت أعشاب. لذلك فقد لجأت قريش إلى التجارة والاتكال في طعامهم على ما يمكن تخزينه مما يجلبونه من اليمن أو الشام، وعلى ما يردها من إنتاج الطائف التي لا تبعد عنها أكثر من 80 كلم ، كما كانت مواسم الحج والأسواق الشعرية والخطابية سبباً من أسباب التجارة دون تحمل مشاق السفر إلى الشمال أو الجنوب.

وأما الصناعة على مستوى يرفع من شأنهم، بحيث يصدرون إنتاجهم الى البلاد المجاورة لهم على أقل تقدير، فلم يعرف ذلك عنهم. نعم، عرف عنهم نسبح ثياب الوبر والصوف وخيام الشعر، وصناعة بعض آلات الحرب كالسيوف والرماح،

ص: 90

وإن كانوا كثيراً ما استوردوا من الهند وغيرها بعض قطع السلاح. ولا ننسى تجارة الرقيق أبيضه وأسوده، خصوصاً في مكة حيث اعتبر أهلها أنفسهم كبراء لا يستقيم عيشهم إلا بالاتكال على عمل العبيد ، مما زاد في غرورهم ونخوتهم الجاهلية التي أوردتهم موارد الهلكة والضلال ورفض دعوة الحق .

والثراء والرفاه بمعناه الشائع اليوم لم يعرفه العرب إلا بعد الاسلام عندما فتحوا البلاد واستولوا على كنوز كسرى وقيصر ودانت لهم الأمم بالطاعة ودفع الجزية .

ه- - الوضع الثقافي : انتشر العلم في العالم القديم في بلاد الإغريق ، التي أنتجت فلاسفة كباراً لا تزال أفكارهم وآراؤهم منهلاً لطلاب العلم إلى يومنا هذا. وفي الهند وبلاد فارس ظهرت علوم وفنون كثيرة ، يمكن للمتتبع أن يعرف ما شاء عنها من كتب التاريخ. أما بلاد العرب فلم تفتح فيها جامعة أو مدرسة، ومما يسترعي الانتباه أنهم لم ينتقدوا الأمية ولا كانت عندهم يوماً من صفات النقص مثل الفقر أو العاهات البدنية ومكة بالذات لم يكن فيها عدد وافر ممن يجيد القراءة والكتابة، ولما بعث النبي محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)وضعوا فيه مجموعة من العيوب، مثل قولهم :«شاعر» ومجنون، وكاهن إلى غيرها من الألقاب، إلا أنهم لم يعيبوه قط بالأمية .

نعم وسط هذه الأجواء ذات الأوضاع الفاسدة بعث الله تعالى محمد الأمي بالحق بشيراً ونذيراً وداعياً الى الله بإذنه وسراجاً، وفي بد الدعوة حينما كان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يتعبد في (غار حراء) في ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك سنة (610) بالقرآن الكريم، يحمله مسؤولية تبليغ رسالة الله تعالى إلى البشرية كافة، إذ نزل الوحى عليه الا الله وكان أول ما هبط به الوحي من القرآن الكريم سورة الفلق والتي عليه. أولها قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ إلى آخر آيات السورة المباركة.

وقد كانت هذه الآيات السامية افتتاحاً رائعاً يلتقي وحقيقة الانسانية تمام الالتقاء في جميع مقوماتها وخصائصها الرئيسية : الفكر العلم الوحدة الانسانية

ص: 91

الشاملة والمرتبطة بآصرة الاخوة الانسانية وبالصلة بأقوى وأقدر وأقهر قوة في الوجود وهو . أول لحظة الله تعالى . افتتاحاً رائعاً يلمس الانسان في من الدعوة واقعه الانساني، ويضع يده على نقطة الانطلاق إلى الخير والسمو والعزة، وبأول كلمة في دستور الدعوة ... اقرأ : أول كلمة في دستور الاسلام كانت (اقرأ) ولم تكن (قاتل) ولم تكن (اغتن) ولم تكن (سيطر ) لأن الاسلام ليس دين قتال، ولا دين مال، ولا دين سيطرة وسلطان، ولكن الاسلام دين العلم والفكر والهدى . (اقرأ) لا باسم ملك ولا أمير ، ولا باسم حزب، ولا باسم شعب، بل (باسم ربك) (الذي خلق)، لم يقل الذي خلق قريشاً ، ولا الذي خلق العرب، بل الذي خلق الخلق جميعاً لأن دعوة محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) إلى الخلق جميعاً .

فعلى المسلمين كافة ولا سيما شباب الاسلام البواسل وحملة الرسالة الحقة وأبناء أمتنا الاسلامية الكريمة الذين يشكلون الجزء الواعي من الأمة أن يعلموا عظمة الاسلام المحمدي الخالد وعظمة هذه الدعوة التي حمل لواءها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ليعلم البشرية كما علمه الله تعالى ويهذبها ويصلح اعوجاجها.

على أبناء أمتنا خصوصاً في هذه المناسبة مناسبة ذكرى مبعث الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)أن يجددوا العهد الله تعالى من أجل الدعوة إليه وأن يعلموا أنه ليس غير الاسلام قادر على الحل الصحيح لمشاكل أمتنا المعقدة بل هو البلسم الشافي لآلامها عليهم أن يبشروا بكلمة الحق ولا ترهبهم قوى الليل مهما تكاثرت وان لا تقعدهم عن متابعة أعمالهم من أجل إعلاء كلمة الله تعالى دعايات أعداء الرسالة

الاسلامية المقدسة .

عليهم أن يدركوا حقيقة الرسالة المحمدية التي جاءت لتعيد إلى الانسانيةكرامتها وعزتها كما عليهم بعد إدراكها تعليم الناس بها غير مكترثين من تلك الدعايات التي يشنها أعداء الاسلام ودعاة الباطل المهزوم ضد الاسلام وأنصاره ودعاته.

ص: 92

عليهم أن يتعلموا التعاليم الاسلامية الصحيحة وعليهم أن يعلمونها الناس وان يضعوا على بالهم بأن تعاليم الاسلام وأنظمته ليست مرتجلة ابتدعتها عقول البشر القاصرة.

وعليهم أن يعلموا أيضاً ان الاسلام ليس هو النتاج الحتمي لمرحلة تاريخية معينة انتهت وانتهت مهمة النظام بانتهائها . وذلك كما يدعيه الماركسيون الذين يقولون بأن الاسلام قد استنفذ أغراضه وانه قد قام بخدمات للانسانية في دور من أدوارها ثم انتهت مهمته هذه فالذين يقولون هذا إنما يفترون ويشوهون حقيقة واضحة من حقائق الاسلام المشرق العظيم. فالاسلام رسالة الله تعالى شأنه إلى الانسانية المعذبة وهو نظام الانسانية الأخير الذي لا تتلقى الانسانية سواه الى أن يرث الله الأرض ومن عليها . كما على أبناء الاسلام أن يعلموا جيداً أن امتنا الاسلامية قد جربت ألواناً عديدة من الانظمة فلم تحقق لها سعادة ولم تخط بها الى الشفاء المتواصل وكانت الأمة تحس بأنها يجب أن تعود الى دينها لتتملى كنوزه ولتنفهمه ولتنخذه نبراساً يضيء لها الطريق ويزيل الأشواك من دربها ولتستعيد مركزيتها فتعود لتطل على الانسانية فتملأ حياتها رحمة وعدلاً .

نعم، التفتت الأمة لتجد في الاسلام لتجد في الاسلام طريق الخلاص وهذه الالتفاتة تعطي الشباب الاسلامي الواعي قوة دفع نحو العمل الأفضل والدعوة إلى الله تعالى اكثر مما كانوا عليه في دعوتهم بل وتعطيهم قوة لتعبئة قوى الامة لكي تنهض وتحقق ما حققته في فجر تأريخها العظيم حيث شهد التأريخ دولة الحق التي كانت قد انبعث من أمة هي خير أمة أخرجت للناس.

على شباب الاسلام أن يبذلوا كل مالديهم من غال ورخيص في خدمة الاسلام، كما عليهم وهم يمارسون هذه الخدمة الجليلة أن يدركوا جيداً ان المشاكل الخانقة والتيارات الفكرية الغامضة والدعوات المرتجلة قد خلقت من أمتنا أمة لا تحس بأن لديها رصيداً فكرياً عظيماً ولكن الأمة ستتنبه على أصواتكم

ص: 93

وستهب من رقادها لتجاهد في سبيل الله تعالى ومن أجل إعلاء كلمته.

نعم على الشباب المسلم بعد إدراك ذلك أن يبذلوا - كما قلنا - كل مالديهم من غال ورخيص في خدمة الاسلام والامة الاسلامية المبتلية بنظم الاستعمار البغيضة أن تعلم أن وجود الشباب الواعي المهذب بنعمة من نعم الله تعالى عليها، وان تعلم ان الشباب هم النواة لخلق أمة من جديد تحاكي الأمة التي أنشاها الرسول الأعظم(صلی الله علیه وآله وسلم) في كل صفاتها وهم يستطيعون أن يغيروا مجرى تفكير الامة بعلمهم الواعي إنهم هم القادرون على أن يمسكوا بيدها الى الصراط المستقيم الذي قادها إليه محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)لأنهم أبناء محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)الذين أخذوا على عواتقهم نصرة دينه الكامل وشريعته الغراء التي بعث بها. ولا يفوتني في نهاية هذه الجلسة المباركة وبمناسبة هذه الذكرى الجليلة تعطير هذا الحفل ببعض ما جاء في مدح الرسول ومدح شريعته وسلطانه الظافر ودينه الأبدي الخالد وفوز الأنبياء به(صلی الله علیه وآله وسلم)، وذلك ما جادت به قريحة مولانا المقدس نابغة الدهر وفيلسوف الزمان المولى الامام محمد حسين الأصفهاني له في ذلك ولنعم ما قال :

ودينه في رتبة الكمال*** شريعة الجلال والكمال

شريعة الاخلاص والمكارم*** شريعة الآداب والعزائم

شريعة الحقوق والعدل السوي*** في الحكم ما بين الضعيف والقوي

فضائل الشرائع المعظمة*** في طيها بكل معنى الكلمة

فانها خاتمة الشرائع*** كأنها لها من الطلائع

شريعة طيبة الموارد*** زلاله عذب لكل وارد

ماء الحياة من زلال مائها*** وبهجة الفردوس من صفائها

شريعة رياضها أنيقة*** وغرسها على يد الحقيقة

على يد الخبير بالمصالح*** أكرم به من مرشد وناصح

شريعة لا عسر فيها وحرج*** سمحاء سهلة لكل من ولج

ص: 94

سمحاء لا تمحقها الطباع*** تلتذّ من بيانها الاسماع

له لواء الحمد والنصر معه*** فاز بظله غداً من تبعه

ولاية الله له على الورى*** من غیر حد أولاً وآخراً

وكيف وهو ظله الممدود*** انى له الحدود والقيود

كل نبي هو تحت رايته ***كل ولي هو في ولايته

كل شيء خاضع لأمره*** وكل وصف هو دون قدره

وما لشأن الشرّ ما اطراؤه*** لوح الوجود کله ثناؤه

کفاه مدحاً مدح من سواه*** وجل أن يدركه سواه

و من كتابه المجيد ظاهره*** آیات مجده الأصيل الباهرة

يعرب عن شؤون سرّ ذاته***بمحكماته وبيناته

ام الكتاب من شؤون ذاته*** وغاية الاخلاص من صفاته

سموه یعرب بالاسراء*** وكهفه حرز من العلاء

طأطأ كل الأنبيا لطاها*** ذلك عِز عز أن يضاهى

تقبلت تربة آدم الصفي ***بیمنه اکرم به من خلف

سجدة الأملاك لا لفرته*** بل نور ياسين بدا في غرته

به نجا نوح من الطوفان***بمرسلات اللطف والاحسان

نجى من الريح العقيم هود*** لان لداود به الحديد

وفاز ابراهيم بالامامة*** ومنه نال هذه الكرامة

به نجا من کل کید وبلا*** يوسف واستوى على العرش العلا

وكان لقمان رفیق نعمته*** اعطى رمزاً من دقيق حكمته

به نجاة يونس المسجون*** من ظلمة البحر وبطن النون

حجر على كل نبي وولي

وما ابن البتول الا*** مبشراً من العلى الأعلى

ص: 95

وآل عمران على مائدته*** بل يستفيد الكل من فائدته

والإنس والجن رجال ونسا*** على بساطه صباحاً ومسا

فليس في الوجود نعمة*** ولا على الأعراف إلا خدمة

وليس قدر ذلك الأنعام*** مختفياً إلا على الانعام

والفتح والنصر يدوران معه*** فما أعز جاره وأمنعه

وفي اللقاء عونه الرحمن*** وفي البلاء حرزه الفرقان

والعاديات خيله المغيرة*** والذاريات جنده المثيرة

و بطشه الشديد بالأحزاب*** كأنه قارعة العذاب

زلزلة الساعة من زلزاله*** وهول يوم الحشر من أهواله

ولا يهوله تكاثر العدى*** وهل ترى فوق يدالله يدا

وکلّما تحزبوا تحزّبا*** تفرقوا كأنهم أيدي سبا

كأنهم وهم ألوف عادية***عاد وأحقاف وريح عاتية

جاثية من هول ذاك المطلع*** وانسفطرت قلوبهم من الفزع

حصونهم مثل الجبال الراسية*** خرت کبيت العنكبوت واهية

دانت له الروم ودانت العرب*** وانخذل الفرس به ولا عجب

وأصبحت بعد حروب غاشية*** من طلقائه قريش الطاغية

نعم لقد أظفر الله تعالى نبيه الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)على قريش بعد أن نال ما نال منهم من الأذى والسخرية والاهانة والاستهزاء. فقد كانوا يضعون الشوك تحت قدميه الشريفتين وقد تجرؤا على أكثر من ذلك فكسروا رباعيته الشريفة حتى قال (صلی الله علیه وآله وسلم): ماأوذي نبى مثل ما أوذيت.

نعم، قصدوه بالمكر والاهانة في حياته، وأظفره الله تعالى عليهم، فأضمروا الحقد والعداء لآله بعد وفاته.

جاء في الحديث عن صادق آل محمد(عليه السلام) ، عن أبيه، عن جده(عليه السلام) قال :سألت أمير المؤمنين(عليه السلام)عن قريش وما فعلت فقام(عليه السلام) خطيباً : فحمد الله وأثنى عليه

ص: 96

وذكر النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)فصلى عليه وقال : أيها الناس مالي ولقريش وما تتكر منا قريش غير انا أهل بيت شيّد الله فوق بنيانهم بنياننا ، وأعلى فوق رؤوسهم رؤوسنا، واختارنا الله تعالى عليهم وجعل فينا النبوة والإمامة فحسدونا على ما آتانا الله تعالى ونقموا على الله أن اختارنا وسخطوا ما رضى الله وأحبوا ما كره فلمّا اختارنا الله عليهم أشركناهم في حريمنا وعرفناهم الكتاب والسنة وعلّمناهم الفروض والدين وحفظناهم الكتاب المبين وهديناهم الصّراط المستقيم فتواتبوا علينا بعد نبينا وجحدوا فضلنا وغصبونا حقنا وسلبونا سلطاننا ومنعونا إرثنا الذي جعله الله لنا . اللهم إنّي أستعين بك وأشكو إليك قريشاً ، فخذ لي بحقي منها ولا تدع مظلمتي لديها فانك أنت العدل الحكيم.

هكذا فعلت قريش بآل محمد الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وبالخصوص من أمير المؤمنين صاحب خلافة الله الكبرى فقد غصبها منه أهل النفاق والجهل والضلالة والحال انهم يعلمون منزلته العظيمة عند الله وعند رسوله، فقدموا عليه من لا يستحق التقديم .

نصبوا الباغي وأعزلوا ذباح الأبطال*** من قبل طه اجنازته بالنعش تنشال

والله هظيمه اعليك تقديم الجماعه*** وما حد سمعنا في الحرب مشتهر ساعه

واللي هدم ركن الهدى وزاد افجاعه*** ضرب البتوله وتنسحب يالفحل بحبال

كل المواقف لولیه انکروها*** وقعة خيابر لمن الرايه خذوها

ابذله وكسيره يم رسول الله ارجعوها*** ونادى ابن عمي يا علي وجيته ابتعجال هذي أفعالك ظاهرة شمس مضيئه*** حاشا ابحبل تنقاد قادتك الوصيه

هذا اللي جسر بن صهاك الحبشية*** يعصر الزهرا ويلطم الخد ابن لنذال

شيمنعه مياذي الزهرا من الضرب*** ذاته ردیه لا لشدة باس في الحرب

والكعبه الشريفة ما الله عبد ***ولا عن أصنامه قلبه تغير ولا مال

الها السبب قادك بالحبل يا عمدة الدين*** او سقط الزهرا او النبي من غير تكفين ودارك حرقها ولا شفت في العسكر امعين*** واكتاب فاطم مزقه واستكبر او طال

ص: 97

وردت حزينه اتنوح مقهوره البتولة*** والجفن من عين القلب يجري مسيلة

وخلصت حياة الطاهر وماتت عليلة*** والجسد منها امورم وتدري يسردال

ولقد وجهت سلام الله عليها عتاباً ممضاً الى ابن عمها امير المؤمنين (عليه السلام)

ولسان حالها يقول :

يمكلم الأموات يا مخاطب الأذياب*** تصبر وضلعي يكسرونه ابصاير الباب

منته الذي مرحب جندله في الحريبة*** وعمرو ابن ود العامري ليث الكتيبة

شقيت منه هامته ابضربة عجيبة*** واليوم ياكرار تدخل بيتي اجناب

وين الشهامة والشجاعة والحمية*** لجناب تحميها ولا تحمي عليه

يا ليت قبل المصطفى جتني المنية***وداري اختلت مني وشخصي في الثرى غاب

فتح اعيونه والغضب منه تبدى ***والسيف سله والقبا الأصفر ترده

ونادى انا المدعو يزهرا بكل شدة ***سمعي كلامي وتعرفني داحي الباب

لولا تصبري والذي لفلاك بيده ***وسكان ارضها والسما كلها عبيده

تدرين ابو زينب أبو الصولة الشديدة*** لارجع وقایع لوليه يوم لحراب

ص: 98

وان كان بتعبي يفاطم يا زكية*** عتبك على المختار لا اتعتبي عليه

ذاك الذي قصر يميني بالوصية*** حاضر وضلعك يكسرونه يام لنجاب

ليلومني امن اعتب وتتجارى ادموعي*** من مات أبويه ما احد سكن لروعي

ما نام ليلي كله توجعني اضلوعي*** والسبب يا كرارها من عصرة الباب

نعم، لم تذق فاطمة سلام الله عليها حلاوة النوم وذلك لسبب كثرة الأوجاع في بدنها الشريف فالمشتكى إلى الله تعالى مما فعله قنفذ اللعين فانه طالما كانت سياطه الخبيثة تتلوى على متن الصديقة الطاهرة وهي مع ذلك تستغيث فلا تغات غير ما كان من رحمة على عليه الصلاة والسلام بها وشفقته عليها.

وهنا نضيف أيضاً إلى مصيبة الزهراء(عليها السلام) في نفسها مصيبتها بعد وفاتها في بناتها فإنه كما كانت السياط تتلوى على متنها في حياتها من القوم الظالمين كذلك كانت نفس السياط تتلوى على متون بناتها يوم عاشورا وزاد المتأخرون على المتقدمين في ظلمهم وكفرهم وتجبرهم أكثر من ذلك فقد نهبوا الخيام وسلبوا النساء وغير ذلك من الأفعال الشنيعة .

قال المحدث المازندراني نقلاً عن السيد في الاقبال: اعلم أن أواخر النهار من يوم عاشوراء كان اجتماع حرم الحسين عليه الصلاة والسلام وبناته وأطفاله في أسر الأعداء ومشغولين بالحزن والهموم والبكاء وانقضى عليهم آخر ذلك النهار وهم فيما لا يحيطه به قلمي من الذل والانكسار وباتوا تلك الليلة فاقد لحماهم ورجالهم وغرباء في اقامتهم وترحالهم والأعداء يبالغون في البراءة منهم والاعراض عنهم وإذلالهم ليقربوا بذلك إلى المارق اللعين عمر بن سعد مؤتم أطفال

ص: 99

محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)ومقرح الأكباد والى الزنديق عدو الله ابن زياد الخبيث والى الكافر الزنديق يزيد بن الخنزير معاوية رأس الالحاد والعناد.

ثم قال المحدث المذكور نقلاً عن كتاب«نفس المهوم»: فإذا كان أواخر نهار يوم عاشوراء فقم قائماً وسلم على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وعلى مولانا امیرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام وعلى مولانا الحسين عليه الصلاة والسلام وعلى سيدتنا فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام وعترتهم الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين وعزّهم على هذه المصائب بقلب محزون وعين باكية ولسان ذليل بالنوائب ثم اعتذر إلى الله جلّ جلاله وإليهم من التقصير فيما يجب لهم عليك وأن يعفو عما لم تعمله مما كنت تعمله مع من يعز عليك فانه من المستبعد أن تقوم في تقوم في هذا المصاب الهائل بقدر خطبه النازل. وبعد السلام والتعزية ينبغي أن تجدد الحزن والبكاء وتجري الدمعة والعبركقطر السماء، وتلطم الخد وتشق الجيب كالمرأة الثكلى، وتصيح وتصرخ على ما جرى على بنات فاطمة الزهراء والمخدرات من عقائل سيد الأنبياء فانها من أعظم المصائب وأشد النوائب التي لا تقوم بحملها الجبال، ويشيب لهولها الأطفال، وهي هجوم الأعداء بعد قتل الرجال على النساء ونهب الأموال وسبي النساء الطاهرات .

قال المرحوم السيد حيدر (رضوان الله عليه) وهو يصف حالة النساء في ذلک الأسر والانكسار والذل:

واجل يوم بعد يومك حل في*** الاسلام منه يشيب كل جنين

يوم سرت أسرى كما شاء العدى*** فيه الفواطم من بني ياسين

ابرزن من حرم النبي وانه*** حرم الإله بواضح التبيين

من كل محصنة هناك برغمها*** أضحت بلا خدر ولا تحصين

سلبت وقد حجب النواظر نورها*** عن حروجه بالعفاف مصون

وقال رحمه الله أيضاً :

ص: 100

وحائرات اطار القوم اعينها ***رعباً غداة عليها خدرها هجموا

كانت بحيث عليها قومها ضربت*** سرادقا أرضه من عزهم حرم

يكاد من هيبة أن لا يطوف به*** حتى الملائك لولا أنهم خدم

فيا له من حرم ما أعظم شأنه وشرف قدره وأعلى مكانه وشيد بنيانه ، حرم سجافه هيبة الله، وسرادقه جلال الله، ورواقه عظمة الله ،وأستاره حجاب الله ، و خدامه ملائكة الله ، وهو حرم النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وحرم النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) حرم الله :

حرم لأحمد قد هتكن ستورها*** فهتكن من حرم الإله ستور

قال السيد ابن طاووس(رحمه الله) : وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول وقرة عين الزهراء البتول حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها وخرجن بنات آل

الرسول وحريمه يتساعدن على البكاء، يندبن لفراق الحماة والأحباء.

وروی حمید بن مسلم قال : رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها عسكر عمر بن سعد فلما رأت القوم قد اقتتحموا على نساء الحسين(عليه السلام)وفسطاطهن وهم يسلبونهن أخذت سيفاً وأقبلت نحو الفسطاط وقالت یا آل بکر بن وائل أتسلب بنات رسول الله ، لا حكم إلا لله ، يالثارات رسول الله، فأخذها زوجها وردّها إلى رحله .

وقال ابن نما وخرجت بنات سيد الأنبياء وقرة عين الزهراء حاسرات مبديات للنياحة والعويل يندبن على الشباب والكهول وأضرمت النار في الفسطاط فخرجن هاربات.

وقال صاحب البحار : رأيت في بعض الكتب ان فاطمة الصغرى قالت: كنت واقفة بباب الخيمة وأنا افكر وأنظر الى أبي وأصحابه مجزرين كالأضاحي على الرمال والخيول على أجسادهم تجول وأنا افكر فيما يقع علينا بعد أبي من بني امية أيقتلوننا أو يأسروننا فاذا أنا برجل على ظهر جواده يسوق النساء بكعب رمحه وهن يلذن بعضهن ببعض وقد أخذ ما عليهن من أخمرة وأسورة وهن يصحن :

ص: 101

واجداه ،وا ابتاه، واعلياه، واقلة ناصراه، واحسنا ،أنا من مجير يجيرنا ؟أما من ذائد يذود عنا؟ قالت: فطار فؤادي وارتعدت فرائصي فجعلت أحيل بطرفي يميناً وشمالاً على عمتي أم كلثوم خشية منه أن يأتيني، فبينا أنا على هذه الحالة وإذا به قد قصدني ففررت منهزمة وأنا أظن أني أسلم منه وإذا به قد منه وإذا به قد تبعني فذهلت خشبة منه وإذا بكعب الرمح بين كتفي فسقطت على وجهي فخرم اذني وأخذ قرطي ومقنعتي وترك الدماء تسيل على خدّي ورأسي تصهره الشمس وولى راجعاً إلى الخيم وأنا مغشي عليّ وإذا أنا بعمتي عندي تبكي وهي تقول : قومي نمضي ما أعلم ما جرى على البنات وعلى أخيك العليل ، فقمت وقلت: يا عمتاه هل من خرقة أستر بها رأسي عن أعين النظار؟ فقالت : يا بنتاه وعمتك مثلك فقمت فرأيت رأسها مكشوفاً ومتنها قد اسود من الضرب، فما رجعنا إلى الخيمة إلا وهي قد نهبت وما فيها وأخي علي بن الحسين المكبوب على وجهه لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والأسقام، فجعلنا نبكي عليه وهو يبكي علينا.

وقد حكى شاعر الحسين عليه الصلاة والسلام الحاج الشيخ ملاعطيه الجمري البحراني حالة النساء عند هجوم القوم عليها في الخيم بوصف يقرح الأكباد ، فقال رضوان الله تعالى عليه هو يخاطب زينب(عليها السلام)وذلك عن لسان العدو :

شبت النيران فرى للفضا يمخدره*** واتركي الخيمة ترى النيران بيه امسعره

للفضا فري يمحجوبه او تركيها هالخبا*** وادركي ايتامك ترهى امروعة وامسلبة

ذيك مضروبة وطفلها على الترايب تسحبه*اوهاى مسلوبة الستر بين الأعادي امحيره

خلي الخيمة خذتها النار يعزيزة علي*** يعينك الله على الهظايم راح عزك الأولي

ص: 102

كل صناديدك على التربان ما عندك ولي***او بالهنادي جثة احسين الشهيد اموزعة

نادته او حنت من الفجعة ومدامعهما*** وین یا ظالم اروح او عندي بالخيمة عليل

حجة الله اشلون أعوفه ومن المرض جسمه نحيل***بالفلا غصب عليه ايتام أخي امطشرة

هالحرم غصب عليه ابغير والي امشتته*** ما قدر اتركها لولد مادم هذي حالته

حسين وصاني ابعليله واليتاما او نسوته***اتحيرت مدري شسوي بالذي اعليه جرى

مدري اطلع للحريم الضايعة واترك علي*** لو اظل وياه واترك هالحراير تنولي

لو اروح المعركة وانخى الضياغم من هلي***لكن اشلون انتخي بجساد صرعى على الثرى

ها لحمل مقدر اشيله وين طاعون الحرب**جابني ابعزا او جلاله او عافني ابولية غرب

ما يشوف ايتام اخوه اشحل عليها امن الضرب***بالشريعة اتوسد اذراعه او تركني لمیسره

زينب سلام الله عليها تخاطب رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم):

كم فوق وجه الثرى دمعاً لها انهملا*** وكم تضرّم فيها الوجد واشتعلا

وكم تنادي اذا نجم لها افلا*** يا جدنا يا رسول الله قم عجلا

من باطن القبر واجمع شملنا البددا

من بعد شامخ عزّ حلّ ساحتنا***عواصف من خطوب باد عزتنا

فقم لتحمينا عن فرط ذلّتنا*** وامدد يديك لنا ونقد بقيتنا

ص: 103

فذي يتاماك قد مدت اليك يدا

وكأني بها عليها الصلاة والسلام وقد نظرت الى سكينة وهي تبكي قد أهملت دموعها بالسجام توجهت نحو أخيها الحسين عليه الصلاة والسلام قائلة :

يا أخي هذه سكينة تبكي ***قد أهلت دموعها بالسجام

تستجير العدا بطرف كليل*** وفؤاد مؤله مستهام

يا أخي فاطم تدور وترتاع*** لما نالها من الآلام

خانها دهرها فأضحت بذلّ*** بعد عز ونعمة واحتشام

يا أخي هذه بناتك بالذل*** أسارى وما لهن محامي

يا أخى هذه الاسارى حيارى*** ساترات الوجوه بالأكمام

کم حسان وكم ربيبة خدر*** صرن من غير برقع ولثام

يا أخي لو ترى علياً بقيد*** ناكس الرأس ذلة للرغام

يا أخي هدّ حزن فقدك ركني*** وكساني النحول ثوب سقام

يا أخي خانني الزمان بصبري*** وجفا عن جفون عيني منام

يا أخي اظلم الزمان علينا*** بعد ما كان ضاحكاً بابتسام

ص: 104

الجلسة الخامسة : في ذكرى مبعث النور

فيا بعثة صبح الهدى متنفس*** بها ودجى الالحاد في الكون عاكر

ويا بعثة عمّ الخلائق خيرها*** ودام فلا يلفى له الدهر آخر

بها بالتجلي الأعظم الله خصه*** فأبصر ما لم تكتنهه البصائر

فيا بوركت من ليلة نور رشدها*** تعالى بأن يُطفى ويخفيه ساتر

لقد نسخت كل الشرائع شرعة*** بها جاء تبقى ما بقين الزواهر

مكارم أخلاق بها الرسل قد أتت ***مبادو فيما سن طه الأواخر

به تمت الأخلاق وامتاز شرعه*** بألطاف شتى مالهن نظائر

وامته بالانتساب اغتدت لها*** خصائص من دون الورى ومآثر

وليس لطه في النعوت مشاكل*** ولو مرسلا إلّا أخوه الموازر

ولا غرو ان ضاهاه فالنور واحد*** و آثار اجزاء المجزى نظائر

ألم تره في كل خير شريکه*** فأحمد داع للهدى وهو ناصر

وحيدرة هاد وأحمد منذر*** وكلّ لكلّ في الرساد موازر

ولايته الكبرى بها لم تجد له*** شريكاً سواه فالجميع مظاهر

له عصمة مثل النبي ورتبة*** تضاهيه عنها طائر الوهم قاصر

مظاهرها السبطان التسعة الأولى*** لها صاحب العصر المغيب آخر

وهم سادة الأكوان والرسل شيعة*** إليهم فهم أتباعهم لا نظائر

نطق البعير بفضل أحمد مخبراً*** هذا الذي شرفت به أم القرى

هذا محمّد خير مبعوث أتى ***فهو الشفيع وخير من وطىء الثرى

ص: 105

يا حاسديه تمزقوا من غيضكم***فهو الحبيب ولا سواه في الورى

يا أيها الراقد في الليل الأجم*** قد بعث الله نبياً في الحرم

من هاشم أهل الوفاء والكرم*** يجلو دجنّات الدياجي والظلم

يا أيها الهاتف في داجي الظُّلم*** الظلم أهلاً وسهلاً بك من طيف ألم

بين هداك الله في لحن الكَلِم*** ماذا الذي يدعو إليه ؟ يغتنم

* * *

الحمد لله الذي لم يخلق*** الخلق عبث

أرسل فينا أحمداً*** خير نبي قد بعث

صلّى عليه الله ما*** حج له ركب وحث

***

يا أيها الناس ذوو الأجسام*** من بين أشياخ إلى غلام

ما أنتم وطائش الأحلام ***و مسند الحكم إلى الأصنام

أكلكم في خير النيام ؟*** أم ترون ما الذي أمامي

من ساطع يجلو دجى الظلام*** قد لاح للناظر من تهام

ذلك نبي سيّد الأنام*** قد جاءنا بالدين والاسلام

أكرمه الرحمن من إمامِ ***ومن رسول صادق الكلام

أعدل ذي حكم من الحكّام*** يأمر بالصلاة والصيام

والبر والصلات للأرحام*** ويزجر الناس عن الآثام

والرجس والأوثان والحرام*** من هاشم في ذروة السنام

مستعلناً في البلد الحرام

ألا أيها الركب المعرَّسى بلغوا*** إذا ما وقفتم بالحطيم وزمزما

مَحمّد المبعوث منّا تحية*** تشيعه من حيث سار ويمّما

ص: 106

وقولوا له :

إِنَّا لدينك شيعةُ*** بذلك أو صانا المسيح بن مريما

قل للقبايل من سليم كلّها***هلك الأنيس وفاز أهل المسجد

أودى «ضمار» وكان يعبد مرّة***قبل الكتاب إلى النبي محمّدِ

إن الذي ورث النبوة والهدى*** بعد ابن مريم من قريش مُهتدِ

***

صلّى الإله وكل عبد صالح ***والطيبون على السراج الواضح

المصطفى خير الأنام محمد*** الطاهر العلم الضياء اللايح

زين الأنام المصطفى علم الهدى ***الصادق البرّ التقي الناصح

صلى عليه الله ما هبّت الصبا*** وتجاوبت ورق الحمام النايح

***

قال الله تعالى في كتابه المجيد :﴿ هُوَ الَّذِى بَعثَ فِي الأُمِّيِّين رسولاً منهم يتلُوأ عليهم آياته ويزكيهم وَيُعَلمُهُم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبلُ لَفِي ضَلل مبين﴾ (1)صدق الله العلي العظيم إنّ هذه الآية المباركة قد صوّرت لنا بعثة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)في أمته، وقد خططت لنا مجتمعة والظروف المحيطة به ، كما ذكرت لنا الغاية التي توختها بعثته الشريفة(صلی الله علیه وآله وسلم) ، فهي صورة رائعة تعرض عليها ملامح المجتمع وحقائق البعثة بإطار أخاذ .

وبعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من مواضيع اللطف الإلهي ، واللطف كما قرره علم الكلام ما يقرب الانسان الى الطاعة ويبعده عن المعصية، ولا شك بأن القرب من الطاعة متفرع على المعرفة الكاملة والمعرفة الكاملة لا تتحقق إلا بتبليغ الرسالة الإلهية بوسيلة أنبيائه ورسله، وإلا فإنّ المعرفة الأولية التي يستخلصها الفكر الانساني بدراسته للمبدء لا تمكن الانسان من الطاعه كما تبعده عن المعصية،

ص: 107


1- سورة الجمعة : 2 .

ولذلك يحكم العقل الصحيح بوجوب إرسال الأنبياء لإراءة الطريق الموصلة إلى الطاعة المنشودة، ومن هذه القاعدة العقلية نقطع بأن النبوات لم تفارق الانسان منذ وجوده في الأرض إلى زمان انتهاء النبوات بخاتم الأنبياء(صلی الله علیه وآله وسلم)لأن الغاية التي خلق الله البشر لتحققها لا تحصل إلا بالنبوة، ولذلك كانت نبوة أبي البشرية آدم (عليه السلام)من الأمور البديهية، لأنه لا يتمكن من المعرفة إلا بوسيلتها، فهي السبب الوحيد المعرفة ،فكانت نبوته واجبة الوجود لتوقف غاية الخلق عليها ،فآدم(عليه السلام) نبي وإن لم تكن له أمة ، انه(عليه السلام)نبي نفسه، لأن المعرفة التي كانت غاية إيجاده متوقفة على النبوة ، فلذلك وجد نبياً منذ يومه الأول وتصاعدت النبوات في معارفها بتصاعد الفكر الانساني، وإن لم تتغير في أصولها، إلى أن انتهى تاريخ البشرية إلى عهد خاتم الأنبياء(عليه السلام)، ذلك العهد الذي وصل به الفكر الانساني إلى دور البلوغ وبهذا الدور تكاملت ،قواه و تكاملت له وسائل الاستفادة من العالم الطبيعي، وكان من البديهي حدوث انقلابات عامة في الحكومات والأمم، لأنها اصطدمت بدور البلوغ الذي يمتاز عن أدواره السابقة بالتأملات الواقعية في الحياة وشؤونها العامة والخاصة ، فالشعوب لا تتحمل تكاليف الحكومات والحكومات لا تكتفي بما كانت تجنيه من الشعوب، إن الشعوب تريد أن تحفظ كرامتها الانسانية ، ولا يمكن حفظها

في إطار حكومتها العاتية والحكومات تريد أن تستغل قواها الحاكمة وتس- طاقاتها المسيطرة على الظروف، والوعي الجديد لا يهضم هذا الاستغلال والاستبداد ، ولذلك يلمس المؤرخ في ظروف ذلك العهد تمخض الأوضاع عن عهد غريب عن العهود السابقة ، لأن البشرية كانت تتجاذبها عوامل عهدين : عهد يريد أن يبقيها على طقوسها ، وعاداتها ، وعهد يريد أن يسوقها مع الزمن ونواميسه الانقلابية، فكان من الطبيعي أن يبيد الأمم وتنقرض الحكومات، وتحتل مكانتها أمة جديدة وحكومة جديدة، إن التاريخ كان آنذاك في دور الولادة، ولادة عهد جديد يخالف العهود السالفة في الهيئة والمادة، وفي مثل هذا الدور بعث خاتم الأنبياء(صلی الله علیه وآله وسلم)وبعبارة

ص: 108

أقرب صلة بالموضوع : ولد العهد الجديد.

أما بيئة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)فقد رمزت إليها الآية الكريمة بلفظة (الأميين) فالنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)بعث من الأميين، والأمي هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة، وهما وسيلة التجارب الفكري والعلمي، فاذا فقدت الأمة هذه الوسيلة فقدت وسيلة الحياة، لأن الحياة لايمكن الاستنتاج منها إلا بوسيلة التجاوب الثقافي، والتي لا تستحصل إلا بالقراءة والكتابة، فاذا فقدها الانسان فقد النور الذي يدله على الطريق طريق الحياة، فيبقى تائهاً في مكانه لايعرف صلاحه من فساده ولا خيره من شره، فيضطرب نظام حياته وتكثر عنده الأحكام الوضعية، وتترسب في النفوس حتى تصبح عادات واجبة وتقاليد تقوم عليها الأسر والبيوت، وهكذا كانت الأمة التي بعث الله تعالى محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)منها فهي أمة أمية ،ترسبت فيها التقاليد المسمومة ،فالأولاد تقتل خشية إملاق، والبنات توأد خشية العار، والسرقة مجد من الأمجاد، وقطع الطريق شرف عائلي تتغنى به القبيلة والغارة على القرى الآمنة مفخرة عربية ترددها النوادي والمجتمعات، وهكذا تنعكس المقاييس ويصبح الخير شراً والفساد صلاحاً، وقد بعث الله تعالى النبي له من هذه الأمة نفسها بعث هذا الانقلاب الفكري من هذه الأمة الفاقدة لمبادىء الفكر لفقدانها وسيلة التفكير وهي الثقافة ونفس انبثاق النبوة من هذه الأمة الأمية، من هذا الشعب الجاهل الفاسد معجزة إنسانية كبرى معجزة للسماء فقط ، لأن انبعاث النبي علا الله من هذه الأمة الفاقدة لكل وسائل الحياة، انبعاثه هذه الوسائل الكاملة للحياة الكاملة معجزة يقف عن إدراكها الفكر الانساني في هذا العصر المثقف ، ولم يكن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)أمياً كما هو مشتهر في الأوساط الغافلة من المسلمين.

فقد روى في الكافي بسند متصل إلى الامام الباقر حين سأله جعفر بن محمد الصوفي، وقال له : يا بن رسول الله لماذا سمي النبي النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)الأمي ؟ فقال(عليه السلام): ما يقول الناس ؟ قلت : يزعمون أنه إنّما سمي الأمي لأنه لم يحسن أن يكتب.

ص: 109

فقال الامام(عليه السلام): عليهم لعنة الله أنّى ذلك ؟ والله يقول في محكم كتابه : ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾فكيف كان يعلمهم ما لم يحسن والله لقد كان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يقره ويكتب باثنين أو بثلاثة وسبعين لساناً ، وإنما سمي الأمي، لأنه كان من أهل مكة ، ومكة من أمهات القرى ، وذلك قول الله عزّوجل : ﴿لتنذر أم القرى ومن حولها﴾ .

وإن عارضتها روايات أخرى تثبت قراءته دون كتابته، ويمكن الجمع بينهما بأنّ الرواية الأولى ناظرة إلى أن ثقافتة إنّما كانت تنتهي إلى السماء، إلى الاعجاز، ودليلها انه(صلی الله علیه وآله وسلم)يحسن اثنين أو ثلاثة وسبعين لساناً ، ولا شك بأنّ إتقانه هذه الألسنة أو اللغات إنّما كان بطاقته النبوية ، لا من طريق التلقين والدراسة ، لانعدام المجامع اللغوية أو الجامعات التي تدرس فيها اللغات، ولذلك كان إتقانه اللغات وتمكنه من قراءتها وفهمها من طريق الاعجاز ، أما الروايات النافية لذلك فإنّما كانت تنفي تعلمه إياها من الأساتذة والمدارس، فإنه لم يدخل على كاتب ولم يأخذ من مدرس، وإنّما وعى ذلك بوسيلة السماء بطاقاته النبوية، وعلى كل حال فان إنكار ثقافة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)مع ما أثر اثر عنه من الأحاديث والدروس الخالدة هراء باطل، فالنبي الكريم الا الله كان يقرأ ويعلم، نعم لم تؤثر عنه الكتابة والخط، ولعلّ انصرافه عنها الحكمة سماوية لا تصل إليها مداركنا المحدودة.

إن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)بعث إلى أمة كما يبعث الفجر أنواره في ظلمات الليل الحالك، وكما يفضح النور مخازي الظلام كذلك فضح الاسلام تقاليد الشرك وطقوس الكفر ، وكما تستولى أنوار الشمس على أجواء الفضاء وآماد الأرض ، هكذا الاسلام استولى على القلوب والعقول فراح يزيل عنها أو صار الجاهلية ورواسبها المسمومة ، بعث النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)ليحدث الانقلاب في تاريخ الانسانية فينهي منها أدوار الجهل والظلم والاستبداد ويفتح عليها عهد العلم والعدالة والانسانية، وكان مفتاح الحياة الجديدة قرآنه الكريم، فقد كانت آياته الكريمة تتغلغل إلى أعماق الأعماق

ص: 110

فتهز المشاعر ثم ترفع الحجب عن الفطرة الإلهية المودعة في كيان الانسان ليرى بها الانسان ما لايراه ناظره ويحسّ بوسيلتها ما لا تحس به مشاعره إن الآيات الكريمة كانت تنفذ إلى مكامن الأحاسيس وخفاياها فتنير أجواءها القائمة بضباب العادات والتقاليد،فتترك سجنها العفن إلى الحرية الانسانية التي وهبها الله تعالى لكل فرد من أفراد البشر، وان في قصص رجالات العرب ومحاولاتها مع النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)ومنع مناوئية إياهم من الاستماع إلى قرآنه بل توصيتهم هؤلاء بأن يضعوا القطن في آذانهم عندما يمرون على نادي النبوة، نعم إن في هذه القصص برهاناً صارخاً على أثر القرآن الكريم في عقول العرب ومشاعرهم. إن الآيات القرآنية الكريمة كانت توقظ الوعي الانساني في الفرد ، فيتجه إلى النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) بصيرته الجديدة طالباً منه تزكية وجوده من أوضار الكفر والضلال، فاذا تطهر كيانه من ذلك توجه إلى النبي الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم) سائلاً منه تلقينه تعاليمه .

نعم، هكذا حول رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)المجتمع القرشي من مجتمع جاهلي لا يعقل ولا يتدبر الى مجتمع إسلامي متفكر، وأنار له الطريق بتلك التعاليم الاسلامية القيمة ، ولم يتمكن الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم) من تحقيق أمنيته المنشودة إلا بعد أن حصل على الأمرين من قريش حتى من أقرب الناس إليه في بدء الدعوة وقبيل البعثة الشريفة ،وبعدهما ولكنه صمد ولم يعبأ بمخالفة المعاندون والحاقدون، بل راح يصدع بما أمره الله تعالى مجاهراً بدعوته ومنذراً عشيرته قبل قومه .

جاء عن عبد الله بن العباس، عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام)قال : لما نزل قوله تعالى: ﴿ وانذر عشيرتك الأقربين على رسول(صلی الله علیه وآله وسلم)، دعاني الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)فقال : يا عليّ ؟ إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين فضقت بذلك ذعراً وعرفت أني متى أبادئهم بهذا أرى منهم ما أكره فصمت عليه حتى جاء جبريل فقال : يا محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)؟ إنك إلا تفعل ما تُؤمر به يُعذِّبك ربّك. فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملاً لنا عساً من لبن ثم اجمع لي بني عبدالمطلب حتى أكلمهم

ص: 111

وأبلغهم ما أمرت به .

ففعلت ما أمرني به(صلی الله علیه وآله وسلم)ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب، وحمزة ، والعباس وأبو لهب ، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به، فلما اجتمعوا وضعته بين أيديهم جميعاً فتناول رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)احذية من اللحم فشقها بأسنانه الشريفة ثمّ ألقاها في نواحي الصحيفة ثم قال: خذوا بسم الله ،فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم ، وأيم الله الذي نفس علي بيده وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم، ثم قال : اسق القوم. فجئتهم بذلك العُس فشربوا حتى رووا منه جميعاً ، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أن يكلّمهم بَدرَه أبو لهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم أن صاحبكم. فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، فقال في الغد: يا علي ؟ إنّ الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن أكلمهم فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إليّ .

قال(عليه السلام) : ففعلت، ثمّ جمعتهم، ثم دعاني بالطعام فقربته لهم، ففعل كما فعل لا بالأمس ، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ، ثم قال(صلی الله علیه وآله وسلم): اسقهم . فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعاً ، ثم تكلم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فقال : يا بني عبدالمطلب؟ إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، إني والله قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصتي وخليفتي فيكم ؟

قال : فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً ، وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم ساقاً : أنا يا نبي الله ؟ أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثمّ قال : إِنَّ هذا أخي ووصيّتي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا . قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتُطيع .

ص: 112

وقيل : إنّ رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قال لهم : يا بني عبد المطلب ؟ إنَّ الله قد بعثني إلى النّاس كافّة وبعثني إليكم خاصة ، فقال تعالى :﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ لله﴾ وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان : شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فمن يُجيني إلى هذا الأمر ويُوازرني يكن أخي ووزيري ووصتي ووارثي وخليفتي من بعدي . فلم يُجبه أحدٌ منهم، فقام علي (عليه السلام) وقال : أنا يا رسول الله ؟ قال : اجلس ثم أعاد القول على القوم ثانياً فصمتوا فقام علي (عليه السلام) وقال : أنا يارسول الله؟ فقال(عليه السلام) : اجلس . ثم أعاد القول على القوم ثالثاً فلم يجبه أحد منهم، فقام علي(عليه السلام)فقال : أنا يا رسول الله.

فقال (عليه السلام): اجلس فأنت أخي ووزيري ووصتي ووارثي وخليفتي من بعدي. ويتضح لنا من خلال ما ذكر قسوة القوم على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وانه قد تحمل المشاق والمتاعب والصعوبات الكثيرة قبيل البعثة الشريفة وبعدها من الأقارب والأباعد وذلك من أجل الاقرار والاعتراف بوجود الله تعالى ومن أجل نشر تعاليم دينه الاسلامي القويم، ولكنه كما قلنا لم يعبأ بذلك بل راح ينادي في القوم مراراً وتكراراً نادراً إياهم متحملاً أذاهم بصدر رحب وأخلاق عالية وإيمان راسخ بالله تعالى وبالدعوة إليه حتى تمّ له النصر المؤزر من الله تعالى على القوم وتم(صلی الله علیه وآله وسلم)، النجاح في دعوته المباركة وتحققت المهمة الجليلة التي بعث الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)من أجلها .

وبالمناسبة ونحن في ظلال هذه الذكرى الخالدة ذكرى مبعث الرسول الكريم، أود أن أتوجّه بهذا النداء الى إخواني الدعاة الى الله تعالى في كل مكان من العالم بأن يعلموا أن مهمة الدعوة مهمة كبيرة وخطيرة وبالتالي انها مسؤولية جليلة ووظيفة شريفة قد ألقاها الله تبارك وتعالى على عاتق نبيه الكريمه(صلی الله علیه وآله وسلم) وحملها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) بعده إلى أوصيائه الاثني عشر أئمة الهدى عليهم الصلاة والسلام ، ثم حملها الأئمة الكرام إلى علماء الاسلام ودعاته ، فعليهم أن يتحملوا هذه الدعوة كما

ص: 113

تحملها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)متوكلين على الله تعالى أن يمدهم بالقوة الروحية والسداد والنصر المؤزر باذلين كلّ ما تمتلكه أيديهم فى سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمته في الأرض ومن أجل نشر تعاليم دينه الاسلامي القويم حتى ولو كلفهم ذلك هلاك أنفسهم.

عليهم : أن يصلحوا مفاسد المجتمع الانساني وأن يكونوا من الهداة إلى الحق والرشاد بأي وجه كان لا سيما مهام الأمور كإصلاح ذات البين، والسعي في قضاء حوائج المؤمنين .

عليهم :أن يعلّموا الناس الأخلاق الفاضلة الحميدة التي بعث الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم) من أجلها لكي يتخلّقوا بها ويبتعدوا عن أضدادها لكي تسمو بذلك نفوسهم.

عليهم : أن يصبروا على الدعوة، ويتحملوا كلما يصدر عليهم من هفوات الناس أو زلاتهم أو أذاهم، وأن لا يكونوا يائسين بذلك من إصلاحهم وتربيتهم وتعليمهم بتعاليم القرآن الكريم والسنة المحمدية المطهرة.

عليهم : بمراعاة الناس ومدارتهم ممتثلين بذلك أمر الله تعالى لنبيه الكريم حيث أمره الله تعالى بمداراة الناس، فإنه قال(صلی الله علیه وآله وسلم): أمرني ربي بمداراة الناس.

وعلى المسلمين جميعاً أن يبتهلوا الى الله تعالى في كل وقت سيما في أوقات الصلاة بأن يوفق الله حملة الرسالة المحمدية من العلماء والدعاة والمصلحين في القيام بواجبهم على أحسن ما يرام وأن يمن عليهم بالصبر والثبات والاستقامة في دعوتهم المباركة، كما نبتهل إلى الله تعالى جميعاً بأن يرزقنا الخير، وأن يثبتنا على دوام الاستقامة، وأن يوفقنا إلى العمل الصالح، وأن يرنا الحق، وأن يعلمنا شرائع الاسلام اللهم ربنا بصرنا عيوب أنفسنا ، حتى لا تشتغل بعيوب الناس، وبعدنا عن الشر، واحفظ ألسنتنا عن الباطل.

يا ربنا ! مهد لنا سبيل الرزق، حتى لا نكون كلّاً على الناس، وعبد لنا طريق

ص: 114

الاحسان ، حتى لا يضيع بيننا الفقير المحتاج .

يا ربنا علمنا متى نتكلم ومتى نسكت ومتى نعمل، ومتى نقف، ومتى نذهب، ومتى نستقر.

يا ربنا اهدنا للفكر الحسن، ثم الكلام على طبعه، ثم العمل على طبقه ،وبعدنا عن الفكر الزائغ والكلام المائل، والعمل الحائد.

يا ربنا ! حبّب إلينا الثبات في الخير والهزيمة في الشر، وأرنا الفرق بين الخير والشر، والصديق والعدوّ ، والحقائق والأوهام والايمان بالحقيقة والتعصب للتقاليد العمياء بظنّ أنّها الحقائق البيضاء.

يا ربنا ! أمت في قلوبنا حب الظهور ، وأحيي فيها حب العمل .

يا ربنا ! أفض علينا النشاط، واطرد عنا الكسل، وبعدنا عن النفاق، وخذ بأيدينا في المزالق ، واجعل أرواحنا خيرة، وعلمنا الحياة والصبر والكفاح.

اللهم اهد شبابنا، ووفقهم لكي يتزوجوا مبكراً ، لكي لا يمدوا أعينهم إلى اعراض الناس ، واهد اللهمّ فتياتنا، حتى لا يتبرجن ، فيوقعن أنفسهن في سقطة لا مفرّ منها ، واهد اللهم الآباء كي لا يغالوا في مهور البنات.

يا ربنا! وفق الأغنياء لمعونة الضعفاء، وادخل أشعة الرحمة في قلوبهم على الفقراء، واخرج حب الدنيا عن أفئدتهم، حتى يبذلوا المال في المشاريع الاسلامية الخيرية، ويُخلدوا أنفسهم في قائمة المحسنين. اللهم أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهمّ إنّ هذه الدعوات الجليلة هي أخلاقيات حبيبك محمد المصطفى (صلی الله علیه وآله وسلم)التي قد بعثته من أجلها لكي يعلمها الناس وقد علمتنا إياها بواسطة بعثته الشريفة إلينا رسولاً وهادياً ومبشراً منذراً تلك البعثة الزهراء التي أنارت لنا طريق السعادة وهدتنا إلى سبيل الهدى .

وتلك بعثته الزهراء عليه صلاة*** الله للخلق عربيها وعجميها

ص: 115

فصار يدعو إليها من توسم فيه*** الخير سرّاً وخوف الشر يُخفيها

بذا ثلاثة أعوام قضى وله ***قددان بعض قريش واهتدوا فيها

وبعدها جاءه جبريل يأمره*** بأن يجاهر بالاسلام مجريها

وقال :

فاصدع بأمر الله إنك مبعوث*** لتدعو إليه الناس تهديها

أنذر عشيرتك الدنيا بشرعتك الفرّا*** وأظهر لها أسنى معانيها

ومذ تبلغ أمر الله هم به*** بهمة ما اعتدا الكفّار يثنيها

ولم يحد عضداً كي يستعين به*** على مجاهرة قد كان خاشيها

إلا العلي فناداه وأخبره*** ببغية حسب أمر الله باغيها

وقال هيء لنا في الحال مأدبة*** وليتقننّ لها الألوان طاهيها

فرجل شاة على صاع الطعام*** واعساس لها اللبن النوقي يمليها

وادع الهواشم باسمي كي أشافهها*** بأمرربی بارتي وباريها

قام العليّ بأمر المصطفى ودعا*** إلى وليمته أكرم بداعيها

أبناء هاشم هم كانوا عشيرته*** ولم یکن ن فيهم إلَّا مُلبتها

وعدَّهم كان عند الأربعين وهم*** رجالة العرب في إحصاء محصيها

هذي عشيرة طه بل قرابته الدُّنيا*** التي كان للاسلام راجيها

وإذا أتسته تلقاها على رحب*** يبشره وانثنى صفواً يُحيبها

حتى إذا ما استوى فيها المقام لها*** مد السماط وفيه ما يشهيها

فأقبلت ورسول الله يخدمها*** على الطعام ويعنى كي يهنيها

حتى إذا أكلت ذاك الطعام ومن*** ألبانه سُقيت والله كافيها

ظلّ الطعام كما قد كان وهو وأيم*** الله مكان يكفي مستجيعيها

وتلك معجزة للمصطفى وبها*** قام العليُّ وعنه نحن نرويها

وثَمِّ ابتدر القوم الرسول بذكرى*** يمن بعثته يبدي خوافيها

ص: 116

وإذ أبو لهب في الحال قاطعه ***وموَّه الحق بالتضليل تمويها

فقال :

یاناس طه جاء يسحركم*** بذا الطعام احذروا الإضلال والتيها

هي انهضوا ودعوه أن يغش نفوس*** الغير في هذه الدعوى ويُصبيها

وهكذا انفض ذاك الاجتماع وأنفس*** الجمع داجي الكفر غاشيها

وعاد طه إلى تكرار دعوته*** وكان حيدرة المقدام راعيها

حتى إذا اجتمعت للأكل ثانية*** على الخوان انثنى طه يفاهيها

فقال :

ما جاء قبلي قومه أحدٌ*** بمثلها جئت نعماء أسديها

لكم بها الخير في دنيا وآخرة*** إذا انضويتم إلى زاهي مغانيها

فمن يوازرني منكم فذاك أخي*** وذاك يُخلفني في رعي ناميها

فلم يجد من لبيبب راح مقتنعاً*** بصدق بعثته او راح راضیه

وكلما ازداد تبياناً لبعثته الزهراء*** زادته تكذيباً وتسفيها

او ثمّ بولهب ناداه ويلك لم ***يجيء فتى قومه ما جئتنا ايها

تبت يداه فإنّ الجهل توهه*** والكفر في دركات النار تتويها

وكرَّر المصطفى أقواله علناً*** وقد توسّع إنذاراً وتنبيها

فما رأى غير الباب محجّرة*** هيهات ليس يلين النصح قاسيها

وأنفساً عن كتاب معرضةً ***والكفر قد كان والإشراك معميها

وأحجمت كلّها عن فيض رحمته*** مع يُمن دعوته فالكل آيیها

إلا العليّ فنادى دونها فأنا ***نعماك يا هادي الأكوان باغيها

نادى أن اجلس ثلاثاً وهو يعرض*** دعواه على القوم يبغي مستجيبها

حتی إذا بات مأيوساً ومنزعجاً*** من الهواشم معي عن ترضيها

عنها تولّى إلى حيث العلمي منوهاً*** به بین ذاك الجمع تنويها

ص: 117

وكان ماسكه من طوق رقبته*** يقول هذا لها والله يحميها

وقال هذا أخي ذا وارثي وخليفتي*** على أُمتي يحمي مراعيها

وقال فرضُ عليكم حسن طاعته*** بعدي وإمرته ويل لعاصيها

فانفض جمعهم والهزء آخذهم*** إلى الغواية في أدجى دياجيها

وهم يقولون: أحكام الامام ***علي يا أبا طالب كن مطيعها

كذلك حيدرة ماشي النبوة مذ*** نادى بها المصطفى لبّى مُناد بها

وشارك المصطفى من يوم أن وضع*** الأساس حتى انتهت عليا مبانيها

نعم من لتلك الدعوة غير ابي الحسن (عليه السلام)يكون ناصراً ومؤازراً لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ويتحمل الأذى معه في جنب الله تعالى ومن أجل إعلاء كلمته، نعم انه أبو الحسن ذلك الامام العظيم الذي حطم صناديد المشركين من قريش، ولقد كان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)يقذفه في لهوات الحرب فيخمد لهيبها بسيفه حتى اقام دعائم الاسلام و ثبت قواعده بمواقفه الجليلة وخدماته المشهودة المشكورة للاسلام، ففي يوم أحد بذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى ومواساة رسوله ، وفي يوم خيبر قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) في حقه : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وفي يوم الخندق كان يضرب بالسيف ويحامي عن دين خاتم الأنبياء وقد قتل بسيفه الشريف عمرو بن عبدود العامري ذلك الرجل الشجاع، وعندما برز(عليه السلام) إلى مقاتلة إلى مقاتلة عمرو قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): برز الاسلام كله إلى الشرك كله .

فالرسول الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم)هو المبلغ بالرسالة والصادع بالنذارة والامام علي(عليه السلام)المصدق به والمواسي له بنفسه.

قالت السيدة الجليلة والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء في نعت أبيها (صلی الله علیه وآله وسلم) ووصف ابن عمها وزوجها في خطبتها الشريفة المشهورة : ﴿لقد جاءكم رَسُولٌ من انفُسكُم عزيز عليه ما عَنِتُم حَرِيصٌ عَلَيكم بالمُؤمنينَ رؤوف رَحِيمٌ﴾ فإن تُعزُوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكُم، وآخى ابن عَمّي دون رجالكُم، ولنعم المعزي

ص: 118

إلَيهِ صَلَى عليه وآله فبلغ الرِسالَةَ صادِعاً بالنذارةِ مائلاً عن مَدَرجة المشركين ضارباً ثبجَهُم آخذاً بأكظامهم داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظةِ الحَسَنَةِ يُكسّرُ الأصنام ويُنكس الهام حتى انَهَزَم الجمعُ ووَلّوا الدبر حتى تغرّى الليل عن صُبحهِ، وأسَفَر الحقُّ عن محضه ، ونَطقَ زعيمُ الدِينِ وخَرُست شقاشقُ الشياطين، وَطاحَ وشيطُ النفاق، وانحلت عُقدُ الشَّرِكِ والشقاقِ، وَفُهتُم بَكلمةِ الاخلاص في نفرٍ من البيضِ الخِماصِ ، وكنتُم على شفا حُفَرَةٍ من النارِ مَذَقةَ الشّارِبِ، ونهزة الطامع ، وقَبسةَ العجلان، وَمُوطِأ الأقدام، تشربُونَ الطَّرَقَ ، وتقتاتُونَ الوَرَقَ، أذلّة خاسئين تخافُونَ أن يتخطّفكُم النّاسُ مِن حَولِكُم فَأنقذكُم الله تبارك وتعالى بمحمد بعد التيا والتي وبعد أن بلي ببهم الرجال وذُؤبان العَربِ وَمَردَةِ أهل الكتابِ كُلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله أو نَجمَ قَرْنُ للشيطان أو فغرتَ فاغرة من المُشركين قذف أخاهُ في لهواتها فلا ينكفي حتى يَطَأ صماخها بأخمُصِه ويُحْمدَ لَهَبَها بسيفه، مكدوداً في ذات الله مجتهداً في أمر الله قريباً من رسول الله سيد أولياء الله مشمراً ناصحاً مجداً كادحاً».

نعم، هكذا كان أبو الحسن(عليه السلام) في ثباته وتحمله المتاعب من أجل نصرة سيد

المرسلين وإظهار هذا الدين فلقد كان عليه اسلام كما وصفته الصديقة(عليه السلام) ، يزج

له بنفسه في لهوات الحروب فلا ينكفىء حتى يطأ صماخها بأخمُصِه، ويُخمد لَهَبَهَا بسيفه، ولكن أين هو عن بنت الرسالة الصديقة الطاهرة فاطمة(عليها السلام) عندما نفذ صبرها عمّا نالها وأصابها من القوم وذلك من كسر ضلعها وضرب متنها وإسقاط جنينها وأعظم الأمور عليها لما رأته(عليه السلام) ، وهو لا يقدر على دفع ذلك خرجت تدافع القوم عنه ولكن بدون جدوى، فقال علي(عليه السلام) لسلمان: يا سلمان قل لفاطمة أن القوم لا يفقهون ما تقولين قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله تعالى فلافائدة في مفاوظتهم، واعلمي أنهم قد استحقوا العذاب قد استحقوا العذاب من الله تعالى .

من شاف الولي لكوان أظلمت صاح يا سلمان **روح الفاطم الزهرة وردها خيرة النسوان

ص: 119

أشوف الكون متزلزل لجلها والبلا حول*** حسها الضايعة تعول لو ايعود الزمن لول

رحمه المصطفى المرسل ومنها الكون يتزلزل*ومن جاها جذب زفرة وشبت بالقلب نيران

ردي للخدر خدر بالهون نادت به نفذ صبري*** من ضرب الدعي الملعون دمي ومدمعي يجري

لطمني ابكفه الملعون لطمة واحراق الخدري***وحملي راح بالعصرة وعفرني على التربان

صبرت على الهظم والجور سلمان ولطم خدي**صبرت على الضلع مكسور وترويع العدى ولدي

ما اصبر يذبح المذحور حيدر واستوى وحدي**بعده عيشة القشره عمري ليت فدوه چان

یا سلمان صباره على كلما جرى من افعال ***ابدهري صبرت محتاره مصايب يا علي وأهوال

حیدر لااختلت داره يتاما ظلّت الأطفال*** عسى كاسم اليتم ما اتذوق يا سلمانها الشبان

ما صالح لدا الجبار باكرم في الورى مني***ولا ذاك الفصيل الكان عنده افضل من ابني

يرتاعوا وانا المحسن رميته من وسط بطني*** ما ظن لو دعوت الله واحد يظل بالأكوان

ناداها اصبري وردي عن أمر البطل حيدر*** قالت صابرة وأطيع لامره والتصبر مرّ

وردّت بالخدر بالحال بذيال البلا تعثر*** محلا الموت من قبلك يليت الأجل مني حان

ص: 120

مصايب لو على الجبال ذابت داخل افوادي***فقد المصطفى وبحبال سحب المرتضى الهادي

في داري ورض الباب ضلعي وذلة أولادي**ولطمي من علا خدري وحرق الباب بالنيران

نعم، أن المصائب التي جرت على الصديقة الطاهرة والسيدة الجليلة فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام مصائب عظيمة ولكن مصيبتها في أولادها يوم عاشور أعظم وأجل وأفجع.

انظروا كيف انّ الامام الحسين عليه الصلاة والسلام قد أحضر أصحابه وأطلعهم عليها قبل حدوثها ووقوعها حتى يكونوا على علم بما يقع عليه وعليهم ليكونوا على أهبة الأستعداد لذلك.

قال المحدث المازندراني(رحمه الله) في المعالي نقلاً عن مدينة المعاجز مرسلاً عن أبي حمزة الثمالي قال : سمعت علي بن الحسين زين العابدين عليهما الصلاة والسلام يقول : لما كان اليوم الذي استشهد فيه الحسين صلوات الله وسلامه عليه جمع أهله وأصحابه في ليلة ذلك اليوم فقال لهم : يا أهلي وشيعتي اتخذوا هذا الليل جمالكم وانجوا بأنفسكم فليس المطلوب غيري ولو قتلوني ما فكروا فيكم فانجوا رحمكم الله وأنتم في حل وسعة من بيعتي وعهدي الذي عاهدتموني.

فقال اخوته وأهله وأنصاره بلسان واحد والله يا سيدنا يا أبا عبدالله لا خذلناك أبداً والله لا قال الناس تركوا إمامهم وكبيرهم وسيدهم وحده حتى نقتل ونبلو بيننا وبين الله عذراً ولا نخليك أو نقتل دونك.

فقال لهم : يا قوم إني غداً أقتل وتقتلون كلكم معي ولا يبقى منكم واحد .

فقالوا : الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرفنا بالقتل معك أو لا ترضى أن نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله ؟

فقال :جزاكم خيراً ،ودعا لهم بالخير، فأصبح سلام الله عليه وقتل وقتلوا معه أجمعون عليه وعليهم الصلاة والسلام.

ص: 121

وفي نفس الخبر انّه قام إليه القاسم ابن الحسن صلوات الله عليهما فقال :وأنا فيمن يقتل؟ فأشفق عليه فقال له : يا بني كيف الموت عندك ؟

قال : يا عم فيك أحلى من العسل.

فقال عليه الصلاة والسلام : أي والله فداك عمك إنك لأحد من يقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاء عظيم ويقتل ابني عبدالله . فقال : يا عم ويصلون إلى النساء حتى يقتل عبدالله وهو رضيع ؟ فقال : فداك عمك يقتل ابني عبدالله إذا جفت روحه عطشاً وصرت إلى خيمنا فطلبت له ماء ولبناً فلا أجد قط فأقول: ناولوني ابني لأشربه من فيّ إلى آخر كلامه عليه الصلاة والسلام فتعجلني الأسنة منهم والنار تسعر في الخندق الذي في ظهر الخيم فأكرّ عليهم في أمر أوقات في الدنيا فيكون ما يريد الله فبكى وبكينا وارتفع البكاءوالصراخ من ذراري رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فی الخيم. ولله در القائل :

بنفسي شفاها ذابلات من الظمأ*** ولم تحظ من ماء الفرات بقطرة

بنفسي عيوناً غايرات سواهراً*** إلى الماء منها نظرة بعد نظرة

وقالت سكينة بنت الحسين عليه الصلاة والسلام عز ماؤنا ليلة التاسع من المحرم فجفت الأواني ويبست الشفاه حتى صرنا نتوق الجرعة من الماء فلم نجدها فقلت في نعسي: أمضي إلى عمتي زينب لعلها ادخرت لنا شيئاً من الماء فمضيت إلى خيمتها فرأيتها جالسه وفي حجرها أخي عبدالله الرضيع وهو يلوك بلسانه من شدة العطش وهي تارة تقوم وتارة تقعد فخنقتني العبرة فلزمت السكوت خوفاً من أن تفيق بي عمتي فيزداد حزنها، فعند ذلك التفتت عمتى وقالت سكينة :قلت لبيك ، قالت : ما يبكيك؟ قلت :حال أخي الرضيع أبكاني، ثم قلت عمتاه قومي لنمضي الى خيم عمومتي وبني عمومتي لعلهم ادخروا شيئاً من الماء.

قالت : ما أظن ذلك، فمضينا واخترقنا الخيم بأجمعها فلم نجد عندهم شيئاً من الماء فرجعت عمتي إلى خيمتها فتبعها من نحو عشرين صبياً وصبية وهم يطلبون منها الماء وينادون : العطش العطش، فكثر الضجيح والبكاء.

ص: 122

يا من إذا ذكرت لديه كربلا ***لطم الخدود ودمعه قد أهملا

مهما تمر على الفرات فقل ألا*** بعداً لشطّك يا فرات فمر لا

تحلو فإنك لاهني ولامري

ایذاد نسل الطاهرين ابا وجد*** عن ورد ماء قد أُبيح لمن ورد

لو كنت يا ماء الفرات من الشهد*** ايسوغ لي منك الورود وعنك قد

صدر الامام سليل ساقي الكوثر

نعم لا يسوغ لأحد من المحبين أن يشرب المحبين أن يشرب الماء بدون أن يذكر عطش الحسين عليه الصلاة والسلام وعطش أهل بيته عليهم الصلاة والسلام ويبكي ويتمثل المصيبة قائلاً :

بنفسي نساء السبط يبكين حوله*** ظمايا حيارى حاسرات وثكلا

عطاشا على شاطي الفرات فمالهم*** سبيل إلى قرب المياه ورود

ويل الفرات أباد الله غامره*** ورد وارده بالرغم ظمآنا

لم يطف حر غلیل السبط بارده*** حتى قضى في سبيل الله عطشانا

فعزّ أن تتلظى بينهم عطشا*** والماء يصدر عنه الوحش ريانا

في المعالي نقلاً عن كتاب الناسخ قال : منع الحسين عليه الصلاة والسلام عن الماء في يوم الثلاثاء السابع من المحرم ؛ ورد كتاب عدو الله ابن زياد لعنه الله تعالى إلى عدو الله عمر بن سعد لعنه الله تعالى : أما بعد فحل بين الحسين(عليه السلام)وأصحابه الماء فلا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان، فبعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجاج لعنه الله في خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين عليه الصلاة والسلام وأصحابه صلوات الله عليه وعليهم جميعاً وبين الماء، ومنعوهم أن يسقوا منه قطرة ونادى عدو الله ابن الحصين الأزدي لعنه الله بأعلى صوته : يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً .

فقال الحسين عليه الصلاة والسلام : اللهم اقتله عطشاً ولا تغفر له أبداً.

ص: 123

قال حميد بن مسلم : والله لعدته بعد ذلك في مرضه فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيته يشرب الماء حتى يبغر ثم يقيئه ويصيح لعنه الله تعالى : العطش ، يفعل ذلك مراراً ويتلظى عطشاً ثم يعود فيشرب حتى يبغر فما يروى، فما زال ذلك دأبه حتى هلك لعنه الله تعالى. وفي نفس الكتاب أيضاً : نادى عمرو بن الحجاج لعنه الله : يا حسين هذا الماء يلغ فيه الكلاب وخنازير السواد والذئاب وما تذق منه والله قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنم. بأبي أنت وأمي ونفسي يا حسين الله درك وعليه أجرك.

نقل المازندراني عن المرحوم الحاج الشيخ جعفر (قدس سره) انّه قال :ولأن القوم الظالمين قد منعوا الامام الحسين عليه الصلاة والسلام من الفرات فقد أعطاه الله من المياه أربعة أنواع:

(الأولى) ماء الدموع جعلها الله له فإنه صريع الدمعة وقتيل العبرة، ولذا ورد في الخبر : كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين (عليه السلام).

(الثانية) ماء الحيوان وهو في الجنان مخصوص بالحسين صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته يمزج بماء دموع شيعته، إن الله ليأمر ملائكته المقربين أن يتلقوا الدموع المصبوبة لقتل الحسين عليه الصلاة والسلام فيدفعونها إلى الخزان في الجنان فيمزجونها بماء الحيوان فتزيد في عذوبتها وطيبها ألف ضعفها .

(والثالثة) كل ماء بارد يشربه أحبته فإن للحسين(عليه السلام)فيه حتى الذكر لأنه قال :

شيعتي مهما شربتم عذب ماء فاذكروني*** أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني

ومن هنا فإن مولانا الامام زين العابدين عليه الصلاة والسلام ما شرب ماءً بارداً إلا وذكر الحسين(عليه السلام) ، وكذلك الصادق عليه الصلاة والسلام قال: ما شربت ماء بارداً إلا وذكرت جدي الحسين عليه الصلاة والسلام.

(الرابعة) الكوثر جعله الله له ولعطشة شهدائه عليهم السلام أرواهم عنه في الطف حين وقوعهم على الأرض.

ص: 124

ومن هنا ينبغي للمحبين للمحبين أن لا يتركوا البكاء والجزع على سيدالشهداء صلوات الله وسلامه عليه في كل وقت بل عليهم أن يذوبوا في حبّ الحسين(عليه السلام)عليهم أن يبكوا على من بكت عليه الأرض والسماء والجمادات النامية وغير النامية .

بكت الأرض والسماء عليه*** بدموع غزيرة ودماء

يبكيان المقتول في كربلاء*** ين غوغاء أمة أدعياء

بین منع الماء وهو عنه غريب*** عين ابكي الممنوع شرب الماء

ولقد كان مولانا السجاد زين العابدين عليه الصلاة والسلام حليف النوح والجزع على أبيه الحسين عليه الصلاة والسلام ، وكان(عليه السلام) يردّ عليه من يعاتبه في بكائه وجزعه بقوله (عليه السلام) : ان مصائب كربلاء لا تزال ماثلة أمام عيني، وانّ القتل لناعادة وكرامتنا من الله الشهادة، لكن هل سمعت يا أبا حمزة انّ رضّ الصدور لنا عادة ؟

لا تهيجني ترى سيف الصبر قلبي فرى***اتلومني كنك متدري بالمصاب اللي جرى

لاتهيجني ترى من النوح كيدي اتفطرت***عاينت عيني مصايب بالبرايا ما جرت

ابيوم واحد كل عشيرتنا ابصعيد اتعفرت*** روسهم فوق العوالي والجساد إعلى الثرى

بشوف عيني من وقع بوالفضل شيال اللوى**راح ابویه احسین شافه ادمومه ومخه سوی

او رجع محني الظهر ويصيح طود العز دوى*** وانا بس اجذب الونه والدموع امنثره

ويشوف عيني ابن الحسن من طلع كنه غصن بان***لابس اثيابه يبوا حمزة مثل لبس لكفان

ص: 125

والوجه مثل البدر ياضي على بخت الزمان***ظل رميه على الوطية والخدود امعفرة

وعاينت عيني يبواحمزة علي الأكبر الشاب*** وقع بالعركة اوجابه والدي يم لطناب

بالسيوف امبطعينه وراس أبوه إحسين شاب***شعب قلبي حال ليلا اتحوم حوله امحيرة

وكان بين مصاب اللي صدر رايك يضيع*** جاهدوا حتى تفانوا والغسل فيض النجيع

يابوا حمزة ما تقلي أشذنب عبدالله الرضيع***بید ابوی حسین شفته السهم فاري منحره

والمصيبه اللي تهز العرش واتفت الصخر***من شفت طاح الشهيد ابسهم من ظهر المهر

ومض منها يوم شفته ایهبر أوداجه الشمر*** والحراير نصب عيني بالبرور امطشره

وكان متدري اخبرك والخبر صعب وشديد*** نادوا علينا خوارج بالسكاك مثل العبيد

وقفوا بنت الرساله امكتفة ابمجلس يزيد*** مالها ساتر ذليله وباليتاما امرمرة

ولكن يا شيعة آل محمد لأن بكى مولانا السجاد صلوات الله وسلامه عليه على أبيه الحسين عليه آلاف الصلاة والسلام فلقد بكى مولانا صاحب العصر والزمان عجل فرجه الشريف وأرواحنا له الفداء على جده الامام الحسين(عليه السلام) الدهر كله ، وهو يقول: «فلَئنْ أخر ثني الدّهور ، وعَاقني عَنْ نصرِكَ المقدُورُ ، ولم أكن لمن حاربَكَ مُحارباً ، ولمن نصب لك العداوة مُناصباً ، فلأندبنك صَبَاحاً وَمَساءً، ولأبكين لك بدل الدموع دماً حسرة عليك وتأسفاً على ما دهاك وتلهفاً حتى أموت

ص: 126

بلوعةِ المُصاب وغُصة الاكتئاب».

ولهذا تجد شعراء آل محمد يعزّونه ويستنهضونه من أجل الطلب بكل دم هدر أريق في كربلاء ،وغيرها ، فهذا هو شاعر آل محمد شيخنا الجليل والامام الكبير العلامة المرحوم الشيخ علي بن حسن الجشي رضوان الله تعالى عليه يخاطبه عجل الله تعالى فرجه الشريف بقوله :

طال انتظار الهدى من سيفك الفرجا*** فقم أقم بالضبا من ديننا العوجا

واطلب بكل دم هدر أريق لكم***حتى تعود الفيافي بالدما لججا

واملأ بقتلى العدى الدنيا فقد ملؤا*** بقتل جدك أقطار الوجود شجا

تلك العوالم قد قام النعات بها*** للحشر تنعى نهاراً من أسى ودجا

وكل شيء له حتى الجماد بكى*** ودمعها بدما أحشائها امتزجا

لولا انتظارك من كل منية*** حانت ولكن لكل في النهوض رجا

فانهض فهذي جنود الله هاتفة ***بأن أرخص شيء بذلنا المهجا

لم يذكر الطفّ إلا طاف جيش أسى*** بالقلب قد منع الأفراح أن تلجا

فكم أريق لكم يوم الطفوف دم ***وكم حصان عليها خدرها ولجا

حيث الهدى حجبت أنواره فغدا*** مستصرخاً وبكهف ابن النبي لجا

فهب من غابه غاب النبوة لا***يثنيه شيء وبالكفر الوجود دجا

فأرسلت غيرة التوحيد عاصفة*** من وعظه مزقت في مرها الرهجا

فاسفر الحق لكن ما ارعووا فغدا*** دون الهدى للمنايا خائضاً لججا

غداة انهض حرباً بغيها فأتت*** تقود جيشاً ملأ الأرجاء والفرجا

وخيرة واحد الدنيا وأكرمها*** بين الهوان وحرب يسلب المهجا

ما كان في خلد حرب أن تقاوم من*** لو قابل الموت أرداه لقى ونجا

لكنها علمت عهد النبي له*** وانه للفنا في الله قد خرجا

فشمرت من لوي فتية حسبت*** وصل المنون مني والعثير الأرجا

وصافحت صفحات البيض واعتنقت*** صدر الرماح بصدر لم يكن حرجا

ص: 127

من كل شهم إذا اشتد الأوام به*** روى الحسام فأمسى قلبه ثلجا

وكل طلق المحيا لم يرع بوغى*** قد اکتسی برد عزّ بالضبا نسجا

وكل نجم بأفق المجد متخذ*** قب البطون بميدان الوغى برجا

حتی بدت لهم أعلام منزلة*** في مقعد الصدق كل نحوها درجا

فصر عوا في الثرى لكن أنفسهم*** بها إلى العالم العلوى قد عرجا

ثووا ثلاثاً ولكن ما خبالهم*** نور وقد زادهم طول البقا أرجا

وصال شبل على غير مكترث*** فكلّما عبست أبطالها ابتهجا

ظمآن يدخل في أوساطها فإذا*** روى ظما السيف من أعراضها خرجا

آلى بأن يملأ الدنيا بموقفه*** في الطق فخراً وأقطار الوجود شجا

حتى أقام بمعوج الضبا عوجا*** في الدين من معشر ما بارحوا العوجا

وحين أدى فروضاً قد تنزل عن*** لاهوته لأداها عائداً عرجا

فلم يزل يترقى في تنزله*** وعوده وسوى العلياء ما انتهجا

كأنّه الشمس والعليا له فلك ***ما سار من برج إلا أتي برجا

فإن تجد هيكل التشكيل منعفراً*** فإنه لمقامات العلى درجا

يا دارجاً سلب الأكوان بهجتها*** ما افتر ثغر العلا والمجد ما ابتهجا

وصاعداً صعدة للدين بعدك لم*** يرفع لواء ولا وقت الهنا بلجا

لئن قضيت لهيف القلب من عطش*** فالأرض صيرت من فيض الدما لججا

وإن قتلت فقد خلفت بعدك في*** الأحياء ذكراً جميلاً قد زكا أرجا

فيا قتيلا غدا للدين شمس ضجی*** من بعد أن كان للاسلام بدر دجا

لم يبك باك لوهن قد عراك فقد*** شيّدت بالسيف في أفق العلا برجا

وعاد ثقل بنات الوحي بين بني*** عبادة اللاة نهباً لا ترى حرجا

فكم حصان من الأستار قد برزت*** حسرى غداة عليها خدرها ولجا

فرت من الرعب في البيداء عالمة*** أن ليس ملجاً ولا عن سلبهن نجا

كلّ تلوذ بأخرى خيفة أترى*** ينجي المخوف مخوفاً أن إليه لجا

ص: 128

وعرجت نحو مثوى الآل عاتبة*** وجداً وتعلم لا عتبي وليس رجا

أيا حماة لو الداعي بمغربها*** وفي المشارق كنتم أدرك الفرجا

ودائع الله تسبى نصب أعينكم*** بالوهم هذا لعمر الله ما اختلجا

لم أنس ساعة ترحال العدوّ بها*** عن فتية بذلت من دونها المهجا

همت تودّع قبل الطعن فتيتها*** فصدّها السوط والحادي بها دلجا

ما ضرّ أعداءها لو أنها سمحت*** بوقفة الركب ليت الركب لا درجا

فودعتها على بعد وما اعتنقت*** جسماً ولا قبلت ثغراً ولا ودجا

وأرسلت نظرة نحو الجسوم أسى*** وأسبلت عبرة من حرقة وشجا

أيا بدور سما العلياء ما لكم*** تخذتم فلك السفلى لكم برجا

وما لوت جيدها عنها وإذ بعدت*** أجسادها خلفت في كربلا المهجا

وسرن بالرغم بعد الصون حاسرة*** وما لها ساتر إلا ودُجى

عفائف ظلمات الليل تؤنسها*** والصبح يوحشها إن نوره بلجا

فالليل ينسج أبراداً تحجبها*** والصبح ينزع عنها كلّما نسجا

وصبية بحجور الغرقد نشأت*** تراع بالسوط مهما ناشج نشجا

وموثق فلك الأكوان داربه*** وقد أمارت يداه السحب واللججا

لم يلو جيداً ليرعى المحصنات وما*** ألواه عجزاً فأبكى الكائنات شجا

ولم يدر طرفه عما عراه إذا*** هتفن إلّا ومنها أحرق المهجا

وله(قدس سره)قصائد كثيرة في استنهاض مولانا صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف غير هذه القصيدة سوف نذكرها في الجلسات المقبلة إن شاء الله تعالى كما ان السيد حيدر الحلي رضوان الله عليه وكذلك غيره من الشعراء مئات القصائد في تعزية صاحب الزمان عجل الله تعالى بجدّه الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته الطاهرين وأصحابه المنتجبين وكذلك في استنهاضه وهنا يشير شيخنا الجشي قدس سره في قصيدته المذكرة في الأبيات الأخيرة منها إلى وصف حالة مولانا الامام زين العابدين وهو فوق الناقة (موثوقاً) وكيف انه لا

ص: 129

يستطيع أن يلو رقبته إلى الهاشميات إذا أراد النظر إليها وإنما يحاول ذلك بصعوبة - بالغة كما يحكي ذلك أيضاً شاعر أهل البيت الحاج ملا عطية الجمري(رحمه الله) في الأبيات المسماة بالحسكة فهو أيضاً يصف حالة الامام والهاشميات وهن فوق النياق بنفس الوصف المذكور لشيخنا الجشي قدس سره ولسان حاله يقول :

زینب اتعاین ولیها ولغلال ابرقبته*** فوق ناقة امهزله امقيد او تجري دمعته

ينظر الها او يجرونه او هي تنظره او تنتحب*والحرم تخفي البكا والنوح خوف امن الضرب

نادته يا نور عيني ذوبت مني القلب*** هلت ادموعه وخذ يبدي الشكاية العمته

عمة يا زينب سفرنا فوقها لهزل طويل ***وانا من كثرة اجروحي هذا دم ساقي يسيل

نحل اعظامي اركوبي اعلى الجمل وأنا عليل*اوها الرجس كلساع يضر بني او يزجر ناقته

صاحت او ضلت يويلي فوق ناقتها اتجود ***يا زجر بالله دخفف عن علي من هلقيود

آه يفرسان نسوني آه يعز ما يعود*** منطرفنا ما تخاف الله او ترحم حالته

رد عليه ابن الخنا ومن شاف حاله الغيظ زاد*** صاح كتر اللي يوجعك وين يا زين العباد

قال حدر الجامعة او موضع اغلالي ولقياد*شال سوطه او غابت امن الضرب ويلي ارويحته

ص: 130

الجلسة السادسة : في ذكرى مبعث الرحمة

في كلّ فاتحة للقول معتبرة ***حق الثناء على المبعوث بالبقرة

في آل عمران قدماً شاع مبعثه*** رجالهم والنساء استوضحوا خبره

مد للناس من نعماء مائدة***عَمّت فليست على الأنعام مقتصره

أعراف نعماه ما حلّ الرّجاء بها*** إلّا وأنفال ذاك الجود مبتدره

به توسّل إذ نادى بتوبته*** في البحر يونس والظلماء معتكره

هود ويوسف كم خوف به امنا*** ولن يروّع صوت الرعد من ذكره

مضمون دعوة إبراهيم كان وفي*** بيت الإله وفي الحجر التمس أثره

ذو أُمّة كدوي النحل ذكرهم*** في كل قطر فسبحان الذي فطره

بكهف رحماه قد لاذ الورى وبه*** بشرى ابن مريم في الإنجيل مشتهرة

سَمَّاه طه وخص الأنبياء على*** حج المكان الذي من أجله عمره

قد أفلح الناس بالنور الذي عمروا*** من نور فرقانه لمّا جلا غرره

أكابر الشعراء اللسن قد عجزوا*** كالنمل إذ سمعت آذانهم سوره

وحسبه قصص للعنكبوت أتى*** إذ حاك نسجاً بباب الغار قد ستره

في الروم قد شاع قدماً أمره وبه*** لقمان وفّق للدرّ الذي نثره

كم سجدة في طلى الأحزاب قد سجدت*** سيوفه فأراهم ربه عبره

سباهُم فاطر السبع العلا كرماً*** لمن بياسين بين الرسل قد شهره

في الحرب قد صفّت الأملاك تنصره*** فصار جمع الأعادي هازماً زمره

الغافر الذنب في تفضيله سور*** قد فصّلت لمعان غير منحصرة

ص: 131

شوراه أن تهجر الدنيا فزخرفها*** مثل الدخان فيعسى عين من نظره

عزّت شريعته البيضاء حين أتي*** أحقاف بدر وجند الله قد نصره

فجاء بعد القتال الفتح متصلاً*** وأصبحت حجرات الدين منتصره

بقاف والذاريات الله أقسم في*** أنّ الذي قاله حق كما ذكره

فى الطور أبصر موسى نجم سؤدده*** والأفق قد شق إجلالاً له قمره

أسرى فنال من الرحمن واقعة*** في القرب ثبت فيه ربه بصره

أراه أشياء لا يقوى الحديد لها*** وفي مجادلة الكفّار قد أزره

في الحشر يوم امتحان الخلق يقبل في*** صف من الرسل كلّ تابع أثره

کف يسبح الله الحصاة بها*** فاقبل إذا جاءك الحق الذي قدره

قد أبصرت عنده الدنيا تغابنها*** نالت طلاقاً ولم يصرف لها نظره

تحريمه الحبّ للدنيا ورغبته*** عن زهرة الملك حقاً عندما نظره

في نون قد حقت الأمداح فيه بما*** أثنى به الله إذ أبدى لنا سيره

بجاهه شال نوح في سفينته*** سفن النجاة وموج البحر قد غمره

وقالت الجن: جاء الحقُّ فاتبعوا*** مزمّلاً تابعاً للحق لن يذره

مدثراً شافعاً يوم القيامة هل**** أتى نبي له هذا العلا زخره

في المرسلات من الكتب انجلى نبأ*** عن بعثه سائر الأخبار قد سطره

ألطافه النازعات الضيم في زمن*** یوم به عبس العاصي لما ذعره

وكوّرت شمس ذات اليوم وانفطرت*** سماؤه ودعت ويل به الفجره

وللسّماء انشقاق والبروج خلت*** من طارق الشهب والأفلاك مستتره

فسبح اسم الذي في الخلق شفّعه*** وهل أتاك حديث الحوض إذ نهره

كالفجر في البلد المحروس غرته*** والشمس من نوره الوضاح مستنره

والليل مثل الضحى إذ لاح فيه ألم*** نشرح لك القول في أخباره العطره

ولو دعا التين والزيتون لا ابتدرا*** إليه في الحين واقرأ تستبن خبره

ص: 132

في ليلة القدر كم قد حاز من شرف*** في الفخر لم يكن الإنسان قد قدره

كم زلزت بالجياد العاديات له*** أرض بقارعة التخويف منتشره

له تكاثر آیات قد اشتهرت*** في كل عصر فويل للذي كفر

ألم تر الشمس تصديقاً له حبست*** على قريش وجاء الروح إذ أمره

أرأيت أنّ إله العرش كرمه*** بکوثر مرسل في حوضه نهره

والكافرون إذا جاء الورى طردو*** عن حوضه فلقد تبّت يد الكفره

إخلاص أمداحه شغلى فكم فلق*** للصبح أسمعت فيه الناس مفتخره

أزكى صلاتي على الهادي وعترته*** صلّى عليهم إله العرش في سوره

قال الله تعالى في كتابه المجيد :﴿ يَا أَيُّها المذكَّرُ قُم فَأنذر وَرَبِّكَ فَكَبّر*﴾(1).

جاء في تفسير الميزان(2) : إن المدثر بتشديد الدال والثاء أصله المتدثر اسم فاعل من التدثر بمعنى التغطي بالثياب عند النوم.

وفي التبيان: انه خطاب من الله تعالى لنبيه محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)يقول له:﴿ يا أيها المدثر﴾وأصله المتدثر بثيابه، فأدغمت التاء في الدال، لأنها من مخرجها مع أن الدال أقوى بالجهر فيها ، يقال : تدثر تدثراً ودثره تدثيراً ، ودثر الرسم يدثر دثوراً إذا محي أثره ، فكأنه قال : يا أيها الطالب صرف الأذى بالدثار اطلبه بالانذار.

قال : وقوله تعالى :﴿قم فأنذر﴾ هو أمر من الله تعالى لنبيه (صلی الله علیه وآله وسلم)أن يقوم وينذر قومه، والانذار الاعلام بموضع المخافة ليتقي ، فلما كان لا مخافة أشدّ من الخوف من عقاب الله تعالى كان الانذار منه أجل الانذار، وتقديره قم فأنذر من النار.

وقيل: إنها أي سورة المدثر هى أول سورة نزلت على محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) كما جاء ذلك عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبدالرحمن عن أول ما نزل من

ص: 133


1- سورة المدّثّر : 1 - 3 .
2- 20 / 79

القرآن فقال : ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ قلت : يقولون :﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ ؟

فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبدالله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت فقال جابر : ألا أحدثك بحديث رسول الله ؟ أو قال : لا أحدثك إلّا ما حدثنا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).

قال: جاورت ،بحراء، فلما قضيت جواري نوديت فنظرت عن يميني فلم شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه رعباً فرجعت فقلت: دثروني دئروني فنزلت:﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ﴾إلى قوله تعالى :﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾(1)

أقول : ولكن الصحيح أنّ أول سورة نزلت على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)هي سورة اقرأ.

ويؤيّده معارضة الحديث المذكور بغيره.

قال في الميزان : إن الحديث معارض بالأحاديث الأخر الدالة على كون سورة اقرأ أول ما نزل من القرآن.

ففي الدر المنثور للسيوطي: أخرج عبدالرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه والبيهقي من طريق ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أنها قالت: عائشة أنها قالت: أول ما بدى به رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) من الوحي الرؤيا الصالحة فكان(صلی الله علیه وآله وسلم)لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد في الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة أم المؤمنين سلام الله عليها فيتزود لمثلها حتى جاء الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال له : اقرأ . قال : فقلت : ما أنا بقارىء.

ص: 134


1- سورة المدثر : 1 - 5

قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ. فقلت : ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال :﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ الایات المتقدم ذکرها.

تقول : الرواية فرجع رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يرجف بها فؤاده فدخل على أم المؤمنين خديجة بنت خويلد(عليها السلام) فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة(عليها السلام)وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة(عليها السلام) : كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ، فانطلقت به خديجة(عليها السلام)حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى ابن عم خديجة(عليها السلام)وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي فقالت له خديجة(عليها السلام): يا ابني اسمع من أخيك فقال له ورقة : ما ترى يا ابن أخي ؟ فأخبره رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)خبر ما رأى فقال له :ورقة هذا والله الناموس الذي أنزل الله على موسى ياليتني أكون فيها جذعاً ياليتني أكون فيها حياً إذ يخرجك قومك .

فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): أو مخرجي هم ؟ قال : نعم لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً .

وقد علق سماحة الحجة الاستاذ الجليل السيد محمد حسین فضل الله دامت بركاته العالية على هذا الحديث المذكور بقوله : إن هذا الحديث وإن كان يدل دلالة واضحة على أن سورة ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾هي أول سورة نزلت من القرآن الكريم على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)إلا أنه يصور لنا في الوقت نفسه ضعف شخصية الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)وعلى هذا فلا يصح التسليم بكل ما يحكيه لنا المؤرخون في قصة

ص: 135

المبعث إلا بعد التثبت من صحة الجبر في ذلك .

وفي حديث ثان رواه ابن مردويه عن عائشة أيضاً :ان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)اعتكف هو وخديجة شهراً فوافق ذلك شهر رمضان فخرج رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وسمع السلام عليكم قالت: فظننت أنه فجاة الجبن فقال : أبشروا فإن السلام خير ثم رأى يوم آخر جبرئيل على الشمس له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب قال: فهبت منه فانطلق يريد أهله فإذا هو بجرئيل بينه وبين الباب قال: فكلمني حتى أنست منه ، ثم وعدني وعداً فجئت لموعده واحتبس على جبرئيل ، فلما أراد أن يرجع إذا به وبميكائيل فهبط جبرئيل إلى الأرض وميكائيل بين السماء والأرض فأخذني جبرئيل فصلقني لحلاوة القفا وشق عن بطني فأخرج منه ما شاء الله تعالى، ثم غسله فی طست من ذهب ثم كفأني كما يكفأ الإناء ثم ختم في ظهري حتى وجدت مس الخاتم ثم قال لي :﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ولم اقرأ كتاباً قط فأخذني بحلقي أجهشت بالبكاء، ثم قال لي : ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ إلى قوله تعالى : ﴿وما لم يعلم﴾ :قال فما نسيت شيئاً بعده، ثم وزنني جبرئيل برجل فوازنته ثم وزنني بآخر فوازنته، ثم وزنني بمائة فقال ميكائيل : تبعته أمته ورب الكعبة.

قال : ثم جئت إلى منزلي فلم يلقني حجر ولأشجر إلا قال: يا رسول الله حتى دخلت على خديجة فقالت : السلام عليك يا رسول الله .

قال سيدنا الجليل والعلامة النبيل مولانا الحاج محمد حسين فضل الله أدام الله تعالى توفيقاته في تعليقه على هذا الحديث أيضاً : ان هذا الحديث وإن كان أيضاً يؤيد الأحاديث القائلة بأن أول ما نزل من القرآن الكريم سورة اقرأ إلّا أنّه يصورلنا الرسالة والنبوة تتوقف على عملية جراحية تطهر الجسد من بعض الأشياء التي لا تتناسب ومقام النبوة. ولذا قال رفع الله درجاته وأمد الله تعالى في ظله الشريف في قصة المبعث ما لفظه ليست صلتنا بقضية المبعث النبوي صلة ذكرى نعيشها فتستوقفنا قليلاً ثم لا تلبث دون أن يلفها الصمت في غمار النسيان وإنما هي صلة

ص: 136

العقيدة بمولدها والرسالة بمنطلقها والانسان بانطلاقة كيانه وباعثة مجده.

انها الحدث الذي هزّ كيان الانسانية، بعد أن غفا مدة من الزمن وفتح كل جانب من جوانب الحياة على الحق والخير والجمال، وانطلق بالانسان إلى حياة مثلى يسودها العدل والآمن بينما تنفجر أعماقها بالفكر النيّر والروحية الخلاقة المبدعة ، في عملية خصب وعطاء.

وهي - بعد ذلك - قضية الحياة الكبرى التي تتطلق لتبلغ بنا شاطىء الأمن والسلامة .

تلك هي قصة المبعث، كما تتمثلها في أعماقنا ، وكما يعيها الفكر الناقد، الذي يلائم بين البداية والنهاية، فلا يتصور البداية إلا بالعظمة التي تسير بها النهاية لا سيما إذا كانت البداية بداية نبوة ورسالة تستهدف إعداد انسان ما لحمل فكرة السماء إلى الأرض، ولتبديل لقيم الجاهلية، بقيم اسلامية جديدة، ولتهز الضمير الانساني في عملية تجديد وإبداع.

لابد لهذه البداية من أن تكون رائعة في جوها وتفاصيلها، ولابد لهذا الانسان أن يكون عظيماً في وعيه وتفكيره وقوته، لأن قضية النبوة تختلف عن آية قضية أخرى من حيث طبيعة المرسل والرسول والرسالة. أما أن يكون تلك البداية مسرحاً لحركات بهلوانية وتفصيلات مسرحية، اما أن تكون تفاصيلها أشبه بتفاصيل قصة تمثيلية يراد منها خلق جو من الرعب في نفوس الجمهور فهذا ما لانستطيع أن نصدقه بالنسبة إلى قضية عادية، فكيف بقضية الحياة الكبرى.

ثم قال حفظه الله تعالى وزاد في توفيقاته في تعليقه على الحديث الأول المتقدم ذكره المرفوع الى عائشة ما لفظه : «هذه إحدى الصور التي رويت في قصة مولد البعثة . وأنت إذا تأملت فيها فلن تجد أمامك الجو الذي يسوده الهدوء والطمأنينة والوداعة التي تنسجم مع طبيعة القضية التي يناط بالنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)أمر القيام بها والدعوة اليها، وإنما تجد بدل ذلك جواً يسوده الرعب والخوف والترويع ، كأن

ص: 137

الغرض منه بث الرعب والخوف في قلب النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وإظهار القوة والرهبة أمامه من قبل الملك .

ولن تجد في الوقت نفسه النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)الذي يثق بنفسه ما حوله ويفكر

ويعي فيما رأى - وقد رأى حقاً - كما تقول الرواية وإنما ترى أمامك الانسان الخائف الوجل الذي يرجف فؤاده وقلبه ويخشى على نفسه أن يكون قد عرض له عارض من مس، لولا أن ثبتته خديجة(عليها السلام) بكلامها ولسنا ندرك مناسبة ذلك الكلام لقول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)أنه يخشى على نفسه كأن تلك الاعمال تمنع من هذا العارض أو انها تتق بالله وعدم خذلانه لعبده الذي يعمل برضاه أكثر من ثقة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)به ) ، وهكذا يتمثل لنا الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)في هذه الرواية في موقف الحائر الذي لا يدري ماذا يصنع وماذا يفعل به فتقوده خديجة إلى ورقة الذي فرضته القصة نصرانياً يكتب الإنجيل بالعبرانية - فلا يلبث بعد سماعه كلام النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)حتى يجزم له بأنه نبي يدري بتفاصيل البعثة قبل ذلك ، وكأن التفاصيل مذكورة في الكتب المقدسة السابقة، لا مجرد الاشارة إلى نبوة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)وصفاته ، ثم لا نعرف معنى قوله : وأن يدركني يومك ... بعد أن كان يومه قدحان في نفس ذلك الوقت.

والواقع إننا لا نعقل أن يبعث الله النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وهو أفضل أنبيائه بأفضل رسالاته .ثم يحوجه إلى أن يثبت نبوته لنفسه لا للآخرينبواسطة خديجة (عليها السلام) أو ورقة ، دون أن يظهر له البرهان الواضح من قبله تعالى شأنه.

وفي تعليقه دام ظله على الحديث الثاني المروي عن ابن مردويه عن عائشة أيضاً قال : «هذا هو اللون الآخر يعرضه لنا المؤرخون بقصة مولد الرسالة،وهو يختلف عن اللون الأول بالطريقة التي ابتدأ النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)بها أمره فقد كان السلام هو أول ما بدأ به الملك وهو تمهيد جميل للتعارف وليأ من النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)جانب ، ليستطيع أن يأتي به إلى موعده حيث أجرى له تلك العملية الجراحية فأخرج من بطنه ما شاء مما لا نعرف كنهه كأن النبوة تتوقف على عملية جراحية تطهر الجسد من بعض

ص: 138

الأشياء التي لا تتناسب ومقام النبوة، أولا تتفق مع بعض مقتضياتها، ولا نعرف ما هو السبب لطريقة العنف هذه التي اتبعها جبرئيل مع النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)(فكفأني كما يكفاً الإناء) ألم يكن بإمكانه أن يطلب له أن يكشف عن ظهره ليختم عليه بدلاً هذه

من الطريقة ثم الطريقة التي اتبعها مع النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)ليقر حتى ليقر حتى أجهش بالبكاء.

وتأتي بالآخرة عملية الوزن والمكيال - فلا ندري ما معناه وهل أن القضية كانت قضية اختبار لمدى نجاح النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) في دعوته واتباع أمته له ...كأنهما لايدريان عن ذلك شيئاً إلا إذا بلغ النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وزناً مخصوصاً حتى إذا بلغه صاح ميكائيل فرحاً ( تبعته أمته وربّ الكعبة كأنّ الأمر مفاجأة طيّبة له).

وقال شيخنا الطبرسي قدس الله سره في كتابه تفسير مجمع البيان تعليقاً على الأحاديث المذكورة. قال بعد نقلها وفي هذا ما فيه لأن الله تعالى لا يوحي إلى الرسول إلا بالبراهين النيرة والآيات البينة الدالة على أنّ ما يوحي إليه إنّما هو من الله تعالى. ومن هنا يتجلى لنا عظمة البعثة الشريفة ونعلم أنها نفحات الإصلاح، وشعاع الرشاد، جاءت لتصلح النفوس العليلة السقيمة من الضلال والعمى، فلايصح أن يوصف المبعوث بالضعف كما تقول تلك الأحاديث كيف والحال انّ رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)طبيب النفوس .

قال مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام وهو يصف لنا المبعوث بالهدى(صلی الله علیه وآله وسلم)قال أبو الحسن في وصفه : طبيب دوار بطبّه ، قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوبِ عُمي وآذانٍ صُمّ وألسنةِ بُكم فيصف النبي المبعوث(صلی الله علیه وآله وسلم)بأنه كان طبيباً سياراً، يحمل معه في حقيبته المعاجين اللازمة للتضميد والمعالجة ، فإذا وجد قلوباً عمياء، أو أرواحاً ،صمّاء قام بمعالجتها وأنقذ الناس من الموت المعنوي والانهيار الخُلُقي هذه هي مهمة الرسول المبعوث إلينا فلابد أن يكون موصوفاً بالأوصاف اللائقة بمقامه، ومؤيداً فيما يوحي إليه بالبراهين والآيات البينات الدالة على أنه مبعوث من عند الله تعالى.

ص: 139

وبالمناسبة ونحن نعيش هذه الذكرى الجليلة - ذكرى مبعث الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)لابد وأن نستلهم من خلالها كيف كان الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)رحيم بالناس عطوفاً عليهم، وذلك لكي نتعلم منه(صلی الله علیه وآله وسلم)أن نكون رحماء أن نكون رحماء يرحم بعضنا بعضاً، وأن يعطف بعضنا على بعض .

نتعلم منه كيف نصلح ما فسد من أوضاعنا، وتعديل ما اعوج من أعمالنا وأفعالنا وأقوالنا .

وعلينا في الوقت نفسه أن ندرك مأساة المسلمين لكي نلتمس لها .طريق النجاة من الاسلام الذي بعث به رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)إلينا.

علينا: أن ندرك ونفهم أن المسلمين اليوم شلواً متقطع تنهشه الذئاب من كل عصابة أو فرقة أو أمة، فلقد أصبحوا نزهة كل طامع أو مستعمر أو انتهازي أو مستغل ومصبّ المؤامرات والأحقاد والأطماع لمختلف الكفّار المحدقين بهم من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال الى الجنوب.

فهناك الحرب سجال بين المسلمين، وبين المشركين والملحدين، من كل جنس ولغة ودين. فتتساقط ضحايا المسلمين كورق الخريف، في كل من فلسطين، ولبنان وغيرهما.. ولم يكتف أعداء الاسلام بذلك بل راحوا لينهبوا ثرواتنا، وكراماتنا، ومبادءنا وأفكارنا ... ويعوضونا عنها السجون، والأغلال، والسياط والرصاص، والعراقيل والمشاكل ...

ومن كل صوب وحدب تنهال علينا التيارات الكافرة، لاجتياح كياننا باسم الثقافة والحضارة، والأدب والفن ....والغزو الفكري مسلّح بأوسع الصلاحيات والضمانات، والحريات والكفالات المادية والمعنوية.

والاسلام: منقذ البشرية الوحيد، وخلاصة الرسالات اتفق المستعمرون والطامعون والعملاء على إزاحته عن المجال الفكري والتشريعي والسياسي.

ص: 140

ثم أصدروا إلى البلاد الاسلامية، ما عثروا عليه في بطون التواريخ من المبادىء، والقوانين، والسياسات ،الرجعية، البالية، السخيفة التي تهد في كياننا الشامخ الوطيد، حتى أصبحت بلادنا كلها سوقاً ومعرضاً ، لشتى أفكار ومبادىء الأجانب والدخلاء الذين انقرضوا في ذمّة التاريخ .... والمسلمون : الذين أشرف الاستعمار على تربيتهم وتثقيفهم ، يعيدون عن روح الاسلام ومعارفه هم رواد هذا السوق والمعرض، وسيظلون يزدحمون على هذا السوق والمعرض، ماداموا مجردين عن مبادىء الاسلام وأفكاره ومعارفه ... فللانسان جوع إلى المبدأ، والأفكار والمعارف ، لتشربها جوارحه ومشاعره، كما له جوع الى المآكل والمشارب فان استطاع إشباع هذه الغريزة عن طريق الخير ، بادر إليه، وفضله على غيره ، وإلا لم يتورع - في إشباع هذه الغريزة - عن الاغتراف من أي مستنجع عرض عليه، مهما كان آسناً عفناً مريراً... والمسلمون - رغم ذلك كله - ظلوا معتنقين لأصول الاسلام وفروعه ومحتفظين بمقدساته وطقوسه. ولكنها- على أي حال- طقوس، لا تحمل روحاً، ولاتعصمهم من الانجراف والانهيار بعد ما جرّهم الاستعمار - بما لديه من طاقات وإمكانيات - عن ركائز الاسلام، فهم يقولون : نحن مسلمون ويحبون أن يستوعبوا الاسلام، ويمتصوا بطولاته من ينابيعه النقية ولكن الاستعمار حدّد لهم حدوداً ... وأرصد لهم سلطاناً ... وألف سلطان ، وزجّ بهم فی حلقة في مفرغة متسلسلة لا تستقر في مكانها ، ولن تخرج من مكانها ...

بقي هناك شيء واحد - بعد إزاحة الاسلام عن المجال التشريعي والسياسيهو أن الدولة الاسلامية المتمزقة الى دول كانت تسجل في دستورها : ان الاسلام هو الدين الرسمي للدولة. ثم رأى المستعمرون ان هذا - وإن كان لا يعدو ونقشاً على ورق - ولكنه ظاهرة حسنة، ربما تساعد على انبعات حقيقة يرهبها الاستعمار، وهي أن ينهض الاسلام ليستعيد سيادته في المجال التشريعي والسياسي. فتحالف المستعمرون على اختلاق ثورات وقتية محلية، تبدل أفراداً

ص: 141

بأفراد، وأسماءاً بأسماء . لا لأيّ شيء إلا للقضاء على هذه الحسنة الأخيرة .... وهكذا أصبح كثير من الدول الاسلامية، وهي لا تعتبر الاسلام دينها الرسم اعتذاراً بأعذار كاذبة كافرة، لا يقتنع بها غير الاستعمار، وزبانيته وأذنا به... فالاسلام ليس الدين الرسمي للدولة في أندونيسيا، وفي الحبشة، وغيرهما ...وفي حكومات وأقاليم أخرى، رغم أن الأكثرية الكاسحة من شعوبها كلها مسلمة ، تطالب بحكم الاسلام وتفضله على سائر المبادىء والقوانين.

ذلك شطر من مأساة المسلمين الطويلة فهل من وضع حداً لهذه المأساة نعم، ان هناك طريقاً واحداً لوضع حدّ لهذه المأساة ، وهو أن نفحص عن ذلك الشيء الوحيد الذي سبب للمسلمين هذا التدهور والانحلال، والسلبية ، ثم نكافحه مكافحة جذرية أصيلة إن ذلك العامل أصاب المسلمين بهذا التأخر والانحطاط ، هو إزاحة الاسلام عن المجال التشريعي والسياسي، ومعالجة الظاهرة السيئة المذكورة لن تكون إلا بإعادة الاسلام الى المجال التشريعي والسياسي ... ومتى تم ذلك اندحر الاستعمار وانثنى على أعقابه واستطاع المسلمون أن يرفعوا رؤوسهم على الملأ العالمي مرددين : أنّنا انتصرنا على الاستعمار، واكتسحناه من الطريق، ولن يستطيع أن يسيطر علينا بعد ذلك أبداً .

ولن يكون ذلك إلا إذا تشبع المسلمون بأفكار الاسلام ووقفوا على ما في المبادىء والأفكار العميلة المستوردة من طيش ،وعجز، ومناقضات،..وقارنوا بين ماضيهم وحاضرهم، ومستقبلهم ، وعرفوا ماذا خسروا بفصل الدين عن السياسة والتشريع ؟!

فالخطوة الأولى نحو نجاة المسلمين : هي تنوير الرأي العام، وتثقيفه بالثقافة الاسلامية، الدقيقة العميقة. والخطوة الثانية : هي إعادة الاسلام إلى المجال التشريعي والسياسي.

هنالك يكون الأمل المنشود، وحلم الملايين...

ص: 142

وهنالك تحقق شعوب العالم الاسلامي النجاح الباهر على قوى الاستكبار العالمي ويحصلوا بذلك على سعادة الدارين ...

ولهم في الثورة الاسلامية الايرانية بقيادة إمام المسلمين وحجة الله على الخلق أجمعين الامام روح الله الموسوي الخميني العظيم مؤسس الجمهورية الاسلامية وحكومة العدل الإلهي في إيران الاسلام أكبر قدوة، تلك الحكومة التي أعادت للمسلمين في ايران عزتهم، وأيقظت شعوب العالم الاسلامي من رقادهم وسباتهم وعلمتهم عظمة الامام الخميني المستمدة عظمة من جده الرسول الكريم محمد بن عبد الله (صلی الله علیه وآله وسلم)المبعوث بنفحات الاصلاح لإقامة حكم الله تعالى في الأرض. وبالمناسبة ونحن نعيش هذه اللحظات لنحيي هذه الذكرى العظيمة لابد لنا من تعطير جلستنا بهذه الأبيات الجليلة لشيخنا الحكيم الفرطوسي ... وكذلك للأديب السلامة في المبعث النبوي الشريف : قال الفرطوسي :

نفحات الإصلاح هبت بأرض ***تصطلي بالفساد والشحناء

وشعاع الرشاد، والفي ضافٍ*** شق بالنور بردة الظلماء

واستفاضت من الهدى نبعات*** لنفوس من الضلال ظماء

فازدهى الخصب والرسالة غرس*** في ربوع الجزيرة الجرداء

بعث الصادق الأمين رسولاً*** للبرايا من صفوة الأمناء

حين وافى الروح الأمين إليه*** هو الله خاشع في حراء

وأتاه النداء بالوحي اقرأ*** باسم ربّ أوحى بهذا النداء

فأتى والجبين ينضح منه*** رقاً يستفيض فوق الرداء

إنّما أنت منذر وصفيّ***ولكلّ هادٍ من الأصفياء

قد بعثناك شاهداً ورسولاً*** قم وأنذر وابدأ من الأقرباء

وقال السلامة :

كل عام يرتاد غار( حراء)*** مفعم الروح ملهم التفكير

يرسل الطرف للسماء كلاماً*** ليس تجلوه صنعة التعبیر

ص: 143

ذلك الصمت دونه جهر موسی*** بالدعاء الحميم فوق الطور

فالصلاة الصلاة خفقة قلب*** وهيام مفلفل في الشعور

قال : عیسی ملك الإله لديكم*** لو نبشتم عن كنزه في الصدور

هذا الكون وامحى الصوت حتى*** لتحش الآذان همس العطور

وإذا صوت هاتف يهتف اقرأ*** فير الصدى نداء البشير

فتهاوى محمد و تمشت*** في حناياه رعشة المقرور

ما أنا قاري أجاب فرد***الصوت: اقرأ، يا للدعاء الخطير

فأجاب الأمّى لم أتل حرفاً*** لا ولا جال ناظري في السطور

قال جبرئیل: یا محمد کبر*** باسم ربّ ملء الوجود قدير

صفحة الكون بُدّلت في ثوان*** بین مرأتها ضمير الدهور

فإذا أحمد العظيم نبي*** والمجيد القرآن حلم العصور

وقد تكرر نزول الأمين جبرئيل على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، وقيل : إنه كان يأتيه في صورة دحية الكلبي .

جاء في الخبر عن شقيق البلخي، عن عبد الله بن سلمة الأنصاري، عن حذيفة بن اليماني قال : إنّ رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) نهانا أن ندخل عليه وعنده دحية الكلبي وأخبرنا ان جبرئيل(عليه السلام) ينزل عليه في صورته .

وقد هبط عليه في اليوم الثاني من دخوله(صلی الله علیه وآله وسلم)مكة الأمين جبرئيل (عليه السلام)بأول سورة العنكبوت فقال : يا محمد العلي الأعلى يقرؤك السلام ويقول لك : اقرأ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ .

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): يا أخي جبرئيل ما هذه الفتنة ؟ فقال : يا محمد العلي الأعلى يقرؤك السّلام ويقول لك : ما أرسلت نبيّاً قط إلا أمرته عند انقضاء أجله أن يستخلف على أمته من بعده من يقوم مقامه فالمطيعون لما يأمرهم به هم الفائزون

ص: 144

الصادقون والمخالفون لأمره هم الكاذبون وقد آن لك يا محمد أن تصير الى ربّك وهو يقول لك: انصب لأمتك من بعدك على بن أبي طالب(عليه السلام) إماماً فهو المهيمن عليهم القائم فيهم بأمرك إن أطاعوك وإلا فهى الفتنة.

نعم، لقد فعل رسول الله ما أمره به الله تعالى ولكن القوم لم يطيعوا ولم يحفظوا حتى وصيّته المتكررة في حق ابنته الصديقة فاطمة الزهراء سيدة النساء سلام الله عليها، وكأني به يقول :

يصحاب فاطم بضعتي بعدي احفظوها*** داروا عليها عقب عيني وارحموها

عظمو اجرها لو حوت شخصي المقابر*** سمعوا وصيتي ابضعتي غايب وحاضر

ليكون عندي اتعود مكسورة الخاطر*** مقدر على ذلها ولارضى تهضموها

يصحاب من بعدي وصيي ليث غالب***فصل القضا الكرار فلّال الكتائب

مرجعكم وكاشف الشدة في النوايب*** عزوا جنابه والبتوله كرموها

ما جاهدة عنكم بسيفي وبيمنی*** وفي يوم أحد بالثرى اتعفر جبيني

واستوحدوني وبالحجر كسروا اسنوني*** وعن منبري الكرار يصحاب توخّروه

وشيبتي ابفيض ادماي مني خضبوها*** ليكون جسمي بس وسط لحد تقبره

چنّي أشوفه بالحبل قمتم تجروه ***مثل الجبل صایر و داره تحرقوها

اينادي ابن أمي القوم والله استضعفوني*** غاروا عليه وبالمذلة استخرجوني

من غير طيبي ومنبري منه نفوني*** وأضلاع بنتك يا رسول اكسروها

نعم ، لقد هجم أولئك الأنذال على بيت الوحي وهتكوا حرمته وأخرجوا علياً عليه الصلاة والسلام ملبباً قد وضعوا عمامته في رقبته وقد أضرموا النار في ذلك البيت الطاهر ، وكما أخرج القوم المتقدمون الأنذال عليا (عليه السلام)من بيته وأضرموا النار في بيت الزهراء عليها الصلاة والسلام فكذلك أبناء القوم الكافرين قد أخرجوا النساء في اليوم العاشر من المحرم الحرام قهراً من المخيم عندما أشعلوا فيها النار ، وقيل في اليوم الحادي عشر .

ص: 145

قال المحدّث المازندراني نقلاً عن السيد في اللهوف ما لفظه ثم أخرجوا النساء وأشعلوا في الخيم ناراً فخرجن بنات الرسالة حواسر حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلة.

السماء

قال : وفي بعض المقاتل : ان زينب الكبرى(عليها السلام) أقبلت على زين العابدين(عليه السلام) وقالت : يا بقية الماضين وثمال الباقين قد أضرموا النار في مضاربنا فما رأيك فينا فقال(عليه السلام) : عليكن بالفرار ، ففررن بنات رسول الله صائحات باكيات نادبات إلا زينب الكبرى(عليها السلام) فإنها كانت واقفة تنظر إلى زين العابدين عليه الصلاة والسلام لأنه لا يتمكن من النهوض والقيام قال بعض من شهد : رأيت امرأة جليلة واقفة بباب الخيمة والنار تشتعل من جوانبها وهي تارة تقوم تنظر يمنة ويسرة وأخرى تنظر إلى ء وتصفق بيديها وتارة تدخل في تلك الخيمة وتخرج فأسرعت إليها وقلت : يا هذي ما وقوفك هاهنا والنار تشتعل من جوانبك وهؤلاء النسوة قد فررن وتفرقن ولم تلحقي بهن وما شأنك فبكت وقالت يا شيخ ان لنا عليلاً في الخيمة وهو لا يتمكن من الجلوس والنهوض فكيف أفارقه وقد أحاط النار به .

وصيح في رحله نهباً وما تركوا*** على عقايل بيت الوحي من حجب

وأعظم الخطوب على بنات الرسالة عند ما أتى لهنّ جواد الحسين عليه الصلاة والسلام إلى المخيم وهو يصهل ويبكي بكاء الثكلى وقد ملأ البيداء صهيلاً.

وأعظم خطب لا تقوم بحمله*** مستون الجبال الراسيات العظائم

عويل بنات المصطفى مذ أتى لها*** جواد قتيل الطف دامي القوائم

ينحن كما ناح الحمام وبالبكاء*** لا غزر دمعاً من بكاء الحمائم

وقال آخر:

وراح إلى الفسطاط ينعى جواده*** ففرت بنات الوحي شابكة العشر

فتلك تنادي واحماي وهذه*** رجاي وهذي لا تفيق من الذعر

والآخر يقول في ذلك :

ص: 146

وراح جواد السبط نحو نسائه ***ينوح وينعى الظامي المترملا

خرجن بنيات الرسول حواسراً*** فعاين مهر السبط والسرج قد خلا

فأدمين باللطم الخدود لفقده*** واسكبن دمعاً حره ليس يصطلي

وفي المعالي : قال المازندراني :فسمعت زينب (عليها السلام)صهيله وأقبلت على أم كلثوم وقالت: هذا فرس أخي الحسين(عليه السلام)قد أقبل لعل معه شيئاً من الماء،فخرجت متخمرة من باب الخباء تطلع إلى الفرس، فلما نظرت اليه فإذا هو عار من راكبه والسرج خال منه فهتكت عند ذلك خمارها ونادت قتل والله الحسين(عليه السلام)فسمعت زينب (عليها السلام)فصرخت وبكت وأنشأت تقول:

جاء الجواد فلا أهلاً بمقدمه*** إلا بوجه حسين مدرك الثار

يا نفس صبراً على الدنيا ومحنتها*** هذا الحسين قتيل بالعرا عار

وفي المعالي : قال المازندراني(رحمه الله ): وفي رواية : أقبلت زينب(عليها السلام) على سكينة وقالت لها : هذا فرس أبيك الحسين عليه الصلاة والسلام قد أقبل فاستقبليه لعله أتاك بالماء، فخرجت سكينة فرحانة بذكر أبيها والماء فرأت الجواد عارياً والسرج خالياً من راكبه فهتكت عند ذلك خمارها وصاحت: قتل والله أبي الحسين عليه الصلاة والسلام ونادت واقتيلاه وا أبتاه واحسيناه واغربتاه، فخرجن عند ذلك النساء فلطمن الخدود وشققن الجيوب وصحن وا محمداه وا علياه وا فاطمتاه وا حسناه واحسيناه، وارتفع الضجيج وعلا الصياح.

وجاء في الزيارة المروية عن الناحية المقدسة : وأسرع فرسك شارداً الى خيامك قاصداً محمحماً باكياً ، فلما رأين النساء جوادك مخزياً ونظرن سرجه عليه ملوياً برزن من الخدور ناشرات الشعور على الخدود لاطمات وبالعويل داعيات وبعد العز مذللات وإلى مصرعك مبادرات والشمر جالس على صدرك مولع سيفه على نحرك قابض على شيبتك بيده ذابح لك بمهنده قد سكنت حواسك وخفيت أنفاسك ورفع على القنا رأسك.

وفي الاختصاص : سئل أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: ما يقول الفرس

ص: 147

في صهيله ؟ فقال(عليه السلام) : إن الفرس في كل يوم ثلاث دعوات مستجابات يقول في أول نهاره اللهم وسع على سيّدي الرزق، ويقول في وسط النهار :اللهم اجعلني إلى سيدي أحب من أهله وماله ، ويقول في آخر نهاره :اللهم ارزق سيدي على ظهري

الشهادة.

وقال شيخنا الصدوق(رحمه الله): إنه لما صرع الحسين عليه الصلاة والسلام جعل الفرس يحامي عنه ويثب على الفارس فيخبطه ويدوسه حتى قتل الفرس أربعين رجلاً ، ثم عدا من بين أيديهم ان لا يؤخذ وأقبل حتى إذا وصل الى الحسين عليه الصلاة والسلام جعل يشم رائحته ويقبله بفمه ولطخ عرفه وناصيته بدم الحسين عليه الصلاة والسلام وجعل يركض ويصهل ويضرب بيديه الأرض وقصد نحو خيمة النساء.

وفي رواية عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام : انه قال وكان أيضاً يقول في صهيله : الظليمة الظليمة من امة قتلت ابن بنت نبيها ، ولما وصل الى المخيم جعل يضرب رأسه الأرض عند الخيمة حتى مات فسمعت بنات النبي صهيله فخرجن فاذا الفرس بلا راكب. ولنعم ما قاله أبو يوسف الحاج الشيخ ملا عطية الجمري قدس الله نفسه الزكية في وصف الجواد بعد مقتل الامام الحسين عليه الصلاة والسلام في ملاقاته إلى بنات النبي (صلی الله علیه وآله وسلم):

حس جواد حسين يصهل حي أخونا وجيته*** قوموا نتلقا ولينا يا بناته او نسوته

قومي يسكينة اطلعي له ابغير مهله وانظريه***کنه متنكر صهيله اشصار ما ندري عليه

أظن قحم والذعر من عسكر المحتاط بيه*** يكثر الصيحات مهر حسين ماهي عادته

طلعت اسكينة ومدامعها على خدها تسيل***ووقفت والعين مشبوحة على حس الصهيل

ص: 148

شافته يسحب اعنانه امزلزل البر بالعويل***ودم ابوها حسين يجري فوق عرفة ورقبته

اندهشت اسكينة او صرخت بس يعمه من الخدر***راح والينا يعمه او صار والينا زجر

طاح ابويه حسین واقبل يسحب عنانه المهر**صرخت وجيب القلب والثوب عاجل شقته

صرخت ودم القلب من عينها انهل وجرى*احسين يا ابن انهتكنا كان طحت اعلى الثرى

باكر العدوان تأخذها لحريم اميسره*** او عقب عزي والخدر تصبح احوالي امشتته

وصل مهر احسين خالي يا بنات المرتضى***اتحيرت مدري شسوي اوضاق بي رحب بي رحب الفضا

ابها لخيم نقعد حيارى لو انروح انغمضه*** مقدرا قعد كان ها لونة الخفية ونته

فرت او شبكت على الهامه اليسرى واليمين***نوب تمشي ونوب تعثر قاصدحس الونين اتصيح ذابت مهجتي يا خلق من ونة احسين*** وصلت التل باليتاما او طود عزها نادته

جيت بيتامك ولا ظل بالخيم غير العليل*** وانته مدري ابيا کتر طايح ولالیه دلیل

صاح ردي باليتاما لا تموت من العويل***وانا تركوني لي الله وابني باروا علته

وأنشات سكينة (عليه السلام)تقول :

مات الفخار ومات الجود والكرم*** واغبرت الأرض والآفاق والحرم

ص: 149

واغلق الله أبواب السماء فلا*** ترقى لهم دعوة تجلى بها الغمم

مات الحسين فيا لهفي لمصرعه*** وصار يعلو ضياء الامة الظلم

ولقد أحسن وأجاد القائل :

من للهدى والدين بعد العماد*** وللندى والجود بعد الجواد

وللظبا والسمر حيث الوغى*** تقدح بالأبطال نار الزناد

بعد نزوح الشهم من هاشم*** فارسها الفتاك عند الجلاد

قطب رحى الأقدار والعالم الغيب*** وسرّ الله في ذي البلاد

فتى لو الموت رأى شخصه*** لفر منه خائفاً ذا ارتعاد

رامت أُمي قوده ضارعاً*** فقادها شعث النواصي عواد

لم أنس للأنصار إذ دونه*** قد عانقوا البيض وسمرالصعاد

قوم راوا شرع الهدی نکست*** راياته والفى غطى الرشاد

فتار منهم كل ذي شيمة*** عبل الذراعين طويل النّجاد

يحسب مرّ الطعن شهداً إذا*** طار شرار من نعال الجياد

ويفرغ القلب على جسمه*** درعاً من الفولاذ بالصبر حاد

والتقوا الموت بعزم لو التقى*** برضوى عاد منه رماد

آساد غاب لن يروا للظبا*** غمداً سوى هامات أهل العناد

كأنما السمر قدود الدمى*** لديهم والراح قطر الحداد

لم يبرحوا حتى دعوا للعدى*** تنعبها الغربان في كلّ ناد

حتى إذا ما آن حتم القضا*** قضوا عطاشى تحت ظلّ الصعاد

من بعد ما اروو اعطاش الظّبا*** والسمر من قانى ليوث الطّراد

وظلّ ذاك الفرد مستو مستوحشاً ***انيسه الطرف ووحش البواد

ندب رأى ركن الهدى مائلا*** والجور قد عمّ وشاع الفساد

فهبّ بالسيف لتقويمه*** ما عوّج منه من بناء مشاد

وانصاع في القوم بضرب الطلاء*** يخطب كالواعظ فوق الجواد

ص: 150

كأنه في جمعهم ضيغم*** في سرب شاء صال صادي الفؤاد

ما ولد الدهر له موقفاً*** به فنا الأبطال والأسد ساد

فكم سقى لما سطى ضيغماً*** كأساً الموت وكم قد أباد

من حتى إذا اشتاق لقا ربّه ***أتاه سهم في سويدا الفؤاد

فخر عن صهوة ميمونه*** كالشمس عن أوج العلى بالوهاد

فيا لها من نكبة ألبست*** هاشم للحشر ثياب السواد

ویا له من فادح قادح*** لأجله كادت تمور الشداد

عجبت والدهر يرى دائماً*** عجائباً تصدع قلب الجماد

من بعد تقبيل النبي نحره*** يحزّه بالسيف شمر عناد

ورأسه يصعد في صعدة*** وهو ابن من أصدع صبح الرّشاد

وتُركب الهزّل نسوانه*** أسرى إلى الشام حيارى بواد

تبكي فتذري الدمع من عينها*** كالجمر حزناً لفراق العماد

فدمعها لو لم يكن من دم*** أعشب فيه كل قفر وواد

والعابد السجاد في قيده*** يندب من حزن يذيب الصلاد

يا ليت عينيك رأت ما جرى ***یاجد من بعد أبي القياد

تلك عزيزاتك أضحت بلا*** حامٍ تراها حضرها والبواد

ما راقبت قربك منها العدى*** ولا رعت في حق ملح وزاد

فلا لعا الوغد يزيد الخنا*** ولا رعاه الله يوم التناد

يجلس مسروراً يبسط الهنا*** والسبط ملقى فوق شوك القتاد

لهفی لأسد بالثرى وسدت*** تعدو عليها العاديات الجياد

لهفي لأقمار خبا نورها*** من بعد ما عم ضياً كلّ ناد

لهفي لرؤوس كشموس الضحى*** أبراجها صارت رؤوس الصعاد

يا نفس ذوبي في زفير أسى*** عليهم واحترقن يا فؤاد

وأنت يا عين دماً دائماً*** ابكيهم واسلى لطيب الرقاد

ص: 151

نعم ، لو فكر المحب الولهان فيما جرى على سادات الزمان وما أصابهم من البلاء والمحن لقال لروحه أن تخرج من البدن، عندما يتذكر المحب إنهم(عليه السلام)في كربلاء كيف أنّ القوم الظالمين قد قطعوا منهم الأوصال، وجد لوهم على الرمال وجرّعوهم الحتوف بأرض الطفوف، فكم وكم من نفس معصومة أزهقوها ؟ وكم دماء محرمة أراقوها ؟ وكم من رؤوس شريفة فوق الأسنة رفعوها ؟ وأخذوها بالأسنة الحداد كما يفعل بأهل الإلحاد هذا مع علمهم بأنهم الذرّية النبوية والعترة الهاشمية ، فيالها من مصيبة ما أعظمها في الاسلام وأعظم رزيتها بين سائر الأنام .

تأوب همي والفؤاد كئيب*** وأرّق نومي فالرقاد غريب(1)

ومما نعى جسمي وشيب لمتي*** تصاريف أيام لهن خطوب

فرى كبدي من حزن آل محمد*** ومن زفرات ما لهن طبيب

فمن مبلغ عني الحسين رسالة*** وإن كرهتها أنفس وقلوب

قتيل بلا جرم كأن قميصه*** صبيغ بماء الأرجوان خضيب

فللسيف أعوال وللرمح رنة*** وللخيل من بعد الصهيل نحيب

تزلزلت الدنيا لآل محمد*** فكادت لها صمّ الجبال تذوب

وغابت نحوم واقشعرت كواكب*** وهتك أستار وشق جيوب

يصلي على المهدي من آل هاشم*** ويغزی بنوه إن ذا لعجيب

لئن كان ذنبي حب آل محمد*** فذلك ذنب لست عنه أتوب

ص: 152


1- الأبيات للشافعي محمد بن إدريس.

القسم الثالث

اشارة

هذا هو القسم الثالث من الجزء الأول من کتابنا(موسوعة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) والعترة (عليهم السلام) وهو يشتمل على ستة جلسات تكون بحسب تنظيم هذا الجزء من الموسوعة مشتملة على الجلسة السابعة ، والثامنة ،والتاسعة ، والعاشرة ، والحادية عشر ، والثانية عشر ،ثلاث منها متعلقة بموضوع المعراج المبارك ، والثلاث الجلسات الأخرى الأولى منها تتعلق بموضوع النبوة العامة ، ونبوة نبينا محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) والثانية تتعلق بموضوع الارسال والدليل عليه، والثالثة تتعلق بموضوع فضل النبي والأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام على الملائكة (عليه السلام).

ص: 153

ص: 154

الجلسة السابعة: في ذكرى

معراج النور إلى السماء

جاء جبريل بالبراق إليه*** وهو في موكب من الأمناء

قال هذا محمّد حين أبدى*** شدّة الامتناع في الابتداء

فهوى خاشعاً على الأرض حتى*** مس في بطنه ثرى الحصباء

فارتق فوق ظهره فتسامی*** يسبق البرق طائراً في الهواء

فانتهى بالمسير فيه لبيت*** المقدس الطهر ليلة الاسراء

فرأى فيه ما رأى حين أسرى*** من عجيب الآيات والأنباء

وتعالى به البراق ارتفاعاً*** لسماء تلوح بعد سماء

وإذا بالنداء يمني ويسرى*** هاتفاً بالنبي إثر النداء

وتلقته في الفضاء فتاة*** تتجلّى بصورة الحسناء

قال جبريل لو أجبت لحاد*** الناس زيفاً عن شرعة الحنفاء

وأحبّوا الدنيا وكانوا يهوداً*** أو نصاری جهلاً بغير اهتداء

فرأى في الطباق حين علاها*** سبعة من أكابر الأنبياء

ورأى آدماً قريراً حزيناً*** فهوما بين حسرة وهناء

وحباه تفاحة جبرئيل*** هي أصل الصديقة الزهراء

وانتهى فيه بالمسيرة حتى*** سدرة المنتهى وأسمى العلاء

قال هذا حدّي فلا أتعدّى*** درجاتي في البدء والانتهاء

حينما كان قاب قوسين قرباً*** باصطفاء من ربّه واجتباء

ص: 155

قال سلني فسوف اعطيك فضلاً*** قال يا رب أنت أهل العطاء

قد تخصصت في كليم وروح*** وخليل مكرم بالثناء

وإذا بالنداء أنت حبيبي*** في البرايا وسيّد الأوصياء

واتخذ للورى عليّاً وليّاً*** فهو عندي من أفضل الخلفاء

وانثنى عائداً إلى الأرض منها*** وهدى الفجر مشرق بالضياء

معلناً في قريش ما كان منه*** من حديث المعراج والارتقاء

وأبو طالب مدى الليل يرعى*** غيبة المصطفى عن البطحاء

حذراً أن يصاب طه بسوء*** من قريش وسائر الأعداء

قال الله تعالى في كتابه المجيد:﴿ سُبحان الذي أسرى بعَبدِهِ لَيلاً من المسجِدِ الحَرَامِ إِلى المسجِدِ الأقصى الذي باركنا حَولَهُ لِنُرِيَهُ من آياتنا إِنَّهُ هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾(1) .

قال صاحب الميزان: سبحان اسم مصدر للتسبيح بمعنى التنزيه ويستعمل مضافاً وهو

مفعول مطلق قائم مقام فعله فتقدير «سبحان الله»سبحت الله تسبيحاً أي نزهته عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه وكثيراً ما يستعمل للتعجب.

والاسراء والسرى السير بالليل يقال : سرى وأسرى أي سار ليلاً وسرى وأسرى به أي سار ليلاً، والسير يختص بالنهار . وقوله تعالى: ﴿ليلاً﴾مفعول فيه ويفيد من الفائدة أن هذا الإسراء تم له بالليل فكان الرواح والمجيء في ليلة واحدة قبل أن يطلع فجرها. وقوله تعالى :﴿ إلى المسجد الأقصى﴾ هو بيت المقدس بقرينة قوله :﴿ الذي باركنا حوله﴾ والقصي البعد، وقد البعد، وقد سمي المسجد الاقصى لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان النبي له ومن معه من المخاطبين وهو مكة التي فيها المسجد الحرام.

وقوله تعالى :﴿ لنريه من آياتنا﴾ بيان غاية الإسراء وهي إراءة بعض الآيات

ص: 156


1- سورة الاسراء : 1 .

الإلهية - لمكان من - وفي السياق دلالة على عظمة هذه الآيات التي أراها الله سبحانه كما صرح به في موضع آخر من كلامه تعالى يذكر فيه حديث المعراج بقوله تعالى :﴿ لقد رأى من آيات ربه الكبرى﴾ (1).

وقوله تعالى: ﴿إنّه هو السميع البصير﴾ تعليل لإسرائه به لإراءة آياته أي إنّه تعالى سميع لأقوال عباده بصير بأفعالهم وقد سمع من مقال عبده ورأى من حاله ما استدعى أن يكرمه هذا الإكرام فيسرى به ليلاً ويريه من آياته الكبرى.

قال : وفي الآية الكريمة التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير في قوله تعالى : ب- ﴿باركنا حوله لنريه من آياتنا﴾ ثم رجوع إلى الغيبة السابقة والوجه فيه الإشارة إلى أنّ الإسراء وما ترتب عليه من إراءة الآيات إنما صدر عن ساحة العظمة والكبرياء وموطن العزة والجبروت فعلمت فيه السلطنة العظمى وتجلى الله بآياته الكبرى ، ولو قيل : ليريه من آياته أو غير ذلك لفاتت النكتة .

والمعنى : لينزه تنزيهاً من أسرى بعظمته وكبريائه وبالغ قدرته وسلطانه بعبده محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)في جوف ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس الذي بارك حوله يريه بعظمته وكبريائه آياته الكبرى، وإنّما فعل به ذلك لأنه سميع بصير علم بما سمع من مقاله ورأى من حاله أنه خليق أن يكرم هذه التكرمة.

ويمكننا بيان الحديث حول الرحلة المباركة الميمونة بثلاثة أمور ذكرها بعض الباحثين نجمعها فيما يلي :

الأمر الأول : إمكانية الإسراء والمعراج .

الأمر الثاني : الروايات الناقلة للخبر .

الأمر الثالث : أنباء القرآن الكريم .

وتفصيل ذلك ان الأمر الأول :« الذي هو امكانية الاسراء والمعراج»: نقول

ص: 157


1- سورة النجم : 8

انه أحد اثنين نحاول أن نثبت له إمكانية وقوع الاسراء والمعراج : إما رجلٌ مؤمن بالله تعالى وقدرته ، وإما بعيد عن هذا الجو ... أما الرجل المؤمن بالله وأنه القادر على كل شيء، فلا يستبعد حصول هذا الأمر مهما كان مخالفاً لقوانين الطبيعة وأحكام العادة ، لأن القدرة الالهية لا تنحصر أو تتكيف بالعادة وما يألفه الإنسان.

ثمّ إن الله تعالى الذى ركب في الكون قوانينه الطبيعية لا يعجز عن خرق تلك القوانين ... وفي الكتب السماوية كثير من مثل هذه الأمثلة ، فنار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم تحرقه مع أنها لم تنطفىء، فكانت عليه برداً وسلاماً . وعصا موسى(عليه السلام)تحولت إلى حية لقفت ما أفكه سحرة فرعون ثم فلقت البحر إلى شقين واستوى بينهما طريق يبس عبره موسى وقومه . وكان عيسى(عليه السلام)يلمس المريض فيبراً ، مهما استعصى مرضه على الدواء والعلاج، كما كان يحيي الموتى بإذن الله . وهذا عرش بلقيس ملكة اليمن نقله الذي عنده علم من الكتاب من اليمن إلى فلسطين تلبية، الطلب سليمان(عليه السلام) ولم تستغرق عملية النقل أكثر من طرفة عين ... كل ذلك مما لم يعهد عادة ولا قوي الإنسان بإمكاناته المعروفة على مثله .

وما حادثة الإسراء والمعراج إلا واحدة من مثل هذه الأحداث الخارقة لقوانين الطبيعة، والخارجة على أحكام العادة وما يعرفه البشر ويطيقونه وهذا هو معنى الإعجاز الصادر على أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأما الذي لا يؤمن بالله تعالى فإن الحديث معه على مستوى أن ننقل له خبراً مصدره عبدالله بن عباس، لأنه ثقة المسلمين المؤتمن على رواية الحديث، أو نص آية من القرآن الكريم بحجة أنه لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه، كل ذلك حديث عبث لا طائل تحته . وإنما يقال لمثل هذا الانسان : هل يحيل العقل ويمنع مثل هذه الأمور ؟ أم أن إنكارها لمجرد الاستغراب وأن العادة لم تجر بأمثالها ؟ أما العقل فلا مجال لحكمه بالاستحالة ، كيف ؟ وقد استطاع إنسان القرن العشرين بفضل التقدم العلمي الهائل أن يخرج من الأرض سائحاً في الكون الفسيح ، وإذا كانت سرعة سيره اليوم

ص: 158

لا تزال بطيئة بالقياس إلى سعة الكون، فقد يخطو خطوات أوسع في المستقبل ويقطع في ساعة ما يقطعه اليوم في سنة . على أن الحديث معه عن وجود الله أجدى وأنفع من فتح حديث الاسراء والمعراج الذي سيبقى مجالاً للأخذ والرد دون الوصول إلى نتيجة مرضية.

الأمر الثاني : الروايات الناقلة للخبر : ننقل منها حديثين :

الحديث الأول : عن صادق آل محمد(عليهم السلام) ما مضمونه : ان جبرائيل وميكائيل

وإسرافيل جاؤا بالبراق إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فحملوه عليها حتى انتهى إلى بيت المقدس، ودخل النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) مع جبريل (عليه السلام)فوجد ثلّة من الأنبياء(عليه السلام) ، فيهم إبراهيم وموسى وعيسى، فلما أقيمت الصلاة تقدمهم النبي محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)فصلى بهم جماعة ، ثم صعد به جبريل(عليه السلام) إلى السماء وأخذ يريه آيات الله وعظيم صنعه والتقى هناك بالملائكة والأنبياء وهم يستبشرون به والتقى بالملك عزرائيل - ملك الموت - فقال له : أبشر يا محمد فإني أرى الخير كله في أمتك.

فقال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم): الحمد لله المنان ذي النعم على عباده ذلك من فضل ربي ورحمته عليّ. ثم سأله النبي(صلی الله علیه وآله وسلم): أكل من مات أو هو ميت فيما بعد هذا تقبض روحه ؟ فقال نعم . ثم أردف: ما الدنيا كلها عندي فيما سخره الله لي ومكنني عليها إلا كالدرهم في كف الرجل، يقلبه كيف يشاء، وما من دار إلا وأنا أتصفحه كل يوم خمس مرات، وأقول إذا بكى أهل الميت على ميتهم : لا تبكوا عليه فإن لي فيكم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم أحد.

فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): كفى بالموت طامة يا جبرئيل - فقال جبرئيل : إن ما بعدالموت أطم وأطم من الموت.

الحديث الثاني : جاء أن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)اطلع على عذاب عدة مجموعات من الناس، وكلما رأى جماعة سأل جبرئيل عن سبب عذابهم فيشرح له ؛ من ذلك أنه رأى قوماً يقطع اللحم من جنوبهم ويوضع في أفواههم، فقال جبرئيل : هؤلاء

ص: 159

الهمازون اللمازون.

ومنها أنه رأى قوماً تقذف النار في أفواههم فتخرج من أدبارهم، فقال جبرئيل : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ، إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً.

ومنها أنه رأى قوماً إذا أراد أحدهم أن يقوم لا يقدر بسبب كبر بطنه، يعرضون على النار غدواً وعشياً مع آل فرعون وهم يصيحون ربنا متى تقوم الساعة (حتى يتخلصوا من هذا العذاب، وكأن عذاب الساعة ليس أعظم ولا أشد آلاف الأضعاف). فقال جبرئيل : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.

ومنها أنه رأى نساء قد علقت الواحدة منهن بثدييها . فقال جبرئيل : هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهن أولاد غيرهم. (أي تزني المرأة فتأتي بولد من غير زوجها وتنسبه إليه فيرثه ثم قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): اشتد غضب الله تعالى على امرأة

، أدخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم، فاطلع على عوراتهم وأكل خزائنهم. قال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) : وعلمتني الملائكة قولاً أقوله إذا أصبحت وأمسيت :

«أللهم إن ظلمي أصبح مستجيراً بوجهك، وذبني مستجيراً بمغفرتك، وذلي أصبح مستجيراً بوجهك الباقي الذي لا يفنى». وسوف يمر عليك كلما رآه رسول الله في رحلته المباركة الميمونة وذلك في الجلسة القادمة إن شاء الله لكن كيف كان موقف المشركين من الاسراء والمعراج ؟ : جاء في الروايات أن موجة عارمة من الاستنكار والرفض، علت المشركين لما سمعوا نبأ الإسراء، وراحوا يطالبون بالدليل على صدق ذلك ، في الوقت الذي يكذبون الخبر . ولم تشر تلك الروايات أن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) أخبرهم بالمعراج، وإنما أخبر عن معراجه أصحابه بعد الهجرة ولعلّ مرد ذلك إلى أن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)، لما رأى عناد القوم واستنكارهم للإسراء رغم وضوح الدلائل، آثر السكوت عن المعراج - وذلك بناءً على أنهما حادثة واحدة - حتى يستطيعوا

ص: 160

استيعاب الخبر الأول، ثم يلقي عليهم ثقل الخبر الآخر .

أصبح رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وقال لقريش : إن الله جل جلاله قد أسرى بي إلى : بيت المقدس، وأراني آثار الأنبياء ومنازلهم. وإني مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا، وقد أضلوا بعيراً لهم فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك. فقال أبو جهل لعنه الله تعالى : قد أمكنتكم الفرصة منه ، فاسألوه كم الأساطين فيها والقناديل ؟ فقالوا : يا محمد ، إن هاهنا من قد دخل بيت المقدس، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه ؟ فجاء جبرئیل فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه المبارك . فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه. فلما أخبرهم قالوا حتى يجيء العير فنسألهم عما قلت. فقال لهم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): تصديق ذلك ان العير تطلع عليكم من طلوع الشمس يقدمها جمل أورق.

فلما كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون: هذه الشمس تطلع الساعة . فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلوع القرص، يقدمها جمل .أورق فسألوهم عن قول رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فقالوا : لقد كان هذا ضل جمل لنا في موضع كذا وكذا ، ووضعنا ماء فأصبحنا وقد أهريق الماء. فلم يزدهم ذلك إلا عتوّاً . قال بعض العارفين : إن القلوب إذا أغلقت والعقول إذا صدأت والنفوس إذا أظلمت، ذهبت عندها دعوة الحق صرخة في واد سحيق ليس لها قرار.

وأنّى لأمثالها أن تذعن للحق رغم ما بهرها من نوره، وكشف لها عن محضه ... وقريش العاتية الظالمة يزيدها وضوح الحق إدغالاً في الباطل، وتنكباً لجادة الصواب.

ولعمري إنها معجزة للإسلام، جديرة بالدراسة والعناية، حيث صاغ من تلك الأمة الجاهلة العمياء الصماء، أمة أشرقت بنورها على العالم، تهديه سبيل الرقي والحضارة، وترسم له خطوط التمدن والازدهار، ثم ترفع له من المثل والأخلاق والفضائل في كل يوم علماً .

ص: 161

الأمر الثالث - أنباء القرآن الكريم في الاسراء :

لقد جاء نبأ الاسراء والمعراج في القرآن الكريم في آيات منها الآية الكريمة المطروحة للبحث والمتقدم ذكرها في أول الجلسة قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ وقد مرّ تفسير بعض جوانب الآية المباركة، وهنا نقول : إنها دالة على وقوع المعراج حيث أسرى الله تعالى بالنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)من مكة (المسجد الحرام إلى القدس (المسجد الأقصى) وقد أجمع عامة المفسرين على هذا المعنى .... وقول بعض من لا نظر عنده أن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)رأى في المنام اسراء و معراجاً هذا القول فاسد. إذ انّ ذلك يخرج هذا الحدث العظيم عن الاعجاز. ثم أي خصوصية فيه عندئذ حتى يمتن به الله تعالى على النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)أو على أمته بقوله تعالى:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾فإن رؤيا المنام قد تحصل لأي من الناس ، ولا غرابة فيها ولا إعجاز . على أن إطلاق كلمة بعبده ترمي إلى أن الاسراء كان بجسد النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)ولا بالوهم والأحلام كما ان كلمة (عبده) اسم من أسمائه(صلی الله علیه وآله وسلم) المحبوبة إلى الله تعالى وقد نزل فى قوله تعالى: ﴿ نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ وقال (صلی الله علیه وآله وسلم) : لا تدعني إلا بيا عبده لأنه أشرف أسمائي . وإن كان أشهر أسمائه محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)وقد نطق به القرآن المجيد، واشتقاقه من الحمد يقال : حمدته أحمده إذا أثنيت عليه بجميل وبجليل خصاله، وأحمدته إذا صادفته محموداً، وبناء اسمه يعطي المبالغة في بلوغه غاية المحمدة.

وقد جاء في كتب الحديث والتفاسير وغيرها انّ له صلى الله عليه وآله بالاضافة إلى الاسمين المتقدم ذكرهما ما يقرب من خمسة وعشرين اسماً نذكر بعضها فيما يلي التبرك والتيمن فنقول :

الأول بعد الاسمين المتقدم ذكرهما : «أحمد» وقد نطق به القرآن الكريم واشتقاقه من الحمد كأحمر من الحمرة، ويجوز أن يكون لغة في الحمد...

ص: 162

الكفر ، وقيل :

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : اسمه في التوراة أحمد الضحوك القتال،يركب البعير ، ويلبس الشملة ، ويجتزى بالكسرة، سيفه على عاتقه .

الاسم الثاني: «الماحي» جاء عن جبير بن مطعم، عن أبيه قال : قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): ان لي أسماء انا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي يمحي بي تمحى به سیئات من اتبعه، ويجوز أن يمحى به الكفر وسيئات تابعيه .

الاسم الثالث : «الحاشر » قال(صلی الله علیه وآله وسلم): وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي.

الاسم الرابع: «العاقب» ومعناه، هو الذي لا نبي بعده، وكل شيء ، وكل شيء خلف شيئاً

فهو عاقب.

الاسم الخامس: «المقفي» وهو بمعنى العاقب لأنه تبع الأنبياء يقال : فلا يقفو أثر فلان أي يتبعه .

الاسم السادس: : «الشاهد» لأنه(صلی الله علیه وآله وسلم)يشهد في القيامة للأنبياء بالتبليغ على الامم بأنهم بلغوا قال الله تعالى :﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ أي شاهداً ، وقال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾

الاسم السابع : «البشير» وهو من البشارة لأنه يبشر أهل الايمان بالجنة.

الاسم الثامن: «النذير» ومعناه أنه(صلی الله علیه وآله وسلم)ينذر أهل النار بالخزي نعوذ بالله تعالى من الخزي.

الاسم التاسع: «الداعي» ومعناه أنه(صلی الله علیه وآله وسلم)يدعو الناس الى الله وتوحيده

و تمجيده .

الاسم العاشر : «السراج» ومعناه أنه(صلی الله علیه وآله وسلم)سراج ينير لأهل الدنيا فقد جعله الله تعالى السراج المنير لإضاءة الدنيا به ومحو الكفر بأنوار رسالته، كما قال العباس عمه رضي الله تعالى عنه يمدحه :

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض*** وضاءت بأنوارك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي*** النور وسبل الرشاد نخترق

ص: 163

الاسم الحادي عشر :« نبي الرحمة» قال الله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ . وقال (صلی الله علیه وآله وسلم): إنما أنا رحمة مهداة ، والرحمة في كلام العرب العطف والرأفة والاشفاق ، وكان(صلی الله علیه وآله وسلم)بالمؤمنين رحيماً كما وصفه الله تعالى، وقال عمه أبو طالب(عليه السلام)يمدحه :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه*** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

الاسم الثاني عشر :« نبي الملحمة» ورد في الحديث، والملحمة الحرب،وسمي بذلك لأنه بعث(صلی الله علیه وآله وسلم) بالذبح.

وروي أنه سجد(صلی الله علیه وآله وسلم)یوماً فأتى بعض الكفار بسلا ناقة فألقاه على ظهره، والسلا: بالقصر الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي، فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): يا معشر قريش أي جوار هذا والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح ، فقام إليه أبو جهل ولاذ به من بينهم وقال : يا محمد ما كنت جهولاً ،وسمي نبي الملحمة بذلك.

الاسم الثالث عشر : «الضحوك» وإنما سمّي بذلك لأنه كان طيب النفس وقد ورد أنه كان فيه دعابة وقال(صلی الله علیه وآله وسلم): إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً ، وقال لعجوز : لا تدخل الجنة العجوز فبكت فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): انهن يعدن أبكاراً . وروي عنه مثل هذا كثير .

وكان(صلی الله علیه وآله وسلم)يضحك حتى يبدو ،ناجذه وقد ذكر الله سبحانه لينه ورفقه فقال :﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ . وكذلك كانت صفته على كثرة من ينتابه من جفاة العرب وأجلاف البادية لا يراه أحد ذا ضجر ولا ذا جفاء ولكن لطيفاً في المنطق رفيقاً في المعاملات لينا عند الجوار كأنّ وجهه الشريف إذا عبست الوجوه دائرة القمر عند امتلاء نوره(صلی الله علیه وآله وسلم).

الاسم الرابع عشر :« القتال» سيفه على عاتقه ، سمي بذلك لحرص بذلك الحرصه(صلی الله علیه وآله وسلم)على الجهاد ومسارعته الى القراع ودوبه في ذات الله وعدم إحجامه، ولذلك قال علي (عليه السلام): كنا إذا احمر البأس اتقيناه برسول الله لم يكن منا أحد أقرب إلى العدوّ منه ، وذلك مشهور من فعله(صلی الله علیه وآله وسلم)يوم أحد ، إذ ذهب القوم في سمع الأرض وبصرها، ويوم حنين إذ ولوا مدبرين وغير ذلك من أيامه(صلی الله علیه وآله وسلم) حتى أذل بإذن الله صناديدهم،

ص: 164

وقتل طواغيتهم ودوّخهم واصطلم جماهيرهم، وكلفه الله القتال بنفسه فقال تعالى : ﴿ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ﴾ فسمى القتال .

الاسم الخامس عشر : «المتوكل» وهو الذي يكل أمور الى الله تعالى، فإذا أمره الله تعالى بشيء نهض به غير هيوب ولا خائف، واشتقاقه من قولنا رجل وكل، أمر عظيم أو نزلت به ملمة راجعاً الى الله عز وجل أي ضعيف وكان له إذا دهمه غير متوكل على نفسه وقوتها، صابراً على الضنك والشدة، غير مستريح الى الدنيا ولذاتها ، لا يسحب إليها ذيلاً، وهو القائل : مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب أدركه المقبل في أصل شجرة فقال في ظلها ساعة ومضى.

و قال(صلی الله علیه وآله وسلم): إذا أصبحت آمناً في سربك، معافي في بدنك، عندك قوت يومك، فعلى الدنيا العفا.

وقال(صلی الله علیه وآله وسلم) : لبعض نسائه : ألم أنهك أن تحبسي شيئاً لغد فإن الله تعالى يأتي برزق كلّ غد .

الاسم السادس عشر : «القثم» وله معنيان أحدهما من القتم وهو الاعطاء لأنه كان(صلی الله علیه وآله وسلم)بالخير من الريح الهابة يعطي فلا يبخل، ويمنح فلا يمنع. وقال الأعرابي الذي سأله : ان محمداً يعطي يعطى عطاء من لا يخاف الفقر، وروي أنه أعطى في يوم هوازن من العطايا ما قوم بخمسمائة ألف ألف وغير ذلك مما لا يحصى، والوجه الآخر :انّه من القثم وهو الجمع يقال للرجل الجموع للخير قثوم وقتم كذا حدث به،الخليل، فإن كان هذا الاسم من هذا فلم تبق منقبة رفيعة ولا خلة جليلة ولا فضيلة نبيلة، إلاوكان لها جامعاً ، قال ابن فارس والأول أصح وأقرب.

الاسم السابع عشر : «الفاتح» لفتحه(صلی الله علیه وآله وسلم)أبواب الايمان المنسدّة، وإنارته الظلم المسودة قال الله تعالى في قصة من قال: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق أي أحكم ، فسمي(صلی الله علیه وآله وسلم)فاتحاً لأن الله تعالى حكمه في خلقه يحملهم على المحجة البيضاء، ويجوز أن يكون من فتحه ما استغلق من العلم، وكذا روي عن

الامام(عليه السلام) أنه كان يقول في صفته : الفاتح لما استغلق، والوجهان متقاربان.

ص: 165

الاسم الثامن عشر :«الأمين» وهو مأخوذ من الأمانة وأدائها، وصدق الوعد وكانت العرب تسميه بذلك قبل مبعثه، لما شاهدوه من أمانته وكلّ من أمنت منه الخلف والكذب فهو أمين ، ولهذا وصف به جبرئيل(عليه السلام) قال الله تعالى:﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾.

الاسم التاسع عشر : «الخاتم »قال الله تعالى:﴿َخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ من قولك : ختمت الشيء أي تممته وبلغت آخره، وهي تممته وبلغت آخره، وهي خاتمة الشيء وختامه، ومنه ختم القرآن وختامه مسك أي آخر ما يستطعمونه عند فراغهم من شربه ريح المسك ، فسمي به (صلی الله علیه وآله وسلم)لأنه آخر النبيين بعثة ، وإن كان في الفضل أولاً، قال(صلی الله علیه وآله وسلم): نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنّهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم.

الاسم العشرون: «المصطفى» وفي هذا الاسم شاركه الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، ومعنى الاصطفاء الاختيار، وكذلك الصفوة والخيرة إلا انّ المصطفى اسم ليس إلا له الله على الإطلاق، لأنا نقول آدم مصطفی ، نوح مصطفی ، إبراهيم مصطفى، فإذا قلنا المصطفى تعين(صلی الله علیه وآله وسلم)وذلك من أرفع مناقبه وأعلى مراتبه .

الاسم الواحد والعشرون:« الرسول والنبي الأمي» وقد شاركه فيهما الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام أيضاً، والرسول من الرسالة والإرسال، والنبي يجوز أن يكون من الانباء وهو الأخبار ، ويحتمل أن يكون من نبأ إذا ارتفع، سمي بذلك لعلوّ مكانه ولأنه خيرة الله من خلقه .

وأمّا «الأمي» فقال قوم: انه منسوب الى مكة وهي أم القرى ، كما قال تعالى :﴿ بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا ﴾وقال آخرون: أراد الذي لا يكتب، قال ابن فارس: وهذا هو الوجه لأنه أدلّ على معجزة، فإن الله تعالى علمه علم الأولين والآخرين، ومن علم مالا يعلمه إلا الله تعالى وهو أمتي والدليل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ . وجاء عنه(صلی الله علیه وآله وسلم)أنه قال : نحن أمة أميّة لا نقرأ ولا نكتب ومن أراد التوسع في معرفة ذلك والدليل عليه أكثر فعليه أن يرجع الى كتاب (النبي الأمي) لشهيد الاسلام الفيلسوف الإلهي

ص: 166

آية الله الحاج الشيخ مرتضى المطهري رضوان الله تعالى عليه وقدس نفسه الزكية وطيب الله تربته ، فسوف يجد في الكتاب المذكور بغيته من الأدلة الواضحة على أن الأرجح في معنى (الأمي) هو نسبته(صلی الله علیه وآله وسلم)الى عدم القراءة والكتابة لا لكونه من أم

الى القرى، كما ان في الكتاب المذكور تفصيل شامل حول اميته(صلی الله علیه وآله وسلم) هل كانت قبل البعثة أو بعدها .

وقد أشرنا إلى ذلك أيضاً في بعض الجلسات المتقدمة.

الاسم الثاني والعشرون: «المزمل والمدثر» ومعناهما واحد ، يقال زمله في ثوبه أي لفّه، وتزمل بثيابه أي تدثر.

الاسم الثالث والعشرون: «الكريم قال تعالى : ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ .

الاسم الرابع والعشرون: «النور» قال الله تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾.

الاسم الخامس والعشرون: «عبدالله» قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ﴾ وسماه الله تعالى أيضاً «طه» و «ياسين» و «منذراً» و«نعمة» كما في قوله تعالى :﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا = ﴾وقوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ منذرو مُذَكِّرٌ ﴾ . وانه(صلی الله علیه وآله وسلم)قال كما جاء في كتاب دلائل النبوة باسناده عن ابن عباس : إنّ الله خلق الخلق - الخلائق - على قسمين فجعلني في خيرهما قسماً وذلك قوله تعالى : ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ وَ أَصْحَابُ الْشمال﴾ فأنا من أصحاب اليمين وأنا من خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثاً فجعلني في خيرها قبيلة وذلك قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً وذلك قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾فأنا وأهل بیتی مطهرون من الذنوب، وقد رواه ابن الأخضر الجنابذي وذكره في كتابه معالم العترة النبوية .

وقال عمه أبو طالب رضوان الله تعالى عليه وأرضاه وجعل الجنة مأواه،

ص: 167

وحشرني وإياه، في هذه الأبيات الجليلة :

وشق له من اسمه كي يجله*** فذو العرش محمود وهذا محمد

وقيل انّ الأبيات لحسّان من قصيدة أولها :

ألم تر ان الله أرسل عبده*** وبرهانه والله أعلى وأمجد

الآية الثانية في المعراج : قوله تعالى في سورة النجم : ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى*وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى*عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى*عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى*إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى *مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى*لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ . والآيات الكريمة صريحة الدلالة في ثبوت المعراج خصوصاً الآية رقم 14 قوله تعالى: ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ فإن سِدرة المنتهى في السماء السابعة وجنّة المأوى عندها .

ويعضد ذلك ما جاء في العلل عن مولانا الامام محمد بن علي الباقر عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى : ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ يعني عندما وافی به جبرئيل عند سِدرة المنتهى وذلك حين صعد إلى السماء - قال : فلما انتهى الى محلّ السدرة وقف جبرئيل دونها وقال : يا محمد إنّ هذا موقفي الذي وضعني الله عزّ وجلّ فيه ولن أقدر على أن أتقدّمه ولكن امض أنت أمامك إلى السدرة فوقف عندها قال : فتقدم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)إلى السدرة وتخلف جبرئيل، قال : إنما سمّيت سِدَرة المنتهى لأنّ أعمال أهل الأرض تصعد بها الملائكة الحفظة الى محلّ السدرة والحفظة الكرام البررة دون السدرة يكتبون ما يرفع اليهم الملائكة من أعمال العباد في الارض قال : فينتهون الى محل السدرة بالأعمال ، قال : فنظر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فرأى أغصانها تحت العرش وحوله قال : فتجلّى لمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم)نور الجبار عزوجل، فلمّا غشى محمد النور شخص ببصره وارتعدت فرائصه قال : فشدّ الله عزّ وجلّ لمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم) قلبه وقوّى له بصره حتى رأى من آيات ربه ما رأى، إلى آخر الحديث.

وخلاصة ما ذكره المفسرون في دلالة الآيات المذكورة على ما نحن بصدده هو أن جبرئيل كان يأتي النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)في صورة رجل من العرب جميل الشكل،

ص: 168

يسمى دحية الكلبي فأحب النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)أن يرى جبرئيل على الصورة الحقيقية التي خلقه الله عليها . فطلب منه ذلك، وكان له ما أراد في قصة مثبتة في كتب التفاسير والسيرة . وأول الآيات الكريمة المذكورة تسأل المشركين سؤال توبيخ وتقريع. أفتمارونه على ما يرى ؟ والمعنى أفتجادلونه عليه من المراء وقرىء أفتمرونه أي أفتغلبونه في المرء أو أفتجحدونه، وعلى لتضمين معنى الغلبة . ثم تؤكد الآيات أنه راه مرة ثانية، وذلك عندما نزل عليه ليعرج به إلى السماوات العلى . فرآه عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى. ولقد كان عروجه(صلی الله علیه وآله وسلم)بالجسد الشريف والروح الطاهرة ، ومما يشير إلى أن العروج بالجسد والروح معاً قوله تعالى :﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾. وحمل هذا الكلام على الرؤيا الروحية يحتاج إلى كثير من عناء التأويل. ومما يشد الانتباه أنّ الله تعالى ذكر في الإسراء أنه أسرى بعبده إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته .. وفى هذا المقام ذكر أنه رأى من آيات ربه الكبرى. ولا جدال أن مرأى السماوات والجنّة والنار والملائكة وما يحف بذلك من العوالم الرهيبة المدهشة، آيات أكبر من القدس الشريف.

ومن هنا لا بد أن نعلم بأن كلية المعراج على نحو الاجمال مما اتفقت عليها كلمة المسلمين من جميع أصنافهم ونطقت بها أخبارهم، وصريح القرآن المجيد، ومن عمدة معاجز نبينا الله ، وإنكاره إنكار لضرورة الدين، والتفصيل من حيث كيفية المعراج ، بأنه هل كان بالروح فقط ، أو مع الجسم والجسد بلوازمه. ومن حيث المسافة بأنه هل كان للمسجد الأقصى أي البيت المقدس فقط، حتى يكون طياً في الأرض ويكون إطلاق المعراج عليه تجوزا أو للعروج المعنوي، أو هو مع العروج إلى بعض الكرات والسماوات، أو جميعها إلى العرش ، حتى دنا فتدلى فكان من ربه كقاب قوسين أو أدنى ، ومن زمانه بأنه هل كان بعد البعثة بسنتين ليلة المبعث أي الليلة السابعة والعشرين من شهر رجب المبارك أو غير ذلك. ومن حيث مدة المعراج بأنها مقدار لمحة أو شطر من الليل أو ثلث الليل أو جميعه حتى مطلع الفجر.

ص: 169

كلّ هذا غير خال عن الكلام والتأمّل من فرق المسلمين في تلك الشقوق يظهر لمن تتبع السير والتواريخ والأخبار، وكتب علم الكلام في هذا المقام ، ولسنا في صدد التعرض لجميع الشقوق، إنّما المهم والعمدة والمعركة للآراء والأفكار ومحطّ البحث والأنظار هو : الكلام في المعراج من حيث كيفيته، هل هو روحاني أو جسماني وجسداني ؟ نقول : الذي عليه مذهبنا نحن الامامية أن نبينا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب(صلی الله علیه وآله وسلم)المتولد آمنة بنت وهب في مكة، قدعرج في تلك من الليلة بروحه وجسده الشريف مع ثيابه وعمامته ونعليه وجاز الكرات وصعد إلى السموات وخرق الحجب والسرادقات ووصل إلى العرش، وشرفه وزينه، وصعد إلى مقام قاب قوسين لحكم ومصالح لا تعد ولا تحصى، راجعة لنفسه الشريفة، وراجعة الى الخلق، وإدراك جميع تلك المصالح والحكم ربما يكون خارجاً عن طوق البشر ، فمن أنكر عروجه(صلی الله علیه وآله وسلم)بهذا البدن وهذا الجسم وتلك الروح الطاهرة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

نعم ،هذه عقيدتنا في المعراج الذي يُعد بحق من معاجز الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) العظيمة وذلك لأنه قد شاهد بواسطته الكنز الخفي ونال من الله تعالى أقصى الشرف والمكانة، وفاز بأرقى رتب الشهود . قال مولانا الامام الفيلسوف محمد الحسين الأصفهاني قدس الله نفسه وطيب الله تربته، قال ولنعم ما قال :

وما المسيح والعروج في السما*** فهو الى فوق السموات سما

وجاز من سرادقات العظمة*** وحاز ما يجل عن كل سمة

فاز بأرقى رتب الشهود*** وغاية الغايات في الصعود

شاهد في عروجه الكنز الخفي*** ونال من أدناه أقصى الشرف

واتصل الظل بذي الظل فلا*** أرفع منه منزلاً وموئلاً

هو النبي حين لا آدم بل*** ولا و وجود غيره عزوجل

كان ولم يكن مع الله أحد*** والواحد المطلق أول العدد

بل هو في مراتب الأمجاد*** وجوده مقوم الأعداد

ص: 170

وقال الحكيم الحاج الشيخ عبد المنعم الفرطوسي طاب ثراه وحشرني الله تعالى وإياه، قال ولنعم ما قال أيضاً :

وثبوت المعراج بالجسم حق*** حين أسرى النبي نحو السماء

حيث ان المعراج بالروح وهم*** فيه تخفى حقيقة الإسراء

وحديث الرسل عمّا رآه*** عن عيان مشاهد وهو رائي

من ركوب البراق في حين أسرى*** ودخول للجنة الفيحاء

وسماع النبي في رؤيه النار*** دويّاً للصخرة الصماء

وحديث التفاحة الحق أكلاً*** أصل لنطفة الزهراء

كلّ هذي حقائق ليس فيها*** من خيال يحيلها كالهباء

وقال العالم الجليل ثقة الاسلام مولانا الحاج الشيخ فرج آل عمران قدس نفسة الزكية في حلّ طلسم المعراج ولنعم ما قال :

اليوم نعرف كيف نعرج للعلى*** ونحل طلسم العروج المعضلا

تاهت عقول الناس في تحليه*** فغدت حيارى في الحنادس ضللا

عقل يرى المعراج حلماً صادقاً*** وأراه قولاً للعروج تأولا

يا عقل كيف يصح تأويل ارتقا*** فنن الكمال بأنه حلم جلا

ياعقل كيف تظن. رؤية عالم*** الملكوت طيفاً في تمثلا

يا عقل كيف تظن نيل المجد*** والشرف الصميم يكون حلماً خيلا

يا عقل انك حالم أو غائظ*** أو هازل وتجلّ أن تستجهلا

***

اليوم نعرف كيف نعرج للعلى*** ونحل طلسم العروج المعضلا

ويراه عقل كان سيرالفكر في***طلب الحقيقة سائحاً متجولا

حتى إذا قنص الحقيقة صح أن*** يرقى بها نحو السماء وينزلا

هو في الثرى هو في الهواء هو في*** السماء هو فوق ذلك مجملا ومفصلا

وأراه قولاً قد رآه مجازف*** متأول أخلق به متأولا

ص: 171

لكنّه لا ترتضيه عقيدتي*** أنا في العقيدة لا أجازف مقولا

***

اليوم نعرف كيف نعرج للعلى*** ونحل طلسم العروج المعضلا

ویراه عقل سير روح المرءلا*** بطاعة وأراه قولاً فيصلا

وأراه يدركه الفتى بجهوده*** في العلم لا ينفك يد أب مقبلا

حتى يصير مضاهياً ناسوته*** لاهوته فهنا ارتقى وتكملا

ويرى هناك الجمع أصبح وحدة ***والخلق بالحق الصراح تبدلا

بل لا يرى إلا الحقيقة وحدها*** بجمالها وكمالها فتجملا

لكن ذالا أرتضيه وأنّني*** حرّ ولم أك في القيود مكبلا

***

اليوم نعرف كيف نعرج للعلى*** ونحل طلسم العروج المعضلا

ويراه عقل انه سير الفتى ***نحو العلو بجسمه متغللا

وأراه معنى لا يصح لغير من*** لطفت طبائعه ودق تمقلا

إلا لمن رفض الطبيعة وارتقى*** اللاهوت ثم أتى ملاكاً مرسلا

أعني بذا رمز الكمال محمد*** العربي أصفى العالمين وأكملا

خرق السماء والحجب حتى اجتاز*** ما شاء الإله بجسمه متنقلا

حتى دنا من قاب قوسين استمع*** ماذا جرى لما دنا متذللا

نودي بنعلك وطأ بساط كرامتي*** واسأل تنل واشفع تشفع في الملا

أنت الحبيب وتلك تلك خزائني*** وذخائري خذ ما تشاء لن تحظلا

فأحاط علماً ما مضى وبما بقي*** من كائنات الكون حتماً أولا

ودرى بما في عالم الملكوت من*** ملك ومن فلك وخلق قد علا

حتى إذا استوفى الشؤون بأسرها*** وقضى لبانات الفؤاد تنزلا

ذا صاحب المعراج حقاً فافهموا*** معراجه كي لا تكونوا ضللا

فالآن أوضحت العروج إلى العلا*** وحللت طلسم العروج المعضلا

ص: 172

نعم، لقد أوضح لنا هذا الشيخ الجليل ما كان خفياً علينا من أسرار المعراج وخفاياه وحل طلسمه وأبان لنا من خلال هذه الأبيات الجليلة أيضاً ما جعله الله لرسوله الكريم والصادق الأمين من العظمة حيث أعطاه المنزلة الرفيعة وقربه إليه وأدناه من حضرته حتى كان قاب قوسين ثم أملا عليه ما فرضه عليه وعلى أمته من واجبات معللة بالمصالح وما حرم عليه وعليهم وأباح وكره له ولهم من الأعمال المعللة بالمفاسد لتنتظم بذلك أمور دنياهم وآخرتهم ليحصلوا بذلك على سعادة الدارين الدنيا والآخرين وشرط الله تعالى لنبيه الكريم جزاء ذلك على العباد من أمته مودة قرباه والتمسك بحبل ولائهم والصلاة عليهم لا سيما علي وفاطمة وأبنائهم الأئمة المعصومين عليهم جميعاً الصلاة والسلام.

ولقد بلغ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)بذلك وعرفهم ما يجب عليهم من التمسك بأمير المؤمنين والزهراء (عليها السلام)والأئمة (عليهم السلام)فقد جاء أنه في غديرخم نادى (صلی الله علیه وآله وسلم) بأعلى صوته ويده في يد علي(عليه السلام) وقال : أيها الناسُ ألستُ أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلی یا رسول الله ،قال : فرفع بضبع علي(عليه السلام)حتى رأى الناسُ بياض إبطيهما وقال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله والعن من خالفه، وأدِرِ الحق معه حيثُ ما دَار ، ألا فليبلغ الشاهدُ منكم الغائب.

وأمّا في حق الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)وعلى أبيها وبعلها وبنيها، فلقد جاء عنه (صلی الله علیه وآله وسلم)الله الشيء الكثير من المقالات الشريفة الآمرة للقوم بمودتهاوالتمسك بها وحفظها والعناية التامة بها، ويكفي من ذلك قوله(صلی الله علیه وآله وسلم): فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني، والحديث الشريف هذا ورد بألفاظ متنوعة ومعاني متعدة كقوله(صلی الله علیه وآله وسلم)فاطمة بضعة مني يؤذيني ما ،آذاهاويغضبني ما أغضبها . فاطمة بضعة مني ، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها. فاطمة شجنة مني فاطمة مضغة مني فمن آذاها فقد آذاني فاطمة مضغة مني يسرّني ما يسرها .. يا فاطمة إنّ الله

ص: 173

تعالى يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك، فمن عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي بضعة مني، هي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني . فلو أخذ القوم بهذا الحديث فقط وعملوا بمقتضاه وحفظوا وصية الرسول في حق الصديقة لأوجب الله تعالى لهم بذلك الجنة والرضوان ولكنّهم لم يعملوا بموجب تلك الوصية ولم يحفظوا وديعة نبيهم، ولم يجعلوا لها حرمة ولم يحصوا على إذن منها عندما دخلوا دارها وإنما هجموا عليها وأحرقوا الدار بمن فيها ولسان حالها يخاطبهم ألم يأمركم أبي بحفظي ومودتي وكأني بها تنادي أباها وهي حزينة بقولها :

دار الوحي دخلوها دار الوحي دخلوها***والبضعة المعصومة يا والدي ضربوها

وصيت فوق المنبر بالدرة المعصومة ***أوجوني يبويه بعدك ها لعصبة الميشومة

ليتك تشوف الغالية فوق الوجه ملطومة*** اوجابوا الحطب يالوالي ودار الوحي حرقوها

فزيت يوم الجوني وآني أهل ادموعي ***وآني يبويه الفقدك بعده ميسكن روعي

فزيت ابلزم بابي او كسروا يبويه اضلوعي ***ترضى يبويه داري من بعدك ايدخلوها

يا بوي يوم الاجوني او دخلوا عليه داري*** واني حزينة او فاقده خير انبياء الباري

هتكوا يبويه احجابي او هتكوا يبويه اخداري***او كل الوصية اتخالفت دار الوحي دخلوها

نادى الحسن واجدي واحسين اينادي بأمه***أو هذا يجي للثاني ايكفكف دموعه ابكمه

ص: 174

ياهي امصيبه عظمى او ياهي علينا ملمه***يوم العدى وصلتنا او دار الوحي دخلوها

الله يحيدر صبرك مثل الصخر بل زايد***انته الاسود اتهابك وانته إليهم قايد

كيف الأعادي تهجم بالدار وانته قاعد***ايدخلوا عليك ابدارك او دار الوحي احرقوها

أقول: وهذه النار التي اشتعلت في بيت الزهراء(عليها السلام) دار الوحي شرارها قد وصلت الى مخيمات بنات الرسالة في كربلاء واشتعلت في أخمر واقنعت النسوة الهاشميات حتى أجبرت زينب وأخوات زينب وبنات الحسين عليه وعليهن أفضل الصلاة والسلام على الخروج من المخيمات ولم يبق إلا ذلك العليل مكبوب على وجهه قد سحب الأشرار من تحته ، فراشه، استأنفت زينب(عليها السلام) الرجوع إلى الخيمة مرة ثانية لكي تنظر الى حاله وما جرى عليه فوجدته مكبوباً على وجهه والنارتشتعل في ملابسه وليس تحته فراش ولا توجد عنده وسادة فبكت ولطمت وجهها ونادت وا ابن أخا، واعزيزا...

دشت الحورا على ذاك العليل اتوقضه*** شافته امسجا ولا عنده صدیق ایمرضه

لا فراش او لا وساده فجعها ابكثر الونين***نوب يتقلب على اشماله او نوب على اليمين

صاحت اتوعا يعز الحرم يخليفة احسين***او شوف حالة هاليتامى اوها الخيم لمقوضه

فتح عينه او صاح يا عمة ابويه احسين وين***ما يسكت هاليتامي ذوبوني من الحنين

ص: 175

قالت الله يعظم أجرك طاح عن مهره طعين*** بالرمح راسه او جثته بالعوادي امرضضه

صاح وين القمر لزهربو الفضل راعي الزود***ما نريد الماي خل يرجع ولا يملي الجود

قالت الجود امتلا وانقطعت اعليه الزنود ***ملك والينا الشريعة او بالعطش وسفه قضى

صاح قول لبن عمي جاسم ايلم هلطفال***ما هو لازم هالعرس واحنا يعمة ابهالحوال

قالت الجاسم ترك سكنه ورملها او شال*** او بالثرى اتخضب ابدمه ومات محد غمضه

قال وين حزام ظهري وساعدي لكبر علي***ايقوم يدرك هاليتامى او هالحرم لا تنولي ابو فاضل

قالت اسكت لا تسايل ما بقى عندي ولي***شیل راسك شوف عماتك حواسر بالفضا

رفع راسه او عاين النسوان كلها امطشره***او شاف روس أهله ابعوالي والجثث فوق الترا

صاح تكي لي يعمة اشهالمصاب اللي جرى**يهجم العسكر علينا اشلون ابو فاضل رضی

اشهالحريم الفارات اشهاليتامى اللي تنوح ***اشها لكريم اللي على الخطى يمحزونه يلوح

واشهالجساد السليبة الموزعة أبكثر الجروح*** للسبا شدي اعصابه او سلمي لامر القضى

ص: 176

الجلسة الثامنة : في ذكرى الإسراء ومعراج الهدى إلى السماء

اشارة

عرج النبيّ إلى السموات العلا*** وهفت له الأفلاك والأبراج

ليقيس من حركاتها ويكون في*** غزو الفضا لأولي النهى منهاج

حث الكتاب على التفكر في السما*** فيها نجوم أزهرت وسراج

وعلى التقدم حبّ طه قومه*** وبحثه فتحت لهم ارتاج

قال اسلكوا نهج العلوم وإن يكن*** في الصين فهو إلى المعالي تاج

بالعلم ترتفع الشعوب وترتقي*** بالعلم تقطع للشقا أوداج

بالعلم سارت في البحار بوارج*** بالعلم ناطحت السما اثباج

بالعلم تسمع في مكانك كلما*** في الكون يجري ليس فيه لجاج

بالعلم تبصر في العراق لما جرى*** في لندن فتشق عنه فجاج

بالعلم تستوحي الحرارة في الشتاء***والصيف ينزع حرّه الوهاج

أنظر لآثار العلوم فكم أتى*** بمعاجز مصباحها البراج

هذي فنون الكهرباء فكم بها*** من أنعم هي للسقام علاج

والذرة القعساء كم عم الورى*** من فضها وزكي بها الانتاج

***

له هذا هو العلم الذي يدعو له*** من هدى طه علمه التجاج

يدعو إلى طلب العلوم فريضة*** فيها الرجال مع النساء أمشاج

فهو الذي رقت الشعوب بفضله*** وهو الذي الثروات منه تراج

ص: 177

والجهل لهو أساس كل نقيضة*** منه البلا والسقم والأحراج

لكن فضل العلم ليس له غنى*** عن دین حق عمه الابلاج

فالدين روح العلم وهو قوامه*** وبه يكون عن النهى أفراج

الدين منطلق الشعوب إلى العلى*** وبدونه يهوى بها الادلاج

بين البهائم والورى هو فارق*** وبه عن الفوضى لهم إخراج

***

القصد

والدين ليس يقوم مرفوع الذرى*** حتى يقوم له البنا والساج

بالذكريات وبالشعائر يعتلي*** والخير ذكرى للهدى المعراج

فيه تجلت للنبيّ فضيلة*** منها عرى فهم الورى ازعاج

فيه تبلبلت العقول فواحد*** قد شك فيه وآخر مرتاج

وجميعهم لم يعلموا الأسرى ولا*** ما القصد منه كما غوى الحلّاج

القصد منه بعثة ونبوة*** منها يرف على الرسول التاج

إن اللبيب وإن يكن فوق الثرى*** فله لما فوق النجوم هياج

أتى برسالة قدسية*** فالناس كلهم لها حجاج

دانت لسلطته الملوك وذلّ من*** صفى له النعمان والحجّاج

يسرى به خلواً ويرجع مبطناً*** بالعلم فيه لقلبه إدماج

علم به انبهرت عقول اولى النهى***فغنيهم لأقله محتاج

حفت به رسل الإله كأنه*** بدر عليه من النجوم سياج

مثل المليك تحفه وزراؤه*** أو كعبة من حولها الحجاج

صلّى بهم و ولآدم لم تسجد*** الأملاك لولا نوره الوهاج

ولذاك لما ان إلى العرش ارتقى*** جاء النداء تجله الأفواج

كل الملائك والنبيين أوقفوا*** والعرش يصعد من عليه التاج

ص: 178

قال الله تعالى في كتابه المجيد : ﴿امنَ الرّسولُ بَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن ربهِ وَالمُؤمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِن رُّسُلِهِ وقالوا سَمِعنَا وَأطعنَا غُفرانَكَ رَبَّنَا وإليك المصيرُ لا يُكلّفُ الله نفساً إلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كسبَتْ وعَليْهَا مَا اكتسبت رَبِّنا لَا تُؤَاخِذْنَا إن نسينا أو أخطأنا ربَّنَا ولا تحمل عَلَينا إصراً كما حَمَلتهُ عَلَى الذِينَ من قبلنَا رَبِّنَا ولا تُحمّلنا ما لَا طَاقَةَ لنا به واعفُ عَنَّا واغفر لنا وارحمنا أنتَ مولانا فَانصُرنا على القَومِ الكافرين﴾(1)

وجاء في كتاب حق اليقين(2)لسيدنا المقدس السيد عبد الله شبر رضوان الله تعالى عليه عند ذكر قوله تعالى:﴿ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾(3) : ان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قال: فناداني ربي تبارك وتعالى :﴿امنَ الرّسولُ بَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن ربهِ﴾ فقلت : أنا مجيب عني وعن أمتي﴿وَالمُؤمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِن رُّسُلِهِ ﴾ فقلت:﴿ سَمِعنَا وَأطعنَا غُفرانَكَ رَبَّنَا وإليك المصيرُ ﴾ فقال الله بين تعالى:﴿لا يُكلّفُ الله نفساً إلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كسبَتْ وعَليْهَا مَا اكتسبت ﴾ فقلت :﴿رَبِّنا لَا تُؤَاخِذْنَا إن نسينا أو أخطأنا﴾فقال الله تعالى : لا أواخذك ، فقلت :﴿ ربَّنَا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ﴾فقال الله تعالى : لا احملك ، فقلت :﴿ ربَّنَا ولا تحمل عَلَينا إصراً كما حَمَلتهُ عَلَى الذِينَ من قبلنَا رَبِّنَا ولا تُحمّلنا ما لَا طَاقَةَ لنا به واعفُ عَنَّا واغفر لنا وارحمنا أنتَ مولانا فَانصُرنا على القَومِ الكافرين﴾ ، فقال الله تبارك وتعالى : قد أعطيتك ذلك لك ولأمتك.

قال الصادق(عليه السلام) : ما وفد الى الله تبارك وتعالى أحد أكرم من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)حين سأله لأمته هذه الخصال. فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): يا رب أعطيت انبياءك فضائل فأعطني ، فقال الله تعالى : وقد أعطيتك كلمتين من تحت عرشي ولا حول ولا قوة

ص: 179


1- سورة البقرة : 285 و 286 .
2- ص 240 .
3- سورة النجم : 9 .

إلا بالله ولا منجا منك إلا إليك ، قال (صلی الله علیه وآله وسلم): وعلمتني الملائكة قولاً أقوله إذا أصبحت وأمسيت وهو : «اللهم إن ظلمي أصبح مستجيراً بعفوك، وذنبي مستجيراً بمغفرتك، وذلي مستجيراً بعزتك وفقري أصبح مستجيراً بفناك، ووجهى البالي أصبح مستجيراً بوجهك الباقي الذي لا يفنى ، يقول (صلی الله علیه وآله وسلم): فكنت أقول ذلك إذا أصبحت وأمسيت.

ولقد تحدثنا عن حقيقة وقوع المعراج فيما تقدم وأقمنا الأدلة القرآن من الكريم والسنة النبوية على ذلك بما لا مزيد عليه وقلنا: إنه في الجملة من ضروريات الدين ومنكره خارج عن ربقة المسلمين. وهنا نتحدث للقراء عن صورة وكيفية عروجه صلى الله عليه وآله فنقول :إنه جاء في تفسير علي بن ابراهيم القمي ، عن أبيه، عن محمد بن أبی عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله(عليه السلام)قال: جاء جبرائيل وميكائيل وإسرافيل بالبراق الى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، فأخذ واحد باللجام وواحد بالركاب وسوى الآخر عليه ثيابه فتضعضعت البراق فلطمها جبرائيل ثم قال : اسكني يا براق فما ركبك نبي قبله ولا يركبك بعده مثله ، قال : فرقت به ورفعته ارتفاعاً ليس بالكثير ومعه جبرائيل يريه الآيات من السماء والأرض، قال: فبينما أنا في مسيري إذ نادى عن يميني مناد: يا محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) ، فلم أجبه ولم ألتفت،ثم نادى مناد عن يساوي: يا محمد ، فلم أجبه ولم ألتفت إليه ، ثم استقبلتني امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كل زينة فقالت : يا محمد انتظرني حتى اكلمك ، فلم ألتفت إليها ، ثم سرت فسمعت صوتاً أفزعني فجاوزت به فنزل بي جبرائيل فقال :صل، فصليت فقال: أتدري أين صليت ؟

فقلت : لا ، فقال : صليت بطيبة وإليها مهاجرتك .

ثم ركبت فمضينا ما شاء الله تعالى ثم قال : انزل فصل، فنزلت فصليت، فقال لي: أتدري أين صليت ؟ فقلت : لا . فقال : صليت بطور سينا حيث كلّم الله موسى تكليماً .

ص: 180

ثم ركبت فمضينا ما شاء الله تعالى ثم قال لي : انزل فصل، فنزلت وصليت، فقال لى : أتدري أين صليت ؟ فقلت : لا . فقال : صليت ببيت لحم، وبيت لحم بناحية بيت المقدس من حيث ولد عيسى بن مريم(عليها السلام).

ثم ركبت فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس فربطت البراق بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها ، فدخلت المسجد ومعي جبرئيل إلى جنبي فوجدنا إبراهيم وموسى وعيسى وما شاء الله وما شاء الله من أنبياء الله تعالى فقد جمعوا إلي وأقيمت الصلاة، ولا أشك إلا وجبرائيل يستقدمنا ، فلما استووا أخذ جبرائيل بعضدي فقدمني واممتهم ولا فخر، ثم أتاني الخازن بثلاثة أواني إناء فيه لبن ، وإناء فيه ماء، وإناء فيه خمر، وسمعت قائلاً يقول : إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته، وإن أخذ الخمر غوى وغويت أمته ،وإن أخذ اللبن هدي وهديت ،أمته،قال(صلی الله علیه وآله وسلم): فأخذت اللبن وشربت منه، فقال لي جبرئيل: هديت وهديت أمتك، ثم قال لي : ماذا رأيت في سيرك ؟فقلت : ناداني مناد عن يميني ، فقال لي : أو أجبته ؟ فقلت : لا ولم ألتفت إليه ، فقال : داعي اليهود ولو أجبته لتهودت أمتك من بعدك، ثم قال لي : ماذا رأيت في سيرك فقلت : ناداني مناد عن شمالي، فقال لي : أو أجبته ؟ فقلت : لا ولم ألتفت إليه ، فقال : ذاك داعي النصارى ولو أجبته لتنصرت أمتك من بعدك ، ثم ثم قال : ماذا استقبلك فقلت : لقيت امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كل زينة الدنيا فقالت : يا محمد انتظرني حتى اكلمك ، فقال لي : أفكلمتها ؟ ، فقلت لم اكلمها ولم ألتفت إليها ، فقال : تلك الدنيا ولو كلمتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة، ثم سمعت صوتاً أفزعني فقال لي جبرئيل تسمع يا محمد ؟ قلت نعم قال : هذه صخرة قذفتها على شفير جهنم منذ أربعين عاماً فهذا حين استقرت ، قال : فما ضحك رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)حتى قبض.

قال(صلی الله علیه وآله وسلم) : فصعد جبرئيل وصعدت معه الى سماء الدنيا وعليها ملك يقال له إسماعيل وهو صاحب الخطفة الذي قال الله عز وجل: ﴿«إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ

ص: 181

فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾(1) وتحته سبعون ألف ملك تحت كل ملك ألف ملك ، فقال : يا جبرئيل من هذا معك ؟فقال : محمد هذا معك ؟ فقال محمد (صلی الله علیه وآله وسلم )الله ، قال : وقد بعث ؟ قال : نعم، ثم فتح الباب فسلمت عليه وسلم عليّ، واستغفرت له واستغفر لي، وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ، وتلقتني الملائكة حتى دخلت سماء الدنيا فما لقيني ملك إلا ضاحك مستبشر حتى لقيني ملك من الملائكة لم أر أعظم لم أر أعظم خلقاً منه كريه المنظر ظاهر الغضب، فقال لي مثال ما قالوا من الدعاء إلا أنه لم يضحك ولم أر فيه الاستبشار مما رأيت ممن ضحك من الملائكة ، فقلت : من هذا يا جبرئيل فإنى فزعت منه ؟ فقال : يجوز ان تفزع منه فكلنا نفزع منه إن هذا مالك خازن النار لم يضحك قط ولم يزل منذ ولاه الله جهنم يزداد كل یوم غضبا وغيضاً على أعداء الله وأهل معصيته وبه ينتقم الله منهم ، ولو ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكاً إلى أحد بعدك لضحك إليك ولكنه لا يضحك، فسلّمت عليه فردّ السلام عليَّ وبشرني بالجنة ، فقلت لجبرائيل وجبرائيل بالمكان الذي وضعه الله تعالى مطاع ثم أمين :ألا تأمره أن يريني النار ، فقال له جبرائيل : يا مالك أر محمد النار،فكشف غطاء وفتح باباً منها فخرج منها لهب ساطع في السماء وفارت وارتفعت حتى ظننت ليتناولني مما رأيت فقال(صلی الله علیه وآله وسلم ):يا جبرائيل قل له فليرد عليها غطاءها ، فأمرها فقال: ارجعي فرجعت الى مكانها الذي خرجت منه .

ثم مضيت فرأيت رجلاً جسيماً فقلت : من هذا يا جبرائيل ؟ فقال : هذا أبوك آدم فإذا هو يعرض عليه ذريته فيقول : ريح طيبة من جسد طيب، ثم تلا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم )سورة المطففين على رأس سبع عشرة آية كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون إلى آخر الآية ، قال له : فسلمت على أبي آدم وسلم عليَّ واستغفرت له واستغفر لي، وقال: مرحباً بالابن الصالح والنبيّ الصالح والمبعوث في الزمن الصالح.

ص: 182


1- سورة الصافات: 10 .

ثم مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس وإذا جميع الدنيا بين ركبتيه وإذا بيده لوح مكتوب فيه كتاباً ينظر فيه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً إلا مقبل عليه به كهيئة الحزين فقلت : من هذا يا جبرائيل ؟ فقال : هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح، فقلت: يا جبرائيل ادنني منه فسلّمت عليه، وقال له جبرائيل : هذا نبي الرحمة الذي أرسله الله إلى العباد فرحب بي وحياني بالسلام وقال : أبشر يا محمد فإني أرى الخير كله في أمتك ، فقلت : الحمد لله المنان ذي النعم على عباده ذلك من فضل ربي ورحمته عليَّ ، فقال جبرائيل: هو أشد الملائكة عملاً فقلت : أكلّ من مات أو هو ميت فيما بعد هذا يقبض روحه ؟ فقال : نعم ، قلت : وتراهم حيث كانوا وتشهدهم بنفسك ؟ فقال : نعم ، ثم قال ملك الموت ما الدنيا كلها عندي فيما سخرها الله لي ومكنني عليها إلا كالدرهم في كفّ الرجل يقلبه كيف يشاء، وما من دار إلا وأنا أتصفحه كل يوم خمس مرات وأقول إذا بكى أهل البيت على ميتهم : لا تبكوا عليه فإن لي فيكم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم أحد، فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم ): كفى بالموت طامة يا جبرائيل . فقال جبرائيل : ان ما بعد الموت أطم وأطم من الموت.

ثم مضيت فإذا أنا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيب ولحم خبث، يأكلون اللحم الخبيث ويدعون الطيب فقلت من هؤلاء يا جبرائيل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون الحرام ويدعون الحلال وهم من أمتك يا محمد، فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم ): ثم رأيت ملكاً من الملائكة جعل الله أمره عجباً نصف جسده من النار ونصفه الآخر ثلجاً ، فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج يطفي النار وهو ينادي بصوت رفيع ويقول: سبحان الذي كفّ حرّ هذه النار فلا يذيب الثلج وكفّ هذه النار فلا يذيب الثلج وكفّ برد هذا الثلج فلا يطفي حرّ هذه النار، اللهم يا مؤلّف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين،فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال : هذا ملك وكله الله تعالى بأكناف السماء وأطراف الأرض وهو أنصح ملائكة الله تعالى لأهل الأرضين من عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع

ص: 183

منذ خلق، وملكان يناديان في السماء أحدهما يقول : اللهم أعط كل منفق خلفاً ، والآخر يقول : اللهم أعط كل ممسك تلفاً .

ثم مضيت فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشفر الإبل يقرض اللحم من جنوبهم ويلقي في أفواههم فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟ فقال : هؤلاء الهمازون اللمازون. ثم مضيت فإذا أنا بأقوام ترضخ رؤوسهم بالصخر فقلت: من هؤلاء يا جبرائیل ؟ فقال : هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء .

ثم مضيت فإذا أنا بأقوام تقذف النار في أفواههم وتخرج من أدبارهم فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً.

ثم مضيت فإذا أنا بأقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر من عظم بطنه فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً يقولون : ربنا متى تقم الساعة.

قال : ثم مضيت فإذا بنسوان معلقات بثديهن فقلت من هؤلاء يا جبرائيل ؟ فقال جبرائيل : هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهن أولاد غيرهم، ثم قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم ): اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم فاطلع على عوراتهم وأكل خزائنهم.

قال الله ثم مررنا بملائكة من ملائكة الله عزوجل خلقهم الله تعالى كيف شاء، ووضع وجوههم كيف شاء، ليس شيء من أطباق أجسادهم إلا وهو يسبح ويحمده من كل ناحية بأصوات مختلفة ، أصواتهم مرتفعة بالتمجيد والبكاء من خشية الله تعالى فسألت جبرائيل عنهم ، فقال : كما ترى خلقوا ان الملك منهم الى جنب صاحبه ما كلّمه قط ولا رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقها ولا خفضوها إلى ما تحتها خوفاً الله وخشوعاً ، فسلّمت عليهم فردّوا عليّ إيماءً برؤوسهم لا ينظرون إليَّ

ص: 184

من الخشوع، فقال لهم جبرائيل : هذا محمد(صلی الله علیه وآله وسلم ) نبي الرحمة أرسله الله تعالى الى العباد رسولاً ونبياً وهو خاتم النبوة وسيدهم أفلا تكلمونه ؟ قال : فلما سمعوا ذلك من جبرائيل أقبلوا عليَّ بالسلام واكرموني وبشروني بالخير لي ولأمتي.

قال(صلی الله علیه وآله وسلم ): ثم صعدنا إلى السماء الثانية فإذا فيها رجلان متشابهان فقلت من هذان يا جبرائيل ؟قال : أبناء الخالة يحيى وعيسى، فسلمت عليهما وسلّما عليَّ، واستغفرت لهما واستغفرا لي، وقالا : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، وإذا فيها من الملائكة وعليهم الخشوع قد وضع الله تعالى وجوههم كيف شاء ليس منهم ملك إلا يسبح الله ويحمده بأصوات مختلفة .

قال(صلی الله علیه وآله وسلم ): ثم صعدنا إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل فضل حسنه على سائرالخلق كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم فقلت من هذا يا جبرائيل ؟ فقال : هذا أخوك يوسف، فسلمت عليه وسلم علي، واستغفرت له واستغفر لي، وقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الناصح والمبعوث في الزمن الصالح ، وإذا فيها ملائكة عليهم من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الأولى والثانية ، وقال لهم جبرائيل أمري ما قال للآخرين وصنعوا لي مثل ما صنع الآخرون.

ثم صعدنا إلى السماء الرابعة وإذا فيها رجل فقلت : من هذا يا جبرائيل ؟ فقال : هذا أخوك إدريس الا رفعه الله مكاناً علياً ، فسلمت عليه وسلم عليَّ، واستغفرت له واستغفر لي فإذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات فبشروني بالخير لي ولأمتي، ثم رأيت ملكاً جالساً على سرير تحت يده سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك، فوقع في نفس رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم )أنه هو، فصاح به جبرائیل فقال : قم، فهو قائم إلى يوم القيامة .

ثم صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا فيها رجل كهل عظيم لم أركهلاً أعظم منه حوله ثلة من أمته فأعجبني كثرتهم فقلت: من هذا يا جبرائيل ؟ فقال : هذا المجيب لقومه هارون بن عمران فسلمت عليه وسلم عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي، وإذا

ص: 185

فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

ثم صعدنا إلى السماء السادسة وإذا فيها رجل آدم طويل كأنه من سمرة لونه عليه قميصين لنفذ شعره فيهما وسمعته يقول : يزعم بنو إسرائيل أني اكرم ولد آدم على الله وهذا رجل أكرم على الله مني، فقلت : هذا يا جبرائيل ؟ فقال : أخوك موسى بن عمران فسلمت عليه وسلم علي، واستغفرت له واستغفر لي، وإذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

ثم صعدنا الى السماء السابعة فما مررت بملك من الملائكة إلا قالوا: يا محمد احتجم وأمر أمتك بالحجامة، وإذا فيها رجل أشمط الرأس واللحية جالس على كرسي فقلت: يا جبرائيل من هذا الذي في السماء السابعة على باب البيت المعمور في جوار الله تعالى ؟ فقال : هذا يا محمد أبوك إبراهيم، وهذا محلك ومحل من اتقى من أمتك، ثم قرأ رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم )﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (1) فسلمت عليه وسلم علي، وقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح والمبعوث في الزمن الصالح، وإذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات فبشروني بالخير لي ولأمتي.

قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم )ورأيت في السماء السابعة بحاراً من نور يتلألأ يكاد تلألؤها يخطف بالأبصار، وفيها بحار مظلمة وبحار ثلج ترعد، فلما فزعت ورأيت

هؤلاء سألت جبرائیل ،فقال :ابشر يا محمد (صلی الله علیه وآله وسلم )واشكر كرامة ربك واشكر الله على ما صنع إليك ،قال :فثبتني الله بقوته وعونه حتى كثر قولي لجبرائيل وتعجبي ، فقال جبرائیل: یا محمد تعظم ما ترى ! إنما هذا خلق ربك، فكيف بالخالق الذي خلق ما : ترى وما لا ترى أعظم من هذا خلق من خلق ربك، إن بين الله وبين خلقه تسعين ألف حجاب، وأقرب الخلق الى الله أنا وإسرافيل وبيننا وبينه أربعة حجب، حجاب من نور وحجاب من ظلمة، وحجاب من الغمام وحجاب من ماء، قال(صلی الله علیه وآله وسلم )

ص: 186


1- سورة آل عمران : 68 .

وأريت من العجائب الذي خلق الله وسخر به علي ما أراده ديكاً رجلاه في تخوم الأرض السابعة ورأسه عند العرش، وملكاً فى ملائكة الله تعالى خلقه الله كما أراد رجلاه في تخوم الأرض السابعة ثم أقبل مصعداً حتى خرج في الهواء إلى السماء السابعة وانتهى فيها مصعداً حتى انتهى قرنه إلى قرب العرش، وهو يقول: سبحان ربي حيث ما كنت لا تدري أين ربك من عظم شأنه، وله جناحان في منكبه إذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب ، فإذا كان في السحر نشر جناحيه وخفق بهما صرخ بالتسبيح يقول : سبحان الله الملك القدوس، سبحان الله الكبير المتعال، لا إله إلا الله الحي القيوم وإذا قال ذلك سبحت ديوك الأرض كلها وخفقت بأجنحتها وأخذت بالصراخ، فإذا سكت ذلك الديك في السماء سكتت ديوك الأرض كلها ، ولذلك الديك زغب أخضر وريش أبيض كأشد بياض رأيته وله زغب أخضر أيضاً تحت الريش الأبيض كأشد خضرة رأيتها قط .

قال(صلی الله علیه وآله وسلم ): ثم مضيت مع جبرائيل فدخلت البيت المعمور فصليت فيه ركعتين ومعي أناس من أصحابي عليهم ثياب جدد وآخرون عليهم ثياب خلقان فدخل أصحاب الجدد وحبس أصحاب الخلقان ، ثم خرجت فانقاد لي نهران، نهر يسمى الكوثر ونهر يسمى الرحمة فشربت من الكوثر واغتسلت من الرحمة، ثم انقادا لي جميعاً حتى دخلت الجنة وإذا على حافتيها بيوتي وبيوت أزواجي وإذات ترابها كالمسك ، وإذا جارية تنغمس فى أنهار الجنة فقلت لمن أنت يا جارية ؟ فقالت لزيد بن حارثة فبشرته بها حين ، أصبحت ، وإذا بطيرها كالبخت، وإذا رمانها مثل الدليّ العظام وإذا شجرة لو أرسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة سنة وليس في الجنة منزل إلّا وفيه فتر منها فقلت ما هذه يا جبرائيل ؟ فقال : هذه شجرة طوبى قال الله : طوبى لهم وحسن مآب) (1).

وفي ذيل الخبر المتقدم عن الصادق(عليه السلام) قال(صلی الله علیه وآله وسلم ): ثم أممت الملائكة في

ص: 187


1- سورة الرعد : 29 .

السماء كما أممت الأنبياء في بيت المقدس، ثم قال : ثم غشيتني صبابة فخررت ساجداً فناداني ربي : اني قد فرضت على كل نبي قبلك خمسين صلاة وفرضتها عليك وعلى أمتك فقم بها في أمتك ، فقال رسول الله(عليه السلام) : فانحدرت حتى مررت على إبراهيم الفلم يسألني عن شيء حتى انتهيت الى موسى فقال : ما صنعت یا محمد ؟ فقلت : قال :ربي فرضت على كل نبي كان قبلك خمسين صلاة وفرضتها

: عليك وعلى أمتك فقم بها في أمتك ، فقال موسى يا محمد إن أمتك آخر الامم وأضعفها وانّ ربك لا يرد عليك شيئاً وان أمتك لا تستطيع أن تقوم بها فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف إلى أمتك.

فرجعت إلى ربي حتى انتهيت الى سدرة المنتهى فخررت ساجداً ثم قلت: فرضت عليَّ وعلى أمتي خمسين صلاة ولا أطيق ذلك ولا أُمتي فخفف عني ، فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فرجعت إلى موسى فأخبرته ، فقال : ارجع لا تطيق، فرجعت إلى ربي فوضع عنّي عشراً، فرجعت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع وفي كل رجعة أرجع إليه آخر ساجداً حتى رجع إلى عشر صلوات فرجعت إلى موسى وأخبرته، فقال : لا تطيق، فرجعت إلى ربي فوضع عني خمساً، فرجعت إلى موسى وأخبرته فقال : لا تطيق، فقلت: قد استحييت من ربي ولكن أصبر عليها فناداني مناد: كما صبرت عليها فهذه الخمسة بخمسين كلّ صلاة ، بعشر ، ومن هم أمتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشراً وإن لم يعمل كتبت له واحدة، ومن هم من أمتك بسيئة فعملها كتبت عليه واحدة وإن لم يعملها لم أكتب عليه ، فقال الصادق : جزى الله موسى عن هذه الأمة خيراً.

وجاء في كتاب كشف الغمة : عن ابن عمر قال :سمعت رسول الله(عليه السلام)وقد سئل : بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج ؟ فقال : خاطبني بلغة علي بن أبيطالب (عليه السلام) فألهمت أن قلت يا ربي أنت خاطبتني أم علي(عليه السلام)؟ فقال : يا أحمد أنا شيء ليس كالأشياء ولا أقاس بالناس ولا أوصف بالأشياء، خلقتك من نوري

ص: 188

وخلقت علياً من نورك فاطّلعت على سرائر قلبك فلم أجد إلى قلبك أحب من علي بن أبي طالب(عليه السلام)فخاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك.

وقال سيدنا المقدس السيد عبد الله شبر (رضوان الله تعالى عليه) بعد ذكر كيفية المعراج وأعلم أنّ المشهور في انّ المعراج وقع قبل الهجرة ؛ وقيل إنّه وقع مراراً . ويؤيده ما رواه الصدوق والصفار عن الصادق(عليه السلام)انه عرج برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) مائة وعشرين مرة، والله العالم.

طار البراق به

والنور شع لنا*** والنور يشرق في علم وفي أدب

المصطفى للسماوات العلا مضى*** لينقذ الدين من شك ومن كذب

مضا وصلى بأملاك السما وقد ***حاز المعارف في القرآن والكتب

وطا البساط وقد ناجاه خالقه*** وخصه بعلوم الأرض والشهب

هذا الرسول وهذا معجز صدرت*** منه المكارم في عجم وفي عربي

جاء الرسول إلى قوم أطاحهم*** جهل وتعبد أصناماً من الخشب

لا عقل يمنعهم عن كل ما عبدوا*** كأنما خلقوا للهزل واللعب

اللات أسقط في نار وتتبعه*** أوثانهم وقد انهارت قوى الكذب

وأقبلت بعثة المختار في حكم*** نبراسها شع في أفكار كل صبي

به سعدنا فلا بحر طما غضباً*** ولا خسوف وكم سرنا إلى الحجب

به توحدت الأفهام وانتشرت*** مبادىء الدين بعد البؤس والتعب

صوت النبوة يدوي في مشاعرنا*** والدين مستبشر من كل منتسب

الدين أطلق من سجن وأصبح في*** كرامة فهو في بعد عن الغضب

على البسيطة جاء الكل منتسباً*** للدين يفصم قيد الجهل والوصب

ورفرقت راية الاسلام وانتصرت*** على الخصوم وأمس الخصم في الكرب

ص: 189

نعم، لقد رفرفت راية الاسلام وانتصر الدين الاسلامي السماوي الالهي على الخصوم وشع نور الاسلام على المعمورة واندحر أعداء الرسول الأكرم ببركة معراجه المبارك وبعثته الشريفة، فأنار الله تعالى بمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم)ظلمة الدنيا.

قالت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء بنت محمد عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها أفضل الصلاة والسلام قالت وهي تصف الحالة الي كان عليها العرب قبل بعثة أبيها وكيف كانوا متفرقين فى الأديان يعبدون الأوثان ويعكفون على النيران دنياهم مظلمة وأحوالهم متشتتة مؤلمة : فرأى) الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها ، منكرة الله مع عرفانها، فأنار الله بمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم)ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها ، وجلى عن الأبصار غممها ، وقام في الناس بالهداية ، وأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الطريق المستقيم، ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ورغبة وايثار، فمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم)عن تعب

، هذه الدار في راحة قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار صلى على أبي نبيه وأمينه على الوحي وصفيه وخيرته من الخلق ورضيه والسلام عليه ورحمة الله وبركاته). وكأني بها(عليه السلام) ولسان حالها يقول بعد أن غابت عنها أنوار أبيها محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)وأصبحت بعد موته ثكلى حزينة وهي تنظر تارة إلى محرابه فتراه خالياً من تلك الأنوار وتنظر تارة أخرى إلى منبره ومصلاه فتراهما قد خليا من شخصه أخذت تنادي:

ابموتك يبويه اتشمتت جملة الحساد*** ياما علينا امن الشماته سووا اعياد

وحنا الدهر نقص علينا طيب الزاد*** ميطيب عندي الزاد وانته بقبر مدفون

حيدر يغسله والبتولة تصفح الراح*** منها الذوايب نشرت والدمع سفاح

وتقول یا محلی زماني لو اوراح*** مني تقاضني الدهر جرعني بلى وهون

ومن شافته بالنعش شالو الطهر لرجال*** طلعت بلا شعور وتحن تعثر بالذيال

والحرم تصرخ من ورى التابوت واطفال*** ويمه الحسن واحسين ما زالو يونون

ص: 190

بوداعه الله يا كفيلي وراس مالي*** لو بالفدا عمري رخصته الكان غالي

ولا كان عيني تنطر المحراب خالي*** منك وغيرك بالخلق بعدك يصلون

مزهر ليالي الأوليه يوم موجود*** راحت ابفقدك وارجعت ايامنا سود

من هالسفر لقشر متي ياياب بتعود*** وحنا عقب عينك يبويه صرنا أيتام

نوحوا يولدي اللي يعزكم بالقبر نام*** والدهر فاجعكم ابجدكم صرتوا ايتام

راح وعمى عيوني ورماني بنبل واسهام*** ما ظنتي يبرى جرح قلبي ولا ايهون

نعم، إن سهام ونبال ذلك المصاب العظيم والحادث الجسيم- أي - فقد الرسول الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم) قد هدّ قوى السيدة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء(عليها السلام)وضعضع أركانها ، ويحق لها ذلك ، لانها تفقد الأب الحاني عليها والرحيم الرؤوف بها وبالمسلمين فلا بد وأن تكون الرزية عظيمة والمصيبة مؤلمة وجسيمة، وأكبر شاهد على عظمة تلك المصيبة وتأثيرها على الزهراء(عليه السلام)أنها أثرت على وجودهابحيث لم تستطع البقاء في هذه الدار بعد فقده (صلی الله علیه وآله وسلم)حتى أثرت اللحوق به بعد أيام قليلة من تاريخ وفاته(صلی الله علیه وآله وسلم)فذهبت إلى ربها راضية مرضية وورثت المصائب والرزيا لابنتها العقيلة زينب(عليها السلام)فإن الأم وإن كانت قد رُزيت بفقد أبيها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فقط فالبنت قد شاركتها في هذه الرزية وزادت عليها بالمصائب الكثيرة، فأول المصائب بعد مصيبة جدها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)مصيبة أمها فاطمة(عليها السلام)، وثانيها مصيبة أبيها أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وثالثها مصيبة أخيها الحسن المجتبى (عليه السلام)، ورابعها مصيبة لها سيد الشهداء(عليه السلام) ، وما أدراك ما تلك المصيبة وما أعظمها في الاسلام وأشدّ أثرها على قلوب المؤمنين.

قال الشاعر في حقها :

انست رزيتكم رزايانا التي*** سلفت وهونت الرزايا الآتية

وفجائع الأيام تبقى مدة ***وتزول وهي إلى القيامة باقية

سأل عبدالله بن الفضل الامام الصادق(عليه السلام) قائلاً: يا ابن رسول الله كيف صار

ص: 191

يوم عاشوراء يوم مصيبة وغم وجزع وبكاء دون اليوم الذي قبض فيه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، واليوم الذي ماتت فيه فاطمة الزهراء(عليها السلام) ، واليوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين(عليه السلام)، واليوم الذي قتل فيه الحسن(عليه السلام)؟ فقال (عليه السلام): إن يوم قتل الحسين(عليه السلام)أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام وذلك ان أصحاب الكساء الذين كانوا أكرم الخلق على الله عزوجل كانوا خمسة فلما مضى عنهم النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)بقي أمير المؤمنين(عليه السلام)وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فكان فيهم للناس عزاء وسلوة، فلما مضت فاطمة(عليها السلام) كان في أمير المؤمنين(عليه السلام)عزاء وسلوة وكذلك الحسن والصابر الحسين، فلما مضى الحسن الا كان للناس في الحسين الله عزاء وسلوة، فلما قتل الصابر الامام الحسين (عليه السلام)لم يكن بقي من أصحاب الكساء أحد للناس فيه بعده عزاء وسلوة فكان ذهاب الشهيد الصابر(عليه السلام)كذهاب جميعهم كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم ،فلذلك صار يومه أعظم الأيام ، ومصيبته أعظم المصائب، ومن هنا كان الشاعر يقول :

أنست رزيتكم رزايانا التي .... سلفت.

فيا ترى ما حال زينب (عليها السلام)وأخواتها وهن ينظرن الى سيد الشهداء(عليه السلام) وحيداً فريداً بلا ناصر ولا معين وعما قريب سوف يرحل عنهن ويتركهن للبلا؟

قال في معالي السبطين نقلاً عن كتاب الناسخ : ان الامام الحسين(عليه السلام) قد دعاهن بأجمعهن وقال لهن: استعدوا للبلاء وان الله حافظكم وحاميكم وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم الى خير ، ويعذب أعاديكم بأنواع البلاء، ويعوضكم الله عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم، ثم أمرهم بلبس از رهم ومقانعهم فسألته أخته الحوراء زينب عن ذلك فقال(عليه السلام) : كأني أراكم عن قريب غير بعيد كالإماء والعبيد يسوقونكم أمام الركاب ويسومونكم سوء العذاب، فلما سمعت زينب(عليها السلام) بکت ونادت: واوحدتاه ، واقلة ناصراه، و اسوء منقلباه، وا شوم صباحاه، فشقت ثوبها ونشرت شعرها

ص: 192

و لطمت وجهها ، فقال لها الحسين(عليه السلام): مهلاً يا بنت المرتضى ان البكاء طويل ، فأراد الحسين أن يخرج من الخيمة فتعلقت به وقالت : مهلاً يا أخي توقف حتى أتزود

منك ومن نظري إليك وأودعك وداع مفارق لا تلاقي بعده.

فمهلاً أخي قبل الممات هنيئة*** لتبرد مني لوعة وغليل

فجعلت سلام الله عليها تقبل يديه ورجليه وأحطن به سائر النسوة وجعلن يقبلن يده ورجله، فسكتهن الحسين(عليه السلام)وردهن الى الفسطاط، ثم دعا بأخته زينب وصبرها وأمر بيده الشريفة على صدرها وسكنها من الجزع وذكر لها ما أعد الله من الثواب للصابرين وما وعد الله من الكرامات للمقربين، فرضيت وأظهرت الفرح والسرور في وجهه المبارك وقالت : يا ابن أمي طب نفساً وقر عيناً فإنك تجدني كما تحب وترضى. ثم طلب الامام(عليه السلام) منها ثوباً لا يرغب فيه أحد عتيق لكي يجعله تحت ثيابه لئلا يجرد بعد قتله فإنه(عليه السلام)مقتول مسلوب فارتفعت أصوات النساء بالبكاء.

قال في (اللهوف): فأتي بتبان فقال(عليه السلام): لا ذاك لباس من ضربت عليه الذلة

فأخذ ثوباً خلقاً فخرقه وجعله تحت ثيابه، فلما قتل جردوه منه.

وفي كتاب (إبصار) (العين): فجيء له ببرد يماني يلمع فيه البصر ففزره ولبسه تحت ثيابه .

وقال السيد في (اللهوف) : ثم استدعى الحسين(عليه السلام)بسراويل من حبرة ففزرها

ولبسها وأنّما فرزها لئلا تُسلب فلما قتل الا سلبها أبجر بن كعب (لعنه الله تعالى) وترك الحسين(عليه السلام) مجرداً.

وفي بعض المقاتل لما أراد الامام(عليه السلام)أن يتقدم إلى القتال نظر يميناً وشمالاً ونادى: ألا هل من يقدم لي جوادي ؟ فسمعت زينب(عليها السلام)فخرجت وأخذت بعنان الجواد وأقبلت إليه وهي تقول : لمن تنادي وقد قرحت فؤادي ؟ يقول الرائي :

من ذا يقدم لي الجواد ولامتي*** والصحب صرعى والنصير قليل

ص: 193

فأتته زينب بالجواد تقوده*** والدمع من ذكر الفراق يسيل

وتقول قد قطعت قلبي يا أخي*** حزناً وياليت الجبال تزول

ولمن تنادي والحماة على الثرى*** صرعى ولا منهم يبل غليل

ما في الخيام وقد تفانى أهلها*** إلا نساء ولهاً وعليل

أرأيت اختاً قد أتت لشقيقها*** فرس المسنون ولا حمى وكفيل

فتبادرت منه الدموع وقال يا*** أختاه صبراً فالمصاب جليل

فبكت وقالت يا ابن أمي ليس لي ***وعليك ما الصبر الجميل جميل

يا نور عيني يا حشاشة مهجتي*** من النساء الضائعات دليل

ورنت إلى نحو الخيام بعولة*** عظمى تصب الدمع وهي تقول

قوموا الى التودع ان أخي دعا*** بجواده ان الفراق طويل

فخرجن ربات الخدور عواثراً*** وغدا لها نحو الحسين(عليه السلام) عويل

الله ما حال العليل وقد رأى*** تلك المدامع للوداع تسيل

***

ايصح يا زينب ابها النسوه او لا يتام اطلعي*** او بالعجل يمخدره مني تعالي اتودعي

او جربي ليه جوادي او شيعيني المصرعي*** طلعت اتقود المهر والكبد منها امفتته

نادته يا نور عيني شفت مثلي بالدهر*** للمنيه ماشي ابن امي وادني له المهر

قلبي امقاسي مصايب يا الولي اتفت الصخر*** خرت اتودعه او بالمنحر يويلي شمته

فتح باعه للوديعة أو ضمها ضم الوداع*** صاح خويه اوداعة الله وقلبها الذايب ارتاع

ص: 194

غدت مدهوشة تضمه الصدرها والراي ضاع*** نادت اليوم الدهر يحسين شملي شتته

قال شفتي يا عزيزه مثل خيك بالملا*** ذبحت انصاره طبق حتى الطفل ما ظل له

اینظر اولاده وخوته بالترب امجدله*** والحرب شبت لظى والعطش مض مهجته

او حال سكنه حال لقشر يوم اجته اتودعه*** تنتحب واتصيح عز الحرم ماشي المصرعه

سمعها اتنعى وتحدر فوق خده مدمعه*** واحتظن ذيك العزيزة وظل يجذب حسرته

نوب ايظمها الصدره او يجذب الحسرة او ينوح*ونوب اتشمه وتقله عقب عينك وين اروح

هذا طير اليتم يمشكر على راسي يلوح ***والحرم ضجت على حالة اسكينة او حالته

صاح يسكينه ترى نوحك عقب ذبحي يطول *عقب عيني يا حزينه اتکا بدین امر مهول

تنظريني على الثرى والجسد ميدان الخيول*وانتي حسرى اعلى جمل تنحل القوم بمشيته

نادته ماني العزيزة اللي تودني يا شهيد*** اشلون تتركني غريبة والوطن عني ابعيد

بويه ترضى غيرتك حسره يودنا اليزيد*** بین اعادي والعدو صعبه يبويه وليته

***

ص: 195

وفي البحار قال : وكأني بمولاي الامام الحسين(عليه السلام) وهو ينظر إلى مصارع فيتانه وأحبته وهم صرعى، فلما أن رآهم على هذه الحالة عزم على لقاء القوم بمهجة، ثم جعل ينادي : يا سكينة ويا فاطمة ويا زينب ويا أم كلثوم عليكن مني السلام فهذا آخر الاجتماع وقد قرب منكن الافتجاع، فعلت أصواتهن بالبكاء وصحن : الوداع الوداع الفراق الفراق فنادته سكينة : يا أبتاه استسلمت للموت فإلى من أتكل ؟ قال(عليه السلام) : يا نور عيني كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولامعين ورحمة الله ونصرته لا تفارقكم في الدنيا والآخرة فاصبري على قضاء الله ولا صلى الله تشتكي فإن الدنيا فانية والآخرة باقية . قالت : ردنا إلى حرم جدنا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).فقال(عليه السلام) : لو ترك القطا لغفا ونام، فبكت فأخذها الحسين(عليه السلام) وضمها إلى صدره ومسح الدموع عن عينيها وأنشأ يقول :

سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي*** منك البكاء إذا الحمام دهاني

لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة*** مادام مني الروح في جثماني

فإذا قتلت فأنت أولى بالذي*** تأتينه يا خيرة النسوان

ص: 196

الجلسة التاسعة : في ذكرى معراج الرحمة

يا علة الايجاد يا*** سر المهيمن يا محمد

لولاك ما عرف الإله*** ولم يوحده موحد

قد فقت كل الأنبياء*** علماً وحلماً ثم سؤدد

ولك الأيادي الوافرات*** عليهم في كل مشهد

يا من له الخلق العظيم*** وربنا وربنا في الذكر اكد

وجيبه دون الورى*** وبكل فضل أنت مفرد

يا من رقى فوق البراق*** الى السما والكل يشهد

فأتى النداء من ذي الجلال*** بأن تدنى يا ممجد

وبدى السلام عليك با ***لتسليم ذا الفخر المؤيد

ووطأت موضع لم يكن*** خلق هناك سواك يصعد

وحباك من أوصافه*** منحاً علت عن أن تحدد

أنت الرسول المصطفى*** ووصيك الهادي المسدد

باب المدينة من أتى*** مستر شداً للباب يرشد

هو باب فضل لم يخب*** من أمه في في كل مقصد

فهو الأمين على الهدى*** وولي من للخلق أوجد

***

رددي يا حناجر البيد لحني*** فالکری فرمن جفون المغني

أسلم الليل زهوه حين طافت*** خاطرات السنى على كل جفن

ص: 197

وتولت جحافل الظلمة السود*** تمني خلولها ما تمني

وعلى ظهرها من الفجر سوط*** يطبع النصر منه في كل متن

بوركت ثورة الهدى تنشىء*** الأمجاد في ساعد الضحى المطمئن

وعلى هديها صدى النغم الثائر*** تنساب في جلال ويمن

يا رمال الصحراء قد طوى الجدب***و منيت بالربيع الاغن

هدم الجور يوم (مبعث) طه*** فانظریه كيف استعد ليبني

ثم ماذا عما أفاد (أبوجهل)*** وماذا من (حقد) اليوم نجني ؟

ثمر الشوك ان تعود المجاني الحمر*** من قطفه بأخيب ظن !!

رددي يا حناجر البيد تغريدي*** فقد غص بالجلال نشيدي

لا طواك التاريخ يا يوم (بدر)*** فلقد كنت - لو وعى - يوم عيد

همسات النبي للنفر البيض*** على (غيرهم) هدير الرعود

وصلاة الصحاب تتلى حواليه*** على سمعهم صليل الحديد

أرأيت الايمان يرتجل الرعب*** لیقوی به هزال الجنود ؟؟

هذه ساحة الوغى... فتأمل*** كيف تعنو القنا لزهو الجريد؟

كيف تطوى( الراية الحمد) في كف*** (علي) مزوّقات البنود ؟!

أين زهو الوجوه من (عبد شمس) ؟!*** طويت في الثرى رقاق الخدود

واستلان المدل (بالمرتقى الصعب )*** لراع من هؤلاء (العبيد) !!

أين منا أيام بدر فقد عادت «قريش»***لكن بزهو جديد !!

يا رسول الايمان قد طفح الكأس*** وضاقت ، بما تسر الضلوع

قد أضعنا إيماننا وهو لو نعلم***أقسى - في يومنا - ما نضيع

نترجى أيام بدر وهيهات*** (لماض من الزمن رجوع)

قد لبستم ذلّ القيود ولكن*** أسفر الصبح وهي - منك - دروع

وحملتم جدب الحياة لتهتز*** رمال الصحراء وهي ربيع

ص: 198

غیرأنّا نحطم (القيد) أحياناً*** لأن القيد الجديد (بديع) !!

ونحيل الصحراء أيكاً من السحر*** ولكن...ثمارهن الجوع !!

ثم ماذا ...؟

مأساتنا أن يقول :(البعض) : لابد للأسير الخضوع !!

ويك ان الاسلام ما كان**** إلا نفر، جلهم أسير تبيع

ثم قامت به قیامته الكبرى*** فقرت في السند منه الجموع

يا رسول الايمان أنا وجدنا الدهر***شيخا عن رشده یتمامی

ذكرت نفسه هو (الليلة الحمراء)*** فارتد بالضلال غلاما

باحثاً في القرون عن هبل الأعلى ***ليعطيه من بنيك زماما

قتلت محنة العقول ... فقد عادت ***بقومي لتعبد الأصناما

واستدارت إلى( اليسار) وقد ***كانت، إذا انشقت الطريق أماما

عذركم : أننا حلمنا خطايا الفقر*** والجهل، والغنى، أعواما

تحت (عرش) للأجبني تهاوى*** بين عيني مؤيديه حطاما

ثم عاد البيت الكريم لأهليه،*** كما كان منعة وسلاما

وحسبتم في (حمرة) الأفق الشرقى ***(فجرا) ينير عنه الظلاما

فدعوتم له وإن كان ناراً*** حجبت في دخانها الاسلاما !!

يا دعاة اليسار لو حكم العقل*** لكنتم في (الجبهتين) عبيدا

لست أرض للحر في القيد أن يسأل*** هل كان فضة أم حديد !!

رقة الثوب في المشوهة البلهاء*** لم عطها الجمال الفريدا

قد نشأنا عبيد (قوم) أشداء*** نواياهم تكشفن، سودا

أفنحيا لكي نعيش عبيداً*** (النوايا) ضربن عنا سدودا؟

حاربوا الرق، والتعاسة والكفر*** وكونوا لإمام الزمان حقاً جنودا

***

ص: 199

قالوا أرب الكوخ يصبح شاعراً ***ويصيغ نظم قلائد من جوهر

وعليه وحي الشعر يهبط زائراً*** عند المساء وفي الصباح المسفر

ويطير في جو الخيال محلقاً*** ویری بدار الخلد سبعة أنهر

من حولها جنات عدن أشرقت*** أنوارها وزهت بأجمل منظر

تختال حور العين في حلل البها*** مثل الكواكب حول نهر الكوثر

وقصورها من لؤلؤ وزبرجد*** ونسيمها مسك ونشر العنبر

فيها رجال الله يسطع نورهم*** بالشكر بين مهلل ومكبر

فيعود والتقوى تنير فؤاده*** اهي الجبين ببهجة المستبشر

***

من علم الأمي نظم قصائد*** معطارة تزهو بنظم الجوهر

ما كان من علم العراق مزوداً*** كلا ولا من جامعات الأزهر

لكنما نور المعارف منحة*** يزهو بطلعته لكل مفكر

والكوخ لا يزري بأصحاب الحجى*** والقصر لا يأتي بعقل نیر

***

فأجبتهم ان النبي محمداً***خير الورى من مرسل ومبشر

الصادق الحر الأمين وصاحب*** الخلق العظيم بحكمة وتبصر

قد حل وسط الغار يعبد ربنا*** يدع المهيمن في دعا المستغفر

متزملا متدثراً بردائه*** في الغار بين مسبح ومكبر

حتى أتاه الوحي من عليائه*** قم یا محمد في البرية وأنذر

وادعُ الأنام من الضلال إلى الهدى*** وارسم نهج الحياة ونور

واتل أحاديث الأولى عبراً لهم*** عظهم بآيات الكتاب وذكر

فأتى بقرآن السماء وشرعه*** قانون نهج الحق غير مغير

وأقام من دنيا العروبة أمة*** ظهرت على الدنيا بأعظم مظهر

ص: 200

نعتز في إسلامنا وكتابنا*** ورسولنا الهادي البشير المنذر

وشريعة عربية مدنية*** منها استنار الكون كل تنور

صلّى عليه الله في ملكوته*** والآل والأصحاب كل مطهر

***

أمحمد يا خير من وطيء الثرى***وأعز مبعوث لأكرم معشر

انظر لأمتك التي رفعت لها*** أيديك مجداً فوق هام المشتري

علّمتهم فضل التآخي فارتقوا*** بعلاك عرش الكسروي والقيصر

بسطوا على الشرق العظيم يمينهم*** وشمالهم غرباً بحد الأبتر

قد ضيع الأبناء ما بنت الأولى*** وبجمعهم لعبت يد المستعمر

هذي فلسطين الأسيرة عبرة*** نهب العدو لبائع والمستعمر

وتئن من ظلم اليهود وتشتكي*** والمسلمين بمسمع وبمنظر

شغلتهم الأطماع في دنيا الهوى ***کل بواجبه كأن لم يشعر

هل تجمع الأيام وحدة صفهم ***ويعود ماضيهم بنصر أكبر ؟

قال الله تعالى في كتابه المجيد :﴿ ولقد رآه نزلة أخرى عند سِدْرَةِ المُنْتَهَى عِندهَا جَنَّةُ المأوى﴾(1).

لقد تقدّم الحديث في الجلستين المتقدّمتين حول انّ هذه الآية الكريمة نزلت في سياق الآيات الخاصة بعروج النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)وانها دالة على وقوع المعراج وثبوته الرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، كما بينا أيضاً من خلال الحديث المتقدم وأثبتنا بالأدلة العقلية والنقلية ثبوت المعراج بما لا مزيد عليه، وأوضحنا أيضاً كيفية عروجه

(صلی الله علیه وآله وسلم)إلى السماء.

وهنا في هذه الجلسة المباركة والمعقودة أيضاً لنفس الذكرى المشار إليها في الجلستين المتقدمتين الخاصتين بالمعراج ينبغي لنا أن نستفيد من خلال هذه

ص: 201


1- سورة النجم : 13 - 15 .

الجلسة الثالثة في ظل الذكرى بفائدتين مهمتين :

الأولى : الحديث حول مسألة عدم جواز رؤية الله والردّ على من يقول بجواز رؤيته تعالى استناداً إلى الآية الكريمة المشار إليها وهي قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾فإن بعض الجهلة قد تمسكوا بهذه الآية وآيات أخرى معها وقالوا بإمكان رؤية الله تعالى وانّ النظر إليه ،جائز ، وقالوا : إنّ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)قد رأى الله تعالى بعينه ليلة المعراج ولابد لنا من ردّ هذه الشبهة الباطلة والعقيدة الفاسدة ونثبت بالأدلة العقلية والنقلية بأن رؤية الله تعالى لا يمكن أن تكون لا في الدنيا ولا في الآخرة.

والفائدة الثانية : هي مسألة أنه يجب علينا أن نفهم السبب الذي من أجله قد وقع الاختلاف في بعض مسائل الأصول والفروع عند المسلمين وبعد ذلك نعمل على إزالته ونتحمل دعوة المسلمين الى التمسك بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأن يكونوا ملتزمين في تفسير الآيات التي يتردد الذهن فيها بين معنيين بالتمسك بما جاء عن ائمّة أهل البيت في ذلك لكي لايقعوا في المزالق من جهة، ولكون أن أئمة أهل البيت لا أعلم وأدرى من الأمة بما هو الصحيح من جهة أخرى في المسائل التي وقع فيها الاختلاف.

وها نحن نشرع في الجواب عن المسألة الأولى :(عدم جواز رؤية الله)وبعبارة أخرى : نشرع في بيان الأدلة العقلية والنقلية على عدم جواز رؤية الله تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة، نشرع في بيان الأدلة بما يلي فنقول : اختلف المسلمون في جواز النظر الى الله تعالى، قال الشيعة الامامية الاثنا عشرية والمعتزلة وأهل التنزيه من الأشاعرة باستحالة النظر الى الله تعالى ورؤيته، وقالت بقية الأشاعرة والمجسمة : بجواز النظر إليه تعالى واستدلوا على ذلك بالآية المشار إليها في افتتاح الجلسة وهي قوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴾ وقوله تعالى حكاية عن النبي موسى : ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ وقوله تعالى: ﴿«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ

ص: 202

نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾وقال هذا الفريق : إن رؤية الله تعالى لو كانت ممتنعة لما سأل موسى ربه أن يمكنه من النظر إليه ، ولما ورد عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)ان الله قسم الرؤية والكلام بين النبيين، فقسم الكلام لموسى والرؤية لمحمد (صلی الله علیه وآله وسلم)وقالوا : إن معنى قوله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍنَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ واضح في أنّ المؤمنين يوم القيامة يرونه في الجنة.

وردّ الشيعة الامامية على هذا الفريق بأدلة قاطعة ،أبطلوا ادعاءهم عقلاً ولغة وشرعاً ،وأثبتوا جهلهم لفهم القرآن الكريم ومعانيه البليغة وصدعوا بما يكفي من الاستدلال على بطلان ما ذهب إليه بعض الأشاعرة، والمجسمة والذين يقولون بجواز النظر الى الله تعالى بما يلي: أولاً : إن جواز رؤية الخالق، يجعله في عداد الممكنات والموجودات المتحيزة ، له شكل وصورة وأبعاد وشعاع ومكان وجهة، وبالتالي له جسم كالأجسام.

ثانياً : إن النظر في اللغة لا يطلق على مجرد الرؤية، لأن النظر لو صدق على معنى الرؤية بالذات لتحققت الرؤية بمجرد النظر الى الشيء، فالانسان قد ينظر إلى الشيء ولا يراه، إن كان مشغول الفكر والبال ، وقد يقصد الانسان النظر إلى شيءلايراه ، ولو كان مجرد النظر يفيد الرؤية لما النظر يفيد الرؤية لما صح قولك: نظرت إلى الهلال فلم أره ، أو دققت النظر في الهلال طويلاً فلم أره ثم رأيته ، وصح ذلك لجاز أن تقول :رأيت الشيء فلم أره، فالنظر لم يكن غاية في ذاته وإنما هو وسيلة لدرك الغاية التي هي الرؤية .

ثالثاً : إن النظر لم يكن حقيقة في الرؤية ولا الرؤية حقيقة في النظر، لأنّ النظر إن تعلق بالعين أفاد طلب الرؤية، وإن تعلق بالقلب أفاد المعرفة. فالنظر لم يختص بالمشاهدة البصرية فحسب وإنما يطلق على أمور كثيرة :

منها: الادراك والاستدلال، والتعمق في الفكر، والرعاية، والعناية والادارة

ص: 203

كقولك : دققت النظر في الأمر. وأعد النظر في الأمر، لو نظرت في الأمر جيداً لأدركت المقصود ، لايزال الأمر قيد النظر، اجعل عليّ نظرك، جعلتك ناظراً على أولادي وأملاكي.

فالنظر في كل ذلك لا يدل على المشاهدة - البصرية - والرؤية بالعين وانما يفيد معاني مختلفة ومقاصد أخرى.

رابعاً : إن الرؤية بالبصر، وقد تقدم شرح تركيبه، تتوقف على سلامة جهاز العين، فالعين لا تدرك ولا تبصر إلا صور الموجودات التي تنعكس على عدستها، فما لم يكن له جسم لم تكن له صورة ، وما لا صورة له يستحيل انعكاسه على عدسة العين، لأن الصورة ما هي إلّا أشعة تنبعث من الأجسام، فما لا جسم له لا صورة له. وعلى هذه القاعدة لا يمكن للمواد المجردة أن تُرى كالطاقة الكهربائية ، وذبذبة الصوت، لأنها مجردة عن المادة الجسمية ولا صورة لها ، فإذا كانت الأجسام المجردة الممكنة المخلوقة لا يمكن رؤيتها، فكيف يمكن رؤية واجب الوجود الخالق لكل الموجودات ؟!!

كما إن واجب الموجود منزّه عن المادة والشكل والصورة والتحديد والابعاد، لا شبه له ولا نظير وهذا ما لا يخفى على من تتبع كتب علم الكلام وأقوال العلماء والحكماء العارفين في ذلك.

خامساً : إن الرؤية والنظر كما يقول العلماء والمتخصصون : يتوقفان على أمور ثلاثة :

الأول - عدم البعد المنافي بين الرائي والمرئي.

الثاني - عدم القرب المفرط بين الرائي والمرئي.

الثالث - وجود الشعاع المنبعث من جسم المرئي الى الرائي .

ولقد أفاد علماء الكلام من أن تحديد واجب الوجود لذاته بالقرب والبعد المكاني والزماني ممتنع عليه لأنّ تحديده بالبعد والقرب يجعله جسماً متحيزاً في

ص: 204

المكان والزمان.

سادساً : إن الشيء المرئي مما تصح إليه الاشارة - بهذا وذاك – ومن مستلزمات الاشارة تحديد المشار إليه وحصره في جهة معينة، وإن حصر واجب الوجود في المكان ممتنع عليه، لأنه موجود في كلّ مكان، ولا يخلو منه مكان، والاشارة إليه - بهذا وذاك - تجعله من الأشياء التي تصح إليه الاشارة، وان الله تعالى منزّه عن ذلك.

هذا ما ذهب إليه الشيعة الامامية الاثنا عشرية، واعتقدوا جازمين بأن لا يجوز النظر بالعين إلى الله تعالى، ولا يمكن رؤيته لا في الدنيا ولا في الآخرة. وردوا على أدلة القائلين بجواز رؤية الله تعالى وقالوا إن ما استند إليه الذين أجازوا رؤية الله في الدنيا والآخرة من الآيات المذكورة يخالف مفهوم تلك الآيات وتفسيرها الصحيح الوارد عن أئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام.

ومن هنا لابد لنا من الاشارة إلى تفسيرها والردّ على من زعم أنها دالة على جواز رؤية الله تعالى وإليكم ذلك فيما يلي:

الآية الأولى :﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ لقد تصدى للرد على من زعم أنها دالة على جواز ذلك - الامام الثامن من أئمة الشيعة الامامية الاثني عشرية، أبو الحسن علي بن موسى الرضا وأثبت بأسلوب بليغ ان ما رآه النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) هو آيات الله تعالى لا إنّه رأى الله تعالى بعينه والعياذ بالله من هذا القول .

ففي كتاب التوحيد من أصول الكافي، ان صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدّث أن أدخله على الامام الرضا فاستأذنت الامام في ذلك فأذن لي فأدخلته عليه، فسأل أبو قرة الامام على الحلال والحرام حتى بلغ التوحيد، فقال أبو قرة للامام(عليه السلام): إنا رؤينا أنّ الله تعالى قسم الكلام والرؤية بين النبيين فجعل الكلام الموسى(عليه السلام) والرؤية لمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم).

فقال الامام: فمن المبلغ عن الله تعالى الى الثقلين من الإنسن والجن انه تعالى

ص: 205

لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علماً وليس كمثله شيء ؟

أليس هو محمداً(صلی الله علیه وآله وسلم)؟

قال أبو قرة : بلى.

فقال الامام(عليه السلام): كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاز من عند الله تعالى يدعوهم بأمر الله تعالى، ويقول : لا تدركه الأبصار ، ولا يحيطون به علماً ، وليس كمثله شيء، ثم يقول : إني رأيت الله تعالى بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر ؟!!

قال أبو قرة : إن الله تعالى يقول : ولقد رآه نزلة أخرى - قال الامام(عليه السلام) : إن ما

بعد هذه الآية يدل على ما رأى محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)حيث قال الله تعالى - ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رأى - أي ما كَذَبَ فؤاد محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)ما رأى، ثم أخبر الله تعالى بما رأى محمد - فقال - تعالى لقد رأى من آيات ربه الكبرى، فآيات الله تعالى غير ذات الله تعالى، وقد قال الله تعالى - ولا يحيطون به علماً ، فاذا رأته الأبصار فقد أحيط به علماً ..

قال أبو قرة : أفتكذب الروايات ؟! قال الامام(عليه السلام): إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وقد أجمع المسلمون على انه لا يحاط به علماً ولا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء فتدبّر.

الآية الثانية : قوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍنَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾

وهذه الآية الكريمة التي استند إليها القائلون بجواز رؤية الله تعالى لا يمكن أن يكون دليلاً على جواز النظر البصري الى الله تعالى، وذلك إنّ من عرف لغة العرب أو درس قواعدها وجد هناك قاعدة شائعة الاستعمال تقوم على حذف المضاف وقيام المضاف إليه مكانه وقد ورد الكثير منها في القرآن الكريم - منها قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾فالسؤال لم يرد من أحجار القرية وبيوتها ولامن العير المتكوّن من الجمال والبغال والحمير، لأن هناك كلمات مضافة حذفت من الآية وقام المضاف إليها مقامها، حذفت من الآية

ص: 206

الكريمة - واسأل القرية- المضاف وهو كلمة الأهل والأصحاب، وقامت كلمة القريةوالعير، مقامها، وعلى هذه القاعدة يكون معنى الآية الكريمة: وأسأل أهل القرية التي كنا فيها ، واسأل أصحاب العير وركابها ، لأن السؤال لا يقع على غير من يعقل ومنها قوله تعالى :

﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ أي جاء أمر ربك فحذفت كلمة أمر وقامت كلمة ربك ،مقامها، وهكذا في قوله تعالى:﴿ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾أي أولياء الله لأنّ الأذى لا يقع على الله تعالى.

فالآية الكريمة﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍنَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾نزلت في وصف المؤمنين في الجنة من أن وجوههم مسرورة فرحة نضرة، تنظر الى ما أنعم الله عليهم من الخيرات، حذف على القاعدة المذكورة المضاف وهو النعم والخيرات وقامت كلمة ربها المضاف إليها مقام المحذوف، والمعنى في الآية : وجوه يومئذ ناضرة أي مسرورة منعمة، وهي إلى نعمة ربها ،ناظرة، أي تنظر إلى ما أنعم الله عليها .

يقابل هذا الوصف وصف أهل النار في الآية التي أعقبت هذه الآية :﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴾أي ان وجوه أهل النار كالحة عابسة ينتظرون ما يظنون أن يُفعل بهم من العذاب ما يكسر ظهورهم، ومثل هذا الوصف جاء في آية أخرى وهي﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ﴾ وهي ما وصف الله تعالى به وجوه المؤمنين في يوم القيامة ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ﴾إن الآية الكريمة لا تدل من قريب أو من بعيد على إمكان النظر الى الله تعالى وأنّها لا تدلّ على أن المؤمنين في الجنّة يرون الله بعيونهم .

الآية الثالثة : ومما استدلّ به القائلون بجواز رؤية الله تعالى الآية المشار إليها فيما تقدم - قوله تعالى :﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا

ص: 207

فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فانهم زعموا أن موسى لو كان يعلم بأن الله لا يرى لما طلب منه الرؤية، وليس في الآية الكريمة دلالة على مدعوه في ذلك وقد ردّ علماء الشيعة الامامية والقائلون بنفي رؤية الله تعالى واستحالة النظر اليه بأدلة كثيرة نذكر منها ما يلي :

أولاً - إن الآية الكريمة تنفي الرؤية صراحة نفياً قاطعاً - بقوله تعالى:﴿لن تراني﴾و - لن - إذا دخلت على فعل المضارع تفيد التأييد كما يقول علماء اللغة العربية .

ثانياً - إذا كان بالامكان رؤية الله كيف يعلق الله رؤيته على أمر مستحيل وهو استقرار الجبل الذي أراد منه أن يتدكدك، وإذا قضى الله أمراً قال له كن فيكون. ولو جاز رؤيته لما علقها على أمر مستحيل.

ثالثاً - إذا كان بالامكان رؤية الله تعالى لتجلّى لموسى وقومه لا للجبل الذي لم يطلب منه الرؤية .

هذا إذا فرضنا جدلاً أن طلب الرؤية كان من موسى وانه كان يجهل استحالة النظر إلى الله تعالى والعياذ بالله أن يكون النّبي جاهلاً لذلك، أما والطلب لم يكن من موسى وإنما أوقع الطلب بإلحاح من قومه عليه أن يريهم الله جهرة، وقد شهد الله تعالى بأن موسى كان واسطة الطلب والمحمول جبراً عليه من قبل قومه كما في قوله تعالى : ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ﴾ (1) ، وقوله تعالى : ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ (2)

ص: 208


1- سورة النساء : 152.
2- سورة البقرة : 52.

هاتان شهادتان من الله تعالى تنفي عن النبي موسى(عليه السلام) ، أن يكون طلب الرؤية من نفسه وفيها الدليل الواضح لا على عدم إمكانية رؤية الله تعالى فحسب : بل ان الذين أجازوا النظر اليه كانوا من الظالمين الذين يجب عقابهم واعتبر الله طلبهم ظلماً هو أشد من عبادة العجل لأنّ الذين عبدوه ثم تابوا وتخلوا عن عبادته عفى الله عنهم ولم يعاقبهم في الدنيا بالرجفة أو بنزول الصاعقة عليهم، وحيث انتفى طلب الرؤية من موسى(عليه السلام) بطل دليل القائلين بإمكان رؤية الله تعالى وثبت ان موسى(عليه السلام)كان من أول المؤمنين باستحالة رؤية الله تعالى .

رابعاً - لو كان موسى(عليه السلام)يرى إمكان النظر الى الله تعالى ومشاهدته بالعين المبصرة لطلب من الله تعالى أن يريه نفسه في أول مناجاة له من قبل مع الله تعالى كما جاء في الآية الكريمة﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾(1) وكان ذلك قبل أن يبعثه الله تعالى إلى فرعون وقومه يدعوهم الى عبادة الله تعالى.

خامساً - ان ما حدث بعد التجلي للجبل يفسّر لنا معنى التجلّي وهو مجرد صدور الأمر من الله تعالى الى الجبل أن يتدكدك وينهد ويتزلزل من مكانه ليعاقب السفهاء من قوم موسى الذين طلبوا منه أن يريهم الله تعالى جهرة.

الفائدة الثانية : ونستفيد أيضاً خلال هذه الذكرى بفائدة أخرى وهي مسألة أسباب الاختلاف بين المسلمين في هذه المسائل التي تعتبر من اصول الدين، أو بالأحرى لماذا اختلف المسلمون في هذه المسائل وغيرها من امور دينهم ودنياهم ؟

ولكي يتجلّى لنا معرفة ذلك بوضوح نبين ما يلي فنقول : ان السبب الوحيد

ص: 209


1- سورة القصص : 30.

في اختلاف المسلمين بالنسبة إلى بعض المسائل في الأصول والفروع ناشيء من سوء الفهم بالتفسير الصحيح للآيات القرآنية الكريمة سوافي في هذه المسألة أو غيرها من المسائل المختلف فيها لأنّ بعض الآيات متشابهات وبعضها محكمات والضال في المذهب يحتج بالمشتبهات على مذهبه ومسلكه معتقداً بصحة ذلك بينما يرد العالم المهتدي مسلك الضال بالآيات المحكمة كما رأيت من خلال البحث كيف أنّ الامام الرضا عليه الصلاة والسلام قد رد تلك الآيات التي تمسك بها القائلون بجواز الرؤية بآيات أخرى محكمة مثل قوله تعالى : ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ .

قال الحكيم الفيلسوف الدمستاني البحراني رضوان الله تعالى عليه ولنعم ما قال :

ألا ترى القرآن يحتج به*** من اهتدى وضل في مذهبه

ومن هنا يجب على المسلم أن يلتزم بمذهب أهل البيت (عليه السلام)في المسائل التي هي محل خلاف بين المسلمين لكي تبرأ ذمته في القول والعمل والاعتقاد، لأنّ أهل البيت (عليه السلام)هم منار الهدى وأعلام التقى وباب حطة الذي من دخله كان آمناً وقد أمر الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم) بالتمسك بهم بقوله(صلی الله علیه وآله وسلم) : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا : كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي ، فان اللطيف الخير أخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض.

وقد قال أمير المؤمنين في حقهم هم أساس الدين وعماد اليقين.

وقال في موضع آخر: هم عيش العلم وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، وهم دعائم الاسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق الى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية فان رواة العلم كثير ورعاته قليل.

فإذا تجلى للمسلم الملتزم بدينه ما ذكرناه لا يرتضي غير مذهب آل محمد

ص: 210

بدلاً ، فالأخذ بقولهم والتمسك بهم في القول والعمل والاعتقاد هو معنى الاعتصام كما في قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾أي لا تخالفوا أهل البيت فتهلكوا لأنهم يهدونكم إلى الحق ، والذي يهدي الى الحق أحق أن يتبع، فالاعتصام بحبل الله اعتصام بهم، والاعتصام بهم اعتصام بحبل الله وفقنا الله وعامة المسلمين لطاعتهم والتمسك بهم والثبات على ولايتهم والبراءة من أعدائهم إنّه سميع مجيب.

وأما بالنسبة إلى الشؤون الأخرى من حياتنا فعلينا الالتزام بالتعاون والتعاضد، والوقوف صفاً واحداً في وجه العدوّ المشترك : الاستعمار وربيبته إسرائيل، هذه الشوكة الدامية هي وحدها السبب الأول لإثارة الفتن والقلاقل في كلّ بلد عربي، فما عرف العرب والمسلمين الهدوء والاستقرار منذ أن غرس الاستعمار هذه الشوكة في قلوبنا ... ومحال أن يرضى الاستعمار لنا الهدوء والاستقرار، ما دام على أرضنا شيء اسمه إسرائيل.

إنّ الاستعمار ليعلم حق العلم أنّ بقاء إسرائيل رهن بتشتيتنا وتفتيتنا، فعمل لذلك بكلّ سبيل ... فهل يجوز بعد هذا أن نتصارع ونتنازع ...؟

هل يجوز بعد هذا أن يكيل بعضنا لبعض التهم جزافاً، وبغير حساب .... المؤمن المتدين رجعي وعميل عند فئة ، والناقم على الأوضاح الفاسدة فوضوي هدّام عند أخرى، والساكت المتجاهل انعزالي عند الطرفين. ولا يرضى عنك لا هؤلاء ولا هؤلاء حتى تتبع ملتهم، وما أنت بتابعها ، ولا هم بتابعيك ولا بعضهم بتايع ملة بعض ....

ونصيحة الله أن لا تحاول إرضاء الناس، لأن إرضاء الناس كلّ النّاس محال ...ولكن اجعل شعارك قول الرسول الأعظم عل الله : «إنْ لم يَكُنْ بك غضبٌ عَليّ فلا أبالي» وقول أمير المؤمنين(عليه السلام) : «صانع وجهاً واحداً يكفيك الُوجُوهُ كلها».

وليكن دافعك لكل عمل إسلامي دافع قرآني إلهي بحت يهدف إلى التوجيه

ص: 211

والتوعية الدينية الصحيحة الخالصة ، لا شائبة فيه للسياسة الباطلة، ولا لموازرة فئة ضد فئة ، ولأيّ غرض من الأغراض الشخصية والغايات الحزبية.

وما نحن والسياسة الباطلة والمسوس ....ما نحن والأحزاب والمتحزّبون.. نحن سفراء الله في أرضه نستمد النور والهداية من زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية ... نحن حزب الله وحده لا للديمقراطيين ولا الاشتراكيين ولا لغيرهم .... نحن إلهيون ربانيون نؤيّد الحق أينما كان ويكون امتثالاً لأمر الله، وميثاقه الذي أخذه علينا: «وإذْ َأخَذَ الله ميثاق أهل الكتاب لَتُبيّننّه للناس ولا تكتُمُونَهُ» لا نكتمه أبداً ولو كره المشركون والمتحزّبون . وأهم ما ينبغي لنا معرفته ونحن نجدد الاحتفال في هذه الجلسة المباركة بذكرى معراج معراج النبي العظيم (صلی الله علیه وآله وسلم)علينا أن نتساءل: من هذه المسماة بإسرائيل : هل هي دولة حقاً ، أو أنها أبعد ما تكون عن معنى الدولة في حقيقتها رغم الضجيج والعجيج ؟

وقد أجاب الله تعالى عن هذا التساؤل قبل وجود إسرائيل بأربعة عشر قرناً على التقريب، وبين سبحانه في كتابه العزيز أنّ إسرائيل هذه ليست دولة بما لهذه الكلمة من معنى، وإنما هي شرذمة من الأشرار تجمعوا من هناك وهنالك، والفوا عصابة للسلب والغصب بمساندة فئة من الناس لأنّ الدولة بمعناها الصحيح هي التي تعتمد في وجودها واستمرارها على حولها وقوتها وثروتها وهيبتها، لا على قوّة الإستعمار وماله وسلاحه .... وكلنا يعلم أنّ الإستعمار هو الذي أوجد إسرائيل، وأنه ما زال يظاهرها بالمال والسلاح، وأنه لو تخلّى عنها لحظة واحدة لتخطفها العرب، وتلاشت من الوجود، ومعنى هذا في حقيقته وواقعه أنّ إسرائيل ليست بدولة ، وإنّما هي مظهر من مظاهر الإستعمار الغربي، وأثر من آثاره، وبقيته الباقية في بلاد العرب .... ولكن مستحيل أن يستمر الإستعمار ويدوم ، كما رأينا وكما سنرى ..... وإنّ لناظره قريب.

ومن هنا كان القرآن الكريم عليماً ودقيقاً في قوله :﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ

ص: 212

أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ﴾.

إنّ الذلة والمسكنة وحبل من النّاس في هذه الآية الكريمة إخبار بالغيب عمّا حصل لإسرائيل بعد نزول القرآن الكريم بمئات السنين، وإشارة واضحة صريحة إلى استجداء المساعدات التي يتصدّق بها الإستعمار على إسرائيل، وأيّ ذلّ ومسكنة أعظم من العيش على التسول والصدقات ؟

أما حبل الله في هذه الآية فهو إشارة صريحة أيضاً إلى أنّ الله سبحانه قد تركنا والجهاد مع إسرائيل، ولم يردعها بقدرته القاهرة على طريقة كُنْ فيكُون . لأنّ الله جلّ وعلا قد دعاء النّاس إلى العمل بإرادتهم واختيارهم، وأمرهم بالجهاد والتضحية لنصرة الحق على الباطل ... ومحال أن يكون المراد بحبل الله مساعدة اليهود ومناصرتهم، كيف وقد وصمهم بالذلّة والمسكنة، وبغضب منه بما عصوا وكانوا يعتدون .

وأدرك الإستعمار هذه الحقيقة وأنّ وجود إسرائيل لا يقوم على أساس من حولها وقوتها بل الصدقة والتسوّل، وأن بقاءها رهن بتشتيتنا لابتعاد الإستعمار وصدقاته بالغةً ما بلغت وأنه متى اتحدت قلوبنا واجتمعت كلمتنا فلا يبقى له ولا لربيبته عين ولا أثر .... أدرك الإستعمار هذه الحقيقة وخاف أن يأتي اليوم الذي تجتمع فيه الصفوف وهو آت لا محالة إن شاء الله تعالى وسترون ..خاف الإستعمار من هذا اليوم هذا اليوم ،يوم الفصل والحساب، فراح يخوّفنا من الشرك والإلحاد رفنا عنه وعن إسرائيل، وهو المشرك الملحد ، الخائف من ثورتنا وقوتنا وتوحيد كلمتنا .... خائف من السدود تقام على مياهنا خائف من المصانع تبنى في أرضنا، خائف من المعاهد تشاد لأبنائنا، خائف أن نطمئن على عيشنا وغدنا، فنثور على الظالمين والمستغلين والمستعمرين..إنّه يريدنا أن نستمر في الجهل والفقر ، والتمزيق والتفريق، ليستمر هو بدوره في استغلالنا ونهب مقدراتنا واحتكار أسواقنا ، وإذلالنا باحتلال فلسطين، واغتصاب أرضها، وتشريد شعبها...

ص: 213

وعليه لابد لنا من التعاون والتكاتف جميعاً لدرء خطر العدوّ المحدق بنا.

ولنا من عظمة ديننا، وقوّة شريعتنا ،ومجد تأريخنا، وإخلاص المخلصين من علمائنا، ووعي الطيبين من شبابنا ما يعصمنا عن الشرك والإلحاد، وعن الفلسفات المادية والقوانين الرجعية .

فلا بد لنا من التعاون والتكاتف من أجل رفع الخطر عن الاسلام والدفاع عن مقدساته فإنّه بحاجة ماسة الى درء الخطر عنه خصوصاً في هذه الآونة التي نعيشها من حياتنا نجد كيف ان الشرق والغرب قد اجتمعوا على محو الاسلام وإزالته من الوجود غيرأنهم﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ . فعلينا أن نعاهد الله تعالى ونحن في هذه الجلسة المباركة وبمناسبة هذه الذكرى المباركه أن نعمل على توحيد الصفوف وازالة الخلافات القائمة بيننا إن شاء الله تعالى، وختاماً لهذه الجلسة المباركة لابد لنا أيضاً ونحن نعيش الفرح والمسرات بمناسبة معراج نبينا الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم) أن نعطر أفواهنا وأسماعنا بذكر مديحه والصلاة عليه وعلى آله وأصحابه الكرام ، ثم بعد ذلك نطهر قلوبنا ونفوسنا ونغسل ذنوبنا بما نجريه من دموعنا في مصيبته ومصيبة ابنته الزهراء وسبطه سيدالشهداء عليهم الصلاة والسلام أجمعين :

يا صاحِبَ القَبرِ المُنير بيثرب*** يا مُنتَهى أملي وغاية مطلبي

يا مَنْ بِهِ في النّاثَبَاتِ تَوَسّلي*** وَإِليهِ من كُلِّ الحوادِث مهرّبي

ياً من نُرجيّهِ لكشف عَظيمةٍ*** ولحَلٌ عقدٍ مُلتَوِ مُتَصعب

يا مَنْ يَجودُ عَلى الوجودِ بأنعم*** خضر تعمّم عموم الصوب الصيب

يا غوثَ مَنْ في الخافقين وغيثهمْ*** وَرَبيعَهُمْ في كُلِّ عامٍ مُجدبِ

يا رَحمةَ الدُّنيا وَعِصْمَةَ أَهلِهَا*** وأَمَاَن كُلِّ مُشرِّقٍ ومُغرّب

يا مَنْ نُؤمّلُ مِنهُ كُلَّ كرامَةٍ*** وتلُوذُ فى حَرَم الجَنابِ الأَغلب

يا مَنْ نُناديه فيسمعَنا عَلَى*** بُعدِ المَسَافَةِ سَمعَ أقرب أقرب

ص: 214

يا مَنْ هُوَ البَرُّ التَّقيُّ المنتقَى*** سِرُّ السَّرَارَةِ طيِّبٌ مِنْ طيّب

ياً منْ سَرَى مِنْ مَكَةٍ للمسجد الأقصى*** عَلىَ ظَهر البراق المنجِبِ

يا مَنْ تلقته ملائكةُ السَّماَ*** بخطاب أهلاً بالحبيب ومرحب

يا مَنْ تَنَاهَى فَوْقَ سِدَرة مُنتَهَى*** لِعِنَايَةِ سبقت وحق موجب

يا مَنْ يحبُّ العرش والكرسي إذْ*** نُودِي لقُربِ فَاقَ كُلَّ مُقرَّب

إن كان رايتك الرفيعة فى العُلى*** منصُوبةٌ فالفعل فعل تعجب

الحجُبُ تُرفعُ والجهَاتُ أنيسَةٌ*** والمُجتَبى يغشَاهُ نُورُ المجتبى

وَلسَانُ حَالِ الوَصَف يَهتفُ قَائلاً*** ما نازل بجَنَابنا كالأجنبي

سَلْ يا محمد تُعط وادعُ تجبْ وقُلْ*** تُسمع غدَاةَ الحشرِ وادنُ تقرَّبِ

ولَكَ الوَسيلة والفضيلة فافتخر***بشَفَاعَةِ لخلاص كُلِّ مُعذِّب

والرَّسْلُ تحت لواء عزّك في مقامِ*** الحمد ذي الحوض الهَنيء المشرب

نعم، لقد أكرم الله تعالى نبيه العظيم بمكارم كثيرة لا تحصى وطلب إليه أن يسأله ما يريد يُعطى، فمن جملة تلك المكارم التي اكرم الله تعالى بها النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)

«الشفاعة» فهو (صلی الله علیه وآله وسلم) شفيع المذنبين ،قالت فاطمة الزهراء (عليها السلام)له (صلی الله علیه وآله وسلم) في مرضه الذي توفي فيه : يا أبتاه إني أراك مفارق الدنيا .فقال(صلی الله علیه وآله وسلم)لها : إنّي مفارقك يا بنية فسلام فقالت : يا أبتاه أين الملتقى يوم القيامة ؟ فقال (صلی الله علیه وآله وسلم) : عند الحساب. فقالت : فإن لم أرك هناك ؟ قال : عند الشفاعة لمحبيك ؟ قالت : وإن لم ألقك هناك ؟ قال عند الصراط جبرئيل عن يميني وميكائيل عن شمالي وبعلك علي(عليه السلام) أمامي وبيده لواء الحمد والملائكة من خلفي ينادون: ربنا سلّم أمة محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)من النار ويتر عليهم الحساب.

وفي الخبر عنه (صلی الله علیه وآله وسلم)انه قال : إني ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. نسأل الله تعالى أن لا يحرمنا من شفاعته، وأن يرينا وجهه ويحشرنا في زمرته أنّه

سميع مجيب، فمن لنا غير المصطفى في ذلك اليوم شفيع ؟ من لنا غير النبي وآله

ص: 215

الكرام في عرصات المحشر ؟ ليس لنا غيره لأنه الزعيم في ذلك اليوم ، قالت الصديقة سلام الله عليها: «فنِعم الحَكَمُ الله والزعيم محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)». إشارة إلى أن أمور المحشر يوم القيامة بيد أبيها (صلی الله علیه وآله وسلم).

ولكن لهفي لها عندما أغمى على أبيها ورأسه في حجرها انكبت عليه تنظر في وجهه وتقول :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه*** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

تطوف به الهلاك من آل هاشم ***فهم عنده في نعمة وفواضل

ولقد كانت مصيبته (صلی الله علیه وآله وسلم)كبيرة جداً على قلبها ويتجلى لك عظيم مصيبته عليها من مقطع خطبتها الشهيرة عندما تعرضت إلى وفاته (صلی الله علیه وآله وسلم)وهي توبخ القوم في تلك الخطبة وتطالبهم بحقوقها وتبين لهم فداحة المصيبة وعظمها. قالت(عليه السلام) في المقطع الشريف: «أتقولون مات محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) فخطب جليلٌ اسْتَوسَعَ وهَنُه ، واستتَهرَ فتقُه، وانفلق رَتقُه وَأظلمتِ الأرضُ لغَيبَتِه، وَكُسفَتِ النجوم لمُصيبَتِه ، وأكدتَ الأمالُ ، وَخَشَعَتِ الجبالُ ، وأضيعَ الحَرِيمُ، وأزيلَتِ الحُرمَةُ عِندَ مَمَاتِه، فَتِلكَ وَالله النّازِلَةُ الكُبرى ، والمصيبَةُ العُظمى، لا مِثلُها نازِلَةٌ ، ولا بائقة عاجلَةٌ، أَعَلَنَ بها كتابُ اللهِ جَلَّ ثَناؤه في أفنيتكُم في ممساكُم ومصبحِكُم يهتفُ في أفنيتكُم هِتافاً وصُراخاً و تلاوةً وألحاناً ولَقَبله ما حَلّ بأنبياء اللهِ وَرُسُلِهِ حَكمْ فَصل ، وقضاءٌ حَتم ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ .

هذا المقطع الشريف يبين لنا كيف كانت مصيبة الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم) على قلب الزهراء(عليها السلام)من جهتين : الأولى : فقده (صلی الله علیه وآله وسلم).

والثانية : نهب حقوقها وحقوقه. ومن هنا كان حجم المصيبة كبير جداً وكأني بها لما أن نظرت إليه وهو يجود بنفسه الشريفة وعلمت أنّها مصابة لا محالة بأبيها نادت بقلب حزين ودموع جارية :

ص: 216

شمس النبوة امكورة او بدر الهدى غاب*** ما صاب بالعالم مثل فقد النبي مصاب

أدى الرسالة او كابد الامة او جهلها*** وبدعوته وضح مناهجها او سبلها

كانت عن الحق عادلة او سيفه عدلها*** عزها او هبط راس كل جاحد ومرتاب

كل الدين او شيده خير البريه ***ومن جهل قومه شلون قاساها اذية

او يوم انقضى عمره اودنت منه المنية*** أوصى احفظوني بعترتي بعدي والكتاب

ياويح قلبي من دني المحتوم منه*** اتهلهل جبينة بالعرق واخفت الوانه

السبطين يمه او كل ضلع منهم تحنا*** و تنحب البضعة والقلب من شوفته ذاب

تقله يبو ابراهيم فقدك فتت احشاي*** يا هو يسليهم عقب فقدك يتاماي

زادي او شربي يا حماي أصيح وانعاي*** ابيا عين أشوفنه عقب شخصك المحراب

فتح اعيونه او قرب السبطين يمه ***شم الحسن واحسين عند الصدر ضمه

اوصبت مدامعهم او حيدر هاج غمه*** او سمعوا بذاك الحال طارق يطرق الباب

ص: 217

قله يبو الحسنين اجا مرسول مولاك*** خله يجي يمي يحيدر والله واياك

سلم عليه واستلم روحه او هز الأفلاك*** شجبت عليه ام الحسن والدمع سكاب

تنادي يرب الشرع قلي اشلون حالي*** لو عانيت من شخصك المحراب خالي

ويا هو على الكتفين يحملهم اطفالي***بعدك حيوتي اتكدرت والعيش ما طاب

نعم، هذا بكاء الزهراء (عليها السلام)على أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم)، ولها بكاء آخر على ولدها الحسين عليه الصلاة والسلام كما ورد في الخبر أنّها عليها الصلاة والسلام لها في كل يوم بكاء عليه لأنها تنظر إلى قميص ولدها الحسين عليه الصلاة والسلام وتشهق شهقة حتى يسكتها أبوها(صلی الله علیه وآله وسلم)قال المحدثون : ولم يزل هذا القميص مع الزهراء ولا ينفك عنها إلى أن ترد المحشر وهي آخذة بذلك المقيص المتلطخ بالدم وقد تعلّقت بقائم العرش وهي تقول : ربّ احكم بيني وبين قاتل ولدي الحسين عليه الصلاة والسلام.

كأني ببنت المصطفى قد تعلقت*** يداها بساق العرش والدمع أذرت

وفي حجرها ثوب الحسين مخرجاً*** وعنها جميع العالمين بحسرة

تقول أيا عدل اقض بيني وبين من*** تعدى على ابني بين قهر وقسوة

أجالوا عليه بالصوارم والقنا*** وكم جال فيهم من سنان وشفرة

وقال شاعر آخر:

لابد أن ترد القيامة فاطم*** وقيمصها بدم الحسين ملطخ

ويل لمن شفعانه خصمائه*** والصور في يوم القيامة ينفخ

جاء في البحار أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يمثل لفاطمة صلوات الله وسلامه عليها في القيامة رأس الحسين صلوات الله وسلامه عليه متشحطاً بدمه فتصيح واولداه

ص: 218

واثمرة فؤاداه ، فتصعق الملائكة لصيحة فاطمة عليها الصلاة والسلام وينادي أهل القيامة : قتل الله قاتل ولدك يا فاطمة، فيقول الله : ذلك افعل به وبشيعته وأحبائه وأتباعه، إلى آخر الحديث.

وفي خبر ثان : إنّ الزهراء سلام الله عليها في يوم القيامة ربّ أرني ولدي الحسين(عليه السلام) ، فيأتي النداء من قبل الله تعالى : يا فاطمة انظري إلى قلب المحشر ،فتنظر فاذا الحسين عليه الصلاة والسلام قائم ليس عليه رأس وأوداجه تشجب دماً فتصيح فاطمة عليها الصلاة والسلام واولداه واحسيناه ثم تقول : يا عدل يا حكيم احكم بيني وبين قاتل ولدي الحسين عليه الصلاة والسلام، فيغضب الله تعالى لغضب فاطمة فيأمر ناراً يقال لها هبهب : التقطي قتلة الحسين (عليه السلام)، إلى آخر الحديث.

وفي خبر : ان الزهراء (عليها السلام)ترد المحشر في رعيل من الملائكة عن يمينها، ورعيل ثاني عن يسارها، ورعيل ثالث من خلفها، ورعيل رابع أمامها ثم يأتي النداء من قبل الله تعالى لأهل المحشر: غضوا أبصاركم لكي ترد ابنة حبيب محمد فتأتي وتتوسط قلب المحشر ويمثل الله تعالى لها جسد الحسين عليه الصلاة والسلام وهو بلا رأس، ثم تبكي ويبكي لبكاها الأنبياء والملائكة وجميع أهل المحشر، ثم تقول : يا عدل يا حكيم احكم بيني وبين من قتل والدي الحسين(عليه السلام)وكسر ضلعي وأسقط جنيني ونهب نحلتي وهجم داري وقاد بعلي وهي باكية حزينة ودموعها جارية، وترى الخلق في بكاء وعويل والمحشر متزلزل من بكائهم :

وتزلزل المحشر وقفت الزهرة الحزينة*** تنادي يربي القوم ضلعي كاسرينه

دخلوا عليه البيت عدواني اولفوني***قادوا عليّ ببنود سيفه وسقطوني

ونحلة أبويه اتناهبوها واطردوني*** هجموا علينا بدارنا ولا راقبونا

وعفت الدنية عقب ما فتو افادي*** وعمم كريم المرتضى سيف المرادي

وردوا عقب عينه وعيني على اولادي*** واحد قضى مسموم عندي بالمدينة

ص: 219

وضل العزيز حسين بين أوغاد سفيان*** وقاسي مصايب بعضها اتشيب الرضعان

وسافر لراضي كربلا وانذبح عطشان*** مرمي واخوته عن شماله او عن يمينه

انته يربي العالم بكل المصايب ***ضلت بناتي من عقب عينه غرايب

للشام ودوهن يسر بين الأجانب*** وابني علي بالقيد والغل ما حنينه

تبدي الشكاية والدمع بالخدّ مذروف*** بالحال ترفع طفل ابنها حسين ملفوف

وتصيح شيبني يربي يوم الطفوف*** شسوى الطفل من ذنب حتى يذبحونه

مهة عزيزي يا حكيم بسهم مذبوح***وقلب الرباب من المصيبة صار مجروح

من شافته مغمض يعالج طلعة الروح*** او فتت قلوب الهاشميات بونينه

وتجرونه والخلايق كلهم وقوف ***تندب وترفع بيدها منديل ملفوف

رب انتقم لي من الذي قطع هالكفوف*** يأتي الندا والناس كلهم يسمعونه

منی يبنت المصطفى طلبى الشفاعة*** واخذ بحقك من الطاغي ومن اتباعه

ومن الذي للدار حاكم بالجماعة*** ومن الذي قاد الوصي أوروع بنينه

ومن الذي بالباب منك كسر ضلعين*** واللي طبع كفه على الخد وعلى العين

بشري يبنت المصطفى يم حسن وحسين*** هاليوم وعد قطام وجعيدة اللعينة

هاليوم يا زهرا الوفا واقبل الميعاد*** ابخذ بحقك من بني امية وبنی زیاد

ومن الذي في كربلا عفر لك اولاد ***هذا العزيز انكان قصدك تنظرينه

وتنظر العرصه والدمع يجري من العين*** واتشوف ابنها حسين من حوله النبيين

بين الخلق واجف بلا راس وبلا ایدین*** واتصيح وشها الفعل يا بني فاعلينه

تصرخ بصوت ايزلزل العلم والافلاك***والحور وياها تصيح وجميع الاملاك

وتقول يا باجي البقية ما حضرناك*** السهم فات ولا حضرنا يوم جينا

وتعج جميع الرسل حتى آدم ونوح*** ويخاطبون المصطفى والمصطفى ينوح

الله يعظم أجرك ابسبطك المذبوح*** او حيدر علي يبكي ويهل ادموع عينه

***

ص: 220

الجلسة العاشرة : في النبوة العامة ونبوّة نبيّنا محمد بن عبد الله (صلی الله علیه وآله وسلم)

المبحث الثالث في النبوة*** فأحسن الأخذ له بقوة

مفهومها : بلوغ إنسان خبر*** عن ربه بلا توسط البشر

وهي على المدبر الحكيم*** واجبة بالنظر السليم

لأن خلق الخلق ذا أطباع*** مختلف داع الى النزاع

مع ابتناء عيشهم في الأرض*** على انضمام بعضهم لبعض

فمست الحاجة في الأزمان*** الى رئيس نافذ السلطان

ولو تخيروه لم يصطلحوا*** ولو رضوا ببعضهم لم ينجحوا

العجزهم عن وضع شرع جامع*** وخلفهم في مقتضى الطبايع

فاقتضت الحكمة بعث الرسل*** ووضع شرع للأمور فيصل

مبصرین بالهدى والحكمة*** مسددين بالحجى والعصمة

مطهرين غاية التطهير*** عن كل وصف موجب السقير

آتين بالبرهان والدلالة*** على ثبوت مدعي الرسالة

وغاية التكليف تعريض الملا*** لأن يفوزوا بالمقامات العلا

فمن أطاع فاز بالثواب ***ومن عصى استحق للعقاب(1)

نبينا سيد ولد آدم ***محمد صفوة كل العالم

ص: 221


1- الفيلسوف الشيخ حسن الدمستاني البحراني

للمرسلين فاتح وخاتم*** خلقا وبعثاً للأمور ناظم

نبى صدق ورسول حق***زكي خلق وبهي خلق

لا شك في إرساله إلى الورى*** من ربه مبشراً ومنذرا

لأنه قد ادعى الرساله*** وصدق الله له إرساله

فأظهر المعجز طبق المقترح*** وأسفر الحق لديه واتضح

فسبّحت ناطقة له الحصا*** وأورقت باسقة له العصا

والبدر شق والذراع انطقا*** والعين ردّ حيث سالت حدقا

وحنّ جذع يابس إليه*** وفاض عذب الماء من يديه

وجاء بالقرآن وهو أعظم*** يفحم من عارضه ويلزم

وكم له من معجزات بهرت*** قد لهج الناس بها واشتهرت

قد صح عنه ذاك بالتواتر*** متسقاً في جملة الأعاصر

وقال الفاضل السماوي في النبوة العامة والخاصة أيضاً.

لابدّ للخلق من الرسول*** مطابقاً لفطرة العقول

لير شد الخلق إلى الرشاد*** ويصلح الناس من الفساد

فيخبر الناس عن الأحكام*** بما لهم فيها من النظام

وأن يكون خالياً عن الزلل*** منزّه عن المعاصي والخلل

فهو الإمام والزعيم للورى*** وبعده الامام بالنص جرى

محجة الله على الأنام*** تتم بالنبي والامام

وبعثه عقلاً على المولى وجب*** بمقتضى العدل فهذا المنتخب

به الثواب والعقاب يحسن*** إذ لا يليق الظلم وهو المحسن

بالمعجزات يثبت الرسول*** إذ عندها تحير العقول

وکونها خارقة للعادة*** تثبت للناس بها السعادة

وأعظم البرهان للرسول*** كتابه المبهر للعقول

قد أخرس العرب وكل الفصحاء*** ولو تظاهروا وكانوا نصحا

ص: 222

يطابق الوقت على مرالزمن*** وحاوياً للعلم بل وكل فن

فما أتوا بمثله من آية*** وهم ذووا فصاحة للغاية

سبحان من أسرى بعبده إلى*** أوج السماء فهو أعلا منزلا

وبانشقاق القمر المنير*** لآية الفطن البصير

محمد المبعوث طراً للورى*** وخاتم الرسل لمن فوق الثرى

متمماً مكارم الأخلاق*** مستأصلاً لجذرة النفاق

به وبالعقل تتم الحجة*** على الورى وتثبت الحجة

***

قال الله تعالى في كتابه المجيد :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ .

لقد جاء في تفسير الميزان(1)ما مفاده من أنّ الأمر المولوي في قوله تعالى :﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾هو أمر تعجيزي لإبانة إعجاز القرآن وإنّه كتاب منزل من

عند الله لا الله لا ريب فيه، إعجازاً باقياً بمر الدهور وتوالي القرون وقد تكرر في كلامه تعالى هذا التعجيز كقوله تعالى :﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾(2) وقوله تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (3) وعلى هذا فالضمير في مثله عائد إلى قوله تعالى: ﴿مما نزلنا﴾ ويكون تعجيزاً بالقرآن نفسه وبداعة أسلوبه وبيانه .

وبيان هذا الجانب وتوضيح تفسيره من الآية الكريمة كافٍ عن بيان تفسير كلّ الآية لأنّ الجانب المذكور من الآية الكريمة هو مقصودنا إذ اننا لم نعرضها لبيان تفسيرها وإنما عرضناها لنعلم من خلالها أنّ القرآن الكريم معجزة من معاجز

ص: 223


1- 57/1
2- سورة الإسراء : 88 .
3- سورة هود : 13 .

الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)الدالة على نبوته ورسالته.

قال سيدنا المقدس السيد عبد الله شبر رضوان الله تعالى عليه في كتابه الشهير (حق اليقين): كفى بكتاب الله تعالى معجزاً عظيماً وبرهاناً جسيماً باقياً مدى الدهر بين الخلق، وليس لنبي معجزة باقية كذلك سواه (صلی الله علیه وآله وسلم)تحدى به بلغاء العرب و فصحاءهم، وجزائر العرب يومئذ مملوءة بآلاف منهم والفصاحة دأبهم وصنعهم وبها مباهاتهم ومنافستهم وكانوا يأتون بالأشعار البليغة الفصيحة والكلمات المليحة ويعلقونها على الكعبة ويفتخرون بها، فلما جاء القرآن الكريم والفرقان العظيم بهتوا وعجزوا، وكان ينادي بين أظهرهم كرة بعد أخرى ومرة غب أولى أن يأتوا بعشر سور

مثله أو بسورة من مثله فعجزوا واعترفوا بالعجز والقصور عن هذه الدرجة العلية والمراتب السنية ، وقال لهم معلناً : ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ (1) قال ذلك تعجيزاً لهم فعجزوا عن ذلك واعترفوا بالقصور عما هنالك حتى عرضوا أنفسهم للقتل ونساءهم وذراريهم للسبي، واختاروا المحاربة بالأسنّة والسيوف على المعارضة بالكلمات والحروف وما استطاعوا أن يعارضوا ولا أن يقدحوا في جزالته وحسنه وكان ذلك عندهم من أهم الأشياء، ثم لم يزل النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)يقرعهم أشد التقريع،ويوبخهم غاية التوبيخ ، ويسفه ، أحلامهم، ويحط أعلامهم ويشتت نظامهم، ويذم آلهتهم وآباءهم، ويستفتح أرضهم وبلادهم وديارهم ، ويصول عليهم بالقرآن الكريم وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته محجمون عن مماثلته معترفون بالعجز عن مقابلته، يخادعون أنفسهم بالتكذيب والافتراء والاستهزاء ويقولون :﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ و﴿ سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ﴾ و﴿إِفْكٌ افْتَرَاهُ﴾ و﴿ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ والمباهاة والرضا بالرذالة والاعتراف بالعمى في البصيرة كقولهم: ﴿قلوبنا غلف ﴾و﴿ فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ﴾و﴿وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾ و ﴿وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾

ص: 224


1- سورة الإسراء : 88

و﴿لا تسمعوا لهذا القرآن﴾ والادعاء مع العجز كقولهم :﴿ لو نشاء لقلنا مثل هذا﴾ وقد قال الله لهم ولن تفعلوا فما فعلوا ولا قدروا بل ولوا عنه مدبرين وكانوا بالعجز مذعنين بين مهتد ومفتون ومعترف بالعجز ، ولهذا لما سم سمع الوليد بن المغيرة من

النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)ان الله تعالى يأمر بالعدل والاحسان قال : والله ان له الحلاوة وانّ عليه لطلاوة ، وان أسفله لمغدق وان أعلاه لمثمر ، وما يقول هذا بشر. وجاء عن الأصمعي انه سمع كلام جارية فقال : قاتلك الله ما أفصحك ، فقالت أو بعد قول الله تعالى فصاحة ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (1) فجمع في آية بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين، وإذا تأمل متأمل في قوله تعالى : ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ ﴾(2)، ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾(3)،﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ﴾ (4).﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ﴾(5)إلى آخر هذه الآيات تحقق له إيجاز ألفاظها وكثرة معانيها وديباجة عبراتها وان تحت كل لفظة منها جملة كثيرة ، وفصولاً جمة، وعلوماً زواخر ملئت الدواوين من بعض ما استفيد منها وكثرت المقالات في المستنبطات عنها.

هذا هو القرآن الكريم في عظيم بلاغته وفصاحته وجليل معانيه وكريم آياته . وأما بالنسبة إلى وجه إعجازه فقد ذكر السيد المذكور أنه قد وقع الخلاف بين العلماء فی ذلك بأن وجه إعجاز القرآن هل هو لأجل كونه في أعلى مراتب الفصاحة ومنتهى مرتبة البلاغة بحيث لا يمكن الوصول إليه ولا يتصور الاتيان

ص: 225


1- سورة القصص : 7 .
2- سورة سبأ : 51 .
3- سورة المؤمنون : 96 .
4- سورة هود : 44 .
5- سورة العنكبوت : 40 .

بمثله، أو من جهة أن الله تعالى صرف قلوب الخلائق عن الإتيان بمثله وإن كان ممكناً، وبالثاني قال السيّد المرتضى رضوان الله تعالى عليه، والأكثر على الأول.

وقد افاد السيد بعد أن ذكر وقوع الخلاف، بأنا لحق في إعجاز القرآن لوجوه عديدة ثم ذكر منها ما يلى:

أوّلها : أنه مع كونه مركباً من الحروف الهجائية المفردة التي يقدر على تأليفها كل أحد يعجز الخلق عن تركيب مثله بهذا التركيب العجيب والنمط الغريب كما في تفسير العسكري في المقال معناه : ان هذا الكتاب الذي أنزلته هوالحروف المقطعة التي منها ألف لام ميم وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين.

ثانيها من حيث امتيازه عن غيره مع اتحاد اللغة فإن كل كلام وإن كان في منتهي الفصاحة وغاية البلاغة إذا بواهر الآيات القرآنية وجدت له امتيازاً تاماً وفرقاً واضحاً يشعر به كلّ ذي شعور ، ونقل أنه كان في الأيام السالفة كل من أنشأ كلاماً أو شعراً في غاية الفصاحة والبلاغة علقه في الكعبة المعظمة للافتخار، والقصائد المعلقات السبع مشهورة، فإذا أنشأ ما هو أبلغ منه رفعوا الأول وعلقوا الثاني فلما، نزل قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ﴾(1) رفعوا المعلقات من الكعبة وأخفوها خوفاً من الفضيحة .

ثالثها: من جهة غرابة الاسلوب وأعجوبة النظم فإن من تتبع كتب الفصحاء وأشعار البلغاء وكلمات الحكماءلايجدها شبيهة بهذا النظم العجيب والأسلوب الغريب والملاحة والفصاحة ويكفيك نسبة الكفار له إلى السحر لأخذه بمجامع القلوب.

رابعها من حيث عدم الاختلاف فيه ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه

ص: 226


1- سورة هود : 44 .

اختلافاً كثيراً ، فلا تجد فيه مع هذا الطول كلمة خالية من الفصاحة خارجة عن نظمه وأسلوبه وأفصح الفصحاء إذا تكلم بكلام طويل تجد في كلامه أو أشعاره غاية الاختلاف في الجودة والرداءة، وأيضاً لا اختلاف في معانيه ولا تناقض في مبانيه، ولو كان مجعولاً مفترياً كما زعم الكفار لكثر فيه التناقض والتضادّ فإنّ الكاذب لا حفظ له، وفي المثل الفارسي : دروغ گو حافظه ندارد.

خامسها: من حيث اشتمالها على الآداب الكريمة، والشرائع القويمة، والطريقة المستقيمة ، ونظام العباد والبلاد، والمعاش والمعاد، ورفع النزاع والفساد في المعاملات والمناكحات والمعاشرات ، والحدود والأحكام، والحلال والحرام مما تتحير فيه عقول الأنام، وتذعن له أولوا العقول والأفهام، ولو اجتمع جميع العقلاً والحكماء والعرفاء وبذلوا كمال جهدهم وسعوا غايه سعيهم في بناء قاعدة لنظام العالم والعباد مثل ما ذكر لعجزوا .

سادسها: من حيث اشتماله على الاخبار بخفايا القصص الماضية والقرون الخالية مما لم يعلمه أحد إلا خواص أحبارهم ورهبانهم الذين لم يكن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) معاشراً لأحد منهم كقصة أهل الكهف وشأن موسى والخضر وقصة ذي القرنين وقصة يوسف ونحوها.

سابعها: من حيث اشتماله على الإخبار بالضمائر والعيوب ممّا لا يطلع عليه الاعلام الغيوب كأخباره تعالى بأحوال الكفار والمنافقين وما يضمرونه في قلوبهم ويخفونه في نفوسهم وكان (صلی الله علیه وآله وسلم)يخبرهم بذلك فيعتدزون.

ثامنها : من حيث اشتماله على الإخبار بالأمور المستقبلة والأحوال الآتية كما هي، كقوله تعالى في سورة آل عمران آية :112 ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فلم يحكم منهم سلطان في جميع الأطراف، وكالاخبار بعدم

ص: 227

الاتيان بمثل القرآن كقوله تعالى :﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(1) .

وكالاخبار بعدم تمني اليهود الموت في قوله تعالى:﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾(2)وكالاخبار بعدم إيمان أبي لهب لعنه الله وجماعة وبدخول مكة للعمرة والرجوع إليها - وبعصمة الرسول من شر الناس بقوله :﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ (3) وبغلبة الروم ونحو ذلك .

تاسعها: من حيث اشتماله على الحكم القويمة والمواعظ المستقيمة كقوله تعالى :﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا

ص: 228


1- سورة الاسراء : 88.
2- سورة الجمعة : 6 .
3- سورة المائدة : 67 .

ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ﴾ (1) .

وكقوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِوَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(2).

عاشرها : من حيث خواص سوره و آياته وكلماته، فإن فيها شفاء للأرواح والأجسام ودفعها الوسواس والتسولات والأسقام واستعانة على الشيطان ودفعاً لشر العدوان تلاوة وكتابة وحملاً وتعليقاً كما هو مذكور في مظانّه .

الحادي عشر : من حيث أنّه لا يخلق على طول الأزمان ولا يمل بل كلّما تلوته ونظرته وجدته طريّاً، وهذه الخاصية لا توجد في غيره ولنذكر جملة من الآيات والروايات الدالة على فضله قال الله تعالى : ﴿ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (3). وقال تعالى :﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾(4) قال الله تعالى : ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ (5) والآيات في ذلك كثيرة .

ونقل المفسر الماهر آية الله العظمى الحاج السيد حسين البروجردي(قدس سره)كلاماً عن العلماء في وجه إعجاز القرآن يشبه الكلام المتقدّم، قال رضوان الله تعالى عليه ما لفظه : لا ريب في كون القرآن معجزة من معجزات سيد الأنام عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، باقية على مر الدهور والأعوام، والشهور والأيام، وإنما الكلام في جهة إعجازه وكيفيته، فاختلفوا فيه على أقوال:

ص: 229


1- سورة الاسراء : 26 - 39
2- سورة النحل : 90 .
3- سورة يونس : 57 .
4- سورة المائدة : 16 .
5- سورة النحل : 89.

أحدها أنّه معجز بفصاحته، ذهب إليه كثير من المتكلمين، واختاره الجبائيان (1) ، والرازي (2)، هو المحكي عن الفاضل العلامة أعلى الله مقامه في المناهج، وهو الظاهر منه في كتابه نهج المسترشدين، ويظهر أيضاً من علماء المعاني والبيان حيث ذكروا ان من فوائده كشف الاسناد عن وجوه الاعجاز في نظم القرآن، ولا ينافيه ما ذكره بعضهم من أنّ مدرك الاعجاز هو الذوق ليس إلا سيما بعد تصريحهم بأن وجه الاعجاز أمر من جنس الفصاحة والبلاغة ، نعم عن بعضهم أنّه لا علم بعد علم الاصول اكشف للقناع عن وجه الاعجاز من هذين العلمين، وفيه إيماء إلى انّ من وجوه الاعجاز أيضاً عنده اشتماله على العلوم الحقيقية والمعارف الربانية.

ثانيها : أنّ جهة إعجازه من حيث الاسلوب، وعنوا به الفن والضرب.

ثالثها ما ذهب إليه الجويني(3)من أنّه معجز بفصاحت بفصاحته وأسلوبه معاً ، قال : لأن كلّ واحد منهما غير متعذر على العرب، لأنه وجد في كلامهم ما هو بفصاحته

ص: 230


1- الجبائيان : هما أبو علي محمد بن عبد الوهاب كان من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره ، ولد في جُبَّا (خوزستان) واشتهر في البصرة ، وتوفّي فيها سنة 303 ، تنسب إليه الطائفة الجبائية ، له تفسير ردّ عليه تلميذه الأشعري - وابنه أبو هاشم عبدالسلام بن محمد وهو أيضاً من كبار المعتزلة نسب إليه الطائفة البهشمية، تعلم على أبيه توفي ببغداد سنة 321 .
2- الرازي فخر الدين محمد بن عمر التيمي البكري إمام ،مفسر ولد بالري عرف بزمانه بشيخ الاسلام واسع المعرفة بعلوم المعقول والمنقول له عشرات المؤلفات في العربية والفارسيّة منها تفسيره المعروف بمفاتيح الغيب ، توفي بهرات سنة 606.
3- الظاهر أن المراد بالجويني هو عبدالملك بن عبدالله أبو المعالي من الفقهاء الشافعية، نشأ في نيسابور ، ووقف حياته للتعليم ، اتبع مذهب الأشعري، هاجر إلى الحجاز ، فعلم وأفتى في مكة والمدينة حيث دعي إمام الحرمين) ولما عاد إلى نيسابور بنى له الوزير نظام الملك المدرسة النظامية ليعلم فيها ، توفي عام 478 ، ومن مؤلفاته البرهان في أصول الفقه، ونهاية المطلب في دراية المذهب، والشامل ، والارشاد في أصول الدين.

ليس مثل أسلوبه ، وكلام مسيلمة (1)كأسلوبه وليس كفصاحته، وأما مجموعهما فغير مقدور للخلق.

رابعها : ما يحكي عن الشيخ كمال الدين ميثم بن على بن ميثم البحراني(2) من أنّه معجز بأمور ثلاثة معاً ،فصاحته وأسلوبه واشتماله على العلوم الشريفة من علم التوحيد والسلوك الى الله تعالى، وتهذيب الأخلاق، فانّ الفصاحة خاصة قد وجدت في كلام العرب والاسلوب وإن امكن عند التكلف لكن اجتماعه مع الفصاحة ،نادر، لأن تكلف الأسلوب مذهب بالفصاحة، وأما العلوم الشريفة فلم يوجد في كلام العرب لها عين ولا أثر إلّا ما يوجد في كلام قس بن ساعدة (3)

ص: 231


1- هو أبو ثمامة مسيلمة بن حبيب من أهل اليمامة كان صاح اسجاع و مخاريق وتمويهات وادّعى النبوة ، ورسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بمكة قبل الهجرة فما زال يخفى ويظهر ويقوى ويضعف، وكان يقول : أنا شريك محمد في النبوة ، ولما قدم النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) المدينة وجد الناس يتذاكرونه ، فقال (صلی الله علیه وآله وسلم): فأما هذا الرجل الذي تكثرون في شأنه فكذاب بثلاثين كذاباً قبل الدجال ، فسمّاه المسلمون مسيلمة الكذاب ، وأساطيره وأقاويله كثيرة تضحك بها الثكلى ، ولما توفي النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)حارب المسلمون مسيلمة وقتله الوحشي سنة 12 من الهجرة.
2- ميثم بن علي بن ميثم البحراني، من فقهاء الطائفة المحقة من أهل البحرين ومن العلماءالعارفين بالأدب والكلام والحكمة ، له تصانيف منها شرح نهج البلاغة توفي بعد سنة 681.
3- قس بن ساعدة الأيادي من معد بن عدنان، حكى عن ابن عباس قال : قدم الجارود بن عبدالله وكان سيداً في قومه على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فقال : والذي بعثك بالحق لقد وجدت صفتك في الانجيل . ولقد بشر بك ابن البتول فأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وانك محمد رسول الله ، قال : فآمن الجارود و آمن من قومه كل سيد ، فسر النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)بهم وقال : يا جارود هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قساً ؟ قالوا : كلنا نعرفه يا رسول الله ، وأنا من بين القوم أقفو أثره ، كان يقول : وعوا، فإذا وعيتم فانتفعوا انه من عاشى مات، ومن مات ،فات وكل ما هو آت آت، إن في السماء لَخَبراً، وان فى الأرض لَعَبراً ، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم ،تمور، وبحار لن تفور ، ليل داج، وسماء ذات أبراج ، أقسم قس حتماً ، لئن كان في رضاً ليكونن بعده سخطاً وانّ الله عزّت قدرته ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه ... الخ . وقد أدرك النبى (صلی الله علیه وآله وسلم)وسمعه ومات قبل البعثة . كان من أسباط العرب، فصيحاً ، عمر سبعمائة سنة ، أدرك من الحواريين سمعان فهو أول من تأله من العرب أي تعبّد ، كأني أنظر إليه يقسم بالرب الذى هو له ، ليبلغن الكتاب أجله وليوفين كل عامل عمله ، ثم انشا يقول : هاج للقلب من جواه ادکار*** وليال خلا لهن نهار في أبيات آخرها : والذي قد ذكرت دل على الله*** نفوساً لها هدى واعتبار فقال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) : فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أورق وهو يتكلم بكلام ما أظن اني أحفظه ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، فاني أحفظه ، كنت حاضراً ذلك اليوم بسوق عكاظ فقال في خطبته : يا أيها الناس ، اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا ... الخ . انظر : عيون الأثر ، ابن سید الناس 1 : 97.

وأضرابه ممن وقف على الكتب الإلهية نقلاً عن غيره .

والحاصل ان كلامهم يوجد فيه ما يناسب بعض القرآن الكريم في الفصاحة وهو في مناسبته له في اسلوبه أبعد، وأما في العلوم المذكورة فأشد بعداً.

خامسها: أنّه خلوه من التناقض كما أشار إليه سبحانه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً )

سادسها : انّه من جهة اشتماله على الغيوب، والاخبار عن الكائنات قبل وقعها .

سابعها : ما يحكى عن السيد المرتضى رضوان الله تعالى عليه (1) والنظام من العامة(2) ، وربما يحكى وربما يحكى أيضاً عن الاستاذ أبي إسحاق من الأشاعرة وكثير من

ص: 232


1- هو الشريف المرتضى علي بن الحسين فقيه الشيعة في عصره ولد في بغداد سنة 355 وتوفي فيها عام 436 من الهجرة ، فقيه ، أصولي ، شاعر مجيد ، ومؤلف مكثر ، كان أوحد أهل زمانه علماً وكلاماً وحديثاً وشعراً وكان مثالاً للثقافة الكاملة ، له مؤلفات قيّمة منها . «الأمالي».
2- إبراهيم بن سيار كان من المتكلمين المعتزلة، وتلمذ على أبي الهذيل العلاف، نشأ في البصرة وأقام في بغداد حتى توفي سنة ،231 ، وكان منطقياً شاعراً ترك آثاراً كثيرة في تاريخ الفكر الاسلامي ، وعارض آراء الفقهاء ، وانتقد الجبرية والمرجئة، وإليه تنسب النظامية من فرق المعتزلة ، وتلمذ عليه الجاحظ .

المعتزلة وهو الصرفة، بمعنى أن الله تعالى صرف الناس عن معارضته.

قيل: وهذا يحتمل أموراً ثلاثة : الأول : انه تعالى سلبهم القدرة ، الثاني : انه سبحانه سلبهم الداعية وهم المتحدين عن معارضته مع قدرتهم عليه الثالث: انه سلبهم العلوم التي كانوا يتمكنون بها من المعارضة ، وربما يقال : إن مختار السيد هو الأخير.

ثامنها : التوقف في ذلك لما يحكى عن سديد الدين سالم عويرة، وربما يومي إليه كلام الوحيد في التجريد حيث قال : وإعجاز القرآن قيل : لفصاحته ، وقيل : لأسلوبه وفصاحته ، وقيل ، للصرفة، والكل محتمل إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة.

أقول : ما يحكى عن سديد الدين هو القول السديد وإن كنت أرى ان القول بالصرفة قد لا يكون محتملاً خصوصاً إذا كانت الصرفة بمعنى سلب القدرة أو سلب الداعية ، أما على احتمال انّه تعالى سلبهم العلوم التي كانوا يتمكنون بها من المعارضة والذي كان ربّما مختار السيد المرتضى فقد يكون محتمل.

لكن ينبغي التنبيه ان الاختلاف المذكور في وجه الاعجاز غير قادح في الاعجاز ، لأن الاعجاز محل متفق عليه عند جميع أهل الاسلام، بل كافة الأنام من الخواص والعوام . قال السيد المذكور : (لكنه لا يخفى عليك ان الاختلاف في ذلك غير قادح في الاعجاز الذي اتفق عليه جميع أهل الاسلام بل كافة الأنام من الخواص والعوام، حيث انه من الضروريات القطعية المعلومة لجميع أهل الفرق والأديان أن نبينا خاتم الأنبياء الله الله قد ادعى النبوة العامة الخاتمية على فترة من الرسل وانقطاع من الوحي، وضلالة من الأمم وجهالة في أهل العلم، واندراس لجملة العلوم والحكم، فجاءهم بهذا القرآن الهادي للتي هي أقوم، هدى من الضلالة، ورشداً من

ص: 233

العمى والجهالة، ونوراً من الظلمة، وضياء عن الغياهب المدلهمة، واستبصاراً لكافة الأمة، ساطعاً تبيانه، قاطعاً برهانه، قرآناً عربياً غير ذي عوج ، داعياً إلى خيرمقصد ومنهج ، مصدقاً لما بين يديه من الكتب السماوية، ومحتوياً على أكثر مما اشتملت عليه من العلوم الحقة والمعارف الالهية، معجزاً سائراً دائراً، باقياً على مر الدهور ، متجلياً منه أنوار الحقائق تجلي النور من الطور، أفحم به من تصدى المعارضته من العرب العربا ، وأبكم به من تحدى من مصاقع الخطباء الفصحاء الذين هم كانوا أمراء الكلام، وبلغاء الأنام فلم يظهر منهم الا الضعف والفتور، مع ما كان يتلو عليهم من الآيات الحاكمة عليهم بالعجز والقصور ، مثل قوله تعالى :﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (1) ، وقوله تعالى:﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾(2) وقوله تعالى : ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (3). وقوله تعالى :﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾(4).

فعجزوا عن معارضته ببليغ الكلام حتى اختاروا الخصام بالنبال والسهام.

وقصروا عن الاتيان بمثل أقصر سورة منه فالتجأوا إلى قبول جراحة السنان،

ص: 234


1- سورة البقرة : 23 - 24 .
2- سورة يونس : 37 - 38 .
3- سورة هود 12 - 14 .
4- سورة الإسراء : 88

للقصور عن فصحة اللسان، ولم يعهد من واحد منهم في ذلك الزمان ، ولا في غيره من الأزمان إلى هذا الأوان معارضته بمثل أقصر سورة منه مع وقوع التحدّي والاخبار عن عجز الجميع عن الاتيان به كما في الآيات المتقدّمة وتوفّر الدواعي على المعارضة والمناقضة، وتراكم الأسباب الدينية والدنيوية على المغالبة والمنافسة، وهذا غاية الاعجاز للكلام بلا فرق بين تسليم اشتماله على مراتب الفصاحة والبلاغة والأسرار الحكميّة والآداب الإلهية ،وعدمه، فإن إعجازه على الأول ظاهر، وكونه خارقاً للعادة معجزاً لجميع البشر باهر، وكذا على الثاني أي على فرض عدم التسليم ان إعجازه لاشتماله على مراتب الفصاحة بل للصرفة، بل سلب القدرة عن آحاد الناس عمّا كانوا يقدرون عليه واستمرار ذلك السلب إلى أبد الدهر أعجب وأغرب من الأول، ألا ترى انه لو ادعى أحد النبوة وقال : إن معجزتي المشي على الماء، وادّعاها آخر وقال : إن معجزتي سلب قدرة الناس عن المشي على الأرض لكانا مشتركين في خرق العادة، بل لعلّ الثاني أعظم قدراً وأجل خطراً لكونه تصرفاً في الغير، سيما مع عمومه وشموله لجميع آحاد النوع خصوصاً مع استمراره مدة حياته وبعد وفاته وبالجملة كون القرآن معجزاً أمربديهي لاشك فيه، ولاشبهة تعتريه، سيما مع الاخبار فيه في كمال القوة والاطمئنان بمحضر ومنظر من فصحاء آل عدنان وبلغاء قحطان بأنه (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا).

مع أنهم قد أذغنوا له بكمال الفصاحة والبلاغة وأعظموا أمره حتى نسبوه الى السحر كما حكي عنهم فيه بقوله : ﴿وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾(1) وقد ورد في ( تفسير قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴾(2) الآيات أنها نزلت في الوليد بن

ص: 235


1- سورة الصافات : 15 .
2- سورة المدثر : 11 .

المغيرة وكان شيخاً كبيراً مجرباً من دهاة العرب، وكان من المستهزئين برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، وكان النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)يجلس في الحجرة ويقرأ القرآن فاجتمعت قريش إلى الوليد :وقالوا يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)أشعر هو أم كهانة ، أم خطب ؟ فقال : دعوني أسمع كلامه ، فدنا من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فقال : يا محمد أنشدني من شعرك، قال (صلی الله علیه وآله وسلم): ما هو بشعر، ولكنّه كلام الله الذي ارتضاه لملائكته وأنبيائه ورسله، فقال: أتلُ عليّ منه شيئاً فقرأ عليه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)حم السجدة، فلما بلغ قوله:﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ (1) فاقشعر الوليد وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته، ومر إلى بيته ولم يرجع الى قريش من ذلك، فمشوا إلى أبي جهل وقالوا يا أبا الحكم أن أبا عبد شمس صبا إلى دين محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)، أما تراه لم يرجع إلينا، فغدا أبوجهل إلى الوليد وقال له: يا عم نكست رؤوسنا وفضحتنا وأشمت بنا عدوّنا ، وصبوت إلى دين محمد (صلی الله علیه وآله وسلم). فقال : ما صبوت إلى دينه ، ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه ،الجلود، فقال أبو جهل أخطب هو ؟ قال : لا الخطب كلام متصل ، وهذا كلام منشور ولا يشبه بعضه بعضاً ، قال : أفشعر هو ؟ قال : لا ، أما إني لقد سمعت أشعار العرب، بسيطها، ومديدها، ورملها، ورجزَها، وما هو بشعر ، قال : فما هو ؟ قال : افكر فيه، فلما كان من : الغد قال له يا أبا عبد شمس ما تقول فيما نلناه ؟ قال : قولوا هو سحر، فإنه آخذ بقلوب الناس، فأنزل الله تعالى على رسوله في ذلك ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ...ألی قوله:إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾(2).

وفي خبر آخر ان الوليد قال لبني مخزوم : «والله لقد سمعت من محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا هو من كلام الجنّ، إن له لحلاوة وانّ عليه

ص: 236


1- سورة فصلت : 13
2- سورة المدثر : 11 - 24 .

لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يُعلى فقالت قريش : صبا والله وليد لتصبأنَّ قريش ، فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه وقعد إليه حزيناً وكلمه بما أحماه فقام وأتاه فقال : تزعمون أنَّ محمداً ،مجنون، فهل رأيتموه يخنق ؟ وتقولون : إنه كاهن، فهل رأيتموه يحدث بما يتحدث به الكهنة ؟ وتزعمون أنه ،شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط ؟وتزعمون أنه كذاب، فهل رأيتموه يكذب أو هل جربتم عليه شيئاً من الكذب ؟ فقالوا في كل ذلك : اللهم لا ،ثم قالوا : مما هو ؟ففكّر فقال : ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟وما يقوله سحر يؤثرعن أهل بابل فتفرقوا متعجبين منه .

هذا خلاصة ما نقله السيد المذكور عن العلماء في كون القرآن الكريم معجزة من معجزات سيد الأنام وكذلك ما ذكره في وجه الاعجاز بالاضافة إلى الكلام المتقدم في الموضوع لسماحة الحجة المقدس السيد عبدالله شبر قدس الله نفسه الزكية، ونضيف هنا بعض الأحاديث الشريفة المرويّة عن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)وأئمة الهدى عليهم أفضل الصلاة والسلام في عظمة القرآن الكريم وكونه هدى وعصمة وإليك ذلك :

الحديث الأول : عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)أنه قال : القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الأحداث، وعصمة من

الهلكة ، ورشد من الغواية وبيان من الفتن وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم، وما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار.

الحديث الثاني: عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال في خطبة له من نهج البلاغة : ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفى مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدر قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم نوره، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وبنياناً لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزاً لا يهزم أنصاره، وحقاً لا يخذل أعوانه، فهو معدن الايمان وبحبوحته، وينابيع العلم

ص: 237

وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وعماد الإسلام وتبيانه، وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الما تحون ومناهل لا يغيضها الواردون ، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام لا يجوز عنها القاصدون، جعله الله تعالى رياً لعطس العلماء، وربيعاً ممرعاً القلوب الفقهاء ، ومحاجاً لطرق الصلحاء ودواء ليس بعده دواء ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً ،عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاه وسلماً لمن دخله،وهدى لمن أنتم ،به وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلّم به،وشاهداً لمن خاصم به وفلجاً لمن حاج به، وحاملاً لمن حمله، ومطية لمن أعمله، وآية لمن ،توسم وجنة لمن استلام وعلماً لمن ،وعى وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قصى.

الحديث الثالث: في كتاب (حق اليقين) نقلاً عن تفسير العياشي عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) أنه قال : أتاني جبرائيل فقال : يا محمد ستكون في أمتك فتنة . قلت : فما المخرج منها ؟ فقال : كتاب الله فيه بيان ما قبلكم من خير وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل من وليه من جبار فعمل بغيره قصمه الله ، ومن التمس الهدى في غيره أضله الله ،وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم لا تزيفه الأهوية ولا تلبسه الألسنة ولا يخلق على الرد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء هو الذي لم تلبث الجن إذا سمعته ان قالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد، الحديث).

الحديث الرابع: في كتاب الاحتجاج عن هشام بن الحكم قال : «اجتمع ابن أبي العوجاء وأبو شاكر الديصاني، وعبدالملك البصري، وابن المقفع عند بيت الحرام يستهزؤن بالحاج ويطعنون على القرآن فقال ابن أبي العوجاء: تعالوا ينقض كل واحد منا ربع القرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كله فإن في نقض القرآن إبطال نبوة محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) ، وفي إبطال نبوته إبطال الاسلام ، وإثبات ما نحن فيه، فاتفقوا على ذلك وافترقوا فلما كان من قابل اجتمعوا

ص: 238

عند بيت الله الحرام، فقال ابن أبي العوجاء: أما أنا فمتفكر منذ افترقنا في هذه الآية : ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ (1)فما أقدر أن أضم إليها في فصاحتها معانيها فشغلتني هذه الآية من التفكر فيما سواها ، وقال عبدالملك : وأنا منذ

وجمع فارقتكم متفكر في هذه الآية :﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ (2) ولم أقدر بمثلها، فقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية :﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾(3) ولم أقدر على الاتيان بمثلها .

فقال ابن المقفع : يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ

فارقتكم متفكر في هذه الآية:﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾(4)ولم أبلغ غاية المعرفة بها ، ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

قال هشام بن الحكم فبينا هم في ذلك إذ مرّ بهم الامام جعفر بن محمد الصادق عليه أفضل الصلاة والسلام فقال :﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (5) فنظر القوم بعضهم الى بعض وقالوا : لئن كان للاسلام حقيقة لما انتهت وصية محمد لا اله إلا إلى جعفر بن محمد ، والله ما رأيناه قط إلا هبناه واقشعرت جلودنا لهيبته ، ثم تفرقوا مقرين بالعجز وعظمة القرآن الكريم.

وقالت السيدة الجليلة والصدّيقة الإنسية الحوراء فاطمة الزهراء عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها أفضل الصلاة والسلام في مدح القرآن وفضله وعظمته : كتاب الله

ص: 239


1- سورة يوسف : 80.
2- سورة الحج : 73 .
3- سورة الأنبياء : 23
4- سورة هود : 44 .
5- سورة الاسراء : 88

الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره ، متجلية ظواهره، مغتبط به أشياعه قائد إلى الرضوان أتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحددة، وبيناته الجالية وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة ، إلى أن قالت سلام الله عليها : وكتاب الله بين أظهركم أموره ظاهرة ، وأحكامه ،زاهرة، وأعلامه باهرة وزواجره لائحة ، وأموره واضحة وقال الحكيم الفيلسوف شاعر أهل البيت(عليه السلام) الحاج الشيخ عبد المنعم الفرطوسي رضوان الله تعالى عليه في ملحمته الشهيرة المسماة ب- (ملحمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام) قال رضوان الله عليه بل سلام عليه : (القرآن معجزة محمد) (صلی الله علیه وآله وسلم):

هو ذكر للعالمين مبين*** شع في صدر خاتم الأنبياء

ومنار من الهدى وصراط***مستقیم لمنهج الإهتداء

ودليل للحق لاريب فيه*** ساطع بالمحجة الغراء

هو رشد العقول في كلّ غيّ*** وشفاء الصدور من كل داء

وهو عين الصواب في كلّ حكم*** وهو فصل الخطاب عند القضاء

وهو نور تزهو المصابيح منه*** بشعاع من النهى وضياء

وسراج من حكمة ليس يخبو*** كلّ وقدٍ من نوره وسناء

وغدير من العوم غزير*** فيه ريّ الظما من العلماء

وربيع من الفقاهة خصب*** فيه ترتاد أنفس الفقهاء

هو ركن للدين لا يتداعى*** وأثاف فيها قوام البناء

معدن من جواهر الفضل فيه*** يلقط الباحثون كلّ ثراء

ليس تُنهي وديانه بعبور*** ليس تُعلی آکامه باعتلاء

علم قائم وسفر حكيم*** وسفير من أفضل السفراء

فيه أبناء ما يكون وما كان*** قديماً من سالف الأنباء

ص: 240

هو مجرى النهار والليل يجري***مُستمر المسرى بغير انقضاء

هو وحي على محمد وافي*** فيه جبريل عن إله السماء

وبشير مصدّق ونذير*** للبرايا بما لهم من جزاء

ولسان من البلاغ حكيم*** أخرست عنه ألسن الحكماء

وهو حدّ الإعجاز في كلّ فنّ*** من فنون الكلام للفصحاء

قال فائتوا بمثله أو بآي ***منه عند التعجيز للبلغاء

أترى والأنوار تجري وفاقاً*** حين تجري بحكمه واقتضاء

كيف عيسى بالطب وافي وموسى*** بعصى السحر واليد البيضاء

بزمان للطب والسحر منه*** أثر بالغ شديد المضاء

وأتانا محمد بكتاب*** قصرت عنه ألسن الخطباء

قال للمسين تحدث بعدي*** فتنة كالفياهب السوداء

واتباع القرآن ينجى رشاداً*** وهدى من ضلالة الأهواء

هو حبل الله المتين اعتصاماً*** ونجاة في ساعة الابتلاء

ليس من خلفه وبين يديه*** باطل يعتريه طول البقاء

فعليكم بالأخذ فيه لتنجوا*** وعليكم بسيد الأوصياء

وقال أيضاً في إعجاز أسلوبه وأغراضه وحروفه وإخباره بقصص القدماء، وإخباره بالمغيبات، وكذلك الاقتباس منه وعدم التناقض والاختلاف فيه، وكونه عرفاني ونظام إلى العالم أجمع وانه يمتاز بخواص عجيبة وفي ان قراءته تعطي الانسان كثرة الحفظ كما تحفظ له رؤية العين بما يعتريها من ظلمة، وإليك ما قاله هذا الحكيم العارف فيما يلي :

معجز خارق وذكر عليّ*** خالد الذكر في سماء العلاء

تخلُق المعجزات وهو جديد*** عابق النشر في حقول البقاء

قد تعالى حتى استطال كمالاً*** وجلالاً في ذروة الاعتلاء

ص: 241

في جمال الأسلوب والنظم منه*** سمو الأغراض والارتقاء

وانسجام مع الجزالة في اللفظ*** وحسن التركيب والانتقاء

فتسامى أفقاً لعلم المعاني*** وبديع البيان رحب الفضاء

ليس بالمستطاع أن يبلغوه*** هُمُ من فطاحل البلغاء

وهو معنى الإعجاز فيه بحق*** هو مختار أكثر العلماء

وتجلى للمرتضى فيه رأي*** مستقل عن معظم الآراء

قال انّ الإتيان بالمثل أمر*** ممكن للورى بدون إباء

غير أن الإتيان بالمثل عنه*** صرف الله أنفس الفصحاء

وهو معنى منه أجلّ وأجلى*** ما ذكرناه آنفاً بجلاء

***

وأبان الأعلام فيه وجوهاً*** من معانى الاعجاز بعد الخفاء

وهي أن القرآن ألف لفظاً ***كلّ ما فيه من حروف الهجاء

ومعروف المقطعات نهداً*** فيه اشارت نقلا عن الامنا

وهمُ قادرون من شعراء*** ألفوها نظماً ومن خطباء

أن يجيدوا الكلام منها بياناً*** فيجاروا القرآن دون عناء

فلماذا لم يستطيعوا وطه*** حداهم بغير انتهاء

ليس إلا للعجز عنه قصوراً*** في مباراة خاتم الأنبياء

***

إنّ هذا القرآن قص علينا*** قصص الأنبياء والقدماء

مثل إخباره بقصة أهل*** الكهف منهم عن فتية أولياء

وأمور ما كان يقلم فيها*** في عصور تصرّمت بانقضاء

غير بعض الأحبار منهم وقسم*** من عيون الرهبان والنقباء

وهم يحرصون كانوا عليها*** وهي كانت محجوبة بغساء

ص: 242

مع أن النبي ما كان يُجرى*** معهم أي رؤية والتقاء

وهم عاجزون عن مثل هذا*** بعد جهل بهذه الأنباء

* **

وكثيراً ما كان يخبر فيهم*** عن خفايا صدور أهل الرياء

وأمور مغيّبات عليهم*** وقعت بعد فترة الاختفاء

کدخول الإسلام مكّة آمنا*** ومعاد النبي بعد الجلاء

بعد نصر منه وفتح مبين*** وسواها من كائنات القضاء

وهم قاصرون عن علم هذا*** وهو عل من وحى ربّ السماء

***

وهو يمتاز عن سواه ارتفاعاً*** من كلام الأفذاذ والحكماء

حيث لو رصع الكلام اقتباساً*** منه أضحى في منتهى الإرتقاء

وتسامى على سواه جمالاً*** من نسيج الكتاب والشعراء

وهو لولا السمو ما اقتبسوه*** بعد عجز عن أفقه المتنائي

***

وغريب الأسلوب والنظم منه*** وجمال المعنى ولطف الصفاء

ليس فيه تناقض واختلاف*** في المعاني وفي بديع البناء

والتراكيب قوّةً بعد ضعف*** مع طول فيه بدون جفاء

وهو للعلم والإحاطة منه*** وهو عن هذه العوارض نائي

والكلام الطويل لابد فيه*** حين يجري بألسن الأدباء

من فضول يعيبه واختلافِ*** في معانيه عند وقت الأداء

لوقوع النسيان والسهو فيه*** وعروض الأغلاط والأخطاء

وهو سرّ الإعجاز لفظاً ومعنىً*** فيه بعد الإعجاز للبلغاء

ولسان القرآن الله يهدي*** بعد تبيان منهج الاهتداء

ص: 243

وكمال العرفان للذات منه*** وجليل الصفات والأسماء

وهو ممّا قد قصّرت بعد عجز*** عنه علماً مدارك العلماء

وتفشى عنه عمىً كلّ عقل*** ثاقب من فطاحل الحكماء

فهو أفق من العلا مستطيل*** ومنارٌ من الهدى متنائي

***

والكتاب الكريم خير كيان*** البناء الحياة دون عناء

ودليل مؤمن للبرايا*** ما استطلوا من عدله بلواء

وصلاح البلاد دون فساد*** لشؤون العباد طول البقاء

ويد للمعاش دون اختلال*** وهدى للمعاد دون شقاء

ونظام يحوي الشرائع رشداً*** ويقيم الآداب بعد العطاء

رافع للنزاع في كلّ أمر*** تقتضيه معاشرات الإخاء

وصنوف المعاملا جميعاً*** وحدود التأديب في الاعتداء

وحلال وحرمة في القضايا*** وجميع الأحكام عند القضاء

وسواها من كلّ أمرٍ مقيم*** لحياة الإنسان عند البناء

مع عجز العباد عن وضع شرع*** مستقيم في البدء والانتهاء

مثل هذا القرآن وهو صلاح*** ودواء يُشفى به كل داء

***

هو نور الله المنزل ذكراً*** للورى منه بالهدى والضياء

حكم للعقول دون هداها*** حِكَم المرشدين والحكماء

سور كرّمت وآي تلتها*** كلمات تقدّست بالثناء

بوركت بالخواص نفعاً ودفعاً*** للورى في سعادة وشقاء

هي عند التعليق والحمل والخط*** غياث مُنج وعند الدعاء

وهي برؤ الأرواح من كل داء*** ولسقم الأجسام خير دواء

ص: 244

ولرفع الوسواس خير معاذ*** وملاذ لدفع كل بلاء

ولحفظ الانسان من كلّ شيء*** عند كيد الشيطان خير وقاء

وأمان من كل خوف ودرع***تتقى فيه سطوة الأعداء

وسوى هذه الخصائص كثر*** فتتبع مواقع الاهتداء

فهو نورٌ ورحمة وأمان*** وشفاء للناس أيّ شفاء

***

قال طه قراءة الذكر تعطي*** كثرة الحفظ سائر القرّاء

وهي حفظ لرؤية العين ممّا ***يعتريها من ظلمة الإغماء

ويخفّ العذاب عن والديه*** وهما كافران عند الدعاء

وهي تحيي القلب الذي هو ميتُ*** وهي تنهى عن سائر الفحشاء

وهي في مصحف الهدى حين تتلى*** رؤيةً من عبادة الأولياء

إنّ بيتاً يتلى به الذكر فيه*** برکات تفيض من نعماء

تتنائى عنه الشياطين طرداً*** من دنو الملائك الأمناء

وهو كالكواكب المضيء من الأر*** ض شعاعاً يزهو لأهل السماء

كلّ حرف يتلوه يعطى عليه*** حسنات عشراً بيوم العطاء

عنه تمحى عشر وتكتب عشر*** إن تلا منه آيةً باختشاء

ليس في الغافلين يكتب مهما*** قال عشراً منها بكل عشاء

عُدّ في الذاكرين خمسين منها*** حين يتلو في ساعة الإحصاء

ومن القانتين إن كان يتلو*** مئةً في تضرّع وبكاء

درجات الجنان للمرء تعطى*** بحساب القرآن في الإعتلاء

فازق مهما قرأت في درجات*** تتبارى في عالم الإرتقاء

* * *

لا يصاب القرآن بالرأي ظنّاً*** من عقول الرجال دون اهتداء

ص: 245

ضل من أول الكتاب برأي*** دون علم بماله من خفاء

أفسد الحكمة الصحيحة منه*** وأصاب الصواب بالأخطاء

وافترى عامداً على الله كذباً*** وضلالاً بأعظم الإفتراء

قال طه ثلاثة تمحق الدين*** وتمحو آثاره بالعناء

هو كفر التشبيه الله جهلاً*** والتباساً بخلقه المترائي

وقياس الأحكام من دون علم*** بالخفايا في ظاهر الأشياء

وظهور التفسير من دون وعي*** لعلوم القرآن بالآراء

إنّ هذا القرآن للحق يهدي*** كلّ سارِ بمنهج الإستواء

قائد للجنان خير هداة ***وضعوه أمامهم باقتداء

وهو للنار قائد کل باغ ***جبروت ألقى به للوراء

وهو الشاهد المصدّق عدلاً ***يوم يؤتى بسائر الشهداء

وهو الشافع المشفع فيمن*** عملوا فيه عند يوم الجزاء

وهو بحر من العلوم عميق*** ليس يدنى لغوره برشاء

وهو نور مبارك ليس ترقی*** لعلاه مدارك العقلاء

وهو سرّ مقدس تصطفيه ***حين يوحي ضمائر الأمناء

فخذوه من أهله آل طه*** معدن الوحي عترة الأنبياء

وهم الراسخون في كلّ علم*** من بنيه وأفضل العلماء

فهم للكتاب خير عديل***بعد طه وأكرم القرناء

إنّ من أنزل الكتاب عليه***هو أدرى بما به منقضاء

والحاصل : انّ النبي هو المبعوث للعباد المكلفين وهو المخبر عن الله عزّ وجل حيث إنّ الله تعالى قد ألزم نفسه بعدله أن يبعث الرسل لإتمام الحجة على المكلّفين فهو يجب عليه من باب الحكمة والعدل بعث الرسل كما جعل مناط التكليف بالعقل وهو الرسول الباطني فلابد من الرسول الظاهري، إذ الرسول

ص: 246

الباطني لا يتوصل لإدراك الأحكام بتفاصيلها ، فلهذا بعث الله تعالى رسولاً في كل زمان لإتمام الحجة على المكلفين ولطفاً منه تعالى شأنه .

والنبوة مع حسنها مقربة للطاعة ومبعدة للعبد عن المعصية وفيها نظام العالم في المعاش والمعاد، وهي الحجة البالغة على المكلفين .

قال مولانا الشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليه : البعثة حسنة لاشتمالها على فوائد كمعاضدة العقل فيما يدلّ عليه، واستفاد الحكم فيما لا يدلّ وإزالة الخوف واستفادة الحسن والقبائح والمنافع والمضار وحفظ النوع الانساني وتكميل أشخاصه بحسب استعداداتهم المختلفة وتعليمهم الصنائع الخفية والأخلاق والسياسات والاخبار بالعقاب والثواب فيحصل اللطف للمكلف.

وقال بعض العلماء: وحسن البعثة لا ينكر وعليه كافة المسلمين بل والمليين وجملة من الفلاسفة، وبه تتم الحجة، وهو معلم للعقل الثاني، ومبين للحلال والحرام، ومفصل للفرائض والأحكام ، وممهد سبل الرشاد للأنام، وقد كملت الحجة من الله تعالى ببعث الرسل والأنبياء في كل عصر ومصر.

وقد سلح الله تعالى كل نبي بالمعاجز الخارقة للعادة الدالة على عظمته وعلو قدره ونبوته ، وخاتم الأنبياء والمرسلين هو محمد بن عبد الله (صلی الله علیه وآله وسلم)قد أرسله الله تعالى إلينا معززاً بالقرآن الكريم الذي هو آية المعاجز وأعظمها الدالة على نبوته .

قال أمين الاسلام شيخنا أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي رضوان الله عليه ، انّ المعجزات الظاهرات لنبينا العظيم عقيب البعث وإظهار النبوة ضربان أحدهما هذا القرآن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى وأيده به والآخر غيره من المعجزات.

فوجه الاستدلال من القرآن الكريم ان كل عاقل سمع الأخبار وخالط أهلها قد علم ظهور نبوة نبينا عليه وآله الصلاة والسلام وادعاءه الرسالة من الله إلينا وانه تحدّى العرب بهذا القرآن العظيم مع تطاول الأزمان لم يعارضوه لتعذر المعارضة

ص: 247

عليهم، فهذا التعذر معجز خارق للعادة ،فأما الذي يدلّ على أنه(صلی الله علیه وآله وسلم) تحدى بالقرآن فهو انّ المراد بالتحدي انه كان يدعي أن جبرئيل يهبط عليه بذلك وأن الله سبحانه قد أبانه به ، وهذا معلوم ضرورة وهو غاية التحدّي في المعنى.

وقال بعد كلام تركناه للاختصار : وأما المعاجز الدالة على نبوته التي هي سوى القرآن فكثيرة أثبتنا متونها وحذفنا أسانيدها لاشتهارها بين الخاص والعام وإليك بعضها :

المعجزة الأولى:مجیء الشجرة إليه ذكرها أمير المومنين عليه الصلاة (صلی الله علیه وآله وسلم) والسلام في خطبته القاصمة قال : لقد كنت معه(صلی الله علیه وآله وسلم) لما أتاه الملأمن قريش فقالوا له : يا محمد انك قد ادعيت عظيماً لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب.

فقال لهم(صلی الله علیه وآله وسلم) : وما تسألون ؟

قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك.

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) : ان الله على كل شيء قدير، فإن فعل ذلك بكم تؤمنون وتشهدون بالحق ؟ قالوا : نعم .

قال : فإني سأريكم ما تطلبون واني لأعلم انكم لا تفيئون الخير، وان فيكم من يطرح في القليب ومن يحزب الأحزاب ، ثم قال(صلی الله علیه وآله وسلم) : أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله ، والذي بعثه بالحق لقد انقلعت تلك الشجرة بعروقها وجاءت لها دويّ شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) مرفرفة وألقت بغصنها الأعلى على رأس رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وببعض أغصانها على منكبي وكنت عن يمينه(صلی الله علیه وآله وسلم) ، فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علواً واستكباراً : فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك فأقبل اليه نصفها كأعجب إقبال وأشده دويّاً ، فكادت

ص: 248

تلتف برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فقالوا كفراً وعتوا فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه، فأمره(صلی الله علیه وآله وسلم) فرجع فقلت أنا : لا إله إلا الله فاني أول مؤمن بك يا رسول الله وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تصديقاً بنبوتك وإجلالاً لكلمتك ، فقال القوم : بل ساحر كذاب عجيب السحر خفيف فيه وهل يصدقك في أمرك غير هذا ؟ يعنونني . قال الفرطوسي:

واقتلاع الأصول بعد ثبات*** ورسوخ للأيكة الخضراء

حين سارت وللمسير أزير*** ودوي في سرعة الاسراء

وقفت كالأسير بين يديه*** ثم عادت مكانها للوراء

المعجزة الثانية : خروج الماء بين أصابعه، وذلك انهم كانوا معه في سفر فشكوا أن لا ماء معهم وأنّهم بمعرض التلف وسبيل العطب، فقال : كلّا معي ربي عليه توكلت ثم دعا بركوة فصب فيها ماء ما كان ليروي ضعيفاً وجعل يده المباركة فيها ، فتبع الماء من بين أصابعه فصيح في الناس فشربوا وسقوا حتى نهلوا وعلوا وهم العرف وهو يقول : أشهد أني رسول الله حقاً .

قال الفيلسوف الشيخ حسن الدمستاني البحراني في الأبيات المتقدم ذكرها في أول الجلسة المباركة :

وحن جذع يابس إليه*** وفاض عذب الماء من يديه

المعجزة الثالثة : حنين الجذع الذي كان يخطب عنده صلوات الله عليه وذلك أنه كان في مسجده بالمدينة يستند إلى جذع فيخطب الناس ، فلما كثر الناس اتخذوا له منبراً ، فلما صعده حنّ الجذع حنين الناقة فنزل رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فضمه اليه فكان

يئن أنين الصبي الذي يسكت.

قال الحكيم الفرطوسي :

وحنين الجذع الذي من قديم*** كان يرقاه سيد الفصحاء

حين يلقى الخطاب فاستبدلوه*** بعد هذا بمنبر الخطباء

ص: 249

المعجزة الرابعة : حديث شاة أم معبد، وذلك ان النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) لما هاجر من مكة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهم عبدالله بن أريقط الليثي فمروا على أمّ معبد الخزاعية وكانت امرأة برزة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة فسألوا تمراً ولحماً ليشتروه فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك وإذا القوم مرملون ، فقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، فنظر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) في كسر خيمتها فقال : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ قالت : شاة خلفها الجهد عن الغنم.

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) : هل بها لبن ؟ قالت : هي أجهد من ذلك .

قال : أتأذنين لي أن أحلبها ؟

قالت: نعم بأبي أنت وامي إن رأيت بها حلباً فاحلبها، فدعا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بالشاة فمسح ضرعها بيده الشريفة المباركة وقال(صلی الله علیه وآله وسلم) : اللهم بارك في شاتها ،فتفاجت ودرت فدعا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) بإناء لها يريض الرهط فحلب فيه تجاً حتى علته الثمال فسقاها فشرب حتى رويت ثم سقى أصحابه فشربوا حتى رووا فشرب(صلی الله علیه وآله وسلم) آخرهم وقال : ساقي القوم آخرهم شرباً، فشربوا جمعياً علا بعد نهل حتى أراضوا، ثم حلب فيه (صلی الله علیه وآله وسلم) ثانياً عوداً على بدء فغدوا عندها ثم ارتحلوا منها فقلّما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق عنزاً عجافاً هزلاً، فلما رأى اللبن قال : من أين لكم هذا والشاة عازب ولا حلوبة في البيت ؟ فقالت له أم معبد : لقد مرّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت الخبر بطوله .

قال الحكيم الفرطوسي :

واستفاضت لأم معبد منه*** برکات بالخير والنعماء

قد أتاها والشاة غير حلوب ***حبستها لضعفها بالفناء

مسح الضرّ في يديه فدرت*** لبناً سائقاً كريم الغذاء

المعجزة الخامسة : خبر سراقة بن جشم الذي اشتهر في العرب يتقاولون فيه الأشعار ويتفاوضونه في الديار انه تبعه وهو متوجه إلى المدينة طالباً لفريته ليحضى

ص: 250

بذلك عند قريش حتى إذا أمكنته الفرصة في نفسه وأيقن إن ظفر ببغيته ساخت قوائم فرسه حتى تغيبت بأجمعها في الأرض وهو بموضع جدب وقاع صفصف فعلم انّ الذي أصابه سماوي فنادي : يا محمد ادع ربك يطلق لي فرسي وذمة الله على أن لا ادل عليك أحداً ، فدعا له فوتب جواده كأنه أفلت من انشوطة وكان رجلاً داهية وعلم بما رأى انه سيكون له نبأ ، فقال : اكتب لي أماناً ، فكتب له وانصرف .

قال محمد بن إسحاق : أن أبا جهل قال فى أمر سراقة أبياتاً فأجابه سراقة:

أبا حكم والله لو كنت شاهداً ***لأمر جوادي ان تسيخ قوائمه

علمت ولم تشكك بأن محمداً*** نبي ببرهان فمن ذا يكاتمه

عليك بكفّ الناس عنه فانني*** أرى أمره يوماً ستبدو معالمه

المعجزة السادسة : حديث الغار وانه عليه وآله الصلاة والسلام لما أوى إلى غار بقرب مكة يعتوره النزال ويأوي اليه الرعاء متوجه إلى الهجرة، فخرج القوم في طلبه فعمى الله أثره وهو نصب أعينهم وصدهم عنه وأخذ بأبصارهم دونه وهم دهاة العرب، وبعث سبحانه العنكبوت فنسجت في وجه النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) فسترته وآيسهم ذلك من الطلب فيه، وفي ذلك يقول السيد الحميري في قصيدته المعروفة بالمذهبة :

حتى إذا قصدوا لباب مغارة*** ألقوا عليه نسيج غزل العنكب

صنع الاله له فقال فريقهم*** ما في الغار لطالب من مطلب

ميلوا وصدهم المليك ومن يرد***عنه الدفاع مليكه لم يعطب

وبعث الله حمامتين وحشيّتين فوقعتا بفم الغار ، فأقبل فتيان قريش من كلّ بطن رجل بعصيهم وهراوهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)بقدر أربعين ذراعاً، فعجل رجل منهم لينظر من في الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا له: مالك لا تنظر فى الغار ؟

فقال : رأيت حماماً بفم الغار فعلمت أن ليس فيه أحد، وسمع النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)ما

ص: 251

قال، فدعا لهن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)وفرض جزاء هن فانحدرت في الحرم.

وقد قال فيه وفي حديث سراقة المتقدم شيخنا الحكيم الفرطوسي عليه رضوان الله :

ونسيج العنكبوت عجيب*** فوق غار يحويه للاختفاء

وبلايا سراقه من نوايا*** بالنبي الكريم عند اللقاء

كان ينوى بأن يدلّ قريشاً***بمكان النبي في الصحراء

حين غاص الجواد فيه فنادى ***مستغيثاً ورد بعد التجاء

المعجزة السابعة : كلام الذئب، وذلك انّ رجلاً كان فى غنمه يرعاها فأغفلها سويعة من نهاره فعرض ذئب فأخذ منها شاة، فأقبل يعدو خلفه فطرح الذئب الشاة، ثم كلمه بكلام فصيح فقال : تمنعني رزقاً ساقه الله إليّ ؟

فقال الرجل: يا عجباً الذئب يتكلم فقال : أنتم أعجب وفي شأنكم للمعتبرين عبرة ، هذا محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) يدعو إلى الحق ببطن مكة وأنتم عنه لا هون فأبصر الرجل رشده وأقبل حتى أسلم وأبقى لعقبه شرفاً لا تخلقه الأيام يفخرون به على العرب والعجم يقولون : إنا بنو مكلم الذئب.

قال الفرطوسي :

ومقال الذئب الفصيح لن أعجب*** من نطقه لدى البيداء

إنّ قوم النبي أعجب مني*** عند تكذيب خاتم الأنبياء

المعجزة الثامنة : كلام ،الذراع وهو انه أوتي بشاة مسمومة أهدتها له(صلی الله علیه وآله وسلم) امرأة من اليهود بخيبر وكانت سألت أي شيء أحب إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) الشاة ؟من فقيل لها : الذراع، فسمّت الذراع فدعا(صلی الله علیه وآله وسلم) أصحابه إليه فوضع يده الشريفة ، ثم قال : ارفعوا فإنّها تخبرني بأنها مسمومة ، ولو كان ذلك لعلة الارتياب باليهودية لما قبلها بدءاً ولا جمع عليها أصحابه(صلی الله علیه وآله وسلم) ، وقد كان(صلی الله علیه وآله وسلم) تناول منها أقل شيء قبل أن كلمته وكان يعاوده كل سنة حتى جعل الله ذلك سبب الشهادة، وكان ذلك باباً من

ص: 252

التمحيص ليعلم أنّه مخلوق . قال الفرطوسي :

وكلام الذراع اني سميم*** في يديه وجاء بالإهداء

المعجزة التاسعة : أن أصحابه صلوات الله عليه و آله أرملوا وضاق بهم الحال وصاروا بمعرض الهلاك لفناء الأزواد يوم الأحزاب فدعاه رجل من أصحابه إلى طعامه فاحتفل القوم معه فدخل وليس عند القوم إلّا قوت رجل واحد أو رجلين فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) : غطوا إناءكم ، ثم دعا وبرك عليه وقدمه والقوم ألوف فأكلوا وصدروا كأن لم يسغبوا قط شباعاً ورواء، والطعام بحاله لم يفقدوا شيئاً.

المعجزة العاشرة : انه(صلی الله علیه وآله وسلم)قد اجتمع إليه فقراء قومه وأصحابه في غزوة تبوك وشكوا الجوع فدعا(صلی الله علیه وآله وسلم) بفضلة زاد لهم فلم يوجد لهم إلا بضع عشرة تمرة وطرحت بين يديه، فاحتفل القوم فوضع الله الله يده المباركة عليها وقال : كلوا بسم الله ، فأكل القوم حتى شبعوا وهي بحالها يرونها عياناً .

صلى المعجزة الحادية عشر : انه(صلی الله علیه وآله وسلم) ورد في هذه الغزاة على ماء لا يبل حلق واحد والقوم عطاشى فشكوا ذلك إليه فأخذ سهماً من كنانة فدفعه إلى رجل من أصحابه، ثم قال له : انزل فاغرزه في الركي، فنزل فغرزة فيه ففار الماء وطما إلى أعلى الركي فارتوى القوم للمقام والظعن وهم ثلاثون ألفاً ورجال من المنافقين حاضر و الأبدان غائبو العقول .

المعجزة الثانية عشر : انه(صلی الله علیه وآله وسلم) قد كلمته ظبية حين وقعت في شبكة فقالت: يا رسول الله إن لي طفلاً يحتاج إلى لبن وإني قد وقعت في هذه الشبكة فخلّني حتى أرضعه.

فقال (صلی الله علیه وآله وسلم): كيف أخليك وصاحب الشبكة غائب ؟

قالت: إني أرجع فخلاها وجلس حتى رجعت الظبية وجاء صاحبها فشفع رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)حتى خلى سبيلها ، فاتخذ القوم من ذلك الموضع مسجداً .

المعجزة الثالثة عشر : ان قوماً شكوا إليه (صلی الله علیه وآله وسلم)ملوحة مائهم وانهم في جهد

ص: 253

من الظماء وبعد المياه وأن لا قوة لهم على شربه فجاء معهم في جماعة من أصحابه حتى أشرف على بئرهم فتفل (صلی الله علیه وآله وسلم)فيها ، ثم انصرف وكانت مع ملوحتها غائرة ، فانفجرت بالماء العذب الفرات فها هي يتوارثها أهلها ويعدونها أسنى مفاخرهم وأجل مكارمهم وأنّهم لصادقون وكان مما أكد الله به صدقه، ان قوم مسيلمة سألوه مثلها لما بلغهم ذلك فأتى بئراً فتفل فيها فغارت ماؤها ملحاً أجاجاً كبول الحمير وهي إلى اليوم بحالها معروفة الأهل والمكان.

المعجزة الرابعة عشر : انه(صلی الله علیه وآله وسلم)، أتته امرأة بصبي لها ترجو البركة بأن يمسه ويدعو له وكانت به عاهة فرحمها - والرحمة صفته (صلی الله علیه وآله وسلم) - فمسح يده المباركة على رأس الصبي فاستوى شعره وبرىء داءه وبلغ ذلك أهل اليمامة فأتت مسيلمة امرأة بصبي لها فمسح يده على رأسه فصلع وبقي نسله إلى يومنا هذا صلعاً. المعجزة الخامسة عشر : ان قوماً من عبد القيس أتوه(صلی الله علیه وآله وسلم)بغنم لهم فسألوه أن يجعل لها علامة يذكر بها، فعمر إصبعه المباركة في أصول آذانها فابيضّت فهي إلى اليوم معروفة النسل ظاهرة الأمر .

المعجزة السادسة عشر : حديث الاستسقاء وان أهل المدينة مطروا حتى أشفقوا من خراب دورها وانهدام بنيانها ، فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): اللهم حوالينا ولا علينا ،فانجاب السحاب عن المدينة وأطاف حولها مستديراً كالإكيل والشمس طالعة في المدينة والمطر يهطل على ما حولها يرى ذلك ظاهراً مؤمنهم وكافرهم، فضحك رسول الله له حتى بدت نواجذه وقال الله درّ أبي طالب لو كان حياً قرت عيناه، من ينشدنا قوله ؟فقام أميرالمؤمنين فقال : يا رسول الله كأنك أردت قوله :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه*** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يطوف به الملاك من آل هاشم*** فهم عنده في نعمة وفواضل

المعجزة السابعة عشر :انه(صلی الله علیه وآله وسلم) أخذ يوم بدر ملأ كفه من الحصاة فرمى بها وجوه المشركين وقال : شاهت الوجوه، فجعل الله سبحانه لتلك الحصاة شأناً عظيماً

ص: 254

لم يترك من المشركين رجلاً إلا ملأت عينيه، وجعل المسلمون والملائكة يقتلونهم ويأسرونهم ويجدون كل رجل منهم منكبّاً على وجهه لا يدري أين يتوجه يعالج التراب بنزعه من عينيه .

المعجزة الثامنة عشر : أمر ناقته حين افتقدت فارتجف المنافقون وقالوا : ينبئنا بخبرالسماء وهو لا يدري أين ناقته ، فلما خاف صلوات الله عليه وآله على المؤمنين وساوس الشيطان دلّهم عليها ووصف لهم حالها والشجرة التي هي متعلقة بها، فأتوها فوجدوها كما وصف.

المعجزة التاسعة عشر : ان القمر قد انشق له(صلی الله علیه وآله وسلم)بنصفين بمكة في أول مبعثه(صلی الله علیه وآله وسلم)وقد نطق به القرآن ، وقد صح عن عبدالله بن مسعود انه قال: انشق القمر حتى صار فرقتين فقال كفار أهل مكة : هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة انظروا السفار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق وإن كانوا لم يروا ما رأيتم فهو سحر سحر كم به، قال : فسئل السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا رأيناه استشهد البخاري في الصحيح بهذا الخبر بأنّ ذلك كان بمكة .

قال الحكيم الفرطوسي له :

وكفانا منها على وجلالا*** قمر الأفق من عنان السماء

حين أومى فانشق نصفين حتى*** بان للناظرين دون خفاء

المعجزة العشرون :انّ رجلاً من أصحابه أصيب بإحدى عينيه في بعض مغازيه فسالت الدم حتى وقعت على خدّه فأتاه مستغيثاً به فأخذها فأخذها بيده المباركة فردها مكانها فكانت أحسن عينيه وأصحها وأحدّها نظراً.

المعجزة الحادية والعشرون: أن أبا براء ملاعب الأسنّة كان به استسقاء فبعث إليه لبيد بن ربيعة وأهدى له فرسين ونجائب ، فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): لا أقبل هدية مشرك ، قال لبيد : وما كنت أرى أن رجلاً من مضر يرد هدية أبي براء، فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): لو كنت قابلاً هدية مشرك ، لقبلتها ، قال : فإنه يستشفيك من علة أصابته في بطنه، فأخذ بيده

ص: 255

المباركة حثوة من الأرض فتفل عليها ثم أعطاه وقال : دفّها بماء ثم اسقه إياه، فأخذها متعجباً يرى أنّه قد استهزاً ،به فأتاه فشربه وأطلق من مرضه كأنما أنشط من عقال .

المعجزة الثانية والعشرون : شكوى البعير إليه عند رجوعه إلى المدينة من غزاة بني ،ثعلبة ، فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): أتدرون ما يقول هذا البعير ؟

قال :جابر : قلنا : الله ورسوله أعلم .

قال : فإنه يخبرني ان صاحبه عمل عليه حتى إذا أكبره وأدبره وأهزله أراد نحره وبيعه لحماً ، يا جابر، اذهب معه إلى صاحبه فأتني به.

قال : قلت : والله ما أعرف صاحبه . قال : هو يدلك .

قال: فخرجت معه حتى انتهيت الى بني حنظلة أو بني واقف قلت : أيكم صاحب هذا البعير ؟ قال بعضهم : أنا .

قلت : أجب رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، فجئت أنا وهو والبعير الى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، فقال : بعيرك هذا يخبرني بكذا وكذا . قال : قد كان ذلك يا رسول الله ، قال : فبعينه ، قال : هو لك .

قال : بل بعنيه ، فاشتراه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ثم ضرب على صفحته فتركه يرعى ثم في ضواحي المدينة ، فكان الرجل منا إذا أراد الروحة والغدوة منحه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).

قال جابر: فرأيته وقد ذهبت دبرته ورجعت إليه نفسه.

المعجزة الثالثة والعشرون :انّ أبا جهل عاهد الله أن يفضخ رأسه(صلی الله علیه وآله وسلم) بحجر إذا سجد في صلاته، فلما قام رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يصلي وسجد وكان إذا صلّى بين الركنين : الأسود واليماني وجعل الكعبة بينه وبين الشام احتمل أبوجهل الحجر ، ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع متغيراً لونه مرعوباً ، قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده وقام إليه رجال من قريش فقالوا : ما لك يا أبا الحكم ؟

قال : عرض لي دونه فحل من الإبل ما رأيت مثل هامته وقصرته ولا أنيابه

ص: 256

لفحل قطّ فهم أن يأكلني.

المعجزة الرابعة والعشرون : ان أبا جهل اشترى من رجل طارىء بمكة إبلاً فبخسه أثمانها ولوا بحقه فأتى الرجل نادى قريش مستجيراً بهم وذكرهم حرمة البيت فأحالوه على النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)استهزاء به ، فأتاه مستجيراً به، فمضى معه ودق الباب على أبي جهل فعرفه فخرج مبهوت العقل ، فقال : أهلاً بأبي القاسم ، فقال له : أعط هذا حقه .

قال : نعم، فأعطاه من فوره ، فقيل له في ذلك، فقال : إني رأيت ما لم تروا، رأيت والله على رأسه تنيناً فاتحاً فاه والله لو أبيت لألتقمني.

المعجزة الخامسة والعشرون : ما روته أسماء بنت أبي بكر قالت: لما نزلت ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وهي تقول: مدمما أبينا، ، ودينه قلينا، وأمره عصينا ، والنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)جالس في المسجد ومعه أبوبكر ، فلما رآها أبوبكر قال : يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك.

قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): لن تراني، وقرأ قرآناً فاعتصم به كما قال وقرأ: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ﴾ فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)،فقالت :يا أبا بكر أخبرت ان صاحبك هجاني، فقال : لا ورب البيت ما هجاك، فولت وهي تقول: قريش تعلم أني بنت سيدها. المعجزة السادسة والعشرون :عن أبي صالح، عن ابن عباس أن ناساً من بني مخزوم تواصوا بالنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)ليقتلوه ، منهم : أبو جهل والوليد بن المغيرة ونفر من بني مخزوم، فبينما النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)قائم يصلي إذ أرسلوا إليه الوليد ليقتله، فانطلق حتى انتهى إلى المكان الذي كان يصلّي فيه، فجعل يسمع قراءته ولا يراه، فانصرف إليهم فأعلمهم ذلك، فأتاه من بعده أبو جهل والوليد ونفر منهم، فلما انتهوا إلى المكان الذي يصلّي فيه سمعوا قراءته وذهبوا إلى الصوت، فإذا الصوت من خلفهم فيذهبون إليه فيسمعونه أيضاً من خلفهم فانصرفوا ، ولم يجدوا إليه سبيلاً، فذلك قوله تعالى :

ص: 257

﴿وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون﴾.

المعجزة السابعة والعشرون : انه (صلی الله علیه وآله وسلم)كان في غزاة الطائف ومسيره ليلاً على راحلته بوادي بقرب الطائف يقال له : (نجيب) ذو شجر كثير من سدر وطلح ، فغشى وفي وسن النوم في سواد الليل فانفرجت السدرة له بنصفين، فمرّ بين نصفها وبقيت السدرة منفرجة على ساقين إلى زماننا هذا، وهي معروفة مشهور أمرها هناك وتسمّى شجرة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم). أورده الشيخ أبو سعيد الواعظ في كتاب شرف النّبي .

المعجزة الثامنة والعشرون: بركت ناقته(صلی الله علیه وآله وسلم)بباب أبي أيوب. قال الفرطوسي:

وأتت ناقه النبي أبا أيوب*** حتى حطت بخير فناء

وهي مأمورة بما فعلته*** وهو قد كان أضعف الفقراء

المعجزة التاسعة والعشرون : وصيّته بالقبط عند فتح مصر . قال الفرطوسي:

وهو أوصى بالقبط في فتح مصر*** ليصانوا من الأذى والبلاء

مؤذناً بالفتوح عهداً فعهداً*** حين تجرى في اكثر الأنحاء

مخبراً عن عصا الكليم وبردى*** إيليا في خزانة الاقتناء

المعجزة الثلاثون : العوسجة المباركة. قال الفرطوسي:

«وربيع الأبرار» يروى فيروى*** کل نفس ظمآنة برواء

حين مج النبي من فيه ماء*** في أصول قد بوركت بالماء

فازدهرت بالنمو عوسجة الدار*** وأعطت ثمارها بنماء

وهى أحلى ذوقاً وأشهى من الشهد*** وأعلى أراكة خضراء

لا يعود السقيم إلا سليماً*** من حماها مزوّداً بالشفاء

واستمرت حتى توفي طه*** فتهاوت ثمارها بارتماء

واستحالت أوراقها الصفر شوكاً*** عند فقدان سيد الأوصياء

ثم سالت دماً عبيطاً وماتت*** عند قتل الحسين في كربلاء

المعجزة الحادية والثلاثون : رجوع بصر أم أيوب. قال الفرطوسي :

ص: 258

فأتت أمه ابتهاجاً لطه ***وهي عمياء تزدهي بالهناء

بركات النّبي فاضت عليها*** يوم وافى فبوركت بالشفاء

حین مست بكفّه مقلتاها*** فرأت نور وجهه الوضاء

أقول : هذا قليل من كثير مما ذكره المحدثون في كتبهم من معجزاته(صلی الله علیه وآله وسلم)التي لا يمكن لنا ن نأتي على آخرها في جلسة واحدة لو أردنا ذلك لكنّا نحتاج في ذكرها الى عدة جلسات.

قال أمين الاسلام: وأما آياته صلوات الله عليه وآله، في إخباره بالغائبات والكوائن بعده فاكثر من أن تحصى وتعد . ثم نقل أيضاً شيئاً يسيراً منها يمكننا تلخيص ما نقله فيما يلي :

الأولى : ما روي عنه(صلی الله علیه وآله وسلم)في معنى قوله تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ وهو ما رواه أبي بن كعب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب.

الثانية : روى بريدة الأسلمي أنه(صلی الله علیه وآله وسلم)، قال : ستبعث بعوث فكن في بعث يأتي خراسان ثم اسكن مدينة مرو فإنه بناها ذو القرنين ودعا لها بالبركة وقال :

لايصيب أهلها سوء.

الثالثة : قوله(صلی الله علیه وآله وسلم) فيما رواه شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم أنّ عائشة لما أتت على الحوأب سمعت نباح الكلاب فقالت : ما أظنني

إلا راجعة ، سمعت النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)، قال لنا : أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب ؟

فقال الزبير : لعلّ الله يصلح بك الناس.

الرابعة : قوله(صلی الله علیه وآله وسلم) الزبير لما لقيه وعلياً(صلی الله علیه وآله وسلم) في سقيفة بني ساعدة فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): أتحبه يا زبير ؟قال : وما يمنعني ؟

قال(صلی الله علیه وآله وسلم) : فكيف بك إذا قاتلته وأنت ظالم لي ؟

ص: 259

قال : بلى ولكنّي نسيت. وقوله أيضاً(صلی الله علیه وآله وسلم)العمار بن ياسر : تقتلك الفئة الباغية : أخرجه مسلم في الصحيح.

الخامسة :عن أبي البختري أنّ عماراً أتي بشربة من لبن فضحك، فقيل له :ما يضحكك؟ قال :إنّ رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أخبرني وقال :هو آخر شراب أشربه حين أموت.

وكذلك قوله(صلی الله علیه وآله وسلم)في الخوارج : ستكون في أمتي فرقة يحسنون القول ويسيؤون العمل، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شي، يقرؤون القرآن لايجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، لا يرجعون إليه حتى يرتد على فوقه هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلوه طوبى لمن قتلهم، ومن قتلهم كان أولى بالله منهم.

قالوا: يا رسول الله فما سيماهم ؟ قال : التحليق .

رواه أنس بن مالك .

السادسة : قوله(صلی الله علیه وآله وسلم)الأمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام : الأمة ستغدر بك بعدي، وإنك تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين.

قال الفرطوسي ولنعم ما قال في معجزات أقواله(صلی الله علیه وآله وسلم) :

وله في المقال آيات صدق*** شوهت بالعيان من كل رائي

وهو علم المغيبات وكشف*** الخبايا سرائر في الخفاء

قال يوماً لطلحة في علي*** والزبير العوام دون افتراء

إنما تخرجان ظلماً عليه*** بعد موتى في البصرة الفيحاء

مخبراً عن كلاب حوأب نبحاً*** حين تبغي عليه أحد النساء

قال في يوم خيبر لعلي*** بطل الفتح سوف أعطي لوائي

وهو أومى له تقاتل بعدي*** فرقة الناكثين عهد الولاء

حين تبلى بالمارقين ضلالا***ً وعمى القاسطين دون اهتداء

ص: 260

وهو أفضى بقتل عمار بغياً*** وعلي والسبط في كربلاء

وأسر الزهراء أنت لحاقاً*** في الموت أوّل الأقرباء

أخبر المسلمين عن ظهر غيب*** وهو فيهم عن مقتل الشهداء

جعفر والشهيد زيد وعبدالله ***في يوم مؤتة بجلاء

واتی آل جعفر ویتاماه*** وعزى الجميع خير عزاء

ولسلمان قال إنك تكسى*** تاج كسرى بعزة واعتلاء

فاكتسى فيه زينة ووقاراً*** عند فتح المدائن العصماء

وهي لا يمكن الإحاطة فيها*** في جميع الأخبار والأبناء

وقال أيضاً روحي فداه في معجزاته ذاته(صلی الله علیه وآله وسلم) المقدسة :

ولطه في ذاته معجزات*** خارقات لعادة الأحياء

كان لا يستبين في الأرض ظلّ*** منه للعين مظلم في الضياء

يتعالى طولاً على كل شخص***معه سائر على الحصباء

ليس يرقاه طائر في مرور*** حين يجري مرفرفاً في الفضاء

وإذا سار في الثرى ظلّته ***حيث يسرى غمامة عن ذكاء

وجميع الأشجار إن مرّ فيها*** بادرت بالسلام عند اللقاء

ويهزّ المهد الذي هو فيه*** في صباه شعاع بدرالسماء

كان كالبدر وجهه حين يبدو*** مستنيراً في الليلة الظلماء

يسمع النطق يقظة ومناماً*** ویری من أمامه والوراء

ليس يستاف غير ما طاب شمّاً*** أنفه من روائح الأشياء

وإذا مج ريقه فوق ماء ***صار كالمسك طيّب الأشذاء

وكأن الأنفاس منه غوال*** مازجت بالشذى كؤوس الرواء

عالم باللغات من كلّ لسن*** فهي تجري بلسنه كالماء

صدره للعلوم بحر محيط*** لا يداني قراره برشاء

ص: 261

بين كتفيه للنبوّة يبدو*** خیر ختم يزهو بأبهى الضياء

يشبع البطن إذ يشدّ عليها*** حجر الجوع من شهي الغذاء

كل ظهر يعلوه لا يعتريه*** هرم بعد سنه المترائي

ينبع الماء بين كفّيه فوراً*** من غصون الأصابع البيضاء

والحصى في يديه ينطق شكراً*** وابتهالاً مسبحاً بالدعاء

وإذا مد رجله في أجاج*** صار عذباً من رقة وصفاء

ليس تبدو الآثار في الرخو منه*** وهي تبدو في الصخرة الصماء

ليس يدنو الذباب قرباً إليه*** فهو عن جسمه المبارك نائي

هذه أيضاً بعض آياته الباهرات في أقواله وفي ذاته الشريفة، وهي تدل أيضاً على نبوته ، وعظيم ،قدره وعلوّ رتبته، ورفيع مكانته السامية عند الله تعالى، بل هو بالواقع بنفسه معجزة وشعلة قدسية سطع ضوئها وسنائها فمزق حالك الظلام .

قال بعض الأدباء :

محمد شعلة قدسية سطعت*** فمزقت بسناها حالك الظلم

له المحامد قد ألقت أزمتها ***من حسن خلق وأخلاق ومن كرم

فاقت شريعته كل الشرائع إذ*** جاءت بحكم حكيم النهج مستقيم

لو كان يدري حمورابي بحكمتها*** ما خط حكماً على الجدران والرخم

لو أن ديكارت لم يألف تعصبه*** ما اختار نهجاً سواها خائر الدعم

مضت عليها قرون وهي صالحة*** تواكب العلم والأجيال في درم

بها تخلد دین الله تسنده*** أدلة تلجم الباغين باللجم

قرأنها لم يزل يبدي لمكتشف*** ما ينتج البحث من علم ومن نظم

وانّه أحد الثقلين ***یعضده آل النبی

من أظهرت آية التطهير أمرهم*** وغيرها حيث لم يجثوا على وصم

وصفوة الحب ممّن سار سيرهم*** ففيهم يصطفى الاسلام في الأمم

ص: 262

لهفي لهم في سبيل الحق ذا كمداً ***قضى بسمٍ وذا تاو بفيض دم

نعم، قضى آل محمد عليهم الصلاة والسلام بالسم والسف، كما جاء في الحديث ما منهم إلّا مسموماً أو مقتول .... وأول من شرب كاسات الفصص والسموم هو جدهم الأكرم محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)، فلقد نال الفصص والمحن من أولئك الأنذال المغضوب عليهم أولئك النفر الذين أهانوه وهجروه وسخروا من أفكاره وآذوه في أهله وولده، ومنعوا ابنته الزهراء الصدّيقة عليها الصلاة والسلام حتى من البكاء والنياحة عليه بعد غصبوا إرثها فإنّه كما جاء في السيرة أنّهم جاءوا لعلي عليه الصلاة والسلام وقالوا له : إنّ فاطمة قد آذتنا من البكاء فقل لها إمّا أن تبكي ليلاً وتسكت نهاراً وإما أن تبكي نهاراً وتسكت ليلاً، ولكن فاطمة عليها الصلاة والسلام لم تقبل بذلك فكانت تخرج عليها السلام خارج المدينة وتستطل بشجرة هي وأولادها وتبكي على أبيها حتى قطعوا تلك الشجرة ، وقيل إنّ الامام عليه الصلاة والسلام قد بنى لها داراً مخصوصة لهذا الغرض سمّيت بدار الأحزان كانت تأوي إليها وتنصب العزاء وتبكي على أبيها .

حطّت عزية فاطمة الزهراء لبوها*** اونسوان هاشم بالنياحه ساعدوها

جسمي انتحل والثوب متني ما يشيله*** واسقوطي المحسن دعي جسمي عليله

وافراق أبو إبراهيم خلاني نحيله*** اوقوم الظلم نحلتي مني اغصبوها

والله لقيم النوح في صبحي او مسائي*** واجعل شرابي مدمعي اوزادي عزائي

قومك ييابه امنعوني عن بكائي*** كيف العزيزة عن بكاها يمنعوها

اظلم عليه البيت واوحشنى المنير*** اوعینی تهل ادموعها اوقلبي تفطر

واني حزينه او في العزة وياي حيدر*** وصيت يابه والوصية مارعوها

دومي انادي والدمع بالخدسكاب** بس من غبت يا نور عيني تحت لتراب

ضربوا العزيزة واعصروها ابصائر الباب*** واضلوع جنبي وسط بطني كسروها

المحراب خالي يالولي والبيت أظلم*** والدين من بعدك يبو القاسم تهدم

ص: 263

ما حصل لينا ننصب الفقدك الماتم*** قوم الظلم الشريعة غيروها

حزني على حيدر وصيك نور الاسلام*** ذاك الأسد ممدود كيف اتقوده اغنام

قادوه ملبب وهو علم العلام*** او رتبة الباري او رتبتك عنه زووها

وكأني بها نادت بصوت حزين وقلب ملتهب بالوجد والأسى، نادت صلوات الله وسلامه عليها قائلة : ابتاه الدار موحشة علي لفقدك فياليت المنية قد عاجلتني قبلك ولا أنظر إلى منبرك خالي من نور وجهك المبارك.

تنادي يبويه ستوحشت داری علیه*** ياليت قبلك چان وافتني المنية

كلما على الخدين صب المدمع اوسال*** يغشا عليها من البكاء وأطيح في الحال

قالوا تسلي يا بتوله قالت امحال*** ما ينقضي نوحي على خير البرية

ليت المنايا عاجلتني قبل هالحين*** قبل المنابر تختلى من وجهه الزين

وأعظم عليه الحسن ينشد خوه لحسين*** ایقله يخويه وين جدناها لعشية

ويذوب قلبي من يقول احسين جدي*** ينفت قلبي امن الحزن واتذوب كبدي

وأقول ليهم بس تلفتوني يولدي*** جدكم مضى في حضرة القدس العلية

عافوا يبويه الزاد وانتلفوا من الجوع*** ما يأكلون الزاد حتى يمتلي ادموع

واليتم ناحلهم أو ظلّ الكل موجوع*** وأنى أحسن او اجذب الونة خفيه

دوبي اسکت هالطفال اللي احذائي*** نوب اسكتهم او نوب أظهر بكائي

او كلما يون احسين زيدني نعائي*** بعدك يبويه جارت الدنيا عليه

ويذكرني بكاء هذه السيدة الجليلة والصديقة الحوراء فاطمة الزهراء(عليها السلام)على أبيها ببكاء سيدة جليلة ووفية نبيلة هي سيدتنا الرباب على سيدنا الحسين صلوات الله وسلامه عليه فانه قد جاء في كتاب معالي السبطين للمحدث المازندراني الحائري نقلاً عن كتاب كامل التواريخ انّ الرباب بنت امرىء القيس زوجة الحسين عليه وعليها الصلاة والسلام قد أقامت على قبر الحسين عليه الصلاة والسلام سنة كاملة وهي باكية حزينة ثم عادت إلى المدينة وقد خطبها الأشراف فقالت : لا والله ما كنت لأتخذ حمواً بعد رسول الله، ولم تزل تبكي على الحسين عليه الصلاة

ص: 264

والسلام ليلها ونهارها كما كانت فاطمة الزهراء باكية على رسول الله، بل زادت الرباب على سيدتنا الزهراء(عليها السلام)انها بقيت لم يظلها سقف وتجلس في حرارة الشمس حتى ماتت سلام الله عليها كمداً هي ترثي الحسين(عليه السلام)بهذه الأبيات:

إن الّذي كان نوراً يستضاء به*** بكربلاء قتيل غير مدفون

سبط النبي جزاك الله صالحة*** عنا وجنبت خسران الموازين

قد كنت لي جبلا صعباً ألوذ به*** وكنت تصحبنا بالرحم والدين

من لليتامى ومن للسائلين ومن*** يعني ويأوي إليه كل مسكين

والله لا أبتغي صهراً بصهركم*** حتى أغيب بين الرمل والطين

وفي مجلس عبيد الله لعنه الله لما نظرت إلى رأس الحسين عليه الصلاة والسلام أخذت الرأس الشريف ووضعته في حجرها وجعلت تقبله وتبكي وتقول :

واحسيناً ولا نسيت حسيناً*** اقصدته أسنة الأعداء

غادروه بكربلاء صريعاً*** لا سقى الله جانبي كربلاء

وعند ما رجعت إلى المدينة المنورة بمرافقة الامام زين العابدين(عليه السلام) مع عماته وأخواته فانها(عليه السلام) قد استقبلت نساء المدينة وهن باكيات مخمشة وجوههن ضاربات خدودهنّ يدعون بالويل والثبور فتجددت الأحزان عليها وزاد وجدها خصوصاً عندما سمعت جارية تنوح على الحسين عليه الصلاة والسلام وهي تقول:

نعى سيدي ناع نعاه فأوجعا*** وأمرضني ناع نعاه فأفجعا

فعيني جودا بالدموع وأسكبا*** وجودا بدمع بعد دمعكما معا

على من دهى عرش الجليل فزعزعا*** فأصبح هذا الدين والمجد أجدعا

على ابن نبي الله وابن وصيه*** وإن كان عنا شاحط الدار أشعا

وكذلك غابت نفسها ونفوس الهاشميات والعلويات لما سمعن أم كلثوم تنعى الحسين عليه الصلاة والسلام باكية قائلة :

مدينة جدّنا لا تقبلينا*** فبالحسرات والأحزان جينا

خرجنا منك بالأهلين جمعاً*** رجعنا لا رجال ولا بنينا

ص: 265

وكنّا في الخروج بجمع شمل*** رجعنا حاسرين مسلّبينا

وكنّا في أمان الله جهراً*** رجعنا بالقطيعة خائفينا

ومولانا الحسين لنا أنيس*** رجعنا والحسين به دهينا

فنحن الضائعات بلا كفيل ***ونحن النائحات على أخينا

ونحن السائرات على المطايا*** نشال على جمال المبغضينا

ونحن بنات يس وطه*** ونحن الباكيات على أبينا

ونحن الطاهرات بلاخفاء*** ونحن المخلصون المصطفونا

ونحن الصابرات على البلايا*** ونحن الصادقون الناصحونا

ألا فاخبر رسول الله عنّا*** بانا قد فجعنا في أبينا

واخبرنا جدنا أنا أسرنا*** وبعد الأسر يا جدّا سبينا

رسول الله بعد الصون صارت*** عيون الناس ناظرة إلينا

هكذا كانت سيدتنا الرباب ومعها باقي نسوة الحسين(عليه السلام)وبناته وأخواته في جزعهم على سيدالشهداء في كل مكان وبالخصوص عندما استقرت بهم الدار في المدينة وذلك بعد ورودهم إليها راجعين من كربلاء.

وإن نسيت فلا أنسى مولانا زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين (عليه السلام) في بكائه وجزعه على أبيه ، فقد جاء في كتاب معالي السبطين للمحدث المازندراني عليه رضوان الله تعالى انه لما وصل مولانا زين العابدين عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وذلك بعد رجوعه من كربلاء جاء إلى قبر جده رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)ومرغ خديه وبكى وأنشأ يقول :

أناجيك يا جداه يا خير مرسل*** حبيبك مقتول ونسلك ضائع

أناجيك محزوناً عليك موجلاً*** أسيراً ومالي قط حام ودافع

سبينا كما تسبى الإماء ومسنا*** من الضر ما لا تحتمله الأضالع

وفي المعالي أيضاً نقلاً عن كتاب (الدمعة) : انه لما دخل زين العابدين عليه الصلاة والسلام المدينة بعدما رجعوا من كربلاء ومعه عماته وأخواته كان ذلك اليوم

ص: 266

يوم الجمعة والخاطب يخطب ، فلمّا سمعن الهاشميات تجددت عليهن الأحزان والمصائب، وارتفعت بالبكاء أصواتهن، وشققن الجيوب ولطمن الخدود ،ونشرن الشعور ،فانقلبت المدينة بأهلها وأصابها الرجف والزلازل لكثرة النوح والعويل من المهاجرين والأنصار ، ولقد كان ذلك اليوم أشدّ من يوم مات فيه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، ولبس نساء بني هاشم السواد والمسوح وكنّ لا يشتكين من حر ولا برد، وكان مولانا علي بن الحسين عليهما الصلاة والسلام يعمل لهن الطعام للمأتم ، وما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت ولارئي في دار هاشمي دخان خمس حجج حتى قتل عدوّ الله بن زياد لعنه الله وضاعف عليه العذاب.

ولله در شاعر آل محمد عليهم السلام في وصفه المدينة عند ورود بنات الرسالة إليها ، وكيف كانت تموج بنوح وعويل المهاجرين والأنصار، وكذلك يصف حالة محمد بن الحنفية من الجزع على الحسين(عليه السلام) :

هذى المدينة تموج بالصيحة يغلمان*** قلبی تراهو ذاب من ضجة النسوان

والخلق تهرع للفضا كلهم مذاعير*** الله الكافي هالفرع ما هو على خير

قالوا أخوك حسين وصل قال ميصير*** هذي مهى حالة سلامه حالة احزان

هاي المدينة مقوضة للبر كلها*** وهالنسوة الى تنوح مدري شرايح الها

هذي تجر ونه وذي تسحب طفلها*** واسمع حريم تصيح وافجعة الشبان

كشفو خبرهم زلزلتني ضجة الناس*** هذا يدق صدره وهذا يلطم الراس

مدري انفقد الاكبر على لو مات عباس*** مدري من الى فاقدینه اشبال عدنان

حسبات قلبی تزايدت من كثرة النوح*** معلوم هالضجة على سردال مذبوح

بادت اعضاي من الصوايح وين اناروح*** مقدر اوصل لخوتي يا خلق وجعان

لمن طلع والدمع يجري فوق الخدود*** شاف الخلق تلعى او ذاك البر مسدود

والروس كلها مكشفة واعلامهم سود*** من دهشته خر استعفر فوق تربان

صاح وعلى حسن البواكي شابح العين*** ميصيرها لضجة على واحد او اثنين

ان صدق ظني هالبكا كله على احسين*** قالوا البكا على حسين واولاده والاخوان

ص: 267

هذا ضعهم سود منشوره اعلامه*** ومحد يقلى الحمد لله على السلامه

وان صدق ظني ها لضعن نسوه ويتاما*** وان كان راح حسين ما تسكن هالاوطان

وإذا به يلتقي بمولانا السجاد(عليه السلام) ويعانقه طويلاً وهو يسأل عن شيخ العشيرة وإمام الكائنات وسيد الأنام قائلاً: يا ابن أخي أين أبوك الحسين(عليه السلام) ؟ فأجابه زين العابدين (عليه السلام)بصوت ضعیف : عظم الله لك الأجر يا عم في أبي الحسين، فلقد قتل مظلوماً عطشاناً غريباً ، ثم أخذ محمد بن الحنفية يبكي ولسان حاله يقول : ذيك العشيرة وين خبرني يسجاد*** وين المشكر بو على مصباح العباد

عنی طلعتو يا علي بعز وجلاله*** واحسين جدام الضعن يبهر جماله

يبرى الضعينه كالأسد حوله اشباله*** ورديت منحول الجسد يا زين العباد

وين العشيرة ووين ابو سكنه والابطال*** لمن سمع حن وتزفر والدمع سال

وقله يعمي عزوتك رجعتهم محال*** كلهم بضحوية قضوها بفرد مطراد

كلهم ابطف الغاضرية باعوا ارواح*** كلمن من الخيمة تكنا ودع اوراح

او ما تسمع بذاك المخيم غير لنياح*** ليتك نظرت اشلون حملة ذيك الاولاد

هذا يودع والده وهذا عضيده*** وهذا على احوال الحراير يصفج ايده

وهذا ينادي هالضعن يا هو يعوده*** طلعو فرد طلعه ونامو بحر الوهاد

سوو خبر لكن يعمى الى روا العود*** فعل البطل عباس ما سمعنا بالوجود

قطعوا اكفوفه والعلم شاله بلزنود*** والشمس تلهب والعطش بالقلب وقاد

انا امسجى اوالدي او عماتي اوقوف*** او عباس بالعركه او كلنا الفعله انشوف

نکس رواياها او هو مقطوع لكفوف*** يصرخ او تهوى اصفوف من عسكر ابن زیاد

او بس وقع يا عمي شملنا اتشتت اوراح*** واقمارنا كلها تهاوت فوق لبطاح

وابسهم لمثلث أخوك من المهر طاح*** لكن شوصف من مصايب يبن المجاد

بس طاح أبويه أعلى الثرى حزوا كريمه*** نهبوا خيمنا او شتتوا منها حريمه

کم ارمله عاينت عيني او كم يتيمة*** للبر فرت تلتجي خوف امن لوغاد

ص: 268

الجلسة الحادية عشر : في بيان طريقة الارسال والدليل عليه

والبنوات للخلائق فرض*** لاحتياج العباد للأنبياء

وامتناع الاهمال فهو مخلّ*** ومضرّ في حكمة الحكماء

وثبوت التكليف عقلاً ونقلاً*** في جميع ميع الشرائع الغراء

وهو يحتاج للمبلغ فيه*** وهم الأنبياء وقت الأداء

ليبين الهدى ويقطع عذر*** للبرايا بالحجّة البيضاء

ويصح العقاب منه بعدلٍ***ويحق الثواب يوم الجزاء

عند فعل الطاعات من كل عبد*** والمعاصي على صعيد سواء

من أدلة النبوة وجوب اللطف

فوجوب الارسال للخلق منه*** ثابت بالدليل دون انتفاء

حيث ان اللطف المؤمل منه*** والمرجي فيض بغير انقضاء

وهو فيض يقضي بإرسال*** رسل للبرايا من خيرة السفراء

يرشدون العباد للحق منه*** بعد تبيان منهج الاهتداء

ويصدّون سائر الخلق ردعاً*** عن ركون الضلال والاعتداء

يصلحون الأنام سيراً ورشداً*** في الحياة الدنيا ويوم الجزاء

فيكون العبد المجيب مطيعاً ***وقريباً من ربه غير نائي

حيث أن الاهمال للخلق قبح*** مستحيل على إله السماء

ص: 269

لا بد من الواسطة

خلق الخلق للعبادة ذلاً*** وخضوعاً لشامخ الكبرياء

ولعرفان ذاته بعد جهل*** بعلاها من سائر الجهلاء

وهو فرع التكليف للخلق منه*** بائتمار لأمره وانتهاء

وهو لابد أن يبلغ هذا*** برايا بألسن الأنبياء

وهو عين التبليغ بين الرعايا*** حين تأتي أوامر الأمراء

لامتناع التبليغ للخلق منه*** بالتجلي من دون أي غطاء

أو بوحي يوحى إلى كل فرد*** منه للجن أو بني حواء

فهو نور عن خلقه متعال*** وكمال في غاية الاعتلاء

وهم ظلمة فأي اتصال*** بین سنحيهما وأي التقاء

والنبيون بين ربّ البرايا*** والبرايا من خيرة الوسطاء

احتياج الخلق للنبي

إن جسم الانسان اوجد فيه*** عند إنشاء هذه الأجزاء

اسماع الأصوات والنطق أذناً*** ولساناً ومقلة للمرائي

وللمس الأجسام والشم أنفاً*** ويداً بين هذه الأعضاء

وحياة بالقلب وهو رئيس*** وهي مرؤوسة لهذا البناء

فإذا شككت بما أدركته*** لاكتساب اليقين بعد امتراء

رجعت كلها إلى القلب فيه*** مع حسن التدبير والاعتناء

عند خلق الحواس والقلب مأوىً*** لهداها في ساعة الالتجاء

أفيبقى العباد دون رئيس*** تقتدي فيه ساعة الاقتداء

ترجع الناس في الأمور إليه*** حين تمسي في حيرة وابتلاء

فوجود النبي لابد منه***لاحتياج العباد للأنبياء

ص: 270

الشريعة نظام البشر

وحياة الانسان لابد فيها*** من نظام يشيد كل بناء

حيث بين العباد تجري أمور*** مالهم عن وقوعها من غناء

كعقود المعاملات جميعاً ***والعبادات عند وقت الأداء

وسواها مما هم باحتياج*** وافتقار لها بحدّ سواء

وهي لو بعثرت نظاماً لأضحت*** في فساد وأصبحوا في بلاء

فهي تحتاج للشريعة جزماً*** وهي قانونها بوقت القضاء

وهي تحتاج للمشرع وضعاً ***ونظاماً عدلاً بغير اعتداء

وهم الأنبياء في كل عصر*** لاحتياج التشريع للعماء

وهم العالمون في كل جهر*** من قضايا تشريعها وخفاء

شرائط النبي

والنبي الكريم لابد فيه*** أن يوفي على أتم وفساء

ما به عن سواه يسمو رقياً*** من شروط الاعجاز والارتقاء

معجز خارق يميز فيه*** حينما يصطفيه خير اصطفاء

يذعن المبطلون للحق فيه*** بعد عجز عن مثله وتنائي

عصمة النفس عن جميع الخطايا*** مع إمكان فعلها والاباء

وامتناع النسيان والسهو منه*** وابتعاد عن سائر الأخطاء

ليتم الوثوق للخلق فيه** بالتكاليف عند وقت الأداء

رحم طاهر وصلب زكي*** يجتبيه من أكرم الآباء

علم الهدى وعلم غزير*** منه تسقى مدارك العلماء

وجميع الصفات يفضل فيها*** سائر الخلق منه بني حواء

***

ص: 271

قال الله تعالى في كتابه المجيد : ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ (1) .

جاء في تفسير الكاشف : يطلق كلام الله سبحانه وتعالى على العديد من المعاني ، منها : قضاؤه وقدره ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ...﴾والخلق والايجاد ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ...﴾ والحق وكلمة الله هي العليا والكون الذي أوجده بكلمة (كن) والإلهام :﴿أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا﴾ومن كلام الله الكلام المسموع ﴿ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ﴾ وهذا الكلام هو الذي يسمعه النّبي(صلی الله علیه وآله وسلم) من وراء حجاب أو يُرسل الله به إلى النّبي رسولاً .وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية التي طرحناها للحديث في هذه الجلسة المباركة : ثلاثة أوجه لتكليمه الرسل وكيفية اتصاله بهم :

الأول : إلقاء المعنى في قلب النبي مباشرة ومن غير واسطة، وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿إِلَّا وَحْيًا ﴾.

الثاني :أن يخلق الله الكلام كما يخلق غيره من الكائنات، فيسمعه النبي لابواسطة رسول من الله ، بل من وراء حجاب، أي أن النبي يسمع الكلام ولا يرى المتكلم، وهذا هو المقصود من قوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾(2). الثالث : أن يرسل سبحانه إلى رسوله ملكاً يبلغه رسالات ربه .

قال الملا صدرا في الأسفار : وإياك أن تظن أن تلقي النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) كلام الله بواسطة جبريل وسماعه منه كاستماعك من النبي ، أو تقول : إنّ النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)، كان مقلّداً لجبريل.

وليس من شك أنه لا يظنّ هذا الظن أو يقول هذا القول إلا جاهل .... لأنّ ما بلغه جبريل لمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم)هو كلام الله بالذات، ووعاه الرسول الأعظم على حقيقته،

ص: 272


1- سورة الشورى : آية 51 .
2- سورة النساء : 164 .

وعليه تكون معرفة الرسول بكلامه تعالى هى كلام الله وكلام الله هو عين معرفة الرسول.

وفي الآية الكريمة دلالة واضحة على إرسال الرسل والأنبياء من جهة أنها قد عيّنت الواسطة بين الحق سبحانه وبين عباده وهم الرسل» فوجوب إرسال الرسل ونصب الأئمة على الله تعالى من أوضح الواضحات ، ولنا في الدليل عليه وجوه ذكرها الحجّة المقدس مولانا السيد عبدالله شبر (قدس سره) في بعض كتبه كما ذكرها غيره أيضاً من علماء الكلام قال رضوان الله تعالى عليه ولنا في الدليل علیه وجوه:) .

الأول : انّ ذلك من باب اللطف الواجب عليه تعالى.

الثاني : انك قد عرفت ان الغرض والحكمة في إيجاد الخلق المعرفة والعبادة كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾(1) وذلك يتوقف على تعيين واسطة بين الحق والخلق نبياً كان أو إماماً يعلمهم ذلك لاستحالة الإفاضة والاستفاضة بلا واسطة، إذ لا ربط ولا نسبة بين النور والظلمة، وكمال الكمال ومنتهى النقص، فتستحيل المشاهدة والمكالمة إلا بالواسطة كما قال تعالى:﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَايَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (2).وإنما كان الواسطة قابلاً لذلك لأنّ له جهتين نورانية وجسمانية ، كما قال(صلی الله علیه وآله وسلم): أول ما خلق الله نوري وقوله تعالى:﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ (3).

وجاء في الكافي : عن هشام بن الحكم : عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد الله(عليه السلام)أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الأنبياء والرسل ؟

ص: 273


1- سورة الذاريات : 56 .
2- سورة الشوري : 51 .
3- سورة الكهف : 110 .

قال : إنا لما أثبتنا ان لنا خالقاً صادقاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولايلامسوه. فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه ثبت انّ له سفراء في خلقه يعيرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه المعبرون عنه جل وعزّ وهم الأنبياء، صفوته في خلقه حكماء مؤدّين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب في شيء من أحوالهم مؤيدين عند الحكيم العليم بالحكمة، ثم ثبت ذلك في كلّ دهر وزمان مما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين لكيلا تخلو أرض الله من حجّة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته .

وفي حديث ثان عن منصور بن حازم قال : قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون به ، قال : صدقت. قلت: إنّ من عرف له رباً فقد ينبغي أن يعرف لذلك الرب رضاً وسخطاً، وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول، فمن لم يأته فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجة وانّ لهم الطاعة المفترضة وقلت فحين مضى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من كان الحجة على خلقه فقالوا القرآن فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجىء والقدري والزنديق الذي لايؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لايكون حجة إلابقيم، فما قال فيه من شيء كان حقاً فقلت لهم من قيم القرآن فقالوا ابن مسعود كان يعلم وعمر يعلم وحذيفة يعلم .

قلت كله. قالوا: لا فلم أجد أحد يقال انه يعرف ذلك كله إلّا علياً عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا لا أدري، وقال هذا لا أدري، وقال هذا أنا أدري، فأشهد أن علياً (عليه السلام)كان قيم هذا القرآن، وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجة على الناس بعد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، وان ما قال في القرآن فهو

ص: 274

حق ، فقال : رحمك الله .

قال سيدنا الحجة السيد عبدالله شبر رضوان عليه : ويجري هذا البرهان العقلي بعينه في سائر الأئمة المعصومين(عليه السلام)بعد أمير المؤمنين(عليه السلام).

وفي حديث ثالث : عن يونس بن يعقوب قال : كان عند أبي عبدالله جماعة من أصحابه منهم حمران بن أعين ومحمد بن النعمان وهشام بن سالم، والطيار وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شابّ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته .

قال هشام: يا ابن رسول الله أني أجلك وأستحيبك ولا يعمل لساني بين يديك.

فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : إذا أمرتكم بشيء فافعلوا قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة، فعظم ذلك عليّ فخرجت إليه ودخلت البصرة الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بلحقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء متزربها من صوف وشملة متردي بها والناس يسألونه فاستفرجت الناس، فأفرجوا لي ثم قعدت في آخر القوم على ركبتين، ثم قلت: أيها العالم إني رجل غريب تأذن لي في مسألة ؟ فقال : نعم، فقلت له : ألك عين؟ فقال : يا بنى أي شيء هذا السؤال وشيء تراه كيف تسأل عنه ؟ فقلت : هكذا مسألتي .

فقال : يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقاء.

قلت : أجبني فيها ، قال لي : سل ، قلت : ألك عين ؟

قال : نعم قلت : فما تصنع بها ؟

قال : أرى بها الألوان والأشخاص.

قلت : فلك أنف ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به ؟ قال : أشم به الرائحة .

قلت : فلك فم ؟

ص: 275

قال : نعم ، قلت : فما تصنع به؟ قال :أذوق به الطعم ، قلت : فلك أذن ؟ قال : نعم. قلت: فما تصنع بها ؟ قال : أسمع بها الصوت، قلت: ألك قلب ؟ قال : نعم .

قلت : فما تصنع به ؟

قال : أميز به كل ما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قلت :أو ليس في هذه الجوارح غني عن القلب ؟قال :لا ،فقلت :وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟

قال : يا بني إن الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردته الى القلب فتستيقن اليقين ويبطل الشك.

قال هشام: فقلت له : فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح، قال: نعم، قلت: لابد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح قال : نعم ، فقلت له : يا أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يصحح لها الصحيح وتستيقن به ما شكت فيه ، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم لا يقي يقيم لهم إماماً يردون إليه شكهم وحيرتهم ،ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حير حيرتك وشكك قال : فسكت ولم يقل لي شيئاً ثم التفت إليّ وقال : أنت هشام بن الحكم ؟

قلت : لا ، فقال : أمن جلسائه ؟ قلت : لا ، قال : فمن أين؟

قلت: من أهل الكوفة .

فقال: فأنت إذاً هو ، ثم ضمني إليه وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه، وما نطق حتى قمت قال :فضحك أبو عبدالله عليه الصلاة والسلام وقال: يا هشام من علّمك هذا ؟ قلت ... شيء ، أخذته منك وألفته .

فقال(عليه السلام): والله هذا مكتوب في صحف إبراهيم وموسى.

وجاء أيضاً عن يونس بن يعقوب أن شامياً حاور يعقوب بن الحكم يقول يونس : كنت عند أبي عبد الله(عليه السلام)فورد عليه رجل من أهل الشام فقال : إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض وقد جئت لمناظرة أصحابك .

ص: 276

فقال أبو عبد الله(عليه السلام): كلامك من كلام رسول الله أو من عندك ؟

فقال : من كلام رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)و من عندي.

فقال : أبو عبد الله(عليه السلام) : فإذا أنت شريك رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم).

قال : لا .

قال : فالتفت أبو عبد الله (عليه السلام)إلى فقال : يا يونس بن يعقوب هذا قد خصم نفسه

قبل أن يتكلم ، ثم قال: يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته.

قال يونس : فيا لها من حسرة .

قلت : جعلت فداك، إني سمعتك تنهى عن الكلام وتقول : ويل لأصحاب الكلام يقولون: هذا ينقاد، وهذا لا ينقاد هذا ينساق، وهذا لا ينساق وهذا نعلقه وهذا لا نعلقه ، فقال(عليه السلام) : إنما قلت فويل لهم أن تركوا ما أقول وذهبوا الى ما يريدون، ثم قال لي اخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فأدخله ، قال : فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام، وأدخلت الأحوال وكان يحسن الكلام ، وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام ، وأدخلت قيس بن الماصر وكان عندي أحسنهم كلاماً وقد كان تعلم الكلام من وقد كان تعلم الكلام من علي بن الحسين(عليه السلام) ، فلما استقر بنا المجلس وكان أبو عبدالله (عليه السلام)قبل الحج يستقر أياماً في جبل في طرف الحرم في خيمة له مضروبة ، قال : فأخرج أبو عبد الله(عليه السلام) رأسه فإذا هو ببعير يخبّ، فقال(عليه السلام): هشام ورب الكعبة ، قال : فظننا أن هشاماً رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة له ، قال :فورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته وليس فينا إلّا من هو اكبر سنّاً منه . قال : فوسع له أبو عبد الله(عليه السلام)وقال : ناصرنا بقلبه ولسانه ويده، ثم قال : يا حمران كلم الرجل فكلّمه فظهر عليه حمران ، ثم قال : يا طاقی کلمه فكلمه فظهر عليه الأحوال ثم قال : یا هشام بن سالم ،کلمه فتعارفا ، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام)لقيس الماصر كلمه فكلمه، فأقبل أبو عبد الله (عليه السلام)يضحك من كلامهما مما قد أصاب الشامي، فقال للشامي : كلم هذا الغلام يعني هشام بن الحكم.

ص: 277

فقال : نعم فقال لهشام يا غلام سلني في إمامة هذا، فغضب هشام حتى ارتعد ثم قال للشامي : يا هذا أربك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم ؟

فقال الشامي : بل ربي أنظر لخلقه ، قال : ففعل بنظره لهم ماذا ؟

قال : أقام لهم حجة ودليلاً يتشتتوا أو يختلفوا بتألفهم، ويقيم لهم اودهم أي اعوجاجهم ويخبرهم بفرض ربهم .

قال : فمن هو ؟

قال : رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).

قال هشام فبعد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من ؟

قال : الكتاب والسنة .

قال :هشام فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة في دفع الاختلاف هنا ؟

قال الشامي : نعم .

قال : فلم اختلف أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إيّاك ؟

:قال فسكت الشامي .

فقال أبو عبد الله(عليه السلام) للشامي : مالك لا تتكلم.

قال الشامي : إن قلت لم نختلف كذبت، وإن قلت : إن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت لأنهما يحتملان الوجوه، وإن قلت : قد اختلفنا وكل واحد منا يدعي الحق فلم ينفعنا إذاً الكتاب والسنة إلا ان لي عليه هذه الحجة.

فقال أبو عبد الله(عليه السلام): سله تجده ملياً.

فقال الشامي : يا هذا من أنظر للخلق أربهم أو أنفسهم ؟

فقال هشام ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم.

فقال الشامي : فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم ويقيم اودهم ويخبرهم بحقهم وباطلهم ؟

قال هشام في وقت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أو الساعة ؟

ص: 278

قال الشامي : في وقت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)والساعة من ؟ فقال هشام: هذا القاعد الذي تشدّ إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن أب عن جد.

قال الشامي : فكيف لي أن أعلم ذلك ؟

قال هشام سله عما بدا لك .

قال الشامي : قطعت عذري فعليَّ السؤال.

فقال أبو عبدالله (عليه السلام): يا شامي أخبرك كيف كان سفرك وكيف كان طريقك،

كان كذا وكان كذا ، فأقبل الشامي يقول : صدقت أسلمت الله الساعة .

فقال أبو عبد الله(عليه السلام): بل آمنت بالله الساعة إن الاسلام قبل الايمان وعليه

يتوارثون ويتناكحون والإيمان عليه يثابون.

فقال الشامي : صدقت فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً رسول الله وأنك وصي الأوصياء، ثم التفت أبو عبد الله(عليه السلام)إلى حمران بن أعين فقال : تجري الكلام على الأثر فتصب، والتفت إلى هشام بن سالم فقال : تريد الأثر فلا تعرفه ، ثم التفت إلى قيس الماصر فقال : تتكلم وأقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أبعد ما تكون منه تمزج الحق مع الباطل، وقليل من الحق يكفي عن كثير من الباطل، والتفت قبل قيس إلى الأحول فقال (عليه السلام): قياس رواغ تكسر باطلاً بباطل إلا ان باطلك أظهر ، ثم التفت إلى قيس فقال : أنت والأحول قفازان حاذقان .

قال يونس : فظننت والله أنه يقول لهشام قريباً مما قال لهما ، ثم قال : يا هشام لا تكاد تقع تلوى رجليك إذا هممت بالأرض طرت مثلك فليكلم الناس فاتق الزلة والشفاعة من ورائها إن شاء الله .

الدليل الثالث : قال بعض المحققين : اعلم أن الدنيا منزل من منازل السائرين الى الله عز وجل والبدن ،مركب ومن ذهل عن تدبير المنزل والمركب لم يتم سفره، وما لم ينتظم أمر المعاش في الدنيا لايتم أمر التبتل والانقطاع الى الله الذي هو

ص: 279

السلوك، ولا يتم ذلك حتى يبقى بدنه سالماً ونسله دائماً ، وإنما يتم كلاً منهما بأسباب الحفظ لوجودهما وأسباب الدفع لمفسداتهما ومهلكاتهما، أما أسباب الحفظ لوجودهما فالأكل والشرب وذلك لبقاء البدن والمناكحة، وذلك لبقاء النسل وقد خلق الله الغذاء سبباً للحياة، والإناث محلاً للحراثة، إلا انه ليس يختص المأكول والمنكوح ببعض الآكلين والناكحين بحكم الفطرة مع أنهم محتاجون إلى تمدن واجتماع ،وتعاون، إذ لا يمكن لكلّ منهم أن يعيش وحده يتولى تدبيراته المتكثرة المختلفة من غير شريك يعاونه على ضروريات حاجاته ، بل لابد مثلاً أن ينقل هذا لهذا، ويطحن هذا لهذا ، ويخبز هذا لهذا، وعلى هذا القياس فافترقت أعداداً ، واختلفت أحزاباً ، وانعقدت ضياع وبلدان، فاضطروا في معاملاتهم ومناكحاتهم وجناياتهم إلى قانون مرجوع إليه بين كافتهم يحكمون به بالعدل وإلا لتهارشوا وتقاتلوا ، بل شغلهم ذلك عن السلوك للطريق، بل أفضى بهم الى الهلاك وانقطع النسل واختلّ النظام لما جبل عليه كل أحد من أنه يشتهي لما يحتاج إليه ويغضب على ما يزاحمه فيه، وذلك القانون هو الشرع، ولابد من شارع يعيّن لهم ذلك القانون والمنهج لتنتظم به معيشتهم في الدنيا ، ويسنّ لهم طريقاً يصلون به إلى الله عزوجل بأن يفرض عليهم ما يذكرهم أمر الآخرة والرحيل إلى ربهم وينذرهم يوماً ينادون فيه من مكان قريب وتنشق الأرض عنهم سراعاً، ويهديهم الى صراط مستقيم لأن ينسوا ذكر ربهم ويذهلوا بدنياهم عن عقباهم التي هي الغاية القصوى والمقصد الأسنى.

الدليل الرابع : قال أيضاً : إنه لما كان الإنسان في أول أمره وبدء نشؤه خالياً عن كماله الذي خلق له قاصراً عن الغاية التي ندب إليها كما قال تعالى :﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾(1) . قابلاً أتاه بفطرته التي فطر عليها يمكن الوصول إليه بما أوتي من أسبابه وهيّأ له من شرائطه كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ

ص: 280


1- سورة النحل : 78

لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)»﴾ (1)وقال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(2). لكنّه ممنوع بمقتضيات نشأته التي جبل عليها ، لوخلي وشأنه لنشأ كلّه على ما يقتضيه مزاجه وطبيعته بحسب الغالب من قواه موجب طينته وهواه كما قال تعالى :﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ﴾(3)، إذ كل مزاج يناسب قوة دون أخرى ويسهل له فعل بعضها مما يلائم حالها دون بعض ما عبر عنه في القرآن مرة بقوله : ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾(4)، وأخرى ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ﴾وثالثة ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴾ (5)﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾(6) . فمن الواجب أن يكون له سياسة تسوسه وتربيه لصلاحية الكمال وتدبيره وتجريه في طريق الخير والسعادة وإلا لبقي في مرتبة البهائم، وحيل بينه وبين النعيم الدائم.

الدليل الخامس: انه كما لا بد في العناية الإلهية لنظام العالم من المطر ورحمة الله لم تقصر عن إرسال السماء مدراراً لحاجة الخلق، فنظام العالم لا يستغني عمّن يعرفهم موجب صلاح الدنيا والآخرة، نعم من لم يهمل إنبات الشعر على الحاجبين المزينة ، وكذا تعقير الأخمص في القدمين، كيف أهمل وجود رحمة للعالمين مع أن ما في ذلك من النفع العاجل والسلامة في العقبى والخير الأجل ولم يترك الجوارح والحواس حتى جعل لها رئيساً يصحح لها الصحيح ويتقن به ما شكت فيه وهو الروح، كيف يترك الخلائق كلّهم في حيرتهم وشكّهم وضلالتهم لا يقيم لهم هادياً يردون إليه شكهم وحيرتهم كما تقدم، ويجب أن يكون ذلك الواسطة إنساناً لأن مباشرة الملك لتعليم الإنسان على هذا الوجه مستحيل، كما قال الله عز وجل :﴿وَلَوْ

ص: 281


1- سورة السجدة : 9
2- سورة آل عمران : 103 .
3- سورة الإسراء : 84 .
4- سورة الأنبياء: 37 .
5- سورة المعارج : 9 .
6- سورة الأحزاب : 72.

جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾(1) ودرجة باقي الحيوانات انزل ولأنّ خوارق العادات لا تحال عليهم والنفوس لا تركن إلّا إلى أبناء نوعهم ولنهاية المباينة بين الانسان الناسوتي والملك الملكوتي ولا يمكن الاستغناء عن الأنبياء بتوجيه الخطاب من الله تعالى بخلق الأصوات وإيجاد الكلمات لقيام الوجوه والاحتمالات وضعف عقول سائر الناس واحتمالهم أن يكون صدور ذلك من بعض الجانّ أو الشيطان ، ولابد من تخصيصه بآيات من الله سبحانه دالّة على شريعته من عند ربّهم العالم القادر الغافر المنتقم ليخضعوا له ويلزم من وقف عليها أن يقرّ بتقدمه ورئاسته وهي المعجزات البينات والبراهين الواضحات هذه أدلتنا على وجوب الارسال واحتياج الخلق للنبي ، وقد أرسل الله تعالى مائة وأربعة وعشرين نبي ؛ وقيل : أكثر من ذلك لهداية البشر، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (2)وكان سيدهم و خاتمهم هو نبينا الأكرم محمد بن عبد الله (صلی الله علیه وآله وسلم)الذي أرسله الله تعالى لينقذنا من الظلمات إلى النور رحمة بعباده كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾(3)قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أرسله على حين فترة من الرسل وطول هجعة من الأمم واعتزام من الفتن وانتشار من الأمور. وتلظ من الحروب. وفي موضع آخر قال عليه الصلاة والسلام : أرسله بالضياء وقدمه في الاصطفاء فرتق به المفاتق وساور به المغالب ، وذلّل به الصعوبة، وسهل به الحزونة حتى سرح الضلال عن يمين وشمال .

وقالت الصديقة فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام في خطبتها المشهورة:« انتجبه قبل أن أرسل وسماه قبل أن اجتباه واصطفاه قبل أن ابتعثه» نعم قد أرسله

ص: 282


1- سورة الأنعام: 9.
2- سورة الحديد : 25.
3- سورة الأنبياء : 107 .

الله تعالى إلينا لينقذنا من الجهالة وحيرة الضلالة، فهو الرسول المنقذ والنبى الروؤف العطوف والرحيم الودود كما قال تعالى :﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾(1) حتى لقد بلغ عطفه ورحمته وحبه للناس أنّه كان يعطيهم القصاص من نفسه.

من جاء في السيرة انه (صلی الله علیه وآله وسلم). قبيل التحاقه بالرفيق الأعلى قال لبلال : يا بلال على بالناس، فلما اجتمعوا قال لعلي عليه الصلاة والسلام: اقعدني على مرتفع سندني، فأقعده وهو معصب الرأس فأجلسه على كرسي وهو لازم منكبيه فحمد الله وأثنى عليه وذكر نفسه الزكية فنعاها ، ثم قال : معاشر الناس أي نبي كنت لكم ؟ قالوا : خير نبي . قال : ألم أجاهد بين أظهركم ؟ ألم تنكسر رباعيتي وأضلاعي ؟ ألم تجعلوني وجهة عنكم ؟ ألم تسل الدماء على وجهي ولحيتي ؟ ألم أكابد الشدة مع جهال قومي ؟ ألم أربط حجر المجاعة على بطني؟

قالوا: بلى يا رسول الله ، لقد كنت على البلاء صابراً وللنعماء شاكراً وعن المنكر ناهياً وللمعروف آمراً فجزاك الله عنا أحسن الجزاء.

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): وأنتم جزاكم الله خيراً ، ثم قال : أيها الناس لا نبي بعدي، ولا سنة کسنتي فمن ادعى النبوة بعدي ففي النار أجيبوا الحق لصاحبه ولا تفرقوا وأسلموا كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ان الله قوي عزيز، أيها الناس ان ربي أقسم وحتم أن لا يجاوز ظلم ظالم، ولا يعفو عن قصاص، فمن كان له قبلي تبعة أو مظلمة فليقتص مني فإن القصاص في الدنيا أحب إلي من قصاص الآخرة.

فقام إليه رجل يقال له سوادة فقال : يا رسول الله ،لما أقبلت من الطائف وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب تريد الناقة فأصاب بطني فلا أدري عمداً كان ذلك أم خطأ.

فقالالطائف : معاذ الله أن أكون تعمدت ذلك ، ثم قال : يا بلال علي بالممشوق، فأقبل بلال وهو ينادي في شوارع المدينة : معاشر الناس من ذا الذي يعطي

ص: 283


1- سورة الأحزاب : 43 .

القصاص من نفسه في الدنيا قبل يوم القيامة، ثم مضى إلى منزل فاطمة عليها الصلاة والسلام وقال : يا فاطمة ناوليني القضيب الممشوق فإنّ رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يريده، فصاحت فاطمة (عليها السلام)وقالت : ما يريد والدي بالقضيب وليس هذا يومه ؟ قال بلال : يا فاطمة إن أباك خطب الناس وودع أهل الدنيا ، فصاحت فاطمة وقالت : واحزناه عليك حزناً لا تدركه الندامة يا أبتاه من للفقير والمسكين يا حبيب

الله وحبيب قلوب المؤمنين، ثم ناولت بلال القضيب فجاء به إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).

فقال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم): أين الشيخ ؟ قال : ها أنا ، فناوله القضيب وقال له : قم واقتص مني حتى ترضى فقال الشيخ: اكشف لي عن بطنك، ففعل(صلی الله علیه وآله وسلم) ، ثم قال الشيخ : أتأذن لي يا رسول الله أن أضع فمي على بطنك ؟

فقال : أذنت لك ، فوضع الشيخ فمه على بطن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وقال : أعوذ بالله من النار ومن القصاص من بطن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)يوم

القيامة.

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): يا سوادة أتقتص أم تعفو ؟ فقال الشيخ: بل أعفو .

فقال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم): اللهم اعف عن سوادة كما عفا عن سوادة كما عفا عن نبيك، ثم جعل يوصي أصحابه بالتمسك بسنّته والاقتداء بعترته، ثم أنه أمر علياً(عليه السلام) أن يضجعه على فراشه فقام القوم عنه، فلما كان من الغد حجب نفسه عن الناس وكان علي(عليه السلام)لقد خرج لحاجة فدخلن عليه نساؤه فأفاق النبي الله من غشوته فافتقد علياً فقال لأزواجه ادعوا لي أخي فقالت الحميراء : ادعوا له الأول، فدعي له، فلما نظره رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)أعرض عنه بوجهه فقام وقال : لو كان له حاجة لأفضى بها إليّ، فلما خرج من عنده قال(صلی الله علیه وآله وسلم): ادعوا لي أخي وصاحبي.

قالت الثانية : ادعوا له الثاني، فدعي له فلما رآه أعرض عنه فقام وقال : لو كان له حاجة لأفضى بها إلي، فلما خرج عنه قال(صلی الله علیه وآله وسلم): ادعوا لي أخي وصاحبي .

فقالت أم سلمة : ادعوا له علياً فوالله ما يريد غيره، فدعي له، فلما أومى

ص: 284

إليه بالدنو منه ، فدنا منه فانكبّ عليه من تحت الثوب فناجاه طويلاً، ثم قال الناس له بعد ذلك : ما الذي ناجاك به ؟ قال : أوعز لي ألف باب من العلم وفتح لي من كل ،باب وأوصاني بما أنا فاعله إن شاء الله تعالى، ثم إنّ أم سلمة استأذنت على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فأذن لها فدخلت وسلّمت عليه وقالت بأبي أنت وأمي يا رسول الله مالي أراك متغير اللون ؟

فقال : نعيت لي نفسي فسلام لك مني فلا تسمعن بعد هذا اليوم صوت محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) أبداً .

فقالت أم سلمة : واحزناه عليك حزناً لا تدركه الندامة .

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) لها : ادعي لي حبيبتي وقرة عيني فاطمة الزهراء(عليها السلام) ، فدعيت له، فلما رأته أخذت رأسه ووضعته في حجرها وقالت له : نفسي لنفسك الفداء وروحي لروحك الوقاء، واكرباه لكربك يا أبتاه، ففتح(صلی الله علیه وآله وسلم)عينه وقال : لا كرب على أبيك بعد هذا اليوم يا فاطمة .

فقالت : يا أبتاه إني أراك مفارق الدنيا.

فقال لها(صلی الله علیه وآله وسلم): إنى مفارقك يا بنية ، فسلام لك مني .

فقالت (عليه السلام): يا أبتاه أين الملتقى يوم القيامة ؟

فقال لعل الله : عند الحساب.

فقالت(عليه السلام): فإن لم أرك هناك ؟

قال(صلی الله علیه وآله وسلم): عند الشفاعه لمحبيك .

قالت (عليه السلام): وإن لم ألقك هناك ؟

قال(صلی الله علیه وآله وسلم): عند الصراط جبرئيل عن يميني وميكائيل عن شمالي وبعلك علي(عليه السلام)أمامي وبيده وبيده لواء الحمد ينادون: ربنا سلّم أمة محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) من النار ويسر عليهم الحساب.

فقالت (عليه السلام): وأين أمي خديجة ؟

ص: 285

قال (صلی الله علیه وآله وسلم): هي في قصر من لؤلؤة بيضاء له أربعة اركان وأربعة أبواب يرى ظاهره من باطنه وباطنه من ظاهره ، ثم أغمي عليه ورأسه في حجرها فانكبّت عليه تنظر في وجهه وأنشأت تقول:

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه*** تمال اليتامى عصمة للأرامل

تطوف به الهلاك من آل هاشم*** فهم عنده في نعمة وفواضل

ففتح رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)عينيه في وجهها وقال : يا بنية ، هذا قول عمك أبو طالب لا تقوليه ولكن قولي وما محمد إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات : أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه ) الآية ....فبكت(عليه السلام) ، ثم انه(صلی الله علیه وآله وسلم)أومى إليها بالدنو منه حتى أدخلها تحت ثيابه فناجاها طويلاً فرفعت رأسها وعيناها تهملان دموعاً ، ثم قال لها : ادني مني يا بنية ، فدنت منه فسر لها سراً فتهلهل وجهها فرحا فتعجب الحاضرون من ذلك، فسئلت فاطمة(عليه السلام) عن فقالت : نعى إليّ نفسه فبكيت فقال : لا تجزعي على أبيك من الموت فإني سألت ربی أن يجعلك أول أهل بيتي لحوقاً بي فضحكت ، ثم قال : يا بنية ، ادعي لي ولداي الحسن والحسين(عليهم السلام) ، فدعيتهما ، فلما رآهما قبلهما وجعل يلثمهما وعيناه تهملان دموعاً ، ثم أغمي عليه فصاح الحسن والحسين(عليه السلام)وقالا : يا جداه نفسنا لنفسك الفداء وأرواحنا لروحك الوقاء، وجعلا يبكيان عليه ، وأراد علي(عليه السلام) أن ينحيهما عنه فأفاق النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وقال : مه يا علي(عليه السلام) ، لاتتح ابناي عني دعني أشمهما ويشماني ويتزوّدان مني وأتزود منهما ،فهذا فراق لاتلاقي بعده إلى يوم القيامة.

فصاحت فاطمة ونادت وا محمداه وا ،أبتاه ياليت قبلك مت ولم أراك مسجّاً فوق الفراش تنعى لي نفسك.

ولنعم ما قاله الحاج ملا علي الفائز في هذا المقام:

الزهره تقوله المصطفى خير البريه*** يا ليت قبلك كان وافتني المنيه

نادى عليها وبشري يا نور عيني*** انتي بعد أيام فاطم تلحقيني

ص: 286

حينك فلا هو بعيد فاطم بعد حيني*** نادی حسن واحسين من قبل المنية

خلي حسن و حسين يا فاطم يجوني*** ابغي اودعهم قبل ما يفقدوني

نوحوا الفقدي يا بتوله واندبوني*** حطوا المآتم يا بتوله والعزيه

ساعه ولن الحسن مع خوه لحسين*** والكل منهم قابض الثاني باليدين

من حين عاينهم بكى خير النبيين*** حن وجدب ونه لهم خير البريه

نادى تعالوا يا أولادي لي ابسرعه*** المسموم واللي ابكربلا ينكسر ضلعه

واخته عنه تمشي ولا تحصل تودعه*** او يبقى رميه فى اتراب الغاضريه

والحسن كني بالطشت كبده رماها*** واجنازتك يحسين تبقى في عراها

او زينب تنادي ليتني ابقى معاها*** ننصب عليها اظلال وانسوی عزیه

من بعد عيني يا ولادي الله اللم*** من سفرني لابد ما يابني بحيكم

يوم التحطوا ابكربلا نقصد إليكم*** انجى لكم زوار بارض الغاضريه

نعم، لقد زار رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ولده الحسين عليه الصلاة والسلام وكان ذلك في اليوم العاشر من المحرم الحرام في كربلا وفي معيته الزهراء صلوات الله وسلامه عليها وقد نظرت(عليه السلام) بأم عينها الى ابنها الحسين(عليه السلام)وهو ملقى على بوقاء كربلاء ثلاثة أيام بلياليها بلا تغسيل ولا تكفين وقد سلبه القوم الظالمين كلّما عليه مما يعتد به، فأخذ درعه البتراء عمر بن سعد لعنه الله ، وأخذ قميصه إسحاق بن حويه لعنه الله فلبسه فصار أبرص وأسقط شعره، وأخذ سراويله بحر بن كعب التميمي لعنه الله وصار زمنا مقعداً من رجليه، وأخذ عمامته أخنس بن مرثد به علقمة الحضرمي وقيل جابر بن يزيد الأزدي لعنهما الله تعالى فاعتم بها فصار معتوهاً، وأخذ نعليه الأسود بن خالد لعنه الله ، وأخذ قطيفة له(عليه السلام) كانت من خز قيس بن الأشعث لعنه الله ، وأخذ سيفه جميع بن الخلق الأزدي لعنه الله وقيل: أخذ ذلك السيف المبارك رجل من بني تميم يقال له أسود بن حنظلة لعنه الله وقيل : إنّه أخذ سيفه الفلان أو المفلافس النهثلي لعنه الله وهذا السيف المبارك المنهوب ليس بذي الفقار فإن ذلك

ص: 287

كان مذخوراً ومصوناً، ومثله الخاتم مع أمثالهما من ذخائر النبوة والامامة، وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكنبي لعنه الله تعالى، وبهذه الأعمال الفضيعة التي فعلها القوم الكافرين لعنهم الله بسيد الشهداء والتي قد استوجبوا بها النار وغضب الجبار فإنّ نار الحزن لا تنطفي من قلوب المؤمنين ولله در الحاج الشيخ الجليل ملّا عطية الجمري قدس الله نفسه الزكية فيما وصفه من سلب القوم بهذه الأبيات المشجية والحزينة :

فعل بجدل يا خلق ما صار مثله أولا جرى***هيج أحزاني ويفت قلبي علي امن اذكره

ما كلفاه تقطيع أوصاله ولا حز الوريد*** أو لا ترضض جثته ابخيل العدى فوق الصعيد

او عاين الخاتم يلوح بخنصر حسين الشهيد**جامد عليه الدما واحنا يحزه بخنجره

وعلى التكه ويح قلبي قطع جماله الكفوف**عاينه موزع على التربان من ضرب السيوف

او عاين التكه ولزمها اولا دخل قلبه الخوف**مادري احسين أية الله اولو هو جثه امطبره

مد ابو سكنه يمينه او قطعها اومد الشمال***اورد براها ولكوان اتزلزلت والعرش مال

او نزل خير الرسل طه والوصى فحل للرجال*** والحسن والزاكية أمه والشعور امنشره

قعد والراس بيمينه يصيح يا جدي الرسول*** لشكي احوالي لبوي المرتضى ومي البتول

ص: 288

رضو العدوان صدري على الثرى بدوس الخيول*او شالوا بروس اخوتي لشام كلها مشهره

ظمه الهادي ابصدره والبتول امه تصيح*** مهجتي شذنبك يخلونك رميه ابلا طريح

بويه رخصني أخضب شعري من دم هالذبيح*** قال بویه اخذي او ناخذ والدموع امتثره

من دماه اتخضبت واتصيح يا ابني يا غيور*** يستمت سكنة وزينب ضيعتها ابها البرور

مخدره زينب ولاهي معوده تركب الكور***اشلون يا ابني زينب اتخليك عاري اعلى الثرى

قلها مرت بي وشافت جسمي من دمه غسيل***او خرت امن الجمل الوداعي او صاحوا بالرحيل

غصب عن جسمي خذوها او دمعها بخدها يسيل***سافرت لكن يزهری باليتاما امحيره نعم، أخذ القوم الكافرين تلك السيدة الجليلة والحوراء النبيلة قهراً أسيرة الى الشام ومعها علي بن الحسين عليهما والهاشميات، وبقيت أجساد آل الرسول مجزرين على رمضاء كربلاء والأنوار تتساطع منها وبين تلك الجثث الطواهر الزواكي ذلك الجسد الذي فاق نوره أنوارها جسد سيد الشهداء الامام ابي عبدالله الحسين عليه ألف صلاة وسلام روحي له الفداء ، ولا عجب من ذلك فإن ذلك النور هو نور الله جلّ وعلا كما انه لا يزل إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة يسطع في طفوف كربلاء المعلاة يتضح ذلك لمن أعمر الله قلبه بالايمان والتقوى، فإنّ من يرد كربلاء لزيارة الحسين عليه الصلاة والسلام ويلقي أول نظرة على روضته المقدسة يجد تلك الأنوار الحسينية تكاد تعم سماء الدنيا ولا عجب ولا مبالغة في ذلك إذ انّ

ص: 289

هذا كرامة من الله تعالى لوليه الحسين بن علي(عليه السلام) :

هذه روضة قدس بحسين الطهر تسطع*** تهبط الأملاك فيها وعلى العتاب تخضع

في بيوت أذن الله بأن العرش ترفع:

فإنّ هذه الأبيات الجليلة تلوح لمن يزور سيد الشهداء(عليه السلام)يجدها الزائر مكتوبة على باب الروضة المقدسة، كما يجد وينظر أيضاً على الضريح الحسيني أبيات أخرى لخادم أهل البيت(عليهم السلام)وشاعرهم الأستاذ الكبير الحاج الشيخ محمد علي اليعقوبي قدس الله نفسه الزكية اقترحها عليه معالي السيد جعفر حمندي - متصرف كربلاء يومذاك نظمها وذلك لتكتب بالصفائح الفضية على الضريح المقدس الذي أهدي من الهند، وقد كتبت على جبهاته الأربع ونشرت في مجلة الغري سنة 1361 وأيضاً الأبيات موجدة في ديوان الشاعر نفسه وهي أبيات تفتت الأكباد وتجري دموع عين من ينظر إليها ويقرأها :

زر بالطفوف ضريح قدس واعتكف*** بحماه حيث ترى الملائك عكفا

طف واسع فيه مقبلاً أركانه*** ما الركن ما البيت الحرام وما الصفا

فيه حشى الزهرا وقرة عينها*** وفؤاد حيدرة وروح المصطفى

تالله لم يكن الضراح وان علا*** بأجل من هذا الضريح وأشرفا

لا تفرج الكربات إلا عنده*** والضر عنك بغيره لن يكشفا

ما جئته يوماً وظهرك مثقل*** بالوزر إلا انحط عنك مخففا

لذ وادع ربك تحت قبته تجب*** والثم تراه تنل بتربته الشفا

عجباً يراق بها دم ابن محمد*** ودموع عينك لم ترقها ذرفا

ويموت ظمآن الفؤاد فلا حلا*** ماء الفرات الوارديه ولا صفا

أعطى الإله على الشهادة موثقاً*** فغدا بيوم الطف أصدق من وفى

هذا هو النور الإلهي الذي*** رامت لتطفئه الطغاة فما انطفى

ص: 290

هذا الذي شرع الاباء بموقف ***أعظم به في الغاضرية موقفا

هذا الذي بالطف ضحى باذلاً*** الله ما مللت يداه وما التفى

بالصحب بالأبناء بالنفس التي*** ذهبت بأنفسنا أسى وتلهفا

لا تخش طارقة القضا بفنائه*** فهو الأمان لمن أتى متخوفا

فلك به شمس الهداية كورت*** وهوی به قمر الإمامة واختفى

إن لم تزره عارفاً في حقه*** لم تدر ما معنى الولاء ولا الوفا

فاقصده من قرب وبعد زائراً*** واترك مقالة من لحالك وعنفا

نم انعطف نحو (ابنه) متذكراً*** قول الحسين له على الدنيا العفا

إن تكتسب شرفاً بلثم ضريحه*** فبمهده الروح الأمين تشرفا

ومما يناسب المقام أيضاً ما قاله الشيخ الجليل الحاج ملا عطية قدس الله نفسه الزكية فى هذه الأبيات المشجية :

يحسين كلنا نعتنى لك كربلا نزور*** بسما نوصلكم وننظر ذيك القبور

ندخل الحاير بالحنين او لطم لصدور*** ونجوم مثل الجلب لو فارق حميه

وانشوف عد رجلك علي يحسين مدفون*** و تهيج زفرتنا ويقرح ماي العيون

ونتذكر وقوفك عليه بقلب محزون*** محني الظهر واتصيح يبني اقطعت بیه

وابكل فريضه تروح للحاير الشيعة*** ومن مشهدك تطلع وتقصد للشريعة

اتزور القمر الازهر ابو كفوف القطيعة*** شيال رايتكم وسور الهاشمية

وبعد الزيارة للمخيم بالبكا نعود*** بسما نطبها تسيل دمعتنا بالخدود

ونذكر منادي ابن سعد يا قوم فرهود*** حرقوا الخيم سلبوا الحريم الخارجية

ونذكر وقوف مخدرتكم شابحة العين*** للمعركة والخيل حاطت بالنساوين

تنادي يعدوان الله الله بها النساوين***لتروعوها راقبوا رب البرية

ص: 291

ص: 292

الجلسة الثانية عشر : في فضل النبى والأئمّة (عليهم السلام) على الملائكة

قال طه إن النبتين أسمى*** من جميع الملائك الأصفياء

وأنا أفضل النبيين شأناً*** ومقاماً وأكرم السفراء

ولك الفضل في الخلاق بعدي*** ولباقي الأئمة الأتقياء

يا علي لم يخلق الخلق لولانا*** ولا كان منه خلق السماء

وانطوى الكون من جنان ومن ذار*** ومن آدم ومن حوّاء

قد سبقنا الملائك الغرّ في*** التوحيد الله صاحب الكبرياء

ورأوا علمنا بربّ البرايا*** فاهتدوا فيه أحسن الاهتداء

حيث أنا من قبلهم قد خلقنا ***حين كانت أرواحنا من سناء

ورأونا فاستعظموا الأمر منّا*** حين كانوا فينا من الجهلاء

فتعالى التسبيح والحمد منّا*** بعد تهليلنا لربّ العطاء

ليروا أنّنا عبيد ولسنا*** من قبيل الأرباب والنظراء

فتعالى التهليل الله منهم*** بعد تقديسهم له بالثناء

هم أبصروا جميعاً هدانا*** فاقتدوا فيه أفضل الإقتداء

وهم كُلفوا لآدم منه*** بسجود الإكرام والاشتفاء(1)

وهو قد كان للإله خضوعاً*** منهم دون سائر الشركاء

حيث أنا في صلبه قد خلقنا*** عند تعظيمه بخیر اعتناء

ص: 293


1- هكذا في النسخة ، ولعلّ الصحيح : الاحتفاء .

كيف لا نفضل الملائك طراً*** بعد هذي النعمى وهذا الحباء

وبوقت المعراج أذن مثنى***جبرئيل بمجمع الأمناء

قال لي للصلاة فيهم تقدّم*** أنت أولى مني بهذا العطاء

فتقدّمت للصلاة فصليت*** إماماً لهم من ورائي

وانتهينا في السير حتى بلغنا ***حجب النور من ذرى الإعتلاء

قال هذا حدي فلا أتعدّى*** أمر ربي في نقطة الإنتهاء

لو تقدمته أصيب جناحي*** باحتراق وكان يوم شقائي

زج بي النور زجّةً بعد هذا*** حيث شاء الباري من الإرتقاء

حين نوديت أنت عبدي وإني*** لك ربّ فرد بخير نداء

حجتي أنت في جميع عبادي*** ورسولي المختار من أصفيائي

لمحبيّك قد خلقت جناني*** ولمن خالفوك نار بلائي

وتفضلت بالكرامة لطفاً*** لك مني لصفوة الأوصياء

قلت يا ربّ من هم أوصيائي*** مَنْ لي اخترتهم بخير اصطفاء

قال فانظر سرادق العرش منّي*** حيث فيه خطوا بأسنى ضياء

فرأيت اثني عشر نوراً بهيّاً*** طبّقت أفق عرشه بالبهاء

كلّ نور من تحته خط سطر*** كتب اسم فيه من الأسماء

ختمت في المهدي خير ختام*** وابتدت في عليّ خير ابتداء

قال ربّي وعزتي وجلالي*** وهُم لي من خيرة الأولياء

سوف أنّي أطهر الارض فيهم*** من أثيم الضلال والاعتداء

بالامام المهدي آخر هاد***منهم هو قائم الخلفاء

عند تمليكه من الشرق والغرب***مقاليد تربة الحصباء

وانقياد السحاب والريح طوعاً*** لیديه في شدّة ورخاء

وبجند الملائك الغرّ يأتي*** النصر منّي له على أعدائى

فأكون المعبود في الأرض وحدي*** دون غيري حقاً ليوم البقاء

ص: 294

عرض ولاية النبي وأهل بيته على السماوات والأرض

قال طه إنّ المهيمن لمّا*** خلق الأرض واستوى للسماء

عرض العهد بالنبوة منّي*** وموالاة سيّد الأوصياء

ودعا فاستجابنا بعد عهد*** ولزوم عليهما بالوفاء

فوض الأمر بعد هذا إلينا*** منه بالدين طول عهد البقاء

فبنا يسعد السعيد ويشقى*** من جميع العباد أهل الشقاء

قال الله تعالى في كتابه المجيد : ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ قال في تفسير الكاشف : إنه من أحب الله تعالى يلزمه حتماً أن يحب رسول الله وأهل بيته لحب الرسول لهم ،ومن أحب الرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يلزمه حتماً أن يحب الله، والتفكيك محال ، قال تعالى:﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله )﴾ (1) لأنّ الرسول هو لسان الله وبيانه .... والعكس صحيح أي من نصب العداء للرسول وآله فقد نصب العداء الله من حيث يريد أو لا يريد، فأهل الأديان الأخرى الذين يدعون الايمان بالله ، ثم ينصبون العداء لمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم)هم من أعدى أعداء الله .

وإن قال قائل : إن جهلهم بنبوة محمد عذر مبرر. قلنا في جوابه : لا عذر إطلاقاً لمن اتبع أهواءه، وقلّد آباءه إلا بعد التثبت والنظر الى جميع الدلائل على نبوة محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)وما نظر عارف إلى هذه الدلائل نظرة عدل وإنصاف إلا آمن وأذعن.

ولا معنى لحبّ الصغير للكبير والعبد للسيد إلّا الطاعة والمتابعة وكل من أحب ما أبغض الله ورسوله ، وأبغض ما أحب الله ورسوله فهو عدو الله ورسوله وان خيل إليه انه من المحبين لأن ما يظن أنه حب دون أن يبرز له أثر ملموس فهو مجرد وهم وخيال.

﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ ظاهر هذه الآية أن حقيقة الدين هي طاعة الله والرسول ، وإن ترك هذه الطاعة يستلزم الكفر ،

ص: 295


1- سورة النساء : 80.

بل هو الكفر بالذات، لأنه قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ ولم يقل : إن الله يمقت العاصين أو يعاقبهم ، أي انه اعتبر سبحانه العصيان كفراً لا سبباً للمقت والعقاب فقط .

ثم قال بعد ذلك: (وهذا شيء خطير ومخيف جداً، حيث لا يبقي واحد على الدين والاسلام إلا النادر النادر...اللهم إلا أن يراد بالكفر هنا العصيان، مثل قوله تعالى:﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾(1)

وعلى أية حال، فنحن مأمورون ديناً وشرعاً أن نعامل من نطق بالشهادتين معاملة المسلم من حيث الإرث والزواج والطهارة وصيانة المال والدم وما عدا ذلك متروك إلى الله سبحانه ، ولسنا مسؤولين عنه .

أقول :بعد الاستفادة مما ذكره صاحب الكاشف حول تفسير هذه الآيات بعد المباركة وبيان الاستدلال بها على وجوب حب الله وحب رسوله وطاعتهما وكذلك حب وطاعة أهل بيت الرسول صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لابدّ من التنبيه على أمرين مهمين أيضاً :

الأمر الأول : انه بالاضافة الى وجوب الطاعة والحب للنبي وأهل بيته(عليهم السلام) أيضاً يجب الاعتقاد بأن النبي والأئمة هم أفضل المخلوقات العلوية والسفلية بما في ذلك الملائكة، وذلك لقول الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)مخاطباً أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام : يا علي إن النبيين أفضل وأسمى من جميع الملائكة الأصفياء وأنا أفضل النبيين شأنا ومقاماً وكرماً ثم لك الفضل على الخلائق من بعدي ولباقي الأئمة الأتقياء، يا علي لولانا لما خلق الله الخلق ولا كان منه تعالى خلق السماء، ويؤيده حديث الكساء المشهور وغيره من الأحاديث الدالة على ذلك. وقد نظم أكثرها الأديب الفاضل والحكيم العارف شيخنا الفرطوسي قدس الله

ص: 296


1- سورة آل عمران : 97 .

نفسه الزكية والأبيات الشعرية المتقدم ذكرها في هذه الجلسة المباركة ما هي إلا قليل من كثير مما نظمه الفرطوسي وغيره من العلماء لتلك الأحاديث الجليلة المتضمنة لفضل النبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام على عامة المخلوقات بما في ذلك الملائكة الأصفياء. الأمر الثاني : يجب الاعتقاد أيضاً بعصمة الأنبياء والأئمة الكرام عليهم الصلاة والسلام ، والدليل على عصمتهم واضح لمن تتبع الآيات القرآنية والأحاديث العلوية الدالّة على ذلك مثل قوله تعالى : ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾(1)قوله تعالى:﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾الآية المتقدم ذكرها وغيرهما من الآيات التي ذكرها العلماء في مبحث العصمة وسوف يأتي الحديث حول العصمة والأدلّة عليها في الجلسات المقبلة إن نشاء الله تعالى في الجزء الثالث من هذا الكتاب، وهنا نشير إلى أمور تدلّ على عصمة الأنبياء والائمة (عليهم السلام) على نحو الاجمال فنقول :

قال سيدنا الحجة السيد عبدالله شبر رضوان الله تعالى عليه :إن الدليل على وجوب عصمة الأنبياء والأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام مضافاً إلى النقل المتواتر وإجماع الفرقة المحقة والطائفة الحقة أموراً :

الأول : انه لو انتفت العصمة لم يحل الوثوق بالشرائع والاعتماد عليها، فإن المبلغ إذا جوزنا عليه الكذب وسائر المعاصي جاز أن يكذب عمداً أو نسيانا أو يترك شيئاً مما أوحي إليه أو يأمر من عنده فكيف يبقى اعتماد على أقواله.

الثاني : أنّه ان فعل المعصية، فإما أن يجب علينا اتباعه فيها فيكون قد وجب علينا فعل ما وجب تركه واجتمع الضدّان وإن لم يجب انتفت فائدة البعثة .

الثالث : إنه لو جاز أن يعصي لوجب إيذاؤه والتبري منه لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن الله تعالى نصّ على تحريم إيذاء البني فقال :

ص: 297


1- سورة الأحزاب : 33

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾(1)

الرابع : إنه يلزم بعصيانه سقوط محله ورتبته عند العوام فلا ينقادون إلى طاعته فتنتفي فائدة البعثة .

الخامس: إنه يلزم أن يكون أدون حالاً من آحاد الأمة، لأن درجات الأنبياء في غاية الشرف ،وكل من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش كما قال تعالى :﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ (2) . والمحض يرجم وغيره يحدّ ، وحدّ العبد نصف حدّ الحر، والأصل فيه انّ علمهم بالله اكثر وأتم ، وهم مهبط وحيه ومنازل ملائكته، ومن المعلوم أن كمال العلم يستلزم كثرة معرفته والخضوع والخشوع فينا في صدور الذنب، لكن الاجماع دل على أن النبي عل الله لا يجوز أن يكون أقل حالاً من آحاد الأمة.

السادس: إنه يلزم أن يكون مردود الشهادة لقوله تعالى :﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ (3) فكيف تقبل عموم شهادته في الوحي وأحكام الله تعالى، ويلزم أن يكون أدنى حالاً من عدول الأمة وهو باطل بالإجماع.

السابع : إنه لو صدر عنه الذنب لوجب الاقتداء به لقوله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ (4)، ولقوله تعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ (5) ، ولقوله تعالى :﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ (6) والتالي باطل بالاجماع وإلا لاجتمع الوجوب والحرمة.

الثامن: إنه لو لم يكن معصوماً لانتفى الوثوق بقوله ووعده ووعيده فلا يطاع

ص: 298


1- سورة الأحزاب : 57 .
2- سورة الأحزاب : 30 .
3- سورة الحجرات : 60 .
4- سورة آل عمران : 32 .
5- سورة الأحزاب : 21 .
6- سورة آل عمران : 31.

أقواله وأفعاله فيكون إرساله عبثاً .

التاسع :إنه لو لم يكن معصوماً لكان محل إنكار ومورد عتاب كما في قوله تعالى:﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ (1) ، وقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾(2) فيجب أن يكون مؤتمراً بما يأمر به منتهياً عما ينهى.

العاشر: إنه لو كان يخطىء لاحتاج إلى من يسدده ويمنعه عن خطأه وينبهه على نسيانه، فإما أن يكون ذلك معصوماً فيثبت المطلوب أو غير معصوم فيتسلسل .

الحادي عشر : انه يقبح من الحكيم أن يكلف الناس باتباع من يجوز عليه الخطأ فيجب كونه معصوماً ، ولأنه يجب صدقه إذ لو كذب والحال انّ الله أمرنا بإطاعته لسقط محله عن القلوب فتنتفي قائدة بعثته.

أقول : هذه الأمور تدلّ بكل وضوح على عصمة الأنبياء والأئمة عليهم الصلاة والسلام ، وقد أشار السيد المذكور بأن العمدة في ثبوت ثبوت العصمة هي الأخبار المروية في ذلك عن أهل البيت(عليهم السلام)وما ورد في الكتاب والسنة مما ظاهره نسبة الذنوب والمعاصي الى الأنبياء(عليهم السلام) فقد حمله العلماء العارفين على المحامل الصحيحة والتأويلات السديدة المذكورة في مظانّها فقد قالوا رضوان الله تعالى عليهم . ما خلاصته : «إنهم(عليه السلام)لما كانوا مستفرقين في طاعه الله عزوجل ومراضيه، ويعلمون أنهم بمرأى من الله ومسمع ومطلع على ظواهرهم وبواطنهم وسرائرهم وعلانيتهم ، فإذا اشتغلوا أحياناً عن ذكر ربهم ببعض المباحات زيادة على القدر الضروري عدوا ذلك ذنباً ومعصية في حقهم واستغفروا منه فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بيان هذا بنحو أكثر في مبحث العصمة في الجلسات المقبلة.

ص: 299


1- سورة البقرة : 44 .
2- سورة الصف : 13 .

ونشير هنا أيضاً إلى أنّ العصمة عبارة عن قوة العقل من حيث لا يغلب مع كونه قادراً على المعاصي كلها كجائز الخطأ ، وليس معنى العصمة أن الله يجبره على ترك المعصية ، بل يفعل به ألطافاً يترك معها المعصية باختياره مع قدرته عليها كقوة العقل وكمال الفطانة والذكاء ونهاية صفاء النفس وكمال الاعتناء بطاعة الله تعالى ولو لم يكن قادراً على المعاصي بل كان مجبوراً على الطاعات لكان منافياً للتكليف ، والاكراه في الدين، والنبي (صلی الله علیه وآله وسلم)أول من كلف حيث قال فأنا أول العابدين وأنا أول المسلمين وقال تعالى : ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾(1) ولأنه لو لم يكن قادراً على المعصية لكان أدنى مرتبة من صلحاء المؤمنين القادرين على المعاصي التاركين لها . قال الحكيم الفرطوسي:

وشروط النبي لابد فيه*** أن توفي بأحسن استيفاء

عصمة تدرأ المعاصي وتنأى*** فيه عنها بالذات أقصى ثنائي

فهو لو كان فاعلاً للخطايا*** أنكروا فيه سائر الأخطاء

وجفوه وما استجابوا إليه*** ونأوا عنه بعد هذا الجفاء

وهو لابد أن يكون بحق*** أعلم الناس من بني حواء

حيث فيهم لو كان أعلم منه*** في القضايا لاحتاجه في القضاء

ومتى يفتدي عليه إماماً*** وهو منه أحق بالاقتداء

وجميع الصفات يسبق فضلاً***بعلاها سوابق الفضلاء

وقال أيضاً:

والنبي الكريم لابد فيه*** أن يوفى على أتم وفاء

ما به عن سواه يسمو رقياً*** من شروط الاعجاز والارتقاء

معجز خارق يميز فيه*** حينما يصطفيه خير اصطفاء

يذعن المبطلون للحق فيه*** بعد عجز عن مثله وتنائي

ص: 300


1- سورة الحجر 99.

عصمة النفس عن جميع الخطايا*** مع إمكان فعلها والاباء

وامتناع النسيان والسهو منه*** وابتعاد عن سائر الأخطاء

ليتم الوثوق للخلق فيه*** بالتكاليف عن وقت الأداء

رحم طاهر وصلب زكي*** يجتبيه من أكرم الآباء

علم للهدى وعلم غزير*** منه تسقى مدارك العلماء

وجميع الصفات يفضل فيها*** سائر الخلق من بني حواء

واتفق المخالفون على عدم وجوب العصمة ووقوعها في أئمتهم، وأكثرهم بل جمهورهم على تجويز المعاصي على الأنبياء وبعضهم قد جوز الكفر عليهم قبل النبوة وبعدها وجوزوا عليهم السهو والغلط ونسبوا إلى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) السهو في القراءة. قال الحكيم الفرطوسي (قدس الله):

وأجازوا النسيان والسهو والكذب ***عليهم وسائر الأخطاء

وجميع الآيات ممّا نفتها*** بعد لبس فيها وبعد خفاء

هي محمولة على خير معنى*** مستفاد من خيرة الخلفاء

فتتبع مواقع الحمل فيها*** عند تأويلها من الأصفياء

وممن مال إلى جواز السهو على النبي اشتباهاً من علمائنا شيخنا الصدوق محمد بن بابويه وأستاذه محمد بن الحسن بن الوليد فإنّهما ذهبا إلى جواز السهو على النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وقالا : ليس سهو النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)كسهونا ، لأن سهوه من الله عز وجل أسهاه ليعلم أنه بشر مخلوق فلا يتخذ معبوداً ،دونه وسهونا من الشيطان وليس للشيطان على النبي والأئمة(عليهم السلام) سلطان، واستندا في ذلك إلى بعض الأخبار الشاذة الموافقة للعامة وإن رويت بطرق عديدة وهي ان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)سلّم في ركعتين فسأله منخلفه يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء.

قال : وما ذاك.

قالوا: إنما صليت ركعتين.

ص: 301

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): أكذلك ياذا اليدين وكان يدعى ذا الشمالين ؟

فقال : نعم، فبنى على صلاته فأتم الصلاة أربعاً .

وقال الصادق : ان الله تعالى هو الذي أنساه رحمة للأمة ألا ترى لو أن رجلاً صنع هذا لعير ونحوه غير.

وفي بعضها : أنه(صلی الله علیه وآله وسلم)صلى الظهر خمس ركعات ثم انفتل فقال له بعض القوم :يا رسول الله هل زيد في الصلاة شيء ؟

قال : وما ذاك ؟ قالوا : صليت بنا خمس ركعات فاستقبل القبلة وكبر وهو جالس، ثم سجد سجدتين.

وفي بعضها : إنه(صلی الله علیه وآله وسلم)نام عن الصبح والله عز وجل أنامه حتى طلعت الشمس عليه وكان ذلك رحمة من ربك للناس.

وفي بعضها : أن أمير المؤمنين(عليه السلام) صلّى بالناس على غير طهر وكانت الظهر ، ثم دخل فخرج مناديه ان أمير المؤمنين(عليه السلام) صلى على غير طهر فاعيدوا وليبلغ الشاهد الغائب.

وفي بعضها ان الباقر(عليه السلام)غتسل من الجنابة فقيل : قد بقيت لمعة من ظهرك لم

يصبها الماء، فقال له : ما كان عليك لو سكت؟ ثم مسح تلك اللمعة بيده .

وروى الكليني أن أول كتاب كتب في الأرض ان الله عرض على آدم ذريته ، فلما نظر إلى داود وعرف قصر عمره قال : قد وهبت له من عمري أربعين سنة ، فقال الله تعالى لجبرائيل وميكائيل : اكتبوا عليه كتاباً فإنّه ينسى هذا أقصى ما استدلا به .

ومجمل القول انّ هذه الأخبار الناطقة بجواز السهو على النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)لم يعتمد عليها أكابر علمائنا، وعلى هذا فهي ساقطة الاعتبار فلا يصح التمسك بها على دعوى جواز السهو، وإن صح ما نسب إلى ابن بابويه وأستاذه أو غيرهما من علماء الامامية من القول بجواز ذلك على النبي فلابد من نسبة السهو إلى ابن بابويه نفسه وإلى أستاذه بل إلى كل من يقول ذلك أولى بها من نسبة السهو إلى النبي المبلّغ عن

ص: 302

الله تعالى نعوذ بالله من سوء الاعتقاد . قال الحكيم الناصري(قدس الله)، ولنعم ما قال:

كيف يكون السهو للمعصوم*** حاشاه من نقص ومن مذموم

وكيف يؤخذ بكلام الساهي*** في سائر الأحكام والمناهي

أعمالنا في الدهر طبق قوله*** وما نهى عنه لزاماً ننتهي

فتسقط الحجة من مولى الورى*** عن العباد وهو بالعدل جري

فهذه الأدلة المشتهرة*** عقلية نقلية مقررة

ولم يكن معارضاً لها الخبر*** ولو يكون عالياً ومعتبر

كيف وذو اليدين يروي الخبرا لكن لما يرويه لن نعتبرا

ونسبة السهو إلى الجزائري(1) ***ولابن بابويه والنظائري

أولى بها من نسبة السهو الى*** مبلغ الأحكام ما بين الملا

فنسبة السهو إلى الرسول*** مخالف للعقل والمنقول

ذاك حديث الثقلين يشهد*** أنهما في العالمين المقصد

كذلك الأئمة الاثني عشر*** هم بشر لكنما فوق البشر

ونحن مأمورون بالتمسك*** بالعترة إلى الكتاب نتكي

انهما في الدهر لن يفترقا*** على ضفاف الحوض كان الملتقى

فالسهو للمعصوم غير لائق*** وسهوه يهلك للخلائق

لأنه قد يسهو في الأحكام ***ويلزم الاضلال للأنام

وخلاصة القول وصفوته أنّ السهو والهجر والغلط كل ذلك لا يجوز ان ينسب إلى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)بأي حال من الأحوال، ولكن علماء العامة قد جوّزوا ذلك اقتداءً بالمتقدمين من القوم الذين قد هجروه ونسبوا إليه ما لايليق بمقامه الشريف السامي فإنّه قد جاء في السيرة : ان النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)قبيل وفاته قال : أيها الناس إني مخلف فيكم التقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي انهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض

ص: 303


1- إشارة إلى السيد نعمة الله الجزائري فإنّه أيضاً ممّن يقول بجواز السهو على النبي(صلی الله علیه وآله وسلم).

فتمسكوا بهما ولا تتقدّموا عليهم فتمزقوا ولا تتأخّروا عنهم فتهرقوا ، وأوفوا بعهد الله وعهدي ولا تنقضوا بيعتي التي بايعتموني عليها، اللهم إني بلغت ما أمرتني به ونصحت لهم ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، ثم قام الله (صلی الله علیه وآله وسلم)ودخل حجرته ، ثم دعا من استدعى له بالأوّل والثاني ومن كان في المسجد حاضراً فقال : ألم آمركم أن تنفذوا جيش أسامة ؟ فقال الأول : بلى يا رسول الله .

قال : فلم تأخرت ؟

قال : رجعت لأجدّد بك عهداً ثابتاً .

وقال عمر : إني لا أحب أن أسئل عنك الركبان.

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) : نفّذوا جيش أسامة يكررها ثلاثاً لعن الله من تخلّف عنه، فبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وولده فلما أفاق من غشوته قال: أتوني بدواة وكتف اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ، ثم أغمي عليه(صلی الله علیه وآله وسلم) فقام بعض من حضر ليأتي بالدواة والكتف فقال له عمر :ارجع انّ رسول الله يهجر ، ثم تلاوموا فيما بينهم فبعض يقول :أطيعوا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وأتوه بالدواة والكتف

، وعمر يقول: ارجع عن ذلك، وقال آخرون إنا لله وإنا إليه راجعون، فوالله لقد أشفقنا بمخالفتنا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، فلما أفاق قال بعض من :حضر ألا نأتيك بالدواة والكتف يا رسول الله ؟

فقال (صلی الله علیه وآله وسلم): بعد الذي قلتم لا (1) ولكن أوصيكم بأهل بيتي خيراً وأعرض بوجهه المبارك عن القوم فنهضوا عنه .

قال بعض العارفين:

أوصى النبي وقال قائلهم قد ظل يهجر سيد البشر ورأي أبا بكر أصاب ولم يهجر وقد أوصى الى عمر قال : ولم يبق عند رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)غير علي(عليه السلام) و عمه العباس (رض) وأهل

ص: 304


1- لأنه أراد أن يؤكد على الوصية السابقة فلما علم منهم عدم الاعتناء أعرض بوجهه المبارك عنهم .

بيته، فقالوا: يا رسول الله إن يكون فينا هذا الأمر فبشرنا وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوص بنا خيراً .

فقال (صلی الله علیه وآله وسلم): أنتم المستضعفون بعدي المضطهدون بعد موتي، فنهضوا وهم يبكون وقد آيسوا من النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)، فلما خرجوا من عنده قال (صلی الله علیه وآله وسلم) : ردوا لي عليا (عليه السلام)وعمي العباس، فلما حضرا قال (صلی الله علیه وآله وسلم) لعمه العباس : يا عم هل لك أن تقبل وصيتي وتنجز وعدي وتقوم بأمر أهل بيتي من بعدي ؟

فقال : يابن أخي إن عمك شيخ كبير ذو عيال كثيرة وأنت تباهي الريح سخاء وكرماً وعلماً وعليك وعد لا ينهض به عمك ، فأقبل(صلی الله علیه وآله وسلم)على ابن عمه علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام وقال : يابن العم أنت وصبي وتنجز وعدي وتقوم بأمر أهل بيتي من بعدي ؟

قال (عليه السلام): نعم فداك أبي وأمي .

فقال (صلی الله علیه وآله وسلم): ادن مني، فدنا منه وضمه إلى صدره وقبله ونزع خاتمه المبارك وقال : ضعه في يدك فدعا بسيفه ودرعه ولامة حربه ولفته وعصابته التي يشدّ بها وسطه إذا برز للحرب فدفع ذلك كله إليه ، فقال (صلی الله علیه وآله وسلم): امض به إلى منزلك.

قال : فدخل ابن عباس على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فقال : قد دنا أجلك يا رسول الله . قال: نعم. قال: فبما تأمرنا به؟

فقال له : یابن عباس خالف من خالف عليا(عليه السلام)ولا تكن له ظهيراً ولاوليا .

قال ابن عباس: فلم لا تأمر الناس بذلك ؟

فبكى النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)حتى أغمي عليه ، فلما أفاق قال :يا بن عباس سبق الكتاب فيهم وعلم ربي فوالذي بعثني بالحق نبياً لا يخرج يخرج أحد من الدنيا أحد الدنيا ممن أنكر ولايته وجحد حقه حتى يغيّر الله ما به من نعمة وخير يابن عباس إذا أردت أن تلقي وهو عنك راض فاسلك طريقاً يسلكه علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام،

ومل معه حيث مال وارض به إماماً ، وعاد من عاداه ، ووال من والاه يابن عباس

ص: 305

احذر أن يدخلك الشك في علي عليه الصلاة والسلام فإنه كفر بالله ثم دخلوا عليه أصحابه يعودونه وفيهم أبو بكر فقال : يا رسول الله متى الأجل ؟

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): قد حضر . فقال أبو بكر : إلى أين المنقلب ؟

قال(صلی الله علیه وآله وسلم): الى سدرة المنتهى وجنة المأوى والرحيق الأعلى والكأس الأوفى والعيش الأهنى . قال أبو بكر : فمن يلى غسلك منا ؟

قال(صلی الله علیه وآله وسلم):رجل من أهل بيتي الأدنى فالأدنى . قال : فيما كفنك ؟

قال(صلی الله علیه وآله وسلم): في ثيابي هذه أو في حلّة يمانية أو في بياض مصر.

قال : كيف الصلاة عليك ؟ فارتجت الأرض بالبكاء والنحيب فقال : مهلاً إذا أنا غسلت وكفنت ضعوني على سريري ثم أخرجوا عني ساعة فإنّه أول من يصلي عليّ الجبار جلّ جلاله ثمّ الملائكة ، ثم ادخلوا عليّ زمرة بعد زمرة فليبدأ بالصلاة عليَّ منكم الأدنى فالأدنى من أهل بيتي مع الملائكة لا يرد معهم أحداً فقوموا عني إلى من ورائكم. ثم استأذن عليه جماعة آخرون فسلموا عليه فقام من بينهم عمار بن ياسر فقال : فداك أبي وأمي يا رسول الله فمن يلي غسلك منا ؟

فقال : ابن عمي علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام، فدعا به فأجابه بالتلبية ، فقال : يابن العم سند ظهري فشده في صدره ثم قال : يابن العم إذا نزل بي الموت فضع رأسي في حجرك ، وإذا فاضت روحي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ثم وجهني إلى القبلة ثمّ غسلني واتقن في غسلي ثم كفني في طمري هذا أو بياض مصر ولا تغال في كفني ثم تصلي عليَّ في أول الناس، واعلم أنه أول من يصلي عليَّ الجبار جل جلاله ثم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل والملائكة المقربون الحافّون بالعرش يسلّمون تسليماً ويومون إيماء ثم سكان كل سماء ثم أهل بيتي ولا تؤذوني بصوت نادب ولا امرأته ثم إنّه أمر علياً عليه الصلاة والسلام أن يضجعه على فراشه فقام القوم عنه، فلما كان من الغد حجب(صلی الله علیه وآله وسلم)نفسه عن الناس وكان عليّ عليه الصلاة والسلام قد خرج لحاجة فدخلن عليه نساؤه، فأفاق

ص: 306

النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)من غشوته فافتقد علياً فقال (صلی الله علیه وآله وسلم) لأزواجه : ادعوا الي أخي وصاحبي، فقالت الحميراء : ادعوا له أبا بكر ، فدعي له فلما نظره رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أعرض عنه بوجهه ، فقام وقال : لو كان له حاجة لأفضى بها إليَّ ، فلما خرج من عنده قال(صلی الله علیه وآله وسلم):ادعوا لي أخي وصاحبي.

قالت الثانية : ادعوا له عمر ، فدعي فلما رآه أعرض عنه، فقام عمر وقال : لوكان له حاجة لأفضى بها إلي ، فلما خرج عنه قال له : ادعوا الي أخي وصاحبي.

فقالت أم سلمة : ادعوا له علياً عليه الصلاة والسلام فوالله ما يريد غيره، فدعي له، فلما رآه أومى له بالدنو منه ، فدنا منه فانكب عليه من تحت الثوب فناجاه طويلاً.

قال الحكيم مولانا الشيخ عبدالمحسن الفرطوسي شاعر آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. ولنعم ما قال الشيخ قدس الله نفسه الطاهرة عن لسان النبي(صلی الله علیه وآله وسلم).

قال طه ادعوا إلي حبيبي*** حين وافى له نذير الفناء

فدعت عائش أباها فألقى*** رأسه عنه معرضاً بجفاء

ودعوا حيدراً له حين قالت*** هو يبغى الوصي عند الدعاء

فرآه فأخرج الثوب عنه***مدخلاً للوصي تحت الرداء

وغدا حاضناً علياً إلى أن*** قبضت نفسه بأمر القضاء

ويد المصطفى أخيه عليه*** لم تزل عنه في وداع الإخاء

فلو سألتك بالله ما حال علي عليه الصلاة والسلام في تلك اللحظات الحاسمة وهو يرى النّبي العظيم يلفظ أنفاسه الأخيرة ثم ما حال زوجته الصديقة فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام وهي ترى أباها وهو يجود بنفسه نادت ولديها حسناً وحسيناً وهي باكية قائلة : قوموا نودع جدّكم ولسان حالها يقول لهم أيضاً تزودوا من الرحيم الودود ، ولقد أجاد الملا علي الفائز فيما قاله من وصف السيدة

ص: 307

الصديقة(عليها السلام) في تلك اللحظات:

فاطم تقل لولادها وادموعها همّاله***قوموا نودع للنبي حطوه في شيّاله

طلعت اوهيه تنادي او شبلينها وياها ***يا والدي يا محمد يا مصطفى يا طاها

عن بضعتك يا سافر تشمت عليها اعداها*** وانكان عني شايل وياك آني شياله

لحد يبو شبليني باتروح عن شبليني*** وآني العزيزه الغالية باتروح وابتخليني

يا عزوتي يا رجالي قوموا ادفنوني حيه*** من غير ماي جاري او من غير غسل اونيه

لجله لشد اعصابتي واهمل مدامع عيني*** وامن الحزن لتحمل حمل يكض شيّاله

والهون يا شياله وبالهون يا شياله *** نعش النبي المصطفى بالهون يا شياله

يا مجهزين الهادي بالهون لا تشيلونه*** خلة يجي سبطينه هاليوم تنظر حاله

خلو البتولة اتودعه من قبل ما تدفنونه*** خله يجي له عزوته و اجماعته ايحضرونه

جتي البتوله اتنادي مع والدي دفنوني ***ياياب عفت الدنيا بعدك ينور اعيوني

يا ياب جتني قومك وانبارهم حرقوني ***اوقادوا وصيك وتركوا المدامعي هماله

ص: 308

ما دابها لا تنتحب في دارها واتنادي*** قوموا القبر المصطفى بانروح يا اولادي

تنصب عزاها عنده واتشمه واتنادي ***يابوي صرنا بعدك في ذل واسوأ حاله

يعقوب ما صار ابحزن ياياب مثل احزاني*** ولادنيه نالت مثلي أو عشيرا شجاني

وأظلم عليه كوني واتشمتت عدواني *** بعدك رمتني الدنيا او معتادها مياله

يا به علي المرتضى دخلوا عليه ابداره*** والا جنبي يابويه قام وحرقها ابناره

نعم، لقد حرق القوم بيت الرسالة، وحرق أبناء القوم مخيمات بنات الرسالة يوم عاشوراء .

قال مولانا زين العابدين عليه الصلاة والسلام : لقد رأيت عماتي وأخواتي يتفاررن من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء الى خباء والنار تشتعل في أذيالهن والمنادي ينادي: احرقوا بيوت الظالمين، بل ولم يكتف القوم بذلك وإنّما كبسوا المخيمات على آل رسول الله وهم ينادون وامحمداه وا علياه واحسناه واحسيناه این المحامي و اين الكفيل ؟ ولسان حال النساء يقول :

دخلت علينا القوم وين أهل الحمية*** قوموا ادركوا الخيمة يفرسان الضربه

يحسين زينب في الخبا باتت بلا اکفیل*** ما في خباها إلا يتاماها ولعليل

مادري شسوي ابها اليتامى بظلمة الليل*** نسوه بلیا اكفيل يا راعي الحميه

من قبل ما يمسا مسانا یا نساوين*** قوموا نروح المعركه واندوّر احسين

معلوم ما يدري العدى وصلوا الصياوين***ما يدري الايتام في ضيم أو أذيّه

وقفت على باب الخيام تنعى او تنادي*** من حولها النسوان حسره وستره بالايادي

ص: 309

او فرسانها فوق الثرى صرعى او ضحيه ***واخيامها امن ارجالها كلها خليّة

نادت على العباس يا حامي ظعنا*** سمعها ابو فاضل او جاوبها ابونه

ردي الخيمة يسكنه ابغير رنّه*** ماقدر اسمعك تجذبي الونه خفيه

لوكنت انا بلوجود ما حد وصل ليكم*** والخيل ما جتكم ولا واحد يجيكم

لكن بليا اكفوف وذا عذري إليكم*** أشكو إلى الله من فعل أرجاس أميّه

عمك يسكنه ايعود لا تترقبينه*** زندي بليا اكفوف حالي تنظرينه

قالت يعمي من يردنا للمدينة*** وانا بليا اقناع ما ترضى عليه

لا عم ولا والد ولا بعل بقى لي*** واظعن النسا ميشيل نسوه بغير والي

قوموا انظروا زينب يهلها ابغير والي*** ثوروا اليها بالعجل يهل الحميه

واحسين ما ندري وقع في وين جسمه*** قوموا ينسوه انروح له كلنا ابلمه

نوقع على جسمه او نتخضب ابدمه*** وانشيل جسمه خوفتي يبقه رميه

هجمت علينا الخيل وين امشرّد الخيل*** ادرك حريمك ياوليها ابغير تمهيل

يحسين جاوبنا جثثكم ما ندلهم*** كلنا حريم وعقب عينك ماحد الهم

اتوكأ على سيفك يخويه وانهض الهم*** او عنا ترد القوم يابن امي مع الخيل

قلها دسكت يا حزينة ما لي اكفوف*** اوجثتي يزينب بضعوها ابضرب لسيوف

غصب عليه وصلوك او عيني اتشوف*** والدم من جسمي جرى يختي كالسيل

لا تفجعيني يا حزينة ابصوت رنّه*** انتي تحاكيني وانا اجذب الونّه

قالت يخويه وين شخصك غاب عنا*** يوم علينا في خيمنا هجمت الخيل

لا تفجعيني يا حزينة من خينك*** مالي يزينب مقدره اسمع ونينك

حال القضا يمخدره بيني او بينك*** اشبيدي على امر جرى يعفيفه الذيل

سرعك قبل موتي تعالي حق لوداع*** قالت ينور العين يا ذخري يمنّاع

ودي أناجي لك ولكني بلا اقناع*** انا مع الأيتام واطفالي ولعليل

قلها يزينب باري اسكينه واخوها*** لا من بكت سكنه يزينب سكتوها

ص: 310

مكسورة الخاطر على عمها وابوها*** بعد المعزه صارت ابولية أراذيل

خفي البكي اوصيك يختي او رفعة الصوت*** وجيبي لي الصغرى أشمها قبل ماموت يونس انا يختي او صارت كربلا حوت*** او يونس ما عنده نساء طلت بلا كفيل

او جيبي لي اسكينه بقبلها او بشمها*** توقع على صدري او بيديني بلمها كسورة الخاطر على بوها أو عمها*** اشبید علی امر جرى يعفيفة الذيل

نعم، جاءت سكينة وهي تنادي بأعلى صوتها قائلة : ياحبيبي ياحسين عليك مني السلام وهي أيضاً في نفس الوقت تعاتبه قائلة :

يبويه ليش ما تنغر عليه***مني سكنه العزيزه الفاطميه

یبویه اساعدوي شمت بيه ***ذليله ايشوفني ما بین عسکر

يبويه انروح كل احنا فداياك*** اخذني للكبر يحسين وياك

اهي غيبة يبويه وكعد أتناك*** وكلمن سافر اويومين يسدر

يبويه اللي وكع من بين اديه*** جتَل عطشان ما تشرب أُميّه

یبویه ریت هالنومه هنیه*** او من بعدك يريت الناس تسهر

على امصابك يبويه لصب دمعي*** وخلى عليك انوح الليل طبعي

لحرّم ما يجيس الكاع ضلعي*** ولا كلبي بعد فرقاك يستر

يبويه كول لا تخفي عليه*** هذي روحتك لو بعد جيّه

یبویه انجان رايح هاي هيه*** اخذني اوياك عنك مكدر اصبر

يبويه من شفت مهرك لكاني*** ذاب القلب وانخطفت الواني

بويه ايعود لي بيكم زماني*** وشوف الدهر بيكم يرد يزهر

يبويه باد حيلي وحك جدك*** عسى للكاع خدي دون خدك

یبویه شال راس الدين بعدك*** والدنيا اظلمت والكون مغبر

نعم، لقد أظلمت الدنيا واسود الكون لفقد سيد الشهداء، وقوضت أركان الدين عندما رفع رأس الحسين عليه الصلاة والسلام على رأس رمح طويل والريح

ص: 311

تلعب بشيبته الشريفة المباركة، يقول هلال ابن نافع : إني لواقف مع أصحاب عمر بن سعد لعنهم الله تعالى إذ صرخ صارخ : أبشر أيها الخنزير بالنار وغضب الجبار فهذا شمر لعنه الله قد قتل الحسين(عليه السلام)، فخرجت بين الصفّين فوقفت عليه وأنه (عليه السلام)ليجود بنفسه فوالله ما رأيت قتيلاً مضمخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً ، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن الفكرة في قتله فاستسقى في تلك الحال ماءً فسمعت رجلاً لعنه الله تعالى يقول : والله لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها ، فسمعت الحسين عليه الصلاة والسلام يرد عليه ويقول : أنا أرد الحامية فأشرب من حميمها لا والله بل أرد على جدي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وأسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر وأشرب من ماء غير آسن وأشكو إليه ما ارتكبتم مني وفعلتم بي، فغضبوا بأجمعهم لعنهم الله تعالى حتى كأن الله لم يجعل في قلب احد منهم من الرحمة شيئاً، ثم قال سنان لعنه الله تعالى لخولي بن يزيد لعنه الله تعالى احتز رأسه فبدر خولي لعنه الله تعالى ليحتز رأسه الشريف فضعف وأرعد، فقال له سنان وقيل شمر لعنهما الله تعالى : فتّ الله في عضدك مالك ترعد ؟

فقال له : نعم أرعد من هيبته ونور وجهه، ثم نزل سنان لعنه الله وقيل شمر لعنه الله إليه فذبحه ثم احتز رأسه الشريف وهو يقول : والله لأحتز رأسك وأعلم أنك السيد المقدام وابن رسول الله وخير الناس أباً وأماً ، ثم دفع الرأس الشريف إلى خولي فقال : احمله إلى الخنزير عدو الله عمر بن سعد لعنه الله ورسوله وملائكته والناس أجمعين آمين عليه اللعنة وسوء الدار إلى ويوم يبعثون.

رأس ابن بنت محمد ووصيه*** للناظرين على قناة يرفع

والمسلمون بمنظر وبمسمع*** لا منكر منهم ولا متوجع

كحلت بمنظرك العيون عمايه*** وأصم رزؤك كل أذن تسمع

***

الله أكبر من خطب بنا نزلا*** للحشر يوقد في قلب الهدى شعلا

ص: 312

رأس الحسين برمح للكتاب تلا*** بنت النبي الا قومي الفداة الى

باز تنشب في مخلاب عصفور

قومي انظري الكوكب الدري في لدن*** نعش له لم يشله غير ذي إحن

حنوطه رشق نبل القوم في بدن*** قومي الى ميت مالف في كفن

يوماً ولا نال من سدر وكافور

قومي ليدر علا من أوجه سقطا*** لا هوت قدس له التشكيل كان غطا

على محاسنه كيف الجياد تطا ***قومي الى الصقر لم يظفر بسرب قطا

بل عدن من دمه حمر المناقير

قومي اندبي بين أهل الأرض عصمتها*** بعوله تسمع الأملاك جلبتها

قومي لرأس هدى أهدوه صعدتها*** وجئة أبلت الأيام جدتها

وغيرتها الليالي أي تغيير

فلو سألتكم يا شيعة آل الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم): هل فيكم من يلتذ بالكرى أو يهدأ له بال بعد هذا المصاب العظيم والفادحة الكبرى التي حلت بفناء آل الرسول ؟ لأجاب لسان أحدكم كيف السلو ورأس الحسين عليه الصلاة والسلام فوق رأس رمح طويل وجسده المبارك الشريف ترضه الخيول العاديات، هذا أحد الشعراء العارفين المتفانين في حبّ آل محمد(عليه السلام) والذي قد أقضت مضجعه هذه المصيبة وتركته حيران بلا هدوء فأخذ يرثي الحسين(عليه السلام) بقوله :

غاب عنّي الكرى وطيب الرقاد*** حسين جفني غدا حليف السهاد

لمصاب اشاب سود الليالي*** بعد ما جلبب العلا بسواد

هد ركن الهدى والمجد والدين*** واشاد الضلال بعد الرّشاد

يا لخطب جرى على علة الكون*** وغيث البلاد غوث العباد

سبط خير الأنام وابن علي*** القدر والشأن علة الايجاد

لستُ أنساه مفرداً بين جمع*** برزوا فيه كامن الأقحاد

ص: 313

يحطم الجيش رابط الجأش حتى*** صبغ الأرض من دماء الأعادي

لم يزل يحصد الرؤوس بعضب ***أبداً للدماء في الحرب صادي

وإذا بالنّداء عجل فلبّى ***وهوى للسجود فوق الوهاد

نال في المجد والفخار صعودا*** مذهوى في الصعيد صعبُ القياد

عجباً للسماء لم تهو حزناً*** فوق وجه البسيط بعد العماد

عجباً للمهاد كيف استقرّت*** ونظام الوجود تحت العوادي

عجباً للنجوم كيف استنارت ***لم تغب بعد نورها الوقاد

بيد ان الإله عم البرايا*** بهبات من فضله وأيادي

بثمال العفات عين المعالي*** سيّد الكائنات زين العباد

حيث لولا وجوده لأهيلت*** ولساخت وبرقعت بسواد

ومثير الأشجان رزؤ الأيامى*** مذوعت بالصهيل صوت الجواد

برزت للقاء تعثر في الذيل*** وقاني الدموع شبه الفوادي

فرأت سرجه خليّاً فنادت*** تلك واوالد وذي واعمادي

وغدت ولهاء بغير شعور*** نحو مثوى بقية الأمجاد

فرأت في الصعيد ملقى حماها*** هشمت صدره خيول الأعادي

فدعت والجفون قرحى وفي القلب *** لهيب من الأسى واتقاد

احمى الضايعات بعدك ضعنا ***فی يد النّابئات حسرى بوادي

او ما تنظر الفواطم في الأسر*** وستر الوجوه منها الأيادي

ثكلاً ما ترى لها من كفيل***حسری بین عصبة الالحاد

ثم تدعو فما ترى من مجيب ***لنداها سوى صداء الوادي

ایها المدلج الجسور رويداً*** قف تحمّل شكوى لأهل وداد

عج بوادي الغري واخضع إذا ما*** شمت مثوى الوصي غوث المنادي

قل له والعيون عبرى أيا من*** هو ذخر للمعضلات الشداد

ص: 314

قم فهذا الحبيب ملقى على الأرض*** عفيراً قد كنته البوادي

جسمه في الصعيد تعدو عليه*** الخيل والراس فوق سمر الصعاد

حوله من بنيه أقمار تمّ*** كالأضاحي سقوا كؤوس الحداد

وبنات الهدى سوافر بعد*** الصون والحجب في يد الأوغاد

نعم ، لقد بقي جسمه الشريف في صعيد كربلاء تعدو عليه الخيول العاديات، أمّا الرأس المبارك فهو على سمر الصعاد تلعب الريح بشيبته المباركة، وكأني بالسيّدة الجليلة الحوراء زينب تخاطب حامل ذلك الرأس الشريف قائلة :

يشيّال رأس حامینه اولینه*** ريض خلي اتودعه اسکینه

ليش احسین ساجت عن ونينه ***كلي تعب يوجرحه تخدر

یا شایل راسه لا تلوحه*** او هبط عن بقايا الروس رمحه

أخاف يفوت رايح الهوى ابجرحه*** واصوابه عليه ايكوم يسعر

يشيال راس احسین سدره*** رد الجنّته او سده ابكبره

بدر الوجود بأرض الطف قد افلا*** ومقتدى أحمد بالسيف قد قتلا

بكفّ أرجس رجس رأسه احتملا*** بنت النبي الأقومى الفداة الى

باز تنشب في مخلاب عصفور

آلا البسي في العزا ثوب الأسى نمطا*** لأجل منعف اضحى بغير غطا

قد ديس بالنعل صدر للعلا سفطا*** قومي الى الصقر لم يظفر بسرب قطا

بل عدن من دمه حمر حمر المناقير

ص: 315

ص: 316

القسم الرابع

اشارة

هذا هو القسم الرابع من الجزء الأول من كتابنا (موسوعة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)والعترة(عليه السلام)) وهو يشتمل على اثني عشر جلسة وتكون بحسب تنظيم هذا الجزء من الموسوعة مشتملة على :الجلسة الثالثة عشرة ،والرابعة عشر ،والخامسة عشر ،والسادسة عشر ، والسابعة عشر ، والثامنة عشر ،والتاسعة عشر ، والعشرون والحادية والعشرون ،والثانية والعشرون ، والثالثة والعشرون . والرابعة والعشرون ، وقد تحدثنا في هذه الجلسات المباركة عما يلي من المواضيع المهمة المتعلقة بشخصية الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم):

تنزيه الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) عما لا يليق به . الطرق الدالة على معرفة الرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) . أخلاق الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) وصفاته الحميرة . ما أحله الله لرسوله الكريم من النساء . أمر الله لرسوله(صلی الله علیه وآله وسلم)بالدعوة وأظهارها. أذية أبي لهب لرسول(صلی الله علیه وآله وسلم). مكر الكفار برسول الله. لا يصح أن يلصق بالرسول أو الائمة(عليه السلام)صفة من صفات الربوبية . الاعتصام بالله وعدم التفرقة . الانقلاب بعد موت الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم). ارتداد القوم بعد وفاة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم). حقيقة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)لايدركها إلا المعصوم .

ص: 317

ص: 318

الجلسة الثالثة عشر : في تنزيه الرسول الكريم صلی الله علیه و آله عمّا لا يليق به

ليس الله حبيب غيره*** وله أعطى الكمالات تماماً

رحمة الله التى من رشحها*** رقت الآباء على الأبناء دواما

خیر من أرسله الله إلى*** خلقه بل كان لطفاً وعصاما

فأبوا كفراً هداه كلّما***جاء بالآيات صارت تتعامی

كان يدعى في قريش صادقاً*** وأميناً حيث لم يفعل اثاما

فلماذا كذبته وجفت*** ثم همّوا أن يذيقوه الحماما

لم يهاجر وله في مكة*** ناصر يدفع ضيماً واهتضاما

ولقد أوذي من أمته*** بأذى لم ينل الرسول الكراما

وقد ازدادوا عتوّاً وجفاً*** إذ أقام المرتضى فيهم إماما

وتواصت ضلة أن يقض في*** آله لم ترع إلا وذماما

بأبى أفضل داع للهدى*** والأب الشامل بالفضل الأناما

افتديه فوق فرش السقم من*** ما به لما سقى سراً سماما

افتديه إذ قضى فاهتزمن ***فقده العرش فقد كان الدعاما

فقدت أمته خير أب*** واغتدى من بعده الكل يتامى

ولعمر الله قد عقوه في***آله حسياً وإذ لاقى الحماما

أخرجت سلطانه عن آله*** بالجفا واغتصبت ذاك المقاما

وولا حيدرة قد نكثوا*** سفها واتخذوا ....اماما

وعلى جامع كل على*** ولدين الله قد كان دعاما

ص: 319

لببوه بالجفا من داره*** بأبي أفدي الوصي المستضاما

أوصى المصطفى من رض من*** فاطم بضعته بغياً عظاما

حين لاذت خلف باب الدار إذ*** هجم الرجس وقتل الطهر راما

وجفوها وتناسوا حقها*** وعليهم حقها كان لزاما

لم تقم إلا قليلاً فيهم*** وعليها منهم الجور استداما

او تنهى ابنته عن نوحها*** والحشى شب بها الوجد ضراما

أترى من فقدت فاطمة*** فقدت أعلى النبيين مقاما

أو من حن له الجذع ولو*** لم يسكن روعه حن دواما

كيف لا تبكي له بضعته*** ولها قد كان ركناً وعصاما

هل رأت من سلوة من بعده*** لم تجد من قومها إلّا اهتضاما

قد زووا نحلتها والإرث إذ*** لم يروا من حافظ فيها ذماما

ليت شعري لم بكاه منعوه*** أبكا خير الورى كان حراما

ولماذا قطعوا الدوحة هل*** قصدوا إلا الأذى والاهتضاما

ولماذا دار أحزان بنت*** اعليها دارها ضاقت مقاما

نعم، انه لم يحصل للزهراء البتول عليها الصلاة والسلام من يسليها او يحفظ ذمامها بعد فقدها أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم)، بل على العكس من ذلك لم تجد من ذلك لم تجد من قومها إلا الاهتضام وعدم رعاية المقام، وبالرغم من تلك الوصايا المتكررة من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بحفظها ورعايتها ، وحفظ علي(عليه السلام)ورعايته برغم ذلك فإنّ القوم بالاضافة إلى عدم تنفيذ الوصية فقد أسدوا إليها الأذية وكأنهم لم يسمعوا لسان حال الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) يقول :

يصحاب فاطم بضعتي بعدي احفظوها*** داروا عليها عقب عيني وارحموها

عظموا أجرها لوحوت شخصي المقابر*** سمعوا وصيتي بضعتي غايب او حاضر

ليكون بعدى اتعود مكسورة الخاطر*** مقدر على ذلها ولا أرضى تهظموها

يصحاب من بعدي وصيبي ليث غالب*** فصل القضا الكرار فلّال الكتايب

مرجعكم وكاشف الشدة في النوايب*** عزوا جنابه والبتولة كرموها

ص: 320

ما جاهدت عنكم بسيفي وبيمني*** وفي يوم أحد بالثرى اتعفر جبيني

واستوحدوني وبالحجر كسروا اسنوني*** عن منبرى الكرار يصحابي توخروه

وشيبتي ابغيض ادماي مني خضبوها*** ليكون جسمي بس وسط لحده تقبروه

جني أشوفه بالحبل قمتم تجروه*** وهو الجبل إشلون داره تحرقوها

اينادي ابن امي القوم والله استضعفوني*** غاروا عليه وبالمذلة استخرجوني

نعم، لقد كسروا القوم الظالمين لعنهم الله تعالى أضلاع الصديقة(عليه السلام) والموا

بالضرب متونها فصاحت بفضة : يا فضة إليك فخذيني وإلى صدرك فسند فسنديني فلقد أسقطوا والله جنيني . ولما جرى على الزهراء عليها الصلاة والسلام من المصائب العظام والحوادث الجسام لا تزل قلوب المؤمنين مقهورة ومسعورة بنار الأسى والحزن وليس لهم هدو واستقرار، وتجد كثير منهم يوجه العتاب لمولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف ويناشدونه التعجيل في طلب ثار جدّته المعصومة المظلومة :

يراعي الثار فات الثار دنشر رايتك واظهر*** تدري والخبر عندك ابصير الباب شتكسر

تصبر والخبر عندك من بعد الرسول اشصار***صار الحكم لعداكم او ظل جدّك جليس الدار

تنسى من حرقوا باب الزهرا جدتك بالنار*** هاي اقلوبنا للسا ابذيك النار تتوجّر

من نار القلوب اتهيج غيرك ما لنا چاره*** انلومك واحنا ندري اشلون قلبك تلتهب ناره

ندري بيك من تذكر صدر أمك او مسماره***اتهيج او تنتظر رخصه من الله اتريد بس تظهر

ص: 321

اتهيج او تنتظر رخصه من الله او قلبك المجمور***انعذرك كل هلك راحو چتل والحق مهو منكور

أول تطلب ابثار الماتت ضلعها مكسور*** وصت تندفن بالليل لا يكون العدى تحضر

يربي اصدورنا ضاقت حسرة انجر بثر حسرة ***عجل فرج والينا ابجاه البضعة الزهراء

ابجاه السقط ومصابه ابجاه الضلع او بكسره*** ابجاه بالضرب مسودا متنها واللطم محمر

اظهر صاحب الراية المهدي يأخذ بثاره*** خله ایرج نواحیها او يغنيها فرد غاره

يأخذ من بني أميه ابشار احسين وانصاره*** الراحت روسهم للشام وظلت جثتهم بالبر

وهكذا راح المؤمنون يوجهون النداء لصاحب الطلعة الرشيدة والغرة الحميدة ويناشدونه الطلب بثار آل الرسول سيما ثأر قتلى الطفوف عليهم أفضل الصلاة والسلام، فإن ذكرهم لا ينسى وكيف تنسى تلك الفاجعة المؤلمة والحادثة العظيمة إنّها لا تنسى فهي ما ثلة أمام عيون المؤمنين وما زالت حادثة عاشوراء تجدد في كل عام للشيوخ والشبان والأطفال من عامة الناس، فان يوم عاشوراء يوم عزاء جميع المسلمين على سيد الشهداء أبي عبدالله الحسين عليه الصلاة والسلام فما أن يطل على الناس هلال عاشوراء إلا وتجدهم قد لبسوا السواد وفاضت الدموع من أعينهم وذهبت أفراحهم فأين الفرح وأين السرور وأين ذكريات الصبا وأين التمتع . بملذات الدنيا ، كل هذا ليس بشيء عند من هو مصاب بسيده ومولاه جيب قلوب المؤمنين الحسين بن علي عليهما الصلاة والسلام :

تناسی ببابل او طاره*** فتى أوضح الشيب اعذاره

ص: 322

أمن بعد ما جاوز الأربعين*** يطاوع باللهو أماره

إذا ما الشباب انطوى سفره*** فخل الهوى واطو اسفاره

فما انا من بعدها ذو هوىً***يقاسي من الحب اطواره

يناجي نجوم الدجى ساهراً*** وكان ينادم اقماره

إِذ ما صفا عيشه برهة*** أتاح له الدهر أكداره

فدع ذكريات الصبا إنني*** ذكرت «الحسين» وانصاره

قضوا ظماً حول ماء الفرات*** فلا فجر الله أنهاره

فالله يوم لسان الزمان ***يردّد للحشر أخباره

اطّل على الكون في نكبه*** بها طبق النوح اقطاره

إذا رام نسيانه العالمون*** یهيج (المحرم) تذكاره

تردت ثياب العلى هاشم*** به وأمي اكتست عاره

عشية قد نهض ابن الطليق*** من المصطفى طالباً ثاره

ايملك شر عبيد الأنام***خيار الأنام واحراره

فأدرك في قتل ابنائه*** سبی ذراریه اوتاره

بنفسي تاو بحر الهجير*** ثلاثاً سوى الوحش ما زاره

ومذ خيروه الردى والهوان*** رأى العز بالموت فاختاره

تلفع طمر الثناء والدماء*** إذا ابتزت القوم اطماره

وصدر نشا فوق صدر النبي***به اودع الله أسراره

غدا لخيول العدا حلبة*** تعفيّ السنابك آثاره

وبیت تذب الضا دونه*** وتمنع سمر القنا جاره

تسامى بمن فيه حتى غدت***جميع الملائك زوّاره

فغودر بالطف نهب العدى*** وقد هتكوا منه أستاره

وفرّت «كرائمه» خيفة*** فرار (القطا) عاف اوكاره

ص: 323

وما جرأ القوم الا الألى*** علي المرتضى هجموا داره

تلف الضلوع على اكيد*** بها شب زند الأسى ناره

وسيقت إلى الشام نحو اللئام*** تعاني من السير أخطاره

وليس لديها سوى «ناحل» ***به أنشب السقم أظفاره

تعاين بالرمح رأس الحسين*** فتذري من الدمع مدراره

إذا ضل بالليل حادي الظعون*** تتبع في السير أنواره

ويقال إنه مرّ سليمان بن قتة العدوي رحمه الله تعالى بكربلاء بعد قتل الحسين عليه الصلاة والسلام بثلاث أيام فنظر إلى مصارع بني فاطمة(عليها السلام) واتكاً على فرس له عربية وأنشأ يقول :

مررت على أبيات آل محمد*** فلم أرها أمثالها يوم حُلت

ألم تر انّ الشمس أضحت مريضة*** لفقد حسين والبلاد اقشعرت

وكانوا رجاء ثمّ أضحوا رزيّة*** لقد عظمت تلك الرزايا وجلّت

وتسألنا قيس فنعطي فقيرها*** وتفتا بنا قيس إذا النعل زلّت

وعند غني قطرة من دمائنا*** سنطلبهم يوماً بها حيث حلّت

فلا بعد الله الديار وأهلها*** وإن أصبحت منهم يرغم تخلّت

وإن قتيل الطف من آل هاشم*** أذلّ رقاب المسلمين فذلت

وقد أعولت تبكي السماء لفقده*** وأنجمنا ناحت عليه وصلت

وأيضاً :مرَّ ابن الهارية الشاعر المعروف بكربلاء فجلس يبكي على الحسين عليه الصلاة والسلام فأنشأ يقول:

أحسين والمبعوث جدك بالهدى*** قسماً يكون الحق عنه مسائلي

لو كنت شاهد كربلا لبذلت في*** تنفيس كربك جهد بذل الباذل

وسقيت حد السيف من أعدائكم*** عللاً وحدّ السمهري الذابل

لكنّني أُخرت عنك لشقوتي*** فبلابلي بين الغري وبابل

ص: 324

هبني حرمت النصر من أعدائكم*** فأقل من حزن ودمع سائل

وجاء في «المجالس» لسيدنا الأمين نقلاً عن كتاب «كامل الزيارة» بسنده عن مسمع كردين، قال: قال لي الصادق(عليه السلام) يا مسمع ، أنت من أهل العراق أما تأتي قبر الحسين عليه الصلاة والسلام ؟ إلى أن قال : قال لي : أفما تذكر ما صنع به ؟

قلت : بلی، قال : فتجزع ؟

قلت : إي والله ، وأستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك عليّ فأمتنع عن الطعام والشراب حتى يستبين ، في وجهي.

قال :رحم الله دمعتك، أما إنك من الذين يعدون في أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنا أما إنك سترى عند موتك حضور آبائي لك ووصيتهم ملك الموت بك، وما يلقونك به من البشارة ما تقر به عينك قبل الموت فملك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمة من الأم الشفيقة على ولدها .

قال : ثم استعبر واستعبرت معه ، فقال : الحمد لله الذي فضّلنا على خلقه وخصنا أهل البيت بالرحمة يا مسمع ، إنّ الأرض والسماء لتبكي - منذ قتل أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام - رحمة لنا وما بكى لنا من الملائكة أكثر وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا ، وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا إلا رحمة الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه فإذا سالت دموعه على خده فلو أن قطرة من دموعه سقطت في جهنّم لأطفأت حرّها حتى لا يوجد لها حرّ، وإن الموجع قلبه لنا ليفرح يوم يرانا عند موته فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتى يرد علينا الحوض، ألا إنّك ممّن يروى منه وما من عين بكت لنا إلّا نعمت بالنظر إلى الكوثر وسقت منه مَنْ أحبّنا .

وقال الصادق عليه الصلاة والسلام : إن الحسين بن علي عليهما الصلاة والسلام عند ربّه عزّ وجل ينظر إلى معسكره ومن حلّه من الشهداء معه وينظر الى

ص: 325

زوّاره وهو أعرف بهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وبدرجاتهم وبمنزلتهم عند الله عزوجل من أحدكم بولده وانه(عليه السلام)ليرى من يبكيه فيستغفر له ويسأل آباءه أن يستغفروا ويقول : لو يعلم زائري ما أعد الله له لكان فرحه أكثر من جزعه، وإن زائره لينقلب وليس عليه ذنب .

بزوار الحسين خلطت نفسي*** لأحسب منهم عند العداد

فإن عدت فقد سعدت وإلا*** فقد فازت بتكثير السواد

* * *

يحسين كلنا نعتني لك كربلا نزور*** بسما نوصلكم وننظر ذيك القبور

ندخل الحائر بالحنين ولطم لصدور*** ونحوم مثل الجلب لو فارق حميه

وانشوف عد رجلك على يحسين مدفون***و تهيج زفرتنا ويقرح ماي العيون

ونتذكر وقوفك عليه بقلب محزون*** محني الظهر واتصيح يبني اقطعت بيه

وابكل فريضه تروح للحاير الشيعة*** ومن مشهدك تطلع وتقصد للشريعة

اتزور القمر الأزهر أبو كفوف القطيعة*** شیال رايتكم وسور الهاشمية

وبعد الزيارة للمخيم بالبكا نعود*** بسمانطبها تسيل دمعتنا بالخدود

نذكر منادي ابن سعد یا قوم فرهود*** حرقوا الخيم سلبوا الحريم الخارجية

ونذكر وقوف مخدّرتكم شابحة العين*** للمعركة والخيل حاطت بالنساوين

نعم، يتذكر زائر الحسين عليه الصلاة والسلام كلّما جرى على سيد الشهداء(عليه السلام)و على أهل بيته من المصائب التي من جملتها وقوف السيدة الجليلة زينب الحوراء(عليها السلام) على أجساد تلك الفتية بعد قتلهم وهي تحنّ لفرا الحسين(عليه السلام) وتنوح عليه بأرض الغاضرية وكأني أتصورها وهي في ذلك الموقف الذي تذوب له القلوب وتتفتت له الأكباد:

زينب تحن واتنوح بارض الغاضرية*** حزني على اللي رضضته الاعوجية

ص: 326

يطيور وادي كربلا روحي المدينة *** او خبري النبي المبعوث والزهرا الحزينة

مدري درى لو مادري ابذبحة ولينا ***معلوم لنه منذبح في الغاضرية

او روحي إلى مسموم جعده في بقيعه ***او خبريه عن حال الذي ابجنب الشريعة

ويلي على اللي ابمهجته فادى رضيعه *** واحسرتی رضت اعضامه الاعوجية

اومري على امحمد او أعطيه الاشارة ***او قولي خواتك في يد الاعدى اسارى

او عباس أخوك امقطعة ايمينه او يساره*** ابجنب الشريعة جثته ظلت رمية

او روحي الى الحمزه أو جعفر خبريهم*** شبان وادي كربلا حزني عليهم

نصبوا مآتم للحشر وابكوا عليهم*** او زینب بلا والى ابأرض الغاضرية

أو مري على اللي في النجف مدفون جسمه*** او قولي عزيزك ذبح واتخضب ابدمه

وان سايلك قولي العزيزة اتنوح يمه*** من غير والي اصبحت في الغاضرية

او خبريه عن أفعال أهل بصره او كوفان ***لفرات ظالمي والعزيز انذبح عطشان

ص: 327

ولا كفاهم ذبحته يا شيخ عدنان*** حتى على صدره وطو بالاعوجية

او قولي الى اللي بالغري مدفون يطيور*** شلي امنعك عن الحراير ذات لخدور

او قولي العزيزة الغالية ركبت على كور*** ما تقدر على السير واركوب المطية

وكأنى بشاعر آل محمد يخاطبها قائلاً:

يا ابنة الطّهر منعةً لا ترومى*** بعد اهل النّدى واهل العلوم

ما لهذا القعود حول الجسوم ***ذهب المانعون عنك فقومي

واخلعي العزّ والبسي الأذلالا

طالما حجبوكِ خير رجالٍ*** وحموك بمرهفاتٍ صقال

لا ترجين بعدهم حسن حالٍ*** أنت مسبيّة على كلّ حالٍ

خالفي الصبر والبسي الأغلالا

قال الله تعالى في كتابه المجيد:﴿ والضحى والليل إذَا سَجَى مَا وَدعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خيرٌ لكَ مِنَ الأُولى ولَسَوفَ يُعطِيكَ رَبِّكُ فترضى أَلم يَجدك يتيماً فآوى وَوَجدك ضالاً فهدَى وَوَجَدَكَ عَائلاً فَأغنى فأَما اليَتِيمَ فَلَا تقهر وأمّا السَّائل فلا تنهر وأمَّا بنعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِث ﴾(1) صدق الله العلي العظيم :

ملخص ما جاء عن بعض المفسرين حول تفسير هذه السورة المباركة هو ما يلي:

﴿والضحى﴾ أقسم تعالى بوقت ارتفاع الشمس.

﴿والليل إذَا سَجَى﴾ أقسم تعالى بالليل إذا سكن أهله وركد ظلامه .

﴿ مَا وَدعَكَ رَبُّكَ ﴾ما قطعك قطع المودع.

ص: 328


1- سورة الضحى : 1 - 11 .

وفي المجمع عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم): ما ودعك بالتخفيف بمعنى ما تركك وما قلى وما أبغضك.

ونقل القمي عن الباقر عليه الصلاة والسلام في ذلك ان جبرئيل أبطأ على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وكانت أول سورة نزلت﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ ثم أبطأ عليه فقالت خديجة : لعل ربك قد تركك فلا يرسل إليك، فأنزل الله تبارك وتعالى : ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾.

وقيل كما هو في الجوامع : ان الوحي في الجوامع : ان الوحي قد احتبس عنه (صلی الله علیه وآله وسلم)أياماً فقال المشركون : إن محمد ا(صلی الله علیه وآله وسلم)ودعه ربه وقلاه ، فنزلت الآية .

﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ قال يعطيك من الجنة حتى ترضى.

وفي المجمع عنه الله قال : دخل رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)على فاطمة عليها الصلاة والسلام وعليها كساء من ثلة الإبل وهي تطحن بيدها الشريفة وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) لما أبصرها فقال : يا بنتاه، تحمّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فإنه قد أنزل الله تعالى على ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾.

وفي تفسير الصافي نقلاً عن كتاب المناقب: عنه عليه الصلاة والسلام مثله، وفيه بعد قوله (صلی الله علیه وآله وسلم): بحلاوة الآخرة : فقالت عليها الصلاة والسلام : يا رسول الله الحمد الله على نعمائه، والشكر على آلائه، فأنزل الله تعالى﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ .

وعن المجمع : قال الصادق عليه الصلاة والسلام: رضى جدي أن لا يبقي فی النار موحد.

وجاء عن محمد بن الحنفية أنه قال : يا أهل العراق تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله تعالى : ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ﴾ الآية ، وإنا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب الله عزوجل : ﴿َلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ هي والله الشفاعة ليعطينا فى أهل لا إله إلا الله حتى يقول ربي رضيت.

ص: 329

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾في هذه الآية والآية السابعة والثامنة تعديد لما انعم، عليه تنبيهاً على أنّه كما أحسن الله تعالى إليه فيما مضى يحسن فيما يستقبل ومعناه في الظاهر ظاهر كما هو مذكور عن الصافي.

ونقل العياشي عن الرضا عليه الصلاة والسلام: يتيماً فرداً لا مثل لك في المخلوقين فآوى الناس إليك وضالاً في قوم لايعرفون فضلك فهداهم إليك، وعائلاً تعول أقواماً بالعلم فأغناهم الله تعالى بك.

وفي تفسير القمي : عن أحدهما(عليه السلام)ما في معناه، وزاد القمي حيث قال اليتيم الذي لا مثل له ولذلك سميت الدرة اليتيمة لأنه لا مثل لها﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ قال: فأغناك بالوحي فلا تسأل عن شيء أحداً﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ قال : وجدك ضالاً في قوم لا يعرفون فضل نبوتك فهداهم الله بك .

وجاء في العيون: عن الرضا عليه الصلاة والسلام في حديث عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ يقول : ألم يجد وحيداً فآوى إليك الناس ووجدك ضالاً يعني عند قومك فهدى أي انه تعالى هداهم إلى معرفتك ووجدك عائلاً فأغنى يقول بأن جعل دعاءك مستجاباً .

وفي المجمع : عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) قال من على ربي وهو أهل المن.

وسئل الصادق عليه الصلاة والسلام : لم أويتم النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)عن أبويه ؟

فقال : لئلا يكون لمخلوق عليه حق .

﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ في تفسير الصافي نقلاً عن القمي ان معناه لا تظلم والمخاطبة للنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)والمعنى للناس.

﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾ معناه لا تطرد السائل .

﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ معناه حدث يا رسول الله الناس بما أنزل الله عليك وأمرك به من الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية وبما فضلك به فحدّث.

وقال في المجمع : عن الصادق عليه الصلاة والسلام معناه فحدث بما أعطاك

ص: 330

الله وفضّلك ورزقك وأحسن إليك وهداك .

وجاء في كتاب المحاسن: عن سيدالشهداء الامام أبي عبدالله الحسين عليه آلاف الصلاة والسلام قال : روحي فداه ان الله تعالى أمره(صلی الله علیه وآله وسلم)أن يحدث الناس بما أنعم الله عليه من دينه .

وجاء في الكافي عن صادق آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام قال : فحدث بدينه وما أعطاه الله وما أنعم به عليه .

وعنه(عليه السلام) قال : إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سمي حبيب الله محدّثاً بنعمة الله ، وإذا أنعم الله على عبده بنعمة الله فلم تظهر عليه سمي بغيض الله مكذباً بنعمة الله تعالى.

هذا ملخص ما جاء في تفسير هذه السورة المباركة، وقد أضاف سيدنا المرتضى قدس الله نفسه الزكية عند تعرضه إلى بيان معنى قوله تعالى﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ انه لهذه الآية الكريمة أجوبة تشعر برفعة مقامه(صلی الله علیه وآله وسلم)وتشريفه بالنبوة، فقد قال في بيان ذلك ما يلي:

أولها : انه أرادك وجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها أو عن شريعة الاسلام التي نزلت عليه وأمر بتبليغها إلى الخلق، ثم قال السيد المذكور : والكلام في الآية خارج مخرج الامتنان والتذكير بالنعم، وليس لأحد أن يقول: إن الظاهر بخلاف ذلك لأنه لابد في الظاهر من تقدير محذوف يتعلق به الضلال لأنّ الضلال هو الذهاب والانصراف فلابد من أمر يكون منصرفاً . أمر يكون منصرفاً عنه، فمن ذهب إلى أنّه أراد الذهاب عن الدين فلابد له من أن يقدر هذه اللفظة ثم يحذفها ليتعلق بها لفظ الضلال ، وليس هو في ذلك أولى منا فيما قدرناه وحذفناه.

وثانيها : أن يكون أراد الضلال عن المعيشة وطريق الكسب، يقال للرجل الذي لا يهتدي طريق معيشته ووجه مكسبه : هو ضال لا يدري ما يصنع ولا أين يذهب، فامتن الله تعالى عليه بأن رزقه وأغناه وكفاه .

ص: 331

ثالثها: أن يكون أراد وجدك ضالاً بين مكة والمدينة عند الهجرة فهداك وسلمك من أعدائك، وهذا الوجه قريب لولا ان السورة مكية وهي مقدمة للهجرة الى المدينة اللهم إلا أن يحمل قوله تعالى : وجدك على أنه سيجدك على مذهب العرب في حمل الماضي على معنى المستقبل فيكون له وجه.

رابعها : أن يكون أراد بقوله تعالى: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ أي مضلولاً عنك في قوم لا يعرفون حقك فهداهم إلى معرفتك وأرشدهم إلى فضلك ، وهذا له نظير في الاستعمال يقال : فلان ضالّ في قومه وبين أهله إذا كان مضلولاً عنه .

خامسها : انه روي في قراءة هذه الآية الرفع ألم يجدك يتيم فآوى ووجدك ضالّ فهدى، على أن اليتيم وجده ، وكذلك الضال، وهذا الوجه ضعيف، لأن القراءة غير معروفة، ولأنّ هذا الكلام يسمج ويفسد أكثر معانيه .

وصفوة القول انه يجب تنزيه سيدنا محمد المصطفى(صلی الله علیه وآله وسلم)عن جميع ما لا يليق بجنابه الشريف السامي فيما وجد من الآيات المباركات في القرآن الكريم مما ظاهره يشعر بالتوهين لمقام النبوة والرسالة فإنه يجب حمله على المعنى اللائق بالرسول الكريم وصرفه عما هو عليه ظاهراً ، بل لا يصح عليه ظاهراً ، بل لا يصح مطلقاً حمله على الظاهر حتى ولو لم يكن له وجه صحيح غير الظاهر في نظر بعض أهل العلم، وذلك لأن القرآن الكريم له ظاهر وباطن ولا يعلم ظاهره وباطنه إلا آل محمد عليهم الصلاة والسلام.

خصوصاً بأن الظاهر في الآية الكريمة منافٍ لصفة الكمال ولما أجمع عليه المسلمون من وجوب اتصاف النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) بالكمال خلقاً وخُلقاً على نحو يفوق على من أرسل إليهم من العباد، مثل كمال العقل وكمال الذكاء وكمال الادراك والفطنة وقوة الرأي وشدة العزيمة والارادة، وأن لا يكون متردداً ولا متحيراً ولا شاكاً في الأمور ، يقضاً لا يغفل ولا يسهو ولا ينسى لطيف رؤوف رحيم عطوف منزه من الغلظة والفضاضة كريم متواضع شجاع منزه عن الدناءة والخسة والدنس

ص: 332

والرجس قوي الايمان بالله تعالى قوي اليقين به مترفع عن الخطايا والمآثم كلها لم يشرك بالله قبل أو بعد بعثته ، كريم الآباء والأمهات منحدر من أصلاب طاهرة إلى أرحام مطهرة.

سالمٌ من الأمراض والعاهات التي توجب النفرة منه والابتعاد عنه ، كالبرص والجذام، لم يعص الله في كبيرة أو في صغيرة عمداً أو سهواً أو نسياناً، معصوم من الذنوب كلها عصمة تامة من قبل أن يبعث خلافاً لجمهور الأشاعرة والمرجئة والمحدثين والمعتزلة حيث أجاز البعض منهم صدور الذنب منه مطلقاً إلا الكذب والكفر قبل وبعد رسالته، وأجاز البعض منهم ارتكاب الصغائر من الذنوب سهواً أو نسياناً أو تأويلاً بعد انبعاثه، وأجاز جماعة من الأشاعرة عليه فعل الكبائر والصغائر قبل البعثة ومن الأشاعرة أجاز عليه الكفر ، وقال بجواز وجود من هو أفضل منه ، وكل هذه الأقوال باطلة على مسلكنا ومذهبنا ، بل اننا نعتقد بعصمة الأنبياء جميعاً ولا يجوز عندنا عليهم الكبائر من الذنوب وصغائرهم عمداً أو سهواً أو نسياناً قبل أن يبعثوا وبعد أن يبعثوا ، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء جميعاً سواء كانوا من أولي العزم كنوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أن من غير أولي العزم كآدم و ادریس و داود وسليمان ويحيى ولوط وغيرهم من الأنبياء وإن كان باقي المسلمين من غير الشيعة لا يعتقدون ذلك.

أما ما معنى العصمة التي نقول ونعتقد بثبوتها وتحققها في الأنبياء ؟يقول أهل اللغة:العصمة هي المنعة والوقاية والحفظ والصيانة وهي ملكة تجنّب الانسان من المعاصي، وهي في عرف علماء الكلام - الفلسفة الإلهية - امتناع المعصوم من فعل المعصية وصيانته عن الخطأ لا على سبيل القهر والاجبار والإلجاء، لأن المعصوم كأي إنسان يتصف بما يتصف به غيره من الصفات البشرية، فهو يرضى ويغضب ويحب ويكره ويحزن ويفرح ويلتذ ويشتهي﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾ بل إن إيمان المعصوم(علیه السلام)المالك لملكة التجنب من الخطأ واعتقاده الكامل بالله

ص: 333

تعالى ونضوج ملكاته وعقله يسيطر على جميع شهواته وملذاته ويصيّر أعماله وأفعاله وأقواله كلها تنحو وتتجه إلى طلب مرضاة الله تعالى فيصرف حبه كله الله فلايرى في الدنيا إلا طاعة ربه والعمل بما يرضيه، وبذلك يعصم نفسه عن كل ما لا يرضي الله تعالى فلم تصدر منه معصية ولم يرتكب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً ، عمداً أو سهواً أو نسياناً ، وسوف يأتي ما يؤكد ذلك في بعض الجلسات المقبلة إن شاء الله عند ما نتعرض إلى مبحث العصمة بصورة مفصلة وسوف نرد على القائلين بعدم ثبوتها من الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم للأنبياء ونفنّد أيضاً أدلتهم في ذلك.

وأخيراً ونحن هنا في هذه الجلسة المباركة وقبل أن يضيق بنا المجال لابد لنا أن ننتقل بالاخوة الكرام إلى المصيبة العظمى والفادحة التي حلت بالاسلام والمسلمين في مثل هذا اليوم الذي فَقَدَ المسلمون فيه حبيب قلوبهم ونبيهم العظيم، وإن نسيت فلا أنسى السيدة الجليلة والصديقة للطاهرة فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام وقد نظرت إليه وهو على فرش السقام فجعلت تنادي وتقول : واكرباه لكربك يا أبتاه.

فقال لها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة .

ونقل السيد محسن الأمين رضوان الله تعالى عن كفاية النصوص بسنده انه قال : لما حضرت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)الوفاة دعا بعلي عليه الصلاة والسلام فساره طويلاً ثم قال : يا عليأنت وصیي ووارثي قد أعطاك الله علمي وفهمي - إلى أن قال : -

فبكت فاطمة عليها الصلاة والسلام وبكى الحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام، فقال (صلی الله علیه وآله وسلم) لفاطمة(علیها السلام): يا سيدة النسوان مم بكاؤك ؟

قالت(علیه السلام) : أخشى الضيعة بعدك يا رسول الله .

قال(صلی الله علیه وآله وسلم) : أبشري يا فاطمة فانك أول من يلحقني من أهل بيتي، لا تبكي ولاتحزني فأنت سيدة نساء أهل الجنة ، وأبوك سيد الأنبياء، وابن عمك خير

الأوصياء، وابناك سيدا شباب أهل الجنة.

ص: 334

وفي السيرة انّ أم سلمة لما نظرت إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وهو مسجى وقد تغير لونه قالت له : يا رسول الله مالي أراك مغموماً متغير اللون ؟

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) : نعيت إليَّ نفسي هذه الساعة فسلام لك في الدنيا مني فلا تسمعين بعد هذا اليوم صوت محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)أبداً .

فقالت أم سلمة : واحزناه حزناً لا تدركه الندامة عليك يا محمد(صلی الله علیه وآله وسلم).

ثم قال(صلی الله علیه وآله وسلم): ادعي لي حبيبة قلبي وقرة عيني فاطمة تجيء، فجاءت فاطمة عليها الصلاة والسلام وهي تقول : نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء يا ابتاه ألا تكلمني كلمة فاني أنظر اليك وأراك مفارق الدنيا.

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) لها : يا بنية إني مفارقك فسلام عليك مني، ثم أغمي على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، فدخل بلال وهو يقول : الصلاة رحمك الله فخرج رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وصلى بالناس وخفف الصلاة ، ثم قال(صلی الله علیه وآله وسلم): ادعوا لي علي بن أبي طالب وأسامة بن زید(1)، فجاءا فوضع يده على عاتق علي والأخرى على أسامة ثم قال(صلی الله علیه وآله وسلم): انطلقا بي إلى منزل فاطمة، فجاءا به حتى وضع رأسه في حجرها(عليه السلام) فإذا الحسن و الحسين(عليهم السلام) يبكيان ويصرخان وهما يقولان : أنفسنا لنفسك الفداء، ووجوهنا لوجهك الوقاء.

فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): من هذان يا على ؟

قال :هذان ابناك الحسن والحسين عليهما الصلاة والسلام ،فعانقهما وقبلهما وكان الحسن (عليه السلام) أشد بكاء فقال له علي(عليه السلام) :كف يا حسن فقد شققت على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).

وفي خبر آخر انهما عليهما السلام جاءا يصيحان ويبكيان حتى وقعا على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فأراد علي(عليه السلام) أن ينحيهما عنه أن ينحيهما عنه،فأفاق

(صلی الله علیه وآله وسلم)فقال : يا علي دعني

ص: 335


1- قد ينافي هذا ما ورد من أنه(صلی الله علیه وآله وسلم)كان قد أخرج أسامة وأمره أن يعسكر بالجرف الا أن يكون أخرجه بعد ذلك فإن إخراجه كان بعد ان أحس بالمرض.

أشمهما ويشماني، وأتزود منهما ويتزودا مني، أما أنهما سيظلمان بعدي ويقتلان ظلماً فلعنة الله على من يظلمهما يقول(صلی الله علیه وآله وسلم)ذلك ثلاثاً ثم مد يده(صلی الله علیه وآله وسلم) إلى على عليه الصلاة والسلام فجذبه إليه حتى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه ووضع فاه على فيه وجعل يناجيه مناجاة طويلة حتى خرجت روحه الطيبة فانسلّ علي عليه الصلاة والسلام من تحت ثيابه وقال : أعظم الله أجوركم في نبيكم فقد قبضه الله إليه ، فارتفعت الأصوات بالضجة والبكاء.

قال السيّد : وصاحت فاطمة عليها الصلاة والسلام وصاح المسلمون وصاروا يضعون التراب على رؤوسهم .

وقال بعض المحدثين : إن فاطمة عليها الصلاة والسلام جعلت تندبه(صلی الله علیه وآله وسلم)وتقول : يا أبتاه إلى جبريل ننعاه يا أبتاه من ربه ما أدناه يا ابتاه أجاب رباً دعاه، یا أبتاه من ربه ،ناداه يا أبتاه جنان الفردوس مأواه ، يا أبتاه، ثم تمثلت بهذه الأبيات:

قد كنت لي جبلاً ألوذ بظله*** واليوم تسلمني لأجرد ضاحي

قد كنت جار حميتي ما عشت لي*** واليوم بعدك من يريش جناحي

واغض من طرفي واعلم أنه*** قد مات خير فوارسي وسلاحي

حضرت منيته فأسلمني العزا*** وتمكنت ريب المنون جراحى

وقال المفيد عليه رضوان الله تعالى وأصبحت فاطمة عليها الصلاة والسلام تنادي : واسوء صباحاه، فسمعها رجل فقال : إن صباحك لصباح سوء.

وقال بعض الشعراء العارفين والمجاهدين بقلبه ولسانه ويده في بيان مصيبة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) وكيف كانت عظيمة وجليلة على قلوب المسلمين :

لقد عظمت مصيبتنا وجلت*** عشية قيل قد قبض الرسول

وأضحت أرضنا مما عراها*** تكاد بنا جوانبها تزول

فقدنا الوحي والتنزيل فينا*** يروح به ويغدو جبرئیل

وقيل : إن الزهراء عليها الصلاة والسلام ندبت أباها بهذه الأبيات:

ص: 336

قل للمغيب تحت أطباق الثرى*** إن كنت تسمع صرختي وندائيا

صبت عليَّ مصائب لو أنها*** صبت على الأيام صرن لياليا

قد كنت ذات حمى بظلّ محمد*** لا أختشي ضيماً وكان جماليا

فاليوم أخشع للذليل وأتقي*** ضيمي وأدفع ظالمي بردائيا

وقال الحاج ملا علي الفائز البحراني(رحمه الله) وهو يصف حالة الزهراء عليها الصلاة والسلام عندما نظرت إلى أبيها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وهو محمول في تابوته طلبت من علي عليه الصلاة والسلام بأن يلتمس من حملة التابوت أن يتوفّقوا لكي تودع أباها الوداع الأخير :

قامت تودع للنبي وادموعها هماله*** يا شايلين المصطفى بالهون يا شياله

وانتو بعد يولادي راح الذي يحميكم***من بعد عينه يا بني منهو الذي يكفلكم

وآني الذي رملني وأنتوا الذي يتمكم ***اما آني يولادي عنكم آني شياله

لزمت ضريح الهادي او صاحت ابصوت عالي*** يا والدي يا محمد ليتك تعاين حالي

صرت ابهضم وامذله والهم شاغل بالي*** آتمنيت آني من قبلك يابه اني شياله

بالنار حرقوا بيتي او بالباب كسروا ضلعي*** ما حد بقى يا والدي بعدك ينشف دمعي

ارثي امنعوني منه أو باحبال قادوا سبعي*** او دخلو وسط محرابه ليتك تعاين حاله

ص: 337

بعدك بخبرك بالعدی را دوا به ایقتلونه*** وصل ضريحك يبكي ويهل دموع اعيونه

يا مصطفى من قبرك انهض عسى ايخلونه*** ليت المدينة بعدك حلت بها زلزاله

جارت عليه الأمة أو غصبوا حقه عنه*** يا والدي يا محمد نالوا الضغاين منه

وآني اضلوعي امكسره وأجذب عليك الونه**والناس كلها ابدهشه في مشكله او زلزاله

او لزمت ضريح الهادي او في الحال صارت ظلمه**او في الحين جاها المرتضى ايكفكف دموعه ابكمه

قلها يزهرا ولدك رحمه لهذى الأمه*** ردت تحن أو تنتحب وادموعها هماله

وهكذا كانت فاطمة عليها الصلاة والسلام في جزعها على أبيها وفي بكائها على والدها وكفيلها إلى أن لحقت(صلی الله علیه وآله وسلم)في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر، وكما كان لها ذلك البكاء والحسرة على أبيها فإن لها بكاء ثاني وحسرة ثانية على ولدها الامام الحسين عليه الصلاة والسلام ولقد كانت مصيبتها في ولدها أشد وأعظم وذلك لأنها عليها الصلاة والسلام لم تشاهد ما صنع به عليه الصلاة والسلام ولهذا على ما ورد في بعض الأخبار أنّها طلبت أو تطلب في عرصة القيامة أن يمثل الله تعالى لها الحسين(عليه السلام)لجنة بلا رأس.

وفي خبر آخر أنّها عليها الصلاة والسلام ترد القيامة وقميصها، ملطّخ من دم الحسين عليه الصلاة والسلام.

وفي خبر ثاني : انها(عليه السلام)تبدي الشكاية إلى الله تعالى في عرصة القيامة وتخرج من منديل في يدها كفّ مولانا العباس بن علي عليه أفضل الصلاة والسلام

ص: 338

وتقول : يا عدل، يا حكيم احكم بيني وبين من قطع هذين الكفين وتشتكي أيضاً إلى الله عما أصابها من القوم من كسر ضلعها وسقوط جنينها وغير ذلك من المصائب :

وتزلزل المحشر وقفت الزهر الحزينه*** تنادي يربي القوم ضلعي كاسرينه

دخلوا عليه البيت عدواني او لفوني ***قادو على ببنود سيفه وسقطوني

ونحلة أبويه اتناهبوها واطردوني*** هجموا علينا بدارنا ولا راقبونا

وعفت الدنية عقب ما فتوافادي*** وعمم كريم المرتضى سيف المرادي

وردوا عقب عينه وعيني على اولادي*** واحد قضى مسموم عندي بالمدينة

وضل العزيز احسین بین اوغاد سفیان*** وقاس مصائب بعضها اتشيب الرضعان

وسافر لراضي كربلا وانذبح عطشان*** مرمي واخوته عن شماله او عن يمينه

انته يربي العالم بكل المصائب*** ضلت بناتي من عقب عينه غرايب

للشام ودوهن يسر بين الاجانب*** وابني علي بالقيد والغل ما حنينه

تبدي الشكاية والدمع بالخد مذروف*** وبالحال ترفع طفل ابنها احسين ملفوف

وتصيح شيبني يربي يوم الطفوف*** شسوى الطفل من ذنب حتى يذبحونه

مهجة عزيزي يا حكيم بسهم مذبوح ***وقلب الرباب من المصيبة صار مجروح

من شافته مغمض يعالج طلعة الروح*** او فتت قلوب الهاشميات بونينه

وتجرونه والخلايق كلها اوقوف*** تندب وترفع بيدها منديل ملفوف

رب انتقم لي من الذي قطعها لكفوف*** ياتي الندا والناس كلهم يسمعونه

مني ينبت المصطفى طلبي الشفاعة*** واخذ بحقك من الطاغي ومن اتباعه

ومن الذي للدار جاكم بالجماعة*** ومن الذي قاد الوصي أورع بنينه

ومن الذي بالباب منك كسر ضلعين*** واللي طبع كفه على الخد وعلى العين

بشرى يبنت المصطفى يم حسن وحسين*** هاليوم وعد قطام وجعيده اللعينه

ها ليوم يا زهرا الوفا واقبل الميعاد*** اخذ بحقك من بني امية وبني زياد

ص: 339

ومن الذي في كربلا عفر لك اولاد*** هذا العزيز انكان قصدك تنظرينه

وتنظر العرضة والدمع يجري من العين*** واتشوف ابنها احسين من حوله البنين

وبين الخلق واجف بلاراس وبلا ايدين*** واتصيح وشها الفعل يبني فاعلينه

تصرخ بصوت ايزلزل العالم والافلاك***والحور وياها تصيح وجمع الاملاك

وتقول يا باجى البقية ما حضرناك*** السهم فات ولا حضرنا يوم جينا

وتعج جميع الرسل حتى ادم ونوح***ويخاطبون المصطفى والمصطفى ينوح

الله يعظم أجرك ابسبطك المذبوح*** او حيدر علي يبكي ويهل ادموع عينه

كأني ببنت المصطفى قد تعلقت ***يداها بساق العرش والدمع اذرت

وفي حجرها ثوب الحسين مضرجاً*** وعنها جميع العالمين بحسرة

تقول ايا عدل اقض بيني وبين من*** تعدى على ابني بين قهر وقسوة

اجالوا عليه بالصوارم والقنا*** وكم جال فيهم من سنان وشفرة

فإذا كان العزاء والمأتم يُعقد على الحسين عليه الصلاة والسلام في عرصة القيامة ويكون النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)والزهراء(عليها السلام)وجميع الأنبياء(عليهم السلام) في بكاء وعويل في يوم المحشر حزناً لما أصاب سيدالشهداء(عليه السلام)فلابد لنا في هذه الأيام أن نموت جزعاً عليه وأن نقتدي بذلك النبي العظيم(صلی الله علیه وآله وسلم) والزهراء(عليها السلام) والأئمة عليهم الصلاة والسلام.

نقل المحدث المازندراني الحائري عن كتاب الأسرار قال : روى ثقة الاسلام شيخنا محمد بن يعقوب الكليني رضوان الله تعالى عليه في الروضة من الكافي انّ الكميت الشاعر دخل على مولانا الصادق عليه الصلاة والسلام في أول يوم من أيام عاشور ، فقال له الامام عليه الصلاة والسلام يا كميت أنشدني في جدي الحسين، فلما انشد كميت أبياتاً في مصيبة الحسين عليه الصلاة والسلام بكى الامام بكاء شديداً وبكت النسوة وصحن في حجراتهن، فبينما الامام(عليه السلام) في البكاء والنحيب إذ خرجت خارجة من خلف الستر من الباب الذي كان في سمت حجرات الحرم وفي يدها طفل صغير رضيع فوضعته في حجر الامام(عليه السلام) فاشتد حينئذ بكاء الامام (عليه السلام)

ص: 340

غاية الاشتداد وعلا صوته الشريف وعلت أصوات النساء الطاهرات والحرم من خلف الأستار من الحجرات.

قال : وهذا معلوم بأن مقصود النسوة الطاهرات من إنفاذ ذلك الطفل من ذرية رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) إلى حضرة الامام(عليه السلام)ما كان إلا تشبيهاً بعلي الأصغر الرضيع ليشتدّ بذلك الرقة في الباكيات والباكين ويكثر البكاء والنحيب كأنّ هذه المصيبة قد أثرت في قلوبهم غاية التأثير .

ولأمامنا وسيدنا الرضا (عليه السلام)مجالس في إقامة العزاء لجده الحسين عليه الصلاة والسلام قال دعبل بن علي الخزاعي : دخلت على سيدي ومولاي علي بن موسى الرضا (عليه السلام)في مثل هذه الأيام يعني العاشوراء فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب وأصحابه من حوله كذلك ، فلما رآني مقبلاً قال لي : مرحباً بك يا دعبل مرحباً بنا صرنا بيده ولسانه ، ثم إنه(عليه السلام)وسع لي في مجلسه وأجلسني إلى جنبه ، ثم قال لي: يا دعبل ، أحب أن تنشدني في الحسين(عليه السلام) شعراً فإنّ هذه الأيام أيام حزن كانت علينا أهل البيت وأيام سرور كانت على أعدائنا خصوصاً بني أمية لعنهم الله .

يا دعبل من ذرفت عيناه على مصابنا وبكى لما أصابنا من أعدائنا حشره الله تعالى معنا في زمرتنا .

یا دعبل من بكى على مصاب جدي الحسين عليه الصلاة والسلام غفر الله له ذنوبه البتة، ثم انه(عليه السلام)انهض وضرب سترا بيننا وبين حرمه واجلس اهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدّه الحسين عليه الصلاة والسلام، ثم التفت إلي وقال : يا دعبل إرث جدي الحسين(عليه السلام) فأنت ناصرنا ومادحنا فلا تقصر عن نصرنا ما استطعت ما دمت حياً .

فاستعبرت وسالت عبرتي وأنشأت أقول:

أفاطم لوخلت الحسين مجدلاً*** وقد مات عطشاناً بشط فرات

إذاً للطمت الخد فاطم عنده ***وأجريت دمع العين في الوجنات

ص: 341

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي*** نجوم سموات بأرض فلاة

قبور بكوفان وأخرى بطيبة*** وأخرى بفخ نالها صلوات

قبور بجنب النهر في أرض كربلا*** معرسهم فيها بشط فرات

توفوا عطاشى بالعراء فليتني*** توفيت فيهم قبل حين وفاتي

والرضا(عليه السلام)يبكي والنساء تبكي، قال دعبل : فلما وصلت الى هذين البيتين علت أصوات النساء بالبكاء والنحيب وصحن وامحمداه . والبيتين هما :

بنات زياد في القصور مصونة*** وآل رسول الله منتهكات

بنات زیاد في الحصون منيعة*** وآل رسول الله في الفلوات

والله در بعض الشعراء حيث أصاب الهدف:

فيا لنجوم في الثرى صرن أفلا*** وأقمار سعد غبن في طق كربلا

فمن قائل للطهر فاطم معولاً*** أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً

وقد مات عطشاناً بشط فرات

قضى وبسيف الشمر ارواه ورده*** عفير المحيا ممكناً فيه حدّه

ولو أبصرت عيناك في الترب خدّه*** إذاً للطمت الخد فاطم عنده

وأجريت دمع العين في الوجنات

لك الأجر في بيضات خدر التحجب*** عقيب السبا سارت على كور منقب

وكم لك من نجم ثوى اثر كوكب*** أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي

نجوم سموات بأرض فلاة

ص: 342

الجلسة الرابعة عشر

عرج على جدث المختار في القدم***والمصطفى قبل خلق اللوح والقلم

واسق العراص من الأجفان من كبد*** تحولت بالجوى دمعاً عقيب دم

وأرسل الزفرات القاتلات شجي*** لفقده ولما لاقى من الأمم

كم عصبة وهو نور حاولت سفهاً*** إطفائه وهو بين الصلب والرحم

أما قريش وأحزاب الضلال غدت*** لقتله غضباً منها إلى صنم

ولم يبارح أذى أهل النفاق فكم*** كادوه سراً وفروا عنه في الازم

واضمروا إذ أقام المرتضى علماً*** خلافه وهو باب العلم والحكم

وخالفوا أمره حياً كما رجعوا*** عن ابن زيد خلافاً بعد بعثهم

وألقحوا فتنة في الدين ما تركت*** ركنا مشاداً إليه غير منهدم

عادوا النبي وآذوه بما صنعوا*** غداة أمسى ضجيع الفرش من سقم

فهل نبي رمت بالهجر أمته***بمسع و بمرأى منه في في الأمم

لم أنسه فوق فرش السقم حق به*** اهلوه من رهطه الأدنى اولى الكرم

يضم كلا وتعلو زفرة أخذت*** بالقلب والدمع من عينيه كالديم

يصعد الطرف علماً منه أنّهم*** يمسون ما بين مقتول ومهتضم

فلم يزل تارة يغشى عليه أسى*** وإن يفق تارة يوصي الورى بهم

حتى قضى وبعينيه قذى وشجى*** بحلقه أسفاً والقلب في ضرم

ولهفتاه لخير المرسلين قضى*** مقطع القلب من سم ومن ألم

الله أكبر كيف السم أثر في*** قلب الوجود وسر الكون من عدم

ص: 343

يار احلا زهرة الدنيا به رحلت*** والروض زهرته من وابل الديم

وفادح أوحش الدنيا وأحزن من*** في العالمين وأجرى دمعه بدم

غداة خير نبي قد ترحل عن*** دار الفنا بعد طول الهم والسقم

فأصبحت بعده الأكوان مظلمة*** وغيبة الشمس لم تعقب سوى الظلم

وقد بكى كلّ شيء في الوجود له*** حتى الحمام بقرع السن بالندم

قامت له رنّة في الكون ما هدأت*** حتى رمت مسمع الاعصار بالصمم

لا يوم أشجى من اليوم الذي فجعت*** به الخلائق في هم وفي غمم

يوم به أبوا الاسلام مفتقد*** بالسم هذا وهذا بالجفا رمي

یوم به مسلمو الدنيا بأجمعها*** امسوا يتاما فيالله من حكم

فلم تجد أحداً يوماً أقام عزا*** الا يعزى الورى فيه ييتمهم

كلّ مصاب به لكن عترته*** أولي الورى فهم الأدنون في الرحم

نعم، إن فقد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)مصيبة عظمى وكارثة دهماء ورزيةكبرى حلّت بالاسلام والمسلمين، وقد بكي لفقده الأنبياء والمرسلون والملائكة المقربون والشهداء والصديقون والأولياء الصالحون وعامة المسلمين في جميع أرجاء الدنيا ، بل نعته وبكت لفقده الجمادات النامية وغير النامية، فإنه قد جاء في السيرة المحمدية ان الناس قد سمعوا حنين الجذع لفقد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وبكاء المحراب والمنبر عليه (صلی الله علیه وآله وسلم) ، معلوم ليس في ذلك منازعة أو مكابرة فلقد كانت الزهراء عليها الصلاة والسلام تمر بعد وفاته الله عليهما وتخاطبها : أين قد مضى عنكما الّذي كان يحيي الليل بالعبادة والتهجد ؟ أين الرحيم الودود والعطوف الحاني على المؤمنين ؟

وفي ذلك يحكي بعض شعراء آل محمد حال الصديقة عندما تمر على محراب أبيها ومنبره ولها من العويل ما يبكي الثكلى :

مرت على محراب أبوها اودمعها ايسيل*** وكالت له يا محراب وين امصلي الليل

ص: 344

اردت إلى المنبر تقله وين الاملاك*** في وقت ما يخطب أبويه حفت أخذاك

خلني يمنبر بالعزة بانوح وياك*** خلنا نصب الدمع حتى سيله ايسيل

كاد ايتفطر المنبر من بكاها ويتهدم*** حن او تزفر واسبلت جدرانه ابدم

حسبي على من هو على حيدر تقدم*** حالي او حالك بالسوى يعفيفه الذيل

یم الحسن والحسين قولي الفيض للعلوم*** ليكون يجفيني تراه اليوم مهضوم

لو لم يكن الايجيني امن الشهر يوم*** صاير نهاري عقب ابوك المصطفى ليل

منبر أبويه من أبويه صرت خالي *** والله يمنبر وين عنك مضى الوالي

قلها قضى نحبه او مضى وسوء الحالي*** واسوء الحال الضايعات المالها كفيل

وازداد حزن فاطمة عليها الصلاة والسلام وعظم وجدها عندما نظرت إلى نعش أبيها وهو يحمل على الاكتاف وآل البيت عليهم الصلاة والسلام كلهم في رنّة وعويل كل يلطم على رأسه وجبهته وهم ينادون: وامحمداه، واحبيباه، وكذلك رأت النادبات والنائحات يندبن أباها وهن يضر بن الصدور ويخمشن الخدود أغمي عليها من تلك الصوائح التي تقطع القلوب وتفتّت الاكباد، وكأني بلسان حال شاعر آل محمد(عليهم السلام) يحكي لنا مصيبة أهل البيت في نبتهم العظيم في ذلك اليوم :

ص: 345

صارت صوايح يوم نعش المصطفى انشال **واجبريل عزى في السماء اسرافيل او ميكال

في يوم موته ماجت السبع السماوات ***ابسبع العلا جبريل نادى المصطفى مات

الله يعظم فيه أجرك يبو أجرك يبو الحملات***مأجور في المختار يا خواص الهوال

وارض المدينة اتزلزت من يوم شالوه*** والبضعة الزهراء تناديهم دخلوه

خلوه باقي اليوم لطفاله يودعوه *** ما تسمعوا اصواتهم يبكوا بولوال

يبكوا وينادوا جدنا المختار وينه *** بعده يزهرا أظلمت الدنيا علينا

یا ليتنا بعده يزهره ما بقينا*** ياليتنا من قبل نعشه نعشنا انشال

والله افتجعنا يوم شخصه غاب عنا***لا وين يا لوالي بتمضي وتوحشنا

وانكان بتسافر يبو ابراهيم خذنا*** وسط اللحد وياك ما ظلت لنا احوال

نعم هكذا كانت حبيبة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)تطلب أباها أن يأخذها معه في قبره لأنها تعلم ما يجري عليها من الذل والهوان بعده وما يؤول أمرها إليه من الضرب والشتم طلبت من أبيها أن يأخذها إليه في قبره لتستريح من هم الدنيا وغمها ، ويذكرني يا محبين موقفها هذا بموقف سيدالشهداء أبي عبدالله الحسين عليه الصلاة والسلام حين رأى جده في المنام بكى وقال يا جداه خذني : معك في قبرك لا

ص: 346

حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا.

فقال إليه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): ولدي حسين الله لا بد لك من الرجوع للدنيا وإن لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلا بالشهادة.

يقول الأديب الفاضل والحكيم العارف شاعر أهل البيت الشيخ عبد المنعم الفرطوسي قدس الله نفسه الزكية يقول - وهو يصف حالة الامام الحسين عليه الصلاة والسلام وهو عند قبر جده رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يصلي ويبكي ويستغفر الله ويطلب من جده أن يأخذه إليه في قبره:

وأتى قبر جده مستزيداً*** من وداع لا يقتفي بلقاء

قال بعد الصلاة حباً - عليه*** واشتياقاً يا خاتم الأصفياء

أتى فرخك الحسين وسبط*** لك باق في أمة الحنفاء

يا رسول الإله ما حفظوني*** وأضاعوا حقي بغير وفاء

لك هذه شكواي يا جد حتى*** أنا ألقاك ساعة الالتقاء

وأتى ليلة إلى القبر أخرى*** قد قضاها في خشية ودعاء

قال إنّي عليك أقسمت بالقبر***ومن فيه يا إله السماء

ربّ إلا ما اخترت لي خير أمرٍ*** لك فيه رضاً بوقت القضاء

فغفا ساعة على قبرطه***مطبقاً جفنه على الأقذاء

فرأى جده محمد وافي *** فی قبيل من خيرة الأمناء

وتدانى له فضم حسيناً***بحنان لصدره وولاء

قال خذني إليك يا جدّ ضماً*** في ضريح حواك عند الثواء

قد سئمت الحياة ممّا أعاني*** وألاقي من جفوة وعناء

قال لابد أن تعود لتحضى*** كرماً في شهادة الشهداء

لك في الخلد عند ربّ البرايا*** درجات في منتهى الاعتلاء

وأتى أهله فقص عليهم*** ما رآه في عالم الارتقاء

ص: 347

فتعالى الضجيج منهم جميعاً***ينحيب من الأسى وبكاء

وأتته زوج النبی فقالت*** وهي تبكي شجواً بغير عزاء

لا تروع نفسي بقتلك ثكلاً*** وافتجاعاً يا سيد الأمناء

فلقد قال لي بقتلك طه*** ظامئاً في الطفوف من كربلاء

وحباني بتربة من تراها***هی كانت عندي أعز حباء

قال هذي علامة فضعها ***ضمن قارورة وخير إناء

فإذا فجرت وفارت نجيعاً*** فاعلمي قتله بغير خفاء

وأنا أختشي عليك من القتل*** بهذا المسير أي اختشاء

قال إنّي يا أم اعلم هذا*** دون ريب فيه ودون امتراء

وأنا عالم بساعة قتلي*** وثرى مصرعي ويوم فنائي

وأراها من بعد طيّ ونشرٍ*** تربة الكرب في طفوف البلاء

فخذي تربة لتربة طه *** فإذا فارتا بحمر الدماء

فاعلمي أنني قتلت شهيداً*** من ثرى الطف في صعيد الآباء

وأتاه محمد ين أضحى*** ناوياً للمسير دون تنائي

قائلاً فى في تألم وافتجاعٍ*** بعد نصح منه ومحض ولاء

أنت ماء المزاج منّي وروح *** بين جنبي باطن الأحشاء

والكبير المطاع من أهل بيتي*** بین قومي وأنت صنوا خائي

وإمام له عليّ افتراضاً*** أوجب الله طاعة الأولياء

وأنا أصطفى النصيحة ذخراً *** لك عندي بأحسن الاصطفاء

أنت مهما تطق تنح ابتعاداً*** عن يزيد وبيعة الطلقاء

وأنا خائف إذا جئت مصراً*** فيك يعرو الخلاف عند اللقاء

في اقتال الى الأسنة تغدو*** غرضاً فيه ساعة الابتداء

فإذا أشرف البرية أماً*** وأباً بين أمة الحنفاء

ص: 348

من أذلّ الورى وأضيع نفساً*** ودماً بعد عزة وإباء

فإلى أين يا أخي قال أمضى؟*** ذاهباً من غوائل الأدعياء

قال فاذهب لمكة وحماها***فهي أمن لكلّ دانٍ وناء

حرم آمن لجدك طه*** فتحرس فيها بخير وقاء

أنت من أمنع الخليقة فيها*** عزة في كرامة وعلاء

ولتكاتب من شئت في كل مصر*** بعد إرسال خيرة النقباء

وادع فيها الورى إليك فإن لم*** يستجبوا رشداً لخير دعاء

ليس فيه نقص لحظك لكن*** أخطوؤا حظهم بغير اهتداء

وإذ لم يقر خير مقامٍ*** لك في أرضها بخير احتماء

سرت من بلد لأخرى وإلا*** جزتها لاحقاً بكل فناء

من بطون الرمال في كل أرض*** وشعوب الجبال في الصحراء

ناظراً ما يؤول أمر البرايا*** بعد هذا إليه في الانتهاء

قال والله لا أبايع ذلاً*** وهواناً يزيد طول البقاء

كيف أغدو في الوضع حتى إذا ما*** ضاقت الأرض بي ورحب الفضاء

وأنا راحل بأهلي جميعاً*** وبولدي وخيرة الأولياء

رأيهم في الأمور رأي وأمري*** أبداً أمرهم بخير التقاء

ولتكن أنت هاهنا لي عيناً*** ورقيباً من خيرة الرقباء

ليس يخفى علي مادمت فيهم*** أي أمرٍ بظل الخفاء

ومن هنا نعلم ان الامام الحسين عليه الصلاة والسلام كان يعلم بأنه مقتول لا محالة وانه شهيد الاسلام وانه يقتل شهيداً بكربلاء من أرض العراق يوم الجمعة أو السبت في يوم العاشر من المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة كما أنه(عليه السلام)كان يعلم ان يوم قتله يوم له حرمة في الجاهلية قبل الاسلام.

قال مولانا الرضا عليه الصلاة والسلام : إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية

ص: 349

فيما مضى يحرمون فيه الظلم والقتال فاستحلت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا،وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب منها ثقلنا، ولم ترع لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) حرمة في أمرنا ، إن يوم الحسين عليه الصلاة والسلام أقرح جفوننا وأسال دموعنا وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء فعلى مثل الحسين(عليه السلام)فليبك الباكون، ثم قال مولانا الامام الرضا عليه الصلاة والسلام : كان أبى إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي منه عشرة أيام فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ويقول : هو اليوم الذي قتل فيه جدي الحسين عليه الصلاة ،والسلام، وقال بعد ذلك الامام الرضاء(عليه السلام): من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله تعالى له حوائج الدنيا والآخرة ، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عزوجل يوم القيامة يوم فرحته وسروره وقرت بنا في الجنان عينه ، ومن سمي يوم عاشوراء يوم بركة وادخر فيه لمنزله شيئاً لم يبارك الله تعالى له فيما ادخر وحشره الله تعالى يوم القيامة يزيد وعبدالله بن زياد وعمر بن سعد لعنهم الله تعالى وجعلهم في أسفل درك من النار. ومن هنا ينبغي للمؤمنين أن لا يتركوا ذكر الحسين(عليه السلام) وذكر مصيبته ، وان لايشغلوا قلوبهم بشواغل الدنيا التافهة التي رفضها الحسين(عليه السلام) قال شيخنا اليعقوبي الله في أبيات من الشعر وهو يعلم فيه المحبين كيف يجب عليهم أن يشتغلوا بذكر سيدالشهداء عليه الصلاة والسلام وبذكر مصيبته فهو يقول :

للقلب ما في القلب شاغل*** فإلى م تعذلني العواذل

أتظن أن بلابلي*** للحي من شرقي (بابل)

ما شاقني سجع الحمام*** بها وتغريد العنادل

کلا ولكن هالني*** خطب بأرض الطف هائل

ص: 350

لو حل بالسبع الطباق*** غدت أعاليها أسافل

حياك يا أرض الطفوف*** من الحياطل ووابل

كم فيك غاضت أبحر*** للجود ليس لها سواحل

غارت على ظمأ وسمر الخط*** من دمها نواهل

أمجشماً حرفاً تسنم****غاربيها والكواهل

كوماء غادرها السرى ***في الد ومخطفة الأياطل

عج بالبطاح فان بدت*** منها لعينيك المنازل

سترى بني (عمرو العلى)*** ملات بهيبتها المحافل

في حيث لم تسمع سوى*** أصوات عادية الصواهل

قف ناعياً ساعياً خير الورى*** مستصرخاً خير القبائل

أبنى الغطارفة الألى*** سادوا الأواخر والأوائل

من هاشم البطحاء قد*** ورثوا المناقب والفضائل

غوث الأنام لدى الخطوب*** وغيتها والعام ماحل

ما آن أن تنضى الصفاح*** و تشرع السمر الذوابل

قوموا فان عميدكم*** غالته بالطف الغوائل

وبدور أفق علاكم*** في كربلا أمست أوافل

لهفي لظام والفرات*** بجنبه عذب المناهل

دامي الوريد على الصعيد*** موسّداً حر الجنادل

وأجل خطبٍ بعده***سبی الحرائر والعقائل

سلب الطغاة برودها*** فغدت تستر بالأنامل

سبیت وليس لها سوى*** السجاد من كاف وكافل

واهاً لزين العابدين*** له من الأغلال شاغل

متمثلاً بمقال من*** أودى به الدهر المخاذل

ص: 351

لاغر و إن أعرى وغيري*** في لباس الخز رافل

إن الحمائم ذات أطواق*** وجيد الباز عاطل

ما كان يحمل والقيود*** برجله لولا الحمائل

وعليه لم تجن الأواخر*** ما جنت لولا الأوائل

يبكي أباه بلوعة ***والجسم بالأسقام ناهل

أتراه ينسى ما جنت*** حرب على الصيد الأمائل

ينسى الجسوم على الثرى*** نهب القواضب والعواسل

والقوم فوق صدورها*** من فارس يعدو وراجل

ینسى الرؤوس أمامه*** سمر الرماح بها موائل

ینسى الرضيع مفوقاً*** لفطامه سهم ابن کاهل

ینسی كريمات الرسالة*** حسّراً فوق الهوازل

كيف تنسى تلك المصائب التي حلت على آل بيت الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)في ايام المحرم وبعده إن هذا الأديب يتكلم عن وصف مولانا زين العابدين عليه الصلاة والسلام وحالته في البكاء على أبيه وما جرى عليه وعلى عماته وأخواته بعد قتل أبيه الامام الحسين عليه الصلاة والسلام من تلك المصائب التي من أهمها وأعظمها بعد قتل الحسين عليه الصلاة والسلام، بروز حرم الوحي وآل الله في الأسر بین المشركين من أنصار بني أمية الملحدين لعنهم الله تعالى، حرم الوحي وآل الله مربقون بحبل واحد أوله في رقبة الامام سيد الساجدين عليه الصلاة والسلام وآخره كتف السيدة الجليلة زينب الحوراء ، وقد نطق روح القدس على لسان بعض الشعراء في وصف تلك المصيبة مخاطباً أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بهذه الأبيات:

للشام یا حیدر تری زینب خذوها*** فوق الجمل والناس كلهم ينظروها

ص: 352

هاللي على ظهر المطية دابها النوح ***الفراق أخوك أحسين ميت راح مذبوح

والله بكاها اعلى وليها يشعب الروح *** انظن الذبيح اخليصها امن امها وبوها

ما ظنتي الا امخليه هلها مذابيح*** واخلاف ما ذبحوا عليهم قامت اتصيح

يغشى عليها من الحزن وامن البكي اطيح*** تنعى بسم جدها او نوب باسم أبوها

عنها اسألوا الحادي الذي خلف المطية*** ماظن ترد اجواب هذي الاحييه

متولعة بالنوح مثل الراعبية*** قوموا سألوها يا خلق قوموا سألوها

نادت عليهم ياهل الشام اسكتوا عاد *** احنا بنات المرتضى ما نحكى اوغاد

هلنا حميتنا امنهم يوم لطراد*** اشتاقوا الى الجنة والدنيا طلقوها

سبعين مدرع ما بقي لي منهم اسناد ***الا عليل وانته اتفتت الاكباد

الله يساعدني ويساعد زين لعباد ***ويساعد النسوان هاللي ضيعوها

ما عودوني بالجفا ما عودوني *** ما حد سلبني الاعقب ما فارقوني

ص: 353

يا ليت ما شافت مصارعهم اعيوني *** يعزز عليهم خيمتي القوم ادخلوها

ما عودوني بالجفا أهل الحمية*** ما ظنتي قومي او هلي يرضوا عليه

من عقب هودج ركبوني اعلى مطية*** ترضی شیمکم یا هلی زینب سبوها

للشام يا حيدر مشت زینب بلا اقناع *** شالت او خلت جسم اخوها في ثرى القاع

شالت او خلت جثة الوالي رمية*** فوق الجمل حطت على اخوها غرية

نادت تريض الظعن يا حادي اشوية*** بانودع الوالي تراهوحان لوداع

ويلي لزينب ويش قاست والنساوين*** يوم حد الحادي أو مرت بالمطاعين

نادت يحادي الظعن مروا بي على احسين*** ما ظن يرضى ندخل الكوفة بلا قناع

في وداعة يالولي عنك مشينا *** للشام مشيتنا مهي لارض المدينة

من بعد عينك ذوبت كبدي اسكينه*** بعد الخدر والصون تتستر بلذراع

ثوب المعزة من عقب عينك نزعته*** والماي ما تهنیت به لا من شربته

ص: 354

أو كور المطية ابلا وطي بعدك ركبته*** يا ليت جانا المرتضى بالأهل فزاع

أو مرت على اخوتها او رأتهم كالمصابيح*** فوق الثرى يسفي عليهم سافي الريح

كلهم جثث صرعا على الغبرى مذابيح ***واحسين لمن شافته مرضوض لضلاع

خرت على جمسه أو نادت به يصنديد*** تجلس أو شوف ابنك على مغلول بالقيد

ترضى علينا نمضي الشامات ليزيد*** يا ليت جانا أمن الغري حيدر المناع

يحسين ضعني شال به شمر الضبابي ***ياليت عينك شافته يوم حدابي

صار البكي والنوح من شغلي او دابي*** هذي العزيزة ضايعة والقلب مرتاع

***

حرم الوحي أصبحت بين شرك ***لا ترى حرمة لدين ونسك

فرمت خدرها المصون بهتك*** والعليل السجاد في القيد يبكي

انحل الغل والسقام العظام

حكم من لدن حكيم وعدل*** فيصل في الأمور يقضي بفصل

كيف يسري الى الشام بغل*** ليس يدري مما بكى القتل

ام لاسرام للنساء واليتامى

***

قال الله تعالى شأنه في كتابه المجيد :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى

ص: 355

عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾(1) لقد تقدم الكلام فيما سبق حول ان القرآن الكريم هو معجزة الرسول الأكرم (صلی الله علیه وآله وسلم)الدالة على نبوته وعلى هذا يكون المعجزة هي أول الطرق المعرفة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)وكذلك كل الامام أيضاً فان الخلق إذا عجزوا عن الاتيان بمثله جزموا بأنه من الله تعالى فيصدق المدعي .

الطريق الثاني : نص السابق على اللاحق كما نص موسى وعيسى على خاتم الأنبياء فبشّرهم برسول من بعده يأتي اسمه أحمد، وذكر لهم أوصافه ، وإذا كانت نبوته عند أمته ثابتة بالمعاجز وجب تصديقه في كلما أخبر به، وكما أخبر نبينا الصادق المصدق بامامة الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام)ونص عليهم نصاً متواتراً قد ذكره المخالف والمؤالف كما يأتي إن شاء الله تعالى فيما بعد في الجلسات القادمة، المعجز الخارق للعادة المقارق والموافق للدعوى، وقد قسم بعض العلماء المعجز الخارق العادة إلى ستة أقسام :

الاول : الارهاص ، وهو ما يكون قبل البعثة ودعوى النبوة كما كان لنبينا (صلی الله علیه وآله وسلم)أن كل حجر ومدر كان يسلم عليه إذا مر به فيدل ذلك على حدوث أمر غريب وليس في ذلك التباس إذ لا دعوى. كما ذكرنا ذلك فيما سبق عن طريق الرجز حيث قال الحكيم الدمستاني البحراني :

فسبحت ناطقة له الحصا*** وأورقت باسقة له العصا

الثاني : السحر ، وهو خارق يكون بعد تهيئة الأسباب على مهلة بدون الدعوى، كما انّ سحرة فرعون طلبوا الحبال والتمسوا المهلة للتهيئة فلا التباس فإن المعجز يكون مع الدعوى بلا تهيئة ومهلة كما قال تعالى :﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴾(2)

الثالث: الكذبة، وهي ما تكون مخالفة للدعوى فتكذب دعوى المدعي

ص: 356


1- سورة البقرة : 23 .
2- سورة طه : 20 .

لوقوعها على خلاف ما أراد كما وقع ،لمسيلمة، فإنه دعا لواحد العين فعميت عينه الصحيحة ودعا لفور ماء البئر فجف ماؤها .

الرابع: الاستدراج وهو مكر الله في حق المنهمك في المعاصي بحيث يعطي كل ما يتمنى خارقاً للعادة فيغتر ويزعم أن ذلك لكرامته على الله تعالى كما كان يزيد لعنه الله تعالى يقول : اشربوا هذا الخمر فإنه مبارك قد أظفرنا على عدونا الحسين عليه الصلاة والسلام فيأخذه الله بغتة فتدرجهم من حيث لا يعلمون ولا التباس في ذلك لعدم الدعوى.

الخامس : الكرامة وهي استجابة الدعاء في الصلحاء فما يدعو بدعاء إلا يعطى سؤله ، ولا التباس في ذلك إذ لا دعوى هنالك.

السادس : المعجز وقد تقدم بيانه، ثم إنه لا يشترط في المعجز رؤيته ، بل يكفي في ذلك التواتر المفيد لليقين كما علمنا ذلك بالنسبة إلى الأنبياء السالفين فإن التواتر كما يفيد اليقين في البلدان النائية . كذلك يفيده هنا ، بل لعل إفادة التواتر أقوى من إفادة الرؤية البصرية لأن الخطأ في البصر أقرب من الخطأ في البصيرة.

وهنا أمور لابد لنا من إلحاقها بموضوع بحثنا وذلك لإتمام الفائدة :

الأمر الأول : انه نقل سيدنا المقدس السيد عبدالله شبر رضوان الله تعالى عليه في كتابه المشهور (حق اليقين) عن بعض العلماء العارفين ما ملخصه أن اشرف معجزات الأنبياء وأفضلها العلم والحكمة وهما للخواص وخوارق العادات للعوام والبله ، واما أهل التعصب والعناد منهم فلا ينفعهم الا السيف وإلى الثلاثة قد أشار الله سبحانه وتعالى بقوله :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ فأسرار الكتاب والميزان وهو البرهان العقلي بأقسامه للخواص الذين لهم قريحة نافذة وفطنة قوية وقد خلا باطنهم عن تقليد وتعصب لمذهب موروث ومسموع فإنهم يؤمنون بالنبي بميزان العلم والمعرفة والحكمة على قرب ولا يحتاجون إلى خوارق العادات وأمّا الّذين

ص: 357

ليس لهم فطنة فلهم الحقائق أو كان لهم ذلك ولكن ليست لهم داعية الطلب بل شغلتهم الصناعات والحرف وليس فيهم أيضاً داعية إلى الجدل وتحذلق المتكالبين في الخوض في العلم مع قصور فهمهم عنه فإنهم يعالجون بالموعظة وإظهار المعجزات ثم يحالون على ظواهر الكتاب ليس لهم التجاوز عنها إلى اسراره والحديد لأهل الجدل والشغب الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب مع عدم أهليتهم له ابتغاء الفتنة فإنّه يتلطف أولاً ويجادل معهم بالتي هي أحسن بأخذ الأصول المسلمة عندهم واستنساخ الحق منها بالميزان بالقسط فإن لم ينفعهم فالحديد الذي فيه بأس شديد وإلى الثلاثة أيضاً الإشارة بقوله عزوجل :﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ قيل وقد عامل نبينا(صلی الله علیه وآله وسلم)الناس بما أمر به وبما يليق بحالهم فقوم أخذهم بالرفق واللين لصفاء قلوبهم ورقة أفئدتهم فانقادوا له عاجلاً ودخلوا في شرعه سريعاً، والفريق الآخر أخذهم بالسنان والحسام والشدة والقتال حتى أدخلهم في دينه قهراً وقادهم إليه قسراً ثم تألفهم بإحسانه واستمالهم بمواعظ لسانه، حتى طابت له نفوسهم وانشرحت صدورهم، وذلك معنى قوله (صلی الله علیه وآله وسلم): عجباً من قوم يدخلون الجنة في السلاسل أي يدخلون في الاسلام الذي هو سبب دخلوهم الجنة، فجزاه الله عنا وعنهم خير الجزاء بما بلغ عن ربه وصدع بأمره.

الأمر الثاني : انه هل يجب تنزيه الأنبياء عامة عن كفر الآباء والامهات وعهر هن ؟ أو ان التنزيه خاص إلى آباء النبي الله ؟ فنقول في جواب ذلك: انه نقل السيد المذكور ان المشهور بين الإمامية بل حكي عليه الاجماع انه يجب تنزيه الأنبياء كافة عن كفر الآباء والأمهات وعهرهن لئلا يعيروا ويعابوا في ذلك، ولئلا يتنفر عنهم فإن ما في الآباء من العيوب يعود إلى الأبناء عرفاً ، ولقوله تعالى:﴿ وهو الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ ، أي انتقالك من أصلاب الساجدين لله إلى أرحام ،الساجدات وقوله تعالى : ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾.

ص: 358

قال السيد المذكور : وعندي في ذلك تأمل إذ لم يتم دليل عقلي قطعي على اشتراط ذلك، والدليل النقلي إنما صح بالنسبة إلى آباء النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)دون سائر الانبياء لا سيما الخضر فالتوقف في ذلك أولى وأمهات سائر الأئمة(عليه السلام) لم يكن في مبدأ أمرهن على الاسلام نعم الذي يظهر من النقل ويساعده العقل اشتراط كونهن عفيفات طاهرات نجيبات منزهات و مسلمات حين انعقاد النطفة في أرحامهن، لأن النطفة لما كانت دائماً في الأصلاب فينبغي الإسلام بخلاف الأرحام والله العالم بحقائق الأمور، ويجب الإيمان بإيمان أبوي النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)و أبي طالب لإجماع الشيعة على ذلك ، ورووا الروايات في ذلك من طرق العامة والخاصة ولقوله تعالى :﴿ ان الَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾. وقد اتفق المخالف والمؤالف أن أول من أوى النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ونصره أبو طالب عليه الصلاة والسلام.

الأمر الثالث: أنه فيما تقدم قد أشرنا إلى الفرق بين الرسول والنبي والامام والولي ، وأن الأنبياء والرسل على طبقات وذلك بصورة موجزة، وهنا في هذه الجلسة المباركة نشير إلى بعض الروايات التي توضح لنا الفرق المذكور فيما يلي :

1 - روى ثقة الاسلام في الكافي باسناده عن زرارة قال: سألت ابا جعفر(عليه السلام) عن قول الله تعالى : ﴿وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﴾ما الرسول وما النبي ؟ قال(عليه السلام): النبي الذي

منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك.

قلت : الإمام ما منزلته ؟

قال : يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك، ثم تلي هذه الآية﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ولا محدث ﴾.

2 - وعن الامام الرضا عليه الصلاة والسلام ان الرسول الذي ينزل عليه جبرائيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي وربما رأى في منامه نحو رؤيا ابراهيم (عليه السلام)، والنبي ربما يسمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع ، والإمام الذي

ص: 359

يسمع الكلام ولا يرى الشخص.

3- عن مولانا الامام الطاهر الباقر عليه الصلاة والسلام : ان الرسول الذي يأتيه جبرائيل قبلاً فيراه ويكلمه والنبي هو الذي يرى في منامه نحو رؤيا ابراهيم ونحو ما كان يرى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) من أسباب النبوة قبل الوحي.

4 - وعن مولانا الباقر والصادق عليهما الصلاة والسلام : ان الرسول الذي يظهر له الملك فيكلمه والنبي هو الذي يرى في منامه، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة.

5 - وعن الصادق عليه الصلاة والسلام أنه قال :الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات فنبي منباً في نفسه لا يعدو غيرها، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث إلى احد وعليه امام مثل ما كان ابراهيم على لوط ، ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك وقد ارسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا کیونس، قال الله تعالى ليونس : ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ قال الملا يزيدون ثلاثين ألفاً وعليه إمام، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو مثل أولي العزم، وقد كان ابراهيم النبياً وليس بإمام حتى قال الله تعالى :﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ . فقال الله تعالى : ﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ من عبد صنما أو وثناً لا يكون إماماً .

ونقل مولانا المقدس السيد عبدالله شبر رضوان الله تعالى عليه عن بعض المحققين أنّه قال : ان النبي من أوحي اليه بالعمل والرسول من أوحي اليه بالعمل والتبليغ ، والولي من حدثه الملك أو الهم إلهاماً ، والإمام من حدثه الملك بالعمل والتبليغ ، فكل رسول نبي ولا عكس وكل رسول او نبي او امام فهو ولي ومحدث ولا عكس، وكل رسول إمام ولا عكس، ولا نبي إلا وولايته اقدم على نبوته، ولا رسول إلا ونبوته اقدم على رسالته، ولا إمام إلا وولايته اقدم على امامته، والولاية باطن النبوة والامامة، والنبوة باطن الرسالة، وباطن كل شيء اشرف وأعظم من

ص: 360

ظاهره لأن الظاهر محتاج إلى الباطن والباطن مستغن عن الظاهر، ولأن الباطن أقرب إلى الحق فكل مرتبة من المراتب المذكورة أعظم من لاحقها وأشرف وأيضاً فإن كلاً من النبوة والولاية صادرة عن الله تعالى ومتعلقة بالله، وكل من الرسالة والإمامة صادرة عن الله ومتعلقة لعباد الله فتكون الأوليان أفضل وأيضاً كل من الرسالة والإمامة متعلق بمصلحة الوقت والنبوة والولاية لا تعلق لهما بوقت دون وقت .

وقيل : بل الأخيرتان ، أفضل لأن نفعهما متعد ونفع الأولتين مقصور على صاجيهما، وله وجه إلا أن التحقيق هو الأول وكيف ما كان فليس يجب أن يكون الولي أعظم من النبي ولا من الرسول ولا من الإمام ولا النبي أعظم من الرسول بل الأمر في الكل بالعكس كما في ولي يتبع نبياً او رسول او اماماً، أو نبي يتبع رسولاً لأن لكل من النبي والإمام مرتبتين والرسول ثلاث مراتب وللولي الواحدة، فمن قال : إن الولي فوق النبي فإنما يعني بذلك في شخص واحد يعني ان النبي من حيث انه ولي أشرف منه من حيث انه نبي ورسول، وكذا الامام من حيث انه ولي أشرف منه من حيث انه امام وكيف يكون الولي أفضل من النبي مطلقاً ولاولي إلا وهو تابع للنبي او الإمام والتابع لا يدرك المتبوع أبداً فيما هو تابع له فيه إذ لو أدركه لم يكن تابعاً . نعم، قد يكون ولي أفضل من نبي إذا لم يكن تابعاً له كما كان أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام أعظم من جميع الأنبياء والأولياء بعد نبينا (صلی الله علیه وآله وسلم) وكذا أولاده المعصومون عليهم أفضل الصلاة والسلام.

من هنا فقد كان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) يؤكد على التمسك بهم حتى في آخر نفس من أنفاسه الشريفة وقد كان على فرش السقام وهو يقول(صلی الله علیه وآله وسلم) : ائتوني بدواة وكتف اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، ثم اغمي عليه ، فقام بعض من حضر من أصحابه ليلتمس دواة وكتفاً فقال له عمر : ارجع فانه يهجر ، فلما أفاق قال بعضهم: ألا نأتيك يا رسول الله بكتف ودواة ؟

ص: 361

فقال :ابعد الذي قلتم ؟ لا .ولكن احفظوني في أهل بيتي ،ثم أعرض عنهم بوجهه فنهضوا وبقي عنده العباس والفضل وعلي (عليه السلام)وأهل بيته خاصة، فقال العباس : يا رسول الله إن يكن هذا الامر فينا مستقراً من بعدك فبشرنا وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوص بنا.

فقال (صلی الله علیه وآله وسلم): أنتم المستضعفون من بعدي وصمت، ونهض القوم وهم يبكون، فلما خرجوا من عنده قال(صلی الله علیه وآله وسلم): ردوا عليّ أخي علي بن ابي طالب وعمي، فحضرا فلما استقر بهما المجلس قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): يا عباس يا عم رسول الله تقبل وصيتي وتنجز عدتي وتقضي ديني ؟

فقال العباس :يا رسول الله عمك شيخ كبير ذو عيال كثير وأنت تباري الريح سخاء وكرماً وعليك وعد لا ينهض به عمك ، فأقبل على علي(عليه السلام) فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): يا أخي تقبل وصيتي وتنجز عدتي وتقضي ديني ؟

فقال : علي عليه الصلاة والسلام : نعم يا رسول الله .

فقال : ادن مني، فدنا منه فضمه خاتمه ونزع من يده فقال له : خذه فضعه في يدك، ودعا بسيفه ودرعه ، وقيل : ان جبرئيل(عليه السلام)نزل بها من السماء فجيء بها اليه فد فعدها الى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام وقال (صلی الله علیه وآله وسلم): اقبض هذا في حياتي ودفع اليه بغلته وسرجها وقال الله له : امض على اسم الله الى منزلك، فلما كان من الغد حجب الناس عنه وثقل في مرضه (صلی الله علیه وآله وسلم)وكان على(عليه السلام) لايفارقه إلا لضرورة، فقام في بعض شؤونه فأفاق إفاقة فافتقد علياً

(عليه السلام)فقال (صلی الله علیه وآله وسلم) : ادعوا لي أخي وصاحبي وعاوده الضعف.

فقالت عائشة : ادعوا أبا بكر ، فدعي فدخل، فلما نظر اليه أعرض عنه بوجهه، فقام أبوبكر .

فقال (صلی الله علیه وآله وسلم): ادعوا لي أخي وصاحبي.

فقالت حفصة : ادعوا له عمر ، فدعي، فلما حضر رآه النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) فأعرض عنه

ص: 362

بوجهه فانصرف .

ثم قال(صلی الله علیه وآله وسلم): ادعوا لي أخي وصاحبي.

فقالت أم سلمة(عليها السلام) : ادعوا له علياً عليه الصلاة والسلام فإنه لا يريد غيره، فدعي أمير المؤمنين ، فلما دنا منه أوى اليه فأكبّ عليه فناجاه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، طويلاً،

قام فجلس ناحية حتى أغفى رسول الله. أغفى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) خرج علي(عليه السلام)فقال له الناس : يا أبا الحسن ما الذي أوعز اليك ؟

فقال علي عليه الصلاة والسلام : علمني رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ألف باب من العلم فتح لي كل باب ألف باب وأوصاني ما أنا قائم به إن شاء الله ، ثم ثقل رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)حضره الموت، فلما قرب خروج نفسه . قال له : ضع رأسي يا علي في حجرك فقد جاء أمر الله عزّ وجل، فإذا افاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ثم وجهني الى القبلة وتول أمري وصل عليَّ أول الناس ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي و واستعن بالله عز وجل، وأخذ علي(عليه السلام)رأسه فوضعه في حجره فأغمي عليه واكبت فاطمة تنظر في وجهه وتنديه وتبكي وتقول (عليه السلام).

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه*** ثمال اليتامى عصمة للارامل

فتح رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)عينيه وقال بصوت ضئيل: يا بنيه هذا قول عمي أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم فبكت طويلاً فأوما إليها أن تدنو منه (صلی الله علیه وآله وسلم)فدنت إليه فأسر إليها شيئاً تهلل له وجهها، ثم قضى(صلی الله علیه وآله وسلم)ويد أمير المؤمنين اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه فيها فرفعها(عليه السلام) الى وجهه فمسحه بها ، ثم وجهه وغمضه ومد عليه إزاره واشتغل بالنظر الى أمره فسئلت: ما الذي قال اليك رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فسررتی ؟

قالت(عليه السلام) :أخبرني اني أول أهل بيته لحوقاً به وأنه لن تطول المدة بي بعده حتى أدركه فسررت بذلك.

ص: 363

وفي خبر رواه ثابت عن انس قال : إن فاطمة عليها الصلاة والسلام : لما ثقل النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وجعل يتغشاه الكرب نادت(عليه السلام) : يا ابتاه الى جبرئيل ينعاه، يا أبتاه من ربه ما أدناه يا أبتاه جنان الفردوس مأواه يا ابتاه أجاب رباً دعاه.

وقال الصادق عليه الصلاة والسلام : قال جبرئيل(عليه السلام)يا محمد هذا آخر نزولي الى الدنيا إنما كنت أنت حاجتي منها ، وصاحت فاطمة(عليها السلام) وصاح المسلمون وصاروا يضعون التراب على رؤوسهم .

وقال الباقر عليه الصلاة والسلام لما حضر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)الوفاة نزل جبرئيل(عليه السلام) فقال: يا رسول الله أتريد الرجوع الى الدنيا ؟

قال(صلی الله علیه وآله وسلم): لا ، الرفيق الأعلى.

وفي خبر : ان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، استمهل ملك الموت عن قبض روحه المباركه حتى يأتي جبرئيل(عليه السلام) ، وان ملك الموت لم يتمكن من الدخول على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)لقبض روحه حتى جاءه الإذن، بل قيل : إن جبرئيل انحنى يقبل أعتاب بيت النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وهو خاضع.

ولقد أجاد فيما قاله الحاج ملا مهدي بن علي آل نتيف البحراني وهو يصف حالة جبرئيل (عليه السلام)عند ما جاء يطلب الرخصة لدخوله على النبي (صلی الله علیه وآله وسلم).

يطلب الرخصة والاذن*** واقف على الباب

وهوه الذي ما ايهاب*** من حاجب وبواب

خاضع جلاله للذي*** واقف ابابه

والتاج شاله وانحنى*** ایقبل اعتابه

ونادی یهل بیت*** السيادة والنجابه

انتم وسيلتنا الى*** الله رب لرباب

يطلب الرخصة*** من سول الله وحبيبه

عطر ثراها واستوت روضه نجیبه*** من طيب ابو الزهرا ثراها اتعطر وطاب

ص: 364

واهناك جاله المرتضا واسمع كلامه*** ايقله اريد أدخل يناموس الامامه

واجتمع ويا المصطفى راعي الكرامة*** هاللي على اجله كون العالم ولسباب

ومن يوم اجا عند النبي وافهم حجيه*** قله يعزرائيل لا تعجل عليه

خلني بشاور من يجي جبريل ليه*** وباشوف ويش اللي يجاوبني من اخطاب واهناك بالسرعه الامين الروح جاله ***واختار اله دار الكرامة والجلالة

جنة عليه وحور مصطفه اقباله*** ولملاك خضع بين حجاب وبواب

نعم جاء الروح الأمين جبرئيل قائلاً: يا رسول الله هذه أبواب الجنان مفتحة لاستقبالك، وهذا رضوان قد زين جنة الفردوس بالنور وأمر الولدان بأن يستقبلوا روحك الطاهرة الشريفة :

رضوان زين جنة الفردوس بالنور*** او آمر على الولدان تتزين مع الحور

ويملاك نزلوا زفوا الروح الشريفة ***عن هالدنيه في مقامات المنيفة

تمت النعمة من جعل حيدر خليفة ***والويل للي يظلمه ويتقدمه زور

وامتدت املاك السما في انزول واصعود***فوج السما يصعد او فوج للنبي ايعود

وطه على افراش المنية ابروحه ايجود*** وام الايمه تنتحب والقلب مفطور

ومن يوم اراد الله الحبيب وقرب حينه*** بالعرق ظل ايسيل كاللؤلؤ جبينه

وفارقت روحه وغمض المختار عينه*** وارتجت الدنيا على اجله واظلم النور

ص: 365

وشمر أذياله حق تغسيله أبو احسين*** ومداه فوق المغتسل عمدة الكونين

مثله جنازة في البشر ما لاحظت عين*** يتقلب ابروحه ومنه يسطع النور

واشتغل حيدر والحمولة في الموارات ***واهل السقيفة امعيده يوم النبي مات

ايقولوا استرحنا يوم عنا اتغيب او فات*** حيدر فلاله في الخلافة اسم مذكور

ومن قبل ما ايواري النبي نقضوا البيعه*** جترا تنصب في قضا حكم الشريعة

وانقاد حيدر وانكسر ضلع الوديعة*** بالباب والحايط ضلعها راح مكسور

ولكن كلما جرى على السيدة الصديقة(عليه السلام) من المصائب عبد وفاة أبيها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)لم يكن مانعاً عن إقامة العزاء على أبيها فلقد كانت سلام الله عليها تأتي قبر أبيها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) مع ولديها الحسن والحسين عليهما الصلاة والسلام ويقيمون العزاء على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)عند قبره، وهكذا بعد وفاتها عليها الصلاة والسلام فقد التزم الحسنان بذلك ولما ان التحق مولانا الحسن عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى لم يبارح الامام الحسين عليه الصلاة والسلام الحضور عند قبر جده رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)حتى آخر لحظة حتى من لحظات وجوده المبارك في المدينة، ولما عزم على الخروج منها جاء (صلی الله علیه وآله وسلم)كما يحدثنا صاحب البحار وغيره الى قبر جده رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ليلاً ووقف باكياً وقال : السلام عليك يا رسول الله انا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك وسبطك الذي خلقتني في أمتك فاشهد عليهم يا نبي الله انهم قد خذلوني وضيعوني ولم يحفظوني وهذه شكواي اليك حتى ألقاك ، ثم رجع إلى

ص: 366

منزله حتى الصبح ، فلما كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضاً وصلى ركعات، فلما فرغ من صلاته جعل ( عليه الصلاة والسلام يقول : اللهم هذا قبر نبيك محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)وأنا ابن بنت نبيك وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، اللهم اني أحب المعروف وأنكر المنكر وأنا اسألك يا ذا الجلال والاكرام بحق القبر ومن فيه إلا اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى ، ثم جعل عليه الصلاة والسلام يبكي عند القبر حتى إذا كان قريباً من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى(عليه السلام) فإذا هو برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قد أقبل في كتيبة الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه حتى ضم الحسين(عليه السلام)إلى صدره وقبل بين عينيه وقال : حبيبي يا حسين كأني أراك أراك عن قريب مرملاً بدمائك، مذبوحاً بأرض كرب وبلاء بين عصابة من أمتي وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى وظمآن لا تروى وهم مع ذلك يرجون شفاعتي يوم القيامة لاأنالهم الله شفاعتي، حبيبي يا حسين ان أباك وأمك وأخاك قدموا علي وهم مشتاقون إليك وانّ لك في الجنان لدرجات لن تتالها إلا بالشهادة.

فجعل الحسين(عليه السلام)في منامه ينظر إلى جده(صلی الله علیه وآله وسلم)ويقول : يا جداه لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك.

فقال له رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) : لابد لك من الرجوع الى الدنيا حتى ترزق الشهادة وما قد كتب الله لك فيها من الثواب العظيم فإنك وأباك وعمك وعم أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنة.

فانتبه الحسين(عليه السلام)من نومه فزعاً مرعوباً ورجع إلى منزله وجمع أهل بيته فقص عليهم رؤياه فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق الأرض ولا مغربها قوم أشد غماً من أهل بيت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، ولا أكثر باك ولا باكية منهم.

وقد حكى الحاج المقدس الملّا عطية بن علي البحراني وصف الحسين (عليه السلام)وحالة جزعه وبكائه عند قبر جده الله الله في أبيات شعرية تفتت الأكباد فقال :

مهجة الزهرى فوق قبر المصطفى ينوح*** اينادي من الدنيا يجدي ملت الروح

ص: 367

اتعفر على قبره او زفر زفرة المهظوم*** غمضت عينه او شاف جده العالم النوم

ضمه لصدره والدمع بالخد مسجوم*** او قله الحريمك ولولاد الكربلا روح

يحسين سافر واترك اديارك ولوطان*** چني اعاين جثتك للخيل ميدان

والراس مثل البدر يزهر فوق لسنان*** من تلتفت زینب تشوفه اقبالها ایلوح

تنجي يعقلي ايذبحك الشيعة من النار*** وابذبح شبانك او ذبح اطفال الصغار

واتصير لجلك كربلاء مقصد الزوار*** من عالم الذرها لامر مكتوب باللوح

يحسين سافر بالحراير والنساوين*** تنذبح يا ابني او نسوتك تدخل دواوين

خل تنصب الشيعة النياحة عليك يحسين*** وانته التنجيها او يصير الذنب مصفوح

بالله ارد أناشدكم يشيعة ردوا الجواب*** لو تنفني جملة الشيعة شيوخ وشباب

ايقابل اتعفر خد ابو سكنه بلتراب*** لا والذي من قبل آدم علم الروح

احلف بحيدر لو انفت جملة الشيعة*** متعادل اوقوف السبط بيده رضيعه

يجذب الحسره او ينظر اوداجه قطيعه*** او طفله يفرفر مثل ذبح الطير مذبوح

او حق الذي كسروا ضلعها أم الاماجيد*** نسوان شيعتهم طبق من غير تعديد

كلها متسوي دخول زینب مجلس یزید*** ويا اليتاما او زندها بالحبل مجروح

ونقل المحدث المازندراني الحائري في كتابه معالي السبطين في أحوال الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهما عن كتاب(مهيج الأحزان) : ان الحسين عليه الصلاة والسلام لما أن انتهى من وداع قبر جده رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) انعطف نحو قبر أمه الزهراء عليها الصلاة والسلام ووقف وقال : السلام عليك يا أماه حسينك جاء لوداعك وهذه آخر زيارته إياك، فإذا النداء من القبر وعليك السلام يا مظلوم الأم، ويا شهيد الأم، ويا غريب الأم، فاستعبر باكياً حتى لا يطيق على الكلام، وبعد ذلك توجه نحو قبر أخيه الحسن(عليه السلام) ففعل مثل ذلك.

ودع قبر جده ورجع والقلب ممرود*** يم روضة الزهرا يون ونة المجهود

ص: 368

اتمرغ على الروضة او قلبه امن الوجد ذاب*** او عفر اخدوده ويل قلبي ابذاك التراب

اينادي عزيزك يا بتوله امن الهظم شاب*** متحيرا وبالوطن ما يحصل له اقعود

هلت ادموعه او لصق فوق القبر صدره*** يبكي او ينادي في أمان الله يزهرى

مكسور قلبي امن الهظم والله يجبره*** اورد القبر خيه او قلبه ابحزن موقود

اتخوصر على قبر العضيد او يعلم الله ***بحزان قلبه يوم صاح اوداعة الله

هذا يخويه اللي علينا قدر الله*** سمك او ذبحي من قبل تكوين لوجود

وانته قضيت اللي عليك امن المنية*** او عالجت غصتها او ظل اللي عليه

او قصدي ابها السفره يخوية الغاضرية*** عندي خبر من طلعتي للوطن ما عود

خويه يبوا محمد علي رحب الفضا ضاق***قلبي تراهو ذاب من لوعات لفراق

برض المدينة قبرك او قبري بلعراق***اورد للمنازل والدمع يجري بلخدود

نادي يدور المجدك طليتي خلية***او طوح الونه او جاوبه ابن الحنفية

ص: 369

او قله اشعبتني يا غريب الغاضرية***من وطن جدك يا عضيدي ابليل مطرود

عندي خبر يحسين بس اتسوق الاظعان *** واتشوف عيني البيت خالي من الشبان

جسمي يذوب او ينتحل من كثر لحزان*** جرحك ينور العين ساطي وسط لكبود

خلني اشق جيبي ترى ما ظل لي اشعور*** يا ليت قبل اتشيل تدفني بلقبور

اولا سوف من شخصك خليه او موحشة الدور*** شايل يخوية او للوطن ما ظنتي اتعود

تقول الرواية المتقدم ذكرها عن الكتاب المذكور ورجع الحسين عليه الصلاة والسلام بعد أن ودع جده (صلی الله علیه وآله وسلم)الى منزله وقت الصبح فأقبل إليه أخوه محمد بن الحنفية وقال: أخي أنت أحب الخلق اليّ وأعزهم عليّ ولست والله أدخر النصيحة لأحد من الخلق إلا لك، وليس أحد أحق بها منك لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري وكبير أهل بيتي ومن وجبت طاعته في عنقي، لأن الله قد شرفك علي وجعلك من سادات أهل الجنة ، يا اخي تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية لعنه الله وعن الأمصار ما استطعت ثم ابعث رسلك الى الناس ثم ادعهم الى نفسك فإن بايعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك ، وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا يذهب مروتك ولا فضلك فإني أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم فمنهم طائفة معك وأخرى عليك فيقتتلون فتكون لأول الأسنة غرضاً فاذا خير هذه الامة كلها نفساً وأباً واماً أضيعها دماً وأذلها أهلاً.

فقال له الحسين عليه الصلاة والسلام: فأين أذهب يا اخي ؟ قال : انزل مكة

ص: 370

فان اطمأنت بك الدار بها فذاك وإن تكن الاخرى خرجت الى بلاد اليمن فانهم أنصارك وانصار جدك وأبيك وانهم أرأف الناس وأرقهم قلوباً وأوسع الناس بلاداً فإن اطمأنت بك الدار بها فذاك وإلا لحقت بالرمال وشعوب الجبال وجزت من بلد إلى بلد حتى تنظر ما يؤول اليه أمر الناس ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين.

فقال الحسين عليه الصلاة والسلام: يا أخي لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولامأوي لما بايعت يزيد بن معاوية لعنة الله تعالى، فقطع محمد بن محمد بن الحنفية الكلام وبكى وبكى الحسين عليه الصلاة والسلام معه ساعة قال عليه الصلاة والسلام يا أخي جزاك الله خيراً فقد نصحت وأشرت بالصواب وأنا عازم على الخروج الى مكة وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي وأمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأما أنت يا أخي فلا بأس عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم، ولاتخفي عني شيئاً من أمورهم، ثم دعا الامام الحسين عليه الصلاة والسلام بدواة وبياض وكتب هذه الوصية لأخيه محمد : (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية ، ان الحسين(عليه السلام)يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عند الحق ، وان الجنة والنار حق، وان الساعة آتية لا ريب فيها، وان الله يبعث من في القبور واني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي وشيعة أبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين)(1)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: هذه وصيتي لك يا أخي وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، ثم ختم الكتاب بخاتمة الشريف ودفعه إلى اخيه محمد، ثم ودعه، فلما هم(عليه السلام) بالانصراف تحسر محمد بن الحنفية وانتحب باكياً ودموعه تسيل على وجناته وهو يقول : كيف أبقى

ص: 371


1- سوف يأتي إن شاء الله تعالى في بعض الجلسات القادمة موجز شرح هذه الوصية المباركة.

بعدك يا أبا عبدالله حليف الحزن والبكاء.

اتحسر امحمد وانتحب ودموعه اتسيل*** او نادى تخليني يخويه اوعني اتشيل

وياك خذني كان تدري توقع حروب ***تدرون بيه من قبل يحسين مهيوب

والله لخلي اقرومهم تمشي بلا اقلوب***ضنوة ابو الحملات ما هاب الرجاجيل

اتشيلون عني او دوركم تبقى خلية*** ظلما اوبيها ينعب اغراب المنية

وابقى حليف الحزن وادموعي جرية***مقدر على هالحال يانسل البهاليل

قله ودموع العين تجري او قلبه ايفور*** كلنا يخويه مفصلة لنا بكربلا اقبور

اولالك اويانا يا عضيدي قبر محفور*** الله بما ادموم ابوادي كربلا اتسيل

لازم ابطف الغاضرية ايصير زلزال*** او لازم تخوض اخيولنا بدموم لبطال

او تالي النهار انظل ضحايا فوق لرمال*** كلنا عرايا اتدوس فوق اصدورنا الخيل

هذا الذي قدر لي الباري او اراده*** يبقى على التربان خدي ابلاوساد

اولا شوف الك وياي يمحمد شهاده ***صب الدمع واصفق اكفوفه اوصاح بالويل

ص: 372

شبیت نار بمهجتي او زيدت همي*** اتفوزون بيها والحزن يحسين سهم

والله لخلي الدمع طول الدهر يهمي*** اولا بطل امن النوح لانهار ولا ليل

قله اتسلا قال عني السلوة ابعيد*** لنصب المأتم واصفق بايد على ايد

خايف على زينب يدخلوها على ايزيد*** بعد الخدر والصون تبقى ما لها اكفيل

نعم هذه حالة محمد بن الحنفية لما نظر الى الامام الحسين عليه الصلاة والسلام يسوق ظعونه عازم على الخروج من مدينة جده رسول الله له ، ويقال : انه قد شق جيبه وكان يلطم على هامته وقد تألم الأعداء لحالته :

او حالة امحمد يا خلق تشجي الاعادي*** مشقوق جيبه او يلطم الهامه او ينادي

یحسين لتسوق الظعن ذايب افادي ***او كلما تلومه الناس يصفق راح ليدين

امن العين نشفت دمعته او كلما نهض طاح ***او كلما يسلونه جذب وناته اوصاح

لحد يسليني ترى مني الاخواراح ***كلكم متدرون ابمصابي يا مسلمين

ها اللى يقودون الظعاين هالنشامة*** قلبی مهوا باني عليهم بالسلامة

خايف يردها الظعن بس نسوه او يتاما*** ريض لخيك بالظعن يا قرة العين

ص: 373

بحسين سلطان البلد لو عزم ايشيل ***تطلع الناس اتشيعه او تسرج على الخيل

وانت يا سلطان المدينة تطلع ابليل*** يحسين وياكم خذوني يا ضيا العين

تتنومس ابنصرك يبوا سكنه الأجانب*** وانا نصيبي الحزن وامقاسي المصائب

ليه الفخر والصيت بيام الحرايب ***قاسيت انا أهوال الجمل ويام صفين

تدري ابجسمي امن المرض يحسين متعوب*** والكد مني امفطرة والقلب مشعوب

وانكان فارقني جمالك جسمى ايذوب*** مقدر اشوف ابيوتكم يا ابن الميامين

ص: 374

الجلسة الخامسة عشر

اتبكي على رسم بدارة تهمد*** عفته الليالي فهو كالوشم

وتصبوا لي تذكارهم مسرح لذة*** وملعب افراح لشادوا غيد

لك الويل فاغرب عن ضلالك واتخذ*** من الوجد سر بالاحزن مجدد

فلست ترى والله ماعشت فادحاً*** بأفجع من رزؤ النبي محمد

نعته الى علياه علياء نفسه*** وعزا به التوحيد كلّ موحد

وهم بأن يوصى بثقليه قومه*** وبالعكس هم فيما يريد بمرصد

وقال أناس ظلّ يهجر أحمد*** ونجم هوى ما ضلّ بل وحى مرشد

وكم غصص قد جرعوه أقلّها*** ليشعل ناراً في حشى كل جلمد

الى أن قضى فانقضت الشهب للثرى*** لتشيعه في بنت نعش وفرقد

وقام يعزّيه الى عالم السماء*** أخو الوحى في نوح الحمام المغرّد

ومزّقت الدنيا عليه فؤادها*** وشق عليه الدهر جيب التجلد

وأظلم وجه الكون والشمس ألبست*** بثوب من الاحزان بالكسف أسود

وعين الهدى لم ترق دمعتها اسی*** عليه ولازالت بجفن مسهد

قضى نحبه فلتنتحب لافتقاده*** أرامل كانت منه في خير مسند

قضى فقضت ما تشتهيه باله*** عدي وتيم وهو غير ملحد

زووا صنوه عن حقه ورقوا على*** منابره يهدون هذى المعربد

خلا منبر منه بناه بسيفه*** ولم يخل متن الطرف منه بمشهد

ص: 375

وحاطوا بنار الجزل للوحي منزلاً*** وتهاد و عليّاً في نجاد المهند

وفاطمة بالباب أسقط حملها*** بعصر شدید مؤلم عن تعمد

وكسّرن منها أضلع ليت أضلعي*** فدتها وان لم تكف بالنفس افتدى

ولفعها ذاك الزنيم بلطمة*** على وجنة الخد الاسيل المورّد

ومن حقها ابتزّوا تراثاً ونحلة*** وردّوا شهوداً صوتها صوت أحمد

نعم ، هكذا فعل القوم مع بضعة نبيهم وحبيبته وبقيت تناشدهم العطف تارة، و تخوفهم الله تارة أخرى فهى ما زالت معصبة الرأس منهدة الركن يغشى عليها تارة وتفيق أخرى لم ألم بها من الألم وأوجاع وما فتئت وما انفكت تذكر أياه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وتندبه في ليلها ونهارها. وقد عظم وجدها عندما رأت القوم قد دخلوا دار الرسول بدون إذنها وأخذوا يظهرون العداء الذي قد تأصل في نفوسهم بالضرب والشتم وكأني بها تناشد أباها قائلة:

لحد يبو إبراهيم دشوا بيتك انذال*** اسمع حنين ام الحسن تشكي لك الحال

دخلوا على قوم اسلموا من قبل خيفه*** من حيدر الكرار يذبحهم ابسيفه

او كلمن تذكر للضغاين واخذ حيفه*** او فيهم إيعدونه بيويه بألف خيال

انهض يبو إبراهيم شوف ام العزيزين*** اجنت عليها امتك شيئاً امرين

وامن البكا والنوح ماجفت لها عين*** بعدك يبو إبراهيم اش قاست من أهوال

انصاف ما فيكم بقى ياهل المدينة*** انكان أبويه المصطفى عفتون دينه

بالله اتركونه لا إلينا ولا علينا*** صيروا مثل لول بليا دين جهال

من يوم ابويه ماحصل أجر الرسالة*** بعتوا السهم منه او تهتوا بالضلالة

أجره على الله اللطيف الله ابحاله*** ربّ کریم عادته بالجود فعال

ابكي على الوحى انقطع مني اهبوطه*** وابكي على المحسن نحل جسمي سقوطه

او ذاك العدو ورم امتوني ابضرب سوطه*** من رصني بالباب تحت الولد في الحال

والله عجايب والدي يسكن بلقبور*** واني نحيله امن الضرب والضلع مكسور

ص: 376

وانته يبو الحسنين جالس كيف ما تثور*** المشتكى الله اورسوله من هلفعال

حزني لبويه مات واوحشني محله*** ما مات الا مبتلى منهم ابعلة

وامن العجايب كيف سمتوني ابذله ***دنهض يبويه امن القبر عاين هلفعال

قومك ييابه خالفوا فينا الوصيه*** وتواثبوا كلهم على بعلي او عليه

يابه أخبرك نحلتي مني خذوها*** او بنتك يبويه بعد عينك روعوها

اضلوعي يبويه ابصاير الباب كسروها*** و توانبوا كلهم على بعلي او عليه

ليتك تراهم يوم هجموا داخل الدار*** من بعد ما وجوا بیویه الباب بالنار

او حامي الحمى جالس يبو ابراهيم ما ثار*** وآني حزينه واذرف ادموعي جريه

اوليتك تشوف المرتضى يوم اللي سحبوه*** والله صفایه قايد الأبطال قادوه

وابني الحسن يبكي وينادي بويه خلوه ***خلوه لينا نلتجى باظلال فيه

خليتني بعدك نحيله باكيه العين*** مادری شقاسي من اذية واجذب اونين

ابكي الكسر ضلعي لو ابكي اسقوط الجنين*** او اجعل حنيني عليك يا خير البرية

نعم هكذا كان حال الصديقة في حزنها وجزعها على أبيها لم يهدأ لها بال، ولم يستقر لها بوجه من الوجوه حال فتراها أما باكية أو معاتبة لعلى -بره وهو يرى ما يجري عليها بأم عينيه من اولائك العتاة المردة، عاتبت علياً قائلة: الست أنت فارس بدر وحنين ؟ ألست انت قاتل الصناديد والشجعان ؟ ألست أنت الفاتك للأبطال في ميدان الحرب ؟ ألست أنت منكس رايات الكفر ومجدل أبطالها ؟ فلماذا هذا الصبر وأنت ترى ما يجري على حليلتك وأم أولادك؟ تعاتبه ولسان حالها يقول :

یا فارس بدر وحنين وبيوم الوغه فتاك***تصبر يا علي جمدوب صبرك عجب الأملاك صبرك

صبرك عجب المخلوق واملاك السمه كلها***وامصيبتك يا كرار ما من نبي اليحملها

ص: 377

من طب الرجس للدار ونيته ابنار يشعلها*** ما هابك يبو الحسنين وانته المحد اليدناك

من يدناك يابو حسين وانته الطيعة الجن ***لاچن العجب تصبر او تسمع بالزجيه اتون

ابين الباب والحايط عصرها واسقطت محسن*اورض اضلوعها الطاغي اوروعها ولاراعاك

روع بضعة الهادي ابصدرها نبت البسمار*** من عگب الفعل هذا تعد او طب لعند الدار

گادك بالحبل يا حيف وانته حيدر الكرار***تندب حمزة او جعفر ما منهم لفه يحماك

ما منهم لفاك امعين بس ام الحسن واحسين**لاچن طلعت ابیاحال اتنادى او تهل العين

خلوا عن ابن عمي لفرع واكلب الكونين*** رد العبد يضربها يريت اتشوفها عيناك

ريت اتشوفها عينك او ضلع ام الحسن مكسور**واجنين السقط بالباب والدم من صدرها ايفور

او من طلعت وراك اتصيح خلوه والدمع منثور*** مارديت تحميها للمسجد لفت وياك

للمسجد لفت تنحب يويلي والدمع محمر*** ما ردت لعند الدار اله اوياك يا حيدر

ظلت من بعد هذه گلبها ابنار يتوجر*** لمن گضت مظلومه من ظلم السده من اعداك

ص: 378

ظلموا يا علي الزهره لما مات ابغصتها*** أوحين الي تغسلها وشفت اصواب جثتها

گمت تنحب يبو الحسنين او عينك تهل دمعتها***هذا اللي جره اعليها عباد الوثن من جاك

او كل الجره على الزهره بأرض الطف جره واكثر**هجم اللي على الزهرة صارت هجمت العسكر

ابكسر الضلع صدر احسين تحت اخيولها اتكسر***بسقاط الجنين الطاح طفل احسين ويتاماك

نعم، كلما جرى على الزهراء(عليه السلام) قد جرى على ولدها الحسين(عليه السلام)يوم الطف بل واكثر من ذلك فان النار التي أشعلها أعداء الله تعالى في بيت الزهراء (عليها السلام) قد بقي شرارها لكي يحرق مخيمات بنات الرسالة يوم الطف ، وان إسقاط جنينها قد بقي أثره حتى قضي على عبد الله الرضيع يوم عاشوراء ، وان ضربها بالسياط بقي أثره حتى حتى قد صاب الصديقة زينب الحوراء وإن كسر ضلعها قد بقي أثره فأصاب ضلوع الحسين(عليه السلام) وصدره الشريف في يوم عاشوراء ذلك اليوم الذي بقي فيه أبو عبد الله الحسين(عليه السلام) ملقى على بوغا كربلاء بلا تغسيل ولا تكفين عاري اللباس قطيع الرأس في جندل كالجمر مضطرم قد أهوت عليه اخته الحوراء زينب (عليهاالسلام) تشمه وتقبله وهي متحيرة عند ما رأت شمراً يقطع أوداجه نادت عليه بضعيف صوتها تقول له:

بالله يا شمر عنه دوخر*** اذبحني اوخل اخوي احسين وسر

تگله یا شمر بالله دخليه*** او ماشافه او من الطبرات يبريه

تشوفه ايلوج ما غير النفس بيه*** اوعينه نوب يشبحها او تغمر

دگلی یا کتر خالي امن الجروح*** تحط سيفاك يخايب والدمه ايفوح

طبره فوگ طبره تشعب الروح*** يشوغ الكلب من عدها او يفغر

ص: 379

يخايب خلي اخويه احسين ساعه*** اغمضله ومد للموت باعه

مهو شمامت الحلوه اطباعه*** دخلي ابراح روح احسین تظهر

یخویه بیش اضمك وين اوديك*** يخويه اشلون اصد عنك وخليك

تراني اتحيرت يا مهجتي بيك*** یخویه بیش اظللك من الحر

هوت يمه تشم كسر البضلعه*** اخوي الما طبع يشبه الطبعه

غایب روحه او فرت تودعه*** أولن رأسه ابراس الرمح مزهر

رأس حسین فوگ الرمح مسفر

مثل البدر بالظلمة ينور

لمن شافته صفت بدیها*** اوشگت ثوبها ويلي عليها

ما تنلام من شافت وليها*** فوگ الرمح راسه ايلوح بالبر

سالت عينها بدموعها اعليه*** اوشالت راسها او تلفتت ليه

خفك ويلي وامت أعليه*** او صاحت باچیه ابصوت امذعر

يسور المرمر الماله مصاعيد*** يصل الرمل يمنفر العرابيد

يطير السعد يا معذب الصياييد*** حاطت بيه فوگ الرمح وكر

عسى ابعيد البلا راسك امعلگ*** يخوي او جثتك بكيفوه سملك

أو گلب اختك يخوي اساع خفك*** او طار واحام عد راسك او فرفر

اویلی اتلا گفوا راسك بلرماح*** او شيبك آه تلعب بيه الارياح

ومصوت عدونا بالفنا صاح*** ابذلتنه امكيف او لنصر مستر

يا شيال رأس احسين ريض*** جيم برأس احي لا تعرض

شوف الدمع من عيني يفيض*** او نار الگلب لفراگه تسمر

باشیال رأس احسین گصر

تری گلبي علی افراگه تفطّر

يشايل راس حامینه اوّلینه*** ريض خلي اتودعه اسکینه

ص: 380

ليش احسین ساچت عن ونينه*** گلي تعب يوجرحه تخدر

يا شيال راسه لا تلوحه*** او هبط عن بكايا الروس رمحه

أخاف يفوت ريح الهوى ابجرحه*** واصوابه علیه ایگوم يسعر

يا شيال راس احسین سدره*** رده الجثته اوسده ابگبره

وكأني بها عند ما نظرت الى تلك الأنوار الساطعة من تلك الجبهة الشريفة أخذت تخاطب رأس الحسين قائلة :

لك نور بجبهة الحسن لالا*** بمحياً كساه ربي جمالا

ضاء في الدهر حقبة ثم زالا*** يا هلالاً لما استتم كمالا

غاله خسفه فأبدى غروبا

كنت كالحصن يا حسين الينا*** فاذا الدهر ناب فيك احتمينا

فلم اليوم لم تجب إدعونا*** يا أخي قلبك الشفيق علينا

ماله قد قسى وصار صليبا

كيف ترضى بفرقتي وبعادي*** بح صوتي فلم أجب كم انادي

أين قد صرت یا جمال بلادی*** ما توهّمت يا شقيق فؤادي

كان هذا مقدراً مكتوباً

كم دعاك اليتيم في قفر واد*** لم تجبه وكنت غوث المنادي

يا أخي ندبه أذاب فؤادي*** ما اذل اليتيم حين ينادي

بأبيه ولا يراه مجيا

وفتاة أتتك كالبدر في التم*** تخمش الوجه باليدين وتلطم

لو ذاع احنت لنحرك تلثم*** يا اخي فاطم الصغيرة كلم

ها فقد كاد قلبها أن يذوبا

بك كم صحت في الدجى حين عسعس*** وبضوء النهار لمّا تنفس

لعليل لنبضه الغلّ قد جسّ*** يا أخى ماترى عليّاً لدى الأسر

و من اليتم لا يطيق جوابا

ص: 381

قال الله تعالى في كتابه المجيد : ﴿ وإنّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم ﴾ (1)جاء في تفسير نور الثقلين نقلاً عن مجمع البيان عن أمالي شيخ الطائفة باسناده إلى مولانا أبي عبد الله الصادق الا أنه قال : وكان فيما خاطب الله تبارك وتعالى نبيه الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)أن قال له :« يا محمد ، انك لعلى خلق عظيم» . قال : السخاء وحسن الخلق .

قال بعض العلماء: لقد كان نبينا(صلی الله علیه وآله وسلم)كثير الضراعة والابتهال، دائم السؤال من الله تعالى أن يزينه بمحاسن الاداب ومكارم الأخلاق، فكان يقول في دعائه : اللهم حسن خلقي، وحسن خلقي، ويقول : اللهم جنبني منكرات الأخلاق .

فاستجاب الله تعالى دعاءه وأنزل عليه القرآن وأدبه بمثل قوله عزّوجلّ : ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾(2)، وقوله عزّ وجلّ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾(3) ، وقوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ﴾ (4)، وقوله عزّوجل: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ﴾ (5) ، وقوله عزّ وجل:﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ (6) . ثم أكمل خلقه وخلقه أثنى عليه فقال : ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(7) فانظر الى عميم فضل الله تعالى كيف أعطى نبيه الكريم، ثم أثنى تبارك تعالى عليه بقوله : ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ الآية .

ومن هنا تعرف كيف كان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قد اتصف بالأخلاق النبيلة والنعوت

ص: 382


1- سورة القلم : 4 .
2- سورة الأعراف : 99.
3- سورة النحل : 90
4- سورة لقمان : 17 .
5- سورة المائدة : 13 .
6- سورة فصلت : 34
7- سورة القلم 4 .

الجليلة والصفات الجميلة فكان(صلی الله علیه وآله وسلم) أحلم الناس وأشجع الناس وأعدل الناس ،وأعف الناس ، وكان أسخى الناس .

ومن خلقه الرفيع أنه كان(صلی الله علیه وآله وسلم)يخصف النعل ويرقع الثوب ويخدم في مهنة أهله ويقطع اللحم معهنّ (1).

وكان(صلی الله علیه وآله وسلم)أشد الناس حياء لا يثبت بصره في وجه أحد، يجيب دعوة الحرّ والعبد ، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن ويكافي عليها ويأكلها ولا يأكل الصدقة ،

ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين ، يغضب لربّه عزّوجل ولا يغضب لنفسه وينفد الحق وإن عاد ذلك بالضرر عليه وعلى أصحابه، عرض عليه الانتصار بالمشركين على المشركين وهو الله في قلة وحاجة الى إنسان واحد يزيده في عدد من معه فأبى(صلی الله علیه وآله وسلم) وقال : إنا لا نستنصر بمشرك ، وكان(صلی الله علیه وآله وسلم)يعصب الحجر على بطنه مرة من الجوع ومرة يأكل ما حضر ولا يرد ما وجد، ولا يتورع عن مطعم حلال لا يأكل متكيء ولا على خوان ، يجيب الوليمة ويعود المرضى ويشيع الجنائز ويمشي وحده بين اعدائه بلا حارس.

وكان(صلی الله علیه وآله وسلم)أشد الناس تواضعاً وأسكنهم في غير كبر ، وأبلغهم من غير تطويل، وأحسنهم بشراً لا يهوله شيء من أمر الدنيا ويلبس ما وجد من المباح وخاتمه فضّة يلبسه في خنصره الأيمن وربّما يلبس في الأيسر يردف خلفه عبده أو غيره ، يركب ما أمكنه مرة فرساً ومرةً بغلة شهباء ومرة حماراً ومرة يمشي راجلاً حافياً بال رداء ولاعمامة ولا قلنسوة ، يحب الطيب ويكره الرائحة الردية ويجالس الفقراء ويواكل المساكين ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم ويتألف أهل الشرف بالبرّ لهم ، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم ، لا يجفو على أحد ، يقبل معذرة المعتذر إليه ، يمزح ولا يقول الا حقاً، ويضحك من غير قهقهة ، يرى اللعب المباح فلا ينكره ، وترفع الأصوات عليه فيصبر ، وكان له لقاح وغنم

ص: 383


1- حق اليقين للسيد عبد الله شبر: 228 - 233

يتقوّت هو وأهله من ألبانها ، وكان له عبيد وإماء لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس ، ولا يمضي له وقت في غير عمل الله أو في ما لابد له من صلاح نفسه ،يخرج إلى بساتين أصحابه لا يحقر مسكيناً لفقره وزمانته ولا يهاب ملكاً لملكه يدعو هذا وهذا إلى الله دعاء واحداً، قد الله له السيرة الفاضلة والسياسة التامة وقد نشأ في بلاد الجهل والصحاري في فقر وفي رعاية الغنم ، يتيماً لا أب له ولا أم وكان من خلقه أن يبدأ من لقيه بالسلام ، ومن قام معه لحاجة صابرة حتى يكون هو المنصرف ، وما أخذ أحد بيده فيرسلها حتى يكون يرسلها الآخذ، وكان إذا لقي أحداً من أصحابه بدأ بالمصافحة ثم أخذ بيده فشابكها ثم شد قبضة عليها، وكان لا يقوم ولا يقعد إلا على ذكر الله ، وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته وأقبل عليه فقال: ألك حاجة ؟ فإذا فرغ من حاجته عاد إلى صلاته ، وكان أكثر جلوسه أن ينصب ساقيه جميعاً ويمسك بيديه عليهما شبه الحبوة ولم يعرف مجلسه من مجالس أصحابه لأنه كان(صلی الله علیه وآله وسلم)حيث ما انتهى به المجلس جلس ، وما رؤي قط مادّاً رجليه بين بين أصحابه حتى يضيق بهما على أصحابه إلا أن يكون المكان واسعاً لا ضيق فيه ، وكان أكثر ما يجلس مستقبل القبلة وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه لمن ليست بينه وبينه قرابة ، وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تكون تحته فإن أبى عليه أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل ، وما استصفاه أحد إلا ظن أنه أكرم الناس عليه حتى يعطي كل من جلس إليه نصيبه من وجهه ، حتى كان مجلسه وسمعه وحديثه ولطف مجلسه وتوجهه للجالس إليه ،ومجلسه مع ذلك مجلس حياءٍ وتواضع وأمانة ، قال الله تعالى :﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (1).

ولقد كان(صلی الله علیه وآله وسلم)يدعو أصحابه بكناهم إكرماً واستمالة لقلوبهم ، ويكنّى من لم تكن له كنية فكان يدعى بما كناه به ، وكان يكنّى ايضاً النساء اللات لهن أولاد

ص: 384


1- سورة آل عمران : 159.

واللات لم يلدن يبتدىء لهنّ الكنى ، ويكنى الصبيان فيستلين به قلوبهم ، وكان (صلی الله علیه وآله وسلم)أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضاء ، وكان أرق الناس بالناس ، وخير الناس للناس ، وأنفع الناس للناس ، ولم يكن ترفع في مجلسه الأصوات ، وكان إذا قام من مجلسه قال : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا اله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك ويقول : علمنيهن جبرائيل ، وكان (صلی الله علیه وآله وسلم)أفصح الناس منطقاً وأحلاهم كلاماً نزر الكلام سمح المقالة إذا نطق ليس بهذار ، وكان كلامه كخرزات النظم ، وكان أوجز الناس كلاماً وبذلك جاءه جبرائيل ، وكان مع الايجاز يجمع الايجاز يجمع كلّما أراد ، وكان يتكلّم بجوامع الكلم لافضول ولا تقصير كلام يتبع بعضه بعضاً بين كلامه توقف يحفظه سامعه ويعيه ، وكان جهير الصوت أحسن الناس نغمة ، وكان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة ولا يقول في المنكر ولا يقول في الرضا والغضب إلا الحق ويعرض عمّن تكلّم بغير جميل ، ويكنى عمّا اضطره الكلام إليه مما يكره ، وكان إذا سكت تكلم جلساؤه ولا يتنازع عنه في الحديث ويعظ بالجد والنصيحة ، وكان(صلی الله علیه وآله وسلم)أكثر الناس تبسما وضحكاً في وجوه أصحابه وتعجباً مما حدثوا به وخلطاً لنفسه بهم ولربما يضحك حتى تبدوا نواجذه ، وكان لا يدعوه أحد من أصحابه إلا قال : لبيك ، وكانوا لا يقومون له لما عرفوا من كراهته لذلك ، وكان يمر بالصبيان فيسلّم عليهم ، واتي برجل فأرعد من هيبته فقال : هون فلست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ، وكان يجلس بين أصحابه مختلطاً بهم كأنه أحدهم فيأتي الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل عنه ، حتى طلبوا إليه أن يجلس مجلساً يعرفه ، فبنوا له دكاناً من طين فكان يجلس عليه ، وكان يقول : إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، وكان(صلی الله علیه وآله وسلم)أخشى الناس لربه ، وأتقاهم له ، وأعلمهم به ، وأقواهم في طاعته ، وأصبرهم على عبادته ، وأكثرهم حباً لمولاه ، وأزهدهم فيما سواه ، وكان يقوم في صلاته حتى تنشق بطون أقدامه من طول قنوته وقيامه ، ويسمع على الأرض لو كف دموعه صوت كصوت المطر من كثرة خضوعه ، وكانت أوقاته لا

ص: 385

تخلو من الصيام وربّما يواصل الليالي بالأيام ، وصام حتى قيل انه ما يقطر ثم انه أفطر حتى قيل ما يواصل الليالي بالأيام ولا يصوم ، ثم أنّه كان يصوم أنّه كان يصوم الثلاثة الأيام في الشهر عليه قيض ، وكان إذا قام الى الصلاة يسمع من صدره الشريف أزيز كأزيز المرجل ، أي صوت كصوت القدر حين غليانه .

وجاء عن أمير المؤمنين(عليه السلام)أنه كان إذا وصف النبي وصف النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) قال : كان له أجود الناس ، وأجزأ الناس صدراً ، وأصدقهم لهجة ، وأوفاهم ذمة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشيرة ، من رآه بديهة هابه ،ومن خالطه معرفة أحبّه ، يقول ناعته فلم أر قبله ولا بعده مثله وما سئل شيئاً قط على الاسلام إلا أعطاه ، وأن رجلاً أتاه وسأله فأعطاه غنماً سدت بين جبلين فرجع إلى قومه فقال : أسلموا فإنّ محمداً(صلی الله علیه وآله وسلم)يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة ، وما سئل شيئاً قط فقال لا وجاء في مقالة شريفة اخرى عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام)أنه قال : كنا في يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشدّ الناس يوم أشدّ الناس يوم ذاك بأساً وفي خبر عنه الا أنه قال : كنّا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه .

وهنالك خصائص قد خصه الله تعالى بها عن امته قد ذكرها مولانا المقدس السيد عبد الله شبر في كتابه حق اليقين كما ذكرها غيره ،قال: رضوان الله تعالى عليه في الكتاب المذكور ما لفظه : هي كثيرة وفيها خلاف مشهور بين الفقها فكان التهجد والوتر والاضحية واجبة عليه ، وقيل : كان السؤال والمشاورة مع أصحابه واجبين عليه أيضاً كما قال تعالى :﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾(1) . وكان يجب عليه إنكار كلّ منكر ، ويجوز له تخيير نسائه كما ذكر في سورة الطلاق ، وتحرم عليه وعلى ذريته الزكاة الواجبة وفي الزكاة والصدقة المندوبتين خلاف ، وكان يجب عليه قضاء دين كلّ من يموت فقيراً ، ولم يأكل متكأ على جنبه وقيل بتحريمه

ص: 386


1- سورة آل عمران : 156

وكان يجوز له صوم الوصال وهو وصل صيام يومين من غير إفطار بينهما أو جعل إفطار بينهما أو جعل إفطار اليوم سحور الثاني ، ويحل له أن يتزوج أكثر من أربع بالدوام وتحل له الامرأة التي تهب نفسها ويحرم على غيره تزويج نسائه في حال حياته ومماته دخل بهنّ أم لا ، ويحرم نداؤه باسمه، ولم يناده الله باسمه في القرآن تعظيماً له ، بل قال: يا أيها النبي أيها المزمل، أيها المدثر، ايها الرسول، طه، ياسين ونحو ذلك، ومع ذلك قال له قال: ان الرجل ليهجر، وكان يحرم على الناس أن من يرفعوا أصواتهم فوق صوته ويحرم نداؤه من وراء الحجرات، وقيل كان عليه يحرم أكل الثوم والبصل والكتابة وانشاد الشعر ولم يثبت ذلك.

وقال السيد المذكور(قدس الله): إن بعض العلماء قد قسم خصائص الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) إلى واجبات كالتهجد وقضاء دين الميت الفقير .

ومحرمات كأكل الصدقة ونكاح الأمة وخائنة الأعين ومباحات كالزيادة على أربع زوجات دواماً، ووصال صوم الأيام والليالي والشهادة والحكم لنفسه. والى ما يرجع الى مجرد تشريفه وعلو شأنه مجرد تشريفه وعلو شأنه ورفعة مكانه كسيادة ولد آدم وكون أمته خير الأمم ورؤية ما وراء ظهره وعدم وقوع ظلّه على الأرض وابتلاع الأرض برازه ونحو ذلك.

وبالجملة إن أخلاقه النبيلة وصفاته الحميدة وخصائصه الجليلة لا يمكن حصرها في جلسة واحدة وإنما ذكرنا نزراً منها هنا لنتخلّق بأخلاقه، ونهتدي بهداه، وتتبع آثار سنّته حتى يتسنى لبعضنا البعض أن يتخلق بأخلاقه مع أهله واصحابه وعشيرته، فيتخذ الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) قدوة له في ذلك فاذا اراد أحدنا أن يكون سييء الخلق مع أهله فعليه أن يبتعد عن هذه الصفة الرذيلة وذلك بأن يتأمل في خلق الرسول مع أهله ، فينظر بعين الاعتبار مقالته الشريفة التي كان(صلی الله علیه وآله وسلم)بها يوصي أصحابه حيث يقول :« أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ، وخياركم خياركم لنسائهم »و«خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» فإنه خير الأزواج لخير الزوجات

ص: 387

كيف وقد كان(صلی الله علیه وآله وسلم)يأمر بمداراة النساء وبين أن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وكسرها طلاقها، « وأبغض الحلال الى الله الطلاق». وقد أوجب(صلی الله علیه وآله وسلم)على الرجل أن يتجمل لامرأته ويبدو لها في المنظر الذي يروقها وأمر بالنظافة والسواك والتزين ﴿ولهن مثل الذي عليهن﴾ ونهى المسافر أن يفاجيء أهله ليلاً. وكان(صلی الله علیه وآله وسلم) يبتسم في وجه زوجاته امهات المؤمنين ويزورهن في الصباح والمساء، وإذا خلا بهنّ كان ألين الناس ضحاكاً مبتسماً، ولم يجعل من هيبته النبوة سداً رادعاً بينه وبين نسائه.

وكان يقول(صلی الله علیه وآله وسلم) في أكثر بياناته: إنّ مساعدة الأهل صدقة وادخال السرور عليهنّ صدقة، وقال اذا مال قلبه لإحداهنّ: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» ويستغفر الله تعالى.

ولنتعلم أيضا منه (صلی الله علیه وآله وسلم) الوفاء فانه كان يثني على السيدة خديجة الجليلة أمّ المؤمنين(عليه السلام) بعد وفاتها ويقول: إنّها آمنت بي إذ كفرني الناس ،وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء .

وقد تزوّجها وهي في نحو الأربعين وهو في الخامسة والعشرين ولم يتزوج (صلی الله علیه وآله وسلم)غيرها حتى توفيت رضوان الله تعالى بل سلام الله عليها ، وكان معها الزوج المثالي الأعظم . وما جنح(صلی الله علیه وآله وسلم) الى تعدد الزوجات من بعدها إلا لإيجاد روابط المصاهرة وتأليف القلوب وتحبيب القبائل لنشر الدعوة وليوجد بينه وبين أصحابه وكبار قومه صلة قوية ورابطة متينة بسبب المصاهرة لأن ذلك مما يساعده ويشد أزره ويقوي دعوة الاسلام .

هذه الصفات الجليلة هي خلق نبينا الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)، وله صفات مثالية أخرى قد تمثلت في: عفوه، وشجاعته، وكرمه ،ووفائه، وتواضعه، وزهده، وعبادته، ووقاره

ومرؤته، وحيائه، ووصفه، وجهاده، وتبليغه، وصبره، وشمائله الكريمة، ولا بأس بأن

ص: 388

نعطّر جلستنا بذكرها وإن طال بنا المقام وذلك لكي نتعلم منه أيضاً(صلی الله علیه وآله وسلم)كيف نزين نفوسنا بزينة الأخلاق الاسلامية التي اتصف بها الا الله بعض ذلك بالتسلسل فيما يلي: :أولها عفوه العظيم. جاء من طريق العامة أنه لاله كان قائلاً تحت شجرة وحده والصحابة قائلون فتصدى له غورث بن الحارث . فلم ينتبه رسول الله إلا وهو قائم والسيف صلتاً في يده فقال : من يمنعك مني؟

فقال الله، فسقط السيف من يده، فأخذه النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وقال من يمنعك مني؟

قال: عفوك ولكن خير آخذ ، فتركه وعفا عنه، فجاء الى قومه فقال : والله جئتكم من عند خير الناس .

والأمثلة الدالة على عفوه العظيم كثيرة لا يمكن حصرها وإنما نذكر بعضها للتبرك والاقتداء به(صلی الله علیه وآله وسلم)وذلك زيادة على ما تقدم فنقول: المثال الأول : قيل : أنّه لم اشتد إيذاء المشركين يوم أحد عليه(صلی الله علیه وآله وسلم) وعلى أصحابه، شق ذلك على الصحابة وقالوا : يا رسول الله لو دعوت عليهم. فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): «إني لم أبعث لعاناً ولكن بعثت داعياً ورحمة اللهم اهد قومي فانّهم لا يعلمون».

المثال الثاني : قيل : إنّ أعرابياً جذبه برادئه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقة الشريق، ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك فانك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ثم قال: المال مال الله وأنا عبده ، قال : ويقاد منك يا أعربي ما فعلت بي؟ قال: لا

قال : ولم ؟ قال : لأنك تعفو وتصفح ولا تكافيء بالسيئة السيئة ، فضحك النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن يحمل له على بعير شعيروعلى الآخر تمر.

المثال الثالث : قيل : إنّه جاءه(صلی الله علیه وآله وسلم) زيد بن شعثة قبل إسلامه يتقاضاه ديناً عليه فجذب ثوبه عن منكبيه ، وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له ، ثم قال : إنكم يا بني عبد المطلب مطل ، فانتهره عمر بن الخطاب وشدد له في القول والنبي(صلی الله علیه وآله وسلم) يبتسم ويقول(صلی الله علیه وآله وسلم) : أنا : أنا وهو كنّا الى غير كنا الى غير هنا منك أحوج يا عمر، تأمرني تأمرني بحسن القضاء

ص: 389

وتأمره بحسن التقاضي، ثم قال(صلی الله علیه وآله وسلم): لقد بقي من اجله ثلاث، وأمر عمر أن يقضيه ماله ویزیده عشرين صاعاً بما روعه ، فكان سبب اسلامه.

المثال الرابع : قيل : إنه(صلی الله علیه وآله وسلم)يوم فتح مكة وقد حطم الاصنام التي عند الكعبة وقال: ما تقولون إنّي فاعل بكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم. فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) أقول لكم كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء .

المثال الخامس : قيل : إنه(صلی الله علیه وآله وسلم)قال لأبي سفيان وقد سيّر إليه الأحزاب وقتل عمّه وأصحابه ومثل بهمفعفا عنه ولاطفه في القول : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تشهد أن لا اله الا الله ؟

ب : «شجاعته العظيمة» والامثلة عليها كثيرة أيضاً :

أولها : قيل : انه(صلی الله علیه وآله وسلم) كان في يوم حنين وقد فرّ المسلمون ولكنّ رسول الله بقي ثابتاً وهو يقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ، ونزل ﴿اذ

تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم﴾ .

ثانيها : ما جاء عن مولانا أبي الحسن أمير المؤمنين الا انه قال : كنا اذا حمى البأس واشتد الوطيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).

ثالثها : ما جاء عن عمران بن حصين أنّه قال : ما لقي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)كتيبة الا كان أول من يضرب.

رابعها : قيل انه(صلی الله علیه وآله وسلم)كان يوم أحد وقد شدّ أبي بن خلف على فرسه وكان يقصد إصابة النبي الله فاعترضه رجال من المسلمين ، فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) هكذا أي خلّوا طريقه ، فتناول عليه الصلاة والسلام : الحربة من الحارث بن الصمة فطعن بها أبي بن خلف في عنقه تدأدأ بها عن فرسه أي تدحرج وكسر ضلعاً من اضلاعه فرجع الى قريش يقول : قتلني محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)وهم يقولون : لا بأس عليك ، فقال : لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم وقال لهم : والله لو بصق علي لقتلني ، ثم مات ابن خلف بسرف في قفولهم الى مكة . ت :« كرمه العظيم »ونتناول منه ما يلي :

ص: 390

الأوّل : ما جاء في السيرة انه(صلی الله علیه وآله وسلم)ما سئل عن شيء فقال لا ، وكان أجود الناس بالخير ، واجود ما كان في شهر رمضان ، وكان اذا لقيه جبرائيل أجود بالخير من الريح المرسلة.

الثاني : قيل : إنّ رجلاً سأله (صلی الله علیه وآله وسلم)فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع الى قومه وقال : أسلموا فإنّ محمداً(صلی الله علیه وآله وسلم)يعطي عطاءً من لا يخشى الفقر ، وقيل : انه(صلی الله علیه وآله وسلم) أعطى غير واحد مائة من الابل ، وأعطى صفوان مائة ثم مائة ثم مائة.

الثالث : قيل انه(صلی الله علیه وآله وسلم) اكرم عمّه العباس من الذهب ما لم يطق حمله وحمل اليه(صلی الله علیه وآله وسلم)ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام اليها فقسمها فما ردّ سائلاً حتى فرغ منها .

الرابع : قيل أنه جاءه رجل فسأله فقال : ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه ، فقال له عمر ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ذلك ، فقال له رجل من الانصار يا رسول الله انفق ولا تخش من ذي القرش إقلالاً، فتبسم(صلی الله علیه وآله وسلم)وعرف البشر في وجهه وقال : بهذا أمرت.

ث : « وفاؤه العظيم» وله في ذلك مواقف مشهودة نذكر بعضها فيما يلي:

الأول : قيل : إنه(صلی الله علیه وآله وسلم)كان في انتظار لمن وعده بالمجيء ثلاثة أيام مكان الوعد . وقد نسي الفتى الوعد فجاء بعد ثلاث ،فوجد النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ينتظره في مكانه فقال : يا فتى لقد شققت عليّ أنا هنا منذ ثلاث انتظرك، وذلك قبل البعثة .

الثاني : ما جاء في السيرة انه(صلی الله علیه وآله وسلم)كان يرسل الهدايا الى صديقة خديجة (عليه السلام)بعد وفاتها ويقول : إنها كانت تحب ،خديجة أنها كانت تأتينا أيام خديجة وان حسن العهد من الإيمان .

الثالث : أنه كان(صلی الله علیه وآله وسلم) وضع ثوبه ليقعد عليه أبوه من الرضاع وأمه من الرضاع ويصلهم بكثير من الهدايا وقد ضمّ إليه أخاه من الرضاع فأكرمه .

الرابع : قيل : انه وفد عليه وفد للنجاشي فقام النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) يخدمهم ، فقال له

ص: 391

أصحابه : نكفيك ذلك ، فقال : انهم كانوا لأصحابنا مكرمين واني أحب أن أكافئهم . الخامس : قيل انه(صلی الله علیه وآله وسلم)بعد فتح مكة قال للأنصار «المحيا محياكم والممات مماتكم وعاد الى الانصار في المدينة وسلم مفتاح الكعبة الشريفة لعثمان بن طلحة وقال: اليوم برّ ووفاء .

وبالجملة انه(صلی الله علیه وآله وسلم)كان سيّد الأوفياء فقد كان وفاؤه مع الخالق سبحانه ومع الخلق أجمعين. فكان أول العابدين الله تعالى عظيم البر لعباد الله.

ج : «تواضعه» (صلی الله علیه وآله وسلم)ولا يخفى ان هذه الصفة الحميدة هي من أبرز الصفات النبيلة الرفيعة التي كان يتصف بها فكان(صلی الله علیه وآله وسلم)أشد الناس تواضعاً وأعدمهم كبراً، وكان يقول: انما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد ولقد كان يركب الحمار ويردف خلفه ، ويعود المساكين ويجالس الفقراء ، ويجيب دعوة العبد، ويجلس بين أصحابه مختلطاً بهم وحيثما انتهى به المجلس جلس ، ويجمع

الحطب مساعدة لأصحابه .

ومن التواضع الرفيع الذي امتاز به(صلی الله علیه وآله وسلم)أكثر من غيره انه كان يحلب شاته بيده الشريفة ، ويرقع ثوبه ويخصف نعله ويخدم نفسه ، ويقم البيت ، ويعقل البعير ويعلف ناضحه ، ويأكل مع الخدم ، ويعجن ، ويحمل بضاعته من السوق ويقول : صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله.

وقيل انه(صلی الله علیه وآله وسلم)علم فتحت عليه مكة ودخلها بجيوش المسلمين طأطأ رأسه الشريف على رحله تواضعاً الله تعالى واحتراماً لبيته، وقد مرّ عليك الكثير من الامثلة الدالة على تواضعه العظيم فيما تقدم .

ح : «زهده العظيم» ولا يخفى على أحد انّ الزهد في هذه الدنيا من الصفات العالية التي يمتاز بها الصالحون من عباد الله تعالى ، واذا كان كذلك فمن يا ترى أولى من الرسول أن يتصف به ولذا انه (صلی الله علیه وآله وسلم) ما شبع ثلاثة أيام تباعاً من خبز بر حتى لقي الله عزّ وجلّ ، وأنه ما ترك ديناراً ولا درهماً ، ولا شاة ولا بعيراً، ما ترك إلا

ص: 392

سلاحه وبغلته وأرضاً جعلها صدقة . وقد عرض عليه أن تجعل له بطحاء مكة ذهباً فأبى، ويقول: أجوع يوماً فأتضرع إلى الله تعالى واشبع يوماً فأحمد الله وأثنى عليه ، ويقول : لجبريل الذي عرض عليه يا جبريل إنّ الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له ، وقد يجمعها من لا عقل له .

وقيل : انه(صلی الله علیه وآله وسلم)توفي ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله ،وهو يدعو ويقول : «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا»ً وكان يبيت هو وأهله الليالي المتتابعة طاوياً لا يجدون عشاء ويمكث أهله الهلال والهلال على التمر والماء .

وكان (صلی الله علیه وآله وسلم)يقول : مالي وللدنيا ، وما وضع لبنة على لبنة ويقول : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة. ويقول: «ما يسرني أن لي أحداً ذهباً يبيت عندي منه دنيار إلا ديناراً أرصده لديني» .

خ : عبادته وخوفه من الله تعالى » جاء في السيرة انه(صلی الله علیه وآله وسلم) كان يقوم الليل في صلاته حتى تورّمت قدماه الشريفة فقيل له : أتتكلف هذا وقد غفر لك الله تعالى ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال(صلی الله علیه وآله وسلم): أفلا أكون عبداً شكوراً ، ويقول : ﴿ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾ .

ولقد كان كثير الصيام كثير القيام في الصلاة ويسمع من صدره الشريف وهو الصلاة أزيز كأزيز الرحى أو المرجل من كثرة بكائه ، وكان كثير الاستغفار والذكر ، وكان لا يمر في صلاته وقراءته بآية رحمة الاً وقف يسأل ، ولا بآية عذاب إلا وقف وتعوذ ، وكان أكثر دعائه : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.

ويقول : «والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم الى الصعداء تجارون الى الله».

ويقول : «ان عيناي تنامان ولا ينام قلبي».

وكان اشد الناس خشية من الله تعالى، حلمه يسبق غضبه ، وكان دائم العبادة لله تعالى وهو أوّل العابدين .

ص: 393

د: «وقاره العظيم ومرؤته» فقد امتاز(صلی الله علیه وآله وسلم)بالوقار العظيم المتمثل في كثرة سكوته فانه لا يتكلم في غير حاجة ، وكان ضحكه تبسماً ، وكلامه فضلاً لا فضول ولا تقصير ، وكان اذا تكلم اطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير ، مجلسه مجلس حلم وحياء وخير وعلم وأمانة لا ترفع فيه الأصوت.

وكان إذا مشى، مشى مجتمعاً يخطو تكفؤاً، ويمشي هوناً كأنما يخط من صبب وكان عليه الصلاة والسلام يحدث حديثاً لوعده العاد أحصاه من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه، ومن سمع به آمن بالله وبرسالته.

ومن مرؤته(صلی الله علیه وآله وسلم)نهيه عن النفخ في الطعام والشراب، وامر بالاكل مما يلي والامر بالسواك وخصال الفطرة، والتأني في الامور، وكان(صلی الله علیه وآله وسلم) يقول ان المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.

وكان (صلی الله علیه وآله وسلم)أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان أكثر جلوسه محتبيا ويتربع، وربّما جلس القرفصاء .

وكان أمن الناس وأعدل الناس وأعف الناس وأعظمهم رأيا واصدقهم لهجة وكان يسمى قبل نبوته بالأمين مطاع ثم أمين وكان أرجح الناس عقلاً، ويكرم من يدخل عليه. وربما بسط له رداءه وآثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه ان أبي، ويدعو أصحابه بأحب أسمائمهم اليه وقد مرّ عليك فيما تقدم بأنه(صلی الله علیه وآله وسلم) يكني .

ذ :«حياؤه عظيم ولقد كان نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام أشد حياء من غيره من الأنبياء الكرام الذين تقدموه، وكان لطيف البشرة، رقيق الظاهر لايشافه أحداً بم يكره وكان يقول : ما بال أقوام يصنعون كذا او يقولون كذا ولا يسمى فاعله.

ومن حيائه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يثبت بصره في وجه أحد وكان يكثر بالألفاظ التي يكره ذكرها وقد مر عليك فيما تقددم بأنه يكنى.

وكان أشد الناس حياء، واكثرهم عن العورات إغضاء «ان ذلك كان يؤذي

ص: 394

النبي فيستحى منكم »، ويقول : «ان الحياء من الايمان» .

ولم يكن فحاشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح واذا خرج لقضاء حاجته أبعد لاتراه الأعين ،ويقول :إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: «اذا لم تستح فاصنع ما شئت» فهو معدن كل خیر ، رحمة كله وحزم وعزم ووقار وعصمة وحياء .

ر: «وصفه العظيم »ولقد كان(صلی الله علیه وآله وسلم)أبيض اللون مشرباً بحمرة ، واسع الجبين، عظيم الرأس حسنه، مستقيم الجسم ، عظيم الجبهة ، رقيق الحاجبين مقرونهما ، جميل العينين والاجفان ، جميل الأنف واضح الخدين ، كث اللحية أسودها واسع الفم الشريف ، قوي الأسنان، عظيم الكتفين، ضخم العظام ، جميل الكفين والقدمين، وبين كتفيه خاتم النبوة، عظيم الأصابع، لين الراحتين ، واسع الصدر، سهل البطن، جميل المحيا، وسط القامة، وهو الى الطول أقرب شديد سواد الشعر، حسن الصوت وما تثاءب قط ولا احتلم يخاطب كل انسان على قد عقله سهل الخلق ، لين الجانب قد كمل فيه جوهر الحسن والهيبة والجمال والطيب والوقار.

ز:« جهاده في سبيل الله تعالى»، ويشهد له بذلك غزواته الكثيرة التي قادها من أجل إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض ومن أجل توحيد المجتمع على عبادة رب واحد أحد لاشريك له ولا شبيهة وقد كانت كالتالي:

1 - غزوة ودان : «الابواء» ولم يلاق (صلی الله علیه وآله وسلم)قريشاً فحالف بني ضمرة وخرج معه مئتان من أصحابه المجاهدين .

2 - غزوة بواط : «ناحية جبل رضوى »ولم يدرك(صلی الله علیه وآله وسلم)قافلة قريش وخرج معه من أصحابه المجاهدين مئتان .

3 - غزوة العشيرة : وقد وادع(صلی الله علیه وآله وسلم)بني مدلج وحلفاءهم بني ضمرة وخرج بمأتين من أصحابه .

4 - غزوة بدر الاولى: وقد فرّ المشركون ولم يستطع المسلمون أدراكهم

ص: 395

وخرج(صلی الله علیه وآله وسلم) بمأتين من أصحابه .

5 - غزوة بدر الكبرى : وقد انتصر المسلمون فيها على قريش وخرج عليه الصلاة والسلام ومعه«315» من أصحابه على فرسين وسبعين بعيراً وعدد أعدائهم «950».

6 - غزوة بني قينقاع : وقد تطهره المدينة منهم على أيدي المسلمين.

7 - غزوة بني سليم : وقد فر فيها بنو سليم وغطفان وتركوا أموالهم للمسلمين وكان عدد المجاهدين مائتان بين راكب وماش.

8 - غزوة السويق : وقد فرت قريش من مطاردة المسلمين .

9 - غزوة ذي أمر :« موضع في نجد» وقد فر بنو ثعلبة ومحارب وبقي المسلمون في ديارهم حوالي مدة شهر وكان عددهم « 450» بين راكب وماش.

10 - غزوة بحران : وقد فرّ بنو سليم فبقي المسلمون في ديارهم مدة شهر، وكان عدد المجاهدين «300» بين راكب وراجل .

11 - غزوة أحد : استشهد سبعون ثم أيد الله المسلمين بالنصر واخزى الكافرين وكان عدد المجاهدين «700» بينهم خمسون فارساً وكان عدد الاعداء «3000».

12 - غزوة حمراء الأسد : وقد طارد المسلمون قريشاً وخلفاءها الى حمراء الأسد بعد انتهاء معركة أحد مباشرة ولكن المشركين فضّلوا الانسحاب الى مكة وكان عدد المجاهدين

«630 » وأعداؤهم زهاء ثلاثة آلاف .

13 - غزوة بني النضير : وهم اليهود من بني النضير وقد أجلاهم المسلمون عن ضواحي المدينة .

14 - غزوة ذات الرقاع(1): وقد فرّ بنو ثعلبة وبنو محارب .

15 - غزوة بدر الآخرة : عادت قريش أدراجها الى مكة ولم تذهب للقاء

ص: 396


1- غزوة ذات الرقاع موضع بنجد .

المسلمين في بدر حسب الموعد .

16 - غزوة دومة الجندل : وفيها فرت القبائل وكان عدد المجاهدين الف راكب وراجل . 17 - غزوة بني المصطلق : وفيها فر بنو المصطلق بعد معركة قصيرة ضدّ المسلمين وكان عدد المجاهدين فيها ألف راكب وارجل .

18 -غزوة الخندق : وقد عاد الأحزاب من حصار المدينة خائبين . وكان عدد المجاهدين ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف وعدد وعدد الأعداء«10» عشرة آلاف من قريش وبني سليم وفزارة وأشجع وغطفان ويهود من بني قريظة .

19 - غزوة بني قريظة : وكان فيها القضاء على بني قريظة .

20 - غزوة بني لحيان : فقد فر بنو لحيان وكان عدد المجاهدين«200»راكب .

21 - غزوة ذي القردة : فقد فر بنو غطفان وتركوا الغنائم التي أخذوها من المسلمين .

22 - غزوة الحديبية : وفيها عقد هدنة الحديبية بين المسلمين وقريش.

23 - غزوة خيبر : وفيها سقطت خيبر واستسلم يهود فدك ووادي القرى وتيماء وكان عدد المجاهدين«1400» بين راكب وراجل .

24 -غزوة فتح مكة : وكان عدد المجاهدين عشرة آلاف وكان فيها النصر والفتح المبين.

25 - غزوة عمرة القضاء : وفيها بقي المسلمون ثلاثة أيام في مكة بعد أن خرج عنها المشركون ، وهذه معركة معنوية لا معركة ميدان .

26 - غزوة حنين : وفيها اندحرت هوازن وثقيف ،وكان عدد المجاهدين«12» الفجندي بين راكب وراجل وذلك في وادي حنين قرب الطائف.

27 - غزوة حصار الطائف : وكان عدد المجاهدين «12» ألف جندي

ص: 397

وتمردت فيها ثقيف وبعض هوازن .

28 - غزوة تبوك : وكان عدد المجاهدين«30» ألف جندي صالحوا فيها القبائل وسكان منطقة الحدود بين الحجاز والشام فامنوا بذلك قاعدة أمينة لحركاتهم المقبلة .

هذه غزوات النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)على شجاعته وعظيم بأسه وجهاده في سبيل الله تعالى وسوف يأتي بيان أهمها على وجه التفصيل في جلسة مقبلة ان شاء الله تعالى .

«تبليغاته» : لقد عمّ الدعوة(صلی الله علیه وآله وسلم)وبلغ الرسالة ، ونصح الناس، وبدأ بانذار عشيرته الأقربين كما بينا ذلك فيما تقدم، وأرسل كتبه ورسله الى جميع العشائر والقبائل ، ثم ارسل الى الملوك والامراء يرشده الى الاسلام ويدعوهم الى الدين الحنيف.

«صبره» : ولا يخفى انه(صلی الله علیه وآله وسلم)قد تحمّل ما تحمّل في سبيل الله فصبر على ايذاء المشركين والمنافقين والمستهزئين.

قالوا له : لست مرسلاً، فأنزل الله تعالى :﴿ یس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ .

وقالوا :مجنون ، فقال الله تعالى :﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾.

وقالوا ،شاعر، فقال الله تعالى :﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ .

وقالوا : قلاه ربه ، فقال الله تعالى :﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾.

وقالوا : كاهن ، فقال الله تعالى :﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ﴾.

وقالوا : شاعر نتربص به ريب المنون فقال الله تعالى :﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ﴾ .

ص: 398

وقالوا : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق ؟! فقال الله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ .

وكانوا يستهزون به فقال الله تعالى :﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾

وكانوا يمكرون به فقال الله تعالى :﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾.

وقالوا : اساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه :﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ ﴾.

وكان المنافقون يكذبون عليه الا الله ويقولون : نشهد أنك لرسول الله . فقال الله

تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾.

هذا ما فعله أعداء الاسلام بهذا النبي الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)وقد تحمل كل ذلك منهم بصدر رحب وصبر على ما أصابه من بلائهم واستهزائهم وخداعهم ومكرهم وغيرذلك من صنوف الأذايا والمحن .

كما ان المنافقين لم يتركوا جهدهم في المبالغة في اذيته حتى وهو على فرش السقام حيث جعلوا يتنازعون الأمر وهو محتضر بينهم .

جاء في الحديث عن ابن عيينة عن سلمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، ثم قال : اشتد برسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وجعه يوم الخميس فقال : ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينغي عند نبي تنازع، فقالوا اهجر رسول الله ؟ قال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه، وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا أو بنحو ما كنت اجيزهم ، ونسيت الثالثة (1)

وفي نفس الكتاب المذكور صفحة 88 : عن محمد بن رافع وعبد بن حميد

ص: 399


1- محمد وعلي بنوه : 85.

قال: أخبرنا ، وقال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق ، اخبرنا معمر، عن الزهري عن عبيد الله بن بن عبد الله بن عتبة عيينة خ ل عن ابن عباس قال : لم حضر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب - فقال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) : - هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله تعالى فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)كتاباً لن تضلوا ، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلمّا اكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، قال رسول(صلی الله علیه وآله وسلم): قوموا .

قال عبيد الله : فكان ابن عباس يقول : ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وبين ان يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم .

من هنا نعلم كيف ان المنافقين لم يتركوا أذية الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) ولو لحظة من لحظات حياته المباركة فقد كان كما قلنا فوق فرش السقام وهم يؤذونه بفحش السلام مع العلم أنه لعل الله لم يرد أن يقول شيء يضرّهم انما أراد أن يقول مقالة تنفعهم وأن يؤكد وصية سبقت وهي في صالحهم ، أراد ان يؤكد بندائه في علي (عليه السلام)ذلك النداء العظيم الذي كان منه (صلی الله علیه وآله وسلم) عندما كان في رمضاء الهجير تلك الوصية حيث وضع له منبراً من أقتاب الابل واستوى عليه ونادى(صلی الله علیه وآله وسلم) بأعلى صوته ويده في يد علي(عليه السلام) وقال : أنها الناس الست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا بلى يا رسول الله، فرفع بضبع علي(عليه السلام)حتى رأى الناس بياض ابطيهما وقال: من علي كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من ولاه ، وعاد من عاداه وانصر من نصره، واخذل من خذله والعن من خالفه وادر الحق معه حيث ما دار ، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب ، حتى تداركوا على أمير المؤمنين(عليه السلام)بالبيعة الاول والثاني والثالث وباقي المهاجرين والأنصار على طبقاتهم وباقي الناس كافة حتى صلّيت العشاء والعتمة في وقت واحد وفضلوا التعاقد والمصافحة ثلاثاً هذا ورسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)كلما بايع قوم :قال الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وصارت المصافحة سنة

ص: 400

ورسماً يستعملها من ليس له فيها حق .

ثم أمر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ان ينصب لعلي(عليه السلام)خيمة يجلس فيها ويسلّم عليه بامرة المؤمنين لتأكيد الحجة عليهم فأول من أمر النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) الاول والثاني أن يسلما على علی(عليه السلام) بإمرة المؤمنين . قالا : أمر من الله ؟ قال : نعم فقال الاول عند دخولهما عليه : السلام عليك يا أمير المؤمنين، وقال الثاني بخ بخ لك يا علي أصبحت اليوم مولاي ومولى كلّ القوم وهنّوه بالخلافة، ثم أمر الثالث وعبد الرحمن أن يقوما ويسلما عليه بإمرة المؤمنين فقالا : أمر من الله ؟ قال نعم ، فقاما وسلّما عليه.

ثم أمر طلحة والزبير وسواد بن مالك أن يسلّموا عليه بإمرة المؤمنين قالوا: أمر من الله ؟ قال نعم ، فقاموا وسلّموا عليه ، ثم أمر أبا ذر وسلمان أن يسلّما عليه فقاما وسلّما ولم يسألاه شيئاً لأنهما مصدّقان ، ثم أمر خزيمة بن ثابت وابا الهيثم بن مالك، فقاما وسلّما ولم يسألا ، ثم أمر بريدة بن حصيب وأخاه فقاما وسلّما، وأمر باقي المهاجرين والانصار أن يسلّموا عليه فبعضهم يسأله وبعضهم يقوم من غير سؤال حتّى لم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلا وسلموا عليه ، ثم أمر باقي الناس على طباقاتهم وجميع البوادي وأهل القرى من المسلمين فدخلوا على أمير المؤمنين(عليه السلام)فوجاً فوجاً وهنّوا بالخلافة وسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ثم أمر أزواجه ونساء المؤمنين أن يدخلن ويسلّمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن ذلك وسلّمن عليه .

وعن ابن عباس وحذيفة قالوا جميعاً والله ما برحنا من مكاننا الذي كنا فيه حتى نزل جبرئيل(عليه السلام)بهذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً فقال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) : الحمد لله على اكمال الدين واتمام النعمة ورضا الرب سبحانه برسالتي اليكم والولاية لعلي(عليه السلام) ، فعندها قام حسّان شاعر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فقال : يا رسول الله ، أتأذن لي أن أقول ما يرضى الله

ص: 401

ورسوله ؟ فقال له : قل ، فوقف حسّان على نشز من الأرض فتطاول الناس لاستماعه فانشأ يقول :

يناديهم يوم الغدير نبينا*** بخمِ واسمع بالنبي مناديا

وقد جاءه جبريل عن أمر ربِّه*** بأنك معصوم فلا تك وانيا

وبلغهم ما أنزل الله ربِّهم*** اليك فلا تخشى هناك الأعاديا

وقام به إذ ذاك رافع كفّه*** بكفّ علي معلن الصوت داعيا

وقال فمن مولاكم ووليّكم*** فقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا

الهك مولانا وأنت ولينا*** ولا تجدنّ فينا لك اليوم عاصيا

فقال له قم ياعلي فانني*** رضيتك من بعدي إماماً وهادياً

فمن كنت مولاه فهذا وليّه*** فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليه*** وكن للذي عادى علياً مفاديا

فيا ربّ انصر ناصريه لنصره*** إمام مهدى كالبدر بين الدياجيا

ولنعم ما قال الحكيم الفرطوسي في ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام):

إن خير الاعمال حبّ علي*** لكمال الإسلام في الحنفاء

وهي أصل الايمان بدءاً وشرط*** لقبول الأعمال عند الأداء

حيث نص التبليغ فيها أتانا*** بعد نص الاطعام للفقراء

وأتانا « لتسئلنٌ » حثيثاً*** عن نعيم الولاء يوم البقاء

وأتانا نص التصديق فيها*** بأداء الزكاة عند الدعاء

وحديث الغدير وهو شهير*** مستفيض كالغرّة البيضاء

يوم قال النبي من كنت مولاه*** فعليّ مولاه دون افتراء

لايجاز الصراط إلا بصك*** من علي موقع بالولاء

ويماز النجار طيباً وخبثاً*** بعليّ في الحبّ والبغضاء

هو عين الاله میزان حق*** للبرايسا وسيّد الأوصياء

ص: 402

وقسيم الجنان والنار حقاً*** وهو ربّ اللوا وساقي الظماء

نصر الله ناصريه بحق*** فهم الفائزون يوم الجزاء

وقال أيضاً فما اوصى به النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)أمته بطاعة علي(عليه السلام):

قال طه للناس إن علياً*** هو مولاكم بفرض الولاء

قائد للجنان فاتبعوه*** واقتدوا في هداه خير اقتداء

عالم مرشد لكم عززوه*** واهتدوا فيه أحسن الاهتداء

وأطيعوا منه الأوامر فيما*** قاله وانتهوا بخير انتهاء

وأحبوا الوصي حقاً لحبى*** كل هذا بأمر رب السماء

وقال أيضا: انّ الله تعالى قد اختار علياً وصيّاً لمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم):

قال طه نوديت عند بلوغي*** سدرة المنتهى بخير نداء

أي عبد وجدته من عبادي*** لي اذني من بعد حسن البلاء

قلت ربي اني وجدت عليّاً*** لك في الخلق اطوع الامناء

قال ربّى فهل نصبت وصيّاً*** لعبادي من خيرة الاوصياء

يعلم الخلق من كتابي ما لا*** يعلم الخلق عند وقت الأداء

كلّ من ابغضوه قد أبغضوني*** ومحبّي محبّه في الولاء

قلت ربّي اختر لي فقال عليّا*** أنا اختاره من الأصفياء

أنا أيدته بعلمي وحلمي*** فهو نور الابرار من أوليائي

وأمير للمؤمنين بأمري*** ومنار للحق والاهتداء

غیر أني خصصته ببلاء***لايضاهي من عظمةفي بلاء

قلت ربّى أخي فقال بعلمي*** قد جرى الأمر سابقاً وقضائي

وقال أيضاً: ليس للخلق اختيار الامام :

ومقام الامام منصب قدس*** كمقام النبي سامي العلاء

فكما لا يجوز نصب نبي*** للبرايا من سائر الانبياء

ص: 403

بداً لا يجوز نصب وصي*** لهم من أمائل الاوصياء

بعد جهل منهم بمن هو أولى*** فيه حقاً من سائر الرؤساء

وقصور عن علمه وهو أسمى*** أفقاً من مدارك الجهلاء

مع أن الاهواء شتى ويجري*** كلّ فرد منهم مع الأهواء

فمتى يصلح اصطفاء البرايا*** بعد هذا له هذا له بخير اصطفا

ودليل الوجدان يشهد صدقاً*** وعيانا في سيرة الخلفاء

حينما يعزلون من نصبوه*** بعد كلّ الوثوق من امراء

لظهور الاغلاط فيما ارتأوه*** من صواب وهم من الخبراء

كلّ هذا للجهل بالأمر منهم*** والتأني عن واقع متنائي

وشروط الامام منها وجوباً*** عصمة عن قبائح الأخطاء

وهي محجوبة عن الخلق طرّاً*** دون ربّ العباد بعد الخفاء

فاختيار الامام الله حقاً*** وحده دون سائر الحنفاء

عالم الغيب والشهادة والعقل*** بهذا يقضي أتم قضاء

وقال أيضاً : ان الاهمال محال :

و محال على إله البرايا*** بعد ارسال خاتم الانبياء

وثبوت التكليف للخلق منه*** وبقاء الأحكام طول البقاء

أن يُقرّ الاهمال للخلق منه ***وهو أمر محقق الانتفاء

فهو لا بد أن يقيم وصيّاً***لهم بعد خاتم الأزكياء

يرشد الخلق قاطعاً كل عذر***للبرایا بحجة بيضاء

و محال على نبي حكيم ***مرسل منه في بني حواء

أن تبقى سدى جمع البرايا*** بعد فقدانه بغير اهتداء

تاركاً للعباد منه كتاباً*** ذا وجوه مستورة برداء

وهو في غاية التشابه يكسى*** من ثياب الاجمال أي كساء

ص: 404

كل شخص يميل منه لمعنى*** معملاً فيه قاصر الآراء

وهو للخلق لا يقيم رئيساً*** بعده عالماً عالماً بكل خفاء

يرجع الناس في الخلاف اليه*** جامعاً شملهم بخير لقاء

مع انّ التكليف في الخلق باقٍ*** ثابت فيهم بغير انتفاء

ومتى تؤمن العقول بهذا*** وهو نقض لحمكة الحكماء

وقال الامام : انه حفظ للنظام :

وسليم العقول يحكم قطعاً*** دون شك بفطرة العقلاء

ان رب العباد لاريب يقضي*** للبرايا بأصلح الاشياء

فهو لابد أن يقيم رئيساً*** لهم عالماً بكل خفاء

يرشد الناس للهداية منه*** بعد تعليم سائر الجهلاء

ويرُدّ الخلاف منهم اليه*** باتفاق ما بينهم والتقاء

وتحلّ المنازعات بعدل*** منه ما بين سائر الغرماء

مصلح للحياة أمناً وقسطاً*** منهم دون خيفة واعتداء

ينقذ الناس في المعاد اتباعاً*** لهداه في أحسن الإقتداء

ونظام الدنيا مع الدين يمسي*** مستقيماً فيه بحدّ سواء

ومتى يستقيم أمر الرعايا*** في جميع الدنيا بلا أمراء

وقال في قاعدة اللطف :

والامام الهادي شعاع رشادِ*** من نبي الهدى وفيض صفاء

واجب نصبه بلطف خفي*** للبرايا على اله السماء

بعد تبعيدهم عن الفيء فيه*** مع تقريبهم لكلّ اهتداء

فهو لطف على الخلائق منه*** فيه تقضي مدارك العقلاء

لانتصاف المظلوم من كل باغ*** متعد الظلم والإعتداء

عند ردع العدوان فيه عن*** الخلق وحفظ الحقوق للضعفاء

ص: 405

مع جمع الشمل المفرق فيه*** ما استظلوا من عدله بلواء

علم تهتدي الخلائق فيه*** و منار للعلم والعلماء

وتقام الحدود فيه بحق*** وبه يستقيم عدل القضاء

و تشاد الأركان للدين فيه*** بعد أحكامها بأرسى بناء

فيؤدي الجهاد والأمر*** بالمعروف في عهده بخير أداء

ولو أن الامام يترك منه*** دون نصب له على الحنفاء

لتفشى الخلاف من دون حكم*** فيه تقضى خصومة الخصماء

وصنوف الأحكام تبطل ممّا*** ودرت في الشريعة الغراء

دون فتوى بها ودون مقيم*** بقضاء لها من الفقهاء

وأصاب الأركان للدين نقص*** بعد تعطيلها بلا بناء

وتداعى الاصلاح فيهم فساداً ***دون ما مصلح لعظم البلاء

بعد هذه التصريحات الواضحة والمقالات الناصعة والبيانات اللائحة يصح ان يقال ان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)مات ولم يوص أو يقال عنه وهو على فرش السقام إنه يهجر عندما أراد أن يؤكد الوصيّة حيث طلب من القوم دواة وكتف لكي يكتب لهم كتاباً حتى لايضلوا أليس نسبة الرسول إلى الهجر في ذلك المقام دليل على جهل القوم من جهة وأذية الرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)من جهة أخرى ومع ذلك فانه ذلك فانه صبر على تلك الأذية التي لم يكن مثلها أذية حلت بالاسلام ونبيه الكريم.

نعم ،لقد أذي رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)حتى فارق الحياة الدنيا وقد أظلم وجه الكون لفقده وكورت الشمس ثوب الأحزان وبكت عليه عيون المسلمين ، ونعاه جبرئيل في عالم السماء ولم تستطع الزهراء سلام الله عليها أن تملك نفسها وهي تنظر في وجهه وقد غيرته السموم دون أن نادت وا أبتاه وا حبيباه وهي باكية حزينة :

إذ بكت شجواً أباها*** ببكا أشجي عداها

لم تفتر عن بكاها*** في ضحاها ودجاها

ص: 406

وكأني بها ان تودعه ودموعها جارية :

قامت تودع للنبي وادموعها هماله*** ياشايلين المصطفى بالهوان يا شياله

وانتو بعد يولادي راح الذي يحميكم*** من بعد عينه يابني منهو الذي يكفلكم

وآني الذي رملني وانتوا الذي يتمكم ***ام آني يولادي عنكم آني شياله

لزمت ضريح الهادي او صاحت ابصوت عالي*** يا والدي يا محمد ليتك تعاين حالي

صرت ابهضم وامذله والهم شاغل بالي*** اتمنت آني قبلك يابه آني شياله

وبالنار حرقوا بيتي او الباب كسروا ضلعي*** ماحد بقى ياوالدي بعدك ينشف دمعي

ارثي امنعوني منه او باحبال قادوا سبعي*** او دخلوه بوسط المحراب ليتك تعاين حاله

بعدك بخبرك بالعدى رادوا به ایقتلونه*** وصل ضريحك يبكي ويهل دمع اعيونه

يا مصطفى من قبرك انهض عسى ايخلونه*** ليت المدينه بعدك حلت بها زلزالة

جارت عليه الامة او غصبوا حقه عنه*** يا والدي يا محمد نالو الضغاين منه

وآني اضلوعي امكسره واجدب عليك الونه **والناس كلها ابدهشه في مشكلة او زلزلة

ص: 407

او لزمت بضريح الهادي او في الحال صارت ظلمه *او في الحين جاها المرتضى ايكفكف دموعه ابکمه

قلها يزهرا والدك رحمه لهذي الامة*** ردت تحن او تنتحب وادموعها هماله

نعم، رجعت إلى المنزل ولسان حالها يقول :

من قبل صوته المصطفى ليته دفني*** هلي وصابى كسر اضلوعي وعصرني

ولطم رمتني وخشت اضلوعي ابظني*** حزن لبقلبي للحشر هيهات ميزول

لومات واحد واندفن جسمه بالتراب ***صحبه الى أولاده ايسلوهم ابكل باب

حنا خلف بوكم ويهونوا ذاك المصاب*** بس الذي ذلها دهرها بین لنغول

وأصحاب أبويه سلوتي وتقظي اجري*** منهم حرقهم منزلي ولطمي وعصري

وتلبيب زوجي ورموا بالسوط ظهري*** بعدك يطه منيتى هالعمر ميطول

من قبل موت المصطفى وظمه بلقبور*** اتمنيت جسمي راح وسط القبر مقبور

ولا كان ذلي والضلع لاراح مكسور*** ولا ارتاع قلبي والدمع لا كان منثور

لم تمض عليها إلا ثلاية أيام بعد فقد أبيها حتى استباح القوم حرمتها وهجموا عليها دارها بغير إذنها:

هجموا عليها ابغير اذنها في خدرها*** والجزل معهم والدعي الثاني انتهرها

حامل وبين الباب والحايط عصرها*** ومن شد عصرتها سقط محسن بلتراب

ولن أفاقت صاحت ابفضه ادركيني*** كسروا اضلوعي سقطوا مني جنيني

فضة عرفتي اللي لطمني فوق عيني*** واللي اضلوعي كسر الها بصفجة الباب

ماصار في النسوه مثيلي طول الدهور***وبس مات ابویه و اندفن جسمه بالقبور

متني اتورم بالضرب والضلع مكسور*** فضة ولا حرمت بقت لي بين لصحاب

ولا ننسى المشابهة بين الصديقة الطاهرة وابنتها زينب فان الصديقة قد ضربت واستبيحت حرمتها بعد وفاة أبيها بثلاثة ايام كما قلنا، والسيدة الابنة قد

ص: 408

ضربت واستبيحت حرمتها بعد مقتل أخيها الحسين(عليه السلام) بثلاثة أيام ، والصديقة عقدت على أبيها العزاء في دار الأحزاب ، والسيدة زينب(عليها السلام) عقدت على أخيها الحسين (عليه السلام)في دار يزيد لعنه الله بالشام مأتم العزاء، وكان ذلك المأتم هو أول مأتم عزاء نصب الى أبي عبد الله(عليه السلام) ، ثم أخذت مجالس العزاء والنياحة على الحسين(عليه السلام) تشق طريقها وتزداد شيئاً فشيئاً مع مرور الزمان حتى عصر مولانا الصادق(عليه السلام)، فكان سلام الله عليه يعقد مجالس العزاء على جده الحسين في أيام عاشوراء ويحضر تلك المجالس التي كان يعقدها الصادق(عليه السلام) الكثير من الشعراء يرثون الامام الحسين(عليه السلام).

يقول معاوية بن وهب دخلت يوم عاشوراء الى دار مولاي جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) فرأيته ساجداً في محرابه فجلست من من ورائه حتى فرغ فأطال في سجوده وبكائه فسمعته يناجي ربه وهو ساجد وهو يقول : اللهم يا من خصنا بالكرامة، ووعدنا الشفاعة، وحملنا الرسالة، وجعلنا ورثة الأنبياء، وختم بنا الامم السالفة، وخصنا بالوصية، وجعل أفئدة من الناس تهوي الينا ،اغفر اللهم لي ولإخواني ولزوار أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) الذين أنفقوا أموالهم في حبه وأشخصوا أبدانهم رغبة في برنا، ورجاء لما عنده في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك ، اللهم فكافهم عنا بالرضوان واكلأهم بالليل والنار واخلفهم في أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا أحسن الخلف، وأكفهم شر كل جبار عنيد، وكل ضعيف من خلقك وشديد ، وشر شياطين الإنس والجنّ ، وأعطهم أفضل ما أملوه منك في غربتهم عن أوطانهم وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقرابتهم ، اللهم ان اعداءنا عابوا عليهم خروجهم فلم ينههم ذلك عن النهوض والشخوص الينا خلافاً منهم على من خلافنا فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تقلبت على قبر أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي حزنت لأجلنا واحترقت بالحزن، وارحم تلك الصرخة التي كانت

ص: 409

لأجلنا اللهم اني استودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتى ترويهم من الحوض يوم العطش الأكبر، وتدخلهم الجنة ، وتسهل عليهم الحساب، إنك أنت الكريم الوهاب.

قال : فما زال الامام(عليه السلام) يدعو لأهل الايمان ولزوار قبر الحسين(عليه السلام) وهو ساجد في محرابه، فلما رفع رأسه أتيت اليه وسلمت عليه وتأملت وجهه فاذا هوا

كاشف اللون متغير الحال ظاهر الحزن ودموعه تنحدر على خديه كاللؤلؤ الرطب .

فقلت : يا سيدي مما بكاؤك لا أبكي الله لك عيناً ؟ وما الذي حلّ بك ؟ فقال لي : أو في غفلة أنت عن هذا اليوم ؟ أما علمت أن جدي جدي الحسين(عليه السلام) قد قتل في مثل هذا اليوم ؟ فبكيت لبكائه و حزنت لحزنه فقلت له : يا سيدي فما الذي أفعل في مثل هذا اليوم ؟

فقال: يا ابن وهب زر الحسين (عليه السلام)من بعيد أقصى ، ومن قريب أدنى، وجدد

الحزن عليه، واكثر البكاء والشجو له .

فقلت له : يا سيدي لو أن الدعاء الذي سمعته منك وأنت ساجد كان لمن لا يعرف الله تعالى لظننت أن النار لا تطعم منه شيئاً ، والله لقد تمنيت أني كنت زرته قبل أن أحج ، فقال لي : فما يمنعك من زيارته با ابن وهب ولم تدع ذلك ؟ فقلت : جعلت فداك لم أدر ان الاجر يبلغ هذا كله حتى سمعت دعاءك لزواره، فقال لي : يا ابن وهب ان الذي يدعو لزواره في السماء أكثر ممّن يدعو لهم في الأرض فاياك أن تدع زيارته لخوف من أحد فمن تركها لخوف من أحد رأى الحسرة والندم .

وفي الأغاني بسنده عن علي بن اسماعيل التميمي عن أبيه قال : كنت عند أبي عبد الله جعفر بن محمد(عليه السلام) إذ استأذن آذنه للسيد الحميري«وهو اسماعيل بن محمد والسيد لقبه » فأمر بإيصاله وأقعد حرمه خلف ستر ودخل فسلم وجلس فأستنشده ، فأنشده قوله :

أمرر على جدث الحسين*** وقل لأعظمه الزكيه

ص: 410

يا أعظماً لا زلت من*** وطفاء ساكبة رويه

واذا مررت بقبره*** فأطل به وقف المطيه

وابك المطهر للمطهر*** والمطهرت النقيه

كبكاء معولة أتت*** يوماً لواحده المنيه

قال : فرأيت دموع الايام جعفر بن محمد تتحدّر على خديه وارتفع الصراخ من داره حتى أمره بالامساك فأمسك .

وهكذا حال بقية بعض الائمة عليهم في حزنهم وجزعهم عندما يدخل عليهم عاشوراء ، وكانوا يوصون شيعتهم بالنياحة والحزن على الحسين(عليه السلام) في أيام عاشوراء .

فقد كان الرضا(عليه السلام) يقول لابن شبيب : ان كنت باكياً لشيء فابكي على جدي الحسين(عليه السلام)فانه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معه سبعة عشر أو ثمانية عشر رجلاً من أهل بيته لم يوجد لهم على وجه الأرض شبيه .

من هنا فقد التزم شيعة آل محمد بذلك ،وراح الأدباء والشعراء يصورون لهم تلك الحوادث المولمة التي جرت على الحسين في يوم الطف أو يوصفون حالهم في الجزع والحزن على الحسين(عليه السلام).

فقد كان بأحد شعراء الشيعة السيد حيدر الحلي المعروف يرثي جده الامام الحسيني(عليه السلام)بهذه الأبيات التي تهز المشاعر وتقرح القلوب وتهمل مدامع العين بقوله :

عجباً للعيون لم تعد بيضاً ***لمصاب تحمّر فيه الدموع

وا اسا شابت الليالي عليه*** وهو للحشر في القلوب رضيع

أي يوم رعباً به رجف الدهر*** الى أن منه اصطفقن الضلوع

أي يوم بشفرة البغي فيه*** عاد أنف الاسلام وهو جديع

يوم أرسى ثقل النبي على الحتف*** وخفت بالسراسیات صدوع

ص: 411

یوم صکت بالطف هاشم وجه***الموت فالموت من لقاها مروع

بسيوفٍ في الحرب صلّت فللشوس*** سجود من حولها وركوع

وقفت موفقاً تضيفت الطير*** قراه فحوم ووقوع

موقف لا البصير فيه بصير*** لاندهاش ولا السميع سميع

جلّل الافق منه عارض نقع*** من سنا البيض فيه برق لموع

فلشمس النهار فيه مغيب ***ولشمس الحديد فيه طلوع

أينما طارت النفوس شعاعاً*** فلطير الردى عليها وقوع

قد تواست بالصبر فيه رجال*** في حشى الموت من لقاها صدوع

سكنت منهم النفوس جسوماً*** هي بأساً حفائظ ودوع

سدّ فيهم ثغر المنية شهم*** لثنايا الثغر المخوف طلوع

وله الطرف حيث سار أنيس*** وله السيفُ حيث بات ضجيع

لم يقف موقفاً من الحزم إلا*** وبه سن غيره المقروع

طمت أن تسومه القوم خسفاً*** وأبى الله والحسام الضيع

كيف يلوى على الدنيّة جيداً*** لسوى الله ما لواه الخضوع

ولديه جاش أرد من الدرع*** لضمائى القنا وهن شروع

وبه يرجع الحفاظ لصدرٍ*** ضاقت الأرض وهي فيه تضيع

فأبى أن يعيش إلا عزيزاً*** أو تجلّى الكفاح وهو صريعُ

فتلقى الجموع فرداً ولكن*** كل عضو في الروع منه جموع

رمحه من بنانه وكأنّ من*** عزمه حد سيفه مطبوع

زوّج السيف بالنفوس ولكن*** مهره الموت والخضاب النجيع

بأبي كالتاً على الطف خدراً*** هو في شفرة الحسام منيع

قطعوا بعده عراه و یا حبل*** وريدِ الاسلام أنت القطيع

وسروا في كرائم الوحي أسرى ***و عداك ابن امها التقريع

ص: 412

لو تراها والعيش جشمها الحادي*** من السير فوق ما تستطيع

ووراها العفاف يدعو ومنه*** بدم القلب القلب دمعه مشفوع

یاتری فوقه بقيّة وجد*** ملء أحشائها جوى وصدوع

فترفّق بها فما هی الا*** ناظر دامع وقلب مروع

لا تسمها جذب البرى أو تدري*** ربّه الخدر ما البرى والنسوع

قوّضي يا خيام علياً نزار*** فلقد قوّض العماد الرفيع

واملأي العين يا أمية نوماً*** فحسين على الصعيد صريع

ودعی صکّة الجباه لوي*** ليس يجديك صكها والدموع

أفلطماً بالراحتين فهلا***بسیوف لا تتقيها الدروع

وبكاء بالدمع حزنا فهلا*** بدم الطعن والرماح شروع

وهكذا تجد هذا السيد الجليل في هذه الرائعة قد ألهبه الحماس واثر فيه الحزن لمصاب جده الحسين تجده كيف يصور لك ذلك اليوم الذي لم يزل أساه باقياً ما بقي الدهر .

ومن هنا فقد كان مولانا زين العابدين (عليه السلام)دوماً يتصوّر ذلك اليوم وما جرى فيه من المصائب العظام على آل محمد فواقعة الطف مائلة أمام عينيه في كل لحظة من لحظات حياته المباركة على حد قول الشاعر :

كأن كل مكان كربلاء لدى عين*** وكلّ زمان يوم عاشوراء

نعم ، ، فانه سلام الله عليه ما فتأ وما انفك يذكر أباه الحسين(عليه السلام) ويذكر مصيبته وما وضع بين يديه طعاماً ولا شراباً إلا ومزجه من دموع عينه وهو يقول : كيف آكل وقد قتل ابن رسول الله جائعاً ؟ كيف أشرب وقد قتل ابن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) عطشاناً ؟

ويقال : إنّه دخل عليه في يوم من الأيام أبو حمزة الثمالي فوجده يبكي، فقال له: يا ابن رسول الله ما هذا البكاء؟ ما هذا الجزع ؟ أليس القتل لكم عادة ؟ ألم تكن كرامتكم من الله الشهادة؟

ص: 413

فقال له الامام عليه التحية والسلام :رحمك الله يا أبا حمزة كما ذكرت، ولكن هل سمعت ان رض الصدور لنا عادة ؟ لا تلمني يا أبا حمزة اني شاهدت كلما جرى على أبي الحسين (عليه السلام) يوم كربلاء ونظرت الى عماتي واخواتي في المخيمات والنار تشتعل في اذيالهن والمنادي ينادي : احرقوا بيوت الظالمين.

ولقد جادت قريحة المقدس الحاج ملا عطية الجمري رحمه الله تعالى وهو يصف لنا

الحوراء المذكور بين أبي حمزة والامام السجاد(عليه السلام)بهذه الأبيات الجليلة :

قلبي يبو حمزه تراهو تفتنت وذاب*** ومثل المصيبة اللي دهتني محد انصاب

ذيك الاقمار اللي بمنازلنا يزهرون*** والليل كله من العبادة ما يفترون

سبعة وعشرة فارقتهم كلهم اغصون*** يفرد ساعه وسدوهم حر التراب

لو شفت جسم اللي على المسناة مطروح*** وذاك الشباب اللي صباح العرس مذبوح

ولو شفت الاكبر ما لمتنى يكثرة النوح*** ما خلت النا كربلا شيخ ولا شاب

بعینی نظرت حسين بيده الطفل منحور*** وأمه الرباب تعاينه وادموعه تفور

واقلوبنا فتها بونينه وعينه تدور*** وكلما طلع منا بدر بالمعركة غاب

وامصيبة اللي هجت حزني عليه*** عاينت صدر حسين تحت الاعوجيه

وحرقوا خيمنا وركبوا زينب مطيّه*** شحجي يبو حمزة واشعدد من هالمصاب

قله يشبل المصطفى ورب السيادة*** صار القتل لكم يهل البيت عادة

وانتوا كرامتكم من الله الشهادة*** امعود على كثر المصائب بين الانجاب

قله يبو حمزة حشاي بنار ملهوب*** لا زاد يهنالي ولا اتهنا بمشروب

تشهير عماتي ييو حمزة بالدروب*** يخل ترا عظامي ولذيذ العيش ماطاب

ما نكست راسي لجل ذبح الصناديد*** ما قصروا بالغاضرية زلزلو البد

نکسی لراسي دخول زينب مجلس يزيد*** حسروا من نوح اليتاما راسها شاب

وهناك مأتم عزاء على الحسين(عليه السلام)لامه الزهراء (عليها السلام)، فانها قد بكت على ولدها الحسين(عليه السلام)قبل قتله وذلك عندما أخبرها أبوها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بقتله بكت

ص: 414

ونادت : وا ولداه واحسيناه:

حنت ونادت والدمع بالخد بادي*** إن تسألوني يا خلق كلهم اولادي

لكن صواب احسين ساطي في افادي*** اعظم مصايبنا علينا مصيبة احسين

ابكي على أولادي قضوا بالسيف والسم*** وابكي على ابوهم قتيل لابن ملجم

ونچان بالله تسألوني ياهو أعظم*** كل المصايب هونتها مصيبة احسين

دهري رماني بالرزاي بكل غالي*** شتت اولادي عن يميني وعن شمالي

ما شوف ساعة فارغ من النوح بالي*** واعظم عليه لو نعى الناعي على حسين

أبكي على أولادي ذبايح يوم عاشور*** وانه انصبت إلهم عزيّة بوسط القبور

وانسيت ضلعي اللي ابستر الباب مكسور*** وكل البكاء والنوح والضجة على حسين

وكأني بها تنادي وهي باكية ولسان حالها يقول :

مني الوالدة يحسين يبني*** يمن ريت ذباحك ذبحني

مني الوالدة والقلب لهفان*** و دور عزه ابني وين ماچان

أويلي على ابني المات عطشان*** وتلعب عليه الخيل ميدان

***

بأبي عترة طه النبلا*** دارت الدنيا عليهم بالبلا

سيما من قد قضى في كربلاء*** واصريعاً عالج الموت بلا

شد لحيين ولا مد رذا

كان يستسقى به غيث السما*** فقضى روحي فداه بالظماء

وبخيل الكفر عدواً حطّماً ***غسلوه بدم الطعن وما

كفّنوه غير بوغاء الثرى

فالمعالي بالعزاء قائمة*** و دموع الأنبياء ساجمة

وعليه حورها لاطمة*** میتُ تبكي له فاطمة

وأبوها وعليّ ذو العلا

ص: 415

وأمين الله ادمي خده*** وجميع الرسل تبكي فقده

وأبوه النوح أمسى ورده*** لو رسل الله يحيى بعده

قعد اليوم عليه للعزى

نكسو الرؤوس يا شيعة وساده*** على اللي شيد العالم وساده

على التربان خده بلا وساده*** وترضى صدره خيول الأعوجيه

ص: 416

الجلسة السادسة عشر

هذه جنّة الخلود تجلّت*** وهي تجلى بزينة وازدهاء

هذه الحور بالجنان ابتهاجاً*** تتهادى بغبطة وهناء

هذه زمرة الملائك تكسى*** حُللاً من كرامة وبهاء

تتهادى أفراحها بين نجوى*** صلوات وهينمات دعاء

حيث يعلو فوج ويهبط فوج ***فوق وجه الثرى بأمر السماء

وإذا بالأمين وهو يناجي*** ملك الموت في رحيب الفضاء

هل قبضت الروح الزكية طهراً*** روح طه الامين قبل اللقاء

قال إنّي خيرته حين وافي*** أمر ربي بين البقا والفناء

فتواني حتى يراك فأهوى*** جبرئيل بآية الإعطاء

سوف يعطيك من براك فترضى*** إن خير الدارين دار البقاء

فدنا واضعاً بحجر علي*** رأسه راضياً بحكم القضاء

حينما علم الإمام عليّاً*** ألف باب للعلم بالإيحاء

فتوفاه ربّه وهو أزكى*** نبعة من سلالة الأزكياء

فخبا للهدى سراج منير*** وانطوى للجهاد خير لواء

و تداعى للحق حصن منيع*** وهوى للرشاد أسمى بناء

وأصيب القرآن فهو المعزّى*** بالنبي الكريم أشجى عزاء

أثكل المسلمون يتماً وحزناً*** لمصاب الشريعة الثكلاء

ص: 417

فإذا بالقلوب نار شجون*** واذا بالعيون ينبوع ماء

نعم، لقد أثكل المسلمون لفقدهم نبيهم العظيم والرسول الكريم وانفجرت العيون بدموعها الجارية الغزيرة وكيف لا تنفجر عيونهم بمدامعها وهم يفقدون الحبيب الغالي والعزيز الوالي

، يفقدون الرحيم والعطوف بهم والشفيق عليهم ، فالمصاب جلل والخسارت لا يمكن أن تعوّض بعوض .

و ازداد حزنهم على الوالي عندما نظروا اليه وهو مسجى على المغتسل والأنوار تتساطع من غرته المباركة وأخذوا ينادون : وا محمداه وا حبيباه وا سیداه ، اليوم فقدنا عزّنا ، اليوم فقدنا كفيلنا اليوم فقدنا الرحيم بنا ، اليوم فقدنا العطوف علينا ، اليوم منعت السماء عطاءها بفقد محمد العظيم الله.

وكأني بلسان حال الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء صاحبة المصيبة ترثي أباها بهذه الأبيات:

مات أو دفن في داره مات او دفن في داره***حطوه فوق المغتسل واتشعشعت أنواره

مدوه فوق المغتسل يا وجنة تزهي له*** يمغسلين الطاهر طاهر قبل تغسيله

لحد يدار الهادي ما أوحشك هالليله***حني يغبرا او وني بعد النبي يا داره

مدوه فوق المغتسل ياليتني الممدوده*** في هالقبر والرضه ياليتني الملحوده

وانته ترد للدنيا واصير آني المفقوده*** واتعود يا بدر الدجى يالساطع ابنوره

يومك الي يا والدي انحبس الي من أمسي*** اتمنيت آني بعدك ان اصبحت ما أمسي

ص: 418

واظلم عله كوني يوم الغبت يا شمسي*** حالي كمكفوف البصر ليله سوا ونهاره

مثلك ما شفنى ميت مات او تشعشع نوره*** تشتم ريح الجنه من رايحة كافوره

لحد يراية عزي يوم اصبحت مكسوره *** ظليت آني بعدك يا والدي محتاره

كيف استطيع افراقك وانته حشاه افادي*** وانته يبويه شربي وانته يبويه زادي

يا ما على كتفينك يابه حملت اولادي*** حني يغبرا او وني بعد النبي يا داره

يا تربة الضميتي جسم النبي العدناني*** باسايلك ما ينقل تربك ضريح الثاني

باقسم عليك إبشانه او قسم عليك ابشأني*** سوي محل واخذيني تحت البدر باجواره

وكأني بها نادت ومدامعها تتحادر على خديها قائلة في شكايتها لأبيها : ابتاه الدنيا بعدك مظلمة وموحشة علينا :

بعدك الدنيا موحشة امظلمة عليه*** وكل يوم يزداد الغبن والهضم بيه

واللي يبو ابراهيم ما خلالي افاد*** كلما اتصبر عليه الحزن يزداد

شوفي حسن وحسين هموني هالأولاد*** كلّما يجوني جددوا موتك عليه

في وين جدنا ما نشوف اليوم جانا*** اوقت الفريضة ابلال ما نسمع أذانه

وكلما نجي وانروح وانطالع مكانه*** ما ننظر الابيوت في وحشة خليه

يا به شقلهم من يجلوا عندي ينوحون*** وذيك العوايد لوله منك يطلبون

وكلما ردتهم يهجعوا صاروا يصيحون*** وامطالعي ليهم يرد همي عليه

ص: 419

مقدر على اكاهم واطالعهم ابهالحال*** عاشوا تحت ظلك وعنهم قوض وزال

موتك يبو ابراهيم ما بقى لنا حال*** شحوالنا الناس ردّوا جاهليه

ردّوا علينا بالجفا ردّة الكفار*** وخدّي بصفرته وجيت احشم جمع لنصار

ينصار أبويه تتركوني مالي انصار*** ما شفت مالت عين برحمه عليه

كلهم يبويه اتعذروا منّي وجفوني ***ورضيوا على هضمي يبويه واغبنوني

ورديت داري والهضم سيل اعيوني*** واللي لقيت اهناك أشد واصعب عليه

يا به اولادك والبنات اتحوم في الدار*** چنهم اطیور امهيجه ما عندهم اوکار

واللي نحلني ابرؤيته حيدر الكرار*** ذاك الأسد لا ويش ما ينغر عليه

جالس على افراشه ومنه تجري العين*** نوب يطالعني ونوب حسن وحسين

لو بالتماني ان كان أنا اتمنى لى العين*** موتي ولا هالحال يا خير البريه

أبتاه يا محمد هذا هو رضوان قد زيّن لك جنة الفردوس بالأنوار وأمر الولدان والحور أن تتزين وأمر الله تعالى ملائكته أن ينزلوا لكي يزفّوا روحك الشريفة الى الجنة .

رضوان زيّن جنّة الفردوس بالنور*** او آمر على الولدان تتزين مع الحور

ويملاك نزلوا زفّوا الروح الشريفة*** عن هالدنيه في مقامات المنيفة

تمت النعمة من جعل حيدر خليفه*** والويل للي يظلمه ويتقدمه زور

وامتدت املاك السما في نزول واصعود*** فوج السما يصعد او فوج للنبي ايعود

وطه على افراش المنية ابروحه ايجود*** وام الأيمه تنتحب والقلب مفطور

ومن يوم اراد الله الحبيب وقرب حينه*** بالعرق ظل ايسيل كاللؤلؤ جبينه

وفارقت روحه وغمض المختار عينه*** وارتجت الدنيا على اجله واظلم النور

وشمّر اذياه حق تغسیله ابو احسن*** ومدده فوق المغتسل عمدة الكونين

مثله جنازه فى البشر ما لاحظت عين*** يتقلب ابروحه ومنه يسطع النور

واشتغل حيدر والحموله في المواراة*** واهل السقيفة امعيده يوم النبي مات

ص: 420

ايقولوا استرحنا يوم عنا اتغيب اوفات*** حيدر فلا له في الخلافة اسم مذكور

و من قبل ما ايواري النبي نقضوا البيعة*** حبتر اتنصب في قضا حكم الشريعة

وانقاد حيدر وانكسر ضلع الوديعة*** بالباب والحايط ضلعها راح مكسور

ولكن يا شيعة ان كل ما جرى على الزهراء من المصائب والمحن من اولئك القوم الظالمين فإنه يهون بالمقايسة مع ما جرى على ولدها الحسين لا يوم عاشوراء - كربلاء - ذلك اليوم العظيم ومن هنا أنّه لو تصور المحبّ ما جرى على الآل، وما لاقوا فيه من الخطوب والأهوال ، لاختار الموت والفناء على الحياة والبقاء، كيف لا والحسين(عليه السلام) المجدل فوق الرمال ، معلى رأسه على رأس رمح ميال ، وذراريه تسبى حسراً على الجمال ، يطاف بهم في البلاد ، مقيدين في الاصفاد ، كل هذا والدموع جامدة، والعيون راقدة ، والأصوات خامدة . أين الضجة ؟ أين الرنّة ؟ أين الحنّة ؟ فينبغي لشيعة الآل أن يعقدوا مأتم العزاء على أبي الضيم في جميع الأوقات والأحوال، وأن يظهروا النوح والعويل على هذا الرزء ،الجليل، وأن يوافقوا الملائكة في ثوابهم ويواسون النبي في الحزن على مصابهم .

فقد جاء في الخبر عن سيّد البشر أنه قال: من ذكر الحسين (عليه السلام)عنده فخر من عينه من الدموع بقدر جناح الذبابة كان ثوابه على الله تعالى ولم يرض له بدون الجنة جزاء.

وفي خبر ثان عن الريان بن شبيب قال : دخلت على الرضا(عليه السلام)في أول يوم من المحرم فقال لي: يا ابن شبيب أصائم أنت ؟

فقلت لا .

فقال (عليه السلام): إن هذا اليوم هو اليوم الذي دعا زكريا فيه ربه عزّوجل فقال :﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ فاستجاب الله تعالى له وأمر الملائكة ونادت زكريا وهو قائم يصلّي في المحراب :﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ فمن صام هذا اليوم ثم دعا الله تعالى استجاب الله له .

ص: 421

يا ابن شبيب ، ان المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال لحرمته فما عرفت هذه الأمة حرمت شهرها ولا حرمة نبيها ، لقد قتلوا في هذا الشهر ذريّته وسبوا نساءه ، وانتهبوا ثقله ، فلا غفر الله لهم ذلك أبداً ، يا ابن تسبيب ، ان كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) فإنه ذبح كما يذبح الكبش ، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيه، ولقد بكت السماء والأرض لقتله ، ولقد نزل الى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصرته فلم يؤذن لهم فهم عند قبره (عليه السلام) شعثا غب الى ان يقوم القائم(عليه السلام) فيكونون من أنصاره ، وشعارهم: يالثارات الحسين(عليه السلام).

يا ابن شبيب ،لقد حدثني أبي عن أبيه ، عن جده (عليه السلام)أنه لما قتل جدي الحسين (عليه السلام) أمطرت السماء دماً وتراباً أحمراً. يا ابن شبيب ، ان بكيت على الحسين ثم تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته صغيراً أو كبيراً . یا ابن شبيب ان سرك ان تلقى الله ولا ذنب عليك فزر الحسين(عليه السلام).

يا ابن شبيب ، ان سرك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي الله فالعن قاتل الحسين .

يا ابن شبيب ، إن سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين(عليه السلام) فقل متى ما ذكرته : يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً.

يا ابن شبيب ،إن سرك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنات فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو أن رجلاً أحب حجراً لحشره الله معه يوم القيامة.

فيحق لشيعة الآل أن ينصبوا المجالس للعزاء على الحسين (عليه السلام)في جميع الأقات والأحوال وأن يذرفوا الدموع من العيون لما أصابه من المصائب والأهوال، وأن يتمثلوا الامام الحسين(عليه السلام) وحيداً غريباً في كربلاء لكي تتهيج أحزانهم وكروبهم فلا تفرح قلوبهم أبداً حزناً على أبي الضيم لكي يصدق عليهم قول من قال :

ص: 422

أيفرح من له كبد يذوب*** وقلب من صبابته كئيب

وقفت بكربلاء فهيجت لي*** كروباً ليس يشفيها طبيب

ومثل لي الحسين بها غريباً*** بنفسي ذلك التاوي الغريب

فلا سعد ابن سعد حين حرب*** إلى حرب الحسين به الحروب

عجبت لهم وحلم الله عنهم*** وكلّ فعالهم تعس عجيب

حبیب محمد فيهم صريع*** يناديهم وليس له مجيب

بنات محمد فيهم سبايا*** ورحل محمد فيهم نهيب

كأني بالنساء مهتكات*** عليهن الكآبة والشحوب

فلما ان بصرن به صريعاً*** لقد على الرمضا تريب

سقطن على الوجوه مولولات*** وأدمعهن واكفة تصوب

وشققن الثياب عليه حزناً*** وشقت منهم أسفاً جيوب

وانت زينب من حزن قلب*** بنار الوجد محترق يذوب

ونادت ليت أمي لم تلدني*** ولم أر ما الذي بك يا غريب

تنادي أختها يا أُخت قومي*** فموتك بعد سيدنا قريب

فيا ليت المنية قدمتنا*** ومتنا قبل ما قتل الحبيب

***

نعم، إنّ هذه الأيام التي يلتحق فيها الرسول الكريم والنبي العظيم بالرفيق الأعلى ويبكي عليه المؤمنون لفقدهم إياه تتجدد أيضاً أحزانهم على سبطه الشهيد غريب كربلاء الحسين الله وذلك من جهة كون مصيبته لا يضاهيها مصيبة، فتتجدد الأحزان كما هي ما زالت يجدّدها الناعون لقتلى الطفّ.

أناعي قتلى الطف لا زلت ناعيا*** تهيج على طول الليالي البواكيا

أعد ذكرهم في كربلا إنّ ذكرهم*** طوى جزعاً طيّ السجل فؤاديا

ودع مقلتي تحمرّ بعد ابيضاضها*** بعد رزايا تترك الدمع داميا

ص: 423

ستنسى الكرى عين كأن جفونها*** حلفن بمن تنعاه أن لا تلاقيا

وتعطى الدموع المستهلات حقها*** محاجر تبكي بالفودى غودايا

وأعضاء مجدٍ ما توزّعت الضبا*** بتوزيعها إلا الندى والمعاليا

لئن فرقتها آل حرب فلم تكن*** لتجمع حتى الحشر إلا المخازيا

وممّا يزيل القلب عن مستقره*** ويترك زند الغيظ في الصدر واريا

وقوفُ بنات الوحي عند طليقها ***بحال بها يشجين حتى الأعاديا

نعم، لقد أدخل ثقل الامام الحسين (عليه السلام)ونساؤه ومن تخلف من أهله على يزيد وهم مقرونون في الحبال والامام زین العابدين(عليه السلام)مغلول في مقدمتهم ووقفوا بين يديه وهم على تلك الحال، فقال له الامام علي بن الحسين(عليه السلام) : أنشدك الله يا يزيد ما ظنك برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) لو رآنا على هذه الصفة، فلم يبق في القوم أحد إلا وبكى، فأمر يزيد بالحبال ،فقطعت وأمر بفك الغل عن زين العابدين (عليه السلام) .

وجاء في رواية : ان يزيد لعنه الله تعالى دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله ، ثم دعا بعلي بن الحسين(عليه السلام) ومعه صبيان للحسين(عليه السلام) فقال : يا بن الحسين أبوك قطع رحمي ، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت.

فقال الامام علي بن الحسين(عليه السلام): ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ .

وقيل : إن يزيد لعنه الله تعالى بعد أن قال الكلام المتقدم لمولانا زين العابدين قرأ قوله تعالى :﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ فردّه الإمام بالآية المتقدم ذكرها.

وفي رواية : انّ يزيد لعنه الله دعا بقضيب خيزران وجعل ينكت به ثنايا الحسين

(عليه السلام)ثم أنشأ يقول:

ليت أشياخي ببدر شهدوا*** جزع الخزرج من وقع الأسل

ص: 424

فأهلوا واستهلّوا فرحاً*** ثمّ قالوا: يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القوم من ساداتهم*** وعدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا*** خبر جاء ولا وحي نزل

لست من خندف إن لم أنتقم*** من بني أحمد ما كان فعل

وكان أبو برزة الأسلمي حاضراً في مجلسه، فلما رآه يفعل ذلك قال له :ويحك يا يزيد أتتكث بقضيبك ثغر الحسين بن فاطمة(عليها السلام) ؟ أشهد ال لقد رأيت النبي الله يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن(عليه السلام) ويقول : أنتما سيدا شباب أهل الجنة ، فقتل الله قاتلكم ولعنه وأعد له جنّهم وساءت مصيراً ، فغضب يزيد وأمر بإخراجه فأخرج سحباً .

نعم، هكذا فعل يزيد كان يقرع رأساً طالما قبله رسول الله له بل وكان يأمر أهل الشام عندما دخل عليه أهل البيت في مجلسه بأن يجعلوا يوم دخولهم عليه يوم عيد وفرح وسرور، وأن يظهروا الشماتة بهم وبقتل الحسين (عليه السلام)، وأمرهم أن يدخلوا عليه بنات الزهراء عليهن السلام وهنّ مربوطات بحبل واحد يقول مولانا زين العابدين(عليه السلام)أدخلونا على يزيد عليه لعنة الله ونحن مربوطون بحبل واحد أول الحبل في عنقي وآخره في كتف عمتي زينب(عليها السلام).

دشوا بروس اهل المعالي مجلس الضال*** ويا اليتاما امكتفة بقيود واحبال

او راس ابن فاطم بالطست ينظر له يزيد*** بيده قضيب او يصفق بايد على ايد

ويقول يهل الشام سو والذبحته عيد*** من بيت حيدر ما بقت بس حرم واطفال

اوصد الرجس للراس صابه ابخيزرانه*** ويقول هذا ابن الذي رمل نسانا

يحسين كم مرة الهظم منكم علانا*** بوكم قتل عتبه او شیبه اقروم لرجال

ثار العشيرة من علي ابذبحك دركته*** العباس عن شيبه او عتبه ابشاره انته

اوثار الوليد ابنك علي اكبر ذبحته*** وولادها هاشم كلهم ازياده ولبطال

متشوف عينك كيف جبنا امخدرتكم*** من غير والي ابمجلس طبت حرمكم

ص: 425

ما حد تخدّر بالحراير مثل اختكم*** تضرب الناس ابخدرها يحسين لمثال

وانا اهتكتها او ركبتها فوق هزل*** خليتها فوق الهزيله ادموعها اتهل

عزها او خدرها الاولي بالذل تبدل*** او هذا الدهر شانه ابصروفه ايبدل احوال

في وين عزوة هاشم اوين الفوارس*** زينب عزيزتهم ذليلة بالمجالس

إبلياولي ويزيد فوق التخت جالس*** متحيرة والدمع فوق الخد همال

قال تعالى في كتابه المجيد: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾(1).

جاء في تفسير الصافي (2) نقلاً عن كتاب الخصال في حديث شريف عن صادق آل محمد الإمام جعفر بن محمد عليهما الصلاة والسلام أنه قال: تزوّج رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بخمس عشرة امرأة، ودخل بثلاث عشرة منهنّ، وقبض عن تسع، فأما اللتان لم يدخل بهما فعمرة ،والسناة وأمّا الثلاث عشرة اللواتي دخل بهنّ فأوّلهنّ خديجة بنت خويلد ، ثم سودة بنت زمعة ، ثم أُمّ سلمة واسمها هند بنت أبي أميّة ، ثم ام عبدالله ، ثم عائشة بنت أبي بكر، ثم حفصة بنت عمر، ثمّ زينب بنت خزيمة بن الحارث أُمّ المساكين، ثم زينب بنت جحش ، ثم أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان ثم ميمونة بنت الحادث، ثم زينب بنت عميس، ثم جويرية بنت الحارث ثم صفية بنت حيي بن أخطب واللاتي وهبت نفسها للنبي خولة بنت حليم السلمي وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه مارية القبطية وريحانه الخندقية، والتسع

ص: 426


1- سورة الأحزاب : 50
2- ج 4 / 197 .

اللواتي قبض عنهن : عائشة وحفصه وأمّ سلمة وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث واُمّ حبيب بنت أبي سفيان وصفيّة وجويرية وسودة، وأفضلهنّ خديجة بنت خويلد ثم أم سلمة ثم ميمونه، قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم من الشرائط والحصر في الأربع وما ملكت أيمانهم والجملة اعتراض لكيلا يكون عليك حرج أي خلص إحلالها لك لمعان تقتضي التوسيع عليك، وكان الله غفوراً لما يعسر التحرز عنه رحيماً بالتوسعة في مظانّ الحرج.

وقال مولانا أمين الاسلام أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي قدس سره في كتاب إعلام الورى (1)ان أول امرأة تزوجها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي، تزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وكانت قبله عند عتيق ابن عائذ المخزومي فولدت له جارية، ثم تزوجها أبو هالة الأسدي فولدت له هند بن أبي هالة ثم تزوجها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وربى ابنها هنداً، ولما استوى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وبلغ أشده وليس له مال كثير استأجرته خديجة إلى سوق خباشة، فلما رجع تزوج خديجة زوجها إياه أبوها خويلد بن أسد وقيل: زوّجها ، عمها عمرو بن اسد وخطب ابو طالب في نكاحها، ومن شاهد قریش حضور فقال : الحمد لله الذي جعلنا من زرع ابراهيم وذرية إسماعيل وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وأنزلنا حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء، وجعلنا الحكام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثم إن ابن أخي محمد بن عبدالله بن المطلب لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به ولا يقاس بأحد منهم إلا عظم عنه ، ولا عدل له في الخلق وإن كان ماله قليلا فإن المال رزق حائل وظل زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة والصداق ما سألتم عاجله وآجله من مالي. وكان أبو طالب له خطر عظيم، وشأن رفيع، ولسان شافع جسيم، فزوجه ودخل بها من الغد ولم يتزوج عليها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) حتى ماتت وأقامت معه أربعاً وعشرين سنة

ص: 427


1- ص 129 .

وشهراً ومهرها اثنتا عشرة أوقية وكذلك مهر سائر نسائه فأول ما حملت ولدت عبدالله بن محمد وهو الطيب الطاهر وولدت له القاسم وقيل : إنّ القاسم أكبر وهو بكره وبه كان يكنّى، والناس يغلطون فيقولون: ولد له منها أربع بنين : القاسم وعبدالله والطيب والطاهر وإنما ولد له منها ابنان وأربع بنات زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة(عليها السلام).

فأما زينب بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فتزوجها أبو العاصي بن ربیع بن عبدالعزى ابن عبد شمس بن عبد مناف في الجاهلية فولدت لأبي العاص جارية اسمها أمامة تزوجها الامام علي(عليه السلام) بعد وفاة فاطمة (عليها السلام)وقتل الامام(عليه السلام)وأمامة عنده فخلف عليها بعده المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب وتوفيت عنده، وأم أبي العاص هالة بنت خويلد فخديجة خالته وماتت زينب بالمدينة لسبع سنين من الهجرة.

وأما رقية بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فتزوجها عتبة بن أبي لهب فطلقها قبل أن يدخل بها ولحقها منه أذى ، فقال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم): اللهم سلط على عتبة كلباً من كلابك فتناوله الأسد من بين أصحابه، وتزوّجها بعده بالمدينة عثمان بن عفان فولدت له عبدالله ومات صغيراً نقره ديك على عينيه، فمرضت وماتت بالمدينة زمن بدر وتخلّف عثمان على دفنها ومنعه ذلك أن يشهد بدراً وقد كان عثمان هاجر إلى الحبشة ومعه رقية. وأما أم كلثوم فتزوجها أيضاً عثمان بعد أختها رقية توفّيت عنده .

وأما فاطمة(عليها السلام) فنفرد لها باباً إن شاء الله ، ولم يكن لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ولد من غير خديجة إلا ابراهيم بن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من مارية القبطية ولد بالمدينة سنة ثمان من الهجرة ومات بها وله سنة وستة أشهر وبعض أيام وقبره بالبقيع .

وقد كان الفارق بين الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)وبين خديجة(عليه السلام) خمسة عشر سنة ومع ذلك فقد عاش معها عيشة الزوجة الواحدة هادئاً مطمئناً لم يتزوج سواها وذلك مدة

ص: 428

خمس وعشرين سنة وهو في مقتبل عمره الشريف وريعان شبابه حتى توفيت.

ومن هنا تعرف تفاهة ما يتطاول به على شخصية الرسول الكريم من أنّه كان انياً فلو كان الأمر كما يقوله أعداء الاسلام وأعداء نبيه الكريم لابتغى الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)غير خديجة في أيام شبابه ثانية لها على أن تعدد الزوجات عند العرب كان شائعاً ولكن الأمر على العكس مما يدعيه أولئك الحاقدون على الاسلام ونبيه الكريم فإنك عند ما تنظر إلى حياة محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)في سن الشباب تجده مثالاً لكل رجل شريف من بني قومه وغيرهم فهذا يكون برهانا ساطعاً ودليلا واضحاً كوضوح الشمس على أنّ وقوعه بين مخالب الشهوة أمر غير ممكن إطلاقاً . هذا في أيام شبابه وعندما كانت خديجة(عليها السلام) على قيد الحياة، أما بعد أن التحقت خديجة بربها وكان يوم ذلك قد تجاوز عمره الشريف الخمسين لم يكن الباعث على تعدّده الزوجات باعثاً شهوانياً وإنما كان ذلك منه(صلی الله علیه وآله وسلم)كونه أمر يفرضه عليه وفاء الغير، خصوصاً وأنه الودود الرحيم والعطوف بالمؤمنين، ويتجلى لك بعض مظاهر الرحمة والوفاء منه(صلی الله علیه وآله وسلم) للغير عندما تنظر بعين البصيرة في اتخاذه ذلك العدد المتقدم ذكره من النساء بعد وفاة الصديقة خديجة(عليه السلام)فإنك ترى ان أوّل زوجة قد تزوج بها(صلی الله علیه وآله وسلم) بعد خديجة(عليه السلام) هي سودة بنت زمعة تلك المرأة المسلمة الكهلة التي شارفت سنّ الشيخوخة وكانت أرملة السكران بن عمر أحد أصحاب النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)الله الذين فروا هاربين إلى الحبشة من اضطهاد الكفار ، ولما مات صارت زوجته بلا معين ولانصير .

فتزوج بها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وكان زواجه بها وفاء لزوجها وجبراً لقلبها المكلوم التي صبرت وناءت بالأعباء وتحملت المضض بموت زوجها المسلم الغيور في دار الغربة والتي صبرت الصبر الجميل فلم تتبرم ولم تشتك ولم تنع على الاسلام الذي أصيبت من جرائه ما أصيبت.

فالزواج من هذه السيدة، الطريقة الوحيدة والوسيلة المنشودة لحمايتها

ص: 429

ومعونتها. وفاء لرجل فقد حياته بعد أن غادر الأهل والأوطان احتفاظاً بعقيدة. وشاركته الزوجة في أهوال النفي والتغريب وتفادياً من سخطها على الاسلام الذي افقدها زوجها لم يبق لها إلا ان تعود إلى أهلها وتؤذي وتتزوج بغير كفوء أو بكفؤ لا يريدها فتزوجها النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) حماية لها وتأليفاً لأعدائه من أهلها.

الزوجة الثانية : عائشة بنت أبي بكر وهي الوحيدة من بين زوجاته التي تزوجها بكراً. وتمّ زفافها في السنة الثانية للهجرة.

الزوجة الثالثة : حفصة بنت عمر بن الخطاب تزوّجها بعد ما مات زوجها

خنيس ابن عبدالله بن حذافة السهمي وكان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قد وجهه إلى كسرى فمات ولا عقب له ، وقيل انه مات من أثر جرح أصابه في موقعة بدر فعرضها عمر على أبي بكر وأعرض عنها وعلى عثمان فسكت وأعرض عنها فعز على عمر إعراضهما وأخذ من نفسه مأخذاً عظيماً فبث أسفه على النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) فتزوجها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم).

الزوجة الرابعة : أم شريك التي وهبت نفسها للنبي(صلی الله علیه وآله وسلم) واسمها غزية بنت دودان بن عوف بن عامر وكانت قبله عند أبي العكر بن سمى الأزدي فولدت له شريكاً. ومعلوم أمرها أنّها كانت أيضاً بعد زوجها بلا معين ولا نصير.

الزوجة الخامسة :أم حبيبة بنت أبي سفيان واسمها رملة وكانت تحت عبید الله بن جحش الأسدي فهاجر بها إلى الحبشة وتتصر بها ومات هناك فتزوجها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بعده وكان وكيله عمرو بن أمية الضمري.

الزوجة السادسة :أم سلمة وهي بنت عمته عاتكة بنت عبدالمطلب، وقيل: هی عاتكة بنت عامر بن ربيعة من بني فراس بن غنم واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم وهي ابنة عم أبي جهل، وروي أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أرسل إلى أم سلمة أن مري ابنك أن يزوجك، فزوجها ابنها سلمة بن أبي سلمة من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وهو غلام لم يبلغ وأدّى عنه النجاشي صداقها بأربعمائة

ص: 430

دينار عند العقد، وكانت أم سلمة من آخر أزواج النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وماتت بعده وكانت عند أبي سلمة بن عبد الأسد وأمه برة بنت عبد المطلب فهو ابن عمة رسول (صلی الله علیه وآله وسلم) ، وكان لأم سلمة منه بنت اسمها زينب وذكر اسمه عمرو، وكان عمرو مع علي يوم الجمل وولاه البحرين وله عقب بالمدينة، ومن مواليها شيبة بن مصاح إمام أهل المدينة في القراءة، وخيرة أم حسن البصري.

الزوجة السابعة : زينب بنت جحش الأسدية وهي ابنة عمته ميمونة بنت عبد المطلب، والله في حكمه شؤون قضت الحكمة الإلهية في شريعته السهلة السمحة تغيّر ما يجب تغيّره من عادات وتقاليد الجاهلية المحكمة الأركان عند العرب الأصيلة في نفوسهم المنتشرة بين ظهرانيهم.

من العادات المتأصلة في نفوس العرب التبني وتنزيل الدعي منزلة الابن الحقيقي.

وكانوا يرون تحريم امرأة الدعي على من ادعاه. فأراد الله إبطال هذا الاعتقاد .

فالمصطفى أول من أراد هدم العادات والتقاليد، فقام بالمهمة بنفسه أولاً ليحصل التأسي ويكون لهم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أسوة حسنة لهظم هذه العادات ودلالة الفعل في التسريع من أقوى دلالة القول.

وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز حكاية التزويج بقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا﴾.

الزوجة الثامنة : زينب بنت خزيمة الهلالية من ولد عبد مناف الله بن هلال بن عامر بن صعصعة، وكانت قبله عند عبيدة بن الحارث وماتت قبله(صلی الله علیه وآله وسلم)، وكان يقال لها : أم المساكين.

الزوجة التاسعة : ميمونة بنت الحارث من ولد عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة تزوّجها وهو بالمدينة وكان وكيله أبا رافع وبنى لها بسرف حين رجع من

ص: 431

عمرته على عشرة أميال من مكة وتوفيت أيضاً بسرف ودفنت هناك أيضاً وكانت قبله عند أبي سبرة بن أبي رهم العامري.

الزوجة العاشرة : جويرية بنت الحارث من بني المصطلق سباها فأعتقها وتزوّجها وتوقيت سنة ست وخمسين.

الزوجة الحادية عشر : صفية بنت حيي بن أخطب النضري من خيبر اصطفاها لنفسه من الغنيمة ثم أعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها وتوفيت سنة ست وثلاثين.

الزوجة الثانية عشر : عالية بنت ظبيان ، وطلقها حين أدخلت عليه .

الزوجة الثالثة عشر : فتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس فمات قبل أن يدخل بها فتزوّجها عكرمة بعده وقيل : انه(صلی الله علیه وآله وسلم)طلقها قبل أن يدخل بها ثم

مات(صلی الله علیه وآله وسلم).

الزوجة الرابعة عشر : فاطمة بنت الضحاك بعد وفاة ابنته زينب وخيّرها حين نزلت آية التخيير فاختارت الدنيا وفارقها، فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول : أنا الشقية اخترت الدنيا .

وقال أمين الاسلام مولانا أبو الفضل بن الحسن الطبرسي قدس سره: ومن

أزواجه أيضاً : سنى بنت الصلت إلا انه مات (صلی الله علیه وآله وسلم)لو لم تدخل عليه . وأسماء بنت النعمان بن شراحبيل ، فلما أدخلت عليه قالت : أعوذ بالله منك فقال : قد أعذتك ، إلحقي بأهلك، وكان بعض أزواجه علّمتها ذلك فطلقها ولم يدخل بها .

ومليكة الليثية ، فلما دخل عليها قال لها : هبي لي نفسك ، فقالت : هل تهب الملكة نفسها للسوقة ؟ فأهوى بيده الشريفة ليضعها عليها فقالت : أعوذ بالله منك ، فقال : لقد عدت بمعاذ سرحها ومتعها .

وعمرة بنت يزيد، إلا(صلی الله علیه وآله وسلم)له قد رأى بها بياضاً فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): دلستم عليَّ وردها.

ص: 432

وليلى بنت الخظيم الأنصارية، إلا انها قالت له : أقلني فأقالها.

وخطب امرأة من بنى مرة فقال أبوها : إنّ بها برصاً ولم يكن، فرجع فإذا هي برصاء.

وخطب امرأة فوصفها أبوها ، ثم قال : وأزيدك انها لم تمرض قط ، فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): ما لهذه عند الله من خير . وقيل : انه تزوّجها فلما قال ذلك ابوها طلقها .

هذه أمهات المؤمنين زوجات النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) بالإضافة إلى المتقدم ذكرها وهي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد السيدة الجليلة والصدّيقة الكبرى أم البتول فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين سلام الله تعالى وتحياته وبركاته عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها .

نعم، هذه زوجاته(صلی الله علیه وآله وسلم) كلهن ثيبات عدا عائشة بنت أبي بكر، قد تزوّج بهن(صلی الله علیه وآله وسلم) من أجل مصالح ومنافع كثيرة تعود على الاسلام وإن خفيت علينا معرفة تلك المصالح، لا انّ زواجه بهذا العدد باعثه الشهوة ولو كان الأمر كما يقوله أو يدعيه الحاقدون على الاسلام والنبي الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)لكان قد اختار(صلی الله علیه وآله وسلم) الباكرات الحسنيات وقد كان في وسعه ذلك فإنّه قد تزوج على سبيل المثال بعائشة الباكرة كما مر بك ذلك فما يمنعه أن يتزوج غيرها مثلها فقد كان في وسعه ذلك لو أراد إلا فيما حرمه الله تعالى عليه .

ومن هنا نعلم أن زواجه أيضاً من عائشة ضرب من ضروب الحكمة التي لا تخفى على العارفين لأنه الا الله الأب الروحاني ومعلم البشرية والقدوة لها في العمل فلو أضرب لاسمح الله عن زواج الباكرة مطلقاً وكلياً فلربما يتخيل بعض الناس من المسلمين انّ الزواج من الباكرة محرم أو هو خلاف التعفف أو خلاف الأولى أو غير ذلك، والدليل على ذلك ان الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) قد تجنبه.

ومجمل القول : ان الله سبحانه قد ذكر في الآيات الكريمة أنواع النساء التي تحلّ للنبي (صلی الله علیه وآله وسلم)، وهي كما يلي :

ص: 433

النوع الأول :﴿ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾(1) . المراد بالأجور هنا المهور، والإيتاء يكون بأداء المهر ، ويكون بالالتزام به في الذمة، وتومىء الآية إلى أن للنبي(صلی الله علیه وآله وسلم) أن يتزوج بأيّ بأيّ عدد شاء، وهذا من خصائصه.

النوع الثاني :﴿ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ﴾. من الفيء السبايا اللاتي كان يغنمها المسلمون بالحرب مع المشركين وتسمى السراري، وقد أباحها الله للنبي الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم) ولأمته بغير عدد .

النوع الثالث : ﴿وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾ .

النوع الرابع: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ من خصائص النبي له أن أن يتزوج امرأة - إن شاء -وهبت له نفسها بلا مهر شريطة أن تكون مؤمنة ....ويجوز لغيره أن يتزوج بمهر، ثم تهبه الزوجة مهرها كما يهب أي إنسان لمن يشاء ما يشاء من المال .

وها هنا أمور ينبغي التنبيه عليها فيما يلي: الأمر الاول إنك قد تسأل : إن عقد الزواج يصح حتى ولو لم يُذكر فيه المهر ، فلماذا قيد الله سبحانه التحليل بالمهر ؟

قال العلماء في جواب ذلك : إن القيد هنا هو الالتزام بأداء ما تستحقه الزوجة من المهر ، لا بذكر المهر في متن العقد ، والتي لم يُسمّ لها مهر في العقد تستحق مهر أمثالها إن دخل بها الزوج ... وكان مهر نساء النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)خمسمائة درهم، وقدر ب- (25) ليرة ذهبية .

الأمر الثاني : إن الفيء المشار إليه في قوله تعالى: ﴿مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ السبايا اللاتي كان يغنمها المسلمون بالحرب مع المشركين، وتسمى السراري، وقد أباحها الله للنبي الكريم ولأمته بغير عدد، وقد تقدم ذلك.

ص: 434


1- سورة الأحزاب : 50 .

الأمر الثالث : إن بنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات يدخلن في النوع الأول من النساء، فما هو الغرض من ذكرهن بالخصوص ؟

نقول : إنه غير بعيد أن يكون ذكرهنّ بالخصوص للتنبيه إلى انّ الأليق بمقام الرسول أن يتزوج من القرشيات اللاتي هاجرن من دار الكفر إلى دار الاسلام، أما المؤمنات منهن غير المهاجرات فالأولى ترك الزواج بهن.

الأمر الرابع : أنه ذكر أهل السير ان للنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)له عشرة أعمام، وهم : العباس ،وحمزة ، وعبد الله ، وأبو طالب ،والزبير ، والحارث، وحجل، والمقوم،وضرار،وأبولهب ، وست عمات وهن صفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرّة.

وقالوا : إن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) لم يكن له خال ولا خالة لأن أمه آمنة بنت وهب(عليه السلام)أخ لها ولا أخت.

إذن ما هو الوجه لقوله تعالى في الآية الكريمة : ﴿وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ ﴾؟

جاء في تفسير الكاشف : إن المراد بأخوال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وخالاته عشيرة أمه بنو زهرة، وكانوا يقولون : نحن أخوال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) . وفي نهاية المطاف من التفسير الموجز لهذه الآيات الكريمة نرى أن إباحة التمتع بالنساء نعمة من جملة النعم الكثيرة التي أنعم الله تعالى بها على عباده عامة وعلى نبيه الكريم خاصة ، وليس في ذلك ما يوجب تسويغ التنقيص أو الإهانة لمقام النبي الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)طالما ان الله تعالى قد أحل له ذلك ، ولكن الحاقدين على الاسلام ونبيه الكريم يتلمسون النوافذ لأذية الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)، وإذا كان الرسول محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)قد آذاه بعض من دخل في الاسلام وفي قلبه ارتياب وشك فمن باب الأولى أن يؤذيه الذي لم يؤمن بنبوته.

نعم ، آذوه في حياته وأخرجوا سلطانه عن أهل بيته بعد وفاته.

جاء في السيرة انه لما كان اليوم الثاني من وفاته (صلی الله علیه وآله وسلم)دخل أمير المؤمنين (عليه السلام)

ص: 435

المسجد وإذا فيه جميع المهاجرين والأنصار فقال لهم : الله الله ياجميع المهاجرين والأنصار لا تنسوا ما عهد إليكم رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) في حقى يوم الغدير وغيره ولا تخرجوا سلطان محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)من داره وهو جاركم ولا تتبعوا الهوى فالله أولى وأحكم ولا تدفعونا عن حقنا ومقامنا فوالله يا معاشر الجمع إن الله قضى وحكم وعلم نبيّه وأنتم تعلمون أنا أهل بيت النبوة ومهبط الوحي ومختلف الملائكة، وأنا وأهل بيتي أحق بهذا الأمر منكم ، وأنا القاري لكتاب الله ،وأنا الفقيه لدين الله ،المنصوص عليه بوحي الله ، المطّلع لأمر الرعيّة من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فوالله إنّ فينا هذا الأمر لا فيكم فلا تتبعوا الهوى فترتدوا وتفسدوا ما قدمتموه بما أحدثتموه فإنّ في الحق سعةً عن الباطل، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق ، ثم افتتح وقرأ : ﴿وما محمد إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) فقام سعيد الأنصاري الذي وطّأ الأمر للأوّل وقال : يا أبا الحسن لو أنّ هذا الكلام سمعته منك الأنصار قبل بيعتهم للأوّل ما اختلف عليك اثنان ولسارعوا إلى مبايعتك فقال لهم : يا هؤلاء ما كنت أخلى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بلا تجهيز وأتركه ولا أواريه في قبره وأخرج أناز عكم في الخلافة ، وقد أوصاني(صلی الله علیه وآله وسلم)وقال : يا أخي لا تفارقني حتى توازيني في رمسي، فوالله ما كنت أظنّ أنّ أحداً منكم يتقدّم على طلب الخلافة بعد نص رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وينازعنا أهل البيت فيها ، ولا علمت أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ترك لأحد حجّةً ولا لقائل مقالة ، فناشدتكم الله رجلاً بعد رجل انكم ما سمعتم من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) يقول : من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله ، أين من يشهد منكم اليوم بما سمع فقام إليه جماعة كثيرة فشهدوا بذلك ، وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصوت، فخشي عمر أن تصغي الناس إلى قول علي(عليه السلام) فيرجعون عن بيعة أبي بكر فقام وقال : انصرفوا يومكم هذا فإن الله مقلب القلوب والأبصار ، فلمّا جنّ الليل خرج علي(عليه السلام) إلى دور المهاجرين

ص: 436

والأنصار يدعوهم إلى نصرته ويذكرهم نص النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) يوم الغدير ويعلمهم بما قال فيه وما عهده إليهم وبيعتهم له فبعضهم يعده بالنصر وبعضهم يتناقل عنه حتى طاف عليهم ثلاث ليال فلم يلق أحداً يوازره غير أربعة رجال وهم سلمان وعمّار والمقداد وأبا ذر(رضی الله)، فهؤلاء الأربعة كاشفوا معه وخرجوا من دورهم شاهرين سيوفهم لابسين لامة حربهم ، فلما رأى أمير المؤمنين(عليه السلام) من القوم الوهن والخذلان بقي في بيته على تأليف القرآن ستة أشهر لم يحضر معهم جمعة ولا جماعة.

فقال عمر لأبي بكر : إلى متى نحن ساهون عن علي(عليه السلام) ؟ ألا تبعث إليه يبايعك ولم يبق غيره، فأرسل أبو بكر إليه يدعوه فقال للرسول : ارجع إليه وقل له : إنِّي آليت على نفسى انّي لا أضع ردائي على ظهري حتى أفزع من تأليف القرآن فإذا جمعته أتيت به، فلما سمع عمر قال : لا تقبل منه هذه المماطلة وقل له اما يأتيك طوعاً أو كرهاً ، فعاد الرسول إلى علي(عليه السلام) فاعتذر له بمثل الأوّل ، فلما فرغ من تأليف القرآن حمله وأتى به إلى قبر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وطرحه وصلى ركعتين وسلّم على النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)، ثم رجع إلى القوم وجميع المهاجرين والأنصار فقال: هذا كتاب الله مثل ما أنزل وقد ألفته لما أمرني رسول الله .

فقال له عمر : أتركه عندنا وامض لشأنك.

فقال : إن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) أوصاكم فيه وفي وقال : إنّي مخلف فيكم الثقلين له كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فان قبلتموه فاقبلوني أحكم بينكم بما أنزل الله فيه فأنا أعلمكم بناسخه ومنسوخه، ومحكمه و متشابهه ، وحلاله وحرامه .

فقال له عمر : انصرف به حتى لا تفارقه ولا يفارقك فلا حاجة لنا فيه ولا فيك، فانصرف علي (عليه السلام)إلى بيته والقرآن معه فجلس يتلوه وعيناه تهملان دموعاً ، فدخل عليه عقيل (عليه السلام)فرآه يبكي فقال له : وما يبكيك يا أخي ؟

فقال : يا أخي بكائي من قريش وارتكابهم في الضلال، ومحاولتهم في

ص: 437

الشقاق والنّفاق ، واجتماعهم على حرب رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وحربي فجزيت عني قريش شرّ الجزاء فإنّهم قطعوا رحمي وسلبوني سلطان ابن عمي.

ويقال : ان الثاني - عمر بن الخطاب -جمع جماعة من الطلقاء والمنافقين والمؤلفة قلوبهم وأتى بهم إلى منزل علي(عليه السلام) فرأوا بابه مغلوقاً فصاح به : اخرج يا عليه فإن خليفة رسول الله يدعوك ، فلم يفتح لهم الباب ولم يكلّمهم ، فأتوا بحطب ووضعوه على الباب ليحرقوه بالنار، فلمّا عرفت فاطمة(عليها السلام)انهم يريدون حرق منزلها قامت وفتحت لهم واختفت من وراء الباب فدفعها عمر الخبيث بين الباب والجدار حتى أسقطها جنينها وتواثبوا على أمير المؤمنين(عليه السلام)وهو جالس على فراشه فأخرجوه سحباً ملبتاً بثوبه إلى المسجد فحالت فاطمة (عليها السلام)بينهم وبين بعلها لتخلّصه منهم وقالت : لا أدعكم تخرجون بابن عمّي ظلماً وعدواناً يا ويلكم ما أسرع ما خنتم الله ورسوله فينا أهل البيت وقد قال عزّ من قائل : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة فى القربى فتركه أكثر القوم رحمة لها فأمرعمر قنفذ أن يضربها بسوطه على ظهرها وحببينها، فدخلوا على أمير المؤمنين(عليه السلام)ولتبوه بثوبه، وجعلوا يقودونه قسراً، فجاءت فاطمة (عليها السلام)التخلّصه منهم فلم تتمكن من ذلك فعدلت إلى قبر أبيها وأشارت إليه مسلّمة عليه وهى تقول :

نفسي على زفراتها محبوسة*** ياليتها خرجت مع الزفرات

لاخير بعدك في الحياة وإنّما*** أبكي مخافة أن تطول حياتي

ثم انها(عليه السلام)لصاحت بأعلى صوتها وقالت وا أسفاه عليك يا أبتاه، واشقوتاه بعدك يا محمداه (صلی الله علیه وآله وسلم) ، واغربتي بعدك واضيعتي يا أبا القاسم، وأنت ووقعت مغشيةً عليها فضجّ الناس بالبكاء وصار في المسجد مأتم وهي تنادي: وامحمداه واحبيباه ولسان حالها يقول :

بعدك الدنيا موحشة امظلمه عليه*** وكل يوم يزداد الغبن والهظم بيه

***

واللي يبو ابراهيم ما خلالي افاد*** وكلما اتاملهم عليه الحزن يزداد

ص: 438

شوفي حسن وحسین هموني هالاولاد*** كلما يجوني جددوا موتك عليه

***

في وين جدنا ما نشوف اليوم جانا*** اوقت الفريضة ابلال مانسمع اذانه

وكلما نجي وانروح وانطالع مكانه*** ما ننظر الا ابيوت في وحشه خليه

***

يا به شقلهم من يجوا عندي ينوحون*** وذيك العوايد لوله منك يطلبون

وكلما ردتهم يهجعوا صاروا يصيحون*** وامطالعي ليهم يرد همّي عليه

مقدر على ابكاهم واطالعهم ايها الحال*** عاشوا تحت ظلك وعنهم قوض وزال

***

موتك يبو ابراهيم ما بقي لنا خال*** شحوا لنا والناس ردوا جاهليه

***

ردّوا علينا بالجفاردة الكفار*** وخدي بصفرته وجيت احشم جمع لنصار

ينصار ابويه تتركوني مالي انصار*** ما شفت مالت عين بالرحمة عليه

***

كلهم يبويه اتعذروا مني وجفوني*** ورضيوا على هضمي يبويه واغبنوني

ورديت داري والهضم سيّل اعيوني*** اللى لقيت اهناك اشد واصعب عليه

***

يا به اولادك والبنات إتحوم في الدار*** چنهم اطیور امهيجه ما عندهم اوکار

واللي نحلني ابرؤيته حيدر الكرار*** ذاك الاسد مني خذوا غصب عليه

جالس على افراشه ومنه تجري العين*** نوب يطالعني ونوب حسن وحسين

لو بالتماني إن كان أنا اتمنى لي العين*** موتى ولا هالحال يا خير البريّه

نعم، إن بكاء الزهراء (عليه السلام)وجزعها على أبيها رسول الله(عليه السلام) ليس يخفى على أحد، كما لها جزع وبكاءً آخر وذلك على ولدها الحسين(عليه السلام) وقد سمع أهل المدينة

ص: 439

منها ذلك بعد قتل الإمام الحسين(عليه السلام)، بل انها قد بكت على ولدها وهو بعد لم يقتل وذلك في مقامين .

المقام الأول: عندما حدثها أبوها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بما يجري على الحسين(عليه السلام)بعده من قتل وظلم وتشريد وهتك لحرمته وإن ذلك يكون في زمان حال منها عند ذلك بكت وندبت وصاحت قائلة : إذا أبه من يبكي على ولدي الحسين؟

قال(صلی الله علیه وآله وسلم)يخلق الله له شيعة يجدون عليه العزاء جيل بعد جيل.

المقام الثاني : بكته(عليه السلام)عندما تهيّأ للخروج من المدينة وجاء في جوف الليل لزيارة قبرها قائلاً : السلام عليك يا زهراء حسينك جاء لوداعك، فإنه سمع من قبرها

(عليه السلام) الجواب ممتزج بالبكاء : وعليك السلام يا قرة عيني .

نعم، بكته وهي عالمة بما يجري عليه في سفرته من قتل وظلم وتشريد.

ومن هنا نعلم أن خروج الإمام الحسين (عليه السلام)من المدينة هو باكورة المصائب التي حلت على آل محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)وهو باعث الحزن والتألم إذ ان أهل المدينة يفقدون المصباح الذي كان يضيء لهم فكان لخروجه(عليه السلام) منها أثر كبير على نفوس أهلها ولا سيما أهل بيته وبالخصوص أخوه محمد بن الحنفية فقد عظم عليه الأمر .

يقول سيدنا الأمين(قدس سره) : لما تهيأ الإمام الحسين(عليه السلام)للخروج من المدينة مضى في جوف الليل إلى قبر أمه الزهراء(عليها السلام) فودعها ، ثم مضى إلى قبر أخيه الحسن ففعل كذلك، ثم رجع إلى منزله وقت الصبح فأقبل إليه أخوه محمد بن الحنفية فقال : يا أخي أنت أحب الخلق إليّ وأعزّهم عليّ ، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق وليس أحد أحق بها منك لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبشري، وكبير أهل بيتي، ومن وجبت طاعته في عنقي ، لأنّ الله قد شرّفك عليَّ وجعلك من سادات أهل الجنة تتح ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فإن تابعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك إني

ص: 440

أخاف عليك ان تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم فتكون لأول الأسنة غرضاً فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً وأباً وأماً أضيعها دماً وأذلها أهلاً، فقال له الإمام الحسين (عليه السلام): فأين أذهب يا أخي ؟

قال : تخرج إلى مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فذاك وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن فإنّهم أنصار جدك وأبيك ، وهم أرأف الناس وأرقهم قلوباً ، وأوسع الناس بلاداً، فإن اطمأنت بك الدار وإلا لحقت بالرمال وشعوب الجباك وجزت من بلد الى بلد حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين.

فقال الامام الحسين(عليه السلام) : يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولامأوى لما بايعت يزيد بن معاوية فقطع محمد بن الحنفية عليه الكلام وبكي، فبكى الحسين (عليه السلام)معه ساعة، ثم قال : يا أخي جزاك الله خيراً فقد نصحت وأشرت بالصواب وأنا عازم على الخروج إلى مكة وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي أمرهم أمري، ورأيهم رأيي، وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم لاتخفي عني شيئاً من أمورهم، ثم دعا الإمام الحسين بدواة وبياض وكتب هذه الوصيّة لأخيه محمد بن الحنفية : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية :

إن الحسين(عليه السلام) يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده

ورسوله جاء بالحق من عند الحق ، وان الجنّة والنار حق، وان الساعة آتية لاریب فيها، وان الله تعالى يبعث من في القبور وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، وأبي على(عليه السلام)، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني

ص: 441

وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين.

وعليه لابد أن نعرف من خلال هذا النص الشريف الذي تضمنته هذه الوصية الجليلة لسيّد الشهداء إلى أخيه محمد بأن مهمّة الامام الحسين(عليه السلام) ووظيفته الشرعية هي الاصلاح والتصحيح ، وهي مهمة كبيرة جداً ، لأنّ هناك مرحلتان، يجب التمييز بينهما قبل اتخاذ أي موقف، وفي تقييم الأحداث وهما مرحلة التأسيس ، ومرحلة التصحيح . وتتميّز المرحلتان عن بعضهما البعض، بما يلي:

مرحلة التأسيس هي مرحلة البداية، وفيها تكن الحاجة ماسة إلى كلّ نقطة جهد، وكل ذرة قوة فلا يجوز التفريط فيها بأي جهد يبذل من قبل أي كان فالمرحلة هي مرحلة التكوين، ولابد فيها من القبول بلا شروط مسبقة لأن الإنسان إذا فرّط في الجهود المتاحة وفوّت على نفسه الفرص الممكنة في هذه المرحلة، فإنّ الولادة تتحول إلى إجهاض .

ونستطيع أن نمثل لهذه المرحلة ببداية الرسالة، فحين قام الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)بتحمل أعباء المسؤولية كانت المرحلة بالنسبة إليه مرحلة التأسيس» ولذلك فنحن نجد أنه كان يستفيد من جهود المؤمنين من دون تمييز بين المؤمن الصادق مائة في المائة، أو نصف الصادق، وحتى أنه كان يستفيد من المنافقين، رغم أنه كان يندّد بهم فكرياً وعقائدياً.

فهو كان يستفيد من طاقة كلّ فرد حسب ما يكون مستعداً لبذلها ، فإذا ما كان واحد من المؤمنين مستعداً لبذل 20% فقط من طاقاته ، لم يكن النبي يفرط في من هذه العشرين بالمائة بحجّة أن عليه أن يقدم 100% من طاقاته .

فالنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)في البداية كان يتدرج في مطاليبه من الناس : فكان يقبل من كل إنسان أيّة نسبة من التزامات الايمان، فالذي كانت أعماله تخالف الاسلام بمقدار ٪80 ويوافقها في العشرين الباقية لم يكن الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)يحكم عليه بالموت، لأنه

ص: 442

كان بحاجة إلى أي جهة بأي مقدار .

ولهذا نجد في صحابة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)مثل عبدالله بن أبي الذي كان يوصف «برأس المنافقين وهم الذين تحدث القرآن عنهم بقوله وممن حولك من الأعراب ينافقون ومن أهل المدينة ، مردوا على النفاق لا تعلمهم، نحن نعلمهم ..... ونجد أيضاً في صحابته ضبّاطاً للجيش كان يكلفهم بمهام عسكرية، رغم أنه لم يكن يثق فيهم،حتى أنه كان يضطر إلى الاستعانة ببعض «العيون» لمراقبتهم حتى لا يفرّطوا في الأمانة العسكرية.

ونجده - كذلك - يدخل مع طوائف مشركة وأخرى ملحدة في أحلاف، ويعقد معهم الاتفاقيات التي تنص - فيما تنص - على وجوب دفاع النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) عنها من دون أن يكون لزاماً عليها الدفاع عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم).

والسبب في هذا« التساهل» في الأمر هو : انّ المرحلة كانت بالنسبة إلى الرسالة حينئذٍ مرحلة : أن تكون أو لا تكون فلو أراد النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)أن«يغربل»أصحابه، ويشدد معهم لم يكن بإمكانه توطيد دعائم الرسالة في تلك الظروف العصيبة التي كانت تمر بها .

أمّا مرحلة التصحيح : فإنّ الأمر يختلف جذرياً. فالرسالة في هذه المرحلة مطروحة على الساحة، ولكنها بحاجة إلى تصحيح المسيرة بها. وتصحيح المسيرة بحاجة إلى حزم، وتشدّد، وربما العنف أيضاً .

والسبب في ذلك هو : أن مرحلة التصحيح تتميّز بأن الأشياء، والأوضاع، والمواقف ، تكون ملوّنة بصبغة الرسالة، ولكنها تفتقد جوهر الرسالة .

فالحاكم يحكم باسم الإسلام، وخلافة الرسول.

والمظاهر هي مظاهر إسلامية.

والعبادات قائمة على قدم وساق، ولكن الروح بعيدة كل البعد عن روح الرسالة. ومن دون استعمال الشدّة، والعنف لا يكون بالمستطاع إقناع الناس بكذب

ص: 443

المظاهر ، وخداع الحاكم وخواية العبادات.

إنّ «الأسماء»في مرحلة التصحيح تكون حاكمة، فلا يجد الناس أي مبرر في الظاهرللقيام ضدّها.

فاسم «القرآن» يحكم : رغم أنه يستخدم للتخدير والخداع .... واسم الخليفة عن رسول الله هو الذي يسود : رغم أنه يمارس عمليّة محو اسم النبي من الجذور .. واسم «الجهاد» هو الذي يحرّك الناس : رغم أنه قد يكون ضدّ مثل الإمام الحسين...

وفي مثل هذه المرحلة يكون التشدّد، وعدم الرضا بأي انحراف، وعدم قبول أي شخص في صفوف العمل الإسلامي إلا إذا كان مؤمناً بالأهداف، وملتزماً بالمبادىء التزاماً كلياً ومطلقاً، يكون ضرورة ملحة.

ونستطيع أن نمثل لهذه المرحلة بالمرحلة التي تعلم فيها الامام علي(عليه السلام) مسؤوليات الحكم.

فالإمام جاء بعد أن عصفت أوضاع شاذة بالأمة الاسلامية ولكن هذه الأوضاع الشاذة لم تواجه بالرفض من قبل الأمة، لأنها كانت قد اتخذت صبغة مقدسة بسبب تلوّنها بغطاء رسالي كاذب .

فالمظاهر - في كل مكان - كانت مظاهر الاسلام.

لكن الروح كانت بعيدة - جداً جداً - عنه !

ولأنّ الامام كان مكلّفاً بالتصحيح فإنّه كان يُعنّف في التشدّد حتى لكأنه قائد مثالي،يطالب الناس بأمور مثالية إلى حدّ بعيد.

فهل كان الامام(عليه السلام)قائداً مثالياً بمعنى المثالية التي يمكن تطبيقها ؟ بالطبع : لا . ولكن كان في أوضاع خاصة تفرض عليه أن يطالب الناس بالمثالية لكي يعتدلوا ...

ولهذا فإننا نجد أنّ الامام قد يسحب ثقته فوراً من كل والِ سابق ارتكب أي

ص: 444

انحراف عن الاسلام في أول لحظة تسلّم فيها مسؤولية الحكم.

ونجده أيضاً يهدد ولاته بالعزل لجرم انه اشترك في مأدبة لبعض الأثرياء، ويعزل آخر لأنه أخذ الناس بما لم يكلف به. فكل مخالفة بسيطة تجابه من قبل الإمام بثورة عارمة : أخوه الضرير يطلب منه بعض الزيادة في الراتب، فيرفض الامام ذلك بعنف. وابنته تستعير قلادة من بيت المال بشرط ضمان تلفها، فيحامل عليها الامام(عليه السلام) البتهديدها وبتهديد الأمين لماذا هذا التشدّد ؟

لأن المرحلة تتطلب التصحيح، ولولا هذا العنف في وضع الأمور مواضعها، فإن الرسالة كانت تصبح«دين دولة» و«مهزلة حكام»و«تبرير مصالح» و«مظاهر خاوية»لا تعني شيئاً.

من هنا كان النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)يقول للامام الله(عليه السلام) :

-«يا علي تقاتل على التأويل، كما قاتلت على التنزيل».

-وهكذا فإنّ مرحلة التأسيس بحاجة إلى التساهل، بينما مرحلة !التصحيح لا تساهل فيها .

ولكن القضيّة بحاجة إلى فهم ، ودراسة وتمحيص لكي يعرف الانسان في أية مرحلة يعيش، وكيف يجب أن يتصرف ؟ وماذا عن مرحلة الامام الحسين(عليه السلام)؟

لا شك أن المرحلة التي عاشها الامام الا كانت مرحلة تصحيح، فالأمة كانت قد توسعت كثيراً ، والإسلام دخل إلى أقاليم متعدّدة، وعادات الأمم الأخرى كانت تتفاعل داخل الأرض الاسلامية، والحكم تحوّل إلى مغنم والجاهلية عادت مرة أخرى بثوب إسلامي ، وعادت العشائرية، والتقاليد البالية، وعاد معها الخضوع لغير الله.

ورغم أنّ الامام علياً(عليه السلام) قاد ثورة تصحيحية واسعة، وأعاد بذلك نقاء الثورة الاسلامية وطهرها السابق، رغم ذلك فإن الأوضاع التي مرت بعد مقتل الامام(عليه السلام)أعادت الامة إلى الجاهلية الملوّنة بالاسلام من جديد.

ص: 445

وكما يقول الأستاذ عبدالله العلايلي - وهو من كبار علماء المسلمين في لبنان - :« نستقبل في عهد الدولة الأموية تجديداً يشمل الأوضاع كافة، ويتصل بجوهرها، حتى بات منه المجتمع العربي في شكلية لا عهد له بها، ولا تتصل بالعهد السابق إلا اتصالاً خفيّاً فيه كثير من الغموض، فهيئة الحكم وطريقة الاجراء والإدارة وقاعدة العمل العام لم تعد كما كانت».

وقد انتقل هذا التحلل إلى الشعب، فسرعان ما تغير وتحلل وطلب الحياة في الهواء الطلق - كما يقولون - وساعد الشعب على سرعة تحلله ، إن أكثر رجال القديم ذهبوا ضحية الصراع الثوري العنيف، فالجمهور الباقي يتألف من الشباب وحدهم وخليط من الأمم المنحلة فكان لديهم الاستعداد التام لحركة انقلابية من هذا النوع، فالأدبية الاسلامية إذن أصيبت بانحراف كبير إن لم نقل إن الحياة العامة خرجت عن قاعدتها - وهذا ما يعلّل تفشي المجون في مهبط الوحي، وانتشار الحياة اللاهية المفتونة هنا وهناك .

إذن فمرحلة الامام الحسين(عليه السلام)كانت مرحلة تصحيح، وهذا ما يفسّر لنا نوعية الثورة التي قادها حيث سرّح كل جنوده الذين لم يكن لديهم استعداد للالتزام بالطهر المطلق حتى آخر لحظة، وحيث رفض عوامل النصر عندما كانت تتعارض مع التزامات بسيطة بينه وبين عدوه !

فلولا ان الثورة كانت ثورة تصحيح لكان على الامام أن يستغل كل جهد مع قطع النظر عن صاحبه. وكان عليه أيضاً أن يقوم بعملياته الثورية في سرية تامة: فيهاجر مثلاً من مكة إلى الكوفة كما هاجر النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) منها إلى المدينة في سرية كاملة وبلا ضوضاء، ولكان عليه - كذلك - أن يكشف لأصحابه عن الانتصارات فقط ، وليس عن الهزائم - كما كان يفعل ذلك في طول الطريق.

ولكن الثورة كانت ثورة تصحيح، والمرحلة كانت تتطلب التشدّد في الطهر ، والهدف كان وضع« أسس الثورة الاسلامية» موضع التنفيذ، والكشف عن الروح

ص: 446

والجوهر في الدين.

إنّ الأمة الاسلامية كانت تمر في عصر الامام الحسين(عليه السلام) بأصعب فترة من فترات حياتها فلم تمر في أية فترة سابقة باضطراب فكري، وحيرة، وانقسام وتمزق، مثل الفترة التي مرّ بها في ذلك الوقت .

كانت الفترة فترة انعدام الرؤية، وفي مثل هذا المجال كان الاسلام يفسّر حسب المصالح : فالتجار يفسرون مبادئه بما يتفق مع نوعية معاملاتهم التجارية. والحكام يفسرونه حسب ، آرائهم، والعامة يفسرونه حسب ما يريدون.

وهكذا انقلب الاسلام -من حيث العمل والموقف - إلى آلاف الأديان، رغم أنّه كان واحداً من حيث الفكر والنظرية .

ولذلك فإنه كان بحاجة إلى ثورة تفسر الاسلام تفسيراً واقعياً حقيقياً صادقاً وكان على الامام - باعتباره الوحيد الذي يستطيع أن يصنع ذلك - أن يضع ثورة الاسلام في إطار دقيق من الطهر والالتزام العنيف بمبادئه .

ومن هنا نستطيع أن نعرف لماذا كانت نتائج ثورة الامام شاملة لكل جوانب حياة الأمة ؟

حيث إنها قلبت الموازين الساسية والاجتماعية والفكرية رأساً على عقب.

كيف حدث ذلك ؟

1 - على الصعيد الفكري:

نسفت ثورة الامام كل الصيغ والتراكيب الفكرية والنفسية التي كانت تشكل العمود الفكري للفكر، وبعد أن بدأت تتوضح ملامح الثورة وتكشفت عن الهوى والحفر في نوعية الفكر القديم، بدأ الإنسان المسلم يبحث عن هوية جديدة لفكره ، فقد خلقت ثورة الامام(عليه السلام) مرحلة جديدة هي مرحلة «فتح العيون» على زيف الافكار المطلاة بالإسلام والبعيدة في نفس الوقت عنه !

ص: 447

ب - على الصعيد الاجتماعي :

خلقت ثورة الامام أسساً جديدة للولاء. وسقطت الولاءات القبلية، فثار العبيد على الأسياد ، وثارت القبائل على رؤسائها وحطمت الثورة حاجز الخوف بين الناس وبين الثورة، فإذا كانت المسلّمات الأخلاقية المزيفة تحول بينهم أن يثوروا، فإن الثورة نسفت هذه المسلّمات ووضعت ضرورة الثورة مكانها .

فقامت ثورات في كل مكان من الأرض الاسلامية. وكانت الفتيلة : ثورة الإمام (عليه السلام).

ج - على الصعيد السياسي :

وضعت الثورة النظام مع المحاسبة ، وتجاوزته إلى خلفياته الفلسفية ، فنسفتها نسفاً كاملاً وكشفت على الخليفة الصائبة للنظام : من يحكم ؟ وكيف يحكم ؟ ومسؤوليات الحاكم ؟ وواجبات الناس ؟

وكما قال الشاعر :

أعظم به بطلاً لم يعط متضعاً*** يد الصغار وأعطى دونها الراسا

كذلك الحرّ يستعدي الممات على*** عيش الدنية إذلالاً وإركاسا

أكرم بها خله كانت لنا نهجاً*** ثم استمرت على الأيام نبراسا

نعم هكذا كان أبو عبد الله(عليه السلام) في بطولته ، فلقد أعطى كل شيء امتلكه في

سبيل دين الله إلى أن ثوى صريعاً من أجل إعلاء كلمة الله تعالى وذلك بعد أن نكس راياتها وجبن شجعانها وقتل أبطالها وجعلها مطعماً للوحوش، وهو ما بين أصحابه كالبدر يقودهم إلى الله تعالى طالباً بذلك رضائه ومغفراته، ويعلمهم بصموده معنى الصمود والبساطة والتضحية والفداء من أجل دين الله .

يقول السيد حيدر الحلي ولنعم ما قال:

غداة أبو السجاد جاء يقودها*** أجادل للهيجاء يحملن أنسرا

عليها من الفتيان كلّ ابن نثرةٍ*** يعدّ قتير الدرع وشياً محبّرا

ص: 448

أشمُّ إذا ما افتض للحرب عذره*** تنشقُ من أعطافها النقع عنبرا

من الطاغي صدر الكتيبة في الوغى*** إذا الصقُ منها من حديد توقرا

هم القوم إمّا أجروا الخيل لم تطأ*** سنابكها إلا دلاصاً ومغفراً

إذا ازدحموا حشداً على نقع فيلقٍ*** رأيت على الليل النهار تكوّرا

كماة تعد الحي منها إذا انبرت*** عن الطعن من كان الصريع المقطّرا

ومن يخترم حيث الرماح تظافرت*** فذلك تدعوه الكريم المظفّرا

فما عبروا إلا على ظهر سابح*** إلى الموت لمّا ماجت البيضُ أبحرا

مضوا بالوجوه الزهر بيضاً كريمةً*** عليها لثام النقع لاثوه أكدا

فقل :

لتزارٍ زار ما حنينك نافع ***ولو مت وجداً بعدهم وتزقرا

حرام عليك الماء مادام مورداً*** لأبناء حرب أو ترى الموت مصدرا

وحجر على أجفانك النوم عن دمِ*** شبا السيف يأبى أن يُطلّ ويهدرا

اللهاشمي الماء يحلو ودونه ***ثوت قومه حرّى القلوب على الثرى

وتهدأ عين الطالبي وحولها*** جفون بني مروان ريّاً من الكرى

كأنك يا أسياف غلمان هاشم*** نسيت غداة الطفّ ذاك المعفّرا

هبي لبسوا في قتله العار أسوداً*** أيشفي إذا لم يلبسوا الموت أحمرا

ألا بكر الناعي ولكن بهاشم ***جميعاً وكانت بالمنيّة أجدرا

فما للمواضي طائل في حياتها*** إذا باعُها عجزاً عن الضرب قصرا

اللعيش تستبقي النفوس مضامة*** وما الموت إلا أن تعيش فتقسرا

ثوى اليوم أحماها عن الضيم جانباً*** وأصدقها عند الحفيظة مخبرا

وأطعمها للوحش من جثث العدى*** وأخضبها للطير ظفراً ومنسرا

قضى بعدما ردّ السيوف على القنا*** ومرهفه فيها وفي الموت أثرا

ومات كريم العهد عند شبا القنا*** يواريه منها ما عليه تكسّرا

ص: 449

فإن يُمس مغبّر الجبين فطالما*** ضحى الحرب في وجه الكتيبة غبرا

وإن يقض ضمآناً تفطّر قلبه*** فقد راع قلب الموت حتى تفطّرا

وألقحها شعواء تشقى بها العدى*** ولود المنايا ترضع الحتف ممقرا(1)

فظاهر فيها بين درعین نثرةٍ*** وصبر ، ودرع الصبر أقواهما عرا

سطا وهو أحمى من يصون كريمة*** وأشجع من يقتاد للحرب عسكرا

فرافده في حومة الضرب مرهف*** على قلة الأنصار فيه تكثرا

تعثّر حتى مات في الهام حدّه*** وقائمة في كفّه ما تعثرا

كأن أخاه السيف أعطي صبره*** فلم يبرح الهيجاء حتى تكسرا

له الله مفطوراً من الصبر قلبه*** ولو كان من صمّ الصفا لتفطّرا

ومنعطف أهو لتقبيل طفله*** فقبل منه قلبه السهم منحرا

لقد ولدا في ساعةٍ هو والردى***ومن قبله في نحره السهم كبّرا(2)

نعم ، هكذا كان الامام(عليه السلام) في عطائه ، لقد بذل الغالي عنده في سبيل الله قبل بذل الرخيص، وهل هناك شيء عند الحسين(عليه السلام) أغلى من طفله عبدالله الرضيع - الصغير الذي ذبحه القوم في حجر أبيه ، فالشاعر - السيد الكريم - في قصيدته هذه قد صور ر لنا الإمام(عليه السلام) في ذلك العطاء العظيم، والبطولة الفذة، والصمود. وحقاً أنه قد أجاد في هذا التصور ، لا كما يصوره الغير بأنه(عليه السلام) قد خرج خائفاً أو أنه خرج وانه لا يعلم ما يجري عليه، وكيف يكون الامام(عليه السلام)غير عالم بما يجري عليه وهو يقول قبيل خروجه لأخيه محمد بن الحنفية : إن رسول الله قد أمرني بأمر أنا ماض فيه، ويقول له كما مر عليك : «والله لو لم يكن لي ملجأ في الدنيا ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية» .

ويقول(عليه السلام)في يوم عاشوراء عند ما خطب في القوم تلك الخطبة البليغة فإنه

ص: 450


1- الممقر : المرّ .
2- ديوان السيد حيدر الحلّي : 78 - 80

قال من جملة قوله(عليه السلام) : ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجورطابت وطهرت وأنوف حميّة ونفوس أبية لا تأخذ الدنية ولا تؤثر مصارع اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني أعذرت وأنذرت وزاحف إليكم على قلة العتاد وخذلة الأصحاب ، ثم قال(عليه السلام): اللهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسني يوسف، وسلّط عليهم من لا يرحمهم ولا يدع منهم أحداً إلا ضربه ضربة بضربة وقتلة بقتلة لينتقم الله لي منهم ولأهل بيتي وأشياعي وأنصاري فإنّهم دعونا لينصرونا فخرجوا علينا يقاتلوننا ويسفكون دماءنا ، ثم وجه كلامه(عليه السلام)إلى ابن سعد لعن الله ابن سعد» فقال(عليه السلام): إيه يا ابن سعد أنت تقتلني وتزعم أن الدعي ابن الدعي يوليك بلاد الري وجرجان، فلا والله لا تهناً بعد قتلتي لا بدنيا ولا بآخرة، وكأني برأسك هذا في أزقة الكوفة يتراماه الصبيان يجعلونه غرضاً بينهم وهدفاً للرامي بالحجارة، فاصنع ما أنت صانع يا عدو الله وعدوّ رسول الله .فاغتاظ ابن سعد من كلام الحسين(عليه السلام) وقال : احملوا عليه إنما هي جولة واحدة، فأحاطوا به من كل ناحية، وكان الحسين الله كلما حمل على فرقة انهزمت من بين يديه تلقته فرقة أخرى وهو يقول كما نقل عنه(عليه السلام) . فإن نهزم فهزّامون قدماً*** وإن نغلب فغير مغلبينا

وما طبنا حين ولكن*** منايانا ودولة آخرينا

ولو خلد الملوك إذن خلدنا*** ولو بقي الكرام إذا بقينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا*** سيلقى الشامتون كما لقينا

هذا هو الامام أبو عبدالله الحسين (عليه السلام)في صبره وصموده. ولكن بعض الشعراء والخطباء اعتادوا بأن يستدرّوا دموع المؤمنين على الحسين(عليه السلام) بأي كلام أو أيّ شعر يؤثر في نفوسهم ويهيج زفراتهم حتى ولو كان الكلام أو الشعر يصوّر لنا الحسين

(عليه السلام) لها في صورة الضعيف أو الخائف، فتجد بعض الشعراء لكي يستدرّ الدمع

ص: 451

من عيون المؤمنين يقول : خرج الحسين من المدينة خائفاً ، ولا مانع من ذلك بشرط أن يعلم الشاعر ويعتقد بأن الحسين(عليه السلام) قوي الارادة .

خرج الحسين من المدينة خائفاً*** کخروج موسی خائفاً يتكتم

وقد انجلى عن مكة وهو ابنها*** وبه تشرفت الحطيم وزمزم

لم يدر أين يريح بدن ركابه*** فكأنّما ما المأوى عليه محرم

***

طلعوا آل هاشم عن وطنهم*** أو ظل خالي جرم جدهم بعدهم

ساروا بليلهم وابعد طعنهم*** او لن صوت العليلة ابقلب محتر

دریضوا هنا يهلنا للعليلة*** يهلنا افراقكم مالش حیله

يهلنا بعدكم ما نام لیله*** او عيني من بعدكم دوم تسهر

يهلنا خلوا اخويه الطفل بالله*** يضل عندي او روحوا وداعة الله

يهلنا من المرض قلبي تقلا*** يهلنا خلو اخويه الطفل واسدر

بچن ويلي ونادنها دخليه*** أهلها او بحضن امه دردیه

طفل وافراق أمه يصعب عليه*** ولا أُمه على فرقاه تصبر

صاح احسين يا فاطم دردي*** دردي للمدينة وطن جدي

أودّي لج على ابني اوچبدي*** او لابد ما تجي يمچ امخبر

ودّت للمدينة أو سار أبوها*** او ظلت ترتجب عمها واخوها

ظنت فاطمه لنهم يجوها*** اخوها والبطل عمها المشكّر

بگت تبچي يويلي او لا لفوها*** اوهم أمسوا يويلي ابر الأقفر

جد السير احسين الغضنفر

يريد اوصال بيت الله الكبر

نزلوا بأرض مكة مستجيرين*** اوبیها خايفين او مستجيرين

اجت الكتب تترادف على احسين*** امن الكوفة الك لكين عسكر

ص: 452

بعث ليهم يواجههم ابمسلم*** كتب له بايعوني القوم أقدم

طلع خايف والحجاج تحرم*** او ما يدري ببن عمه تكنطر

أبدربه دری ابمسلم چاتلینه*** أو من قصر الامارة ذابينه

او من رجله يويلي ساچبينه*** لمن سمع بمصابه تحيّر

وحين ما قارب الكوفة القشره*** تلقاه التميمي ابقاع قفره

اومن التلاقي وقف مهره*** عرفها کربلا ابشدّة العسكر

نزلها او نزلت العدوان آلاف*** يحسبونه يطاوع أمر الجلاف

واخوته وصحبة الطيبين الأسلاف*** اسباع او بالحرب بكره تبختر

نعم، خرج أبو عبد الله الحسين(عليه السلام) من مدينة جده قاصداً مة المكرمة ثم منها إلى أرض كربلاء، خرج(عليه السلام) بأهل بيته وأشياعه وأتباعه، وبقيت مدينة الرسول بعد

خروجه(عليه السلام)مظلمة موحشة تعطلت مدارسها ومحافلها واظلمت مجالسها:

امن المدينة شالت اظعون الميامين*** والدور ضلت موحشة من سافرا حسين

ظلمى المدارس والمجالس بعد ليدور*** يا حيف غابوا بالحود ابيوم عاشور

واهل الكرم شالوا طبقهم واغلقوا الدور*** او لفراقهم تنعى العلوم او يصرخ الدين

والدور والدنيا امظلمه من فقدهم*** والدين والتدريس دارس من بعدهم

او حادي المنايا ساق لضعون وحداهم*** لارض المنايا كربلا سافر لها

واو حامي الضعينة والعرينة البطل عباس*** بيده العلم قدام وجهه اشديد لمراس

يبرى الضعينة ايذود عنها مفرع الراس*** او من حول زينب كل بني هاشم امسلحين محلا بني عدنان طلعتهم ابفرعها*** لو صاح صايحهم او لعمامه نزعها

صوته ايزلزل للعدى او يكثر جمعها*** خصه علی اکبر او عمه فادي الدين

شبان ويلي بعد ما نبتت الحاهم*** بالغاضريه ایزید با جیوشه رماهم

او بالسيف لحد كل بني هاشم محاهم*** او خدامهم من عقبهم صارو اسلاطين

يا حيف راحت ذيك لوجوه المزهرات*** كانت مصابيح الورى وامست مظلمات

ص: 453

نعم، بقيت تلك الدور مظلمة لما فقدت تلك المصابيح المزهرة :

الله يعينك يا منازلهم بعدهم*** صرتين وحشه ومظلمه بعد السلاطين

وكنى بالوفاد والضيوف تناشد تلك الدور المظلمة قائلة :

یا دار وین أبدورك يا دار وين أبدورك*** ذيك البدور الزاهرة يا دار وين ابدورك

قالت بعد لا تزيدني ما قدر أعد امصابي*** شوف المنازل خاليه واحسرتي وامصابي

هذا الترب والسافي سافي على اعتابي*** عرج ولا تسألني يا دار وين ابدورك

بدر الدجى من سافر ماجت لنا اخباره*** واحسرتي والهفي يمتى ارى انواره

كل من اتى سايلني وين الولي يا داره*** ذيك البدور المزهرة يا دار وين ابدورك

قالت يوافد حسبك بالنوح لا تزيدوني*** انا ابهلي مفجوعة وانتون بتفجعوني

عن ابو علي وارجاله وعاد تسألوني*** بس عاد لا تقولولي يا دار وين ابدورك

من يوم حث اضعونه ما جا خبر لي عنه***ما خلف إلا امحمد هاللي بقى لي منه

كل ساع ما ذوبني من صيحته والونه ***اقله انا ويقول لي يا دار وين ابدورك

أو عنده حزينه اتجاوبه لا من جدب وناته*** تنعى مثل ما ينعى ويصفق ابراحاته

ص: 454

زاید بکاه او نوحه كله لسهم فاته***كل ساع ما سألني يا دار وين ابدورك

الله يسهم فاتني بيه الاجانب فازت*** احظوظ الاقارب خابت واللي سواها طابت

مدري يدور ابدورك في وين عنك غابت***يا دورهم قولي لي في وين راح ابدورك

نادت عليه او قالت ياللي بقي امن ابدوري*** يا سايلك في وينه عني تحجب نوری

نعم، لقد هاجت زفرات محمد وأسبل دموع عينيه مثل القدران وهو يصفق براحاته على بعضها البعض وأخذ يخطب تلك الوفود والضيوف ويجيبها نيابة عن تلك الدور قائلاً لها : لقد شال أبو عبد الله مع أهل بيته وأصحابه وأحبته عن هذه الدور وبقيت فيها لوحدني أندبه وأبكيه وأنادى :

شال او مشى بالدولة شال اومشى بالدوله*** دار العلم واليها شال او مشى بالدوله

يحسين اخويه اخذوني في كربلا وياكم ***وانته يخويه تدري مقدر على فرقاك

خوفي يخويه تنذبح من قبل ما ألقاكم*** واحسرتي من شيخ شال او مشى بالدوله

يا ما ضربت ابسيفي او يا ما طعنت باسناني*** يا ما بطل اصرعته واضربت بيه الثاني

يا ما ابحور من دما خوضت فيها احصاني*** وفي منزلي خلاني شال اومشى بالدوله

ص: 455

يا ما علم لفيته والعلم بيدي شايع *** يا ما بطل في حربي خليت راسه تاسع

وانا الحرب مادشه الابنفسي بايع ***واليوم أخويه عافني وشال او مشى بالدوله

قاصد اراضي بيها عازم على استشهاده*** باهله او كل اخوانه أو جملة جميع اولاده

او حاشا على من مثله ما يختلف ميعاده ***خلاني عرضه للبلا شال او مشى بالدوله

ليت القضاء ما عاقني والمرض ما اذاني*** اتمنيت أنا وياهم لازم لظهر احصاني

وانا الحرب من سابق يا خوي فني او شاني*** واليوم اخويه عافني شال او امشى بالدوله

قولوا لخويه امحمدا يسلم عليك اسنادك*** ويقول لك يمحمد لا تنقطع وقادك

وانته على ما تعهد وانته على معتادك*** او لتقول اخويه عافني شال أو مشى بالدوله

الزم يخويه امضيفي او عينك على وفادي***واظهر لهم من طيبي واظهر لهم من زادي

واما انا باسافر بهلي او جميع اولادي*** ولتقول اخويه عافني شال اومشى بالدوله

الزم يخويه امضيفي او حافظ على اطباعي*** والي الرعية انته او نعم الولي والراعي

ص: 456

واما لك احناجينا وال يجيك الناعي*** وانته خلف سلطان شال اومشى بالدوله

والحرة اللي عندك عينك عليها زينه ***بلغ سلامي لها او عماتها واسكينه

واما لك احناجينا والا بعد ماجينه *** والى الرعية انته او شال او مشى بالدوله

من منشد لي عن صحب هنا نزلوا*** مثل البدور بها الأنوار تستعلوا

من طيبه طلعوا في كربلا أفلوا*** بالامس كانوا معي واليوم قد رحلوا

وخلفوا في سويد القلب نيرانا

كيف السلو ونار الحزن تشتعل*** تهبا ودموع العين تنهمل

سيحاً على جيرةٍ في كربلا نزلوا*** بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا

وخلّفوا في سويد القلب نيرانا

هم الأمان لدهر راعه فزع*** والواصلون إذا ما أهله فظعوا

هل بعد غيبتهم في الوصل لي طمع*** نذر عليّ لئن عادوا وإن رجعوا

لأزرعن طريق الطف ريحانا

قاموا لنصر الهدى والدين قاطبة***لينقذوا انفساً في الغيّ الغى طامسة

فمذ رأوها على الأوثان عاكفة*** باعوا على الله أرواحاً مقدسة

وما رضوا غير دار الخلد أثمانا

شمرت فتيان هاشم*** والظعن بالحرم شال

او رفت اعلام النشاما*** من على روس العيال

ناس امرجله او ناس*** راكبه اظهور الخيول

والعلم عباس شاله*** وفي الجدا غرد يقول

يا لخلق صدوا وموجوا***عن سليلات البتول

ص: 457

والودائع في الهوادج*** فرح مسرورة البال

***

والظعن بالحرم يمشي***حي محلا مشيته

حسين قدام الظعينه*** وخلفه تمشي عزوته

امسلّحه سبعين مدرع***تحت طاعة نخوته

من يأمر طوع لبت*** دعوته كل لبطال

* **

يا حصن زينب يخوها*** وين منوى هالسفر

دون كل السفار قلبي*** ممتلي هم او کدر

قال يم الصون يختي*** کربلا فيها المقر

اهناك فيها حسين عزمه*** ایشید اظعون العيال

نادته قلبي جرحته *** وامتلا هم او بلا

وسالت ادموعي ابخدي*** يوم قلت ابكربلا

خايفه منها عليكم*** کربلا حوتة بلا

كل نبي دمه عليها*** من قدیم الزمن سال

***

وكأني بسيد الشهداء يخاطب جده رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)بهذا الخطاب الحزين :

اگعد يهادي الامه لحسين عاين حاله ***امن المدينة شايل وباهله وارجاله

وسط اللحد ضموني يا مصطفى وياكم ***لا حاجة لي في البقايا جد بين اعداكم

يا جدانا يردوني اشيل من ملجاكم***هذي كتبهم بيدي أهل الغدر محتاله

ص: 458

بس غاب شخصك عنه ثارت علينا الامه *** او غصبوا لخلافه منا والكل يطلب دمه

واتفرقت لمتنا من عقب ذيك اللمه *** من بعد ذيك العزّه صرنا ابا سؤ حاله

يا جد امي الزهرا باسياطهم ضربوها*** للضلوع منها اتكسرت أو من الارث غصبوها

او شيبة ابويه المرتضى ابفيض الدماء خضبوها*في وسط فرضه او فرقوا بينه او بين اعياله

وابقيت انا واعضيدي من عقب ذيك الدوله ***بين العدى واسيوفهم بارقابنا مسلوله

او دسوا اللعينه اجعيده او سمت عضدي غيله *** وابقيت مالي ناصر ألوذ تحت اظلاله

ولا صديق جاني الا عدو جاير*** تحير يا جدي يا جدي والله دليل الحاير

خذني يجدي عندك وسط القبر بالحاير*** لا حاجة لي ابقى في دنية مياله

ما زل يبكي الجده مما جنته الامه *** والا ابجده جاء له واحنا عليه اوضمه

قبل جبينه او نحره او ظل الأمين ايشمه*** ويخاطبه وادموعه مثل المطر هماله

او قال الشهاده يا بني مالك مناص منها ***وارض البلا والكربه لابد ما تسكنها

ص: 459

او جثة ربيتها كف العدى تطعنها***او تبقى رميه اعلى الثرى واتدوسها الخياله

ويجيك سهم نافذ وانته على ميمونك *** من كف رجس ما رد فوق الثرى يرمونك

واتحوط بيك العسكر يبغون ما ينحرونك ***واتفر منك خيفه واتصير في زلزاله

ويجيك شمر الطاغي او يوطى ابنعله صدرك*** ويسل سيفه ابغيه ويمكنه في نحرك

ويحز رأسك منك ويصير آخر عمرك*** او ينشال راسك بالرمح واسنان اله شياله

ص: 460

الجلسة السابعة عشر

اشارة

افتدى خير النبين على*** سقمه ما بارح القوم أذاه

ما أطاعوا أمره مانفذوا*** جیشه ما قبلوا رشداً راه

إذ رأى أن يكتب العهد الذي*** لوله خط لما ضلوا وتاهوا

ومن الله له اختار اللقا*** ودعاه راغباً لبى نداه

فقضى والقلب مملوء شجي*** وعلى عترته طال شجاه

بأبي أكرم مفقود شجا*** كل شيء فقده جل الإله

بأبي من أصبح الكون على*** فقده ليلاً فقد كان ذكاه

بأبي من من فقده، لم يبق من*** مسلم إلا ويتم قد عراه

بأبي أكرم ثاو قد ثوى ***في ضريح طاول العرش علاه

وخلا مهبط وحي الله من ***خير من أوحي إليه واجتباه

فبكى حزناً عليه وعلى*** فقده ما كان يوحي من سماه

وغدا منبره مستوحشاً*** أعقبت ظلمة راقيه ضياه

وغدا المحراب يبكي إذ خلا*** من مناجاة بها يحيي دجاه

نعم بكت عليه أهل الأرض قاطبة وحنت إليه الجمادات، وغدا المنبر مستوحشاً بعد رحيله، ومحرابه (صلی الله علیه وآله وسلم)خال من المناجاة التي كان يحيي بها ليله، وضربت السيدة الجليلة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام عصابة على رأسها وهي عصابة التصبر على تلك المصيبة التي لا يوجد مثلها مصيبة

ص: 461

ممتثلة ما أوصاها به أبوها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)في وصيته إليها حيث قال لها : أي بنية تصبري على فقدي وعلى كل ما يجري عليك من أذى الناس وسلمي أمرك إلى مولاك واعلمي أنك أول أهل بيتي لحوقاً بي ولسان حاله يقول:

للضيم شدي يا بتوله اعصابة الرأس*** واتصبري اعلى لي يصيبك من أذى الناس

صبري على حكم القضا يا زينة الحور*** و آيش عاد لو عشت ولا حصلت اسرور

ادري يزهرا تواجهيني ابضلع مكسور*** ومن الهضم والضيم ما تبقى لك انفاس

كلما يزهرا اتواجهينه من أذية ***أمرك إلى الله فوضي يا هاشمية

او بعدي قليل ايام واتعودي عليه*** واهناك سعد الملتقي في عز أو ناموس

یا ما مصائب ما لها عدّ ولا حساب***ومن بعد عيني لا تقولي عندي أصحاب

دارك يحرقوها وفيها داحي الباب *** جالس على افراشه وينظر هجمة الناس

قالت وحيدر ينظر بعينه ولا ياثور*** نادى يبنتي حيدر الكرار مأمور

يصبر على هالضيم لا ينهض ولا يثور*** كلما اعيونه اتشوف عنها اينكس الراس

سبع الحرايبها الذي في الحرب مهيوب*** غلاب كل غالب يذل وايصير مغلوب

ص: 462

بين الخلايق تنظرينه ابحبل مسحوب*** مكشوف رأسه وصايرا عجوبه الى الناس

وكاس الهضم بعدي يزهرا تشربينه ***واتقاسين امرار المصائب في المدينة

بس تختلي داري وشخصي في الثرى ايغيب ***اتشوف المدينة ممتلية منكر وعيب

يا ما مصائب من عظمها اتشقي الجيب ***الله يعينك والوصي الله یعينه

يصعد الخائن منبري والناس حوله***عاطين طاعة للذي فيهم يقوله

كلما يأمر من مناكر يسمعوا له*** وبالباب ضلعك يا بتوله يكسرونه

قالت او حيدر وين غايب عن هالافعال*** ما يحمى ام حسين عنها ايرد لنذال

نادى القضاء ايخليه يمشي بحلقه احبال ***اشباه المراعي الاسد صاغر ياخذونه

هاللي قتل مرحب وزلزل حصن خيبر*** والجيش سوى له جسر زنده وعبر

من وسط دارك تنظرينه ابحبل ينجر*** مكشوف راسه وبالدمع تجري اعيونه

نعم، لقد أخرج القوم علياً عليه الصلاة والسلام من داره قسراً في حالة يرثا لها مكشوف الرأس وفي عنقه الحبال وهو ينادي ابن عمه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قائلاً: «يا

ص: 463

ابن أمي إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني»(1) وكما فعل القوم ذلك مع أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام فقد فعل أبناء القوم أكثر من ذلك مع الامام الحسن وأخيه الامام الحسين عليهما الصلاة والسلام فإنهم قد أخرجوا الامام الحسن عليه الصلاة والسلام من مدينة جده رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بما أضمروه له من العداء وما فعلوه من الخيانة حتى أسلموه بعد ذلك إلى عدوه الخبيث بن الخييث معاوية بن أبي سفيان لعنه الله تعالى وأجبره على مصالحته وأما سيد الشهداء الامام الحسين عليه الصلاة والسلام فقد أخرجوه من حرم جده قهراً .

يقول سيدنا محسن الأمين رضوان الله تعالى عليه : لما مات معاوية عليه لعنة الله وذلك في النصف من رجب سنة ستين من الهجرة وتخلف بعده نفله يزيد كتب الى ابن عمه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وكان والياً على المدينة يأمره بأخذ البيعة على أهلها وخاصة على الحسين(عليه السلام) ولا يرخص له في التأخر عن ذلك ويقول : فإن أبي عليك فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه فأحضر الوليد مروان بن الحكم لعنه الله تعالى واستشاره في أمر الحسين عليه الصلاة والسلام فقال : إنه لا يقبل ولو كنت مكانك لضربت عنقه .

فقال الوليد : ليتني لم أك شيئاً مذكوراً، ثم بعث إلى الامام الحسين عليه الصلاة والسلام في الليل فاستدعاه فعرف الامام الحسين عليه الصلاة والسلام الذي أراد فدعا بجماعة من أهل بيته ومواليه وكانوا ثلاثين رجلاً وأمرهم عليه الصلاة والسلام بحمل السلاح و قال (عليه السلام) لهم : إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ولست آمن أن يكلفني فيه أمر لا أجيبه إليه وهو غير مأمون فكونوا معي فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه عنّي، فصار الحسين عليه الصلاة والسلام إلى الوليد فوجد عنده مروان بن الحكم لعنة الله لعنة الله فنعى إليه الوليد موت معاويه لعنه الله تعالى فاسترجع الامام الحسين عليه الصلاة والسلام،

ص: 464


1- اقتباس من الآية 150 من سورة الأعراف.

ثم قرأ الوليد عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه ليزيد لعنه الله تعالى.

فقال الحسين عليه الصلاة والسلام: إني أراك لا تقنع ببيعتي سراً حتى أبايعه جهراً فيعرف ذلك الناس ؟ فقال له الوليد : أجل .

فقال الامام الحسين عليه الصلاة والسلام: تصبح وترى رأيك في ذلك.

فقال له الوليد : انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس.

فقال له مروان لعنة الله : والله لئن فارقك الحسين عليه الصلاة والسلام الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ولكن احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه .

فوثب الحسين عليه الصلاة والسلام عند ذلك ثم قال(عليه السلام) : ويلي عليك يابن الزرقاء أنت تأمر بضرب عنقي ، كذبت والله ولؤمت، ثم أقبل على الوليد فقال : ايها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم،ویزید لعنه الله تعالى رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة ، ثم خرج ومعه مواليه وهو يتهادى بينهم ويتمثل بقول يزيد بن المفرغ الشاعر المشهور :

لا ذعرت السوام في فلق الصبح*** مغيراً ولا دعيت يزيداً

يوم اعطي مخافة الموت ضيماً*** والمنايا يرصدنني ان أحيدا

حتى أتى منزله ، فقال مروان لعنه الله تعالى للوليد : عصيتني .

فقال : ويحك إنك أشرت على بذهاب ديني ودنياي والله ما أحب أن أملك الدنيا بأسرها وإني قتلت حسيناً ، والله ما أظن أحداً يلقي الله بدم الحسين(عليه السلام) إلا وهو خفيف الميزان لا ينظر الله إليه يوم القيامه ولا يزكيه .

قال الحكيم والفيلسوف العارف والأديب الماهر شاعر آل محمد وهو يصف هلاك معاوية وكيف ان الله تعالى قد أمر شياطين جهنّم باستقبال روحه القذرة وكيف

ص: 465

جعل خنزيره يزيد خليفة على المسلمين، ورؤيا يزيد لعنه الله تعالى وكتابه إلى الوليد يطلب فيه البيعة من الحسين عليه الصلاة والسلام وردّ الامام الحسين عليه الصلاة والسلام على الوليد بما ملخصه : «ومثلي لا يبايع مثله».

قال الفرطوسي رضوان الله تعالى عليه :

قد تداعى ركن من الجور عال***فتداعى للشرك شر بناء

وانطوت صفحة من الإثم أبقت*** خزيها بعدها ليوم البقاء

وتلاشى حكم من الغي باغ*** وتوارى عهد من الافتراء

وأتى ربّه ينوء من الوزر*** بعبء من أثقل الأعباء

فاستغاثت جهنّم من وقود*** شبّ فيها لشدّة الاصطلاء

وأعدت له السلاسل حتى*** ضج من حرّها مقر الشقاء

وأقيمت له الموائد فيها*** حين صفّت على صعيد البلاء

وكؤوس الحميم شرّ شراب*** وطعام الزقوم شرّ غذاء

و تنادى فيها الشياطين بشراً*** بشقيّ من أعظم الأشقياء

قد تعالى الطاغوت والجبت فيه ***ورجال التابوت بالخيلاء

وتبنّى الترحيب فرعون فيه*** مع هامان في أتم احتفاء

وأقاموا حفلاً يغص احتشادا*** بعتاة الإلحاد والكبرياء

حين وافى إلى الحجيم ابن هند*** و تراءى خليفة الطلقاء

بعد عهد قد ضجت الأرض ممّا*** كان من جوره ضجيج السماء

اكتفى في صفين فيما جناه*** من ألوف القتلى وسفك الدماء

والضحايا أمثال عمّار فيها*** وسواه من خيرة النظراء

واغتصاب العهد الإلهى ظلماً*** هو حق لسيّد الأوصياء

مع قتل الأبرار (حجراً وعمراً)*** وساهم من صفوة الأولياء

وبدس السم الذعاف ضلالاً*** واغتيالاً لسيد الأزكياء

ص: 466

وسواها من الفظائع ممّا*** قد جناه في البدء والإنتهاء

من شرور حتى أقام يزيداً***خلفاً بعده على الحتفاء

وأتى نعيه لحوران يسعى*** ويزيد فيها حليف البغاء

فأتى الشام وارتقى حين وافي ***لثرى الشام منبر الخطباء

بعد دفن الضحاك فيها ابن صخر*** حین واراه في صعيد الوباء

قال قد مات والدي وتوارى*** بین مثواه من ثرى الحصباء

وهو يعطي ثلثاً لكم بعد ثلث*** حين يعطيكم رسوم العطاء

وأنا أدفع العطاء جميعاً*** لكم دفعة بكل سخاء

وهو يغزو في البر والبحر فيكم*** خارج الشام من فناً لفناء

وأنا هاهنا احتفاظاً عليكم*** سوف أبقيكم بدون غناء

غير أني أظنّ حرباً ستعرو*** مع أهل العراق دون تنائي

حيث أني أبصرت في النوم نهراً*** مستطيلاً يجري بحمر الدماء

قد أردت اجتيازه في عبور*** فتعصّى عليّ بعد العياء

وتسنّى العبور لابن زياد*** فيه فاجتازه وطرفي رائي

فأجابوه إننا لك جند*** سوف نغدو في الحرب خير فداء

فأفاض الأموال فيهم سيولاً*** وحباهم منها بأسنى حباء

وأتى للوليد شرّ كتاب*** من يزيد مبطن بالعداء

یطلب البيعة الخبيثة فيه*** من أهالي المدينة الصلحاء

وخصوصاً من الحسين ورهط*** عظماء من أسرة الخلفاء

فاستشار الوليد مروان فيما*** قد أتاه في أصوب الآراء

قال أرسل إليهم وخذ البيعة*** منهم ليلاً بظل الخفاء

والذي قطّ لم يبايعك فاقطع ***رأسه بالحسام بعد الإباء

وأتى للحسين منه رسول*** وهو في البيت لاهج بالثناء

ص: 467

فأتى بيته وأحضر جمعاً ***من بنيه وآله النجباء

قال إنّ الوليد ليلاً دعاني*** وأنا في مخافة واختشاء

حذراً أن يريد مني أمراً*** لست أعنو له بوقت الدعاء

فلتكونوا أنتم على الباب منه*** وامنعوه عنّي بوقت النداء

وأتى داره فرحب فيه*** ودعاه لبيعة الأدعياء

قال إني أظن أنك تهوى ***علنا بیعتی مع الشهداء

وسيبدو غداً ونأتيك فيمن*** لك يأتي من سائر الحنفاء

قال فاذهب مودعاً بسلام ***وأمان يا خيرة الأمناء

قال مروان لا يفوتك فامسكه*** وخذها قهراً بغير ارتضاء

وإذا الشخص لم يبايع إباء*** وامتناعاً فاقتله دون رخاء

قال ردعاً أأنت أم هو يمسي*** قاتلي يا سلالة الزرقاء

ثمّ بعد ذلك قال الامام عليه الصلاة والسلام: «ومثلي لا يبايع مثله».

أيّ هذا الأمير إن يزيداً*** فاسق فاجر بغير حياء

قاتل النفس شارب الخمر جهراً*** معلن بالفجور دون ارعواء

وهو دوني ولا يبايع مثلي*** مثله في خساسة وازدراء

ولقد قال في الخلافة جدّي*** إنّها حُرّمت على الطلقاء

غير أنا في الأمر ننظر طرّاً*** حين نغدو وبحكمة وبلاء

فنرى أينا أحق وأولى*** بيعة في خلافة الخلفاء

وعلا صوته فوافي إليه*** من مواليه خيرة الأولياء

أخرجوه قهراً عليهم وكرهاً*** بعد حفظ له من الإيذاء

نعم، لقد أخرجه إخوته وأولاده ومواليه من دار الوليد قهراً وهم شاكون في السلاح وهو

(عليه السلام)بينهم كالقمر ما بين النجوم يقدمهم أبو الفضل العباس بن علي قمر بني هاشم عليه الصلاة والسلام وهو كالأسد الغضبان حتى أتوا بسيدنا وسيّدهم

ص: 468

الامام الحسين عليه الصلاة والسلام إلى منزله مكرماً لم يصبه سوء من خنازير بني أمية لعنهم الله تعالى يقول العالم الجليل والمهذب النبيل والأديب الفاضل خادم و شاعر آل محمد الله عليهم الصلاة والسلام الحاج ملا عطية الجمري قدس الله نفسه الزكية وهو يصف الحالة التي كان عليها بني هاشم عندما هجموا على دار الوليد وأخرجوا الامام عليه الصلاة والسلام قهراً من دار الوليد:

هجت اليوث الحرايب والشعورا منشره*** والسيوف على الكتا اتلوح كلها مشهره

اوبو الفضل جدامهم والغضب لاح ابغرته*** ايصيح لحد والدي الكرار وانا ضنوته

زبد وارعد وانذهل مروان بس من لحظته ***او صاح انا عبدك يخويه والاردان امشمره

عبدك او بمرك يبو السجاد امرني اشتريد*** والله لو تامر لطب الشام وخبصها وزيد

حيدر الكرار ابونا ما يذللنا يزيد*** واحنا معروفين كلنا اسباع عند الزمجره

او حورب ابن الحنفية او نشر راسه على الكتاف**او صاح كلنا الشبال حيدر ما نزل او

لا نخاف

او من بريج السيف بيديه الوليد الموت شاف***او حفت ابدر المجد ذيك النجوم المزهره

ما حلاهم يوم صفوا حول عزهم ينتخون***لو لهم حصلت الرخصة يعلم الله اشيفعلون

كلهم احيود او ضياغم على الهظم ما يصبرون***نكسوا روس الاعادي او طلعوا ليوث الشرى

ص: 469

نعم، هكذا فعل بنو هاشم مع الوليد فخلصوا الامام الحسين عليه الصلاة والسلام من ،داره ولكن أين كان بنو هاشم عن سيّدنا وسيّدهم الحسين عليه الصلاة والسلام يوم عاشوراء حين بقي وحيداً فريداً بين القوم الظالمين لعنهم الله تعالى وهو(عليه السلام) لا ناصر له ولا معين (بلي) كانوا مطرحين على الرمضاء مرملين بالدماء مقطعة أعضاؤهم مبدّدة أو صالهم قد هشم القوم الكافرين لعنهم الله تعالى منهم الروس والصدور، فيحق لبني هاشم أن لا يهدأ لهم بال ولا يستقر لهم حال ولا يغمض لهم جفن من أجل تلك المصائب والمحن التي نزلت بساحة الحسين وأهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام.

ولذا تجد السيد النجيب والأديب الحبيب السيد حيدر الحلي رضوان الله تعالى عليه يخاطبهم معاتباً لهم مرة ومرة أخرى يستنهضم ومرة ثالثة يطلب منهم أن يردوا الجفون على القذا بقوله:

لتلو لويّ الجيد ناكسة الطرف*** فهاشمُها بالطف مهشومة الأنف

وفي الأرض فلتنثل كنانة نبلها*** فلم يبق سهم في وفاضهم يشفى

ويا مضر الحمراء لا تنشري اللوا*** فإنّ لواك اليوم أجدر باللف

ويا غالباً ردي الجفون على القذا*** لمن أنتِ بعد اليوم ممدودة الطرف

لتنض نزار الشوس نثرة زغفها*** فبعد أبي الضيم ما هی للزغف

بنى البيض أحساباً كراماً وأوجهاً*** وساماً وأسيافاً هي البرق في الخطف

ألستم إذا عن ساقها الحرب شمرت*** وعن نابها قد قلّصت شفة الحتف

سحبتم إليها ذيل كلّ مفاضة ***تردّ الضبا بالثلم والسمر بالقصف

فكيف رضيتم من حرارة وترها*** بماء الطلا منكم ضبا القوم تستشفي

ألم يأتكم أن الحسين تنازعت*** حشاه القنا حتى ثوى بثرى الطف

بشمّ أنوفٍ أكرهوا السمر فانتنت ***تكسَرُ غيضاً وهي راعفة الانف

آبا حسن أبناؤك اليوم حلقت *** بقادمة الأسياف عن خطة الخسف

ص: 470

ثنت عطفها نحو المنيّة إذ أبت*** بأن تغتدي للذلّ مثنية العطف ل

لقد حشدت حشد العطاش على الردى*** عطاشاً وما بلّت حشاً بسوى اللهف

ثوت حيث لم تذمم لها الحرب موقفاً*** ولا قبضت بالرعب منها على كفّ

سل الطف عنهم أين بالأمس طنّبوا*** وأين استقلوا اليوم عن عرصة الطفّ

وهل زحفُ هذا اليوم أبقى لحیهم*** عميد وغى يستنهض الحي للزحف

فلا وأبيك الخير لم يبق منهم*** قريع وغيَّ يُقري القنا مهج الصف

مشوا تحت ظلّ المرهفات جميعهم*** بأفئدة حرّى إلى مورد الحتف

فتلك على الرمضاء صرعى جُسومهم*** ونسوتُهم هاتيك أسرى على العجف

مضوا بالأنوف الشمّ قدماًوبعدهم*** تخال نزاراً تنشق النقع في أنف

وهل يملك الموتور قائم سيفه*** ليدفع عنه الضيم وهو بلا كف

خذي يا قلوب الطالبين قرحةً*** تزول الليالي وهي دامية القرف

فإنّ التي لم تبرح الخدر أبرزت ***عشيّة لاكهف فتأوى إلى كهف

لقد رفعت عنها يد القوم سجفها*** وكان صفيح الهند حاشية السجف

وقد كان من فرط الخفارة صوتها*** يغضّ، فغضّ اليوم من شدّة الضعف

وهاتفةٍ ناحت على فقد إلفها*** كما هتفت في الدوح فاقدة الإلف

لقد فزعت من هجمة القوم وُلّها*** إلى ابن أبيها وهو فوق الثرى مخفِ

فنادت عليه حين ألفته عارياً*** على جسمه تسفى صبا الريح ما تسفي

حملت الرزايا قبل يومك كلّها*** فما أنقضت ظهري ولا أوهنت كتفي

ولا ويت من دهري جميع صروفه*** فلم يُلو صبري قبل فقدك في صرفي

ثكلتك حين استعضل الخطب واحداً*** أرى كلّ عضومنك يغني عن الألف

بودّي لو أنّ الردى كان مرقدي*** ولا ابن أبي نبهت من رقدة الحتف

ويالوعةً لو ضمني اللحد قبلها*** ولم أبد بين القوم خاشعة الطرفِ (1).

ص: 471


1- ديوان السيد حيدر الحلي : 95 - 97 .

جاء في السيرة :انّ السيدة الجليلة زينب الحوراء عليها أفضل الصلاة والسلام لما كان يوم عاشوراء وبعد أن قتل الامام الحسين عليه الصلاة والسلام جاءت إليه فأكبّت عليه وقالت له : أخي يا حسين ثلاثاً قلم يرد عليها جواباً، ثم قالت له : أنت حمانا ، أنت رجانا ، أنت ابن محمد المصطفى، أنت ابن علي المرتضى، يا أخاه كلمني بحق جدك رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، وهو لا يستطيع ردّ الجواب لكثرة الضرب والطعن الذي في جسمه الشريف ولكن أشار إليها بكلام خفيّ وقال لها :يا أختاه بالله عليك أن تسكتين ولاتعولين فقد ازددت كرباً على كربي، ولكنّ زينب(عليها السلام) لم يمكنها الصمت والسكوت وهي تراه على تلك الحالة فنادت : يا جداه يا محمداه صلّى عليك مليك السماء هذا حسين بالعراء قد غسل بالدماء قتله أولاد البغايا والأدعياء وا أخاه ليت الموت أعدمني لحياة قبل هذا اليوم ولم أرك خضيباً بالدماء صريعاً على الرمضاء وليت السماء أطبقت على الأرض وليت الجبال تدكدكت على السهل يابن مكة ومنى يا بن زمزم والصفاء، يابن محمد المصطفى، ثم قالت (عليه السلام): فإلى الله المشتكى وإلى محمد المصطفى، واطول حزناه واکر بتاه واغربتاه اليوم مات جدي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، اليوم مات أبي على المرتضى اليوم ماتت أمي فاطمة الزهراء(عليها السلام)بأبي القتيل المغسل بالدماء بأبي محزوز الرأس من القفا، بأبي مسلوب العمامة والردا بأبي العطشان حتى قضى بأبي المهموم حتى مضى، بأبي من لاهو غائب فيرتجى ولا هو جريح فيداوى، بأبي ابن محمد المصطفى، بأبي ابن علي المرتضى بأبي ابن فاطمة الزهراء، بأبي الصريع في كربلا ، بأبي الذبيح على شاطىء الفرات، بأبي الظمآن ، بأبي السليب العريان.

قال من حضر ذلك الموقف : فأبكت زينب(عليها السلام) بهذا الكلام وهذا الندب كلّ من سمعها حتى الأعداء، فكانت دموع ابن سعد لعنه الله تنحدر على لحيته المشؤومة ، فقالت له زينب(عليها السلام): ويحك يابن سعد : ويحك يابن سعد أيقتل أبو عبد الله الحسين(عليه السلام)وأنت تنظر إليه .

ص: 472

نعم، هكذا بقي أبو عبدالله الحسين عليه الصلاة والسلام على بوغاء كربلاء ثلاثة أيام بلا تغسيل ولا تكفين ومع ذلك وفي آخر لحظة من لحظات حياته المباركة كان يوصي أخته الحوراء زينب عليها الصلاة والسلام بالصبر والتجلد وأن تبلغ عنه إلى شيعته ومريديه وأهل بيته السلام وأن لا يتركوا النياحة والبكاء عليه :

مهجة الزهرى على الغبرى ايطوح ونته*** اتصدع الجملد وصايا اللي بداها الشيعته

شيعتي نصبوا المأتم والعزى لمصيبتي*** واذكروا تعفير خدي بالتراب او ذبحتي

ولو شربتوا لماي ذكروني العطش فت مهجتي**واقصدوني الكربلاء والكل يسكب عبرته

لو تشوفوني يشيعه اعلى الثرا مرمي طريح*** خدي موسد ترايب والدما مني تسيح

كم عضيد وكم ولد ليه قضى قبلي ذبيح ***واحد ايضل بالشريعة اواحد ارفع جثته

شيعتي واللي قطع ظهري ونحل مني القوى***وحدتي من وقع يم النهر شيال اللوى

وصلت يمه ولقيته ادموعه او مخه سوی*** ولكفوف امقطعه ايذوب القلب من شوفته

شيعتي وابن الحسن جسام عريس او شباب**صارت العركة عروسه ودمه السافح اخضاب

والنثار النبل وافراش الولد حر التراب***وبين كوفي او بين خطي وبين هندي زفته

ص: 473

شيعتي وابني على لكبر نحل مني الجسد***بس شبح بالعين ليه اعلى الشرا راح الجلد

بدر کامل ماجرى عند الخلق مثله ولد*** يجذب الونه او يعالج نور عينه ارويحته

شيعتي او لازم يوصلكم خبر عني او علم***طفلي عبدالله على صدري انفر انحر ابسهم

شفته او قلبي تفطر واستهل دمعي ابدم*** شبح لي ابعينه وجذب ونه او مالت رقبته

شيعتي كثر البكا حقي عليكم والنحيب*** شفتوا مثلي بالخلق مذبوح عطشان اوغریب

ولكفن سافي يشيعه وبالدماء شيبي خضيب ***والحراير نصب عيني من خدرها امشتته

شيعتي مهما شربتم عذب ماء فاذكروني*** أو سمعتم بقتيل أو ذبيح فاندبوني

فأنا السبط الذي من غير جرم قتلوني*** ليتكم عندي جميعاً يوم عاشوراء تروني

جئت أستسقى لطفلي فأبوا أن يرحموني*** وبجرد الخيل ظلماً بعد قتلي سحوني

خبر لهل المروة من يشيعه*** جنازة حسين مرمى من يشيعه

فدى بروحه وعزوته الكم يشيعه*** فرض واجب تنصبوا له عزيه

أفدي الذي رزؤه ابكى السما دماً*** وزعزع الدين والأركان والحرما

يا من بخيل الأعادي صدره حطما*** أيّ المحاجر لا تبكي عليك دماً

أبكيت والله حتى محجر الحجر

ص: 474

رزو تكاد السّما تهوى لمصرعه ***وجبرئيل شجاً يذرى لأدمعه

والبدر كوّر لم يظهر بمطلعه*** وإن بكى القمر الأعلى لمصرعه

فما بكى قمر إلا على قمر

قال الله تعالى في كتابه المجيد﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ هذه الآية المباركة تأمر النبي الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)أن يظهر أمر الدعوة الاسلامية المباركة وأنه لا حاجة إلى التكتم في أمرها بعد أن مكنه الله تعالى من إجتياز العقبات التي قد واجهته في بداية الأمر حيث اضطر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من أن يباشر أمر الدعوة بصورة التكتم والتستر .

ومن هنا ينبغي أن نعرف بأن الدعوة في حياة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)منذ بعثته إلى وفاته كانت على ثلاث مراحل نتحدّث في هذه الجلسة المباركة ولو بالاشارة إليها

فیما یلی:

المرحلة الأولى : كانت دعوة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) سراً لا يفاتح بها إلا من على الظن انه سيسمع لها أو يؤمن بها.

وتبدأ هذه المرحلة بنزول الوحي على النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)في غار حراء. قال ابن هشام: «وكان يدعوهم إلى ذلك سراً وحذراً من وقع المفاجأة على قريش التي كانت متعصبة لشركها ووثنيتها فلم يكن(صلی الله علیه وآله وسلم)يظهر الدعوة في المجالس العمومية لقريش، ولم يكن يدعو إلا من كانت تشده إليه صلة قرابة أو معرفة سابقة ، وكان هؤلاء يلتقون بالنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)سراً وكان أحدهم إذا أراد ممارسة عبادة من العبادات ذهب إلى شعاب مكة يستخفي فيها عن أنظار قريش».

وفي هذه المرحلة شكل رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)نواة الدعوة الأولى لتحمّل مسؤولية الدعوة، ولتمارسها بخفاء وحذرٍ«ولما أربي الذين دخلوا في الإسلام على الثلاثين ما بين رجل وامرأة، اختار لهم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)دار أحدهم، وهو الأرقم بن أبي الأرقم ليلتقي بهم فيها لحاجات الإرشاد والتعليم وكانت حصيلة الدعوة في هذه

ص: 475

الفترة ما يقارب أربعين رجلاً وامرأة دخلوا الإسلام عامتهم من الفقراء والأرقاء، وممن لا شأن لهم بين قريش».

ولا ريب أن تكتم النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) في دعوته إلى الاسلام خلال هذه السنوات الأولى، لم يكن بسبب الخوف على نفسه، بل خوفاً على مستقبل الدعوة من أي نشاط ارهابي يقضى عليها وهي لما تكتمل بعد ولم تترسخ لكي تصمد أمام أي معارضة أو مواجهة سافرة، قد يتهددها بالفناء.

والعمل السري الذي اتبعه الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) في دعوته أراد به ضمان أمرين :

1- عدم تعريض الطليعة المؤمنة، لأي عمل إرهابي يشل الحركة ويفكك ارتباطها ، ومن ثم يدفعها إلى التشرذم والضياع.

2 - توفير العدد الكافي من المؤمنين بالرسالة لكي تتحمل مسؤولياتها في التغير الإسلامي بجدارة وايمان.

ولما ازداد نشاط المسلمين وتكاثر عددهم أصبح من الصعب ستر أعمالهم وتجمعهم وصلاتهم، وإن تم ذلك في الشعاب والوديان وعلمت قريش بوجود الدعوة، وحسبت للأمر حسابه وحاولت جاهدة أن تستطلع الأمر، وتحصل على تفصيلات أكثر حول اتباع الدين الجديد فأرسلت عيونها يراقبون المسلمين عند حلهم وترحالهم ويتتبعون أخبارهم وفي ذات يوم بينما كان سعد بن أبي وقاص(1)في نفر من المشركين وهم يصلّون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى ،قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذٍ رجلاً من من المشركين بلحى بعير فشجه فكان أول دم أهريق في الاسلام. هذه الحادثة الخطيرة لم تفزع الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)بل اعتبر انكشاف الدعوة جزئياً أمراً طبيعياً ، بعد أن فشا أمر الدين الجديد في مكة ،

ص: 476


1- سعد بن أبي وقاص ولده عمر قاتل الامام الحسين عليه الصلاة والسلام وعليه لا خير فيه وان كان هو حارساً أدخل الاسلام كما يقال، كما لأن الله تعالى يقول :﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ .

وبلغ حداً الانتشار، بحيث لا يمكن معه الكتمان التام فقد آن الأوان للجهر بالدعوة وإظهار الدين، وكانت إيذاناً بتحوّل الدعوة إلى طور جديد من أطوار العمل، بعد أن اطمئن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)إلى تكامل العناصر الضرورية لهذه المرحلة، إذ بلغ عدد المسلمين وفهمهم للإسلام حداً مناسباً وأصبحوا من القوة، بحيث لا يمكن القضاء عليهم - مع ملاحظة بقية الظروف الاجتماعية كحمايته(صلی الله علیه وآله وسلم)من قبل عمه أبي طالب الا الله ، وإيمان جماعة يعتز بهم الإسلام كعمه حمزة بن عبد المطلب عليه الصلاة والسلام.

«كما أن العنصر الثاني من عناصر الدعوة في هذه المرحلة كاد أن يتكامل، وهو تطلع الأمة إليها وقبول كثير ممن عرضت عليهم الدعوة».

واستمرت هذه المرحلة ثلاث سنوات، وإلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه بقوله تعالى : ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ الآية الكريمة التي عطرنا بذكرها جلستنا هذه وبقوله تعالى أيضاً ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ﴾ .

المرحلة الثانية وفي هذه المرحلة استجاب الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)لقوله تعالى : ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾وبدأ بتنفيذ أمر ربه، حيث دعاء جميع ذويه وأهل قرابته وعشيرته - دعاهم فيها للإسلام، وأبلغهم رسالة الله تعالى : فقال له : «يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس : أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف : أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة : أنقذي نفسك من النار ، فإنّي لا أملك لكم من الله شيئاً غير ان لكم رحماً سأبلها ببلاها أي وصعد الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)على الصفا فجعل ينادي : يا بني فهر، يا بني عدي حتى اجتمعوا فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولاً لينظر : ما هو ؟

فقال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم): أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم

ص: 477

أكنتم مصدقي ؟

قالوا : ما جربنا عليك كذباً قال : فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزل قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ وكان ردّ الفعل من قريش أمام جهره بالدعوة أن أدبروا عنه وتنكّروا لدعوته، حتى تحمّل المسلمون من أجلها صنوف الاضطهاد والتعذيب وقاسوا من الأذى ما عبّد لهم طريق النصر، ليحققوا رضا الله تعالى، ويسقوا العقيدة بالدماء، حتى قال : الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم): ما أوذي نبي مثلما أوذيت ومن ذلك ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال : «بينما النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبوبكر حتى بمنكبه ، ودفعه عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وقال : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله» ؟

ومنه ما رواه الطبري وابن إسحاق أن بعضهم عمد الى قبضة من التراب، فنثرها على رأسه وهو يسير في بعض سكك مكة وعاد إلى البيت والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يقول لها : يا بنية ، لا تبكي فإن الله مانع أباك وأما أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، فقدتجرّع كلّ منهم ألواناً من العذاب، ويروى عن خباب بن الأرت أنّه قال : أتيت النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) بعد أن لقى من المشركين شدّة ، فقلت : يا رسول الله ، ألا تدعو الله لنا ؟

فقعد (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو محمر الوجه ، فقال (صلی الله علیه وآله وسلم): لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرف يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمنّ الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله».

وعند ما شعر النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)أن دعوته وصلت إلى حالة ركود وانكماش في مكة، وتوقفت تقريباً حركة الإنضمام الجماعي والمستمر للدعوة، بعد أن وصل الإرهاب والتعذيب ،قمته، ورأى أن حالة الركود هذه تحمل تهديداً مباشراً بانحسار الدعوة

وتوقف مدها وبالتالي نهايتها ... كل هذه الاعتبارات جعلته(صلی الله علیه وآله وسلم) ينتقل بدعوته إلى

ص: 478

الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ، ويرجو أن يقبلوا منه ما جاءهم به من عند الله تعالى، ليكسب بهم أعواناً جدداً لرسالته المباركة يهيؤون القاعدة الجديدة ومركز انطلاقتها، بعد أن وجد(صلی الله علیه وآله وسلم) أن مكة لا تصلح أن تكون قاعدة لعمله الرسالي وخصوصاً بعد ما أثمرت عمليات التعذيب والإرهاب في تركيد وتوقف حركة المد التي حدثت قبل ذلك .

ولما انتهى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)إلى الطائف ، أراد أن يكسب إليه الزعامات المتنفّذة فيها لأهميتها وكثرة أتباعها ، فعمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ ساداته فجلس إليهم ودعاهم إلى الله ...فردوا عليه ردّاً منكراً، وفاجأوه بما لم يكن يتوقع من الغلظة وسمج القول - فقام رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من عندهم وهو يرجوهم أن يكتموا خبر مقدمه إليهم عن قريش فلم يجيبوه إلى ذلك أيضاً . ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به، وجعلوا يرمونه بالحجارة، حتى أن قدمي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) لتدميان، وقد شُج في رأسه الشريف عدة شجاج، فشكا أمره إلى الله تعالى، وقد رفع رأسه يدعو بهذا الدعاء«اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ،وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتهجمني أم إلى عدوّ وملكته أمري ؟إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحلّ عليَّ سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك».

ثم عاد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ومعه زيد بن حارثة يريد دخول مكة ، فقال له زيد: كيف تدخل عليهم يا رسول الله وهم أخرجوك ؟

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم)يا زيد ، إنّ الله تعالى جاعل لما ترى فرحاً ومخرجاً وان الله تعالى ناصر دينه ومظهر نبيه، ثم أرسل رجلاً من خزاعة إلى مطعم بن عدي يخبره أنه

داخل مكة في جواره، فاستجاب مطعم لذلك وعاد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) إلى مكة .

ص: 479

وبعد عودة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)إلى مكة، أخذ يتدبّر تجربة الطائف الأليمة، وسوء العاملة التي لقيها منهم ،وعدم إنجاز هدفه من خلق قاعدة ارتكاز لدعوته في الطائف بدل مكة. ويبدو أن دراسة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)لتجربة الطائف وتقييمها وتحليل أسباب عدم نجاحها جاءت بالمعطيات العملية التالية :

1 - اكتشف الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)أن الطائف لا تصلح قاعدة ارتكاز لعمله، نظراً لعلاقتها وارتباطاتها الوثيقة بمكة كما أنها جغرافياً لا تبعد عنها إلا بحوالي (40) ميلاً مما يجعلها غير مأمونة من هجمات قريش ومباغتتها لقربها .

2 - عدم صلاحية تولي(صلی الله علیه وآله وسلم)عرض الدعوة بنفسه في وسط معادي، مما أدى إلى محاصرته وإحباط دعوته بالشعب عليه وعدم منحه فرصة الحديث وممارسة

تأثيره عليهم.

ومن هنا نرى أن الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)استأنف جهوده عند حلول موسم الحج متنقلاً بين وفودها حيث اجتمع بستة من أهل يثرب - المدينة - وأخذ يدعوهم لرسالته، فآمنوا به، وأقسموا أن يعملوا في سبيلها عند عودتهم إلى بلدهم. وفي نجاح النبي الله بإقناع هؤلاء تكمن أخطر تحولات العمل التنظيمي للرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)في تاريخ الاسلام. ولم يكن اجتماعه(صلی الله علیه وآله وسلم)بهؤلاء الستة عملاً عفوياً بل مقصوداً، حيث اجتمع بهم بشكل شبه سري وركز على عدد محدود ، لا كما فعل مع باقي الوفود حيث كان يدعوها علانية.

إن سريّة الإجتماع ، واختيار التوقيت موسم الحج تحمل دلالات كبيرة لا يمكن إغفالها ، وذلك بالمقارنة مع تجربة الطائف الأليمة ، الغنية بالدروس ... فقد غير الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)خطته بالنسبة لقاعدة الارتكاز ، فكانت يثرب - المدينة - موضع اختياره الجديد معتمداً على بعدها الجغرافي عن مكة حيث تبعد عنها أكثر من (250) ميلاً مما يجعلها بمأمن من هجمات قريش المتتالية والمفاجئة.

ولقد كانت يثرب مهيأة اجتماعياً لتكون قاعدة ارتكاز للدعوة، فإن طول

ص: 480

النزاع القبلي بين سكانها من الأوس والخزرج واليهود جعلها منطقة مفككة اجتماعياً، فكما أنها لا تستطيع أن تتماسك أمام رياح الإسلام فإنها كانت تتطلع إلى فكرة أو رجل تلتف حوله لينزع عنها إلى الأبد هذه العصبيات المستعصية وإلى جوار لك كله كان للنبي (صلی الله علیه وآله وسلم)في يثرب أخوال من بني النجار، ويثرب نفسها تدرك ذلك وتدرك أن الوالديه(صلی الله علیه وآله وسلم)قبراً فيها .

بالإضافة الى ذلك تعتبر يثرب غنية بإمكانياتها المادية ... وتسيطر على طريق تجارة مكة - الشام. وفي هذه المرة لم يذهب الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)بنفسه إلى يثرب كما فعل في الطائف - حيث التجربة الأليمة - بل تخلى عن أسلوب العمل المباشر ، واعتمد في نشر الدعوة وتعاليمها بواسطة أهل المدينة أنفسهم، فذلك أسلوب أكثر فائدة، وأسرع في تحقيق النتائج، لأنهم أقدر على معرفة بلدهم وظروفها وظروف أهلها،وهم بالتالي أكثر تأثيراً في أهلهم وأصحابهم ولن يستريب فيهم أحد.

واستهدف الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) بنشاط هؤلاء الستة، وما يكسبونه من أنصار، تهيئة الجوّ وخلق مناخ مؤيّد متعاطف مع الدعوة ومبادئها الجديدة.

وعندما حلّ موسم الحج الثاني التقى له الله مع اثني عشر رجلاً من اليثربيين، واجتمع بهم سراً في وادٍ ضيق بالعقبة وهي العقبة الأولى، أعلنوا فيها إيمانهم، وقبولهم في نشر الدعوة الإسلامية.

فلما أرادوا الانصراف بعث رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) معهم مصعب بن عمير وهو واحد من أكفأ الصحابة من مسلمي مكة، ليقوم بتعليم أهل يثرب الاسلام ويفقههم في الدين، وليجعل منهم قوة منظمة أكثر فاعلية ودقة في نشر الدين الجديد في صفوف

أهل المدينة.

ومصعب بن عمير كما هو معروف من أوائل من أسلموا في مكة ومعروف بوعيه للدين ومعاصرته لفترة الإرهاب والاضطهاد التي شنتها قريش والقوى الجاهلية على مسلمي مكة، وبالتالي فهو خبير بشتى أساليب العمل والتنظيم.

ص: 481

إن وجود مصعب بن عمير رضوان الله تعالى عليه على رأس هذه الجماعة ضمانة تنظيمية حتى لا يرتد هؤلاء المؤمنون الجدد عن إيمانهم وعن وعدهم بالعمل المثمر في نشر الإسلام ، خصوصاً وإن مرور عام كامل بين موسم وآخر كفيل بأن يوهن من عزيمتهم واندفاعهم، وهم لم يتلقوا التعاليم كاملة ويتفهموها بعمق ومعرفة تامة ليكونوا دعاة على مستوى عالٍ من الفهم والقدرة على الإقناع وعلى كسب الآخرين ... وانعدام الإرتباط المنظم يؤدي بالضرورة إلى تحلل أي جماعة وعدم انضباطها أو ترابطها وتشتت جهود أفرادها وفشلهم فيما بعد.

الهجرة والانتقال إلى قاعدة الارتكاز :

ثم إنّ مصعب بن عمير عاد إلى مكة في موسم العام التالي ومعه جمع كبير من مسلمي المدينة، خرجوا مستخفين مع حجاج قومهم المشركين... ويبدو أن مصعباً قبل حضوره إلى مكة، قد رتب اجتماعاً بين الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) وبين مسلمي يثرب بعد انتهاء موسم الحج، بعد أن حدثه عن أعماله ونشاطه وعما أحرزته الدعوة الاسلامية من نجاح، حيث ازداد عدد المسلمين وأصبح جوّ المدينة العام مؤيداً ومهيئا للرسول (صلی الله علیه وآله وسلم).

قال محمد بن إسحاق يروي عن كعب بن مالك : فواعدنا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)لها، نمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا ، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)تتسلل تسلّل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ومعنا امرأتان من رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا... قال : فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبدالمطلب، فتكلم القوم وقالوا :«خذ منا لنفسك ما أحبت فتكلم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فتلا القرآن ودعا إلى الله تعالى ورغب في الاسلام ، ثم قال(صلی الله علیه وآله وسلم): «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم وسألهم(صلی الله علیه وآله وسلم)هل هم هل هم مستعدون لحمايته ولنصرته في سبيل الدين وتحمل كافة التبعات المترتبة على ذلك.

ص: 482

ويقول ابن هشام :« وبايعهم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)في العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود، أخذ لنفسه واشترط على القوم لربّه وجعل لهم على الوفاء بذلك

الجنة ، ووافق الجمع وأقسموا على حمايته حتى النصر أو الموت».

قال عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بيعة الحرب على السمع والطاعة فی عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن

نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في لومة لائم . وكانت أول آية نزلت في الإذن بالحرب للرسول قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنّهم ظلموا وانّ الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلّا أن يقولوا ربنا الله .

المرحلة الثالثة : قدّر الله تعالى لرسوله الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)بعد كل هذه المحاولات أن يجد في حجاج يثرب غايته التي كان ينشدها فيهاجر(صلی الله علیه وآله وسلم) إلى يثرب بعد أن اشتد العذاب والبلاء بالمسلمين، وهناك أنشأ(صلی الله علیه وآله وسلم)أول دار إسلام إذ ذاك على وجه الأرض ،وقد كان ذلك إيذاناً بظهورالدولةالإسلامية بإشراف منشئها الأول الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم).

قال ابن سعد في طبقاته :« لما صدر السبعون عند رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) طابت نفسه ، فقد جعل الله له منعة وقوماً أهل حرب وعدة ،ونجدة ، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى . فشكا ذلك أصحاب رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) واستأذنوه في الهجرة، فقال(صلی الله علیه وآله وسلم):« قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها» فجعل القوم يتجهزون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك».

أما الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)فانطلق إلى الامام علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، فأمره أن يتخلف بعده بمكة ريثما يؤدي عن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) الودائع التي كانت عنده(صلی الله علیه وآله وسلم)للناس .ولما كانت عتمة تلك الليلة التي هاجر فيها النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)اجتمع المشركون على باب رسول الله الا الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يتربصون به ليقتلوه ، وخرج الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)من بينهم، وقد ألقى الله عليهم سنة

ص: 483

من النوم بعد أن ترك علياً في مكانه نائماً ، وطمأنه بأنه لن يصل إليه أي مكروه.

وبوصول النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)إلى يثرب، واستقراره فيها ، أقبل على إقامة مجتمع إسلامي راسخ متماسك، واستلم عل الله فيها زمام الحكم كأوّل قائد في هذا المجتمع الجديد بكل ما يرتبط بالحكم من شؤون السياسة والاقتصاد والإدارة والقضاء. وبعد أن تجذر الوجود الإسلامي في المدينة ، بادر(صلی الله علیه وآله وسلم) إلى مرحلة المواجهة والجهاد ليهاجم القوى الجاهلية المتمثلة بقريش، وليقضي على خطرها وتأثيرها على الدعوة الإسلامية.

ولقد كان الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)حاسماً في مواجهته للمشركين واليهود في هذه المرحلة .... فقد كانت مسألة الحكم صراعاً بين الإسلام والجاهلية، وكان لابد من القوة والعنف حينما كان الأمر يتطلب ذلك.

هذه آخر مرحلة من مراحل الدعوة ، وقد مرّ بنا من خلال الحديث ان الآية الكريمة تشير إلى المرحلة الثانية من تلك المراحل المذكورة.

قال الأديب الفرطوسى حاكياً لنا ظروف الدعوة الاسلامية المباركة ومخاطباً الرسول الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم)بقوله :

يا رسول الإسلام بوركت فيها*** دعوة بوركت بوحي السماء

قد رفعت الإسلام صرحاً منيعاً***بید منك للهدى بيضاء

وتحملت من جهادك عبئاً*** في ظروف محفوفة بالبلاء

دون وهن يعرو بقلبك ممّا*** كنت تلقاه من عظيم العناء

يوم كان الإسلام غرساً جديداً*** ناشئاً فوق تربة جدباء

وشعاعاً من الرشاد ضئيلاً*** بین أطباق ظلمة عشواء

ومعيناً نزراً بقلب خضم*** من أجاج يطغى على كلّ ماء

ونسيماً عذباً يرف فيطوى*** بین عصف الزوابع الهوجاء

وقوارير من زجاج رقيق*** ترتمي فوق صخرة صماء

ص: 484

ودعاة الفساد تهدم كفراً*** من دعاة الإصلاح كل بناء

وجميع الأصنام تعبد شركاً*** وضلالاً فيهم بغير اهتداء

والتقاليد تقتفى وهي عرف*** قبلي بأبعد الإقتفاء

واختلاف الأهواء يلعب دوراً*** في حياة تجري مع الأهواء

والزعامات وهي تضرى بعصر***ٍ جاهلي يغص بالزعماء

وهي تبغي تحكماً ونفوذاً*** فوضوياً في أنفس الضعفاء

والكهانات يقتدى في رواها*** كالقيافات في أتم اقتداء

وعداء اليهود للدين أقوى*** عامل مفسد وأعظم داء

يتبنى من الدسائس حشداً*** فاتكاً بالهدى بظل الخفاء

وقریش تقود جيش عقوق*** لابنها البر معلناً بالعداء

كل هذا عوامل تتلاقی*** بعد بعد ما بينها وتنائي

وجهود تظافرت بقواها*** وهي حرب لخاتم الأنبياء

وقال أيضاً في هجرة النبي الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)إلى المدينة وأسبابها، ومبيت عليّ عليه الصلاة والسلام على فراش الرسول ، وحديث كيفية دخول النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)في الغار، وكيفية دخوله إلى مدينة يثرب ما يلي:

يمكر الله بغتة بالأعادي***حينما يمكرون بالأولياء

آية أنزلت بمكر قريش***حین هموا بخاتم الأنبياء

يوم وافي إليه سبعون شخصاً*** من سراة الأنصار والزعماء

بايعوه(صلی الله علیه وآله وسلم)وآمنوا فيه صدقاً*** بعد إيمانهم بربّ السماء

وهم عاهدوه أن يمنعوه*** من أذى المعتدين والسفهاء

مثل ما يمنعون أغلى نفوس***وأهال لهم من الأعداء

حين من مكة ليثرب يأوي ***بعد عهد جرى مع النقباء

و تناهى حديثهم لقريش*** حین نادى إبليس شرّ نداء

ص: 485

فأتى المشركون منهم فصدوا*** بعلي وسيد الشهداء

وتناجى في ندوة الغدر منهم*** أربعوناً كانوا من الرؤساء

أجمعوا أمرهم على قتل طه(صلی الله علیه وآله وسلم)*** بعد تمحيص سائر الآراء

بيتوه في الدار كي يقتلوه*** حين جاؤا إليه وقت العشاء

الهجرة المباركة والوداع

هذه مكة وهذا حماها*** وهي أمن لكلّ دانٍ ونائي

هذه التربة الزكية مهد*** وصعيد لصفوة الأزكياء

ولد المصطفى محمد فيها*** و توارى أطايب الآباء

وابنها البر لم يجد في ثراها*** هي أم الأمان أي احتماء

أخرجوه وهو الأمين عقوقاً*** من حماها الأمين بعد الجفاء

عند فقد النصير والعون فيها*** وأبو طالب رهين الفناء

فتناءى مودّعاً لتراها*** بحنين ولوعة وبكاء

حين وافى جبريل بالوحي منه*** فاضحاً كيدهم بكشف الغطاء

بعد أمر منه بهجرة طه*** تحت جنح من الدجى وغشاء

ومبيت الوصي وهو عليّ*** بفراش النبي تحت الخفاء

مبيت علي(عليه السلام)على فراش النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)

ودعى المصطفى عليّاً فلبّي ***دعوة الحق عند وقت الدعاء

قال قد جاء أمر ربي فكن لي ***عنهم جُنّةً لدفع البلاء

فهوى ساجداً إلى الله شكراً*** مستجيباً لربّه باختشاء

حين ينجو محمد من قريش*** وهو يمسي رمزاً لهذا الفداء

ص: 486

وأتى الوحي من إله البرايا*** في علي مجلجلاً بالثناء

ومن الناس من يبيع ابتغاء*** لرضا الله نفسه بالشراء

واصطفاه النبي لما ارتضاه***و عليّ أخوه بالاصطفاء

حين أعطى له الودائع طراً*** لتؤدّى لأهلها بوفاء

واجتباه إلى المبيت فداء ***على أحق بالاجتباء

فوقاه بنفسه وكفاه *** أنه للنبي خير وقاء

حین باهى الإله ميكال فيه*** بعد جبريل أفضل الأمناء

يوم آخي ما بين هذا وهذا*** فأراد الفردان طول البقاء

قال هلا أصبحتما بالتفادي*** كعليّ وأحمد في الإخاء

اهبطا واحفظاه من كيد باغ*** واحرساه من سطوة الأعداء

فجثا عند رأسه جبرئيل*** وهو مُلقى على صعيد العلاء

وهو يدعو بخ بخ لك فضلاً*** يا عليّ بمثل هذا العطاء

وقريش لطلعة الفجر ترنو*** ولطه بأعين الرقباء

وإذا بالوصي أتوه*** يتلقى منهم جموع العداء

شاهراً سيفه عليهم فقالوا***أين طه فقال دون اتقاء

ما أنا حارس عليه مقيم***لکم یا معاشر الجهلاء

أفلستم أخرجتموه فعادوا*** خيبة بالقنوط بعد الرجاء

حديث دخول النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)في الغار

وسری جبرئيل في جنب طه*** وهو يتلو في ليلة الإسراء

وجعلنا من الغشاوة سداً*** بين أيديهم عمى والوراء

وقريش بالباب ترصد طه*** عين أسرى من دون رؤية رائي

فنجى والوقاء خير وقاء*** منهم والحفيظ ربّ السماء

ص: 487

حينما أخرجوه منها بكرة*** خائفاً في غياهب الظلماء

يوم أوى للغار خوفاً وجاءوا*** يتبعون الآثار بالاقتفاء

فحماه الإله من كلّ كيدٍ*** ووقاه من شرهم بوقاء

حين أوحى للعنكبوت فغطّت*** فوهة الغار عنهم بغطاء

بيضت عنده الحمامة حتى*** صار عشاً إلى طيور الفضاء

وتدلّت ثمامة (1) ظلّلته*** شُعُبٌ من غصونها الخضراء

وهو غشى العيون منهم ضلالاً*** فكفاه البلوى بأوهى غشاء

دخول النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)إلى مدينة يثرب

هذه يثرب وهذا تراها*** وهو مهد الشريعة الغراء

والمروج الخضراء تزهو ابتهاجاً*** والروابي تضوع بالأشذاء

وعذاري النخيل تهتز بشراً*** من رفيف الجدائل الزرقاء

والصبايا وهي الأقاحي ثغوراً*** تتهادى بفرحة وازدهاء

والأغاريد بالمسرات تشدو*** فتعجّ الأجواء بالأصداء

وبطاح الثرى تسيل احتشاداً*** وجموع الأنصار كالأنواء

كلّ هذا بشراً بمقدم طه*** وابتهاجاً بخاتم الأنبياء

والنّبي الأمي خير سراج***مستنيرللأُمّة العمياء

منبع العلم، والحضارة علماً*** ورشاداً من منبع العلماء

مشرق النور والهداية أُفق*** شق بالنور ظلمة الصحراء

مهبط الوحي والأمين عليه*** معدن للرسالة البيضاء

هو فجر من الجهاد منير*** وانطلاق من ربقة الأدعياء

ص: 488


1- ثمامة : شجرة .

ورسول بالحق يحكم عدلاً*** وحكيم يسمو على الحكماء

أبصر الأفق بالمدينة رحباً*** فتجلّى من الهدى بضياء

وأخيراً وقبل أن ننتقل بالأخوة الكرام في هذه الجلسة المباركة إلى المصيبة نهيب بالدعاة الاسلاميين أن يستفيدوا في تبليغاتهم للإسلام من تجارب الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)وأن يجعلوه قدوة لهم في ذلك لأنه القائد الأعلى والمؤسس لدولة الاسلام العظيم. لذا عليهم أن يلتزموا بما يلي:

1 - أن يصمدوا في تبليغاتهم من أجل إعلاء كلمة الله وذلك بنشر التعاليم الاسلامية في الناس أولاً ومحاربة اعداء الله تعالى ثانياً حتى يتم النصر والظفر والعلو للإسلام ويسود المعمورة ومن ثم يسود المسلمون بسيادته.

2 - عليهم أن يعلموا أن القتل والتعذيب أو الموت من أجل الاسلام وفي سبيل الله تعالى كرامة وعزاً لهم من الله تعالى.

3-أن يعلموا أن كلما يتحملونه من تعب ونصب ومرض وغير ذلك في سبيل الله يضاعف الله تعالى لهم فيه الأجر والثواب.

4 - عليهم أن يعلموا أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)و قد تحمل في سبيل الله وفي سبيل الاسلام ونشر تعاليمه من التعب والنصب والبلاء أكثر مما يتحملونه هم بالفعل في ذلك بملايين المرّات، وكان نتيجة ذلك أن بقي بأبي وأمي طريح الفراش قد أخذت

منه(صلی الله علیه وآله وسلم)الحماء مأخذها وهكذا اشتدّ به المرض إلى أن فارق(صلی الله علیه وآله وسلم) الحياة.

ومع هذا كلّه فإن العناية الربانية والألطاف الإلهية لم تتركه لحظة واحدة من لحظات حياته(صلی الله علیه وآله وسلم)بل كانت تلاحقه ، فقد كان جبرئيل الله ينزل عليه(صلی الله علیه وآله وسلم)في مرضه كلّ يوم وليلة ويقول : السلام عليك يا رسول الله أن ربك يقرؤك السلام ويقول لك : كيف يجدك وهو أعلم بك ولكن أراد أن يزيدك كرامة إلى كرامتك، وعزّاً مضاعفاً إلى عزّك، وأراد أن تكون عيادة المريض سنة في أمتك فإن كان النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) مرخياً في حال خفيف قال(صلی الله علیه وآله وسلم) يوجد في مرخيّاً ، فالحمد لله على ذلك فيجب أن نحمده ونشكره

ص: 489

وإن كان موجوعاً فيقول جبرئيل (عليه السلام): إن الله يشدّد عليك حتى تلقاه مستوجباً للدرجة العليا والثواب الدائم والكرامة على جميع الخلق .

قال أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: إن لجبرئيل(عليه السلام)وقتاً ينزل فيه، فلمّا حَسَسْتُ بنزوله قلت لمن كان في البيت أن يتنحى فدخل جبرئيل(عليه السلام)على النّبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وجلس عند رأسه ، ثم قال : السلام عليك يا نبي الله .

قال : وعليك السلام حبيبي جبرئيل فما حاجتك ؟

قال : إنّ ربك يقرؤك السلام ويسألك كيف يجدك وهو أعلم بك ؟

قال: يجدني ميتاً.

قال جبرئيل(عليه السلام) : أبشر فإنّ الله أراد أن يبلغك ما أعد لك من الكرامة.

وجاء في خبر ثان : قال علي عليه الصلاة والسلام: إن رجلاً أراد الدخول على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فقمت إليه وقلت : ما الّذي تريد ؟

قال : أريد الدخول على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).

فقلت : لست تصل إليه .

فقال : لابد من الدخول عليه، فدخلت وأخبرت النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)بذلك فأذن له فدخل وسلّم عليه ، فقال : وعليك السّلام فما حاجتك ؟

فقال : أنا رسول الله إليك.

فقال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) : وأى الرسل أنت ؟

قال : أنا ملك الموت أرسلني الله إليك وهو يقرؤك السلام ويخيّرك بين لقائه أو الرجوع إلى الدنيا .

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): أمهلني ياملك الموت حتى يأتي حبيبي جبرئيل وأستشيره، فخرج ملك الموت واستقبله جبرئيل(عليه السلام)في الهواء ، فقال : يا ملك الموت هل قبضت روح محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)؟

فقال : يا أخي سألني أن لا أقبض روحه حتى تأتي إليه ويستشيرك.

ص: 490

فقال جبرئيل(عليه السلام) : إن أبواب السماء مفتحة لروح محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)أما عله أما ترى الحور العين قد تزينت لمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم).

قال (عليه السلام) : ثم إن جبرئيل سلّم على النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وقال : السلام عليك يا أحمد، السلام عليك يا محمد ، السلام عليك يا أبا القاسم.

فقال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم): وعليك السلام يا أخي جبرئيل، ثم قال(صلی الله علیه وآله وسلم): إن ملك الموت استأذن عليّ وأراد قبض روحي واستصبرته لمجيئك .

فقال جبرئیل الله : يا محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)إن ربك يقرؤك السلام وهومشتاق إليك ولم يستأذن ملك الموت على أحدٍ قبلك ولا يستأذن على أحد بعدك.

قال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) : يا أخي جبرئيل إن ربي خيرني بين لقائه أو الرجوع إلى الدنيا فما الذي ترى ؟

قال جبرئيل (عليه السلام) : يا محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) وللآخرة خيرٌ لك من الأولى ولَسَوفَ يُعطيك رَبِّك فترضى .

قال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) : لقاء ربّي خير لي لا تبرح يا حبيبي جبرئيل حتى ينزل عليّ ملك الموت، فما كان إلا ساعة حتى نزل ملك الموت وقال : السلام عليك يا

محمد (صلی الله علیه وآله وسلم).

قال : وعليك السلام يا ملك الموت ما تريد تصنع ؟

قال : أقبض روحك .

فقال : امضى إلى ما أمرت به.

فقال جبرئيل(عليه السلام) : إن هذا آخر هبوطي إلى الأرض.

فقال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم): ادن منّي يا أخي جبرئيل، فدنا منه وكان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله وملك الموت قابض الروحه المقدسة .

فقال جبرئيل(عليه السلام) : لا تعجل يا ملك الموت حتى أرجع إلى ربّي ثم أهبط .

فقال ملك الموت: إن روح محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)قد صارت في موضع لا أقدر على

ص: 491

تأخيرها، فعند ذلك قال جبرئيل(عليه السلام) : يا محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)هذا آخر هبوطي إلى الأرض وإنما أنت حاجتي فيها فالآن أصعد إلى السماء ولا أنزل إلى الأرض أبداً.

فنظر إلى عظمة هذا النّبي الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)وإلى هذه الكرامة العظيمة التي تفضل بها الله تعالى على حبيبه محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)حتى قيل أيضاً ان ملك الموت وقف على باب بيت النّبي(صلی الله علیه وآله وسلم)مثل ما يقف العبد الذليل بين يدي سيده حتى يحصل على جواز الدخول، والله در شاعر آل محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)الحاج محمد آل نتيف حيث جادة قريحة بهذه الأبيات الجليلة التي تصوّر لنا كيفية دخول ملك الموت على النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وكيفية حصول ملك الموت على الإذن بالدخول حيث يقول الشاعر المذكور:

يا لذي بالباب واقف روح ما من مدخل*** كلّ ساعة ايصير مغشی اعليه ونظن انتقل

قال مرسول من الجبار يا حيدر إليه***لمر ربي طوع لأزم أدخل الساعة عليه

خبر الهادي ابكلامه وآمره يأذن إليه*** جلس يمه وصاح بيه المصطفى اي الرسل

قال مرسول الجلالة القبض روحك يا نجيب**قال دمهل استشير الروح جبرئيل الحبيب

ومن لقى الروح استشاره وعولت فاطم بالنحيب*من درت بيموت ابوها ليت لاحان الأجل

والنبي لو فتح عينه ولحظ صحبه وعيلته*** جذب ونه وصاح كل حاضر وقطع جبدته

وصاحت اهله ولطمت الهمام البتوله بضعته***وصاح یا کرار ظمني عندك أمر الله نزل

ص: 492

وصار يقبض روح طه والنّبي بنفسه يجود ***وقله جبرئيل لا تعجل لحتى اصعد وعود

قال صارت روح طه في مكان ما تعود*** سكن من طه ونينه والعرق منه هطل

ربي فدنوت منه ،

قال أمير المؤمنين(عليه السلام)في الحديث المذكور وهذه تتمته: فلما أن نزل برسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) القضاء قال لي(صلی الله علیه وآله وسلم): يا علي ادن منّي يا أخي فقد جاء أمر ربي فناجاني من تحت ثوبه فجعل فاه في اذني فناجاني طويلاً حتى خرجت نفسه الطيبة (صلی الله علیه وآله وسلم)، وكان كلّما كشف الثوب عن وجهه قال عند الشدائد لا تخذلني يا حبيبي جبرئيل.

فقال : يا محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)إنك ميت وإنهم ميتون.

فقال جبرئيل(عليه السلام):يا ملك الموت احفظ وصيّتة الله في روح محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) ، فلمّا قضى نحبه ويد علي عليه الصلاة والسلام تحت حنكه الشريف وفاضت نفسه المقدّسة فيها مسح بها وجهه ووجهه إلى القبلة وغمض عينيه، ثم انسلّ انسل عنه عنه من تحت الثوب، وقال لمن حضر : عظم الله أجوركم في نبيكم فقد قبضه الله إليه، فارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب وجعل علي عليه الصلاة والسلام يكثر من النظر إليه ويطيل النظر في وجهه المبارك وهو يبكي :

سكنت اطرافه وقضه وظل أبو اليمه ينظره*ومن شخص غرته وفي صدره العبره امكسره

فرت الزهرا لبوها الشعر منها امنشره*** شافت المختار منه الروح فاضت وانتقل

والوصي الكرار جسمه مدده ومد الازار*** وصارت الدنيا ابزلازل والفلك لجله احتار

ص: 493

والحرم تصرخ حواسر ما على وحده اخمار*** ليتنا فدواك كلنا وليت يومك لا وصل

قال علي عليه الصلاة والسلام : ولما قضى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)نحبه قمت في تجهيزه: فاستدعى(عليه السلام) الفضل بن العباس وأمره أن يناوله الماء بعد أن عصب عينيه فغسله كما أمره(صلی الله علیه وآله وسلم) وما أن لاحت من الزهراء عليها الصلاة والسلام لفتة ونظرت إلى أبيها وهو مسجّى على المغتسل نادت وهي باكية العين لاطمة الوجه متألمة لفقد العزيز الغالي والكفيل الوالى وأخذت تلوح بيدها وهي تقول:

اسم الله على طولك يا جمال الهاشميه*** على المغتسل ممدود يا خير البريه

يا مرتضى اكشف لي عن الوالي او جماله*** او شيل الكفن عن غرته اتودعه اشباله

هذا الحسن مشعوب قلبه انظر الحاله***او هذا الشهيد حسين عبراته جريه

يالي تغسل والدي وين العمامه*** فوق المنابر ما حلا حلو الجهامه

قبل تشيله خله اتودعه اليتاما ***منه بعد ما نرتجي للبيت جيه

بهدای قلب جسم ابو ابراهيم بهداي*** وانته يبن عباس بالهوان اسكب الماي

طوله على المغسل شعبني وفتت احشاي*** ممرود قلبي او موحشه الدنيا عليه

يا اللي تحفرون القبر وسعوا مكانه*** و بهداي نزلوا جنازته واسفروا أكفانه

ويلاه يعز شال عناولا لفانا*** هیهات بعده اتصير عيشتنا هنيه

يا اللي تهيلون الثرى دفنوني اوياه*** مقدر اشوف البيت خالي من محياه

قشرا تراهی تصير عيشتنا بلياه*** بعد النّبي ما ريدها الدنيا الدنيه

فلما فرغ أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام من تغسيله وتحنيطه وتكفينه قال عليه الصلاة والسلام وقد اختلف أصحابه وأهل بيته في دفنه : اعلموا أن الله تعالى لم يقبض روح نبيه(صلی الله علیه وآله وسلم)إلا في أطهر البقاع واني لدافنه في البيت الذي توفّي

فيه.

وقيل إنّ العباس بعث إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يحفر لأهل المدينة،

ص: 494

وبعث الامام علي عليه الصلاة والسلام إلى زيد وقال : اللهم خر لنبيّك، فوجد زيد ولم يوجد أبو عبيدة فحفر له لحداً في بيته ثم خليّ على سريره على شفير قبره ثم أنّه أول من صلّى عليه الجبار جل وعلا وحده لا شريك له وكان المسلمون يخوضون فيمن يؤمهم بالصلاة عليه وأين يدفن فخرج أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام وأمر من كان في المسجد من بني هاشم والمهاجرين والأنصار من لم يحضر السقيفة وقال : إنّ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)إمامنا حياً وميتاً فليدخل عليه منكم فوجاً فوجاً يصلون عليه، وإن الله تعالى لم يقبض روح نبي إلا في مكان ارتضاه لرمسه، وإنّي لدافنه في حجرته المباركة التي توفّي فيها، وأطاعه الناس ورضوا بقوله، ثم إن أمير المؤمنين(عليه السلام) نزل إلى القبر هو والعباس والفضل فنادت الأنصار ممن كان داخل البيت : إنا نذكّرت حظنا من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أن يدخل منا رجل تكون لنا في مواراة أن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)أسوة حسنة ، فقال : يدخل أوس بن خولي، وكان من الخزرج، فلما نزل وضع أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام على يديه ودلاه في حفرته، فلما حصل ذلك في الأرض قال علي(عليه السلام) : اخرج، فخرج ونزل أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام إلى القبر وكشف عن وجه النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)ووضع خده الأيمن على الأرض موجّهاً إلى القبلة ، ثم وضع عليه اللبن وأهال عليه التراب.

وقيل :إنّ أمير المؤمنين(عليه السلام)وقف على القبر بعد أن أهال عليه التراب وهو يبكي على فراق رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وأنشأ يقول :

أمن بعد تكفين النبي محمد*** باثوابه آسی علی میت ثوی

لقد غاب في جنح الظلام لفقده*** عن الناس طرّاً خير من وطأ الثرى

رزئنا رسول الله فينا فلن نرى*** بذاك عديلاً ما حيينا من الورى

وكان لنا كالحصن من دون أهله*** له معقل حصن حصين من العدى

وكنا بمرآه نرى النور والهدى*** صباحاً مَساءً راح فينا أو اغتدى

لقد غشيتنا ظلمة بعد موته*** نهاراً وقد زادت على ظلمة الدجى

ص: 495

وكنا به شم الأنوف بنحوة*** على موضع لايستطاع ولا يرى

فيا خير من ضمّ الجوانح والحشا*** ويا خير ميت ضمّه الترب والثرى

كأن أمور الناس بعدك ضمت*** سفينة موج البحر والبحر قد طما

وضاق فضاء الأرض عنهم برحبه*** لفقد رسول الله إذ قيل قد مضى

لقد نزلت بالمسلمين مصيبة*** كصدع الصفا الأرتق للصدع في الصفا

فواحزننا إنّا رزينا نبينا*** على حين تم الدين واشتدّت القوى

فلن يستقلّ الناس تلك مصيبة*** ولن يجبر العظم الذي منهم وهى

وفي كلّ وقت الصلاة يهيجنا*** بلال ويدعو باسمه كلّما دعا

ويطلب أقوام مواريث هالك*** وفينا مواریث النبوة والهدى

كمثل رسول الله إذ حان يومه*** لفقدانه فليبك(1) يا عين من بكى

وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام بكى بكاء شديداً ، وقال أيضاً:

الا طرق النّاعي بليل فراعني ***وأرقني لم- وأرقني لما استقر منادياً

فقلت له لمّا رأيت الذي أتى*** ألا إنع رسول الله إن كنت ناعيا

فحققت ما أشفقت منه ولم أقل*** وكان خليلي عزّيا وجماليا

فو الله لا أنساك أحمد ما مشت***بی العيس في أرض تجاوز واديا

وإني متى أعلو أعلو من الأرض تلعةً*** أرى أثراً منه جديداً وعافيا

جدیر جوى صدري عليه وإنّه*** هو الموت مدعوّ عليه وداعيا

أقول : إذا كان هذا هو حال الامام صلوات الله وسلامه عليه في حزنه وجزعه على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فما ظنّك بحال الصدّيقة الجليلة السيّدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها - في ذلك ؟ كأني بها قد أعولت ونادت : وا محمداه وا أبتاه وا حبيباه، وأشارت بيدها الشريفة لعلي عليه الصلاة والسلام قائلة : بالله عليك يا أبا الحسن إلا ما أغمضت عين أبي ورفعت عنه هذه الوسادة وأسبلت يديه

ص: 496


1- هكذا في النسخة ، ولكن الأصح : فليبكه كل من بكى ، والله العالم .

لأني آراه يدير فينا عينه وما أظنّه إلا مفارق الحياة، تقول (عليه السلام)هذا لأميرالمؤمنين (عليه السلام)وهی باكية منتحبة ولسان حالها يقول :

غمض اعيونه او شيل الوساده يبوحسين*** بطّل ونيته المصطفى خير النبيين

غربت عينه يبن عمي دسبل ايديه*** شوفه يدير العين لينا او مد رجليه

وجبريل ينعى والفلك متعطل اعليه*** والمصطفى ينادي يفاطم لا تنوحين

بطلي البواكي ذاب قلبي يا حزينه ***لازم يبنتي اليوم عزّج تفقدينه

او ثوب المصايب عقب عيني تلبسينه*** او منك يكسرون العدا بالباب ضلعين

وأهوت على أبوها تصيح ابدمع سكاب ***إن كان ضلعي يكسرونه ابصاير الباب

وصى الوصي الكرار بيه أوصى الاصحاب*** لحد عليه يجتري يا قرة العين

هذا الحسن مكسور قلبه من يجبره ***او هذا العزيز احسين يا هو يشم نحره

او يا هو عقب عينك يحطّه فوق صدره*** ذلت يبو ابراهيم من بعدك السبطين

قلها يفاطم لو شربت كاس المنیه*** جيبك يزهرا لا تشقينه عليه

ص: 497

او صد للحسين ومدامعه بخده جریه*** او شاف الحزن نحل اعظامه او قرح العين

قله يعقلي ذوّيت قلبي من ابچاك ***ونادايبو الحسنين بالله سكت ابناك

ودعتك الله يا علي والملتقى هناك ***او شبكت الزهرا على رسول الله باليدين

نعم، لقد شبكت السيدة الصديقة فاطمة الزهراء على أبيها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بكلتا يديها وأخذت تشمّه وتقبله وهي تنادي: أبتاه يا رسول الله عزّ عليَّ والله فراقك يا أبا القاسم، تقول هذا ودموعها جارية لم يهد لها بال ولم يستقر لها بأي حال من الأحوال حال إلا بعد أن أخبرها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) بأنها قادمة عليه عن قريب وأنّها أول أهل بيته لحقوقاً به، فياله من موقف يذكرني بحفيدتها فاطمة الكبرى بنت الحسين صلوات الله وسلامه عليه وذلك عند ما عزم أبوها الامام الحسين عليه الصلاة والسلام على الخروج من مدينة جده فإنها جاءت إلى وداعه وهي عالمة بأنّ ليس بعد هذا اللقاء لقاء في الدنيا وإنما اللقاء في الجنة، أخذت(عليه السلام)تئن وتحنّ وتناشد أباها الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه بأن لا يتركها لوحدها غريبة في المدينة. وكأني بلسان حالها يقول :

اخذوني يبويه اولا تخلوني بلديار*** ينتحل جسمي او بالضماير تشتعل نار

من شوفتي ابيوتك عليها سافي اغبار*** كيف البصر لو نوخ الوافد نجيبه

الوافد شقله لو لفي ياسر لوجود*** خذني يبويه او ياك لو قلي متي اتعود

ضمها الصدر والدمع يجري بلخدود*** او قلها يا بنتي القلب زيدتي لهيبه

ردي المنازل يا عزيزه واندبيني*** او قطعي الرجامني ولا تترقبيني

صاحت يبويه فرقوا بينك او بيني*** او صدت لبو فاضل تنوح او تنتخى به

وأهوت تحب إيده او راسه صعب المراس*** اتقله يعمي فراق أبوي يشيب الراس

ص: 498

أتوسل يبويه احسين ياخذني يعباس*** روحي ترى راحت يسردال الحريبه

متعجبة منكم يفرسان الحميه*** كلكم غيورين او شيمكم هاشمیه

نشف يعمي دمعتي والتفت اليه ***او خاطب ابويه لا يخليني غريبه

قله یخویه هالبكا والنوح فتني*** او بنتك تراحي ها لعليلة ذوّبتني

قله شسوي وكتبت الله قيدتني*** مقدر اشوف ادموعها ابخدها سكيبه

هذي مهي مکتوب تتودی هدیه*** اولاهي يخويه من سبايا الغاضريه

ردي يبويه اوردتك غصب عليه*** اوطلبى من الله يعودنا لديار طيبة

وأهوت تحب رجله او تصيح بقلب مفتوت*** خذني ترى ينتحل منى الجسد واموت مقدر على الوحده او على معاين هلبيوت***ظل ينتحب والحرم ضجت من نحيبه

ردّت بحسرتها او ساق الظعن عنها*** نوب تقوم او نوب توقع من حزنها

ومن رجعة اخوتها وأبوها انقطع ظنها*** واتقول راح احجاب صوني منين اجيبه

وكأنّي بها تخاطب المنازل التي بقيت خالية من أبيها الحسين عليه الصلاة والسلام قائلة :

دیار مزهرة تاضي بهلها*** منها النور يتساطع بهلها

منازل نيرة كانت بهلها*** اسكنتها ليش يغراب المنيه

نعم، لقد خرج أبو عبدالله الحسين عليه الصلاة والسلام من مدينة جده(صلی الله علیه وآله وسلم)مع أهل بيته وإخوته ومواليه وسار ركب النبوّة وعليه المهابة والوقار والامام عليه الصلاة والسلام يشير بيده المباركة إلى قبر جده(صلی الله علیه وآله وسلم)ملوحاً لتوديع الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) .

قال الأديب الفرطوسي وهو يصف لنا كيفية خروج الامام الحسين عليه الصلاة والسلام من المدينة المنورة ودخوله(عليه السلام)مكة المكرمة :

هذه يثرب وهذا تراها ***منزل الوحي مهبط الأنبياء

موطن الهجرة الذي شعّ منه*** کل فتح لخاتم الأصفياء

تربة المصطفى الزكية طيباً*** هي مهد للعترة الأزكياء

ص: 499

سار منها ركب النبوة خوفاً ***حين أسرى ليلاً إلى البطحاء

وحسين يرنو لتوديع طه*** من ثنايا ربوعها الغراء

والبهاليل من بني شيبة الحمد*** نسور ترف في الصحراء

کل نجم موكل بثريّاً*** تبنّى قداسة العذراء

هذه رملة ترف حناناً*** وهي ترنو لشبلها بحباء

وعلي أمام هودج ليلى*** يتهادى بغبطة وازدهاء

ولواء العباس يهفو جلالاً*** فوق رأس العقيلة الحوراء

وبنو هاشم أسود غضاب*** تتبارى لغاية الهيجاء

مشهد حاشد بكل وقار*** وفخار وهيبة وبهاء

موكب للحسين وافى مطلاً*** فوق دنيا كرامة وعلاء

حين وافى نعي ابن هند إليه*** وابن هند من أخبث الأشقياء

وأرادوا من الهدى ليزيد*** بيعة الفاتحين للطلقاء

فأبى ثائراً ونفس أبيه*** بين جنبيه ترتدي برداء

و تراءت له السعادة تزهو***بین أفقي شهادة وإباء

عند توديعه لتربة طه*** جده في غياهب الظلماء

وأستطالت أم القرى بفتاها***وهو فيها لقمة الإرتقاء

حین أضحى أبو الأئمّة فيها*** قبله بین أمة الحنفاء

ووفود الحجيج أضحت عليه*** تتوالى من كلّ دانٍ ونائي

یوم دار العبّاس أضحت مقرّاً*** مقاماً لسيد الشهداء

واصطفى مكة فكاتب منها*** رؤساء الأخماس في الفيحاء

قال فيما قد خطّه من كتاب*** فيه أدلى بالحجة البيضاء

أكرم الله بالنبوة طه*** واصطفاه بأحسن الإصطفاء

واجتباه من الورى فحباه*** کرماً في رسالة الأمناء

ص: 500

ودعا للرشاد فيهم فأدى ما ***ما اجتباه له تجير أداء

وأتى ربّه رسولاً كريماً ***مستجيباً لربّه في النداء

حينما اختاره فأدناه قرباً*** منه في قبض رأفة وولاء

وحُرمنا ونحن عترة طه*** وبنوه و توه وخيرة الأوصياء

من مواريثه وخير مقام ***نحن أولى به من الخلفاء

عند ما استأثروا علياً اغتصاباً*** وضلالاً فيه بغير ارعواء

فتركنا ونحن أجدر فيه*** حقنا خوف فرقةٍ وتنائي

ورأينا أئمة الجور أضحت*** تتمادى بالطيش والكبرياء

أفلا تنظرون سنة طه*** قد أميتت في باطل الإفتراء

وأقيمت مكانها فاستطالت*** بدع الكفر في أتم بناء

وأنا والدعاء للحق عهد*** من عهود الباري على الأمناء

لكتاب الباري وسنّة طه*** خير داعٍ لكم فلبّوا دعائي

وجاء في السيرة ان الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه قبل أن يغادر مدينة جده رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) رفع شعارات ثورته المباركة المتمثلة في كلماته الشريفة :« ألا وإني لم أخرج أشراً ، ولابطراً ، ولا ظالماً ، ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب

الإصلاح في أمه جدّي .....».

ومن هنا نعلم أنّ الامام عليه الصلاة والسلام لم يخرج من مدينة جده من أجل أمر غير الامور التي ذكرها في مقالته الشريفة الشهيرة.

الأمر الأول: من أجل الإصلاح وهو يعني إرجاع الأوضاح الشاذة إلى وضعها الطبيعي، من دون أن يكون للامام مطمع مادي في ذلك.

الأمر الثاني : من أجل الحق : إن الحق يعني : سيادة القيم الانسانية، وهي القيم التي تتكفّل بتحقيق الخير والرفاه للإنسان والحق هو هدف كل الأديات ،وكل الرسالات.

ص: 501

وقد رفع الامام عليه الصلاة والسلام شعار «من أجل الحق، عندما برّر ثورته المباركة بقوله عليه الصلاة والسلام:« ألا وإن الدنيا قد تغيرت، وتنكرت، وأدبر معروفها ، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ؟ وإلى الباطل لا يتناهى عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً ، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلّا برماً».

وكانت رسالة الامام(عليه السلام)التي بعث بها مع مبعوثه الشخصي مسلم بن عقیل(عليه السلام) تصرح: «قد فهمت كل الذي قصصتم ،وذكرتم ومقالة جلكم : أنه ليس لنا إمام فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والهدى، وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم فإن كتب إليّ أنه قد أجمع رأي ملأكم وذوي الفضل والحجي منكم على مثل ما قدمت عليَّ به رسلكم وقرأت كتبكم، فإني أقدم إليكم وشيكاً إن شاء الله تعالى فلعمري ما الامام إلّا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن يدين الحق، الحابس نفسه على ذلك الله ، والسلام». وجاء في خطبته الثانية التي ألقاها على جيش الكوفة ، قوله(عليه السلام) : «أيها الناس إنكم إن تتقوا الله ، وتعرفوا الحق لأهل يكن أرضى الله عنكم، ونحن أهل بيت محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان ....» ويوم غفى في الطريق إلى كربلاء - واسترجع عليه الصلاة والسلام بقوله :«إنا لله وإنا إليه راجعون» وهي آية مباركة يرددها المفجوع عادة ، قال له ولده علي الأكبر(عليه السلام) : «يا أبتاه...» جعلت فداك ممّ استرجعت ؟

جابه عليه الصلاة والسلام:« سمعت هاتفاً يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير بهم إلى الجنة، فعلمت أنها أنفسنا قد نعيت إلينا».

فقال علي الأكبر عليه الصلاة والسلام : يا أبتاه... أولسنا على الحق ؟

ص: 502

فقال الامام عليه الصلاة والسلام : «بلى» والذي إليه مرجع العباد».

فقال علي الأكبر عليه الصلاة والسلام وهو يرى أن شعار ثورته قد تحققت: إذن لا نبالي!! الأمر الثالث : من أجل التحرر : التحرّر من قيود المجتمع الفاسد، والتحرر من ضغط الشهوات والتحرر من التقاليد الجاهلية : هدف مقدس من أهداف كافة رسالات ،الله فمن دون الحرية لا يمكن تحقيق الحق، ومن دون الحق لا يمكن الاصلاح . إن الحرية مطية الحق - كما أن الحق هو الاصلاح والحرية - بعد ذلك - الميزة التي أعطاها الله للإنسان، وبها كرّمة على كثير مما خلق .

والحرية بالنسبة إلى الإنسان كالهواء بالنسبة للطير. من دونها لن يتحقق وجوده، ويبقى مهملاً من مهملات الكون ..... والحرية مطلوبة على كل حال : لكي يجرّب الإنسان ذاته ويحاول اكتشافها ولذلك رفع الامام عليه الصلاة والسلام شعار التحرر من الذل والعبودية والقهر والقيم البالية .

فكان صلوات الله وسلامه عليه يقول: «من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كانه حقاً على الله تعالى أن يدخله مدخله ....» .

وكان(عليه السلام) يقول أيضاً: «لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد».

ويقول(عليه السلام): «كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما».

ويقول عليه الصلاة والسلام لعدوّه : إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم».

وعندما أبن الحر بن يزيد الرياحي - بعد تمرّد الأخير على قائد جيشه : «أنت الحرّ كما سمتك أمك» .

ص: 503

وكان نشيد مبعوثه الشخصي مسلم بن عقيل في شوارع الكوفة :

أقسمت لا أقتل إلا حرا*** وإن رأيت الموت شيئاً نكرا

ومن هنا ينبغي لنا أن نستلهم من الامام الحسين ومن أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين معنى الحرية لنكون أحراراً حقيقيين وبذلك نصبح أعزاء.

يقول بعض الشعراء في رثاء مسلم بن عقيل صلوات الله وسلامه عليه :

إن شئت عزّاً خذ بمنهج مسلم***من قد نمته بالمکارم هاشم

شهم أبي إلا الحفائظ شيمة*** فنحن العلا والمكرمات سلالم

او هل يطيق الذلّ من وشجت عُلا*** منه بأعياص الفخار جراثم

فمضى بماضي عزمه مستقبلاً*** أمراً به ينبو الحسام الصارمُ

بطل تورت من بني عمرو العلا*** حزماً يُذل له الكمي الحازم

للدين أرخص أي نفس مالها*** في سوق سامية المفاخر تسائم

لقد اصطفاه السبط عنه نائباً*** وحسام حقِ للشقا هو حاسم

مذ قال لما أرسلت جند الشقا*** كتباً لها قلم الضلالة راقمُ

أرسلتُ أكبر أهل بيتي فيكم*** حكماً وفي فصل القضا هو حاكم

فأتى ليثبت سنة الهادي على*** علنٍ وتمحى في هداه مظالم

أبدت له عصب الضلالة حبّها*** والكلّ للشحنا عليه كاتم

قد بايعته ومذ أتى شيطانها*** خفت إليه وجمعها متزاحم

فانصاع مسلم في الأزقة مفرداً*** متلدّداً لم مستلدّداً لم يتبعه مسالم

قد بات ليلته بإشراك الردى ***وعليه حام من المنية حائم

وتنظمت بنظام حقد كامن*** للقاه ينظمها الشقا المتقادم

فأطل معتصماً بأبيض صارم*** من فتكه لعداه عزّ العاصم

قد خاض بحر الموت في حملاته*** وعبابه بصفاحهم متلاطم

فتخال مرهفه شهاباً ثاقباً*** للماردين انقض منه راجمُ

ص: 504

وركام يمناه يصبب حاصباً ***ان كرمنها جيشها المتراكم

إن أوسع الأعداء ضرباً حزمه***ضاقت بخيل الدار عين حيازم

وتراه طلاع الثنايا في الوغى*** تبكي العدى والثغر منه باسم

غير ان للدين الحنيف مجاهداً*** زمراً بها أفق الهداية قائم

من عصبة لهم الحتوف مغانم*** بالعز والعيش الذميم مغارم

سلبته لامة حربه لغدرها*** عصب الضلالة ولئام السوائم

سلبته لامة حربه ثمّ اغتدى*** متأمّراً فيه ظلوم غاشم

أسرته ملتهب الفؤاد من الظماء*** وله على الوجنات دمعُ ساجمُ

لم يبك من خوف على نفس له*** لكنّه أبكاه ركبّ قادم

يبكي حسيناً أن يلاقي ما لقى*** من غدرهم فتباح منه محارم

فبعين باري الخلق يوقف ضارعاً*** وله ابن مبتدع المئاتم شاتم

وينال من عليا قريش سيادة*** البطحاء وهو لها الطليق الخادم

ويدير عينيه فلم يرمسعفاً*** ينفي إليه بسره ويكاتم

فرمته مكتوفاً من القصر الذي*** قامت على الطغيان منه قوائم

والهفتاه المسلم يرمى من*** القصر المشوم وليس يحنو راحمُ

ويجر في الأسواق جهراً جسم من*** تنميه للشرف الصراح ضراغم

قد مثلت فيه وتعلم أنّه*** يعلى أبيه للممائل قائم

أوهي قوى سبط النبي مصابه*** وبه تقوّت للضلال دعائم

شمخت أنوف بني الطغام بقتله*** كبراً وأنف بني الهداية راغمُ

ظفر الردى نشبت بلیث ملاحم*** لله ما أسدى القضاء الحاتم

فلتبكين عليه ظامية الضبا*** إذ كان ينهلها غداة يقاوم

يا نفس ذوبي من أسى لملمةٍ*** غالت بها ليث العرين بهائم

قد هد مقتله الحسين فأسبل*** العبرات وهو لدى الملمة كاظم

ص: 505

وقال آخر في رثاء مسلم عليه الصلاة والسلام أيضاً :

قليل بكائي على ابن عقيل*** وإن سال دمعي كل مسيل

فتی علم الناس ان الوفا*** حز الغلاصم دون الخليل

بنفسي أسيراً بأيدي الضلال*** قادوه للموت قود الذلول

وما غاله منهم غائلٌ*** سوّى الغدر والغدر شان الذليل

على أنّه لم يكن ضارعاً*** ولكن قضاء الإله الجليل

وأعظم ما كان في قلبه*** من الهم ذكر الحسين النبيل

محاذرة أن يذوق الحسين*** ما ذاقه من جفاء النفول

إذا حشد الغي أبناءه*** وجاء بهم بين عور وحول

فأنت مزعزع أخيالها*** وقاذف أسيافها بالفلول

عقيل الذي نال من مسلم*** ذرى المجد لا مسلم من عقيل

أب لا يجاري مداه أب*** شئاه ابنه في المدى المستطيل

وليس عجيب بأن الليوث*** تعلو مفاخرها بالشبول

وقد قال أحمد من قبلها*** أُحبّ عقيلاً وآل عقيل

فصدقت ما قاله أحمد*** وما كنت عن قوله بالنكول

أبو الفضل مثلك في كربلاء*** إذا كنت أعدمهم للمثيل

فذاك أخوه وأنت ابن عم*** ولا فرق بينكما في الأصول

وذاك الحسام وأنت السنان*** ولا فرق بينكما في الوصول

لأبكى مصابك سبط الرسول*** وکان بکاه بعين الرسول

وحسبك فخراً بأنّ عليك*** علا في الجنان صراخ البتول

وقد قلّ عنك اصطبار الهدى*** وصبرك في الله غير قليل

وذلّ لموتك أهل الهدى*** وما كان موتك موت الذليل

يعزّ عليّ بأني أراك*** قليل النصير كثير الخذول

ص: 506

وقال الأديب الفاضل والأستاذ الكبير الحاج الشيخ محمد علي اليعقوبي رضوان الله تعالى عليه في رثاء مسلم بن عقيل هذه الأبيات الجليلة :

أجل هذه آثار لمياء في الحمى*** فكن مسعفي إن كنت صباً متيما

مساحب أذيال عرفت بطيبها*** على النأي أطلالاً للميا وأرسما

أخا الودّ لا تنفك إلّا معرجاً*** معي نحوها تيك الربوع مسلما

دیار هوی نستاف ذاری تربها*** ونندب عهداً عندها قد تصرّما

عسى ولعلّ الشوق يطفى أواره*** وإن لم تكن تجدي عسى ولعلما

أما وليالينا التي سلفت به*** إلية حرما أعف وأكرما

قضينا ديون الحب يا سعد صادقاً*** إذا كنت لم تسعد على الوجد مفرما

قضينا ديون الحب فيها ولم نكن*** نراقب عدالاً عليها ولوما

ولست بدعوى الحب يا سعد صادقاً*** إذا كنت لم تسعد على الوجد مفرما

فكم بين من يرعى الدراري مسهداً*** وبين الذي نام الدياجي مهوما

ومالك في الإسلام حظ وفي الهدى*** نصيب إذا لم تبك عيناك مسلما

قتيل بكوفان بكى السبط رزءه*** فأية عين لم يسل دمعها دما

ولو لم يكن خير الأقارب عنده*** لما اختاره منهم سفيراً مقدّما

لحى الله قوماً بايعوه على الهدى***و سرعان ما مالوا إلى الغيّ والعمى

فأمسى وحيداً لم يجد من يدله*** سبيلاً ولا حام يذود ولا حمى

وبات يمنّي القتل نفساً شريفةً*** لها الله يأبى أن تذلّ وترغما

بحيث المنايا السود ألقت جرانها*** لديه وباتت انسر الموت حوّما

ولما سعى الواشون فيه إلى العدى*** أتوه يجرون الخميس العرمرما

فقام بوجه باسم الثغر أبلج*** يحيي المواضي والوشيج المقوما

فردَّ لهام الجيش نزراً عديده*** وطبق كوفاناً نعياً ومأتما

بنفسي الذي فادى الحسين بنفسه*** فأوردها بحر المنيّة مفعما

وأقسم أن يغشى الوغى غير ناكلٍ*** ويقتل حراً رابط الجأش مقدما

ص: 507

على حين ما غير الحسام مرافد*** فلم ير ذاك اليوم أثبت منهما

ولما أبى إلا الشهادة صابراً*** وقد نال منه الطعن والضرب والظما

فسالمهم المهم لا رغبةً بأمانهم*** ولكن أمر الله كان محتما

فمن مبلغنَّ أن ابن عمه*** أسير الأعادي يفدي تكرّما

ولم يبك خوف القتل لكنّ بكاؤه*** عليه لما يلقى من القوم مثلما

وقد أخذوا منه المهنّد بعدما*** نبا حده من قرعهم وتثلما

ومما دهى البطحاء أن ابن شيخها*** دعي بني صخر عليه تحكّما

وأعظم خطب يوم أوقف مسلم*** لديه وسبّ المرتضى كان أعظما

فیاهل دری قصر الإمارة من رقى*** عليه وهل يدري ابن حمران من رمى

رمى منه نحو الأرض كوكب هاشم*** فتسب بدر التم خرَّ من السماء

وأصبح في الأسواق يسحب جسمه*** ومن عجب بالحبل جروا يلملما

إذا كنت لا تدرين ما الموتُ فانظري*** إلى هاني في السوق وابن عقيل

إلى بطل قد هشم السيف وجهه*** وآخر یهوی من جدار قتيل

أصابهما فرخ البغي فأصبحا*** أحاديث من يسرى بكل قتيل

ترى جسداً قد غيّر الموتُ لونه*** ونضح دم قد سال أيّ مُسيل

نعم، هكذا فعلوا بمسلم وهاني سلام الله وصلواته عليهما، فقد أخذ القوم الظالمين يجرونهما في الأسواق بعد قتلهما ولكن لم يقدر القوم على أسر المسلم(عليه السلام)إلّا بعد أن ردّ لهام الجيش نزراً عديده وطبق كوفاناً نعيّاً ومأتما فإنه عليه الصلاة والسلام لما دنوا من الدار وسمع مسلم(عليه السلام)حوافر الخيل وقعقعة الرماح خرج إليهم بسيفه واقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بالسيف حتى أخرجهم من الدار فعادوا إليه فشدّ عليهم وأخرجهم كذلك، فاختلف هو(عليه السلام)وبكر بن حمران الأحمري لعنه الله تعالى بضربتين فضرب بكر لعنه الله تعالى فم مسلم صلوات الله وسلامه عليه بالسيف فقطع شفته العليا وأسرع السيف إلى السفلى وفصلت له ثناياه، وضرب مسلم(عليه السلام) بكر بن حمران على رأسه بالسيف ضربة منكرة وثناه بأخرى

ص: 508

على حبل العاتق حتى كادت الضربة تطلع إلى جوفه، فلما رأوا ذلك من أشرفوا عليه من فوق السطوح وأخذوا يرمونه(عليه السلام) بالحجارة ويلهبون النيران في أطناب القصب، ثم يرمونها عليه من أعلى السطوح والبيوت، فلما رأى ذلك منهم خرج إليهم مسلم(عليه السلام) مصلتاً سيفه في سكة الطريق كان من قوته أن يأخذ الرجل منهم بيده فيرمي به من فوق السطح حتى قتل منهم جماعة كثيرة، فبلغ ذلك ابن زياد لعنه الله تعالى فأرسل إلى ابن الأشعث لعنه الله تعالى يقول إليه : ثكلتك أمك يابن الأشعث أرسلناك إلى رجل واحد فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة فكيف بك إذا أرسلناك إلى من هو أشد بأساً وأصعب مراساً يعني بذلك الامام الحسين صلوات وسلامه عليه ؟ فأرسل ابن الأشعث إلى ابن زياد لعنهما الله تعالى يقول إليه : أتظن أنك أرسلتني إلى بقال من بقالي الكوفة أو إلى جرمقان من جرامقة الحيرة ؟ ألم تعلم أنك أرسلتني وبعثتني إلى بطل همام وأسد ضرغام وسيف من أسياف رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ؟

وجعل مسلم عليه الصلاة والسلام كلما أتت إليه شرذمة فرقها وهزمها فأرسل ابن زياد إلى ابن الأشعث لعنهما الله تعالى أن اعطوه الأمان.

فقال ابن الأشعث لمسلم(عليه السلام) : لكل الأمان يا مسلم لا تقتل نفسك استسلم خير لك .

فقال مسلم(عليه السلام) :وأي أمان للغدرة الفجرة ؟ فلم يركن إلى أمانهم ولم يزل يقاتلهم وهو يقول :

أقسمت لا أقتل إلا حرًا*** وإن رأيت الموت شيئاً نكرا

الأبيات المتقدم ذكرها وهي التي تعرفنا بعظمة مسلم(عليه السلام)وعظمة جهاده في سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمته تعالى فقاتل قتالاً شديداً حتى أثخن بالجراح وتكاثروا عليه بعد أن أتخن وقد ضعف عن القتال فأسند ظهره الشريف إلى جدار تلك الدار يرتاح قليلاً فعملوا له مكيدة حفروا حفرة في الأرض ودفنوها بالدغل ثم حملوا عليه وانهزموا من يديه فوقع مسلم(عليه السلام)في تلك الحفيرة فاجتمعوا عليه،

ص: 509

فقال(عليه السلام) لقوم لعنهم الله : ءآمن أنا ؟

قال ابن الأشعث: نعم لكل الأمان ، ثم قال(عليه السلام)للذين معه: إلي الأمان قالوا: نعم

إلا عبيد الله بن العباس السلمي لعنه الله تعالى فإنه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل . فقال مسلم(عليه السلام) : لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم ثم أتي ببغلة فحمل عليها ونزعوا سيفه من يده الشريفة فعلم عند ذلك أنه أخذ غدراً، فيئس من حياته وانهملت عيناه بالدموع ، فقال(عليه السلام) : هذا أول الغدر إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم كثر منه البكاء ولم يعلموا ما السبب حيث انه لا يخشى الموت فكيف هذا البكاء منه .

فقال له عبدالله بن العباس السلمي لعنه الله تعالى : إن من يطلب مثل الذي طلبت لم يبك إذا نزل به مثل الذي نزل بك.

فقال مسلم عليه الصلاة والسلام : لا لنفسي أبكي ولا لها من القتل أرثي وإن كنت لا أحب لها طرفة عين تلفاً ولكن أبكي لأهلي المقبلين علي، أبكي حسيناً وآل حسین فكأنه أراد أن يشارك الباكين على الحسين(عليه السلام)فلقد بكاهم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قبل أن يقتلوا في كربلاء.

عظم الله أجورنا واجوركم، فلما أن انتهوا به إلى باب القصر الذي فيه ابن زياد لعنه الله تعالى وعلى باب القصر قوم جلوس وإذا بقلّة ماء باردة، فقال مسلم(عليه السلام) : اسقوني من هذا الماء، فقال له ابن عمرو الباهلي لعنه الله : أتراها ما أبردها والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم.

فقال له ابن عقيل : ويحك من أنت ؟ قال : أنا الذي عرف الحق إذ أنكرته، ونصح لإمامه يزيد إذ غششته، وأطاعه إذ ،خالفته أنا مسلم بن عمرو الباهلي لعنه الله.

فقال له مسلم عليه الصلاة والسلام : لأمّك الثكل ما أجفاك وأقطعك وأقسى قلبك يابن باهلة أنت أولى بالحميم ونار الجحيم.

ثم جلس مسلم (عليه السلام)وتساند إلى جدران القصر حتى يؤذن له بالدخول على

ص: 510

ابن زياد لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، فقام عمرو بن حريث وبعث لمسلم عليه الصلاة والسلام قدحاً فيه ماء فقال له : أشرب يا مسلم فأخذ كلما أراد أن يشرب امتلأ القدح دماً من فمه المبارك وفعل ذلك مرتين فلما أخذ في الثالثة ليشرب سقطت ثناياه الشريفة في القدح ، فقال : الحمد لله لو كان من الرزق المقسوم الشربته فرفض الماء من يده ولم يشرب منه شيئاً .

وخرج رسول ابن زياد لعنه الله فأمر بإدخاله، فلما دخل مسلم(عليه السلام) على ابن زياد لعنه الله تعالى لم يسلّم عليه بإمرة، فقال له الحرسي : لما لا تسلم على الأمير فقال له مسلم(عليه السلام): ويحك إنه ليس لي بأمير، بل أميري الحسين عليه الصلاة والسلام.

أميري حسين ونعم الأمير*** سرور فؤاد البشير النذير

علي وفاطمة والداه*** فهل تعلمون له من نظير

فقال ابن زياد لعنه الله : لا عليك سلّمت أو لم تسلّم فإنك مقتول لا محال.

فقال له مسلم صلوات الله وسلامه عليه : إن قتلتني فلقد قتل من هو شرّ منك من هو خير منّي.

فقال ابن زياد لعنه الله : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة ما قتلتها أحد من المسلمين في الإسلام.

قال له مسلم(عليه السلام) :إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك، وجعل ابن زياد لعنه الله يخاطب مسلم(عليه السلام)شتماً خطاب العاهرة للأحرار، فقال له يا شاق يا عاق خرجت على إمام الفاسقين يزيد بن معاوية لعنه الله وشققت عصا الفاسدين والقحت الفتنة.

فقال له مسلم صلوات الله وسلامه عليه : كذبت إنما شق عصا المسلمين معاوية لعنه الله وولده يزيد ، وأما الفتنة ألقحتها أنت وأبوك زياد بن عبيد وعبد بني علاج ، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي أشرار برّيته .

وأخيراً التجأ ابن زياد لعنه الله تعالى إلى الشتائم والسباب فجعل يسب

ص: 511

مسلم(عليه السلام)ويشتمه ويسبّ علياً وحسناً وحسيناً عليهم أفضل الصلاة والسلام والسبّ عادة بني أميّة لعنهم الله تعالى ولكن مسلم صلوات الله وسلامه عليه لم يصبر على الضيم ، فقال له : أنت وأبوك زياد أولى بالشتم واللعن فاقضي ما أنت قاض يا عدو ورسوله، فازداد غضبه وقال : أين الذي ضرب رأس مسلم فدعي بكر بن حمران الأحمري لعنه الله تعالى وهو الذي اختلف معه بضربتين فقام يريد أن يجهز عليه بعد أن جرحه بشفتيه فأمره ابن زياد وقال له: فلتكن أنت الذي تتولى قتله، اصعد به إلى أعلى القصر فاضرب عنقه وارم بجثته إلى الأرض ، فلما صار مسلمان فوق القصر ، قال : اللهم احكم بيننا وبين القوم الظالمين فإنهم غرونا وخذلونا فدعونا لينصرونا فأسلمونا لعدوّنا يريق دماءنا.... ثم وجّه وجهه عليه الصلاة والسلام إلى صوب الحجاز يسلّم على الحسين الله قائلاً : السلام عليك يا أبا عبدالله ، السلام عليك يا ابن رسول الله ، ولسان حاله يقول :

يحسين أنا مقتول ردوا لا تجوني*** حانوا هل الكوفة عقب ما بايعوني

أو للفاجر ابن زياد كلهم سلموني*** مفرود وانتوايا هلى عني بعيدين

يا ليت هالدم الذي يجري على القاع*** مسفوح بين ايديك يا مكسور الاضلاع

يا حيف منك محتضيت بساعة اوداع***بيني او بينك يا حبيبي فرق البين

ما هیچ اهمومي الذي جار عليه*** وجدي او حزني الجيتك يا ابن الشفيه

خوفي تجي او يصدر عليك الصار بيه*** واتضيع من من بعدك يبن عمي الخواتين

صاح الدعي ابن زياد فيهم لا تمهلوه*** بالعجل من فوق القصر للقاع ذبوه

قطعوا كريمه والجسد بالسوق سحبوه*** بالحبل ما بين الملا وافجعة الدين

وسفه الجسد ذبوه من قصر الاماره*** ويزيد لرض الشام راحت له ابشاره

وكان ايترجا احسین وانقطعت اخباره*** اوزینب تنشده اشخبر مسلم يا ضيا العين يحسين مسلم ما لفت منه مكاتيب*** شا السبب ما يطرش خبر نفهم الترتيب

والله من الكوفة يخويه قلبي امريب*** ذبحوا علي او خانوا بعهد الحسن يحسين

قلها الخبر عندي يمهجة سر لوجود*** مسلم من الكوفة ينور العين ميعود

ص: 512

کنی اشوفنه ابسوق الغنم ممدود*** ما بينهم ينسحب لنهم ما مسلمين

نعم، لقد أخرجوه(عليه السلام)هو وهاني بعد قتلهما(عليه السلام)إلى السوق وأخذوا يجرونهم بالحبل وهم ينادون عليهما :هذا جزاء من خرج على خلافة بني أمية- الفاسدين لعنهم الله تعالى .

وفي هذه الرزية يصف لنا الشاعر البحراني ملّا علي الفائز حالتيهما وكيف وضع الظالمون الحبل في حلقيهما وجعلوا يضربوهم بالأحجار فهو يقول :

طلعوا ابهاني والبطل مسلم إلى السوق*** والحبل في حلقينهم مشدود مربوق

والله فعايلهم ابها الامجاد متلوق*** ويش الجنو للذبح صاروا مستحقين

اوفي السكك والاسواق قاموا يسحبوهم*** والخلق بالاحجار ظلوا يضربوهم

او اما هل الكوفه مكنهم يعرفوهم*** ولا رعوا حرمة الى الكرار ابو احسين

يا ليت أبو السجاد يحضرهم يراهم*** ينظر ينظر جثثهم ما تواروا في ثراهم

مسلم اوهاني اصبحوا ابولية اعداهم*** و امست نساهم من بعدهم مستعدين

والروس فوق ارماح ودوهم الى الشام*** ويعايدوا في الشام اهلها سبعة ايام

ويزيد أمر بالفرح للخاص والعام*** وامر يدوروا ابروسهم كل البلادين

وارسل الى ابن ازياد في خطه يخبره*** ان حشت سبط المصطفى مهجة الزهرا

بعد الذبح بالخيل رض صدره او ظهره*** وارفع كريمه برمح واحرق للصياوين

ولا تبقى من أولاد حيدر من بقيه*** او كسر أعضاهم بالخيول الاعوجيه

او فوق الهزل ركب نساء الهاشمية*** ثاراتنا ابصفين ناخذها من احسين

لا بارك الله في زمان خان عهده*** واخرج سليل المرتضى من وطن جده

أو أمسى ابمكه حاير ابأهله او ولده*** ما حصل له ايكمل الحج ويه المسلمين

وقال أيضاً يستنهض أهل الفخر والشيم والبسالة من بني هاشم في طلب ثار مسلم صلوات الله وسلامه عليه :

يهل الفخر والشيمه يهل الفخر والشيمه*** في تار مسلم ثوروا يهل الفخر والشيمه

ص: 513

ما يجسرون الحربه يوم الفزع والصايح*** يا ليتكم شفتونه وسط الحفير طايح

نصبوا العزه والماتم على الغريب النازح ***مرمي ولا جبتونه يهل الفخر والشيمه

ضاعت ادموم ليكم ما بين اهل الكوفه*** واضحت عليكم ها العدى متباشره أو مشفوفه

راياتهم منشوره او راياتكم ملفوفه*** في ثار مسلم ثوروا يهل الفخر والشيمه

لولا الحفيره او سابق امر قضاه الباري*** جابوه عند الطاغي يبكي ابدمع جاري

وبنه هلي ميجوني حتى يدركوا ثاري ***في ثار مسلم قوموا يهل الفخر والشيمه

عند اللعين الطاغي جابوا إله امكيدينه*** امر عليه ابن الخنا امن اعلى القصر يرمونه

يهل الفخر والمرجله ياليتكم شفتونه *** في ثار مسلم قوموا يهل الفخر والشيمه

ماجت لكم اخباره يا أهل الفخر العالي*** يوم العدى ايذبونه من فوق قصر عالي

وابقى عفير ابدمه مرمي بليا أمواري*** ما حد حضر له منكم يهل الفخر والشيمه

يهل الحميه ثوروا واسيوفكم مسلوله*** او نار الحرب خلوها بعد وانكم مشعوله

مدري الخبر ما جاكم قبل الحرب والصوله*** وانتوا الحميه فيكم يهل الفخر والشيمه

ص: 514

واضيعتي يابن أمي او فجعتي يا سنادي*** مسلم قضه بالكوفه اول ذبيح او بادي

راح او مضى او ضيعني واشمتت حسادي*** گوموا بعجل ردونا يهل الفخر والشيمه

قلها السبط يا زينب انا لنا والرجعه ***حن او بكى واتزفر واجری ابخده دمعه

يختي المدينه ليها هيهات ما من رجعه ***في ثار مسلم قوموا يهل الفخر والشيمه

***

جيه يحيدر جيه مسلم قضه بالكوفة*** يا ليت لنك حاضر واتعاينه واتشوفه

جيه يحيدر جيه مسلم تری خانوا به*** و بحبال شدوا رجله قوم الخنا او داروا به

يا ليت لنك حاضر واتشوف ما فعلوا به ***لفقار سله عاجل او بالخيل طب الكوفة

يا ليت شفت لولاده يوم الخبر وصلهم ***ذبوا العمايم بالثرى لجله او بكوايم عمهم

وامخدراتك بالخيم تبكي او زاید همهم*** حن حين سمعوا بالخبر مسلم قضه بالكوفه

واحسين قام اينادي او بالعجل دش اخيامه*** حط الفتاة ابحجره وامدامعه سجامه

وحست ابوها قاضی اوقالت لفاه احمامه*** او قالت يعمي الكوفه هي بالغدر معروفه

ص: 515

وظلت تحن وتنادي واخوانها ايسعدوها*** واحريم آل المصطفى بامصابها ايعزوها

او قالت البيعه يا هلي نكثوا بها او خانوها*** يا ليت ابویه انظره ابعيني انا واشوفه

وظلت تحن النسوه وارتج ذاك الوادي*** هذي تنادي عمه وهذي تصيح سنادي

اوحده تكله المسلم شمتت علي حسادي***او صاحوا عليه ابصيحه مسلم قضه بالكوفه

عباس نادى ابصوته قوموا ادركوا والينا*** احنا اولاد المرتضى والكفر ما تولينا

يحسين اخويه هذي اول مصيبه فينا*** سورلنا غدروا به اولاد الخنا بالكوفه

زينب تجر الحسره وادموعها تتناثر*** حيدر دثور ابهمه والسيف بيدك شاهر

والله هضيمه او ذلة معها لمكدر صاير*** هذا عزيزك ينتحب وامدامعه مذروفه

جارت عليه الامه او نكثوا يبويه البيعه*** وابن الخنا بالكوفه قتل جميع الشيعه

واحنا عقب والينا صرنا بعظم ضيعه *** ويا هي مصيبه علينا نزلت براضي الكوفه

مسلم ابولیه اعادي وين قومه او عزوته*** فوق عالي القصر جزوا یا ضياغم رقبته

انذبح وادموعه على اهله فوق وجناته تخر*** وقع راسه او جثته يا خلق من فوق القصر

ص: 516

والروايا شهروها وشهروا سيوف النصر*** وخل ابو فاضل وسط كوفان ينشر رايته

راية الكرار نشروها او توروا بالفزع ***على الكوفه وزلزلوها من القصر مسلم وقع

شانكم عزا ومعالي ما تعرفون الجزع*** وين ابو سكنه الشفيه ما يذب عمامته

الكم يبوسكنه جنازه ما لها مواري ترى*** من القصر للقاع خرت بالتراب معفره

جنازة الطاهر ابن عمك ضلوعه مكسره*** تنسحب فوق الصخر بين الخلايق جثته

يا صن ديد الحربيه وين ذيك المرجلة*** بالحبل ينسحب مسلم كي رضيتو ياهله

ما جرت عاده الجنايز تنسحب بين الملا ***وين عبدالله ابن مسلم ما يعاين حالته

وين بوسكنه الشفيه ما يسل سيفه ويثور***وین جعفر وين عبد الله وعثمان الغيور

عن ذبيح بدار غربه ما احتضی بنوم القبور*** لا يذلكم هالدعي ابن زياد هجموا کوفته

يا ليوث الغاب كيف على المذله تصبرون*** هذا مسلم مثلوا بيه شالسبب ما تنهضون

يبوفاضل يا علي الاكبر يجاسم ما تجون*** تنفرون الولد عمكم ترفعون جنازته

يحيدر محضرت مسلم خانت بیه اهل کوفان*طايح بالحفيره ايصيح وين اهلي بني عدنان

ص: 517

يحيدر لو شفت حاله اودمه امن الوجه يجري**ينادي وعني احسين أظن بالحال ما يدري

الهواشم ما يشوفوني يشوفون اشفعل دهري***اعالج بالحفيرة الروح والتمت علي عدوان

ينادي وينكم يهلي تشوفوني بلامحامي*** امكتف بالحبل والناس من خلفي او جدامي

وأنا أتلظا على شربه او قلبي امفتت او ظامي*ونا محصور بين الدور ما عندي سعة ميدان

لو عندي سعة ميدان لحمل حملة الكرار*** وأملي بلجساد ابرور واشعل للحرايب نار

اشبيدي والقضى جاري اضل محصور وسطا الدار**ذبحت اولا اشتفي قلبي أبد من عصبة الشيطان

ينادي يا هلي او تالي على ابن زياد دخلوني*بقى يسبني بين حيدر ونا بس تهمل اعيوني

وامر من على قصره على التربان يرموني*** ونا حزني على فرقاك يا سيد بني عدنان

يحيدر واعظم امصيبة يوم اللي اصعدوا بمسلم***على قصر الدعي ابن زياد اودمه امن الوجه يسجم

توجه للشهيد احسين يجري الدمع ويسلم **سلامي يا شهيد اعليك واعلى جملة الشبان

قطع نسل الخناراسه اوذبه امن القصر للقاع***اوجئة اترضضت ويلي او منه اتكسرت الاضلاع

ابحبل قاموا يسحبونه يبو الحسنين ثور الساع ***ترضى ينسحب مسلم على وجهه برض كوفان

ص: 518

الجلسة الثامنة عشر

أمل الناس في البقاء طويل*** وهو ظل عمّا قليل يزول

لا تغرنك غدوة بسرور*** وانتظر ما يجيء فيه الأصيل

وعظتنا الدنيا وكم قد أرتنا*** عبراً لو تدبرتها العقول

خذ من الزاد ما استطعت كثيراً*** لغد فالبقاء فيها قليل

ليس فيها وان يكن جل وقعاً*** بعد يوم النّبي خطب جليل

یوم فيه قد أجهش الملأ الأعلى***وصك الأسماع منه العويل

أيّ يوم به البتولة ثكلى*** وبه شخص أحمد مثكول

زلزل الأرض من أطلّ وكادت*** راسيات الجبال منه تزول

غاب نجم السارين ان عسعس الليل*** وضل الهادي وحار الدليل

هل مقيل من عثرة الدهر أم هل*** بعد ظل الإله فيها مقيل

فمن الغوث والزمان مهول*** ومن الغيث والسنون محول

صعد الروح منه في روح قدس*** ماله بعدها بوحي نزول

أيها المدلج المفذ بحرف*** شفها الوخد بالفلا والذميل

أن تجيء طيبة فقبل ضريحاً*** من شذاه طابت صبا وقبول

قل له واسكب المدامع عن ذي*** مهجة ملؤها جوى وغليل

يا رسول الله الأمين على الوحي*** لقد خانك الملأ والقبيل

إن يوماً مضيت فيه ليوم*** ليس يساوه للقيامة جيل

ص: 519

غير ان الأعداء بعدك لما*** غبت هاجت أحقادهم والذحول

مال فيها نحو الضلال هواها*** عن سنا الحق والهوى يستميل

نقضوا عهد حيدر فأعاديه*** کثير والناصرون قليل

جحدوا نصك الصريح عليه*** وبإجماعهم أُقيم الدليل

إن يوم الغدير أنكره القوم*** وغالت خلافة الحق غول

إن تلك الذئاب بعدك غالت*** أسد الله واستبيح الغيل

وتواصوا على اغتصاب حقوق*** قد حوتها بالإرث منك البتول

جرعوها من بعد عينيك غيظاً*** ما إلى بته إليك سبيل

لم يصونوا ريحانة كنت تجنيها*** وسرعان ما عراها الذبول

وسقوا أكؤس المنية سبطيك*** ولم أدر بعد ماذا أقول

أدركوا وترهم فذلك مسموم***وهذا بثار بدر قتیل

بسنا رأسه تنؤ العوالي*** وعلى صدره تجول الخيول

لقد عدد هذا الشيخ الجليل والأديب الفاضل في هذه الأبيات الجليلة بعض المصائب التي تحملها أهل البيت عليهم الصلاة والسلام بعد وفاة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) والتي كان من أكبرها فضاعة وأعظمها جرأة هو اغتصاب مولانا وسيدنا وإمامنا مولى المتقين وأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام منصب الخلافة الثابت له من الله تعالى بنص القرآن الكريم ووصية الرسول العظيم بذلك، وان يوم الغدير ذلك اليوم العظيم الذي حضره مائة وعشرون ألف من المسلمين والذي أقام فيه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)علياً عليه الصلاة والسلام إماماً وعلماً وهادياً للناس لأكبر دليل على ثبوت هذا الحق لعلي وأولاده الأحد عشر صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجعلني الله وإياكم من المتمسكين بهم السائرين على طريقهم إلى يوم الدين.

ويرغم من ثبوت ذلك الحق لهم عليهم الصلاة والسلام فإن أولئك الذئاب قد اغتصبوا ذلك المنصب الإلهي منهم ظلماً وعدواناً ، وتمادوا في جرأتهم حتى حتى قدموا

ص: 520

على اغتصاب حقوق قد حوتها فاطمة عليها الصلاة والسلام بالارث من أبيها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، وزادوا فى ذلك بأن هجموا عليها في بيتها بغير إذنها :

هجموا عليها ابغير اذنها في خدرها*** والجزل معهم والدعي الثاني انتهرها

حامل وبين الباب والحايط عصرها*** ومن شد عصرتها سقط محسن بلتراب

ولمن أفاقت صاحت ابفضه ادركيني*** كسروا اضلوعي وسقطوا مني جنيني

فضه عرفتي اللي لطمني فوق عيني*** واللي اضلوعي كسر الها ابصفجة الباب

ما صار في النسوه مثيلي طول لدهور*** وبس مات ابويه واندفن جسمه بلقبور

متني اتورم بالضرب والضلع مكسور*** فضه ولا حرمة بقت لي بين لصحاب

عميت اعيوني من لطمني ولد لنذال*** وبالدار ما شوف البطل خواض لهوال

قالت عن اللي تنشدني انقاد بحبال*** مكشوف راسه والدمع كالغيث سكاب

خرجت صلوات الله وسلامه عليها وأخذت تحقق نظرها(عليهم السلام) فيما صنعه الذئاب في ابن عمها وإذا بها ترى عزها قد أحاط به القوم الظالمين من كل جانب وهو عليه الصلاة والسلام مكشوف الرأس والحبل في عنقه الشريف انتحبت عليها الصلاة والسلام باكية :

و تزلزلت طيبه من اصياح الحزينه*** والله فلا اصبر بالحبل ينجر ولينا

ما ارجع لحتى ايعود من يحمي علينا*** ولا اشق جيبي وخل الشعر منشور

ما ارجع بلا الوالي الصميدع نور السلام*** اتريدون ترميلي وولدي تصبح ايتام

عمري لبيعه ولو بذلت العمر مالام*** عيشه بليا ارجال ليت الجسد مقبور

نعم، لقد هجم الذئاب على ذلك الأسد وأخرجوه من بيت فاطمة(عليه السلام)وهومكشوف الرأس والحبل في عنقه الشريف، ويذكرني يا محبين هذا الحبل بحبل آخر وهو الحبل الذي وضع في رجلين مسلم وهاني صلوات الله وسلامه عليهما وكيف كان أعداء الله يجرونهما في سوق الكوفة فيا لها من مصيبة أبكت عين الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وأبكت أهل السموات وأهل الأرض حتى صار

ص: 521

البكاء عليهما من لوازم الأيمان وخواص الإيقان:

عين جودي لمسلم بن عقيل*** لرسول الحسين سبط الرسول

لشهيد بين الأعادي وحيد***وقتيل لنصر خير قتيل

ابك من قد بكاه أحمد شجواً ***قبل میلاده بعهد طويل

وبكاه الحسين والآل لما*** جاءهم نعيه بدمع همول

تركوه لدى الهياج وحيداً*** لعدو مطالب بذحول

ثم ساقوه بينهم يتهادى*** للعين الرذيل وابن الرذيل

طاوياً ظامياً جريحاً عليلاً*** طالباً منهم رواء الغليل

وإن نسيت فلا أنسى ما صنعه ابن حمران لعنه الله تعالى بمسلم صلوات الله وسلامه عليه حيث ضرب عنقه الشريف واتبع رأسه جثته من أعلى القصر فتقطع إرباً إرباً، وفي وفي هذه الرزيّة يقول الأديب اليعقوبي رائياً له عندما وقف على أطلال قصر الأمارة الواقعة في الجنوب الغربي من جامع الكوفة وذلك عندما اكتشفتها مديرية الآثار العراقية سنة 1356 هجرية وقد هاجت أحزان الأديب عند ما نظر إلى الآثار فأنشأ يقول :

أقصر الامارة ذكرتني***فوادح منها لصفا تشعب

فلا نفحت جاريات الصبا*** رباك ولا رشّها صیب

بنوك على الظلم من أسسوك*** وذاك البناء للبلى أقرب

فلیت طلولك لي لم تلح*** فقد هاج فيها الجوى المكرب

فمنك رموا مسلما موثقاً*** كما خر نحو الثرى كوكب

وشدّوا برجليه فيك الحبال*** وأضحى بأسواقهم يسحب

وفيك بعود ابن مرجانة لعنه الله*** ثنايا الشهيد عدت تضربُ

وقد أوقفوا فيك زين العباد*** أسيراً وأدمعه تسكب

ویسمع شتم أبيه الوصي*** به فوق أعواهم تُخطب

وينظر أرؤس آل الهدى*** كؤوس الطلا عندها تشرب

ص: 522

یری حرم الوحي في حالة*** لها الله في عرشه يغضبُ

سوافر ليس لها حاجب*** ونسوة آل الخنا تُحجب

وقال الأديب الفرطوسي :

وأتوا يهرعون للقصر فيه***هدم الله ما به من بناء

فرأى عند بابه حين وافى*** قُلّةً بردت بأعذب ماء

استقى شربةً فما جاد لؤماً*** مسلم الباهلي بعد الإباء

فائلاً لا تذوق منها قليلاً*** دون ورد الحمیم بعد الفناء

قال يا باهلي إنك أولى*** بشراب الحمیم يوم البقاء

وأتاه عمرو بقلّة ماءٍ*** بيدي عبده بده لأجل الرواء

فتجافى كأساً ثناياه فيها*** سقطت بعد رميه للإناء

ولقد أدخلوه لابن زيادٍ ***وهو يزهو في حلة الخيلاء

فرآه ولم يسلم عليه*** مستخفاً به بكل ازدراء

قال سلّم على الأمير بزجرٍ***حرس القصر ساعة الإبتداء

قال فاسكت فليس لي بأميرٍ*** بعد مولاي سيّد النجباء

قال دعه سلّمت أم لم تسلّم*** سوف تجزى بالقتل شر جزاء

أوه يا مسلم أتيت البرايا***و هم في تآلف والتقاء

فشققت العصا وفرقت منهم*** وحدة الصف بعد طول اللقاء

قال إنّي ما جئت قط لهذا*** بل لزعم منهم بدون افتراء

أنّ شر الورى أباك زياداً*** وهو نبع الخنا وفرع البغاء

قتل الخيرة الأماثل واستبقى***جمیع الأشرار والأشقياء

فأتيناهم لنأمر بالعدل*** وننهى عن منكر الفحشاء

قال ما أنت- قد كذبت وهذا*** الزعم فسقاً يا فاجر يا مرائي

قال ربّ الفجور والفسق غيري*** وهو من كان والغاً في الدماء

قال والله سوف تقتل قتلاً*** ماله في القدم من نظراء

ص: 523

قال أمّا لأنت أجدر أن*** تحدث بدعاً في أمّة الحنفاء

فاستشاط اللعين غيظاً وأضحى*** شاتماً اتماً مسلماً بشر اعتداء

و تمادى غيّاً بشتم حسين*** وعقيل و قيل وسيّد الأوصياء

ثمّ نادى بكر بن حمران خذه*** واعتل القصر فيه شر اعتلاء

واقطع الرأس منه بالسيف ضرباً*** وارم في جسمه على الغبراء

فاعتلوا فيه وهو يلهج بالتسبيح*** شكراً لربه والدعاء

وتلاه بركعتين ختاماً***حین أداهما خير أداء

وسلام على الحسين كريم***من بعيد ردّه وهو نائي

ثم حزّوا في مرهف الغدر بغياً***منه صبراً رأس العلى والوفاء

ورموا جسمه على الأرض طوداً*** قد تردّى على صعيد الاباء

وتلوه في جسم هان فكانا*** في الضحايا من أفضل الشهداء

و تمادوا في مثلة الكفر غياً*** حین جروهما بغير اهتداء

بعد شدّ الحبال في كل رجل*** منهما في الطريق دون ارعواء

لحد يمسلم خانت ابعهدك الانذال*** لكن بديت المرجله يا فحل لرجال

لولا الحفيره والقضا وافق الحيله*** ما صابك ابن ازیاد بارجاله او خیله

لكنهم يوم الحرب صابوك غيله*** فعلة خمايم فيك ما هي فعلة ارجال

والله لون حربك معاهم في سعة بر*** ما كان صاروا بالحرايب منك اظفر

یا حی ذاك الوجه منك يا غضنفر*** ليتك حشتهم في سعة مطراد خيال

اتمنيت حاضر يوم حرب الغاضريه***یوم تصك اجموعهم بالسمهريه

أو زينب تنادي راحت ارجالي سويه*** افنى اهلنا السيف ما بقى لنا ارجال

أو حاز المراجل من ضرب بالسيف واروى*** هاني طعن بالعواد او حد السيف روى

***

ألا لا عدا صوت الحيا يا بن عروة*** ثرى لك في نشر الشهادة يأرج

ذكرتك والآماق ينهل دمعها*** ونار الأسى بين الضلوع تأجج

ص: 524

حميت ابن عم السبط في حيث لم يجد*** حمىً فيه يأوى أو عليه يُعرّج

لك الله محمولاً بمكر وخدعة*** إلى القصر في حالٍ لها القلب يزعج

فأنفك في عود الدعي مهشم*** وشيبك من فيض النجيع مضرج

ورحت بأبراد الشهادة رافلاً***وباءت بأثواب الخزاية مذحج

هتفت بهم في القصر تدعو فلم تكن*** ظبى بيضها تنضى ولا الخيل تسرج

إذا دخل الزوّار مشهد مسلمٍ*** فمنك باكما الزيارة تخرجُ

ألا يابن عروة يا من رقي***من الفخر ذروته الشاهقه

سقت هاطلات الحيا تربة*** برياك قد أصبحت عابقه

نصرت رسول ابن بنت الرسول*** وأعطيته البيعة الصادقه

وفيت إلى أن لقيت الحمام*** وقد خانت الفئة المارقه

أتهتف بالقصر في مذحج*** ولم تأتِ راياتهم خافقة

ویسحب جسمك ما بينهم*** وأعينهم نحوه وامقه

فأين صوارمُها الماضيات*** وأين صواهلها السابقه

قال الله تعالى في كتابه المجيد:﴿ بسم الله الرحمن الرحيم: تبت يدا أبي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الخطب في جِيدِهَا حَبْلُ مِن مَّسَد﴾.

قبل أن نشرع في بيان ما ذكره المفسّرون حول تفسير هذه الآيات المباركة الشريفة نشير إلى أمور مهمة تتعلق بمن يمتث إلى الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)بصلة الحسب أو النسب :

الأمر الأول : لقد كان الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)تسعة أعمام، هم بنو عبدالمطلب: الحارث ،والزبير، وأبو طالب، وحمزة ،والفيداق، وضرار، والمقوم، وأبو لهب واسمه عبدالعزّى، والعباس، ولم يعقب منهم إلا أربعة : الحارث وأبو طالب والعبّاس وأبو لهب لعنه الله . فأما الحارث فهو أكبر ولد عبد المطلب، وبه كان يكنى، وشهد

ص: 525

معه حفر زمزم وولده أبو سفيان، والمغيرة، ونوفل، وعبد شمس.

أما أبو سفيان فلم يعقب وأما نفول فله عقب، وأما عبد شمس فعقبه بالشام، وأما السيد الجليل أبو طالب عم النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)فقد كان مع أخيه عبدالله ابني أم، وأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم واسمه عبد مناف وله أربعة أولاد ذكور : طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي صلوات الله وسلامه عليه ، ومن الإناث هاني واسمها ،فاختة وجمانة أمهم جميعاً فاطمة بنت أسد رضوان الله تعالى عليها، وكان عقيل الا أسنّ من جعفر بعشر سنين ولهما كلاهما عقب ولسيدنا وإمامنا مولى المتقين علي عليه الصلاة والسلام العقب الطيب والنسل الطاهر، أما طالب فإنه ليس له عقب.

ولم يزل رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ممنوعاً من الأذى بمكة حتى توفي أبوطالب عليه الصلاة والسلام فنبت به مكة ولم يستقر له بها دعوة حتى جاءه جبرئيل فقال : إن الله يقرؤك السلام ويقول لك: اخرج من مكة فقد مات ناصرك ، ولما قبض أبو طالب أتى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فأعلمه بموته ، فقال له : امض يا علي فتولّ غسله وتكفينه وتحنيطه فإذا رفعته على سريره فاعلمني ففعل ذلك، فلما رفعه على السرير اعترضه النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وقال : وصلت رحم وجزيت خیرا يا عم، فلقد ربّيت، وكفلت صغيراً، ووازرت كبيراً، ثم أقبل(صلی الله علیه وآله وسلم)على الناس وقال : أما والله لأشفعن لعمّي شفاعة يعجب لها أهل الثقلين، فصلوات الله وسلامه عليك وعلى روحك الطيبة وجسدك الطاهر يا ناصر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم).

وأما العباس فكان يكنى أبا الفضل وكانت له السقايه وزمزم، وأسلم يوم بدر واستقبل النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) عام الفتح بالأبواء، وكان عام الفتح بالأبواء، وكان معه حين فتح، وبه معه حين فتح و به ختمت الهجرة، ومات بالمدينة في أيام عثمان وقد كف بصره ، وكان له من الولد تسعة ذكور وثلاث إناث: عبدالله ، وعبيد الله ، والفضل، وقتم ،ومعبد، وعبدالرحمن وأم حبيب أمهم لبابة بنت الفضل بن الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث زوجة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وتمام، وكثير،

ص: 526

أبي

والحارث ، وآمنة ،وصفية لأمهات أولاد شتى. وأما أبو لهب فولده - عتيبة ، وعتبة ،وعقبة، ومعتب ، ومعتب، وأمهم أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان لعنة الله عليه وعليها .

وكانت النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)عمات سناً من أمهات شتى وهنّ - أميمة ، وأم حكيم، وبرة ، وعاتكة، وصفية ، وأروى.

وكانت أميمة عند جحش بن رئاب الأسدي، وكانت أم حكيم وهي البيضاء عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وكانت برة عند عبد الأسد بن هلال المخزومي فولدت له أبا سلمة الذي كان تزوج أم سلمة، وكانت عاتكة عند أمية ابن المغيرة المخزومي ، وكانت صفية عند الحارث بن حرب بن أمية ، ثم خلف عليها العوام بن خويلد فولدت له الزبير ، وكانت أروى عند حمير بن عبد العزى بن قصي لم يسلم منهنّ غير صفية وقيل : أسلم منهن ثلاث: صفية ، وأروى، وعاتكة . الأمر الثاني : أنه لم يكن لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) قرابة من جهة أمه إلّا من الرضاعة فان أمه آمنة بنت وهب لم يكن لها أخ ولا أخت فيكون(صلی الله علیه وآله وسلم)خالاً أو خالة إلا ان بني زهرة كما أشرنا سابقاً في بعض الجلسات المتقدمة يقولون : نحن أخواله لأنّ آمنة منهم، ولم يكن لأبويه عبدالله وآمنة ولد غيره فيكون له الله أخ أو أخت من النسب، وكان له خالة من الرضاعة يقال لها : سلمى وهي أخت حليمة بنت أبي ذؤيب، وله اخوان من الرضاعة : عبدالله بن الحارث وأنيسة بن الحارث أبوهما الحارث بن عبدالعزى بن سعد بن بكر بن هوازن فهما أخواه (صلی الله علیه وآله وسلم)من الرضاعة .

الأمر الثالث : اننا فيما تقدّم قد ذكرنا في بعض الجلسات السالفة عدد أبنائه وبناته(صلی الله علیه وآله وسلم) . أما بالنسبة إلى زيد الذي كان يدعى زيد بن رسول الله فهو ليس من أبنائه وإنما كان من مواليه وقد كان لخديجة (عليها السلام)قد اشتراه لها حكيم بن حزام بسوق عكاظ بأربعمائة درهم فوهبته(عليه السلام)لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بعد أن تزوجها فأعتقه فزوجه أم أيمن فولدت له أسامة وتبناه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فكان يدعى زيد بن رسول الله حتى أنزل الله تعالى :﴿ ادعوهم لآبائهم﴾ . كما كان لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أيضاً غير زيد

ص: 527

من مواليه ومولياته وجواريه، ولتمام الفائدة نذكرهم بما يلي:

1 -أبو رافع واسمه أسلم، وكان للعباس(عليه السلام) فوهبه لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فلما أسلم العباس بشر أبو رافع النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) بإسلامه فأعتقه، وزوّجه سلمى مولاته فولدت له عبيد الله بن أبي رافع، فلم يزل كاتباً لعلي(عليه السلام) أيام خلافته.

2- سفينة واسمه ،رباح، اشتراه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فأعتقه.

3- نوبان يكنى أبا عبدالله من حمير أصابه سبي فاشتراه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فأعتقه .

4 - يسار وكان عبداً نوبياً أعتقه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فقتله العرنيون الذين أغاروا على لقاح رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم).

5 - شقران واسمه صالح .

6 - أبو كبشة واسمه سليمان.

7 - أبو ضميرة أعتقه(صلی الله علیه وآله وسلم)وكتب له كتاباً فهو في يد ولده .

8 -مدعم أصابه سهم في وادي القرى فمات.

9 - أبو مويهية.

10 - أنسة.

11 - فضالة .

12 - طهمان .

13 - أبو أيمن.

14 - أبو هند.

15 - أنجشة ، وهو الذي قال فيه : رويدك يا أنجشة رفقاً بالقوارير.

16 - وصالح.

17 - أبو سلمى .

18 - أبو عسيب .

ص: 528

19 - عبيد .

20 - أفلح .

21 - رويفع .

22 - أبو لقيط .

23 - أبو رافع الأصغر.

24 - يسار الأكبر .

25 - كركرة، أهداه هودة بن على الحنفي إلى النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)فأعتقه.

26 رباح.

27 - أبو لبابة .

28 - أبو اليسر وله عقب.

وأما مولياته فإنّ المقوقس صاحب الاسكندرية أهدى إليه جاريتين إحداهما مارية القبطية ولدت له إبراهيم عليه الصلاة والسلام وماتت بعده بخمس سنين سنة ستة عشر ، ووهب الأخرى لحسان بن ثابت.

وأم أيمن خاصة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وكانت سوداء ورثها عن أمه، وكان اسمها بركة فأعتقها وزوجها عبيد الخزرجي بمكة فولدت له أيمن فمات زوجها،فزوجها النبى (صلی الله علیه وآله وسلم) . من زيد فولدت له أسامة، أسود يشبهها فأسامة وأيمن إخوان لأم. وريحانة بنت شمعون غنمها من بني قريظة.

وأما خدمه من الأحرار فأنس بن مالك وهند وأسماء ابنتا خارجة الأسلميتان.

تفسير الآيات الكريمة

بعد الاستفادة من الأمور السالفة الذكر نشرع في تفسير الآيات الكريمة المذكورة فنقول :

ص: 529

1 -ان معنى التبّ في قوله تعالى: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ هو الهلاك والخسران ،وتبّ إخبار بأنّ الهلاك واقع لا محالة ، وأبو لهب أحد أعمام النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) الذين قد ذكرناهم فيما تقدم واسمه عبد العزى، وكان كثير البغض والأذى لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، وقال الرواة : نادى محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)الناس في الناس في ذات يوم، فلما اجتمعوا ومنهم أبو لهب قال(صلی الله علیه وآله وسلم): لو أخبرتكم بعدوّ يغزوكم أتصدقوني ؟

قالوا : أجل .

قال : أنا نذير لكم بين يدي عذاب .

فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا تباً لك ؟ فنزلت هذه السورة ، ولفظها يشعر بذلك.

2- ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾ المال مادة الشهوات فى الدنيا ، أما نعيم الآخرة فهو وقف على من اتبع الهدى، ونهى النفس عن الهوى.

3- ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾ أعدّت له .

4 -﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴾هي جميل بنت حرب أُخت أبو سفيان وعمّة معاوية لعنه الله، والحطب كناية عن لؤمها وإثمها الذي قادها إلى النار .

5-﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ الجيد العنق، والمسدّ : الليف، والمعنى ستخنق وتشنق غداً بحبل من نار جهنّم ، وهذا النوع من العذاب معدّ لكل من يمشي بالنميمة لأنها مهنة أم جميل كما قيل.

ولقد كانت هذه الخبيثة الملعونة وزوجها أبو لهب وأخوها أبو سفيان وكذلك أبو جهل لعنهم الله من أشدّ المعادين والمناوين الرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ولدعوته التوحيدية قد نصبوا كل الحبائل لهدم الإسلام، وتوسلوا بجميع الوسائل لإخفات صوته، وإخماد ضوئه، وأعملوا كل بأس وسطوة في مقاومة تلك الدعوة، حتى ألجأت جماعة ممن تدين بها فهاجروا إلى الحبشة وتحمل النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وأصحابه من الاضطهاد والأذى أكثر من عشر سنين حتى اضطر إلى الجلاء من وطنه ووطن آبائه، ومركز عزّه، فهاجر إلى يثرب فطارده أخوها أبو سفيان الخبيث، وتلاحقه إلى دارهجرته (صلی الله علیه وآله وسلم) .

ص: 530

أما بالنسبة إلى زوجها أبو لهب لعنه الله تعالى فقد كان يقول إلى الناس : أيها الناس لا تصدقوا ابن أخي . أما هی فلقد كانت لعنة الله تعالى عليها تضع الشوك في طريق الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)وما لقيه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من الأذى والاضطهاد من غير هؤلاء الأربعة من قريش فليس بقليل أيضاً. يقول :

أمين الاسلام ابو علي الفضل بن الحسن الطبرسي قدس سره: جدت قريش فيأذى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، وكان أشد الناس عليه عمه ، وكان أشد الناس عليه عمه أبو لهب، وكان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)عله ذات يوم جالساً في الحجر فبعثوا إلى سلى الشاة فألقوه على رسول الله ، فاغتم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من ذلك فجاء إلى أبي طالب ، فقال : يا عم كيف حسبي فيكم ؟

قال (عليه السلام)وما ذاك يا بن أخي ؟

قال(صلی الله علیه وآله وسلم) : إن قريشاً ألقوا على السلي.

فقال أبو طالب الحمزة(عليه السلام) : خذ السيف وكان قريش جالسة في المسجد، فجاء أبو طالب(عليه السلام)ومعه السيف وحمزة(عليه السلام)ومعه السيف فقال : أمر السلى على سبالهم فمن أبى فاضرب عنقه، فما تحرك أحد حتى أمر السلى على سبالهم، ثم التفت إلى رسول الل(صلی الله علیه وآله وسلم) وقال : يا ابن اخي هذا حسبك فينا.

وعنه نقلا عن عن كتاب دلائل النبوة عن أبي داود عن شعبة، عن أبي اسحاق :انه قال : سمعت عمر بن ميمون يحدّث عن عبدالله قال : بينا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ساجد وحوله ناس من قريش - وإذا سلى بعير فقالوا : من يأخذ سلى هذا الجزور أو البعير فيقذفه على ظهره(صلی الله علیه وآله وسلم)؟

فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهر النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ، وجاءت فاطمة عليها الصلاة والسلام فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ذلك، قال عبدالله : فما رأيت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)دعا عليهم إلا يومئذ ، فقال : اللهم عليك الملأ من قريش ، اللهم عليك أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط ، وأمية بن خلف أو أبي بن خلف - عد سبعة - قال عبدالله : فرأيتهم لقد قتلوا يوم بدر وألقوا في القليب أو قال : في بئر غير ان أُمية بن خلف أو أبي بن خلف كان رجلاً بادناً فتقطع

ص: 531

قبل أن يبلغ به البئر.

وعنه أيضاً أنّه قال : قد اجتمت قريش في دار الندوة وكتبوا بينهم صحيفة أن لا يؤاكلوا بني هاشم ولا يكلّموهم ولا يبايعوهم ولا يزوّجوهم ولا يتزوجوا إليهم ولا يحضروا معهم حتى يدفعوا إليهم محمداً(صلی الله علیه وآله وسلم)ليقتلوه، وأنهم كلهم يد واحدة على محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)ليقتلوه غيلة أو صراحاً ، فلما بلغ ذلك أباطالب (عليه السلام) جمع بني هاشم ودخل الشعب وكانوا أربعين رجلاً، فحلف لهم أبو طالب(عليه السلام) بالكعبة والحرم والركن والمقام لئن ساكت محمدا(صلی الله علیه وآله وسلم)شوكة لاثبن عليكم يا بني هاشم وحصن الشعب وكان يحرسه بالليل والنهار، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) مضطجع ثم يقيمه ويضطجعه في موضع آخر، فلا يزال الليل كله هكذا وكله ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار وأصابهم الجهد، وكان من دخل من العرب مكة لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً أو باع منهم شيئاً انتهبوا ماله، وكان أبو جهل والعاص بن وائل السهمي، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط لعنهم الله تعالى يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكة فمن رأوه معه ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً ويحذرونه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ما له ، وكانت خديجة لها مال كثير فأنفقته على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)في الشعب ولم يدخل في الصحيفة مطعم بن عدي بن نوفل بن عبدالمطلب بن عبد مناف وقال : هذا ظلم، وختموا الصحيفة بأربعين خاتماً ختمها كل رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعقلوها في الكعبة، وتابعهم أبو لهب على ذلك، وكان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)يخرج في كل موسم ويدور على قبائل العرب فيقول لهم : تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب الله ربي وثوابكم على الله الجنة، وأبو لهب في أثره فيقول : لا تقبلوا منه فإنه ابن أخي وهو ساحر كذاب، فلم يزل حاله فبقوا في الشعب أربع سنين لا يأمنون إلا من موسم ولا يشترون ولا يبايعون إلا في الموسم ، وكان يقوم بمكة موسمان في كل سنة العمرة في رجب وموسم الحج في ذي الحجة، فكان إذا جاء الموسم تخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون ثم لا يجسر أحد منهم أن يخرج إلى الموسم

موسم

ص: 532

الثاني فأصابهم الجهد وجاعوا وبعثت قريش إلى أبي طالب: ادفع إلينا محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)لنقتله ونملكك علينا، فقال أبو طالب صلوات الله وسلامه عليه : قصيدته المشهورة الطويلة :

فلمّا رأيت القوم لا ودّ فيهم*** وقد قطعوا كل العرى والوسائل

ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب*** لدينا ولا يعني بقول الأباطيل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه*** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يطوف به الملاك من آل هاشم*** فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت الله تبزى محمداً*** ولما نطاعن دونه و نناضل

ونسلمه حتى نصرع دونه*** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

لعمري لقد كلّفت وجداً بأحمد*** وأحببته حبّ الحبيب المواصل

وجدت بنفسي دونه وحميته*** ودافعت عنه بالذرا والكلاكل

فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها*** وشيئاً لمن عادى وزين المحافل

حليماً رشيداً حازماً غير طائش*** يوالي إله الحق ليس بماحل

فأيده رب العباد بنصره*** وأظهر ديناً حقه غير باطل

فلما سمعوا منه(عليه السلام)هذه القصيدة آيسوا منه ، وكان أبو العاص بن الربيع وهو ختن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يجيء بالعير بالليل عليها البر والتمر إلى باب الشعب، ثم يصيح بها فتدخل الشعب فيأكلها بنو هاشم وقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): لقد صاهرنا أبو العاص فأحمد مد صهرنا، لقد كان يعمد إلى العير ونحن في الحصارفيرسلها في الشعب ليلاً، فلما أتى لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)في الشعب أربع سنين بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم الله تعالى ونزل جبرئيل على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فأخبره بذلك فأخبر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أبا طالب عليه رسول الصلاة والسلام، فقام أبو طالب(عليه السلام)فلبس ثيابه ثمّ مشى حتى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه، فلما بصروا به :قالوا قد ضجر أبو طالب وجاء الآن ليسلّم ابن أخيه، فدنا منهم وسلّم عليهم فقاموا إليه وعظموه وقالوا: يا أبا طالب قد

ص: 533

علمنا أنك أردت مواصلتنا والرجوع إلى جماعتنا وأن تسلّم إلينا ابن أخيك، قال: والله خما جئت لهذا ولكن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني ان الله أخبره انه قد بعث على صحيفتكم القاطعة دابة الأرض فلحست ما فيها جميع من قطيعةرحم وظلم وجور وتركت اسم الله تعالى، فابعثوا إلى صحيفتكم فإن كان حقاً فاتقوا الله وارجعواعما أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرحم، وإن كان باطلاً دفعته إليكم فإن شئتم قتلتموه، وإن شئتم استحييتموه ، فبعثوا إلى الصحيفة فأنزلوها من الكعبة وعليها أربعون خاتماً فلما أتوابها نظر كل رجل منهم إلى خاتمه ثم فكوها فإذا ليس فيها حرف إلّا باسمك اللهم .

فقال لهم أبو طالب: يا قوم، اتقوا الله وكفوا عما أنتم عليه، فتفرق القوم ولم يتكلم أحد منهم ، ورجع أبو طالب إلى الشعب وقال في ذلك قصيدته البائية التي أولها :

ألا من لهم آخر الليل منصب ***وشعب القضا من قومك المتشعب

وقد كان في أمر الصحيفة عبرة*** متى ما يخبر غائب القوم يعجب

محا الله منها كفرهم وعقوقهم*** وما نقموا من ناطق الحق معرب

وأصبح ما قالوا من الأمر باطلا*** ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب

وأمسى ابن عبدالله فينا مصدقا*** على سخط من قومنا غير معتب

فلا تحسبونا مسلمين محمداً*** لذي عزّة منا ولا متعزّب

ستمنه منا يد هاشمية*** مركبها في الناس خير مركب

وقال عند ذلك نفر من بني عبدمناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم منهم مطعم بن عدي بن عامر بن لؤي وكان شيخاً كبيراً كثير المال له أولاد وأبو البختري بن هشام، وزهير بن أمية المخزومي في رجال من أشرافهم : نحن براء مما في هذه الصحيفة، وقال أبو جهل لعنه الله تعالى: هذا أمر قضى بليل ، وخرج النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) من الشعب ورهطه وخالطوا الناس، ومات أبو طالب سلام الله تعالى عليه بعد ذلك بشهرين، وماتت خديجة عليها الصلاة والسلام بعد

ص: 534

ذلك، وورد على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أمران عظيمان وجزع جزعاً شديداً، ودخل على أبي طالب(عليه السلام)وهو يجود بنفسه، فقال : يا عم ربيت صغيراً، ونصرت كبيراً، وكفلت يتيماً ، فجزاك الله عنى خير الجزاء خير الجزاء، اعطني كلمة أشفع بها لك عند ربي ، قال ابن عباس : فجعل يحرك شفتيه فأصغى إليه العباس يسمع قوله فرفع العباس عنه ثم قال : يا رسول الله قد والله قال الكلمة التي سألته إياها .

وبموت هذا الرجل العظيم أبو الأئمة الأطهار والحامي عن النبي المختار تتابعت المصائب على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وبعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام وقيل ثلاثون ليلة توفيت خديجة أم الائمة أيضاً وأم المؤمنين صلوات الله وسلامه عليها وبقي بعد ذلك رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بلا ناصر بأبي أنت وأمي يا رسول لقد تحملت الأذى والاضطهاد من أهل الكفر والعناد وجاهدتهم خير جهاد من أجل إظهار هذا الدين القويم حتى كسرت من أجل ذلك رباعيتك بل انه لم يمر عليك يوم واحد من حياتك المباركة خالياً من أذى المشركين واستهزاء المستهزئين حتى خرجت من هذه الدنيا مسموماً بعد أن أضعفتك العلّة وأنهكت قوتك فصلوات الله وسلامه عليك وعلى أهل بيتك وجزاك الله عن دينه وعنّا خير الجزاء بما صبرت واحتسبت وأسأل الله تعالى أن يعظم لنا الأجر والثواب في مصيبتنا بك يا حبيب قلوب المؤمنين وسيد الأنبياء والمرسلين.

بأبي أنت وأمي وإن نسيت فلا أنسى حبيبتك الزهراء وصفيتك البتول الصدّيقة العذراء عندما نظرت إليك فى آخر لحظة من لحظات أنفاسك الشريفة وأنت تجود بنفسك ألقت بنفسها عليك والأسى والحزن يهدّها ... همست في أذنها كلاماً، فرفعت رأسها وأجهشت في البكاء ... ثم استولى عليك الضعف وأخذك ما يشبه ثم سكرة الموت ... ثم أفاقت وأشرت إليها ...فانحنت عليك حتى كادت نفسها أن تخرج من شدة الجزع والحزن فهمست في أذنها مرة أخرى .... فتبسمت.

إنك يا رسول الله نعيت إليها نفسك وقلت لها : يا حبيبتي إني مفارقكم اليوم ... واللقاء عند ربّ العالمين .... فما حالها (عليه السلام)وكيف كان صبرها عندما تيقنت أن أبيها

ص: 535

مفارق الدنيا بكت وجزعت لولا أنك أخبرتها بأنها أول اللاحقين بك من أهل بيتك. وهناك مشهد ثاني يجب أن لا أنساه ولا ينساه إخواني المؤمنين الحاضرين في هذا المكان الشريف المبارك ألا وهو مشهد الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهما وذلك عند ما طلبهما جدّهما إليه جاء كلاهما فوقعا على رسول الله فأخذ (صلی الله علیه وآله وسلم)يقبلهما ويشمهما ... وقام الامام علي عليه الصلاة والسلام ليرفعهما عنه، فقال (صلی الله علیه وآله وسلم): يا علي ! دعني أشبع وداعاً منهما .... ثم أخذ الحسين صلوات الله وسلامه عليه. وكان في السابعة من عمره الشريف - وجعل يشمّه في نحره الشريف وهو يقول : مالي وليزيد بن معاوية لعنه الله تعالى ؟ ما لي وليزيد بن معاوية لعنه الله تعالى ؟ لا بارك الله في يزيد بن معاوية وأخذ يكرر هذه الكلمات في آخر لحظات حياته المباركة، ثمّ يعتنق الحسن والحسين عليهما السلام ويبكي.... ثم ينظر إلى الزهراء صلوات الله وسلامه عليها وهو يبكي .... حتى فارقت روحه الشريفة الدنيا وهو في حجر عليّ أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه...

فأخذت فاطمة عليها الصلاة والسلام تبكي أبيها وقد طلبت من بلال الحبشي أن يؤذن، فلمّا صعد بلال المئذنة وقال : الله أكبر الله أكبر سمعته الزهراء(عليها السلام)وحنّت لصوته لأنها تذكرت أيام أبيها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فلمّا قال بلال : أشهد أن لا إله إلا الله ، بدت دموع فاطمة بالانسياب على خديها لأنها تذكرت تلك الأيام التي كان بلال يؤذن وأبوها رسول(صلی الله علیه وآله وسلم)ينتظر الصلاة في المسجد ....فلما قال بلال : أشهد أن محمداً رسول الله بكت الزهراء ورفعت صوتها منادية : «أبة اسمك على المنائر ورسمك في المقابر ثم وقعت مغشياً عليها ... فأقبل الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهما يهرولان .....«يا بلال ... اقطع الأذان .... فلقد ماتت أمنا فاطمة !!»..... فقال بلال : هذا الذي كنت أحذر منه وأخاف.

فجاء عند ذلك أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ونثر عليها شيئاً من الماء، فلما أفاقت طلبت من الإمام عليّ أن يريها قميص أبيها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)

فكانت تأخذ القميص وتشمّه إلى أن تقع على الارض وهي تنادي :

ص: 536

تنادي يبويه العمر بعدك ما أريده*** ابفقدك يبو إبراهيم قلبي راح مطعون

مدوك فوق المغتسل يا حلو لطباع*** چبدي فطرها البين ليته ضمني القاع

ما حال يا يابه الحزينة راحت اضياع*** يحق لي لغسل جثتك من ماي العيون

***

اگعد یبوابراهيم شوف اللي عليّ صار*** مكسور ضلعي او منزلي محروق بالنار

جيتك اخبرك واشتكي من فعلة القوم*** استهضمتني امّتك يا كنز العلوم

يا مصطفى ليتك تعاين حالي اليوم*** مكسور ضلعي او ما إلى ثاير أو نفار

اُمتك يا هادي علينا ردّت اردود*** ردّت ظلم پایاب تطلب منك احقود

بالباب عصروني او علي سحبوه مقيود*** يردون يخضعونه او هو حيدر الكرار

ويوم اعصروني طحت مغشي عليه*** او حيدر يعايني ولا ينغر عليه

او لمن فقت او عاينت داري خلية*** سایلت فضه وين عنّي حامي الجار

قالت خذوه القوم يا بنت الرساله*** وامكتفين ايمينه يزهره او شماله

وضعوا وسط حلقه احبال القوم لجلاف*** او راحوا به امكتف يزهره يا ام لطهار

و فریت مذعوره او لن حیدر مشوابيه*** لهل الظلم اللي قصدهم البطش بيه

وادركتهم ياياب قبل أيوصلو بيه*** ورد إلي بسوطهم يا أبه هلاشرار

ومن بعد عينك كم عدو جار او تعدّى*** او جاني ابيتي يتبعه جنده ابهده

او دخلوا عليّ يا رسول الله ابشده*** والنار شبوا بمنزلي او صار الذي صار

او نخيت بصحابك ولا واحد رحمني*** يابه لخلي النوح والتعدا دفنّي

واحسين ايذوبني إلا منه نشدني*** ويقول وينه جدنا احمد المختار

او هذي يبويه للفريضه ايأذن ابلال*** او يهلن لذكرك يا رسول يسر دال

واني المصائب فوق راسي مثل لجبال*** لقضي العمر بالنوح في ليلي ولأنهار

بعدك فلا ابطل ولا هيد من النوح*** ليلي أو نهاري ما بقت في جسمي الروح

لو عشت في الدنيا مثل عمر النبي نوح*** ولدعي أدموع العين تجري مثل المطار ويذكرني يا محبين بكاء الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام) على أبيها ببكاء

ص: 537

يتيمة مسلم على أبيها وذلك عندما وصل خبر شهادة مسلم(عليه السلام) إلى الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام وسمعت به بنت مسلم بل علمت به عندما أخذ الامام (عليه السلام)يمسح على رأسها وقد أحست باليتم أخذت تبكي على أبيها، وأخذ الامام(عليه السلام) يكرر المسح على رأسها وهو يقول : أنا أبوك ، عند ذلك تيقنت بشهادة أبيها فجعلت تندبه وهي تخاطب خالها الامام الحسين اليها قائلة : لم تعوّدني يا خال من قبل بمثل هذا الفعل، ولقد كسرت قلبي وتركتني حزينة ، وعبراتي جارية على خدي !

قلبی کسرته يا غريب الغاضرية*** مثل اليتاما تمسح ايكفك عليه

تمسح على راسي او دمع العين همال*** كني يتيمة الكافي الله من هلحوال

ما عودتني ابها الفعل من قبل يا خال*** خليت عبراتي على خدّي جريه

ابمسحك على راسي تركت القلب ذايب*** هذا يعمي من علامات "مصايب

قلبي اتروع حيث أبويه ابسفر غايب*** طول الغيبة ايعوده الله ابعجل ليه

ضمها ابصدره والدمع يجري بلخدود*** او قلها يفاطم والدك ما ظنتي يعود

شهقت او ظلّت تنتحب وابروحها تجود*** او نادت يعمي لا تفاول بالمنيه

سافر عساه ايعود ليه بالسلامه***واجلس ابحجره او ينشرح صدري بكلامه

شنهوا اسمعت عن والدي حلو الجهامة*** قلها يبنتي غيبته عنك بطيه

جاني الخبر عن حال مسلم يا حزينه*** ايقولون من قصر الأمارة ذابينه

لو بالحبل بالاسواق جسمه يسحبونه*** او راسه المشكر راح للطاغي هديه

صرخت الطفلة والدمع بخدودها ايسيح*** واتقوم مذعوره او على وجه الثرا اطيح

تلطم على الهامة ابعشرها او نوب تصيح*** قومي ييمه والبسي احداد الرزيه

خيالها من رزيّة ويالها من مصيبة قد بكى من أجلها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قبل حدوثها حتى جرت دموعه على صدره وقال : إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي. فإذا كان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يبكى من أجل رزيّه مسلم(عليه السلام) قبل حدوثها فهل تجفّ عيون المؤمنين والمحبّين ؟ أم تبقى جارية إلى الأبد.

بكتك دماً يا ابن عم الحسين*** مدامع شيعتك السافحة

ص: 538

ولا برحت هاطلات الغمام*** تحييك غادية رائحة

لأنك لم تر و من شربة*** ثناياك فيها غدت طائحة

أتقضي ولم تبكك الباكيات***أما لك في المصر من نائحة

رموك من القصر اذا أو ثقوك*** فهل سلمت فيك من جارحة

وبالحبل في السوق جراً سحبت*** ألست أمیرهم البارحة

قضيت ولم تدركم في زرود*** عليك العشيّة من صائحة

***

فيا ناصر الدين القويم بسيفه*** ومردي جمع الناكثين النواصب

فلله يوم إذا عليك تجمعوا*** فأرديت منها جانباً بعد جانب

تغرّ كمعزاة تهيم من الردى*** لما شاهدت منك اللقا في المواكب

فأطعمت عقباناً لحوم أمية*** بثثن بها أيدي المنون السوالب

رمتك من القصر المشوم بحقدها*** إذا قد رمت حقداً لؤي بن غالب

عظیم بان تضحى أسير أمية*** وأنت عظيم من قرون أطائب

فكم هشموا منك الترائب والقرى*** وكم هشموا للمصطفى من ترائب

وداروا بك الأسواق سحباً وإنّما*** أرادوا به إدراك وتر لطالب

جلى طلائعها وأطلع جلها*** بالمشرفي على الحتوف معلما

لا يرعوي لأمانهم لكن غدا*** بلسان مشحوذ الغرار مكلما

يطفو ويرسف مفرداً في جمعهم*** مستنجداً بأساً وعضباً مخذما

یرمی الكمى إلى الهواء كأنه*** كرة يحلقها إلى جوّ السما

ويكر كرة عمه الكرار لا يلفى*** وإن كثر الأعادي محجما

حفروا له وسط المفازة ريبة*** لما رأوا ليثاً هزبراً ضيغما

فبكى بها الليث المقيل وقد قضت*** أيدي القضاء عليه أن يستسلما

نفسي الفداء له وقد حقوا به*** فهناك مدمعه بأدمعه همي

ما كان إلا للحسين بكائه***خوفاً بأن يؤتي حسين مثل ما

ص: 539

وسقوه ماء كلما أدنوه من*** فمه امتلا ذاك الإناء من الدما

حتى إذا سقطت ثناياه به*** نحاه عنه قائلاً لن يقسما

ودنوا إلى نادى الدعى فلم*** يهدي السلام محقراً ومذمما

وغدى يؤنبه ويشتم عمه*** متشمّتاً بغياً فلن يتكلّما

وأدار بالجلاس لحظاً ما رأى*** إلا دعيًا أو بغيّاً مجرما

ورقوا به لشهادة فيها رقى*** أعلا مراق في الجنان وأعظما

وتسنموا أعلى الطمار به ولن ***ينفكّ في قنن العلا مسنما

يرقى مراقيه ويذكر ربه*** فمهللا ومسبحا ومعظما

ورماه بکر من طمار شاهق*** شلت يدا بكر أيعلم من رمى

وهوت إلى وجه الثري جثمانه*** والروح حلق صاعداً نحو السما

إن يغدروا بك عن عمدٍ فقد غدروا*** بالمرتضى وابنه سراً وإعلانا

لاقاك جمعهم في الدار منفرداً*** كما تلاقي بغاث الطير عقبانا

فعدت تنثر بالهندي هامهم*** والرمح ينظمهم مثنى ووحدانا

حتى غدوت أسيراً في أكفهم*** وكان من نوب الأيام ما كان

كأنما نفسك اختارت لها عطشاً*** لما درت ان سيقضي السبط عطشانا

فلم تطق ان تسيغ الماء عن من ظمأ ***من ضربة ساقها بكر بن حمرانا

یا مسلم بن عقيل لا أغب ثرى*** ضريحك المزن هطالاً وهتانا

نصرت سبط رسول الله مجتهداً*** وذقت في نصره للضر ألوانا

ورام تقريعك الرجس الدعي بما*** قد كان لفقه زوراً وبهتانا

ألقمته بجواب قاطع حجراً*** وللجهول به أوضحت برهانا

بذلت نفسك في مرضاة خالقها*** حتى قضيت بسيف البغي ظمآنا

قال المحدّث المازندراني الحائري قدس نفسه الزكية : إنّ لمسلم بن عقيل صلوات الله وسلامه عليه مقامات كريمة ومناقب سنية لا يسعها الطومير والطروس

ص: 540

وكيف لا والعرق صحيح، والمنشأ كريم والشأن عظيم، والعمل جسيم، والعلم كثير ،واللسان خطيب، والصدر ،رحيب، فأخلاقه وفق أعراقه، وحديثه يشهد لقديمه ، فهو من دوحة امتد عرقها ، وبسق فرعها وطاب عودها، واعتدل عمودها كيف وقد رباه عمه أمير المؤمنين وكبر في حجر سيد الوصيين بأبي وأمي شجاع هو في غارب السنام من الدرجة القصوى في الشهادة والفوز بالسعادة، فهنيئاً له هذا الشرف والسيادة، فقول الامام(عليه السلام)في شأنه يكشف عن كونه في أعلى ذروة الشرف من المكارم والفواضل والنجدة والفضائل حيث يقول(عليه السلام) : اني باعث اليكم إلخ ، وقول رسول الله الله كقول الحسين(عليه السلام)في شأن مسلم يفيد أصولاً إيمانية وضوابط إيقانية.

فمنها ان درجته دون درجة أهل العصمة وفوق درجات غيرهم من أصحاب المقامات الجلية والدرجات العلية.

ومنها - انّ البكاء عليه من لوازم الايمان والاسلام وخواص الايقان.

ومنها انه قد بكى عليه جميع أهل السموات والملائكة المقربين.

ومنها - ان شأنه من بين شؤون حواري سيدالشهداء كشأن أبي الفضل العباس وعلي الاكبر والقاسم (عليه السلام)من جهة التأييد والتسديد، كما انه لا يبلغ في شجاعته أحد ممن ممن في زمانه من الذرية الهاشمية إلّا أبو الفضل وعلي الاكبر والقاسم بن الحسين عليهم الصلاة والسلام، وقد شهد بشجاعته الصديق والعدو والفضل ما شهدت به الأعداء).

ثم قال رضوان الله تعالى عليه : دخل مسلم بن عقيل الكوفة ونزل في دار المختار بن أبي عبيدة وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فكلما اجتمع عليه منهم جماعه وقرأ عليهم كتاب الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وهم خذلهم الله يبكون وبايعه منهم ثمانية عشر ألفاً ولكنّه بعد بعد ما عرفهم حق المعرفة ولم يعلم ان اهل الكوفة لا وفاء لهم، ولهذا كتب إلى الامام الحسين (عليه السلام)يأمره بالقدوم إلى الكوفة ويخبره ببيعته ثمانية عشر ألفاً ولم تكن بعد ذلك حتى انعكس الأمر وغدروا به

ص: 541

عندما دخل عدو الله ابن زياد الكوفة وجلس على سرير الامارة وأمر باحضار أشراف أهل الكوفة وحذرهم من القتل والقتال وخوّفهم بجنود أهل الشام وقال: أيها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشرّ ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل فإنّ هذه جنود حمار المفسدين يزيد بن معاوية لعنه الله تعالى قد أقبلت وقد أعطى الشيطان للشيطان عهداً لأن تمتمم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم هذه ان يحرم ذريتكم العطاء ويفرق مقاتليكم في مفازي الشام وأن يأخذ البريء منكم بالسقيم والشاهد منكم بالغائب حتى لا يبقى له بقية من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جنت أيديها، وتكلم الذين من هم على شاكلة عدو الله بن زياد لعنه الله بنحو من ذلك، فلما سمع الناس مقالته أخذوا لعنهم الله يتفرقون وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها فتقول : انصرف ان الناس يكفونك ، ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه ويقول: غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب ؟ انصرف، فيذهب به فينصرف . فما زالوا يتفرقون حتى أمسى مسلم بن عقيل وصلّى المغرب وما معه إلّا ثلاثون نفساً في المسجد، فلما رأى انه قد أمسى وليس معه إلا أولئك النفر خرج متوجهاً الى أبواب كندة فلم يبلغ الأبواب إلّا ومعه عشرة ، ثم خرج من الباب فاذا ليس معه إنسان فإذا هو غريب وحيد وليس معه من يدله على الطريق، ولا من يدله على منزله ولا أحد يواسيه بنفسه، فمضى في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب حتى أتى إلى باب دار امرأة يقال لها طوعة أم ولد كانت للأشعث بن قيس فأعتقها وتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالاً ، وكان بلال قد خرج مع الناس وأمه قائمة تنتظره فسلّم عليها ابن عقيل فردّت ، فقال لها : يا أمة الله أسقيني ماء فسقته، وجلس ودخلت طوعة ثم خرجت فرأته جالساً على الباب قالت: يا عبدالله ألم تشرب الماء ؟

قال : بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك فسكت ثم أعادت الكلام بمثل ذلك فسكت ثم قالت في الثالثة سبحان الله يا عبد الله قم عافاك الله واذهب إلى أهلك فإنه لا يصلح لك الجلوس على باب داري ولا أحلّه لك.

فقام مسلم صلوات الله وسلامه عليه وقال: يا أمة الله ما لي في هذا المصر

ص: 542

أهل ولا دار ولا عشيرة فهل لك في أجر ومعروف لعلّي مكافئك بعد هذا اليوم ؟

قالت: یا عبدالله من أنت وما ذاك ؟

قال : أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم وغروني وأخرجوني.

قالت : أنت مسلم ؟

قال : نعم .

قالت ادخل فدخل إلى بيت في دارها و فرشت له وعرضت عليه العشاء فلم يتعش ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول والخروج في ذلك البيت فسألها عن السبب فأبت أن تخبره، فلما أصرّ عليها أخذت عليه الأيمان المغلّظة فحلف لها فأخبرته الخبر فسكت اللعين، فما أصبح حتى أوصل الخبر إلى عدوّ الله ابن زياد عليهما لعنه الله ، وبات مسلم بن عقيل صلوات الله وسلامه عليه ليلته في دار تلك العجوز ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد، وتارة يناجي ربه وأخرى يتضرع، وتارة يتلو القرآن، هذه ليلة بات فيها مسلم في دار طوعه رضوان الله عليها .

أمّا الليلة الثانية من حياته المباركة فقد كانت في الجنة بقرب رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وعمه أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي رآه في منامه وهو يقول له : الوحا الوحا العجل العجل ولهذا فقد كان مسلم عليه الصلاة والسلام مشتاق إلى الجنة فما أن سمع حوافر الخيل وأصوات الرجال وعرف أنه قد أتي لبس لامته وقال: يا نفس اخرجي إلى رضوان الله وجنانه.

فقالت له طوعة : سيدي أراك تتأهب للموت!

قال(عليه السلام) : نعم لابد من ذلك وأمّا أنت فقد أديت ما عليك من البر والإحسان وأخذت نصيبك من شفاعة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)سيد الإنس والجان، وعندما اقتحموا عليه الدار وهم ثلاثمائة رجل شدّ عليهم حتى أخرجهم من الدار ثم عادوا إليه فحمل عليهم وهو يقاتلهم قتالاً شديداً ويقول :

هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع *** فأنت بكأس الموت لاشك جازع

ص: 543

فصبراً لأمر الله جل جلاله*** فحكم قضاء الله في الخلق ذائع

حتى قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً . وقال مخنف : مائة وثمانين فارساً ، وكان من قوته (عليه السلام) أن يأخذ الرجل بيده فيرمي به من فوق البيت فأرسل ابن الأشعث إلى ابن زياد لعنهم الله تعالى جميعاً : أدركني بالخيل والرجال فقد قتل مسلم مقتلة عظيمة ، فأنفذ ابن زياد لعنه الله يقول : ثكلتك أمك وعدموك قومك، رجل واحد يقتل منكم هذه المقتلة العظيمة فكيف لو أرسلتك إلى من هو أشد بأساً وأصعب مراساً يعني بذلك الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه ؟

فكتب إليه : عساك تظن أنك أرسلتني إلى بقال من بقاقيل أهل الكوفة أو إلى جرمقاني من جرامقة الحيرة إنما وجهتني إلى بطل همام وشجاع ضرغام وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الأنام، فأرسل إليه العساكر وقال إليه أعطه الأمان فإنك لا تقدر عليه إلا به ، فبينما هو يقاتل إذ اختلف بينه وبين بكر بن حمران لعنه الله بضربات فضرب بكر لعنه الله تعالى فم مسلم(عليه السلام) فقطع شفته العليا وأسرع السيف في السفلى وفصلت له ثنيتاه ، وضرب مسلم عليه صلوات الله وسلامه رأس بكر لعنه الله ضربة منكرة وثنّاه بأخرى على حبل العاتق وحمل على القوم وشدّ فيهم أيضاً، فلما رأوا منه ذلك أشرفوا عليه من أعلى السطوح وأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار فى أطناب القصب ثم يرمونها عليه.

وقد حكى لنا الحاج ملا محمد شاعر أهل البيت (عليهم السلام)بطولات مسلم بن عقیل عليه الصلاة والسلام بقوله :

شدّ الغضنفر ميزره والباب طوعه زلزله*** اينادي المنيه لادنت يامر حبا ايها وياهله

لجناح ذبه اعلى القلب والميمنه اعلى الميسره***وتجي الكتيبه وينتخي ابسيفه ويردها على ورى

لابرق سيفه اترا عدت الجموع والهاطل جرى**من دم كل ليث جرى وعيون كل امدالله

ص: 544

کم ولد ينعى والده وكم والد ينعى ولد***وكم راس فارق جثته وكم كف فارق من جسد

لا كسر باسه وحدته ولا خاف من كثر العدد**چنه العقيمه اللي جرت في زمن عاد الأوّله

كلما استضاقت واعبست للنفس نادى ابها اطربي***ويا شمس بفواد السما هاليوم بالك تغربي

ويا شفرة احسامي على هام الأعادي دلعبي**وان كان عطشانه اشربي من دم هامات الملا

ضاقت الكوفة واظلمت والارض بالدم ارتوت*ماجت كتيبه إلا انفنت منه وبيارقها انطوت

ما هم اكفاية للأسد يا حيف بالحيلة استوت***لولا الحفيرة ما انقبض ماهي بلعد مرحله

داروا على الليث الفحل دور الاجادل بالسرب***وقادوه مكتوف ابحبل والراس بالسيف انضرب

وسفه علی اشجاع انولى ما بين عدوان وغرب***هذا الذي ابسيفه دعى كم من مصونة أرمله

وامسى كما الكعبه البطل لكن احتاطت به کفر*واحد ابرمحه يطعنه وواحد يضربه بالحجر

ما بينهم مثل الشبح يا ليت ابو سكته حضر*ويشوف مسلم شيبته من فيض دمه امغسله

خوف المنيّة ما بكى ودمعه على انسفك *خوفه على احسين السبط يقتل او زينب تنهتك

لازم يمسلم تتسبي ادش المجالس والسكك**واحسين واهله يذبحوا كلهم ابعرصة كربله

ص: 545

نعم ، لم يبك عليه الصلاة والسلام خوف المنية وإنما بكى لقدوم الحسين عليه الصلاة والسلام حيث إنه كتب إليه يأمره بالقدوم فكان يبكي وهو يخاطب طوعة قائلاً:

يطوعه اللي حنا اضلوعي وخلا مدمعي سیال**سلطان الحرم هاليوم من مكة اباهله شال

عرفته يجي الكوفه وظنه زمت اظعونه*** ولا ظني يخونونه ولا عهدي ينقضونه

يطوعه خايف ايجيها ابو سكنه ويذبحونه ***حالا بايعوا ابن از یاد نقضوا بيعتي لنذال

ما ليهم عهد خوان طوعه واصفج اكفوفه*** ولا اتمكن اطرش له رسول اتجنب الكوفه

إذا ايجيها يذبحونه وحريمه اتروح مكشوفه*** يرووا بالثرى دمه مثل مادم ابوه قد سال

أنا مذبوح يا طوعه وحتى احسين ورجاله***يطوعه حسرتي وحزني وتزفيري على حاله

وچني ابلدة الكوفة سبايا تدخل اعياله***تشوفيها عقب لخدور وزينب تنجتف بحبال

وانا بوصيك بوصيّة يا طوعة تنفّذيها*** تجيكم في الظعينة لي يتيمة اتنوح رحميها

مسلوبه بلیا اقناع طوعة اقناع تعطيها*** ولا اتقولي لها مسلم سحبوا جثته بحبال

***

نعم، أن بكاء مسلم(عليه السلام)لم يك خوف على نفسه من القتل وإنما كان لحبيبه وسيده وحبيبناه وسيدنا الامام الحسين عليه الصلاة والسلام وأيضاً ليتيمته العزيزة

ص: 546

الغالية(عليه السلام) ولهذا كان يوحي بها طوعة، وهذه الوصية شفقة منه(عليه السلام)إلى ابنته وإلا فإنه كان(عليه السلام) يعلم تمام العلم بأنها في حجر أبيها الثاني وهو خالها الامام الحسين عليه الصلاة والسلام بل كأنها لم تفقد أباها بوجود الامام الذي كان يرعاها ويكثر العناية بها ، ولكن هناك يتيمة أخرى أصغر منها وربما تكون بحاجة إلى وصيّة من أبيها أكثر من يتيمة مسلم(عليه السلام)لأن هذه اليتيمة لا تفقد أباها فقط بل تفقد كل أهلها ولم يكن لها أب ثانٍ يرعاها ويعتني بها كما كان الامام الحسين (عليه السلام)يعتني بيتيمة مسلم(عليه السلام) وأعتقد ان المحبين الحاضرين في هذا المكان الشريف إن لم يكونوا كلهم فلا شكّ أنّ البعض منهم يعرف من هي اليتمة الثانية التي أشرنا إليها ولم نذكراسمها.... إنها يتيمة الامام الحسين عليه الصلاة والسلام وقد كانت بنت صغيرة أربع سنين تسمّى رقية ، وقيل : إن عمرها الشريف ثلاث سنين وكانت(عليه السلام) مع الاسراء في الشام وكانت تبكي لفراق أبيها ليلها ونهارها وكانوا يقولون لها : هو في السفر.

قال المحدّث المازندراني (قدس سره)نقلاً عن كتاب الإيقاد للسيد الجليل ثقة الاسلام الحاج السيد محمد علي الشاه عبد العظيم (قدس سره)ما ملخصه انه كانت للحسين عليه الصلاة والسلام بنت صغيرة يحبها وتحبه تسمى رقية وكانت تبكي لفراق أبيها ليلها ونهارها وكانوا يقولون لها : هو في السفر فرأته ليلة في النوم فلما نتبهت جزعت جزعاً شديداً وقالت: ائتوني بوالدي وقرة عيني وكلما أراد أهل البيت إسكاتها ازدادت حزناً وبكاء ولبكائها هاج حزن أهل البيت فأخذوا في البكاء ولطموا الخدود وحثوا على رؤوسهم التراب ونشروا الشعور وقام الصياح، فسمع يزيد لعنه الله تعالى صيحتهم وبكاءهم فقال لعنه الله : ما الخبر ؟

قيل له : إن بنت الحسين(عليه السلام)الصغيرة رأت أباها في نومها فانتبهت وهي تطلبه وتبكي وتصيح ، فلما سمع يزيد لعنه الله ذلك قال : ارفعوا إليها رأس أبيها وحطّوه بين يديها تتسلّى، فأتوا بالرأس في طبق مغطّى بمنديل ووضعوه بين يديها فقالت(عليه السلام) : ما هذا إني طلبت أبي ولم أطلب الطعام؟

ص: 547

فقالوا : إنّ هذا أباك ، فرفعت المنديل ورأت رأساً فقالت: ما هذا الرأس؟

قالوا : رأس أبيك ، فرفعت الرأس وضمته إلى صدرها وهي تقول: يا أبتاه من ذا الذي خضبك بدمائك ؟ يا أبتاه من ذا الذي قطع وريديك؟ يا أبتاه من ذا الذي أيتمني على صغر سني ؟ يا أبتاه من لليتيمة حتى تكبر ؟ يا أبتاه من للنساء الحاسرات ؟ يا أبتاه من للأرامل المسبيات ؟ يا أبتاه من للعيون الباكيات ؟ يا أبتاه من للضايعات الغريبات ؟ يا أبتاه من للشعور المنشورات ؟ يا أبتاه من بعدك واخيبتاه، يا أبتاه من بعدك واغربتاه، يا أبتاه ليتني لك الفداء ، يا أبتاه ليتني قبل هذا اليوم عميا، يا أبتاه ليتني توسّدت التراب ولا أرى شيبك مخضباً بالدما ثم وضعت فمها على فم الشهيد المظلوم وبكت حتى غشي عليها ، فلما حركوها فإذا هي قد فارقت روحها الدنيا فارتفعت أصوات أهل البيت بالبكاء وتجدّد الحزن والعزاء.

ولقد حكى لنا الحاج الملا عطيّة البحراني(قدس سره)كيفية ذلك المشهد الرهيب خصوصاً عندما أخذت تلك اليتيمة ذلك الرأس الشريف وصارت تقبله أو انها وقعت عليه تقبله وفارقت روحها الدنيا بقوله :

طفلة المظلوم خرت فوق راسه اتقبله*** اتصيح بويه ضيعتني او قبل كنت امدلله

قرح اجفاني يبويه او ذوب احشاي اليتم ***من تهل الدمع عيني يضربوني ونشتم

حيت بحماكم عزيزة اولا شفت ذلة او هظم***واصبحت بعدك يتيمة فوق ناقه امهزلة

لو جرى دمعي ابخدي من ينشف دمعتي*** امروعة ماشوف لي والي يسكن روعتي

لا بقي العباس ليه ولا شباب من اخوتي*** روسهم فوق الأسنة ولجساد ايكريله

ص: 548

وانحنت فوقه اتشمه اودمعها بخدها سفوح***او عن جبينه امسحت دمه او شهقت أو غابت الروح

ماتت وراسه ابحجرها والحرم ضجت بنوح*** او كعبة الأحزان قامت والمدامع سايله

مددت طفلة أخوها او غمضت منها العين**وعن حجرها راس ابوها شالته ابلوعه او حنين

او دارت النسوة عليها وجددوا مأتم حسين*** واهوت اسكينه على اجنازة اختها معوله

اتصيح موتك نحل اعظامي اوفتت للقلوب***امئدة والناس تتفرج علينا امن الدروب

لشق جيبي اعليك لكن ما بقت لینا جیوب ***والدمع قرح ولا ظل دمع لجلك نهمله

او صرخت او نادت يعمه بالعجل ودي خبر*** کربلا حتى يجينا بوالفضل يحفر قبر

والشهيد احسین خله ايجيب كافور واسدر***والولد لكبر يشوف اخته او نعشها يحمله

اشلون ندفن هاليتيمة والاهل كلهم اغياب***بين عدوان او جنازة معطّله او بلدة اجناب

وين جدنا وين ابونا المرتضى داحي الباب*** وین اهلنا ما دروا عدنا اجنازة امعطلة

او مهجة الزهرى تنادي بس يسكنه امن النحيب***ما نظرتي جسم ابوك احسين بالغبر تريب

وشفتي راسه قبل عينك شيبه بدمه خضيب*** تركناه ابکربلا مطروح محد غسله

ص: 549

ص: 550

الجلسة التاسعة عشر

حق انا نتصور*** حالة الهادي المطهر

وجهه بالسقم مصفر*** جسمه بالسم مخضر

أوهن السقم قواه*** قطع السم حشاه

أظهر القوم جفاه*** ليتنا كنا فداه

فلنوع خير مرسل*** من جوى في القلب مشعل

أدهش اللب وأذهل*** فرسول الله يرحل

مذدنا منه الحمام*** شب في القلب ضرام

للذي تلقى الكرام*** بعده تؤذى اللئام

وإليه الله جلا ***يرسل الروح الأجلا

بسلام منه يتلى*** وسؤال كي يجلا

ومذ اختار الإله*** جل في الخلد لقاه

وعطاه وحباه*** ملك الموت أتاه

فأتى أفضل مرسل*** من إله العرش يسأل

وله الخيرة يجعل*** والذي يختار يفعل

كيف لا ينفذ قوله*** وإليه الأمر كله

في البرايا وهو أهله***من إله جل نيله

وله أوحى لكيما ***یستشير الروح عمّا

ص: 551

فيه قد جاء ولما*** اختار للرحلة أومى

لعلى فأسره*** مودعاً للطهر سره

وقضى الجبار أمره*** فاعترى الآفاق غبره

وقضى خير البريه*** بسموم وأذيه

فقده أدهى بليه*** عضمت فيه الرزيّه

***

نعم، لقد كان فقد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أدهى بلية على الاسلام والمسلمين كافة وبالخصوص أهل بيته عظمت عليهم المصيبة وجلت الرزية، فلقد كانوا في ذلك اليوم في حزن وعزاء ارتفعت أصواتهم بالبكاء والعويل ومن سمع من أهل المدينة بكاءهم بكى فلم ير في ذلك اليوم إلا باك أو باكية في المدينة أو في غيرها من أجزاء العالم الاسلامي عند وصول الخبر إليهم.

وسهم فاطمة الزهراء عليها أفضل الصلاة في الجزع والحزن والبكاء والعويل أوفر الأسهم فإنها(عليه السلام) نادت: واغربتاه من بعدك يا أبتاه، ليتني لك الفداء ، يا أبتاه ليتني توسّدت التراب قبل هذا اليوم وبكت حتى غشي عليها من كثرة البكاء والعويل، هذا مع علمها سلام الله عليها أنّ أباها سافر إلى الجنة وإنما تبكي لفراقه حيث حُرمت من النظر إلى وجهه المبارك. فاطم على موت النبي المختار تجذب الونّه*** واتقول ابويه سافر يالحور فرجوا عنه

ما ظن ابويه يرضى باللي عليه جاري ***يا ياب ما رحموني او هجموا عليه داري

ما ظنتي تنساني لاكن قضى الله جاري*** بعدك علي المرتضى نصب الماتم فنه

ص: 552

ليتك تعاين حاله يوم انه ايسحبونه *** ليتك نظرت البيتي يوم العدى ايحرقونه

ليتك شفتني بعدك في منزلي محزونه ***ليتك شفت سبطينك والكل يجدب ونه

اما الحسن من بعدك دايم يهلّ ادموعه*** واحسين مرتاع الحشا ما سكن بعدك روعه

واني حزينة ابداري او بمصيبتك مفجوعة*** دوبي أهل ادموعي واجذب عليك الونّه

امست یبویه داری ابنار الحطب مشبوبة *** واني العزيزة عندك واليوم اني مضروبه

والنحلة اللي ليه منها اني مغصوبة*** يا ليت يومي قبلك وما رحت يابه عنا

ويذكرني يا محبين بكاء الزهراء(عليها السلام) على أبيها ببكاء حميدة(1) بنت مسلم بن عقيل على أبيها فإنّها(عليه السلام) لما أن مسح الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام على رأسها وناصيتها كما يفعل بالأيتام قالت يا عم ما رأيتك قبل هذا اليوم تفعل بی مثل ذلك أظن أنه قد استشهد والدي فلم يتمالك الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام من البكاء وقال : يا ابنتي أنا أبوك وبناتي أخواتك، فصاحت ونادت بالويل فسمع أولاد مسلم بن عقيل ذلك الكلام وتنفّسوا الصعداء وبكوا بكاء شديداً ورموا بعمائمهم إلى الأرض ونادوا وا مسلماه وا ابن عقيلاه ، وبكى من كان حاضر معهم من أصحاب الحسين عليهم أفضل الصلاة والسلام حتى صارت زرود كأنها المدينة يوم فقد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).

ص: 553


1- وقيل : اسمها عاتكة وأمها رقية بنت علي وعمرها سبع سنين ، وقيل ان عمرها احدى عشرة سنة .

قال المحدّث المازندراني (قدس سره)نقلاً عن كتاب البحار : إن الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام قال لما وصل إليه خبر شهادة مسلم وهاني(عليه السلام) :لا خير في العيش بعد هؤلاء، ثم سار صلوات الله وسلامه عليه قاصداً الكوفة .

قال الطرماح بن الحكم : لقيت حسيناً عليه أفضل الصلاة والسلام وقد امترت لأهلي ميرة فقلت : اذكرك الله في نفسك فلا يغرنّك أهل الكوفة والله إن دخلتها لتقتلنّ، واني أخاف أن لا تصل إليها فإن كنت مجمعاً على الحرب فانزل اجاء فإنّه جبل منيع والله ما نالنا فيه ذلّ قطّ وعشيرتي جميعاً يرون نصرتك ما قمت فيهم فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف فارس يضربون بين يديك بأسيافهم فوالله لايصل إليك أحد أبداً وفيهم عين تطرف.

فقال(عليه السلام) له : جزاك الله وقومك خيراً إن بيني وبين القوم مواعيد اكره أن أخلفها ، وقولاً لسنا نقدر معه على الانصراف ولا ندري على ما تصير بنا وبهم الأمور في عاقبة فإن يدفع الله فقديماً ما أنعم الله علينا وكفى، وإن يكن مالا بد منه ففوز وشهادة إن شاء الله تعالى . ومضى لوجهه عليه أفضل الصلاة والسلام قال فودعته وقلت له : دفع الله عنك شرّ الإنس والجن إني قد امترت لأهلي ميرة من الكوفة ومعي نفقة لهم فآتيهم فأضع ذلك فيهم ، ثم أقبل إليك إن شاء الله فإن ألحقك فوالله لأكونن من أنصارك.

قال(عليه السلام)فإن كنت فاعلاً فعجل رحمك الله تعالى .

قال : فعلمت أنه مستوحش إلى الرجال حتى يسألني التعجيل.

قال : فلما بلغت أهلي وضعت عندهم ما يصلحهم وأوصيت فأخذ أهلي يقولون : إنك تصنع مرتك هذه شيئاً ما كنت تصنعه قبل اليوم ! فأخبرتهم بما أريد وأقبلت حتى إذا دنوت من عذيب الهجانات استقبلني سماعة بن بدر فنعاه إليّ وأخبرني بشهادته، فرجعت مغموماً.

ثم سار الامام عليه الصلاة والسلام حتى مرّ يبطن العقبة فنزل عليها فلقيه

ص: 554

شيخ من بني عكرمة يقال له : عمرو بن لوذان ، فسأله : أين تريد ؟

فقال له الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام : الكوفة .

فقال الشيخ : انشدك الله لما انصرفت فوالله ما تقدم إلا على الأسنة وحدّ السيوف، وانّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال فقدمت عليهم كان ذلك رأياً فأما على هذه الحالة التي تذكر فإني لا أرى لك أن تفعل .

فقال عليه أفضل الصلاة والسلام له : يا عبد الله ليس يخفى عليّ الرأي ولكن الله تعالى لا يغلب على أمره ، ثم قال صلوات الله وسلامه عليه والله : لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم .

ثم سار صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته وأصحابه وأصحابه حتى صار من بطن العقبة حتى نزل شراف، فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء انتصف النهار ، فبينما هو يسير إذ كبر رجل من أصحابه ، فقال فأكثروا ثم سار حتى له الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام الله أكبر ، لم كبّرت ؟

قال: رأيت النخل.

فقال عبدالله بن سليمان والمنذر بن المشمعل : والله إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قطّ .

فقال الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وجعلني الله له الفداء: فما ترونه ؟

قالوا نرى والله هوادي الخيل ونرى أسنة الرماح وآذان الخيول. فقال الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه : وأنا والله أرى ذلك ، ثم قال عليه أفضل الصلاة والسلام ما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد.

فقلنا : بلى هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإن سبقت إليه فهو

ص: 555

كما تريد، فأخذ إليه ذات اليسار وملنا معه، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل فتبيناها ،وعدلنا ، فلما رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأنّ أسنتهم اليعاسيب وكأنّ راياتهم أجنحة الطير فاستبقنا إلى ذي حسم أوذي جشم فسبقناهم إليه، وأمر الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام بأبنيته فضربت وجاء القوم زهاء ألف فارس مع الحر بن يزيد الرياحي التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه في حرّ الظهيرة والامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه (عليهم السلام) متعممون متقلدوا أسيافهم، فقال الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام لفتيانه : اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفاً ، ففعلوا وأقبلوا يملأوا القصاع والطاس من الماء ثم يدنونها من الفرس فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقوا آخر حتى سقوها كلها .

قال علي بن طعان المحاري : كنت مع الحر يومئذ وجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام ما بي وبفرسي من العطش قال عليه الصلاة والسلام : أنخ الراوية والراوية السقاء، ثم قال : يا ابن أخي أنخ ،الجمل، فأنخته ، فقال عليه الصلاة والسلام اشرب، فجعلت كلما أشرب سال الماء من السقاء، فقال عليه الصلاة والسلام : اخنث السقاء ، أي اعطفه فلم أدر كيف أفعل، فقام عليه الصلاة والسلام فخنته فشربت حتى ارتويت وسقيت فرسي، بأبي أنت وأمي يا أبا عبدالله ما أشفقه عليهم سقاهم في وادي غير ذي زرع لاماء فيه ولا نبات وهم منعوه من الماء وهو بجنب الفرات. قال السيد ابن طاووس اللهوف : فلم يزل الحرّ مواقفاً للحسين عليه الصلاة والسلام حتى حضرت صلاة الظهر ، فقال الامام عليه الصلاة والسلام للحر : لنا أنت أم علينا ؟

فقال : بل عليك يا أبا عبدالله .

فقال الامام عليه الصلاة والسلام : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ص: 556

قال العلامة المجلسي في كتاب البحار فأمر الحسين عليه الصلاة والسلام الحجاج بن مسروق أن يؤذن، فلما حضرت الاقامة خرج الامام عليه الصلاة والسلام في إزار ورداء ونعلين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس اني لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم أن أقدم علينا فإنّه ليس علينا إمام لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فاعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم فسكتوا عنه ولم يتكلموا كلمة .

فقال(عليه السلام) للمؤذن : أقم الصلاة، فأقام الصلاة فقال الامام عليه أفضل الصلاة

والسلام للحر(عليه السلام) : أتريد أن تصلي بأصحابك ؟

فقال الحر(عليه السلام) : لابل تصلّي أنت ونصلي نحن بصلاتك، فصلّى بهم الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام، ثم دخل فاجتمع عليه أصحابه وانصرف الحر الى مكانه الذي كان فيه فدخل خيمة قد ضربت له فاجتمع إليه خمسمائة من أصحابه وعاد الباقون إلى صفهم الذي كانوا فيه ، ثم أخذ كل رجل منهم بعنان فرسه وجلس بظله، فلما كان وقت العصر أمر الحسين عليه الصلاة والسلام أن يتهياوا للرحيل ففعلوا، ثم أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام فاستقدم الحسين عليه الصلاة والسلام وقام فصلى بالقوم ثم سلّم(عليه السلام) وانصرف إليهم بوجهه المبارك فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد أيها الناس فإنكم إن تنقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن الله أرضى عنكم ونحن أهل بيت محمد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أبيتم إلّا الكراهة لنا والجهل بحقنا وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت عليَّ به رسلكم انصرفت عنكم.

فقال الحر(عليه السلام) : أنا والله ما أدرى ما هذه الكتب والرسل التي تذكر .

فقال الامام عليه أفضل الصلاة والسلام يا عقبة بن سمعان أخرج الخرجين الذين فيهما كتبهم إلي ، فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه.

ص: 557

فقال الحر(عليه السلام): لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك. ولعمري إنّه صادق فيما قال لأنه ذو مروة وحميّة رضوان الله عليه . حيث انتهت عاقبته إلى خير وصلاح، وكان في زمرة شهداء الطف عليهم أفضل الصلاة والسلام وكفى الحر فخراً بأن صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف يسلّم عليه في الزيارة.

وقال فيه الامام الحسين عليه الصلاة والسلام مقالته الشهيرة : لنعم الحر حر بني رياح

(أنت حرّ كما سمّتك أُمّك ) .

وقال الفرطوسي في توبة الحر(عليه السلام):

وراى الحر وهو حرٌ سعيد*** في الحياة الدنيا وأُخرى البقاء

جنة الخلد والسعير فأضحى*** حائراً بين خيفة ورجاء

وتجلّت له الحقيقة جهراً*** بين جيشي ضلالة واهتداء

ففريق للنار يسعى حثيثاً*** وفريق لجنة السعداء

فأتى لابن سعد دون توانِ***قائلاً في تثبت وبلاء

أفحقاً مقاتل أنت هذا*** وهو يومي السيد الشهداء

قال إي وإلا له أضرى قتال*** فيه تفنى النفوس أي فناء

وتطيح الأيدي من الضرب قطعاً*** وتطير الرؤوس شبه الهباء

قال فيما لكم من العذر أبدي*** أفلا تكتفون خير اكتفاء

قال لو كان لي بذلك رأي*** لتقبلته بخير ارتضاء

غير أن الأمير يأباه كرها*** وجفاءً له أشد الإباء

فانبری راجعاً وقال بلطف*** حين وافى لقرة (1) وإخاء

أفتسقى جوادك اليوم ماءً*** قال كلا من فطنة وذكاء

بعدما ظنّ أنه قال هذا*** وهو ينوي اعتزال هذا البلاء

و تداني نحو الحسين قليلاً*** فقليلاً برعشة واختشاء

ص: 558


1- أي قرة بن قيس .

واغتدى نحوه المهاجر يرنو*** مستريباً من وضعه المترائي

قائلاً لو سئلت قلتُ بحق*** أشجع المصر أنت عند اللقاء

أي شيء هذا الذي منك أضحى*** يتراءى جهراً إلى كل رائي

قال إنيء أُخير النفس بين النار*** خوفاً وجنّة الأتقياء

أم والله لستُ أختار شيئاً*** طول عمري على نعيم البقاء

وأتى للحسين يسعى سريعاً*** وتدانى إليه بعد التنائي

قالباً ترسه منكس رمح*** مستنيباً مطأطأ من حياء

قائلاً إنني إليك منيب*** من خطاياي يا إله السماء

أنا أرعبت خيفة آل طه*** حين فيهم جعجعت من دون ماء

أترى لي من توبة يا ابن طه*** بعد هذا من سائر الأخطاء

فدعاه نعم عليك يتوب*** الله وهو الرؤوف بالأولياء

فعرا الأمن قلبه حين أضحى*** موقناً في سعادة الشهداء

ولقد حدّث الحسين حديثاً*** كان مستودعاً بظل الخفاء

قال إني سمعت عند خروجي***ملكاً هاتفاً برحب الفضاء

قال فابشر بجنّة قد أعدّت*** منه للمتقين يوم الجزاء

قلت إنّي لخارج في ضلالٍ*** لقتال الحسين دون ارعواء

كيف تلك الحسنى أُبشّر فيها*** بعد هذا في غبطةٍ وهناء

قال فابشر قد نلت خيراً وأجراً*** بعد حسن العقبى وأسنى حباء

وأتى الحر نحوهم بعد إذن*** من حسین مجلجلاً بالنداء

حين أوحى لأمكم بعد هذا*** هبل يا معاشر الجهلاء

إذ دعوتم هذا الإمام إليكم*** فأتاكم بالأهل بعد الدعاء

فأخذتم بكظمه وأحطتم*** فيه من كل جانب وفناء

بعد منع منكم له عن ذهاب*** وإياب في هذه الغبراء

ص: 559

دون جلب للنفع أو دفع ضرّ*** عنه يقوى عليه كالاسراء

وبنوه والصحب حلاتموهم*** وبقايا أطفاله والنساء

عن ورود الفرات وهو مباح*** للنصارى في ساعة الإرتواء

وجميع اليهود تشرب منه*** وعتاة المجوس دون إباء

وكلاب السواد تمرغ فيه*** والخنازير عند وقت الرواء

ولعمري هاهم عطاشى جميعاً*** صرعوا من تلهف وظماء

أفهذا خلفتم فيه طه*** في نبيه يا عصبة الأشقياء

لاسقيتم يوم القيمة ريّاً*** حينما تظمأون أعذب ماء

وأتته السهام تترى فوافي*** لحسين تقهقراً للوراء

***

قال المحدّث المازندراني الحائري(قدس سره) : إن الحر(عليه السلام) لما صرب فرسه قاصداً الحسين عليه الصلاة والسلام كانت يده على رأسه وهو يقول : اللهم إليك أنبت فتب عليَّ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيك ، فلما دنا من الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام قلب ،ترسه، وفي رواية : نزل عن فرسه وجعل يقبل الأرض بين يديه .

فقال الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام : من تكون أنت، ارفع رأسك ؟

فقال : جعلني الله فداك يا ابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أنا القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما فعلوا ما ركبت منك الذي ركبت وأنا تائب إلى الله مما صنعت فترى لي في ذلك توبة .

فقال الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام : نعم يتوب الله تعالى عليك.

يقله :

ص: 560

جيتك ابذنبي معترف غثني من النار*** ما خاب من ينخاك بالشدة يمغوار

او ياك افعلت أفعال ما واحد فعلها*** اذنوب اكسبتها ما جنا العالم مثلها

تعجز هلجبال الرواسي عن حملها*** ونيران قلبي ما طفتها امياه لبحار

یحسین کم امخدره خليتها اتنوح*** لمن منعتك راح منها القلب مجروح

من شافت اجيوش الضلالة اسيوفها اتلوح*** اتمنت جسدها بالترب والعمر ما صار

كم مصونه للوصي ما حد سمعها*** يحسين من فعلي جرى انجدها دمعها

واظنها من الخيفه احتنى منها ضلعها*** متلام من من شافت الجيش جرار

اذنوب جرت مني ولفيت اليوم تايب*** وحاشاك ما جالك احد ويعود خايب

قله ومن جور الأعادي القلب ذايب*** مفتوح باب المغفره ولرب غفار

***

نعم، أجابه الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام قائلاً : نعم يا حر، يتوب الله عليك .

وفي كتاب نفس المهموم انّه عليه الصلاة والسلام قال : أهلاً وسهلاً أنت والله الحر في الدنيا والآخرة ، فانزل .

ص: 561

قال : أنا لك فارساً خير مني راجلاً أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول ما يصير آخر أمري.

فقال الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام : فاصنع رحمك الله ما بدالك .

نعم، لقد قبل عليه الصلاة والسلام توبة الحر بقوله : يا حر يتوب الله عليك فكيف لايقبل سيد الشهداء(عليه السلام)توبة الحر وهو(عليه السلام)سبط شفيع المذنبين ذلك الرسول العظيم والنبي الكريم الذي كان(صلی الله علیه وآله وسلم)يكتز من قوله داعياً ربه اللهم اهدي قومي واغفر لهم فإنّهم لا يعلمون، وكم حصل(صلی الله علیه وآله وسلم)من القوم الجاهلين من الأذى والكرب لولا دفاع عليّ عليه الصلاة والسلام عنه فلقد كان(عليه السلام)يردّ عنه الكتايب في يوم أحد ويصول في الجيش ويحطم الفرسان ويفلل صفوفها.

يقول الشاعر الكريم الحاج ملا محمد آل نتيف وهو يصف دفاع علي(عليه السلام) عن ابن عمه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم):

بعد ابو ابراهيم ابن عمي الودود*** عايف الدنيا وحبّ نوم اللحود

ونبض عرق الهاشمي مثل العمود*** وصال داحي الباب وحده في الأمم

حطم الفرسان فل اصفوفها*** خلط هامات العدى يكفوفها

يوم ذکره انساها يوم اوقوفها*** واختلى الميدان والكل انهزم

شاف ابن عمه المشفع في البشر*** امکسره منه الثنايا بالحجر

جلس يمّه ودمعه ابخده انهمر*** وصار عن شيب النّبي يمسح الدم

رفع راسه المصطفى ابحجره الامام***فتح عينه وشاف رزاق الرخام

جت کتیبه وقال ردها يضرغام*** حمل واجلاها أبو الغيرة وقدم

كم كتيبة المرتضى فلها الوصول*** كشف كرب المصطفى فحل الفحول

اعجب املاك السما فيها يجول*** جول ليث يشد في وسط الغنم

رج ارضها واعجب الأملاكها*** وصاح داحيها ومدير افلاكها

أنا محييها وانا هلاكها*** أنا سيف الله كشاف الظلم

ص: 562

أخذ ثاره المرتضى الليث الولي*** وصاح جبرئيل بالأمر العلي

ورفع صوته لافتى إلا علي*** دون طه وكم بطل منهم هشم

نصر طه والهدى ركنه اعتلا*** والمبشر صاح والضيم انجلي

وعن الزهرا راح كل ضيم او بلا*** وعيدت لمن لفى سيد الأمم

وصار ذاك اليوم ما له من مثيل*** غير يوم صاح مرسول العليل

يهل يثرب راح وليکم وچتیل*** الجسد منه انداس وامغسل ابدم

***

قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(1) .

قال في تفسير الصافي واذكر إذ يمكر بك قريش ذكره ذلك ليشكر نعمة الله تعالى عليه في خلاصة ليُثبتوك بالحبس أو يقتلوك بسيوفهم أو يُخرِجُوك من مكة ويمكرون ويمكر الله يردّ مكرهم ومجازاتهم عليه والله خيرُ الماكرين.وقال أمين الاسلام الفضل بن الحسن الطبرسي قدس سره في ذكر مكر المشركين برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ما لفظه أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة وكانوا أربعين رجلاً من أشرافهم ، وكان لا يدخلها إلا من أتى له أربعين سنة سوى عتبة بن ربيعة فقد كان سنّه دون الأربعين فجاءهم الملعون إبليس في صورة شيخ فقال له البواب : من أنت؟ قال: أنا شيخ من نجد فاستأذن، فاستأذنوا له ، وقال : بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل فجئتكم لأشير عليكم فلا يعدمكم منّي رأي صائب، فلما أخذوا مجلسهم قال أبو جهل لعنه الله : يا معشر قريش إنه لم يكن أحد من العرب أعزّ منا ونحن في حرم الله وأمنه تفد إلينا العرب في السنة مرتين ولم يطمع فينا طامع حتى نشأ فينا محمد فكنّا نسميه الأمين لصلاحه وأمانته فزعم أنه رسول رب العالمين، سب آلهتنا وسفه أحلامنا وأفسد شباننا وفرق جماعتنا ، وقد رأيت فيه رأياً وهو أن

ص: 563


1- سورة الأنفال: 30.

ندس إليه رجلاً يقتله فإن طلبت بنو هاشم دمه أعطيناهم عشر ديات.

فقال إبليس لعنه الله : هذا رأي خبيث فإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض أبداً، ويقع بينكم الحروب في حرمكم :

فقال :آخر الرأي أن نأخذه ونحبسه في بيت ونثبته فيه ونلقي إليه قوته حتى يموت كمامات زهير والنابغة .

فقال إبليس :إنّ بني هاشم لا ترضى بذلك فإذا جاء موسم العرب اجتمعوا عليكم وأخرجوه فيخدعهم بسحره .

وقال آخر: الرأي أن نخرجه من بلادنا ونطرده فنفرغ لآلهتنا.

فقال إبليس : هذا أخبث من الرأيين المتقدمين لأنكم تعمدون إلى أصبح الناس وجهاً وأفصحهم لساناً وأسحرهم فتخرجوه إلى بوادي العرب فيخدعهم بسحره ولسانه فلا يفجأكم إلا وقد ملأها عليكم خيلاً ورجالاً ، فبقوا حيارى . ثم قالوا للملعون إبليس : فما الرأي عندك فيه ؟

قال: ما فيه إلّا رأي واحد أن يجتمع من كل بطن من بطون قريش رجل شريف ويكون معكم من بني هاشم ،واحد ، فيأخذون حديدة أو سيفاً ويدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة فيتفرق دمه في قريش كلها فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه فما بقي لهم إلا أن تعطوهم الدية فأعطوهم ثلاث ديات بل لو أرادوا عشر ديات.

فقالوا بأجمعهم : الرأي رأي الشيخ النجدي فاختاروا خمسة عشر رجلاً فيهم أبو لهب على أن يدخلوا على رسول الله فيقتلونه، فأنزل الله سبحانه على رسوله الآية المباركة التى عطرنا جلستنا بذكرها وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ ثم تفرقوا على هذا وأجمعوا أن يدخلوا عليه ليلاً وكتموا أمرهم.

فقال أبو لهب : بل نحرسه فاذا أصبحنا دخلنا عليه، فيأتوا حول حجرة

ص: 564

رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وأمر رسول الله أن يفرش له وقال لعلي بن أبيطالب (عليه السلام): يا علي افدني بنفسك.

فقال(عليه السلام): نعم يا رسول الله .

قال (صلی الله علیه وآله وسلم)له : نم على فراشي والتحف ببردي.

فنام (عليه السلام)على فراش رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)والتحف ببرده، وجاء جبرئيل إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فقال له :اخرج والقوم أشرفوا على الحجرة فيرون فراشه وعلي(عليه السلام) نائم عليه فيتوهمون أنه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، فخرج رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)عليهم وهو رسول له يقر عليهم وهو يقرأ ﴿يس﴾إلى قوله :﴿ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾وأخذ تراباً بكفّه ونثره عليهم وهم نيام ومضى ، فقال له جبرئيل(عليه السلام): يا محمد ، خذ ناحية ثور وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور، فمرّ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وتلقاه أبوبكر في الطريق فأخذ بيده ومرّ به، فلما انتهى إلى ثور دخل الغار ، فلما أصبحت قريش وأضاء الصبح وثبوا على الحجرة وقصدوا الفراش فوتب علي عليه الصلاة والسلام إليهم وقام في وجوههم، فقال لهم : ما لكم ؟

قالوا: أين ابن عمك محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)؟

قال علي (عليه السلام): جعلتموني عليه رقيباً ؟ ألستم قلتم له : اخرج عنا فقد خرج عنكم فما تريدون ؟ فأقبلوا إليه يضربونه فمنعهم أبو لهب وقالوا: أنت كنت تخدعنا منذ الليلة، فلما أصبحوا تفرّقوا في الجبال وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له : أبو كرز يقفو الآثار فقالوا له :يا أبا كرز اليوم اليوم، فما زال يقفو أثر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) حتى وقف بهم على باب الغار ، فقال : هذه قدم محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) هي والله أخت القدم التي في المقام، وهذه قدم أبي قحافة أو ابنه ، وقال هاهنا عير ابن أبي قحافة فلم يزل بهم حتى وقفهم إلى باب الغار وقال لهم : ما جازوا هذا المكان إما أن يكونوا صعدوا السماء أو دخلوا الأرض، وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار - وجاء فارس من الملائكة في صورة الإنس على باب الغار وهو يقول لهم : اطلبوه في هذه

ص: 565

الشعاب فليس هاهنا فأقبلوا يدورون في الشعاب وبقي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) في الغار ثلاثة أيام ثم أذن الله له في الهجرة وقال يا محمد اخرج عن مكة فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب، فخرج رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)من الغار وأقبل راع لبعض قريش يقال له : ابن أريقط فدعاه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وقال له : يا ابن أريقط أء تمنك على دمي ؟

قال : إذاً أحرسك واحفظك ولا أدل عليك، فأين تريد يا محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)؟

قال : يثرب .

قال : والله لأسلكنّ بك مسلكاً لا يهتدى إليه أحد.

قال له رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): انت عليا(عليه السلام)وبشره بأنّ الله تعالى قد أذن لي في الهجرة فيهيء لي زاداً وراحلة.

وقال أبو بكر: انت أسماء بنتي وقل لها تهييء لي زاداً وراحلتين واعلم عامر بن فهيرة أمرنا - وكان من موالى أبي بكر وقد كان أسلم وقل له : ائتنا بالزاد والراحلتين.

فجاء ابن أريقط إلى علي وأخبره بذلك فبعث علي بن أبي طالب (عليه السلام)إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بزادٍ وراحلة وبعث ابن فهيرة بزاد وراحلتين وخرج رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من الغار وأخذ به ابن أريقط على طريق نخلة بين الجبال، فلم يرجعوا إلى الطريق إلا بقديدٍ فنزلوا على أم معبد هناك، فلما كان من الغد وافت قريش سراقة بن مالك بن جشعم المدلجي فقالوا له: يا سراقة هل لك علم بمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم)؟

قال : قد بلغني أنه خرج عنكم وقد تفضت هذه الناحية لكم ولم أر أحداً ولا أثراً ، فارجعوا فقد كفيتكم ما هاهنا .وقد كانت الأنصار بلغهم خروج رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) إليهم فكانوا يتوقعون قدومه(صلی الله علیه وآله وسلم)، فكان يخرج الرجال والنساء إذا أصبحوا إلى طريقه فإذا اشتد الحر رجعوا .

وجاء عن ابن شهاب الزهري أنّه قال : كان بين ليلة العقبة وبين مهاجرة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ثلاثة أشهر وكانت بيعة الأنصار الرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)في ذي الحجة وقدوم

ص: 566

رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)إلى المدينة في شهر ربيع الأول لاثنتي عشرة ليلة خلت منه يوم الإثنين، وكانت الأنصار خرجوا يتوكفون أخباره، فلما أيسوا رجعوا إلى منازلهم، فلما رجعوا أقبل رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فلما وافى «ذالحليفة» سأل عن طريق بني عمرو بن عوف، فدلوه فرفعه الال فنظر رجل من اليهود وهو على اطم له إلى ركبان ثلاثة يمرون على طريق بني عمرو بن عوف فصاح يا معشر المسلمة هذا صاحبكم قد وافي، فوقعت البشرى في المدينة فخرج الرجال والنساء والصبيان مستبشرين لقدومه(صلی الله علیه وآله وسلم)، يتعاودون فوافی رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)و قصد مسجد قبا ونزل واجتمع إليه بنو عمرو بن عوف وسروا به واستبشروا واجتمعوا حوله، ونزل على كلثوم بن الهدم شيخ من بني عمر وصالح مكفوف البصر ، واجتمعت بطون الأوس وكان بين الأوس والخزرج عداوة، فلم يجسروا أن يأتوا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)لما كان بينهم من الحروب، فأقبل رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يتصفّح الوجوه فلا يرى أحداً من الخزرج، وقد كان قدم على عمرو بن عوف قبل قدوم رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ناس من المهاجرين، فنزلوا فيهم.

ولما قدم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)المدينة جاء النساء والصبيان فقلن :

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع*** وجب الشكر علينا ما دعا الله داع

فلما أمسى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)افارقه أبو بكر ودخل المدينة ونزل على بعض الأنصار وبقي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بقبا نازلاً على بيت كلثوم بن الهدم، فلمّا صلّى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)صلاة المغرب والعشاء الآخرة جاء أسعد بن زرارة مقنعاً فسلّم على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وفرح بقدومه ثم قال: يا رسول الله ما ظننت أن أسمع بك في مكان فأقعد عنك إلا ان بيننا وبين إخواننا من الأوس ما تعلم فكرهت أن آتيهم، فلما أن كان هذا الوقت لم أحتمل أن أقعد عنك .

فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)للأوس : من يجيره ره منكم ؟

فقالوا: يا رسول الله جوارنا في جوارك فأجره ، قال : لابل يجيره بعضكم.

فقال عويم بن ساعدة وسعد بن خيثمة : نحن نجيره يا رسول الله فأجاروه،

ص: 567

وكان يختلف إلى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فيتحدث عنده ويصلي خلفه، وبقي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)خمسة عشر يوماً فجاء أبوبكر فقال : يا رسول الله تدخل المدينة فإن القوم متشوقون إلى نزولك عليهم .

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم):لا أديم من هذا المكان حتى يوافي أخي علي عليه الصلاة والسلام وكان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)لقد بعث إليه أن أحمل العيال وأقدم.

فقال أبوبكر : ما أحسب علياً يوافي.

قال(صلی الله علیه وآله وسلم) : بلى ما أسرعه إن شاء الله، فبقي خمسة عشر يوماً فوافي علي(عليه السلام)بعياله، فلما وافي كان سعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة يكسران أصنام الخزرج، وكان كل رجل شريف في بيته صنم يمسحه ويطيبه ولكل بطن من الأوس والخزرج صنم في بيت الجماعة يكرمونه ويجعلون عليه منديلاً ويذبحون له فلما قدم الاثنا عشر من الأنصار أخرجوها من بيوتهم وبيوت من أطاعهم.

فلما قدم السبعون كثر الاسلام وفشا وجعلوا يكسرون الأصنام.

قال : الراوى : وبقي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) بعد قدوم علي يوماً أو يومين ثم ركب راحلته فاجتمعت إليه بنو عمرو بن عوف فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا فإنا أهل الجد والجهد والحلفة والمنعة .

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) : فإنها مأمورة. وبلغ الأوس والخزرج خروج رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فلبسوا السلاح وأقبلوا يعدون حوله وحول ناقته لا يمر بحي من أحياء للأنصار إلا وثبوا في وجهه وأخذوا بزمام ناقته وتطلبوا إليه أن ينزل عليهم ورسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يقول : خلوا سبيلها فإنها مأمورة حتى مر ببني سالم. وكان خروج رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من قبا يوم الجمعة فوافى بني سالم عند زوال الشمس، فعرضت له بنو سالم وقالوا هلم يا رسول الله إلى الجد والجلد والحلفة والمنعة فبركت ناقته عند مسجدهم وقد كانوا بنوا مسجداً قبل قدوم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)و ونزل في مسجدهم وصلّى بهم الظهر وخطبهم ، وكان أول مسجد خطب فيه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بالجمعة ، وصلّى إلى بيت المقدس وكان

ص: 568

الذين صلوا معه في ذلك الوقت مائة رجل، ثم ركب رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ناقته فأرخى زمامها فانتهى بها إلى عبدالله بن أبي، فوقف عليه وهو يقدر انه يعرض عليه النزول عنده ، فقال عبدالله بن أبي بعد أن ثارت الغبرة وأخذ كمه ووضعه على أنفه : يا هذا اذهب إلى الذين غرّوك وخدعوك وأتوا بك فانزل عليهم ولا تغشنا في ديارنا فسلّط الله على دور بني الحبلى الذرّ فخرب دورهم فصاروا نزولاً على غيرهم وكان جد عبدالله بن أبي يقال له : ابن الحبلى فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء فإنا كنا اجتمعنا على أن نملكه علينا وهو يرى الآن انك قد سلبته أمراً قد كان أشرف عليه فأنزل عليّ يا رسول الله فإنه ليس في الخزرج ولا في الأوس أكثر فم بئر مني ونحن أهل الجلد والعز، فلا تجزنا يا رسول الله فأرخى زمام ناقته المباركة ومرت تخبّ به حتى انتهت إلى باب المسجد الذي هو اليوم ولم يكن مسجداً وإنما كان مربداً ليتيمين من الخزرج يقال لهما : سهل وسهيل وكانا في حجر أسعد بن زرارة، فبركت الناقة على باب أبي أيوب خالد بن يزيد، فنزل عنها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، فلما نزل اجتمع عليه الناس وسألوه أن ينزل عليهم فوثبت أم أبي أيوب إلى الرحل فحلته وأدخلته منزلها ، فلما أكثروا عليه قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): أين الرحل ؟

فقالوا : أم أبي أيوب قد أدخلته بيتها .

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) : المرء مع رحله وأخذ أسعد بن زرارة بزمام الناقة فحولها إلى منزله وكان أبو أيوب له منزل أسفل وفوق المنزل غرفة فكره أن يعلو رسول الله

(صلی الله علیه وآله وسلم) فقال : يا رسول بأبي أنت وأمي العلو أحب إليك أم السفل فإني أكره أن أعلو فوقك ؟

فقال (صلی الله علیه وآله وسلم): السفل أرفق بنا لمن يأتينا ، قال أبو أيوب: فكنا في العلو أنا وأمي لعل الله فكنت إذا استقيت الدلو أخاف أن يقع منه قطرة على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وكنت أصعد وأمي إلى العلو خفياً من حيث لا يعلم ولا يحسّ بنا ولا نتكلم إلّا خفياً ، وكان إذا نام(صلی الله علیه وآله وسلم) لا نتحرك وربما طبخنا في غرفتنا فنجيف الباب إلى غرفتنا مخافة أن يصيب

ص: 569

رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)دخان ، ولقد سقطت جرة لنا وأهريق الماء فقامت أم أبي أيوب قطيفة ولم يكن لنا والله غيرها فألقتها على ذلك الماء تستنشف به مخافة أن يسيل على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من ذلك شيء، وكان يحضر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) المسلمون من الأوس والخزرج والمهاجرين.

وكان أبو أمامة أسعد بن زرارة يبعث إليه (صلی الله علیه وآله وسلم) في كل يوم غداء وعشاء في قصعة ثريد عليها عراق فكان يأكل من جاء حتى يشبعون ، ثم ترد القصعة كما هي، وكان سعد بن عبادة يبعث إليه في كل يوم عشاء ويتعشى معه من حضره - وترد القصعة كما هي - وكانوا يتناوبون في بعثه العشاء والغداء إليه أسعد بن زرارة وسعد بن خيثمة والمنذر بن عمر و سعد بن الربيع وأسيد بن حضير ، قال : فطبخ له أسيد يوماً قدراً فلم يجد من يحمله فحملها بنفسه، وكان رجلاً شريفاً من النقباء فوافي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وقدرجع من الصلاة فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): حملتها بنفسك؟

قال : نعم يا رسول الله لم أجد أحداً يحملها .

فقال : بارك الله عليكم من أهل البيت.

ونقل أمين الاسلام الفضل بن الحسن الطبرسي : عن علي بن إبراهيم بر :هشام : انه عندما قدم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)المدينة جاءه اليهود قريظة والنضيره والقينقاع فقالوا: يا محمد إلى ما تدعو ؟

قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وانّي رسول الله الذي تجدونني مكتوباً في التوراة والذي أخبركم به علماؤكم ان مخرجي بمكة ومهاجري بهذه الحرة وأخبركم عالم منكم جاءكم من الشام فقال : تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور لنبي يبعث في هذه الحرة مخرجه بمكة ومهاجره هاهنا وهو آخر الأنبياء وأفضلهم يركب الحمار ويلبس الشملة ويجتزي بالكسرة في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوة ويضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى وهو الضحوك القتال يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر.

ص: 570

فقالوا له : قد سمعنا ما تقول وقد جئناكم لتطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك ولا نعين عليك أحداً ولا تتعرض لنا ولا لأحد من أصحابنا حتى نظرنا إلى مايصير أمرك وأمر ،قومك، فأجابهم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)إلى ذلك وكتب بينهم كتاباً أن لا يعينوا على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ولا على أحد من أصحابه بلسان ولايد ولا بسلاح ولا بكراع في السر والعلانية لا بليل ولا بنهار والله بذلك عليهم شهيد، فإن فعلوا فرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)في حلّ من سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونسائهم وأخذ أموالهم وكتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدة، وكان الذي تولى أمر بني النضير - حي بن أخطب -.

فلما رجع إلى منزله قال له إخوته جدي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب: ما عندك ؟

قال : هو الذي نجده في التوراة والذي بشرنا به علماؤنا ولا أزال عدواً لأنّ النبوة خرجت من ولد إسحاق وصارت في ولد إسماعيل ولا نكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً ، وكان الذي ولي أمر قريظة كعب بن أسد والذي تولى أمر بني قينقاع مخيريق وكان أكثرهم مالاً وحدائق ، فقال لقومه : إن كنتم تعلمون أنه البني المبعوث فهلموا نؤمن به ونكون قد أدركنا الكتابين ، فلم تجبه قينقاع إلى ذلك.

قال : وكان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يصلي في المربد لأصحابه، فقال لأسعد بن زرارة : اشتر هذا المربد من أصحابه فساوم اليتيمين عليه فقالا : هو لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) .

فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): لا إلّا بثمن فاشتراه بعشرة دنانير وكان فيه ماء مستنقع فأمر به رسول الله فسيل وأمر باللبن فضرب، فبناه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فحفر في الأرض ثم أمر بالحجارة فنقلت من الحرة، فكان المسلمون ينقلونها فأقبل رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يحمل حجراً على بطنه فاستقبله أسيد بن حضير فقال : يا رسول الله اعطني أحمله عنك.

قال : لا ، اذهب فاحمل غيره، فنقلوا الحجارة ورفعوها من الحفرة حتى بلغ

ص: 571

وجه الأرض بناه أوّلاً بالسعيدة لبنة لبنة ، ثمّ بناه بالسميط وهو لبنة ونصف، ثم بناه بالأنثى والذكر لبنتين مخالفتين ورفع حائطه قامة وكان مؤخره (ذراع) في مائة ، ثم اشتد عليهم الحر فقالوا: يا رسول الله لو أظللت عليه ظلّلاً، فرفع أساطينه في مقدم المسجد إلى ما يلي الصحن بالخشب، ثم ظلله وألقى عليه سعف النخل فعاشوا فيه :فقالوا يا رسول الله لو سقفت سقفاً .

قال : لاعريش كعريش موسى الأمر أعجل من ذلك ، وابتنى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) منازله ومنازل أصحابه في حول المسجد، وخطّ لأصحابه خططاً ، فبنوا فيها منازلهم، وكل شرع منه باباً إلى المسجد، وخطّ لحمزة وشرع بابه إلى المسجد، وخط لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)مثل ما خطّ لهم وكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد فنزل عليه جبرئيل(عليه السلام)وقال : يا محمد إن الله يأمرك أن تأمر كلّ من كان بابه إلى المسجده يسده، ولا يكون لأحد باب إلى المسجد إلا لك ولعلي ويحل لعلي فيه ما يحل لك، فغضب أصحابه وغضب حمزة وقال: أنا عمه يأمر بسدّ بابي ويترك باب ابن أخي وهو أصغر منّي، فجاءه فقال : يا عم لا تغضبن من سدّ بابك وترك باب علي فوالله ما أمرت انا بذلك ولكنّ الله أمر بسدّ أبوابكم وترك باب على(عليه السلام).

فقال : يا رسول الله رضيت وسلمت الله ولرسوله.

ومن هنا نعرف عظمة الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام في الاسلام وكذلك عظمة بيته المبارك الذي بقى بابه مفتوح ومتصلاً بالمسجد بينما سدّت جميع الأبواب، وفي الأمر بسد الأبواب جميعها وترك باب بيت علي(عليه السلام)متصلاً بالمسجد تنبيه للقوم ان بيت علي عليه الصلاة والسلام لا فرق بينه وبين المسجد الذي هو محل العبادة في العظمة، وأنّه على كافة أصحاب الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) تعظيم هذا البيت الذي عظمه الله .

ولاشك أن القوم فهموا ذلك تماماً ولكنهم لم يحفظوا حرمته ، بل هجموا على

ص: 572

أمير المؤمنين(عليه السلام)في بيته وأخرجوه مكتوفاً بعد أن أشعلوا النار في ذلك البيت

الهلال الطاهر، وكانت الزهراء فاطمة بنت محمد عليها أفضل الصلاة والسلام متحيرة

بشأنه قد انتحل جسمها وهي تخاطبه :

جسمي نحلته يابن أبي طالب يكرار*** متحيره ابشانك ودوبي أضرب افكار

ظليت محتاره وضيعك تيه البال*** اهموي اهموم يابن عمي مثل لجبال

كيفه تصد عينك وعني تعرض البال ***چنك جنين المستمل ما تدري اشصار

ما حد رمى ابنفسه يحيدر وسط الصفوف ***غيرك وفوق الهام فل احدود لسيوف

وعني يداحي الباب تتوانى من الخوف ***للجار تحمى وانهتك وياك بالدار

انت الغضنفر ما تشا بالكون تفعل*** يا هو قطع سيفه قوادم كل اجدل

ما حد كفو لك بالحرب منك امجدل*** او ليعزك ما يخونك يبو الأطهار

لو يالبطل سليت سيف العزم والناس*** ما وصل باب الدار واحد من هلرجاس

ولمن ضرعت الخد خدك كل رجس داس*** كرار في الغارات عني اتصير فرار

ياما انيابك تفترس في الحرب لذياب*** جنها او انسها لو بغت حربك فلا اتهاب

ص: 573

خلاك بس حظ الذليلة اتنام بتراب*** من هالظلامه وصار حيدر هالذي صار

***

يا لضرغام كيف اتنام*** تضرع ابخدك للقهر

وانته اتشوف يالموصوف*** بالباب ويش اللي صدر

******

فتنه على الزهرا استوت یا کرار

تمنع على اهجوم الاعادي بالدار

خدها اللطم والباب حرقوا بالنار

يا لمندوب يا المهيوب*** ما هاجك اللي لك صدر

***

بيك اشصدر يا مرتضى یا موصوف

بالحرب قلبك ما دخل بيه الخوف

كيفه البتوله تنعصر وانته اتشوف

ما لك هاب دق الباب*** وام الايمة لها عصر

جالس وتسمع ونة المهضومة

و اتصيح عمري ليت وصل يومه

موتي ولا اعيش ابعمر مظلومه

ياكرار بيك اشصار*** تسمع وغضيت النظر

***

واكبر عجب منك يا مردي الابطال

تنظر الزهرا معفرة فوق ارمال

تصرخ على فضة ادركيني بالحال

ص: 574

وانته اتشوف یا موصوف ***ما قمت غضبان ابکدر

***

عمرو بن ود الجا يقود الاعراب

من كل جهة وكل صوب حزب الحزاب

خليت جسمه امعفر ابحر اتراب

ومهما طاح صار اصياح*** الشرك والجيش انكسر

* **

ومرحب ابخيبر يوم اجا واتعناك

معجب ابنفسه ولو عرف لك ما جاك

وصار الحرب والسيف شلته ابيمناك

ضربه وصاح منها وطاح ***من فوق رمضا واعتفر

***

لقد كانت السيدة الجليلة فاطمة عليها أفضل الصلاة والسلام تذكر ابن عمها علياً عليه أفضل الصلاة والسلام بصولاته وجولاته وشجاعته وثباته على الضرب والطعن في سبيل الله ومن أجل الدفاع عن أبيها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)تذكره بتلك الشجاعة وانه لا يخاف الموت : وهذه حقيقة ثابتة وصفة شبه ذاتية لعلى عليه الصلاة والسلام (أنه لا يخاف الموت فهو المتفاني في سبيل الله فكيف لا يدفع الضيم عنها ؟ نعم قيدته وصية من أبيها لا خوف الموت فإنّ علياً عليه أفضل الصلاة والسلام وأبناءه الكرام البررة لا يخافون الموت ولا يهتمون بالدنيا .

هذا هو سيدنا وإمامنا وحبيب قلوبنا سيدالشهداء أبي عبدالله الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام عند ما قال له الحر بن يزيد الرياحي وهو يسايره أثناء توجهه إلى العراق : اذكرك الله في نفسك فاني أشهد لئن قاتلت لتقتلن.

فقال له الحسين (عليه السلام): أفبالموت تخوفني ؟ وهل يعدوبكم الخطب أن تقتلوني

ص: 575

وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فخوّفه ابن عمه وقال: أين تذهب فإنّك مقتول .

فقال :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى*** إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً

وواسى الرجال الصالحين بنفسه*** وفارق مثبوراً وودع مجرما

فإن عشت لم اندم وإن مت لم الم ***كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما

ثم أقبل الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام على أصحابه وقال : هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادة ؟

فقال الطرماح بن عدي وقيل الطرماح بن الحكم: نعم، يا ابن رسول الله أنا أخبر الطريق. فقال الامام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته الطاهرين وأصحابه المنتجبين) سر بين أيدينا، فسار الطرماح واتبعه الامام(عليه السلام) وأصحابه، وجعل الطرماح يرتجز ويقول :

يا ناقتي لا تذعري من زجري*** وامضي بنا قبل طلوع الفجر

بخير فتيان وخير سفر*** آل رسول الله آل الفخر

السادة البيض الوجوه الزهر*** الطاعنين بالرماح السمر

الضاربين بالسيوف البتر***حتي تحلي بكريم الفخر

الماجد الجد رحيب الصدر*** أصابه الله لخیر أمر

عمره الله بقاء الدهر*** یا مالك النفع معاً والضر

أید حسيناً سيدي بالنصر*** على الطغاة من بقايا الكفر

على اللعينين سليلي صخر*** يزيد (لعنه الله) لا زال حليف الخمر

وابن زياد العهر بن العهر

فلما سمع الحر ذلك سار ومعه أصحابه في ناحية والحسين عليه الصلاة والسلام في ناحية حتى وصلوا جميعاً إلى البيضة بالكسر ما بين واقصة إلى عذيب

ص: 576

الهجانات.

الحرم

قال المحدث المازندراني(قدس سره) نقلاً عن الطبري : إن الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه خطب فى أصحابه وأصحاب الحر بالبيضة بالكسر فحمد الله وأثنى هليه ثم قال : أيها الناس إن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً الله ، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله ، وحرموا حلاله، وأنا أحق من غيري، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم بيعتكم انكم لا تسلموني ولا تخذلوني فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا ،رشدكم، فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم فلكم في أسوة وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر. لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، والمغرور من اغتر بكم فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

ثم سار عليه الصلاة والسلام وسار أصحابه معه ،فبينما هم كذلك فإذا بأربعة نفر قد لحقوا به ، فسألهم الحسين عليه الصلاة والسلام عن خبر الناس خلفهم فقال له أحدهم وهو مجمع بن عبدالله العائذي أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم يستمال ودهم ويستخلص به نصيحتهم فهم الب واحد عليك، وأما سائر الناس بعدهم فإن قلوبهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك وسألهم عن رسوله قيس بن مصهر الصيداوي (عليه السلام) فقالوا: نعم أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى ابن زياد فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك فصلّى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه ودعا إلى نصرتك وأخبر بقدومك فأمر ابن زياد لعنه الله تعالى به

ص: 577

فألقى من طمار القصر فترقرقت عينا حسين بالدموع ولم يملك دمعه ، ثم قرأ صلوات الله وسلامه عليه ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ ثم قال(عليه السلام) : اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نزلاً واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ رحمتك وغائب مذخور ثوابك .

قال شيخنا الصدوق رضوان الله تعالى عليه وواصل الامام عليه الصلاة والسلام السير حتى نزل القطقطانية وهناك نظر عليه الصلاة والسلام إلى فسطاط مضروب فقال(عليه السلام): لمن هذا الفسطاط ؟

فقيل لعبيد الله بن الحر الجعفي . وقيل كما عن المفيد انه(عليه السلام) لما انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل له(عليه السلام)فإذا بفسطاط مضروب فقال(عليه السلام) : لمن هذا الفسطاط ؟

فقيل : لعبيد الله بن الحرّ الجعفي وعبدالله بن الحرّ المذكور كان عثمانياً على ما ذكره المحدث المازندراني نقلاً عن كتاب القمقام، وكان يعد من الشجعان ومن فرسان العرب، وكان في وقفه صفين في جيش معاوية بن أبي سفيان لعنه الله تعالى لما كان في قلبه من محبة عثمان ولما قتل أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه انتقل إلى الكوفة وكان بها إلى أن حضرت مقدمات قتل الحسين صلوات الله وسلامه عليه فخرج تعمداً لئلا يحضر في قتله، والحاصل فقال الحسين صلوات الله وسلامه : ادعوه الى.

قال المحدث المذكور نقلاً عن القمقام : انه(عليه السلام)أرسل إليه الحجاج بن مسروق ليدعوه، فلما أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي(عليه السلام) يدعوك.

فقال عبيد الله : إنا لله وإنا إليه راجعون والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهية أن يدخلها الحسين (عليه السلام)وأنا فيها ، والله ما أريد أن أراه ولا يراني، فأتاه الرسول فأخبره، فقام إليه الحسين عليه الصلاة والسلام في جماعة من أصحابه واخوانه وأهل بيته حتى دخل عليه وسلّم وجلس.

وفي خبر : لما دخل عليه أوسع له من صدر مجلسه واستقبله إجلالاً له،

ص: 578

وجاء به حتى أجلسه وقبل يديه ورجليه، ثم دعاه الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه إلى الخروج فأعاد عليه ابن الحرّ تلك المقالة واستقاله مما دعاه إليه ثم قال له الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه : أيها الرجل أنت خاطىء مذنب، وانّ الله عز وجل آخذك بما أنت صانع إن لم تتب إلى الله تبارك وتعالى في ساعتك هذه فتنصرني فيكون جدي شفيعك بين يدي الله تبارك وتعالى .

فقال : يا ابن رسول الله والله لو نصرتك لكنت أوّل مقتول بين يديك ولكن هذا فرسي خذه اليك فوالله ما ركبته قط وأنا اروم شيئاً إلا بلغته ولا أرادني أحد إلا نجوت عليه فدونك فخذه، فأعرض عنه الحسين صلوات الله وسلامه عليه بوجهه، ثم قال(عليه السلام) : لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك وما كنت متخذ المضلين عضداً ولكن فر فلا لنا ولا علينا فإنه من سمع واعيتنا أهل البيت ثم لم يجبنا أكبه الله تعالى على وجهه في نار جهنّم.

فقال عبيد الله : ولن يكون هذا، ثم قام الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه من عنده حتى دخل ،رحله ثم تداخله الندم بعد ذلك على قعوده عن نصرة الحسين صلوات الله وسلامه عليه حتى كادت نفسه تفيض وكان يضرب يده على الأخرى ويقول : ما فعلت بنفسي وأنشأ يقول :

فيالك حسرة مادمت حيّاً*** تردّد بين صدري والتراقي

حسين حين يطلب نصر مثلي*** على أهل الضلالة والشقاق

غداة يقول لي بالقصر قولاً*** أتتركنا وتزمع بالفراق

ولو أني أواسيه بنفسي*** لنلت كرامة يوم التلاق

مع ابن المصطفى نفسي فداه*** تولى أودع بانطلاق

فلو فلق التلهف قلب حيّ*** لهم اليوم قلبي بانفلاق

فقد فاز الأولى نصروا حسيناً ***وخاب الآخرون أولو النفاق

ولكن كيف يفيده الندم والحسرة وقد ترك السعادة الأبدية بنفسه، وقد خسر

ص: 579

في نهاية أمره الدنيا والآخرة فإن ندمه كان حيث لا ينفعه الندم وحسرته حيث لا تنفعه الحسرة لأنه ظالّ مضلّ.

ومن هنا فإن الامام(عليه السلام)قال له كما تقدم بيانه : أيها الرجل أنت خاطىء مذنب وان الله عز وجل آخذك بما أنت صانع إن لم تتب إلى الله تبارك وتعالى في ساعتك فتنصرني ، وعند ما لم يفد معه نصيحة الحسين صلوات الله وسلامه عليه وتهرب من واجبه وقد عرض على الحسين صلوات الله وسلامه عليه فرسه.

فقال له الامام(عليه السلام): لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك وما كنت متخذ المضلين عضداً . أعوذ بالله من سوء العاقبة.

قال المحدث المازندراني نقلاً عن كتاب اللهوف : إن الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه واصل السير حتى انتهى إلى شَفيه بفتح أوله وكسر ثانيه منسوب إلى الشفاء قال : يحتمل ان مراده كربلاء باعتبار أن تربته وترابه شفاء لكل داء وفيه نظر . والحاصل انه

(عليه السلام) لما أن وصل إلى المكان المذكور قام خطيباً في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه وذكر جده فصلّى عليه ثم قال : إنه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرت جذاء ولم تبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً .

فقام زهير بن القين رحمه الله وقال : قد سمعنا -هداك الله يا ابن رسول الله مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة .

وقام بعده هلال بن نافع البجلي فقال : والله ما كرهنا لقاء ربّنا وإنا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك.

وقام بعدهما برير بن خضير الهمداني فقال : والله يا ابن رسول الله لقد من الله

ص: 580

بك علينا أن نقاتل بين يديك وتقطّع فيك أعضاؤنا ثم يكون جدك(صلی الله علیه وآله وسلم)شفيعنا يوم القيامة .

قال المحدث المذكور نقلاً عن البحار إنّ نافع بن هلال البجلي تكلم أيضاً : بهذا الكلام فقال : يا بن رسول الله ، أنت تعلم أن جدك رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)لم يقدر أن يشرب الناس محبته ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحب، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ويضمرون له الغدر يلقونه بأحلى من العسل ويخلفونه بأمر من الحنظل حتى قبضه الله إليه، وأن أباك علياً صلى الله عليه قد كان في مثل ذلك فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة نکث ومن عهده وخلع بيعته فلن يضرّ إلا نفسه والله معن عنه فسر بنا راشداً معافى إن شئت مشرقاً وإن شئت مغرباً فوالله ما أشفقنا من قدر الله ولا كرهنا لقاء ربّنا وإنا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك .

قال المازندراني : ثمّ إن الحسين صلوات الله وسلامه عليه قام وركب وسار وكلما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى حتى بلغ كربلاء، فلما وصلها تغير حاله واستعاذ بالله من كرباتها - وقيل : إنه صلوات الله وسلامه عليه قال : ما اسم هذه الأرض ؟ فقيل : كربلاء ، فقال : اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلا.

ثمّ قال : هذا موضع كرب وبلاء انزلوا ههنا محط رحالنا ومسفك دمائنا و محل قبورنا ، بهذا حدثني جدي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، فنزلوا جميعاً ونزل الحر وأصحابه ناحية وكان ذلك في اليوم الثاني من المحرم.

وقيل :إن الفرس لم ينبعث فنزل عنه الحسين صلوات الله وسلامه عليه ،فلما وطأ الأرض بأقدامه الشريفة تغير لون التراب وصار كلون الزعفران وسطع منه غبار علا وجهه ولحيته بحيث اغبر رأسه ووجهه ولحيته الشريفة .

فنظرت أم كلثوم إليه فقالت : واعجباه من هذه البيداء ما أشد وأعظم هولها

ص: 581

أرى منها هولاً عظيماً ، فسلّاها الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه. يقول الرائي :

الى ان أتى أرض الطفوف بأهله*** فلم ينبعث مهر ولم يجر منسم

فقال فما هذي البقاع التي بها*** وقفن الخيول السابقات فاعلموا

فقالوا تسمى نینوی قال او ضحوا*** فقالوا تسمى كربلا قال خيموا

وقال الشيخ الدمستاني البحراني في ذلك:

بينما السبط بأهليه مجدّاً في المسير*** وإذا الهاتف ينعاهم ويدعو ويشير

ان قدام مطاياهم مناياهم تسير*** ساعة اذا وقف المهر الذي تحت الحسين

فعلا صهوة ثانٍ فأبى أن يرحلا*** فدعا في قومه يا قوم ما هذي الفلا

قيل هذى كربلاء إذ قال كرب وبلا*** خيموا ان بهذي الأرض مقلى العسكرين

ههنا تنتزع الأرواح عن أجسادها*** بضبا تعتاظ بالأجساد أغمادها

وبهذي تحمل الأمجاد في أصفادها*** في وثاق الطلقاء الأدعياء الوالدين

وقال العلامة الجشي في ذلك :

وإذا بالمهر تحت السبط لم يرفع يدا***عن يد حيران والاعداء حاطت بالحسين

أيها المهر لماذا لم تجز أرض الطفوف ***والعدى بالسبط دارت برماح وسيوف

ألك الجبار اوحى حين اوحى بالوقوف ***قائلا قف ان فيها مصرع السبط الحسين

فدعا ما اسم الفلا يا قوم قالوا كربلا *** قال فيها الكرب ما زل مقيما والبلا

وبها موقفنا للحشر يغدو مثلا ***يملؤ الدنيا بفخر وبشجو دائمين

ص: 582

ستفيض الأرض منا ومن القوم دما*** ويعود الظهر بالعثير ليلاً مظلما

والمواضي في سما الهيجا تبدو انجما*** تتهاوى غائبات في الطلا والودجين

وستغدو حرم التنزيل من غير حجاب*** وستطوي البيد في الأسر ويقطعن الرحاب

وترى منا حسوماً عفرت فوق التراب*** ورؤوساً في القنا تكسف نور النيرين

سبط الرسول بكربلا اتحير نجيبه ***او نادى شسم هالقاع يليوث الحريبه

قالوا يبوا السجاد اسمها الغاضريات*** ولها اسم عند الخلايق شط الفرات

مع نينوى والعقر يا سيد السادات*** قلهم او قلبه امن الوجد يسعر لهيبه

يا الله شسمها غير هذا يا صناديد*** قالوا الطفوف او كربلا يا ابن الاماجيد

قلهم دنزلوا غير هذه الارض ما ريد ***او قولوا لزينب تستعد الها المصيبه

حطوا ظعنا ابها الفضى او نصبوا خيمنا*** او بهداي يسباع الحرب نزلوا حرمنا

معلوم عندي ابها الارض ينسفك دمنا*** موعود بيها او عدي امن الله وحبيبه

إن كان هذي كربلاء بشروا بلايا*** او نزلوا ترا لاحت علامات المنايا

ص: 583

لازم ابجانب هالنهر نقضي ظمايا ***واجسادنا تبقى على الغبرى سليبه

كم شاب ما يهنا ابشبابه ايظل معفور*** كلنا ابتراها انظل عرايا ما لنا اقبور

هذي مصارعنا او عدنا يوم عاشور*** طير المنون اسمع على راسي نعيبه

طنب اخيامه بكربلا مهجة المختار*** او دارت عليه جنود اميه او ظل محتار

وادموعه تصب فوق خده شبه المطار*** واقبال وجهه ينتخي كبش الكتيبه

ثار ابو عيده صاحب الصولات عباس *** قله البكا خله يخويه وارفع الراس

افعل فعل للحشر بيه تتحدث الناس ***نشف ادموعه بو علی او سكن نحيبه

قله او قلبه امن الوجد والحزن مفتوت*** تدري بخوك حسين ما يرهب من الموت

حزني لجل سلب الحريم او حرق البيوت*** کم ارمله تبقى عقب عيني سليبه

ما هاجت احزاني لجل ذبحت ارجالي ***حزني يبو فاضل على ضيعة اطفالي

واشحال زينب لو بقت من غير والي*** متحیره بیتام مدهوشة او غريبه

ص: 584

الجلسة العشرون

نبي أبك طويلا*** وأجعل النوح عويلا

وأهجر الصبر الجميلا*** فقده کان جليلا

وأبك بالدمع الهمول*** واتبع أثر البتول

في بكاها للرسول*** غير سال وملول

إذ بكت شجواً أباها*** ببكا أشجي عداها

لم تفتر عن بكاها*** في ضحاها ودجاها

فأجعل الحزن شعارا*** وأبك ليلاً ونهاراً

من جوى أوقد ناراً*** وأترك الدمع بحارا

فلقد عاش سعيدا*** ومضى براً حميدا

أسفاً يقضي شهيداً*** ولقد عزّ فقيدا

مثل طه أين يوجد*** سر ما في الكون موجد

وله أيد بلا حد*** في الورى جلت عن العد

ولقد قاسی مصائب*** هونت كل النوائب

وقضى والقلب ذائب***من أذى شرالعصائب

آه من أهل النفاق*** أظهروا دعوى الوفاق

كم غدا منهم يلاقي*** من بلاء وشقاق

أسلموه للأعادي*** عند کر وطراد

ص: 585

تركوه في الوهاد*** ثم فروا عن جهاد

أسلموه للخصوم***كروب وهموم

ثم هموا بهموم*** وسقوه للسموم

قطعوا منه الفؤادا*** بلغوا فيه المرادا

للهدى هدوا العماد*** فلقد كان السنادا

وعلى فرش السقام*** قد ثوى خير الأنام

بمعاناة السمام*** فاشتفت شر الأنام

نعم، لقد بقي نبينا الكريم وحبيب قلوبنا ونور عيوننا(صلی الله علیه وآله وسلم)على فراش الأسقام يعلني ما يعاني من تلك السموم التي قد سرت في جسده الشريف حتى قطعت فؤاده وقضى روحي فداه وقلبه ذائب وذلك بعد أن قاسى مصائب ونوائب نزلت بساحته المباركة حياً وقبل أن يفارق الدنيا، فكم قد لقي من بلاء القوم وشرهم وشقاقهم وتمردهم على أوامره الشريفة، وتركهم له في الوهاد وفرارهم عن ساحة الجهاد وإظهارهم له الوفاق وهم مع ذلك كانوا يبطنون النفاق، ولم يكن له ناصر منهم غير ابن عمه علي بن أبي طالب الله(عليه السلام) ونفر قليل منهم.

ومن هنا فقد كان(صلی الله علیه وآله وسلم)وهو على فراش الموت يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام)أن يتخذ الحذر من غوائلهم وكيدهم ونفاقهم ولسان حاله(صلی الله علیه وآله وسلم)يقول :

الله يعينك من عقب عيني يكرار*** بتقاسي أمرار المصايب ليل وانهار

كم من مصيبة ابتستوي واعيونك اتشوف*** وانت الشجاع اللي على الشدات موصوف بتصد عنها لاجبن منك ولا خوف*** صابر وخاضع للذي قدر الجبار

* * *

جيب الحسن وحسين عندي يحضروني*** ومن قبل ما افارق الدنيا ايودعوني

هالیوم و یا هم وباچر يفقدوني*** واقلوبهم من وحشة افراقه تشب نار

***

ص: 586

وناد على الزهرا تجيني قبل ما اموت ***ومن قبل شخصي تختلي منه هالبيوت

يتعيش بين الناس بعدي عيشة الموت ***الله يساعدها على امقاسي هالمرار

بتشوف ابو الحسنين من داره يجروه*** وبالزور والبهتان عن حقه يوخروه

والضلع بين الباب والحايط يكسره*** وتصبح على ذل وهضم ما بين لشرار

***

بعدي يزهرا تصبري والصبر محمود*** كلما تشوفى من أذية وجور واصدود

صبري على اللي قدره الباري المعبود*** راضين يا زهرا على كل ما لنا اختار

***

لقد صبرت السيدة الجليلة والصديقة الكبرى فاطمة الزهراء بنت محمد عليها أفضل الصلاة والسلام على كل الذي جرى عليها وحل بساحتها المباركة من المصائب والنوائب والمحن التي تدكدكت لها الجبال الرواسي وأظلم لها الكون محتسبة ثوابها في ذلك من الله وموفوضة أمرها إليه فإنه الجبار القدير الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحد. وقد تعلم منها أبناؤها السادة البررة والأئمة الخيرة معنى الصبر والتجلد على المصائب والمحن. انظروا الى إمامنا وسيدنا وحبيب قلوبنا الحسين بن علي(عليه السلام) في صبره وثباته وتجلده على المحن والنوائب التي حلت بساحته المباركة في يوم عاشورحتى لقد عجبت من صبره(عليه السلام)ملائكة السماء .

فتحمّل عليه الصلاة والسلام كلما جرى عليه بصدر رحب، ووقف أمام تلك ذلك في

الجيوش الغفيرة التي ملأت وادي كربلاء بحزم ثابت وايمان راسخ وهو مع قلة العدد وخذلان الناصر لم يوجد له إلا تلك الفتية الصالحة والنخبة المؤمنة القليلة أمثال ،زهير وبرير وهلال وغيرهم ، ولقد كان سيدهم ومقدامهم هو حبيب بن مظاهر الأسدي ويُعد حبيب سلام الله تعالى عليه حبيب لحسين عليه أفضل الصلاة والسلام. ومن هنا يقول الشاعر في رثائه :

ص: 587

أحبيب أنت الى الحسين حبيب*** إن لم ينط نسب فأنت نسيب

يا مرحباً بابن المظاهر بالولا*** لو كان ينهض بالولا الترحيب

شأن يشق على الضراح مرامه*** بعداً وقبرك والضريح قريب

قد أخلصت طرفي علاك نجيبة*** من قومها واب اعزّ نجيب

بأبي المقدمي نفسه عن رغبة*** لم يدعه الترهيب والترغيب

مازاغ قلباً من صفوف أميّة*** يوم استطارت للرجال قلوب

یا حاملاً ذاك اللواء مرفرفاً*** كيف التوى ذاك اللوى المضروب

لله من علم هوى وبكفّه*** علم الحسين الخافق المنصوب

ابني المواطر بالأسنّة رعفاً*** في حيث لا برق السيوف خلوب

غالبتم نفراً بضفّة نينوى*** فغلبتم والغالب المغلوب

شكت الطفوف طفيفها فاكالها*** بكم أبي الضيم وهو غريب

ما منكم الا ابن أُمّ للردى*** ليث أكول للعدى وشروب

کنتم قواعد للهدى ما هدّها*** ليل الضلال الحالك الغربيب

شاب واشيب يستهل بوجهه*** قمر السما والكوكب المشبوب

لولا فخامة شيبهم وشبابهم*** شرفاً لرق بهم لي التشبيب

فزُهيرها طلق الجبين وبعده*** وهب ولكن للحياة وهوب

وهلالها في الروع وابن شبيبها*** وبريرها المتنمر المذروب

والليث مسلمها ابن عوسجة الذي*** سلم الحتوف وللحروب حريب

***

قال المحدث المازندراني قدس الله نفسه الزكية نقلاً عن كتاب (الأسرار) لمؤلفه الدربندي أعلى الله مقامه : إن حبيب بن مظاهر صلوات الله وسلامه عليه كان ذات يوم واقفاً في سوق الكوفة عند عطّار يشتري صبغاً لكريمته المباركة فمر عليه مسلم بن عوسجة صلوات الله وسلامه عليه فالتفت إليه حبيب(عليه السلام) وقال : يا أخي يا

ص: 588

مسلم إني أرى أهل الكوفة يجمعون الخيل والأسلحة، فبكى مسلم(عليه السلام)وقال :يا أخي إن أهل الكوفة صمموا على قتال ابن بنت رسول(صلی الله علیه وآله وسلم)، فبكى حبيب عليه الصلاة والسلام ورمى الصبغ من يده وقال : والله لا تصبغ هذه إلا من دم منحري دون الحسين صلوات الله وسلامه عليه .

وفي ذلك يقول خادم أهل البيت وشاعرهم وحبيب قلوب أهل البحرين جناب الحاج شيخ ملا عطية بن علي الجمري قدس الله نفسه الزكية وطيب الله تربته حاكياً لنا وصف حبيب (عليه السلام) عندما سميعالخبر من مسلم حيث رمى الصبغ من يده كما ذكرنا وقال :

اخضابي بعرصة كربلا ما اريد انا اخضاب*** لازم يجيني من حبيب المصطفى اكتاب

مسلم يبن عمي دخبرني اشصاير*** اشوف لونك منخطف والقلب طاير

مذهول تمشي بالسكك مشية الحاير*** تخفي النشيج او مدمعك بالخد سكاب

قله هل الكوفة تراهم مستعدين *** لموا عساكرهم قصدهم ذبحة احسين

وابكربلا مولاي لا ناصر ولا امعين *** عاف الدنيه او من كثر جوار الدهر شاب

عاف الدنيه ويح قلبي او طلع مقهور*** خلا عقب عينه امظلمه او موحشه الدور

او شال ابعزيزات النبي هايم بلبرور*** ما ظل بعده ابمنزله شيخ ولا شاب

ص: 589

انظر ابعينك يا حبيب اتجهز الجيش ***اعلن الصايح والزمان اقبل ابتوحيش

واحنا عقب سبط النبي ساعة فلا انعيش ***اشلون المعيشة من بعد بن داحي الباب

قله حبيب النوح والحسرات متفيد*** اتوكل على الله وكربلا عنا مهي

عجل قبل لا ينذبح نسل الاماجيد***يا سعد من يحضى ابنومة ذاك لتراب

هذا من المختار في الأمة وديعه *** عجل قبل لا توقع اعلينا الفجيعه

نوصل قبل لا تنهدم كعبة الشيعه ***العراق كلها امجندة وما عنده اصحاب

الله ايوصلني قبل توصل هلجنود*** وانكان رب العرش بلغني المقصود

لفدي ابروحي شبل حيدر سر لوجود*** وانشر البيرق وانتخي ما بين لطناب

***

قال الله تعالى في كتابه المجيد :﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ *وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾(1) .

ص: 590


1- سورة آل عمران : 79 - 80 .

التفسير الموجز

ليس غرضنا من طرح هذه الآيات المباركة في هذه الجلسة الكريمة هو من أجل بيان تفسيرها وإنما لنعلم من خلال التفسير الموجز الذي سوف نذكره أنها رد على من يلصق بالنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)أو الأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين صفة من صفات الربوبية فنقول : جاء في الحديث الشريف انّ رجلاً قال لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) : أنسجد لك ؟

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): لا يجوز أن يسجد لأحد من دون الله .

وقال له :آخر أتريد أن تعبد، ونتخذك إلها ؟

فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): معاذ الله ! ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت وعليه ينبغي أيضاً أن يعلم أنّ كل من دعا الناس إلى عبادة نفسه فهو كافر، وكل من دعاهم إلى تعظيمه بقصد التعاظم والاستعلاء فهو فاسق .

ومن ذلك أيضاً ما جاء عن مولانا الامام الرضا صلوات الله وسلامه عليه في دعائه حيث قال(عليه السلام) : اللهم إني أبرأ إليك من الحول والقوة ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم إني أبر إليك وأعوذ بك من الذين أدعو لنا ما ليس بحق اللهم اني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا، اللهم لك الخلق ومنك الرزق وإياك نعبد وإياك نستعين ، اللهم أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولين وآبائنا الآخرين، اللهم لا تليق الربوبية إلا بك، ولا تصلح الألوهية إلا بك، اللهم العن النصارى الذين صغروا عظمتك، والعن الضاهيئن، اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك ، لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياتاً ولا نشوراً ، اللهم من زعم أننا أرباب فنحن إليك منهم براء، ومن زعم أن إلينا إياب الخلق وعلينا الرزق فنحن إليك منهم براء كبراءة عيسى من النصارى ، اللهم إنا لم ندعهم إلى ما يزعمون فلا تؤاخذنا بما يقولون.

كما انّ الآية الكريمة فيها - شهادة من الله تعالى بتنزيه الأنبياء، وتبرئتهم من الرضا بالغلو فيهم ... ان النبي يوقن بأنه عبد من عباد الله ، وان الله وحده هو المعبود

ص: 591

لا شريك له في عبادته ، فكيف يعقل أن يدعو الناس لعبادة نفسه، أو عبادة الملائكة .

ومن هنا جاءت الآية الكريمة لتبرئة ساحتهم الشريفة من الرضا بالغلو فيهم كما أشرنا إلى ذلك.

وخلاصة ما ذكره المفسرون في معنى قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ الآية : انّه ليس من شك ان الذي يختاره الله للكتاب والحكم والنبوة يمتنع عليه أن يدعو الناس لعبادة نفسه، لأنّ هذا كفر ، والله لا يختار الكافرين أنما يختار البشر الذي يأمر عباده بأن يكونوا ربانيين ، أي عالمين عاملين معلمين لأنّ (ربانيين) جمع واحده رباني، ومعناه المتأله الذي يعلم كتاب الله ، ويعمل به ويعلمه للغير ويشهد لذلك قول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام الناس ثلاثة : عالم رباني ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع.

والمراد بالكتاب في الآية الكتاب المنزل من الله كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن الكريم ، والمراد بالحكم العلم والسنة النبوية.

وخلاصة تفسير الآية الثانية وهو قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ﴾ . أي أنّ النبي لا يأمر ولن يأمر أحداً بأن يتخذ معبوداً غير الله .

ومن هنا يعلم تميّز الاسلام عن غيره من الأديان بأنه لا يجوز عنده بحال أن تنسب صفة الألوهية إلى مخلوقٍ نبياً كان أو ملكاً أو ولي ... والسر في التكرار والتأكيد انّ الانسان ميال بفطرته إلى الغلو، كما نشاهد ذلك في بعض أهل الأديان.....

وعلى الرغم من ذلك التأكيد فقد وجد غلاة بين المسلمين.... وإن كثيراً من مسلمي اليوم ونحن في القرن العشرين - ينسبون إلى بعض الموتى ما لا تجوز

ص: 592

نسبته إلا إلى الله وحده لا شريك له .

وقديماً قد وجد أيضاً غلاة قد تجاوزوا الحدّ وخرجوا عن القصد من حيث إنّهم نسبوا الامام أمير المؤمنين والأئمة من ذريته صلوات الله وسلامه عليهم إلى الألوهية والنبوة وهم ضلال كفار قد حكم أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام فيهم بالقتل والتحريق بالنار وقضت فيهم الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم بالكفر والخروج عن الاسلام.

تنبيه مفيد : لكن ينبغي أن نعرف الفرق بين الغلو الذي هو نسبة صفة الألوهية للأنبياء وبين تعظيمهم والتمسك بهم والاعتقاد بعظمتهم فإنّ هذا كله ليس من الغلو في شيء بالخصوص تعظيم محمد وآل محمد صلوات الله عليه وعليهم أجمعين فإنهم كمثل نجوم السماء إذا هوى نجم طلع نجم كما أشار لذلك أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

وقال صلوات الله وسلامه عليه وقد ذكر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وأهل بيته (عليه السلام):حتى أفضت كرامة الله سبحانه وتعالى إلى محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)، فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً وأعز الارومات مغرساً ،من الشجرة التي صدع منها أنبياؤه وانتجب منها أمناؤه عترته خير العتر وأسرته خير الأسر وشجرته خير الشجر نبتت في حرم وبسقت في كرم لها فروع طوال ، وثمر لا ينال فهو إمام من اقتى وبصيرة من اهتدى ، سراج لمع ضوءه، وشهاب سطع نوره وزند ،لمعه سیر سيرته القصد وسنته الرشد، وكلامه الفصل ، وحكمه العدل أرسله على حين فترة من الرسل، وهفوة عن العمل، وغباوة من الأمم.

نعم والله إنه(صلی الله علیه وآله وسلم)سراج لمع ضوءه وشهاب سطع نوره عندما وضعه أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام على المغتسل بعد أن فارقت روحه(صلی الله علیه وآله وسلم)المباركة الدنيا وجد تلك الأنوار الساطعة في جبين ابن عمه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ثم أخذ ينظر في وجهه المبارك وبعد ذلك استعبر وبكى ونادى وامحمداه وياحبيب الله نفسي

ص: 593

لنفسك الفداء وبكت فاطمة عليها الصلاة والسلام وجميع بني هاشم، ثم إنه(عليه السلام) قال : إن الله وإنا إليه راجعون وأنشأ يقول :

رزئنا رسول الله فينا فلن نرى*** بذاك عديلاً ما حيينا من الورى

وكان لنا كالحصن من دون أهله*** له معقل حصن حصين من العدى

وكنا بمرآه نرى النور والهدى*** صباحاً مساءً راح فينا أو اغتدى

لقد غشيتنا ظلمة بعد موته*** نهاراً وقد زادت على ظلمه الدجى

ونظرت إليه السيدة الصديقة فاطمة الزهراء عليها أفضل الصلاة والسلام وهو (صلی الله علیه وآله وسلم)على المغتسل والنور يتشعشع من غرّة جبينه الشريف ورائحة الجنّة تشم من رائحة كافوره (صلی الله علیه وآله وسلم)وأنشأت تقول :

مثلك ما شفت ميت مات او تشعشع نوره*** تشتم ريح الجنة من رايحة كافوره

لحد يراية عزي يوم اصبحت مكسوره*** وظليت آني بعدك يا والدي محتاره

كيف استطيع افراقك وانته حشا افادي*** وانته يبويه شربي وانته يبويه زادي

يا ما على كتفينك يا به حملت اولادي*** حتى يتربة اوني بعد النبي يادره

يا تربة الضميتي جسم النبي العدناني*** با سايلك ما ينقل تربك ضريح الثاني

باقسم عليك ابشأنه او باقسم عليك ابشاني*** سوى محل واخذيني تحت البدر باجواره

***

ولئن حزن علي والزهراء عليهما أفضل الصلاة والسلام على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فلقد حزن على السجاد وعمته السيدة الحوراء زينب عليه وعليها أفضل الصلاة والسلام على سيد الشهداء (عليه السلام)وعلى أهل بيته أقمار بني هاشم وأصحابه الشرفاء المتفانيين في حبه والذين بذلوا مهجهم دونه واستبسلوا في ساحات الجهاد حتى عانقوا السمر والسيوف ولكن أدركوا بعدها عناق الحوراء .

تلك الفتية الذين بمجرد أن سمعوا صوت الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام استجابوا إلى ذلك الصوت المبارك عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين استجاب الحاضرون إلى صوت إمامهم وإمامنا وسيدهم وسيدنا حيث كانوا قريبين منها(عليه السلام)

ص: 594

وكانوا معه في كربلاء، أما الذين كانوا بعيدين عن كربلاء أمثال حبيب بن مظاهر وغيره فإنهم(عليه السلام)بمجرد وصول الخبر إلى كل واحد منهم تجده يسارع إلى اللحوق بالحسين عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد كان لحبيب بن مظاهر أهمية كبيرة عند الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام. ومن هنا فإن الامام لم يترك حبيب أن يسمع الخبر من الناس بل أرسل له كتاباً يدعوه فيه إلى نصرته .

قال المحدث المازندراني رضوان الله تعالى عليه : إن الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام قد كتب كتاباً إلى حبيب هذه نسخته :

من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى الرجل الفقيه حبيب بن مظاهر.

أما بعد، يا حبيب فأنت تعلم قرابتنا من رسول الله وأنت أعرف بنا من غيرك وأنت ذو شيمة وغيرة فلا تبخل علينا بنفسك يجازيك جدّي رسول الله يوم القيامة ، أرسله إلى حبيب وكان حبيب جالساً مع زوجته وبين أيديهما طعام يأكلان إذ غصت زوجته في الطعام فقالت: الله أكبر يا حبيب الساعة يرد علينا كتاب كريم من رجل كريم، فبينما هم في الكلام وإذا بطارق يطرق الباب فخرج إليه حبيب وقال : من الطارق ؟

قال : أنا رسول الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام إليك.

فقال حبيب: الله أكبر صدقت الحرة بما قالت، ثم ناوله الكتاب ففضّه وقرأه فسألته زوجته عن الخبر فأخبر فبكت وقالت : بالله عليك يا حبيب لا تقصر عن نصرة ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم).

فقال : أجل حتى أقتل بين يديه وتصبغ شيبتي من دم نحري، وكان حبيب يريد أن يكتم أمره على عشيرته وبني عمه لئلا يعلم به أحد خوفاً من ابن زياد لعنه الله ، فبينما حبيب الا ينظر فى أموره وحوائجه واللحوق بالحسين صلوات الله وسلامه عليه إذ أقبل بنو عمه إليه وقالوا: يا حبيب بلغنا انك تريد أن تخرج لنصرة الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام ونحن لا نخليك مالنا والدخول بين السلاطين، فأخفى حبيبذلك وأنكر عليهم فرجعوا عنه وسمعت زوجته فقالت: يا حبيب

ص: 595

كأنك كاره للخروج لنصرة الحسين (عليه السلام)الفأراد أن يختبر حالها ؟ فقال : نعم، فبكت وقالت: يا حبيب أنسيت كلام جده الا الله في حقه وأخيه الحسن(عليه السلام) حيث يقول : ولداي هذان سيدا شباب أهل الجنة وهما إمامان قاما أو قعدا ؟ وهذا رسوله وكتابه أتى إليك ويستعين بك وأنت لم تجبه .

فقال حبيب : أخاف على أطفالي من اليتم، وأخشى أن ترملي بعدي.

فقالت : ولنا التأسي بالهاشميات والبنيات والأيتام من آل رسول الله والله تعالى كفيلنا وهو حسبنا ونعم الوكيل ، فلما عرف الحبيب (عليه السلام)منها صدق الأمر دعا لها وجزاها خيراً وأخبرها بما هو في نفسه وانه عازم على المسير والرواح.

فقالت: لي إليك حاجة .

فقال : وما هي ؟

قالت: بالله عليك يا حبيب إذا قدمت على الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام قبل يديه ورجليه نيابة عنّي واقرأه عني السلام.

فقال : حباً وكرامة، ثم جعلت رضوان الله تعالى عليها بل سلام الله عليها تبكي كثيراً وهي تناشد حبيب الله بأن لا يقصر في نصرة ابن البتول ولسان حالها يقول :

يا حبيب ابن البتوله لا تخلي نصرته*** ابكربلا ايقولون ضل من محصور بهله واخوته

بكربلا ايقولون شبل المرتضى خط الخيم*** ما له ناصر يا حبيب وعنده اطفال او حرم

او كان راح احسين ما يرتفع للشيعة علم*** ترضى عليه بالخدر واحسین تسبى نسوته

وقفت اتنخی او تخمس للخدود امفرعه*** انكان ما تنهض بهمه وتطلب ذيك المعمعه

ص: 596

جیب لعمامه يبن عمي وخذها لمقنعه*** وظل حبيب يعاين لها وغصب هلت دمعته

صاح ما يحتاج هالنخوات بطلي من الحنين***وانا عبد ابن الرسول او عبد امیر المؤمنين

ذاب قلبي من سمعت ابكربلا خيم حسين*** واسمعت ايقولون جيمان الاعادي حاطته

***

بعد ذلك أقبل حبيب سلام الله تعالى عليه على جواده وشدّه شدّاً وثيقاً وقال لعبده : خذ فرسي وامض به ولا يعلم بك أحد وانتظرني في المكان الفلاني، فاخذه العبد ومضى به وبقي ينتظر قدوم سيده، ثم إن حبيب(عليه السلام)ودع زوجته وأولاده وخرج مختفياً كأنه ماض إلى ضيعة له خوفاً من أهل الكوفة فاستبطأه الغلام وأقبل على الفرس وكان قدّامه علف يأكل منه فجعل الغلام يخاطبه ويقول له : يا جواد إن لم يأت صاحبك لأعلون ظهرك وأمضي بك إلى نصرة سيدي ومولاي الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام، فلما سمع الجواد خطاب الغلام له جعل يبكي ودموعه تجري على خديه وامتنع عن الأكل، فبينما هو كذلك فإذا بحبيب (عليه السلام)قد أقبل فسمع خطاب الغلام فصفق بإحدى يديه على الأخرى وقال : بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله العبيد يتمنون نصرتك فكيف بالأحرار ، ثم قال لعبده يا غلام أنت حر لوجه الله ، فبكى الغلام وقال : سيدي والله لا تركتك حتى أمضي معك لنصرة سيدي ومولاي الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام ابن بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وأقتل بين يديه، فجزاه خيراً فسارا.

وكان الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام قد نزل في طريقه بأرض وعقد فيها اثني عشر راية وقد قسم راياته بين أصحابه وبقيت راية واحدة فقال له بعض أصحابه : منّ عليّ بحملها .

فقال(عليه السلام) : يأتي إلينا من يحملها عن قريب . وقيل : إن أكثر من واحد تقدموا

ص: 597

للامام عليه الصلاة والسلام يسألونه أن يمن عليهم بحملها إلا أنه(عليه السلام)يقول لهم وهو مشير بيده المباركة إلى تلك الراية بأن لا يحملنها أحد منكم ولسان حاله يقول :

لاحد يشيل الراية لاحد يشيل الراية***يا سيوف حربي منكم لاحد يشيل الراية

بس ما طواها ولفها ثارت جميع ارجاله*** کلمن یرید ایشیلها كلهم كفو خياله

قلهم عزيز الزهرا با مدامع هماله*** يسيوف حربي منكم لاحد يشيل الرأية

ايقلهم عزيز الزهرا وا مدامعه يجريها*** لاحد يشيل الراية حتى يجي راعيها

ابصدر العدى يركزها او نار الحرب يوريها*** يسبوع حربي منكم لاحد يشيل الراية

قالوا له يابو علي منهو الذي تعني له*** او من هالذي بالكوفة مكتوب باتودي له

قلهم حبيب اسنادي باكتب إله هالليله*** لازم يجي امن الكوفه لينا يشيل الرايه

أعني حبيب اسنادي ذي رايته ملفوفه*** باكتب اله هاليله لازم يجی امن الكوفه

خط الكتاب ابن النبي وا مدامعه مذروفه*** ينخى حبيب ايقول له عجل او شيل الرايه

أو ليمن وصلك اكتابي يحبيب لاتتوانا*** احنا ابعرصة كربلا حاطت علينا أعدانا

وانچان تبغي الجنه سرعك تعال أويانا*** في السير لا تتوانا عجل او شيل الرايه

ص: 598

ذي رايتك مطويه يحبيب عجل ليها*** الدنيا الدنيه اتركها او الجنان بادر ليها

وانچان تبغي الجنه يحبيب عجل ليها*** فی السير لا تتوانا عجل او شيل الرايه

وأتوجه رسول ابن النبي لحبيب ويا اكتابه*** واحبيب بارض الكوفة والا الرسول ابابه

فض الكتاب او عاينه او دمعته سکابه*** او عاين كلام ابن النبي عجل او شيل الرايه

في الحال جر الونه او دمعه جرى في خده **الله او لحد يابن النبي حاطت عليك الاعدا

وأنا ابارض الكوفه ما تهتني لي كعده*** لازم انا باغدي لك وياك اشيل الرايه

قال شيخنا المازندراني رضوان الله تعالى عليه : إنّ الحسين صلوات الله وسلامه بعد أن عقد الرايات في تلك الأرض قال له أصحابه : يا ابن رسول الله دعنا نرتحل من هذه الأرض.

فقال (عليه السلام): صبراً حتى يأتي إلينا من يحمل هذه الراية التي تنتظر من يحملها ، فبينما الامام الحسين(عليه السلام)وأصحابه(عليه السلام)في الكلام وإذاهم بغبرة ثائرة فالتفت الامام الله وقال لهم : إنّ صاحب هذه الراية قد أقبل ، فلما صار حبيب قريباً من الامام المظلوم ترجّل عن جواده وجعل يقبل الأرض بين يديه وهو يبكي، وقيل: إنّ الامام عليه الصلاة والسلام قال لمولانا وسيدنا وحبيب قلوبنا العباس بن علي وعلي الأكبر ومعهما بني هاشم : استقبلوا عمكم حبيب.

قال الشاعر وهو يصف حبيب عند وصوله كربلاء :

محلى ذيك الشمايل يوم طب الكربلا*** او طلع عباس البطل بولاد اخوه يستقبله

ص: 599

مرحب ايقله الشهيد او زینب اتقله هلا*** وصل مستبشر لبوا سكنه او تناول رایته

جاه من زينب سلام او مدمعه بالحال سال**واقبل يسلم على الحورى وعلى ذيك العيال

صاح يا وسفه يزينب تركبين اعلى الجمال*** حيته باحسن تحية وسر قلبها ابنخوته

صاح زينب بالذي من قبل كنتي امدلله ***اتروح شيعتكم طبق فوق الصعيد امجدله

أرواحنا تطلع ولا اتركبين ناقه امهزله ***فدوه لحسين الشفيه اتروح كلها شيعته

***

بعد ذلك صار حبيب(عليه السلام)يسلم على الامام والدموع تتحادر على خده وهو مشغول بتقبيل يديه والنظر إلى وجهه المبارك، ثم التفت وسلّم على أصحاب الامام(عليه السلام) الفردوا(عليه السلام)، فسمعت زينب(عليها السلام)فقالت: من هذا الرجل الذي قد أقبل ؟

فقيل لها : حبيب بن مظاهر.

فقالت: اقرأوه عني السلام، فلما بلغوه سلامها لطم حبيب الله على وجهه وحثا التراب على رأسه وقال: من أنا ومن أكون حتى تسلّم عليَّ بنت أمير المؤمنين .

وقيل : إن حبيب(عليه السلام) استأذن من الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه بأن يسلّم على بنات الرساله فأذن له الامام ال ، فجاء حبيب (عليه السلام)ووقف على باب المخيم ونادى : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومعدن الرساله عبدكم حبیب يسلّم عليكم.

فقالت زينب : وعليك السلام، ثم قالت يا حبيب الله الله في نصرة الغريب.

فقال لها حبيب يا سيدتي والله لأنعمتك العين.

ص: 600

وكأني بها تخاطبه بلسان الحال ولسان حاله يجيبها بمقوله :

يحبيب دنهض وانقل الرايه عن احسين*** عاين او شوف الخيل وصلت للصياوين

شوف العدى والخيل وصلت يم لرحال*** وانظر ولينا احسين حاير بين لنذال

قلها يزينب لا تقولين ابهالمقال***الله يسلم أبو علي قد وتنا احسين

قالت اله او نعمين يحبيب الغضنفر*** لكن اشوف احسين وحده بين عسكر

انهض مع العباس والجاسم ولكبر*** او حملوا على جيش الضلاله اشمال ويمين

انهض ابهمه يا حبيب اشهر البتار*** انته وبوفاضل او معكم كل لنصار

أو حملوا على جيش الاعادي واشعلوا النار*** قلها يزينب بس ليه لا توصين

قالت ثلاثتنعام منك وافي الباس ***انته مع الندب البطل جاسم او عباس

انظر إلى احسين الشفيه بين الرجاس*** قلها حبيب او بالمدامع هلت العين

مادام ابو السجاد والعباس موجود *** لحمل على جيش العدى وادرك المقصود

والله يزينب انا ابهذا اليوم موعود*** جتني الزهرا وامرتني اخضب ابحين

ص: 601

قالت صدق يحبيب جاتك بنت لطياب***من قبل انته عندنا مرفوع لجناب

جت لك الزهرا وامرتك استعمل اخضاب*** قلهانعم معلوم يا بنت الميامين

***

ثم أشارت السيدة الحوراء زينب سلام الله عليها إلى تلك الجيوش التي قد ملات وادي كربلاء وقالت لحبيب يا حبيب انظر إلى هذا العسكر المجتمع الذي قد التفّ بنا وأخذ يجول علينا ولسان حالها يقول :

يحبيب شوف العسكر قامت تجول اعلينا*** من کربلا ردونا لا ينذبح والينا

حبيب شوف العسكر قامت لنا تتلافا***كلما نظرت أجموعهم يحبيب انا مختافه

يمتى يجينا ابو الحسن ابعسكره والآفه*** حتى تصير امقابله اما لهم لولينا

قلها الحسن يا زينب لا ترقبي له عوده*** وانتين عنها لوقعة يخت السبط موعوده

من يوم ابوك امطبر واعصابته مشدوده ***قول الذي قاله إلك هاليوم باتلاقينه

واحيات امك فاطم والتربة المخفيه*** ما عندنا وياكم يوم اجتمعنا نيه

والله لولا اقلوبنا فيها بيها لكم حنيه ***ما جيت انا واغلامي في كربلا تعيّنينا

عبدك وانا اتعرفيني لك لك في السمع والطاعه*** وانكان ما شفيتني في أول الفزاعه

ص: 602

معلوم با تشوفيني في حومة الزعزاعه*** خفي العتب يا زينب كثر العتب يزرينا

قال المحدث المازندراني(رحمه الله) : قتل حبيب عليه الصلاة والسلام يوم عاشوراء عند الظهر حين استأذن الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام أهل الكوفة الصلاة الظهر وطلب(عليه السلام)منهم المهلة لأداء الصلاة قال له الحصين بن نمير لعنه الله تعالى : صلّ أنّها لا تقبل منك .

فقال له حبيب عليه الصلاة والسلام : زعمت الصلاة من آل رسول الله لا تقبل وتقبل منك يا خمار.

فحمل الحصين عليهم فخرج إليه حبيب(عليه السلام) وضرب وجه فرسه بالسيف فشت به الفرس ووقع عنه فحمله أصحابه واستنقذوه وجعل حبيب عليه أفضل الصلاة والسلام يحمل فيهم ليختطفه منهم .

ونقل عن بعض الرواة: إن حبيب سلّم عن سلّم عن الحسين عليه الصلاة والسلام وودعه وقال : والله يا مولاي إني لأرجو أن أتمم صلاتي في الجنة وأقرأ أباك وجدك وأخاك السلام، ثم برز ولم يزل يقاتل القوم ويضربهم بسيفه وهو يقول:

أنا حبيب وأبي مظهر*** فارسی هيجاء وحرب تسعر

أنتم أعد عدة وأكثر*** ونحن أوفى منكم وأصبر

وأنتم عند الوفاء أغدر*** ونحن أعلى حجة وأظهر

حقاً وأتقى منكم وأعذر

وقال المحدث المذكور نقلاً عن بعض الرواة أنّه قال أبو مخنف سلّم : سلّم حبيب على الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وودعه وقال : والله يا مولاي إني لأرجو أن أتمم صلاتي في الجنة وأقرأ أباك وجدك وأخاك السلام، ثم أخذ رايته من سيدنا الحسين صلوات الله وسلامه عليه وبرز للقوم ولم يزل يقاتل حتى قتل منهم اثنين وستين فارساً ، فحمل عليه رجل ملعون من بني تميم يقال له بديل بن

ص: 603

صريم من بني عقفان عليه اللعنة عقفان عليه اللعنة وسوء الدار فضرب حبيب(عليه السلام) بالسيف على رأسه وحمل عليه ملعون آخر من بني تميم وطعنه برمحه فوقع وذهب ليقوم فضربه الحصين بن نمير لعنه الله تعالى على رأسه بالسيف فسقط سلام الله تعالى عليه ، فنزل إليه التميمي فاحتزّ رأسه بالسيف فسقط سلام الله تعالى عليه، فنزل إليه التميمي فاحتز رأسه، فقال الحصين : هو شريكه في قتله. فقال التميمي لعنهم الله

جميعاً : والله ما قتله غيره هو .

فقال له الحصين : أعطنيه أعلقه في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أنه هو يعني الحصين شريكه في قتله، قال له : ثم خذه أنت فامض به إلى عدو الله بن زياد لعنه الله فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إياه، فأبى عليه فأصلح قومهما فيما بينهما على ذلك، فدفع إليه رأس حبيب(عليه السلام) فعلقه بعنق فرسه فجال به في العسكر ثم دفعه بعد ذلك إليه فأخذه التميمي لعنه الله فعلقه في لبان فرسه، ثم أقبل به إلى ابن زياد لعنهم الله جميعاً .

وقيل أيضاً : إنّ حبيب عليه أفضل الصلاة والسلام أقبل إلى إمامنا وسيدنا وحبيب قلوبنا أبي عبدالله الحسين عليه وعلى أهل بيته وأصحابه آلاف الصلاة والسلام ووقف وقفة المتأدب طالباً من الامام(عليه السلام)الا الإذن في مبارزة القوم الكافرين لعنهم الله ، وقال فيما قال مخاطباً الامام عليه أفضل الصلاة والسلام : يا حبيب أحمد المختار ويا سرور قلب المرتضى حيدر الكرار ويا مهجة الزهراء، ويا حاوي كل المفخار، ويا كافل الأيتام والأرامل يا نور المسلمين يا مولاي إني لأرجو أن أتمم صلاتي في الجنة وأقر أباك وجدك وأخاك عنك السلام ثم برز للقوم الظالمين، وفي ذلك يقول الفايز الله(رحمه الله):

اقبل حبيب الليث واتقدم الى احسين*** او نادی ابعبره اوداعة الله يا ضيا العين

في وداعة الله يا حبيب احمد المختار*** يسرور قلب المرتضى حيدر الكرار

يا مهجة الزهرا يحاوي كل لسرار*** يا كافل الأيتام يا نور المسلمين

ص: 604

ودي انا اصلي معك آخر صلاتي*** لكن اشوف القوم سدت كل جهاتي

اشلون أصلي يالولي او حانت وفاتي*** راجي اصلي عند جدك يا ضياالعين

واقول سبطك يا رسول الله حاطوه*** في كربلا جيش الدعي والماي منعوه

نكثوا مواعيده أو مواثيقه او خانوه*** او تنفطر كبدك لو ترى حال الرضيعين

صول حبيب او فرق الجيمان بالسيف*** او فرت من اقباله مداهیش مراجيف

او نعمين بالطاهر حبيب الليث المخيف*** ناصر الهادي والحسن واخوه لحسين

لمن قرب يومه وله حتفه تدانا*** لتموا على قتله او ضربوا له ابزانه

واحسين جاه لكنه منهده أركانه*** واحنا اضلوعه الموتته واصفق بليدين

سمعت بنات المصطفى ابذبح الشفيه*** ضجوا فرد ضجه أبارض الغاضريه

كلمن تنادي ضاقت الدنيا عليه*** والله حسافه راحت ارجال الولي احسين

واتغررت عين الشفيه بالمدامع*** واحنا على موت الشفيه للاضالع

او نادى قضيتوا الفرض يا نجوم اللوامع*** او رحتوا او خليتوا عمدكم ما له امعين

وقال بعض الرواة :إنّ حبيب قال للامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام بعد أن ودعه وأراد أن يبرز للقوم الكافرين: يا ابن رسول والله لو علمت أني أقتل فيك ثم أُحيي ثم أذرى ويفعل ذلك بی سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ثم استلم رايته من الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام وأخذ يهزها بيده ويقول:

عايف حياتي والوطن لجلك يصنديد*** تشهد صناديد الحرب عندي الحرب عيد

موت ابمعزه اولا نعيش ابطاعة ايزيد*** يا ابن الرسول او طاعتك فرض عليه

والله يبن بنت النبي لو قطعوني***بالسيف والخطى او بالنار احرقوني

ص: 605

او ذروا اعظامي بالهوى او تالي انشروني*** سبعين مرة هالفعل يجري عليه

والله يبوا لسجاد ما فارق جمالك*** روحي او مالي والاهل كلهم فدى لك

كل شيعتك تفنى ولا تهتك اعيالك*** والتفت لصحابه او عبراته جريه

قلهم يفرسان الحرب كلكم تسمعون ***باكرابها لعرصه يثور الحرب والكون

او ليكون سادتنا بنوهاشم يحملون***الاعقب ما ننفني كلنا سويه

قله البطل عباس ما ترضى شيمنا *** المطلوب اخونا او هالحرم كلها حرمنا

ونكان ثار الحرب يتقدم علمنا*** منسور بيدي واخوتي تمشي ابغيه

قال الشهيد احسين يا مهجة الكرار*** حدا مناخلها يخويه اتفوت لنصار

منا او منهم يا الاخوا تفنى الأعمار*** تالي النهار اخيامنا تبقى خليه

او تالي اعلى المخيم يخويه تهجم الخيل*** وتطلع خواتك من خباها تصيح بالويل

رتيك اتعاين حالها لوهود الليل ***واتصير قشرى على النسا ذيك العشيّة

ص: 606

الجلسة الحادية والعشرون

ومذ اختار خالق الخلق زلفي*** خير دار لخاتم الأصفياء

نبغ الخامل الغوي نشاطاً*** وتجلت حسيكة (1) للرياء

واغتدى بالياً وكان قشيباً*** قبل هذا للدين خير رداء

واعتلى هادراً فنيق (2)ضلال*** بعد نطق لكاظم (3)الأشقياء

والخبيث الشيطان أطلع فيكم*** رأسه هاتفاً بشر نداء

فرآكم لدعوة الكفر منه*** مستجيبين عند وقت الدعاء

وخفافاً عند النهوض ضلالاً*** وغضاباً له بدون رضاء

فنهضتم والكلم(4) بعد رحيب*** وكفرتم والعهد ليس بنائي

قبل أن يقبر الرسول ويلفى*** جرحنا فيه ماثلاً للشفاء

حذر الفتنة التي قد زعمتم*** ولعمري سقطتم في البلاء

فابتعاداً لكم وهيهات أنى*** أنتم توفكون دون ارعواء

***

وكتاب الباري أمام المآقي*** ونبذتم أحكامه للوراء

ص: 607


1- الحسيكة : العداوة .
2- الفنيق : الفحل المكرم من الإبل .
3- والكاظم الساكت.
4- الكلم : الجرح .

واضحات منه الأوامر جهراً ***والنواهي لكم بدون خفاء

باهرات أعلامه زاهرات*** كل أحكامه إلى كل رائي

لائحات منه الزواجر ردعاً*** لكم دون خيفة وانتهاء

قد رغبتم عنه عمى وحكمتم***بسواه من شدة الإفتراء

بئس للظالمين منكم نكالاً*** بعد زيغ عن منهج الاستواء

والذي يبتغي سوى الحق ديناً*** فمن الخاسرين يوم الجزاء

ثم لم تلبثوا قليلاً إلى أن*** سلسلت في القياد دون إباء

فأخذتم تورون جمرة حقدٍ*** وتهيجون كامن البغضاء

تجيبون رغبةً وانقياداً*** لهتاف الشيطان عند النداء

ولإطفاء نور دين جلي*** ولإهمال سنة الأصفياء

تشربون الشراب حسواً فحسواً*** حينما تشربونه في ارتغاء

وتسيرون بالعداء لأهل البيت***فی الخمر ضلة والضراء

بعد صبرٍمنه على مثل حزّ السيف*** منكم والوخز في الأحشاء

وزعمتم بأننا لم نورث*** أيّ إرثٍ منه وأي حباء

أفحكماء للجاهلية تبغون*** وهذا عهد عن الدين نائي

أترى من يكون أحسن حكماً*** وقضاءً من حكم رب القضاء

قد تجلى بلى لديكم بأني*** نبت طه كطلعة من ذكاء

***

ورمَت للأنصار بالطرف منها*** ثمّ قالت بحسرة ورثاء

أنتم معشر النقيبة والحزم*** وأعضاد ملة الحنفاء

ورعاة الإسلام بعد احتضان*** منكم للإسلام في الابتداء

أفلستم آويتم ونصرتم*** وبنيتم للدين خير بناء

كيف يعرو هذا التغافل منكم*** والتغاضي من رقدة وانطوء

ص: 608

أيّ شيءٍ هذي الغميزة منكم*** عن حقوقي بدون أي ارعواء

ما لكم عن إغاثني أي عذرٍ*** بعد تقصيركم بوقت النداء

أو ما قال يحفظ المرء طه*** حين يرعى في ولده النجباء

بَيْدَ عجلان ذا إهالة أنتم ***قد خلقتم إفكاً بدون بطاء

ولكم طاقة على ردّ حقي*** واقتدار لنصرة الأزكياء

***

أتقولون أنتم مات طه*** ولعمري خطب جليل البلاء

واسع وهنه العظيم رحيب*** دون رتق لفتقه المترائي

وله الأرض أظلمت بعد كسف ***لسنا بدرها ونور ذكاء

وعرا في النجوم منه انتثار*** حین أكدى عليه كلّ رجاء

وبدا في الجبال منه خشوع*** واضيع الحريم دون وقاء

تلك والله كربة لا تضاهي*** وهی أدهى مصينة عشواء

أعلن الذكر بالتلاوة فيها*** هاتفاً فيكم بكل فناء

وهو حكم حتم وفصل قضاءِ*** حلّ قدماً في سائر الأنبياء

أفإن مات أو أصيب انقلبتم*** بعد طه ضلالة للوراء

***

لقد ابتليت السيدة الجليلة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء بنت محمد صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها بمصائب ونوائب كثيرة ليس لها عد ولا حصر ، وفي طليعة تلك المصائب وأعظمها على قلبها(عليه السلام) مصيبتين كانت الأولى منهما أعظم من الثانية على قلبها أيضاً :أولاً : مصيبة فقد أبيها(عليه السلام)وثانياً : اغتصاب إرثها ، والمتتبع لتلك المصائب التي واجهتها السيدة الجليلة(عليه السلام) يعلم أن المصيبتين المذكورتين قد كان لهما الأثر الأكبر فى نفسها (عليه السلام)دون بقية المصائب الكثيرة التي حلّت بساحتها المباركة، كما ان اغتصاب إرثها الذي هو ثاني

ص: 609

المصيبتين العظيمتين فإنه وإن عظم عليها إلّا أنّ فقد أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم) قد كان أعظم بكثير على قلبها من نهب الإرث الثابت لها في كتاب الله .

من هنا راحت الصديقة(عليها السلام)لتعلم القوم بعظيم المصيبة وتأثرها بها كما جاء في بعض مقاطع خطبتها الشريفة حيث قالت(عليه السلام)وهي تخاطب القوم :

أتقولون مات محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) فخطب جليل استوسَع وهنه واستنهر فتقه وانفلق رتقُه وأظلمت الأرض لغيبته وكسفت النجوم لمصيبته وأكدت الآمال وخشعت الجبال وأضيع الحريم وأزيلت الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة أعَلَن بها كتاب الله جلَّ ثناؤه في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم يهتفُ في أفنيتكم هتافاً وصراخاً وتلاوةً والحاناً ولقبله ما حَلّ بأنبياء الله ورسله حكمُ فصل وقضاء حتم وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين.

بعد ذلك قالت(عليه السلام) : إيها بني قيلة أهضم تراث أبي وأنتم بمرأى منّي ومسمع ومنتدى ومجمع تلبسكم الدعوة وتشملكم الحيرة وأنتم ذوو العدد والعدّة والآلات والقوة وعندكم السلاح والجنّة توافيكم الدعوة فلا تجيبون وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ... وكأني بلسان حالها يقول:

قلت شيمكم لو جفيتونا بالانصار*** بضعة نبيكم وانتخي ولاشوف نغار

چم دوب انخي وانتحب ما تنصروني*** اتشوفون عدواني وسط بيتي لفوني

تنزع اولادي او كلكم تنظروني*** شمسويه اتجيني العدا بالحطب والنار

ينصار ابويه وين غيرتكم علينا*** ما تنظرون الحالنا يهل المدينه

شجاري من الكرار حتى يلببونه ***مبتدع بدعه لو هجر سنة المختار

واهل البدع ما بينكم بالمسجد اقعود*** الهم على منبر ابوي انزول واصعود

وصاحب البيعة والعهد بالحبل مقيود*** ملبب وهو لولا يمينه الفلك مادار

ص: 610

ينصار أبويه ما شفت نغار منكم*** بالي جرا راضين لو قلت شيمكم

لو ما سمعتوا الصوت لو راحت هممكم*** ما ظن خفت ضجة اولادي داخل الدار بالأمس أبويه على المنية تبايعونه*** كل ساع بالعتره يوصي او تسمعونه

وهذا الوصي بالدار حاير تتركونه*** او من شوفته قلبى يذوب او يلتهب نار

او مني فدك منهوب قوه والعوالي*** ما خافوا من الله ولا رحموا اطفالي

ثلا او حزينة او ظلمني جور الليالي*** شحچي او شعد امن الهظم يا جمع الانصار

وامن الضرب قنفذ تراورّم متوني*** لابيه على رحمه ولا انتو ترحموني

ومن لطمة الغادر ترا راحت عيوني*** ضلعي انكسر والصدر بيه ابنت المسمار

***

أقول : لئن كان قنفذ واحد قد ورم متن الزهراء عليها أفضل الصلاة والسلام بعد وفاة أبيها (صلی الله علیه وآله وسلم) في كربلاء وبعد أن استشهد الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام كان هناك مجموعات من القنافذ قد لعبت سياطهم على رقاب ومتون بنات الوحي والرسالة وهنّ يصرخن وا محمداه وعلياه وحسناه وحسيناه واعباساه ولا تسمع مجيب لندائها، ولقد كانت كثيراً ما توجه ندائها إلى أبي الفضل العباس قمر بني هاشم لأنه الأسد الباسل والبطل المقدام الذي قتل الشجعان ونكس راياتهم ولف صفوفهم. ومن هنا فقد كان تأثير مصرعه وفاجعة قتله أكثر من فاجعة غيره من بني هاشم على قلوبهن وفي نفوسهنّ ولا غرو في ذلك لأنه الكفيل لهن، فكيف لا يكون تأثير مصيبته أكثر من غيره وقد أثرت مصيبته في نفوس عامة الناس من المؤمنين وغيرهم وكذلك مصائب وفجائع بقية العترة الطاهرة لها التأثير البالغ على نفوس المؤمنين وشعراء آل محمد هذا هو شيخنا الجليل والأستاذ الكبير الحاج الشيخ محمد علي اليعقوبي رضوان الله تعالى يرسم لنا عظيم مصيبته وحزنه وجزعه على أهل بيت نبينا ونبيه وقد ذاب قلبه ولم يخالط له النوم ناظراً وها هو يصف لنا في هذه الأبيات الجليلة لوعته فيقول:

ص: 611

دعائي فلبيته مذ دعا*** هوى أودع القلب ما أودعا

وما زلت أعصي دواعي الغرام*** ولولاكم لم أجب طيعا

إذا القلب فيكم جوئ لا يذوب*** فقد كذب القلب فيما ادّعى

بكيت على ربعكم قاحلاً*** فأخضب من أدمعي ممرعا

فلا النوم خالط لي ناظراً*** ولا اللوم قد خاض لي مسمعا

يظن الخلي الى لعلع*** حنيني ومن سكنوا (العلعا)

جزعت ولولا الذي قد أصاب*** بني الوحي ما كدت أن أجزعا

بیومِ به ضاع عهد النبي*** وخانت (لع) أمية ما استودعا

غداة أبو الفضل لف الصفوف*** وفل الظبي والقنا الشرعا

رعى بالوفاء عهود الإخاء*** رعی الله ذمّة موفٍ رعى

فتىً ذكر القوم مذراعهم*** أباه الفتى البطل الأروعا

إذا ركع السيف في كفّه*** هوت هامهم سجداً ركعا

وحول الشريعة تحمي الفرات*** جموع قضى البغي أن تجمعا

ولو أن غلة أحشائه*** بصلد الصفا كاد أن يصدعا

فجنّب ورد المعين الذي*** به غلّة السبط لن تنقعا

وأب ولم يرو من جرعة*** وجرعه الحتف ما جرَّعا

فخرَّ على ضفة (العلقمي)*** صريعاً فأعظم به مصرعا

فما كان أشجى لقلب الحسين*** أو آلم منه ولا أفضعا

رأى دمه للقنا منهلاً*** وأوصاله للظبى مرتعا

قطيع اليمين عفير الجبين*** تشق النصال له مضجعا

أبدر العشيرة من هاشم*** أفلت وهيهات أن تطلعا

فقدتك يابن أبي واحداً*** ثكلت به (مضراً) أجمعا

قصمت القراء وهدمت القوى ***وأخيت فوق الجوى الأضلعا

ص: 612

لقد هجعت أعين الشامتين***وأخرى لفقدك لن تهجعا

اساقي العطاشي لقد كضها*** الظما فاستقت بعدك الأدمعا

حميت الظعينة الظعينة من يثرب*** وأنزلتها الجانب الأمنعا

إذا أفزعتها عوادي العدى*** فمن ذا يكون لها مفزعا

وإن انس لا انس أم البنین*** وقد فقدت ولدها أجمعا

تنوح عليهم بوادي البقيع*** فيذري الطريد لها الأدمعا

ولم تسل من فقدت واحداً*** فما حال من فقدت أربعا

أبا الفضل مالي مغيث سواك*** إذا الده- في صرفه جعجعا

دهیت بما عيل صبري به*** فمالي أنادي ولن تسمعا

قصدتك أشكو قذى الناظرين*** وأرجو جلاء هما لي معا

وكيف يردّ دعائي الإله*** وقد جئته فيك مستشفعا

***

وقال الأمجد الأفخر السيد جعفر الحلي رضوان الله تعالى عليه واصفاً حالته في أيام عاشوراء في حزنه وجزعه وهمومه على جده الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام وكذلك على عمّه العباس والعترة الطاهرة عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.

وجه الصباح عليّ ليل مظلم***وربیع أيامي عليّ محرّم

والليل يشهد لي بأني ساهر*** إن طاب للناس الرقاد فهوموا

بی قرحة لو آنها بیلملم*** نسفت جوانبه وساخ يلملم

قلقاً تقلبني الهموم بمضجعي*** ويفور فكري في الزمان ويتهم

من لي بيوم وغى يشبّ ضرامه*** ويشيب فود الطفل منه فيهرم

يلقى العجاج به الجران كأنه*** ليل وأطراف الأسنة أنجم

فعسى أنال من الترات مواضياً*** تسدى عليهن الدهور وتلحم

ص: 613

أو موته بين الصفوف أحبها*** هي دين معشري الذين تقدموا

ما خلت انّ الدهر عاداته*** تروى الكلاب به ويظمى الضيغم

ويقدّم الأموي وهو مؤخّرٌ*** ويؤخّر العلوي وهو مقدّم

مثل ابن فاطمة يبيت مشرّداً*** ويزيد في لذاته متنعم

يرقى منابر أحمد متأمراً*** في المسلمين وليس ينكر مسلم

ويضيق الدنيا على ابن محمّد*** حتى تقاذفه الفضاء الأعظم

خرج الحسين من المدينة خائفا***ً کخروج موسی خائفاً يتكتم

وقد انجلى عن مكة وهو ابنها*** وبه تشرفت الحطيم وزمزم

لم يدر أين يريح بدن ركابه*** فكأنّما المأوى عليه محرّم

فمضت تؤم به العراق نجائب*** مثل النّعام به تخبّ وترسم

متعطفات كالقسّ موائلاً*** وإذا ارتمت فكأنما هي أسهم

حقته خير عصابة مضرية*** كالبدر حين تحفّ فيه الأنجم

ركب حجازیون بین رحالهم*** تسرى المنايا انجدوا أو أهمّوا

يحدون في هزح التلاوة عيسهم*** والكل في تسبيحه يترنّم

تقلدين صوارماً هندية***من عزمهم طبعت فليس تكهم

بيض الصفاح كأنّهنّ صحائف*** فيها الحمام معنون ومترحم

إن أبرقت رعدت فرائص كلّ ذي*** بأس وأمطر من جوانبه الدم

ويقومون عوالياً خطية*** تتقاعد الأبطال حين تقوّم

أطرافها حمر تزيّن بها كما*** قد زيّن بالكف الخضيبة معصم

إن هزّكل منهم يزنّبه*** بيديه ساب كما يسيب الأرقم

وتقمّصوا زرد الدروع كأنه*** ماء به غض الصبا يتنسم

ولصبر أيوب الذي ادرعوا به*** من نسج داود أشدّ وأحكم

نزلوا بحومة كربلا فتطلبت*** منهم عوائدها الطيور الحوّم

ص: 614

وتباشر الوحش المثار امامهم*** ان سوف يكثر شربه والمطعم

طمعت أميّة حين قل عديدهم*** لطليقهم في الفتح ان يستسلموا

ورجوا مذلتهم فقلن رماحهم ***من دون ذلك ان تنال الأنجم

حتى إذا اشتبك النزال وصرّحت*** صيد الرجال بما تحنّ وتكتم

وقع العذاب على جيوش أمية*** من باسل هو في الوقائع معلم

ماراعهم إلّا تقدّم ضيغم*** غير أن أن يعجم لفظه ويدمدم

عبست وجوه القوم خوف الموت*** والعبّاس فيهم ضاحك متبسّم

قلب اليمين على الشمال وغاص في*** الأوساط يحصد في الرؤوس ويحطم

وثنى أبو الفضل الفوارس نكصاً*** فرأوا أشدّ ثباتهم ان يهزموا

ماكر ذو بأسي متقدماً*** إلّا وفرو رأسه المتقدم

صبغ الخيول برمحه حتى غدا*** سيّان أشقر لونها والأدهم

ماشدّ غضباناً على ملمومةٍ*** إلا وحلّ بها البلاء المبرم

وله إلى الأقدام سرعة هارب*** فكأنما هو بالتقدم يسلم

بطل تورث من أبيه شجاعةً ***فيها أنوف بني الضلالة ترغم

يلقى السلاح بشدّة من بأسه*** فالبيض تثلم والرماح تحطم

عرف المواعظ لا تفيد بمعشرٍ*** صموا عن النبأ العظيم كما عموا

فانصاع يخطب بالجماجم والكلا*** فالسيف ينثر والمثقف ينظم

او تشتكي العطش الفواطم عنده*** وبصدر صعدته الفرات المفعم

لو سدّ ذي القرنين دون وروده*** نسفته همّته بما هو أعظم

ولو استقى نهر المجرة لارتقى*** وطويل ذابله إليها سلّم

حامي الظعينة أين منه ربيعة*** أم أين عليا أبيه مكدّم

فی كفّه اليسرى السقاء يقله*** وبكفّه اليمنى الحسام المخذم

مثل السحابة للفواطم صوبه*** ويصيب حساصبه العدوّ فيرجم

ص: 615

بطل إذا ركب المطهم خلته*** جبلاً أشم يخفّ فيه مطهم

قسماً بصارمه الصقيل وأنّني*** في غير صاعقة السما لا أقسم

لولا القضاء لمحى الوجود بسيفه*** والله يقضي ما يشاء ويحكم

حسمت يديه المرهفات وانّه ***وحسامه من حدهنّ لأحسم

فغدا بهم بأن يصول فلم يطق*** كالليث إذ أظفاره تتقلّم

أمِنَ الردى من كان يحذر بطشه*** أمن البغاث إذا أصيب القشعم

وهوى بجنب العلقمي فليته*** للشاربين به يذاف العلقم

فمشى لمصرعه الحسين وطرفه ***بين الخيام وبينه متقسّم

آلفاه محجوب الجمال كأنه*** بدر يمنحطم الوشيج ملتّم

فأكبّ منخياً عليه ودمعه*** صبغ البسيط كأنّما هو عندم

نادى وقد ملأ البوادي صيحةً*** صمّ الصخور لهولها تتألم

أخى يهنيك النعيم ولم اخل*** ترضى بأن ارزى وأنت منعم

ءأخّى من يحمّى بنات محمدٍ*** إن صرن يسترحمن من لا يرحم

ما خلت بعدك ان تشلّ سواعدي*** وتكفّ باصرتي وظهري يقسم

لواك يلطم بالأكفّ وهذه*** بيض المواضي في جبيني تلطم

ما بين مصرعك الفضيع ومصرعي*** الا كما أدعوك قبل وتنعم

هذا حسامك من يذبّ به العدى*** ولواك هذا من به يتقم

هونت يا ابن أبي مصارع فتيتي*** والجرح يسكنه الذي هو الم

يا مالكاً صدر الشريعة انني*** لقليل عمري في بكاك متمّم

وقال شيخنا الجشي(قدس سره) وهو يصف لنا بالغ تأثيره من الحزن واللوعة على

سادات الورى لما حلّ بساحاتهم من المصائب والنوائب في هذه الأبيات الجليلة :

فيا ربع الأحبة هل تداني ***وهل بعد الترحّل من قفول

نأوا فالجسم بعد البين مضنى*** يشفّ عن المعالج بالنحول

ص: 616

فمه يا عاذ لي ما لعذل يجدي*** سوى الأعزّاء بالحبّ الدخيل

فما للجسم بعد القلب مغىً*** سوى أثر عليه كالدليل

وما راجى البقاء عقيب حلّ*** تنائي عنه إلّا كالمحيل

أفي شرع الهوى تأميل قلبٍ*** براه الشوق للعمر الطويل

وانّ الموت شاهد صدق حبّ*** وسيما الزور تعرف بالنكول

وقائلة تعزّ فقلت كلّا*** لعمرك ما المعزّي كالثكول

فلو كابدت ما كابدت أفتى*** هواك بحرمة الصبر الجميل

وألزمك الغرام هيام هيم*** بتصميم الخليط على الرحيل

وما ينسى الأسى يوماً سوى من*** خلا دعواه عن صدق المقول

وما يجدي العزاء بذات عرق*** ولا بالرقمتين ولا الدخول

ولا سلع ووجرة والمصلّى*** وإن أودت بها صيد الفحول

ولكن التأسي والتعزّى*** بيوم الطفّ ذي الخصب المهول

هو اليوم الذي فيه ارحجنّت*** بشمس الدين دائرة الأفول

به اسودّت من الخضراء بيض*** كما احمرت بقان مستميل

وفيه جدّد الرحمن عهداً*** مضى في عالم الذر الأصيل

أصابت رشدها لمّا أجابت*** به قوم حوت شرف الأصول

کنجل مطاهر ولقين أكرم*** بهم من خير أنصار وجيل

فيالك ثلّة قلّت فذلّت*** على مدح الجليل إلى القليل

تعالوا عن مثيل إذ تعاطوا*** كؤوس ردی تعالت عن مثيل

رأوا عين الحياة هي المنايا*** وصاب الموت عذب السلسبيل

وهامات العدات بي فقطوا*** لوارق سلمه بهم النصول

وحبّ قلوبها علفاً ترائى*** لذي ريش لهم سغب عجول

ولا سيما قريعهم المفدّى*** أبي الفضل المنزّه عن فضول

ص: 617

مضيق الرحب في سعة التصادي*** رحيب الصدر في ضنك المحول

فتى عشق الحروب وقد حوته*** حجور من نقيّات الذيول

كما ورث الحروب وقد حوته*** حجور من نقيّات الذيول

كما ورث الشجاعة والسخا عن*** مثيل عن مثيل عن مثيل

له النسب القصير لدى التعازي*** وطول الباع في المجد الأثيل

كمّى ما الكماة تروم منه*** إذا يبدو سوى طلب السبيل

قد اتخذته أمّ الفخر ذخرا*** لعضلها من الأمر الجليل

إذا يبرى فصيل من عجول*** وتنذهل العجول عن الفصيل

وحالكة يشيب الطفل فيها*** يفريها الخليل عن الخليل

كهذا اليوم إذ أمسى حسين*** بمزدحم من الكرب الوبيل

وزند الحرب قد أذكت صرماً*** يسدّ بحابح الرحب الرسيل

وظهر الأرض تستره جموع*** يسيل بمثلها سرب الخيول

دعوه للدنيّة او منوث*** ولن يرضى الدنى ابن الرسول

حموه عن فرات كان ملكاً*** كغصب غصب للوصي وللبتول

فأوجست الظما خفرات طه***و صبيته كملتهب الشعيل

فوجهت الشكاية نحو شهم*** أبي من أبي الفضل الفضول

فهلّلت الشجاعة منه وجهاً*** يبشٌ لصدمة الجيش الحفيل

فأمّم إلى الفرات ربيط جاشي*** كطالب مغنم جم جزيل

بیمناه ابن ذي يزن إذا ما*** رأته الشوس تسجد من ذهول

ولن يرضى السجود له إلى أن*** يزيل الهام عن حصن المقيل

وسابحه يعوم به بحوراً*** فيطفو في القطيل وفي القتيل

إلى أن فك مرتج الجئاوى*** وقد كانت كسد مستطيل

وصار الماء خلوا من رقيب*** وفي أحشاه مضطرم الغليل

ص: 618

يؤجج في جوانحه شواظاً*** تصیر به الرواسي كالهيول

أبى منه الإباء الشرب إلّا*** مع الأطفال والأخ والقبيل

فشدّ مزاده المملوء حتى*** توسط في كتائب كالسيول

بها من كل مدرع نسیج*** لداود وذي عضب صقيل

وأجرد مهصر لكن تسامى*** بعزّته وإكمال الحجول

فلما كركم صف تواری*** فيضرب بالرعيل على الرعيل

فنالوا منه ما نالوا وعادوا*** قروداً كرّ فيها ليث غيل

رأوا همماً تهم بكل خول***لهمة من سواه مستحيل

فحاك النقع في الأجوا بروداً*** موشّاة بأشلاء النذول

ونجل الطعن كالقنوات تجري*** دماً يطمو فيفرق للقتيل

فجادت ديمة وطفاء دماً*** ببرق شباً ورعد من صهيل

ففرّق ما تألف من جموع*** بمنهزم ومعفر جديل

وقد عزموا اغتنام الفر لكن*** دنا المحتوم من أجل أجيل

فجذت منه يمني اليمن كفّ***حسام الدين تكهم بالفلول

وبانت من يديه يسار يسر*** توشّجت النبال على النبيل

وزمّ الماء بالأسنان حتى*** توشّجت النبال على النبيل

واعمد ذو عمود منه رأساً*** به قد عاقه دون الوصول

ولم يبرح يكرّ بهم إلى أن*** هوى عن مهره طامى الفصول

فما أدراك وقت هويه ما*** جرى في الكون من قال وقيل

وكيف هوى هوى والأرض تكفى*** ويفتح للسما رتج القفول

وتطوى نشرها السبع الأعالي*** وتنشر شعرها عشر العقول

وكيف أقيم حين هوى صريعاً ***على هذا الجبيل من العويل

یکاه كل من يبكي حسينا*** من الأكون بالدمع الهمول

ص: 619

فلولا صنوه الهادي حسين*** تداعى ذو العلوّ إلى السفول

ولا كالساعة السوعاء لمّا*** دعا العباس بالأسد الصول

فغارت غارة شعواء شدّت*** مسامعهم بزمجرة الصهيل

أدار بها أخو الهيجا رحاها*** بقطبِ من قوى القلب الرحيل

يلهيها بكل عريق كفر*** سوى من صد عنه بالجفول

فألقى صنوه قد غاله من*** فعول بني النفول أشدّ غول

ينظم من نثير الدمع درّاً*** ومرجاناً على الخد الأسيل

حناناً للحسين وآله لا*** لخوف الموت ذي الكرب الثقيل

فناداه بندب لو وعته ***حزون الصم آلت للسهول

أبا الفضل المعدّ لكلّ خطب*** فبعدك ما لخطبي من مزيل

أبا الفضل السراج إذا ادلهمت***عليّ وجوه أيامى وسئولي

آساعدي الشديد إذا استطالت***علي يد الأعادي بالدخول

وأهزعي الذي لي قد برته*** كنانة أن يناضلي خذولي

وعيبتي التي أفضى إليها*** بأسرار من الربّ المنيل

وملبس خاطري خلع التسلّي*** إذا ما إذا ما الهم أرخى للسدول

أكبش كتيبتي ونظام شملي*** عقيبك ما لشملي من مديل

لأنت لجمعنا علم وطود*** فخلفك طود جمعي كالمهيل

فما عين العلى تعتاد غمضاً*** ولا تعتاض إلّا بالهمول

وما خيل الجياد تلّذا إلا*** حنيناً دون حمحمة الصهيل

وما صدر القنا شرقاً بدم*** وما متن المهنّد ذا فلول

وما جمل التصبّر عنك إلا ***لأني لاحق بك عن قليل

فحسبك ما حضيت من المعالي*** وذكر بالجميل من الجميل

وفخر الصون زینب مذوعته*** دعت بالويل والحرب الطويل

ص: 620

أساقينا إذا نظماً دهاقا***ً بحدّ السمهرية والنصول

ويا حامي ذمار بنات طه ***بأفضل نجدة الحامي الكفيل

لأنت لنا رواق حمى وعزّ*** نقیل بكفه الظلّ الظليل

أخ كأبٍ لنا بر وصول*** فيالك من أخ برّ بر وصول

شرى بالنفس مجداً لا يجارى ***فداءً للقتيل وللعليل

فها أنا قد لبست من الرزايا*** شعاراً لا يخالط بالسمول

***

ولبعضهم أيضاً يصف حالة الأجلّة أيام عاشوراء في الجزع والحزن فهو يقول :

هلّ المحرم فالمذله*** اکلیل تيجان الأجله

فانحر بخنجره الكرى ***من كلّ جارحة ومقله

سل کربلا كم فيه قد*** خسفت لفهر من أهله

وافى الهلال كأنه ***شيخ كساه السقم حلّه

ينعى الحسين ورهطه*** ويجر في الأحزان ذيله

يبكي الفتى الطعام والمطعان***فی صله وصوله

الضيغم البسام والعباس ***فی جود وجوله

قمر العشيرة قرمها ***المعهود في حلّ ورحله

أندى الأنام يداً***و خير الناس محمدة وخصله

فرع تعالى فاستطال*** وقارن المريخ أصله

ورث الشجاعة من أبيه*** وهل يخون الليث شبله

حل القضاء على العراق ***غداة إذ عباس حله

بطل أطلّ على العدى***وبعضبه دمهم أطله

شهم أطاع الله في*** نصر ابن فاطمة ورسله

ص: 621

كش الكماة بصارم*** ماض أجاد العزم صقله

وأغاط شمراً إذ عصاه*** وهل يضل الشمر مثله

أبداً يخوّفه يزيد*** وخیل دولته ورجله

أترى درى أم مادري*** ذئب الفلا بدبیب نمله

سیف أعز الله فيه الدين ***والاشراك ذلّه

أوهى قوى عصب الضلال*** وغرب عضب الشرك فلّه

واسامهم وهناً بباس ***لا تطيق القود حِلّه

وادار فیهم للفنا كأساً***یرى القرآن حله

يتلو المواعظ في الحسام ***كأنما يتلو مجلّه

ويعاتب الأعدا ويعذلهم ***هل يصفون عذله

اغرتهم الأهواء إذ***إبليس فهم دق طله

فكأنهم أبناء أم*** وهو بینهم ابن علّه

كادوا بأن يقضوا عليه *** فکادهم وأطنّ نصله

وأراهم حملات حيدر*** حملة أثر حملة

جاروا عليه بطعتهم*** فأراهم في الضرب عدله

فترى حليمهم الرشید*** أضاع منه الرعب عقله

لایهتدى نهج الصواب*** وليس يدري أين نصله

نفر قليل فیهم***العباس أشرف كل قلّه

ما خلته إلّا السراج*** یضيء واليزني شعله

یفدي الحسین بنفسه***نفسي ونفس أبي فداً له

خطف القلوب بسيفه ***لما بوجه القوم سلّه

و سبي العقول بحسنه*** فلذا تراها فيه وله

فاعذر ولا تعذل فلم*** أر في سراة الحرب شكله

ص: 622

ما أن سمعت بفارس*** من غير كف شد قبله

ما ان تخلّف بل تراه ***تصدق الأفعال قوله

هزم الصفوف بحملة ***هی في الوقايع خير حمله

فیها أتى بالماء يحمله ***لیروي فیه أهله

ملك الفرات بطوله***و قضى لبانته وشغله

ونحى الخيام بقربة*** بالنبل أهرقها خوله

مازال يحميها من الأ***عداء عن سهم ونبله

حتى إذا خارت قواه*** وتاقت الولدان وصله

أهوى على عفر التراب*** معفّر الخدين الله

یدعو أخي علمي هوى*** و صرعت لا أستطيع نقله

مني السلام عليك يا ***من كان للارشاد قبله

ومروّجاً سنن الرسول*** وموضحاً في الناس سبله

الله یدرؤك العدى ***ویقيك ربّى الشر كله

فأتى ابن حيدرة له ***كيما يودعه بقبله

والظهر منه منحن*** من أجل فقدان الأجله

قتلوا الحسين بقتله***قم ننع للكرار نجله

قتلوا به التكبير والتهليل ***والتقوى وأهله

شلّ الإله ید الذي*** بالعضب كفّاً منه شله

یا ضربة قد أغضبت*** حرب بها الباري ورسله

ومن الحسين بها یزید*** نال بغيته و سؤله

وبيها لوا الإسلام فلّ ***ومزّق السفهاء شمله

وبها تهدّر عزّها*** بعدما طال الأهله

ماء الفرات امر رفلن*** تحلو وشريك لن احله

ص: 623

أيسوغ شربك والفواطم*** منك ما أشفين غله

سبيت على عجف المطا*** بعد الأسرة والأكله

في أي دين ساغ أن ***تسبی النسا وبأيّ ملّه

یا لیت عباس الغشمشم*** حاضر فيسر أهله

ویری النسا أسرى تسا ***ق وراءها طفل وطفله

ويزيح عن آل الرسول*** الداهیات المشمعله

ابکى فقيداً لم يكن*** فقدت صلاة الليل مثله

ابکى الفتی الصوّام*** المحي بذكر الله ليله

أبکی جواداً فيه نستسقى*** بعام المحل وبله

حامي الظعينة ما ربيعة ***ما متیم حب عبله

عار تطلله المحامد*** من شمائله اظله

أن يسلبوه قميصه*** فالمكرمات كسته حلّه

تنعاه زينب والرباب*** وأم كلثوم ورمله

وسکينة ورقيّة*** لیلى وعاتكة وخوله

اُمّ البنين إذا نعته*** تجيبها الزهرا بعوله

والمجتبی شجواً بكاه ***وحق ان يبكي أخاً له

والمرتضى والمصطفى*** شقا جيو بهما أسى له

وقال شاعر آل محمد الحاج الشيخ عبد المنعم الفرطوسي رئياً مولانا وسيدنا قمر بني هاشم أبو الفضل العباس عليه أفضل الصلاة والسلام ولنعم ما قال في ذلك :

علم للجهاد في كلّ زحف ***علم في الثبات عند اللقاء

قد نما فيه كل بأس وعز*** من علي بنجدة وإباء

هو ثبت الجنان في كل روع*** وهو روح الجنان من كل راء

طلب الإذن من أخيه مراراً*** وهو في الحرب فارس الهيجاء

ص: 624

حين لم يبق غيره من ذويه*** وينيه وصحبه الأوفياء

قائلاً يأخي لقد ضاق صدري*** وتلاشت من الأسى حوبائي

وهو يأبي بأن يجيب نداءً*** لأخيه العباس بعد نداء

قائلاً إن مضيت فرق مني*** عسكري يا أخي ولف لوائي

ورأى صبيّة الحسين ظماءً*** یتلظون لهفة للماء

یستغيثون حسرة وبكاءً*** من حواليه كالطيور الظماء

فأتى للحسين والدمع منه ***يتجاری بزفرة وبكاء

قال فاذهب واطلب قليلاً من الماء ***يروّي الأطفال بعض الرواء

فارتقى صهوة الجواد مطلاً*** علماً فوق قلعة شمّاء

ويد للواء والسيف منه*** وید خصصت لحمل السقاء

وتجلى والحرب ليل قتام ***قمراً في غياهب الظلماء

فاستطارت من الكماة قلوب*** أفرغت من ضلوعها كالهواء

وتهاوت جسومهم وهي صرعى*** واستطارت رؤوسهم كالهباء

وهو يرمي الكتائب السود رجماً*** بالمنايا من من اليد البيضاء

حين جلّى إلى الشريعة صقراً*** وهي كانت فريسة العلياء

مد للماء كفّه ورماه*** حينما حسّ برده في بكاء

كيف أروى من المعين فأهنا*** والحسين الظامي بغير ارتواء

ملاً الجود وهو الله راج*** مستعين به على الأعداء

فاستثارت غوات حرب بحرب*** تتلظى بحملة شعواء

واستدارت من كل جنب عليه*** ببلاء من العمى وبلاء

حين سدّت وجه الطريق عليه*** بلهام قد سد وجه الفضاء

فرموا عينه بسهم أصيبت*** منهم كل مقلة عمياء

قطعوا من يديه يسرى الإباء*** بظبى الغدر بعد يمنى الوفاء

ص: 625

رضخوا منه رأسه بعمود*** من حديد بضربة نكراء

فتردي في مصر العز بدراً*** خضب الأفق من شقيق الدماء

واميل اللواء جنباً لجنب ***فلواء ملقى بجنب لواء

فأتاه الحسين والظهر منه*** منحن هاتفاً فقدت عزائي

يا أخي اليوم عيل صبري وقلت*** حيلتي من شماتة الأعداء

واضعاً رأسه بحجر كريم*** وهو يرمي به على الغبراء

وأراد الحسين حمل أخيه*** قال دعني قد جاء أمر القضاء

وأنا من سكينة بعد خلفي*** موعد الماء مكتس بالحياء

ثم فاضت روح الكرامة منه*** وهو ملقى على صعيد الإباء

فاستفاضت عين الحسين عليه*** وهي تجري من الأسى بسخاء

قام عنه محدودب الظهر ثكلاً*** بانكسار وحسرة واستياء

نعم ، لقد بكاه الحسين(عليه السلام)وقام محدود الظهر. قال المحدث المازندراني رضوان الله تعالى عليه وصرخت زینب(عليها السلام)وقالت وا أخاه واعبّاساه واقله ناصراه واضيعتاه من بعدك ، فقال الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام إي والله من بعده واضيعتاه وانقطاع ،ظهراه فجعل النساء يبكين ويندبن عليه، وبكى الحسين(عليه السلام) بكاء شديداً وأنشأ يقول:

أخي يا نور عيني يا شقيقي*** فلي قد كنت كالركن الوثيق

أيا ابن أبي نصرت أخاك حتى*** سقاك الله كأساً من رحيق

أيا قمراً منيراً كنت عوني*** على كل النوائب في المضيق

فبعدك لا تطيب لنا حياة*** سنجمع في الغداة على الحقيق

ألا لله شكوائي وصبري*** وما ألقاه من ظمأ ظماً وضيق

ونقل المحدث المذكور عن كتاب المنتخب قال : إن الحسين عليه الصلاة والسلام صاح: وا أخاه ،واعباساه، وامهجة قلباه ،واقرة عيناه، واقلة ناصراه، يعز

ص: 626

والله عليّ فراقك ثم بكى بكاء شديداً فحمله على ظهر جواده وأقبل به إلى الخيمة وهو يبكي حتى أغمي عليه .

أقول: وكأني به عليه أفضل الصلاة والسلام ينظر الى أخيه أبي الفضل العباس(عليه السلام) المفضوح الرأس مقطوع الكفين والدماء تسيل منهما وهو يتناشده قائلاً:

وين الكفين يسردال الحرب وين الكفين**دمك صوبين من از نودك يصب وين الكفين

اشها لعجب منك يشايل رايتي وساقي العطاشا*** املکت يا حيد الشريعة او طحت مفتوت الحشاشه

غارقه ابدمك احدودك والنبل جسمك افراشه

نخيت حسين يشيال العلم*** هاي انا حسین

صدلي بالعين بنشدك ياشهم***وین الكفّين

ليش ما رويت قلبك يوم طبيت الشريعه

قال يا مظلوم تدري بالوفا شيمه او طبيعه*اشلون عباس ایتروی وینسی بوسکنه ورضيعه

طفلك يحسين شعبني ابونته طفلك يحسين

وين ارجع وين واروي مهجته وين الكفّين

راد يفتحهن اعيونه والدما جامد عليها

اتحسر او هلت ادموعه وغسل دم العين بيها*او قال يا خويه الوديعه ابجاه ابونا من تجيها

اتعذر لي زين يخويه ابطيحتي اتعذر لي زين

مالیه ایدین دعاين حالتي وين الكفين

سفح دمعه و صفق چفه اوظل على اعضیده ایتلوی**او قال اخلي اعلى الشريعة جئتك ماهي امروّه

ص: 627

ارد اشيلك للوديعة ونقضي احقوق الأخوه

وابدمع العين لغسّل طبرتك***یا نور العين

يسراك امنين اجيب اويمنتك*** وین الكفّين

قال خويه للمخيم روحتي كلفه او شديده

او شوفتي سكنه واخوها ابضامري شفره حديده ***خويه لو شفت الوديعه اتصورتها اتظل وحيده

اتشوف الزندين يخويه امقطعه*** لو سهم العين

خايف يحسين تصيح امروعه*** وین الكفّين

قال يا كبش الكتيبه وقع حملي من يشيله

وانكسر ظهري وعدوي شامت او قلت الحيله**قله خويه اوداعة الله او قطع وناته الثجيله

سجاه حسین ومدد جنته وغمض له العين

اتلفت صوبین اوصاح ابلوعته وين الكفّين

قام راجع للمخيم والحرم ترقب مجيّه

والمراضع بشرت رضعانها ابقطرة اميه*** ولاح ليها حسين وحده وقلطت اله الهاشميه

سردالك وين تقله طيحته والبيرق وين

قلها اتنشدين عن خي ورايته وين الكفّين

اشلون يبن امي تقله ماجبت عباس لينا

اول او تالي يخويه الماي صار اقشر علينا***حيف يا شايل حملنا بوالفضل راح امن ايدينا

قلها اشتحچين کفیلچ هامته صارت نصين

ابطرق الزندين يزينب نادته وين الكفين

ص: 628

قال تعالى في كتابه العزيز :﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾(1)

قال صاحب الكاشف عند ذكره لهذه الآية المباركة : إنّ هذه الآية متمّمة لقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ﴾وما بعدها، والمراد بالذين تفرقوا أهل الكتاب، حيث افترق اليهود بعد نبيهم موسى(عليه السلام)إلى إحدى وسبعين فرقة، والنصارى إلى اثنتين وسبعين بعد نبيهم عيسى .

وقوله تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾يشعر بأنّ الانسان لا يؤاخذ على ترك الحق ، واتباع الباطل إلا بعد البيان وقيام الحجة.

أما السرّ لهذا التأكيد والاهتمام باجتماع الأمة واتحادها فلانُ الشقاق مادة الفساد، ولأنّ الأمة المتفرقة لا تصلح للحياة فضلاً عن أن تدعو الأمم الأخرى إلى الخير والحياة .

وعلى الرغم من الآيات والروايات الكثيرة التي حثت على اجتماع المسلمين واتحادهم فقد تفرقوا شيعاً وأحزاباً ، وزادت فرقهم فرقتين على فرق اليهود، وفرقة على فرق النصارى، كما في الحديث المشهور.

وفي حديث آخر لتركبن سنّة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، والقدّة بالقدة.

قالوا :تعني اليهود والنصارى يا رسول الله ؟

قال : فمن أعني ؟ لتنقضن عروة الإسلام عروة عروة.

وعن كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي في حديث رقم :131 : أنّه قال : من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): ليردن عليَّ الحوض رجال ممن صحبني، حتى إذا رأيتهم، ورفعوا إلي رؤوسهم اختلجوا، فأقول: رب أصحابي . فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

ص: 629


1- سورة آل عمران : 105 .

وفي الكتاب المذكور أيضاً حديث رقم 267: من المتفق عليه من مسند أبي هريرة من عدة طرق قال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم): بينا أنا واقف - يوم القيامة - إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم فقال : هلموا .

فقلت : إلى أين ؟

قال : إلى النار .

قلت: ما شأنهم ؟

قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى.

نعم، لقد ارتد القوم على أدبارهم واغتصبوا المنصب الإلهي والخلافة الاسلامية من أمير المؤمنين وسيد الموحدين ومولى المتقين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام وجلسوا على كرسي الخلافة يتحدثون عن ويتكلّمون باسمه حتى أصبحت الخلافة الاسلامية هزيلة قد ادعاها أمثال مروان وغيره من بعدهم .

وتوالت المصائب والأحداث المخزنة على آل بيت الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)بعد اغتصاب أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام منصب الخلافة، فأوّل الأحداث هو حدث الهجوم على بيت الرسالة والوحي حيث إنهم لعنهم الله تعالى قد أضرموا ناراً في ذلك البيت الطاهر وأخرجوا عليّاً عليه الصلاة والسلام ملتباً بحمائل سيفه وقد خرجت الزهراء صلوات الله وسلامه عليها تعدو خلفه وتقول :

خلّوا ابن عمي يا قوم أو لأدعون عليكم :

قال شيخنا الجشّي رضوان الله تعالى عليه : وهو يصف حالة الزهراء عليها الصلاة والسلام عندما هجم القوم على دارها وأخرجوا ابن عمها أسيراً ، قال :

لم أنس لما أوقدوا ناراً على*** بيت الهدى وضرامها فيه اتقد

هجموا وبالباب البتول قد اختفت*** إذ لا قناع فرض بالباب الجسد

وغدت بطه تستغيث ولم تغث*** بسوى السياط السياط ومن لها بعد العمد

ص: 630

عصرت وأسقطت الجنين والمت*** بالسوط بل لطمت على عين وخد

واقتيد مقتاد الأسود ملبباً*** إذ بالوصية صابراً قد كف يد

والهفتاه على الأطائب مارعوا*** بعد النبي وراح شملهم بدد

أيقاد حيدرة وتؤذى فاطم*** ويروّع ابناها وعن إرث تصد

قهرت ضلالاً بعد طول خصامها*** وعلو حجّتها على الخصم الألد

رغمت فعادت وهي صفر الكف إذ*** لا منجد وبها قد اشتد الكمد

و تقمصت ثوب الهموم وما اكتست ***إلا ببشرى الموت أثواباً جدد

ولقد قضت مظلومة مقهورة*** مهضومة لم يرع حرمتها أحد

لم أنس إذ وضع الوصي أمامه*** جسد البتول ومد للتغسيل يد

كانت تكتم ما عراها رحمة*** بالمرتضى قبل الممات وإن ضهد

فرأى بها ما هد ركن الصبر من*** أثر السياط وكسر ضلع بالجسد

فهناك حن شجى على ما نابها*** وبكى أسى أسفاً وقد ضعف الجلد

وقد انحنت منه الضلوع ومثلها*** فيه العزاء يعزّ ممن قد فقد

وبفقدها فقد النبي فإنّها*** تحكيه في نطق وفي مشي وقد

ولقد شجاني ضمها السبطين في*** وقت الوداع وما عراها من كمد

حنت وأنت من جوى بأبي وقد*** ألوت على كل من السبطين يد

لهفي لها ما شيعت جهراً وقد*** دفنت ولم يعلم بمثواها أحد

ولدفنها سراً وأخفى قبرها*** قد أورثا أشياعها كمد الأبد

وغدا عزاء المسلمين لحيدر*** بغياً بأن هموا بإخراج الجسد

ولكم مصاب قد عراه بفقدها*** مما بها ومن الأعادي لا تعد

أو لم تكن في المسلمين وديعة*** كيف الوديعة غير سالمة ترد

نعم، إنها صلوات الله وسلامه عليها وديعة من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) في المسلمين ولكن القوم لم يحفظوها ولم يرعوها حق رعايتها فماتت كمداً من افعالهم الخبيثة

ص: 631

وهي تخاطب أباها رسول الله قائلة :

حق الرسالة يا محمد ما تأده ***منهم ولا شفنا کرامه اولا موده

جاني الظالم واتبعه غيره ابعده*** او رايات معقودات داروها على الباب

ولا كفاهم غصب ميراثي أو منعي*** حتى اعصروني وكسروا ياياب ضلعي

او بس ما سمعني يا الابو ابكي اوانعي*** قال اضربوها لا تصب الدمع سكاب

والله يبو ابراهيم ما بطل حنيني*** مادام يطرق مسمعي واتشوف عيني

جماعة اللي اسقطوا بعدك جنيني*** او قادوا وصيك واعصروني ابصاير الباب

قلها يبنت المصطفى خفي شكاياك*** يوم القيامة نجتمع بالحشر وياك

وأبدى الشكاية أو ناخذ ابحقك من عداك*** لابد ما يأتون كلمن حامل كتاب

يأتوا ابيوم ما يسعهم فيه انكار*** وأبدى الشكاية أو يأخذا بحقك الجبار

وأنا خصيم اللي لفي بالحطب والنار*** والكل يذكر ما صنع في يوم الحساب

***

أقول : وكما كانت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام وديعة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) في المسلمين فقد كانت ابنتها الحوراء السيدة الجليلة زينب عليها الصلاة والسلام وديعة الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بيد أبي الفضل العباس بن علي عليه الصلاة والسلام ولا فرق بين الوديعتين من جهة الضيعة وعدم وجود العناية والرعاية بهما عن المسلمين فالام(عليه السلام) قد ضيعها المسلمون وأما البنت فإنها وإن حصلت على الرعاية والعناية التامة وكانت في غاية الابهة والجلالة بحضور سيدنا ومولانا أبي الفضل العباس وقبل استشهاده إلا انها بعد أن فقدته كانت أسوأ حالاً من أمها عليهن الصلاة والسلام وذلك لأنّ العباس عليه أفضل الصلاة والسلام قد اختاره الله تعالى لنصرة الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام وحماية السيدة زينب(عليها السلام) .

ومن هنا انّ أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه كما جاء في كتاب معالي

ص: 632

السبطين للمحدث المازندراني نقلاً عن كتاب عمدة الطالب : أنه قال لأخيه عقيل وكان نسابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم: انظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوّجها فتلدلي غلاماً فارساً كيما يكون ناصراً لولدي الحسين الليل وحماية الهاشميات يوم عاشوراء.

فقال له : تزوج أم البنين الكلابية فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها فتزوجها أمير المؤمنين (عليه السلام)واسمها فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة وكانت عالمة، ومن ذلك فقد جاء في (كنز المصائب انّ العباس عليه الصلاة والسلام قد أخذ علماً جماً في أوائل عمره الشريف عن أبيه وأمه وأخواته قال المحدث المذكور فتزوجها أمير المؤمنين(عليه السلام)فولدت له العباس(عليه السلام)وجعفر (عليه السلام)وعبد الله(عليه السلام)وعثمان(رضوان الله) وكانوا من شجعان العرب وكلهم عليهم أفضل الصلاة والسلام قد قتلوا في نصرة الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه .

قدمهم العباس(عليه السلام) بين يديه فقال : يا بني أمي تقدموا حتى أراكم قد نصحتم ولرسوله تقدموا بنفسي أنتم فحاموا عن سيدكم حتى تموتوا دونه فتقدموا جميعاً فصاروا أمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه يتقون بوجوهم ونحورهم فتقدم عبدالله بن علي سلام الله عليه ورحمته ورضوانه وكان يومئذ ابن خمس وعشرين سنة وقاتل قتالاً شديداً وهو يرتجز ويقول:

أنا ابن ذي النجدة والافضال*** ذاك علي الخير ذو الفعال

سیف رسول الله ذو النكال*** في كل يوم ظاهر الأحوال

وقتل أبطالاً ونكس فرساناً فاختلف هو الالها وهاني بن ثبت الحضرمي لعنه الله بضربتين فقتله هاني وتقدم بعده جعفر بن على قائلاً:

إني أنا جعفر ذو المعالي*** ابن علي الخير ذي النوال

ذاك الوصي ذو السنا والوالي***حسبي بعمي جعفر والخال

أحمي حسيناً ذا الندى المفضال

ص: 633

فقاتل وقتل جمعاً كثيراً فشد عليه هاني بن ثبت فقتله بن ثبت فقتله وفي قتله خولي بن يزيد الأصبحي بعد ما رماه فأصاب شقيقته أو عينه لعنة الله تعالى على خولي وهاني، ثم برز عثمان بن علي وهو ابن إحدى وعشرين سنة قائلاً:

إني أنا عثمان ذو المفاخر*** شيخي علي ذو الفعال الطاهر

هذا حسين سيد الأخاير***و سید الصغار والأكابر

فقاتل قتالا شديداً . قال أبو الفرج: إن خولي بن يزيد لعنه الله رماه بسهم على جبينه فسقط عن فرسه وشد عليه رجل من بني دارم فقتله وأخذ رأسه .

وقال أبو حنيفة الدينوري : إن يزيد الأصبحي لعنه الله رمی عثمان بن علي (عليه السلام) بسهم فقتله، ثم خرج إليه فاحتز رأسه وأتى به إلى عمر بن سعد لعنه الله فقال له :أثبني .فقال عمر : عليك بأميرك يعني عبيدالله بن زياد لعنه الله فاسأله أن يثيبك.

قال المحدّث المذكور وبقي العباس عليه الصلاة والسلام قائماً أمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه يقاتل دونه ويميل معه حيث مال .

وقال في موضع آخر من كتابه المذكور كان العباس بن أمير المؤمنين عليهما أفضل الصلاة والسلام رجلاً جميلاً وسيماً يركب الفرس المطهم ورجلاه تخطّان في الأرض وكان جسوراً على الطعن والضرب في ميدان الكفاح والحرب، ومن المعلوم أن أهل بيت الحسين صلوات الله وسلامه عليه الذين قتلوا معه كان جميعهم في أعلى درجة الشجاعة وأرفع مرتبة الشهامة إلا أن العباس(عليه السلام) كان له من قداحها المعلى ورتبته أرفع وأعلى ، منه يقتبس أنورها ويقتطف ثمرها ونورها وناهيك بمن كان ضلعاً من أضلاع أشجع البرية ودوحة من الروضة العلوية وغصناً من أغصان الشجرة المباركة الزيتونية أبوه أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه سيد البرية وأخوه الحسين سيد أهل الإباء والحمية.

لك نفس من معدن اللطف صیغت ***جعل الله كل نفس فداها

ص: 634

فمن هنا لا يقاس بشجاعته إلا شجاعة أبيه وأخيه وقد ادخره أبوه لينصر ولده الحسين

(عليه السلام)بنفسه ويواسيه وقد سمّاه أمير المؤمنين(عليه السلام)بالعباس لعلمه بشجاعته وسطوته وصولته وعبوسته في قتال الأعداء وفي مقابلة الخصماء قيل: عبّاس كشدّاد وهو الأسد الضاري كانت الأعداء ترجف أبدانهم وترتعد مفاصلهم وتعبس وجوههم خوفاً إذا برز إليهم العباس (عليه السلام).

عبست وجوه القوم خوف الموت*** والعباس فيهم ضاحك متبسم

ونقل المحدث المذكور أيضاً عن الطريحي أنه قال : لقد كان العباس مع أبيه أميرالمؤمنين (عليه السلام)في الحروب والغزوات يحارب شجعان العرب ويجادلهم كالأسد الضاري حتى يجدلهم صرعاً .

وفيه أيضاً :انه كان(عليه السلام)عوناً وعضداً لأخيه الحسين(عليه السلام)حين ان الحسين (عليه السلام)فتح الفرات وأخذ الماء من أصحاب معاوية وهزم أبا الأعور عن الماء في يوم

صفين .

وجاء في كتاب إبصار العين : ان العباس(عليه السلام) قد حضر بعض الحروب مع أبيه فلم يأذن له أبوه بالنزال .

وفي كتاب الكبريت الأحمر لمؤلفه الحاج الفاضل والعالم المتبحر الشيخ محمد باقر البيرجندي القائني : ذكر ان العباس(عليه السلام)كان في صفّين يقاتل أهل الشام مع أبيه أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام.

وقال المحدث المازندراني : انّه قد روى بعض من أثق به بأن يوماً من أيام صفين خرج شاب عن عسكر أمير المؤمنين(عليه السلام)وعليه لثام وقد ظهرت منه آثار الشجاعة والهيبة والسطوة بحيث إن أهل الشام قد تقاعدوا عن حربه وجلسوا ينظرون وغلب عليهم الخوف والخشية فلم يبرز له أحد، فدعا معاوية لعنه الله برجل من أصحابه يقال له ابن شعثاء وكان يعدّ بعشرة آلاف فارس وقال له معاوية لعنه الله : اخرج إلى هذا الصبي ،فقال : يا معاوية فما أصنع ؟ فقال : بارزه .

ص: 635

فقال ابن شعثاء : يا أمير إن الناس يعدونني بعشر آلاف فارس فكيف تأمرني بمبارزة هذا الصبي ؟

فقال معاوية لعنه الله تعالى : فما نصنع ؟

قال ابن شعثاء : يا أمير إن لي سبعة بنين ابعث إليه واحداً منهم ليقتله فقال له : افعل ، فبعث إليه أحد أولاده فقتله الشاب وبعث إليه بآخر فقتله الشاب حتى بعث جميع أولاده فقتلهم الشاب فعند ذلك خرج ابن شعثاء لعنه الله ولعن الله أولاده خرج وهو يقول : أيها الشاب قتلت جميع أولادي والله لأنكلن أباك وأمك ثم حمل اللعين وحمل عليه الشاب فدارت بينهما ضربات فضربه الشاب ضربة قده نصفين وألحقه إلى جهنّم بأولاده، فعجب الحاضرون من شجاعته فعند ذلك صاح أمير المؤمنين(عليه السلام) ودعاه وقال له : ارجع يا بني فإني أخاف أن تصيبك عيون الأعداء فرجع وتقدم إليه أمير المؤمنين الله وأرخى اللثام عنه وقبل ما بين عينيه فنظروا إليه وإذا هو قمر بني هاشم العباس بن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام.

قال المحدّث المذكور : ويكفي في شجاعته أنّ الأعداء إذا سمعوا باسم العباس ارتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم واقشعرت جلودهم، قال: ومن ذلك ان عبيد الله بن زياد لعنه الله تعالى بعث إليه كتاب أمان وناهيك في شجاعته ان الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام ما أجازه للقتال في يوم عاشوراء بل أرسله ليأتي بالماء وقيد يديه ورجليه بإتيان الماء وحمل القربة ومع ذلك لما ركب فرسه وأخذ رمحه والقربة وقصد الفرات وقد أحاط به أربعة آلاف وفي رواية : ستة آلاف وقيل نقلاً عن كتاب (الأسرار) عشرة آلاف محارب فحمل عليهم العباس(عليه السلام) وقتل منهم شجعاناً ، ونكس منهم فرساناً ، وتفرقوا عنه هاربين كما تتفرّق الغنم وصعد قوم على التلال والاكمات وأخذوا يرمونه بالسهام حتى قال إسحاق بن جثوة لعنه الله تعالى : فتورنا عليه النبال كالجراد الطائر فصيرنا جلده كالقنفذ ومع ذلك فقد كان كالجبل الأصم لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف، فغاص العباس(عليه السلام) في أوساطهم

ص: 636

وقتل منهم ثمانين فارساً وقيل ثمانمائة فارس وقيل: أكثر من ذلك وهو يرتجز ويقول :

لا أرهب الموت إذا الموت رقى*** حتى أوارى في المصاليت لقا

نفسي لنفس المصطفى الطهر وقى ***إني أنا العباس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشرّ يوم الملتقى

فتفرقوا عنه هاربين فكشفهم عن المشرعة ونزل المشرعة عليه الصلاة والسلام وهو كالبرق الخاطف أو الزلازل المنحدرة له رعيد يتبختر في صولاته وجولاته .

فهجموا عليه فخرج إليهم وفرقهم ، ثم عاد إلى المشرعة فحملوا عليه ثانياً فكرّ عليهم العباس على ما في بعض الكتب منها الكبريت الأحمر إلى ست مرات وفي السادسة انصرفوا ولم يرجعوا فنزل المشرعة ، فلما دخل من الماء أراد أن يشرب الماء غرفة فذكر عطش الحسين صلوات الله وسلامه عليه وأهل بيته فرمى الماء.

قال المحدث المذكور نقلاً عن كتاب المنتخب: ان العباس قال : والله لا أشربه وأخي الحسين وعياله وأطفاله عطاش لا كان ذلك أبداً ،ثم أنشأ يقول :

يا نفس من بعد الحسين هوني***و بعده لا كنت أن تكوني

هذا الحسين شارب المنون*** و تشربين بارد المعين

هیهات ماهذا فعال ديني*** ولا فعال صادق اليقين

وقيل عن لسانه عليه أفضل الصلاة والسلام:

يحاجي النفس يا نفسي تهونين*** كل الناس تغدى فدوة احسين

ألف وسفة يخويه مالك امعين*** تضل بعدي يبو سكينه امحير

أبو فاضل ولى الشاطى ابو حده ***أو چبده من لهيب العطش فطر

ص: 637

خاض الماي بس هيس ابرده*** ترس چفه يروي عطش چبده

تذكر لن أخوه احسين بعده*** ذبّ الماي من چفه او تحسر

هذا الماي يجري ابطون حيات*** وضوكه كبل اخويه احسنین هیهات

وأظن طفلة يويلي من العطش مات*** وظن موتی گرب والعمر کصر

اشلون اشرب وخويه حسین عطشان*** وسكينه والحرم واطفال رضعان

وظن گلب العليل التهب نيران*** يريت الماي بعده لا حلا ومر

***

بعد ذلك ملأ عليه الصلاة والسلام القربة وحملها على كتفه الأيمن وتوجه نحو الخيمة فقطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب فحاربهم فأخذوه بالنبال من كل جانب حتى صار درعه كالقنفذ من كثرة السهام فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي فضربه على يمينه فقطعها فأخذ السيف بشماله وحمل القربة على كتفه الأيسر وهو يرتجز ويقول :

والله ان قطعتموا يمینی*** إني احامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين*** نجل النبي الطاهر الأمين

فقاتل حتى ضعف عن القتال فكمن له الحكيم بن الطفيل الطائي أو نوفل الأزرق (لعنه الله) فضربه بالسيف على شماله فقطع يده من الزند فحمل القربة بأسنانه وهو يقول :

یا نفس لا تخشي من الكفّار*** وابشري برحمة الجبار

مع النبي السيد المختار*** قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا رب حر النار

وجاءه سهم وأصاب القربة وأريق ماؤها ، ثم جاءه سهم آخر فأصاب صدره الشريف فانقلب عن فرسه وفي خبر: فضربه ملعون بعمود من حديد ففلق هامته فقتله، ولما انقلب عن فرسه صاح إلى أخيه الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام :

ص: 638

أدركني ،فلما أتاه رآه صريعاً فبكى وحمله إلى الخيمة ،ثم قال الامام الحسين(عليه السلام) : الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي.

وجاء في كتاب إبصار العين : أنه(عليه السلام)خر صريعاً إلى الأرض فنادى بأعلى صوته: ادركني يا أخي فانقض إليه أبو عبدالله عليه الصلاة والسلام فرآه مقطوع اليمين واليسار مرضوخ الجبين مشكوك العين بسهم مرتباً بالجراحة فوقف عليه منحنياً وجلس عند رأسه يبكي حتى فاضت نفسه الشريفة.

وفي خبر أنه عليه أفضل الصلاة والسلام أراد أن يجعل رأس العباس في حجره، أو أنه جعل الرأس في حجره قبل أن تخرج نفسه المباركة الشريفة إلّا انّ العباس(عليه السلام) أخرج رأسه من حجر الحسين (عليه السلام)و مرغه في التراب.

سمع

وفي وصف هذه الرزية وكيفيتها وغيرها من الرزايا المفجعة التي نزلت بساحة سيدنا العباس (عليه السلام)يقول الشاعر العراقي :

طاح يمين أبو فاضل والايسر*** خطف جوده ابحلگه او للخيم فر

اجاه السهم للكربة او فراها*** وگف یبچی وسكنه ما نساها

مواعدها على اميه لحشاها*** او منها يستحي للخيم يسدر

سمع حسه الحسين او ركب وارزم ***غار على العده من باب المخيم

رد یمه او شافه سابح ابدم*** تخوصر فوگ راسه والدمع خر

حط راسه بحضنه او راد الوداع*** شاله او تربه عباس بالگاع

رد احسین راسه بگلب مرتاع*** شاله اردود للتربان والحر

يگله يخوي العلم گلي وين اوديه*** ينور العين دربي بيش اجديه

حنا فوگه يشمه واشبج ايديه*** عليه او صاح خويه الله واكبر

يخوي انكسر ظهري اولاگدرأكوم*** صرت مركز يخوي الكلّ الهموم

يخوي استوحدوني بعدك الگوم*** اولا واحد عليه بعد ينغر

يخوي منين اجتني هالرميه*** يخوي اساوع بيتي عليه

یخوي اسا عدوّي شمت بيه*** وشوفنك يبو فاضل امطبر

ص: 639

راد احسین شيله للصواوين*** انتبه عباس لحسين او زرك عين

یگله اشرادتك يا خوي يحسين*** یگله ارد اشليك وسدر

یگله يخوي احسين خليني بمجاني*** یگله ليش يا زهرة زماني

یگله واعدت سكنه تراني*** ابماي واستحي منها من اسدر

يخوي اشلون اشوفنها ابيا عين*** لوجتني او گالتلي الوعد وين

دخليني أموت اهنا يحسين*** يخوي المستحا من شيمة الحر

گام احسين تبچي للصواوين*** ينشف دمعته عن النساوين

خايف لنهن يفتكدن احسین*** ایگلن له عليمن هالدمع خر

او يلي تلگته اسکینه ***تگله عمی العباس وينه

شرب ماي اونسانا ما نسينه*** العطش واگلوبنا تلهب امن الحر

خرّت دمعة احسين او تنحب*** او گاللها أو نار الكلب يلهب

ابشاطي العلكمي عمج امترب*** گضی او فرت تصیح الله واكبر

نعم قضى قمر بني هاشم نحبه وبقي جثمانه الطاهر مترب وراح فرسه يصهل متوجه نحو المخيم، فلما رأته السيدة العقيلة زينب الحوراء(عليه السلام)خالي من راكبه بكت ونادت ،واعباساه واحبيباه واقرّة عيناه واثمرة فاداه ثم صاحت بسيدالشهداء صلوات الله وسلامه عليه قائلة : قم يا أخي فلقد جاك المهر خالياً من أخيك ولسان حالها يقول :

جاك المهر يابن أمي جاك المهر باصهيله**يحسين روح المعركة وادرك عضيدك شيله

عباس يوم انه وقع نادى يخوي ادركني*** سرعك ينور اعيوني خيل العدى حاطتني

قصوا العدى زرعاني أو فوق الثرى ذبتني*** يحسين وصل ليه قلت امني الحيله

ص: 640

واحسين يوم انه سمع صوته لفاه ابسرعه*** اوعاين عضيده مرمي والدم صابغ درعه

اتخوصر يويلي عنده واعلى الاخوهل دمعه ***او نادى يشايل بيرقي منهو يخويه ايشيله

حط رأس اخوه ابحجره والصوت منه عالي*** عباس اخویه اتوعی یا شیخ کل ارجالي

منهو يشيل البيرق عباس يا سردالي*** يا سناد ظهري عقبك منه الحملي ايشيله

فتح اعيونه او نادى والعين منه عبرا*** منهو الذي امسند لي اوضع الرأس ابحجره

قله انا اللي ابفقدك اوهيت خويه ظهره*** دقعد يشيال العلم واللي الحملي ايشيله

ان عد فضل الاخوه فضلك يخويه ابزوده***ما شفت انا في الاخوه مثلك بذل مجهوده

قطعوا العدى ذرعانه او شال العلم بزنوده*** ويوم وقع فوق الترب جاني المهر باصهيله

وانا الأسد في الوثبه وانته أسد في الهفه**او تدري الأسد له وثبه او تدري الأسد له هفه

واللي قطع كفينك يا خوي ابقطع كفه*** او امر قضاه الباري ما اتفيد فيه الحيله

** *

یمشرّد الخياله يمشرّد الخياله*** قم لا عضيدك شيله لا تدوسه الخياله

ص: 641

حول عليه بهاتف مثل الصقر تحويله ***طاح الاخو في المعركه يحسين دسرع شيله

حين سمعت الهاتف قلت امني الحيله ***اوجيتك انا متعنّي او عاقتني الخياله

هذي الحرم تنخاني يحسين ودنا لعمنا***او خليتني يعضيدي يسرى أبليايمنا

سبعين الف خیاله دارت على امخيمنا ***واتزلزت نسوانا من ضجّة الخيّاله

قلت يخويه الحيله او فلت امنى اللزمه*** سبعين الف خیاله كلها علي محتزمه

او تدري يخويه الوحده تبهض قوى العزمه*** احمل على الخياله واتعوفني الرجاله

يحسين هذي المرجله والموتت الممدوحه**او كل الخلايق تحكي فادي عضيده ابروحه

يحسين لا ترفعني خل جثتي مطروحه ***خلها على وجه الثرى واتدوسها الخيّاله

اليوم يوم اسعودي واليوم ذا مقصودي*** من يوم تحت الرايه قصوا يخويه ازنودي

يحسين لواني امقيد لفصم حديد اقيودي***أو عنك يخويه ابصدري لتصدر الخياله

عباس هذي رايتي بعدك غدت ملتفه*** أو كل الحرم تنعى لك واقلوبها ملتهفه

او بيت الخنا والمنجس يمتى تجيه العفه*** اوجيتك انا متعني او عافتني الخياله

ص: 642

الجلسة الثانية والعشرون

إذا لذ لي مطعم أو شراب*** بشهر ربيع فشيء عجاب

فإنا يزور لقلبي السرور*** ونار باحشاي ذات التهاب

مصاب أصاب صميم الفؤاد*** ففي القلب باقي ليوم المآب

أيفرح قلبي وطه الرسول*** شفيع العباد ثوي في التراب

بکته السماء وسكانها*** جميعاً وناح عليه الكتاب

وهبت عليه رياح الخسوف*** وهم البسيط على الانقلاب

وبات الأنام بلا والدٍ*** تقاسي المصائب من كل باب

وكيف أذوق الهنا والبتول*** لها رفلة في ثياب المصاب

نحن حنيناً يزيل الجبال*** ودمع العيون كصوب السحاب

أليس بذا الشهر قام العدات*** لنقض العهود من المستطاب

وفيه أدير على بيتها*** بجزل وعنها أميط الحجاب

أما كسروا فيه أضلاعها*** وبالحبل قادوا الامام المهاب

لها الله إذ خرجت خلفه*** لتخليصه بأسئ وانتحاب

تنادي دعو من أشاد الهدى*** بحد حسام أذلّ الرقاب

فما رعيت إذ دعت في العدى** فعادت من الضرب والمتن عاب

وقد لطمت لطمة لم تزل*** على الخدّ منها بظهر النقاب

وباتت تئنّ بفرش السقام*** حليفة وجد إذ البدر غاب

ص: 643

لفقد الرسول وسقط الجنين*** وكسر الضلوع ومزق الكتاب

لقد أسقطوا جنينها، وكسروا ضلعها ، ومزّقوا كتابها وكلّ هذا قد هان عليها إلا فقد أبيها فقد سطى فى أحشائها أثره وأدماء قلبها صوابات مصابه وجعلها تتمنى الموت ولسان حالها يقول :

عسى

يا سيد الكونين يا خير النبيين*** فطرت قلبي يا رسول الله ابها الونين

حزنك يبو ابراهيم ساطي ابلبة احشاي*** خوفي تفارجني واطيح ابولية اعداي

لو الامر بيدي يا الولي ويحصل على هواي*** چان اخترت قلبك يبويه غصة البين ضلعي انحنى من شوفك ابها الحال يا ياب*** وقلبي يبويه دامي بصوابات لمصاب

اسم الله اعلى طولك يا لولي عن نوم لتراب*** فالك فال السلامه يا ضيا العين

فتح اعيونه المصطفى او عاين الزهرا*** تهمل ادموع اعيونها وتجذب الحسرة

واتصيح عقبك عيشتي عيشة القشرة*** قلها شعبيني يزهرا لا تحنين

نوحيج وحزنيج عقب دفني وسط لقبور*** الله يعينك عالهضيمة وشدة الجور

اتقاسين غصات او فجايع يم لبدور*** شذكر شقول من المصاب اللي تقاسين

بس اندفن عدواني البيتچ یجونچ*** ایحرگون بابچ یا زچیه او يعصرونچ

ایکسرون ضلعينج يزهرا ويلطمونج*** قالت يبويه وين عني امشيد الدين

قلها يزهرا حاضر او ينظرها لافعال*** ويقدر يرد عنج يزهرا جنود لنذال

لكن وصيتي اتقيّده وينقاد بحبال*** چني اشوفج خلف ابو الحمله تنادين

خلوا كفيلي والعدى ما يرحمونچ*** ايرد العبد وابسوطه ایورم امتونچ

ما چني اموصي عليهم ينصرونج*** حتى النياحة يمنعونج لا تنوحين

***

نعم، تلك الشجاعة الحيدرية والحملات العلوية ورثها منه الا بنوه وأحفاده -وأخص بالذكر منهم في هذه الجلسة سيّدنا وحبيب قلوبنا ونور عيوننا القاسم بن الامام الحسن عليهما الصلاة والسلام الذي يقول فيه بعض الشعراء واصفاً بطولته

ص: 644

وشجاعته وعدم احتفاه بالأعداء وذلك عندما انقطع شسع نعله فأخذ مصلحها :

أتراه حين قام يصلح نعله*** بين العدى كيلا يروه بمحتفي

غلبت عليه شامة حسنيّة*** ام کان بالأعداء ليس بمحتفي

ولبعضهم أيضاً يقول:

قسم الاله الرزء بين أعاظم*** لارزء أعظم من مصاب القاسم

حسني خلق من نجاد محمد*** مضري عرق من سلالة هاشم

غصن نضير من أصول مفاخر*** ثمر جني من فروع مكارم

قتال أبطال مبيد كتائب*** فتاك اساد هزبر ملاحم

هزم المكاة بقوة علوية*** وأبادهم طراً يبطش هاشم

لله يوم خرّ فيه على الثرى

نادى حسيناً عمه عسمه متشكياً*** بعد الوصال وقرب هجر دائم

فأتاه وهو إذا يجود بنفسه*** ويفيض منه الجرح فيض غمائم

ويلوك كالحوت التريب لسانه*** لوكاً ويفحص كالقطا بقوادم

قال المحدّث المازندراني الحائري«قدس الله سره»نقلاً عن كتاب الأسرار في وصف القاسم عليه أفضل الصلاة والسلام: إنّ القاسم بن الحسن(عليه السلام)هو غصن من أغصان شجرة النبوّة وثمرة من ثمرات الإمامة والخلافة.

وأقول : إنه روحي له الفداء نفحة الامام الزكي عليه أفصل الصلاة والسلام وریحانته وحبيب قلبه ونور عينه وإلى هذا المعنى قد أشار شاعر آل محمد شيخنا الأديب الفاضل والحكيم المبدع عبد المنعم الفرطوسي رضوان الله تعالى عليه وأرضاه وجعل الجنة ماواه وحشرني إن شاء الله تعالى وإياه بقوله :

عبقت والإباء بعض شذاها*** نفحة للزكي في كربلاء

هی أزكى وديعة ضيّعوها*** بيد الغدر في يد الأزكياء

نصبوا للنبي فيها عداء*** وهم يقطعون حبل الولاء

ص: 645

قد أباحوا ذمام كل نبي*** فأباحوا ذرية الأنبياء

لعن الله قوم سوء أصابوا*** مهجة المجتبى بسهم العداء

خیر ریحانة ذوت من ذبول*** قد عراها واذبلت من ظماء

قاسم الهام من رؤوس الأعادي*** بحسام من عزمه في المضاء

جاء للسبط يطلب الإذن منه*** ورآه فأجهشا للبكاء

قال شجواً أنت الوديعة عندي*** من أخي المجتبى وذكرى الإخاء

وحباه بالإذن حسین راه *** باكي الطرف شاحباً برثاء

فتجلّى للحرب شقة بدر*** وهو يزهو بروعة وجلاء

علويّ تذكو الشمائل فيه*** من علي بنفحة الأوصياء

حسني له الكرامة تاج*** ونسيجُ الثنا الثناء خير رداء

وأبي من الحسين تحلّى*** بوشاح من نجدة وإباء

شد شسع النعل الذي بُتّ منه*** وهو يضري بساحة الهيجاء

فعلاه الأزدي عمرو يسيف*** منه قد شق مفرق العلياء

فهوى فاحصاً برجليه ملقی*** مستغيثاً بعمّه في العراء

فأتاه الحسين يسعى فأردى*** من سقاه الردى بكأس الفناء

قال حزناً علي عزّ بأنّي*** عنك لا أستطيع دفع البلاء

***

أتى رغبة في الموت يسعى فقل به*** هو البدر لكن في الثرى كان سائراً

بنفسي حسيناً إذ تمثل شخصه*** غداة أتاه يطلب الإذن حائرا

رای حسن أخلاق وطيب شمائل*** ووجهاً منيراً يخجل البدر زاهراً

فأرحبه باعاً وأحنى ضلوعه*** عليه ودمع المقلتين تحادرا

وقال شيخنا الامام علي بن الحاج حسن الجشي القطيفي رضوان الله تعالى عليه في شجاعة القاسم بن الحسن واورورثائه (عليه السلام):

ص: 646

ألا فاكتب مهما اكتسبت المفاخرا*** ففيهن ذكر المرء لم يلف دائرا

ومن سعد جدّ المرء تجديد ذكره***بارث نبيه منه تلك المفاخرا

وفي شرف الاباء حظ لولدها*** إذا ما اقتفتها ورثتها المآثرا

اما سن بذل النفس في الله حيدر*** وأورثه حتى بنيه الأصاغرا

لعمري هم قبل المراضع ارضعوا*** کرام سجاياه ففاقوا الأكابرا

فأصبح كلّ مظهر الفخر في الورى*** فلم تر ذا فخر إليهم مفاخرا

كفاك بيوم الطف موقف آله*** لنصر الهدى حيث الضلال توازرا

لقد عرجت أعلى المعارج في العلا*** وإن لم تراهق واستطالت مفاخرا

وحسبك بابن المجتبى الندب قاسم*** فكم للمعالي قد أقرّ نواظرا

وسر بنصر الدين قلب محمّد*** وإن كان أقذى قتله منه ناظرا

غداة تفانت فتية المجد بالضبا*** وطير الردى فى الطفّ مازال طائرا

ولم أنس لما حركته حفيظة*** لنصر حسين حين لم يلف ناصرا

أتى رغبة في الموت يسعى فقل به*** هو البدر لكن في الثرى كان سائرا

بنفسي حسيناً إذ تمثل شخصه*** غداة أتاه يطلب الإذن حائرا

رأى حسن أخلاق وطيب شمائل*** ووجهاً منيراً يخجل البدر زاهراً

فأرحبه باعاً وأحنى ضلوعه*** عليه ودمع المقلتين تحادرا

وعانقه لكن عناق مودع*** يرى أنّ هذا للقا كان آخرا

وخرًا جميعاً للثرى إذعرتهما*** جوى عشية والوجد للقلب خامرا

فلما أفاقا صاح والوجد غالب*** بني أتمشي للمنون مبادرا

أيا مهجتي أنت العلامة من أخي***وقرة عيني لا رأيتك عافرا

بني أتمشي للمنية ذاهباً*** برجلك تلقي ذابلاً وبواترا

فودّعه لما أبي وبكي شجي*** وأصبح منه خلفه القلب طائرا

وراح إلى الهيجاء والجاش طامن*** قد اتخذ الهندي خلا مسامرا

ص: 647

وأصفى ارتياحاً لاستماع حديثه*** إذا ما أتى الهيجاء فل البواترا

فقال له إن أنت أصدقتني تجد*** لديك الردى مني هناك موازرا

وعرّف أصحاب الضغائن نفسه*** ومن لا يبالي بالردى لن يحاذرا

وكرّ ففرّ الجيش من سطواته*** وقام بميدان الوغى لا محاذرا

كأنّي به يلوي شراك نعاله*** بميدانها لم يخش تلك العساكرا

فلما دنا المحترم منه و آن ان*** يحل بدار للنبي مجاورا

علاه لعين من قفاه بضربة*** على الرأس أدمت للهدى نواظرا

وخر بميدان الكفاح منادياً*** لأكرم عمّ فاستجاب مبادرا

وجدل ذاك الرجس بالسيف وانحنى*** على جسمه دامي الحشاشة حائرا

راه خضيباً بالدما فدعا أيا*** سرور فؤادي من عليك تجاسرا

على عزيز أتى لنداك لم*** أجب وعلى دفع الردى لست قادرا

رجوت بأني فيك أبلغ منيتي*** وربع المعالي فيك يصبح عامرا

وما خلت انّ الدهر فيك يخونني*** وتسكن من قبل البلوغ المقابرا

ومما شجى قلبي تذكر حاله*** وياليتني ما خالجت لي خاطرا

غداة انحنى من فقده ظهر عمه*** بتجديد ذكراه الشقيق الموازرا ب

نفسي وتراً في الوغى لم يجد بها*** له مسعدا إلا عدواً وواترا

غدا وهو محني الأضالع حاملاً*** فتاه قتيلاً للمخيم سائرا

تخطان فوق الأرض رجلاه والدما*** تسيل وعين السبط ترعاه صابرا

وقال العلّامة الحاج الشيخ عبد العظيم الربيعي رضوان الله تعالى عليه في رثاء القاسم بن الحسن عليهما أفضل الصلاة والسلام :

فادح قد عرى بعترة طاها*** مقلة المجد والعلى أقذاها

يوم رامت امي هدم صروح*** لهدى أحمد أقام بناها

فاستفزّت عزيمة الله ليثاً*** من ذويه والاسد تحمي شراها

ص: 648

ثار في وجه آل حرب بعزمِ*** للمقادير لو يلاقي ثناها

حيث ألقى صحيفة الشرك تتلى*** في البرايا منشورةً فطواها

أتراه أعطى النبي عهوداً*** بنوامسیس دینه فوفاها

وفداها بعد النفيس بنفس*** جعل الله كل نفس فداها

جهلت قدرها نفوس، ولكن*** عرفت بعض أنفس معناها

فغدت دونها تسابق للموت ***ترى غاية السباق فناها

ويك لا تنس ثمّ قرّة عين ال*** مجتبی قاسم العلى مجتباها

قسم الحسن فلقتين ففيه*** فلقة والأنام في أخراها

ولذا كانت العيون تراه*** فلقة البدر أشرقت في سماها

معلناً بينها بمحتده، هل*** تنكر الشمس عند راد ضحاها

كم له في اللقاء خطبة فتك*** وعلى الهام سيفه ألقاها

ضاق ذرع العدى به أي حرب*** وملم به القضاء رماها

كان قطباً للحرب لم يتزلزل*** حيث دارت على الرؤوس رحاها

ولواها ببأسه، لم يرقه***أن یری خافقاً عليها لواها

ودليلي بأنّهم لم يساووا*** شسع نعل طبق الوقار احتذاها

أنّه والوغى قد احتدمت لم*** يرعهم بل بعينه يرعاها

تاه فخراً عليهم وشراك*** النعل ما بين جمعهم سواها

مذ رأى مشية الحفاء تنافي*** مشيةً في الوغى الإله ارتضاها

غير أنّ الأزدي تبت يداه*** لم يدع غرةً عليه رآها

فانتضاها صفحةً أفيدري*** لفؤاد النبي كان انتضاها

وعلا رأسه بماضي شباها*** لیت قلبي ضريبة لشباها

فهوی مصرع الوصي عليّ*** إذ علاه يفه أشقاها

ذاك في جامع الصلاة وهذا*** بعد فرض الجهاد فوق رباها

وعلى الأصل فرعه زاد لما***یممته أمية بظباها

ص: 649

وقال بعضهم :

إن بات جفني ليس بالنائم*** حق له يبكي على القاسم

فتئ كأنّ الشمس في وجهه*** تطلع في صبح بهى دايم

تجري مياه الحسن في وجهه*** في ورد روض خده الناعم

تقسّم الحسن فنصف به***و نصفه الآخر في العالم

ولو تراه حاملاً سيفه*** على جواد أدهم فاحم

قلت نعاماً اسد فوقها*** أو بدر تمّ تم في دجى قاتم

ولو ترى سبط النبي آخذاً*** بالضبع منه كالأب الراحم

لخلت ليث الغاب في جنبه*** شبل تسنى الحسب الفاطي

وزينب الحوراء من انسها*** فیه بوجه ضاحك باسم

والفاطميات استوت حوله*** کما تساوت حلقة الخاتم

يزفّه الكل إلى زوجه*** وهو من البهجة في عالم

فانتعشت نفس سکین به*** انتعاش حوّا للقاء آدم

لكنّه ما طال هذا الهنا*** فنلعنة الله على الظالم

آنس منها وحشة وهو من*** وحشة عيد العرس في ماتم

حتى إذا انادى منادي العدى*** للحرب هل من بطل حازم

قال لها أخرت عرسي فلن*** أبرح أو أقضي على الغاشم

هذا حسين مفرد في العدى*** يخوض في موج الظبا اللاطم

یستنصر القوم ولا ناصر*** من أهله الأدنى سوى القاسم

أبذل في سوق الوغى مهجتي*** من دونه بسعرها القائم

فهبّ عريس بني هاشم*** وأنعم به من فارس هاشمي

وصاح في الكفّار يا أغبيا*** قفوا انظروا هذا عطا صارمي

ويك كان الله أوصاه لا*** تبق لسيف الشرك من قائم

أو ان عزرائيل أوصاه ان*** یقبض أرواح بني آدم

ص: 650

مذ ابرق العضب بسحب الطلا*** أمطرها غيث دم ساجم

فلا ترى إلا كميتاً هوى*** ورأسه كالطائر الحائم

حكّم في الأنفس سيفاً له*** وأكرم بسيف الحزم من حاكم

يغفل هذا ثم ير رمي به*** فيرسل البأس على الظالم

حتى إذا وفّى العلى حقها*** خرّ فقل خرّ سما العالم

فقم نعزّ الحسن المجتبى*** فيه وننعاه إلى فاطم

ونقذف الأحشاء في أدمع*** فهي نثار العرس للقاسم

فلم يك الغنا في عرسه*** عليه إلّا ندبة الماتم

قال العلّامة المحدث المازندراني رضوان الله تعالى عليه في كتابه المعالي نقلا عن كتاب البحار لمولانا المجلسي أنّه قال : قال حميد بن مسلم : كنت في عسكر ابن سعد فكنت أنظر إلى القاسم بن الحسن(عليه السلام)عليه إزار وقميص ونعلان وقد انقطع شسع أحدهما ما أنسى انه كانت اليسرى فقال لي عمر بن سعد الأزدي لعنه الله تعالى : والله لأشدّن عليه.

فقلت: سبحان الله وما تريد بذلك والله لو ضربني ما بسطت إليه يدي يكفيك هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه.

قال : والله لأفعلن فشدّ عليه فما ولّى حتى ضرب رأسه ووقع القاسم(عليه السلام)لوجهه .

قال : وقال أبو مخنف : وكمن له ملعون فضربه على أم رأسه ففجر هامته وخرّ صريعاً ونادي : يا عماه أدركني .

فجاءه الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام كالصقر المنقض فتخلّل الصفوف وشدّ شدة الليث المغضب فضرب عمر قاتله بالسيف فاتقاه بيد فأطنّها من لدن المرفق فصاح صيحة سمعها أهل العسكر، ثم تنحى عنه وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمر من الحسين (عليه السلام)فاستقبلته الخيل بصدورها وجرحته بحوافرها ووطئته حتى مات وذهب إلى جهنّم.

ص: 651

فانجلت الغبرة فإذا بالحسين(عليه السلام) القائم على رأس القاسم (عليه السلام)وهو يفحص برجليه.

فقال الحسين(عليه السلام) : يعزّ والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا يعينك ، أو يعينك فلا يغني عنك ، بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم في يوم القيامة جدك وأبوك هذا يوم والله كثر واتره، وقل ،ناصره ، وأخذ يمسح التراب والدم عن وجهه المبارك ولسان حاله يقول وينادي وا ابن أخاه ، وا ولداه ، ثم احتمله على صدره.

قال حميد بن مسلم فكأني أنظر إلى رجلي القاسم(عليه السلام)يخطان في الأرض وقد وضع صدره على صدره.

فقلت في نفسي : ما يصنع به ؟ فجاء به حتى ألقاه بين القتلى من أهل بيته (عليه السلام) مع ولده علي الأكبر(عليه السلام)، ثم قال : اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً، صبراً يا بني عمومتي صبراً يا أهل بيتي لا رأيتم هواناً

بعد هذا اليوم أبداً، وأنشأ الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام يقول:

غريبون عن أوطانهم وديارهم*** تنوح عليهم في البراري وحوشها

وكيف لا تبكي العيون لمعشر*** سيوف الأعادي في البراري تنوشها

بدور تواری نورها فتغيّرت*** محاسنها ترب الفلاة نعوشها

أمّا أم القاسم فقد كان لسان حالها يقول لما أن نظرت إليه وهو بين القتلى وقد بكت ونادت: واولداه واحبيباه ، ثم أخذت تخاطبه بهذا الخطاب:

بعدك شاب فوق اتراب*** معرس اولابس للكفن

في الأعراس كل الناس*** ما صار مثل ابن الحسن

***

معرس ولابس للكفن يا جسام

للخيم عايفها او نايم برغام

يبني عروسك كيف تفرح واتنام

وانته ابحال فوق ارمال*** مطروح واثيابك كفن

ص: 652

جسّام يبني ليت عمري فدواك

والموت جاني يا عزيزي او خلاك

حلو المعاني يالولد وين القاك

حصني طاح عزّي راح*** جسام يا لمالك ثمن

***

يا ليت يبني كربلا ما جينا

ولا عروسك يا لولد حنّينا

ما اسرع ينور العين الك زفينا

عرس أو نوح يا لمذبوح ***ما صار مثلك في الزمن

***

جسام عرس واستوى عرسه انحوس

أقمار غابت يوم عرسه واشموس

ناس تزفه او ناس تلطم للروس

والنسوان في الصيوان***حطت الماتم والشجن

اوسكنه عروسه اتصيح عرسي ما صار

دون الخلق عرسي شعل قلبي نار

معرس وحتى ما قضى عمر انهار

یاجسام فوق ارغام ***نايم ولا بس للكفن

***

وخرجت سكينه وهي محزونة باكية على ابن عمها العريس، تصيح :

الله واكبر من هذا الخطب العظيم وبالخصوص عندما نظرت إلى وجه ابن عمها مترب على الكاع لطمت وجهها وأخذت تنادي:

عسى ابعيد البلا خدك على الگاع*** يجاسم موش وقت الموت هساع

يجاسم يبن عمي لون تنباع *** ابماي العين چنت اشريك يا حر

ص: 653

عساهي ابركبتك كل الخطيه ***تخليني غريبه واجنبيه

یا جسام هالعرس اكشر عليه*** عريس او يزفونك امطبر

امبارك بين سبعين الف جابوك*** ابدال الشمع بالنشاب زفوك

عن الحنّه ابدم الراس حنوك*** على راسك ملبس نبل ينثر

***

من عاينت عريسها امخضب ابدمه*** محدود ما بين اخوته وولاد عمه

شافت ابوها ينتحب وينوح يمه*** صرخت او صاحت یا عرس لقشر عليه

او قلب الشهيد احسين ذايب من بكاها*** اتنادي يجاسم ليش متوسد ثراها

امحسّر يبن عمي على الدنيا او هواها*** او خرت عليه امه او عبرتها جريه

اتصيح انتحل جسمي يجسام من ونينك*** ذوبت قلبي لا تصد ليه ابعينك

عريس يا ابني او للمقابر زاقّينك*** صار بفرد ساعة ازفافك والمنيه

من شفت عمك لبسك تفصيل لكفان*** قلت الولد ميعود من حومة الميدان

قومي يسكنه ودّعي شمعة الشبان*** او شقي على العريس جيبك يا زكيه

صاح بضعيف الصوت خلّي الدرع عني*** يا والده او تالي اكثر والتوديع منّي

نز الدما او حر الشمس فتني او بهضني*** وان العطش تدرون ما ظل جلد ليه

او شيكت على مهجة قلبها بالايادي*** وما الشهيد ايقول ذو بتوا افادي

مفجوع من فقد اخوتي وذبحت اولادي***اوهذي العساكر حايطه يا الولد بيه

***

وخرجن بنات الوحي والرسالة وكلّهن يلطمن على الهام عندما نظرن إلى جنازة القاسم عليه الصلاة والسلام وهنّ ينادون وامصيبتاه، واقاسماه، واحبيباه، وأخذن يسألن الامام الحسين عليه الصلاة والسلام عن أحواله ولسان حالهن يقول:

يحسين جيبه وسط لمخيم نداويه*** قلهم ودمع العين شبه الغيث يجريه

چایده اصواباته ولا يفيد الدوا فيه*** بدر الیشع نوره يوسفه اتكوّر اوغاب

وجابه الخيمه ومدّده وجاته اسکینه*** اتشوفه ولنه امغربه للموت عينه

ص: 654

امتدت ابطوله وجرت الونّة الحزينة*** اتناديه مثل امصيبتك ما قط جرى امصاب امصابك يبدر الكون والله يشعب الروح ***توك امعرّس والخضاب ابچفّك ايلوح

للماي رحت او جابك المظلوم مذبوح*** اتوعا وعليه يا حبيبي رد الجواب

طوح الونه وصاح ودعيني يسكنه*** وبهداي نوحي وطوّحي المعرسج ونه

ليكون يسمع بوعلي ويزيد حزنه*** ماله جلد ذوّب افاده افراق لحباب

نادت يروح الروح شوفه اينوح عمّك*** ينحب ويلطم هامته يا شاب يمّك

وعاين الزينب عمتك والتاكله امك*** يتعفّرن يم جثتك يا غصن يا شاب

نادى ييمه اتقربي لي او ودعيني*** مفطور قلبي ماي بالله شرييني

شبكت عليه او نادته يحجاب صوني*** امّلت أتهنا ابعرسك والأمل خاب

مدّد ايدينه او غمض عينه المعرس ومات*** ودارن على جسم الشباب الهاشميات

وحدة تشمه او واحدة تجذب الحسرات*** وسكنه من ادموم المدلل تاخذ اخضاب والمصيبة الكبرى والداهية الدهماء على قلب السيدة الجليلة زينب الحوراء (عليها السلام) فإنها خرجت تنعى بلا شعور باكية على القاسم منادية : وا ابن أخاه ، واحبيباه:

طلعت بلا اشعور تنعي الوديعة*** متزوّج او شاب ذبحه فجیعه

عرسك فلا صار عد جملة الناس*** زفه او جنازة شفتوا بلعراس

واخضاب كفك يا ابني دم الراس*** مزفوف بالزان يسفح نجيعه

ثوبك يجاسم تفصيل لكفان*** وانثار عرسك يمدلّل الزان

والله اشعبتني كنك غصن بان ***ظامي عسى ايفور ماي الشريعة

قومى يرملة الجاسم ترى طاح*** صرتي ذليله كان الولد راح

خلصت ادمومه شدوها لجراح*** عدلي له اوساد قبل الفجيعة

من فرت امه نشرت شعرها*** شافته ایلوج واحنت ظهرها

او ظلت على الشاب تلطم صدرها*** واهوت تشمه ابمهجه وجيعة

قلها اوهوا ايلوج سمعي جوابي*** لو شفتي شبّان ذكري شببابي

ص: 655

نلها

اولو شفتي مذبوح ذكري مصابي*** شفتي عرس صار مثلى فجيعة

صاحت يجاسم ذايب حشا امّك**** يا مهجتي اتروح فدوى العمّك

مقدر اشوفك غارق ابدمك*** متوسّد اتراب حاله شنيعه

او سكنه تنادي تنادی یا هاشمیات*** لتعذينه ابشد الجراحات

قومي يعمه حيلى الولد مات*** میت ابحناه وين الوديعة

أما زينب(عليها السلام) لمّا أن نظرت إلى أخيها الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام وهو يحمل على كفّيه ابن أخيها القاسم(عليه السلام)وقد أراد وضعه في الخيمة على التراب أخذت تنادي وهي باكية قائلة:

لا تطرح الشاب خويه ابها لتراب*** بعده يمظلوم متزوّج اوشاب

قلها يزينب عدلي رقبته*** او حلي احزامه او شدي طبرته

او خلي على على هون يجذب حسرته*** وقفضى الدرع زين قلب الولد ذاب

امعرّس و نا ادری امقوض شبابه*** لكن جمعنا از فافه او مصابه

بالله يزينب جسی صوابه*** او شوفي الدما اشلون صاير له اخضاب

او سكنه العزيزة اتحن أو تنادي*** یا جاسم اتروح نهبة هنادي

بطل ونينك ذايب افادي*** يا مهجة الروح متزوّج او شاب

شيلي يعمّه خدّه عن القاع*** خلي انتزود من جاسم اوداع

قصدي أحاكيه من قبل لنزاع*** والله شعبني متوسد اتراب

صاحت يجسّام وين المعزّه*** امصابك دهى الكون والعرش هزّه

حبيبي لشقه او شعري لجزه ***واخذ يجسّام من دمك اخضاب

قلها يسكنه لا تشعبيني *** والله بهضني امجاذب ونيني

حان الأجل حان بس ودعيني*** او عينه شخصها او منه النفس غاب

خرّت تشمّه او تجذب الحسرات*** اولن المدلل بطل الونات

صاحت يعمّه حيلي الولد مات*** والله فجعني متوسد اتراب

* * *

ص: 656

قال الله تعالى في كتابه المجيد : ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ (1) انّ هذه الآية المباركة صريحة وجلية في أنّ الصحابة سينقلبون على أعقابهم بعد وفاة الرسول مباشرة ولا يثبت منهم إلا القليل كما دلّت على ذلك الآية في تعبير عنهم : أي عن الثابتين الذين لا ينقلبون بالشاكرين فالشاكرون لا يكونون إلا قلة قليلة كما دلّ على ذلك قوله سبحانه وتعالى ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ .

وكما دلّت عليه أيضاً الأحاديث النبوية الشريفة التي فسرت هذا الانقلاب وكون انّ الله تعالى لم يبيّن عقاب المنقلبين على أعقابهم في الآية الكريمة واكتفى بتمجيد الشاكرين الذين استحقوا الثواب فإنّ هذا لا يدلّ على أنّ المنقلبين لا يستحقون العقاب بمجرد سكوت الآية عن ذلك بل أنه من المعلوم بالضرورة أنّ المنقلبين على الأعقاب محرومون من ثواب الله مستحقون لعذابه.

كما أنّه لا يمكن تفسير الآية الكريمة بطليحة وسجاح والأسود العنسي وذلك حفاظاً على كرامة الصحابة ، فهؤلاء قد انقلبوا وارتدوا عن الاسلام وادّعوا النبوّة في حياته (صلی الله علیه وآله وسلم)وقد حاربهم رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وانتصر عليهم، كما لا يمكن تفسير الآية الكريمة مالك بن نويرة وأتباعه الذين منعوا الزكاة في زمن أبي بكر لعدة أسباب، منها : أنهم إنّما منعوها ولم يعطوها إلى أبى بكر تريّتاً منهم حتى يعرفوا حقيقه الأمر، إذ إنّهم حجوا مع رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)في حجة الوداع وقد بايعوا الإمام علي بن أبي طالب في غديرخم بعد ما نصبه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)للخلافة كما بايعة أبوبكر نفسه، ففوجئوا عند قدوم رسول الخليفة بنعي رسول الله وطلبه الزكاة باسم الخليفة الجديد أبي بكر، وهي قضية لا يريد التاريخ الغوص في أعماقها حفاظاً على كرامة الصحابة أيضاً، ومنها : أنّ مالكاً وأتباعه مسلمون شهد بذلك عمر وأبوبكر نفسه وعدة من

ص: 657


1- سورة آل عمران : 144.

الصحابة الذين أنكروا على خالد بن الوليد لعنه الله قتله مالك الوليد لعنه الله قتله مالك بن نويرة والتاريخ يشهد أنّ أبا بكر أدّى دية مالك لأخيه متمّم من بيت مال المسلمين واعتذر له عن قتله ومن المعلوم أن المرتد عن الإسلام يجب قتله ولا تؤدى ديته من بيت المال، ولا يعتذر عن قتله .

والمهم أنّ آية الانقلاب تقصد الصحابة مباشرة الذين يعيشون معه (صلی الله علیه وآله وسلم)في المدينة المنورة وترمي إلى الانقلاب مباشرة بعد وفاته(صلی الله علیه وآله وسلم) بدون فصل والأحاديث النبوية توضّح ذلك بما لا يدع مجالاً للشك وقد ذكرها العلماء في كتب الحديث والتفسير وغيرها فمن أراد معرفة ذلك فليرجع إلى تلك الكتب . كما انّ التاريخ أيضاً خير شاهد على الانقلاب الذي وقع بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وسوف نذكر مزيداً من الآيات والأحاديث التي تدلّ على صحة ما ذكرنا إلا ان القوم لم يلتزموا ويسيرو على نهجها وكما كان المتقدمون قد نقضوا بيعة علي الله فقد اقتدى المتاخرون بهم في عدم الاعتناء بقول الله ورسوله في حق علي عليه الصلاة والسلام وزاد المتقدمون على المتأخرين بتجريع الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)الغصص والمحن حتى كان يتمنى الموت ساعة بعد أخرى.

يقول ابن عباس :إنّه لما نزل قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾(1) قال : رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): ليتني أعلم متى يكون ذلك . وقال سيّدنا الأمين : نقلاً عن كتاب الاستيعاب بسنده عن أبي ذؤيب الهذلي قال : بلغنا انّ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) عليل فاستشعرت حزناً وبت بأطول ليلة حتى إذا كان قرب السحر أغفيت فهتف بي هاتف وهو يقول :

خطب أجل أناخ بالاسلام*** بين النخيل ومعقد الآطام

قبض النبي محمد فعيوننا*** تذري الدموع عليه بالتسجام

وجاء في رواية : فوثبت من نومي فزعاً فقدمت المدينة ولأهلها ضجيج

ص: 658


1- سورة الزمر: 30

بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام فقلت من ؟ فقيل : قبض رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).

ورحم شاعر آل محمد الحاج ملا عبد الحسين العرادي فلقد أجاد بما أفاد في نظمه للحادثة المؤلمة العظيمة حيث قال :

بالأرض رجه او بالسما ضجه او زلزال ***من مات ابو ابراهيم لمصابه العرش مال

و ناحت على امصاب الرسول الانس والجان*** وام الحسن لبست يوسفه اثياب لحزان

وخرّت على بوها تحن والدمع هتان***واتصيح قبلك ريت نعشي يا الولي انشال

يا ليتني قبلك ذقت كاسات المنية *** اولا شفت دارك من ضوى نورك خليه

نصبح ابمأتم يا الولي او نمسي ابعزيه ***طول العمر والعمر بعدك ليت لا طال

ريت العمر لاطال ساعة عقب فرقاك *** والله يبويه عيشة القشره بلياك

فتح اعيونك يا الولي او عاين يتاماك *** يمك يهملون المدامع غيث هطال

فقدك يبو ابراهيم خلاني نحيله ***جسمي انتحل والثوب ما اقدر أشيله

آني العزيزة أظل من بعدك ذليله*** الله يساعدني او يساعد خير لعمال

يا بو الحسن بهداي عالمغتسل مدوه *** او بدموع عيني جسم ابوابراهيم غسلوه

ص: 659

تحت الترب بدر العوالم لا تدفنوه*** صفوة العالم لا تدفنونه بلرمال

اونادت على الحسنين يا حلوين لطباع*** هالساع جدكم يندفن قوموا للوداع

لا ترتجون اتعاينونه عقب هالساع*** عزّي او عزكم يا يتامى قوّض او شال

او من راد ابو الحملات بچفانه يلفه ***نادى على الزهرا ودمع عينه يذرفه

قامت تجر حسره او هوت فوقه ابلهفه***او شبكت عشرها اعلى النبي او منها الجلد زال

ونادت يمخدوم لملاك او داعة الله*** يتروح عنّي للحود اوداعة الله

لقضي أيامي بالحزن يا حجة الله *** طود الصبر عقبك يبویه اتزلزل او مال

ثم نادت سلام الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها بصوت ضعيف ودموع غزيرة جارية ولسان حالها يقول :

قل صبري وبان عني عزائي *** بعد فقدي لخاتم الأنبياء

عين يا عين اسكبي الدمع سيحا ***ويك لا تبخلي بفيض الدماء

يا رسول الإله يا خيرة الله*** وكهف الأنام والضعفاء

قد بكتك الجبال والوحش والطير*** وكذا الأرض بعدهم والسماء

وبكاك الحجون والركن والمشعر*** العظيم والبطحاء

وبكاك المحراب والدرس للقرآن*** في الصبح معلناً والمساء

وبكاك الاسلام إذ صار في الناس*** غريباً من سائر الغرباء

لو ترى المنبر الذي كنت تعلوه*** قد علاه الظلام بعد الضياء

ص: 660

ثم قالت(عليه السلام) :

كنت السواد لناظري*** فعمى عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت*** فعليك كنت أحاذر

***

وبكته (صلی الله علیه وآله وسلم)صفية بنت عبدالمطلب وهي تقول :

ألا يا رسول كنت رجاءنا*** وكنت بنا براً ولم تك جافيا

وكنت رحيماً هادياً ومعلماً*** لبيك عليك اليوم من كان باكيا

كأن على قلبي لذكر محمد ***وما خفت من بعد النبي المكاويا

أفاطم صلى الله ربّ محمد*** على جدتٍ أمسى بيثرب ثاويا

فدى لرسول الله أمي وخالتي ***وعمي وآبائي ونفسي وماليا

صدقت وبلغت الرسالة صادقاً*** ومت صليب العود أبلج صافيا

فلو أنّ رب الناس أبقى نبيّنا*** سعدنا ولكن أمره كان ماضيا

عليك من الله السلام تحية*** وأدخلت جنات من العدن راضيا

أرى حسناً أيتمته وتركته*** ويبكي حسين جده اليوم نائيا

***

وقال حسّان بن ثابت الأنصاري يرثى النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)بقوله :

ما بال عينك لا تنام كأنّما*** کحلت مآقيها بكحل الأرمد

جزعاً على المختار أصبح ثاوياً*** يا خير من وطىء الحصى لا تبعد

وجهي يقيك الترب لهفي ليتني ***غيّبت قبلك في بقيع الفرقد

نور أضاء على البرية كلها*** من يهد للنور المبارك يهتد

والله أسمع ما بقيت بها لك*** الا بكيت على النبي محمد

صلّى الإله ومن يحف بعرشه*** والطيبون على المبارك أحمد

***

وقال سواد بن قارب يرثي النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)بقوله :

ص: 661

ابقى لنا فقد النبي محمد*** صلى عليه الله ما يعتاد

حزناً لعمرك في الفؤاد مخامراً*** أم هل لمن فقد النبي فؤاد

كنّا نحلّ به جناباً ممرعاً*** جف الجناب فأجدب الرواد

فبكت عليه أرضنا وسماؤنا*** وتصعدت وجداً به الأكباد

لو قيل تفدون النبي محمداً*** بذلت له الأموال والأولاد

***

وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب بن هاشم يرثي النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)بقوله :

أرقت فبات ليلي لا يزول*** وليل أخي المصيبة فيه طول

فأسعدني البكاء وذاك فيما*** أصيب المسلمون به قليل

لقد عظمت مصيبتنا وجلت*** عشية قيل قد قبض الرسول

وأضحت أرضنا ممّا عراها*** تكاد بنا جوانبها تميل

فقد الوحي والتنزيل فينا*** يروح به ويغدو جبرئیل

وذاك أحق ما سالت عليه*** نفوس الناس أو كادت تسيل

نبی كان يجلو الشكّ عنّا*** بما يوحى إليه وما يقول

ويهدينا فلا نخشی ضلالاً*** علينا والرسول لنا دليل

***

وهكذا عظمت المصيبة وجلت بفقده (صلی الله علیه وآله وسلم)ولقد كان اليوم الذي قبض فيه (صلی الله علیه وآله وسلم) يوم جزع وحزن شديدين على الأمة الاسلامية ولا يوجد مثله إلا يوم عاشوراء اليوم الذي قتل فيه سبطه وريحانته أبو عبدالله الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام وأهل بيته الذين لم يوجد لهم على وجه الأرض شبيه ، فلقد كانوا مصابيح الدجى وأعلام التقى ، كلهم شبّان أعمارهم لا تتجاوز العشرين قد برزوا للقتال واحد تلو الآخر، ونحن في هذه الجلسة المباركة قد ذكرنا في مقدمتها القاسم فقط، وهنا نخص بالذكر منهم من استشهد معه(عليه السلام) من أولاد أخيه الإمام الحسن(عليه السلام) ثم نعيد الكرة على مصرع القاسم(عليه السلام) فلنستمع إلى المحدّث المازندراني يحدثنا بذلك يقول

ص: 662

الشيخ المذكور نقلاً عن عن كتاب الناسخ : إنّ لمولانا الامام الحسن(عليه السلام) عشرين ولداً وذكر أساميهم بهذا التفصيل : زيد وحسن وحسين الأثرم وعلي الأكبر وعلي الأصغر وجعفر وعبدالله الأكبر وعبدالله الأصغر والقاسم وعبدالرحمن وأحمد وإسماعيل ويعقوب ، وقال : قال ابن الجوزي: إن إسماعيل ويعقوب كانا من جعدة بنت الأشعث وهو متفرد بهذا القول وليس بمعلوم لأنّ جعدة ليس لها ولد من الامام الحسن(عليه السلام) وعقيل ومحمد الأكبر ومحمد الأصغر وحمزة وأبوبكر وعمر وطلحة والذين كانوا منهم مع الامام الحسين(عليه السلام) سبعة : الحسن المثنى وعبد الله الأكبر وعبدالله الأصغر والقاسم وعمر بن الحسن وأبوبكر بن الحسن، وفي خبر : كان زيد بن الحسن مع الحسين(عليهم السلام)والله العالم ، قال : وقتل منهم مع الحسين(عليه السلام)خمسة ونجا منهم اثنان عمر كان مع الاسراء والحسن المثنّى.

ونقل شيخنا المذكور نقلاً عن كتاب البحار وكان الحسن بن الحسن حضر مع عمه الحسين (عليه السلام)اليوم الطفّ وله من العمر اثنتان وعشرون سنة وقاتل في نصرة عمه الامام الحسين(عليه السلام)قتالاً شديداً وقتل سبعة عشر رجلاً وأصابه ثمانية عشر جراحة فوقع جريحاً وبه رمق من الحياة، فلما قتل الحسين(عليه السلام)وأسر الباقون من أهله جاء أسماء بن خارجة فانتزعه من بين الأسارى وقال : لا يوصل إلى ابن خولة أبداً .

فقال عمر بن سعد لعنه : دعوا لأبي حسّان ابن أخته ، فجاء به إلى الكوفة وهو جريح فداواه وبقي عنده ثمانية أشهر أو سنة على ما رواه ابن قتيبة ورجع إلى المدينة، وكان عمر بن الحسن مع الأسارى فقال له يزيد لعنه الله : أتصارع ابني هذا يعني خالداً ؟ فقال له : ما في قوّة للصراع ولكن أعطني سكيناً وأعطه سكيناً فإما أن يقتلني فألحق بجدّي رسول الله وأبي علي بن أبي طالب وإما أن أقتله فألحقه بجدّه أبي سفيان وأبيه ،معاوية، فتأمل يزيد لعنه الله وقال : شنشنة أعرفها من أخزم، هل تلد الحية إلا الحيّة ؟

ونقل المحدّث المذكور : انّ من جملة من قتل مع عمه الحسين(عليه السلام) من أولاد

ص: 663

الامام الحسن(عليه السلام) أحمد بن الحسن، وله من العمر ستة عشر سنة، وكان صبيح المنظر حسن الوجه، وكان جسوراً على الطعن والضرب في ميدان الكفاح والحرب، فبرز وهو يقول:

اني أنا نجل الامام ابن علي*** أضربكم بالسيف حتى يفلل

نحن وبيت الله أولى بالنبي *** أطعنكم بالرمح وسط القسطل

فقلب الميمنة على الميسرة والميسرة على الميمنة حتى قتل ثمانين فارساً ورجع إلى الامام الحسين(عليه السلام)وقد غارت عيناه من شدّة العطش فنادى : يا عماه هل من شربة أبرد بها كبدي وأتقوى بها على أعداء الله ورسوله ؟

فقال له الحسين(عليه السلام) : يا ابن أخي اصبر قليلاً حتى تلقى جدك رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فيسقيك شربة من الماء لا تظمأ بعدها أبداً، فرجع الغلام إلى القوم فحمل عليهم وأنشأ يقول:

أصبر قليلاً فالمنى بعد العطش*** فان روحي في الجهاد تنكمش

لا أرهب الموت إذا الموت وحش*** ولم أكن أكن عند عند اللقاء ذا رعش

قال : ثم حمل على القوم فقتل منهم خمسين فارساً وهو يرتجز ويقول:

إليكم من بني المختار ضرباً*** يشيب لهوله رأس الرضيع

يبيد معاشر الكفّار جمعاً ***بكلّ مهند عضب قطيع

ثم حمل على القوم فقتل منهم ستين فارساً ، ثم قتل صلوات الله وسلامه عليه.

قال المحدّث المذكور ومن أولاد مولانا الامام الحسن صلوات الله وسلامه عليه الذين قتلوا مع الامام الحسين(عليه السلام)في الطفّ أبوبكر بن الحسن، وهو أخو القاسم(عليه السلام) الأبيه وأمه واسمه عبدالله الأكبر برز وهو يرتجز ويقول:

إن تنكروني فأنا ابن حيدره*** ضرغام اجام وليث قسوره

على الأعادي مثل ريح صرصره*** أكيلكم بالسيف كيل السندره

وحمل على القوم وقتل منهم أربعة عشر فارساً وكمن له لعين يقال له هانىء

ص: 664

بن ثبيت الحضرمي وقتله فاسود وجهه لعنه الله .

أمّا سيّدنا وحبيب قلوبنا القاسم بن الحسن عليهما الصلاة والسلام فقد ذكر الشيخ المذكور وغيره من أعلام المحدّثين أنّه لما آل أمر الحسين(عليه السلام)إلى القتال أصحابه (عليهم السلام)ووقعت النوبة على أولاد أخيه، جاء القاسم بن لأمضي إلى هؤلاء الكفرة.

بكربلاء وقتل جميع الحسن(عليه السلام) وقال : يا عم

فقال له الحسين(عليه السلام): يا ابن الأخ أنت من أخي علامة وأريد أن تبقى لي لأتسلّى بك ولم يعطه الإجازة للبراز، ولله درّ الحاج الملا عبدالحسين البحراني العرادي قدس الله نفسه الزكية فإنّه أجاد بما أفاد في هذه المقطوعة الشعرية التي تصف لنا كيف تقدم القاسم (عليه السلام)إلى عمّه لطلب الإجازة، فهو يقول :

عزّم على املاقا العدى ضنوة المسموم*** وأقبل يريد الإذن من عمّه المظلوم

وسلّم على عمّه او وقف والدمع سجام***ايقله يحمّاي الشريعة ونور لسلام

نفسي يعمي كرهت اقعودي بالخيام ***وعشقي ادخول المعركة وامقابل القوم

هذي عمامي امصرعه جدام عيني*** والاطفال بالصيحات والله امذوّبيني

كل واحدة اتنادي على زينب اسقيني*** چبدي فطرها العطش يا عمّه والهموم

والماي بالشاطي ويميني تحمل السيف*** ارخصني أجيب الماي أروّي هالملاهيف

والله لخلّي هالعساكر ترجف ارجيف*** والماي اجيبه يا خليفة بحر العلوم

ص: 665

ضمّه الصدره والقلب فايض بالاحزان*** وقله كفو لكن يعقلي ارجع الصيوان

لو بالعطش تهلك يبعد اهلي الرضعان*** أهون عليّ من شوفك امخضب بالدموم

وانت العلامة من اخويه الحسن يا شاب*** لتهيج احزاني عليه ارجع للاطناب

ارحم شيبتي اللي اتمرّغت بغبار المصاب ***ظل عقب ذبحي تحمي زينب وام كلثوم

لتزيد قلي امصاب يكفيني الذي بيّه*** يوقد مثل حرّ السعير او بيش اطفيه

لتزيد عمك حزن بس هالحزن ييزبهه *** اطيور المنيه على اخيامي دايم اتحوم

بس یا دهر لوعتني وفتيت قلبي*** واتحنّت اضلوعي حزن وازداد كربي

برجال سعدي يا دهر كيف اغدرت بي*** وخلّيت لاهوب الحزن بحشاي مضروم

خان الدهر بيه وجرعني المصايب*** غربه وعطش وانظر ارجالي بالترايب

واسمع ابوسط الخيم ضجات الغرايب*** في هالنوايب طود صبري راح مهدوم

***

يا ثمر مهجة فاطمه الزهرا الزجيه*** ارخصني يعمّي اطب ميدان المنيه

هذي العشيرة اتصرّعت وانفت لنصار*** وانت بلا امساعد وجيش الكفر جرّار

ارخصني أريد او في ابعهدي ياحمار الجار*** ماخوذ عهدي انذبح بالغاضريه

ص: 666

ذوّبت قلبي ضجت اطفالك بالخيام ***وحده تحن او واحدة تلطم على الهام

كلهم عطاشا وعالنهر ساقي الحرم نام*** عقب يعمي عيشتي ماهي هنيه

ناداه یا ریحانة المسموم يبني ***حچيك يبعد ارويحتي فتني وشعبني

نحلت جسمي يا عزيزي وذكرتني*** بمصيبه اللى قطعت جبدة الدعيه

بعده حزن افرق ابوك ابليّة احشای*** اتمنيت ابو اكفوف السخيه اليوم وياي

نحفر قبر وانجهز العباس بهداي*** و انلحده ابقبره او ننصب له عزيه

لو چان ابو محمد يخلي نور لقبور*** ويحضر ابوادي كربلا والسيف مشهور

ويعود أبو فاضل او بيده العلم منشور*** ما رجع واحد من عساكر بني اميه

لكن اشبيدي أعلى الدهر فرّق اللمّه*** واحد من اخواني قضى نحبه ابسمه

والثاني اعلى المشرعه امخضب ابدمه*** نايم على التربان والخيمه خليه

والله يجاسم شاب راسي والقلب ذاب***واتحنّت اضلوعي ونحلني فقد لحباب

وانت تريد اتزيد عمك حزن ومصاب*** عوّد يجاسم للمخيّم يا شفيه

ظل بالخيم سلوه لبن عمّك الوجعان*** تحميه من جور العدى وتكفل النسوان

واتباري الاطفال واطفي النيران*** من تشتعل بالخيم يا زين السجيه

***

يقول المحدث المذكور : فرجع القاسم بن الحسن عليهما أفضل الصلاة والسلام إلى خيمته فجلس مهموماً مغموماً باكي العين حزين القلب متألماً ووضع رأسه على رجليه وذكر أنّ أباه عليه الصلاة والسلام قد ربط له عوذة في كتفه الأيمن وقال له : إذا أصابك ألم وهم فعليك بحل العوذة وقراءتها وافهم معناها واعمل بكل ما تراه مكتوباً فيها . فقال القاسم (عليه السلام) لنفسه قد مضى عليَّ سنون ولم يصبني مثل هذا الألم فحلّ العوذة وفضّها ونظر إلى كتابتها وإذا فيها: يا ولدي يا قاسم أوصيك انّك إذا رأيت عمك الحسين(عليه السلام) في كربلاء وقد أحاطت به الأعداء فلا تترك البراز والجهاد لأعداء الله وأعداء رسول الله ولا تبخل عليه بنفسك، وكلّما نهاك على البراز عاوده ليأذن لك في ذلك لتحظى بالسعادة الأبدية.

ص: 667

فقام القاسم(عليه السلام)من ساعته وأتى عمه الحسين (عليه السلام)وعرض عليه ما كتبه الامام الحسن(عليه السلام) ، فلما قرأ الحسين صلوات الله وسلامه عليه العوذة بكى بكاء شديداً ونادى بالويل والثبور وتنفّس الصعداء وقال : يا ابن الأخ هذه الوصية لك من أبيك،

وعني منه و منه . وصية أخرى لك ولابد من إنفاذها، ثم مسك الحسين(عليه السلام) على يد القاسم(عليه السلام)وأدخله الخيمة ، ثم قال لأم القاسم أوليس للقاسم ثياب جدد ؟ قالت: لا، فقال لأخته زينب(عليها السلام) : ائتيني بالصندق، فأتته به ووضع بين يديه ففتحه وأخرج منه قباء الحسن(عليه السلام) وألبسه القاسم(عليه السلام)ولف على رأسه عمامة الحسن ومسك بيد ابنته التي كانت مسماة اللقاسم الا فعقد له عليها وأفرد له خيمة وأخذ بيد البنت ووضعها بيد القاسم (عليه السلام)، ثم انه عليه الصلاة والسلام قال لزينب(عليها السلام) : أخيه زينب ناد في بنات رسول الله هلمن لكي نزفّ الشباب، فخرجن بنات الوحي والرسالة تتوسطهنّ السيدة الجليلة زينب العقيلة لزفاف القاسم بن الحسن فما أن مررت على القتلى سيما القتيل الذي على المشرعة أبي الفضل العباس إلا وأجهشن بالبكاء والعويل وهم ينادون واعباساه، ولسان حالهن يقول :

يا الذي اعلى المشرعة ظلت رميّه جشته*** هذا جاسم زافينه انهض او عاین زقته

كان يا كبش الكتيبة بيك للنهضة جلد*** فزع اخوانك او شوروا بعجل زقواها الولد

وصل از فافه ونا مفرود ما عندي أحد*** بس حريم اتجرونه والقلوب امفتته

قوم بسك يا قمر عدنا من نوم التراب***وقض الشبال الهواشم والبسوا جديد الثياب

والذوايب سرّحوها او قوموا انزفها الشباب*** وانتخوا جدّام جاسم كان تنشف دمعته

ص: 668

وزينب تقله يبوا سكينة فجعتنا بها الندى*** عرس عدنا اشلون يا ابن امي حزنا اتزيده

الولي تنخي جنايز عالوطيه امدّده ***او دمع ابن أخي جرى اوحسها تنخي زوجته

ورمله ما بين النساء تلطم صدرها معوله*** ردت انا ازفاف الولد بوجود قومه وكل هله

ما دريت ايصير عرس ابني ابوادي كربلا*** و اينظر ابعينه على الرمضا عمامه واخوته

شلون يا مظلوم عرسه وانته معدوم النصير*** والعرس ويا الجنازة يوم واحد ما يصير

جذب حسرة او قال أنادري بها لولد عمره قصير*لكن ابن أمي وصاني اشلون اخلي اوصية

هل دمع جاسم وصاح القلب يا القلب يا عمي انکسر*لا تزفوني يعمي انكان انا عمري قصير

وخلني اطلع للمنيّة وانتوا حفر والي قبر***ضمه الصدره او بكوا والكل يجذب حسرته

ثم نادى سيدالشهداء الله : واقاسماه واحبيباه ، وانور عيناه ولسان حاله يقول لزينب:

گومي يزينب عمته*** اونادبني عدنان

ابنفسي اشوفن زفّته*** ما بين هالشبّان

لازم يحضرنه اولیده*** يحنونه او كلهم يزقونه

عريس شنهي نومته***متناسب النومه

گو من نلف اعمامته*** وانلبسه اهدومه

ص: 669

وانغص بله الحومه وانحني*** اجفوفه والحنّه مديوفه

كامن طبك كلهن واجن*** والحوفه نصبنها

او رملة او رباب ايهلهلن ***واشمعته علگنها

***

هنيئا هنيئا لاهل الوغى*** بلبس الجمال ومعنى الصفا

وهل لابساً حلل الاصطفا*** كمثل حسين فتى المصطفى

ومن لأبيه تذلّ الصعاب

فلم ينس من بات في رمسه***ولما تفكر في نفسه

له الموت كشرعن خرسه*** تنفص للشاب في عرس

ونادى هلموا نزف الشباب

فذا نور عينى وبدر الزمن*** لأفديه روحي وما املكن

فمن هو يا صحبتي ابن من*** هو ابني ومهجة قلب الحسن

جواد نداه كفيض السحاب

ومذ صاح فيها ابن حامي الحما*** هلموا نزف لمن قد سما

له رجّت الأرض ثم السما*** وصحبته سبحت في الدما

جيمعا وناح عليه الكتاب

***

سمع

قال المحدث المذكور: انه لما زق الامام الحسين(عليه السلام)القاسم بن الحسن(عليه السلام)على سكينة وخرج عنهما جعل القاسم ينظر إلى ابنة عمه ويبكي حتى الأعداء يقولون : هل من مبارز.

فرمى بيد زوجته وأراد الخروج من الخيمة فجذبت ذيله ومانعته عن الخروج وهي تقول له: ما يخطر ببالك وما الذى تريد أن تفعله .

قال لها : أريد ملاقاة الأعداء فإنّهم يطلبون البراز واني أريد ملاقاتهم فلزمته ابنة عمه فقال لها : خلى ذيلي فإن عرسنا أخرناه إلى الآخرة فصاحت وناحت وأنت

ص: 670

من قلب حزين ودموعها جارية على خديها وهي تقول: يا قاسم أنت تقول : عرسنا أخرناه إلى الآخرة وفي القيامة بأي شيء أعرفك وفي أي مكان أراك ؟

فمسك القاسم يده وضربها على ردنه وقطعها وقال : يا بنت العم اعرفيني بهذه الردن المقطوعة.

قال : فانفجع أهل البيت بالبكاء لفعل القاسم وبكوا بكاء شديداً ونادوا بالويل والثبور .

قال المحدث المذكور نقلاً عمّن روى ذلك فلما رأى الحسين(عليه السلام) ان القاسم

يريد البراز قال له(عليه السلام) : يا ولدي اتمشي برجلك إلى الموت.

قال : وكيف لا ياعم وأنت بين الأعداء بقيت وحيداً فريداً لم تجد محامياً ، ولا صديقاً روحي لروحك الفداء ونفسي لنفسك الوقاء، ثمّ إن الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه شق أزياق القاسم وقطع عمامته نصفين ثم أدلاها على وجهه المبارك كأنه أراد أن يصون القاسم من إصابة عيون الاعداء صيانته عن حرارة الشمس، ثم ألبسه ثيابه بصورة الكفن وشدّ سيفه بوسط القاسم وأركبه على فرسه وأرسله إلى المعركة.

ثمّ إن القاسم(عليه السلام)قدم إلى عمر بن سعد لعنه الله وقال ياعمر: أما تخاف الله ؟ أما تراقب الله يا أعمى القلب ؟ أما تراعي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).

فقال عمر بن سعد لعنه الله تعالى : أما كفاكم التبختر والتجبر ؟ أما تطيعون يزيد ؟

فقال القاسم عليه أفضل الصلاة والسلام : لا جزاك الله خيراً تدعي الاسلام و آل رسول الله عطاشى ظماء قد اسودت الدنيا بأعينهم ؟ فوقف هنيئة فما رأى أحداً يقدم إليه فرجع الى الخيمة فسمع صوت ابنة عمه تبكي.

فقال لها : ها أنا جئتك ، فنهضت قائمة على قدميها وقالت: مرحباً بالعزيز الحمد لله الذي أراني وجهك قبل الموت، فنزل القاسم إلى الخيمة وقال : يا بنت العم ما لي اصطبار أن أجلس معك والكفّار يطلبون البراز فودعها وخرج وركب جواده

ص: 671

وحماه في حومة الميدان، ثم طلب المبارز فجاء إليه رجل يعد بألف فارس فقتله القاسم

(عليه السلام) ولو كان له أربعة أولاد مقتولين على يد القاسم(عليه السلام)فضرب القاسم (عليه السلام)فرسه بسوط وعاد يقتل الفرسان إلى أن ضعفت قوته فهم بالرجوع إلى الخيمة وإذا بالأزرق الشامي لعنه الله قد قطع عليه الطريق وعارضه فضربه القاسم (عليه السلام)على أم رأسه فقتله وسار القاسم(عليه السلام)إلى الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وقال: يا عماه العطش العطش أدركني بشربة من الماء فصبره الحسين (عليه السلام)وأعطاه خاتمه الشريف وقال حطّه في فمك ومصه .

قال القاسم(عليه السلام) : فلما وضعته في فمي وإذا به كأنه عين ماء فارتويت وانقلبت إلى الميدان ثم جعل همته على حامل اللواء وأراد قتله فأحاطوا به بالنبل فوقع القاسم

(عليه السلام) على الأرض فضربه شيبة بن سعد الشامي بالرمح على ظهره فأخرجه من صدره الشريف فوقع القاسم(عليه السلام)يخور في دمه ونادى يا عم أدركني، فجاءه الامام الحسين وقتل قاتله وحمل القاسم(عليه السلام)إلى الخيمة فوضعه فيها ففتح القاسم (عليه السلام) عينيه فرأى الامام الحسين(عليه السلام)قد احتضنه وهو يبكي ويقول: يا ولدي لعن الله قاتلك يعزّ والله على عمك أن تدعوه وأنت مقتول ، يا بني قتلوك الكفار كأنهم ما عرفوك ولا عرفوا من جدك وأبوك ، ثم إن الامام الحسين(عليه السلام) بكى بكاء شديداً وجعلت ابنة عمه تبكي وجميع من كان منهم لطموا الخدود وشققوا الجيوب ونادوا بالويل والثبور وعظائم الأمور.

وقال العلامة المجلسي في بحاره في كيفية مبارزة القاسم(عليه السلام): إنه ثم خرج القاسم بن الحسن عليهما الصلاة والسلام وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم فلما نظر إليه الامام الحسين(عليه السلام)قد برز اعتنقه وجعلا يبكيان حتى غشي عليهما ثم إنهما

(عليهم السلام) شبك كلّ واحد منهما على الآخر وهما ينحبان يقول شاعر أهل البيت المرحوم الشيخ محمد نصار العراقي رضوان الله تعالى عليه وهو يصف حالتيهما في ذلك : بس شافه شبك فوگه او تباچوا*** اختنگوا بالبواچي اوما تحاچوا

لمن غابت الروح او تناجوا*** على التربان ويلي والوكت حر

ص: 672

ولما بدت الروح ابعمه الابية*** طلب جسام رخصة او ما يخليه

وقع ويلي يحبّ ايده او رجليه***درخصني يعمي ما اكدر اصبر

یگله ابگه لبن عمك تباريه***علیل او ما بگه غير النفس بيه

یعمي اخلافنا بلچن تسليه*** وظن هيهات يتسل ويستر

***

يقول مولانا المجلسي(رحمه الله) : قلم يزل الغلام يقبل يديه ورجليه حتى أذن له الامام الحسين(عليه السلام)فخرج للبراز ودموعه تسيل على خديه وهو يقول:

إن تنكروني فأنا ابن الحسن*** سبط النبي المصطفى والمؤتمن

هذا حسين كالأسير المرتهن***بين أناس لاسقوا صوب المزن

* **

جر السيف والزانة نكثها*** أو طفح على الملزومة او فرثها

جثت بالروس والروس ابجثتها*** اسم الله عليه خلاها تعثر

تبردق فوق مهره و گام يومي*** او گال الزانته على الخيل حومي

رفها او گال للرايات گومي***عن دربي او صبري أتياه بالبر

يخز عين الطليع او گال نجل*** ابظلمة المذهب واج مشعل

من يلمح شعاع السيف يثول*** حمام أو من يشوف الطير يضجر

من يدني او عزرائيل بيده*** غيث وابصواعجها رعيدة

گانوص او تلولح على الصيدة*** ایظهره اشگر شمر فرسه امسفر

انگص اشراك نعله او گام يلويه*** والازدي اجاه والسيف مخفيه

ضرب راسه او جاسم مادري بيه*** خر اوصاح يا عمي المشكر

على ابن الحسن یا گلبي تفطر***خر اوصاح يا عمي المشكر

بس ما سمع شرعبت بيه*** چتل چتال جسام او سدر ليه

لگاه ايعالج او يبحث ابرجليه*** يلوج ابروحه اودمه يفور

ص: 673

بجا اوناداه يا جاسم اشبيدي*** يريت السيف كبلك حزور يدي

هان الكم تخلوني وحيدي*** على اخيمي يعمي الخيل تفتر

يعمي اشگالت من الطبر روحك*** يجاسم ما تراويني اجروحك

لون ابكي يعمي چنت انوحك ***ابگلب مثل الفضا وبدمع محمر

حط حسین صدره ابصدر جسام*** شبك فوگه او شاله اليم الخيام

صدره ابصدر عمه ارخط بالجدام*** بالتربان وحسين ايتعثر

جابه او مدده ما بين اخوته*** بچا عدهم يويلي وهم موته

وبس ما سمعن النسوان صوته*** اجت سكنه تصيح الله واكبر

ثم إن السيدة الجليلة سكينة لما أن نظرت إلى ابن عمها محمولاً على كفي أبيها الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام جعلت تبكي ولسان حالها يقول مخاطبة عمّتها زينب بهذا الخطاب:

قومي یعمّه معرسی***جاب الشهيد اجنازته

یا ساعد الله بوعلي*** جيفه مذابت مهجته

***

شمس منيرة وانطفت***حسفه ابلقبور اختفت

سكنة أبعرسها ما اشتفت***یاليت لاجت ساعته

***

ابتزع يعمه هالحلي***جاسم مظن ايرد إلي

متتلام سكنه للولي ***للجيب لوهی شقته

***

للشاب قومي نلثمه*** انخضب شعرنا من دمه

وان كان مغشي انکلمه*** يمكن صحى من غشيته

***

یا شاب يا ولد الحسن*** بالرمح يا وسفه انطعن

ص: 674

ترحل وجسمك ما اندفن ***ما حد يمده ابحفرته

***

قلبي امتلا لجلك فرح*** همي انجلا صدري انشرح

جاسم يوسفه تنذبح*** قشعي یعمه خيمته

***

يا صاحب الوجه الحسن ***ما صار عرسك في الزمن

من فصلوا ثوبك كفن*** جاسم نصبنا اجنازته

***

اقعد يمصباح الظلم*** واحمل عن احسين العلم

یا سور عزّي وانهدم ***عيني عمتها ذبحته

وكأني بلسان حالها يقول:

يا معرس لا اتعرس حانت ايام الأجل*** تخضبونه والمنيّه تگول زقوه ابعجل

ما جرى في الدهر كله مثل عرس ابن الحسن***لبسه المظلوم عمه يوم تزويجه كفن

والذي امخضب اكفوفه يجذب الونه ويحن*** واوقدوا صيوان عرسه نار حزن تشتعل

ناس اتزقه او ناس ناصبین اجنازته*** عاف بت عمه الحزينة والمنيه نادته

عرسي اتبدّل مصايب ليت ماجت ساعته***مثل حظي ما يناله عافني وعنّي رحل

قلت انا بالولد جاسم يستوي دهري اسعود ***عافني في فرد ساعه واستحب نوم اللحود

ص: 675

عمتي قشعي اخيامه ما اظن جاسم يعود*** منقطع رجواي منه كفنه سافي الرمل

والمصايب يوم جابه عمه احسين الشهيد*** شاب ما اتهنّا ابشبابه ومدّده فوق الصعيد

وشافت اسكينه لمدلّل مركز انبال وحديد*** نادته ياليت عمري قبل ميحانه وصل

يا لولد من فيض دمك مني لخضب للكفوف*نترك سكينه يجاسم ضايعه برض الطفوف

يكسر الخاطر يجاسم حال سكنه لو تشوف **تجري المدمع ابخدها لجل فقدك يالبطل

ص: 676

الجلسة الثالثة والعشرون

بطيبة رسم للرسول ومعهد*** منير وقد تعفو الرسوم وتهمد

ولا تنمحي الآيات من دار حرمة*** بها منبر الهادي الذي كان يصعد

وواضح آيات وباقي معالم*** وربع له فيه مصلّى ومسجد

عرفت بها را رسم الرسول وعهده*** وقبراً به واراه في الترب مُلحد

ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت*** عيون ومثلاها من الجن تسعد

مفجعة قد شفها فقد أحمد*** فظلت لآلاء الرسول تعدد

أطالت وقوفاً تذرف الدمع جهدها*** على طلل القبر الذي فيه أحمد

فبوركت يا قبر النبي وبوركت*** بلاد ثوى فيها الرشيد المسدّد

وبورك لحد منك ضمن طيبا*** عليه بناء من صفيح منضد

لقد غيبوا حلماً وعلماً ورحمة ***عشية علوه الثرى لا يوسد

وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم*** وقد وهنت منهم ظهور وأعضد

يبكون من تبكي السماوات يومه*** ومن قد بكته الأرض فالناس اكمد

وهل عدلت يوماً رزيّة هالك*** رزيّة يوم مات فيه محمد

تقطع فيه منزل الوحي عنهم*** وقد كان ذا نور يغور وينجد

يدلّ على الرحمن من يقتدي به*** وينقذ من هول الخزايا ويرشد

إمام لهم يهديهم الحق جاهداً*** معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا

وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله*** فمن عنده تيسير ما يتشدّد

ص: 677

فبينا هم في نعمة الله بينهم ***دلیل به نهج الطريقة يقصد

عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى*** حريص على أن يستقيموا ويهتدوا

فبيناهم في ذلك النور إذ غ .دا ***إلى نورهم سهم من الموت مقصد

وأمست ديار الوحى وحشاً بقاعها*** لغيبة ما كانت من الوحي تعهد

وبالجمرة الكبرى له ثم أوحشت*** دیار وعرصات وربع ومولد

فبكي رسول الله يا عين عبرة*** ولا أعرفتك الدهر دمعك يجمد

ومالك لا تبكين ذا النعمة التي ***على الناس منها سائغ يتغمد

فجودي عليه بالدموع واعولي*** لفقد الذي لا مثله الدهر يوجد

وما فقد الماضون مثل محمد*** ولا مثله حتى القيامة يفقد

اعف واوفى ذمّة بعد ذمّة*** وأقرب منه نائلاً لا ينكد

وأكرم صيتاً في البيوت إذا انتمى*** وأكرم جداً أبطحياً يسود

وأمنع ذروات وأثبت في العلى*** دعائم عزّ شاهقات تشيد

***

الله أكبر مات سلطان البريه ***اوضجت له الاملاك في السبع العليّه

ضجت له الاملاك لمن غمض عينه*** والحور في الجنات تبكي له حزينه

وأما الأمين ايصيح بدموع هتينه*** آخر اهبوطي اليوم يا خير البريه

وارض المدينة كالسفينة ظلت اتموج*** او لملاك صاير عندها اهبوط وعروج

ومن السما ليمن صعد فوج نزل فوج*** الله أكبر مات سيدنا الشفيه

او طلعت جميع اهل المدنيه اتدق الصدور*** كلمن طلع من منزله يمشي بلا أشعور والحرم طلعت صارخه من وسط الخدور*** کلمن تنادي راح عزّج يازكيه

يا هي مصيبه من عظمها اتزلزل الكون*** والانبياء والاوصيا لجله ينوحون

ومصيبة العظمى عند هزاز لحصون*** الله ايعين المرتضى راعي الحميه

واما البتوله صارخه مشقوقة الجيب*** وتصيح لحد يا أبا القاسم يالحبيب

ص: 678

سويت في قلبي جرح ابداً فلا يطيب*** يا ليتني قبلك تعاجلني المنيه

يا بوي اولادك عقب فقد نحيلين*** كلمن يصيح أو فوق خده تهمل العين

يكسر الخاطر حالهم لنهم يتيمين*** وانا اعاينهم او عبراتي جريه

***

وكما بكى الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام على جده رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وهو صغير فقد بكى يوم الطفّ على ولده علي الأكبر شبيه جده رسول الله

(صلی الله علیه وآله وسلم)وعمره الشريف قد تجاوز الخمسين.

وكيف لا يبكي عليا وقد فقد بفقده رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)لانه عليه الصلاة والسلام كان إذا اشتاق إلى النظر إلى جده رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)نظر إلى ولده علي الأكبر فهو أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسول الله ،كما انّ علي الأكبر(عليه السلام) هو أول قتيل يوم كربلاء من آل أبي طالب،ومن هنا كانت مصيبته لها الأثر البارز على سيدالشهداء بل على عامة المحبين فلم تر عين بعد قتله النوم بل ولم تجف عين من عيون من يحمل الولاء للحسين وآل الحسين عليهم أفضل الصلاة والسلام من دموعها .

يقول بعض المحبّين في ذلك :

حجر على عيني يمر بها الكرى*** من بعد نازلة بعترة أحمد

اقمار تم غالها خسف الردى*** واغتالها بصروفه الزمن الردى

شتی مصايبهم فبين مكابد*** سماً ومنحور وبين مصفّد

سل کربلا كم من حشى لمحمدٍ*** نهبت بها وكم استجذت من يد

ولكم دم زاك أريق بها وكم*** جثمان قدس بالسيوف مبدّد

وبها على صدر الحسين ترقرقت*** عبراته حزناً لأكرم سيد

وعلى قدر من ذوابه هاشم*** عبقت شمائله بطيب المحتد

أفديه من ريحانة ريانة*** جفّت بحر ظماً وحرّ مهند

بكر الذبول على نضارة غصنه*** ان الذبول لآفة الغصن الندى

ص: 679

لله بدرٌ من مراق نجيعه ***مزج الحسام لجينه بالعسجد

ماء الصبا ودم الوريد تجاريا*** فيه ولاهب قلبه لا يخمد

لم انسه متعمّماً بشبا الضبا*** بین الكماة وبالأسنّة مرتدى

یلقی ذوابلها بذابل معطف*** ويشم انصلها بجيد أجيد

خضبت ولكن من دم وفراته*** فاخضر ريحان العذار الأسود

جمع الصفات الغر وهي تراثه ***عن كل غطريف وشهم أصيد

في بأس حمزة في شجاعة حيدر*** بأبا الحسين وفي مهابه أحمد

وتراه في خلق وطيب خلائق*** وبليغ نطق كالنبي محمد

يرمي الكتائب والفلاء غصت بها*** في مثلها من بأسه المتوقد

فیردها قسراً على أعقابها*** في بأس عريس العرينة ملبد

ويوب للتوديع وهو مكابد*** لظما الفؤاد وللحديد المجهد

صادى الحشا وحسامه ريّان من*** ماء الطلا و غراره لم يبرد

يشكو لخير أب ظماه وما اشتكى*** ظمأ الحشا إلّا إلى الظامي الصدي

فانصاع يؤثره عليه بريقه*** لو كان ثمّة ريقه لم يجمد

کل حشاشته كصالية الغضا*** ولسانه ظماء كشقة مبرد

ومذ انثنى يلقى الكريهة باسماً*** والموت منه بمسمع وبمشهد

لفّ الوغى وأجالها جول الرحى*** بمثقف من ن بأسه ومهنّد

حتى إذا ما غاص في أوساطهم*** بمطهم قب الأياطل أجرد

عثر الزمان به فغودر جسمه*** نهب القواضب والقنا المتفصّد

ومحا الردى يا قاتل الله الردى*** منه هلال دجاً وغرة فرقد

يا نجعة الحيين هاشم والندى*** وخما الذمارين العلا والسودد

كيف ارتقت همم الردى للأصعدة*** مطرودة الكعبين لم تتأوّد

فلتذهب الدنيا على الدنيا العفا*** ما بعد يومك من زمان أرغد

ص: 680

وقال آخر :

عجبت لمن صرف القضا طوع أمرهم ***كما شاء صرف الدهر فيهم تصرفا

لقد آنسوا وادي الطفوف وأوحشوا***بطيبة ربعاً للندي بعدهم عفا

جلا منهم في كربلا قمر الهدى*** كواكب تمحو غيهب الشرك مسدفا

لهم موقف بالطف لم تر مثله*** ولا قبله أو بعده قط موقفا

غداة ابن بنت الوحي جاد بأنفس*** على بذلها قد عاهد الله بالوفا

وأوّل فادٍ نفسه للهدى ابنه*** فلله نفس ما أعزّ وأشرفا

شبيه رسول الله خُلقاً ومنطقاً*** وخلقاً يروق الناظر المتشوقا

رأى القوم منه في الوغى بأس جده*** فلم تلق مأوى للفرار ومألفا

يكرّ عليهم من صفيحة عزمه*** بأمضى من الهندي حدّاً وأرهفا

و آب وقد أورى الأوام فؤاده*** وأجهده ثقل الحديد وأضعفا

ينادي أباه هل سبيل لشربة*** تروى حشاً يذكو صدىً وتلهفا

فعاد وما بل المعين غليله*** فلا طاب للورّاد يوماً ولا صفا

إذا لم يذق من بارد الماء رشفةً*** فمن كوثر الخلد ارتوى وترشفا

ولما انتى نحو الوغى شب نارها*** وفرّق من جمع العدى ما تألفا

بحث المواضى قد تكهم حدها*** قراعاً وخطي الوشيج تقصّفا

إلى أن هوى تحت العجاج كأنه*** هلال تراءى للنواظر واختفى

درى مرهف العبدي مذفلّ هامه*** بأن شباه فلّ للدين مرهفا

رآه أبوه والعوالي تناهبت*** حشاه وأهوت فوقه البيض عكفا

بکاه وناداه بصوت لو أنّه***وعته الصفا من شجوه صدع الصفا

فيا زهرة ما خلت قبل اقتطافها*** بأيدي المنايا أن تنال وتقطفا

لقد حالت الأيام بعدك واكتست*** أساً فعلى الأيام من بعدك العف(1)

ص: 681


1- الأستاذ الكبير الشيخ محمد علي اليعقوبي .

وقال آخر:

اليه

ترفعت الانفس الساميه*** إلى ذروة الرتب العالیه

هي النار ، والنار من طبعها*** تطلّب عنصرها راقيه

ولم تصرف الحُر أو تثنه ***أمورٌ لصرف الردى ثانيه

فشوك المنايا ووردُ المُنى*** وكذب المقاصد والعافيه

وما وجدت ذلّة في الحياة*** فعن خوف طعم الردى ناشيه

ومن يستمت یحي يأس الذى*** يسوم بذل المدى ناديه

وشبل الحسين المنار الوحيد*** وبيت القصيد لذي القافيه

سمّي الوصي وشبه النبي*** وحاوي مزاياهما العاليه

لقد كان تاجاً لرأس الإبا*** ودرّة تاج العلى الزاهيه

ألم تع ما قاله في الطفوف*** اما لك من أذن واعيه

أنحن على الحق في أمرنا*** و نخشی صروف الردى الجاريه

محالاً طلبتم، وأسيافنا*** لدينا، بنا يحكم الطاغيه

ومن طلب الحق بالسيف لم ***تنازعه فيه يد عاديه

لقد قام بالسيف فرداً، فكم*** هنالك من أمةٍ جائيه

وكم ساق للجيش من ضربة*** فكانت هي الضربة القاضيه

فضاق الخناق بأهل العراق*** وكان المساق إلى الهاويه

بنفسي ظامي الحشا يشتكي*** ظماه لربّ الحشا الصاديه

تروم الرواء لبذل القوى ***بفرض الجهاد على ماهيه

فاصدر ریان نفس وكان*** أبوه وه بادا به ساقيه

ولو لم يشقه وصال الحبيب*** لعادت ربوع العدى عافيه

فشلت يدا مرّةٍ هل دری*** لقلب النبي انتضى ماضيه

وكيف استطاع يراه أبوه*** ولم تبق منه الظ الظبي باقيه

ص: 682

وهذا لعمرك تأويل ما*** يقول بخطبته الخاليه

كأني عاسلات الفلا*** تقطع بالطف أوصاليه

فأبن، وهو الأبي الصبور*** فتاه بما يصدع القاسيه

بني الآن قطعت الرّجا*** لقد كنت غاية آماليه

بُنيّ أجبني فقد أوشكت*** تفارق روحي جثمانيه

الآن فقدت مثال النبی ***وسلواي عن كلّ أسلافيه

لذلك ربع المنى مقفرا*** وتلك بيوت الهدى خاويه(1)

***

شهقة للحنان شبّت زفيراً*** ستثيراً بلوعة وعناء

حین أرخى الحسين عينيه بالدمع*** ونادى بصرخة وبكاء

قطع الله يا ابن سعد بحق*** رحماً منك بعد هذا الجفاء

مثلما قد قطعت هجراً وظلماً***رحمي من عداوة وجفاء

هي كانت من الحسين أذاناً*** لعلي بالإذن للهيجاء

فتهادى بشراً لتوديع ليلى*** وصفايا حرائر الزهراء

وتجلّى فجراً بليل قتام*** مستنيراً من الهدى بضياء

هو شبل الحسين شبل عليّ*** حين يُنمى بنجدة وإباء

أشبه الناس في محمد خلقاً*** خلقاً منطقاً بغير خفاء

ضجّت الخيل والرجال ارتياعاً*** واستغائت من بأسه والمضاء

فاستجار اللعين ابن سعد منه ببكر*** فأريع الحسين عند اللقاء

واستغاثت ليلى به لعليّ*** قال كوني عوناً له في الدعاء

فمحاه بضربة من علي*** لابن ودٍ قد أسرعت بالفناء

ص: 683


1- لشاعر آل محمد مولانا المقدس حجة الاسلام العالم الجليل والأديب النبيل الحاج الشيخ عبد العظيم .

فاتي للحسين والقلب منه*** يتلظّى من الظما باصطلاء

ابتاه هل لي بشربة ماءٍ*** أتقوّى بها على الأعداء

إنّ ثقل الحديد أجهد نفسي*** والظما قاتلي وأنت روائي

قال من أين يا بُنيّ وهذا*** خاتمي فاستعن بربّ السماء

عد إلى الحرب سوف تسقى بكأس ***عن قريب من خاتم الأنبياء

فأتى الحرب يائساً من حياة*** ليس فيها إلا العنا والشقاء

ليس يبغي سوى الشهادة فيها*** بين سمر تحنى وبيض وضاء

فتوارى وهو الشهيد كريماً*** فوق مهد منها وتحت غطاء

وأتاه الحسين كالصقر يهفو*** بجناحي كآبة وابتلاء

حين أخلى الركاب منه وأهوى*** وهو يدعو على الدنا بالعفاء

قتل الله معسراً قتلوه ***وأعانوا عليه أهل العداء

قال هذا جدي سقاني بكأس*** ليس أحتاج بعدها للماء

لك كأس مذخورةٌ فتعجل*** بفراق الدنيا لخير التقاء (1)

***

رمى الدهر جوراً حماة الرشاد*** وسدد سهماً عداه السداد

وجار على عترة المصطفى*** فأضحوا من الجور في كل واد

وشمر للحرب يوم الطفوف ***عشية وازر أهل الفساد

عشية قادت جنود الضلال*** أمي تكافح أهل الرشاد

تروم انقیاد حليف الابا*** متى راح ذلاً ابي يقاد

فجاهدت القوم من دونه*** حماة الحقيقة حق الجهاد

فلله أنصاره الماجدون*** أبت أن ترى هاشمياً يكاد

إلى أن هوت دونها في الثرى*** بسم الرماح وبيض الحداد

ص: 684


1- لشاعر آل محمد الحكيم الأديب عبد المنعم الفرطوسي(قدس سره).

فهبت هناك بن غالب*** ليوث الكريهة يوم الجلاد

وقد وقفوا وقفة طبقت*** بحسن الثنا الدهر حتى المعاد

رأوا عرش ملة طه تميد*** قوائمه من ولاة الفساد

فقامت على ساقها في الوغى*** فقرت قوائم عرش الرشاد

ولست بناس فتى السبط إذ*** تقدّمها رغبة في الجهاد

كأنّ له في الردى منيّة*** نحاها وفي الموت نيل المراد

كأنّي بسبط الهتدى من أسى*** يقول أيا شبه خير العباد

وفرعاً تفرع من دوحة*** زكت فزكا الفرع منها وجاد

أتمشي برجلك للموت يا*** ضیا ناظري وسرور الفؤاد

بني لقلبي أنت الحبيب*** فكيف تروم بني البعاد

أترمي فؤادي بسهم النوى ***وتترك جفني حليف السهاد

وأرسله للوغى إذ أبى*** ومنه المدامع شبه الفؤاد

فشدّ على القوم ظامي الحشى*** فغذى الرماح وروى الحداد

وعاد إلى السبط يشكو الظما***فيا صادياً جئت تشكو لصاد

فديتك يا شبه خير الورى*** ويا خامياً لرواق الرشاد

أتشكو الظما لأبيك الحسين ***فهل منه تأمل نيل المراد

تحملتا ظماً حره*** يفت هضاب الجبال الصلاد

فلم أدر أبكي لمن منكما*** فقدفت كل ظماه الفؤاد

أهل رمت نسيان ما أنت فيه*** إذا ما رأيت الظمأ فيه زاد

فراح يصبر ظامي الحشى*** بشرب كؤوس الردى بالحداد

وروی ببشر لقى المصطفى*** حشاه وبالنفس في الله جاد

ألم تره جاء واهي القوى*** وعاد إلى الحرب يوري الزناد

يجدّل فرسانها في الوغى*** وأخلى هناك سروج الجياد

ص: 685

كأن بماضيه خط الردى*** وطوع يديه نفوس العباد

فلما أحبّ إله الورى*** لقاه وابلاغه للمراد

علاه على الرأس ماضي الحسام*** فقر به للأعادي الجواد

فوزعت البيض أشلاءه*** وسمر الرماح نهبن الفؤاد

وصبغت الأرض منه الدما*** إلى أن هوى عافراً في الوهاد

بنفسي صريعاً غدا هاتفاً*** بأكرم مستنجد للجلاد

كأنی به واضع خده*** على خده والحشى في اتقاد

وقال على الدار لما أصبت*** بني العفا برياح النكاد

كأنّي بليلى دعت من جوى*** ألم بأحشائها والفؤاد

بني أصابك ريب المنون*** ووكل بالطرف مني السهاد

بني رجوتك لي سلوة*** فأفجعني فيك شر العباد

علي عزيز بأني أراك ***وفيك أعاديك نالوا المراد

بنی أيا بدر أفق العلا*** متى خسف البدر بيض الحداد ؟

خيالك ما غاب عن ناظري*** وهل لك مثوى بغير الفؤاد ؟

***

لقد كان أهل المدينة إذا اشتاقوا إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)انظروا إلى علي الأكبر عليه أفضل الصلاة والسلام وكان الحسين صلوات الله وسلامه عليه يحبه حبّاً شديداً بحيث إذا رأه فرح وسر سروراً عظيماً ، وإذا سأله حاجة لا يردّه أبداً ولو على سبيل الإعجاز.

قال كثير بن شاذان: رأيت الحسين (عليه السلام)قد اشتهى ابنه على الأكبر في صغر سنه عنباً في غير أوانه فضرب الحسين(عليه السلام)بيده المباركة إلى سارية المسجد وأخرج له عنباً وموزاً وأطعمه ، وقال(عليه السلام) : وما عند الله لأوليائه أكثر .

قال المحدّث المازندراني : أفمن كان حبّه لولده بهذه المثابة بحيث لا يردّه

ص: 686

عن حاجة حتى يقضيها له ولو على سبيل الاعجاز فما حاله حين رجع هذا الولد من المعركة وطلب منه جرعة من الماء، والحسين(عليه السلام)قادر لا شكّ على أن يعطيه ويسقيه إلّا انّ القضاء قد حال ذلك، إذن فما حال سيّد الشهداء (عليه السلام)وهو ينظر إلى ولده يلوك لسانه شدة العطش. وقد فتح (عليه السلام)لولده كفّيه وضمه إلى صدره وأخذ

من يقبله ويشمه ثم دفع إليه خاتمه الشريف وقال : أمسكه في فيك وارجع إلى قتال عدوّك فإني أرجو أنك لا تمسى حتى يسقيك جدّك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً ، ولدي عد بارك الله فيك إلى القتال، قال الحاج ملا محمد آل نتيف البحراني واصفاً حالة سيد الشهداء مع ابنه علي الأكبر عليهما الصلاة والسلام:

فتح كفينه الشبابه وضمه الصدره وقال*** يا هلا بالجاي ياللي زلزل اصفوف لبطال

صاح يابن البطل حامي الجار ممدوح الصفات*شوف يا مظلوم حالي حالة اصحاب الممات

صيد الملوك ابقنصها يا عمادي في الفلات ***ارنب وثعلب ينور العين يابه لو غزال

كلمن اينال العطيه ناح من سمعه وصاح*** قول واتمنى على اللي صار مكسور الجناح

قال انا ماريد منك ما سوى ماي القراح*** ابل كبدي من عطشها اتقطعت والجلد زال

حتى اضلوعه وقال مني الماي يالغالي اتريد*** اصطبر والماي أيش يالولد عنك بعيد

يا لولد مكتوب يابني تنذبح ظامي وشهيد*** يا حبيبي استخلف الله العمر متذوق الزلال

ص: 687

قال یا به الصبر مقدر قطع افوادي الظما*** جر ابو السجاد ونه ودفع لابنه خاتمه

وكبدته اتروى عطشها الشاب من حطه ابفمه***وراد يمشي وصاح للتوديع قوموا يا عيال

ويصف حالة على الأكبر(عليه السلام)وهو يلوك لسانه من شدة العطش الشاعر العراقي بقوله :

مض العطش بابن احسين الأكبر

اورد ایلوچ بلسانه او يفغر

يصيح ابصوت فت گلبي او شعبني*** یبویه گوم ليه العطش ضرني

یبویه درعي او طاسي بهضني ***يبويه او نشفت ارياقي من الحر

يبويه شربة اميّة لجبدي*** اتگوی ورد للميدان وحدي

یبویه انفطر گلبي او حق جدّي*** العطش والشمس والميدان والحر

یگله امنين اجيب الماي يا ابني*** مهو حچيك بهض حيلي او شعبني

اوفت روحي او حمس چبدي اوسلبني*** يبويه استخلف الله العمر واصبر

يگله والدمع يجري من العين*** يبعدي او بعد كل الناس يحسين

تگلّي اصبر او گلبي صار نصين*** اشلون اصبر يبويه والصبر مرّ

حن احسين ويلي او سال دمعه*** حنا ظهره على ابنه او كسر ضلعه

دار ایده علی اطواگه يودعه*** يشمّه والعيون اتسيل محمر

تسايل يا دمع لوداع الأكبر

يگلبي ذوب لوداعه او تفطّر

يولي من تلاگو عند الوداع*** امشابك طول لمن هووا للقاع

لاع ابن لبيه والابو لاع*** على ابنيه يویلی اوداع الاگشر

ص: 688

يشم احسين خد ابنه ويحبّه*** اودمعه مثل دمع ابنه يصبّه

والنار البگلب ابنه ابگلبه*** يخفيها على ابنه او نوب تظهر

یگله والدمع بالعين دفاق*** ابعبره امکسّره او بگلب خفاق

يبويه او داعة الله هذا الفراق*** یبویه اشبيدنه هذا المقدّر

يبويه للسيوف اسدر او للزان*** او لوح ابغاربه او شلش الميدان

يبويه اليوم مرواحك للجنان*** او بالكوثر يبويه اليوم تفطر

تحسّر ویل گلبي او جذب ونه*** او من الماي آه انگطع ظنّه

عرف لنّ المنيّة دنت منه*** خرد معه او للميدان سدر

***

وفي نفس الوصف لحالته عليه الصلاة والسلام يقول الحاج الأديب والعالم الفاضل ملّا عطية بن علي الجمري قدس الله سره عن لسان مولانا وسيدنا وحبيب قلوبنا علي الأكبر وهو يخاطب أباه الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله :

ادركني يبويه او جيب لي قطرة أميه*** رفرف على راسي ترى طير المنية

يحسين يا اللي من تمسك بيك ما خاب***يا مقصد الوافد وصنوة داحي الباب

اريد قطرة ماي قلبي من العطش ذاب*** او غارت اعيوني واظلم الوادي عليه

غارت اعيوني او نزف دمي كثر الجراح*** واتفطرت يا بوي كبدي والعزم راح

خل الدرع عني بهظني ثقل لسلاح *** حر الشمس ذوّب افادي يا سفيه

ص: 689

لو تنطفي ابقطرة اميه نار قلبي*** محد كفو من هالجمع يوقف ابدربي

برد غليلي او عاين اطرادي او حربي*** لحمل على الجيمان حمله هاشمیه

واصرخ وخلي الخيل تتكردس على الخيل***وادعى النهار امن العجاج اظلم من الليل

واملي الوادي امن الجثث واجري الدما سيل*** وافني العدى واترك مضاربهم خليه

ضمه الصدره اوصاح يا بني والدمع سال*** ابشر يعقلي كان مني طلبتك مال

وانكان قصدك ماي هذي طلبة محال*** اللي يجيب الماي ظل جسمه رميه

قله انفطر قلبي ومنك طالب الماي*** فرقت صمصوم العدى او لجايزه جاي

والجائزه شربت اميه تبرد احشاي *** اتحسر اوقله ياضيا عيني اشبديه

ودّع خواتك والحريم او بالعجل روح*** يسقيك ابوك المرتضى يا مهجة الروح

اشبيدي يبويه اوهالامر مكتوب باللوح ***بالعطش كلنا ننذبح بالغاضريه

***

وكأني بالامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام لم يزل قلبه مجروح وعينه مفتوحة ولكنه مع ذلك أشار إلى ولده علي الأكبر (عليه السلام)بالرجوع إلى الحرب

ص: 690

ولسان حاله يقول :

اسرج على ميمونك يا بني اوشن الغاره*** والماي جيبه للنساء هاليوم من حزاتك

وشال العلم واتنخى واعلى الأعادي صول***مثل الاسد في اطراده او كالصقر لمن حول

الماء يبويه ايجيكم لو بالترب اتجدل*** مادام انا بيه النفس ما حد يطبّ خيماتك

صول ابعرصة كربلا او نار الوغى مشتبه*** كم من شجاع ضاري بالوهايد ايذبه

هذا او يسعر قلبه او كبده غدت ملتهبه*** واحسین ایشوف افعاله وايقول من حزاتك

دارت عليه الاعداء او ما هاب كثر العسكر*** مثل الوصي حملاته يوم عليهم كبّر

خوض احصانه بالدما أو خلا الجثث تتعتّر*** يشبيه جدّي المصطفى سرتيني ابحملاتك

حاطت عليه العسكر او صال وحده فيها*** شبت عليه ابنارها ماحد قدر يطفيها

ياليت جاله حيدر الجموع العدى يحميها*** لحد يحامي طيبه حرب الاعادي فاتك

او حين وقع في المعركة نادى يبويه ادركني***اسهام العدى صابتني واخيولهم داستني

او حين سمع منه الندى جاء السبط متعنّي**سرّيت قلبي في الحرب وابكيتني ابطعناتك

ص: 691

ويقال : إنّه لما أن برز علي الأكبر عليه الصلاة والسلام كان الامام صلوات الله وسلامه عليه ينظر إليه ووجهه يتلألأ فرحاً وسروراً لما يراه من بسالته وشدّة ثباته وتفانيه في سبيل الله حيث قتل الشجعان ونكس راياتهم وحصد رؤوسهم وما فتاً وما انفك سيّد الشهداء(عليه السلام)في فرحه وسروره حتى برز إلى علي الأكبر(عليه السلام) بكر بن غانم .

الشيخ حسين العصفور(قدس سره)عن كتابه الفوادح في بسالة مولانا علي الأكبر(عليه السلام)أنه قال : لما برز علي بن الحسين الأكبر (عليه السلام)وطلب المبارز فلم يبرز إليه أحد، فدعا لانا ابن سعد لعنه الله تعالى طارق بن كثير وقال له : تأخذ ما تأخذ من ابن زیاد فاخرج إلى هذا الغلام وجئني برأسه فقال :أنت تأخذ ملك الري وأنا أخرج إليه فإن ،تضمن لي إلى الأمير امارة الموصل أخرج إليه فضمن وأعطاه خاتمه ميثاقاً له، فخرج وقاتل قتالاً شديداً إلى أن ضربه علي بن الحسين(عليه السلام)ضربة منكرة فقتله، فخرج أخوه وضرب علي بن الحسين على عينيه فضربه علي بن الحسين(عليه السلام)ضربة فقتله، فلم يخرج بعد ذلك إلى علي بن الحسين(عليه السلام)أحد إلى أن نادي عمر بن سعد لعنه الله : ألا رجل يخرج إليه ؟فبادر إليه بكر بن غانم لعنه الله ،فلما خرج إليه تغير وجه الامام الحسين (عليه السلام)، فقالت أمه ليلى(عليه السلام) : يا سيدي هل أصاب ولدي شيء ؟ قال : لا ولكن قد خرج إليه من أخاف عليه منه فادعي له فإني قد سمعت من جدّي رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ان دعاء الأم يستجاب في حق الولد، فكشف رأسها ودعت له و لعنت بكراً إلى أن جرى بينهما ما جرى وتعاركا معركة وقد انخرق درعه فضربه علي ضربة فقطعه نصفين.

وفي خبر: دعت ليلى بهذا الدعاء :يا راد يوسف على يعقوب من بعد الفراق وجاعله مسروراً في دهره، ويا راد إسماعيل إلى هاجر ، إلهي بعطش أبي عبدالله ، إلهي بغربة أبي عبدالله ، امنن علي بردّ ابني علي سالماً .

ص: 692

طبتِ الخيمه وظلت تسأل الله أم الشباب*** والذوايب نشرتها والمدامع كالسحاب

يا عظيم المن يا حنان ياحي يا قريب ***أسألك يا رب يا من دعوة الداعي يجيب

ترحم ابحال الحزينه وترحم ابحال الغريب**أبو اليمه احسين وحده ظل ما عنده اصحاب

یا مزيل اهموم يعقوب يسماع الدعا ***غير لكبر ولد مالي بالسلامة ترجعه

چبدتي بسهام فرقا هالشباب امقطعه*** وارحم الوالي على افراقه انفطر قلبه وذاب

واستجاب الله دعاها لن صرخه منكره*** زلزلت لافاق كلها مثل صرخة حيدره

وحين سمع منه الندى جاه السبط متعني*** سريت قلبي في الحرب وابكيتني ابطعناتك

هذا وأمه ليلى عليها الصلاة والسلام تنتظر قدومه إليها كما مر عليك فيما تقدّم وقد دخلت خيمتها تدعو الله تعالى أن يرجعه عليها سالماً .

دخلت الخيمته الغريبه*** وتوسلت الى الله بحبيبه

وبالحسين وشما بيه مصيبه*** یا راد يوسف من مغيبه

أريدك علي سالم تجيبه

قال الله تعالى في كتابه المجيد :﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ﴾(1).

جاء في كتاب « خُلفاء الرسول الاثنا عشر» لسيدنا الحجة العلم الفقيه الحاج

ص: 693


1- سورة الأحزاب : 15

السيد الأستاذ محمد علي نجل آية الله الحاج محمد طاهر البحراني نقلاً عن كتاب البخاري في حديث عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه كان يحدث أنّ رسول الله الله قال : يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلؤون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم.

في كتاب البخاري نفسه كلمات جلية تنبيء بوضوح على أنّ الصحابة لم يكونوا كلهم على الصراط السوي الذي جاء به الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)بل أحدث معظهم وارتدوا على أعقابهم القهقري ولم يخلص منهم إلا مثل همل النعم كما نص عليه حديث أبي هريرة - وان الحدث الذي كان الرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يخافه على أمته ليس هو الشرك بالله بل المنافسة على الخلافة والسلطان المحمدي لأنه من أظهر المصاديق في ذلك ان أريد به الدنيا بالمعنى الأعم.

وسوف نستمع ما يدلّ على ذلك بأكثر مما ذكرنا هنا في الجلسات المقبلة إن شاء الله تعالى.

وهنا نقول : ياليتهم قد اكتفوا بانتزاعهم السلطان والخلافة من علي بن أبي طالب وأولاده عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، ولم تصل أيديهم بسوء إليهم ، ولكن ويا للأسف بالاضافة إلى ذلك راحوا يسدون الأذيّة إليهم بدل العطف والمودّة متناسين قوله تعالى:

﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾.

ألم تعصر حبيبة الرسول فاطمة عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها أفضل الصلاة والسلام بين الحائط والباب ؟

ألم يكسر ضلعها ؟ ألم يلطم وجهها ؟ فإلى الله المشتكى من أفعالهم الجريئة والله درّ مولانا الأعظم والامام الأكرم قدوة العلماء العارفين وفيلسوف الحكماء المتألهين الحاج الشيخ محمد حسين الأصفهاني (قدس سره) حيث وصف الحالة التي جرت على السيدة الجليلة (عليه السلام)عندما عصرت بين الحائط والباب بقوله :

وما أصابها من المصاب *** مفتاح بابه حديث الباب

ص: 694

ان حديث الباب ذو شجون*** مما به جنت يد الخؤون

أيهجم العدى على بيت الهدى*** ومهبط الوحي ومنتدى الندى ؟

أيضرم النار بباب دارها*** وآية النور علا منارها

وبابها باب نبي الرحمة ***وباب أبواب نجاة الأمة

بل بابها باب العلى الأعلى*** فثم وجه الله قد تجلّى

ما اكتسبوا بالنار غير العار*** ومن ورائه عذاب النار

ما أجهل القوم فإنّ النار لا*** تطفىء نور الله جلّ وعلا

وأنّ كسر الضلع ليس ينجبر*** إلا بصمصام عزيز مقتدر

إذ رض تلك الأضلع الزكية*** رزيّة لامثلها رزيّة

ومن نبوع الدم من ثدييها*** يُعرف عظم ما جرى عليها

وجاوز الحد بلطم الخدّ*** شلت يد الطغيان والتعدي

فاحمّرت العين وعين المعرفة ***تذرف بالدمع على تلك الصفة

ولا تزيل حمرة العين سوى*** بيض السيوف يوم ينشر اللوى

وللسياط رنّة صداها*** في مسمع الدهر فما أشجاها

الأثر الباقي كمثل الدملج ***في عضد الزهراء أقوى الحجج

ومن سواد متنها اسود الفضا*** يا ساعد الله الامام المرتضى

ووكز نعل السيف في جنبيها***أتى بكل ما أتى عليها

ولست أدري خبر المسمار*** سل صدرها خزانة الأسرار

وفي جنين المجد ما يدمى الحشا*** وهل لهم إخفاء أمر قد فشا

والبابُ والجدار والدماء*** شهود صدق ما به خفاء

لقد جنى الجاني على جنينها*** فاندكّت الجبال من حنينها

أهكذا يُصنع بابنة النبي*** حرصاً على الملك فيا للعجب

أتمنع المكروبة المقروحة*** عن البكاء خوفاً من الفضيحة

ص: 695

تالله ينبغي لها تبكى دماً*** مادامت الأرض ودارت السما

لفقد عزها أبيها السامي*** ولا هتضامها وذلّ الحامي

***

نعم، لقد بكت السيدة الجليلة فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام لفقد عزّها أبيها السامي وسيطر الحزن عليها بسبب وفاة أبيها الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) وهذا ما قد تقدم بيانه فی الجلسات المتقدمة.

وهنا زيادة على ما ذكرنا نستمع إلى فضة خادمة الزهراء(عليها السلام) تحدثنا عن فداحة ذلك الحزن الذي قد سيطر على السيدة فاطمة(عليها السلام) بسبب وفاة أبيها الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) قالت :

«ولما توفي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)افتجع له الصغير والكبير وكثر عليه البكاء، وعظم رزؤه على الأقرباء والأصحاب والأولياء والأحباب، والغرباء والأنساب.

ولم تلق إلا كل باك وباكية، ونادب ونادبة ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب والأقرباء والأحباب أشدُّ حزناً وأعظم بكاءاً وانتحاباً من السيدة الجليلة فاطمة الزهراء عليها أفضل الصلاة والسلام وكان حزنها يتجدد ويزيد، وبكاؤها يشتدّ، فجلست سبعة أيام لا يهدأ لها ،أنين ، ولا يسكن منها الحنين، وكل يوم كان بكاؤها أكثر من اليوم الذي قبله .

فلما كان اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن، فلم تطق صبراً إذ خرجت وصرخت، وضجّ الناس بالبكاء، فتبادرت النسوة، وأطفئت المصابيح لكيلا تبين وجوه النساء.

كانت السيدة فاطمة(عليها السلام) تنادي وتندب أباها قائلة :وا أبتاه !واصفياه ! وا محمداه ! وا أبا القاسماه ! واربيع الأرامل واليتامى !

من للقبلة والمصلّى ؟

ومن لابنتك الوالهة الثكلى ؟

ص: 696

ثم أقبلت تعثر في أذيالها، وهي لا تبصر شيئاً من عبرتها، ومن تواتر دمعتها حتى دنت من قبر أبيها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، فلما نظرت إلى الحجرة وقع طرفها على المأذنة أغمي عليها ، فتبادرت النسوة، فنضحن الماء عليها وعلى صدرها وجبينها حتی

أفاقت، فقامت وهي تقول :

رُفعت قوتي، وخانني جلدي، وشمت بي عدوي، والكمد قاتلي.

يا أبتاه بقيت والهة وحيدة، وحيرانة فريدة. فقد انخمد صوتي، وانقطع ظهري ، وتنغص عيشي، وتكدر دهري.

فما أجد -يا أبتاه - بعدك أنيساً لوحشتي، ولا رادّاً لدمعتي ،ولا معيناً لضعفي ، فقدت بعدك محكم التنزيل، ومهبط جبرئيل، ومحل ميكائيل.

انقلبت - بعدك - يا أبتاه الأسباب، وتغلقت دوني الأبواب، فأنا للدنيا بعدك قالية، وعليك ما ترددت أنفاسي باكية.

لا ينفد شوقي إليك، ولا حزني عليك.

إنّ حزني عليك حزن جديد*** وفؤادي والله صبّ عنيد

كل يوم يزيد فيه شجوني*** واكتابي عليك ليس يبيد

جلّ خطبي ، فبان عنّي عزائي*** فبكائي في كل وقت جديد

إن قلباً عليك يألف صبراً*** أو عزاء فإنّه لجليد

ثم نادت(عليه السلام).

يا أبتاه، انقطعت بك الدنيا بأنوارها ، وذوت زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة .

يا أبتاه، لازلت آسفة عليك إلى التلاق.

يا أبتاه، زال غمضي منذ حق الفراق.

يا أبتاه، من للأرامل والمساكين ؟

ومَن للأمة إلى يوم الدين ؟

يا أبتاه ، أمسينا بعدك من المستضعفين !

ص: 697

يا أبتاه أصبحت الناس عنا معرضين !

ولقد كنا بك معظمين في الناس غير مستضعفين !

فأي دمعة لفراقك لا تتهمل ؟

وأيّ حزن بعدك لا يتصل؟

وأيّ جفن بعدك بالنوم يكتحل ؟

وأنت ربيع الدين، ونور النبيين.

فكيف بالجبال لا تمور ؟ وللبحار بعدك لا تغور ؟

والأرض كيف لم تتزلزل ؟

رُميتُ - يا أبتاه - بالخطب الجليل

ولم تكن الرزية بالقليل .

وطرقتُ - يا أبتاه - بالمصاب العظيم، وبالفادح المهول

بكتك - يا أبتاه - الأملاك

ووقفت الأفلاك .

فمنبرك بعدك مستوحش.

حرابك خال من مناجاتك.

وقبرك فرح بمواراتك.

والجنة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك .

يا أبتاه، ما أعظم ظلمة مجالسك من بعدك !!

فوا أسفاه عليك إلى أأقدم عاجلاً عليك .

وأثكل أبو الحسن المؤتمن ، أبو ولديك الحسن والحسين وأخوك ووليك، وحبيبك، ومن ربّيته صغيراً وآخيته كبيراً .

وأحلى أحبابك وأصحابك إليك، من كان منهم سابقاً ومهاجراً وناصراً .

والشكل شاملنا ! والبكاء قاتلنا ! والأسى لازمنا ثم زفرت وأنت أنيناً يخد

ص: 698

القلوب ثم قالت :

قلّ صبري وبان عنّي عزائي*** بعد فقدي لخاتم الأنبياء

إلى آخر الابيات المتقدم ذكرها .

ثم أخذت بعد ذلك شيئاً من تراب قبر أبيها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وجعلت تشمه وهي تقول:

ماذا على من شم تربة أحمد*** إن لا يشم مدى الزمان غواليا

وقد تقدمت هذه الأبيات فيما سبق أيضاً .

ثم رجعت إلى منزلها ، وأخذت بالبكاء والعويل ، وكانت - سلام الله عليها - معصبة الرأس ، ناحلة الجسم منهدّة الركن باكية العين، محترقة القلب يغشى عليها ساعة بعد ساعة، وتقول لولديها أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرة بعد مرة ؟ أين أبوكما الذي كان أشدّ الناس شفقة عليكما، فلا يدعكما تمشيان على الأرض ؟ لا أراه يفتح هذا الباب أبداً، ولا يحملكما على عاتقه، كما لم يزل يفعل بكما !! وهكذا كانت - سلام الله عليها - في بكاها في ليلها ونهارها حتى ضج أهل المدينة من ذلك وقالوا لأمير المؤمنين : قل لها تبكي بالليل وتهيد بالنهار أو تبكي بالنهار وتهيد بالليل.

ورحمة الله على هذا الشاعر البحراني الذي يصف لنا حالتها بقوله :

لهفي على بنت الرسول اعفيفة الذيل*** تجذب الونه او تنتحب وتصيح بالويل

لافي انهار اتهید او تسکت ابلیل *** اتنادي ألف وسفه على خير البريه

تجذب الونه او تنتحب وتصيح ياياب*** ياليت شخصي قبل شخصك بالثرى غاب

أو جسمي قبل جسمك اموارينه بلتراب*** او لا شوف هالحجره من انوارك خليه

او ما برحت الزهرا على بوها كئيبه*** تبكي او تحن او لابسه ثوب المصيبه

حتى تأذوا من بكاها اشيوخ طيبه*** وتنقصت قالوا معايشهم سويه

قالوا الحيدر قول للزهرا يكرار*** اما تنوح ابليل وتهيد بلنهار

ص: 699

والا ابنهار اتنوح لمصيبة المختار*** او بالليل لا تبكي ولا تنصب عزّيه

لمن ابو الحسنين خاطبها ابها الخطاب ***نادت يبو الحسنين يا زينة المحراب

أبداً فلاهيد وأسمع ليهم اخطاب*** ويبكي على ابويه صباحي والمسيه

ما قصروا العدوان بالباب أعصروني*** لو كسروا يبن عمي اضلوعي او سقطوني

واليوم ابكي لفقد ابويه او يمنعوني*** ما خافوا امن الله أو لا راعوا نبيّه

هيهات ما بطل ولا ينقطع نوحي*** ببكي على بويه لحتى اتروح روحي

قال الهايم احسين بتنوحين نوحي ***والامر الله يا بنت خير البريه

***

وكما ناحت السيدة الصديقة فاطمة الزهراء على أبيها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فقد ناحت لیلی(عليه السلام)علی شبیه رسول الله علي الاكبر(عليه السلام)وكيف لا تتوح وقد فقدت العزيز والحبيب الغالي والولد البارّ، والعزيز عند الحسين(عليه السلام).

ولقد كان الامام الحسين(عليه السلام) يحبه حباً شديداً بحيث إذا رآه فرح:

وسرّ سروراً عظيماً وإذا سأله حاجة لا يردّه أبداً ولو على سبيل الاعجاز. وسمي علي الأكبر لأنه أكبر أولاد الحسين(عليه السلام)، لأن للحسين(عليه السلام) أولاداً ستة ثلاثة أسماؤهم علي وثلاثة أسماؤهم عبدالله وجعفر ومحمد كما ذكره أهل النسب فهو أكبر من على الثالث.

وحال المحدّث المازندراني(رحمه الله) نقلاً عن شيخنا المفيد(رحمه الله) ما حرفيته : إنّ للحسين عليه الصلاة والسلام من الأولاد الذكور أربعة علي بن الحسين الأكبر كنيته أبو محمد وأمه شاه زنان بنت كسرى يزدجرد، وعلي بن الحسين الأصغر قتل مع أبيه بالطف وأمه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفية، وجعفر بن الحسين(عليه السلام) وكانت وفاته في حياة الحسين(عليه السلام)ولا بقيّة له وأمه قضاعية، وعبدالله بن الحسين (عليه السلام) قتل مع أبيه صغيراً جاءه سهم وهو في حجر أبيه فذبحه وأمه رباب بنت امرىء القيس .

ص: 700

قال المحدّث المذكور بعد كلام تركناه خوف الإطالة :علي الشهيد كنيته أبو الحسن وعمره الشريف على قول المفيد : تسعة عشر سنة وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي وكان عروة أحد السادة الأربعة في الاسلام وقد أخذ علي بن الحسين(عليه السلام) الشرافة والسيادة من الطرفين.

ونقل المحدث المذكور أيضاً : عن كتاب نفس المهموم قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أربعة سادة في الاسلام بشر بن هلال العبدي، وعدي بن حاتم، وسراقة بن مالك المدلجي، وعروة بن مسعود الثقفي، وكان عروة أحد رجلين عظيمين في قوله تعالى حكاية عن كفار قريش وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجلين من القريتين عظيم) وهذا هو الذي أرسلته قريش للنبي(صلی الله علیه وآله وسلم) يوم الحديبية فعقد معه الصلح وهو كافر ثم أسلم سنة تسع من الهجرة بعد رجوع المصطفى(صلی الله علیه وآله وسلم) من الطائف واستأذن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)فالرجوع لأهله فرجع ودعا قومه إلى الاسلام فرماه واحد منهم بسهم وهو يؤذن للصلاة فمات.

فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)لما بلغه ذلك مثل عروة مثل صاحب يس دعا قومه إلى الله فقتلوه . وقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)و رأيت عيسى بن مريم (عليه السلام) فإذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود .

وليلى أم على (عليه السلام)أمها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية المكناة بأم شيبة فيكون معاوية لعنه الله تعالى خال ليلى أم علي الأكبر.

قال المحدث المذكور : وكان علي الاكبر عليه الصلاة والسلام شاباً حسن الصورة صبيح المنظر على وجه لا نظير له، وهو في الشجاعة مشهور، وكذا في سائر صفاته الكمال من الجلالة والعظمة والسخاء وحسن الأخلاق وغير ذلك، ركبته قرشية وشمائله مضرية قامته هاشمية غنية لذوي الاعتبار، وبغية لذوي الابصار.

ثم قال : وقد اختلفوا في سنّه الشريف.

ص: 701

فقال ابن شهر آشوب ومحمد بن أبي طالب : انه ابن ثماني عشرة سنة .

وقال المفيد(رحمه الله) : ان له يومئذ تسع عشرة سنة ، وقيل : انه ابن خمس وعشرين سنه فيكون هو الأكبر، وقال محمد بن إدريس وولد علي بن الحسين هذا في أول امارة عثمان ، وروى عن جده علي بن أبي طالب.

قال : واختلفوا أيضاً في انه هل هو أول شهيد من أهل بيت الحسين (عليه السلام)أو عبدالله بن مسلم وذهب إلى كل واحد منهما طائفة والظاهر أنه أول قتيل من الهاشميين ، ولما قتل أصحاب الحسين(عليه السلام) ولم يبق معه إلا أهل بيته ولم يبق معه إلا أهل بيته خاصة وهم ولد علي(عليه السلام) وولد الحسين (عليه السلام)وولد جعفر وولد عقيل اجتمعوا يودع بعضهم بعضاً وعزموا على الحرب فتقدم علي بن الحسين وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً وخلقاً فاستأذن أباه على القتال فأذن له.

وجاء في كتاب الدمعة: انه لما توجه إلى الحرب اجتمعت النساء حوله كالحلقة وقلن له : ارحم غربتنا ولا تستعجل إلى القتال فإنه ليس لنا طاقة على فراقك ، قال : فلم يجهد ويبالغ في طلب الإذن من أبيه(عليه السلام)حتى حتى أذن له ثم ودعه وتودع من الحرم وتوجّه نحو الميدان.

وقال المحدث الحائري : ولما برز علي بن الحسين(عليه السلام) النظر إليه الحسين (عليه السلام)نظر آيس منه وأرخى عينيه وبكى ورفع سبابته أو شيبته الشريفة نحو السماء وقال: اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسولك محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)، وكنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إلى وجهه ، اللهم امنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقاً ومزقهم تمزيقاً واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترض الولاة عنهم أبداً ، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا عيلنا يقاتلوننا ، ثم صاح بعمر بن سعد : مالك قطع الله رحمك ولا بارك الله لك في أمرك، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)؟ ثم رفع صوته و تلا(عليه السلام):﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ

ص: 702

بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ثم حمل علي بن الحسين (عليه السلام)على القوم وهو يقول:

أنا علي بن الحسين بن على*** نحن وبيت الله أولى بالنبي

أطعنكم بالرمح بالرمح حتى ينثني*** أضربكم بالسيف أحمي عن أبي

ضرب غلام هاشمي علوي*** والله لا يحكم فينا ابن الدعي

وشدّ على الناس مراراً وقتل منهم جمعاً كثيراً حتى ضج الناس من كثرة من قتل، وروي أنه قتل على عطشه مائة وعشرين رجلاً، ثم رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة فقال(عليه السلام): يا أبه العطش قد قتلني وثقل الحديد أجهدني فهل إلى شربة من الماء سبيل أتقوى بها على الأعداء ؟ يقول الرائي :

وقد غار عيناه لفرط ظمائه*** وفي القلب وقد والشفاه ذبول

فقال أبي روحي تطير من الظما ***وجسمي من ثقل الحديد نحيل

فبكى الحسين عليه الصلاة والسلام فقال : واغوثاه يا بني يعزّ على محمد المصطفى وعلى علي المرتضى وعليَّ أن تدعوهم فلا يجيبوك فلا يجيبوك وتستغيث بهم فلا يغيثوك يا بني قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك محمداً(صلی الله علیه وآله وسلم)فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لاتظمأ بعدها أبداً ولدي عد بارك الله فيك - إلى القتال -فرجع(عليه السلام) وهو يقول :

الحرب قد بانت لها الحقايق ***وظهرت من بعدها مصادق

والله ربّ العرش لا نفارق*** جموعكم أو تغمد البوارق

فلم يزل يقاتل حتى قتل تمام المائتين وكان أهل الكوفة يتقون قتله، فبصر به مرة بن منقذ بن النعمان الليثي لعنه الله فقال : عليَّ اثام العرب إن مر بي وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أتكل اباه فمر يشدّ على الناس بسيفه فاعترضه اللعين مرّة بن منقذ بطعنه فانصرع واحتواه الناس، وعلى رواية :ثم ضربه منقذ بن مرة العبدي على مفرق رأسه ضربة صرعته وضربه الناس بأسيافهم، ثم اعتنق فرسه فاحتمله الفرس إلى معسكر الأعداء فقطعوه بسيوفهم إرباً إرباً ، فلما بلغت الروح التراقي قال

ص: 703

رافعاً صوته : يا أبتاه هذا جدي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً ، وهو يقول : العجل العجل فإنّ لك كأساً مذخورة حتى تشربها الساعة.

وقال أبو الفرج: وجعل يكركرة بعد كرة حتى رمي بسهم في حلقه فخرقه وأقبل يتقلب في دمه .

وجاء في البحار انّ الحسين(عليه السلام)صاح عليه ووضع خدّه على خدّه، وفي كتاب روضة الصفا: رفع الحسين(عليه السلام)صوته بالبكاء ولم يسمع أحد إلى ذلك الزمان صوته ، وقال :قتل الله قوماً قتلوك ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول ؟ وانهملت عيناه بالدموع ثم قال الله : على الدنيا بعدك العفا .

وفي المقاتل : لما قتل علي بن الحسين(عليه السلام)صرخن النساء بالبكاء والنحيب أن ، فصاح بهنّ الحسين(عليه السلام) أن اسكتن فإن البكاء أمامكن ، وجعل(عليه السلام) يتنفّس الصعداء. قال : ثم دعا ببردة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فلبسها وأفرغ على نفسه درعه الفاضل وتعمم بعمامة السحاب وتقلّد بسيفه ذي الفقار واستوى على ظهر جواده وحمل على القوم وفرقهم عنه وأخذ رأسه ووضعه في حجره ، وجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه وهو يقول: يا بني لعن الله قاتلك ما أجرأهم على الله ورسوله ، وهملت عيناه بالدموع.

ثم إنه(عليه السلام) الوضع ولده في حجره وقال : يا ولدي أما أنت فقد استرحت من هم الدنيا وغمّها وصرت إلى روح وريحان وجنّة ورضوان، وبقي أبوك لهمها وغمها فما أسرع لحوقه بك.

وجاء في كتاب البحار : قال حميد بن مسلم : فكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة تنادي بالويل والثبور وتقول: يا حبيباه، يا ثمرة فؤاداه، يا نور عيناه، يا أخياه، وابن أخياه، واولداه (واقتيلاه ،واقلة ناصراه، واغريباه، وامهجة قلباه، ليتني كنت قبل هذا اليوم عمياء، ليتني وسدت الثرى، وجاءت وانكبت عليه فجاء

ص: 704

الحسين(عليه السلام)فأخذ بيدها )(1) .

ونقل المازندراني : وستر وجهها بعبائه وألقى عباءته عليها فردها إلى الفسطاط.

نادی عليك سلام الله يا أبتا*** فجاء يعدو فألفاه على رمق

نادى عليه على الدنيا العفا وغدا*** مكفكفاً دمعه الممزوج بالعلق

جاورت ربك يهنيك الجوار وقد*** خلفت جاري دمعي من جوى الحرق

قد استرحت من الدنيا وكربتها*** وبین أهل الشقا فرداً أبوك بقى

من بعدك اسود وجه الأرض في نظري*** يا نيراً فيه تجلى ظلمة الأفق

***

لم أنس إذ ولى الجواد مبادراً*** ينحو العداة به لذاك العسكر

فاستقبلوه وقطعوا جثمانه*** إرباً فإرباً بالسيوف البتر

شبك علمهر لباله يوديه*** لبوه احسين عن القوم يحميه

اويلي المهر للعدوان فر بيه*** ووچب آه بموسط العسكر

داروا بالسيوف عليه والزان *** مثل چتال سبع المات فرحان

عسى ابعيد البلا وليته العدوان*** ارذال او بالمعایب دوم تفخر

هذا یگطع ابسيفه وريده*** او هذا بالخناجر فصل ایده

وهذا يغط من رمحه الحديدة*** ابخاصرته وهو يعالج ويفغر

ثكل بيه الطبر وتلوج روحه*** او محد عرف غير الله اجروحه

دماياته على احصانه سفوحه*** لما خر ابهناديها اموذر

ناده یا حسیين هذا الساع جدي*** سگاني الما واروه عطش چبدي

یگول اسرع تراك اليوم عندي*** اجاه يصيح يبنى الله واكبر

اویلی احسین صاح الله واكبر

ص: 705


1- ما بين القوسين منسوب إلى رواية أبي مخنف .

يبوي ليش هالنومه ابها الحر

گعد عنده او شافه مغمض العين*** ابدمه سابح امترب الخدين

متوصل طبر والراس نصفين*** حنا ظهره على ابنيه او تحسّر

يبوي گول منهو الشرك راسك*** ينور العين من خمد انفاسك

يعگلي من نهب درعك وطاسك*** يروحي اشلون اشوفنّك مطبّر

يبوي من عدل راسك ورجليك*** او من غمض عيونك واسبل ايديك

ينور العين كل سيف وصل ليك*** گطع گلبي او لعند احشاي سدر

يبوي من سمع يمك ونينك*** او من شبحت لعند الموت عينك

للعشرين ما وصلن سينك*** او حاتفني عليك الدهر الأگشر

أريد امسح اجروحك وشم خدك*** وحط صدري على صدرك وراسك

يبوي شرف لاچن حرم جدك*** وجت زينب تصيح الله واكبر

اجت زينب تصيح الله واكبر

يبوي ليش هالنومه ابهالحر

هوت فوگه تشم خده او تحبّه*** او تطبك طبرة الراس او تعصيبه

او تسفر زیج ثوبه او تجس گلبه*** بلکت دمه من افواده يفوّر

يويلي ولولت واحنت ظهرها*** تخمش اخدودها او تحلج شعرها

او تدك ابراسها وتلطم صدرها*** او تنعي بصوت طر گلب الصخر طر

يشمس الكيض يملهب وهجها*** يبدر التم يلمطفي سرجها

يسم الخيل يلمعثر مرجها*** اشلون امن السرج تنشلع وتخر

ينجم اسهيل يلحامي الشرايع*** یا جرناس يمعذب البراجع

يشبل الموت يمكدر الگلایع*** اشلون امسيت للنسّاب مكور

ص: 706

الجلسة الرابعة والعشرون

أقول والدمع من عيني منسجم ***لما رأيت جدار القبر يُستلم

والناس يغشونه باكِ ومنقطع*** من المهابة أو داعٍ فلمتزمُ

فما تمالكت أن ناديت من حرق*** في الصدر كادت لها الأحشاء تضطرم

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه*** فطاب من طيبهن القاع والأكمُ

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه*** فيه العفاف وفيه الجود والكرم

وفيه شمس التقى والدين قد غربت*** من بعد ما أشرقت من نيرها الظلم

حاشا لوجهك أن يبلى وقد هديت*** في الشرق والغرب من أنواره الأمم

فإن تمسّك أيدي الترب لامسة*** فأنت بين السَّماوات العلى علمُ

لقيت ربَّك والإسلام صارمه*** ماضٍ وقد كان بحر الكفر يلتطم

فقمت فيه مقام المرسلين إلى*** أن عزّ فهو على الأديان محتكمُ

لئن رأيناه قبراً إنّ باطنه*** لروضة من رياض الخلد تبتسم

طافت به من نواحيه ملائكة*** تغشاء في كل يوم وتزدحم

لو كنت أبصرته حيّاً لقلت له ***لا تمشي إلا على خدّي لك القدم (1)

***

نعم، إنّ للحقيقة المحمدية من الكمالات الروحية والخُلقية والأخلاقية ما لا يمكن لأحد من البشر أن يدركها غير المعصوم.

ص: 707


1- القصيدة لأبي أحمد بن عبدالعزيز المقدسي من علماء اخواننا أهل السنة / الغدير 5 / 162.

من هنا قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)لعلي(عليه السلام) : يا علي لا يعرفك إلا الله وأنا، ولا يعرفني إلا الله وأنت.

فلا يعرف الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)حق معرفته إلا الإمام المعصوم لذا قال هذا الشاعر الجليل وهو يصف الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)ويصف قبره الشريف المبارك بقوله :

لئن رأيناه قبراً إن باطنه*** لروضة من رياض الخلد تبتسم

إنّه يقول ما معناه : إنك لترى في الظاهر أنّ قبر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قبراً مثل سائر قبور البشر هذا في الظاهر ولكن في الحقيقة والواقع ان ذلك القبر الشريف روضة من رياض الجنة ولو كشف لك عن بصرك لرأيت الملائكة تغشاة من كل نواحيه . أقول : وهناك قبراً آخر أيضاً تغشاه ملائكة الله من كل نواحيه - أنه - قبر سبطه وريحانته أبي عبد الله الحسين(عليه السلام).

يقول : إمامنا الصادق(عليه السلام) : إنه نزل من السماء أربعة آلاف من الملائكة لنصرة الحسين (عليه السلام)وهم لا يزالون عند قبره يستغفرون لزواره ومحبّيه ويصافحون زواره في كل صباح ومساء.

فهنيئاً لزوّار الحسين(عليه السلام)في كل وقت يقصدون زيارته وبالخصوص الّذين يزورونه ليلة الجمعة حيث يجتمعون في معية الملائكة والأنبياء ويكونون أيضاً في معية مولانا صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف فإنه يأتي أيضاً ليلة الجمعة إلى كربلاء لزيارة جدّه الحسين(عليه السلام)ويقف عند القبر ويقول : السلام عليك يا جداه فلئن أخرتني الدهور أو عاقني عن نصرتك المقدور فلأندبنك صباحاً ومساء وأبكينّ عليك بدل الدموع دما ، ثم يمد يده المباركة إلى داخل القبر الشريف ويستخرج منه عبدالله الرضيع وهو عجل الله تعالى فرجه باكياً منتخباً، فتصيح الملائكة والأنبياء ويعلو الصراخ والبكاء والنحيب والجدير بالذكر أن الرسول الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم) قد بكى أيضاً لأنه كان (صلی الله علیه وآله وسلم) من جملة الأنبياء أيضاً الذين يكونون ليلة الجمعة عند الحسين فقد بكى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)عندما نظر إلى طفل ولده

ص: 708

الحسين(عليه السلام) لذلك الطفل المخضب من دم ،وريده والله در بعض المحبين وهو يرثي طفل الحسين عندما يتصوّر بكاء الرسول والأنبياء والملائكة وضجيجهم لروح ذلك الطفل فهو يقول والعين باكية .

إليك أيا جفني اكتحل مرود السهد*** فلا ذقت نوماً أو اوسد في اللحد

أتطلب عيني طيب نوم ودونه*** لواعج أحزان تاجج في كبدي

فيا أدمعي انهلي ويا حرقي اشعلي*** ويا عمد السلوان منّي الا انهدّي

ولايمة فيما رأت بي من الضنى*** تقول الا تسلو فما طال ما تبدي

فقلت لك الويلات حزني مبرّح***ووجدي مدى الأيام لازال ذا وقد

وإنّي وإن كنت القتيل صبابة*** فلم يشجني رسم لمي ولا دعد

ولم يتطربني غزال مخضب*** بهي يزدري حسن الغزالة بالجعد

ولم يصيب قلبي نحو هيفاء غضّة*** جداية جيد تنثني لجنى الورد

ولم أتولّع في محاسن ربرب*** بريقتها طعم السلافة والشهد

خذول نعاطي ناظريها التفاتة*** مداماً بها النسيك يمشي بلا رشد

بمبسمها شهد وسيف بطرفها*** فألفاظها تحيي وألحاظها تردي

فإن واصلت شطت وإن قطعت سطت*** وإن عاهدت جدت عرى موثق العهد

ولم يبكني ذكرى حبيب ومنزل*** بسقط اللوا كلا ولا ساكني نجد

ولا عصبة سارت مع الليل عيسهم*** لحزوي بأقمار المحاسن والسعد

ولكن لأنف المجد جد وللعلا*** علاها الأسى من بعد واسطة العقد

على قمر أوداه كسف بكربلا*** وخسف دعاه دامي النحر والخدّ

على الكوكب الدري أنيخ بنينوى*** بسهم برى منه الوريد على عمد

على مرضع بالطف مات على الطوى*** ثلاثاً ولم يفطم بغير الردى المردي

على الطفل عبدالله غيل على ظما*** ولم تطف منه غلّة القلب والكبد

على الطفل عبدالله في رزؤ فقده*** غدا فلك العليا يحاول للمهد

ص: 709

على الطفل مذبوحاً بكت فاطم له*** ووالدها والمرتضى هازم الجند

على الطفل مرضوعاً بقاني دمائه***بسهم أراشته يد الظغن والحقد

فإن أنس لن أنسى ذكا الحلم والحجي*** وكعبة وفد القاصدين إلى الرقد

غداة به للقوم أقبل يستقي*** له عذب ماء حلّ للحر والعبد

كأن أباه البدر يحمل كوكباً*** أو الشبل في حضن الغضنفرة الورد

فوافاه سهم زاح منه حشى الهدى*** حريجاً جواباً منهم من يدي وغد

وظل أبو الارزاء يلقف دمه*** ويقذفه نحو السما بيد المجد

ويعلن بالشكوى إلى الله تأثراً*** من العين ذرّ الدمع منترء العقد

وجاء به نحو الخيام ولونه***کسى من دماه صبغة الشيخ ولرند

فمذ عاينته زینب اعولت أسى*** وأنت أنيناً فت للحجر الصلد

وألوت عليه أُمّه جيدها لكي*** يقبل منه النحر من شدّة الوجد

تخاطبه من ذا سقاك بسهمه ***ذعاف الردى ظلماً أيا فلذة الكبد

فياليت كأس الموت قبلك ذقته*** ولا نظرت عيني اضطرابك في المهد

وياليت أمي لم تلدني ولم أكن*** أراك ذبيحاً دامي النحر والخدّ

عقيبك أيامي بني مآتم*** وعيدي بلا أنس وعيشي بلا رغد

أيا كوكباً كنا بنور جبينه*** إذا ما ادلهمت دجنة فيه نستهدي

ویا قمراً لما تكامل نوره*** وتمّ اكتسى من خسفه حلّة الفقد

ويا شمس انس غاب عني فبعده ***نهاري ليل والدجى ظلمة اللحد

بنيّ فلو أنّ المنيّة تفتدى*** فديتك بالنفس العزيزة والولد

وقال آخر:

له الله مفطوراً من الصبر قلبه*** ولو كان من صمّ الصفا لتفطرا

ومنعطفاً أهوى لتقبيل طفله*** فقبل منه قبلة السهم منحرا

قال المحدث المازندراني رضوان الله تعالى عليه : إنّ الحسين عليه الصلاة

ص: 710

والسلام قال لزينب بعد قتل الرضيع خذيه ثم تلقى الدم بكفّيه .

وقال في موضع آخر : إنه(عليه السلام)توجّه نحو القوم قبل شهادة الرضيع وقد كان الرضيع محمولاً على يده الشريفة فلما أن توسّط القوم قال(عليه السلام) : يا قوم قد قتلتم أخي وأولادي وأنصاري وما بقي غير هذا الطفل وهو يلتفّى عطشاً من غير ذنب أتاه إليكم فاسقوه شربة من الماء.

ونقل المحدّث المذكور عن كتاب نفس المهموم: انه(عليه السلام) قال : يا قوم إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل، ثم قال : وفي كتاب الناسخ : انه (عليه السلام)قال : يا قوم لقد جفّ اللبن في ثدي أمه فبينما هو يخاطبهم إذ أتاه سهم مشؤوم من ظالم غشوم وهو حرملة بن كاهل الأسدي لعنه الله فذبح الطفل من الوريد إلى الوريد أو من الأذن إلى الأذن، فجعل الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام يتلقى الدم حتى امتلأت كفّه الشريفة رمى به إلى السماء وجعل يقول : اللهم إني أشهدك على هؤلاء القوم فإنّهم نذروا أن لا يتركوا أحداً من ذرية نبيك.

وفي تظلم الزهراء : وضع كفّيه الشريفتين تحت نحر الصبي ثم قال : يا نفس اصبري واحتسبي فيما أصابك إلهي ترى ما حلّ بنا في العاجل فاجعل ذلك ذخيرة لنا في الآجل. قال المحدث المذكور : نقلاً عن كتاب نفس المهموم ان الامام الحسين(عليه السلام)جعل يبكي ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا، فنودي من الهواء: يا حسين دعه فان له مرضعاً في الجنة ثم قال ورماه حصین بن تميم لعنه الله بسهم فوقع في شفتيه فجعل الدم يسيل من شفتيه وهو يبكي ويقول : اللهم أشكو إليك ما يفعل بي وبإخواني وولدي وأهلي، ثم رجع بالطفل مذبوحاً ودمه يجري على صدره فألقاه في الخيمة وبكى عليه وأنشأ يقول :

يا رب لا تتركني وحيدا*** فقد ترى الكفار والجحودا

قد صيرونا بينهم عبيدا*** يرضون في فعالهم يزيدا

ص: 711

أما أخي فقد قضى شهيدا*** معفراً بدمه فريدا

في وسط قاع مفرداً بعيدا*** وأنت بالمرصاد يا مجيدا

وفي خبر : استقبلته سكينة وقالت : يا أبة لعلك سقيت أخي الماء فبكى الحسين (عليه السلام)وقال : بنية هاك أخاك مذبوحاً بسهم الأعداء ولنعم ما قاله الجمري:

شال فله احسین بیده ایخاطب اجموع العدى***هذا اطفلي يموت ظلمي او ذنب منه ما سدى

ويح قلبي من رفع طفله مقمط واعتنا ***ايصيح كان الذنب مني هذا طفلي ما جنى

عجلوا له ابقطرة امية ترى عمره دنا*** امن الظمايا يا بس لسانه والكبد متمردة

صاح ابن سعد الرجس يا حرملة رد الجواب*** لا يكون الطفل يرجع بالسلامه للطناب

شوف نحره ايلوح مثل البدر ما بين السحاب*والرجس ما لان قلبه او طوقه ابسهم الردى

فرفرت روحه اوفك ابوجه ابوه اعوينته*** او ذاب قلب احسين من شافه املولح رقبته

وانحنا يشمّه ابنحره او غسل دمه ابدمعته***او رجع وادموعه يهلها وجت سکنه اتناشده

اتصيح بويه اسقيت اخي وجيتني ابفاضل الماي***بالعجل برد غليلي امن الظما ذايب احشای

خان بي دهري اشبيدي اعلى الذي يروى ظماي***جذب حسرة اوحط اخوها بین ایدیها او مدده

ص: 712

قالت اشصاير ابخي اتمدده فوق الثرى ***قال انا لا تنشدني او شوفي ابحاله اشجرى

صدت اولنه امفارق والأوداج امهبره*** صرخت او نادت یخویه اشهالذنب منك سدى

از غير او نحلت جسمي ونتك والقلب ذاب***وسفه يمدلّل يضل معفور خدّك بالتراب

الرضيع ابعجل قومي وافرشي له يا رباب***ذايب امن الشمس خدّه او ساده جيبي انوسده

طلعت امه امن المصيبة تصرخ بحال فضيع**طفل او مخضب ابدمك آه يعبدالله الرضيع

ردتك التالي زماني لا أضل حرمة وضيع***كان ليه اتصير سلوه ريت روحي لك فدى

ص: 713

ص: 714

أهم مصادر الكتاب

1 - القرآن الكريم.

2 - الأخلاق الإسلامية.

3 - الأزهار ، لفرج العمران .

4 - أشعة البيت النبوي ، للشيخ عبد المنعم الزين .

5 - الأضواء الإسلاميّة، لعدة من العلماء.

6 - إعلام الورى بأعلام الهدى لأبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي.

7- تفسير الصافي للفيض الكاشاني.

8- تفسير الصراط المستقيم، لآية الله البروجردي .

9 - تفسير الكاشف ، لمحمد جواد مغنية .

10 - تفسير من وحى القرآن للسيد محمد حسين فضل الله .

11 - تفسير الميزان ، للسيّد العلّامة الطباطبائي .

12 - تفسير نور الثقلين، للحويزي .

13 - ثم اهتديت ، للدكتور محمد التيجاني السماوي.

14 - جواهر الأفكار، لملا علي آل انتيف.

15 - حديث حول الجبر والتفويض ، للمؤلّف .

16 - حق اليقين، للسيّد عبدالله شبّر .

17 - خلفاء الرسول الاثنا عشر للعلّامة السيد محمد علي السيد محمد طاهر البحراني.

ص: 715

18 - الدنيا الفانية، للمؤلف .

19 - ديوان ، الحاج ملا عبدالحسين العرادي البحراني.

20 - ديوان ، الملا محمد آل انتيف.

21 - ديوان ، الشيخ حسن الدمستاني البحراني .

22 - دیوان ، السيد رضا الهندي.

23 - ديوان ، الشيخ علي بن حسن الجشي.

24 - ديوان ، الشيخ عبد العظيم الربيعي .

25 - ديوان ، الشيخ محمد علي اليعقوبي.

26 - ديوان ، الحاج ملا علي آل انتيف .

27 - ديوان ، الحاج ملا عطية بن علي الجمري.

28 - ديوان شعلات الأحزان، لملا علي البحراني.

29 - ديوان عرائس الجنان للسيّد محمدصالح البحراني .

30 - ديوان فوز الفائز ، للملّا على بن فايز .

31 - رياض المدح، لعدة من الشعراء .

32 - سيدنا محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) ، لعبد الهادي الصباغ.

33 - الغدير للعلامة الأميني.

34 - فاطمة الزهراء(عليها السلام) من المهد إلى اللحد، للسيد محمد كاظم القزويني.

35 - فضل العلم والعالم للمؤلّف .

36 - المجالس السنيّة في مناقب ومصائب العترة النبوية، السيد محسن الأمين العاملي.

37 - مجلّة جامعة النجف ، لعدة من العلماء .

38 - محمد و علي وبنوه الأوصياء(عليهم السلام) ، النجم الدين العسكري.

ص: 716

39 - معالي السبطين في أحوال الحسن والحسين(عليهم السلام) ،للمحدث الشيخ محمد مهدي المازندراني .

40 - مفتاح القواعد - أرجوزة في علم الكلام، للشيخ عباس الجابري الناصري.

41 - مقتل الشهيد ، للسيد هادى المدرّسي.

42 - ملحمة الفرطوسي، للشيخ عبد المنعم الفرطوسي .

43 -مناقب آل أبي طالب (عليه السلام)، لأبي جعفر رشيد الدين محمد بن شهر آشوب المازندراني .

44 - المنتخب ، للطريحي.

45 - منظومة، للشيخ محمد الأصفهاني.

46 - منظومة شهداء الطفّ، للمؤلّف.

47 - نهج البلاغة ، جمع السيّد الرضي .

ص: 717

ص: 718

المحتویات

المقدمة...5

القسم الأوّل

الجلسة الأولى: مولد النور...13

في ذكرى مولد الرسول الأعظم(صلی الله علیه وآله وسلم)...13

الجلسة الثانية : مولد الهدى ...35

مولد النور...37

النسب الشريف ...38

أيام المهد والطفولة ...39

الجلسة الثالثة: مولد الرحمة...59

القسم الثاني

الجلسة الرابعة: في ذكرى مبعث الهدى...81

حجر على كل نبي وولي...95

الجلسة الخامسة : في ذكرى مبعث النور...105

الجلسة السادسة: في ذكرى مبعث الرحمة...131

القسم الثالث

الجلسة السابعة في ذكرى ...155

معراج النور إلى السماء ...155

الجلسة الثامنة: في ذكرى الإسراء ...177

ومعراج الهدى إلى السماء...177

ص: 719

طار البراق به ...189

الجلسة التاسعة: في ذكرى معراج الرحمة ...197

الجلسة العاشرة: في النبوّة العامة...221

ونبوّة نبيّنا محمد بن عبد الله(صلی الله علیه وآله وسلم)...221

الجلسة الحادية عشر: في بيان طريقة الارسال والدليل عليه...269

الجلسة الثانية عشر: في فضل النبي والأئمة اللا على الملائكة ...293

القسم الرابع

الجلسة الثالثة عشر : في تنزيه الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم)عما لا يليق به

...319

الجلسة الرابعة عشر...343

الجلسة الخامسة عشر...375

الجلسة السادسة عشر...417

الجلسة السابعة عشر...461

الهجرة المباركة والوداع...486

مبيت علي الله على فراش النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)...486

حدیث دخول النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)في الغار...487

دخول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) إلى مدينة يثرب...488

الجلسة الثامنة عشر...519

الجلسة التاسعة عشر...551

الجلسة العشرون...585

الجلسة الحادية والعشرون...607

الجلسة الثانية والعشرون...643

الجلسة الثالثة والعشرون...677

الجلسة الرابعة والعشرون...707

أهم مصادر الكتاب...715

ص: 720

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.